نام كتاب:تبيين القرآن
نويسنده:حسينى شيرازى سيد محمد
موضوع:تربيتى
قرن:پانزدهم
زبان:عربى
مذهب:شيعى
ناشر:دار العلوم
مكان چاپ:بيروت
سال چاپ:1423
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سورة الحجر: 9]
تبيين القرآن، ص: 7
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه على ما وفّق له من الطاعة، و ذاد عنه من المعصية، و نسأله لمنّته تماما و بحبله اعتصاما، و الصلاة و السلام على رسوله الذي صدع بالحق، و نصح للخلق، و هدى إلى الرشد.
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7].
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و اعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، و الهادي الذي لا يضل، و المحدّث الذي لا يكذب، و ما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان- زيادة في هدى، أو نقصان من عمى ... فاستشفوه من أدوائكم، و استعينوا به على لأوائكم، فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء [نهج البلاغة: 174].
فالقرآن الكريم حبل اللّه المتين، و سببه الأمين، و فيه ربيع القلب، و ينابيع العلم و تفسير القرآن من أوائل العلوم في أصول الشريعة و التي اهتم بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منذ أول زمن التنزيل، فكان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحرص أشد الحرص على تعليم أصحابه معاني الآيات القرآنية و كل ما يتعلق بعلوم و مفاهيم القرآن. و كان في الطليعة أمير المؤمنين علي عليه السّلام حيث كان يأخذ علوم القرآن و أحكامه و مفاهيمه و أسباب نزوله من نبعه ليكون محفوظا و متداركا من
السهو أو النسيان أو العبث. و قد قال الإمام علي عليه السّلام في ذلك «علمني رسول اللّه ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب» «1». و قد برع الكثير من الصحابة في التفسير بعد أن تتلمذوا على يد أمير المؤمنين عليه السّلام كعبد اللّه بن عباس، و على هذا فإنّ التفسير من العلوم التي تفرّد بها البيت النبوي ابتداء برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمام علي عليه السّلام و امتدادا بالأئمة الأطهار عليهم السّلام، فأخذ منهم هذا العلم من زامنهم و من جاء بعدهم حتى وصل إلينا بالشكل الذي نراه.
و كتاب تبيين القرآن للإمام الراحل آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي «قدس سره» هو تفسير مختصر للقرآن فيه توضيح للكلمات القرآنية كان الإمام الراحل قد
__________________________________________________
(1)بحار الأنوار: ج 69، ص 183، ط مؤسسة الوفاء.
تبيين القرآن، ص: 8
خلص إلى تأليفه في كربلاء المقدسة سنة 1389 ه و هو واحد من مؤلفاته الكثيرة ضمن اهتماماته الواسعة بالقرآن الكريم و علومه و أحكامه و مفاهيمه، منها مثالا لا على سبيل الحصر:
الفقه: حول القرآن الحكيم- سلسلة القصص الحق 50 جزء- تقريب القرآن إلى الأذهان 30 جزء- توضيح القرآن 3 مجلدات، مخطوط- قصص الأنبياء من القرآن الكريم و الروايات، مخطوط- التفسير الموضوعي للقرآن 10 مجلدات، مخطوط- محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن- الجنة و النهار في القرآن، مخطوط- توضيح آيات الجنة و النار، مخطوط- متى جمع القرآن؟- القرآن حياة، مخطوط- لما ذا يحاربون القرآن؟- عاشوراء و القرآن المهجور- الإله و الكون في القرآن، مخطوط- الرسالة و الخلافة في القرآن، مخطوط- العبادة و الطاعة في القرآن، مخطوط- الأحكام و
الأخلاق في القرآن، مخطوط- الإيمان و القرآن في القرآن، مخطوط- بيان التجويد- أهمية القرآن الكريم، مخطوط- القرآن منهج و سلوك، مخطوط- القرآن يتحدى، مخطوط-.
و ضمن اهتمامات دار العلوم للتحقيق و الطباعة و النشر و التوزيع في الأخذ بما هو مفيد و نافع إن شاء اللّه كان اختياره في طبع هذا الكتاب مع مجموعة اخرى من مؤلفات الإمام محمد الشيرازي قدس اللّه نفسه الزكية، و الذي كان العمل فيه و قد بلغنا نبأ المصاب الأليم بفقده (رضوان اللّه عليه) فمن واقع المصاب المؤلم بفقده كان عملنا الدؤوب لإتمام طبعه و بالشكل المميّز، ليكون له قرّة عين عند جده الرسول الأعظم صاحب التنزيل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
مع الحرص أن لا يفوتنا تسجيل الشكر و العرفان (لمؤسسة المستقبل للثقافة و الإعلام) لمجهودهم المثاب في إخراج هذا الكتاب النافع.
و حيث روي أنه ينادي يوم القيامة «ألا انّ كل حارث مبتلى من حرثه و عاقبة عمله، غير حرثة القرآن» «1» فلنكن من حرثته و المهتدين إليه و العاملين بأحكامه.
و اللّه نسأل أن يتقبل منا و يعطينا ما نأمله من الأجر.
الناشر بيروت- لبنان 1/ صفر/ 1423 ه
__________________________________________________
(1)نهج البلاغة: خطبة 176.
تبيين القرآن، ص: 9
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين، و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.
و بعد، هذا مختصر في توضيح بعض الكلمات القرآنية، سميته (تبيين القرآن) و أسال الله سبحانه العصمة و التمام و الثواب، و هو المستعان.
كربلاء المقدسة 27/ جمادى الأولى/ 1389 ه محمد الشيرازي
تبيين القرآن، ص: 10
مكية و قيل نزلت ثانيا بالمدينة و آياتها سبع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عالم الإنسان و الحيوان و الملك و الجن و غيرهم.
[3- 4]الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الجزاء
[5- 7] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ في حال كونهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ الذين ضلوا من الطريق.
تبيين القرآن، ص: 11
مدنية و آياتها ست و ثمانون و مائتان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1]الم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2]ذلِكَ الإشارة إلى البعيد للتعظيم الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ليس محل الشك هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فإنهم هم الذين يهتدون بالقرآن.
[3- 5]الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ما غاب عن حواسهم، كالله سبحانه وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ هداية جاءتهم من ربهم وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
تبيين القرآن، ص: 12
[6- 7]إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كفرا بعناد سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي علّم قلوبهم و طبع عليها بعلامة الانحراف وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ أي غطاء وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
[8- 9]وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا يعملون عمل المخادع الذي ظاهره يخالف باطنه، فإن ظاهرهم الإيمان و باطنهم الكفر وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ نتيجة الخداع ترجع إليهم وَ ما يَشْعُرُونَ أي لا يفهمون أنهم يخدعون أنفسهم.
[10] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ تشبيه للانحراف عن الهدى بالانحراف عن الصحة فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً لأن القرآن سبب زيادة الانحراف القلبي فيهم بجحده و ترك العمل به وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ كذبوا بأنهم مؤمنون.
[11] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ المنافق يفسد في الأرض بسبب نفاقه قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ نصلح أمور دنيانا و نصلح غيرنا بسبب الوقوف أمام تفشي الإسلام بين الناس.
[12] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فإن المنافق يفسد نفسه و يفسد غيره وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ.
[13] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ ظاهرا و باطنا قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ إذ يفعلون فعلا يتجنبه المؤمنون و الكفار وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ.
[14] وَ إِذا لَقُوا من (لقي) بمعنى الملاقاة الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ المنافقين الذين هم أشباههم في النفاق قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ منافقون أمثالكم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بالمؤمنين، حيث نظر لهم الإيمان.
[15] اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يفعل بهم فعل المستهزئ، لأنه يعاملهم في الدنيا معاملة المؤمن، و في الآخرة معاملة الكافر وَ يَمُدُّهُمْ يقويهم و يعطيهم القدرة، و إمداد الله تعالى بتركهم ليفعلوا ما يشاءون فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ العمه في البصيرة كالعمي في البصر.
[16] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أعطوا الهدى و أخذوا الضلالة بدله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ فهم ضالون عن الطريق، و بالآخرة خاسرون في تجارتهم.
تبيين القرآن، ص: 13
[17- 18] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً أي طلب الضياء بإشعال النار فَلَمَّا أَضاءَتْ النار ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ فكما إن الذي استوقد ثم طفئت ناره، يبقى في الظلمة و يتحسر، كذلك المنافق، فإنه بإسلامه الظاهري يعامل في الدنيا معاملة المؤمن، فتضي ء ظاهر دنياه بإسلامه هذا، ثم إذا مات وقع في ظلمة العذاب. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ جمع أصم و أبكم و أعمى، و هو الذي لا يسمع و لا يتمكن من التكلم و لا يبصر، و المنافق هذا حاله، لأنه لا ينتفع بسمعه في قبول الهداية، و لا بلسانه في نشر الهداية، و لا ببصره في رؤية الآيات فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ عن نفاقهم.
[19- 20] أَوْ مثلهم و الهداية كَصَيِّبٍ فالهداية كالمطر الشديد مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ فإن السحاب المتراكم يوجب ظلمة الفضاء وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أي الذين ابتلوا بهذا المطر أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ أي من خشية أن تخلع الصواعق قلوبهم، إذا سمعوا صوتها حَذَرَ الْمَوْتِ أي إن جعلهم الأصابع في الآذان، من جهة خوفهم من الموت بسبب صوت الصاعقة وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ إحاطة علم و قدرة، فجعل أصابعهم في آذانهم، لا يدفع عنهم الموت، و هذا مثل المنافق عند بزوغ شمس الإسلام، حيث إن في الإسلام ظلمات للمنافق، و هو ما إذا غلب الكفار فكأنه ظلمة له لتظاهره بالإسلام، أو إذا أمر الإسلام بالجهاد فالمنافق في ظلمة حيرته فلا يتمكن من توطيد نفسه للقتل لعدم إسلامه و لا يمكنه التخلف خوفا من كشف أمره، و رعد و هو تهديدات الإسلام لمن خالف، و برق و هو ما إذا تقدم المسلمون، كأنه برق
ينير الطريق، و المنافق لا يريد سماع التهديدات لئلا يظهر الخوف على وجهه، فيتبين نفاقه. يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أي يعمي، لأن الباطل لا يتمكن أن يرى تقدم الحق أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ أي ساروا في ضوء الإسلام إلى الأمام وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بأن غلب الكفار قامُوا أي وقفوا في مكانهم لا يعلمون للإسلام وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ فكما أن الله قادر بأن يعمي ببريق البرق، و يصم بصوت الرعد الذين أصابهم الصيب، كذلك الله قادر أن يفعل ذلك بالمنافق، بمعنى إن أمره بيد الله، و لا ينفع الحذر عن ضرره بالإسلام إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
[21] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي إن الخلق لأجل التقوى.
[22] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً كالفرش مهيأ لمصالحكم وَ السَّماءَ بِناءً كسقف البيت الواقي لأهله وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ بالماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أمثالا، أي لا تشركوا بالله، فإن الله وحده خلقكم و هيأ لكم كل شي ء وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي و الحال أنتم تعرفون أن الله خلقكم و رزقكم دون غيره.
[23] وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ شك مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي في شك من صدق القرآن فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ أي الذين يشهدون أن القرآن ليس من عند الله، أدعوهم ليساعدوكم في الإتيان بمثل سورة مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن القرآن ليس كلام الله.
[24] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا بإتيان مثل سورة وَ لَنْ تَفْعَلُوا هذا إخبار بأنهم لا يقدرون من الإتيان بمثل سورة فَاتَّقُوا النَّارَ أي لا تكفروا، لأن الكفر عاقبته النار الَّتِي وَقُودُهَا أي الذي يشعلها، عوض قطع الخشب و العود النَّاسُ للتهويل وَ الْحِجارَةُ للتشديد و الدلالة على عظمة النار أُعِدَّتْ هيئت لِلْكافِرِينَ.
تبيين القرآن، ص: 14
[25] وَ بَشِّرِ يا رسول الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت أشجارها، فإن الجنة هي البستان الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها أي من تلك الجنات مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا أي مثل هذا الرزق الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الدنيا، فأن ثمار الجنة كثمار الدنيا في أصلها و ان اختلفت في الخصوصيات، و الإنسان ينشرح بما ألفه أكثر وَ أُتُوا أي يؤتى لهم بِهِ أي بالرزق مُتَشابِهاً يشبه بعض الرزق بعضا وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ لا يرين دما و لا وساخة و مطهرة أخلاقهن عن الرذائل وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ يبقون في الجنة إلى الأبد.
[26] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أي لا يخجل و لا يمتنع أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما أي: أيّ نوع من المثل، و هذا جواب ما قال الكفار بأن الله لما ذا يمثل بالأشياء الحقيرة كالعنكبوت و شبهها بَعُوضَةً بدل (ما) و هي البق فَما فَوْقَها أي أكبر من البعوضة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي المثل الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي إن الله إنما مثل مثالا صحيحا، و إن لم تدرك عقولهم وجه المثال وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي بهذا المثل يُضِلُّ بِهِ أي إن فائدة هذه الأمثال، امتحان الناس، فيضل الذي في قلبه مرض، و يهدي الإنسان المستقيم، و إضلال الله عبارة عن تركه العبد حتى يضل، كما تقول: أفسد فلان ولده، إذا ترك ولده حتى فسد كَثِيراً أي كثيرا من الناس وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الخارجين عن جادة الاستقامة، فإن من كانت نفسه منحرفة يضل بمجرد شبهة أو إشكال.
[27] الَّذِينَ صفة الفاسقين يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ المعاهدة التي أخذها الله بسبب أنبيائه عن الناس، بأن يطيعوه مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي استحكام العهد المأخوذ منهم بسبب الأنبياء عليهم السّلام وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بدل (ما) أي ما أمر الله بوصله، مثلا يقطع الرحم، و قد أمر الله بوصلها وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ كالتاجر الذي خسر رأس ماله، فإنهم يخسرون حياتهم و عمرهم.
[28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أي و الحال أنكم كنتم أَمْواتاً لا حياة لكم، فإن الطعام الذي يأكله الأبوان فينقلب منيا ثم آدميا، لا حياة له فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في الآخرة ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ترجعون إلى جزائه و حسابه.
[29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي قصد إلى بناء السماء فَسَوَّاهُنَّ خلقهن سَبْعَ سَماواتٍ أي مدارات للأجرام وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 15
[30] وَ إِذْ قالَ أي اذكر يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قول رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ أي أريد أن أجعل فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي إنسانا يخلف الخلق الذي كان سابقا، أو خلفا لي يمثلني في الأرض و هم الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ أي يريق الدم الحرام، و قد علمت الملائكة أن طبيعة الأرض طبيعة فساد و قتل وَ نَحْنُ أي اجعل الخليفة منا، فإنا لا نفسد، بل نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي ننزهك تنزيها من سنخ الحمد، فإن من حمد الله تعالى فقد نزهه، كقولك ننزهك بذكر فضائلك، أو ننزهك متلبسين بحمدك فإن التنزيه هو التبرئة عما لا يليق به، و الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري وَ نُقَدِّسُ لَكَ أي نطهر الأرض من الأدناس لأجلك، من (قدّسه) إذا ذكر طهارته عن الأدناس قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أعلم أن من بين البشر أناس كرام، و أخلق الخليفة لأجل أولئك الطاهرين و هم فاطمة و أبوها و بعلها و بنوها عليهم السّلام.
[31] وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها و حيث أراد الله تعالى إعلام الملائكة بأن خلق آدم إنما هو لفضله، و إنه قابل لما ليسوا بقابلين له، علمه أسامي الأشياء و الحقائق فتعلمها، لكن الملائكة لم يكونوا قابلين لهذا التعلم، كالولد الفطن الذي يتعلم بما لا يتعلمه الولد غير الذكي، فإن الإنسان خلق من العناصر المختلفة القابلة لإدراكات ليست الملائكة قابلة لها، و لذا كان الإنسان الصالح أفضل من الملائكة ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي مسميات تلك الأسماء عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي أخبروني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إشارة إلى المسميات، و هذا كقولك:
علمت زيدا أسماء الأدوية، ثم عرضت الأدوية عليه و قلت له أخبرني بأسماء هذه الأدوية إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم بأنكم أحق بالخلافة من آدم.
[32] قالُوا أي الملائكة سُبْحانَكَ أنت منزه لا تفعل غير الصلاح، فخلقك لآدم و استخلافك إياه فيه مصلحة لا عِلْمَ لَنا بأسماء هؤلاء إِلَّا ما عَلَّمْتَنا فإنك لم تركب فينا ما نتعلم بسببه هذه الأسماء إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ فأنت أعلم بمصلحة استخلاف آدم الْحَكِيمُ الذي تضع كل شي ء في موضعه اللائق به.
[33] قالَ الله سبحانه يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ أخبر الملائكة بِأَسْمائِهِمْ بأسماء هؤلاء فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أخبر آدم عليه السّلام الملائكة بأسماء هؤلاء قالَ الله للملائكة بعد ظهور تفوق آدم عليه السّلام عليهم أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي ما غاب عنكم، فإن فضل آدم كان غائبا عليهم و هم يجهلونه، أو كل شي ء غائب سواء كان في السماء أو في الأرض وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي تظهرون من عدم الاحتياج إلى خلق آدم وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي تخفون في نفوسكم من إرادتكم أن أجعل منكم خليفة.
[34] وَ إِذْ أي اذكر يا رسول الله الزمان الذي قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أي امتنع من السجود وَ اسْتَكْبَرَ أي تكبر حيث رأى نفسه و زعم انه أشرف من آدم وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ بسبب هذا الإباء.
[35] وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حواء الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً أي أكلا واسعا مباركا لكثرة أرزاق الجنة حَيْثُ شِئْتُما أي: من أي مكان من الجنة وَ لا تَقْرَبا بالأكل من هذِهِ الشَّجَرَةَ شجرة خاصة قيل: هي الحنطة، و قد كان النهي عن أكلها للامتحان فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ إذا أكلتما من هذه الشجرة.
[36] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ أي حملهما على الزلة و السقوط بسبب وسوسته عَنْها أي عن الجنة حيث أكلا من الشجرة تبيين القرآن، ص: 16
فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من الخيرات وَ قُلْنَا لآدم و حواء و الشيطان اهْبِطُوا من هذه الجنة الرفيعة المرتبة بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فإن الشياطين أعداء الرجال و النساء و كذا العكس، وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ محل استقرار وَ مَتاعٌ أي تمتع في الأرض بالنعم إِلى حِينٍ أي حين الوفاة، أو حين انقضاء الدين «1».
[37] فَتَلَقَّى أخذ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ليقولها، فيتوب الله عليه ببركة تلك الكلمات، و هي أسامي الخمسة الطيبة:
محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام فَتابَ الله (تعالى) عليه بسبب تلك الكلمات لما قالها آدم عليه السّلام، و كان أثر توبته على آدم و حوّاء عليهم السّلام أن رضي عنهما، و إن لم يرجعهما إلى الجنّة إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ كثير التوبة، أي في قبول التوبة الرَّحِيمُ بعباده و قد كان عمل آدم عليه السّلام ترك الأولى، لا أنه معصية حقيقية كما حقق في علم أصول الدين.
__________________________________________________
(1) ربما يكون المراد انقضاء التكليف.
تبيين القرآن، ص: 17
[38] قُلْنَا اهْبِطُوا أي انزلوا يا آدم و حواء و الشيطان مِنْها أي من الجنة جَمِيعاً فَإِمَّا (ما) زائدة أي إن يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي هداية، كالقرآن و سائر الكتب السماوية فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إذ لمن آمن بالله و عمل صالحا، الأمن في الدنيا و الآخرة، و المخاوف التي يراها ليست مخاوف بالنسبة إلى ما يراه الكفار من العذاب و النار وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الخوف لمكروه مترقب، و الحزن لمكروه و اصل.
[39- 40] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إسرائيل لقب يعقوب عليه السّلام بمعنى عبد الله، و بنو إسرائيل هم اليهود اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ببعث الأنبياء فيكم و جعل ملوك منكم وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي الذي أخذت منكم بالإيمان و الطاعة أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بإعطائكم خير الدنيا و سعادة الآخرة وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي خافوني.
[41] وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ أي القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ أي في مقدمة الكافرين بِهِ أي بما أنزلت من القرآن وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا بأن لا تؤمنوا بالآيات لأجل رئاسة زائلة في الدنيا وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ أي خافوا منّي، فآمنوا و اعملوا صالحا.
[42] وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ بأن تضعوا لباس الباطل على الحق، فتقولون للحق أنه باطل وَ تَكْتُمُوا أي تخفوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه حق.
[43] وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ قيل إن صلاة اليهود لا ركوع فيها و لذا أمروا بالصلاة بلفظ الركوع.
[44] أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الإيمان و التقوى وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أي لا تفعلون البر وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فأنتم أولى بالبرّ من الجهّال أَ فَلا تَعْقِلُونَ ألا عقل لكم يمنعكم عن هذه الأعمال.
[45- 46] وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها الاستعانة بالصبر و الصلاة لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ إشارة إلى أن مجرد الظن كاف في البعث على الإيمان أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي يرون جزاءه وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ أي إلى حسابه و جزائه راجِعُونَ.
[47] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ في زمان موسى عليه السّلام فإن كل مؤمن في زمان نبيّه أفضل من سائر العالمين.
[48] وَ اتَّقُوا أي خافوا يَوْماً هو يوم القيامة لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أي إن في ذلك اليوم جزاء كل إنسان لنفسه، لا أن يعطى جزاء إنسان لإنسان آخر وَ لا يُقْبَلُ مِنْها أي من النفس شَفاعَةٌ إلا بإذن الله وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي فدية تعادله ليفك الإنسان بسبب ذلك العدل عن العذاب وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لا ينصر أحد أحدا عن عذاب الله ليدفع عن المجرم.
تبيين القرآن، ص: 18
[49] وَ إِذْ و اذكروا يا بني إسرائيل زمان نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يظلمونكم بعذاب سيئ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يبقونهن أحياء للاستمتاع بهن و استخدامهن، و ذلك حين أخبر فرعون بولادة موسى عليه السّلام فإنه أخذ يذبح الأولاد و يبقي النساء، لأجل أن لا يولد موسى فيكون سببا لذهاب مملكته وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ امتحان مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ لعل الله ابتلاهم بذلك، لما كانوا يخالفون أوامر الله المنزلة على الأنبياء السابقين على موسى عليه السّلام.
[50] وَ إِذْ و اذكروا يا بني إسرائيل زمان فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أي جعلنا ماء البحر فرقة فرقة، لتمروا من وسطها إلى اليابسة فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى غرقهم.
[51- 52] وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وعدنا موسى عليه السّلام أن يأتي إلى الطور أربعين ليلة، لأعطيه التوراة لأجلكم ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ عبدتموه مِنْ بَعْدِهِ حين غاب موسى عليه السّلام وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الجرم الذي أجرمتموه بعبادة العجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لي بسبب هذا العفو.
[53] وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ أي التوراة الفارق بين الحق و الباطل، و هو عطف بيان للكتاب لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بسبب التدبر في الكتاب.
[54] وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ أي بعبادتكم له فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ خالقكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ورد أنهم أمروا بقتل بعضهم بعضا، و كان ذلك القتل توبة لكل من القاتل و المقتول ذلِكُمْ القتل لأجل التوبة خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ خالقكم فَتابَ عَلَيْكُمْ بعد أن قتل بعضكم بعضا إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
[55] وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إيمانا كاملا حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً أي عيانا فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ حيث جاءتهم صاعقة فأحرقتهم وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ حين جاءتكم الصاعقة.
[56- 57] ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أحييناكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ أي السحاب، بأن جاء السحاب فوق رؤوسهم- حين كانوا في الصحراء- لئلا تؤذيهم الشمس وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ لأجل طعامكم، حيث لم يكن لكم طعام في الصحراء الْمَنَّ مادة حلوة كالترنجبين وَ السَّلْوى طير يسمى السماني كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي إن بني إسرائيل بكفرهم و انحرافهم لم يظلموا الله تعالى، فإن من كفر يظلم نفسه.
تبيين القرآن، ص: 19
[58] وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ و ذلك بعد أن خرجوا من البحر، و بقوا في التيه مدة مديدة بلا مأوى، و المراد بالقرية بيت المقدس كما قيل فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي واسعا، لأنه يوجد في المدينة مختلف أنواع الطعام وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أي اسجدوا لله حين تدخلون باب القرية وَ قُولُوا حِطَّةٌ أي اللهم حط ذنوبنا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ إن فعلتم كما أمرتم وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ علاوة على غفران الخطايا.
[59] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فقالوا:
حنطة حمراء خير لنا، عوض أن يقولوا: حطة فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم و خروجهم عن طاعة الله.
[60] وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ أي طلب السقياء و الماء، حين كانوا في التيه فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ كان حجر هناك فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر مَشْرَبَهُمْ مكان شربهم، لأنهم ما كانوا يريدون شرب الجميع من مشرب واحد لما بينهم من العداء كُلُوا قلنا لهم كلوا من المن و السلوى وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ العثو مجاوزة الحد في الفساد.
[61] وَ إِذْ قُلْتُمْ حال كنتم في التيه يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ المن و السلوى فقط فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها الخضروات وَ قِثَّائِها الخيار وَ فُومِها الثوم وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ أي إن المن و السلوى خير مما طلبتم فكيف تتركون الأحسن و تريدون الأسوأ اهْبِطُوا مِصْراً أي انزلوا في قرية من القرى الموجودة في التيه، و ذلك قبل أن يدخلوا الأرض المقدسة فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ فإن في المدينة توجد أنواع الأطعمة وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ فهم أذلاء فقراء النفس، لا يشبعون من المال مهما أثروا، و هذه الذلة باقية إلى الآن، إلا بحبل من الحكومات الكبار، و لجشع في نفوسهم، و معنى الضرب: طبعهم بهذا الطابع وَ باؤُ أي رجعوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي و عليهم الغضب فكأنهم ذهبوا إلى موسى و رجعوا بغضب الله ذلِكَ هذا الضرب و الغضب بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ صفة توضيحية ذلِكَ أي الكفر و القتل بِما عَصَوْا أي
بسبب أنهم عصاة وَ كانُوا يَعْتَدُونَ يتجاوزون حدود العقل و الشرع.
تبيين القرآن، ص: 20
[62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا أي اليهود وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ دين خاص، و لعلهم انشعبوا من أهل الكتاب مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً أي كل هذه الطوائف الموجودين فعلا إن آمنوا بالله إيمانا صادقا- أي أسلموا- و عملوا صالحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ تقدم تفسيره «1».
[63] وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ عهدكم الشديد بالعمل بما في التوراة وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ جبل ناجى الله عليه موسى ثم قلعه الله سبحانه و جعله فوقهم، و هددهم إن لم يقبلوا الدين، أوقعه عليهم و أهلكهم بسببه خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أعطيناكم من الأحكام و الشرائع بِقُوَّةٍ بجد و عزم وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ أي ما في الكتاب الذي آتيناكم، بأن لا تنسوه و تتركوه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ النار و العقاب، فإن العامل بالأحكام تتكون فيه ملكة التقوى.
[64] ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن العمل بالأحكام مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الميثاق فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بتوفيقكم للتوبة لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسرتم آخرتكم و دنياكم.
[65] وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ أيها اليهود المعاصرون لنزول القرآن و ما بعده الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ جاوزوا أوامر الله فِي السَّبْتِ فإنهم نهوا عن الصيد في السبت، فاحتال بعضهم بحفر سواقي فكانت الأسماك تأتي إلى تلك السواقي في السبت فيأخذونها في يوم الأحد و يقولون: لم نصد في السبت فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً جمع قرد، فقد مسخهم الله قردا خاسِئِينَ مبعدين و مطرودين عن رحمة الله.
[66] فَجَعَلْناها أي تلك العقوبة نَكالًا أي رادعا و زجرا لِما بَيْنَ يَدَيْها أي يدي تلك العقوبة، أي للذين عاصروا المسخ و رأوه بعينهم وَ ما خَلْفَها أي الذين يأتون بعد تلك العقوبة، ليعلموا أن جزاء المعتدي المسخ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي تخويفا لمن يتقي و يخاف من الله، ليعرف أنه جزاء العاصي.
[67] وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً و ذلك أنه قتل شخص فلم يعرف قاتله، فتحاكموا إلى موسى عليه السّلام فأمرهم أن يذبحوا بقرة، و يضربوا الميت ببعضها، ليحيي القتيل و يخبر عن قاتله قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً أي أ تريد الاستهزاء و السخرية بنا، و إلا فما ربط القتيل بذبح البقرة، قالَ موسى عليه السّلام أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فإن الجاهل يستهزئ.
[68- 69] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ أي اطلب من الله تعالى يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ تلك البقرة و ما صفتها قالَ موسى عليه السّلام إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ لا مسنة وَ لا بِكْرٌ و لا فتية عَوانٌ متوسط العمر بين المسنة و الفتية بَيْنَ ذلِكَ أي بين ذين العمرين فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها أي لون البقرة قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ أي حسن الصفرة تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أي تبعث السرور في قلب من يراها لكل هذه الصفات الحسنة أو كانت الصفرة بحيث تجلو القلب.
__________________________________________________
(1) الخوف هو المكروه المترقب، و الحزن المكروه الواصل.
تبيين القرآن، ص: 21
[70] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ما هي صفاتها الأخرى غير السن و اللون إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا إذ البقر بهذا السن و هذا اللون كثير وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ نريد اتباع الأمر لا أننا نسأل لمجرد العلم و المجادلة.
[71] قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ أي لا تكون عاملة في إثارة الأرض للزراعة، و هذا تفسير لذلول وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ أي ليست تسقي لأجل الزرع مُسَلَّمَةٌ سلمها الله من العيوب لا عيب فيها لا شِيَةَ فِيها لا لون فيها يخالف لونها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الواضح فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ و ذلك لأن ثمنها كان كثيرا جدا، حتى قالوا إنه كان مل ء جلد ثور ذهبا.
[72] وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ أي تدافعتم في قتل النفس بأن قال كل واحد: أنا لم أقتله و إنما قتله غيري فِيها أي في تلك النفس، و انه من قتلها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي ما أخفيتموه من القاتل، فإن الله يظهره بسبب ذبح البقرة.
[73] فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
أي القتيل بِبَعْضِها
أي ببعض تلك البقرة كَذلِكَ
أي كما أحيى الله هذا القتيل يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
في يوم القيامة وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ
أي دلائله على كامل قدرته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
[74] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ بينما كان مقتضى القاعدة أن ترق و تلين حيث شاهدت آيات الله تعالى مِنْ بَعْدِ ذلِكَ بعد رؤية الآيات، أو إحياء القتيل فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً كالحديد و ما أشبه، في عدم تقبل النصيحة و الوعظ وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما أي لحجارة يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فإن قسما من الأنهار تتفجر من الحجارات وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ أي يتشقق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ القليل، فبعض الحجارات يخرج منها الماء الكثير، و بعضها يخرج منها الماء القليل، أما قلوب هؤلاء فلا يخرج منها خير أصلا، لأنها قاسية وَ إِنَّ مِنْها أي من الحجارة لَما يَهْبِطُ لحجارة ينزل من أعالي الجبل مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إما خشية واقعية أو خشية تكوينية، و لكن قلوب اليهود لا تهبط من خشية الله، إذ هي كالحجارة أو أشد قسوة وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الأعمال السيئة: الكفر و العصيان.
[75] أَ فَتَطْمَعُونَ أيها المؤمنون أَنْ يُؤْمِنُوا هؤلاء اليهود لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ طائفة من أسلاف هؤلاء، و حيث إن الطبيعة واحدة، فما هي حالة الأسلاف تكون حالة الأخلاف عادة يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ التوراة ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ يغيرونه فيجعلون الحلال حراما و الحرام حلالا مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي فهموه وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم يحرفونه.
[76] وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قسم من اليهود كانوا منافقين فإذا لقوا أي رأوا المؤمنين أظهروا الإيمان و قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ في مكان خلوة ليس فيها مؤمن حقيقي قالُوا أي قال بعضهم الذين لم ينافقوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ أي لما ذا أيها اليهود المنافقون تحكمون للمسلمين بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي بما بين الله لكم من نعت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي ليكون للمؤمنين حجة عليكم عند الله، فإن المؤمنين في يوم القيامة يقولون لله: يا رب هؤلاء كانوا يعلمون صفات محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنهم اعترفوا بها أمامنا أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيها اليهود فتعترفون أمام المسلمين.
تبيين القرآن، ص: 22
[77] أَ وَ لا يَعْلَمُونَ هؤلاء اليهود المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ سرهم و علانيتهم، فسواء اعترفوا أمام المسلمين أم لا، الله يعلم أنهم يعرفون صفات محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[78] وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ منسوب إلى الأم، بمعنى الذي لا يقرأ و لا يكتب لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ التوراة إِلَّا أَمانِيَّ جمع أمنية أي لا يقرءون الكتاب حتى يعرفون الحقائق بل لهم أماني بنجاتهم في الآخرة بسبب هذا الكتاب، فلو قرءوا الكتاب علموا أنهم على باطل و زالت تلك الأماني من قلوبهم وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ بأنهم أهل النجاة، لا علم لهم بذلك.
[79] و حيث إن جهل الأميين بالواقع إنما هو بسبب ما حرفه علماؤهم من التوراة، إذن فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فليس هو كتابا أنزله الله، و إنما هو كتاب محرف كتبته أيدي رؤسائهم المحرفين ثُمَّ يَقُولُونَ هذا الكتاب المحرف مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي كي يحصلوا بهذا الكتاب المحرف غرضا من أغراض الدنيا من الرئاسة و المال فكأنهم أعطوا المحرف و أخذوا المال و الرئاسة فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ أي مما فعلوه من تحريف الكتاب وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من المال الحرام في إزاء الكتاب المحرف.
[80] وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا أي لن تصيبنا النَّارُ نار جهنم في الآخرة إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أي قليلة قُلْ أَتَّخَذْتُمْ أي هل أخذتم أيها اليهود عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً بأن الله يعذبكم أياما قليلة فقط فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي إن نسبتكم إلى الله بأنه يعذبكم أياما قليلة، إنما هو اعتباطي و بدون علم.
[81] بَلى ليس الأمر كما قلتم، بل لكم عذاب دائم أبدي مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً أي عمل عملا سيئا، كأنه اكتسبه وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي ذنوبه، فإن من الناس من يكون كل أعماله معصية، فهو كالذي أحاط به الدخان فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون فيها، و لعل وجه تخصيص الخلود بهؤلاء، لأن القاصر منهم يمتحن يوم القيامة.
[82- 83] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَ إِذْ أي أذكر يا رسول الله حيث أَخَذْنا مِيثاقَ العهد الشديد بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ بدل من الميثاق وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي تحسنون وَ ذِي الْقُرْبى أي تحسنون إلى أقربائكم وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن أوامر الله، بأن وليتم الدبر إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ في حال إعراضكم
تبيين القرآن، ص: 23
[84] وَ إِذْ أَخَذْنا و اذكروا يا بني إسرائيل الزمان الذي أخذنا فيه مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ كان الميثاق أن لا يريق بعضكم دم بعض وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ بتبعيد بعضكم بعضا عن الديار ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق و قبلتموه وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي تشهدون بالإقرار، و هذا كقوله: (أقر و أنا شاهد على هذا).
[85] ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي إنكم بعد الإقرار نقضتم ذلك، و أنتم جماعة يقتل بعضكم بعضا وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ أي بعضكم مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ أي يعاون بعضكم مع بعض في القيام ضد أولئك الفريق بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ أي أن التظاهر تظاهر معصية و تعد و ظلم، لا تظاهر في الحق و العدل وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ الآن الفريق الذي أخرجتموه من البلد أُسارى جمع أسير تُفادُوهُمْ أي تعطون الفدية لأجل خلاصهم، فإذا رأيتم الآن هذا الذي تخرجونه من البلد في يد غيركم أسيرا تعطون الفدية لخلاصه! فما هذا التناقض في أعمالكم؟ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أي يحرم عليكم إخراج و تبعيد هؤلاء الفريق من البلد، و لفظة (هو) عائد إلى (الإخراج) أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ الذي يأمركم بالفدية وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ الذي ينهى عن القتل و الإخراج، و الاستفهام إنكاري، و المراد بالكتاب التوراة فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ أي الإيمان ببعض الكتاب و الكفر ببعض إِلَّا خِزْيٌ و ذل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل يعلم كل أعمالكم فيجازيكم عليها.
[86] أُولئِكَ الَّذِينَ يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أخذوا الحياة الدنيا، و أعطوا بدلها الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ في الآخرة وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لا ينصرهم أحد من عذاب الله.
[87] وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة وَ قَفَّيْنا أي اتبعنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فكان كثير من الرسل بعد موسى عليه السّلام وَ آتَيْنا أعطينا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الأدلة الواضحات الدالة على نبوته وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ روح طاهرة عن الآثام، و التأييد بمعنى التقوية، و لعل المراد به جبرئيل عليه السّلام أَ فَكُلَّما استفهام إنكاري جاءَكُمْ أيها اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ أي جاءكم رسول بالحكم الذي لا تميلون إليه اسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الإطاعة لذلك الرسول فَفَرِيقاً من الرسل كموسى عليه السّلام و عيسى عليه السّلام كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ كزكريا عليه السّلام و يحيى عليه السّلام.
[88] وَ قالُوا اليهود قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع أغلف، أي في غطاء فلا نفهم ما تقول يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَلْ ليس في غلاف و إنما لَعَنَهُمُ اللَّهُ بعّدهم الله عن قبول الحق بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم، فحيث إنهم عقدوا العزم على الكفر بعّدهم الله عن الهداية، كما أنك لو أعطيت ولدك مالا ليتاجر، فعزم الولد على المقامرة بالمال، طردته من قربك فَقَلِيلًا ما مبالغة للقلة يُؤْمِنُونَ.
تبيين القرآن، ص: 24
[89] وَ لَمَّا جاءَهُمْ اليهود كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ لكتابهم، فإن القرآن يصدق التوراة الأصلية التي لم تحرف وَ كانُوا اليهود مِنْ قَبْلُ أي قبل نزول القرآن و بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي يطلبون من الله النصر و الفتح على الكفار بمجي ء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإن اليهود في المدينة كانوا إذا تخاصموا مع المشركين، توجهوا إلى الله تعالى أن ينقذهم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المشركين فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا أي ما عرفوه سابقا، من محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن كَفَرُوا بِهِ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن فَلَعْنَةُ اللَّهِ أي عذابه و طرده عن الخير عَلَى الْكافِرِينَ.
[90] بِئْسَمَا أي بئس الشي ء الذي اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فباعوا أنفسهم للعذاب لينالوا خيرا قليلا في الدنيا أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ و الحاصل بئس الاشتراء: الكفر بما أنزل الله بَغْياً أي كفرا ناشئا من البغي و الظلم و الفساد أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ فقد حسدوا أن ينزل الله بالوحي مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأن اليهود كانوا يترقبون أن ينزل الوحي على قبيلتهم من ولد إسحاق لا على ولد إسماعيل فَباؤُ أي رجع اليهود بسبب هذا الكفر و الحسد بِغَضَبٍ من الله لكفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى غَضَبٍ سابق لكفرهم بعيسى عليه السّلام وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلهم.
[91] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي لليهود آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتب كالإنجيل و القرآن قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي التوراة فقط وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أي بما نزل بعد توراتهم، و هو الإنجيل و القرآن وَ هُوَ الْحَقُّ أي و الحال أن ما وراءه حق مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ في حال كون ما وراء كتابهم مصدق للكتاب الذي مع اليهود، و هو التوراة قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالتوراة لأن التوراة ينهى عن قتل الأنبياء، فإذن ادعاؤكم بقولكم (نؤمن بما أنزل علينا) كذب، فأنتم لا تؤمنون حتى بالتوراة.
[92] وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ بالأدلة الواضحة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ عبدتم ما يشبه ولد البقر مِنْ بَعْدِهِ أي بعد مجي ء موسى عليه السّلام بالبينات، فهذا دليل آخر على أنكم لا تؤمنون بالتوراة أيضا وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ.
[93] وَ إِذْ و اذكروا يا بني إسرائيل الزمان الذي أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ عهدكم الأكيد باتباع التوراة وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ قطعة من الجبل، و ذلك لتخويفكم و تهديدكم بأنكم إذا لم تؤمنوا سقط عليكم و أهلككم، فقلنا لكم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من الأحكام بِقُوَّةٍ بشدة و تأكد وَ اسْمَعُوا الأوامر سماع طاعة و انقياد قالُوا سَمِعْنا قولك وَ عَصَيْنا أمرك وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ كأن قلبهم شرب حب العجل، فلا يخرج حبه من قلوبهم، و لذا لما ذره موسى عليه السّلام في البحر كان جماعة منهم يلقون بأنفسهم في الماء ليشربوا منه بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم الكامن في أنفسهم قُلْ بِئْسَما أي بئس الشي ء الذي يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ فإنهم كانوا يقولون إن إيمانهم بموسى عليه السّلام يأمرهم بعدم اتباع محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
تبيين القرآن، ص: 25
[94] قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لليهود إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فلا يدخل سائر الناس الجنة، كما تزعمون أيها اليهود فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في هذا الزعم، لأن اليهود كانوا يقولون الجنة لهم فقط، و قد أمرهم القرآن بتمني الموت، لكنهم ما كانوا يتمنونه لما علموا بأن محلهم النار.
[95] وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أي الموت أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوه من الكفر و المعاصي، و حيث إن اليد تعمل الأعمال نسب ما عملوه إلى أيديهم، فأيديهم قدمت تلك الأعمال البشعة إلى الآخرة وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
[96] وَ لَتَجِدَنَّهُمْ يا رسول الله أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ فإن حرصهم على بقائهم في الدنيا أشد من حرص سائر الناس، فكيف يتمنون الموت؟ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي اليهود أحرص من المشركين و من غير المشركين على الحياة، و إنما خص المشرك بالذكر، لأن المشرك حيث يرى أنه لا آخرة يشتد حرصه على الحياة يَوَدُّ أي يحب أَحَدُهُمْ لَوْ للتمني يُعَمَّرُ أي يبقى في الدنيا و يطول عمره أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ أي و الحال ليس العمر الطويل بِمُزَحْزِحِهِ أي يبعده مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ بدل (هو) فلا فائدة في طول عمرهم وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم بسيئاتهم.
[97] قُلْ يا رسول الله مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فإن اليهود كانوا أعداء جبرئيل، و كانوا يقولون للرسول: حيث إن جبرئيل ينزل عليك لا نؤمن نحن بك فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ فإن الله أذن لجبرئيل في نزول القرآن، و على فرض المحال بكون جبرئيل مذنبا، فإن ذلك لا يرتبط بالقرآن و بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُصَدِّقاً أي في حال كون القرآن يصدق لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما تقدمه من الكتب كالتوراة و الإنجيل وَ هُدىً هداية وَ بُشْرى بشارة بمستقبل زاهر، و هذان عطفان على (مصدقا) لِلْمُؤْمِنِينَ.
[98] مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ بمخالفة الله عن عناد وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ أي عدو هؤلاء يجازى بأن الله يعاديه، فيعاقبه.
[99] وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ الخارجون عن طريق الهدى و الرشاد.
[100] أَ وَ كُلَّما الهمزة للإنكار، و الواو عطف على مقدر، أي أكفر اليهود و كلما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ طرحه و لم يعمل به، فإنهم عهدوا بالعمل بما في التوراة، و من جملة أحكام التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكنهم نبذوه و لم يعملوا به فَرِيقٌ مِنْهُمْ أما بعض اليهود فقد آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ هذا لدفع و هم أن يراد ب (فريق) جماعة قليلة، فكأنه قال: الفريق النابذ هم الأكثر منهم.
[101] وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة نَبَذَ ترك فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ و هم علماء اليهود الذين أعطاهم الله التوراة كِتابَ اللَّهِ أي أحكام التوراة بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ بأن هذا كتاب الله و أنه يحرم نبذه و عدم العمل به.
تبيين القرآن، ص: 26
[102- 105] وَ اتَّبَعُوا أي إن اليهود لما جاءهم محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تركوا اتباعه، بل اتبعوا كتب السحر، فعوض أن يؤمنوا بالرسل و بالقرآن، أخذوا يتبعون كتب السحر التي كانت على عهد سليمان عليه السّلام، و التي كانت من متروكات هاروت و ماروت ما تَتْلُوا أي ما تقرأ، و هذا مستقبل بمعنى الماضي الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي في زمن ملك سليمان عليه السّلام فإن الشياطين كتبوا السحر و ألقوه تحت كرسي سليمان عليه السّلام بعد موته، ليظن الناس أن سليمان عليه السّلام كان بالسحر نال ما نال من الملك وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ فإن السحر كفر، و لو كان سليمان عليه السّلام يعمل بالسحر لكان كافرا، و العياذ بالله وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ الذين كتبوا السحر و ألقوه تحت كرسي سليمان عليه السّلام كَفَرُوا، يُعَلِّمُونَ أولئك الشياطين النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أي اتبعوا ما أنزل، فإن الله أنزل على هاروت و ماروت السحر، حيث إن السحر شاع في ذلك الزمان، فأنزل الله الملكين و عرفهما السحر، ليعلموا الناس السحر و ما يبطله، و ذلك التعليم كان بقصد إبطال السحر، كما يقول الطبيب للمريض: (السم مهلك و دواؤه
كذا) لكن الناس حيث تعلموا السحر أخذوا يعملون به عصيانا لله تعالى بِبابِلَ مدينة قرب الحلة في العراق هارُوتَ وَ مارُوتَ عطف بيان لملكين وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ لا يعلّم الملكان أحدا شيئا من السحر حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي إنا امتحان لكم أيها البشر فَلا تَكْفُرْ باستعمال السحر، بل استعمل مبطل السحر فقط فَيَتَعَلَّمُونَ الناس مِنْهُما أي من الملكين ما أي سحرا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ بينما كان من الضروري أن يتعلموا ما يبطلون به التفرقة، فإن الملكين كانا يقولان: (إن كذا يفرق، و إن كذا يبطل السحر المفرق) لكن الناس كانوا يعملون بالسحر لا بمبطل السحر وَ ما هُمْ العاملون بالسحر بِضارِّينَ بِهِ أي بسبب السحر مِنْ أَحَدٍ أي أحدا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إذنا تكوينيا، حيث إن الله جعل هذا الأثر المفرق في السحر و هذا لإفادة أن الناس تحت قبضة الله و اختياره سواء أطاعوا أم عصوا، حتى لا يزعم العاصي أنه خرج عن تحت سلطة الله تعالى وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ تأكيد ل (ما يضرهم) وَ لَقَدْ عَلِمُوا هؤلاء اليهود الذين كفروا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اتبعوا سحر الشياطين و سحر الملكين لَمَنِ أي الذي، ف (اللام) للتأكيد اشْتَراهُ أي اشترى السحر، كأنه أعطى الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخذ السحر مكانه ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ نصيب من الخير وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ باعوا أنفسهم لعذاب الآخرة، و اشتروا مكانه الكفر و السحر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كانوا يعلمون لعلموا قبح ما شروه. وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي أهل الكتاب
آمَنُوا وَ اتَّقَوْا المعاصي لَمَثُوبَةٌ أي ثواب مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ من السحر و الكفر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كان لهم علم لعلموا خيرية الثواب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا و هذه سيئة أخرى من سيئات اليهود فإنهم كانوا يقولون لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (راعنا) أي راع أحوالنا، و هذا كان في لغتهم شتما بمعنى (أسمعت لا سمعت) و كانوا يقصدون الشتم لخبثهم وَ قُولُوا انْظُرْنا و معناه راع أحوالنا و تلطف بنا، و إنما وجه الخطاب للمؤمنين لأنهم المنتفعون بالخطاب وَ اسْمَعُوا سماع إطاعة وَ لِلْكافِرِينَ الذين يخالفون أمر الله تعالى عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم. ما يَوَدُّ أي لا يحب الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و هذا تكذيب لليهود الذين كانوا ينافقون فيقولون للمؤمنين إنا نحب الخير لكم، و هم مقابل الذين آمنوا برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أهل الكتاب وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي لا يحب أهل الكتاب و المشركون أن ينزل الله خيرا على المؤمنين وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ فليس رحمة الله حسب أهواء الكفار وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
تبيين القرآن، ص: 27
[106] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها النسخ تبديل الآية بآية أخرى و الحال أن الآية الأولى باقية، كما ينسخ التوراة بالقرآن، و (الإنساء) تركها حتى تنسى، فإن عدم الاعتناء بشي ء يوجب نسيانها، كما أن الكتب السابقة النازلة على الأنبياء عليهم السّلام نسيت فلم يبق منها أثر نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها قال اليهود كيف يجوز نسخ القرآن للتوراة، إذ أن التوراة لو كان صالحا لم يجز نسخه، و إن
لم يكن صالحا كيف أمر الله موسى عليه السّلام باتباعه؟ و جاء الجواب في هذه الآية الكريمة، بأن الحكم الجديد إما مماثل للحكم السابق مع فارق أن هذا لهذا الزمان و ذاك للزمان السابق، كما لو قام الدينار الورقي الجديد مقام الدينار الورقي القديم، أو أفضل من الحكم السابق، كما أن الدراسة العالية أفضل من الدراسة الابتدائية أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على النسخ و التبديل.
[107] أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فمن له الملك له التشريع أيضا، إذ للمالك حق أن يشرع لملكه وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يلي أموركم و يتولى شؤونكم فله حق التشريع وَ لا نَصِيرٍ فهو ينصركم على أعدائكم و المجادلين في دينكم.
[108] أَمْ اعتراض على اليهود، لما ذا يجادلون كل رسول يأتيهم بعد ثبوت رسالته، فمعنى (أم): (بل)، أي إنكم بقصد المجادلة لا بقصد التفهم تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ بأن ترك الإيمان و أخذ الكفر، كاليهود فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق الموصل إلى المطلوب.
[109] وَدَّ و هذه رذيلة أخرى لأهل الكتاب فقد أحب كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً أي يرجعونكم إلى الكفر، بعد أن آمنتم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيها المسلمون حَسَداً هذا علة (ود) أي أنهم يحسدونكم، لذا يريدون إرجاعكم إلى الكفر مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أي هذا الحب «1» ناشئ من نفوسهم، لا انه من أجل تدينهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حق فَاعْفُوا و لا تؤاخذوا أهل الكتاب، فعلا وَ اصْفَحُوا أعرضوا عنهم و اتركوهم حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ في قتالهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الانتقام من أهل الكتاب.
[110] وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا إلى الآخرة لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ في دار ثوابه إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يضيع عنده شي ء.
[111] وَ قالُوا أي أهل الكتاب لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أي يهودا أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ جمع أمنية، أي طلبهم القلبي، فإنهم يتوقعون دخولهم و حدهم الجنة قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي ائتوا بدليلكم على أنكم وحدكم تدخلون الجنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
[112] بَلى الجنة لكل مؤمن، ف مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي جعل وجهه سلما، كناية عن الإطاعة و الانقياد لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله، و هذه عبارة أخرى عن الإيمان و العمل الصالح، فغير المؤمن لم يسلم وجهه لله، و العاصي ليس بمحسن، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ في الآخرة وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لا خوف من مكروه المستقبل، و لا حزن لمكروه وارد، لأن خوفهم و حزنهم ليس بشي ء في مقابل خوف و حزن الكفار.
__________________________________________________
(1) أي حب أن يرتد المسلمون عن إيمانهم.
تبيين القرآن، ص: 28
[113] وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ من الدين فلا دين لهم وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ أي قالوا هذه المقالة و الحال أنهم من أهل العلم، و أهل العلم يجب أن لا ينابذ بعضهم بعضا كَذلِكَ أي مثل قول هؤلاء قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي الكفار، مِثْلَ قَوْلِهِمْ فإن الكفار يحاربون أهل الكتاب، و بالعكس «1» فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بين اليهود و النصارى و المشركين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
[114] وَ مَنْ أَظْلَمُ هذا تعريض بأهل الكتاب، حيث إن نصارى الروم غزوا بيت المقدس و خربوه، انتقاما من اليهود- كما قيل- و الآية عامة مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أي منع من ذكر الله في المساجد وَ سَعى فِي خَرابِها بهدم بنائها و تعطيلها عن العبادة أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ أي ينبغي أن يخافوا من عقاب الله تعالى، حيث حاربوا أولياءه و هدموا بيوته لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ حيث إن المسلمين يغلبون عليهم و يجزون بصنيعهم وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
[115] وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا أينما اتجهتم حال الصلاة، و هذا رد على اليهود الذين قالوا كيف حوّل رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجهه من بيت المقدس إلى الكعبة فَثَمَّ أي في ذلك الجانب وَجْهُ اللَّهِ أي ذاته فإن الله تعالى لا مكان له، فأين توجه الإنسان، فقد توجه إلى الله تعالى إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ ليس له مكان خاص، بل هو في كل مكان عَلِيمٌ بالمصالح، و لذا حول القبلة إلى الكعبة المعظمة.
[116] وَ قالُوا اليهود و النصارى اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فاليهود قالوا عزيز ابن الله، و النصارى قالوا المسيح ابن الله سُبْحانَهُ أي انه تعالى منزه من أن يتخذ ولدا بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فلا يحتاج إلى أن يتخذ ولدا كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ خاضعون.
[117] بَدِيعُ أي مبدع و خالق السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً أراد شيئا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ موجودا فَيَكُونُ فأي حاجة له إلى الولد لأنه خالق كل شي ء و قادر على إيجاد كل شي ء.
[118] وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من جهلة أهل الكتاب و المشركين لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي لما ذا لا يكلمنا الله كما يكلمك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي ينزل إلينا معجزة و آية كما ينزلها إليك، حتى نؤمن كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قالوا لأنبيائهم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ في العمى و الفساد قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يطلبون اليقين، و الآيات كافية في ذلك، و لا حاجة إلى تنزيل أخرى إلى المعاندين.
[119] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً لمن آمن وَ نَذِيراً لمن كفر وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ أي ليس عليك أن تجبر الكفار على القبول، و إنما عليك البلاغ فقط، فلا يضرك عنادهم.
__________________________________________________
(1) أو ان المشركين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه: أنهم ليسوا على شي ء من الدين.
تبيين القرآن، ص: 29
[120] وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى فلا تتوقع يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رضاهم عنك حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ و طريقتهم قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى الصحيح، فلا أحيد عنه و عدم رضاكم ليس بمهم وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ يا رسول الله أَهْواءَهُمْ أي أهواء اليهود و النصارى في دينهم المنحرف بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ببطلان طريقتهم و صحة طريقة الإسلام ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ ينصرك من بأس الله.
[121] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي كل من أرسلنا إليه الكتاب، توراة أو إنجيلا أو قرآنا يَتْلُونَهُ أي إن تلوه حَقَّ تِلاوَتِهِ و حق التلاوة هو العمل به، و إلا كان لقلقة لسان أُولئِكَ فقط، و هذا خبر (الذين) يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ بعدم العمل به فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا دنياهم و عقباهم، و هذه الآية تعريض بأهل الكتاب، ببيان أنهم ليسوا بمؤمنين إذ لا يعملون بكتابهم.
[122] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بإرسال الأنبياء عليهم السّلام فيكم و جعل ملوكا منكم وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانكم حيث إن المؤمن مفضل على كل أهل العالم في زمانه.
[123] وَ اتَّقُوا يَوْماً خافوا من يوم القيامة، فلا تعملوا ما يوجب عقابكم و عذابكم لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أي أن كل نفس تجزى بما عملت فلا يتحمل أحد عن أحد عقابه وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ بأن يؤخذ من العاصي ثمن في مقابل فكاكه وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ إلا بإذن الله وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لا ينصرهم أحد لينقذهم من عذاب الله، فهذه الوسائل الموجودة في الدنيا لخلاص المجرم لا توجد هناك و إنما ينفع الإنسان عمله.
[124] وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ و اذكر يا رسول الله الوقت الذي امتحن فيه الله تعالى رسوله إبراهيم عليه السّلام، و الابتلاء هو التكليف الشاق، أو النازلة المريرة بِكَلِماتٍ أي بأمور، فإن الكلمة تطلق على اللفظ و على الشي ء الملقى، و لذا يقال للمسيح عليه السّلام (كلمة الله)، و لعل من تلك الكلمات (نار نمرود) و (إقصاء أهله إلى مكة) و (ذبح إسماعيل) و (الاعتراف بالخمسة الطيبة) فَأَتَمَّهُنَّ بأن قام بمقتضى العبودية في كل ذلك، و نجح في الامتحان قالَ الله حين ذاك إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي مقتدى، و هذه رتبة فوق الرسالة، لأن الرسول يمكن أن لا يكون إماما فعليا للناس قالَ إبراهيم عليه السّلام دعاء و طلبا وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي و أولادي هل تجعل يا رب إماما للناس؟ قالَ الله لا يَنالُ لا يصل عَهْدِي بالإمامة الظَّالِمِينَ من أهلك و ذريتك، و فيه دلالة على أن غير الظالم من ذرية إبراهيم عليه السّلام و هم المعصومون عليهم السّلام ينالون عهد الإمامة من قبل الله تعالى.
[125] وَ إِذْ و اذكر يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الزمان الذي جَعَلْنَا الْبَيْتَ الحرام مَثابَةً لِلنَّاسِ مرجعا و محل ثواب فأهل العالم يرجعون كل عام إلى البيت بقصد الحج وَ أَمْناً أي محل أمان، فإنه لا يحق لأحد إيذاء أحد في البيت، و لو كان مستحقا للأذية وَ اتَّخِذُوا أيها الناس مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ و هو الصخرة التي كان إبراهيم عليه السّلام يعلوها حين ما يريد بناء حائط البيت مُصَلًّى أي محل صلاة الطواف، بمعنى أن صلوا حواليه وَ عَهِدْنا أي أمرنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ من
الأصنام و الأنجاس لِلطَّائِفِينَ الذين يدورون حول الكعبة المشرفة وَ الْعاكِفِينَ الذين يعتكفون في المسجد الحرام وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ أي الراكعين الساجدين هناك، و المراد بهم المصلون.
[126] وَ إِذْ و اذكر يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الزمان الذي قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا البلد بَلَداً آمِناً بأن تحكم بلزوم تبيين القرآن، ص: 30
كونه محل أمن للناس، و لذا لا يحد حدّ و لا يقتص فيه وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ الفواكه، أو مطلق نتائج الأرض مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل (أهله) أي ارزق من آمن من أهل هذا البلد بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ الله وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا أي أعطي من الثمار من سكن هذا البلد من الكفار أيضا، و هذا المتاع قليل بالنسبة إلى تمتع المؤمن الذي يتمتع في الدنيا و الآخرة ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ أجعله مضطرا لعذاب الآخرة، فإن الكافر يلقى في العذاب مضطرا بدون اختياره وَ بِئْسَ العذاب الْمَصِيرُ و المرجع للكافر.
تبيين القرآن، ص: 31
[127] وَ إِذْ و اذكر يا رسول الله الزمان الذي يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ جمع قاعدة، و هي أساس البيت، و رفعها بناء الحائط عليها مِنَ الْبَيْتِ الكعبة وَ إِسْماعِيلُ أي يرفع إبراهيم و إسماعيل معا، ببناء الأول و مساعدة الثاني له بإعطائه الحجارة ... و هما يقولان حين البناء رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا هذه الخدمة لبيتك إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائنا الْعَلِيمُ بنياتنا الخالصة لأجلك.
[128] و يقولان في دعائهما أيضا: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ في المستقبل، كما كنا مسلمين في الماضي وَ اجعل مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا أي علمنا مَناسِكَنا كيف نفعل و نتعبد لك في مراسيم الحج، فإن المنسك بمعنى العبادة وَ تُبْ اعطف باللطف و الرحمة عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ كثير اللطف و الرحمة.
[129- 130] رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ أي في ذريتنا رَسُولًا مِنْهُمْ أي من نفس الذرية، لا من ذرية إنسان آخر يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ كالقرآن الحكيم وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ فإن التلاوة مجرد القراءة، و التعليم جعل الطرف يعلمه أيضا وَ الْحِكْمَةَ الشريعة المقتضية لوضع كل شي ء موضعه، حتى يستقيموا في دنياهم و أخراهم وَ يُزَكِّيهِمْ يطهرهم بقلع جذور المفاسد الاجتماعية و الرذائل الخلقية إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي تقدر على ما أردت من إرسال الرسول الْحَكِيمُ الذي يضع الأشياء مواضعها، و جعل الرسول في الذرية من وضع الشي ء في موضعه. وَ مَنْ يَرْغَبُ استفهام إنكار عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ طريقته إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي أذلها و أهانها فإن طريقة الإسلام هي طريقة إبراهيم عليه السّلام وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ اخترنا إبراهيم عليه السّلام ليكون نبيا فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ الذين يصلحون للجنة.
[131- 133] إِذْ طرف لوقت الاصطفاء، أي اخترناه في وقت قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ لما يأمرك ربك قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَ وَصَّى بِها أي بالملة إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ أي وصى يعقوب عليه السّلام بنيه بالملة أيضا يا بَنِيَّ قال إبراهيم و يعقوب عليهما السّلام لأولادهم، و بني جمع ابن إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي اختار الله أن تكونوا أنتم من حملة الدين فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي في حال كونكم مسلمين، و حيث إن المهم موت الإنسان على الإسلام خصص هذا الحال بالذكر. أَمْ كُنْتُمْ استفهام إنكار، أي لم تكونوا يا أهل الكتاب حاضرين حال وصية يعقوب عليه السّلام فكيف تقولون إنه كان يهوديا أو نصرانيا، و الحال انه كإبراهيم عليه السّلام كان مسلما شُهَداءَ أي حاضرين
إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ زمان حضر الموت يعقوب عليه السّلام إِذْ قالَ يعقوب عليه السّلام لِبَنِيهِ أولاده الاثنى عشر ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي استفهام لأجل الإرشاد و التنبيه قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ هذا عم أولاد يعقوب عليه السّلام و إنما ذكر في سلسلة الآباء تغليبا، و لأنه يطلق الأب على العم أيضا «1» وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
[134] تِلْكَ إبراهيم عليه السّلام و أولاده أُمَّةٌ جماعة قَدْ خَلَتْ قد مضت و ماتت فما الفائدة في محاجتكم يا أهل الكتاب حولهم، و إنهم كانوا يهودا أو نصارى، فسواء كانوا مسلمين أم لا لَها ما كَسَبَتْ فأعمالها الصالحة لها و لا ترتبط بكم وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ أعمالكم الطالحة لكم فلا ترتبط بهم وَ لا تُسْئَلُونَ أنتم يا أهل الكتاب عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
__________________________________________________
(1) و منه قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ و قوله تعالى: وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ سورة الأنعام 74 و سورة التوبة 114.
تبيين القرآن، ص: 32
[135] وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى أي اليهود قالوا كونوا يهودا، و النصارى قالوا كونوا نصارى تَهْتَدُوا أي حتى تكونوا مهتدين قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي نكون من أهل طريقة إبراهيم عليه السّلام، فإن طريقته التوحيد، أما طريقة اليهود و النصارى فهي الشرك حَنِيفاً أي إن دين إبراهيم عليه السّلام كان مائلا من الأديان الباطلة إلى الحق وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض باليهود و النصارى و أنهما مشركان.
[136] قُولُوا أيها المؤمنون آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي القرآن وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ و هي صحف إبراهيم عليه السّلام و قد فقدت نسخها وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ أولاد يعقوب عليه السّلام و هؤلاء لم ينزل عليهم بالذات شي ء، و إنما كانت الصحف المنزلة على إبراهيم منزلة إليهم أيضا، كما نقول إن القرآن أنزل إلينا وَ ما أُوتِيَ أعطي مُوسى أي التوراة وَ عِيسى أي الإنجيل وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ سائر النبيين كنوح عليه السّلام و غيره مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي لا نفرق بأن نؤمن بنبي و نكفر بنبي كما فعل اليهود و النصارى، حيث آمنوا ببعض الأنبياء و كفروا ببعض الأنبياء عليهم السّلام وَ نَحْنُ لَهُ أي لله تعالى مُسْلِمُونَ لا مشركون كاليهود و النصارى.
[137] فَإِنْ آمَنُوا أي أهل الكتاب بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ من الإيمان بالأنبياء جميعا و بالله الواحد فَقَدِ اهْتَدَوْا فهم على هداية وَ إِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن الإسلام فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي مخالفة الحق، فإن كل واحد من المتخالفين في شق و جانب مخالف لشق الآخر و جانبه فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أي يمنعكم من أذى اليهود و النصارى، فلا يتمكنون من أذاكم و لكم النصر عليهم وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بنياتكم.
[138] صِبْغَةَ اللَّهِ أي قولوا أيها المسلمون لقد صبغنا الله بصبغة الإيمان، فإن لكل جماعة لونا خاصا، و المسلمون لهم لون الإسلام و هو اللون الذي اختاره الله لهم وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي لا صبغة أحسن من صبغة الله وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ نحن نعبد الله وحده، و لا نشرك به شيئا كما يشرك اليهود و النصارى.
[139] قُلْ يا رسول الله، في جواب اليهود الذين كانوا يقولون: لو كان محمدا منا لآمنا به، إذ الأنبياء كلهم كانوا من أولاد يعقوب عليه السّلام أَ تُحَاجُّونَنا استفهام إنكار، أي تجادلوننا فِي اللَّهِ أي في فضل الله سبحانه على أولاد إسماعيل عليه السّلام ببعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ فلما ذا تكون رسالته خاصة بكم كما تزعمون وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ كل واحد منا و منكم يرى نتيجة عمله وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في العبادة إذ لا نشرك به و هذا تعريض بهم بأنهم مشركون.
[140] أَمْ تَقُولُونَ يا أهل الكتاب بمعنى (بل) و هذا استفهام إنكار إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى فاليهود كانوا يقولون إنهم كانوا يهودا، و النصارى كانوا يقولون إنهم كانوا نصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بدين إبراهيم عليه السّلام أَمِ اللَّهُ فإن الله قال: (ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ أي أخفى شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ أي شهادة ناشئة من قبل الله تعالى لأن أهل الكتاب كانوا يعلمون بطلان قولهم وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الأعمال السيئة، فإنه تعالى يعرفها و سيجازيكم عليها، و هذا تهديد لهم.
[141] تِلْكَ إبراهيم عليه السّلام و أولاده أُمَّةٌ جماعة قَدْ خَلَتْ مضت لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فكل جماعة لها عملها، و منها يسأل عما أتت به من خير أو شر.
تبيين القرآن، ص: 33
[142- 145] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ و هم الذين لا يحكّمون عقولهم، و المراد بهم أهل الكتاب مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ أي صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها أي بيت المقدس، إلى الكعبة فإن المسلمين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، ثم إن الله أمرهم بأن يصلوا إلى الكعبة قُلْ يا رسول الله في جوابهم لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بما يقتضيه الصلاح، فقد كان الصلاح سابقا التوجه إلى بيت المقدس و الآن يقتضي الصلاح الصلاة إلى الكعبة، فكل واحد منهما هداية في زمانه. وَ كَذلِكَ أي كما جعلناكم مهتدين بما هو صلاح لكم من تغيير القبلة جَعَلْناكُمْ أُمَّةً جماعة وَسَطاً ليس في طريقكم إفراط و لا تفريط كما في سائر الأديان و المذاهب لِتَكُونُوا علة لجعلهم أمة وسطا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فإن الإنسان المعتدل يتمكن أن يشهد على المنحرف يمينا أو شمالا وَ يَكُونَ أي ليكون الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث إنه أعدل من الجميع يشهد على الأمة، و الأمة لأنها عادلة في طريقتها تشهد على سائر الناس، و هذا مثل أن يقال: (السلطة قائمة على الناس و الملك قائم على السلطة)، و كأن القصد من جملة (و كذلك) بيان أن المسلمين أمة مستقلة، فلا داعي لاتباعها قبلة غيرها، حتى يظن الناس أنهم تبع لمن سواهم وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ أي لم
نقرر القبلة السابقة الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها و هي بيت المقدس إِلَّا لِنَعْلَمَ علما خارجيا، أي ما يقع معلومه في الخارج، و إلا فأصل العلم حاصل لله تعالى قبل ذلك مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ يرجع عَلى عَقِبَيْهِ عقب الرجل وراءه، و هذا كناية عن الارتداد عن الإسلام إلى الوراء، كالمشي إلى الوراء، فإن جعل القبلة الأولى ثم تغييرها يوجب ظهور كفر من يعترض على أعمال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم يرتد حيث لا يروقه المنهج الجديد وَ إِنْ كانَتْ التولية، أي تحويل القبلة إلى جهة جديدة، و (إن) مخففة من الثقيلة لَكَبِيرَةً أي ثقيلة فإن ترك العادة ثقيل على بعض النفوس إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هداهم الله إلى التسليم بأحكامه، و المراد هداية زائدة، لا أصل الهداية وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ زعم بعض أن الصلوات التي صلوها إلى بيت المقدس صارت باطلة عند تحويل القبلة، فجاءهم الجواب بأن الله لا يضيع ما هو مقتضى الإيمان من الصلاة إلى القبلة الأولى سابقا إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ الرأفة: شدة الرحمة، فكيف يضيع الله أعمال المؤمنين. قَدْ للتحقيق نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ عيرت اليهود المسلمين بأنهم تابعون لقبلتهم: بيت المقدس، و أغتم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لذلك و أخذ يتوجه بوجهه الكريم في آفاق السماء ينتظر نزول الوحي بتحويل القبلة فَلَنُوَلِّيَنَّكَ أي نأمر بأن تتوجه حالة الصلاة قِبْلَةً تَرْضاها و تكون موافقة للمصالح التي تتوخاها فَوَلِّ اصرف وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي جزءه، فإن الواجب توجه الإنسان إلى جزء من المسجد لا إلى كله وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ من الآفاق فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فليس
المسجد قبلة لأهل المدينة فقط، بل لكل أهل الأرض وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا أي أعطوا الْكِتابَ و هم اليهود الذين اعترضوا على القبلة الجديدة لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ تحويل القبلة الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ من القيام ضد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاعتراض على القبلة الجديدة حسدا و بغيا، و سيجازيهم على ذلك. وَ لَئِنْ أَتَيْتَ يا رسول الله الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ دالة على صدقك و صحة قبلتك ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنهم معاندون وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ لأن الله أمرك بالقبلة الجديدة وَ ما بَعْضُهُمْ من اليهود و النصارى بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإن اليهود تستقبل الصخرة و النصارى المشرق، و ذلك لأن كل طائفة ترى بطلان طريقة الطائفة الأخرى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ باتباع قبلتهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الدال على بطلان طريقة أهل الكتاب، و هذه الجملة لأجل أن ييأس أهل الكتاب من رجوع المسلمين عن القبلة الجديدة إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 34
[146] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ أعطيناهم الْكِتابَ المراد جنس الكتب السماوية يَعْرِفُونَهُ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فكما لا يشتبه الأب ولده كذلك هؤلاء لا يشتبهون في الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ و إلا فإن بعضهم اعترفوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَيَكْتُمُونَ أي يخفون الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ الحق.
[147] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي ما أوتيت يا رسول الله حق من ربك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين، فلا تشك فيما آتيناك، و هذا إرشاد للأمة و إن كان الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[148] لِكُلٍ
أمةجْهَةٌ
أي جهةوَ
أي الله وَلِّيها
أي أمر تلك الأمة بالتوجه إلى تلك الجهة، و هذا جواب آخر عن إشكال أهل الكتاب، فلا يصح اعتراضهم على المسلمين، إذ لكل أمة قبلة، فلكم أيها المسلمون أيضا قبلة،اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
أي سابقوا في عمل الخيريْنَ ما تَكُونُوا
من البلاد و الصحاري أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
أي يأت بكم للحساب، فليس استباقكم يذهب سدى نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
قادر على إحيائكم و الإتيان بكم للحساب.
[149] وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أي من أي بلد خرجت، و هذه الآية تبين أن حال السفر كحال الحضر في التوجه إلى القبلة، فإن الآية السابقة كانت للحضر فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
[150] وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ في بر أو بحر أو جو فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا علة لتحويل القبلة و أنه لأجل قطع تعيير اليهود بأن المسلمين تابعون لقبلتهم يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ أي احتجاج و تعيير إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فإن الظالم المعاند يقول ما يشتهي، و يقول لدى التحويل إن تحويل القبلة لأجل ميل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى دين قومه، و إنما سمي حجة للمشابهة، كقوله تعالى: (حجتهم داحضة) فَلا تَخْشَوْهُمْ لا تخشوا أيها المسلمون، من أهل الكتاب، فإن مطاعنهم لا تضركم وَ اخْشَوْنِي في اتباع أوامري وَ لِأُتِمَّ علة أخرى لتحويل القبلة نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ علة ثالثة، فإن كون التحويل موافقا رغبة المسلمين يوجب اقترابهم إلى الهداية.
[151] كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ أي حولنا القبلة إلى قبلة جديدة كما أرسلنا إليكم رسولا جديدا هو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَسُولًا مِنْكُمْ لا من اليهود يَتْلُوا يقرأ عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ يطهركم من أدران العقيدة و موبقات الاجتماع وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ القرآن وَ الْحِكْمَةَ الشريعة وَ يُعَلِّمُكُمُ تأكيد لما سبق ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.
[152] فَاذْكُرُونِي و إذ أنعمت عليكم فاذكروني بالطاعة أَذْكُرْكُمْ بإعطاء السعادة و الثواب وَ اشْكُرُوا لِي نعمي وَ لا تَكْفُرُونِ بالعصيان و جحد النعم.
[153] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر و الثواب.
تبيين القرآن، ص: 35
[154] وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ أي لا تسموهم باسم الميت بَلْ هم أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ بحياتهم، إذ المراد حياتهم عند ربهم.
[155] وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نمتحنكم بِشَيْ ءٍ قليل مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ بالموت و القتل وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ يا رسول الله الصَّابِرِينَ.
[156] الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ في أموالهم أو أنفسهم قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فالإنسان ملك لله، و بعد موته يرجع إلى ثواب الله تعالى أو عقابه.
[157] أُولئِكَ الصابرون عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ عطف و رأفة مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ إذ المهتدي يسلم أمره لله تعالى.
[158] إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مرتفعان متصلان بالمسجد الحرام، و كان المسلمون يظنون حرمة السعي بينهما و أنه من أعمال الجاهلية، فجاءت الآية لتبيين أن هذا الظن خاطئ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ جمع شعيرة، بمعنى العلامة فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ أي أتى بالعمرة فَلا جُناحَ أي لا حرج عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي يسعى بينهما، و هذا لدفع توهم الحظر وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي فعل طاعة، فإن التطوع فعل الطاعة فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ يثيب على الطاعة عَلِيمٌ بأعمال الناس.
[159] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ أي يخفون فلا يظهرون الحقائق ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ الآيات الدالة على صحة النبوة وَ الْهُدى أي الطرق التي تهدي الى الحق مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ أوضحناه لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ من الملائكة و الناس.
[160] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن الكتمان وَ أَصْلَحُوا ما أفسدوا وَ بَيَّنُوا الآيات فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ بقبول توبتهم وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
[161] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ في مقابل ما إذا آمنوا ثم ماتوا أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
[162] خالِدِينَ فِيها أي في تلك اللعنة و العذاب لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون لأن يعملوا صالحا كما أمهلوا في الدنيا.
[163] وَ إِلهُكُمْ أيها الناس إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ.
تبيين القرآن، ص: 36
[164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي تعاقبهما بإتيان أحدهما وراء الآخر وَ الْفُلْكِ أي في وجود السفينة الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ أي ملابسا بالشي ء الذي ينفع الناس من التجارة و حمل المسافرين وَ في ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ جهة العلو مِنْ ماءٍ بيان (ما أنزل) فَأَحْيا بِهِ أي بذلك الماء، و الإحياء عبارة عن الإنبات و العمران الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها موت الأرض كونها قفرا وَ بَثَّ أي نشر، و هذا عطف على (أنزل) فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ من جميع أصناف الدواب وَ تَصْرِيفِ أي في تصريف الرِّياحِ و صرفها من جانب إلى جانب وَ السَّحابِ أي في السحاب الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ دالات على وجود الله و صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
[165] وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً أضدادا، أي الأصنام يُحِبُّونَهُمْ أي يحبون تلك الأنداد كَحُبِّ اللَّهِ أي مثل حبهم لله وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أي حب المؤمنين لله أشد من حب المشركين لله و لأنداده وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا بالشرك إِذْ أي في زمان يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ مفعول (يرى) الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً و لا قوة لأصنامهم وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ لتبرءوا من الأنداد، و هذا بيان أنهم يندمون من الشرك.
[166] إِذْ و ذلك التبري من الأنداد في زمان تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا أي تبرأ المتبوعون من أتباعهم مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا جميعهم الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ أسباب المودة بين التابع و المتبوع تنقطع في يوم القيامة، فإن أسباب المحبة: الرئاسة و المال و الرحم و ما أشبه، و كلها تتقطع هناك.
[167] وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ للترجي أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجوعا إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من المتبوعين و نتباعد عنهم عداوة كَما تَبَرَّؤُا أي المتبوعون مِنَّا كَذلِكَ أي هكذا الذي ذكرنا يُرِيهِمُ اللَّهُ أي الأتباع أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ الحسرة شدة الندامة، لأن الأتباع لم ينتفعوا بأعمالهم، و لم يساعدهم المتبوعون وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
[168] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً لا خبث فيه و لا ضرر وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ جمع خطوة أي لا تسلكوا مسلك الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
[169] إِنَّما يَأْمُرُكُمْ الشيطان بِالسُّوءِ العمل السيئ وَ الْفَحْشاءِ مصدر، أي العمل المتجاوز عن حد الشرع و العقل وَ أَنْ تَقُولُوا أي يأمركم الشيطان بأن تقولوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ كاتخاذ الأنداد، و تشريع القوانين الباطلة.
تبيين القرآن، ص: 37
[170] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي اعملوا بأحكام الله قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا أي وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا من العقيدة و الطريقة أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ استفهام إنكار و تعجب بأنهم كيف يتبعون الآباء و الحال أن آباءهم لم يكونوا عقلاء و لا هم مهتدين.
[171] وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي مثل دعوة الكفار كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أي يصيح بِما أي بالحيوان الذي لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً فإن الحيوان يفهم إذا دعاه الإنسان إلى المأكل و المشرب و يسمع بإذنه النداء و الصوت و لا يفهم ما سوى ذلك، و الذي يدعو الكافر المعاند مثله كمثل الناعق بالحيوان صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ جمع أصم و أبكم و أعمى، أي إن المعاند يكون هكذا و لذا لا يستجيب لمن يدعوه فَهُمْ أي الكفار المعاندون لا يَعْقِلُونَ.
[172] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إي إن كنتم تعبدون الله فكلوا الطيب و ذروا الخبث ...
[173] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ التي لم تذبح ذبحا شرعيا وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الإهلال أول الصوت، أي ذكر عند ذبحه اسم غير الله، بأن سمي الصنم عند ذبحه مثلا فَمَنِ اضْطُرَّ لأكل هذه المحرمات غَيْرَ باغٍ بان لم يبغ و لم يطلب الحرام وَ لا عادٍ و لم يتعد عند الأكل من مقدار الضرورة، بل كان أكله اضطرارا و بقدر الاضطرار فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في أكله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[174] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ أي يخفون ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ أي التوراة المبشر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي بهذا الكتمان، إذا أنهم بكتمانهم يبقون على رئاستهم التي هي ثمن قليل منقطع أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي لا يجرون إلى بطونهم، من ثمن الكتمان إِلَّا النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ كلاما حسنا يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ لا يطهرهم من المعاصي بالغفران لهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[175] أُولئِكَ الكاتمون الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى بأن باعوا الهداية و اشتروا مكانها الضلالة وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ بأن باعوا الغفران و اشتروا العذاب فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ هذا للتعجب و أنهم كيف يصبرون على النار و التي هي جزاء كتمانهم.
[176] ذلِكَ العذاب بِأَنَّ اللَّهَ أي بسبب أن الله نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فرفضوه وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ أي قال بعضهم إنه كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعضهم أنه من تعليم رجل فارسي لَفِي شِقاقٍ أي شق في مقابل شق الحق بَعِيدٍ من الحق.
تبيين القرآن، ص: 38
[177] لَيْسَ الْبِرَّ و الخير أَنْ تُوَلُّوا أي تتوجهوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ طرف الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ و هذا رد لما كان أهل الكتاب يزعمونه من أن التوجه إلى قبلتهم هو البر، دون التوجه إلى قبلة المسلمين وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ أي عمل من آمن بالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ بأن آمن بوجود الملائكة وَ الْكِتابِ أي جنس الكتاب المنزل من السماء وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى أي أعطى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي مع أنه يحب المال ذَوِي الْقُرْبى أي أقرباءه وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ الفقراء وَ ابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر الذي انقطع به الطريق و تمت نفقته وَ السَّائِلِينَ الطالبين للمال لفقر أو لأجل عمل خير وَ فِي الرِّقابِ أي لأجل عتق رقاب العبيد وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا أي إذا عاهدوا عهدا وفوا بذلك العهد وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ كالفقر وَ الضَّرَّاءِ كالمرض وَ حِينَ الْبَأْسِ أي الحرب أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في كونهم مؤمنين وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين يتجنبون الكفر و العصيان.
[178] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ بأن يقتل القاتل فِي الْقَتْلى جمع قتيل الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فلا يقتل الحر في مقابل العبد و لا يقتل الرجل في مقابل المرأة و التفصيل في الفقه فَمَنْ عُفِيَ لَهُ أي ترك لأجله مِنْ أَخِيهِ أي من جانب أخيه، و المراد به ولي المقتول شَيْ ءٌ من الدية فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي فعلى من عفى أن يتبع بقايا الدية اتباعا بلا عنف وَ أَداءٌ من القاتل إِلَيْهِ أي ولي المقتول بِإِحْسانٍ من غير مماطلة، فإذا قتل زيد والد بكر، ثم عفى بكر عن
بعض الدية، فعلى بكر أن يتبع زيدا لأخذ بقية الدية اتباعا بمعروف، و على زيد أن يؤدي بقية الدية إلى بكر أداء بإحسان ذلِكَ الحكم بإعطاء الدية بدل القصاص تَخْفِيفٌ على الناس مِنْ رَبِّكُمْ من قبل الله تعالى وَ رَحْمَةٌ ترّحم بكم فَمَنِ اعْتَدى تجاوز بَعْدَ ذلِكَ الحكم بأن قتل ثانيا، أو ماطل في الأداء، أو عنف ولي المقتول في الطلب فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[179] وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ لأن القصاص يوجب خوف الناس من أن يقتلوا فيسبب بقاء حياة الناس يا أُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إراقة الدماء، فقد شرعنا لكم القصاص لأجل الاتقاء.
[180] كُتِبَ عَلَيْكُمْ أي شرّع من قبل الله تعالى إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بأن أشرف على الموت إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا الْوَصِيَّةُ نائب فاعل (كتب) أي كتب الله عليكم إن تركتم مالا أن توصوا لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ أي الأقرباء، فتوصون بأن يعطوهم زيادة على الإرث من بعض أموالكم بِالْمَعْرُوفِ أي وصية بالمعروف، بأن لا يكون الموصى به زائدا على الثلث حَقًّا أي إن هذه الوصية تكون حقا، و ليست باطلة عَلَى الْمُتَّقِينَ لأن أهل التقوى هم الذين يعملون بهذه الوصايا.
[181] فَمَنْ بَدَّلَهُ أي غيّر ما أوصي به بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي تحققت عنده الوصية فَإِنَّما إِثْمُهُ أي عصيان التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي يبدلون ما أوصي به، و ليس الإثم على الموصى إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 39
[182] فَمَنْ من الأوصياء خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أي ميلا عن الحق خطاء أَوْ إِثْماً أي عصيانا على جهة العمد، بأن رأى الوصي أن الموصي أوصى بالباطل، كأن أوصى بإعطاء أولاده الذكور و الإناث متساويا فَأَصْلَحَ الوصي بَيْنَهُمْ أي بين الموصى لهم، بإجرائهم على نهج الشرع فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تبديل الوصية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[183] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ أي قرر و شرع عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء و الأمم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي، فإن الصوم يوجب التقوى.
[184] تصومون أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قلائل، و هو شهر رمضان فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ مسافرا، كأنه ركب السفر فَعِدَّةٌ أي صوموا بعدد تلك الأيام مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ بعد شهر رمضان وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي إن الصوم منتهى طاقتهم، و فيه مشقة شديدة لهم فِدْيَةٌ أي بدل عن الصوم و هو طَعامُ مِسْكِينٍ واحد بأن يطعمه عوض الصوم فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن أتى بالطاعة، صياما أو فدية فَهُوَ أي التطوع خَيْرٌ لَهُ لأنه يوجب خير الدنيا و سعادة الآخرة وَ أَنْ تَصُومُوا أي صيامكم، مقابل الإفطار خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في الصيام من الفضيلة.
[185] شَهْرُ رَمَضانَ «1» بدل من (الصيام) «2» الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ في شهر رمضان الْقُرْآنُ هُدىً أي في حال كون القرآن هداية لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ أي إن القرآن آيات واضحات مِنَ سنخ الْهُدى و الإرشاد وَ الْفُرْقانِ أي إن القرآن يفرق بين الحق و الباطل فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ أي حضر و لم يكن مسافرا الشَّهْرَ أي شهر رمضان فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ أي فليصم قضاءه بعدده مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ في تشريع الإفطار و القضاء للمسافر و المريض، و هذا علة للإفطار وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ و إنما شرع القضاء لتكملوا عدد الشهر، لما في ذلك من الفوائد وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ علة لوجه إكمال العدة، أي إن إكمال العدة لأجل أن يعظم الله في نفوسكم، فإن الصيام يوجب سمو النفس الملازم لتكبير الله وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة لتكبير الله، فإن تكبيره يوجب شكره.
[186] وَ إِذا سَأَلَكَ يا رسول الله عِبادِي عَنِّي فقالوا: أ قريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فَإِنِّي فقل لهم: إني قَرِيبٌ قرب اطلاع و علم و قدرة أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ الذي يدعوني إِذا دَعانِ طلب مني شيئا فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي فكما أني أجيبهم إذا دعوني، فليجيبوني إذا دعوتهم للطاعة و العبادة وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ يصيبون طريق الرشد و الصلاح.
__________________________________________________
(1) قالوا: رمضان من الرمض و هو شدة وقوع الشمس على الرمل و غيره، فإنهم لما سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافقت رمضان أيام رمض الحر.
(2) أو خبر لمحذوف، أو مبتدأ لما بعده.
تبيين القرآن، ص: 40
[187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ في الليلة التي تصومون غدها الرَّفَثُ الجماع إِلى نِسائِكُمْ زوجاتكم هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ الزوج و الزوجة كل واحد بمنزلة لباس الجسد للآخر، فكما أن اللباس حافظ للجسد و جمال له و محرم معه، كذلك كل من الزوجين مع الآخر، و هذا شبه تعليل للحلية عَلِمَ اللَّهُ لقد كان أول تشريع الصوم يحرم الجماع في الليل كما يحرم الأكل بعد النوم ثم رفع هذان الحكمان بهذه الآية أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ من الخيانة، فإن معصية الله خيانة للنفس، فقد كان بعض المسلمين يواقعون ليلا فَتابَ عَلَيْكُمْ عصيانكم بالمواقعة حال كونها حراما في الليالي وَ عَفا عَنْكُمْ بأن أباح الوقاع فَالْآنَ في ليالي الصيام بَاشِرُوهُنَّ كناية عن الجماع، أي يجوز لكم الوقاع وَ ابْتَغُوا أي اطلبوا حال الجماع ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من الولد، فإن الله قدر لبعض الناس الأولاد فإذا أتى بمقدماته رزق الولد، و هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الجماع لأجل الولد لا لأجل الشهوة فقط
وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا يباح لكم الأكل و الشرب طول الليل، خلافا للحكم السابق الذي كان لا يباح الأكل و الشرب بعد النوم ليلا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ الخيط الأبيض كناية عن الضياء و الخيط الأسود كناية عن الظلام مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيطين، و المراد تبين الفجر الصادق ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ أي لا تجامعوا النساء وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ في حال الاعتكاف، نهارا و ليلا تِلْكَ الأحكام التي ذكرت حُدُودُ اللَّهِ فكما أن للبلد حدا كذلك للشرع حد فمن عمل بها دخل في حيطة المؤمنين فَلا تَقْرَبُوها بالمخالفة، أي لا تخترقوها كَذلِكَ أي هكذا، كما بين الأحكام السابقة يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المعاصي.
[188] وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي أكلا بالباطل وَ تُدْلُوا من الإدلاء بمعنى الإلقاء، أي تلقوا بِها أي بتلك الأموال إِلَى الْحُكَّامِ بأن ترفعوا قضية المال إلى القضاة لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي بالعصيان بأن تحلفوا عند القاضي حلفا كاذبا أو تأتوا بشهادة زور، و ذلك لتأكلوا أموال الناس وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بأنكم مبطلون.
[189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ جمع هلال، و السؤال كان عن سبب اختلاف أحوال الهلال قُلْ هِيَ مَواقِيتُ جمع ميقات و هو يطلق على الزمان الموقت و المكان الموقت لِلنَّاسِ في ديونهم و عدة نسائهم و مواعيد معاملاتهم وَ الْحَجِّ أي ميقات للحج، فإن وقت الحج يعرف بواسطة الهلال وَ لَيْسَ الْبِرُّ كان بعض الناس إذا أحرموا للحج دخلوا خباءهم من ظهره لا من بابه و يقولون إن ذلك من البر بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أي ورائها، وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى المعاصي وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها فإن الإتيان من الظهور بعنوان الدين بدعة غير جائز وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تظفرون بالفلاح.
[190] وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلا يكون القتل للسيطرة و الانتقام بل لأجل إعلاء كلمة الله و نجاة المستضعفين الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا بمجاوزة الحد في القتال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
تبيين القرآن، ص: 41
[191] وَ اقْتُلُوهُمْ أي الذين يقاتلونكم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من المكان الذي أخرجوكم منه و هو مكة المكرمة وَ الْفِتْنَةُ تفتين الكفار لكم بالإيذاء أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي من قتلكم إياهم وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي في الحرم حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ في الحرم فَاقْتُلُوهُمْ في الحرم كَذلِكَ أي قتلهم جَزاءُ الْكافِرِينَ.
[192] فَإِنِ انْتَهَوْا أي انتهى الكفار عن الكفر بأن آمنوا أو انتهوا من قتالكم بأن لم يقاتلوكم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[193] وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي افتتان، فإن دينين متصادمين لا يجتمعان في مكان وَ يَكُونَ الدِّينُ الطريقة في الحياة لِلَّهِ وحده، بأن يمحق دين سواه فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر و المحاربة لكم فَلا عُدْوانَ أي لا يتعدى عليهم، و سمي تعديا بعلاقة المماثلة إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
[194] الشَّهْرُ الْحَرامُ إذا قاتل المشركون المسلمين في الشهر الحرام، جاز أن يقاتلهم المسلمون في الشهر الحرام بِالشَّهْرِ أي بمقابل الشهر الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ جمع حرمة، و هي ما يجب حفظه قِصاصٌ يجري فيها القصاص، فإذا هتكوا حرمة شهركم فاهتكوا حرمة شهرهم، كما أنه إذا هتكوا حرمة حرمكم فاهتكوا حرمة حرمهم فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ في الشهر الحرام فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ أي قابلوه بالمثل بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تجاوزوا حدود الشرع في قتالكم وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
[195] وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ القتال يتطلب النفس و المال، و حيث تقدم ذكر النفس أتى السياق لذكر المال وَ لا تُلْقُوا أنفسكم بِأَيْدِيكُمْ أي بواسطة أيديكم إِلَى التَّهْلُكَةِ أي الهلاك، بأن تحاربوا فيما نهى عنه الشرع، أو تتركوا المحاربة فيما أمر الشرع بها وَ أَحْسِنُوا في حالة الحرب و السلم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
[196] وَ أَتِمُّوا أي أكملوا إذا شرعتم الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ اقصدوا بهما التقرب إلى الله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أي منعتم عن الحج بواسطة عدو أو خوف أو مرض فعليكم أن تقربوا ما اسْتَيْسَرَ ما تمكنتم مِنَ الْهَدْيِ بأن تذبحوه أو تبعثوه إلى مكة المكرمة ليذبح هناك، و الهدي بقرة أو شاة أو إبل، فإذا فعلتم ذلك تحللتم من الإحرام وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ أي لا تحلوا من إحرامكم حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي الحرم في حالة الحصر بالمرض، و الموضع الذي يصد فيه في الحصر بالعدو فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً لم يقدر أن يؤخر الحلق الى وصول الهدي محله أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ لقمل أو شبهه، يجوز له أن يحلق قبل وصول الهدي، لكن الواجب عليه أن يعطي فدية لأجل حلقه قبل الإحلال فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ بيان الفدية، و الصوم ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ على عشرة مساكين لكل مسكين مدّ من طعام أَوْ نُسُكٍ جمع نسيكة، و هي: الذبيحة فَإِذا أَمِنْتُمْ من الخوف، بأن لم يصادفكم خوف بعد الإحرام فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ بأن أتي بعمرة التمتع، منتهيا إِلَى الْحَجِّ لأن حج التمتع بعد عمرته فالواجب ذبح ما اسْتَيْسَرَ ما تمكنتم مِنَ الْهَدْيِ بقرة أو إبلا أو شاة فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي لفقر أو نحوه فعليه صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ بدل الهدي وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أهاليكم تِلْكَ الصيامات الواجبات بدل الهدي عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، ذلِكَ أي حج التمتع الذي تقدم ذكره إنما هو فرض لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي لم يكن من أهل مكة المكرمة و من يجري مجراهم ممن في حوالي مكة، و إلا فالواجب على أهل مكة حج القران أو الإفراد، و في كليهما يقدم الحج، و ليس في الإفراد هدي وَ اتَّقُوا اللَّهَ في المحافظة على أوامره وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه.
تبيين القرآن، ص: 42
[197] الْحَجُّ أي وقت الحج أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ هي شوال و ذو القعدة و ذو الحجة و لا يجوز تقدم الحج أو تأخيره عنها فَمَنْ فَرَضَ على نفسه بأن أحرم فِيهِنَّ أي في هذه الأشهر الْحَجَّ فَلا رَفَثَ أي جماع وَ لا فُسُوقَ خروج عن طاعة الله، و فسر بالكذب و السباب وَ لا جِدالَ و فسر ب (لا و الله) و (بلى و الله) فإن هذه الثلاثة لا يجوز في حال الإحرام فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ بيان (ما) يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا الزاد هو الطعام الذي يتخذ للسفر، و المراد اعملوا الأعمال الحسنة لآخرتكم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ للآخرة التَّقْوى ، وَ اتَّقُونِ خافوا عقابي يا أُولِي الْأَلْبابِ يا أصحاب العقول.
[198] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إثم أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا فَضْلًا رزقا بالتجارة مِنْ رَبِّكُمْ فقد كانوا يزعمون أن التجارة لا تجوز في حال الحج، فنزلت هذه الآية فَإِذا أَفَضْتُمْ أي دفعتم أنفسكم بكثرة كفيض الماء مِنْ عَرَفاتٍ صحراء قريب مكة فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ صحراء بين العرفات و مكة وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي بإزاء هدايته لكم وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أي قبل أن يهديكم لَمِنَ الضَّالِّينَ لا تعرفون طريق الرشاد.
[199] ثُمَّ أَفِيضُوا إلى منى مِنْ حَيْثُ أي من المكان الذي أَفاضَ النَّاسُ سائر الناس التابعون للأنبياء، فقد كان قريش لا يقفون بعرفات، بل يذهبون إلى المشعر رأسا ترفعا من أن يقفوا مع الناس بعرفات، و في الآية قول آخر وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من ذنوبكم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[200] فَإِذا قَضَيْتُمْ أي أديتم مَناسِكَكُمْ أي أعمال الحج، جمع منسك بمعنى العبادة فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ فإن أهل الجاهلية، كانوا إذا فرغوا من الحج يذكرون مفاخر آبائهم، فنهوا عن ذلك و أمروا أن يذكروا الله أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لأن الله أحق بالذكر و التعظيم من الآباء فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا أعطنا الخير فِي الدُّنْيا و لا يهتم بالآخرة وَ ما لَهُ ليس له فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ نصيب.
[201] وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي جنس الحسنة الشامل لجميع أنواعها وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا و احفظنا من عَذابَ النَّارِ.
[202] أُولئِكَ الذين يطلبون الدنيا و الآخرة لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فإن كسب الكافر يذهب هباء إذا مات، أما كسب المؤمن فيبقى منه ما أرسله إلى الآخرة وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فلا يظن الإنسان أن القيامة بعيدة فلا يعمل لها.
تبيين القرآن، ص: 43
[203] وَ اذْكُرُوا اللَّهَ أيها الحجاج فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ و هي الأيام التي هم في منى، و يستحب فيها ذكر الله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ بأن نفر من منى إلى مكة المكرمة في ثاني اليومين أي اليوم الثاني عشر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتعجيله وَ مَنْ تَأَخَّرَ بأن بقي إلى اليوم الثالث عشر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى الصيد و النساء في حال الحج، فإنه يختار بين الأمرين، أما من لم يتق فالواجب عليه أن يبقى إلى الثالث عشر وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ إلى ثوابه و عقابه في يوم القيامة تُحْشَرُونَ أي تجمعون من أين ما كنتم.
[204] وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ يا رسول الله قَوْلُهُ أي من تستحسن كلامه، لفصاحته و بلاغته فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي استحسان قوله إنما هو في الدنيا، أما في الآخرة فلا يعجبك قوله لما يظهر لك من باطنه السيئ وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ أي يقول: إن الله شهيد بأن قلبي موافق لما أظهره وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أشد الأعداء، و المراد بهذه الآية المنافق العليم اللسان.
[205] وَ إِذا تَوَلَّى أدبر و انصرف من عندك سَعى أسرع فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ النبات وَ النَّسْلَ الأولاد، و المراد به كل مفسد وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ أي لا يرتضي الْفَسادَ.
[206] وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ خف من الله فلا تفسد أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي حملته الحمية الجاهلية على أن يأثم و يعصي الله تعالى، فإن من يرى نفسه عزيزا شريفا لا يستعد لسماع النصائح و ترك المعاصي فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي كفته جهنم عقوبة لعمله وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ أي إن جهنم محل سيئ للعاصي.
[207] وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيع نفسه ابْتِغاءَ أي طلبا ل مَرْضاتِ اللَّهِ لرضا الله، و معنى بيع النفس قيامه بأوامر الله تعالى، نزلت في أمير المؤمنين علي عليه السّلام حيث نام على فراش النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الهجرة وَ اللَّهُ رَؤُفٌ الرأفة أرق الرحمة بِالْعِبادِ.
[208] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ الاستسلام لله كَافَّةً جميعا وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ لا تسيروا في سلك الشيطان، بأن تضعوا القدم مكان قدمه إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ واضح العداء.
[209] فَإِنْ زَلَلْتُمْ بأن وقعتم في المعاصي مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحة على أوامر الله تعالى فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه البطش حَكِيمٌ لا يعاقب إلا بحق، لأنه يضع الأشياء مواضعها.
[210] هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء الكفار، و هذا استفهام إنكاري إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ جمع ظلة، و هي ما أظلت مِنَ الْغَمامِ السحاب الأبيض فإنه مظنة المطر و الرحمة، فإتيان العذاب منه أشد في الإيلام وَ تأتي الْمَلائِكَةُ مع الله أيضا وَ قُضِيَ الْأَمْرُ بأن حكم على الكفار بالهلاك وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي منتهى كل أمر إليه سبحانه فيجازي العاملين بما يستحقون، و معنى الآية أن الكفار إذ لم يؤمنوا مع هذه الحجج الظاهرة فكأنهم بانتظار إتيان الله حتى يؤمنوا، و لو أتى الله أهلكهم و قضى الأمر، فإن أهل الكتاب و الكفار كانوا يزعمون أن الله يأتي في الغمام و معه الملائكة.
تبيين القرآن، ص: 44
[211] سَلْ اسأل يا رسول الله بَنِي إِسْرائِيلَ علماء اليهود كَمْ آتَيْناهُمْ أعطينا لأنبيائهم مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ معجزة ظاهرة، و الاستفهام للتوبيخ، و هي في مقام بيان إن الله أتم الحجة عليهم حيث ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كتبهم مرات و كرات وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ بأن لم يؤمن، فإن الإيمان نعمة من الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ وصلت إليه فلم يعمل بمقتضى النعمة فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تهديد لبني إسرائيل الذين لا يؤمنون برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[212] زُيِّنَ حسن في أعينهم لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا صفة الحياة، مقابل الحياة الآخرة، فهم يعملون لأجلها فقط وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي يستهزئون بالمؤمنين، و يقولون إنهم سفهاء حيث يعملون لشي ء مجهول وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ أي فوق مكان الكفار، أو فوقهم في الرتبة و الكرامة يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ كناية عن الكثرة، فهم و الكفار كلاهما يرزقان في الدنيا على حد سواء، و في الآخرة المتقون فوقهم.
[213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً على كيفية واحدة في العقيدة و العمل و هكذا كل أمة قبل ظهور المصلحين، فإنهم يختلط فيهم الحق بالباطل، ثم يأتي المصلحون لينبهوا على مواضع الخطأ فَبَعَثَ أي أرسل اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي إن إنزال الكتاب إنما هو بسبب بيان الحق، أو إن إنزال الكتاب كان حقا لِيَحْكُمَ الله بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في موارد الخلاف بين الناس وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي أعطوا الكتاب، فإن أهل الكتاب لم يلبثوا أن اختلفوا في حقائق الكتاب و مراداته مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحة على مرادات الكتاب، و إنما اختلفوا بَغْياً أي ظلما بَيْنَهُمْ فإنهم عوض أن يرشدوا الناس الكفار وقع بعضهم في محاربة بعض فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فالذين هم مؤمنون واقعا من أهل الكتاب، و ليسوا بطالبين للرئاسة و المال، يتبعون الحق و (من الحق) بيان (ما) بِإِذْنِهِ أي هداهم بلطفه وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و ليست مشيئته اعتباطية، بل هي لمن كان في طريق الحق و مريدا للهداية.
[214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ استفهام إنكاري، أي هل تظنون دخول الجنة بدون الامتحان الشاق وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ أي و الحال أنه بعد لم يأتكم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي مضوا من المؤمنين السابقين، أي لم يصبكم مثل ما أصابهم مَسَّتْهُمُ أي أصابتهم، و هذا بيان ل (مثل) الْبَأْساءُ الشدائد وَ الضَّرَّاءُ الأمراض وَ زُلْزِلُوا أزعجوا بأنواع البلاء و الأذى حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و ذلك لطول البلاء مَتى نَصْرُ
اللَّهِ و ذلك لنفاد صبرهم، و معناه تمني النصر و انتظاره، قل لهم يا رسول اللّه أَلا تنبهوا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فإن كل آت قريب، لأنه مقبل، بخلاف الماضي الذي هو بعيد، لأنه مدبر، فلا يزداد إلا بعدا.
[215] يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ من الأموال قُلْ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ بيان (ما) أي أنفقوا ما تشاءون من خير، فليس الإنفاق خاصا بشي ء معين، ثم فرع على ذلك كون الخير للمذكورين فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ الأقرباء وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ الذي انقطع به الطريق و لا يجد المال لمصرفه وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ بيان (ما) فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 45
[216] كُتِبَ أي وجب عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ تكرهونه لمشقته وَ عَسى أي ربما أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لما فيه من الفوائد وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ لما فيه من المضار وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه خيركم فيأمر به و ما فيه شركم فينهى عنه وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
[217] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ هو رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم، حرم القتال فيه، قِتالٍ فِيهِ بدل عن (الشهر الحرام) أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، و قد قتل مسلم كافرا في هذا الشهر «1» فاتخذ الكفار ذلك وسيلة لانتقاد المسلمين، فنزلت هذه الآية قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ذنب كبير وَ صَدٌّ أي منع، و هذا مبتدأ خبره (أكبر) عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي منع الكفار الناس عن الإسلام وَ كُفْرٌ بِهِ أي إن كفر هؤلاء الكفار بالله وَ كفر ب الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حيث إن جعله محل الأصنام و ابتداع البدع فيه بمثابة الكفر باحترام المسجد وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ أي إخراج أهل المسجد و هم المسلمون من مكة مِنْهُ أي من القتل الذي حدث من المسلم في الشهر الحرام أَكْبَرُ ذنبا عِنْدَ اللَّهِ و إذا فعل الكافر منكرا أشد جاز ردعه بما هو يجوز في باب ردع المنكر، كما أن من قتل إنسانا يقتل به، مع أن القتل في نفسه جريمة وَ الْفِتْنَةُ افتتان الكفار المسلمين عن دينهم أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ الذي صدر عن ذلك المسلم في الشهر الحرام وَ لا يَزالُونَ الكفار يُقاتِلُونَكُمْ أيها المسلمون حَتَّى يَرُدُّوكُمْ أي إلى أن يصرفوكم عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا صرفكم عن دينكم، بأن يرجعوكم كفارا وَ
مَنْ يَرْتَدِدْ يرجع مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ في قبال ما إذا ارتد ثم آمن فمات في حال الإيمان فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أي فسدت و اضمحلت أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا لحرمانه من منافع الإسلام وَ الْآخِرَةِ لحرمانه من الثواب وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ.
[218] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ فتفضل عليهم في الدنيا و الآخرة وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ كل ما يوجب السكر وَ الْمَيْسِرِ كل أنواع القمار، و السؤال عن أنهما هل يجوزان أم لا قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فتعاطيهما محرم وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ منفعة اقتصادية و شهوية وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما كالسرقة التي فيها نفع للسارق لكن إثمها أكبر من نفعها، و ما كانت مفاسده أكثر من مصالحه فهو محرم وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ من المال قُلِ الْعَفْوَ هو نقيض الجهد، و المراد به ما تيسر كَذلِكَ أي هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الحجج في الأحكام لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.
__________________________________________________
(1) و في تفسير شبر: و كان القتل في غرة رجب، و المسلم يظن أنه من جمادى الآخرة، فاستعظمت قريش ذلك فنزلت الآية المباركة.
تبيين القرآن، ص: 46
[220] فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ أي تتفكرون في أمور الدارين فتأخذون الصلاح و تتركون الفساد وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى هل نخالطهم أو نجانبهم خوفا من التلوث بأموالهم قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ بتربيتهم و القيام بشئونهم وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ و تعاشروهم فهم إخوانكم و الأخ يعاشر أخاه بالإصلاح و هذا حث على مخالطتهم بالحسنى وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ من خالطهم بقصد الإفساد ممن خالطهم بقصد الإصلاح وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي كلفكم العنت و المشقة، بأن يأمرهم بمخالطتهم و الدقة الكثيرة في أموالهم، لكن الله يسر عليكم حيث أمركم بالمخالطة كمخالطة الأخ لأخيه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مقتدر يفعل الأشياء و يحكم بالصلاح.
[221] وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ لا تتخذوا زوجة مشركة حَتَّى يُؤْمِنَّ إلا إذا آمنّ بالإسلام وَ لَأَمَةٌ أي زوجة أو وصيفة مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ المشركة بأن كانت ذات جمال و مال وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ فلا تعطوا بناتكم لرجال مشركين حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ بان استحسنتم ماله أو جماله، و إنما كان المسلم و المسلمة خير لأن أُولئِكَ المشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فإنه يتأثر كل من الزوجين بأخلاق الآخر وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ أي بلطفه و توفيقه، و لذا لا يريد زواج المسلم من الكافرة، و زواج المسلمة بالكافر وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ أحكامه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما أودع في فطرتهم، فإن أحكام الإسلام موافقة للفطرة.
[222] وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ مصدر كالمجي ء، بمعنى الحيض، أي تكليف الأزواج في حال حيض زوجاتهم «1» قُلْ هُوَ أَذىً مرض في المرأة و قذارة فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ أي اتركوا المقاربة فِي الْمَحِيضِ أي في حال الحيض وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ تأكيد ل (اعتزلوا) حَتَّى يَطْهُرْنَ من الدم فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ حلالا، لا حراما بالفجور إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ الذين يتوبون عن الإتيان في حال الحيض وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ من المرأة التي تغتسل بعد الحيض و الرجل الذي لا يواقع إلا في حال الطهر.
[223] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي محل حرث، فكما أن الأرض لحرث الزرع كذلك المرأة لحرث الولد فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي احرثوا وضعوا ولدكم الذي هو حرث أَنَّى شِئْتُمْ في أي زمان أردتم وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بالطاعة، فإن كل طاعة يفعلها الإنسان يقدمها لآخرته وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ أي تلاقون جزاء الله على أعمالكم في يوم القيامة وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
[224] وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً أي معرضا لِأَيْمانِكُمْ بأن تكثروا من الحلف به أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ أي تحلفون بالله لأجل أنكم تريدون البر و التقوى و الإصلاح، مثلا تقول للغني: أقسمك بالله إلا ما أديت زكاة مالك، و تقول لمن أصر على أن تفطر عنده و ماله حرام: أقسمك بالله أن لا تصر علي، و تقول للمتخاصمين: أقسمكما بالله إلا تصالحتما .. فإن الله أعظم من أن يحلف به في كل مناسبة وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
__________________________________________________
(1) و قيل: كانوا في الجاهلية لم يؤاكلوا الحائض و لا يساكنوها كفعل اليهود، فسئل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك فنزلت الآية.
تبيين القرآن، ص: 47
[225- 230] لا يُؤاخِذُكُمُ أي لا يعاقبكم اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ أي القسم الهذر الذي يجري على اللسان محورا للكلام بدون قصد الحلف، كمن اعتاد أن يقول في كل كلام له: و الله وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ بأن كان الحلف عن قصد، ثم خالفتم الحلف، كما لو حلف أن لا يفعل ثم فعل وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعجل بالعقوبة لمن حلف به كاذبا أو حنث حلفه. لِلَّذِينَ مبتدأ و خبره (تربص) يُؤْلُونَ الإيلاء هو أن يحلف الرجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر مِنْ نِسائِهِمْ أي يحلفون بقصد البعد من نسائهم تَرَبُّصُ أي انتظار أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فلهم إلى أربعة أشهر حق عدم الوطي فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا عن اليمين، بأن وطئوا و أعطوا الكفارة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَ إِنْ عَزَمُوا أي قصدوا الطَّلاقَ بأن يطلقوا المرأة قبل أربعة أشهر للخلاص منها فلا حنث و لا كفارة فَإِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أي ينتظرن و لا يبذلن أنفسهن للأزواج ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أي ثلاثة أطهار، فإذا طلقت في الطهر صبرت حتى تنقضي حيضتان، و في الطهر الثالث لها حق الزواج وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ أي لا يجوز لهن كتمان الحمل بقصد الزواج، فإن الحامل إذا طلقت لا يجوز لها أن تتزوج إلا بعد وضع الحمل إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ جوابه محذوف، أي فلا يكتمن وَ بُعُولَتُهُنَّ أي أزواجهن الذين طلقهن أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ أي زمان التربص، قبل انقضاء العدة، أحق بأن يرجعوا إليهن و يعيدوا حالة الزوجية إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً بأن أراد الأزواج إصلاحا بإرجاع المطلقة، لا إذا أرادوا الإضرار بها وَ لَهُنَّ أي للنساء من الحقوق على الرجال مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من حقوق الرجال، فلكل من الزوجين حق على الآخر بِالْمَعْرُوفِ أي الحقوق التي هي معروفة لدى العقل و الشرع، لا الحقوق التي تقرها التقاليد و العادات وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ زيادة في الحق و الفضل، و ذلك لأنه المدير لها، و اللازم أن يكون المدير ذا مزية حتى يتمكن بمزيته من إدارة المدار وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. الطَّلاقُ مَرَّتانِ فإن الطلاق الذي يحق فيه الرجوع مرتان، أما الطلاق الثالث فلا يحق بعده الرجوع، و بعد الطلاق الثاني فَإِمْساكٌ للزوجة و حفظ لها بالرجوع إليها بِمَعْرُوفٍ بأن لا يكون الرجوع بقصد الإضرار أَوْ تَسْرِيحٌ أن يتركها حتى تنقضي عدتها بِإِحْسانٍ بأداء حقوقها و الإحسان إليها وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أيها الأزواج أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ أعطيتموهن من المهور شَيْئاً فإنه لا يحق للزوج أخذ شي ء من مهر المرأة إِلَّا أَنْ
يَخافا أي الزوجان أَلَّا يُقِيما في حال بقائهما على قيد الزوجية حُدُودَ اللَّهِ أحكامه المرتبطة بالزوجين، فإنه في هذا الحال جاز للمرأة أن تعطي مهرها لخلاص نفسها بالطلاق فَإِنْ خِفْتُمْ أيها الحكام المرتبطون بفصل قضايا الأزواج أَلَّا يُقِيما أي الزوجان حُدُودَ اللَّهِ أحكامه المرتبطة بالأزواج فَلا جُناحَ عَلَيْهِما لا على الزوج في الأخذ و لا على الزوجة في الإعطاء فِيمَا أي في المال الذي افْتَدَتْ بِهِ أي بذلته كفدية لخلاص نفسها تِلْكَ أي الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها لا تخالفوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ يتجاوز حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. فَإِنْ طَلَّقَها إن طلقها بعد التطليقتين طلاقا ثالثا فَلا تَحِلُّ الزوجة لَهُ لزوجها مِنْ بَعْدُ الطلاق الثالث حَتَّى تَنْكِحَ المرأة زَوْجاً غَيْرَهُ غير المطلق فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما الزوج الأول و الزوجة أَنْ يَتَراجَعا بنكاح جديد إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بأن ظنا تمكنهما من القيام بالواجبات التي قررها الله للزوجين وَ تِلْكَ الأحكام التي ذكرت حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لأهل العلم، فإنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام، أما الجاهل العاصي فلا ينتفع بهذه الأحكام.
تبيين القرآن، ص: 48
[231] وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي قاربن تمام العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ بالرجوع إليهن بِمَعْرُوفٍ عند الشرع و العقل أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بعدم التعرض لإرجاعهن حتى تنقضي العدة و تنفك من قيد الزواج وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً بأن ترجعوا إليهن لا بقصد الزوجية، بل بقصد الإضرار بهن لِتَعْتَدُوا من الاعتداء بمعنى الظلم وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الإمساك بقصد الإضرار فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لأن وبال الضرر و عقابه يرجع إلى نفسه وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ أحكامه هُزُواً لا تستخفوا بها كالمستهزئ وَ
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ الشريعة التي بها تعرفون مصالحكم و مفاسدكم، فإن ذكر النعمة يوجب قبول الإنسان لأحكام المنعم يَعِظُكُمْ الله بِهِ أي بواسطة ما أنزله على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الكتاب و الحكمة وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ.
[232] وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضى زمان العدة فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي لا تمنعوهن أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ أي من نكاح من يشأن من الأزواج، سواء كان الزوج الأول أو زوجا جديدا إِذا تَراضَوْا المطلقات و الأزواج بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فيكون الزواج الجديد مقبولا لدى الشرع و العقل، فلا يمنع الزوج الأول الزوجة من الزواج برجل جديد تعصبا، و لا يمنع أهل المرأة رجوع الزوج إليها بزواج جديد انتقاما ذلِكَ الذي ذكرناه من الأحكام يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فاللازم أن يعمل بها ذلِكُمْ (ذا) إشارة إلى الأحكام المذكورة، و (كم) خطاب أَزْكى لَكُمْ خير و أفضل لنمو المجتمع وَ أَطْهَرُ لموازين الأسرة و العائلة وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
[233] وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ أي عامين كامِلَيْنِ أي أربعة و عشرين شهرا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ أي هذا الحكم لمن يريد أن يتم إرضاع الأولاد وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي الأب رِزْقُهُنَّ طعام المرضعات وَ كِسْوَتُهُنَّ لباسهن بِالْمَعْرُوفِ بالحد الوسط، أجرة للرضاع أو لأجل الزوجية لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها فالأم مكلفة بالرضاع حسب قدرتها في الجملة «1»، و الأب مكلف بالنفقة حسب وسعه لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها أي بسبب ولدها بأن يستغل الأب عطف الوالدة فلا ينفق عليها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ أي الأب بِوَلَدِهِ بأن تستغل الأم عطف الأب فتأخذ منه نفقة زائدة بحجة أنها ترضع ولده وَ عَلَى الْوارِثِ أي وارث الأب إذا مات مِثْلُ ذلِكَ أي مثل الذي كان على الأب من مؤونة المرضعة مادام الرضاع فَإِنْ أَرادا أي الأبوان فِصالًا للولد عن الرضاع و فطامه قبل الحولين عَنْ تَراضٍ مِنْهُما
بأن رضي كلا الأبوين بالفصال، الأب لأن عليه النفقة، و الأم لأن لها التربية، فاللازم رضاية كليهما في الفصال وَ تَشاوُرٍ أي مشورة تؤدي إلى مصلحة الولد فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في هذا الفصال وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أيها الآباء أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ بأن تطلبوا لهم مراضع غير الأم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ أي ما تريدون إعطاؤه إلى المرضعة بِالْمَعْرُوفِ بأن لا تنقصوها حقها حين التسليم وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
__________________________________________________
(1) كما إذا استلمت أجرة على ذلك.
تبيين القرآن، ص: 49
[234] وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يموتون مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يتركون زوجاتهم يَتَرَبَّصْنَ أي ينتظرن تلك الزوجات بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً أي عشرة أيام، فهذه هي عدة الوفاة فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بأن انقضت عدتهن المذكورة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها المسلمون فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من اختيار الأزواج بِالْمَعْرُوفِ بما يجوز في الشرع وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
[235] وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الرجال فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ التعريض ضد التصريح مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أي ذكرهن و طلب زواجهن بعد العدة، فإن الخطبة توجيه الكلام بقصد الإفهام أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أخفيتم من قصدكم لنكاحهن عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لرغبتكم فيهن، و لذا بين حكم ذكرهنّ بأنه يجوز في النفس مطلقا، و يجوز التعريض باللفظ أيضا وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي لا تجعلوا بينكم و بينهن مواعدة سرا، فإن الخلوة بالأجنبية لا تجوز خصوصا إذا كانت في العدة إِلَّا استثناء منقطع أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً بأن لا يكون تصريحا، و هذا تكرير لما سبق بلفظ آخر زيادة في التأكيد وَ لا تَعْزِمُوا أي لا تقصدوا أن تعقدوا عُقْدَةَ النِّكاحِ بأن تنكحوا الزوجة المتوفى زوجها حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أي الذي كتب عليهن من العدة أَجَلَهُ بأن تنقضي العدة وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على الزواج في العدة أو ما أشبه فَاحْذَرُوهُ خافوا عقابه و عذابه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بالعقوبة فلا يغرّكم حلمه.
[236] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأزواج فلا إثم و لا مهر إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أي لم تجامعوهن أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي لم تذكروا لهن مهرا حال العقد فطلقوهن وَ مَتِّعُوهُنَّ أعطوها ما تتمتع به، إذا لم يكن لها مهر عَلَى الْمُوسِعِ من أوسع ماله، أي المثري قَدَرُهُ أي مقدار ما يليق به من المال وَ عَلَى الْمُقْتِرِ الفقير الضيق قَدَرُهُ، مَتاعاً أي متعوهن متاعا بِالْمَعْرُوفِ لدى العقل و الشرع، في حال كون هذا التمتع حَقًّا واجبا عَلَى الْمُحْسِنِينَ.
[237] وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي قبل المجامعة معها وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أي جعلتم لهن مهرا فالواجب إعطاؤهن نصف ما فَرَضْتُمْ أي نصف المهر إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي المطلقات، بأن لم يأخذن المهر أصلا، أو عفون شيئا عن النصف الذي لهن أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ و هو الزوج، بأن أعطاها المهر كاملا أو أكثر من النصف وَ أَنْ تَعْفُوا أيها الأزواج و أيتها المطلقات أَقْرَبُ لِلتَّقْوى لأنه استرضاء للجانب الآخر و طلب فضل من الله وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ بأن يتفضل بعضكم على بعض إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
تبيين القرآن، ص: 50
[238] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى و هي صلاة الظهر وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ بأن تقنتوا في الصلاة، و القنوت عبارة عن الخضوع.
[239] فَإِنْ خِفْتُمْ من القيام قانتين في الصلاة فصلوا رجالا أي على أرجلكم في حال المشي أَوْ رُكْباناً أي في حال الركوب فَإِذا أَمِنْتُمْ من الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أي الصلاة المتعارفة.
[240] وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أي يموتون مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أي يتركون أَزْواجاً وَصِيَّةً أي فليوصوا وصية لِأَزْواجِهِمْ أي نسائهم مَتاعاً بأن يعطين المتعة من الكسوة و النفقة إِلَى الْحَوْلِ إلى سنة كاملة غَيْرَ إِخْراجٍ أي بدون أن يخرجن من مسكنهن فلهن حق السكنى إلى السنة، و لعل هذا مستحب بأن يوصي الميت هكذا و يخرج من الثلث «1»، و إلا فالعدة أربعة أشهر و عشرا فَإِنْ خَرَجْنَ من مسكنهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الورثة للميت فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من الزواج بالغير بعد العدة مِنْ مَعْرُوفٍ مما لا ينكره الشرع وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
[241] وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بأن يمتع المطلق المطلقة إرضاء لها و جبرا لخاطرها بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي إن تمتيعهن حق على الإنسان المتقي.
[242] كَذلِكَ هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أحكامه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
[243] أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ألم يصلك خبر الخارجين من ديارهم من خوف الطاعون، و كانوا من بني إسرائيل وَ هُمْ أُلُوفٌ كان عددهم آلاف الأشخاص حَذَرَ الْمَوْتِ لأجل خوف الموت من الطاعون فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا بأن أماتهم في طريق الفرار ثُمَّ أَحْياهُمْ بدعوة أحد الأنبياء و هو حزقيل النبي عليه السّلام إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ كما تفضل على أولئك بالإحياء وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ.
[244] وَ قاتِلُوا و حيث بين تعالى أن الفرار لا يجدي من الموت أمر بالقتال مع الكفار فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
[245] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ فإن إعطاء المال في سبيل الله بمنزلة قرض لله تعالى، لأنه سبحانه يرده عليه في الآخرة قَرْضاً حَسَناً بدون منة أو رياء فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ الرزق عن أناس وَ يَبْصُطُ الرزق لمن يشاء، فلا يبخل الإنسان عن إعطاء المال في سبيل الله من جهة خوف الفقر، فإن الغنى و الفقر بيد الله وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم بما أقرضتم له.
__________________________________________________
(1) و قيل بأن الآية منسوخة بناء على وجوبها.
تبيين القرآن، ص: 51
[246] أَ لَمْ تَرَ إِلَى أي ألم تعلم الْمَلَإِ الجماعة من الأشراف مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ أحد أنبيائهم «1» ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي هيئ لنا شخصا ليكون ملكا علينا نُقاتِلْ تحت لوائه فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قالَ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هَلْ عَسَيْتُمْ أي لعلكم إِنْ كُتِبَ أي وجب عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا بأن لا تفوا بما تقولون قالُوا أي الملأ وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ أي أي شي ء لنا في عدم القتال، بل نقاتل قطعا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أي و الحال أنه أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا أي أخرج أبناؤنا من ديارهم، لأن العمالقة أخرجوا هؤلاء من بلادهم و كانوا بين مصر و فلسطين فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن القتال إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فسيجزيهم بتوليهم عن القتال.
[247] وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً فقد قرر الله أن يكون رجل يسمى بطالوت ملكا عليهم قالُوا أَنَّى أي كيف و من أين يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أي و الحال أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ أي من طالوت، فقد تكبروا أن يملكهم طالوت، وَ قالوا لَمْ يُؤْتَ طالوت سَعَةً مِنَ الْمالِ فلا ثروة له قالَ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ اختاره للملوكية عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً اتساعا فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ فجسمه كبير يوجب إلقاء الهيبة في نفس الناظر وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ فليست المالكية باختياركم لتقولوا نحن أحق منه وَ اللَّهُ واسِعٌ الفضل يتفضل على من يشاء عَلِيمٌ.
[248] وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أي علامة أن الله جعله ملكا عليكم أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ و هو الذي أنزله الله على أم موسى عليه السّلام فوضعته فيه و ألقته في اليم، و قد كان عند بني إسرائيل ينتصرون بسببه على أعدائهم، فلما استهانوا به رفعه الله من بينهم فذلوا فِيهِ سَكِينَةٌ إذ رجوع التابوت إليهم يوجب سكون خاطرهم مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ أي فيه ألواح موسى عليه السّلام و آثار الأنبياء عليهم السّلام، و هارون هو أخو موسى عليه السّلام تَحْمِلُهُ أي التابوت الْمَلائِكَةُ فقد رأوا التابوت بيد الملائكة بين السماء و الأرض إِنَّ فِي ذلِكَ أي رجوع التابوت لَآيَةً لَكُمْ علامة لاختيار الله طالوت ملكا عليكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مهتدين.
__________________________________________________
(1) قيل: هو إسماعيل أو شمعون أو يوشع عليهم السّلام. [.....]
تبيين القرآن، ص: 52
[249] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي انفصل طالوت بجنوده عن المدينة لأجل محاربة العمالقة، و صلوا إلى نهر و هم عطاشى قالَ طالوت إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ مختبركم بِنَهَرٍ من الماء فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي فإن من لا يصبر على العطش لا يصبر على حر السهام و السيوف وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي لم يشرب منه فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ أي إلا إذا شرب بقدر كفه، فإنه مني، و هذا استثناء من (ليس مني) فَشَرِبُوا مِنْهُ شربا منهيا عنه إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ و كان عددهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر فَلَمَّا جاوَزَهُ أي جاوز النهر إلى طرف الأعداء هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا أي القليل الباقون معه لا طاقَةَ أي لا قوة لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ هو رئيس الكفار
وَ جُنُودِهِ لقوة الكفار و كثرتهم قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي يعلمون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي ملاقوا جزائه و ثوابه في الآخرة كَمْ للتكثير مِنْ فِئَةٍ أي جماعة قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ و مشيئته، فمن الممكن أن نغلب نحن على قلتنا هؤلاء الكفار الكثيرين وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
[250] وَ لَمَّا بَرَزُوا أي ظهر المؤمنون في ساحة الميدان لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا أي المؤمنون رَبَّنا أَفْرِغْ أي اصبب عَلَيْنا صَبْراً أي ألهمنا الصبر وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا حتى لا تزل وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
[251] فَهَزَمُوهُمْ هزم المؤمنون الكافرين بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ النبي الذي كان في جيش طالوت جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ أي أعطى الله داود الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ أي السلطة و النبوة وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من العلوم وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بأن دفع الكفار بسبب المؤمنين لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لأن الكفار يفسدون في الأرض وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فيدفع الكافرين حتى لا يفسدوا.
[252] تِلْكَ التي ذكرناه من القصص و الأحكام آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها نقرأها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
تبيين القرآن، ص: 53
[253] تِلْكَ الأنبياء الذين تقدمت أسماؤهم الرُّسُلُ الذين أرسلهم الله إلى الناس فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ و هو موسى عليه السّلام وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ بأن كان بعضهم فوق بعض بدرجات متعددة، بينما أن بعضهم كان أفضل من آخر بدرجة واحدة، و لعل الآية إشارة إلى رسول الإسلام وَ آتَيْنا أعطينا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الأدلة الواضحات وَ أَيَّدْناهُ قويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ بروح مطهرة وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة إلجاء و اضطرار مَا اقْتَتَلَ ما تقاتلوا الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد الرسل، كما اقتتل اليهود و النصارى مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ لأن الأدلة الواضحة شأنها اتفاق الناس فيها وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا حسدا و ظلما فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا تأكيد لما سبق وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إعطاء الاختيار للإنسان حتى يفعل ما يشاء ليجازيه في الآخرة بأعماله.
[254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ من مال و جاه و قوة و علم و غيرها مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ هو يوم القيامة لا بَيْعٌ تجارة فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ صداقة، فلا تنفع الصداقة هناك وَ لا شَفاعَةٌ إلا بإذن الله وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنهم يظلمون أنفسهم التي هي أعز الأشياء عندهم.
[255] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قائم على جميع الأمور بالعلم و القدرة و الرعاية لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ الفتور قبل النوم وَ لا نَوْمٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ، مَنْ ذَا استفهام إنكار الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي لا يتمكن أحد من الشفاعة لأحد إلا إذا أذن الله له بالشفاعة يَعْلَمُ الله سبحانه ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما فعلوا في حياتهم كأنه أمامهم وَ ما خَلْفَهُمْ أي الآثار التي خلفوها من بعدهم من خير أو شر وَ لا يُحِيطُونَ أي الناس إحاطة اطلاع بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ معلوماته إِلَّا بِما شاءَ من العلم فما أراد أن يعلمه الناس علموه وَسِعَ كُرْسِيُّهُ أي ملكه السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أي كل الكون وَ لا يَؤُدُهُ أي لا يشق عليه حِفْظُهُما أي حفظ السماوات و الأرض وَ هُوَ الْعَلِيُّ الرفيع الْعَظِيمُ.
[256] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فان الله لم يلجئ الإنسان إلى قبول دينه بل جعل لهم الاختيار حتى يثيب من قبل و يعاقب من رفض قَدْ تَبَيَّنَ أي وضح بسبب الآيات الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ الضلال فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ما يعبد من دون الله وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وحده فَقَدِ اسْتَمْسَكَ تمسك بِالْعُرْوَةِ هي يد الكوز و ما أشبه، شبه بها الدين الْوُثْقى مؤنث أوثق أي الأكثر استحكاما لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع لتلك العروة حتى يوجب ابتعاد الإنسان عن الخير وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 54
[257] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي أولى بهم من أنفسهم أو نصيرهم يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر و الانحطاط إلى نور الإيمان و الرقي وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يعني أن الطاغوت ولي للكفار و إنما قال: (أولياؤهم) لتعدد الطواغيت يُخْرِجُونَهُمْ أي الطواغيت يخرجون الكفار مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ فإن للفطرة نورا يهتدي الإنسان بسبب ذلك النور- إن خلي و نفسه- إلى الحق لكن الطواغيت يحولون بينهم و بين الاهتداء، فالطاغوت يوجب خروج الإنسان من نور الفطرة إلى ظلمة الكفر أُولئِكَ الكفار و طواغيتهم أَصْحابُ النَّارِ ملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ.
[258] أَ لَمْ تَرَ أي تعلم إِلَى الَّذِي هو نمرود حَاجَّ جادل إِبْراهِيمَ مع إبراهيم عليه السّلام فِي رَبِّهِ بأن كان منكرا للرب تعالى أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فقد كان جداله في قبال إتيان الله لنمرود الملك و السلطة فعوض أن يشكر و يعترف بالإله كفر و أخذ يجادل في وجود الله إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ هو الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ، قالَ نمرود أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ أحيي المستحق للقتل فأعفو عنه و أميت الشخص بأن أقتله قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ إن كنت إلها كما تزعم فَبُهِتَ تحير الَّذِي كَفَرَ أي نمرود لأنه لا يتمكن من إتيان الشمس من المغرب وَ اللَّهُ لا يَهْدِي إلى المحاجة أو لا يلطف بهم اللطف الخاص، بعد أن أعرضوا عن الحق الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
[259] أَوْ كَالَّذِي أي ألم تر إلى مثل الذي مَرَّ من المرور بمعنى العبور عَلى قَرْيَةٍ و هو ارميا النبي أو عزير النبي عليه السّلام وَ هِيَ أي القرية خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها بأن سقطت سقوف بنائها و سقطت الحيطان على السقوف و هذا التعبير لإفادة التدمير الكامل، إذ الحيطان تسقط بعد مدة من سقوط السقوف قالَ النبي في نفسه أَنَّى أي متى و كيف يُحْيِي هذِهِ القرية، و المراد أهلها اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها قال ذلك على طريق التعجب، حيث رأى أن السباع و الحيوانات تأكل الجيف فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ و ذلك لأن يعرف كيف يموت الإنسان و كيف يحيى، معرفة عملية بعد أن كانت له معرفة علمية ثُمَّ بَعَثَهُ أحياه قالَ له قائل بعد أن حيي كَمْ لَبِثْتَ مكثت في حالة الموت قالَ عزيز لَبِثْتَ في
حال الموت يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أي قسما من اليوم قالَ القائل له، من قبل الله تعالى بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ لترى قدرة الله تعالى إِلى ما كان معك من تين و لبن و حمار، ف طَعامِكَ التين وَ شَرابِكَ اللبن لَمْ يَتَسَنَّهْ لم تغيره السنون الطوال بقدرة الله تعالى وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تفرقت عظامه وَ قد فعلنا ذلك بك لترى البعث أولا و لِنَجْعَلَكَ آيَةً دليلا و حجة على البعث ثانيا لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها نرفع بعضا إلى بعض لصنع الهيكل العظمى ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أي نأتي باللحم لإعادة جسم الحمار فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي ظهر له الإحياء برؤية العين قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
تبيين القرآن، ص: 55
[260] وَ إِذْ أي و اذكر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زمان قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى جمع ميت قالَ الله أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ استفهام تقرير، حتى لا يقول من سمع: إن إبراهيم كان شاكا، و المراد أو لم تؤمن بالبعث و إحياء الموتى قالَ إبراهيم بَلى إني مؤمن وَ لكِنْ أريد النظر لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي رؤية، كما انه مطمئن علما، ففرق بين من يسمع باسم النار، و لم يعلم حقيقتها، و من يرى الدخان، و من يرى النار من بعيد، و من يحس بحرارتها، و من يراها و يحس بحرارتها، و من يسمع صوت زبانيتها، و من يقع فيها قالَ الله فَخُذْ أَرْبَعَةً بقصد اختلاط بعضها ببعض حتى يكون أدل على القدرة، و إلا كان يكفي الواحد مِنَ الطَّيْرِ لعله لان إعادة الجسم و الريش أدل على القدرة من إعادة
الجسم فقط فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ اضممهن إليك لتتأملها جيدا فلا يشتبه عليك بعد الإحياء فإن يقين الإنسان بما لمسه و ضمه أقوى من يقينه بما رآه ثُمَّ اذبحهن و اخلط بعضهن ببعض و اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ من الجبال التي كانت في الصحراء مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ أي ادع تلك الطيور بأساميها يَأْتِينَكَ سَعْياً أي مسرعين وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
[261] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ كحبة الحنطة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ العيدان التي عليها الحب فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ على السبعمائة لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ فيقدر أن يعطي جزاء الإنفاق سبعمائة ضعف و أكثر عَلِيمٌ.
[262] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ لا يعقبون ما أَنْفَقُوا مَنًّا أي منة على الآخذ وَ لا أَذىً له لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ خوفا و حزنا كخوف و حزن الكفار و العصاة.
[263] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ رد جميل لطالب الصدقة وَ مَغْفِرَةٌ ستر على السائل بعدم فضحه خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقاتكم حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة لمن عصاه.
[264] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا ثواب صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ لأجل الرياء فإن المرائي و الذي يمن في صدقته تبطل صدقاتهما وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ أي مثل المرائي و الذي يمن في صدقته كَمَثَلِ صَفْوانٍ حجر أملس عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ مطر عظيم فَتَرَكَهُ صَلْداً نقيا من التراب لا يَقْدِرُونَ المراؤون و المنانون عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا من الخيرات وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فيه إشارة إلى أن المراءاة و المن و الأذى من صفات الكفار، و أصل المثل أن زارعا هيأ ترابا فوق صخرة ليزرع فيه فأصابه المطر فأذهب بالتراب و أفسد زرعه.
تبيين القرآن، ص: 56
[265] وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلبا لرضاه سبحانه وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ توطينا للنفس على الخير باعثا ذلك التوطين من النفس أيضا كَمَثَلِ جَنَّةٍ بستان بِرَبْوَةٍ موضع مرتفع من الأرض، فإن أنفسهم الرفيعة شبيهة بربوة، كما أن نفس المرائي التي لا خير فيها شبيهة بحجر أَصابَها وابِلٌ مطر عظيم فَآتَتْ أعطت أُكُلَها ثمرها ضِعْفَيْنِ مثلين بسبب ذلك الوابل فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي يصيبها مطر صغير القطر، و ذلك كاف في إثمارها، و هذا كناية عن إن الإنفاق القليل في النفس المرتفعة خير من الإنفاق الكثير في النفس الحجرية وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
[266] أَ يَوَدُّ أي هل يحب أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ بستان مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها الْأَنْهارُ لَهُ فِيها في تلك الجنة مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ أي و الحال أنه صار شيخا كبيرا وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فهو في كمال الحاجة إلى تلك الجنة، لنفسه و لذريته غير القادرين على الكسب فَأَصابَها إِعْصارٌ ريح مستديرة فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ الجنة لما أصابها من الإعصار، فإن الإنسان الذي ينفق ثم يرائي أو يمن، يحرق ثمار إنفاقه، فلا يجد ثمره في يوم القيامة و الحال أنه يحتاج إليه كاحتياج ذلك الشيخ الذي له ذرية ضعفاء كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فتعتبرون.
[267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ هي الحلال الذي ترغب النفس فيه ما كَسَبْتُمْ كالنقود وَ مِمَّا أي من طيبات ما أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ كالثمار وَ لا تَيَمَّمُوا أي لا تقصدوا إنفاق الْخَبِيثَ الحرام و الذي تكرهه النفس مِنْهُ أي مما كسبتم و مما أخرجنا تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ و الحال أنتم لا تأخذونه لرداءته إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ بأن تسامحوا، و كنى ذلك بغمض العين، كأن الذي يأخذه أغمض عينه حتى لا يرى رداءته فأخذه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ محمود في قبوله الصدقة، و إلا فإنه ليس محتاجا إليها.
[268] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ فينهاكم عن الإنفاق بزعم أنكم إن أنفقتم تفتقروا وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي المعصية المجاوزة للحد وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ إن أنفقتم وَ فَضْلًا بأن يتفضل عليكم بالبدل علاوة على الغفران وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
[269] يُؤْتِي يعطي الله الْحِكْمَةَ و هي علم الشرائع و معرفة وضع الأشياء موضعها، و لعل الإتيان بهذه الآية هنا لإفادة أن فهم لزوم كون الصدقة بدون رياء و منّ و أذى، و أنها توجب البدل، من الحكمة التي لا يؤتاها إلا أهلها مَنْ يَشاءُ ممن استعد لقبولها وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ يعطاها فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً لأن الخير في اتباع الشرع وَ ما يَذَّكَّرُ ما يتعظ بما تقدم إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
تبيين القرآن، ص: 57
[270] وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ لله كنذر الصلاة و الصيام فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فيجازيكم عليه وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بعدم الوفاء بالنذر، و المن في الصدقة مِنْ أَنْصارٍ ينصرهم من بأس الله.
[271] إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ تظهروها و تعطوها علانية فَنِعِمَّا هِيَ فنعم شيئا هي، أي الصدقة الظاهرة وَ إِنْ تُخْفُوها الصدقة وَ تُؤْتُوهَا تعطوها الْفُقَراءَ فَهُوَ الإخفاء خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ أي يمحي الله بواسطة الصدقة عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أي معاصيكم وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
[272] لَيْسَ عَلَيْكَ يا رسول الله هُداهُمْ فإن لم يهتدوا لست مسؤولا عنهم وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ باللطف بالنسبة إليه، فإن من طابت نفسه تنفذ الهداية في قلبه، فإذا لم يهتدوا بما أمروا من التصدق بدون منّ و أذى فليس تبعة ذلك عليك وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ لان فائدة الصدقة تعود إليكم وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي ذاته، أي ليست النفقة نفقة إلا ما إذا كانت لأجل الله تعالى وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يرجع إليكم ثوابه وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ فلا ينقص ثواب النفقة عن أصل النفقة بل يزداد عليها.
[273] و الإنفاق الكامل إنما هو لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا ضيق عليهم سواء في الجهاد أو غيره فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً أي ذهابا فِي الْأَرْضِ فإن الفقير لا يستطيع السفر و لذا سمي مسكينا لأن الفقر أسكنه يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بحالهم و فقرهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي من جهة امتناعهم عن المسألة، و عفتهم تَعْرِفُهُمْ أي تعرف كونهم فقراء بِسِيماهُمْ أي بمظهرهم لرثاثة حالهم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي إلحاحا، كما هو شأن بعض الفقراء الملحين في السؤال وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
[274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً أمام الناس، سواء بالليل أو بالنهار فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ نزلت في علي عليه السّلام حيث أنفق في الحالات الأربعة.
تبيين القرآن، ص: 58
[275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا في مقابل الصدقة، فهي إعطاء المال و الربا أخذ المال لا يَقُومُونَ شبّه قيامهم بالأمور في حال امتلاء بطنهم من الربا و امتلاء فكرهم بأموال الناس، بالمجنون الذي فيه دوار فإذا قام سقط على الأرض كالمصروع إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ أي يؤذيه خبطا بعقله الشَّيْطانُ فإن قسما من الصرع إنما يكون بالأرواح الشريرة مِنَ الْمَسِّ أي مس الجنون ذلِكَ الأكل للربا منهم بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فكما يجوز البيع يجوز الربا وَ ليس كذلك إذ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ بعدم أكل الربا فَانْتَهى من أكل الربا فَلَهُ ما سَلَفَ من الربا، و لا يرد منه لان ما قبل النهي لم يكن نهي حتى يحرم وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فإن الله يحاسبه و هذا إشارة إلى أن توبته لا توجب انقطاع أمره، بل إلى الله ينتهي كل محسن و مسي ء وَ مَنْ عادَ إلى أكل الربا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخفى أن الخلود طبعي «1» و إن نالته الشفاعة بسبب إسلامه أو ما أشبه.
[276] يَمْحَقُ أي ينقص و يبطل اللَّهُ الرِّبا فإن الربا يوجب ذهاب مال المعطي بإعطائه، و الآخذ لأن المترف يسرف في أمواله، و آخذو الربا عادة يكونون مترفين، مع الغض عن السبب الواقعي في ذلك وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ أي يزيد، أما الآخذ فإنه يأتيه المال، و أما المعطي فإن من اعتاد إعطاء الصدقة يكون تفكره في الاسترباح و حفظ المال و ملكة الاستنماء أكثر، بالإضافة إلى السبب الواقعي وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ مقيم على الكفر، و المراد في هذه
الآيات الكفر العملي، أي العصيان العمدي، لا الكفر العقيدي أَثِيمٍ عاص.
[277] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الخوف و الحزن الذين يصيبان الكفار و العصاة.
[278] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ خافوه في أمر الربا وَ ذَرُوا اتركوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا البقايا التي اشترطتم على الناس، فلا تأخذوها بعد النهي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إيمانا صادقا.
[279] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا بأن تريدوا أخذ بقايا الربا فَأْذَنُوا أي أعلنوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي من جهة الله و رسوله، كما تقول الجيش حارب من جهة الجنوب أو الشمال وَ إِنْ تُبْتُمْ من استحلال الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ دون الزيادة فإنها لأربابها لا تَظْلِمُونَ بأخذ أموال الناس وَ لا تُظْلَمُونَ فلا يقال لكم إن رأس مالكم صار حراما بسبب اختلاطه بالربا.
[280] وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ أي إن كان المعسر غريما و مديونا لكم فَنَظِرَةٌ أي فانتظروا في مطالبته إِلى مَيْسَرَةٍ إلى حالة يسره وَ أَنْ تَصَدَّقُوا بأن تتصدقوا على المعسر بما عليه من الدين خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير من الشر.
[281] وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ إلى حسابه و جزائه ثُمَّ تُوَفَّى تعطى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير أو شر وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقص من ثوابهم و لا يزداد في عقابهم.
__________________________________________________
(1) أي ما يقتضيه طبع الربا، فلا يكون علة تامة.
تبيين القرآن، ص: 59
[282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ داين بعضكم بعضا بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ وقت مُسَمًّى قد سمي فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ لا يزيد و لا ينقص في الدين أو في الأجل وَ لا يَأْبَ لا يمتنع كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ سند الدين كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ على الوجه الذي أمر الله به بلا زيادة أو نقصان فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ أي يملي و يقرر مقدار الدين و أجله الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ و هو المديون وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ المديون، فلا يكذب، مثلا يكون الأجل أول شهر رمضان فيقول أول شوال وَ لا يَبْخَسْ أي لا ينقص الكاتب مِنْهُ أي من الدين شَيْئاً كأن يكتب تسعمائة عوض ألف مثلا فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أي المديون سَفِيهاً لا يعرف الإملاء على الكاتب، لضعف عقله أَوْ ضَعِيفاً لمرض أو نسيان أو ما أشبه أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لأنه مشغول أو ما أشبه ذلك فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ القائم مقامه و لو كان حاكم الشرع بِالْعَدْلِ لا يزيد و لا ينقص وَ اسْتَشْهِدُوا أي اطلبوا شَهِيدَيْنِ يمضيان الكتابة و يشهدان عليها مِنْ رِجالِكُمْ المسلمين فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ لحجية كلامهما لأنهما موثقان مِنَ الشُّهَداءِ جمع شاهد أَنْ تَضِلَّ أي إنما اعتبر التعدد في المرأة لأجل انه إن ضلت و نسيت إِحْداهُما المتذكرة فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى الناسية
وَ لا يَأْبَ لا يمتنع الشُّهَداءِ الشهود إِذا ما دُعُوا لأجل تحمل الشهادة، أو لأجل أدائها وَ لا تَسْئَمُوا أي لا تضجروا أيها المتداينون أَنْ تَكْتُبُوهُ أي الدين صَغِيراً كان الدين أَوْ كَبِيراً ليبقى الكتاب حجة إِلى أَجَلِهِ أي وقت انتهاء مدة الدين ذلِكُمْ الكتاب أَقْسَطُ أي أقرب إلى القسط و العدل عِنْدَ اللَّهِ أي عند ما حكم به، أي انه حكم الله وَ أَقْوَمُ أي أثبت لِلشَّهادَةِ فإن الشهادة بدون الكتابة ضعيفة وَ أَدْنى أي أقرب أَلَّا تَرْتابُوا أي في عدم دينكم و شككم في المقدار و المدة أَلَّا استثناء عن الأمر بالكتابة أَنْ تَكُونَ المعاملة تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ و لا يكون دين في البين فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أي التجارة الحاضرة وَ أَشْهِدُوا خذوا شهودا إِذا تَبايَعْتُمْ معاملة حاضرة، لئلا يقع النزاع بعد ذلك في القدر و التسليم و ما أشبه، و المنساق من الآية إن الأمر بالإشهاد إنما هو في الأمور الجليلة وَ لا يُضَارَّ بان يعنف أو يكلف بشي ء كأجور الطريق و ثمن القرطاس مثلا كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا ضرر الكاتب و الشهيد فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي خروج عن أمر الله تعالى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أحكام دينكم و مصالح دنياكم وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 60
[283] وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب الدين فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يقوم مقام الكتابة بأن يعطي المديون للدائن رهنا، و التأنيث باعتبار تقدير (عين) فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فلم يأخذ منه رهانا فَلْيُؤَدِّ أي يعطي الَّذِي اؤْتُمِنَ و هو المديون، لان الدائن ائتمن عليه فلم يأخذ منه رهنا أَمانَتَهُ أي دينه وَ
لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الأداء كاملا وَ لا تَكْتُمُوا أي لا تخفوا أيها الشهود الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ إنما نسب الإثم إلى القلب، لأنه محل الكتمان وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
[284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا تظهروا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ يجازيكم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ و ليست مشيئته تعالى اعتباطية بل حسب الحكمة و الصلاح وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من المحاسبة و العذاب و الغفران.
[285] آمَنَ الرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ يقولون:
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ كما فعلت اليهود و النصارى و المجوس و غيرهم حيث آمنوا بكتاب دون كتاب أو رسول دون رسول وَ قالُوا أي المؤمنون سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ نطلب غفرانك يا رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ فإنا نرجع إلى ثوابك و عقابك.
[286] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي بقدر يتمكن منه بلا حرج لَها ما كَسَبَتْ من الثواب وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من الأعمال السيئة، يا رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا لأجل أن تعاقبنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا فيما كان النسيان و الخطاء بمقدمات اختيارية رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي تكليفا شاقا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا لأنهم كانوا أقدر على تحمل المشاق، أو لأنهم عصوا فعوقبوا بالتكاليف الشاقة رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ قدرة لَنا بِهِ أي بذاك التكليف، طاقة عرقية، كما يقال: لا طاقة لي بمقابلة زيد، يريد التكليف الشاق الذي هو فوق الإصر مشقة، و إلا فالله سبحانه لا يكلف بما لا قدرة للعبد إطلاقا وَ اعْفُ عَنَّا فلا تعذبنا وَ اغْفِرْ لَنا استر علينا فلا تفضحنا وَ ارْحَمْنا بإعطاء النعمة و الفضل أَنْتَ مَوْلانا سيدنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
تبيين القرآن، ص: 61
مدنية و آياتها مائتان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الم رمز بين الله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
[2] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ القائم بالأمور.
[3] نَزَّلَ عَلَيْكَ يا رسول الله الْكِتابَ القرآن بِالْحَقِّ تنزيلا بالحق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ما تقدمه من التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماوية وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ.
[4] مِنْ قَبْلُ أي قبل القرآن هُدىً في حال كون التوراة و الإنجيل هداية لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ القرآن، كرر تأكيدا، أو المراد كل ما يفرق بين الحق و الباطل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ينتقم من الكفار.
[5] إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ فهو يعلم كفركم و إيمانكم.
[6] هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ يعطيكم الصورة فِي الْأَرْحامِ أرحام النساء كَيْفَ يَشاءُ ذكرا أو أنثى، جميلا أو قبيحا ... لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يفعل حسب الحكمة و الصلاح.
[7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ أي من الكتاب آياتٌ مُحْكَماتٌ ظاهرة الدلالة هُنَّ تلك الآيات المحكمات أُمُّ الْكِتابِ أصل الكتاب أي المرجع للناس، كما أن الأم مرجع للطفل وَ منه آيات أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ يشتبه المراد منها لكونها مجملة، و هذا طبيعي أن يقع التشابه في كلام بليغ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل إلى الباطل فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ أي يتعلقون بالمتشابه لقصد الميل عن الحق أو لانحراف في نفوسهم، مثلا المؤمن يتبع (لَنْ تَرانِي) و الزائغ يتبع (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) و إنما يتبع المتشابه لأجل ابْتِغاءَ و طلب الْفِتْنَةِ و الإضلال وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ بما يوافق رأيه وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أي تأويل المتشابه إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الذين هم ثابتو القدم لكثرة علمهم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه على ما يريده الله سبحانه كُلٌّ من المتشابه و المحكم مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ بعدم التسرع إلى تفسير المتشابه إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
[8] يقول الراسخون رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي لا تحرفها عن الحق، و إنما يدعون هكذا لأن الله سبحانه إذا أوكل العبد إلى نفسه و لم يلطف به مال عن الحق بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي ارحمنا إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ معطي الهبات الكثيرة.
[9] و يقولون رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ أي في يوم لا رَيْبَ فِيهِ لا شك في مجي ء ذلك اليوم و هو يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي الوعد، فحيث إنه وعد لجميع الناس، لا بد و أن يجمعهم كما قال.
تبيين القرآن، ص: 62
[10] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ أي لن تفيد لدفع العذاب عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي و لو مقدارا قليلا فما يريده الله بهم من العقاب لا بد و ان ينفذ في حقهم وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ ما تشعل به النَّارِ أي نار جهنم.
[11] كَدَأْبِ أي عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كعادة آلِ فِرْعَوْنَ و المراد به أتباعه وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من سائر الكفار كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي بسبب معاصيهم وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.
[12] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ يغلبكم الله في الدنيا و الآخرة وَ تُحْشَرُونَ أي تجمعون إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ أي إن جهنم مكان سيئ.
[13] قَدْ كانَ لَكُمْ أيها الناس آيَةٌ علامة تدل على نصرة الله للمؤمنين فِي فِئَتَيْنِ جماعتين: المسلمين و الكفار الْتَقَتا اجتمعتا في (بدر) فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ هم مشركو مكة يَرَوْنَهُمْ أي المسلمون يرون الكفار مِثْلَيْهِمْ ضعفا لهم، فلا يهتمون بشأنهم، لأنهم لم يكونوا في نظر المسلمين كثيرين جدا حتى يخافوا منهم و ينسحبوا عن قتالهم، و في الآية احتمالات أخر رَأْيَ الْعَيْنِ لا رؤية القلب، فإنهم كانوا يعلمون أن الكفار ثلاثة أضعافهم وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ يقوي و يساعد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ من المؤمنين إذا وفوا بشروط الله إِنَّ فِي ذلِكَ نصرة المسلمين على الكافرين لَعِبْرَةً وجه اعتبار و تفهم لحقيقة نصرة الله للمؤمنين القليلين على الكفار الكثيرين لِأُولِي الْأَبْصارِ من له عين يرى بها آيات الله.
[14] زُيِّنَ أي زين الله حب الشهوات بقدر، لأجل المصالح، و زين الشيطان المحرم من ذلك لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ المشتهيات مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ الأولاد وَ الْقَناطِيرِ جمع قنطار بمعنى المال الكثير الْمُقَنْطَرَةِ تأكيد، مثل ليل أليل، أي الأموال المكدسة المجموعة مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الأفراس الْمُسَوَّمَةِ أي المعلمة علامة الجودة و الحسن وَ الْأَنْعامِ جمع نعم كالإبل و البقر و الغنم وَ الْحَرْثِ الزرع ذلِكَ الذي ذكر من الأموال مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يتمتع و ينتفع بها الإنسان في دنياه فلا ينبغي أن يصرف كل همه فيها ناسيا آخرته وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع، فاللازم أن يحصل الإنسان على المحل الحسن الذي عند الله في الآخرة.
[15] قُلْ يا رسول الله أَ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أي الذي ذكر من المشتهيات، و يكون ذلك الخير لِلَّذِينَ اتَّقَوْا المحرمات، و ذلك الخير عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة جَنَّاتٌ بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ عن الدماء و القذارات و الرذائل وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ فإن الإنسان إذا عرف أن الله رضي عنه كان في غاية السرور وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعلم أفعالهم و يجازيهم عليه.
تبيين القرآن، ص: 63
[16] الذين اتقوا هم الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا احفظنا من عَذابَ النَّارِ.
[17] الصَّابِرِينَ وصف للذين اتقوا وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ أي الخاضعين لله وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ فإن الاستغفار في هذا الوقت أقرب إلى الغفران.
[18] شَهِدَ اللَّهُ شهادته أي خلقه الخلق الدال على وحدته، و يمكن أن تكون هناك شهادة لفظية أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ شهدت الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ أصحاب العلم أيضا شهدوا بالوحدانية قائِماً أي في حال كون الله قائما بِالْقِسْطِ أي بالعدالة، فهو عادل في خلقه و في تشريعه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[19] إِنَّ الدِّينَ الطريقة الصحيحة في الحياة عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اليهود و النصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بأن علموا بالطريقة الصحيحة لكنهم أعرضوا عنها بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا منهم و طلبا للرئاسة وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ بأن لم يتبع الآيات بل اتبع هواه فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فإن كل آت قريب.
[20] فَإِنْ حَاجُّوكَ أي خاصموك و جادلوا معك، و المراد جدال أهل الكتاب فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي أخلصت ديني أو نفسي لله، فان الوجه كناية عن الذات أو ما يتعلق بها وَ أسلمت وجهي ل مَنِ اتَّبَعَنِ من المؤمنين فان المسلم خاضع للمسلم بأمر ربه وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اليهود و النصارى الذين أعطاهم الله الكتاب وَ الْأُمِّيِّينَ أي و قل للمشركين الذين لا كتاب لهم أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإسلام فَإِنَّما عَلَيْكَ يا رسول الله الْبَلاغُ أن تبلغ الناس الإسلام، لا أن تجبرهم على الدين وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.
[21] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي يجحدون كون الآيات له تعالى وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ بالعدل مِنَ النَّاسِ بيان (الذين) فَبَشِّرْهُمْ استهزاء بهم، لأن البشارة في الخير لا في الشر بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
[22] أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ بطلت أَعْمالُهُمْ الحسنة فِي الدُّنْيا بعدم تنعمهم بما يتنعم به المؤمنون وَ الْآخِرَةِ بعدم الثواب لهم وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفعون العذاب عنهم.
تبيين القرآن، ص: 64
[23] أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا أعطوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي حظا و قسما منه، و هم اليهود و لم يعطوا الكتاب الكامل، لان التوراة حرفت منذ زمان قديم يُدْعَوْنَ و الداعي لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلى كِتابِ اللَّهِ أي التوراة لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ في صفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإن التوراة كانت ذكرت أوصاف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثُمَّ يَتَوَلَّى يعرض فَرِيقٌ مِنْهُمْ لا كلهم، إذ بعضهم آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن اتباع الحق.
[24] ذلِكَ التولي و الإعراض بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لأنهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أي لن نعذب إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أربعين يوما فقط وَ غَرَّهُمْ خدعهم فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي هذا الافتراء و هو أن عذابهم أربعين يوما فقط.
[25] فَكَيْفَ حالهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ آت بلا شك و هو يوم القيامة وَ وُفِّيَتْ أعطيت كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ جزاء جميع أعماله وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.
[26] قُلِ يا رسول الله: اللَّهُمَّ أي يا الله أنت مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي تعطي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ تأخذ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
[27] تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي تدخل، لأن الليل يدخل في النهار حتى يذهب النهار، و كذلك العكس وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فإن الحيوان الطائر يخرج من البيضة الميتة وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فان البيضة تخرج من الطائر الحي، إلى غيرها من الأمثلة وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي رزقا كثيرا.
[28] لا يَتَّخِذِ نهي عن موالاة الكفار الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أصدقاء و سادة مِنْ دُونِ اتخاذ الْمُؤْمِنِينَ أولياء، أي يترك موالاة المؤمن و يتخذ الكافر وليا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اتخاذ الكافر وليا فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ يصح أن يسمى ولاية، أي ليس من أولياء الله و المربوطين به تعالى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا تخافوا مِنْهُمْ أي من الكفار تُقاةً خوفا، فلا بأس باتخاذ الكفار أولياء تقية وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فخافوا من الله و لا تخالفوا أوامره وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع، فيجازيكم على أعمالكم.
[29] قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من موالاة الكافر و غيرها أَوْ تُبْدُوهُ تظهروه يَعْلَمْهُ اللَّهُ جزاء الشرط وَ يَعْلَمُ الله ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
تبيين القرآن، ص: 65
[30] و يكون المصير إلى الله في يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي جزاء أعمالها مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً أي حاضرا لديه قد أحضره الله تعالى وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ محضرا أيضا تَوَدُّ أي تحب كل نفس لَوْ أَنَّ بَيْنَها أي بين النفس وَ بَيْنَهُ أي بين ما عملت أَمَداً مسافة بَعِيداً بأن يبتعد عن أعماله كل البعد وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ بأن تخافوا منه وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ غاية اللطف، فكيف تحرمون أنفسكم من رأفته؟
[31] قُلْ يا رسول الله لأهل الكتاب الذين يدعون محبة الله لهم إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي و اسلموا حتى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أيضا وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[32] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فيبتلون بسخط الله تعالى.
[33] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى اختار للنبوة و الإمامة آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ إسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف وَ آلَ عِمْرانَ موسى و هارون عَلَى الْعالَمِينَ.
[34] ذُرِّيَّةً أي في حال كون هؤلاء بَعْضُها مِنْ نسل بَعْضٍ فكلهم من شجرة واحدة وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
[35] و اذكر يا رسول الله إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ والدة مريم الطاهرة، حين كانت حاملا بمريم رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً معتقا لخدمة بيت المقدس، محررا من أن يعمل للدنيا فَتَقَبَّلْ مِنِّي النذر إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
[36] فَلَمَّا وَضَعَتْها جاءت بمريم إلى الدنيا قالَتْ امرأة عمران، تحزنا و تأسفا رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى و هي لا تصلح لخدمة بيت المقدس الذي هو محل العباد من الرجال وَ اللَّهُ جملة مستأنفة أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ امرأة عمران وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى إذ هو يصلح للخدمة هناك دونها وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ و معناها في لغتهم العابدة وَ إِنِّي أُعِيذُها أجيرها بِكَ يا رب وَ ذُرِّيَّتَها أي و أعيذ أولادها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي لا يمسهم بسوء و كفر، و الرجيم بمعنى المرجوم الذي رمي بالحصى أو باللعن.
[37] فَتَقَبَّلَها رَبُّها أي فرضي الله بمريم في نذرها بِقَبُولٍ حَسَنٍ كما يقبل سائر النذور، و هو إقامة مريم مقام الذكر في خدمة بيت المقدس وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً رباها تربية حسنة وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا أي جعل الله زكريا عليه السّلام كافلا لها، و كان زكريا زوج خالتها كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها أي على مريم زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ الغرفة التي بنا لها في المسجد ليكون محلا لها و لعبادتها، و سمي محرابا لأنه محل المحاربة مع الشيطان وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ورد انه كان يجد فاكهة الشتاء في الصيف و فاكهة الصيف في الشتاء قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ من أين لك هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فان الله كان ينزل عليها المائدة إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ كناية عن الكثرة.
تبيين القرآن، ص: 66
[38] هُنالِكَ في ذلك الوقت لما رأى زكريا عليه السّلام فضل الله سبحانه بأوليائه دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً نفسا و أخلاقا فإن من يقدر على إنزال الفاكهة يقدر على إعطاء الذرية إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي تسمع سماع قبول.
[39] فَنادَتْهُ أي نادت زكريا الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ أي و الحال أن زكريا قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى أي بولد اسمه يحيى عليه السّلام مُصَدِّقاً أي في حال كون يحيي عليه السّلام يصدق بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بالمسيح عليه السّلام وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً في حال كون يحيى عليه السّلام يحصر نفسه عن الإتيان بالموبقات، أو المراد به الذي لا يتزوج وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ مقابل الفاسد.
[40] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ استفهام عن كيفية حدوث الولد وَ الحال قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي الشيخوخة وَ الحال إن امْرَأَتِي عاقِرٌ عقيم لا تلد قالَ كَذلِكَ أي هكذا الذي ذكرنا من إعطاء الولد اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.
[41] قالَ زكريا عليه السّلام رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعرف بها حمل الزوجة بالولد، لاستقبل ذلك بالشكر و الفرح قالَ الله آيَتُكَ أي علامة الحمل أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي لا تقدر على التكلم في هذه المدة إِلَّا رَمْزاً إيماء و إشارة وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ عصرا وَ الْإِبْكارِ صبحا.
[42] وَ إِذْ و اذكر يا رسول الله زمان قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ اختارك وَ طَهَّرَكِ من الأقذار التي تصيب النساء وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ عالمي زمانك و هو المنساق عند الإطلاق كما لو قيل الدولة الفلانية أقوى الدول فان ظاهرها من الدول المعاصرة، و الاختيار أولا لذاتها و ثانيا لتفضيلها على سائر النساء.
[43] يا مَرْيَمُ اقْنُتِي من القنوت بمعنى الخضوع أو هو العمل المخصوص لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ لعل الإتيان بالمذكر لأجل كون أهل بيت المقدس كانوا رجالا.
[44] ذلِكَ الذي ذكرنا من القصص مِنْ أَنْباءِ أخبار الْغَيْبِ أي الغائب عن الحواس، لأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يشهد القصص «1»، أو أن المسلمين لم يشهدوها نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نلقيه عليك وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي لدى أهل بيت المقدس إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ فإنهم اختلفوا فيمن يكفل مريم عليها السّلام في بيت المقدس، و جعلوا الحكم أن يلقوا أقلامهم الحديدية التي كانت بأيديهم و كانوا يكتبون بها التوراة في الماء، فأي الأقلام وقف على الماء بالإعجاز أخذ صاحب القلم مريم لكفالتها وَ ما كُنْتَ يا رسول الله لَدَيْهِمْ أي لدى أولئك العباد إِذْ يَخْتَصِمُونَ يتشاحون في أمر كفالة مريم عليها السّلام.
[45] إِذْ اذكر يا رسول الله زمان قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي من قبل الله، و الكلمة معناها الشي ء الملقى، و يسمى الكلام كلاما لأنه يلقى، و سمي كلمة الله لأنه ولد من غير أب كأن الله ألقاه مباشرة بلا واسطة، أي خلقه اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً أي في حال كون المسيح عليه السّلام موجها فِي الدُّنْيا بالنبوة و رفعة الاسم وَ الْآخِرَةِ بالمقام الرفيع وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى الله تعالى قرب شرف و سؤدد.
__________________________________________________
(1) حسب ظاهر الأمر.
تبيين القرآن، ص: 67
[46] وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي في حال الصبا الذي لم يؤلف تكلم مثله وَ كَهْلًا أي و يكلم الناس في حالة الكهولة أي قبل الشيب، و لعل المراد انه يتكلم في الحالين على حد سواء و هذه معجزة، أو المراد يكلمهم كهلا بالوحي و الإنجيل وَ مِنَ الصَّالِحِينَ في مقابل الفاسدين.
[47] قالَتْ مريم عليها السلام رَبِّ أَنَّى أي كيف يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ مسا يوجب الحبل و هذا استفهام تعجب قالَ جبرئيل عليه السّلام كَذلِكِ أي هكذا و كاف للخطاب اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أراد (تعالى) أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
[48] وَ يُعَلِّمُهُ يعلم الله المسيح عليه السّلام الْكِتابَ جنس الكتب المنزلة من السماء وَ الْحِكْمَةَ معرفة وضع الأشياء مواضعها وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ.
[49] وَ يرسله رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معجزة دالة على صدقي، و هذا كلام عيسى عليه السّلام أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ مثل صورة الطائر فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ أشفي الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى وَ الْأَبْرَصَ الذي تغير لون جلده فظهرت بقع بيضاء وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ تجعلونه ذخيرة فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت من الآيات لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين بالمعجزات، أي في صدد تصديق الحق، مقابل المعاند.
[50] وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ أي ما تقدم علي من الكتاب السماوي مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ عطف على (مصدقا) لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى عليه السّلام وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ تأكيد لما تقدم مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ.
[51] إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا ما أبينه لكم من الدين صِراطٌ طريق مُسْتَقِيمٌ.
[52] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ أي تحقق كفرهم لديه قالَ عيسى عليه السّلام مَنْ أَنْصارِي جمع ناصر إِلَى اللَّهِ أي في سلوكي إلى الله قالَ الْحَوارِيُّونَ جمع حواري و هو خاصة الرجل نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فإن يوم القيامة يشهد الأنبياء عليهم السّلام على الناس.
تبيين القرآن، ص: 68
[53] ثم قال الحواريون رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي عيسى عليه السّلام فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ بالوحدانية و باتباع الأنبياء عليهم السّلام.
[54] وَ مَكَرُوا اليهود الذين أحس عيسى عليه السّلام منهم الكفر، فتآمروا على قتل المسيح عليه السّلام وَ مَكَرَ اللَّهُ المكر هو علاج الأمر من طريق خفي و مكر الله هو رفع عيسى عليه السّلام و إلقاء شبهه على رئيس اليهود فصلب بدل المسيح عليه السّلام وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أنفذهم كيدا و أحسنهم علاجا للأمر.
[55] إِذْ ظرف ل (ماكرين) أو بمعنى اذكر قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ آخذك أخذا وافيا، بأخذ جسمك و روحك، كما تقول: و في الدين، إذا أعطاه إعطاء كاملا وَ رافِعُكَ إِلَيَّ إلى محل كرامتي في السماء وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من سوء جوارهم وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ من النصارى في زمان حقيتهم و المسلمين بعد مجي ء رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هذه حقيقة واقعة نشاهدها إلى اليوم فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا أعلى منهم رتبة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ إلى جزائي مَرْجِعُكُمْ رجوعكم أنت و المتبعون و الكافرون فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين حكما يتبعه الجزاء.
[56] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالذلة و القتل و تسلط المؤمنين عليهم وَ في الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفعون عنهم العذاب و الذلة.
[57] وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ يعطيهم ثواب أعمالهم وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر.
[58] ذلِكَ الذي تقدم من أخبار يحيى و زكريا و مريم و المسيح عليهم السّلام نَتْلُوهُ نقرأه عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ من جملة الآيات الدالة على قدرتنا وَ الذِّكْرِ من جملة القرآن الْحَكِيمِ المحكم.
[59] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ أي خلق الله آدم عليه السّلام مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ بشرا فَيَكُونُ حكاية حال ماضية أي فكان، و هكذا عيسى عليه السّلام خلق بدون أب بأمر الله تعالى.
[60] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ أيها السامع مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين في الحق.
[61] فَمَنْ حَاجَّكَ خاصمك و جادلك فِيهِ أي في الحق، و أراد الجدال و التعنت مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ لهم يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تَعالَوْا ائتوا عندي نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ أي يدعو كل منا و منكم أبناءه و نساءه و من هو بمنزلة نفسه ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نطلب من الله لعن الكاذب منا، فقد دعا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نصارى نجران إلى قبول انه رسول و ان عيسى عليه السّلام عبد الله، و لما لم يقبلوا دعاهم إلى المباهلة، و جاء هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعلي و فاطمة و الحسنين عليهم أفضل الصلاة و السلام للابتهال، لكن النصارى خافوا و تراجعوا و قرروا إعطاء الجزية فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.
تبيين القرآن، ص: 69
[62] إِنَّ هذا الذي ذكر من القصص السابقة لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ فليس المسيح عليه السّلام إلها كما يزعمون وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[63] فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن اتباعك فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ فإن كل من تولى عن الحق مفسد.
[64] قُلْ يا رسول الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ كل من عنده كتاب سماوي تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ مستوية بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ كلنا نعترف بتلك الكلمة أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً أي لا نجعل أحدا شريكا لله تعالى، فلا نتخذ عزير و المسيح شركاء لله وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فان من أطاع أحدا «1» فقد اتخذه ربا كما فعل أهل الكتاب بأحبارهم و رهبانهم فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد فَقُولُوا أيها المسلمون اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ بالتوحيد.
[65] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ أي تجادلون فِي إِبْراهِيمَ فتقولون إنه كان يهوديا أو نصرانيا وَ ما أي و الحال أنه ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ فكيف يمكن أن يكون إبراهيم عليه السّلام تابعا لكتاب و طريقة متأخرين عنه؟.
[66] ها للتنبيه أَنْتُمْ يا أهل الكتاب هؤُلاءِ أي جماعة حاجَجْتُمْ أي جادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي في مطالب التوراة و الإنجيل فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي من أمر إبراهيم عليه السّلام و أنه كان على أي دين، فانه لم يذكر في كتبكم انه كان على أي دين وَ اللَّهُ يَعْلَمُ دين إبراهيم عليه السّلام وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
[67] ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الحق مُسْلِماً موحدا وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بأهل الكتاب حيث أشركوا بالله باتخاذ عزيز و المسيح إلها.
[68] إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أولاهم بأن ينسب إلى إبراهيم عليه السّلام و يقول أنا من جماعته عليه السّلام لَلَّذِينَ اللام للتأكيد اتَّبَعُوهُ في توحيده و شريعته من الأمم السابقة وَ هذَا عطف على (للذين) النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا لا أهل الكتاب و لا المشركون وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ناصرهم و متولي شؤونهم.
[69] وَدَّتْ أي أحبت و اهتمت طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فان وبال إضلالهم يرجع إليهم وَ ما يَشْعُرُونَ لا يعلمون أن وبال إضلالهم يرجع إليهم.
[70] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ القرآن الكريم وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ في قرارة أنفسكم بأنها آيات الله.
__________________________________________________
(1) إطاعة عمياء.
تبيين القرآن، ص: 70
[71] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ بأن تموهون الحقيقة، بحيث ترون الناس أنها باطل وَ تَكْتُمُونَ تخفون الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بأنه حق.
[72] وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا أي أظهروا الإيمان بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي القرآن وَجْهَ النَّهارِ أوله وَ اكْفُرُوا به آخِرَهُ عصرا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن ميلهم إلى الإسلام، أرادوا المكر فإنهم إذا آمنوا صباحا يرونهم الناس منصفين، ثم إذا كفروا عصرا زعم الكفار بأن القرآن و الإسلام باطل، لان المنصفين كفروا به.
[73] وَ لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أي قالت الطائفة:
لا تظهروا إيمانكم إلا لضعفاء أهل الكتاب الذين يتبعون دينكم، لأن القصد إبقاء هؤلاء على دينهم و دفع الشك عن قلوبهم قُلْ يا رسول الله إِنَّ الْهُدى الكامل هُدَى اللَّهِ فمن يوفقه الله للإيمان لا يضره كيد هؤلاء، و هذه جملة معترضة بين كلام تلك الطائفة أَنْ يُؤْتى أي قالت الطائفة لا تأمنوا أن يعطى أَحَدٌ من الناس مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الشريعة و الكتاب، أي أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يتمكن أن يأتي مثل التوراة أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي لا تؤمنوا أن يتمكن أحد أن يحاجكم و يخاصمكم عند ربكم، و هذا تأكيد لقولهم (أن يؤتي) يعني لا يتمكن أحد من أن يبطل دينكم في يوم القيامة قُلْ يا رسول الله إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ فليس الفضل خاصا بأهل الكتاب حتى يقولوا: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ في فضله عَلِيمٌ.
[74- 75] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ أي تجعله أمينا و تودع عنده بِقِنْطارٍ المال الكثير يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ أي يرده إليك عند المطالبة وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ و هو مال قليل لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ أي ينكره فلا يؤده إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أي مطالبا منه بعنف و شدة ذلِكَ أي تركهم الأداء بِأَنَّهُمْ أي بسبب أن هؤلاء الذين لا يؤدون قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ أي المسلمين المنسوبين إلى أم القرى سَبِيلٌ فلا يتمكنون من مطالبتنا يوم القيامة، لان أموالهم حلال لنا وَ يَقُولُونَ هؤلاء الذين قالوا:
ليس علينا في الأميين سبيل عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فان الله لم يبح أموال المسلمين للكافرين وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون.
[76] بَلى ليس سبيل على مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مع الله بأن آمن و عمل صالحا وَ اتَّقى المعاصي فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.
[77] إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا بأن ينقضوا عهد الله في مقابل ثمن قليل و هو رئاستهم الدنيوية، و هم أهل الكتاب أُولئِكَ لا خَلاقَ لا نصيب لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ كلاما يسرهم وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بنظر رحمته يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ لا يطهرهم من المعاصي وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
تبيين القرآن، ص: 71
[78] وَ إِنَّ مِنْهُمْ أي من أهل الكتاب المحرفين لَفَرِيقاً اللام للتأكيد، و (فريقا) اسم (إن) يَلْوُونَ أي يحرفون أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي بالتوراة بأن يزيدوا فيه و ينقصوا منه لِتَحْسَبُوهُ أي تحسبوا هذا المحرف مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ أي و الحال انه ليس من التوراة وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فقولهم هذا من عند الله كذب وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أن هذا كذب.
[79] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ أي يعطيه الله الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ الحكومة وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي بأن تعبدوني، كما أن اليهود و النصارى ينسبون إلى أنبيائهم كالمسيح و عزيز انهم قالوا للبشر اعبدونا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ الأنبياء عليهم السّلام كانوا يقولون للناس كُونُوا رَبَّانِيِّينَ الرباني منسوب إلى الرب، و هو المطيع الكامل للرب بِما كُنْتُمْ أي بسبب أنكم تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ معلمين للكتاب المنزل، فكونكم علماء يقتضي أن تكونوا ربانيين، لا أن تكونوا مشركين وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أي تقرؤون، فالعالم المعلم يلزم أن يكون ربانيا.
[80] وَ لا أن يَأْمُرَكُمْ عطف على (يؤتيه) أي ما كان لبشر أن يأمركم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أي لا يقول الأنبياء للناس اتخذوا الملائكة و سائر الأنبياء آلهة أَ يَأْمُرُكُمْ استفهام إنكار، أي لا يأمركم الأنبياء عليهم السّلام بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بالتوحيد، فإن قول الأنبياء للناس آمنوا بالله يسبب إسلامهم، فكيف يقولون لهم اكفروا؟
[81] وَ إِذْ أي اذكر يا رسول الله أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أي عهدهم الشديد لَما آتَيْتُكُمْ أي لأجل إعطائي لكم مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ أي بعد إعطائي لكم جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أي بذلك الرسول، و هذا متعلق ب (لما) أي أخذ الله ميثاق الأنبياء السابقين بان يؤمنوا بالأنبياء اللاحقين، لأنه تعالى أعطى السابقين الكتاب و الحكمة، و هذا مثل أن تقول: حيث أكرمتك، فافعل كذا .. وَ لَتَنْصُرُنَّهُ و إيمان السابق و نصرته للاحق كناية عن إعلام أممهم بوجوب ذلك قالَ الله أَ أَقْرَرْتُمْ أيها الأنبياء السابقون و اعترفتم بالأنبياء اللاحقين وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ على الإيمان بالأنبياء اللاحقين إِصْرِي عهدي الشديد قالُوا أي الأنبياء السابقون أَقْرَرْنا، قالَ الله فَاشْهَدُوا على أممكم بأنهم بلّغوا وجوب الإيمان بالأنبياء اللاحقين وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ على أممكم.
[82] فَمَنْ تَوَلَّى أعرض عن الإيمان بالنبي اللاحق بَعْدَ ذلِكَ الأخذ للإصر فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله.
[83] أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ يطلبون وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فان الكون كله خاضع لله تعالى في جميع شؤونه الكونية، و الإنسان المسلم تابع لله تعالى في شؤونه الإرادية طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يوم القيامة.
تبيين القرآن، ص: 72
[84] قُلْ يا رسول الله آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ أولاد يعقوب عليه السّلام فان بعضهم كيوسف عليه السّلام كان نبيا، و كان ذرية بعضهم نبيا ككثير من أنبياء بني إسرائيل وَ ما أُوتِيَ أعطي مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ أي من قبل الله لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بأن نؤمن ببعض دون بعض كما فعل اليهود و النصارى وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ منقادون.
[85] وَ مَنْ يَبْتَغِ يطلب غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لأن الإسلام دين الله الوحيد وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا رأس مالهم، و هو العمر إذ حصلوا جهنم بذلك.
[86] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ فان قسما من الناس دخلوا في الإسلام طوعا، ثم كفروا أو نافقوا و مثل هؤلاء لا يلطف الله بهم لطفه الخفي لأنهم أعرضوا عن الحق بعد المعرفة، و الاستفهام للإنكار وَ بعد أن شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحات وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين تعمدوا الضلال و ظلموا أنفسهم بذلك.
[87] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ طردهم عن رحمته، و عذابه وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
[88] خالِدِينَ فِيها أي في تلك اللعنة لا يُخَفَّفُ بأن يقلّ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ لا ينظرهم الله نظر رحمة و لطف.
[89] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الارتداد وَ أَصْلَحُوا أمورهم باتباع الشرع و العقل فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[90] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ بأن أصروا على الكفر حتى تمكن الكفر في قلوبهم مما سبب أن يكون إظهارهم الإيمان بعد ذلك نفاقا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لان توبتهم صورية وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ الذين ضلوا عن الطريق المستقيم.
[91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ أي بقدر الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى بِهِ الفدية البدل أي لا تنجيه الفدية من عذاب الله أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرهم بدفع العذاب عنهم.
تبيين القرآن، ص: 73
[92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تبلغوا بر الله، أي رحمته حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ أي بعض ما تحبون من المال و الجاه و ما أشبه وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ بيان (ما) فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
[93] كُلُّ الطَّعامِ المأكولات كانَ حِلًّا أي حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي [بني يعقوب ] إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ فانه حرم أكل لحم الإبل على نفسه مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ و التوراة إنما حرم بعض الأشياء على بني إسرائيل لظلمهم و بغيهم، و عليه فالأطعمة الطيبة حلال على المسلمين لأنهم لم يظلموا كما ظلم اليهود أنفسهم فحرم الله عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أن التحريم كان قديما على نزول التوراة فإنه لا يشير التوراة إلى قدم التحريم.
[94] فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
بان قال إن الله حرم بعض الطيبات من القديم و قبل نزول التوراة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي قيام الحجة فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
لأنفسهم لأنهم يأتون بالباطل و هم يعلمون بطلان كلامهم.
[95] قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في أن هذه الطيبات كانت حلالا من القديم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ أي طريقة إِبْراهِيمَ و هي حلية الطيبات حَنِيفاً أي في حال كون إبراهيم عليه السّلام مائلا عن الشرك وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فإن أهل الكتاب كانوا يقولون إن إبراهيم عليه السّلام على دينهم الذي هو الشرك.
[96] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ بأن يكون معبدا لهم لَلَّذِي أي البيت الذي بِبَكَّةَ اسم لمكة المكرمة، في حال كون ذلك البيت مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ فان الناس يهتدون بسبب مكة لأنهم يتوجهون إليها في الصلاة و غيرها.
[97] فِيهِ أي في البيت آياتٌ بَيِّناتٌ أدلة واضحات مَقامُ إِبْراهِيمَ بدل لآيات بينات و هو المحل الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه السّلام فيبني البيت وَ مَنْ دَخَلَهُ أي البيت، و المراد الحرم كانَ آمِناً لا يمس بسوء حتى يخرج عن البيت وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي قصده لإتيان المناسك مَنِ اسْتَطاعَ بدل (الناس) إِلَيْهِ أي إلى البيت سَبِيلًا أي طريقا وَ مَنْ كَفَرَ بأن لم يذهب إلى الحج و هو مستطيع، و المراد كفر عمل لا كفر عقيدة فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فإنه تعالى لا يحتاج إلى البشر و الى عبادته و إنما أمرهم بالأحكام لأجل أنفسهم.
[98] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه.
[99] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ أي تمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فإن أهل الكتاب كانوا يمنعون الناس عن سلوك سبيل الإسلام مَنْ آمَنَ مفعول تصدون تَبْغُونَها عِوَجاً أي طالبين لسبيل الله اعوجاجا، فإن من يقول: المعوج طريق الله، يطلب اعوجاج الطريق وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ أي تشهدون على الطريق المستقيم لأنهم كانوا يعلمون أن الإسلام هو طريق الله وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه.
[100] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً أي جماعة، و هذا نهي للمسلمين أن يتبعوا كلام الكفار مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ يرجعوكم بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ.
تبيين القرآن، ص: 74
[101] وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ فإن من يقرأ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليه آيات الله يلزم أن يكون بعيدا عن الكفر وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائم لهدايتكم فكيف تكفرون وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ بأن يتمسك بدين الله فَقَدْ هُدِيَ اهتدى إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو طريق الإسلام.
[102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوه حَقَّ تُقاتِهِ أي حق التقوى و حق اتباع الأوامر وَ لا تَمُوتُنَّ نهي عن الكفر الموجب لأن يموت الإنسان كافرا إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
[103] وَ اعْتَصِمُوا أي تمسكوا بِحَبْلِ اللَّهِ أي دينه جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا أي لا تختلفوا في الحق وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي الإيمان إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً في الجاهلية فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ أي بسبب نعمة الله إِخْواناً حال أحدكم بالنسبة إلى الآخر كحال الأخ بالنسبة إلى أخيه وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا شفه، طرف حُفْرَةٍ يراد بها جهنم مِنَ النَّارِ بيان (حفرة) فإنهم إذا ماتوا في حالة الجاهلية وقعوا في جهنم فَأَنْقَذَكُمْ الله أي نجاكم مِنْها أي من النار بهدايتكم إلى الإسلام كَذلِكَ أي هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لأجل هدايتكم.
[104] وَ لْتَكُنْ أمر مِنْكُمْ للنشوء لا للتبعيض و ذلك بدليل آخر الآية (المفلحون) و إلا لزم عدم فلاح غير الآمر الناهي أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
[105] وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا كاليهود و النصارى وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحات وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
[106] يَوْمَ أي ذلك العذاب العظيم إنما هو في يوم تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ببياض النور و السرور وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ بسواد الحزن و الظلمة فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ أي يقال لهم على طريق التعنيف و التوبيخ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إما المراد أهل الكتاب و الذين كفروا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد إيمانهم بالأنبياء السابقين أو مطلق من كفر بعد إيمانه فَذُوقُوا أمر إهانة الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم.
[107] وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ أي المؤمنون فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها في رحمة، كرر للتأكيد خالِدُونَ.
[108] تِلْكَ التي ذكرناها من الوعد و الوعيد آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْحَقِّ فليست الآيات باطلة وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ فعقابه إنما هو عدل و بالاستحقاق.
تبيين القرآن، ص: 75
[109] وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ التي منها أعمال العباد فيجازيهم بحسبها.
[110] كُنْتُمْ أيها المسلمون خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ظهرت لِلنَّاسِ أي للبشر، و إنما كنتم خير أمة لأنكم تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في دنياهم و أخراهم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله ببقائهم على الكفر.
[111] لَنْ يَضُرُّوكُمْ أيها المسلمون إِلَّا أَذىً يسيرا، فلا تهتموا بأمرهم وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ أي ينهزمون، و أدبار جمع (دبر) ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ لا ينصرهم قومهم.
[112] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي إن الله طبعهم بطابع أنهم أذلاء أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي وجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ بأن يسلموا وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ بان يدخلوا تحت حماية الناس، كحكومة قوية و هذا من معاجز القرآن فان اليهود إلى اليوم أذلة «1» وَ باؤُ أي رجع اليهود، كأنهم جاءوا لأخذ الحق فلم يأخذوه فرجعوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي و الله ساخط عليهم وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ النفسية فإن نفسهم تتطلب المال مهما أثروا، فنفسهم دائمة المسكنة ذلِكَ إنما فعل الله باليهود ذلك بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ الكفر و القتل بِما عَصَوْا أي بسبب عصيانهم و ابتنائهم على المعصية وَ كانُوا يَعْتَدُونَ أي تماديهم في الاعتداء.
[113] لَيْسُوا سَواءً أي متساويين مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ فاعل (ليسوا) قائِمَةٌ أي قائمة على الحق، و هم الذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ أي في ساعاته وَ هُمْ يَسْجُدُونَ لله تعالى تواضعا.
[114] يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى الأعمال الحسنة وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ.
[115] وَ ما أي و الذي يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ بيان (ما) فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يحرموه بل الله يعطيهم ثواب أعمالهم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي الذين يجتنبون المعاصي.
__________________________________________________
(1) و دولة إسرائيل إنما هي تحت حماية الحكومات الاستعمارية (منه).
تبيين القرآن، ص: 76
[116] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ أي لن تفيد في دفع العذاب عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله شَيْئاً أي و لا جزءا صغيرا من العذاب وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ.
[117]ثَلُ ما يُنْفِقُونَ
هؤلاء الكفاري هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
أي الحياة القريبة، مقابل حياة الآخرةمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
أي برد شديدصابَتْ
تلك الريح رْثَ
أي زراعةوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالكفرأَهْلَكَتْهُ
أي أهلكت تلك الريح حرثهم، و ذلك لأن كفرهم يبطل إنفاقهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
حيث لم يثبهم على إنفاقهم، لأن الله شرط قبول الطاعة بالتقوى حيث قال: (إنما يتقبل الله من المتقين) لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
حيث إن كفرهم سبب بطلان إنفاقهم.
[118] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً و هو الذي يطلع على أسرار الرجل، لأنه موضع ثقته، شبه ببطانة الثوب للصوقها به مِنْ دُونِكُمْ أي من الكافرين لا يَأْلُونَكُمْ أي يقصرون بالنسبة إلى المسلمين خَبالًا أي فسادا وَدُّوا تمنوا و أحبوا ما عَنِتُّمْ أي عنتكم و ضرركم قَدْ بَدَتِ أي ظهرت الْبَغْضاءُ العداوة مِنْ أَفْواهِهِمْ فان كلامهم كلام العدو فيه تلميح إلى عدائكم وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من العداوة أَكْبَرُ مما ظهر على لسانهم قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الأدلة الدالة على الأمور المربوطة بدينكم و دنياكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.
[119] ها تنبيه أَنْتُمْ أُولاءِ أي الجماعة الذين تُحِبُّونَهُمْ أي الكفار وَ لا يُحِبُّونَكُمْ فإن الكافر لا يحب المسلم وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ أي بجنس كتب السماء كُلِّهِ حتى بكتابهم التوراة، و هم لا يؤمنون بكتابكم، و المعنى لا يحبونكم مع إنكم تؤمنون بكتابهم وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا نفاقا وَ إِذا خَلَوْا بعضهم إلى بعض عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ أطراف الأصابع مِنَ الْغَيْظِ من أجل الغيظ قُلْ يا رسول الله مُوتُوا أيها الكفار بِغَيْظِكُمْ و هو دعاء عليهم بزيادة قوة الإسلام حتى يهلكوا بذلك إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في صدوركم أيها الكفار فيجازيكم عليه.
[120] إِنْ تَمْسَسْكُمْ تصبكم حَسَنَةٌ خير و نعمة تَسُؤْهُمْ أي ساء الكفار ذلك وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها أي بإصابتكم السيئة وَ إِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم وَ تَتَّقُوا من الله سبحانه بأن تعملوا لله تعالى لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ أي مكر الكفار لكم شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ إحاطة علم و قدرة.
[121] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ غَدَوْتَ خرجت غدوة مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ أي تهيئ للمؤمنين مَقاعِدَ أي مواطن و مواقف لِلْقِتالِ في غزوة أحد وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 77
[122] إِذْ بدل (إذ غدوت) هَمَّتْ قصدت طائِفَتانِ مِنْكُمْ بنو سلمة و بنو حارثة أَنْ تَفْشَلا تجبنا عن القتال وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما يتولى شؤونهما فلم تفشلا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
[123] وَ لَقَدْ أي و الحال أنه نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ في غزوة بدر وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أي في حال كونكم أذلة، لقوة الكفار و ضعفكم فَاتَّقُوا اللَّهَ و اثبتوا في الحرب لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
[124] إِذْ ظرف ل (نصركم) تَقُولُ يا رسول الله لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ فان المسلمين كانوا كالآيس من النصر و لذا قوى الله قلوبهم بإنزال الملائكة، و الاستفهام للإنكار، أي تجبنون مع نزول الملائكة.
[125] بَلى يكفيكم ذلك إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ المشركون مِنْ فَوْرِهِمْ هذا في هذه الساعة، إذ هم في تلك الحال أشد بأسا و أقوى عزيمة، كما هو كذلك في أول كل حركة يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ معلمين بأنهم ملائكة، قالوا: كانت عليهم العمائم البيض.
[126] وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي إمداد الملائكة إِلَّا بُشْرى بشارة لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي بالنصر وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فليس بكثرة العدد.
[127] لِيَقْطَعَ نصركم و يهلك طَرَفاً جماعة مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ يخزيهم فَيَنْقَلِبُوا يرجعوا إلى بلادهم خائِبِينَ خاسرين لم ينالوا ما أرادوا.
[128] لَيْسَ لَكَ يا رسول الله مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أي أمر كبتهم أو عذاب الله لهم أو توبته عليهم، و هذه جملة معترضة، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بان يسلموا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ استحقوا العذاب بظلمهم.
[129] وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن استحق العقاب وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[130] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً زيادة مكررة، و هذا طبيعة الربا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لرجاء الفلاح.
[131] وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ هيئت لِلْكافِرِينَ.
[132] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي يرحمكم الله تعالى.
تبيين القرآن، ص: 78
[133] وَ سارِعُوا أي بادروا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سبب الغفران و هو العمل الصالح وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا أي سعتها السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ هيئت لِلْمُتَّقِينَ.
[134] الَّذِينَ صفة المتقين يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ في حالة اليسر وَ الضَّرَّاءِ في حالة العسر وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الذين يوقفون سورة غضبهم مع تمكنهم على إمضائه وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ يتركون عقاب من استحق العقاب، حيث لم يوجب الشرع العقوبة كما في الحدود وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون إلى أنفسهم و إلى غيرهم.
[135] وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الذنب العظيم أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بإتيان معصيته ذَكَرُوا اللَّهَ تذكروا عظمته و عقابه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ استفهام إنكار، أي ليس هناك غافر للذنوب سواه تعالى وَ لَمْ يُصِرُّوا لم يقيموا عَلى ما فَعَلُوا من الذنب وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أي في حال علمهم بقبح ما فعلوا.
[136] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران لذنبهم مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ تلك الجنات أَجْرُ الْعامِلِينَ الذين يعملون للآخرة.
[137] قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي طرق للأمم السابقة سلكوها فسببت هلاكهم فَسِيرُوا أي اذهبوا و سافروا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين أهلكوا، فان الإنسان إذا ذهب إلى بلادهم علم أخبارهم و رأى آثارهم.
[138] هذا القرآن بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً يهديهم إلى الحق وَ مَوْعِظَةٌ إرشاد لِلْمُتَّقِينَ فإنهم هم المستفيدون بالقرآن.
[139] وَ لا تَهِنُوا أي لا تضعفوا عن مقاومة الأعداء وَ لا تَحْزَنُوا بما أصابكم من الشدائد وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي و الحال أنتم أعلى من الكفار إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن صح إيمانكم.
[140] إِنْ يَمْسَسْكُمْ أي مسكم أيها المسلمون و أصابكم في حرب أحد قَرْحٌ جراح فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ أي الكفار قَرْحٌ مِثْلُهُ أي مثل ما أصابكم و هذه تسلية للمسلمين وَ تِلْكَ أي هذه الْأَيَّامُ نُداوِلُها نصرفها تارة لهؤلاء و أخرى لغيرهم بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي ليتميز المؤمنون الثابتون عن غيرهم، فان التمييز إنما يكون في الشدائد وَ ل يَتَّخِذَ الله مِنْكُمْ شُهَداءَ يكرم بعضكم بالشهادة وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالانسحاب لدى الشدائد.
تبيين القرآن، ص: 79
[141] وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي يخلصهم من ذنوبهم، فإن الذنب يذهب عند الشدائد إذا صبر عليها الإنسان وَ يَمْحَقَ أي يهلك الْكافِرِينَ.
[142] أَمْ حَسِبْتُمْ أي هل زعمتم، و هذا استفهام إنكار أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أي و بعد لم تجاهدوا وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أي و بعد لم تصبروا على الشدائد.
[143] وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ و ذلك حيث إنهم تمنوا الشهادة في بدر حيث لم يستشهدوا هناك، و هذا تذكير لهم بأنهم كيف يخافون في أحد و هم قد تمنوا الموت قبل ذلك فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ في أحد، حيث رأوا القتلى وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ نظر عين، لا رؤية علمية فقط.
[144] وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فهو يموت أيضا كما ماتوا، و هذا توبيخ لهم بأنهم كيف يضعفون عن مقاومة الكفار بمجرد سماعهم بموت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَ فَإِنْ ماتَ موتة عادية أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ رجعتم إلى الكفر عَلى أَعْقابِكُمْ جمع عقب، فان الإنسان المتقهقر يضع عقبه أولا على الأرض وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بل يضر نفسه وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ لنعمة الإسلام بثباتهم عليه، فاللازم عليكم أن تثبتوا على الإيمان و إن مات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما أن الأمم السابقة بقيت على دينها بعد موت أنبيائها.
[145] وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بإجازته في موتها، و فيه تشجيع على الجهاد كِتاباً مُؤَجَّلًا أي كتب الموت على الإنسان كتابا موقتا فليس يموت الإنسان قبل ذلك وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا خيرها نُؤْتِهِ مِنْها كما نرى أن الكفار يؤتون من خيرات الدنيا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها إذا عمل صالحا وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ الذين يشكرون الله بإطاعته.
[146] وَ كَأَيِّنْ أي و كم و هو للتكثير، و فيه تشجيع للمسلمين مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ ربانيون المربوطون بالبر علما و عملا كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا ما و هن عزم أولئك الربيون لِما أَصابَهُمْ من القتل و الشدة فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا عن القتال وَ مَا اسْتَكانُوا خضعوا لعدوهم وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
[147] وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ أي قول أولئك الربيون إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا الإسراف مجاوزة الحد فِي أَمْرِنا أيّ أمر كان وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا في جهاد العدو وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
[148] فَآتاهُمُ اللَّهُ أعطاهم ثَوابَ الدُّنْيا النصر على العدو و سائر خيرات الدنيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ بالجنة، أي ثواب الآخرة الحسن، و هذا تأكيد وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في أقوالهم و أفعالهم.
تبيين القرآن، ص: 80
[149] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا حيث قال المنافقون في غزوة أحد للمؤمنين: ارجعوا إلى دينكم السابق، حتى تنجوا من هذه المشاكل يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا أي ترجعوا خاسِرِينَ قد خسرتم الدين و الدنيا.
[150] بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أولى بكم، فاللازم أن تطيعوه لا أن تطيعوا الكفار وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سينصركم على الكفار.
[151] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الخوف من المسلمين و ذلك يسبب انهزامهم أمام زحف الإسلام بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ أي بسبب إشراكهم بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي إشراكا لم ينزل الله عليه دليل وَ مَأْواهُمُ أي محلهم النَّارُ وَ بِئْسَ النار مَثْوَى أي محل و منزل الظَّالِمِينَ.
[152] وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ بنصركم على الكفار، فان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر جماعة من الرماة بلزوم أماكنهم، و لما حارب المسلمون الكفار هزموهم، ثم خالف الرماة الأمر، و لذا غلب الكفار على المسلمين إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تبطلون حسن الكفار بقتلهم و تشريدهم بِإِذْنِهِ فقد أذن الله للمسلمين بذلك حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ ضعف رأيكم و جبنتم وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي في أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإن قسما من الرماة قالوا: نسمع قول الرسول، و قسما آخر منهم قالوا: نذهب لجمع الغنيمة وَ عَصَيْتُمْ بأن خالفتم أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ الله ما تُحِبُّونَ من نصر الله لكم مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا و هم الذين خالفوا أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقصد جمع الغنيمة وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ و هم الذين بقوا ممتثلين لأمره ثُمَّ صَرَفَكُمْ أيها المسلمون، أي كفكم عَنْهُمْ عن الكفار، و ذلك حين كر الكفار على المسلمين لِيَبْتَلِيَكُمْ أي يمتحنكم، حيث إن الكفار قتلوهم و جرحوهم وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أي عن مخالفتكم بأن قبل توبة من خالف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يقوي عزيمتهم للغلبة و يعفو
عن مسيئهم.
[153] إِذْ تُصْعِدُونَ كان صرف المسلمين عن الكفار في زمان فرارهم، و تصعدون أي تفرون وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ لا يقف أحد لأحد وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ يناديكم فِي أُخْراكُمْ في ساقتكم التي كانت باقية مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَأَثابَكُمْ أي جازاكم الله غَمًّا بِغَمٍّ أي حزنا بالانهزام بسبب غمكم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعصيان أمره أو حزنكم على فوت الغنيمة و إنما أصابكم الله بهذا الغم لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الغنيمة فان حزنهم على فوت الغنيمة سبب مخالفتهم التي أوجبت غلبة الكفار وَ لا ما أَصابَكُمْ من الاضرار، و معنى هذه الجملة أنه إذا أصابكم بسبب إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحزن بضرر أو فوت نفع، فان أردتم زوال ذلك الحزن بمخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصيبكم الله حزنا آخر، فلا يفيد الفرار عن الحزن وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه.
تبيين القرآن، ص: 81
[154] ثُمَّ أَنْزَلَ الله عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الذي أصابكم بواسطة الانهزام أَمَنَةً أمنا، مفعول (أنزل) نُعاساً أي نوما، فان الإنسان الآمن يأخذه النوم بخلاف الخائف، و هو بدل اشتمال عن (أمنة) يَغْشى النعاس، أي يشمل طائِفَةً مِنْكُمْ و هم المؤمنون الذين ظفروا ثانيا على الكفار، حيث إن الكفار بعد قتل جماعة من المسلمين وقع في قلوبهم الخوف فانهزموا وَ طائِفَةٌ أخرى هم المنافقون قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يريدون نجاتها، حتى بعد أن ذهب الكفار، لما دخلهم من الرعب و الخوف يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فإنهم كانوا يظنون أن الله خدعهم بوعد النصر لهم، بينما إن الله وعدهم وعد الحق
بالنصر، لكن مخالفة الأمر سببت هزيمتهم أولا ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ فان أهل الجاهلية كانوا يسيئون الظن بالله يَقُولُونَ الطائفة المنافقة هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ أي أمر النصر مِنْ شَيْ ءٍ و هذا استفهام إنكار منهم، أي لا نصر لنا على الكفار قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فان النصر و الانهزام بيد الله، يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما أي النفاق الذي لا يُبْدُونَ لَكَ لا يظهرونه لك يا رسول الله يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ أي النصر شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا لم يقتل أصدقاؤنا في أحد قُلْ لم يكن قتل المسلمين في أحد لأنهم خرجوا للمقاتلة، بل لان وقت قتلهم حضر لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ أي منازلكم و لم تخرجوا للقتال لَبَرَزَ أي خرج الَّذِينَ كُتِبَ في اللوح المحفوظ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ أن يقتلوا في هذا اليوم إِلى مَضاجِعِهِمْ جمع مضجع أي محل القتل وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ أي فعل الله ذلك بكم ليمتحن ما فِي صُدُورِكُمْ من الإخلاص و النفاق فان في الشدة يظهر الإيمان و النفاق وَ لِيُمَحِّصَ أي يخلص ما فِي قُلُوبِكُمْ من الوساوس أي يظهر وساوس قلوبكم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بأسرارها.
[155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ و انهزموا يوم أحد يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ الكفار و المسلمون، التقيا في ساحة المعركة إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أي طلب الشيطان زللهم و انهزامهم فأطاعوه بِبَعْضِ أي بسبب بعض ما كَسَبُوا من المعاصي السابقة، إذا المعصية توجب تزلزل الإيمان فإذا صار وقت الامتحان ظهر الضعف في العاصي وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
[156] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي قالوا في باب إخوانهم الذين قتلوا و ماتوا في الحرب أو في السفر إِذا ضَرَبُوا أولئك الإخوان، و الضرب كناية عن السفر فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا أولئك الإخوان غُزًّى جمع غاز، بمعنى الذي يغزو و يجاهد لَوْ كانُوا هذا مفعول (قالوا) عِنْدَنا بأن لم يسافروا و لم يجاهدوا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ و إنما فعل الله ذلك بهم، بان تركهم في نفاقهم و لم يلطف بهم الألطاف الخاصة حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ فيضاف إلى فقد إخوانهم التحسر و الحزن جزاء لنفاقهم وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ فبيده الحياة و الموت و لا ربط بالخروج و عدم الخروج إلى الجهاد وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
[157] وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ في سبيله عز و جل كما لو خرجتم للجهاد أو الحج ثم أدرككم الموت لَمَغْفِرَةٌ غفران لذنوبكم مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي يجمع من الأموال من لم يخرج في سبيل الله و لم يمت.
تبيين القرآن، ص: 82
[158] وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ أي تجمعون في يوم القيامة فيكون أجركم عليه، و لا تخسرون بموتكم إذ تعوضون عن ذلك.
[159] فَبِما رَحْمَةٍ أي فبرحمة، و (ما) مزيدة للتأكيد مِنَ اللَّهِ لِنْتَ يا رسول الله، أي كنت لينا فان ذلك رحمة من الله للمسلمين لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا جافيا غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيا سيئ الخلق لَانْفَضُّوا أي تفرقوا مِنْ حَوْلِكَ من أطرافك فَاعْفُ يا رسول الله عَنْهُمْ و لا تؤاخذهم بمخالفة أمرك- يوم أحد- وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ اطلب غفران الله و تجاوزه عن عصيانهم وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ طلبا لرضا قلوبهم فَإِذا عَزَمْتَ على أمر و رأيت فيه الصلاح فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و ائت به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
[160] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كما نصركم ببدر فَلا غالِبَ لَكُمْ لا يغلب عليكم أحد وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ و لم ينصركم فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد خذلان الله لكم، فلا ناصر لكم مع خذلان الله تعالى وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
[161] وَ ما كانَ أي لا يجوز لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي يخون، فقد فقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال المنافقون إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذها وَ مَنْ يَغْلُلْ يخون يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيأتي هنالك و هو يحمل على ظهره ما غل، فضيحة له بين الناس ثُمَّ تُوَفَّى يعطى جزاؤها وافيا كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير و شر وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.
[162] أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بأن أتى بما وجب عليه كَمَنْ باءَ رجع بسبب عصيانه بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ محله جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي محل يصير الإنسان إليه.
[163] هُمْ أي المطيعون و العصاة ذو دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ إذ تتفاوت درجات المؤمنين و المطيعين و درجات الكافرين و العاصين وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على أعمالهم كل بقدره.
[164] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ أي أنعم عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ أرسل فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ من جنسهم لا من جنس الملائكة يَتْلُوا يقرأ عَلَيْهِمْ آياتِهِ القرآن وَ يُزَكِّيهِمْ يطهّرهم من رذائل الأخلاق وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القرآن الحكيم وَ الْحِكْمَةَ الشرائع وَ إِنْ كانُوا إن: مخففة من الثقيلة مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح.
[165] أَ وَ لَمَّا الهمزة للاستفهام و الواو عاطفة أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ هي قتل سبعين منهم في أحد قَدْ أَصَبْتُمْ من الكفار في بدر مِثْلَيْها لأن المسلمين قتلوا في بدر سبعين و أسروا سبعين قُلْتُمْ أَنَّى هذا أي من أين أصابتنا هذه الإصابة، و قد وعدنا الله النصر قُلْ هُوَ أي هذا الانكسار في أحد مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ حيث خالفتم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ترككم مواقعكم في الجبل إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ قادر بأن ينصركم.
تبيين القرآن، ص: 83
[166] وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ المسلمون و المشركون في أحد حيث تلاقيا فَبِإِذْنِ اللَّهِ حيث ترككم و شأنكم وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ.
[167] وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا أي يميز المؤمنين من المنافقين وَ قِيلَ عطف على (نافقوا) لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا أي قاتلوا إما لله أو لأجل الدفاع عن أنفسكم و أهليكم قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا أي لو علمنا أن هذا قتال، و ليس إلقاء نفس في التهلكة لَاتَّبَعْناكُمْ في الخروج إلى الجهاد، لكنه ليس بقتال بل هلاك لنا و إبادة هُمْ هؤلاء المنافقون لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أي يوم قالوا هذا القول أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ فإنهم كانوا منافقين أما الآن فقد مالوا إلى جانب الكفر يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ أنهم مؤمنون ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ إذ في قلوبهم الكفر وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ يخفون من النفاق.
[168] و هم الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي حول إخوانهم المؤمنين الذين قتلوا في أحد وَ الحال انهم قَعَدُوا عن الجهاد لنفاقهم لَوْ أَطاعُونا في العقود و ترك القتال ما قُتِلُوا كما لم نقتل نحن بسبب قعودنا قُلْ إن كان الموت بأيديكم فَادْرَؤُا أي ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ حين أتاكم ملك الموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن قعودكم كان سبب بقاء حياتكم.
[169- 173] وَ لا تَحْسَبَنَّ أي لا تظن أيها السامع الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ هم أَحْياءٌ حياة طيبة عِنْدَ رَبِّهِمْ بخلاف الكافر فإنه ميت إذ هنالك في العذاب، و بخلاف المؤمن إذا مات، فليست له حياة طيبة كحياة الشهيد يُرْزَقُونَ تأكيد لحياتهم. في حال كون أولئك الشهداء فَرِحِينَ أي مسرورين بِما آتاهُمُ أعطاهم اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ أي يسرّون بِالَّذِينَ أي بسائر المؤمنين الذين لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ بعد بل هم في الحياة الدنيا مِنْ خَلْفِهِمْ أي الذين خلّفوهم في الدنيا أَلَّا أي من جهة أن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين الباقين في الحياة، فان الإنسان إذا كان في نعمة و علم أن إخوانه الذين ليسوا معه لهم مستقبل زاهر، يكون في أشد أحوال الفرح و السرور وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ أي الشهداء بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ حيث أنعم عليهم بأنواع النعم وَ فَضْلٍ زيادة ثواب على ما يستحقون وَ ب أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الذين هم إخوانهم من خلفهم. الَّذِينَ صفة المؤمنين اسْتَجابُوا أي أجابوا بمعنى أطاعوا في الخروج إلى بدر الصغرى «1» لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي الجرح يوم أحد لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ من للبيان وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ إذ من لم
يبق منهم على إيمانه و تقواه لا ينال الأجر، فان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد أحد عقّب أبا سفيان و الكفّار إرهابا لهم و هذه الآية نزلت فيمن تبع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الغزوة، و قد أعطى أبو سفيان نعيم بن مسعود عشرة من الإبل ليفتّر أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن معاقبة الكفار بعد أحد، ففترهم و لذا خرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسبعين من أصحابه فقط. الَّذِينَ أي المؤمنون الذين قالَ لَهُمُ النَّاسُ و المراد به نعيم بن مسعود المرتشي إِنَّ النَّاسَ أي أبا سفيان و حزبه قَدْ جَمَعُوا العدة لَكُمْ لقتالكم فلا تخرجوا إليهم فَاخْشَوْهُمْ أي فخافوا الكفار و لا تخرجوا لقتالهم فَزادَهُمْ أي زاد قول نعيم للمؤمنين إِيماناً فإن أصحاب النفوس المؤمنة إذا عرفوا قوة الكفار يزدادون صلابة و إيمانا وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي يكفينا وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ خير وكيل يكل الإنسان إليه أمره.
__________________________________________________
(1) لملاحقة أبي سفيان و قومه.
تبيين القرآن، ص: 84
[174] فَانْقَلَبُوا أي رجع هؤلاء المؤمنون من بدر الصغرى بعد أحد بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ فإن الله أنعم عليهم بالعافية من الحرب إذ خاف الكفار و انهزموا وَ فَضْلٍ زيادة ثواب لَمْ يَمْسَسْهُمْ لم يمسّهم سُوءٌ جراحة أو كيد أو ما أشبه وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ أي رضاه حيث أطاعوا أمره بالخروج إلى بدر وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
[175] إِنَّما ذلِكُمُ أي المثبط عن الخروج إلى القتال الشَّيْطانُ الذي خوّف المسلمين يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي أحباء الشيطان فإنهم يخافون، أما المؤمنون فلا يخافون فَلا تَخافُوهُمْ أي لا تخافوا أولياء الشيطان وَ خافُونِ أي خافوا عقابي بالمخالفة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
[176] وَ لا يَحْزُنْكَ يا رسول الله الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يبادرون إلى الكفر بالارتداد عن الإسلام إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ بتركهم حتى يكفروا أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا نصيبا من الثواب فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
[177] إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ بأن تركوا الإيمان و اتخذوا الكفر لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[178] وَ لا يَحْسَبَنَّ أي لا يظننّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي الإملاء: الإمهال و إطالة العمر لَهُمْ خَيْرٌ فانه ليس خيرا لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فان طول عمرهم سبب زيادة معاصيهم وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم في نار جهنّم.
[179] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أي يترك الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اشتباه المؤمن بالمنافق حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ المنافق مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن، و التميز إنما هو بأوامر يطيعها المؤمن و يتركها المنافق فيتميّزان وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حتى تميزوا الإيمان من النفاق في القلوب، و إنما يظهر ذلك بالشدائد في الامتحانات وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي يختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيطلعه على الغيب و يعرف المؤمن من المنافق فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ مخلصين، لان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعرف المخلص من غيره وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا المعاصي فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
[180] وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي بخلهم بمنع الحق الواجب الذي أعطاهم الله إياه هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ أي البخل شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ أي يكون وبال بخلهم كالطوق الملازم لأعناقهم يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فان الله يرث كل شي ء، فما بال هؤلاء يبخلون مما سينتقل عنهم إلى الله وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
تبيين القرآن، ص: 85
[181] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ هم اليهود حين سمعوا قوله سبحانه (من ذا الذي يقرض الله) قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا في صحف الكتبة و (السين) للتأكيد وَ سنكتب قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ لهم يوم القيامة ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق.
[182] ذلِكَ العذاب بِما أي بسبب ما قَدَّمَتْ إلى الآخرة أَيْدِيكُمْ عبّر عن الأنفس بالأيدي، لان أكثر الأعمال باليد وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ أي بذي ظلم صيغة نسبة فليس تعذيبهم ظلما و إنما بالعدل لِلْعَبِيدِ.
[183] الَّذِينَ صفة للذين قالوا إن الله فقير و هم اليهود قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أي أوصانا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا ذلك الرسول بِقُرْبانٍ أي ما يتقرب به من الذبائح أو ما أشبه تَأْكُلُهُ النَّارُ فقد كانت هذه معجزة لبعض أنبياء بني إسرائيل أن يقرب قربانا فيدعو فتأتي نار من السماء و تحرق القربان قُلْ لهم يا رسول الله قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة الدالة على صدقهم وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ كزكريا و يحيى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنكم تؤمنون إذا جاءكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقربان.
[184] فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا رسول الله فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ كذبهم أقوامهم، و هذا تسلية لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاؤُ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات وَ الزُّبُرِ جمع الزبور و هو الكتاب المقصور على الحكم فقط- اصطلاحا- وَ الْكِتابِ المشتمل على الأحكام و المواعظ و غيرها كالتوراة و الإنجيل الْمُنِيرِ ذي النور الذي يهدي من ظلمات الكفر و الأخلاق السيّئة.
[185] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ أي تذوق الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أي تعطون أُجُورَكُمْ جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ نجّي عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ و ربح وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ متاع يخدع به الإنسان.
[186] لَتُبْلَوُنَّ أي تمتحننّ فِي أَمْوالِكُمْ بالزكاة و الخمس و غيرهما وَ أَنْفُسِكُمْ بالشدائد و القتل في سبيل الله وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ اليهود و النصارى وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا الكفار الذين لا كتاب لهم أَذىً كَثِيراً من الطعن في دينكم و المؤامرة ضدكم وَ إِنْ تَصْبِرُوا على ذلك وَ تَتَّقُوا المعاصي و الآثام فَإِنَّ ذلِكَ الصبر و التقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من الأمور التي يحسن العزم عليها، بمعنى أهمية الذي يعزم عليها، لأنها من الصعوبة بمكان.
تبيين القرآن، ص: 86
[187] وَ إِذْ و اذكر يا رسول الله نقض اليهود للعهود بعد أن ذكرت تكذيبهم للرسل أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عهدهم الأكيد، أخذه بواسطة أنبيائه لَتُبَيِّنُنَّهُ أي الكتاب السماوي لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ أي لا تخفونه فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي الكتاب أو الميثاق، إذ أن في كتابهم رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لذا تركوا العمل به و لم يظهروه للناس وَ اشْتَرَوْا بِهِ أي بدل البيان للناس ثَمَناً قَلِيلًا هي رئاستهم الدنيوية فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.
[188] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا كاليهود كانوا يفرحون بإظهار أحكام التوراة المحرفة وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا يحمدهم الناس و يمدحونهم بِما لَمْ يَفْعَلُوا فإنهم أخفوا الحق و مع ذلك كانوا يحبون أن يقول الناس عنهم إنهم أظهروا الحق فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ أي بمنجاة مِنَ الْعَذابِ أي فائزين بالنجاة منه وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بسبب كفرهم و تدليسهم.
[189] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على عقاب اليهود.
[190] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي تعاقب أحدهما وراء الآخر لَآياتٍ دالة على وجود الله سبحانه و صفاته لِأُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
[191] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً قائمين وَ قُعُوداً قاعدين وَ عَلى جُنُوبِهِمْ و هم نائمون وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تفكر اعتبار رَبَّنا أي يقولون يا ربنا ما خَلَقْتَ هذا الكون باطِلًا عبثا و بدون غاية سُبْحانَكَ تنزيها لك عن العبث فَقِنا أي احفظنا عَذابَ النَّارِ.
[192] رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فضحته و أهنته وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
[193] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُنادِي لِلْإِيمانِ إلى الإيمان ب أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا فامتثلنا رَبَّنا فَاغْفِرْ استر لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ أي امح عَنَّا سَيِّئاتِنا أي معاصينا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي اقبض أرواحنا في جملة الصالحين، بأن نكون منهم.
[194] رَبَّنا وَ آتِنا أعطنا ما وَعَدْتَنا عَلى ألسن رُسُلِكَ من الثواب وَ لا تُخْزِنا أي لا تفضحنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ فإنك وعدت الجنة و المغفرة لمن آمن بك.
تبيين القرآن، ص: 87
[195] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أجاب دعاءهم، ب أَنِّي لا أُضِيعُ الإضاعة: الإهلاك عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ بيان (عامل) ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي كلكم محسوبون جماعة واحدة، أيها المسلمون فَالَّذِينَ هاجَرُوا الشرك، أو عن أوطانهم وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أخرجوهم المشركون وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي آذاهم الكفار وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا في سبيل الله لَأُكَفِّرَنَّ أي لأمحونّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أبنيتها و أشجارها الْأَنْهارُ ثَواباً أي إن ما يفعل الله بهم في الآخرة يكون جزاء مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أي الثواب الحسن.
[196] لا يَغُرَّنَّكَ أيها السامع، أي بان تغتر ب تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ذهابهم و مجيئهم في سعة و رفاه، بأن تظن حسن حالهم و انهم قادرون على كل شي ء.
[197] فإنما تقلبهم مَتاعٌ يتمتع به الكافر قَلِيلٌ في أيام قلائل ثُمَّ مَأْواهُمْ منزلهم جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ بئس المستقر ما مهدوا و هيئوا لأنفسهم.
[198] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ و تركوا المعاصي لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا هو ما يعدّ للضيف من الطعام و نحوه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ من الثواب وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مما يتقلب فيه الذين كفروا لِلْأَبْرارِ.
[199] وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التوراة و الإنجيل، في حال كونهم خاشِعِينَ خاضعين لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا بأن يخفون الحق لأجل رئاسة و دنيا قليلة أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فان كل آت قريب.
[200] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا يأمر بعضكم بعضا بالصبر وَ رابِطُوا أقيموا في الثغور رابطين خيولكم وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تظفروا بما تبغون من الفلاح.
تبيين القرآن، ص: 88
مدنية آياتها مائة و ست و سبعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي خافوا منه الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم عليه السّلام وَ خَلَقَ مِنْها أي من فضل طينتها زَوْجَها حواء وَ بَثَّ أي نشر مِنْهُما و من امرأتين خلقتا لهابيل و قابيل رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي يسأل بعضكم بعضا بالله، تقولون أسألك بالله أن تفعل كذا وَ اتقوا الْأَرْحامَ أن تقطعوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً مراقبا فيجازيكم بأعمالكم.
[2] وَ آتُوا أعطوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ بأن تأخذوا طيب أموال اليتيم و تعطوا الخبيث مكانه وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي مع أموالكم إِنَّهُ أي الأكل كانَ حُوباً ذنبا كَبِيراً.
[3] وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أي لا تعدلوا فِي الْيَتامى أي يتامى النساء إذا تزوجتم بهنّ، فإنهم كانوا يتزوجون باليتيمات ثم لا يعدلون فيهن لعدم وجود أب لهن يخافون منه فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أي سائر النساء غير اليتيمات مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ اثنين اثنين و ثلاث ثلاث و أربع أربع بأن يطلق ثلاثا و يأخذ غيرها و هكذا بالنسبة إلى الأربع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين المتعدد من النساء فَواحِدَةً أي اكتفوا بها أَوْ اقتصروا ب ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الإماء لأنه ليس لهن حق القسم ذلِكَ الاكتفاء بواحدة و بملك اليمين أَدْنى أقرب أَلَّا تَعُولُوا أي أن لا تجوروا على النساء.
[4] وَ آتُوا أعطوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ مهورهن نِحْلَةً أي هدية بلا توقع عوض فَإِنْ طِبْنَ أي رضين لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ من الصداق نَفْساً بان طابت نفسهن بذلك فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً أي كلوا ذلك الشي ء سائغا بدون غصة.
[5] وَ لا تُؤْتُوا أي لا تعدوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ المراد أموالهم، و أضيف إلى (كم) باعتبار أن المال بالنتيجة مال المجموع «1»، فهو إتلاف لمال المجتمع الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً فان قيام معاش الإنسان إنما هو بالمال وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها أي في تلك الأموال وَ اكْسُوهُمْ أي أعطوا كسوتهم منها وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي تلطفوا بالكلام مع السفيه حتى لا ينكسر خاطره.
[6] وَ ابْتَلُوا أي اختبروا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ بان بلغوا بلوغا شرعيا يحق لهم معه النكاح و الدخول فَإِنْ آنَسْتُمْ أبصرتم مِنْهُمْ رُشْداً بان كانت لهم ملكة إدارة أمورهم و حفظ أموالهم فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ لأنهم صلحوا لأخذ أموالهم حينذاك وَ لا تَأْكُلُوها أي لا تأكلوا أموال اليتامى إِسْرافاً تجاوزا عن الحد المباح وَ بِداراً أي لأجل مبادرتكم في أكل أموالهم قبل أَنْ يَكْبَرُوا فيمنعوكم عن أكل أموالهم وَ مَنْ كانَ من أولياء اليتيم المشرف على إدارة شؤونه غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ و لا يأكل من أموال اليتيم أجرة لإشرافه وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بمقدار أجرة عمله فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ بعد أن كبروا فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ لتكونوا أبعد عن التهمة وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي محاسبا فلا تتعدوا حدوده، فانه سيجازيكم على ما فعلتم.
__________________________________________________
(1) فإن الإسلام يقر الملكية الفردية، و المقصود النتيجة الاقتصادية للمال حيث تعود فائدته الى الجميع.
تبيين القرآن، ص: 89
[7] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ حظ من الإرث، فقد كانت الجاهلية تعطي الإرث للرجال فقط دون النساء فجاءت هذه الآية مبينة لتقسيم الإرث بين الذكور و الإناث مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ الأقرباء وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أي من ما ترك أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أوجبه الله تعالى فلا يحق لأحد تغييره.
[8] وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى بأن شهد وقت القسمة فقراء قرابة الميت الذين لا يرثون وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ و يتاماهم و مساكينهم فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم شيئا من التركة على وجه الندب و ذلك فيما إذا رضي سائر الورثة و كانوا كبارا وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا غير خشن فانه كثيرا ما يتوقع هؤلاء أن يعطوا شيئا كثيرا من التركة.
[9] وَ لْيَخْشَ أمر للأوصياء بأن يخشوا الله في أمر اليتامى فيفعلوا فيهم ما يحبون أن يفعل بيتاماهم بعدهم، فليخف الأوصياء الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ من بعد موتهم ذُرِّيَّةً ضِعافاً أيتاما لا يملكون قوة حفظ أموالهم خافُوا عَلَيْهِمْ أي على تلك الذرية من إجحاف الناس بهم فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ يخافه هؤلاء الأوصياء في أمر يتامى الموصين وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي سليما فلا يجحفوا على الأيتام في قول أو عمل.
[10] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً مقابل من يأكل من مال اليتيم بحق، كحقه في إدارة أموره إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي يملؤونها ناراً فان المال نار، لأنه يجر إلى النار وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أي سيلزمون نارا مشتعلة.
[11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ يأمركم فِي باب ميراث أَوْلادِكُمْ انه لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ نصيب الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ الأولاد نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي اثنتين فما فوق فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ الميت، و لو لم يكن وارث آخر أخذن الباقي بالقرابة وَ إِنْ كانَتْ الأولاد بنتا واحِدَةً فقط فَلَهَا النِّصْفُ مما ترك و الباقي تأخذه بالقرابة إن لم يكن هناك وارث آخر وَ لِأَبَوَيْهِ أب و أم الميت لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ الميت إِنْ كانَ لَهُ للميت وَلَدٌ سواء كان ذكرا أو أنثى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ للميت وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ الأب و الأم للميت فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ و الثلثان لأبيه إن لم يكن للميت اخوة فَإِنْ كانَ لَهُ للميت إِخْوَةٌ، و كان الوارث الأبوين فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ و الباقي لأبيه، و الإرث إنما هو مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أي يوصي الميت بها، إلى حدّ الثلث أَوْ دَيْنٍ فان الدين و الوصية مقدمان على الإرث آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أي لا تعلمون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً أي أنفع لكم في دنياكم و أخراكم فلا تخالفوا أوامر الوصية بأن تزيدوا على أحد الطرفين و تنقصوا من الطرف الآخر، بزعم أن أحد الطرفين أنفع لكم، بل أقسموا كما فرض الله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض الله هذا التقسيم فريضة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمصالح حَكِيماً يضع الأشياء مواضعها.
تبيين القرآن، ص: 90
[12] وَ لَكُمْ أيها الأزواج نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ أي زوجاتكم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم أو من غيركم فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ أيها الأزواج الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ من الميراث مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ للزوجات إذا مات الزوج الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ منهن أو من غيرهن فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ زوجة واحدة كانت أو أكثر مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ أي كان الميت الذي يورث كَلالَةً أي أخا أو أختا من الأم أَوْ الميت التي تورث امْرَأَةٌ وَ لَهُ أي للميت أَخٌ أَوْ أُخْتٌ من الأم فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ و الباقي للإخوة من الأبوين فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ بأن كان للميت أكثر من واحد من الأخت و الأخ الأميين فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ فثلث التركة للأكثر بالتساوي بين الذكر و الأنثى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ أي في حال كون الوصية لا تضر بالورثة بأن لم تكن أكثر من الثلث وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
[13] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ التي قررها للشريعة، و من خرج عنها كان عاصيا وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و أبنيتها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ دخول الجنة الْفَوْزُ الفلاح الْعَظِيمُ.
[14] وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ بان خالف أحكامه يُدْخِلْهُ الله ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ يهينه و يذلّه.
تبيين القرآن، ص: 91
[15] وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ الزنا مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي اطلبوا ممن قذفهن أربعة شهود فَإِنْ شَهِدُوا أي الأربعة عليهن بالزنا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أي احبسوهن عقوبة لهن حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ حتى يمتن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أي طريق عقوبة أخرى و قد جعل سبحانه ذلك الطريق بتشريع الحدود.
[16] وَ الَّذانِ أي الرجل و المرأة يَأْتِيانِها أي الفاحشة، و هما الزاني و الزانية مِنْكُمْ فَآذُوهُما بإجراء الحد عليهما فَإِنْ تابا في المستقبل وَ أَصْلَحا أنفسهما فلم يرتكبا الزنا بعد ذلك فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أي اصفحوا و لا تمادوا في الاشتهار بهما و إيذائهما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً يقبل التوبة عن عباده رَحِيماً
[17] إِنَّمَا التَّوْبَةُ أي إنما يقبل الله التوبة عَلَى اللَّهِ أي القبول الذي جعله الله على نفسه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ أي متلبسين بجهالة، إذ ارتكاب الذنب جهل و سفاهة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي زمان قريب و هو قبل حضور الموت فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
[18] وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يتمادون في عمل المعاصي حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ بأن عاين أمر الآخرة فإنه لا توبة مع المعاينة قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا هيّأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما.
[19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً كان الرجل إذا مات قريبه ألقى ثوبه على زوجة الميت و قال أنا أحق بها فان شاء تزوجها بلا صداق و ان شاء زوّجها و أخذ صداقها، و المراد على كره منهن وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ أي لا تمسكوهن إضرارا بهن لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من المهر، فقد كان الرجل يبقي على زوجته بلا نفقة يريد بذلك جبرها على أن تفتدي بمهرها مقابل طلاقه لها إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي ظاهرة و هي الزنا فيحل للزوج أن يخلعها وَ عاشِرُوهُنَّ أي صاحبوهن بِالْمَعْرُوفِ لدى العقل و الشرع فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فلا تطلقوهن لمجرد الكراهة فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً و كثيرا ما يبقي الإنسان على الزوجة مع كراهته لها و في الإبقاء مصالح و خير كثير.
تبيين القرآن، ص: 92
[20] وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ تطليق زوجة و نكاح زوجة أخرى مكانها وَ آتَيْتُمْ أعطيتم إِحْداهُنَّ إحدى الزوجات قِنْطاراً مالا كثيرا بعنوان المهر فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ من مهرها شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ استفهام إنكار و توبيخ بُهْتاناً فقد كان الرجل إذا أراد تزويج امرأة أخرى بهت زوجته بالفاحشة ليجبرها بالافتداء فيأخذ المال ليصرفه مهرا لجديدة وَ إِثْماً أي معصية مُبِيناً ظاهرا.
[21] وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ أي تأخذون المهر من الزوجة بالبهتان وَ قَدْ أَفْضى الإفضاء إلى الشي ء هو الوصول إليه بالملامسة و هذا كناية عن الجماع بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ أي أفضى الرجل إلى زوجته وَ الحال أن الزوجات أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً و الميثاق الشديد هو العقد الذي مقتضاه إعطاء المهر كاملا و الإمساك بالمعروف و التسريح بالإحسان.
[22] وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ فانه تحرم زوجة الأب و الجد على الولد و الحفيد إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فإنكم معاقبون على نكاحهن إلا ما سبق على إسلامكم فان الإسلام يجب ما قبله إِنَّهُ نكاح زوجات الآباء كانَ فاحِشَةً زنا بالمحارم وَ مَقْتاً أي موجبا لمقت الله و غضبه وَ ساءَ سَبِيلًا من عمل بذلك فقد ساء طريقه.
[23] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ زواج أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ أي المرضعة وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ بأن رضعتم و إياها من امرأة واحدة وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أم الزوجة وَ رَبائِبُكُمُ أي بنات زوجاتكم التي من غيركم اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ في ضمانكم و تربيتكم، و هذا وصف غالبي و إلا فليس بشرط مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ بأن جامعتموهن، فان الجماع بالزوجة يحرم بنتها عليه أبدا فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ بأن لم تجامعوهن فَلا جُناحَ لا حرج عَلَيْكُمْ في تزويج هذه البنت بعد طلاق الأم وَ تحرم حَلائِلُ جمع حليلة أَبْنائِكُمُ أي زوجات أولادكم الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أي الولد الصلبي، لا الولد المتبنّي، فان زوجته لا تحرم على الرجل، لأنه ليس ابنا حقيقة وَ حرم عليكم أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أما بعد طلاق إحداهما فيجوز الأخرى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فإنكم معاقبون على نكاح هؤلاء النساء إلا ما سبق على إسلامكم، لأن الإسلام يجب ما قبله إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
ين القرآن، ص: 93
[24] وَ تحرم الْمُحْصَناتُ أي ذوات الأزواج و اللاتي في العدة مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من سبايا دار الكفر، إذ السبي يقطع صلة الزوجة بزوجها الكافر السابق، فتحلّ نكاح المسيبة، و ذلك مقابلة بالمثل لما يفعله الكفار بالمسلمين كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب الله ذلك الحكم عليكم كتابا وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ أي سوى المحرمات المذكورة ذلِكُمْ (ذا) إشارة (كم) خطاب أَنْ تَبْتَغُوا أي أن تطلبوا، و هذا بدل اشتمال من (ما) بِأَمْوالِكُمْ بجعلها مهرا للنساء المحللات مُحْصِنِينَ أي في حال كونكم أعفاء بأن تعطوا
المال مهرا لنكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ أي غير زناة، من السفاح و هو إراقة المني حراما، بان لا تعطوا المال أجرة للزنا فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ أي فالمرأة التي تمتعتم بها مِنْهُنَّ بيان (ما) فَآتُوهُنَّ أي أعطوهن أُجُورَهُنَّ أي مهورهن، و هذه الآية تشمل نكاح الدائم و المنقطع فَرِيضَةً أي إن إعطاء مهورهن مفروض واجب وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا حرج فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ الضمير عائد إلى (ما) مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ بان تزيدوا في المهر أو تنقصوا برضا الطرفين إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
[25] وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أيها الرجال مِنْكُمْ طَوْلًا أي غنى، فلم يجد غنىّ و مالا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ أي العفيفات الْمُؤْمِناتِ الحرائر فأنكحوا من ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ جمع يمين، و إنما نسب الملك إلى اليمين لان اليد تحصّل المال الذي يشترى به العبيد مِنْ فَتَياتِكُمُ جمع فتاة الْمُؤْمِناتِ أي من الإماء وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فلا تستنكفوا عن نكاح الأمة، فإن الإيمان هو الميزان و لعل إيمانها أفضل من إيمان الحرة أو من إيمان الزوج بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فإن البشر جنس واحد و كله من آدم عليه السّلام، و إنما اختلف حكم الحر و العبد و الذكر و الأنثى في بعض الموارد لمصالح خاصة فَانْكِحُوهُنَّ أي الفتيات بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ فإن نكاح الأمة إنما يجوز بإجازة مواليها وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن بِالْمَعْرُوفِ بلا مطل أو ضرار، في حال كون تلك الفتيات اللاتي تريدون تزويجهن مُحْصَناتٍ أعفّاء غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي غير زناة معلنات وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ جمع خدن بمعنى الصديق أي لا يكون للفتاة صديق يزني بها فَإِذا أُحْصِنَّ بالأزواج، بأن تزوجت الفتاة فَإِنْ أَتَيْنَ تلك الإماء بِفاحِشَةٍ أي الزنا فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ الحرائر مِنَ الْعَذابِ أي حدّ الزنا فحدهن خمسون جلدة ذلِكَ أي نكاح الإماء لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ أي الجهد و المشقة مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا فلا تتزوجوا بالأمة خَيْرٌ لَكُمْ لما قد يلحق الولد من العار عند بعض الناس وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[26] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ الحلال من الحرام وَ يَهْدِيَكُمْ يرشدكم سُنَنَ أي طرائق الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من أهل الحق لتقتدوا بهم وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ بأن يقبل توبتكم عما أسلفتم من المعاصي وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 94
[27] وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرّر لأن يبنى عليه قوله: وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ و هم أهل المعاصي الذين لا يهمهم الحلال من الحرام أَنْ تَمِيلُوا إلى المحرمات مَيْلًا عَظِيماً فإن نكاح المحرمات من أعظم الآثام.
[28] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ و لذا شرّع الأحكام السهلة في باب النكاح و غيره وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً لا يتحمل الأحكام الشاقة.
[29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بغير الوجه المحلّل إِلَّا أَنْ تَكُونَ الأكلة تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بان يقتل بعضكم بعضا، فإن المال و الدم محترمان عند الإسلام إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً.
[30] وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الأكل بالباطل أو القتل عُدْواناً لا بوجه مشروع وَ ظُلْماً تأكيد فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ندخله ناراً وَ كانَ ذلِكَ الإدخال في النار عَلَى اللَّهِ يَسِيراً سهلا.
[31] إِنْ تَجْتَنِبُوا أي تتركوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ المعاصي الكبيرة نُكَفِّرْ أي نغفر عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ معاصيكم وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا اسم مكان، أي مكانا كَرِيماً يكرم الإنسان فيه.
[32] وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فلا يقول الإنسان ليت لي مال زيد أو جاه عمرو لِلرِّجالِ نَصِيبٌ و حظ مِمَّا اكْتَسَبُوا من كسبهم وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ فلكل من الرجل و المرأة نصيبه بواسطة العمل فاعملوا أنتم حتى تبلغوا ما تريدون و لا تتمنوا اعتباطا كما هو حال الكسالى وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أن يعطيكم كما أعطى المحظوظين إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيعلم المصالح، و لذا يفضّل بعضا على بعض.
[33] وَ لِكُلٍّ أي كل من الرجل و المرأة جَعَلْنا مَوالِيَ هم أولى بالإرث- و هذا بيان أن الفضل بالإضافة إلى الكسب و التقدير، يكون بالإرث يرثون مِمَّا تَرَكَ من الأموال الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ مما ترك الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ جمع يمين بمعنى القسم و المراد بهم الحلفاء الذين يعاهدهم الإنسان و هم ضامنو الجرائر فإنهم يرثون إذا لم يكن وارث نسبي فَآتُوهُمْ أي أعطوا كل قريب و ضامن نَصِيبَهُمْ من الإرث إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً فلا تبخسوا إرث أحد فإنه سبحانه يشهد ذلك و يعاقبكم عليه.
تبيين القرآن، ص: 95
[34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ قيّمون مسلطون عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ أي بسبب تفضيل الله الرجال على النساء بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في العقل و الجسم و ما أشبه وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أي و بسب إنفاق الرجال على النساء المهر و النفقة و ما أشبه فَالصَّالِحاتُ من النساء قانِتاتٌ خاضعات لله تعالى في ما أمر و نهى و لا يعترضن عليه بأنه لم لم يجعلهن كالرجال حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي حال غيبة الأزواج يحفظن نفسهن و مالهن بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بحفظ الله فإنه لو لا حفظ الله لا يتمكن الإنسان من حفظ نفسه وَ النساء اللَّاتِي جمع التي تَخافُونَ أيها الأزواج نُشُوزَهُنَّ ترفعهن عن الطاعة للأزواج في المباشرة و الخروج عن البيت، فإنهما حقان للرجل على الزوجة فَعِظُوهُنَّ أي وعظا بالكلام وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ جمع مضجع، و الهجر يتحقق بعدم الوقاع و بعدم الإقبال عليهن وقت المنام، و بعدم المنام معهن وَ اضْرِبُوهُنَّ فإن ضربا خفيفا تأديبيا بشروطه «1» يبقي كيان الأسرة خير من انهدامها بسبب عواطف طائشة، و يجب أن
يكون الضرب غير مبرح و لا مدم حتى قال البعض انه بالسواك فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا أي لا تطلبوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي سبيلا في إيذائهن لأنهن رجعن إلى الطاعة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا فهو فوقكم، و أنتم أرفع درجة من المرأة، فلا تجاوزوا الحدّ بالنسبة إليهن كَبِيراً.
[35] وَ إِنْ خِفْتُمْ أيها الحكام و المسلمون شِقاقَ بَيْنِهِما أي مخالفة بين الزوجين فَابْعَثُوا أرسلوا أيها الحكام حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها مصلحا من كل جانب من الجانبين لينظرا في أمرهما و ينصحانهما إِنْ يُرِيدا أي الزوجان إِصْلاحاً بان كانت نيتهما طيبة يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما فإن التوفيق لا يأتي إلا نتيجة لمقدمات طبيعية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً يعرف السرائر.
[36] وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً لا تجعلوا شيئا شريكا مع الله وَ أحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى أقربائكم وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى أي الجار الذي هو قريب بالنسب وَ الْجارِ الْجُنُبِ أي الجار البعيد بالنسب وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ أي الذي يصحب الإنسان و هو في جنبه كالرفيق في السفر و الشريك و ما أشبه وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هو المنقطع في طريقه و قد تمت نفقته وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي العبيد، فاللازم الإحسان إلى كل هؤلاء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا متكبرا يأنف عن أقاربه و جيرانه و أصحابه فَخُوراً يفتخر عليهم.
[37] الَّذِينَ صفة (مختالا) يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من المال و العلم و غيرهما وَ أَعْتَدْنا هيّأنا لِلْكافِرِينَ بأحكام الله عَذاباً مُهِيناً أي يهينهم و يذلهم.
__________________________________________________
(1) أي بالشروط المذكورة في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
تبيين القرآن، ص: 96
[38] وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ أي لأجل الرياء وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فإنه لو كان مؤمنا لم ينفق رياء وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فينهاه عن الإحسان أو يفعل الخير مرائيا، كأن الشيطان مقترن معه آخذ بزمامه فَساءَ قَرِيناً أي ان الشيطان قرين سيئ.
[39] وَ ما ذا عَلَيْهِمْ أيّ ضرر على هؤلاء لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً وعد لفاعل الخير و وعيد لفاعل الشر.
[40] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي بقدر ثقل هباءة يراها الإنسان في الضياء الداخل من كوة في الغرفة المظلمة وَ إِنْ تَكُ تلك الذرة حَسَنَةً يُضاعِفْها ليردها على فاعلها وَ يُؤْتِ يعط مِنْ لَدُنْهُ من عنده أَجْراً عَظِيماً.
[41] فَكَيْفَ حال هؤلاء الكفرة إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ من يشهد على الأمم بأعمالها، و الشهداء هناك يشهدون على الأمم وَ جِئْنا بِكَ يا محمد عَلى هؤُلاءِ القوم شَهِيداً لتشهد على أعمالهم و الاستفهام للتهديد.
[42] يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة يَوَدُّ أي يحب و يتمنّى الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يموتوا فيدفنوا كما تسوّى بالموتى وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً أي لا يقدرون على أن يكتموا شيئا من الله بل يحدثونه بكل حديث مربوط بهم.
[43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى أي لا تصلوا في حال كونكم سكارى من الشراب حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أي تشعروا بان لا تكونوا في حال السكر وَ لا تصلوا جُنُباً بالإنزال أو الدخول إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي في حال السفر، فإنه تصح صلاة الجنب في السفر بالتيمم إذا لم يجد الماء حَتَّى تَغْتَسِلُوا غسل الجنابة وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى جمع مريض أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ هو المكان المنخفض من الأرض الذي يقصد للحدث، و هذا كناية عن كون الإنسان محدثا بالحدث الأصغر أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي جامعتموهن فَلَمْ تَجِدُوا ماءً أي لم تتمكنوا من استعماله لأنه مفقود أو لأنكم لا تقدرون كالمريض فَتَيَمَّمُوا أي اقصدوا صَعِيداً أي أرضا طَيِّباً ليس بنجس فَامْسَحُوا بيديكم المضروبتين على ذلك الصعيد بِوُجُوهِكُمْ أي بعض وجوهكم وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً و لذا يسّر لكم الحكم.
[44] أَ لَمْ تَرَ يا أيها المرائي، و الاستفهام للتعجب إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا أعطوا نَصِيباً حظا و قسما مِنَ الْكِتابِ التوراة، و هم أحبار اليهود يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يبيعون الهدى و يأخذون بدلها الضلالة وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أنتم أيها المسلمون السَّبِيلَ سبيل الحق.
تبيين القرآن، ص: 97
[45] وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ فهو يعلم أن هؤلاء اليهود أعداء لكم وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أمركم فلا يضركم كيد اليهود وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً ينصركم على أعدائكم.
[46] مِنَ الَّذِينَ بيان (للذين أوتوا) هادُوا أي اليهود يُحَرِّفُونَ يبدلون الْكَلِمَ جمع كلمة، و المراد بها كلام التوراة عَنْ مَواضِعِهِ التي وضعه الله فيها فيبدلون كلمة الله بكلام أنفسهم وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا قولك وَ عَصَيْنا أمرك وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أي اسمع لا سمعت، و هذا دعاء منهم على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لخبثهم وَ يقولون راعِنا يريدون به السبّ، لأن معناه اسمع لا سمعت لَيًّا أي التواء بِأَلْسِنَتِهِمْ فإنهم يقولون لفظا له معنيان، و يريدون به المعنى السيئ وَ طَعْناً أي عيبا فِي الدِّينِ أي الإسلام وَ لَوْ أَنَّهُمْ بدل ما تقدم قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا أوامرك وَ قالوا اسْمَعْ وَ قالوا انْظُرْنا عوض: راعنا لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ في دنياهم و أخراهم وَ أَقْوَمَ أقرب إلى العدل وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن الخير بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم.
[47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا أي القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ فإن القرآن يصدّق التوراة و الإنجيل مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً بان نمحو معالم الوجه من العين و ما أشبه فَنَرُدَّها أي تلك الوجوه عَلى أَدْبارِها بان يوضع الوجه مكان القفا و القفا مكان الوجه أَوْ نَلْعَنَهُمْ أي نمسخهم كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ الذين كانوا يصطادون في السبت بعد تحريم ذلك عليهم فمسخناهم قردة وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ الذي يريده مَفْعُولًا أي يفعل و ينطبق في الخارج.
[48] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إذا مات مشركا وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ دون الشرك لِمَنْ يَشاءُ من عباده تفضلا وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً فإنه ذنب عظيم، و افتراء، لأنه تعالى لا شريك له.
[49] أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فإن أهل الكتاب كانوا يقولون نحن أحباء الله، و معناه انهم طاهرون عن الآثام بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ فإنه أعلم بالسرائر و لذا تكون تزكيته مطابقة للواقع، أو المراد ان الله يطهر من يشاء من الذنوب وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا هو ما في شق النواة من الخيط أي لا يظلم الله الإنسان بمقدار هذا الخيط.
[50] انْظُرْ يا رسول الله كَيْفَ يَفْتَرُونَ أي أهل الكتاب عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في تحريفهم التوراة وَ كَفى بِهِ أي يكفي هذا الافتراء إِثْماً أي عصيانا مُبِيناً واضحا.
[51] أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً أي قسما مِنَ الْكِتابِ أي التوراة، و هم اليهود حيث أوتوا قسما منه لان السابقين منهم حرفوا و ضيعوا قسما منه يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ كل صنم وَ الطَّاغُوتِ كل طاغ يعبد دون الله، و ذلك حين قال أهل الكتاب للمشركين دينكم خير من دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ أي في الذين كَفَرُوا من المشركين هؤُلاءِ أَهْدى أرشد طريقا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا.
تبيين القرآن، ص: 98
[52] أُولئِكَ أهل الكتاب الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بعّدهم عن رحمته وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ينصرهم من بأس الله.
[53] أَمْ لَهُمْ لليهود نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ و السلطة، و هذا مقدمة لقوله: فَإِذاً في ما إذا كانت لهم سلطة لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً و هي النقرة في ظهر النواة، أي إنهم لبخلهم لا يعطون الناس بمقدار النقير، إذا كان لهم الملك، فكيف بهم إذا لم يكن لهم، فهم كذّابون، مؤمنون بالجبت و الطاغوت بخلاء و حسّاد كما قال:
[54] أَمْ يَحْسُدُونَ أي بل يحسدون النَّاسَ كالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من النبوة، فما وجه حسدهم، و بيت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيت النبوة و ليست مستغربة فيه فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ إبراهيم عليه السّلام و آله الْكِتابَ الكتب السماوية وَ الْحِكْمَةَ علم الشريعة وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً سلطة على الناس دينية و دنيوية.
[55] فَمِنْهُمْ أي من أهل الكتاب مَنْ آمَنَ بِهِ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي أعرض عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و منع الناس عن اتباعه وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي كفى جهنم لهؤلاء اليهود، و السعير النار المشتعلة.
[56] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً أي نوصلهم و نلقيهم فيها كُلَّما نَضِجَتْ احترقت جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي رددناها على حالتها السابقة لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ليدوم لهم ذوق العذاب إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه شي ء حَكِيماً.
[57] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أبنيتها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ عن الأقذار و الرذائل وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا دائما لا تسخنه الشمس، باردا لا حر فيه.
[58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا أي تردوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ لا بالجور إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا أي نعم ما يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً لأقوالكم بَصِيراً بما تفعلون فيجازيكم عليه.
[59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ أي الذين بيدهم السلطة و هم الأئمة عليهم السّلام و من استنابوهم فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ من أمور دينكم فَرُدُّوهُ فراجعوا فيه إِلَى كتاب اللَّهَ وَ سنة الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإن من لا يراجع الله و الرسول لا إيمان له ذلِكَ العمل بما ذكرنا خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا فإن أول ذلك و مرجعه أحسن من المخالفة.
تبيين القرآن، ص: 99
[60] أَ لَمْ تَرَ أي ألم تنظر، استفهام تعجب إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا و هم المنافقون الذين يقولون آمنا، و لكنهم لا يرضون بحكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ كالتوراة و الإنجيل يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ كل طاغ تعد الحدود، و المراد حكام الجور وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أي بالطاغوت في قوله تعالى (فمن يكفر بالطاغوت) وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ بما زيّن لهم من التحاكم إلى الباطل أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق.
[61] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي للمنافقين تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ إلى حكم الله في القرآن وَ إِلَى الرَّسُولِ في سنته رَأَيْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ يعرضون و يمنعون الناس عَنْكَ صُدُوداً إعراضا.
[62] فَكَيْفَ حالهم إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ عقوبة من الله بِما أي بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من التحاكم إلى الطاغوت ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا ما أردنا بالرجوع إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً تخفيفا عنك وَ تَوْفِيقاً أي تأليفا بين الخصمين بحلّ وسط، فإنهم لو كانوا تحاكموا إليك لأمكن إنقاذهم من مصيبتهم.
[63] لكن كيف يرجعون إليك و أُولئِكَ المنافقون الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي اتركهم وَ عِظْهُمْ بلسانك وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ في شأنهم قَوْلًا بَلِيغاً يبلغ الحق.
[64] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ ليطيعه الناس، فلما ذا لا يطيعه المنافقون و يرجعون إلى غيره بِإِذْنِ اللَّهِ بأمره وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ طلب من الله أن يغفر لهم لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً يتوب عليهم، و معنى (وجدوا) ان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل توبتهم رَحِيماً.
[65] فَلا نفي لزعمهم الإيمان وَ رَبِّكَ أي قسما بربك لا يُؤْمِنُونَ إيمانا صحيحا حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حكما فِيما شَجَرَ اختلف، فالشجار الخصومة بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً و ضيقا مِمَّا قَضَيْتَ و حكمت به وَ يُسَلِّمُوا ينقادوا لأمرك تَسْلِيماً.
تبيين القرآن، ص: 100
[66] وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا أنفسكم مِنْ دِيارِكُمْ بلادكم ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ المخلصون جدا وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التحاكم إليه لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً لإيمانهم و المعنى إنا كلفناهم بشي ء سهل يترتب عليه فائدة أحسن.
[67] وَ إِذاً أي إذا امتثلوا أمرنا لَآتَيْناهُمْ أعطيناهم مِنْ لَدُنَّا عندنا أَجْراً عَظِيماً.
[68] وَ لَهَدَيْناهُمْ في أمورهم المستقبلة صِراطاً مُسْتَقِيماً.
[69] وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يكون معهم و يحشر في زمرتهم مِنَ النَّبِيِّينَ بيان (الذين) وَ الصِّدِّيقِينَ المداوم على التصديق وَ الشُّهَداءِ الذي قتلوا في سبيل الله وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فهم رفقاء للمطيع، أي حسنت رفقة أولئك الأنبياء و الشهداء.
[70] ذلِكَ الثواب للمطيع الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً فهو يعلم بالمطيع فيجزيه على عمله.
[71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي حذركم من الأعداء من اليقظة و السلاح فَانْفِرُوا اخرجوا إلى الحرب ثُباتٍ جمع (ثبة) بمعنى جماعات جماعات أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً كتلة واحدة.
[72] وَ إِنَّ مِنْكُمْ الداخل في جماعتكم أيها المؤمنون لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ و هم المنافقون الذين يتثاقلون عن الجهاد فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من القتل و الهزيمة قالَ المثبّط قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي لم أحضر معه حتى تشملني المصيبة.
[73] وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كالفتح و الغنيمة لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي محبة، و هذه جملة معترضة، بين القول و المقول يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ حتى أفوز بالغنيمة فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً من السمعة و الغنيمة، و هذا كلام من ليس في زمرة المسلمين، إذ من في زمرتهم لا يقول: يا ليتني كنت معهم، بل يكون معهم دائما، و قد قال تعالى: (كأن لم تكن ...).
[74] فَلْيُقاتِلْ أمر بالجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ بأن يبيعوا الدنيا لشراء الآخرة وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ على الكفار، سواء قتل منهم أم لا فَسَوْفَ في الآخرة نُؤْتِيهِ نعطيه أَجْراً عَظِيماً.
تبيين القرآن، ص: 101
[75] وَ ما لَكُمْ استفهام إنكار لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ في سبيل إنقاذ الْمُسْتَضْعَفِينَ من أيدي المستغلين مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ جمع ولد الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ مكة الظَّالِمِ أَهْلُها فإن أهل مكة كانوا مشركين ظالمين وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ من عندك وَلِيًّا يلي أمرنا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على الظالمين، أي قاتلوا في سبيل إنقاذ المسلمين المستضعفين من أهل مكة.
[76] الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لنصرة دينه وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ لأجل تقوية الطغيان فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أصدقاءه و هم الكفار إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ أي مكره و خداعه كانَ ضَعِيفاً فلا بد و ان تغلبوا عليهم.
[77] أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أي بعض المسلمين حيث كانوا في مكة يستأذنون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قتال الكفار فلا يأذن لهم، فلما أمرهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المدينة بالقتال، خافوا قِيلَ القائل هو النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ لا تبسطوها بالقتل وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فإن التكليف في مكة كان صلاة و زكاة فَلَمَّا كُتِبَ أمروا في المدينة عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ جماعة مِنْهُمْ أي من الذين كانوا يريدون القتال يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ فإنهم يخافون أن يقتلوا على أيدي الكفار كما يخافون أن يموتوا بأمر الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ اعتراض على حكم الله لَوْ لا هلّا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ مدة قَرِيبٍ و ذلك لاستزادة العمر و تبعيد المكروه حسب الإمكان قُلْ يا محمد لهم مَتاعُ أي ما يستمتع به الدُّنْيا قَلِيلٌ فما فائدة بقائكم وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى الكفر و العصيان وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا هو ما في شق النواة من الخيط الدقيق.
[78] أَيْنَما تَكُونُوا في أي مكان كنتم يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ حصون مُشَيَّدَةٍ قد شيدت و بنيت باستحكام، إذا فما فائدة فراركم من الجهاد، لحب البقاء فإنكم ميتون لا محالة وَ إِنْ تُصِبْهُمْ أي المنافقين حَسَنَةٌ نعمة يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ نعمة و بلاء يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي من جهتك يا محمد قُلْ يا رسول الله لهم كُلٌّ من الحسنة و السيئة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صادر من الله فإن الله خطّط و حكم بهذه
الأشياء، و إن كان للإنسان مدخل في الأمور الاختيارية منها أيضا فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ ما شأن هؤلاء المنافقين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً لا يقاربون فهم كلام صحيح، كما لا يفهمون كون الله هو المقدّر لكل من الحسنة و السيئة.
[79] ما أَصابَكَ أيها الإنسان مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ تفضلا، فلو لا فضله لم يعطك تلك النعمة وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لأنك السبب في تلك السيئة، و هذا لا ينافي الآية السابقة، إذ مقدّر السيئة هو الله و لكن بسبب الإنسان، فمثلا ان الإنسان إذا لم يتورع أكل الطعام الضار أصابه المرض بسبب نفسه و بإنزال الله المرض عليه وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا فإن شأنك الرسالة و لا ربط لك بما تصيبهم من السيئات وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً شاهدا على رسالتك.
تبيين القرآن، ص: 102
[80] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتكلم عن الله وَ مَنْ تَوَلَّى أعرض عن أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، التي منها أمره بالقتال فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظ أعمالهم، أي أنت لست مسؤولا عنهم.
[81] وَ يَقُولُونَ أي المنافقون، أمرك طاعَةٌ نطيعه فَإِذا بَرَزُوا خرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ أي دبّر ليلا طائِفَةٌ مِنْهُمْ و هم المنافقون غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ بان دبّروا مخالفتك وَ اللَّهُ يَكْتُبُ في صحائف سيئاتهم ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و لا تهتم بشأنهم في مخالفة أمرك بالقتال وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فوّض أمرك إلى الله وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظا.
[82] أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يفكرون فيه حتى يعلموا انه كلام الله وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً في مطالبه و بلاغته، إذ البشر لا يقدر على الاحتفاظ برأي و لا لهجة طيلة ثلاث و عشرين سنة.
[83] وَ إِذا جاءَهُمْ أي المنافقين أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أي أمر يوجب اطمئنان المسلمين و أمنهم، أو خوفهم من أعدائهم أَذاعُوا بِهِ أي أفشوه، و ذلك خلاف الصلاح إذ ربّ أمن لا بد و أن يكتم فإن في إفشائه سبب اشتغال المسلمين بأعمالهم فيغتنم العدو تشتتهم و يباغتهم، و رب خوف لا بد و ان يكتم فإن في إفشائه سبب انسحاب المسلمين عن الإقدام وَ لَوْ رَدُّوهُ أي ذكروا ذلك الأمر إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ أصحاب الأمر الذين عينهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرجعا لَعَلِمَهُ علما يبين انه مما ينبغي كتمانه أو إفشائه الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ أي يستخرجون انه من أي قسم، قسم الإفشاء أو قسم الكتمان مِنْهُمْ من أولي الأمر وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ يحفظكم عن الانحراف لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا منكم.
[84] فَقاتِلْ يا رسول الله، و لا يهمك إعراض المنافقين عن القتال فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ فإنك مكلف بالذهاب إلى القتال وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ حثّهم على القتال عَسَى اللَّهُ لعله أَنْ يَكُفَّ يمنع بَأْسَ أي شدة الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من الكفار وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا للكفار.
[85] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً كتحريضك الناس على القتال، أي يتوسط لفعل أمر حسن يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها أي من ثواب تلك الحسنة وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً أي لفعل أمر سيئ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها نصيب من وزرها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً مقتدرا و حافظا.
[86] وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ هي السلام أو مطلق البر فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها أي ردوا مثلها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً يحاسبكم على أعمالكم.
تبيين القرآن، ص: 103
[87] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي جمعا ينتهي للاجتماع في يوم المعاد لا رَيْبَ فِيهِ أي في الحشر وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً فكلامه بجمعكم كلام صادق.
[88] فَما لَكُمْ أيها المؤمنون فِي شأن الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ أي أصبحتم فرقتين فرقة تقول بأنهم معذورون في تركهم القتال و فرقة تقول بأنهم مقصّرون وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ردّهم بِما كَسَبُوا من ترك الحرب، فإنه تعالى أظهر كفرهم بذلك، فاللازم أن تقولوا كلكم بأنهم آثمون غير معذورين أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا أن تحكموا بهداية مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ بأن تركهم و شأنهم حتى ضلوا وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الخير.
[89] وَدُّوا تمنوا و أحبوا هؤلاء المنافقون لَوْ تَكْفُرُونَ أيها المؤمنون كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً في الكفر فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ لا تصادقوهم حَتَّى يُهاجِرُوا يخرجوا من دار الشرك فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الهجرة فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا خليلا وَ لا نَصِيراً فإنهم لا ينصرونكم، نزلت في جماعة أظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة نفاقا فاختلف المسلمون في إيمانهم و كفرهم.
[90] إِلَّا استثناء من (خذوهم) الَّذِينَ يَصِلُونَ بالمعاهدة إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ أي بين ذلك القوم مِيثاقٌ أي معاهدة، فإن انضمام هذا المنافق إلى المعاهد يوجب الكف عن قتاله أَوْ جاؤُكُمْ عطف على (يصلون) في حال كونهم قد حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت أنفسهم أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ فلا يريدون قتالكم و لا قتال قومهم الكفار و لذا تجنّبوا الانضمام معكم وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ بتقوية قلوب هؤلاء الذين انضموا إلى قبيلة معاهدة أو حصرت صدورهم لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ أيها المسلمون و لو فعل الله ذلك فَلَقاتَلُوكُمْ و لعل في هذه الجملة إشارة إلى قوة هؤلاء فينبغي اجتناب قتالهم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي تنحوا عنكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي سالموكم فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فلا يحق لكم قتالهم.
[91] سَتَجِدُونَ أيها المسلمون قوما آخَرِينَ من المنافقين يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ أي يأمنوا جانبكم و جانب قومهم الكفار كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ الشرك أُرْكِسُوا فِيها أي سقطوا فيها بأن كفروا، و هم قوم جاءوا إلى المدينة فأظهروا الإسلام، ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الكفر فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ أي لم يتنحوا عن محاربتكم وَ لم يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ الاستسلام وَ لم يَكُفُّوا يمنعوا أَيْدِيَهُمْ بأن صاروا بصدد محاربتكم فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم وَ أُولئِكُمْ أي أولئك المنافقون، و (كم) خطاب جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجة مُبِيناً واضحة، لقتلكم إياهم، لأنهم أظهروا عداوتهم.
تبيين القرآن، ص: 104
[92] وَ ما كانَ لا يجوز لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً أي قتل خطأ وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليه أن يعتق عبدا مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مقدار من المال مُسَلَّمَةٌ يسلمها إِلى أَهْلِهِ أهل المقتول إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا بأن يتصدق أولياء المقتول الدية على القاتل فَإِنْ كانَ القتيل مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ من الكفار وَ هُوَ مُؤْمِنٌ أي المقتول كان مؤمنا فعلى القاتل تحرير رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فقط و لا دية عليه لهم، إذ لا يرث الكافر من المؤمن وَ إِنْ كانَ القتيل مِنْ قَوْمٍ كفار بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ معاهدة عدم الاعتداء فعلى القاتل دية مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ لأن أهله الكفار في معاهدتكم وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة لان يعتقها كفارة فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ متواليين تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي شرّع ذلك لأن يتوب الله عليه توبة وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
[93] وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً مقابل قتل الخطأ فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها أي يبقى فيها أبدا، إذا لم تدركه الشفاعة وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ أبعده الله عن رحمته وَ أَعَدَّ هيّأ لَهُ عَذاباً عَظِيماً.
[94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ أي سافرتم فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأجل الجهاد فَتَبَيَّنُوا أي اطلبوا بيان الأمر، و لا تسرعوا في محاربة من لا تعلمون أنهم أسلموا أم لا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ حيّاكم بتحية الإسلام لَسْتَ مُؤْمِناً فإن أحد الكفار أظهر الإسلام و كان له غنم فقتله أحد المسلمين بزعم أنه لم يسلم و أخذ أغنامه تَبْتَغُونَ أي تطلبون بقولكم (لست مؤمنا) عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا هو ما في الدنيا من الثروة إذ لا ثبات له فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ جمع مغنم، تغنيكم عن عرض الحياة الدنيا، فاطلبوها و لا تطلبوا عرض الحياة الدنيا كَثِيرَةٌ كَذلِكَ أي مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فإن إسلامكم كان مجرد السلام و الشهادتين فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بتقوية الإسلام في قلوبكم فَتَبَيَّنُوا تأملوا في حكمكم بالإسلام و عدم الإسلام إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
تبيين القرآن، ص: 105
[95] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الجهاد مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ أما من له ضرر كالعمى و الزمانة، فليس مكلف بالجهاد، حتى يؤنّب بتركه وَ الْمُجاهِدُونَ عطف على (القاعدون) فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً أي درجة كبيرة وَ كُلًّا أي كل واحد من المجاهد و القاعد، الذي لم يكن قعوده مخالفة وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي الصفة الحسنة، لأن كل واحد منهما مسلم قد عمل بشرائط الإسلام وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً.
[96] دَرَجاتٍ بدل (أجرا) مِنْهُ أي من الله وَ مَغْفِرَةً أي غفرانا لذنوبهم وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
[97] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ أي أماتهم الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي في حال كونهم ظلموا أنفسهم بترك أوامر الله، و ترك الهجرة قالُوا أي الملائكة لهم فِيمَ أي في ماذا من أمر دينكم كُنْتُمْ و هذا استفهام توبيخ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ عاجزين عن إقامة الدين فِي الْأَرْضِ قالُوا أي الملائكة لهم أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها بأن تخرجوا إلى أرض أخرى تتمكنوا من إقامة الدين فيها كما فعل المهاجرون إلى الحبشة و الى المدينة المنورة فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ مرجعهم جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً أي محلا و منزلا.
[98] إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ حقيقة مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ العبيد أو الأولاد الذين بلغوا الرشد، لكن يطلق عليهم الولد لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي لا يجدون أسباب الهجرة وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أي لا يعرفون طريقا.
[99] فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ لعل أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ لأنهم قاصرون، و في هذا دلالة على أن قصورهم مشوب بالتقصير أيضا وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً.
[100] وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأن يترك وطنه إلى محل آخر يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً متحولا، أي محل التحول و التقلّب، و أصله من الرغام بمعنى التراب كَثِيراً وَ سَعَةً توسعة في الحركة و الرزق وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ يقصد إقامة أحكام الله وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ في الطريق فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ ثواب عمله عَلَى اللَّهِ أي لا يذهب تعبه باطلا وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
[101] وَ إِذا ضَرَبْتُمْ أي سافرتم فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ بأن تصلوا الظهر و العصر و العشاء ركعتين فقط إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يصيبوكم بفتنة في الدين أو في المال، و هذا شرط باعتبار الغالب في ذلك الوقت، و لذا ليس له مفهوم، مثل (و ربائبكم اللاتي في حجوركم) «1»، بل القصر مشروع في كل سفر إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً أي ظاهرا.
__________________________________________________
(1) سورة النساء: 23.
تبيين القرآن، ص: 106
[102] وَ إِذا كُنْتَ يا رسول الله فِيهِمْ في أصحابك الخائفين الضاربين في الأرض فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فأردت إقامة صلاة الجماعة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ جماعة من أصحابك مَعَكَ في الجماعة وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ في حال الصلاة فَإِذا سَجَدُوا سجدة الركعة الأولى معك فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أي وراء الجماعة الثانية الذين يأتون لإقامة الصلاة معك، في الركعة الثانية وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا الركعة الأولى فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ يقظتهم في أن لا يباغتهم العدو وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ تمنّى و أحب الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ بان يجدوا منكم غرة في حال الصلاة فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ يحملون و يهجمون، و لذا أمرتم بهذه الكيفية من الصلاة، لتكون جماعة منكم دائما في حالة حرب مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ لا حرج عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً أذية مِنْ مَطَرٍ بيان (أذى) أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ بأن لا تحملوها حال الصلاة لثقل السلاح و ثقل اللباس حال المطر، و ضعف المريض عن حمل السلاح وَ لكن خُذُوا حِذْرَكُمْ و يقظتكم حال الصلاة إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يهينهم و يذلهم.
[103] فَإِذا قَضَيْتُمُ أديتم الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتسبيح و سائر أنواع الذكر قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ أي في حال القيام و القعود و الاضطجاع فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ بأن زال الخوف من الكفار فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ كاملة بدون قصر إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً أي مكتوبا مفروضا مَوْقُوتاً محدد الوقت.
[104] وَ لا تَهِنُوا لا تضعفوا أيها المسلمون فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ في طلب الكفار لأجل قتالهم إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ يصيبكم الألم بسبب الجروح فَإِنَّهُمْ أي الكفار يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أنتم وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ثواب الله و نصره ما لا يَرْجُونَ أولئك الكفار وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً فهو حين يأمركم بالجهاد فإنما هو لمصلحتكم.
[105] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ القرآن بِالْحَقِّ لا بالباطل لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ بما أعلمك الله في كتابه وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ أي لأجلهم و للدفاع عنهم خَصِيماً بأن تدافع عن الخائن و تكون على البري ء لأجله.
تبيين القرآن، ص: 107
[106] وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ اطلب غفرانه، فإن (أبا طعمة) سرق شيئا فأتى قومه يبرئونه و يطلبون من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكون بجانبهم فنزلت الآيات إرشادا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
[107] وَ لا تُجادِلْ
يا رسول الله عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ
أي يخونون أَنْفُسَهُمْ
فإن كل معصية خيانة للنفس، ك (أبي طعمة)، بأن تكون في جانبه و تدافع عنه إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
مصرا على الخيانة أَثِيماً
عاصيا.
[108] يَسْتَخْفُونَ
أي يكتمون جرمهم، كما كتم (أبو طعمة) و قومه سرقته مِنَ النَّاسِ
حياء أو خوفا وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
إذ لو كتموا عن الله لزم أن لا يعصوا وَ هُوَ مَعَهُمْ
و الحال أن الله معهم بالاطلاع إِذْ يُبَيِّتُونَ
يدبرون بالليل ما لا يَرْضى
الله مِنَ الْقَوْلِ
فإن (أبا طعمة) و قومه دبروا الحلف الكاذب و اتهام البري ء و شهادة الزور، لأجل إبراء (أبي طعمة) السارق وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
إحاطة علم و قدرة.
[109] ها
للتنبيه أَنْتُمْ
يا قوم أبي طعمة هؤُلاءِ
هم الذين جادَلْتُمْ
خاصمتم عَنْهُمْ
دفاعا عن الخائنين فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
أي الحياة القريبة فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
استفهام للنفي، أي فلا أحد يدافع عن الخائنين أمام الله أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
ليدافع عنهم و يحفظهم من عذاب الله.
[110] وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
عصيانا يتعداه إلى غيره كالسرقة أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بعصيان لا يتعدى إلى غيره كترك الصلاة ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يطلب غفرانه يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[111] وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
بأن يعمل المعصية فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
لان ضرر ذلك العصيان يرجع إلى نفسه وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً
بعمله حَكِيماً
في عقابه.
[112] وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
صغيرة أَوْ إِثْماً
كبيرة ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
أي ينسب ذلك الإثم بَرِيئاً
كما نسب أبو طعمة السرقة إلى شخص بري ء فَقَدِ احْتَمَلَ
تحمّل بُهْتاناً
كذبا وَ إِثْماً مُبِيناً
أي ظاهرا فعليه عقابان.
[113] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
يا رسول الله وَ رَحْمَتُهُ
بإرشادك إلى سرقة (أبي طعمة) و براءة ذلك الرجل لَهَمَّتْ
أي قصدت طائِفَةٌ مِنْهُمْ
و هم قوم أبي طعمة أَنْ يُضِلُّوكَ
عن الحكم بالحق في باب السارق وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لان وبال ما هموا به يرجع إلى أنفسهم وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ
بسبب كيدهم وَ
كيف تضل و الحال أنه أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من العلم بأحوال الناس وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
تبيين القرآن، ص: 108
[114] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي تناجيهم، كما كان يناجي قوم (أبي طعمة) بعضهم من بعض لأجل تبرئة السارق إِلَّا نجوى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ كأعمال البر أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ النجوى لأجل الخير ابْتِغاءَ مَرْضاتِ أي يطلب رضا اللَّهِ فَسَوْفَ في الآخرة نُؤْتِيهِ نعطيه أَجْراً عَظِيماً.
[115] وَ مَنْ يُشاقِقِ يخالف الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ظهر لَهُ الْهُدى بأن خالف حكم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فإن سبيل المؤمنين الأخذ بأقوال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نخلي بينه و بين ما أراده من الضلال وَ نُصْلِهِ نذيقه جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ جهنم مَصِيراً له.
[116] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إذا مات المشرك على شركه وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ما سوى الشرك من المعاصي لِمَنْ يَشاءُ ممن اقتضت المصلحة غفرانه وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ و تاه عن طريق الحق ضَلالًا بَعِيداً ابتعد بعدا كبيرا عن الطريق.
[117] إِنْ بمعنى (ما) يَدْعُونَ هؤلاء المشركون مِنْ دُونِهِ دون الله إِلَّا إِناثاً أصناما مؤنثة كاللات و المناة و العزى وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً لأنه أمرهم بعبادة الأصنام مَرِيداً عاتيا خارجا عن الطاعة.
[118] لَعَنَهُ اللَّهُ جملة إنشائية، أي اللهم العن الشيطان وَ قالَ الشيطان لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً أي قسما مَفْرُوضاً أي مقطوعا لنفسي بمعنى إضلالهم عن الطريق.
[119] وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ بالأماني الباطلة الموجبة لاتباع الهوى وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ يقطعن آذانَ الْأَنْعامِ فإنهم كانوا يقطعون آذان بعض الأنعام علامة لتحريمها، و الحال أنها كانت محلّلة في الشريعة وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ بالمثلة و نحوها وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا يتولاه في إطاعة أمره مِنْ دُونِ اللَّهِ بإيثار طاعة على طاعة الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً ظاهرا حيث خسر نفسه.
[120] يَعِدُهُمْ الشيطان بالوعود الكاذبة وَ يُمَنِّيهِمْ بالأماني الباطلة وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي إيهام النفع و الحال انه لا نفع فيه بل ضرر و خسران.
[121] أُولئِكَ الذين اتخذوا الشيطان وليا مَأْواهُمْ محلهم جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها عن جهنم مَحِيصاً أي مخلصا و مهربا.
تبيين القرآن، ص: 109
[122] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ أي وعد الله ذلك وعدا حَقًّا أي ليس وعدا باطلا و كذبا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي قولا، و هذا استفهام إنكار.
[123] لَيْسَ تقدم الدنيا و ثواب الآخرة يحصل بِأَمانِيِّكُمْ أيها المسلمون، و الأماني جمع أمنية وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ اليهود و النصارى، بل مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً عملا سيئا يُجْزَ بِهِ أي بذلك العمل، كما أن من عمل حسنا يجز به وَ لا يَجِدْ لَهُ أي لعامل السوء مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يلي شأنه حسب ما يحب وَ لا نَصِيراً ينصره.
[124] وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي من هذا الجنس مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ أي في حال كونه مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً النقرة التي في ظهر النواة.
[125] وَ مَنْ أَحْسَنُ استفهام للتقرير دِيناً أي طريقة مِمَّنْ أَسْلَمَ بأن استسلم إلى الله في كل أوامره وَجْهَهُ أي ذاته لِلَّهِ وَ الحال هُوَ مُحْسِنٌ في أعماله وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ أي طريقة إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي في حال كون إبراهيم عليه السّلام مائلا عن الباطل إلى الحق وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا يحبه كما يحب الخليل خليله، فهل هناك طريقة أحسن من طريقته.
[126] وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً إحاطة علم و قدرة.
[127] وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يسألونك يا رسول الله عن الفتوى في باب أحكام النساء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين حكمهنّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ عطف على (يفتيكم) أي أن أحكام النساء تبين هاهنا، و في ما تقدم من القرآن في أول سورة النساء، و (يتلى) بمعنى الماضي فِي يَتامَى النِّساءِ ظرف ل (يتلى) و المراد اليتيمات اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ لا تعطونهن ما كُتِبَ لَهُنَّ من الميراث وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فقد كان الرجل يضم اليتيمة إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوجها و أكل إرثها و إلّا عضلها ليرثها و يأكل حقوقها وَ في الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ أي الأيتام فإنهم كانوا لا يورثونهم، كما لا يورثون النساء وَ يفتيكم في أَنْ تَقُومُوا من القيام بالأمر لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي بالعدل في أنفسهم و أموالهم وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ بيان (ما) فلا يضيع خيركم بالنسبة إلى الأيتام فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً.
تبيين القرآن، ص: 110
[128] وَ إِنِ امْرَأَةٌ هذا من جملة الأحكام التي يفتيكم بها الله، كما سيأتي فتواه تعالى بالنسبة إلى الإرث في آخر السورة خافَتْ مِنْ بَعْلِها زوجها نُشُوزاً ترفعا عنها بمنع حقوقها أَوْ إِعْراضاً بأن يتركها أصلا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوجين أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما بأن تهب بعض حقوقها للإصلاح صُلْحاً بأي نوع كان من الصلح وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ لأنه يوجب بقاء الأسرة وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ البخل، أي جعلت الأنفس مجبولة على البخل، فالبخل حاضر عندها لا يفارقها، فلا الرجل يسمح بإرضاء المرأة بالمال، و لا المرأة تسمح ببعض مهرها لبقاء بيتها عامرة بالزوج وَ إِنْ تُحْسِنُوا بالمعاشرة بالمعروف وَ تَتَّقُوا عن المحرمات فَإِنَّ اللَّهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم بأعمالكم.
[129] وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أيها الرجال أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ بين زوجاتكم المتعددة عدلا بقول مطلق من حيث الميل القلبي و من سائر اللوازم الجسدية وَ لَوْ حَرَصْتُمْ لان رغبات الإنسان ليست تحت اختياره، إذا فالمأمور به من العدل هو ما تحت اختياركم فَلا تَمِيلُوا إلى إحداهنّ كُلَّ الْمَيْلِ بأن تتركوا بالنسبة إلى الأخرى حتى ما تقدرون عليه من العدل فَتَذَرُوها أي تدعون من لا رغبة قلبية لكم إليها كَالْمُعَلَّقَةِ أي كالمرأة المعلقة لا ذات زوج و لا بلا زوج، بل لا بأس بميلكم إلى إحداهن إذا أديتم حق الأخرى، و لا يخفى أن هذه الآية تلائم الآية الأخرى، و هي قوله سبحانه: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) «1»، فإن تلك الآية لبيان وجوب العدل الميسور، و هذه الآية لبيان انه فيما لا يمكن العدل بقول مطلق فعليكم العدل بالقدر الميسور، فالآيتان هكذا: إذا لم يتمكن الرجل من العدالة أصلا فليأخذ واحدة، و إن تمكن من العدالة الممكنة فليعدل و لا يترك إحداهما بدون نصيب لها من العدل وَ إِنْ تُصْلِحُوا أمر العائلة بترك الميل الكلي وَ تَتَّقُوا الله بأن تخافوه فلا تتعرضوا لعقابه في ترك الزوجة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لما ليس تحت اختياركم العرفي رَحِيماً.
[130] وَ إِنْ يَتَفَرَّقا أي الزوجان بالطلاق، حال ما صار بينهما شقاق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا منهما مِنْ سَعَتِهِ يغني الزوج بزوجة أخرى، و الزوجة بزوج آخر وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً في إنفاقه و إغنائه حَكِيماً.
[131] وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ تقرير لسعة الله تعالى وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ السماوي كاليهود و النصارى مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أي وصيناكم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا و تجحدوا الله، أو لم تعملوا بأوامره فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فلا يضره كفركم وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً محمودا في أفعاله.
[132] وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظا و مدبرا لخلقه فمن عمل بأوامره كفاه ما أراد.
[133] إِنْ يَشَأْ الله يُذْهِبْكُمْ يفنيكم أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ بأن يخلق أناسا آخرين وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ الإفناء و الإيجاد قَدِيراً فلا يحتاج إليكم.
[134] مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا أي خيرها، فليطلبه من عند الله تعالى فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فكل خير بيده وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً.
__________________________________________________
(1) سورة النساء: 3.
تبيين القرآن، ص: 111
[135] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ دائمي القيام في كل الأمور بِالْقِسْطِ بالعدل شُهَداءَ لِلَّهِ بأن تشهدوا شهادة حق وَ لَوْ كانت الشهادة عَلى أَنْفُسِكُمْ بأن تضركم الشهادة أَوِ الشهادة على الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ أقربائكم إِنْ يَكُنْ المشهود له أو المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي إنه عز و جل أولى بأن تراعوه فتشهدوا على الغني، و لنفع الفقير، بأن لا تتركوا الشهادة على الغني لأنه غني، أو لنفع الفقير لعدم الاعتناء به فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى في أن تشهدوا باطلا، أو تتركوا الشهادة الحقة ل أَنْ تَعْدِلُوا عن الحق وَ إِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن الشهادة الصحيحة أَوْ تُعْرِضُوا بأن لا تشهدوا أصلا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم على أعمالكم.
[136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر آمَنُوا إيمانا قلبيا واقعيا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ القرآن الَّذِي نَزَّلَ الله عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ الله مِنْ قَبْلُ أي جنس الكتب السماوية وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ عن طريق الحق ضَلالًا بَعِيداً فهو بعيد عن طريق الهداية و الرشاد.
[137] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً كاليهود آمنوا بموسى عليه السّلام ثم كفروا بعبادة العجل ثم آمنوا و تابوا، ثم كفروا بعيسى عليه السّلام، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو المراد المنافقون الذين تارة آمنوا و تارة كفروا و هكذا حتى ترسخ فيهم النفاق لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لأن أمرهم انتهى إلى الكفر وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا إلى الجنة، أو لا يلطف بهم لطف الخاص.
[138] بَشِّرِ على سبيل الاستهزاء، لان البشارة إنما تستعمل في الخير فقط الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما.
[139] الَّذِينَ صفة المنافقين يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أصدقاء حقيقيين مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ استفهام إنكار، أي هل يطلب هؤلاء المنافقون عِنْدَهُمُ أي عند الكافرين الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فلا يعز إلا أولياءه.
[140] وَ كيف تتخذون الكافرين أولياء و تجالسونهم و الحال انه قَدْ نَزَّلَ الله عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ القرآن أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ مع الكفار المستهزئين حَتَّى يَخُوضُوا أي يدخلوا فِي حَدِيثٍ كلام غَيْرِهِ غير الاستهزاء و الكفر إِنَّكُمْ إِذاً إذا قعدتم إليهم مِثْلُهُمْ في كونكم في شقاق مع المسلمين إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً.
تبيين القرآن، ص: 112
[141] الَّذِينَ بدل من (الذين يتخذون) يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أي ينتظرون وقع أمر بكم فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ و تقدم و نصر مِنَ اللَّهِ قالُوا أي المنافقون أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فأسهموا لنا من الغنائم وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ بأن غلب الكفار على المسلمين، فكان لهم حظ في الغلبة قالُوا أي المنافقون أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ نستولي عليكم أيها الكفار وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإنا منعناكم عن أن يصيبكم المؤمنون بمكروه بما أرشدناكم من أسرارهم، فأعطونا حق عملنا لكم فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أيها المؤمنون و المنافقون يَوْمَ الْقِيامَةِ فيظهر نفاق هؤلاء و خلوصكم أنتم وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي طريقا للغلبة عليهم غلبة كاملة بالقوة و الحجة، فإنهم إن غلبوا بالقوة لن يغلبوا بالحجة.
[142] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
يفعلون فعل المخادع فيظهرون الإيمان و يبطنون النفاق وَ هُوَ خادِعُهُمْ
يقبلهم مسلمين في الدنيا و يعاملهم معاملة الكافرين في الآخرة وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
في حالة الكسالة، لأنهم لا يعتقدون بالصلاة يُراؤُنَ النَّاسَ
أي يصلون صلاة ريائية وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
أذكار ظاهرة ريائية.
[143] مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ مترددين بين الإيمان و الكفر لا إِلى هؤُلاءِ المؤمنين وَ لا إِلى هؤُلاءِ الكافرين، حيث ظاهرهم إيمان و باطنهم الكفر وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يتركه حتى يضل، لأنه لم يقبل الهداية فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الهداية و الحق.
[144] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أصدقاء كما يصنع المنافقون مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بل اتخذوا المؤمنين أولياء لكم أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً حجة مُبِيناً واضحا، إذ اتخاذ الكافرين أولياء يكون سببا لعذاب الله لكم بهذه الحجة الواضحة.
[145] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الطبق الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ في قعر جهنم لأنهم زادوا على الكفر الواقعي غش المسلمين و خيانتهم وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ينصرهم بإخراجهم من النار.
[146] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وَ أَصْلَحُوا حالهم وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ تمسكوا به وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يريدون إلا وجهه بلا رياء فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في عدادهم وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً.
[147] ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ استفهام إنكار، أي أية فائدة تكون لله إذا عذّبكم إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً يشكر إيمانكم عَلِيماً بحالكم.
تبيين القرآن، ص: 113
[148] لا يُحِبُّ اللَّهُ أي يكره الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أن يجهر الإنسان و يظهر القول السيئ بالنسبة إلى شخص إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بأن يشكو المظلوم ظالمه وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً لكلامكم عَلِيماً بأحوالكم.
[149] إِنْ تُبْدُوا تظهروا خَيْراً عمل خير أَوْ تُخْفُوهُ بأن تأتوا بالخير خفية أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ بأن لا تقابلوه بالمثل و لا تعطوا جزاء المسي ء فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا يعفو عنكم قَدِيراً على كل شي ء و مع ذلك يعفو عن المذنب.
[150] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ الرسل كاليهود و النصارى وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ الإيمان التام سَبِيلًا طريقا جديدا لا إيمان محض و لا كفر محض.
[151] أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي كفرا ثابتا، إذ الكفر هو إنكار شي ء من أصول الدين وَ أَعْتَدْنا هيّأنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يهينهم و يذلهم.
[152] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ من الرسل بل آمنوا بالكل أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ بالثواب وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
[153] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ جملة كما نزلت التوراة جملة، و هذا السؤال تعنتي، إذ يكفي الكتاب المنزل تدريجا حجة و إعجازا فَقَدْ سَأَلُوا أهل الكتاب مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ الذي طلبوا منك فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً حتى نشاهده علنا، لا برؤية القلب فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ جاءت صاعقة و قتلتهم بِظُلْمِهِمْ أي بسبب ظلمهم بهذا السؤال ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحات فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أي اتخاذهم العجل وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً حجة ظاهرة.
[154] وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بأن قطعت قطعة من الجبل و رفعت فوق رؤوسهم، بالإعجاز بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب أن يقبلوا التوراة فإذا لم يعطوا العهد وقع الجبل عليهم وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وثيقا، لكنهم نقضوه أيضا.
تبيين القرآن، ص: 114
[155] فَبِما أي بسبب نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ بما في التوراة و الإنجيل وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ تأكيد وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع (أغلف) أي في غلاف فلا تعي قولك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها أي على قلوبهم، و طبع الله أن يجعل عليه علامة تدل على عنادهم بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم، من لم يسلك العناد.
[156] وَ بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً و هو رميها بالفاحشة.
[157] وَ قَوْلِهِمْ افتخارا و اجتراء على الله إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ بأن وقع شبه المسيح على رئيس اليهود فقتلوه و رفع عيسى عليه السّلام إلى السماء وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في قتل المسيح عليه السّلام هل قتل أم لا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ تردد من قتله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ أي لكنهم يتبعون الظن في قولهم قتل وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً.
[158] بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ إلى محل كرامته في السماء الرابعة وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب على ما أراد حَكِيماً.
[159] وَ إِنْ نفي، أي ليس أحد مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أي بالمسيح عليه السّلام قَبْلَ مَوْتِهِ حين ينزل إلى الدنيا في زمان الإمام المهدي (عج) وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ المسيح عليه السّلام عَلَيْهِمْ أي على أهل الكتاب شَهِيداً بأنهم آمنوا به أو لم يؤمنوا، و في معنى الآية احتمال آخر.
[160] فَبِظُلْمٍ أي بسبب ظلم مِنَ الَّذِينَ هادُوا اليهود حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ كانت حلالا لهم قبل ذلك، كلحوم الأنعام، حرّمت مجازاة كما تقدم وَ بِصَدِّهِمْ أي منعهم الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي صدا كثيرا.
[161] وَ بسبب أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ عن الأخذ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة و نحوها وَ أَعْتَدْنا أي هيّأنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ دون من تاب و آمن عَذاباً أَلِيماً مؤلما.
[162] لكِنِ الرَّاسِخُونَ الثابتون فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ من اليهود وَ الْمُؤْمِنُونَ أي سائر المؤمنين يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ إنما نصب (المقيمين) للإلفات، و نصبه على المدح، أي المؤمنون بك و بالكتب السابقة وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي معطونها وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قدّم أولا الإيمان بالأنبياء ثم الأيمان بالله و المعاد أُولئِكَ كل أولئك المتقدم و صفهم سَنُؤْتِيهِمْ سنعطيهم في الآخرة أَجْراً عَظِيماً.
تبيين القرآن، ص: 115
[163] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ أولاد يعقوب عليه السّلام الذين كانوا أنبياء وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا أعطينا داوُدَ زَبُوراً.
[164] وَ أرسلنا رُسُلًا آخرين قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي قبل هذا المقام وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً بأن خلق الصوت فسمعه الكليم عليه السّلام.
[165] رُسُلًا أرسلناهم مُبَشِّرِينَ بالثواب وَ مُنْذِرِينَ بالعقاب لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ بأن يقولوا لو أرسلت إلينا رسلا لاهتدينا وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.
[166] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ إن لم يشهد الكفار و أهل الكتاب، و شهادة الله إجراء المعاجز على يديه بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أنه حق أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ فلم يكن ذلك نسيانا أو خطأ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضا وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً لان شهادة الله بإجراء المعجز كافية في الإثبات.
[167] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بأن منعوا غيرهم عن الإيمان قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً عن الحق.
[168] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا برسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذنوبهم وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً بعد أن عاندوا.
[169] إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي في جهنم أَبَداً دائما وَ كانَ ذلِكَ الإدخال في النار خالدا عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
[170] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ فليس باطلا مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي يكون الإيمان أحسن لكم وَ إِنْ تَكْفُرُوا فلا يضر الله بل يضركم فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
تبيين القرآن، ص: 116
[171] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا لا تجاوزوا الحد فِي دِينِكُمْ كما غلا اليهود في عزير عليه السّلام و النصارى في المسيح عليه السّلام وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فإنه واحد لا شريك له إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ و ليس ابن الله، بل هو رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ الكلمة ما يلقيه الإنسان بواسطة الفم، شبه بها المسيح عليه السّلام لأن الله أوجده بأمره و قوله: (كن) أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ أي روح مخلوقة من قبل الله تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي آلهة ثلاثة: الله و المسيح و مريم انْتَهُوا عن القول بالتثليث، يكن خَيْراً لَكُمْ في دنياكم و أخراكم إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فليس شي ء شبيها له حتى يكون ولدا له وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فهو مستغن، و الغني لا يحتاج إلى اتخاذ الولد.
[172]نْ يَسْتَنْكِفَ
أي لا يأنفْ مَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا
يستنكفْ مَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
أن يكونوا عباد الله مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ
يترفع عن العبادةسَيَحْشُرُهُمْ
أي يجمعهم لَيْهِ
أي إلى جزائه مِيعاً
المستنكف و غير المستنكف.
[173] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي يعطيهم جزاء أعمالهم وَ يَزِيدُهُمْ أي زيادة على مقدار ثوابهم مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ الله عَذاباً أَلِيماً مؤلما وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يتولى شؤونهم بالحسنى وَ لا نَصِيراً ينصرهم من عذاب الله.
[174] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ دليل و حجة مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً يهدي الإنسان إلى دروب الحياة الحالكة مُبِيناً واضحا و هو القرآن.
[175] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ أي تمسكوا به فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ زيادة على استحقاقهم وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً إلى طريق مُسْتَقِيماً.
تبيين القرآن، ص: 117
[176] يَسْتَفْتُونَكَ يا رسول الله، أي يسألونك عن حكم الكلالة، و هم اخوة الميت قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ يبين لكم حكمها إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ مات و لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ و لا أبوان وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ و النصف الآخر يعطى إذا لم يكن وارث آخر وَ هُوَ أي الأخ يَرِثُها يرث الأخت إن ماتت الأخت إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها للأخت وَلَدٌ و لا أبوان فَإِنْ كانَتَا أي الأختان اثْنَتَيْنِ أو أكثر فَلَهُمَا الثُّلُثانِ من التركة و الباقي لهما، إذا لم يكن له وارث آخر مِمَّا تَرَكَ الميت وَ إِنْ كانُوا اخوة الميت إِخْوَةً و لو اثنين ذكرا و أنثى رِجالًا وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ للأخت واحد و للأخ اثنان يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الأحكام أَنْ تَضِلُّوا أي لئلا تضلوا عن الطريق المستقيم وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ.
مدنية آياتها مائة و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أي العقد الذي تعقدونه في بيع أو شراء أو ما أشبه، و العقد الذي بينكم و بين الله، و منه تحليل الأنعام، فلا تحرموها كأهل الجاهلية و اليهود أُحِلَّتْ أي حلال لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الأنعام هي الإبل و البقر و الغنم و غيرها، و البهيمة الحيوان الذي لا يتكلم إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي يقرأ عليكم انه محرم، كما في آية (حرمت عليكم الميتة) «1» في حال كونكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ أي لا تحلون الصيد في حال الإحرام وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من التحليل و التحريم حسب المصالح.
[2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ جمع شعيرة و هي الأمر المربوط بالله، فلا تتعدوها، بل قفوا عند أمر الله تحليلا و تحريما وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ فلا تقاتلوا فيه وَ لَا الْهَدْيَ ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام، فلا تأخذوه و تتصرفوا فيه وَ لَا الْقَلائِدَ هي الهدي الذي يجعل في عنقه قلادة إبان الحج وَ لَا آمِّينَ قاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ أي الحج بأن لا تصدوا الناس عن الحج، في حال كون الآمين يَبْتَغُونَ يطلبون فَضْلًا ثوابهم مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً رضاية منه تعالى وَ إِذا حَلَلْتُمْ عن الإحرام فَاصْطادُوا أي يجوز لكم الصيد، أما في حال الإحرام فلا يجوز وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي شدة عداوتهم أَنْ صَدُّوكُمْ أي لأن منعوكم عام الحديبية عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حيث أردتم زيارته أَنْ تَعْتَدُوا مفعول (لا يجرمنكم)، أي لا يسبب ذلك تعديكم عليهم بالقتل و الأسر و النهب وَ تَعاوَنُوا يعين بعضكم بعضا عَلَى الْبِرِّ الأعمال الحسنة وَ التَّقْوى الاتقاء
عن المعاصي وَ لا تَعاوَنُوا لا يعين بعضكم بعضا عَلَى الْإِثْمِ المعصية وَ الْعُدْوانِ التعدي و الظلم وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فلا تخالفوه حتى تبتلوا بعقابه.
__________________________________________________
(1) سورة المائدة: 3.
تبيين القرآن، ص: 118
[3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ما لم يذكّ من الحيوان وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه حال ذبحه، و الضمير راجع إلى (ما) وَ الْمُنْخَنِقَةُ الحيوان الذي مات بالخنق وَ الْمَوْقُوذَةُ الحيوان الذي مات بشدة الضرب وَ الْمُتَرَدِّيَةُ الذي مات بسبب السقوط من مكان عال وَ النَّطِيحَةُ الحيوان الذي نطحه حيوان آخر فمات وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ بأن افترسه السبع فمات إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أدركتم ذكاته من الحيوانات المذكورات، ما عدا الخنزير وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ الأصنام، أي ما سمّي عليه الصنم حين ذبحه وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا أي حرام ما قسمتموه بِالْأَزْلامِ أي السهام، و هذا حرام لكونه قمارا ذلِكُمْ المتناول للمذكورات فِسْقٌ خروج عن طاعة الله و محرّم الْيَوْمَ و بعد قوة الإسلام و نصب الخليفة يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ من أن ينالوه بسوء لقوة الإسلام خصوصا بعد أن عيّن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخليفة القائم مقامه و هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يقهروكم وَ اخْشَوْنِ فلا تخالفون أوامري الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ و إكماله بنصب عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام في غدير خم، بعد حجة الوداع وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بولاية عليّ عليه السّلام وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً من بين الأديان، فإنه قبل الكمال لم يكن رضا كاملا، و إنما الرضا المطلق حصل
بعد نصب الخليفة «1» فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ مجاعة، بأن اضطر إلى أكل المحرمات التي ذكرت، في حال كونه غَيْرَ مُتَجانِفٍ أي غير متمايل لِإِثْمٍ بان لا يأكل تلذذا بل اضطرارا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعباده لذا يبيح للمضطر المحرمات.
[4] يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ فإنهم بعد ما علموا المحرمات سألوا عن المحللات قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و هي كل ما لم يأت عليه تحريم وَ أحل لكم صيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أي الحيوانات التي تجرح الصيد و المراد بها الكلاب إذا كانت معلّمة، بأن علمها الإنسان ذلك مُكَلِّبِينَ أي حال كونكم صاحبي كلاب تُعَلِّمُونَهُنَّ أي تعلمون الكلاب الاصطياد مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من طرق التأديب، فإن علم الإنسان إنما هو إلهام من الله فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ أي أخذن تلك الكلاب و قتلنه عَلَيْكُمْ أي لأجلكم وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي سمّوا الله عند إرسال الكلاب وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تنالوا محرماته إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فإن كل آت قريب.
[5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ليس المراد الحرمة قبل هذا اليوم بل بيان هذا الحكم إنما كان في هذا اليوم وَ طَعامُ أي الحبوب «2»، و لذا يقال بيّاع الطعام، لبائعي الحبوب، و لذا يعنونون الفقهاء مسألة (بيع الطعام) مريدين به الحبوب، فالطعام منصرف إليها الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ حلال لَكُمُ و التخصيص بأهل الكتاب لأنهم محل ابتلاء المسلمين، كما أن العكس أيضا كذلك و هو: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فالتخصيص لما ذكر و إلا فطعام المسلم حلّ حتى لغير أهل الكتاب وَ أحل لكم الْمُحْصَناتُ أي النساء العفيفات بأن تتزوجوهن مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
__________________________________________________
(1) و هناك حكمة في جعل آية الولاية في هذا الموضع، مذكورة في المفصلات.
(2) أهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام، عنوا به البر خاصة، و قال الخليل: إن الطعام هو البر خاصة. راجع لسان العرب ج 12 ص 364.
تبيين القرآن،
ص: 119
اليهود و النصارى إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أعطيتموهن أُجُورَهُنَّ مهورهن في حال كونكم مُحْصِنِينَ أعفاء غَيْرَ مُسافِحِينَ أي غير زانين، بأن لا تزنوا معهن جهرا وَ لا مُتَّخِذِي أي لا تتخذوا أَخْدانٍ تزنون بهن سرا، و الخدن الصديق يقال للذكر و الأنثى وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ بمقتضيات الإيمان من العمل بالأحكام، و المراد بالكفر الكفر العملي فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ لم يستحق ثوابه وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أعمارهم و لم يحصلوا جزاء حسنا.
تبيين القرآن، ص: 120
[6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ أردتم القيام إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ المراد منتهى المغسول لا منتهى الغسل فلا يفيد العكس وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ بعض رؤوسكم وَ امسحوا أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ و هما قبتا القدمين وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً و أردتم الصلاة فَاطَّهَّرُوا اغتسلوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى جمع مريض، بحيث يضركم الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ الموضع المنخفض من الأرض، كنّي به عن الحدث أَوْ لامَسْتُمُ جامعتم النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً للغسل فَتَيَمَّمُوا أي اقصدوا صَعِيداً أرضا طَيِّباً طاهرا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ بعض وجوهكم وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من ذلك الصعيد، بأن تضربوا اليد عليه ثم تمسحوا ما يُرِيدُ اللَّهُ في أمره بالطهارة ماء و تيمما لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي يضيق عليكم وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ من الأقذار المعنوية و الظاهرية وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بتشريعه ما يسبب نظافتكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه سبحانه.
[7] وَ اذْكُرُوا لأجل الشكر، و لأجل العمل نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلام و سائر النعم وَ اذكروا مِيثاقَهُ عهده الَّذِي واثَقَكُمْ عاهدكم بِهِ عند مبايعتكم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره و نواهيه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالخفيات التي في صدوركم من نواياكم الحسنة و السيئة.
[8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ دائمي القيام لِلَّهِ لأجله سبحانه شُهَداءَ تشهدون بِالْقِسْطِ بالعدل، لا بشهادة الزور وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ يحملنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ عداوتهم لكم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا بالنسبة إليهم بأن تزيدوا في الانتقام منهم اعْدِلُوا فيهم و في غيرهم هُوَ أي العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أقرب إلى الخوف من الله وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فلا تجاوزوا حدوده.
[9] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 121
[10] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ الملازمون لها.
[11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ عزم و قصد قَوْمٌ هم أهل مكة قبل فتحها أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل و الأذية فَكَفَّ أي منع الله أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ بان لم يمكنهم أن يؤذوكم و ذلك بالصلح يوم الحديبية وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ يكل الْمُؤْمِنُونَ أمورهم إليه سبحانه.
[12] وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي عهدهم الأكيد وَ بَعَثْنا أي سلّط و أمّر عليهم مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً كفيلا لكل سبط نقيب وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ يا بني إسرائيل بالنصرة لكم لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم و وقّرتموهم وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي أنفقتم في سبيله إنفاقا بدون منّ و لا أذى و لا رياء لَأُكَفِّرَنَّ أمحونّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي معاصيكم وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و أبنيتها الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ الميثاق مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي الطريق السوي الموصل إلى السعادة في الدارين.
[13] فَبِما أي بسبب نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ بأن لم يعملوا به لَعَنَّاهُمْ طردناهم عن رحمتنا وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً القسوة خلاف اللين، أي لا يدخل فيها الخير، فإن من يعاند و يستمر في عناده يقسو قلبه يُحَرِّفُونَ أي يبدل هؤلاء اليهود الْكَلِمَ كلمات الله عَنْ مَواضِعِهِ بوضع شي ء مكان شي ء آخر وَ نَسُوا حَظًّا أي قسما من التوراة مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ مما أنزله الله تعالى تذكيرا لهم فكتابهم أصبح ناقصا و محرّفا وَ لا تَزالُ يا رسول الله تَطَّلِعُ و تعلم عَلى نفس خائِنَةٍ مِنْهُمْ من أهل الكتاب إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ حيث لا يخونون فَاعْفُ عَنْهُمْ ما داموا على عهدك وَ اصْفَحْ أعرض فإن شأن الكبار الإعراض إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
تبيين القرآن، ص: 122
[14] وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ عهدهم الأكيد فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من كتابهم الإنجيل، تركوه حتى صار منسيا فَأَغْرَيْنا ألزمنا، بسبب تحريفهم و نسيانهم بَيْنَهُمُ بين اليهود و النصارى الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ و ذلك سنة الله، فإن من لا يعمل بأحكامه لا بد و أن يجزي جزاء عمله السيئ وَ سَوْفَ في الآخرة يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ يخبرهم بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من الكفر و المعاصي فيجازيهم عليها.
[15] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبين الأحكام التي حرفوها أو نسوها وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما ارتكبتم فلا يؤاخذكم عليه و ذلك استدراج من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهدايتهم قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ كِتابٌ القرآن مُبِينٌ واضح.
[16] يَهْدِي بِهِ اللَّهُ أي بسبب هذا النور و الكتاب مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ بأن كان في سبيل تتبع رضا الله سُبُلَ السَّلامِ مفعول (يهدي) أي الطرق الموجبة للسلامة في الدنيا و الآخرة وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ مختلف ظلمات الحياة و الآخرة إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ بلطفه وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا انحراف فيه و لا اعوجاج.
[17] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ و هم النصارى، حيث جعلوا المسيح عليه السّلام أحد الآلهة الثلاثة قُلْ يا رسول الله فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من يمنع من قدرته و إرادته إِنْ أَرادَ الله أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فلما كان المسيح و أمه عليهما السّلام و من في الأرض مقهورين قابلين للفناء فليس المسيح إلها وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فهو مالك للمسيح عليه السّلام يَخْلُقُ ما يَشاءُ فيقدر على خلق المسيح عليه السّلام من أنثى فقط وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على خلق الإنسان بدون أب.
تبيين القرآن، ص: 123
[18] وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ جمع حبيب، أي يحبنا الله تعالى قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فإنهم كانوا معترفين بأنهم يعذّبون في الآخرة، و من المعلوم الابن الحبيب لا يعذبه الأب بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ من جملة من خلقه الله تعالى يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي مصير البشر فيجازيهم حسب أعمالهم.
[19] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ الدين عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي في حين فتور و انقطاع من الإرسال، لان مدة مديدة قبل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يرسل رسول إلى البشر أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ أي لئلا تقولوا احتجاجا على الله انه لم يأتكم نبي مرشد يبشّر و ينذر فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ هو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ قادر على إرسال الرسول.
[20] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فشرّفكم ببعث الأنبياء فيكم وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً فالملك منكم و لستم تحت سلطة الغير وَ آتاكُمْ أعطاكم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ عالمي زمانكم، من التوراة و المعاجز و السيادة.
[21] يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بيت المقدس، أو غيرها مما طهرها الله ببعث الأنبياء فيها، و كان قول موسى عليه السّلام لهم بعد خروجهم عن مصر الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ دخولها وَ لا تَرْتَدُّوا لا ترجعوا عَلى أَدْبارِكُمْ كفارا، أو منهزمين أمام عمالقة الأرض المقدسة فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ من ثواب الدارين.
[22] قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها في الأرض المقدسة قَوْماً جَبَّارِينَ جمع جبّار و هو المكره للناس و المراد بهم: قوما أقوياء لا نقدر عليهم وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها لن ندخل الأرض المقدسة حَتَّى يَخْرُجُوا أي الجبارون مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ أما الآن فلا نتمكن من مقاومتهم.
[23] قالَ رَجُلانِ كالب و يوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ الله أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بأن وفقهما للإيمان و لاتباع أوامر موسى عليه السّلام ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ أي على الجبارين الْبابَ باب القرية فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لأن الغلبة عادة لمن أغار وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا أي كلوا أمركم إليه، فإنه ناصر أولياءه على أعدائه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
تبيين القرآن، ص: 124
[24] قالُوا أي اليهود يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها أي ما دام الجبارون في الأرض المقدسة فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا قالوا ذلك استهانة بالله و رسوله إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ فإذا رجعت ظافرا دخلناها.
[25] قالَ موسى عليه السّلام رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فأنا أملك التصرف في هذين فقط، أما القوم فلا يطيعوني فَافْرُقْ افصل يا رب بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي اليهود.
[26] قالَ الله فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ دخولها أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ أي يتحيرون فِي الْأَرْضِ بلا مأوى و لا بلد يجمعهم فَلا تَأْسَ لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي على تيههم، و التيه إما كان إعجازا، أو بمعنى أنهم بقوا بلا مأوى في هذه المدة و لذا بقوا في الصحراء كالبدو.
[27] وَ اتْلُ أي اقرأ يا رسول الله عَلَيْهِمْ أي على اليهود نَبَأَ أي خبر ابْنَيْ آدَمَ قابيل و هابيل، فإن حال اليهود في الفساد كحال قابيل بِالْحَقِّ أي النبأ الصدق الذي ليس بكذب إِذْ قَرَّبا قُرْباناً لله تعالى، و القربان ما يهدى إلى الله تعالى فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما هابيل حيث قدم خير غنمه فجاءت نار فاحترقت و هو علامة القبول وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قابيل إذ قرب أردى زرعه قالَ قابيل لَأَقْتُلَنَّكَ يا هابيل، حسدا عليه قالَ هابيل إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي إني لا ذنب لي في عدم قبول قربانك، و إنما لم يقبل منك لأنك لست بأهل للتقوى.
[28] لَئِنْ بَسَطْتَ أي مددت يا قابيل إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ و لذا لا أقصد قتلك، و لعل في شريعة آدم عليه السّلام لم يجز الدفاع عن النفس إذا أراد المجرم القتل أو لم يجب ذلك.
[29] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ ترجع يا قابيل بِإِثْمِي أي إثم قتلي وَ إِثْمِكَ الذي كان لك قبل أن تقتلني فَتَكُونَ بهذه الآثام مِنْ أَصْحابِ النَّارِ الملازمين لها وَ ذلِكَ العقاب جَزاءُ الظَّالِمِينَ.
[30] فَطَوَّعَتْ أي سهّلت لَهُ لقابيل نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ هابيل فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ خسر دنياه و آخرته.
[31] فَبَعَثَ أي أرسل اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي يحفر، كمن يبحث عن شي ء، و ذلك إن قابيل لم يدر كيف يصنع بجثة أخيه لِيُرِيَهُ أي يري الغراب قابيل كَيْفَ يُوارِي يستر سَوْأَةَ أَخِيهِ أي جسد هابيل، و عبّر بالسوءة لان الميت يتعفّن بالبقاء قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ قابيل مِنَ النَّادِمِينَ عن قتل أخيه.
تبيين القرآن، ص: 125
[32] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي من ابتداء قتل قابيل، فإن هذا الحكم شرع من ذلك الوقت كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ فإن هذا الحكم ثبت لليهود أيضا أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ بدون أن كان المقتول قتل إنسانا حتى يكون القتل قصاصا أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي بدون أن يكون القتل لفساد المقتول في الأرض فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً لأن القتل جريمة، سواء تعلقت بالواحد أو الكثير كالماء قطرته مثل بحره في انه ماء، و هذا لبيان تعظيم هذه الجريمة وَ مَنْ أَحْياها بالنسل أو الهداية أو الخلاص من الموت فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً، وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ أي بني إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ الأدلة الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ الحكم و مجي ء الرسل فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ يقتلون و يكفرون.
[33] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ بمحاربة أوليائه كما يقال حارب زيد الملك إذا حارب جنوده وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي يفسدون في الأرض، و منهم قطّاع الطرق أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا شنقا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ اليد اليمنى و الرجل اليسرى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ التي هم فيها، بأن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر ذلِكَ الحكم لَهُمْ لهؤلاء المحاربين المفسدين خِزْيٌ عقاب و فضيحة فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
[34] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ إذ الحدود تدرأ بالتوبة إذا تاب المجرم قبل القدرة عليه فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا أي اطلبوا إِلَيْهِ إلى الله الْوَسِيلَةَ ما تصلون به إلى ثوابه وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تظفرون بنعيم الأبد.
[36] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثروة وَ مِثْلَهُ مَعَهُ بأن كان لهم ضعف ما في الأرض لِيَفْتَدُوا بِهِ ليجعلوه فدية مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ إذ هناك لا تفيد الفدية وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
تبيين القرآن، ص: 126
[37] يُرِيدُونَ الذين كفروا أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم.
[38] وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أصابع اليد اليمنى و يترك الإبهام جَزاءً بِما كَسَبا من الإثم نَكالًا في حال كون القطع عقابا مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
[39] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ بالسرقة وَ أَصْلَحَ حاله بان لم يفعل المحرم فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يقبل توبته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[40] أَ لَمْ تَعْلَمْ استفهام لتقرير ملكه سبحانه أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ كما عذب السارق وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ كما غفر له بعد التوبة وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
[41] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ في إظهار الكفر إذا وجدوا فرصة مِنَ الَّذِينَ بيان ل (الذين) و هم المنافقون قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ أي بلسانهم وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي من اليهود، قوم سَمَّاعُونَ أي يسمعون و يقبلون لِلْكَذِبِ الذي يقولونه في باب القتل سَمَّاعُونَ لعله عطف بيان ل (سماعون) الأول لِقَوْمٍ آخَرِينَ أي لا يسمعون الكلام من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل من الآخرين لَمْ يَأْتُوكَ يا رسول الله، و هذا صفة ل (قوم) أي ان هؤلاء اليهود يقبلون الكذب في باب القتل الذي اعتادوا عليه من جماعتهم الذين لم يأتوا إليك يُحَرِّفُونَ أولئك القوم الآخرون الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي بعد أن وضع الله تلك الكلم مواضعها، و المراد تحريف أحكام التوراة يَقُولُونَ أي المنافقون إِنْ أُوتِيتُمْ أي أعطيتم هذا الحكم المحرّف فَخُذُوهُ و اقبلوه وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ لم تعطوا هذا الحكم بل أفتاكم محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَاحْذَرُوا و امتنعوا من قبوله، و قد وردت الآية في المنافق (عبد الله بن أبي) حيث وقع حادث قتل بين طائفتين من اليهود هم بنو قريظة و بني النضير و كان حكم القتل بين الطائفتين مخالفا لحكم القتل في التوراة فقالوا لابن أبي: قل لمحمد أن يحكم بما هو المعتاد بيننا لا يحكم بالتوراة إن تحاكمنا إليه، فقال ابن أبي: ابعثوا رجلا
يسمع كلامي و كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإن حكم لكم بما تريدون فاقبلوا كلامه، و إلا فلا، و قيل: ان الآية نزلت في قصة الزنا حيث أراد اليهود جلد الزاني المحصن، و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفتى برجمه، و ابن أبي وافق اليهود في الحكم وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ بأن يضل و يفتتن عن الدين، و إرادة الله عبارة عن تركه، بعد عناده ليضل، كابن أبي و اليهود فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا تقدر أنت يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن تدفع عنه فتنة الله أُولئِكَ المنافق و اليهود الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ عن أدناس الكفر و الانحراف، لأنهم اختاروا هذا السبيل بعد تمام الحجة لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ فضيحة و ينفر المسلمون عنهم وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 127
[42] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ تأكيد لما سبق أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ الرشوة و سائر المحرمات، و (أكالون) صيغة مبالغة أي كثير و الأكل فَإِنْ جاؤُكَ للتحاكم في جزاء القاتل فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ و قل لهم إني لا أحكم بينكم وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً في دينك أو دنياك وَ إِنْ حَكَمْتَ أي أردت الحكم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
[43] وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ يا رسول الله، هؤلاء اليهود، استفهام تعجب و لبيان أنهم لا يريدون حكم الله المنزل في التوراة وَ الحال أن عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ يعرضون عن حكمك مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الحكم وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم التوراة.
[44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً إلى الحق وَ نُورٌ يجلو المشكلات، و هذا لا ينافي تحريفه من بعد يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لله لِلَّذِينَ هادُوا أي بين اليهود وَ يحكم بالتوراة الرَّبَّانِيُّونَ المنسوبون إلى الرب وَ الْأَحْبارُ علماؤهم بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بسبب الذي كلفهم الله حفظه مِنْ كِتابِ اللَّهِ أي التوراة وَ كانُوا عَلَيْهِ أي على كونه من عند الله شُهَداءَ يشهدون بأنه حق فَلا تَخْشَوُا أيها الحكام النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ فلا تبدلوا حكمي وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا بان لا تحكموا بحكمي لأجل رشوة أو عرض دنيوي وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ سواء سكت عن الحكم عمدا أو حكم بغير ما أنزل فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ كفرا عمليا.
[45] وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي يقتص و يقتل الإنسان في مقابل قتله الإنسان وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ أي الجراحات متقاصة بعضها في مقابل بعض فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص بأن عفي عنه فلم يقتص فَهُوَ فالتصدق كَفَّارَةٌ لَهُ أي للمصدق يكفّر الله به ذنوبه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ظلموا أنفسهم بتعريضها لعقاب الله.
تبيين القرآن، ص: 128
[46] وَ قَفَّيْنا أي اتبعنا عَلى آثارِهِمْ أي في أعقاب الأنبياء عليهم السّلام بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أرسلناه عقبهم، في حال كونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ قبله مِنَ التَّوْراةِ بيان (ما) وَ آتَيْناهُ أعطيناه الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً الإنجيل لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً تأكيد وَ مَوْعِظَةً وعظ و إرشاد لِلْمُتَّقِينَ فإنهم هم الذين يستفيدون من الموعظة.
[47] وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ النصارى بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ من الأحكام التي من جملتها نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله.
[48] وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ القرآن بِالْحَقِّ إنزالا بالحق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ جنس الكتب السماوية وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي رقيبا على سائر الكتب يحفظها عن التغيير ببيان مواضع التحريف فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين الناس أو بين أهل الكتاب بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ بأن تحكم حسب آرائهم، فتعرض عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأنبياء السابقين عليهم السّلام شِرْعَةً شريعة دينية وَ مِنْهاجاً أي سبيلا واضحا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً بأن ينزل للجميع دينا واحدا حتى لا يقع خلاف، لكن ذلك خلاف الصلاح إذ لكل أمة ما يلائمها من الأحكام وَ لكِنْ خالفت بين الأحكام لِيَبْلُوَكُمْ أي يمتحنكم فِي ما آتاكُمْ أعطاكم من الشرائع المختلفة لأنه يظهر بذلك من يقبل الشريعة اللاحقة و من لا يقبل فَاسْتَبِقُوا أي بادروا الْخَيْراتِ فلا يفوتكم التمسك بالشريعة الجديدة إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ يخبركم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ليجازيكم على أعمالكم.
[49] وَ أَنِ احْكُمْ عطف على (الكتاب) بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أي يضلوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ بأن تخالفه و تتبع ما يشتهون فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن حكمك فَاعْلَمْ يا رسول الله أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ يعاقبهم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فإن توليهم عن الحق يوجب انحرافا في أمورهم الدنيوية، و ذلك عقاب بنفسه من الله تعالى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله فلا تأسف لانحراف هؤلاء.
[50] أَ فَحُكْمَ استفهام توبيخ الْجاهِلِيَّةِ أي الملة الجاهلية يَبْغُونَ يطلبون حيث إنهم أرادوا أن يحكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في باب القتل حسب أحكام الجاهلية، كما تقدم وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بالآخرة، فإنهم العارفون بأن حكم الله أحسن الأحكام، و الاستفهام للإنكار، أي لا أحسن من حكم الله.
تبيين القرآن، ص: 129
[51] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ توالونهم و تعتمدون عليهم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فإنهما يوالي بعضهم بعضا لاتحادهما في الباطل ضد الإسلام في مقابل مضادة بعضهم لبعض بين أنفسهم كما قال تعالى (فأغرينا بينهم العداوة) «1» وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ يواليهم مِنْكُمْ أيها المسلمون فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فإن المرء يحشر مع من أحب إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بموالاتهم للكافرين، فلا يلطف بهم ألطافه الخفية.
[52] فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك و نفاق من المسلمين يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي يتسرعون في موالاة الكافرين يَقُولُونَ في سبب موالاتهم نَخْشى نخاف أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ من دوائر الدهر فتكون الدولة للكفّار، و لذا نصادقهم حتى نأمن شرّهم عند ذلك فَعَسَى اللَّهُ رجاء من الإنسان و بيان احتمال من الله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ بالنصر لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أعدائه أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ بإقصاء اليهود عن أطراف المدينة فَيُصْبِحُوا أي المنافقون عَلى ما أَسَرُّوا أخفوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الشك و النفاق نادِمِينَ لأن أصدقاءهم قد فاتهم و المسلمون لا يصادقونهم.
[53] وَ حين ذاك يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ المنافقون، و الاستفهام للتعجب الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي بالأيمان المغلّظة إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ فكيف يحلف المنافقون انهم مع المسلمين و الحال انهم يصادقون الكافرين حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بطلت، إذ غلب المسلمون و انقطعت صداقاتهم مع الكافرين فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ في الدنيا و الآخرة.
[54] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فلن يضر الله فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ الله وَ يُحِبُّونَهُ أي و هم يحبون الله أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي يعطفون على المؤمنين، كالذليل أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أشداء مترفعين على الكفار يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ ملامة لائِمٍ من يلومهم في الحق، بل يمضون إلى هدفهم الإسلامي و لو لامهم الناس ذلِكَ الاتصاف بهذه الأوصاف فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ يعطيه مَنْ يَشاءُ ممن سلك طريق الرشد وَ اللَّهُ واسِعٌ كثير الفضل عَلِيمٌ.
[55] إِنَّما لما نهى عن موالاة الكافرين بيّن من هو المولى للمؤمنين الذي له الولاية و الأولية عليهم وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ صفة ل (الذين آمنوا) يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي الصدقة وَ هُمْ راكِعُونَ في حال الركوع، و قد نزلت هذه الآية في علي أمير المؤمنين عليه السّلام.
[56] وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أي يتخذهم أولياء له فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ أي المربوطين بالله، و لا يقولون (نخشى أن تصيبنا دائرة) هُمُ الْغالِبُونَ.
[57] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً يستهزئون به وَ لَعِباً ملعبة، فإنه ليس بزعمهم دين مِنَ الَّذِينَ بيان ل (الذين اتخذوا) أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ لا تتخذوا الْكُفَّارَ المشركين أَوْلِياءَ فتصادقونهم وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مناهيه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
__________________________________________________
(1) سورة المائدة: 14.
تبيين القرآن، ص: 130
[58] وَ إِذا نادَيْتُمْ دعوتم إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها أي الصلاة هُزُواً استهزاء فإذا أذّن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وَ لَعِباً ذلِكَ الهزء بالصلاة بِأَنَّهُمْ بسبب أن الكفار قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ.
[59] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ و تكرهون مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ من الكتب السماوية وَ آمنا ب أَنَّ أَكْثَرَكُمْ لا كلكم، فإن بعضهم آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاسِقُونَ أي أن إيماننا بالله تعالى وحده، و اعتقادنا بخروجكم عن طاعة الله، هما عاملا نقمتكم علينا، فهل من سبب غيرها؟.
[60] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ بأسوأ من ذلك الذي تنقمون منا، أي ما هو أزيد في نقمتكم مَثُوبَةً أي جزاء عِنْدَ اللَّهِ مَنْ بدل من (شرّ) أي أنبئكم بمن لَعَنَهُ اللَّهُ و أبعده عن رحمته وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ و هم اليهود مسخهم الله وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أي جعل منهم عبّاد العجل، و إنما نسب إلى الله تعالى، لأنه تركهم و شأنهم فضلوا أُولئِكَ الملعونون شَرٌّ مَكاناً أي مكانهم أسوأ، و هذا يدل على حالتهم السيئة، أي أن مكانهم أسوأ من مكان سائر العصاة، فأنتم إذا استهزأتم منا، فدنياكم نقمة و قردة و خنازير، و آخرتكم سقر و نار وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي وسط الطريق، فهم أبعد من سائر البعيدين.
[61] وَ إِذا جاؤُكُمْ منافقو اليهود قالُوا آمَنَّا يريدون أن يأمنوا جانبكم وَ قَدْ دَخَلُوا إلى مجلسكم بِالْكُفْرِ أي متلبسين بالكفر وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ إذا خرجوا من عندك خرجوا كما دخلوا متلبسين بالكفر أيضا وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ يخفون من الكفر.
[62] وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ يتهافتون على المعاصي وَ الْعُدْوانِ التعدي و الظلم وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ الرشوة و سائر المحرمات لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
[63] لَوْ لا أي لما ذا لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ المنسوبون إلى الرب وَ الْأَحْبارُ العلماء عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ في عدم نهيهم.
[64] وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ مقبوضة عن العطاء فإنهم كانوا يزعمون أن الله لا يتصرف في الكون غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بان تغلّ أيديهم بالأغلال وَ لُعِنُوا أبعدوا من رحمة الله دعاء عليهم بِما قالُوا أي بسبب هذا القول بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يعمل في الكون يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد للبسط، و بسط اليد كناية عن تصرفه تعالى في الكون وَ لَيَزِيدَنَّ فعل، من الزيادة كَثِيراً مِنْهُمْ مفعول (يزيدن) ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فاعل (يزيدنّ)، أي أن القرآن يزيدهم مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً إذ يشتد حسدهم فيطغون أكثر من قبل وَ كُفْراً و زيادة الكفر عبارة عن اشتداده وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ بين طوائف اليهود الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ يبغض بعضهم بعضا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا أشعل هؤلاء اليهود ناراً لِلْحَرْبِ لحرب رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَطْفَأَهَا اللَّهُ بغلبة المسلمين عليهم وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي للفساد وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ أي يكره الْمُفْسِدِينَ.
تبيين القرآن، ص: 131
[65] وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اتَّقَوْا باجتناب المعاصي لَكَفَّرْنا أي محونا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ السابقة وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ التي ينعم بها الإنسان.
[66] وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا بالعمل التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ القرآن، بأن عملوا بالكتب الثلاثة لَأَكَلُوا أي لوسع الله عليهم مِنْ فَوْقِهِمْ مما ينزل من الأمطار، و ما تثمره الأشجار وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الزراعات، فإن العمل بالدين يوجب تقدم الحضارة و الزراعة و الانتفاع بمياه الأمطار بسبب التخزين و الصرف، بالإضافة إلى العناية الغيبية مِنْهُمْ أُمَّةٌ جماعة مُقْتَصِدَةٌ الاقتصاد الاستواء في العمل، و المراد بهم الذين أسلموا وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ أي قبح ما يَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي.
[67] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ أوصل إلى الناس ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بالنسبة إلى نصب عليّ عليه السّلام خليفة من بعدك، و قد نزلت الآية عند منصرف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حجة الوداع وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ لم تبلّغ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ كأنك لم تؤدّ شيئا من رسالة الله، أو المراد لم تؤدّ الرسالة التي كلّفت و هي الرسالة الكاملة وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ يحفظك مِنَ النَّاسِ فقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخاف من أذى المنافقين له إذا نصب عليّا عليه السّلام إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي لا يلطف بهم الألطاف الخاصة الْقَوْمَ الْكافِرِينَ الذين لا يقبلون رسالتك في هذا الأمر كما هو الشأن من لا يقبل سائر رسالاته.
[68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ أي على دين يعتد به حَتَّى تُقِيمُوا بالعمل التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي القرآن وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فاعل (يزيدن) أي يزيد القرآن الكفار مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً لأن حسدهم يوجب طغيانهم و شدة كفرهم فَلا تَأْسَ أي لا تحزن يا رسول الله عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
[69] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا اليهود وَ الصَّابِئُونَ دين خاص يزعم أهله انهم يتبعون يحيى عليه السّلام، و رفعه بالقطع، للإلفات وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ منهم إيمانا صحيحا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ليس خوفهم و حزنهم بالنسبة إلى خوف الكفار و حزنهم، يسمى خوفا و حزنا.
[70] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ عهدهم الأكيد وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كثيرين كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بأحكام تخالف أهواءهم و شهواتهم فَرِيقاً جواب (كلما) أي جماعة من الرسل كذبهم اليهود، كالمسيح عليه السّلام كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ كيحيى و زكريا عليه السّلام.
تبيين القرآن، ص: 132
[71] وَ حَسِبُوا أي زعم هؤلاء اليهود أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يصيبهم بلاء و عذاب بسبب أعمالهم فَعَمُوا عن الحق فلم يروه وَ صَمُّوا عن سماع الحق، و لذا ارتكبوا ما ارتكبوا و المعنى: حسبوا، فعموا و صمّوا، فارتكبوا ما ارتكبوا ثُمَّ تابوا عن أعمالهم السابقة ف تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قبل توبتهم، و من المعلوم أن المراد قبول توبة من لم يكن قتل الأنبياء عليهم السّلام و ما أشبه ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ من اليهود إذ خالفوا أحكام الله ثانيا وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم بها.
[72] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ هم النصارى قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فإن اعتقادهم بالتثليث معناه اعتقادهم بان المسيح هو الله، أو هم جماعة اعتقدوا بألوهية المسيح فقط وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ و لا تعبدوني، هو رَبِّي فأنا عبد له وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فلا يدخلها وَ مَأْواهُ محله النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالشرك مِنْ أَنْصارٍ ينصرهم من عذاب الله.
[73] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي ثالث آلهة هم ثلاثة: الله و المسيح و مريم وَ الحال انه ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا يرجعوا و يتوبوا عَمَّا يَقُولُونَ من التثليث لَيَمَسَّنَّ أي يصيبهم الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ و إنما لم يقل: ليمسنهم، تنبيها على أن العذاب على من دام على الكفر عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[74] أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ بأن ينتهوا عن تلك العقائد الباطلة وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ يطلبون غفرانه وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[75] مَا أي ليس الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ و ليس بإله قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فحاله حالهم وَ أُمُّهُ مريم صِدِّيقَةٌ صدقت بالله و رسله، كسائر الصدّيقات، و ليست بإلهة كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ و من أكل الطعام ليس إلها انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الأدلة الدالة على عدم ألوهيتهما ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي يصرفون عن اتباع الحق.
[76] قُلْ يا رسول الله لمن يعبد المسيح عليه السّلام و غيره أَ تَعْبُدُونَ استفهام إنكار مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً فإن الضرر و النفع بيد الله وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فيجازيكم بجزاء كفركم و شرككم.
تبيين القرآن، ص: 133
[77] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا لا تجاوزوا الحق فِي دِينِكُمْ غلوا غَيْرَ الْحَقِّ هذا تأكيد وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ من قدماء النصارى قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ مبعث محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَضَلُّوا كَثِيراً من النصارى الذين شايعوهم وَ ضَلُّوا عن مبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهم ضلوا قبلا و أضلوا و ضلوا بعدا عَنْ سَواءِ أي وسط السَّبِيلِ.
[78] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ لعنهم داود عليه السّلام حين اعتدوا في السبت فمسخوا قردة وَ لسان عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ حين كفروا بعد نزول المائدة فمسخوا خنازير ذلِكَ اللعن بِما عَصَوْا أي بسبب عصيان اليهود وَ كانُوا يَعْتَدُونَ أي بسبب اعتدائهم و تعديهم.
[79] كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لم يكن ينهى بعضهم بعضا عن المنكرات لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ في عدم تناهيهم عن المنكر.
[80] تَرى يا رسول الله كَثِيراً مِنْهُمْ من أهل الكتاب يَتَوَلَّوْنَ يوالون و يصادقون الَّذِينَ كَفَرُوا الكفار، ضدا للمسلمين لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ إلى الآخرة من العقاب لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بسبب كفرهم و عصيانهم وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ فهم في عذاب و سخط، و علم الإنسان بأن الملك يسخطه إيلام نفسي له.
[81] وَ لَوْ كانُوا أهل الكتاب يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ القرآن مَا اتَّخَذُوهُمْ أي لم يتخذ اليهود الكفار أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن أوامر الله، أما القليل منهم فقد آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[82] لَتَجِدَنَّ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فأشد أعداء المسلمين اليهود و المشركون وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً و حبّا لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى لكن لا مطلق النصارى بل المتصفون بالأوصاف الآتية ذلِكَ الحب منهم بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ علماء وَ رُهْباناً زهادا وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتباع الحق إذا عرفوه.
تبيين القرآن، ص: 134
[83] وَ إِذا سَمِعُوا هؤلاء النصارى ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ تملأ مِنَ الدَّمْعِ لرقة قلوبهم مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أي بسبب معرفتهم أن القرآن حق من عند الله يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بالحق فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ الذين شهدوا حقية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قيل: إن الآية نزلت في النجاشي و أصحابه حين آمنوا لما سمعوا القرآن الذي تلاه جعفر عليه السّلام.
[84] وَ ما لَنا أي أيّ شي ء يكون لنا؟ و هذا استفهام إنكار لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ بيان (ما) وَ الحال إنا نَطْمَعُ و نرجو أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ في الجنة.
[85] فَأَثابَهُمُ أي جازاهم اللَّهُ بِما قالُوا أي بسبب ما اعترفوا من التوحيد جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا عقيدة و عملا.
[86] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ الملازمون لها.
[87] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ فقد همّ قوم من الأصحاب أن يحرموا على أنفسهم الطيبات تزهدا و شوقا إلى الآخرة وَ لا تَعْتَدُوا عن الطيب إلى الخبيث، أو لا تجاوزوا حدود الله بجعل الحلال حراما إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين للحدود.
[88] وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ أي بالله مُؤْمِنُونَ.
[89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ الكلام بدون قصد الجد فِي أَيْمانِكُمْ جمع يمين كمن يحلف عن عادة لا عن قصد وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ أي حلفتم عن قصد الْأَيْمانَ جمع يمين فَكَفَّارَتُهُ فيما إذا حلف و خالف إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي إطعامهم طعاما وسطا لكل مسكين مدّ من الطعام أَوْ كِسْوَتُهُمْ إكساؤهم بثوبين كبردين أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ عتق عبد فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هذه الثلاثة فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ المذكورات كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ و خالفتم وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ فلا تحنثوا كَذلِكَ كما بين أمر الكفارة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هدايته لكم إلى شريعة الإسلام.
تبيين القرآن، ص: 135
[90] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ جميع أنواع القمار وَ الْأَنْصابُ الأصنام وَ الْأَزْلامُ سهام القمار رِجْسٌ مستقذر قذارة معنوية مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي العمل الذي به يأمر الشيطان فَاجْتَنِبُوهُ أي اجتنبوا كل واحد من المذكورات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون.
[91] إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ أيها الناس الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ البغض و الغضب فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ لما يحصل فيهما من الشرور وَ يَصُدَّكُمْ يمنعكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فإن الخمّار و المقامر لا يلتفتان بحالهما إلى الله وَ عَنِ الصَّلاةِ إذ لا يتمكنان حالهما من الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أي هل تنتهون عنها، و هذا استفهام طلب.
[92] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا عن المخالفة فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن أحكام الله فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ الواضح فمخالفتكم تضركم، و لا تضر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[93] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ حرج فِيما طَعِمُوا أي فيما أكلوا من الميسر و شربوا من الخمر سابقا إِذا مَا في المستقبل اتَّقَوْا المحرمات وَ آمَنُوا ثبتوا على إيمانهم وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ استمروا في عمل الصالحات ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا تأكيد لما سبق ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا في أعمالهم وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قيل: الاتقاء الأول اتقاء الشرب بعد التحريم، و الثاني هو الدوام على ذلك، و الثالث اتقاء جميع المعاصي، أو الاتقاء ماضيا و حالا و مستقبلا.
[94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ يمتحنكم بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي ببعض الحيوانات التي تصطاد، فإنها تأتي إليكم في حال الإحرام بحيث تَنالُهُ و تتمكن أن يصطادها أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ بأن تأخذوها باليد و الرمح، و إنما يبلوكم بها لِيَعْلَمَ ليميّز اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي في حال كون الله غائبا عن حواسه، فإن اصطادها تبين انه لا يخاف الله فَمَنِ اعْتَدى بأن صاد في الإحرام بَعْدَ ذلِكَ النهي فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[95] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ أي في حال الإحرام وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً لا نسيانا أو خطاء فعليه جزاء و كفارة مِثْلُ ما قَتَلَ أي أن يكفر بحيوان مماثل لما قتله مِنَ النَّعَمِ الإبل و البقر و الغنم يَحْكُمُ بِهِ أي بكون النعم مثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ رجلان عادلان من المسلمين، و يهدي الجزاء هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ بأن يبلغ الحرم فيذبح هناك أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على (مثل) أي يكفر كفارة هي طَعامُ مَساكِينَ بأن يجعل قيمة الهدي في الطعام أَوْ عَدْلُ مثل ذلِكَ الطعام صِياماً بأن يصوم بدل إطعام كل مسكين يوما لِيَذُوقَ متعلق ب (جزاء) وَبالَ جزاء أَمْرِهِ بقتل الصيد عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد في زمن الجاهلية وَ مَنْ عادَ إلى القتل بعد النهي فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بعقابه في الآخرة، و قد ورد أن على القتل الأول كفارة و لكن القتل الثاني لا كفارة عليه إنما عقابه في الآخرة وَ اللَّهُ عَزِيزٌ لا يغلب ذُو انْتِقامٍ.
تبيين القرآن، ص: 136
[96] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ في حال الإحرام وَ طَعامُهُ فحلال لكم أن تصيدوه و تأكلوه، و المراد ما له فلس مَتاعاً لَكُمْ أي في حال كون الصيد لتمتعكم و أكلكم وَ لِلسَّيَّارَةِ أي مسافريكم يتزودونه في الطريق وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً في حال الإحرام وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تجمعون في يوم القيامة.
[97] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان ل (الكعبة) قِياماً لِلنَّاسِ ما يقوم به أمر دينهم و دنياهم وَ جعل الله الشَّهْرَ الْحَرامَ لاستراحتكم عن الحروب وَ جعل الْهَدْيَ ذبائح مكة وَ جعل الْقَلائِدَ ما يقلد عند الإحرام من الأنعام علامة كونه للإحرام ذلِكَ الجعل لهذه الأمور لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فإن ما في تلك الأحكام من المصالح و الحكم تدل على علم الله الواسع.
[98- 99] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ان يبلغكم، و قد فعل، فلا عذر لكم وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ تظهرون وَ ما تَكْتُمُونَ تخفون من الأعمال و النوايا فيجازيكم عليه
[100] قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ فإنه لا تتساوى الأعمال و الأطعمة الخبيثة و الطيبة وَ لَوْ أَعْجَبَكَ أيها السامع كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فإن المعيار الجودة لا الكثرة، و هذا تحريض على تحرّي الجودة فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول، فلا تقتربوا الخبيث لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون.
[101] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ فقد كانوا يكثرون السؤال مما يوجب حزنهم، مثلا يسألون عن مكان أجدادهم الكفرة، فإن الجواب: بأنهم في النار، يحزنهم إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تظهر لكم تلك الأشياء تَسُؤْكُمْ أي تغمّكم وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ في زمان الوحي، و حين كون جبرئيل عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيجيب عن الله على كل سؤال تُبْدَ لَكُمْ أي تظهر لكم تلك الأشياء المسيئة عَفَا اللَّهُ عَنْها فلا يؤاخذكم عن عدم علمها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
[102] قَدْ سَأَلَها أي سأل عن هذه الأشياء قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ كأهل الكتاب ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها بتلك الأشياء كافِرِينَ حيث لم يقبلوها عن الرسل.
[103] ما جَعَلَ اللَّهُ ردّ لبدع أهل الجاهلية مِنْ بَحِيرَةٍ بحروا أي شقوا أذن الناقة فحرموها وَ لا سائِبَةٍ كانوا يسيبون الناقة أي يتركونها، فيحرمونها وَ لا وَصِيلَةٍ إذا ولدت الذكر و الأنثى لا يذبحون الذكر وَ لا حامٍ إذا ولدت عشرة أبطن لا يذبحوها على تفصيل في خرافاتهم، فكل هذه الأنواع محللة و ليست محرمة فإن الله لم يجعل تحريمها وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فإنهم كانوا يقولون هذه التشريعات من الله وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الحرام عن الحلال.
تبيين القرآن، ص: 137
[104] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي لهؤلاء الجاهليين تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَ إِلَى الرَّسُولِ ليحكم بينكم قالُوا حَسْبُنا كفانا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا نقلّد مذهب آباءنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ همزة استفهام دخلت على واو الحال، أي هل يقلدون الآباء و لو كان الآباء لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ إلى الطريق المنجح.
[105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ألزموا صلاحها و احفظوها لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ أي ضلال من ضل إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فلا يتحمل أحد وزر واحد فَيُنَبِّئُكُمْ يخبركم ليجازيكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[106] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ أي الشهادة التي شرعت فيما بينكم إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بأن قرب موته حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل من (حضر أحدكم الموت) اثْنانِ خبر (شهادة) أي عليكم أن يشهد اثنان ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ عادلان من المسلمين أَوْ شخصان آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ غير المسلمين، لكن إنما تصح شهادتهما إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ كنتم في السفر فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ بأن قاربكم الموت في ذلك الحال و لم تجدوا مسلمين تَحْبِسُونَهُما أي تقفونهما أيها الورثة لأداء الشهادة مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ و ذلك لاجتماع الناس الموجب لرعب قلوب الكافرين من الكذب في الشهادة على الوصية التي تحملاها فَيُقْسِمانِ أي الشاهدان الذميان بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم أيها الورثة في شهادتهما، فإن استحلافهما إنما هو مع الشك في صدق شهادتهما، و يقولان في حلفهما لا نَشْتَرِي بِهِ أي بإزاء اسم الله تعالى ثَمَناً بأن نحلف كذبا بثمن الدنيا وَ لَوْ كانَ المحلف له، الذي تجرأ الحلف ربحا له ذا قُرْبى قريبا منّا وَ لا نَكْتُمُ لا نخفي شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي نقيمها لله تعالى إِنَّا إِذاً إن كتمنا الشهادة لَمِنَ الْآثِمِينَ العاصين.
[107] فَإِنْ عُثِرَ أي اطلع الورثة عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً بأن علم الورثة كذبهما في شهادتهما فشخصان آخران من الورثة يَقُومانِ مَقامَهُما في الحلف مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أي الآخران هما من الورثة الذين استحق شي ء بالحلف عليهم، بأن توجه ضرر الحلف عليهم، و هما الْأَوْلَيانِ أي الأولى بالميت، و المراد الورثة فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ نفران من الورثة لَشَهادَتُنا أَحَقُّ أصدق مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا ما تجاوزنا الحق في شهادتنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إذا اعتدينا، فإن مسلما مع نصرانيين كانا
في السفر فمرض و كتب في صحيفته ما معه و سلمها و متاعه إلى النصرانيين فسرقا إناء فضة كانت في المتاع و لما جاءا إلى المدينة شكّت الورثة في الإناء فحلف النصرانيان بأنهما لم يجداها، ثم وجد الورثة إناء الفضة فحلفا بالموضوع و أخذها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وردها إلى الورثة.
[108] ذلِكَ الحكم بالحلف بعد الصلاة أَدْنى أقرب في أَنْ يَأْتُوا الشهود الكافرون بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها حقيقتها أَوْ يَخافُوا الشهود الكفار أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ أي يرد الشرع الأيمان إلى أولياء الميت بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي أيمان الشهود الكفار وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تحلفوا كذبا وَ اسْمَعُوا أحكامه أي اعملوا بها وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الذين بنوا حياتهم على الفسق فلا يلطف بهم.
تبيين القرآن، ص: 138
[109] يَوْمَ اذكر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ أجابكم الناس بالقبول أو الرد قالُوا لا عِلْمَ لَنا علما كاملا بإجابة الناس و رفضهم «1» إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تعمل كل ما غاب عن حواسنا.
[110] و اذكر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ قويتك بِرُوحِ الْقُدُسِ بروح طاهرة تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ حيث لا يتكلم في هذا العمر صبي، و ذلك إعجاز منه وَ كَهْلًا في حال كونك كبيرا تكلمهم بالإعجاز و النبوة وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ جنس الكتب السماوية وَ الْحِكْمَةَ الشريعة وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ تصنع مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي أي تفعل ذلك بإذن الله، و لعله إشارة إلى عدم جواز صنع المجسمة بغير إذن الله «2» فَتَنْفُخُ فِيها الروح فَتَكُونُ طَيْراً حيّا بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ تشفي الْأَكْمَهَ الأعمى وَ الْأَبْرَصَ الذي لا علاج له بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى من قبورهم بأن تحييهم بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ أي منعت أن يصلوا إليك بسوء بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالأدلة الواضحة فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ و هم اليهود الذين لم يأمنوا بالمسيح عليه السّلام إِنْ هذا أي: ما هذا الذي أتيت بالإعجاز إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي واضح.
[111] وَ اذكر إِذْ أَوْحَيْتُ على لسان رسلي إِلَى الْحَوارِيِّينَ خواص أصحاب عيسى عليه السّلام، قال لهم زكريا و يحيى عليه السّلام أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي عيسى عليه السّلام قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ.
[112] و اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أي هل تتعلق إرادته أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مأكلا مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تسألوا سؤالا لا فائدة فيه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
[113] قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها من المائدة وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بأن نلمس الإعجاز لمسا فتطمئن القلوب برسالتك وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في ادعاء النبوة وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ نشهد عند الناس بإعجازك.
__________________________________________________
(1) أو لا علم لنا بالنسبة إلى علمه عز و جل. [.....]
(2) كما لو كانت للعبادة.
تبيين القرآن، ص: 139
[114] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ يا الله رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ المائدة يوم نزولها لَنا عِيداً إذ العيد إنما هو يوم وقوع حدث مفرح لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا للمعاصرين و الأجيال الآتية وَ آيَةً عطف على (عيد) مِنْكَ أي معجزة من قبلك وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
[115] قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها أي منزل المائدة عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ إنزالها مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم لأنه جحد بعد مشاهدة المعجزة التي طلبها، فإن جماعة من بني إسرائيل انضموا إلى الحواريين عند سؤال المائدة فأنزلها الله تعالى و أكلوا منها ثم كفر جماعة من بني إسرائيل فمسخوا.
[116] وَ إِذْ اذكر زمان قالَ اللَّهُ بمعنى يقول، و المراد يوم القيامة يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ استفهام بقصد إعلام المسيحيين بطلان تأليههم للمسيح قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ المسيح سُبْحانَكَ أنزّهك تنزيها عن الشريك ما يَكُونُ لِي أي لا يجوز لي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أن أقول قولا لا يحق إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي فكيف يخفى عليك قولي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ جاء لفظ (النفس) للمشاكلة إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تعلم ما غاب عن الحواس.
[117] ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ بأن أقول لهم و هو أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً رقيبا أمنعهم عن الانحراف في العقيدة ما دُمْتُ فِيهِمْ في الأرض فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي رفعتني، و هو أخذ الشي ء وافيا روحه و جسده كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ المراقب لأعمالهم فأنت تعلم ذلك وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ مراقب حاضر.
[118] إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الأحقاء بالعذاب لأنهم عبدوا غيرك وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي لا تغلب الْحَكِيمُ تعمل كل شي ء حسب المصلحة، و لعل الله سبحانه يمتحن قسما من القاصرين من الكفار في يوم القيامة ليغفر لهم إذا نجحوا في الامتحان، كما أشار إلى ذلك بعض الأحاديث.
[119- 120] قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فالصادق في عبادته و عمله يجزى بالثواب لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ دائمين فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ و رضاه يوجب سرورهم النفسي وَ رَضُوا عَنْهُ لأنه أعطاهم ما يرضيهم ذلِكَ الفوز بالجنة الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
تبيين القرآن، ص: 140
مكية و آياتها مائة و خمس و ستون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ فلم تكن حتى ظلمة قبل الخلق وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يعدلون بربهم الأوثان، فيقولون إنها عدل و مساو لله في الألوهية.
[2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ آدم و حواء، أو أن أصل كل إنسان التراب، فيتحول عشبا، ثم أكلا، ثم منيا، ثم إنسانا ثُمَّ قَضى أي قدر و حكم أَجَلًا وقتا محدودا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى سمي في الملكوت عِنْدَهُ فإنه يعلم انتهاء مدة كل إنسان، أو كل البشر، أو يوم القيامة ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي تشكون في الإله الذي بيده الخلق و المعاد.
[3] وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ فلا إله غيره يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من خير و شر.
[4] وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الدلائل التي تدل على الله إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ غير ملتفتين.
[5] فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الرسول لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ في الآخرة يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي أخباره و المراد جزاؤهم من العذاب.
[6] أَ لَمْ يَرَوْا يعلموا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أهل كل عصر كذّبوا الرسل مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بأن جعلناهم أغنياء و ملوكا و ذوي حضارة ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فإن أهل مكة لم يكونوا بتلك المنزلة وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ أي ماء المطر مِدْراراً غزيرا وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ تحت قصورهم و أشجارهم فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي بسبب ذنوبهم وَ أَنْشَأْنا خلقنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً جماعة آخَرِينَ.
[7] وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كِتاباً كتابة فِي قِرْطاسٍ صحيفة فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فإن اللمس أنفى للشك من الرؤية لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر.
[8] وَ قالُوا لَوْ لا أي لما ذا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي يكون مع النبي ملك يكلّمنا حتى نصدقه وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لحق هلاكهم إذا لم يؤمنوا ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون، فقد تعلقت مشيئة الله تعالى بانفصال الآخرة عن الدنيا فإذا ظهرت الآخرة مات الإنسان.
تبيين القرآن، ص: 141
[9] وَ لَوْ جَعَلْناهُ أي الرسول مَلَكاً لأن الملك مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسول أيضا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا إذ عين البشر لا تطيق رؤية الملك على صورته الواقعية، فاللازم أن يكون الملك بصورة الرجل وَ لَلَبَسْنا أي خلطنا من الالتباس عَلَيْهِمْ أي على الكفار ما يَلْبِسُونَ أي ما يخلطون من اشتباه الملك بأنه رجل، فإن الخلط و الاشتباه فعلهم، نسب إليه تعالى لأنه السب، مثل (و ما رميت إذ رميت) «1».
[10] وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ أي استهزأ الكفار بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله، و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَحاقَ أحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي جزاء استهزائهم.
[11] قُلْ سِيرُوا اذهبوا و سافروا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ للرسل، فإنهم إذا سافروا، رأوا آثار عاد و ثمود و الأمم البالية و سمعوا أخبارهم.
[12] قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للكفار لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ في الجواب، إذا لم يحروا جوابا لِلَّهِ فكيف تشركون به غيره كَتَبَ أوجب عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أن يرحم العباد لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فإنه تعالى يجمعهم ليأتي بهم في يوم القيامة، و الجمع يمتد من أول الدنيا إلى فنائها لا رَيْبَ فِيهِ لا شك في يوم القيامة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن أعطوا أعمارهم ليشتروا العذاب فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
[13] وَ لَهُ ما سَكَنَ أي ما حل، و المعنى له كل شي ء فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
[14] قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا يتولى شأني، و الاستفهام للإنكار، في حال كونه فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما وَ هُوَ يُطْعِمُ يرزق الناس وَ لا يُطْعَمُ أي لا يأكل شيئا قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أمرني ربي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أول الناس استسلاما لله وَ أمرني ربي قائلا لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يشركون بالله غيره.
[15] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم القيامة.
[16] مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ العذاب يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة فَقَدْ رَحِمَهُ أي أنعم عليه وَ ذلِكَ الصرف الْفَوْزُ الظفر الْمُبِينُ الظاهر.
[17] وَ إِنْ يَمْسَسْكَ أي يوصل إليك اللَّهُ بِضُرٍّ كالفقر و المرض فَلا كاشِفَ مزيل لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ كالصحة و الأمان فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يقدر أحد على رفعه و إزالته عنك.
[18] وَ هُوَ الْقاهِرُ يقهر الناس و يجبرهم كما يشاء فَوْقَ عِبادِهِ بالغلبة و القدرة وَ هُوَ الْحَكِيمُ يفعل الأشياء حسب المصلحة الْخَبِيرُ بكل شي ء.
__________________________________________________
(1) سورة الأنفال: 17.
تبيين القرآن، ص: 142
[19] قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أي موجود أَكْبَرُ شَهادَةً أي أعظم من حيث الشهادة، فقد قالوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنكرك أهل الكتاب فأت بمن يشهد لك قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يشهد لي، و شهادته إجراء المعجزة على يديه وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ لأخوفكم بسبب القرآن وَ أنذر سائر مَنْ بَلَغَ بلغه القرآن إلى يوم القيامة أَ إِنَّكُمْ استفهام إنكار لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ يا رسول الله لا أَشْهَدُ بما تشهدون قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أي تشركونها مع الله، و المراد بها الأصنام.
[20] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اليهود و النصارى يَعْرِفُونَهُ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ أي معرفة كاملة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من المشركين و أهل الكتاب فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لأنهم بما عاندوا من محاربة الحق انحرفت طباعهم.
[21] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن جعل له شريكا أو أولادا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كالقرآن و سائر الكتب إِنَّهُ الضمير للشأن لا يُفْلِحُ أي لا يفوز الظَّالِمُونَ فكيف بمن كان أظلم.
[22] وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ أي نجمعهم جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي الشركاء الذين جعلتموهم لي شريكا الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انهم شركاء الله.
[23] ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي عاقبة كفرهم، فإن الفتنة تطلق على الكفر إِلَّا أَنْ قالُوا كذبا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.
[24] انْظُرْ يا رسول الله كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ استفهام تعجب، بأن نفوا كونهم مشركين وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أي ذهبت عنهم الأوثان التي كانوا يعبدونها ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الأوثان، يفترون بكونها شركاء لله.
[25] وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ إلى القرآن حين تقرؤه وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية، كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ أي يفهموا القرآن، و ذلك جزاء ما عملوا من الكفر و المعاصي و هذا كناية عن منع اللطف بهم وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً أي ثقلا أو حملا ثقيلا حتى لا يسمعوا، كناية عن عدم انتفاعهم بالسماع وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي جميع المعجزات لا يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي في حال كونهم جاءوك للجدال، لا للفهم يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ أباطيل الْأَوَّلِينَ الذين لفقوا هذه الأباطيل لصرف الناس إلى أنفسهم.
[26] وَ هُمْ الكفار يَنْهَوْنَ الناس عَنْهُ أي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، بأن يمنعوهم عن الهداية وَ يَنْأَوْنَ أي يبتعدون عَنْهُ أي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، فيتحملون جرمين وَ إِنْ ما يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن ضرر كفرهم و صدّهم عائد إليهم وَ ما يَشْعُرُونَ أي ليس لهم شعور بأن ضرر ذلك عائد إليهم.
[27] وَ لَوْ تَرى أيها الرائي إِذْ وُقِفُوا عَلَى حافة النَّارِ لإلقائهم فيها فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ أي نرجع إلى الدنيا وَ يا ليتنا لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
تبيين القرآن، ص: 143
[28] بَلْ ليس الأمر كذلك، فإن تمنيهم كذب فإنهم إنما تمنوا لأنه بَدا ظهر لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ أي كفرهم و عصيانهم، فإنهم في الآخرة يخفونها و يقولون (و الله ربنا ما كنا مشركين) فيختم الله على أفواههم و تكلم أيديهم و أرجلهم وَ لَوْ رُدُّوا إلى الدنيا لَعادُوا رجعوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر و المعاصي، فتمنيهم وقتي و ليس بصادق، فإذا رجعوا إلى الدنيا رجعوا إلى كفرهم و عصيانهم وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في أنهم لو ردّوا صاروا مؤمنين مطيعين.
[29] وَ قالُوا الكفار إِنْ ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا القريبة، فلا آخرة وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ لا نحيى بعد الموت.
[30] وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا الكفار عَلى حساب رَبِّهِمْ في الآخرة قالَ الله لهم أَ لَيْسَ هذا الجزاء الذي تشاهدونه بِالْحَقِّ و الاستفهام للتوبيخ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا يحلفون بالله أنه حق، و هذا جزاء ما كانوا يقولون في الدنيا: إن الدين ليس بحق قالَ الله فَذُوقُوا ما ينالكم من الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم.
[31] قَدْ خَسِرَ النعيم و الثواب الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي بالآخرة التي فيها يلاقون حكم الله حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ القيامة بَغْتَةً فجأة قالُوا يا حَسْرَتَنا أيتها الحسرة احضري فهذا وقتك عَلى ما فَرَّطْنا قصّرنا فِيها في الدنيا وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ معاصيهم عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا للتنبيه ساءَ بئس ما يَزِرُونَ أي يحملونه من الذنوب.
[32] وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ يلعب بها الإنسان و يلهو و ليست واقعية باقية وَ لَلدَّارُ اللام للتأكيد الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ بأن الآخرة خير.
[33] قَدْ للتحقيق نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فيك من إنك كاذب و ساحر و مجنون، و هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ينكرون فإن تكذيب الرسول تكذيب المرسل.
[34] وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ كذبهم أقوامهم رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا أي على تكذيب الناس لهم وَ أُوذُوا أي صبروا على إيذاء الناس لهم حَتَّى أَتاهُمْ جاءهم نَصْرُنا على أقوامهم وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ التي وعدها الرسل بنصرهم، أي لا يتغير نصره و وعده وَ لَقَدْ جاءَكَ يا رسول الله مِنْ نَبَإِ أي خبر الْمُرْسَلِينَ كيف نصرناهم على أعدائهم.
[35] وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عظم و شق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ إعراض الكفار عن الإيمان فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب و تصنع نَفَقاً سربا و نقبا فِي الْأَرْضِ أَوْ تبتغي سُلَّماً و مصعدا فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ معجزة ليؤمنوا بك، فافعل، لكنك لا تقدر على هدايتهم و إن فعلت ذلك، و هذا كناية عن عدم إيمانهم، و لو أتيت بالشي ء المستحيل، بأن جئتهم من تخوم الأرض أو أعالي السماء بالمعجزات وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ بأن يلجئهم على الإيمان لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بالإلجاء فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بأن تجزع لأنهم لا يؤمنون.
تبيين القرآن، ص: 144
[36] إِنَّما يَسْتَجِيبُ يجيب دعوتك و يؤمن بك الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الكلام لأنهم أحياء، و الكفار كالموتى لا يسمعون وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء.
[37] وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ أي لما ذا لا تنزل عَلَيْهِ آيَةٌ كعصا موسى عليه السّلام و ما أشبه مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مثل تلك الآيات وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن إنزالها بعد طلبهم يوجب إهلاكهم لأن عادة الله جرت في أنه إذا نزّل آية مقترحة ثم لم يأمنوا أهلكهم.
[38] وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ حيوان يمشي على وجه الأرض وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ في الهواء بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ في أن الله خلقها و يرزقها ما فَرَّطْنا قصرنا فِي الْكِتابِ القرآن مِنْ شَيْ ءٍ فقد ذكرنا فيه كل عبرة و موعظة يحتاج إليها الإنسان في عرفان مبدأه و معاده و حياته ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي تجمع جميع الدواب و الطيور.
[39] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا القرآن و غيره صُمٌّ جمع أصم، عن سماع الآيات سماعا مفيدا وَ بُكْمٌ جمع أبكم، من لا لسان له، أي لا يقولون الحق فِي الظُّلُماتِ ظلمات الكفر و الجهل فإنه لا يرى سبيل الحياة السعيدة كما لا يرى من في الظلمة الطريق مَنْ يَشَأِ اللَّهُ إضلاله، بأن تركه و شأنه حيث عاند الحق يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و إنما يشاء حسب الموازين المقررة، فإن من استعد للهداية، يشاء الله هدايته.
[40] قُلْ يا رسول الله أَ رَأَيْتَكُمْ أي أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ في الدنيا أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ يوم القيامة أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أي هل تدعون غير الله لكشف العذاب عنكم، و هل تتوجّهون إلى أصنامكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الأصنام آلهة.
[41] بَلْ إِيَّاهُ الله تَدْعُونَ تخصونه بالدعاء فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ ما تدعونه إلى رفعه إِنْ شاءَ كشفه وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ أي تتركون دعوة أصنامكم التي تشركونها بالله، كأنها منسية لكم.
[42] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ أي الأمم بِالْبَأْساءِ كالحزن وَ الضَّرَّاءِ كالمرض لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ إلى الله و يقبلون إليه، و التضرع التذلّل.
[43] فَلَوْ لا أي فهلّا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا عذابنا تَضَرَّعُوا إلى الله، فلم يتضرّعوا مع وجود الداعي للتضرع وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فالمانع عن تضرعهم قسوة قلوبهم وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فلم تكن أعمالهم مخالفة في نظرهم حتى يتوبوا عنها، لينكشف عنهم العذاب.
[44] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا الوعظ الذي وعظناهم به من البأساء و الضراء فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ من النعم امتحانا لهم بالرخاء بعد الشدة، الشدة ليستغفروا، و الرخاء ليشكروا حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من أصناف النعم، و لم يشكروا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة بإنزال العذاب عليهم فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من الرحمة يتحسرون على ما سلف منهم.
تبيين القرآن، ص: 145
[45] فَقُطِعَ استؤصل دابِرُ آخر، أي أهلكوا إلى آخرهم الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاكهم.
[46] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ أصمكم و أعماكم وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن أزال عقولكم، أو طبعها بطابع القسوة و البلاهة مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بأحد هذه الثلاثة، و هذا استفهام إنكار، أي لا إله إلا الله ليرد عليكم هذه النعم الجسام انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نبينها ثُمَّ هُمْ الكفار يَصْدِفُونَ يعرضون عنها.
[47] قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ اخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً من غير مقدمة، فجأة أَوْ جَهْرَةً تسبقه أمارته، أو ليلا أو نهارا هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ فإن الهلاك- و المراد به الهلاك السيئ- إنما هو للظالمين، أما غيرهم فإذا مات كان إلى النعيم.
[48] وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ ما يجب إصلاحه من نفسه و مجتمعه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ خوفا واقعيا بخسران الدنيا و الآخرة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوت الثواب.
[49] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أدلتنا يَمَسُّهُمُ يصل إليهم الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم و خروجهم عن طاعة الله.
[50] قُلْ يا رسول الله، للذين يريدون منك أعمالا خارقة عن طوق البشر لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ مقدراته أو أرزاقه حتى آتي بكل ما تريدون وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ الذي غاب عن الحواس، إلا بمقدار يريده الله وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ آتي بأعمال الملك، بل أنا بشر إِنْ ما أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ فما أفعل إلا كما يريد الله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى الذي لا يعلم و هو غير مهتد وَ الْبَصِيرُ فالمؤمن بصير و الكافر أعمى أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ لتهتدوا إلى الدين.
[51] وَ أَنْذِرْ يا رسول الله بِهِ أي بالذي يوحى إليك الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ أي من يخاف البعث مؤمنا كان أو كافرا، فإن احتمال الحشر كاف في تحريك الإنسان للهداية لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يلي أمرهم وَ لا شَفِيعٌ يشفع لهم عند الله لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يتقون الكفر و الآثام.
[52] وَ لا تَطْرُدِ أي لا تبعّد يا رسول الله الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ الصباح وَ الْعَشِيِّ العصر يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي مخلصين في عبادتهم فقد طلب كبار المشركين من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يطرد فقراء المؤمنين ليأتي المشركون إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يفاوضونه ترفعا منهم عن الفقراء المسلمين، فنزلت الآية ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حتى تطردهم خوفا من أن يلصق بك سوء أعمالهم وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فإن كل إنسان محاسب بما عمل، و الجملتان بمعنى: (و لا تزر وازرة وزر أخرى) «1» فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ بطردهم مِنَ الظَّالِمِينَ لأنه لا يجوز طرد المسلم.
__________________________________________________
(1) سورة الأنعام: 164.
تبيين القرآن، ص: 146
[53] وَ كَذلِكَ أي هكذا كابتلاء هؤلاء الفقراء و الأغنياء فَتَنَّا ابتلينا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ كل طائفة بطائفة أخرى لِيَقُولُوا الأغنياء، و اللام للعاقبة أَ هؤُلاءِ الفقراء، و الاستفهام للإنكار مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالخير مِنْ بَيْنِنا نحن الأغنياء، فشملهم الخير دوننا نحن الرؤساء و الأشراف أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ هذا جواب لهم بأن الله أعلم بالشاكر فيوفقه، و الفقراء حيث شكروا وفّقوا، دونكم أنتم.
[54] وَ إِذا جاءَكَ يا رسول الله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا القرآن و سائر الآيات فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أنتم في سلام كَتَبَ أوجب رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ أي بغفلة، فإن السوء لا يرتكبه العاقل إلا عن جهل ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ بعد عمل السوء وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأنتم منّ الله عليكم أولا بالإيمان، و ثانيا بالغفران.
[55] وَ كَذلِكَ أي هكذا نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها تفصيلا بلا غموض وَ لِتَسْتَبِينَ أي و لتستوضح و تعرف بوضوح سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فتعرف المجرم من غيره لتعامل كلا حسب ما ينبغي.
[56] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ نهاني الله أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام و نحوها قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ في عبادة غير الله قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً إذا تبعت أهواءكم وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ و الجملتان للتأكيد.
[57] قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة مِنْ رَبِّي أي إن الحجة أتتني من الله وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ أي بالقرآن الذي هو البينة ما أي ليس عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب، لأنهم كانوا يقولون: عجّل عذابنا يا محمد إن كنا على باطل إِنِ بمعنى (ما) الْحُكْمُ في عذابكم إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ أي يبين القصص الحق لهدايتكم وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ الذي يفصل بين الحق و الباطل، أو القاضين.
[58] قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي في قدرتي و تحت إرادتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ما تطلبون عجلته من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فإني حينئذ أنزلت العذاب و استرحت منكم وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فينزل عليهم العذاب وقت استحقاقهم.
[59] وَ عِنْدَهُ تعالى مَفاتِحُ الْغَيْبِ ما يتوصل به إلى المغيبات، مثل نجاة السجين مغيبة فلا يعلم بما ذا ينجى لكن الله يعلم ذلك، و بيده مفتاحه لا يَعْلَمُها تلك المفاتح إِلَّا هُوَ الله فيعلم أوقاتها و الحكمة في تعجيلها و تأخيرها وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ من الشي ء الظاهر و الخفي وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ عن شجرة إِلَّا يَعْلَمُها تلك الورقة بشئونها كلها وَ لا حَبَّةٍ كالحنطة و الذرة فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ مخفية في بطنها وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ هو علمه سبحانه أو اللوح المحفوظ مُبِينٍ ظاهر لديه سبحانه.
تبيين القرآن، ص: 147
[60] وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي ينيمكم بأن يأخذ أرواحكم المربوطة باليقظة وافيا، فإن بعض الروح يخرج عند النوم بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ عملتم بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يوقظكم فِيهِ أي في النهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي ليستوفي المستيقظ أجله المضروب له في الدنيا، و الذي سمي له ثُمَّ إِلَيْهِ إلى حكمه تعالى مَرْجِعُكُمْ رجوعكم في الآخرة ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ يخبركم، ليجزيكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا.
[61] وَ هُوَ الْقاهِرُ المسلط فَوْقَ عِبادِهِ بالتصرف و القدرة وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حافظين من الملائكة لتسجيل أعمالكم حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بأن حان وقت موته تَوَفَّتْهُ أماته رُسُلُنا الملائكة وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ لا يغفلون و لا يتوانون.
[62] ثُمَّ رُدُّوا ارجعوا في الآخرة إِلَى اللَّهِ إلى عذابه و ثوابه مَوْلاهُمُ الذي يتولى شأنهم الْحَقِّ فإن ما عداه تعالى مولى بالباطل، إلا من قرره الله أَلا تنبه أيها السامع لَهُ لله الْحُكْمُ الحكومة في عباده وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحسب الخلائق كلهم في طرفة عين و لا يشغله حساب عن حساب.
[63] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ شدائد، و إنما قيل للشدائد ظلمة لان كليهما يوجبان الهول، و لا يعرف الإنسان مصيره فيهما الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ أي الله سبحانه تَضَرُّعاً على ألسنتكم وَ خُفْيَةً في نفوسكم، في حال كونكم قائلين لَئِنْ أَنْجانا الله مِنْ هذِهِ الشدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ نشكره بالطاعة في المستقبل.
[64] قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ غم سواها ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ تعودون إلى الشرك و لا تفون بالوعد.
[65] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كالصواعق أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كالخسف أَوْ يَلْبِسَكُمْ يخلّطكم شِيَعاً فرقا متعددة و أحزابا متناحرين وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ عذاب بَعْضٍ كما نرى في الأحزاب المتناحرة، و إنما أسند هذا إلى الله لأنه يتركهم و شأنهم حتى يكونوا أحزابا انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ نردد الْآياتِ الدالة على وجود الله و صفاته لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعلمون الحق فيتبعونه.
[66] وَ كَذَّبَ بِهِ أي بالقرآن المفهوم من الآيات قَوْمُكَ قريش وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ حتى أحفظكم عن التكذيب و العذاب.
[67] لِكُلِّ نَبَإٍ خبر، كخبر عذابكم مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار و حصول وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عند وقوعه.
[68] وَ إِذا رَأَيْتَ أيها الرائي الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا يدخلون في الآيات بقصد الاستهزاء و التكذيب فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و لا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي غير القرآن وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن جلست معهم نسيانا فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى أي بعد أن تذكرت النهي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخائضين في الآيات.
تبيين القرآن، ص: 148
[69] وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ أي حساب الخائضين مِنْ شَيْ ءٍ فليس وزر عملهم على المتقين وَ لكِنْ على المتقين ذِكْرى بأن يذكروا الخائضين بقبح عملهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الخوض.
[70] وَ ذَرِ أعرض الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً تهاونوا به كأنه ألعوبة و أداة لهو وَ غَرَّتْهُمُ خدعتهم الْحَياةُ الدُّنْيا فظنوا أنها كل شي ء وَ ذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ أي لئلا تهلك نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ من الإثم، فإنهم إن تجنبوا الإثم لا يهلكون لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ يلي أمرهم وَ لا شَفِيعٌ يشفع لهم لمحو ذنوبهم وَ إِنْ تَعْدِلْ النفس كُلَّ عَدْلٍ أي تعطي كل فداء لنجاة نفسه لا يُؤْخَذْ لا يقبل العدل مِنْها أي من النفس أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا أهلكوا بِما كَسَبُوا من السيئات لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء حار يغلي وَ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم.
[71] قُلْ أَ نَدْعُوا أي هل نعبد، و الاستفهام للإنكار مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا أي الصنم حيث لا يقدر على نفع و لا ضر وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا نرجع إلى الشرك، كمن يرجع القهقرى على عقب رجله بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى الإسلام كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ ذهبت به مردة الجن في الصحارى، فإن مردة الجن يضل الإنسان إلى خلاف الجادة في الصحراء فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ في حال كونه متحيّرا لَهُ أي للإنسان الذي ضل أَصْحابٌ رفقاء يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى طريق الحق، قائلين له ائْتِنا تعال معنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الإسلام هُوَ الْهُدى وحده، و المسلمون كأصحاب ذلك الضال الذي أضلّه الشيطان و رفقاء السوء وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي نخضع لأوامر الله.
[72] وَ أمرنا حيث قال الله لنا أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ أي خافوا منه فلا تعصوا وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تجمعون يوم القيامة، إلى حسابه و جزائه.
[73] وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ لا بالباطل لأجل اللعب و اللهو وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ أي متى أراد الخلق فَيَكُونُ ما أراد قَوْلُهُ الْحَقُّ فلا يقول باطلا وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي البوق ينفخ فيه إسرافيل لإحياء الأموات، و إنما خص ذلك اليوم بأن الملك له، لعظمة الملك في ذلك اليوم عالِمُ الْغَيْبِ صفة (الذي خلق) و الغيب ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما شوهد بالحواس وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أفعاله الْخَبِيرُ المطلع على الأشياء.
تبيين القرآن، ص: 149
[74] وَ إِذْ و اذكر يا رسول الله زمان قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ هو عمه، لأنه يطلق على العم: الأب آزَرَ اسم عمه أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً استفهام إنكار، فإن عمه كان عابدا للأوثان إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ الذين يعبدون الأصنام فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر.
[75] وَ كَذلِكَ كما أرينا إبراهيم عليه السّلام قبح عبادة الأصنام نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ملكهما بأن عرف أن لهما إلها، خلافا لرؤية الجهال فإنهم ينظرون إليهما غافلين، أو رأى عليه السّلام الغرائب فيهما وَ لِيَكُونَ و لعله عطف على مقدر، أي تقديرا لإيمانه، و ليكون مِنَ الْمُوقِنِينَ يقينا عينيا.
[76] فَلَمَّا جَنَّ أظلم عَلَيْهِ على إبراهيم عليه السّلام اللَّيْلُ رَأى إبراهيم عليه السّلام كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي استفهام إنكار، أنكر به على عباد الكواكب فَلَمَّا أَفَلَ و غاب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ حب عبادة.
[77] فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً طالعا قالَ هذا رَبِّي استفهام إنكار فَلَمَّا أَفَلَ غاب قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى الحق لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.
[78] فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ منهما فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ تجعلونه شريكا مع الله.
[79] إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ نفسي صرفتها بالاعتقاد لِلَّذِي فَطَرَ خلق السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً مائلا عن الشرك إلى الإيمان وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
[80] وَ حاجَّهُ خاصمه قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ استفهام إنكار، أي احتجاجكم لا يضلني وَ قَدْ هَدانِ أي و الحال أن الله هداني إلى الدين وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي لا أخاف من آلهتكم فإن القوم خوّفوا إبراهيم عليه السّلام عن آلهتهم إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً بأن يشأ الله أن يضرني، فالضرر بيده وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً بخلاف أصنامكم الجاهلة أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميزون الحق من الباطل.
[81] وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ أي أصنامكم التي جعلتموها شركاء لله وَ كيف لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ أي أنتم أحق بالخوف من الله ما لَمْ يُنَزِّلْ الله بِهِ أي بكونه شريكا عَلَيْكُمْ سُلْطاناً دليلا، إذ لا دليل على شركة الأصنام فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ الموحدون أو المشركون إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما يحق أن يخاف منه.
تبيين القرآن، ص: 150
[82] الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أي لم يشركوا أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ هدوا إلى طريق الحق.
[83] وَ تِلْكَ التي تقدمت من حجة إبراهيم عليه السّلام على المشركين حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ المشركين نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ كما شئنا رفع درجات إبراهيم عليه السّلام إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
[84] وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ذرية إبراهيم عليه السّلام داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فإن إبراهيم عليه السّلام لما أحسن جعلنا في ذريته النبوة.
[85- 86] وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانهم.
[87] وَ مِنْ آبائِهِمْ عطف على (كلا) وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ أي فضلنا هؤلاء و بعض آبائهم و أولادهم و إخوانهم وَ اجْتَبَيْناهُمْ اخترناهم للنبوة وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
[88] ذلِكَ الهدى لهؤلاء هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ الذين قبلوا الهداية وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ بطل عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي محي أعمالهم الخيرة.
[89] أُولئِكَ من تقدم من الأنبياء عليهم السّلام الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ جنس الكتاب السماوي وَ الْحُكْمَ بين الناس وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها بهذه الثلاثة هؤُلاءِ المعاصرون لك يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَقَدْ وَكَّلْنا بِها بمراعاتها قَوْماً هم المسلمون الذين التفوا حول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من بعد لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ.
[90] أُولئِكَ الأنبياء هم الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أي اقتد يا رسول الله بطريقة أولئك قُلْ يا رسول الله لا أَسْئَلُكُمْ لا أطلب منكم أيها الناس عَلَيْهِ على الهدى أَجْراً إِنْ هُوَ أي ليس القرآن إِلَّا ذِكْرى تذكيرا و موعظة لِلْعالَمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 151
[91] وَ ما قَدَرُوا الكفار اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي لم ينزلوه منزلته اللائقة به إِذْ قالُوا و هم اليهود قالوا ذلك عنادا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ فإنهم قالوا لم ينزل الله كتابا على نبي فكيف تقول أنت يا محمد نزل عليك القرآن قُلْ يا رسول الله مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً يستضاء به في الدين وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ أي ذلك الكتاب، و هذا تأكيد لإنزال الله تعالى قَراطِيسَ كتابا و صحفا تُبْدُونَها أي تظهرون بعضها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً مما في الكتاب من صفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأحكام وَ عُلِّمْتُمْ بواسطة كتاب بموسى عليه السّلام ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ معاشر اليهود قبل نزول الكتاب وَ لا آباؤُكُمْ الذين كانوا قبل موسى عليه السّلام قُلْ أنزله اللَّهَ فقولكم بأنه لم ينزل كتابا كذب ثُمَّ ذَرْهُمْ دعهم يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فِي خَوْضِهِمْ أباطيلهم حال كونهم يَلْعَبُونَ.
[92] وَ هذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير الخير مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي التوراة وَ لِتُنْذِرَ عطف على المعنى أي للبركة و الإنذار أُمَّ الْقُرى مكة وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي يوقنون بوجود الحساب و الجزاء يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يراعونها.
[93] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إلى الله شيئا كذبا أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ كمسيلمة و سجاح وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فإنهم قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا وَ لَوْ تَرى أيها الرائي إِذِ الزمان الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ شدائده من غمره الماء إذا غشيه وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أي أمدوها لقبض أرواحهم، قائلين أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ إلينا لنقبضها الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي العذاب الذي تلقون فيه الهوان بِما أي بسبب ما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فلا تعملون بها.
[94] وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا للحساب و الجزاء فُرادى منفردين عن الأعوان و الأنصار كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ من بطن أمهاتكم وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أعطيناكم في الدنيا وَراءَ ظُهُورِكُمْ تركتم الأموال و حملتم الذنوب وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم، فقد قال بعض الكفار سوف يشفع لي اللات و العزى الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي شركاء لله، في استحقاق عبادتكم لها لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي انقطع الوصل بينكم و بين الأصنام وَ ضَلَّ ضاع عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم آلهة.
تبيين القرآن، ص: 152
[95] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ أي يشق الْحَبِّ كالحنطة، لإخراج النبات وَ النَّوى لإخراج النخل و الشجر يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالحيوان من البيضة وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ كالبيضة من الطير ذلِكُمُ (كم) خطاب للسامعين اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عنه مع وضوح الدليل.
[96] فالِقُ الْإِصْباحِ أي شاق عمود الصباح عن ظلمة الليل وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً يسكن الخلق فيه للاستراحة وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً أي لأجل حساب الأوقات و الفصول ذلِكَ الذي جعله تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
[97] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ فإن الإنسان يهتدي في الظلمة بسبب النجم قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيّنا الحجج لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإن العالم هو المنتفع بالآيات.
[98] وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم عليه السّلام، فإنه الأصل فلكم مستقر في الأرض وَ مُسْتَوْدَعٌ في الصلب، أو مستقر في الآخرة و المستودع في الدنيا قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ أي يفهمون.
[99] وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ من أنواع النباتات فَأَخْرَجْنا مِنْهُ من النبات خَضِراً أي شيئا أخضر نُخْرِجُ مِنْهُ أي من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً تركب بعضه على بعض كسنبلة الحنطة وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها بدل من (النخل) «1» قِنْوانٌ مبتدأ «2»، و هو جمع قنو، بمعنى الغدق الذي فيه التمر دانِيَةٌ أي قريبة التناول وَ جَنَّاتٍ عطف على (نبات) جمع جنة بمعنى البستان مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً أي بعض هذه الثمار تشبه الأخرى و بعضها لا تشبه وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ أي ثمر كل واحد من هذه الأشجار إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ أي نضجه، أي انظروا من أول خروجه إلى آخر إدراكه الكمال إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ دالات على وجود الصانع و صفاته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
[100] وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ أي قالوا إن لله شركاء هم الجن كما في آية أخرى: (و جعلوا بينه و بين الجنة نسبا) «3» وَ الحال أن الله خَلَقَهُمْ فالمخلوق كيف يكون شريكا للخالق وَ خَرَقُوا اختلقوا لَهُ بَنِينَ كما قالت اليهود و النصارى في عزير و المسيح عليه السّلام وَ بَناتٍ كما قال المشركون الملائكة بنات الله بِغَيْرِ عِلْمٍ فإنهم قالوا هذا القول اعتباطا سُبْحانَهُ أنزّهه تنزيها وَ تَعالى ترفّع عَمَّا يَصِفُونَ من أن يكون له شريك و ولد.
[101] هو بَدِيعُ أي مبدع السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى كيف يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ الحال أنه لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أي زوجة و هل يكون الولد إلا من زوجة وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ.
__________________________________________________
(1) طلع النخل: أول ما يبدو من ثمره.
(2) و خبره: دانية.
(3) سورة الصافات: 158.
تبيين القرآن، ص: 153
[102] ذلِكُمُ الموصوف بما ذكر من الأوصاف الكمالية اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ يتولى كل أمر.
[103] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فإنه تعالى لا يرى وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ النافذ في الأشياء الْخَبِيرُ.
[104] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ حجج مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ الحق فَلِنَفْسِهِ يعود خيره إلى نفسه وَ مَنْ عَمِيَ عن الحق و لم يره فَعَلَيْها فضرره على نفسه وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ لا أحفظ أعمالكم، و إنما أنا منذر لكم.
[105] وَ كَذلِكَ أي هكذا نُصَرِّفُ الْآياتِ نذكرها و نبينها وَ لِيَقُولُوا اللام للعاقبة، أي عاقبة إراءة الآيات لهم أنهم يقولوا دَرَسْتَ قرأت الآيات على اليهود و تعلمتها منهم، عوض أن يؤمنوا بها وَ لِنُبَيِّنَهُ أي القرآن لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإن من بصدد العلم ينتفع بالآيات.
[106] اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لا تتبع آراءهم الشركية.
[107] وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا لأنه قادر أن يجبرهم على التوحيد، لكن الجبر خلاف الامتحان وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً مراقبا لأعمالهم وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فتجبرهم، بل أنت منذر لهم.
[108] وَ لا تَسُبُّوا أيها المسلمون الَّذِينَ أي الأصنام يَدْعُونَ يدعو المشركون لتلك الأصنام، أي يقولون إنها أرباب مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا المشركون اللَّهِ للمقابلة بالمثل عَدْواً أي تعديا عن الحق إلى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ لأن المشرك جاهل، و لذا يسب الله كَذلِكَ أي كما زيّنا لكم أعمالكم زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فالمشركون يرون عملهم حسنا، و لذا يسبون الله إذا سببتم آلهتهم، و معنى (زينا) تركناهم و شأنهم بعد إعراضهم عن الحق حتى يروا أعمالهم حسنة ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ إلى جزائه مَرْجِعُهُمْ مصيرهم فَيُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم لأجل الجزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
[109] وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي بالأيمان المغلظة لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ أي معجزة مما اقترحوها لَيُؤْمِنُنَّ بِها أي بتلك الآية قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فيأتي بها إن شاء، و ليست عندي وَ ما يُشْعِرُكُمْ أيها المسلمون أَنَّها الآية المقترحة إِذا جاءَتْ بأن أنزلها الله تعالى لا يُؤْمِنُونَ كما طلبوا عن الأنبياء السابقين فلما جاءت لم يؤمنوا.
[110] وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ أي قلوبهم حتى لا تستقر على عقيدة، فهي مضطربة دائما وَ أَبْصارَهُمْ فإن القلب غير المستقر تتبعه العين في النظر هنا و هناك التماسا لملجأ و اطمئنان كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أَوَّلَ مَرَّةٍ فإنهم بتركهم الإذعان ذهب عنهم الاستقرار وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يترددون، نتركهم و لا نفعل بهم الألطاف الخفية.
تبيين القرآن، ص: 154
[111] وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ حتى يرونها وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى فقالوا لهم إن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسول وَ حَشَرْنا أي جمعنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا مقابلة و مواجهة، بأن جاءهم كل شي ء يشهد بالرسالة لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لعنادهم إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بأن يجبرهم على الإيمان وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ فيظنون أنه لو أتتهم الآيات المقترحة آمنوا.
[112] وَ كَذلِكَ كما أن لك عدوّا من هؤلاء الكفار جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا و إنما نسب الجعل إليه تعالى لأنه ترك الأعداء من قدرته على إبادتهم شَياطِينَ بدل من العدو، و المراد المارد الطاغي من الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي أي يوسوس بَعْضُهُمْ أي بعض الأعداء إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ باطله غُرُوراً أي لأجل أن يغر بعضهم بعضا و يخدع أحدهم الآخر وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ بأن يمنعهم عن ذلك فَذَرْهُمْ أي دعهم وَ ما يَفْتَرُونَ أي افترائهم، و هذا تهديد لهم.
[113] وَ لِتَصْغى عطف على (غرورا)، أي إنهم يوحون لأجل أن تميل إِلَيْهِ إلى زخرف القول أَفْئِدَةُ قلوب الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ أي يرضوا الباطل وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي يكتسبوا الإثم الذي هم يكسبونه.
[114] أَ فَغَيْرَ اللَّهِ استفهام إنكار أَبْتَغِي حَكَماً أي أطلب من يحكم بينكم و بيني وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ القرآن مُفَصَّلًا مبيّنا فيه الحق و الباطل وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي اليهود و النصارى يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لأنهم يقرءون كتبهم التي فيها أوصاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين، فإنه شي ء معروف حتى عند أهل الكتاب.
[115] وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي بلغت الغاية في إحكامه و أحكامه، و المراد كلما قاله تعالى صِدْقاً في الأخبار و المواعيد وَ عَدْلًا في الأصول و الفروع لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا يبدل أحد كلمات الله بأن يأتي بأصدق و أعدل منها وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
[116] وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الكفار يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ ما يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ فإنهم يعملون بالظنون وَ إِنْ هُمْ ما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون.
[117] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي هو أعلم بالفريقين، فلا تطع المضلين.
[118] فَكُلُوا لما صار القرار عدم اتباع المضلين، فلا تطيعوهم في قولهم: تحرم الذبيحة و تحل الميتة، بل كلوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عند الذبح إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ.
تبيين القرآن، ص: 155
[119] وَ ما لَكُمْ أي غرض لكم أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فإن الكفار كانوا يقولون تحرم ذبيحة الإنسان و تحل ما أماته الله وَ قَدْ فَصَّلَ في قوله (حرّم عليكم الميتة) «1» ما يحل و ما لا يحل لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فإنه حلال، و إن كان حراما في حال الاختيار وَ إِنَّ كَثِيراً من الناس لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ و آرائهم الباطلة بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ الذين يجاوزون الحق في التحريم و التحليل.
[120] وَ ذَرُوا دعوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ أي العصيان الجهري و الخفي إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي يكسبون.
[121] وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عند الذبح وَ إِنَّهُ أي أكله لَفِسْقٌ أي خروج عن طاعة الله وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ يوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ في تحليل الميتة وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ بترك دين الله إلى دينهم.
[122] أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً كافرا، فإن الكفر يوجب موت الروح فَأَحْيَيْناهُ بالإيمان وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً منهاجا يرى به طريق الحق و السعادة يَمْشِي بِهِ أي بسبب ذلك النور فِي النَّاسِ فهو بينهم على هدى كَمَنْ مَثَلُهُ مثل من فِي الظُّلُماتِ استفهام إنكاري، أي لا يتساويان لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ هكذا زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فهم في ظلمة و قد لزموها.
[123] وَ كَذلِكَ أي كما جعلنا في مكة مجرمين كبار يمكرون، و معنى جعله تعالى تركه إياهم و شأنهم جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ جمع أكبر مُجْرِمِيها أي المجرمين الكبار لِيَمْكُرُوا اللام للعاقبة فِيها أي في تلك القرية وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن عاقبة المكر ترجع إلى الماكر وَ ما يَشْعُرُونَ و ما يفهمون أنهم يمكرون بأنفسهم.
[124] وَ إِذا جاءَتْهُمْ أي جاءت هؤلاء الأكابر آيَةٌ معجزة قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ بأن يوحي الله إلينا كما أوحى إلى الرسل اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فإنها تحتاج إلى موضع قابل لائق سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا فعلوا القبيح صَغارٌ ذل و حقارة عِنْدَ اللَّهِ في الآخرة وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ بسبب مكرهم.
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: 173.
تبيين القرآن، ص: 156
[125] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ و إرادته لأجل إنه في سبيل الهدى أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ حتى يتسع لقبول الإسلام وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ لأنه عاند يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً هو ضيق الصدر، كنى عن الضيق المعنوي بالضيق الظاهري كَأَنَّما يَصَّعَّدُ أي يتصعد فِي السَّماءِ فإن الإنسان إذا ارتفع في أعالي الجو يضيق صدره و يصعب تنفسه كَذلِكَ أي هكذا يضيق صدره الذي هو نتيجة عناده يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ الخذلان و العذاب عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.
[126] وَ هذا الإسلام صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً حال عن (الصراط) قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي يتذكّرون، فإنهم هم المنتفعون بالإسلام.
[127] لَهُمْ لمن تذكر دارُ السَّلامِ السلامة من المكاره، و المراد بالدار الجنة عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ يتولى أمورهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بسبب أعمالهم الصالحة.
[128] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يجمعهم للجزاء، يقول يا مَعْشَرَ يا جماعة الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي جعلتموهم أتباعكم بالوسوسة إليهم و إضلالهم وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ أي أتباع الشياطين مِنَ الْإِنْسِ بيان (أولياؤهم) رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ انتفع فإن الإنس انتفع بالجن حيث كان الجن مثل الأمير الموجّه بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي وصلنا إلى آخر مدة حياتنا في الدنيا، و هذا شرح لأحوالهم الدنيوية قالَ الله النَّارُ مَثْواكُمْ أي مقامكم خالِدِينَ فِيها في حال كونكم فيها إلى الأبد إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ حيث يخرجه من النار إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
[129] وَ كَذلِكَ أي هكذا نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً كما جعلنا الولاية بين الجن و الإنس بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كسبهم السيئات، فإن المجرم وليّ المجرم.
[130] و يقال لهم ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
أي من هذا المجموع، و إلا فالرسل من الإنس قُصُّونَ
يبينون لَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
أي يوم القيامةالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
بالجرم و العصيان غَرَّتْهُمُ
خدعتهم حتى ارتكبوا الآثامْ حَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
[131] ذلِكَ إرسال الرسل إنما هو لأجل أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى أي أهل القرى بِظُلْمٍ بأن يظلمهم في إهلاكهم وَ أَهْلُها غافِلُونَ أي بدون رسول يرشدهم.
تبيين القرآن، ص: 157
[132] وَ لِكُلٍّ من الجن و الإنس دَرَجاتٌ مراتب مِمَّا عَمِلُوا أي بسبب ما عملوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بل عالم بأعمالهم و يجازيهم حسبها.
[133] وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها البشر وَ يَسْتَخْلِفْ يجعل خلفا مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ بأن ذهب بهم و جاء بكم خليفة لهم.
[134] إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث لَآتٍ يأتي لا محالة وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لا تتمكنون من أن تجعلوه عاجزا فلا يتمكن من البعث.
[135] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي منزلتكم، و هذا كقولك: اعمل ما شئت، تهديدا إِنِّي عامِلٌ بما أمرني الله فَسَوْفَ في الآخرة تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة الحسنى في الآخرة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ لا يفوز الظَّالِمُونَ.
[136] وَ جَعَلُوا أي الكفار لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أي خلق الله مِنَ الْحَرْثِ الزرع وَ الْأَنْعامِ الدواب نَصِيباً أي قسما فَقالُوا بيان (جعلوا) هذا القسم لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أنه يكون لله وَ هذا القسم لِشُرَكائِنا أي الأصنام، فكانوا يطعمون الضيوف ما لله، و يعطون ما للأصنام لسدنتها فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ لأن العمل المشرك فيه لا يقبله الله، فكأنه أيضا للأصنام فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ بئس ما يَحْكُمُونَ هذا الحكم و التقسيم.
[137] وَ كَذلِكَ كما زين الكفار هذا التقسيم زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ فاعل (زين)، أي زين الشركاء و الأصنام في نفس المشركين أن يقتلوا أولادهم بالوأد و قتلهم قربانا للأصنام لِيُرْدُوهُمْ علة (زين)، أي إنما زين الشركاء القتل بقصد إهلاك المشركين وَ لِيَلْبِسُوا أي يخلطوا عَلَيْهِمْ أي على المشركين دِينَهُمْ أي ما كانوا عليه من دين إبراهيم عليه السّلام ثم فقد أدخل الشيطان الباطل في عقيدتهم بقصد خلط الباطل بالحق وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ بإجبارهم على الترك فَذَرْهُمْ أي اتركهم يا رسول الله وَ ما يَفْتَرُونَ أي افترائهم على الله.
تبيين القرآن، ص: 158
[138] وَ قالُوا أي الكفار هذِهِ أَنْعامٌ دواب وَ حَرْثٌ زرع حِجْرٌ حرام على كل الناس و إنما لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ من سدنة الأصنام بِزَعْمِهِمْ أنه حرام لغير السدنة، بدون حجة وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها فلا تركب و هي السائبة و البحيرة كما تقدم وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عند ذبحها افْتِراءً عَلَيْهِ أي على الله فإنهم نسبوا هذه الخرافات إلى الله تعالى سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أي بسبب افترائهم.
[139] وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ أي أولاد السائبة و البحيرة خالِصَةٌ لِذُكُورِنا لا يجوز تناول الإناث منها وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أي نسائنا، و ذلك إذا ولدت حية وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً بأن ولدت في حال كون الولد ميتا فَهُمْ الذكور و الإناث فِيهِ في الولد شُرَكاءُ يجوز لكليهما أن يأكلا منه سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي ما يصفون من نسبة الكذب إلى الله إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
[140] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ بالوأد أو الذبح للأصنام سَفَهاً عن سفاهة بِغَيْرِ عِلْمٍ أي بالجهل بالأحكام الإلهية وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ مما تقدم ذكره افْتِراءً عَلَى اللَّهِ لأنهم نسبوا التحريم إلى الله قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ لم يهتدوا إلى الحق.
[141] وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ خلق جَنَّاتٍ بساتين مَعْرُوشاتٍ مرفوعات على ما يحملها، كالكروم وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ كالأشجار وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي ثمره طعما و لونا و شكلا و خاصية وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً في الطعم و غيره وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ثمر كل واحد من هذه الأشجار و الزرع إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ الذي قرره الله من زكاة أو غيره يَوْمَ حَصادِهِ أي يوم قطع الثمرة وَ لا تُسْرِفُوا الإسراف الزيادة عن ما قرره الله تعالى إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
[142] وَ أنشأ مِنَ الْأَنْعامِ الدواب حَمُولَةً ما يحمل الأثقال وَ فَرْشاً يصنع من جلد الدواب كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ كأن الشيطان مشى في طريق فمشى الإنسان في نفس ذلك الطريق إِنَّهُ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة.
تبيين القرآن، ص: 159
[143] ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي ثمانية أقسام بدل من الحمولة و الفرش مِنَ الضَّأْنِ الغنم اثْنَيْنِ ذكر و أنثى وَ مِنَ الْمَعْزِ السخل اثْنَيْنِ قُلْ يا رسول الله آلذَّكَرَيْنِ أي هل الذكرين، ذكر الضأن أو ذكر المعز حَرَّمَ الله أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي: أو حرّم ما حملت إناث الجنسين، ذكرا كان المحمول أو أنثى نَبِّئُونِي أخبروني عما حرمه الله من هذه الأجناس بِعِلْمٍ أي عن مصدر علمي لا بمجرد تقليد و ظن إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأن الله حرّم بعض هذه الأقسام.
[144] وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ الذكر و الأنثى وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حاضرين إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم، فهل لكم علم أو مشاهدة فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة التحريم إليه لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ بدون أن يعلم أن الله قال ذلك إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين عاندوا في الظلم و الافتراء.
[145] قُلْ يا رسول الله لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ من القرآن مُحَرَّماً مما ذكرتم تحريمه عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أي مصبوبا كالدم في العروق لا الباقي في القلب مثلا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ قذر نجس أَوْ فِسْقاً أي لحما أكله خروج عن طاعة الله لأنه أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذبح على اسم الصنم، و الإهلال رفع الصوت عند الذبح فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول شي ء من المحرمات غَيْرَ باغٍ أي لم يكن هو طالبا للأكل وَ لا عادٍ لم يتعد في أكله حدّ الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[146] وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا اليهود، قبل نسخ شريعتهم حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ كل ذي إصبع كالإبل و الطيور و السباع، أو كل ذي مخلب و ظفر وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما كل شحم إِلَّا ما أي شحما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي اشتمل الظهر على ذلك الشحم أَوِ الْحَوايا أي ما اشتمل عليه الأمعاء، جمع حاوية أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ كشحم الإلية المختلطة بالعصص ذلِكَ التحريم جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ أي بسبب ظلمهم وَ إِنَّا لَصادِقُونَ.
تبيين القرآن، ص: 160
[147] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ فلا تغتروا بالإمهال، و إنما رحمته أمهلكم ثم يأخذكم وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عذابه عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ المكذبين.
[148] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا احتجاجا لصحة شركهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا أي لم يشرك آباؤنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ من البحيرة و السائبة و نحوهما كَذلِكَ أي مثل هذا التكذيب كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا عذابنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ في أن الله شاء شرككم و تحريمكم فَتُخْرِجُوهُ تظهروه لَنا إِنْ ما تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون.
[149] قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ الواضحة التي تصل إلى المكلفين، فيما يريد بلوغه فَلَوْ شاءَ إلجائكم لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.
[150] قُلْ هَلُمَّ احضروا شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا الذي تحرمونه من البحيرة و السائبة و غيرهما فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي لا تصدقهم وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فان المحرّم يكذب بآيات الله وَ أهواء الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يجعلون له عدلا و مثلا و هم المشركون.
[151] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ أحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ من أجل الفقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ الكبائر من الذنوب ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ الظاهرة و المخفية كالزنا علنا أو خفية وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ كالقصاص ذلِكُمْ (ذا) إشارة، و (كم) خطاب وَصَّاكُمْ الله بِهِ بحفظه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما يضركم و ما ينفعكم.
تبيين القرآن، ص: 161
[152] وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي
بالصفة التي هِيَ أَحْسَنُ
كحفظه و استرباحه حَتَّى يَبْلُغَ
اليتيم أَشُدَّهُ
قوته بأن يصير بالغا رشيدا وَ أَوْفُوا
بأن لا تنقصوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
أي ما يتمكن عليه فهذه التكاليف مقدورة للإنسان وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ
قولكم الضار في ذا قُرْبى
أقرباؤكم وَ بِعَهْدِ اللَّهِ
أحكامه أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
تتعظون.
[153] وَ اعلموا أَنَّ هذا الذي في هذه السورة من الأصول و الأحكام صِراطِي مُسْتَقِيماً في حال كونه مستقيما فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الطرق الأخرى فَتَفَرَّقَ أي تتفرق، بمعنى تميل تلك السبل بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ الاتباع وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الضلال.
[154] ثُمَّ للترتيب الذكري آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة تَماماً أي لأجل إتمام النعمة عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ في تبليغه و هو موسى عليه السّلام وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ من الأصول و الفروع وَ هُدىً دلالة إلى الحق وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ أي بني إسرائيل بِلِقاءِ رَبِّهِمْ جزائه يُؤْمِنُونَ.
[155] وَ هذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير الخير فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
[156] أَنْ أي إنما أنزلنا القرآن لكراهة أن تَقُولُوا أيها المعاصرون للرسول إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ اليهود و النصارى مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ مخففة، أي إنا كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ أي دراسة اليهود و النصارى لَغافِلِينَ إذ لم نعرف أن كتبهم موجهة إلينا و لذا لم نتبعهم.
[157] أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ أي أكثر اتباعا من اليهود و النصارى فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ دليل واضح و هو القرآن مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد أن عرفها وَ صَدَفَ أعرض عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ العذاب السيئ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ بسبب إعراضهم.
تبيين القرآن، ص: 162
[158] هَلْ يَنْظُرُونَ ماذا ينتظر كفار مكة، حتى لا يؤمنوا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ملك الموت أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بزعمهم أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ من أنواع العذاب يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ كعلامات الموت لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها فاعل (لا ينفع)، إذا كانت لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً أي طاعة و عبادة، فإن الإنسان إذا رأى العذاب سقط التكليف، فلا ينفع الإيمان و لا الطاعة حينئذ قُلِ انْتَظِرُوا حتى يأتيكم العذاب إِنَّا مُنْتَظِرُونَ.
[159] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ اختلفوا فيه فآمنوا ببعض و كفروا ببعض وَ كانُوا شِيَعاً فرقا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ أنت لا ترتبط بهم إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يتولى جزاءهم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بعد أن يحشروا إليه بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ليعاقبهم بذلك.
[160] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها فضلا وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها عدلا وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.
[161] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً أي هداني دينا قِيَماً مستقيما مِلَّةَ أي طريقة، و هذا بيان للدين إِبْراهِيمَ حَنِيفاً مائلا عن الشرك وَ ما كانَ إبراهيم عليه السّلام مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما يزعم أهل الكتاب أنه كان يهوديا أو نصرانيا.
[162] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي عبادتي وَ مَحْيايَ حياتي وَ مَماتِي موتي لِلَّهِ فأحيي لله و أموت في سبيل الله رَبِّ الْعالَمِينَ.
[163] لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ فإن إسلام كل نبي مقدم على إسلام أتباعه.
[164] قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي أطلب، و الاستفهام للإنكار رَبًّا وَ الحال هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فإن إشراككم لا يضرني وَ لا تَزِرُ أي لا تحمل وازِرَةٌ نفس آثمة وِزْرَ إثم نفس أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم إلى ثوابه و عقابه فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم لأجل الجزاء بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيميز بين الحق و الباطل.
[165] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ يخلف بعضكم بعضا الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ في العلم و المال و المكانة و غيرها دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ يخبركم فِي ما آتاكُمْ أعطاكم إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ فاحذروه وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فارجوه.
تبيين القرآن، ص: 163
مكية آياتها مائتان و ست بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] المص رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] هذا القرآن كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ضيق مِنْهُ أي من هذا الكتاب، لصعوبة تبليغه لِتُنْذِرَ متعلق ب (أنزل) بِهِ وَ هو ذِكْرى أي مذكر لِلْمُؤْمِنِينَ.
[3] اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ تطيعونهم في عصيان الله قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تذكرا قليلا.
[4] وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أردنا إهلاك أهلها فَجاءَها بَأْسُنا عذابنا بَياتاً ليلا أَوْ هُمْ قائِلُونَ في حالة القيلولة قبل الظهر.
[5] فَما كانَ دَعْواهُمْ استغاثتهم و كلامهم إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا عذابنا إِلَّا الاعتراف بظلمهم ب أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
[6] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي الأمم وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عن تأدية الرسالة.
[7] فَلَنَقُصَّنَّ أحوالهم عَلَيْهِمْ على الرسل و الأمم بِعِلْمٍ في حال كوننا عالمين بها وَ ما كُنَّا غائِبِينَ عنهم حال أعمالهم حتى نجهلها.
[8] وَ الْوَزْنُ للأعمال يَوْمَئِذٍ يوم القيامة الْحَقُّ لا زيادة فيه و لا نقصان فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ حسناته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[9] وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إذ اشتروا العذاب بِما بسبب ما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ أنفسهم.
[10] وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة: أسباب العيش قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ نعمي.
[11] وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ أي التراب الذي أصلكم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أعطينا الصورة ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
تبيين القرآن، ص: 164
[12] قالَ الله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ما حملك على أن لا تسجد إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ الشيطان أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ من آدم عليه السّلام خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ و النار أشرف من الطين.
[13] قالَ فَاهْبِطْ اخرج مِنْها من الجنة فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها إذ ليست الجنة محل المتكبرين فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الصاغر: الذليل.
[14] قالَ أَنْظِرْنِي أمهلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يوم القيامة.
[15] قالَ الله إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ.
[16] قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي سببت ضلالي بخلق آدم عليه السّلام لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ لأقعد للتربص بهم كاللص يتربص في الطريق صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.
[17] ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ جوانبهم الأربع، كناية عن الإحاطة بهم وَ لا تَجِدُ يا الله أَكْثَرَهُمْ أكثر بني آدم شاكِرِينَ.
[18] قالَ الله اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مذموما مَدْحُوراً مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ من بني آدم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ ذرية آدم و الأبالسة أَجْمَعِينَ.
[19] وَ قلنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما من ثمارها وَ لا تَقْرَبا بالأكل هذِهِ الشَّجَرَةَ شجرة الحنطة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ إذ اقتربتما هذه الشجرة و الظلم بترك الأولى.
[20] فَوَسْوَسَ أوهم انه ناصح لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ أي ليظهر لَهُمَا لآدم و حواء ما وُورِيَ ستر عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما فروجهما أي كانت عاقبة الوسوسة تعريتهما عن ملابسهما وَ قالَ الشيطان بصدد إغوائهما ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا كراهة أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ فإذا أكلتما منها صرتما من الملائكة أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ في الجنة، فإن من أكل منها صار ملكا أو خالدا في الجنة، و الله لم يرد ذلك لكما و لذا نهى عن أكلها.
[21] وَ قاسَمَهُما أقسم لهما بالله إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ.
[22] فَدَلَّاهُما أي أنزلهما من رتبتهما العالية بِغُرُورٍ بأن غرهما و خدعهما، فإنهما لم يكونا يحتملان أن يحلف بالله كاذبا فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ ابتداء بالأكل بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ظهرت لهما عورتهما لأن ألبستهما سقطت عن أجسامهما وَ طَفِقا شرعا يَخْصِفانِ يرقعان عَلَيْهِما على أنفسهما مِنْ وَرَقِ شجر الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر، و الاستفهام للعتاب و اللوم.
تبيين القرآن، ص: 165
[23] قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا لأنا سببنا نزولنا عن الجنة وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فإن الخروج عن الجنة من أعظم الخسارات.
[24] قالَ الله اهْبِطُوا يا آدم و حواء و إبليس بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ استقرار وَ مَتاعٌ تمتع بالملذات إِلى حِينٍ البعث.
[25] قالَ الله فِيها أي في الأرض تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ للجزاء.
[26] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً فإن تدبير السماء أوجب تكون اللباس يُوارِي يستر سَوْآتِكُمْ عوراتكم وَ أنزلنا رِيشاً أي لباس التجمل وَ لِباسُ التَّقْوى بأن يتقي الإنسان كأنه لبس ما يستر جرائمه و رذائله، فاللباس على ثلاثة أقسام: لباس الستر و لباس التجمل و لباس التقوى ذلِكَ خَيْرٌ لان التقوى تنفع الإنسان في دنياه و آخرته ذلِكَ إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله و رحمته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يتذكرون نعم الله فيتجنبون الآثام.
[27] يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ لا يخدعنكم الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ الشيطان عَنْهُما عن الأبوين لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ تأكيد للتحرز يَراكُمْ الشيطان هُوَ وَ قَبِيلُهُ جنوده الأبالسة مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ للطافة أجسامهم إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي مكّنا الشياطين من خذلان الكفار.
[28] وَ إِذا فَعَلُوا أي الذين لا يؤمنون فاحِشَةً معصية كبيرة قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها أي عمل هذه الفاحشة آباءَنا وَ قالوا اللَّهُ أَمَرَنا بِها بإتيان هذه الفاحشة قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ بالقبائح أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فلا علم لكم بأن الله أمر بذلك، و هذا استفهام إنكاري.
[29] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بالعدل وَ أمر أن أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي توجهوا إلى الله في كل مسجد، فلم يأمر الله بالشرك و لا بالقبائح- كما زعمتم- وَ ادْعُوهُ اعبدوا الله مُخْلِصِينَ في حالة الإخلاص له بدون شرك و رياء لَهُ أي لله الدِّينَ الطاعة و العبادة، أي أخلصوا العبادة له كَما بَدَأَكُمْ خلقكم تَعُودُونَ إليه في يوم القيامة، أي ادعوه لأنكم مجازون في الآخرة.
[30] في حال كونه فَرِيقاً هَدى هدى جماعة وَ فَرِيقاً حَقَّ ثبت عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ لأنهم تركوا اتباع الحق إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ بأن سمعوا كلام الشياطين مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أي يظنون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ على هداية.
تبيين القرآن، ص: 166
[31] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ لباس التزين عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فإن الإنسان إذا ذهب إلى المسجد فقد ذهب إلى خدمة مالك الملوك وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا بالزيادة في الأكل و الشرب إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فإن عدم حب الله كاف في ترك الإنسان لذلك الشي ء.
[32] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الإضافة للتشريف، أي مطلق الزينة الَّتِي أَخْرَجَ تلك الزينة لِعِبادِهِ وَ من حرم الطَّيِّباتِ المستلذات غير المحرمة مِنَ الرِّزْقِ و الاستفهام في معنى النفي قُلْ هِيَ الزينة و الطيبات لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإن الله خلق الزينة للمؤمنين في الدنيا، و يشاركهم الكافرون تعديا، في حال كونها خالِصَةً للمؤمنين، فلا يشاركهم الكافرون فيها يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى الأبد كَذلِكَ هكذا نُفَصِّلُ تفصيلا واضحا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإن غير العالم لا يفهم هذه الحقائق.
[33] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ المعاصي الكبار ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ الظاهرة و المخفية وَ حرّم الْإِثْمَ الخمر، أو يعني سائر الآثام وَ الْبَغْيَ الظلم بِغَيْرِ الْحَقِّ وصف تأكيدي وَ حرم أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أي بشركه سُلْطاناً أي دليلا فانه تعالى لم ينزل دليلا بكون الأصنام شركاء له وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بالافتراء عليه.
[34] وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أمد تنتهي تلك الأمة بمجي ء ذلك الأمد فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ بأن جاء ليصل إليهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ أي لا يتأخرون مقدار ساعة و لا يتقدمون على ذلك الوقت.
[35] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا أي (إن ما) و ما زائدة يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم يَقُصُّونَ يخبرون عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى المعاصي وَ أَصْلَحَ حاله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ خوفا و حزنا يشملان الكافرين في الدنيا و الآخرة.
[36] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها بأن تكبروا فلم يقبلوها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ باقون دائما.
[37] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أظلم منه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ بأن نسب إليه ما لم يقله، أو نسب إليه أنه لم يقل ما قاله أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ حظهم مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم من الأرزاق و الآجال حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا ملائكة الموت يَتَوَفَّوْنَهُمْ لأجل أن يقبضون أرواحهم قالُوا أي الملائكة لهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الأصنام التي عبدتموها قالُوا الكفار ضَلُّوا غابوا عَنَّا فلا ينفعون الآن وَ شَهِدُوا اعترفوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ لا مسلمين لله، فإنهم في الحياة كانوا يقولون نحن مطيعون لله.
تبيين القرآن، ص: 167
[38] قالَ الله لهم يوم القيامة ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ في جملة أقوام كفار قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ متعلق ب (ادخلوا) كُلَّما دَخَلَتْ في النار أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها أي الأمة الأخرى التي ضلت بسبب الاقتداء بها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا تلاحقت الأمم و اجتمعت فِيها في النار جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ أي الأمة المتأخرة لِأُولاهُمْ الأمة المتقدمة رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فإن المتقدم سبب إضلال المتأخر فَآتِهِمْ أي أعطهم عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ لأنهم ضلوا و أضلوا قالَ الله لِكُلٍّ من الفريقين ضِعْفٌ لأن كل طائفة ضلت و أضلت الطائفة المتأخرة وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكل فريق.
[39] وَ قالَتْ أُولاهُمْ أي الأمة المتقدمة لِأُخْراهُمْ الأمة المتأخرة فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ حتى تستحقوا نصف عذابنا أو حتى نتحمل نصف عذابكم فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ لأنكم كفرتم كما كفرنا، و أضللتم كما أضللنا.
[40] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها تكبروا عن الإيمان بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لرفع أعمالهم إلى عليين وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ يدخل الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ثقبة الإبرة، و هذا بيان لاستحالة دخولهم الجنة وَ كَذلِكَ هكذا نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ.
[41] لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فراش من نار وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أغطية من نار وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.
[42] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فلا تكاليف شاقة عليهم في الدنيا، و في الآخرة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.
[43] وَ نَزَعْنا أخرجنا ما فِي صُدُورِهِمْ أي قلوبهم مِنْ غِلٍّ حقد، فإن القلوب تطهر و تطيب في الآخرة فلا تحاسد و لا تباغض تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ تحت قصورهم الْأَنْهارُ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي أرشدنا الطريق الموصل للجنة وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ أي لم نصل إلى الجنة لو لا هداية الله لنا إليها لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فاهتدينا بإرشادهم وَ نُودُوا ناداهم الملائكة، تبشيرا لهم أَنْ مخففة من الثقيلة تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها صارت إرثا و عائدة إليكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بسبب أعمالكم الصالحة.
تبيين القرآن، ص: 168
[44] وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فقد وعدنا الجنة و ها هي قد دخلناها فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العقاب حَقًّا قالُوا الكفار نَعَمْ وجدناه حقا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ فنادى مناد بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بعده و طرده و عذابه عَلَى الظَّالِمِينَ.
[45] الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس عن الإيمان وَ يَبْغُونَها يطلبون السبيل عِوَجاً بأن يكون منحرفا، مثلا السبيل المستقيم هو التوحيد و المشرك يريد الانحراف عنه إلى الشرك وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ لا يعتقدون بالآخرة.
[46] وَ بَيْنَهُما أي بين الجنة و النار حِجابٌ يمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى وَ عَلَى الْأَعْرافِ جمع عرف و هو المرتفع، فبين الجنة و النار مرتفعات، عليها رِجالٌ و ظاهر الآية انهم ليسوا من أهل النار و يطمعون في دخول الجنة، أو أنهم من أهل الكرامة و القرب عند الله و ذلك لتسليمهم على أصحاب الجنة و عتابهم لأهل النار و لأمرهم أصحاب الجنة بالدخول فيها، و للآية بطن فسّر بآل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَعْرِفُونَ أولئك الرجال كُلًّا من أهل الجنة و النار بِسِيماهُمْ أي بعلائم وجوههم، كالسواد لأهل النار و البياض لأهل الجنة وَ نادَوْا أهل الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ قائلين أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها لم يدخل أهل الأعراف الجنة بعد وَ هُمْ يَطْمَعُونَ في دخولها «1».
[47] وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أي توجهت أنظار أهل الأعراف تِلْقاءَ جهة أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا في النار مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
[48] وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا من الكفار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ أي بعلائم وجوههم قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أموالكم و أولادكم و أتباعكم، لم ينفع في رفع العذاب عنكم وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي ما أغنى عنكم كبريائكم في رفع العذاب.
[49] ثم يقولون للكفار أَ هؤُلاءِ المؤمنون، و يشيرون إلى الذين كانوا يستضعفونهم الكفار الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أيها الكفار لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ فكنتم تقولون إن الله لا يدخلهم الجنة، ثم التفت أصحاب الأعراف إلى أولئك المؤمنين قائلين لهم ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ.
[50] وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أي صبوا علينا بعض الماء لنشربه أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الأطعمة قالُوا المؤمنون إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما الماء و الرزق عَلَى الْكافِرِينَ.
[51] الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً كانوا يلهون باسم الدين و يجعلونه ألعوبة في أيديهم وَ غَرَّتْهُمُ خدعتهم الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نتركهم و نفعل بهم فعل الناسي فلا نعطيهم الماء و الطعام كَما نَسُوا فلم يستعدوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ك ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي ينكرون.
__________________________________________________
(1) و ربما يحتمل في تفسير الآية: وَ نادَوْا أي اهل الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي المؤمنين الذين عرفوهم بسيماهم انهم من أصحاب الجنة ... لَمْ يَدْخُلُوها أي لم يدخل الجنة أصحاب الجنة بعد، أما رجال الأعراف و هم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيدخلونها قبلهم ... وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أي أبصار أصحاب الجنة، و الله العالم.
تبيين القرآن، ص: 169
[52] وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ شرحنا فيه العقائد و الأحكام عَلى عِلْمٍ أي لم يصدر الكتاب عن جهل بالواقع هُدىً لأجل هدايتهم وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
[53] هَلْ يَنْظُرُونَ الكفار إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما يؤول إليه أمر القرآن، فان ظهور مآل القرآن إنما هو في القيامة يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ و هو يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي لم يعملوا بالقرآن كأنهم ناسين له مِنْ قَبْلُ في الدنيا قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ الآن عرفنا ذلك فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا اليوم لَنا حتى لا ندخل النار أَوْ هل نُرَدُّ نرجع إلى الدنيا فَنَعْمَلَ صالحا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من الكفر و الضلال قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم في الكفر و العصيان وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الأصنام لم تشفع لهم، فقد غابت الأصنام عنهم.
[54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي مقدار سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى توجه عَلَى الْعَرْشِ فخلقه يُغْشِي الله اللَّيْلَ أي يغطي بسبب ظلمة الليل النَّهارَ يَطْلُبُهُ أي يطلب الليل النهار، لأنه في عقبه كالطالب له حَثِيثاً أي بشدة فكلما جاء النهار جاء الليل في عقبه ليعدمه وَ خلق الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ أي في حال كونها مذللات بِأَمْرِهِ تعالى أَلا للتنبيه لَهُ لله الْخَلْقُ فهو يخلق كل شي ء وَ الْأَمْرُ فهو الآمر الذي يجب أن ينفّذ أمره تَبارَكَ اللَّهُ أي دام خيره رَبُّ الْعالَمِينَ.
[55] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً باستكانة وَ خُفْيَةً سرّا فإنه أقرب إلى الإخلاص إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الذين يجاوزون الحدود.
[56] وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر و المعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها أي أصلح الأرض الأنبياء عليهم السّلام وَ ادْعُوهُ خَوْفاً منه وَ طَمَعاً في رحمته إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فأحسنوا حتى تنالوا رحمته.
[57] وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ من مكان إلى مكان آخر بُشْراً جمع بشير أي مبشرات بَيْنَ يَدَيْ أمام رَحْمَتِهِ المطر حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ الرياح أي حملت سَحاباً ثِقالًا بالماء سُقْناهُ أي السحاب لِبَلَدٍ أي إلى مكان مَيِّتٍ لا زرع فيه و لا ضرع فَأَنْزَلْنا بِهِ أي بسبب السحاب الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بسبب الماء مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جميع أنواعها كَذلِكَ أي هكذا نُخْرِجُ الْمَوْتى و نحييهم بعد موتهم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ بأن القادر على إحياء الأرض قادر على إحياء الميت.
تبيين القرآن، ص: 170
[58] وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ الكريم التربة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره زاكيا حسنا وَ البلد الَّذِي خَبُثَ كالسبخة لا يَخْرُجُ نباته إِلَّا نَكِداً قليلا بلا نفع كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نرددها و نكرّرها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ إذ هم يعرفون قدر هذه الآيات.
[59] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ ليس لكم مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غير الله إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تؤمنوا عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم القيامة.
[60] قالَ الْمَلَأُ الأشراف مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح.
[61] قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ فلست ضالا وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
[62] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي لأن كل حكم رسالة وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ بالوحي ما لا تَعْلَمُونَ.
[63] أَ وَ عَجِبْتُمْ أي أ كذبتم فعجبتم، و الاستفهام للإنكار، أي لا تعجب أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ رسالة مِنْ رَبِّكُمْ عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ من جنسكم و قومكم لِيُنْذِرَكُمْ وبال الكفر وَ لِتَتَّقُوا الكفر و المعاصي وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يرحمكم الله إذا أطعتم.
[64] فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ أنجينا الَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين فِي الْفُلْكِ السفينة وَ أَغْرَقْنَا بالطوفان الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ أي المكذبين كانُوا قَوْماً عَمِينَ عمي القلوب غير مستبصرين.
[65] وَ أرسلنا إِلى قبيلة عادٍ أَخاهُمْ الذي كان منهم هُوداً عطف بيان ل (أخاهم) قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ عذاب الله.
[66] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ حمق وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعائك الرسالة.
[67] قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 171
[68] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ مأمون في تبليغ الرسالة.
[69] أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا نعمة الله إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ ورثتم الأرض خلفا مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ الله فِي الْخَلْقِ أي الخلقة بَصْطَةً قوة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون.
[70] قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ نترك ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنّا إذا لم نؤمن نعذّب.
[71] قالَ هود عليه السّلام قَدْ وَقَعَ ثبت و حقّ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ عذاب وَ غَضَبٌ من الله أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ للأصنام سَمَّيْتُمُوها آلهة، بلا حقيقة أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها أي بتلك الأسماء، فالله لم يقل هذه آلهة مِنْ سُلْطانٍ حجة و برهان فَانْتَظِرُوا العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
[72] فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بأن آمنوا به بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم وَ قَطَعْنا استأصلنا دابِرَ القوم، أي القوم إلى آخرهم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ.
[73] وَ أرسلنا إِلى قبيلة ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً النبي عليه السّلام قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ معجزة مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة للتشريف لَكُمْ آيَةً دليل على صدق دعواي فَذَرُوها اتركوها تَأْكُلْ من العشب فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لا تسيئوا إليها فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
تبيين القرآن، ص: 172
[74] وَ اذْكُرُوا نعمة الله عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ مكنكم فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها سهول الأرض قُصُوراً بأن تبنون في السهل القصور وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً تصنعون البيوت في الجبال فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ نعمائه وَ لا تَعْثَوْا لا تفسدوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال للتأكيد.
[75] قالَ الْمَلَأُ جماعة الأشراف الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن الإيمان مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي عدّوهم ضعفاء لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من (الذين استضعفوا) أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ استفهام استهزائي قالُوا أي المستضعفون إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ صالح عليه السّلام مُؤْمِنُونَ.
[76] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تكبروا عن الإيمان إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ من التوحيد و أقوال صالح عليه السّلام كافِرُونَ.
[77] فَعَقَرُوا أي جرحوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا استكبروا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ عن امتثاله وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
[78] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ زلزلة شديدة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ صرعى على وجوههم.
[79] فَتَوَلَّى أعرض صالح عليه السّلام عَنْهُمْ وَ قالَ مخاطبا لجثثهم الهالكة يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ.
[80] وَ أرسلنا لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ و هي اللواط ما سَبَقَكُمْ بِها بالفاحشة، و الاستفهام للإنكار مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ.
[81] إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً أي لأجل الشهوة مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي مجاوزون الحد.
تبيين القرآن، ص: 173
[82] وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ له إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا عليه السّلام و المؤمنين به مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من الفواحش.
[83] فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانت كافرة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الذين بقوا في ديارهم فهلكوا.
[84] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً نوعا عجيبا من المطر و هو الحجارة فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ.
[85] وَ أرسلنا إِلى مَدْيَنَ و هم قبيلة أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي معجزة على صدقي مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ أدوا حقوق الناس كاملة وَ لا تَبْخَسُوا البخس: النقص النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر و العصيان بَعْدَ إِصْلاحِها بالأنبياء عليهم السّلام ذلِكُمْ العمل الذي أمرتكم به خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
[86] وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ طريق تُوعِدُونَ أي تخوفون الناس بالقتل حيث كانوا يقطعون الطريق وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تمنعون الناس عن الإيمان مَنْ آمَنَ بِهِ أي بالله وَ تَبْغُونَها تطلبون السبيل عِوَجاً أن تكون معوّجة وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ بالنسل الخصب وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم السابقة حيث نزل عليهم العقاب.
[87] وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي بين الفريقين بإنجاء المحق و إهلاك المبطل وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه يحكم بالعدل.
تبيين القرآن، ص: 174
[88] قالَ الْمَلَأُ الأشراف الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تكبروا عن قبول الحق مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا طريقتنا بأن تكفروا قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي كيف نعود فيها و نحن كارهون لطريقتكم.
[89] قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بأن نشرك، لأن الشرك كذب فإذا نسبناه إلى الله كان افتراء عليه بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ يصح لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا و هذا من قبيل التعليق على المحال، و ذلك لأجل يأس الكفار عن عودهم إلى ملة الكفر وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً فهو أعلم بما تعبّدنا به من التوحيد عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أمورنا رَبَّنَا افْتَحْ اقض، و الفتّاح القاضي بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا الكفار بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ.
[90] وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ بعضهم لبعض لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً حال اتباعكم شعيبا عليه السّلام لَخاسِرُونَ.
[91] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة المقترنة بالصيحة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ميتين ملقين على وجوههم.
[92] الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا استأصلهم حتى كأنهم لم يقيموا في ديارهم الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ لا الذين اتبعوه.
[93] فَتَوَلَّى أعرض شعيب عليه السّلام عَنْهُمْ حال أخذهم العذاب وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي إذ كل حكم رسالة وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى أحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ أي لا أحزن على الكفار.
[94] وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ بالشدائد وَ الضَّرَّاءِ الأمراض و ما أشبه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي يتنبهوا و يرجعوا إلى الله.
[95] ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ بأن رفعنا عنهم البؤس و وضعنا مكانه الرخاء كي يشكروا حَتَّى عَفَوْا بأن كثروا عددا و عددا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ فإنهم لم يشكروا، بل قالوا هذه عادة الدهر تسي ء و تحسن فقد أساء إلى آبائنا و أحسن إلينا فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب بَغْتَةً فجأة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بأن السيئة لأجل الضراعة، و الحسنة لأجل الشكر، فإذا لم يتوجهوا إلى الله في أي حال استحقوا العقاب.
تبيين القرآن، ص: 175
[96] وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا عوض الكفر وَ اتَّقَوْا عوض العصيان لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ خيرات مِنَ السَّماءِ كالمطر وَ الْأَرْضِ كالنبات وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر و المعاصي.
[97] أَ فَأَمِنَ أي هل يأمن، و الاستفهام للتوبيخ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا عذابنا بَياتاً ليلا وَ هُمْ نائِمُونَ في حال النوم.
[98] أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى في النهار عند ارتفاع الشمس وَ هُمْ يَلْعَبُونَ يلهون غافلين عن الله.
[99] أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ استدراجه إياهم بالنعم، و علاجه للأمر بالوسائل الخفية فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين يخسرون كل شي ء.
[100] أَ وَ لَمْ يَهْدِ أ لم يتبيّن لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ يخلفون السابقين مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي أخذناهم بسبب معاصيهم وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ بأن نجعل قلوبهم بحيث يختم عليها فلا تفقه شيئا فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تفهم.
[101] تِلْكَ الْقُرى التي مر ذكرها نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها بعض أخبارها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة و المعجزات فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجي ء البينات بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ إذ عاندوا الحق فاستمروا على الكفر كَذلِكَ هكذا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ فإن طبعه عبارة عن انطباعه بالقسوة، و حيث إن الله تركه حتى يقسو، نسب إليه تعالى.
[102] وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أكثر الأمم مِنْ عَهْدٍ وفاء بما عاهدوا الله عليه من نصرة الرسل و البقاء على الإيمان وَ إِنْ مخففة من الثقيلة وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله تعالى.
[103] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد أولئك الرسل المتقدم أسماؤهم مُوسى بِآياتِنا بالمعجزات إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أشراف قومه فَظَلَمُوا أنفسهم بِها بسبب تلك الآيات حيث لم يأمنوا بها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الذين أفسدوا في الأرض فإنهم غرقوا في البحر.
[104] وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 176
[105] حَقِيقٌ أي أنا جدير عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لان الرسل لا يقولوا إلا الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ هي معاجز موسى عليه السّلام مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ فإن فرعون كان استعبدهم من وطن آبائهم و هي فلسطين مكان إبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام فطلب موسى عليه السّلام أن يطلق فرعون سراحهم حتى يرجع بهم إلى الأرض المقدسة.
[106] قالَ فرعون إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ معجزة فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك وجود الله و أنك رسوله.
[107] فَأَلْقى موسى عليه السّلام عَصاهُ في الأرض فَإِذا هِيَ تنقلب ثُعْبانٌ حية عظيمة مُبِينٌ ظاهر للعيان.
[108] وَ نَزَعَ يَدَهُ أخرج يده من جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ تشع بياضا كأنها الشمس لِلنَّاظِرِينَ لمن ينظر إليها.
[109] قالَ الْمَلَأُ الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا موسى عليه السّلام لَساحِرٌ عَلِيمٌ حاذق بالسحر.
[110] يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فإنه يريد أن يأخذ السلطة فينفيكم، أو أنتم تلتجئون إلى الفرار فَما ذا تَأْمُرُونَ تشيرون في أمره.
[111] قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ هارون عليه السّلام أي أخّر أمرهما، فإن الإرجاء التأخير وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ أي البلاد حاشِرِينَ أي جامعين للسحرة.
[112] يَأْتُوكَ من ترسلهم بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ حاذق في السحر، حتى يظهروا للملأ أن موسى عليه السّلام ساحر.
[113] وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي أجرة لعملنا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ على موسى عليه السّلام.
[114] قالَ فرعون نَعَمْ إن لكم أجرا وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أقربكم إلى بلاطي إضافة على الأجرة.
[115] قالُوا السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ نلقي حبالنا و عصيّنا.
[116] قالَ موسى عليه السّلام أَلْقُوا أنتم حبالكم و عصيكم فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بأن خيّلوا إلى الناس أن عصيهم حيات وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ أخافوهم إرهابا شديدا وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ و قد ورد أنهم هيئوا سبعين ألف حية و ثعبانا، كلها أخذت تتحرك بشكل مفزع.
[117] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فصارت حية فَإِذا هِيَ أي عصا موسى عليه السّلام تَلْقَفُ تأكل بسرعة ما يَأْفِكُونَ ما قلبوه عن وجهه بأن صوّروه حية، من الإفك بمعنى الكذب.
[118] فَوَقَعَ ثبت الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر.
[119] فَغُلِبُوا فرعون و ربعه هُنالِكَ في ذلك المقام وَ انْقَلَبُوا رجعوا إلى أماكنهم صاغِرِينَ أذلاء محتقرين.
[120] وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ فأنهم لم يتمالكوا أن ألقوا أنفسهم ساجِدِينَ لله تعالى لما عرفوا من صدق موسى عليه السّلام.
تبيين القرآن، ص: 177
[121- 123] قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ أي بالله، و الاستفهام للإنكار قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ كأنه لا يحق لأحد أن يؤمن إلا بإذن فرعون إِنَّ هذا التواطؤ بينكم و بين موسى عليه السّلام لَمَكْرٌ خدعة مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ في مصر قبل خروج موسى عليه السّلام بأن تبانيتم ثم خروج موسى فرارا ثم رجع لتنفيذ المكيدة لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي القبط لتكون السلطة لبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة مكيدتكم، و هذا تهديد لهم.
[124] لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ اليد اليمنى و الرجل اليسرى ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أشنقكم أَجْمَعِينَ.
[125] قالُوا لا بأس ف إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ننقلب و نرجع إلى رحمته بالموت فيجازينا.
[126] وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا أي لا تنكر منّا إلا إيماننا، فإنا لسنا مجرمين لَمَّا جاءَتْنا الآيات كما شاهدنا، ثم توجهوا إلى الله قائلين رَبَّنا أَفْرِغْ أصبب عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا أمتنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام.
[127] وَ قالَ الْمَلَأُ الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ تترك مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بدعوتهم إلى مخالفتك وَ يَذَرَكَ أي يتركك و لا يعتني بك وَ آلِهَتَكَ فإنهم كانوا يعبدون الأصنام بالإضافة إلى عبادة فرعون قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ حتى لا يكبروا و ينضموا إلى موسى عليه السّلام وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي نبقيهن أحياء وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ بجبرهم على ما نريد.
[128] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ لما سمعوا تهديد فرعون اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا على أذاه إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فيه تلميح إلى أنكم ترثون الأرض وَ الْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ الذين يتجنبون الكفر و المعاصي.
[129] قالُوا أي بنو إسرائيل أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بقتل أبنائنا و استحياء نسائنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بإعادة فرعون قتل الأبناء و استحياء النساء قالَ موسى عَسى أي نرجو رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ بأن يجعلكم خلفاء له فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ خيرا أم شرا، و هذا إنذار لهم بأن يعملوا صالحا عند استخلافهم.
[130] وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ القحط و الجدب وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بتسليط الدود على الثمار حتى نقصت عن معتادها لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يتعظون.
تبيين القرآن، ص: 178
[131] فَإِذا جاءَتْهُمُ أي جاءت آل فرعون الْحَسَنَةُ الخصب و الخير قالُوا لَنا لأجلنا و نحن مستحقون ل هذِهِ الحسنة وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جدب و بلاء يَطَّيَّرُوا يتشاءموا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أي قالوا هذه السيئة من شؤم موسى عليه السّلام و قومه أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ أي سبب الشر النازل عليهم عِنْدَ اللَّهِ فإنه سبحانه يقدر الشر لمن عصاه وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ من أن ما يصيبهم هو من شؤم أعمالهم.
[132] وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ بيان (ما) لِتَسْحَرَنا بِها لتموّه علينا بسبب تلك الآية فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فلا نصدّقك.
[133] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ زاد الماء حتى طاف ببيوتهم و زرعهم و أغرقهم وَ الْجَرادَ الذي أكل حرثهم وَ الْقُمَّلَ في أبدانهم وَ الضَّفادِعَ فامتلأت بيوتهم بالضفادع وَ الدَّمَ فانقلبت مياههم دما آياتٍ أدلة على صدق موسى عليه السّلام مُفَصَّلاتٍ مبينات واضحات لا تشكل على أحد فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.
[134] وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ الثلج الأحمر مما سبب موتهم و كثرة أذاهم قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ من إجابة دعوتك، أو الباء للقسم أي نقسمك بعهد الله لَئِنْ كَشَفْتَ رفعت عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ نطلق سراحهم فإنهم كانوا تحت مراقبة شديدة من فرعون لا يأذن لهم بالخروج عن مصر.
[135] فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إلى مدة إذا بلغوها نزل بهم العذاب ثانيا إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ينقضون عهدهم فلم يؤمنوا و لم يطلقوا بني إسرائيل.
[136] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ في البحر بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ لا يعلمون بها كالغافل.
[137] وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ بني إسرائيل الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ أي يعدونهم ضعفاء، بالاستعباد و الإذلال مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا أي شرق مصر و غربها بمعنى جميع نواحي البلاد الَّتِي بارَكْنا بالثمار و كثرة الأنبياء عليهم السّلام فِيها في تلك الأراضي وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى أي الكلمة الحسنة عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ فإن الله وعدهم الخير إن آمنوا و بقوا على إيمانهم بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم وَ دَمَّرْنا أهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ من الأبنية و العمارات وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات ذات العرائش.
تبيين القرآن، ص: 179
[138] وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ بأن جعلنا لهم في البحر الأحمر طريقا إلى اليابسة، و ذلك لما أتبعهم فرعون فَأَتَوْا مرّوا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ يقيمون عَلى عبادة أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً صنما نعبده كَما لَهُمْ لهؤلاء القوم آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فإن الصنم لا يكون إلها.
[139] إِنَّ هؤُلاءِ القوم مُتَبَّرٌ مهلك ما هُمْ فِيهِ من الدين وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادة الأصنام.
[140] قالَ موسى عليه السّلام أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ أطلب لكم إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانكم.
[141] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ يذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يبقونهن للخدمة وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ عذاب مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ لأنه سلّط فرعون، و لم يحل بينه و بين ما أراد.
[142] وَ واعَدْنا مُوسى وعدنا لإعطائه التوراة، بعد النجاة من مصر ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ أي أضفنا عليها عشر ليال أخرى فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ وقت وعده أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ قبل أن يخرج إلى الميقات اخْلُفْنِي كن خليفتي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ أمورهم وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ طريقتهم في الفساد.
[143] وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ بأن خلق الكلام فسمعه موسى عليه السّلام قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ لأن القوم طلبوا منه ذلك فأراد عليه السّلام جوابهم قالَ الله لَنْ تَرانِي أبدا، لاستحالة رؤية الله وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بالقرب منك فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي علق الله تعالى الرؤية على المحال إذ الاستقرار حال التجلي محال فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ بأن أظهر نوره عليه جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا و مدقوقا وَ خَرَّ وقع مُوسى صَعِقاً مغشيا عليه من الهيبة فَلَمَّا أَفاقَ موسى عليه السّلام من غشوته قالَ سُبْحانَكَ أنزّهك عما لا يليق بك من الرؤية تُبْتُ إِلَيْكَ من طلب الرؤية وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.
تبيين القرآن، ص: 180
[144] قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ اخترتك عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي بأن كلمتك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أعطيتك من النبوة و الشريعة وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
[145] وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ هي ألواح التوراة التي نزلت من السماء و فيها كتابة التوراة مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه في الدين مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ أي كل شي ء من المواعظ و من تفصيل الأحكام فَخُذْها أي الألواح بِقُوَّةٍ بجدّ و عزيمة وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها بأحسن ما فيها لا الواجب فقط كالنوافل و الإحسان سَأُرِيكُمْ حتى تنظروا دارَ الْفاسِقِينَ و هي جهنم.
[146] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ أي لا يتمكنون من أن ينالوها بسوء الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي تكبرا بالباطل وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ معجزة لا يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ الهدى لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ الضلالة يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ الصرف، أو ذلك العناد منهم بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ أي كالغافل، فإنهم لا يعلمون بالآيات.
[147] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ أي ملاقاة الحساب و الجزاء حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الحسنة في الدنيا، لأن الكفر يمحي الحسنات هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ استفهام إنكار، أي أن جزاءهم هو طبق عملهم.
[148] وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ بعد ذهابه إلى الميقات مِنْ حُلِيِّهِمْ كالسوار و الخلاخل و ما أشبه عِجْلًا ولد البقر جَسَداً لا روح فيه لَهُ خُوارٌ صوت، قيل إن السامري احتال لدخول الهواء في جوفه فكان يصوّت أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا فكيف اتَّخَذُوهُ إلها وَ كانُوا ظالِمِينَ لأنفسهم بهذه العبادة.
[149] وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا، فان النادم يضع رأسه على كفّه وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا و ذلك بعد مجي ء موسى عليه السّلام و تنبيههم قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم بالعقاب.
تبيين القرآن، ص: 181
[150] وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى من الطور إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ في حالة الغضب أَسِفاً شديد الغضب و التأسف قالَ موسى عليه السّلام بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي بئست خلافتكم حيث عبدتم العجل أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي وعده الذي وعدنيه من أربعين ليلة، أي تركتموه غير تام وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ من شدة حميته للدين و إظهارا للتنفر من القوم وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ كأنه يريد أن يخرج هو و أخوه من بين القوم قالَ هارون عليه السّلام ابْنَ أُمَّ جاء باسم الأم استعطافا إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي أي عدوني ضعيفا، فلم يسمعوا كلامي في كفّهم عن عبادة العجل وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي أي قاربوا أن يقتلوني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي لا تعاتبني حتى يشمت الأعداء بي، و يقولون إنك لست محبوبا لدى موسى و لذا يعاتبك وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تؤاخذني كما تؤاخذ عباد العجل الذين ظلموا أنفسهم بالشرك.
[151] قالَ رَبِّ اغْفِرْ استر علينا فإن الإنسان يحتاج إلى ستر الله دائما لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ بمزيد الإنعام وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
[152] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ عبدوه سَيَنالُهُمْ يلحقهم غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بقتل بعضهم بعضا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ بالإشراك.
[153] وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها بعد السيئات وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
[154] وَ لَمَّا سَكَتَ سكن عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ من الأرض وَ فِي نُسْخَتِها أي ما نسخ و كتب فيها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يخشون الله.
[155] وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا أي لوقت تكلم الله مع موسى عليه السّلام، و ذلك لأنهم طلبوا أن يسمعوا كلام الله تعالى فَلَمَّا جاءوا قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله عيانا ف أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة فماتوا جميعا قالَ موسى عليه السّلام رَبِّ لَوْ شِئْتَ لو أردت إهلاكهم أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ حضورهم الميقات وَ إِيَّايَ بأن تهلكني معهم أيضا، و ذلك لأنه يتهمني بنو إسرائيل بأنّي قتلتهم أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ من طلب الرؤية السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ امتحانك، و الاستفهام للاستعطاف تُضِلُّ بِها بالفتنة مَنْ تَشاءُ فان الفتنة تكون سببا لإظهار ما في الباطن وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا الأولى بالتصرف فينا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ.
تبيين القرآن، ص: 182
[156] وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً حسن المعيشة وَ فِي الْآخِرَةِ حسن المعيشة إِنَّا هُدْنا رجعنا بتوبتنا إِلَيْكَ قالَ الله عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ممن استحق العذاب وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فإن الخلق و الرزق و ما أشبه كلها رحمته فَسَأَكْتُبُها أي الرحمة، بالنسبة إلى الآخرة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا بحججنا يُؤْمِنُونَ.
[157] الَّذِينَ بدل: (الذين يتقون) يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ إلى الناس النَّبِيَّ من الله الْأُمِّيَّ المنسوب إلى مكة أم القرى الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً اسمه و وصفه عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ما يضر دينهم و دنياهم وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الحمل الثقيل وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ (الأغلال) جمع غل، و هي الأمور التي قيدتهم من الشرائع و التقاليد، لأن الإسلام يطلق حريات الناس فلا حمل ثقيل على ظهورهم، و لا غل في أيديهم و أرجلهم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ أي عظموه وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ القرآن، و أوّل بأمير المؤمنين علي عليه السّلام الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[158] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ أي كلمات الله كالكتب السابقة وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى الحق و إلى الجنة.
[159] وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ أي يعدلون بين الناس بسبب الحق، و هم كانوا في عصر موسى عليه السّلام، أو بعده ممن آمن بالأنبياء عليهم السّلام.
تبيين القرآن، ص: 183
[160] وَ قَطَّعْناهُمُ فرقنا بني إسرائيل اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً كل قبيلة سبط لانتهاء نسبها إلى أحد أولاد يعقوب عليه السّلام أُمَماً صفة (أسباطا) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ طلب منه الماء في التيه قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ الذي كان معه فضرب فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ خرجت من الحجر اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كل قبيلة مَشْرَبَهُمْ المحل الذي يشربون منه وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ السحاب يقيهم الشمس وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ مادة حلوة وَ السَّلْوى قسم من الطير كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا حيث كفروا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
[161] وَ إِذْ اذكر يا رسول الله قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس، للخلاص من التيه وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ أي اللهم حطّ ذنوبنا وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فإذا أردتم أن تدخلوا من باب القرية اسجدوا لله شكرا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ثوابا.
[162] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ بأن قالوا حنطة حمراء خير لنا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ أنفسهم بالعصيان.
[163] وَ سْئَلْهُمْ أي استخبرهم يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم توبيخا لهم عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة من البحر و هي إيلة إِذْ يَعْدُونَ يتجاوزون حدود الله فِي السَّبْتِ يوم السبت، حيث كان صيد السمك محرما عليهم يوم السبت فاتخذوا حياضا متصلة بالبحر فكانت السمك تدخلها في السبت و لا تتمكن من الرجوع فيصيدونها يوم الأحد إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ أي الأسماك يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ظاهرة على وجه الماء، لأنها عرفت أمانها هذا اليوم فكانت تظهر وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا يعظمون السبت، أي سائر الأيام لا تَأْتِيهِمْ الأسماك كَذلِكَ أي هكذا نَبْلُوهُمْ نختبرهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ إذ لو لا فسقهم و إرادة الانتقام منهم لم نحرم عليهم صيد السمك يوم السبت.
تبيين القرآن، ص: 184
[164] وَ إِذْ قالَتْ عطف على (إذ يعدون) أُمَّةٌ جماعة مِنْهُمْ من أهل القرية، لجماعة كانوا يعظون الصائدين للسمك لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ بإماتتهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً دون الإهلاك، قالوا ما الفائدة في نصيحة هؤلاء؟ قالُوا الناصحون مَعْذِرَةً لأجل أن يكون لنا عذر إِلى رَبِّكُمْ نقول له يا رب قد نصحناهم وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ صيد سمك المحرم.
[165] فَلَمَّا نَسُوا ترك الصائدون ما ذُكِّرُوا بِهِ أي النصح الذي ذكرهم الناصحون به أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ و هم الناصحون فقط وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا الصائدون و التاركون للنصح بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد بِما أي بسبب ما كانُوا يَفْسُقُونَ.
[166] فَلَمَّا عَتَوْا تكبروا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ عن صيد السمك قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ مطرودين فانقلبوا قردة.
[167] وَ إِذْ تَأَذَّنَ أي أذن و أعلم رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ ليسلطن عَلَيْهِمْ على اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ أي يؤذيهم سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن كفر وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ لمن آمن رَحِيمٌ.
[168] وَ قَطَّعْناهُمْ أي فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ الذين آمنوا بالأنبياء المتأخرين وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ غير مؤمنين وَ بَلَوْناهُمْ اختبرناهم بِالْحَسَناتِ بالنعم وَ السَّيِّئاتِ النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن الكفر و المعاصي، ليشكروا النعم أو يتضرعوا عند النقم.
[169] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ بعد أولئك الأقوام خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة يَأْخُذُونَ عَرَضَ أي حطام هذَا الْأَدْنى يعني الدنيا، مقابل الآخرة التي هي أبعد وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا أي لا بأس بما نفعله من الحرام فإن الله يغفر لنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ أي مثل هذا العرض الأول يَأْخُذُوهُ أيضا، و المعنى أنهم مصرون على الذنب و العصيان أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي العهد المذكور في الكتاب أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فكيف يقولون سيغفر لنا و هم مرتكبون للمعاصي وَ دَرَسُوا ما فِيهِ أي قرءوا ما في الكتاب وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مما يأخذه اليهود من عرض هذا الأدنى أَ فَلا تَعْقِلُونَ.
[170] وَ الَّذِينَ عطف على (للذين) يُمَسِّكُونَ يتمسكون بِالْكِتابِ التوراة وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ الذين يصلحون أنفسهم بالطاعة.
تبيين القرآن، ص: 185
[171] وَ اذكر إِذْ نَتَقْنَا أي قطعنا قطعة من الْجَبَلَ و رفعناها فَوْقَهُمْ و ذلك بقصد إرهابهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ هي ما أظل الإنسان وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ساقط عليهم، و قلنا لهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من التوراة بِقُوَّةٍ بشدة وَ اذْكُرُوا بالعمل ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي.
[172] وَ إِذْ اذكر يا رسول الله زمان أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أخرج ذرية بني آدم من ظهورهم، إذ الظهر محل النطفة وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ إذ الفطرة شاهدة على الإنسان أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ استفهام تقرير قالُوا بَلى شَهِدْنا فإن فطرة كل إنسان تشهد بالتوحيد أَنْ تَقُولُوا و إنما أودع فيهم هذه الفطرة لئلا تقولوا، أيها البشر يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا أي التوحيد، و في الروايات تأويل الآية بعالم الذر غافِلِينَ.
[173] أَوْ تَقُولُوا عذرا على شرككم إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاتبعناهم تقليدا أَ فَتُهْلِكُنا يا رب بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أي الآباء الذين أتوا بالباطل.
[174] وَ كَذلِكَ كما بينا هذه الآيات نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من الباطل إلى الحق.
[175] وَ اتْلُ اقرأ عَلَيْهِمْ نَبَأَ خبر الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا حججنا، و هو (بلعم) كان عالما و أوتي الاسم الأعظم، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السّلام فدعا عليه فانقلب الدعاء على نفس الداعي فَانْسَلَخَ مِنْها أي من الآيات و لم يعمل بعلمه، كالحيوان الذي ينسلخ من جلده فَأَتْبَعَهُ لحقه الشَّيْطانُ لأن من ترك جادة الحق لحقه الشيطان لإضلاله فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ الضالين.
[176] وَ لَوْ شِئْنا بالإجبار لَرَفَعْناهُ إلى منزلة الأخيار بِها بسبب الآيات وَ لكِنَّهُ أي بلعم أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ركن إلى الدنيا وَ اتَّبَعَ هَواهُ و لم يتبع الشريعة فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ بالطرد و الزجر يَلْهَثْ يدلع لسانه أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فهو في كلا الحالين لاهث بخلاف سائر الحيوانات فإنها تلهث إذا حملت عليها فقط، فإن بلعما دعا على موسى عليه السّلام، و قد كان موسى عليه السّلام تاركا لبلعم و مع ذلك دعا بلعم عليه ذلِكَ المثل مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أي انقل لهم أخبار الماضين لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيعتبرون.
[177] ساءَ بئس المثل مَثَلًا الْقَوْمُ مثل القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ بتكذيب آيات الله.
[178] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى الإيمان و الطاعة فَهُوَ الْمُهْتَدِي حقيقة إذ ليست هداية غيره هداية وَ مَنْ يُضْلِلْ بتركه حتى يضل فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم.
تبيين القرآن، ص: 186
[179] وَ لَقَدْ ذَرَأْنا خلقنا لِجَهَنَّمَ أي تكون عاقبتهم دخول جهنم كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها لا يفهمون الحق بتلك القلوب وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها آيات الله وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها المواعظ أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفهم و العبرة بالنظر و السمع بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الأنعام لا تقدر و هؤلاء يغلقون مشاعرهم مع قدرتهم أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ عن الآيات.
[180] وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الأسماء الحسنة، فلا سوء في أسمائه و صفاته فَادْعُوهُ بِها أي بتلك الأسماء، فقولوا يا رحمان يا غفار، و هكذا وَ ذَرُوا اتركوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ أي يميلون عن الحق فِي أَسْمائِهِ فيسمون أسمائه على أصنامهم سَيُجْزَوْنَ في الآخرة ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإلحاد و العصيان.
[181] وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أي جملة من الخلق أُمَّةٌ جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ يحكمون بالعدل بين الناس.
[182] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ نقربهم إلى الهلاك درجة درجة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ حيث إن تواتر النعم عليهم استدراج لأنها تشغلهم عن الحق.
[183] وَ أُمْلِي لَهُمْ أمهلهم إِنَّ كَيْدِي أي بطشي و استدراجي، و سمّي كيدا، لان ظاهره نعمة و باطنه نقمة مَتِينٌ قوي محكم.
[184] أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ أي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ جِنَّةٍ جنون إِنْ هُوَ ما هو إِلَّا نَذِيرٌ منذر عن عذاب الله مُبِينٌ واضح.
[185] أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا نظر اعتبار فِي مَلَكُوتِ الملك العظيم الدال على وجود الله السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ بيان (ما) و المراد به أصناف الخلق وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أي أ فلم ينظروا احتمال اقتراب أجلهم فيبادروا إلى الإيمان فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن مع وضوح دلالته، و الاستفهام للتوبيخ يُؤْمِنُونَ.
[186] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بتركه حتى يضل فَلا هادِيَ لَهُ يجبره على الإيمان وَ يَذَرُهُمْ يتركهم فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ العمه عمى القلب.
[187] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة أَيَّانَ متى مُرْساها إرسائها أي إثباتها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يعلم وقتها أحد لا يُجَلِّيها لا يظهرها لِوَقْتِها في وقتها إِلَّا هُوَ فعنده علمها و بيده إقامتها ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عظمت على أهل السماء و الأرض لخوفهم منها لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً فجأة فيكون هولها أعظم يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ مستقص في السؤال عَنْها فتعلم وقتها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ فالله وحده يعلم وقتها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن علمها خاص بالله تعالى.
تبيين القرآن، ص: 187
[188] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ بان يملكني إياه بالإعطاء و الإلهام وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ما غاب عن الحواس، أي إذا كنت أعلمه بدون تعليم الله لي لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي طلبت لنفسي خيرا كثيرا وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ لأني كنت أتجنب مواقع السوء إِنْ أَنَا ما أنا إِلَّا نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون بالإنذار و البشارة.
[189] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم عليه السّلام لأنه أول الخلق وَ جَعَلَ مِنْها من جنس تلك النفس زَوْجَها حواء لِيَسْكُنَ الرجل إِلَيْها إلى زوجه سكون الزوج إلى زوجته فَلَمَّا تَغَشَّاها جامعها حَمَلَتْ المرأة حَمْلًا خَفِيفاً لأن النطفة خفيفة فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت المرأة بالحمل لأنه خفيف فتجي ء و تذهب كالسابق فَلَمَّا أَثْقَلَتْ المرأة بكبر الحمل دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما الزوجان لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً ولدا صالحا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ على هذه النعمة.
[190] فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ لله شُرَكاءَ بأن أشركوا بالله فِيما آتاهُما الله، فسموا أولادهم عبد العزى و عبد اللات فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ إنه أعلى من أن يكون له شريك.
[191] أَ يُشْرِكُونَ مع الله ما صنما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ تلك الأصنام يُخْلَقُونَ فإن الصنم ينحته الإنسان و الاستفهام للإنكار.
[192] وَ لا يَسْتَطِيعُونَ الأصنام لَهُمْ لعبدتها نَصْراً فإن الصنم لا ينصر أحدا وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إذ لا يتمكن الصنم من دفع الأذى عن نفسه.
[193] وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أي تدعوا المشركين، أيها المسلمون إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ ساكتون فإنهم معاندون.
[194] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن تجعلوهم آلهة عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فإن كل شي ء في الكون عبد و مملوك لله فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنهم آلهة.
[195] أَ لَهُمْ استفهام إنكار، و الضمير للأصنام أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ يأخذون و يعملون بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أي لا حواس لهم فأنتم أفضل منهم، فكيف جعلتموهم شركاء لله قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي الآلهة المزعومة ثُمَّ كِيدُونِ أي امكروا أنتم و آلهتكم للخلاص مني فَلا تُنْظِرُونِ أي لا تمهلوني، و هذا تحدّ لهم و بيان أن الله حافظ لي.
تبيين القرآن، ص: 188
[196] إِنَّ وَلِيِّيَ الذي يتولى أموري اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ من عباده.
[197] وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فالصنم لا ينصر عبّاده و لا نفسه.
[198] وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أي المشركين إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا سماع انتفاع وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ إذ لا يعتبرون بالنظر فحالهم حال الأعمى.
[199] خُذِ الْعَفْوَ اعف عن الناس، أو خذ عفو أموال الناس وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ المعروف المستحسن عقلا و شرعا وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قابل سفههم بالحلم.
[200] وَ إِمَّا (إن) شرطية و (ما) زائدة يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ أي يوسوسك الشيطان بوسوسة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ التجأ إليه من شر الشيطان إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
[201] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا اجتنبوا المعاصي إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ أي خاطر يأتي إلى ذهنهم مِنَ قبل الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا الله سبحانه فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ للرشد فلا يتبعون الشيطان.
[202] وَ أما إِخْوانُهُمْ أي إخوان الشياطين، و هم الكفار و العصاة، إذا مسهم طائف يَمُدُّونَهُمْ أي يمدون الشياطين باتباع تلك الوسوسة فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي لا يرجعون عن الغي بل يستمرون في اتباع وسوسة الشيطان.
[203] وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا رسول الله بِآيَةٍ بمعجزة اقترحها الكفار قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها أي لما ذا لم تختر هذه المعجزة المقترحة بأن تأتي بها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ فلا آتي بالمعجزة من عندي و إنما آتي بما يوحي الله إليّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ دلائل تبصر القلوب، فتكفي دليلا، و أية حاجة إلى المعجزة التي تقترحونها مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
[204] وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا الاستماع بسكوت لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
[205] وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ في قلبك تَضَرُّعاً بضراعة و خشوع وَ خِيفَةً خائفا من عذاب الله وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي فوق السر و أقل من الجهر الرفيع بِالْغُدُوِّ صباحا وَ الْآصالِ جمع أصيل بمعنى العصر وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر ربك.
[206] إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ هم الملائكة أي بالقرب الشرفي منه تعالى لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ ينزهونه عما لا يليق به وَ لَهُ يَسْجُدُونَ خضوعا و تذللا.
تبيين القرآن، ص: 189
مدنية آياتها خمس و سبعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنِ حكم الْأَنْفالِ و هي ما أخذ عن دار الحرب بغير قتال، و ما أشبهه قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ و لمن قام مقامه من الأئمة المعصومين عليهم السّلام فَاتَّقُوا اللَّهَ و لا تجعلوا الأنفال في سبيل آخر وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي الحالة التي بينكم فلا تفسدوها وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي الصلاح.
[2] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ خافت لمجرد ذكره سبحانه، لأن عظمته ملأت نفوسهم وَ إِذا تُلِيَتْ قرأت عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً فإن الملكة تتقوى بالتكرار وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يفوضون أمورهم إليه تعالى.
[3- 4] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا إيمانا حقا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة وَ مَغْفِرَةٌ غفران لما بدر منهم من السيئات وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ مع الكرامة و التعظيم.
[5] كَما أي جعل الله الأنفال لك، و ان كرهوا كما أَخْرَجَكَ الله يا رسول الله رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ من المدينة لأجل الجهاد بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يكرهون الحرب لمشقته.
[6] يُجادِلُونَكَ أي المسلمون الذين خافوا من القتال فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أنه حق لما ظهر لهم من صحة قولك و صدقك كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ فإنهم كرهوا أن يحاربوا في غزوة بدر كراهة مثل كراهة سياقهم إلى الموت وَ هُمْ يَنْظُرُونَ في حالة أنهم يرون الموت بعينهم.
[7] وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ وعدا حسنا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إما العير الآتي من الشام ليغنموه أو النفير إلى الحرب مع قريش أَنَّها أي إحداهما لَكُمْ إما تغنمون أو تنتصرون وَ تَوَدُّونَ تحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ الأبهة و العظمة، و غير ذات الشوكة هو العير تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ يثبته بِكَلِماتِهِ السابقة التي وعدكم من نصرة الإسلام وَ يريد الله أن يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم و يهزمهم عن آخرهم.
[8] لِيُحِقَّ الله الْحَقَّ بسبب المحاربة وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إحقاق الحق.
تبيين القرآن، ص: 190
[9] إِذْ متعلق ب (يحق) أي ذلك حال استجرتم بالله في غزوة بدر تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ أجاب الله لَكُمْ قائلا أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ بعض ردف بعض أتوا لنصرتكم.
[10] وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي إمداد الملائكة إِلَّا بُشْرى بشارة لكم بالنصر وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ أي بالنصر قُلُوبُكُمْ فإن الإنسان إذا عرف أن له مددا اطمئن قلبه وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من العدد و العدد و الملائكة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
[11] إِذْ بدل من (إذ يعدكم) يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ يغلبكم النوم أَمَنَةً مِنْهُ أمنا من الله، إذ الآمن يقدر على النوم أما الخائف فلا تغمض له عين وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً المطر، فقد جنبوا في الليلة و لم يكن لهم ماء للشرب و الغسل، و كان محلهم رمليا رخوا يحتاج إلى الماء ليقوى، فأنزل الله المطر لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي بالماء من لوث الجنابة وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ إما المراد به الجنابة، أو وسوسته حيث وسوس إليهم أنهم على باطل، و إلّا فلما ذا الجنابة و عدم الماء وَ لِيَرْبِطَ ليشد الله عَلى قُلُوبِكُمْ بأن تعلموا أنه يلطف بكم وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ في الأرض الرملية، إذ الماء يلبد الأرض.
[12] إِذْ متعلق ب (يثبت) يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ بالنصر فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا قووا قلوبهم و بشروهم بالنصر سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الخوف من المؤمنين فَاضْرِبُوا الكفّار فَوْقَ الْأَعْناقِ أي الرؤوس وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أصابع اليد و الرجل فإنه يورث الوجع الشديد و شلّ قوى الخصم.
[13]لِكَ
العذاب إنما نزل بهم أَنَّهُمْ
بسبب أنهم اقُّوا
خالفوالَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
في الدنيا و الآخرة.
[14] ذلِكُمْ العقاب أيها الكفار فَذُوقُوهُ في الدنيا وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ في الآخرة.
[15] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً متدانين لقتالكم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ فلا تنهزموا.
[16] وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ وقت الزحف دُبُرَهُ بأن أعطاهم خلفه للفرار إِلَّا مُتَحَرِّفاً يريد التوجه إلى ناحية أخرى لِقِتالٍ لا انه يريد الفرار أَوْ مُتَحَيِّزاً منحازا قاصدا إِلى فِئَةٍ جماعة ليتقوى بهم حال الحرب فَقَدْ باءَ رجع حال فراره بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يصحبه غضب الله عليه وَ مَأْواهُ محله جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ لأنه مصير سيئ.
تبيين القرآن، ص: 191
[17] فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ في بدر، بقوتكم وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصرته لكم وَ ما رَمَيْتَ فإن الرمي صورة كان لك إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى أما الحقيقة فالله كان هو الرامي لإبادتهم، فعل ذلك ليقهر المشركين وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ أي يمتحنهم مِنْهُ بَلاءً امتحانا حَسَناً فائدته لهم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتكم عَلِيمٌ بكيفية نصرتكم عليهم.
[18] الأمر ذلِكُمْ الذي ذكرنا وَ أَنَّ عطف على (ذلكم) اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ أي مكرهم.
[19] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا تطلبوا الفتح و النصرة فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ في بدر، و هذا خطاب للمؤمنين، ثم صار التفات الكلام إلى الكفار بقوله وَ إِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا إلى حرب المسلمين نَعُدْ إلى نصرهم وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم شَيْئاً فإن الله ينصر دينه وَ لَوْ كَثُرَتْ فئتكم أيها الكفار وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
[20] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي لا تعرضوا عن أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ كلامه.
[21] وَ لا تَكُونُوا كالكفار الذين قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ لا يعملون بما سمعوا.
[22] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ما يدبّ على الأرض عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ أي الذي لا يسمع سماع فهم و لا يتمكن أن يتكلم الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ الحق، و المراد بشر الدواب الكفار، لأنهم أسوأ حيث أبطلوا فوائد سمعهم و لسانهم فلا يسمعون الحق و لا يقولون الحق.
[23] وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ بأن أفهمهم الحق لطفا بهم وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ حال عنادهم لَتَوَلَّوْا أعرضوا عن الحق جسما وَ هُمْ مُعْرِضُونَ قلبا.
[24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا أجيبوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ فإن في الإسلام الحياة الطيبة في الدنيا و الآخرة وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ الإنسان وَ قَلْبِهِ حتى أنه يريد قلبه شيئا فلا تطيعه جوارحه، و هذا دليل على شدة سلطة الله تعالى على الإنسان فهو مطلع بمكنونات قلوبكم وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تعالى تُحْشَرُونَ تجمعون في الآخرة.
[25] وَ اتَّقُوا خافوا فِتْنَةً عذابا لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فإن العذاب إذا جاء يشمل الظالم كفاعل المنكر و غيره كالساكت عن النهي عن المنكر وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فلا تعرضوا أنفسكم لعقابه.
تبيين القرآن، ص: 192
[26] وَ اذْكُرُوا تذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ حال ما قبل الهجرة مُسْتَضْعَفُونَ لقريش فِي الْأَرْضِ أرض مكة تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ يأخذوكم بسرعة لأجل التعذيب كما فعلوا ببلال و غيره فَآواكُمْ جعل لكم مأوى في المدينة وَ أَيَّدَكُمْ قواكم بِنَصْرِهِ على الكفار وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ بعد أن كنتم في حالة الفقر في مكة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
[27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ بعدم الإتيان بشي ء من الدين، إذ الدين أمانة الله و الرسول وَ لا تَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيما بينكم وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قبح الخيانة.
[28] وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
امتحان فهل تطيعون الله فيهما أم لا وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
إذا و فيتم بالأمانة.
[29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ أي تخافوه فتعملون بأوامره يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ما تفرقون به بين الحق و الباطل، إذ الملكة إنما تحصل بالتقوى وَ يُكَفِّرْ يمحي عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ يستر عليكم و الستر غير المحو وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
[30] وَ إِذْ اذكر يا رسول الله زمان يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يحتالون في مكة لأجل إيذائك لِيُثْبِتُوكَ بالوثاق و الأغلال و الحبس أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ يعالج الأمر لأجل إنقاذك وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أعلمهم بالتدبير و علاج الأمور.
[31] وَ إِذا تُتْلى تقرأ عَلَيْهِمْ على الكفار آياتُنا آيات القرآن قالُوا قَدْ سَمِعْنا بآذاننا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا فليس القرآن معجزا إِنْ هذا ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي قصصهم الخرافية.
[32] وَ إِذْ اذكر يا رسول الله قالُوا الكفار اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا القرآن، و اوّل بقصة الغدير حيث نصب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام خليفة و إماما من بعده هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ كما أمطرت على قوم لوط أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.
[33] وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ فرحمة بك لا يعذب قومك و لو كانوا كفارا وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فإن بعض كفار مكة كانوا يعتقدون بالله و يستغفرونه، أو المراد وجود بعض المؤمنين المستغفرين فيهم.
تبيين القرآن، ص: 193
[34] وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ بيان لاستحقاقهم العذاب وَ هُمْ يَصُدُّونَ يمنعون المؤمنين عَنِ زيارة الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي متولي شؤون المسجد حتى يحق لهم منع الناس عنه إِنْ ما أَوْلِياؤُهُ المسجد إِلَّا الْمُتَّقُونَ لا المشركون وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن لا ولاية لهم.
[35] وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ أي ما كان يسميه الكفارة صلاة عِنْدَ الْبَيْتِ الحرام إِلَّا مُكاءً صفيرا وَ تَصْدِيَةً تصفيقا فَذُوقُوا الْعَذابَ أي السيف يوم بدر، أو عذاب الآخرة بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم.
[36] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا يمنعوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دين الله فَسَيُنْفِقُونَها في المستقبل لأجل محاربة المسلمين ثُمَّ تَكُونُ الأموال عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أسباب حسرة لأنهم لا يغلبون المسلمين و يعاقبون في الآخرة ثُمَّ يُغْلَبُونَ في الحرب وَ الَّذِينَ كَفَرُوا و لم يسلموا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يجمعون هنالك في العذاب.
[37] و إنما يمتحن الله الناس بتلك الامتحانات المتقدمة لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ المشرك و العاصي مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن المطيع وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ بجمعهم فَيَرْكُمَهُ يجمعه كالركام جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم.
[38] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الكفر و العصيان لأن الإسلام يجب ما قبله وَ إِنْ يَعُودُوا على كفرهم بأن يستمروا عليه، أو إلى حرب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي دأب الله بالتدمير لمن استمر على الكفر و العصيان.
[39] وَ قاتِلُوهُمْ أيها المسلمون حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يوجد في البلاد شرك وَ يَكُونَ الدِّينُ الطريقة كُلُّهُ لِلَّهِ بأن تضمحل الأديان الباطلة فَإِنِ انْتَهَوْا من الكفر فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على أعمالهم.
[40] وَ إِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ يتولى شؤونكم فلا تخشوهم أيها المسلمون نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ الذي ينصركم على أعدائكم.
تبيين القرآن، ص: 194
[41] وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ من الفوائد سواء أخذتموه من الكفار، أم غير ذلك كأرباح الاكتساب فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ يصرف في ما أمر الله به وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى أقرباء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هم الإمام عليه السّلام و السادة وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في طريقه، و هذه الطوائف من السادة إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي أعطوا الخمس إن تؤمنون بالله وَ ب ما أَنْزَلْنا من الفتح و الآيات عَلى عَبْدِنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَوْمَ الْفُرْقانِ الذي ميّز الله فيه الحق من الباطل و هو يوم بدر يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ تلاقى الكفار و المسلمون وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و منه نصركم.
[42] إِذْ بدل من (يوم الفرقان) أَنْتُمْ أيها المسلمون بِالْعُدْوَةِ هي بمعنى شفير الوادي الدُّنْيا أي القريبة من المدينة وَ هُمْ الكفار بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى جانبه الأبعد من المدينة وَ الرَّكْبُ و هو العير «1» الذي جاء من الشام إلى المدينة و ندب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه لغزوه أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني ساحل البحر وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم و الكفار للقتال لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لعلكم لا تخرجون لما تشاهدون من ضعفكم و قوتهم وَ لكِنْ الله جمعكم بلا ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أي ينفذ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي كائنا لا محالة و هو نصركم لِيَهْلِكَ بدل من (ليقضي) مَنْ هَلَكَ بالكفر عَنْ بَيِّنَةٍ بعد إقامة الحجة عليه بما رأى في بدر من الآيات وَ يَحْيى بالإيمان مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
[43] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكفار في منامه جماعة قليلة فأخبر أصحابه وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً بان رآهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كثيرا فأخبر أصحابه بكثرتهم لَفَشِلْتُمْ خوفا منهم وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أمر القتال هل تقدمون أم لا وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ سلمكم من الفشل و التنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في القلوب.
[44] وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ أي إن الله أراكم الكفار عند الاصطفاف إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا حتى ظن المسلمون أنهم بين سبعين و مائة وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ و رأى الكفار المسلمين قليلا أيضا و ذلك حتى تتجرّأ كل طائفة في قتال الأخرى لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فإن اختيار كل أمر بيد الله تعالى.
[45] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً أي جماعة كافرة فَاثْبُتُوا لقتالهم وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تظفرون.
__________________________________________________
(1) العير: القافلة، و قيل الإبل التي تحمل الميرة، العير: كل ما امتير عليه من الإبل و الحمير و البغال، لسان العرب: ج 4 ص 624.
تبيين القرآن، ص: 195
[46] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ دولتكم، شبهت بالريح لأن لكل واحد منهما نفوذا و حركة واسعة وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
[47] وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بلادهم، و هم كفار قريش بَطَراً فخرا وَ رِئاءَ النَّاسِ أي رياء ليثني الناس عليهم بالشجاعة وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دينه وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ إحاطة علم و قدرة فيجازيهم بما عملوا.
[48] وَ إِذْ اذكر يا رسول الله زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر و محاربة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا أحد يغلبكم أيها الكفار وَ إِنِّي جارٌ ناصر لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ تلاقت الْفِئَتانِ المسلمون و الكفار نَكَصَ رجع الشيطان عَلى عَقِبَيْهِ عقبي رجله كما يفعله المتقهقر، فإن الشيطان تصور بصورة سراقة و أخذ اللواء و غش الكفار بكلامه ثم لما رأى الملائكة ألقى العلم و شرد وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ أيها الكفار إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من الملائكة النازلين لنصرة المسلمين إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أن يعذبني على أيدي الملائكة وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.
[49] إِذْ اذكر يا رسول الله يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك في الإسلام غَرَّ خدع هؤُلاءِ المسلمين دِينُهُمْ فإن دينهم أوجب أن يخرجوا إلى الكفار مع قلة المسلمين وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغلب حَكِيمٌ أي يفعل حسب المصلحة.
[50] وَ لَوْ تَرى أيها الرائي إِذْ يَتَوَفَّى يقبض أرواح الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ في بدر يَضْرِبُونَ أي في حال كون الملائكة يضربون وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ يقولون لهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي المحرق.
[51] ذلِكَ العذاب بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من الكفر و العصيان وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ بذي ظلم لِلْعَبِيدِ.
[52] كَدَأْبِ أي دأب و عادة هؤلاء الكفار مثل دأب آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من سائر الأمم الكافرة كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ كما أخذ كفار مكة إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ.
تبيين القرآن، ص: 196
[53] ذلِكَ التعذيب للكفار بسبب أن اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً مبدلا نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ بالنقمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي ما بهم من حال إلى حال أسوأكما بدل الكفار حالهم السيئ إلى حال أسوأ هو محاربة الإسلام وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
[54] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بعد عملهم بالمعاصي فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ من الأمم المكذّبة كانُوا ظالِمِينَ لأنفسهم حيث عصوا و عادوا الأنبياء عليهم السّلام.
[55] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أي الأسوأ من كل دابّة عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا خبر (إن) و هم شرّ من الدواب لأنهم عطلوا عقولهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
[56] الَّذِينَ بدل من (الذين) عاهَدْتَ مِنْهُمْ معاهدة عدم الاعتداء و هم بني قريظة عاهدوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكررا ثم نقضوا ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ نقض العهد.
[57] فَإِمَّا (إن) الشرطية و (ما) الزائدة تَثْقَفَنَّهُمْ تدركنهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ أي نكّل بسبب معاقبتهم مَنْ خَلْفَهُمْ من الكفرة فإن معاقبة المجرم توجب عبرة سائر الناس حتى لا يجرموا لَعَلَّهُمْ أي لعل من خلفهم يَذَّكَّرُونَ يتّعظون.
[58] فَإِمَّا و إن تَخافَنَّ يا رسول الله مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً بأن ظهرت علاماتها بعد المعاهدة فَانْبِذْ اطرح عهدهم إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ مستوى أنت و هم، فكما نقضوا عهدك أعلمهم أن لا عهد بينك و بينهم حتى لا يتهموك بالخيانة إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ فلا تفعل ما يوهم الخيانة.
[59] وَ لا يَحْسَبَنَّ و لا يظنّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أي أنهم فاتوا الله فلا يتمكن من إدراكهم، كمن يسبق في الركض من يريد أخذه، ف إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ الله بل يقدر على أخذهم مهما تصوروا أنهم خرجوا عن قبضة الله.
[60] وَ أَعِدُّوا لَهُمْ لحرب الكفار مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ قوة العلم و السلاح و غيرها وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ أي ما يربط لأجل الجهاد تُرْهِبُونَ بِهِ تخوفون بالخيل عَدُوَّ اللَّهِ كفار مكة وَ ترهبون عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ سائر الكفار مِنْ دُونِهِمْ أي دون كفار مكة عداوة لكم لا تَعْلَمُونَهُمُ أي لا تعرفون سائر الكفار بأعيانهم اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ أي يرد جزاؤه إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بنقص أجركم.
[61] وَ إِنْ جَنَحُوا مال الكفار لِلسَّلْمِ للصلح فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
تبيين القرآن، ص: 197
[62] وَ إِنْ يُرِيدُوا أي الكفار أَنْ يَخْدَعُوكَ بالسلم، لأجل تجميع قواهم فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هو يكفيك شرّهم هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ قوّاك بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
[63] وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مع أنهم كانوا قبل الإسلام من ألد الأعداء لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بقدرته البالغة إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
[64] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ يكفيك وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بيان (من)، أي لا تهتم بمن لا يساعدك في الحرب.
[65] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ رغب الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ بسبب أن الكفار قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون أنهم يحاربون الله و الله ينتصر عليهم، أو لا يفقهون ثواب الآخرة فليست عزيمتهم شديدة.
[66] الْآنَ و بعد أن كثر المسلمون و لم يكن بضائرهم كالمسلمين الأولين خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ فلم يوجب الجهاد إذ كان المسلمون عشر الكفار وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ضعف إيمان فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ في الحرب، و قد وصلت حالة المسلمين في بعض الحروب إذ حارب ستون منهم ستين ألف من الكفار.
[67] ما كانَ لا يحل لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى بأن ينهي الحرب بسرعة ليأخذ الكفار أسرى لأجل الاسترقاق و أخذ البدل منهم حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبالغ في قتل المشركين و ذلك لتقليلهم حتى لا تستمر المؤامرات و الحروب ضد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1» تُرِيدُونَ أيها المسلمون عَرَضَ الدُّنْيا مال الدنيا الذي هو بمعرض الزوال وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فإن في ذلك قوة المسلمين و توسيع نطاق الآخرة بين الناس وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
[68] لَوْ لا كِتابٌ حكم مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بأن لا يعذب الناس إلا بعد بيان الحكم لَمَسَّكُمْ أي أصابكم أيها المسلمون فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء عَذابٌ عَظِيمٌ لأن ذلك سبب عدم شوكة الإسلام.
[69] فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من الفداء و سائر الغنائم حَلالًا شرعا طَيِّباً تميل إليه النفس وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
__________________________________________________
(1) و هذا أقرب إلى التهديد للمشركين.
تبيين القرآن، ص: 198
[70] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الذين أسرهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً بأن تؤمنوا يُؤْتِكُمْ يعطكم خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[71] وَ إِنْ يُرِيدُوا الأسرى خِيانَتَكَ بأن يخونوك ثانيا فلا يهمنّك إذ قد خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بأن كفروا و جاءوا لحربك في بدر فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي تمكن من القضاء عليهم يوم بدر وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
[72] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا أهل المدينة الذين أعطوا السكنى للمهاجرين وَ نَصَرُوا المسلمين أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يتولى بعضهم بعضا وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ لأنهم لم يهاجروا فلستم أنتم أولياؤهم حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ أي طلب المؤمنون غير المهاجرين نصرتكم لهم على الكفار فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ أي يجب عليكم أن تنصروهم إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي معاهدة عدم القتال فلا تنصروا المسلمين غير المهاجرين إذا وقع بينهم و بين المعاهدين مناوشات وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
[73] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي إن لا يتولى بعضكم بعضا أيها المؤمنون تَكُنْ فِتْنَةٌ محنة لأن المسلمين إذا لم يشد بعضهم بعضا تقع الفتن و الفساد لغلبة المفسدين على الأرض فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ.
[74] وَ الَّذِينَ آمَنُوا من أهل مكة وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا من أهل المدينة وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم حققوا جميع أوامر الله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ مع الكرامة.
[75] وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ أي بعد فتح مكة وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ أيها المسلمون فَأُولئِكَ مِنْكُمْ من جملتكم في كل الأحكام وَ أُولُوا الْأَرْحامِ أي الأقرباء بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ حكم الله، و الأولوية في كل شي ء من الإرث و غيره إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 199
مدنية آياتها مائة و تسع و عشرون
[1- 2] بَراءَةٌ أي انقطاع عصمة و أمن مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فلا عهد بعد الآن بينكم و بينهم «1» فَسِيحُوا أي سيروا أيها المشركون فِي الْأَرْضِ في أمن و سلام أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فقط، و بعده لا عهد و لا أمان وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تتمكنون من تعجيزه حتى لا يقدر على أخذكم وَ اعلموا أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ مذلهم في الدارين.
[3] وَ أَذانٌ إعلام مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فإن الإعلام صار في هذا اليوم على لسان الإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام و هذا مقابل العمرة التي تسمى بالحج الأصغر أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فليسوا بعد هذا تحت الحماية و المعاهدة وَ رَسُولِهِ بري ء منهم فَإِنْ تُبْتُمْ أيها المشركون من الشرك فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الإيمان فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تتمكنون من تعجيزه وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.
[4] إِلَّا استثناء من (براءة) الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ من شروط العهد شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا لم يعاونوا الكفار عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ المقررة إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين لا ينقضون العهد.
[5] فَإِذَا انْسَلَخَ خرج كما ينسلخ المذبوح عن جلده الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم، أو المراد الأشهر الأربعة مدة الأمان فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ بالأسر وَ احْصُرُوهُمْ في أماكنهم بالحبس عن التحرك وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي بكل طريق لأجل المحاربة معهم فَإِنْ تابُوا عن الكفر و العصيان وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ دعوهم و لا تعرّضوا لهم لأنهم أسلموا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[6] وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين أمرت بقتالهم اسْتَجارَكَ طلب منك الأمان فَأَجِرْهُ آمنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ و يتدبره لعله يؤمن ثُمَّ أَبْلِغْهُ أوصله مَأْمَنَهُ موضع أمنه إن لم يسلم ذلِكَ الأمن له حتى يسمع كلام الله بِأَنَّهُمْ بسبب انهم قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ حقيقة الإيمان فلعلهم يقبلون إذا سمعوا كلام الله.
__________________________________________________
(1) و ذلك لنقض المشركين العهود.
تبيين القرآن، ص: 200
[7] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ مع أنهم ينوون الغدر من حين العهد إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فإن بني ضمرة دخلوا عهد قريش يوم الحديبية ثم إن قريش نقضوا عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكن بني ضمرة لم ينقضوا العهد فأمر الله المسلمين بإبقائهم على عهدهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فما دام استقام المعاهدون فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ على الوفاء إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين لا ينقضون العهد.
[8] كَيْفَ يكون لهم عهد وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يغلبوا عليكم لا يَرْقُبُوا لا يراعوا فِيكُمْ إِلًّا حلفا وَ لا ذِمَّةً عهدا يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ يظهرون لكم الموالاة بمجرد اللفظ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ ما يقولونه، لأن قلوبهم منطوية على الغدر وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله متمردون عن الوفاء.
[9] اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فباعوا القرآن و الدّين، و اشتروا بدله الهوى و الشهوة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي منعوا الناس عن دين الله إِنَّهُمْ ساءَ بئس ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
[10] لا يَرْقُبُونَ لا يراعون أي المشركون فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا حلفا وَ لا ذِمَّةً عهدا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ المجاوزون للحد.
[11] فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ عاملوهم معاملة الأخ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ نشرحها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأن العالم هو الذي يستفيد من الآيات.
[12] وَ إِنْ نَكَثُوا نقضوا أَيْمانَهُمْ جمع يمين أي القسم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا قدحوا و عابوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ لأنهم نقضوا العهد، و إنما قال (أئمة) لأنهم الناقضون و سائر الكفار تبع لهم إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ إذ نقضوا اليمين فلا حرمة ليمينكم و عهدكم معهم لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عن النقض و الطعن.
[13] أَ لا تُقاتِلُونَ تحريض على القتال قَوْماً نَكَثُوا نقضوا أَيْمانَهُمْ و هم أهل مكة وَ هَمُّوا عزموا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ حيث تشاوروا في دار الندوة وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ بالمحاربة أَوَّلَ مَرَّةٍ فأنتم مدافعون أَ تَخْشَوْنَهُمْ في قتالهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ في إطاعة أمره بقتالهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
تبيين القرآن، ص: 201
[14] قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ تقتلونهم و تأسرونهم وَ يُخْزِهِمْ يذلهم وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ كأن الصدر قد مرض بما اعتلج فيه من الهم صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ.
[15] وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ غيظهم و غضبهم على الكفار وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من الكفار لأن القتال يسبب إسلام بعض الكفار فيتوب الله عليه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
[16] أَمْ بل حَسِبْتُمْ ظننتم أَنْ تُتْرَكُوا فلا تؤمروا بالقتال، و هذا خطاب للمسلمين حين كره بعضهم القتال وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أي بعد لم يظهر علم الله في المجاهد و غير المجاهد وَ الذين لَمْ يَتَّخِذُوا عطف على (جاهدوا) مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً بطانة و أصدقاء من الكفار، أي انه يأمركم بالقتال ليظهر المجاهد المخلص من الفار الذي يصادق الكفار وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.
[17] ما كانَ لا يجوز لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ في حال كونهم يشهدون عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ لان الله بري ء من الكافر فكيف يجوّز تعمير بيته أُولئِكَ المشركون حَبِطَتْ بطلت أَعْمالُهُمْ الحسنة، لأن الكفر يبطل الأعمال وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ دائمون.
[18] إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ أي المؤمن الجامع هذه الخصال يحق له عمارة المسجد وَ لَمْ يَخْشَ في أمر الدين إِلَّا اللَّهَ لا المشرك الذي يخاف الأصنام فَعَسى أُولئِكَ المتصفون بالصفات الحسنة أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ إلى طريق الله، و إنما جاء ب (عسى) لاحتمال ارتدادهم.
[19] أَ جَعَلْتُمْ استفهام إنكار فقد افتخر العباس بأنه يسقي الحاج و افتخر شيبة بأنه يعمّر المسجد و افتخر أمير المؤمنين علي عليه السّلام بأنه آمن بالله مخلصا فنزلت الآية مفضلة للإمام عليه السّلام سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ الساقي و المعمّر و المؤمن المجاهد عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالتسوية بين الثلاثة بعد علمهم بالتفاوت.
[20] الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً على من ليس كذلك عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ الظافرون بالثواب.
تبيين القرآن، ص: 202
[21] يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ أي انه تعالى راض عنهم وَ جَنَّاتٍ بساتين لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ نعمة دائمة.
[22] خالِدِينَ فِيها في تلك الجنان أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فلا يقاس ثوابه بغيره.
[23] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ تتولونهم في خلاف الإسلام إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ اختاروه و أحبوه عَلَى الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ بعد أن اختاروا الكفر فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم حيث عرضوها على العقاب.
[24] قُلْ يا رسول الله للمؤمنين إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها عدم رواجها بسبب اشتغالكم بطاعة الله وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها اخترتموها مسكنا لكم أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ بأن قدمتم تلك على أوامر الله فَتَرَبَّصُوا انتظروا، تهديد لهم حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ بحكمه فيكم و عذابه عليكم وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعة الله بعد تمام البينة.
[25] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ مواضع كَثِيرَةٍ هي ثمانون كما ورد وَ في يَوْمَ حُنَيْنٍ موضع قرب مكة إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ كثرة المسلمين حتى قال بعضهم لن يغلب اليوم من قلة فَلَمْ تُغْنِ كثرتكم عَنْكُمْ شَيْئاً إذ لم تفد الكثرة بل انهزموا وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي مع سعتها حيث لم يعلموا أين يفرّون ثُمَّ وَلَّيْتُمْ العدو ظهوركم مُدْبِرِينَ منهزمين.
[26] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ السكون و الطمأنينة عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين بقوا مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كعليّ عليه السّلام و أولاد عباس وَ أَنْزَلَ جُنُوداً من الملائكة لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل و الأسر وَ ذلِكَ العذاب جَزاءُ الْكافِرِينَ.
تبيين القرآن، ص: 203
[27] ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ من الفارين و من الكفار الذين أسلموا وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ نجاسة ظاهرية و باطنيّة فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ مبالغة في عدم دخوله مثل (لا تقربوا مال اليتيم) «1» بَعْدَ عامِهِمْ هذا و هو عام تسع من الهجرة حيث أدى علي عليه السّلام سورة البراءة وَ إِنْ خِفْتُمْ أيها المسلمون عَيْلَةً أي فقرا حيث خاف المسلمون انقطاع التجارة بسبب عدم مراودة المشركين فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بالمصالح حَكِيمٌ في التدبير.
[29] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ يلتزمون ب دِينَ الْحَقِّ و هو الإسلام مِنَ بيان (الذين) الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ما يعطى إلى السلطة الإسلامية «2» عَنْ يَدٍ أي نقدا مسلّمة عن يد وَ هُمْ صاغِرُونَ أذلّاء.
[30] وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ بدون حجة يُضاهِؤُنَ يشابه قولهم قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي المشركين الذين قالوا الملائكة بنات الله قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعا عليهم بأن يهلكهم الله حتى يستريح الناس من عقائدهم الضالّة أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق.
[31] اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ علماءهم وَ رُهْبانَهُمْ زهادهم أَرْباباً بأن أطاعوهم في تحليل الحرام و تحريم الحلال مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ اتخذوا الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ربّا وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها عن الشريك عَمَّا يُشْرِكُونَ عن أن يكون له شريك.
__________________________________________________
(1) سورة الأنعام: 152.
(2) الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة و تسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم.
تبيين القرآن، ص: 204
[32] يُرِيدُونَ أي الكفار أَنْ يُطْفِؤُا يخمدوا نُورَ اللَّهِ حجته و رسالته بِأَفْواهِهِمْ بما يقولون بلسانهم من التكذيب وَ يَأْبَى اللَّهُ لا يرضى إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء كلمته وَ لَوْ كَرِهَ و لم يرد الْكافِرُونَ.
[33] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْهُدى بالحجج و البراهين وَ دِينِ الْحَقِّ الإسلام لِيُظْهِرَهُ أي يغلبه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كل الأديان وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
[34] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ كالرشوة و ما يجعلونه لأنفسهم من الحقوق وَ يَصُدُّونَ يمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ يجعلونه كنزا و لا يعطون خمسه و زكاته الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ موجع.
[35] و ذلك في يوم القيامة أو في القبر يُحْمى توقد النار عَلَيْها أي على تلك الذهب و الفضة فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى من الكي بمعنى جعل الشي ء الحار على الجسد بِها جِباهُهُمْ جمع جبهة وَ جُنُوبُهُمْ جمع جنب من تحت الإبط وَ ظُهُورُهُمْ لأنهم كانوا يقطبون جبهتهم و يلوّون جنبهم و يديرون ظهرهم إذ طلب منهم الحق في أموالهم، و يقال لهم هذا المال الذي تكوون به هو ما كَنَزْتُمْ جمعتم لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا وبال ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.
[36] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عددها عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ثابتة لا تتغيّر، كما كان المشركون يغيرون بعض الشهور محل اعتباطا فِي كِتابِ اللَّهِ أي ما كتبه سبحانه، كتبه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب لا يجوز فيها القتال ذلِكَ تحريم هذه الأربعة الدِّينُ الْقَيِّمُ القويم المستحكم فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأربعة أَنْفُسَكُمْ بالقتال وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً جميع أصنافهم كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً من دون رعاية و تمييز وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ إن اتقيتم المعاصي نصركم الله عليهم.
تبيين القرآن، ص: 205
[37] إِنَّمَا النَّسِي ءُ مصدر نسأه بمعنى أخّره، فقد كان أهل الجاهلية إذا كانوا في حرب فهلّ محرم أحلّوه و حرّموا مكانه صفرا زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ فإنهم كانوا كفارا، و تحليل ما حرّم الله زيادة في كفرهم يُضَلُّ بِهِ أي بالنسي ء الَّذِينَ كَفَرُوا فإنه ضلال بالإضافة إلى كفرهم يُحِلُّونَهُ أي الشهر المنسي عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ يبقونه على حرمته عاماً لِيُواطِؤُا ليوافقوا بتحليل شهر و تحريم آخر بدله عِدَّةَ أشهر ما حَرَّمَ اللَّهُ أي الأربعة الحرم فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ زين لهم الشيطان عملهم السيئ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ المعاندين في الكفر.
[38] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا اذهبوا إلى الجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم إِلَى الْأَرْضِ كأنكم شي ء ثقيل لا يقدر على الحركة أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ بدل الآخرة فَما مَتاعُ ما يلتذ به الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ في جنب متاع الآخرة إِلَّا قَلِيلٌ.
[39] إِلَّا تَنْفِرُوا إلى غزوة تبوك يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ مكانكم وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على استبدالكم.
[40] إِلَّا تَنْصُرُوهُ تنصروا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ فينصره حالا أيضا كما نصره سابقا في وقت الهجرة إِذْ أَخْرَجَهُ أخرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مكة الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ في حال كونه معه غيره إِذْ هُما فِي الْغارِ ثقب في جبل ثور إِذْ يَقُولُ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِصاحِبِهِ أبي بكر حيث استصحبه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أثناء الطريق خوفا على نفسه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا عالم بنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ طمأنينته عَلَيْهِ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده وَ أَيَّدَهُ قوّاه بِجُنُودٍ من الملائكة لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كلمة الكفار السُّفْلى حيث علت كلمة الإسلام وَ كَلِمَةُ اللَّهِ و هي الإسلام هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 206
[41] انْفِرُوا اخرجوا أيها المسلمون إلى الجهاد خِفافاً فيما لكم خفة وَ ثِقالًا فيما كان لكم ثقل وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من عدم النفر إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لعلمتم أن النفر خير لكم.
[42] لَوْ كانَ ما دعوا إليه عَرَضاً غنيمة قَرِيباً سهل المأخذ وَ سَفَراً قاصِداً وسطا لا سفرا بعيدا لَاتَّبَعُوكَ طمعا في المال وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ المسافة التي يشق قطعها، و لذا خالفوا فإن تبوك كان بعيدا وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ معتذرين من عدم النفر لَوِ اسْتَطَعْنا الخروج لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بعدم الخروج و الحلف الكاذب وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم.
[43] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أذن لجماعة في التخلف عن تبوك فأراد الله تنبيه أولئك أن هذا كان تخلّيا عن الخير، فصبّه بهذا اللسان لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ في التخلف حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في اعتذارهم وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ منهم في العذر.
[44] لا يَسْتَأْذِنُكَ أي ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا للفرار من الجهاد الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ الذين يخافون الله فيطيعون أوامره.
[45] إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا راسخا وَ ارْتابَتْ شكت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ يتحيرون.
[46] وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الجهاد لَأَعَدُّوا لَهُ للخروج عُدَّةً أي هيّئوا أسباب الحرب وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي خروجهم، و إنما كره لعلمه بأنهم يوجبون الفساد في الجيش فَثَبَّطَهُمْ أي تركهم بحالهم حتى يكسلوا وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ عن الجهاد كالمرضى و النساء و الصبيان.
[47] لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أي فسادا لأن المنافق يجبّن الناس و يفسد في الجيش وَ لَأَوْضَعُوا أي أسرعوا في الدخول بينكم بالفساد لقصد التجبين و إلقاء الرعب و الفتنة خِلالَكُمْ في أوساطكم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يطلبون لكم الافتتان و الانحراف وَ فِيكُمْ أيها المجاهدون سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي عيون للمنافقين يأخذون أخباركم بقصد إيصالها إليهم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 207
[48] لَقَدِ ابْتَغَوُا هؤلاء المنافقون الْفِتْنَةَ تشتيت أمرك مِنْ قَبْلُ غزوة تبوك أي في أحد وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ بأن أردت شيئا و كادوا لقلبه حَتَّى جاءَ الْحَقُّ ظهر بغلبة المسلمين على الكافرين وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ دينه وَ هُمْ كارِهُونَ.
[49] وَ مِنْهُمْ من المنافقين مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في عدم الجهاد في تبوك وَ لا تَفْتِنِّي توقعني في الفتنة، قال جد بن قيس: ائذن في التخلف فإني مولع بالنساء فأخاف أن افتتن ببنات الأصفر أَلا للتنبيه فِي الْفِتْنَةِ و هي عصيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سَقَطُوا فقد وقعوا فيما زعموا أنهم فروا منه وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ فهم إن خرجوا للجهاد وقعوا في فتنة بنات الأصفر و إن تخلفوا وقعوا في فتنة العصيان.
[50] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ نعمة و فتح تَسُؤْهُمْ تحزن المنافقين وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ نكبة و انهزام يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا حذرنا بتخلّفنا مِنْ قَبْلُ المصيبة وَ يَتَوَلَّوْا عنك وَ هُمْ فَرِحُونَ لعدم الجهاد.
[51] قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا فإذا أصابتنا مصيبة لا تضرنا تلك المصيبة لأنه سبحانه قررها لنا لأن يثيبنا هُوَ مَوْلانا يتولى شؤونا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
[52] قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ هل تنتظرون أيها المنافقون بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إما النصر أو الشهادة و كلاهما حسنة وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ من السماء فيهلككم أَوْ بِأَيْدِينا بأن يأمرنا بفضحكم فَتَرَبَّصُوا عاقبتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ عاقبتكم.
[53] قُلْ أَنْفِقُوا لأجل الجهاد طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أي ما أنفقتم عن رغبة أو بدون رغبة لا يقبله الله منكم إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ و القبول إنما هو من نصيب المتقين.
[54] وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى متثاقلون وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ فكفرهم الباطني و عدم إتيانهم بالعبادات على وجهها سببا عدم قبول إنفاقهم.
تبيين القرآن، ص: 208
[55] فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ فإن ذلك وبال عليهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها بالأموال و الأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لما في حفظ الأموال و تربية الأولاد من المشقة و العناء وَ تَزْهَقَ أي تهلك أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ فلا ينالوا ثواب المال و الولد في الدنيا، و لا في الآخرة.
[56] وَ يَحْلِفُونَ المنافقون بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ من جملة المسلمين وَ ما هُمْ مِنْكُمْ لكفر قلوبهم وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون و لذا يريدون رضاية الكفار و المؤمنين معا بالنفاق.
[57] لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً حرزا يلجئون إليه أَوْ مَغاراتٍ كهوف في الجبل أَوْ مُدَّخَلًا سراديب يدخلون فيها لَوَلَّوْا عنكم إِلَيْهِ إلى ذلك الملجأ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ يسرعون في الفرار و الاختفاء.
[58] وَ مِنْهُمْ من المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ يعيبك فِي الصَّدَقاتِ في قسمتها فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ أي يغضبون.
[59] وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ أعطاهم اللَّهُ وَ رَسُولُهُ من الغنيمة وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ يكفينا سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ صدقة و غنيمة أخرى نستغني بها إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في أن يغنينا، لكان خيرا لهم.
[60] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ زكاة الأموال لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ و هم أسوأ حالا من الفقراء، كما نشاهد في المجتمع إنهما صنفان وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها أي الساعين في تحصيلها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ يعطون من الزكاة ليألف قلبهم إلى المسلمين، و هم الكفار و المسلمون الضعاف الإيمان وَ فِي فك الرِّقابِ العبيد تحت الشدّة، يشترون من الزكاة و يعتقون وَ الْغارِمِينَ الغارم: المديون الذي لا يقدر على أداء دينه، يؤدي من الزكاة دينه وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كل عمل خيري كالجهاد و سائر مصالح المسلمين وَ ابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في سفره و لو كان غنيّا في بلده فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي أوجب الله الزكاة وجوبا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمصالح حَكِيمٌ في تدبيره.
[61] وَ مِنْهُمُ من المنافقين الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ بالقول و بالمؤامرة وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ يسمع كل قول فإن أحد المنافقين اغتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فطلبه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال له: أخبرني جبرائيل بقولك، قال المنافق لم أغتبك فسكت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فذهب المنافق ليقول إن محمدا أذن يسمع من جبرئيل كلامه و يسمع مني كلامي فنزلت الآية قُلْ يا رسول الله، هو أُذُنُ خَيْرٍ مستمع خير لَكُمْ فانه لو كان مستمع شر لكان عاقبك أيها المنافق يُؤْمِنُ بِاللَّهِ بما يقوله الله تعالى وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يصدقهم فيما لهم نفع فيه وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يرحمهم و يعطف بهم وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
تبيين القرآن، ص: 209
[62] يَحْلِفُونَ المنافقون بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ أيها المؤمنون وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي يرضوا كل واحد منهما بالطاعة إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ.
[63] أَ لَمْ يَعْلَمُوا هؤلاء المنافقون أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ أي يخالفه وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها دائما أبدا في النار ذلِكَ الْخِزْيُ الهوان الْعَظِيمُ.
[64] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ على المؤمنين سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قلوب المنافقين من الكفر و النفاق فتفضحهم فقد كانوا يستهزءون بالدين فيما بينهم قُلِ اسْتَهْزِؤُا تهديد لهم إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مظهر ما تَحْذَرُونَ ظهوره من نفاقكم.
[65] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عن استهزائهم في الدين لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ ندخل في الحديث وَ نَلْعَبُ نمزح و لا نقصد الجدّ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ حججه، و الاستفهام للإنكار وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ.
[66] لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إظهاركم الإيمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ لأنهم تابوا و أخلصوا نُعَذِّبْ طائِفَةً أخرى بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مصرين على الإجرام.
[67] الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يتشابهون في النفاق يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الإنفاق نَسُوا اللَّهَ أغفلوا ذكره فَنَسِيَهُمْ عن لطفه و رحمته إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله.
[68] وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ كفاهم عقابا وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن رحمته وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ لا ينقطع.
تبيين القرآن، ص: 210
[69] و المنافقون كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من منافقي الأمم كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا أي طلبوا اللّذة بِخَلاقِهِمْ أي بنصيبهم بخلاف المؤمنون فإنهم يطلبون الله و الآخرة بخلاقهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ أيها المنافقون بِخَلاقِكُمْ مثل أولئك كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ دخلتم في الباطل كَالَّذِي خاضُوا أي كما خاض المنافقون السابقون في الباطل أُولئِكَ المنافقون حَبِطَتْ بطلت أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فلم يستحقوا ثوابا وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ خسروا دنياهم و آخرتهم.
[70] أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ خبر عقاب الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ أهلكوا بالغرق وَ عادٍ أهلكوا بالريح وَ ثَمُودَ أهلكوا بالرجفة وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ بسلب النعم وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ قوم شعيب عليه السّلام أهلكوا بعذاب يوم الظلة وَ الْمُؤْتَفِكاتِ أي القرى التي ائتفكت أي انقلبت و هي قرى قوم لوط عليه السّلام أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإهلاكهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بأن عرضوها للهلاك.
[71] وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ في الآخرة كما رحمهم في الدنيا إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على كل شي ء حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها.
[72] وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً يطيب فيها العيش فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي جنات إقامة يقيم فيها الإنسان وَ رِضْوانٌ رضا مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ لأنه مبدأ كل سعادة ذلِكَ الذي يجزى به المؤمنون هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
تبيين القرآن، ص: 211
[73] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ في دفعهم عن الكفر و النفاق و جهاد كل طائفة بحسبه وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ أسمعهم الكلام الغليظ وَ مَأْواهُمْ محلّهم جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المرجع.
[74] يَحْلِفُونَ المنافقون بِاللَّهِ ما قالُوا شيئا سيّئا بالنسبة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنه لما عاب المنافقين قال جلّاس لو كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير؟
فنزلت الآية وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فإنه تكذيب للرسول وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أي بعد إظهارهم الإسلام وَ هَمُّوا أي قصد المنافقون قتل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في العقبة بعد انصرافه من تبوك بِما لَمْ يَنالُوا لأن مؤامرتهم فشلت وَ ما نَقَمُوا أي ما أنكروا من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ بالغنائم بعد أن كانوا فقراء، أي لم يصبهم من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا الخير، لا ما يوجب النقمة فَإِنْ يَتُوبُوا عن نفاقهم يَكُ رجوعهم و توبتهم خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يعرضوا عن التوبة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً مؤلما فِي الدُّنْيا بالقتل و الإهانة وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ يلي أمورهم وَ لا نَصِيرٍ ينصرهم من عذاب الله.
[75] وَ مِنْهُمْ من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ كان ثعلبة فقيرا فعاهد الله إن أعطاه المال أنفق لكنه أثرى و بخل فلم ينفق حق الله لَنَصَّدَّقَنَّ أي نعطي الصدقة وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ.
[76] فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ أي بحق الله وَ تَوَلَّوْا أعرضوا عن العمل بأوامر الله وَ هُمْ مُعْرِضُونَ.
[77] فَأَعْقَبَهُمْ أورثهم بخلهم نِفاقاً إذ العصيان ينتهي إلى النفاق و الكفر فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يوم البعث بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ أي بسبب خلفهم وعدهم مع الله بالإنفاق وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ بسبب كذبهم.
[78] أَ لَمْ يَعْلَمُوا المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ما يضمرون في أنفسهم وَ نَجْواهُمْ ما يقوله بعضهم لبعض سرّا وَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ كل ما غاب عن الحواس.
[79] المنافقون هم الَّذِينَ يَلْمِزُونَ يعيبون الْمُطَّوِّعِينَ المتطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ حيث إن مسلما جاء بمائة وسق «1» من تمر صدقة فقال بعض المنافقين إنه أعطاه رياء وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أي يلمزون من يعطي جهده من الصدقة فإن مسلما أتى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بصاع من تمر فقال المنافقون الله غني عن صاعه فَيَسْخَرُونَ هؤلاء المنافقون مِنْهُمْ من المتصدقين سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ جازاهم على سخريتهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
__________________________________________________
(1) الوسق بالفتح: ستون صاعا. لسان العرب ج 10 ص 378. [.....]
تبيين القرآن، ص: 212
[80] اسْتَغْفِرْ يا رسول الله لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ بأن تطلب أن يغفر الله لهؤلاء المنافقين سَبْعِينَ مَرَّةً المراد بالسبعين المبالغة في الكثرة فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ عدم فائدة الاستغفار لهم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ المصرين على الخروج عن طاعة الله، نعم إذا تابوا أفادهم الاستغفار.
[81] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ عن تبوك و هم المنافقون الذين خلّفوا، كأن الشيطان سبّب تخلفهم بِمَقْعَدِهِمْ أي بقعودهم عن الجهاد خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي بقعودهم خلفه و عدم سيرهم معه وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا أي قال بعض المنافقين لبعض لا تَنْفِرُوا لا تخرجوا إلى الجهاد فِي الْحَرِّ فإن الهواء كانت حارة في غزوة تبوك قُلْ يا رسول الله نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا فمن لم يجاهد يبتلى بجهنم لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أي يفهمون لعلموا أنهم آثروا النار على الحرّ.
[82] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا يكون ضحكهم في الدنيا قليلا لقصر أمد الدنيا وَ لْيَبْكُوا في النار كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر و النفاق.
[83] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ من المنافقين الذين تخلفوا عنك فَاسْتَأْذَنُوكَ طلبوا إذنك لِلْخُرُوجِ إلى غزوة أخرى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً إلى غزوة وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ و إنما نهاهم عن الخروج، لأنكم رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ في تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ الذين يتخلفون من النساء و الصبيان و العجزة.
[84] وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ من المنافقين ماتَ صفة (أحد) أَبَداً أي لا تصلّ أبدا وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ حتى يدفن فإن القيام على القبر احترام للميت إِنَّهُمْ لأنهم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله.
[85] وَ لا تُعْجِبْكَ يا رسول الله أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا لما يسبب المال و الأولاد من الأتعاب، فليس ذلك خيرا من الله لهم وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي يريد الله ليموتوا وَ هُمْ كافِرُونَ.
[86] وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ طلب الإذن منك في القعود أُولُوا الطَّوْلِ أي أصحاب القدرة مِنْهُمْ من المنافقين وَ قالُوا ذَرْنا دعنا يا رسول الله نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ من الصبيان و النساء و العجزة.
تبيين القرآن، ص: 213
[87] رَضُوا هؤلاء المنافقون بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ جمع خالفة أي المرأة المتخلفة وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ فإن نفاقهم سبّب أن لا يفهموا العز و الكرامة.
[88] لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ منافع الدنيا و الآخرة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[89] أَعَدَّ اللَّهُ هيأ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
[90] وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ المعتذرون، من عذّر بمعنى قصر مِنَ الْأَعْرابِ و هم نفر من بني غفار كان لهم عذر فجاءوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند إرادته غزوة تبوك لِيُؤْذَنَ لَهُمْ في التخلف وَ قَعَدَ المنافقون الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و كذبهم إنما هو بادعائهم الإيمان سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ممن أبدى العذر و هو المنافق عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[91] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ كالشيوخ وَ لا عَلَى الْمَرْضى جمع مريض وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ ليس عندهم نفقة الخروج و آلة السفر حَرَجٌ في التخلف إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ في حال قعودهم بأن لم يشوبهم غش و نفاق ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ طريق في لومهم و عقوبتهم وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[92] وَ لا سبيل عَلَى الَّذِينَ إِذا ما زائدة أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ على مركب للجهاد قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ليس عندي فرس أو حمار تَوَلَّوْا رجعوا آيسين وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ تسيل مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً من الحزن أَلَّا أي حزنوا لأنهم لا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ لأجل السفر.
[93] إِنَّمَا السَّبِيلُ الطريق إلى اللوم و العقاب عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ للتخلف وَ هُمْ أَغْنِياءُ واجدون للأهبة و السلاح رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ و إنما طبع لأنهم صاروا في طريق الانحراف فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما فاتهم من الخير بسبب التخلف.
تبيين القرآن، ص: 214
[94] يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ في التخلف إِذا رَجَعْتُمْ من غزوة تبوك إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لا نصدقكم بما تقولون قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ أخبرنا بالوحي على نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ أَخْبارِكُمْ أخبار نفاقكم وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ في المستقبل هل تبقون على النفاق أو ترجعون إلى الإيمان وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ ترجعون بعد الموت إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ما غاب عن الحواس و ما شهدته الحواس فَيُنَبِّئُكُمْ يخبركم لأجل أن يجازيكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[95] سَيَحْلِفُونَ المنافقون بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ رجعتم من تبوك إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ بأن تصفحوا، بزعمهم إن حلفهم على العذر كاف فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إعراض كراهة، لا إعراض صفح كما كانوا يريدون إِنَّهُمْ رِجْسٌ قذر بما انطووا عليه من النفاق وَ مَأْواهُمْ محلهم جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ جزاء أعمالهم.
[96] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي إن رضاكم لا ينفعهم إذا غضب الله عليهم.
[97] الْأَعْرابُ أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً من أهل المدن، لأنهم أغلظ من أهل المدينة وَ أَجْدَرُ أولى أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ حدود الله أحكامه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها، و قد نزلت هذه الآية في جماعة من القبائل البدوية التي كانت غليظة الطبائع.
[98] وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ يعدّ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً غرما و خسارة، إذ لا يرجو ثوابا وَ يَتَرَبَّصُ ينتظر بِكُمُ أيها المسلمون الدَّوائِرَ دوران الفلك، بأن ينقلب الزمان عليكم عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ هذا دعاء عليهم، بأن يدور الفلك بالسوء عليهم وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بنياتهم و أعمالهم.
[99] وَ مِنَ الْأَعْرابِ نزلت في جماعة آخرين من البدو مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ سببا للتقرب إلى الله تعالى وَ سببا ل صَلَواتِ الرَّسُولِ أي دعائه لهم لأجل ما تصدقوا أَلا إِنَّها نفقتهم قُرْبَةٌ لَهُمْ تقربهم إلى الله سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 215
[100] وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ كعلي عليه السّلام و خديجة و أبي طالب و جعفر مِنَ الْمُهاجِرِينَ الذين هاجروا إلى الحبشة و المدينة وَ من الْأَنْصارِ الذين نصروا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أهل المدينة وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ اتباعا حسنا ممن التحقوا بالمسلمين بعد ذلك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خبر (السابقون) وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ هيأ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً دائما ذلِكَ الثواب الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
[101] وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ أي حول المدينة مِنَ الْأَعْرابِ القبائل البدوية مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ منافقون أيضا مَرَدُوا مرنوا و اعتادوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ بأشخاصهم، إلا بوحي من الله نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة في الدنيا بالإهانة و معاملة المسلمين معهم معاملة المنافق، و مرة في القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ يرجعون إِلى عَذابٍ في الآخرة عَظِيمٍ.
[102] وَ آخَرُونَ من الذين تخلفوا عن تبوك اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ و لم يعتذروا الأعذار الواهية خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً هو إسلامهم و سائر صالحاتهم وَ عملا آخَرَ سَيِّئاً هو تخلفهم عن تبوك عَسَى اللَّهُ لعل الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الذين خلطوا الصالح بالطالح إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[103] خُذْ يا رسول الله مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ عن الذنوب بواسطة الصدقة وَ تُزَكِّيهِمْ تنميهم بِها بالصدقة، فإن الصدقة تنمي الأموال و الأعمار و الأولاد وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ ادع لهم عند أخذ الصدقة إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تسكن نفوسهم و تطمئن اضطراب قلوبهم بواسطة الدعاء وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
[104] أَ لَمْ يَعْلَمُوا حث على التوبة و الصدقة أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ يقبل توبة التائبين الرَّحِيمُ.
[105] وَ قُلِ اعْمَلُوا ما شئتم من الأعمال فَسَيَرَى اللَّهُ السين للتأكيد عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ ترجعون في الآخرة إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ يخبركم لأجل الجزاء بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[106] وَ آخَرُونَ من المتخلفين عن غزوة تبوك مُرْجَوْنَ موقوف أمرهم لِأَمْرِ اللَّهِ إرادته إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ يفعل حسب الصلاح، فقد تخلف جمع عن تبوك كسلا لا نفاقا فأنزلت هذه الآية فيهم.
تبيين القرآن، ص: 216
[107] وَ الَّذِينَ عطف على (آخرون) و خبره محذوف، أي أنهم من جملة من تخلّف اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً أي لأجل الإضرار بالمسلمين، فإن جمعا من المنافقين بنوا مسجدا، لأجل أن يتجمعوا هناك و لا يحضروا صلاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يتآمروا على الإسلام و طلبوا منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يصلي بهم مرة في مسجدهم، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ ذاك متهيئ لتبوك فلما رجع نزلت الآيات فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإحراق ذلك البناء و إلقاء القاذورات فيه وَ كُفْراً أي لأجل تقوية الكفر وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أي لأجل تفرقة بين المؤمنين وَ إِرْصاداً أي ترقبا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قبل بناء المسجد، و المراد ب (من حارب) أبو عامر الراهب الذي كان جاسوسا من قبل الروم، فأراد المنافقون أن يجعلوه واسطة بينهم و بين الروم في نقل أخبار المسلمين إليهم وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا ما أردنا ببناء المسجد إِلَّا الخصلة الْحُسْنى من الصلاة و التوسعة على الضعفاء وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم.
[108] لا تَقُمْ يا رسول الله فِيهِ في مسجدهم للصلاة فيه أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى و هو مسجد قبا الذي بني أصله لأجل تعميم تقوى الله في الناس مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يوم مجي ء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المدينة أَحَقُّ أولى أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ في مسجد قبا رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الأقذار و الآثام، لا مثل مسجد ضرار الذي فيه المنافقون وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
[109] أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ بناءه الذي يبنيه عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ بأن طلب ببنائه رضى الله و اجتناب معاصيه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا حافة جُرُفٍ جانب هارٍ متداع للسقوط فَانْهارَ أي سقط البناء بِهِ ببانيه فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي يتركهم و شأنهم لما عاندوا الحق.
[110] لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا أي مسجد ضرار رِيبَةً شكا فِي قُلُوبِهِمْ فإن العمل النفاقي يوجب رسوخ النفاق في القلب إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ بأن يموتوا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
[111] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يعطيهم الجنة في مقابل بذل أنفسهم و أموالهم في سبيل الله، و ذلك لأجل كونهم يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ الكفار وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً أي وعدهم الجنة عَلَيْهِ حَقًّا ثابتا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أكثر وفاء بما عاهد من الله فَاسْتَبْشِرُوا أيها البائعون بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ بمقابله وَ ذلِكَ الشراء هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، و قد ورد أنها نزلت في أمير المؤمنين علي عليه السّلام.
تبيين القرآن، ص: 217
[112] التَّائِبُونَ عن الكفر و العصيان و هذه صفة (المؤمنين) الْعابِدُونَ الذين عبدوا الله الْحامِدُونَ له تعالى السَّائِحُونَ الصائمون لما روي من أن (الصوم سياحة أمتي) الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ المتصفين بهذه الصفات.
[113] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أولئك المشركين أُولِي قُرْبى أقرباءهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ ظهر للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين أَنَّهُمْ أن المشركين أَصْحابُ الْجَحِيمِ فإن هذا الاستغفار طلب المحال إذ الله لا يغفر للمشرك.
[114] وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ عمه آزر حيث قال له لأستغفرن لك إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ أي وعد وَعَدَها وعد تلك الموعدة إِيَّاهُ لعمه فإن إبراهيم عليه السّلام كان وعد عمه أن يستغفر له قبل أن يعلم أنه يبقى على الكفر إلى الأبد فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ظهر لإبراهيم عليه السّلام أَنَّهُ عمه عَدُوٌّ لِلَّهِ كافر به تَبَرَّأَ مِنْهُ و لم يستغفر له إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ كثير الدعاء حَلِيمٌ و من حلمه وعد آزر أن يستغفر له قبل أن يتبين له إصراره على الكفر.
[115] وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ أما بعد أن أرشدهم إلى الطريق لا يتركهم و شأنهم حتى يضلوا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ فإذا بين لهم و لم يعملوا تركهم و شأنهم إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ.
[116] إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يلي شؤونكم وَ لا نَصِيرٍ ينصركم.
[117] لَقَدْ تابَ اللَّهُ أي عطف نحوهم فان التوبة بمعنى العطف عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ اتبعوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ في تبوك لأنها كانت من أعسر الحروب مِنْ بَعْدِ ما كادَ قرب يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يميل عن الحق لأجل عسرة الموقف ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بسبب ثباتهم و عدم اتباعهم لزيغ القلب إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 218
[118] وَ تاب الله عَلَى الثَّلاثَةِ كعب و هلال و مرارة الَّذِينَ خُلِّفُوا بقوا في المدينة و لم يتبعوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في غزوة تبوك، كأنّ الشيطان صار سبب تخلفهم، فان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما رجع عن تبوك أمر الناس بعدم معاشرة الثلاثة و التكلم معهم و بعد أربعين يوم نزلت التوبة عليهم حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ للوحشة التي طرأتها بسبب انقطاع الناس عنهم وَ ظَنُّوا أيقنوا أَنْ مخففة من الثقيلة لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ لا مفر من عقابه إِلَّا إِلَيْهِ بأن يستغفروا حتى يقبل توبتهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بأن عطف الله عليهم لِيَتُوبُوا و يرجعوا عن عصيانهم فإنه لو لا عطف الله و توفيقه لم تحصل التوبة من العبد إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
[119] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ اعملوا كما يعمل الصادقون.
[120] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أي القبائل المحيطة بالمدينة أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ نهي بصيغة النفي، أي ليس لأهل المدينة و أطرافها أن لا يخرجوا مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا خرج للغزو وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ بأن يطلبوا لأنفسهم الدعة فيما يكابد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المشاق ذلِكَ النهي عن التخلف بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ عطش وَ لا نَصَبٌ تعب وَ لا مَخْمَصَةٌ جوع فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً لا يضعون أقدامهم موضعا يَغِيظُ ذلك الموطئ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا قتلا أو جرحا أو نهبا أو أسرا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ بسبب ذلك العمل أو الأذى عَمَلٌ صالِحٌ أي أثبت في ديوان حسناتهم إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا بالجهاد فإنه يثيبهم على كل عمل.
[121] وَ لا يُنْفِقُونَ في سبيل الله نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً صحراء بسيرهم إلى الحرب إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ في ديوان الحسنات لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بسبب تلك الأمور أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أحسن جزاء أعمالهم.
[122] وَ ما كانَ نهي في صيغة نفي الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا يخرجوا من بلادهم إلى المدينة كَافَّةً جميعا فَلَوْ لا تحريض، أي فلما ذا ما نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ جماعة مِنْهُمْ طائِفَةٌ أفراد لِيَتَفَقَّهُوا أي يتفهموا تلك الطائفة فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا يخوّفوا قَوْمَهُمْ بعذاب الله إذا ارتكبوا المعاصي إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ عما انذروا، و في الآية تفسير آخر.
تبيين القرآن، ص: 219
[123] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ يقربون منكم أي الأقرب فالأقرب مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ يرعاهم و ينصرهم.
[124] وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ من المنافقين مَنْ يَقُولُ للناس أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً يقوله على طريق الاستهزاء فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً إذ المسلم يزداد إيمانا بتكرر سور القرآن وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بنزول السورة.
[125] وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ نفاق فَزادَتْهُمْ السورة رِجْساً كفرا و نفاقا إِلَى رِجْسِهِمْ السابق، فإن المنافق كلما رأى تقدم الإسلام صمّم على الإيغال في النفاق وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ.
[126] أَ وَ لا يَرَوْنَ المنافقون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يمتحنون فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بالغزوات ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نفاقهم وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ يتذكرون نعم الله، و المعنى أنهم عمي القلوب فلا السورة تزيدهم إيمانا و لا ظفر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كل عام مرة أو مرتين في الحروب.
[127] وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ تغامزوا بالعيون إنكارا للسورة، و يقول بعضهم لبعض هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المؤمنين و ذلك خوفا من أن يظهر نفاقهم ثُمَّ انْصَرَفُوا عن مجلس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحال نفاقهم الأول صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان، لما عاندوا الحق بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون.
[128] لَقَدْ جاءَكُمْ أيها البشر رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ لا من الملك أو الجن عَزِيزٌ أي صعب عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ عنتكم أي مشقتكم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بأن تؤمنوا و تسعدوا بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ الرأفة شدة الرحمة رَحِيمٌ.
[129] فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ الله يكفيني لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وثقت به وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الملك الْعَظِيمِ فإن ملكه كل السماوات و الأرض.
تبيين القرآن، ص: 220
مكية آياتها مائة و تسع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
[1] الر رمز بين الله و بين رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تِلْكَ ما تضمنته هذه السورة آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ المحكم الذي يضع الأشياء موضعها.
[2] أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً موجبا للتعجب أَنْ أَوْحَيْنا وحينا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاستفهام للإنكار أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أخبرهم بالعذاب إن خالفوا وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ بأن لهم قَدَمَ صِدْقٍ أي قدما ثابت الإيمان عِنْدَ رَبِّهِمْ فهو يعرفهم بهذه الصفة قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا الرسول) لَساحِرٌ مُبِينٌ واضح.
[3] إِنَّ رَبَّكُمُ أيها الناس اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مقدار ستة أيام من أيام الأرض ثُمَّ اسْتَوى توجّه عَلَى الْعَرْشِ إدارة الكون، كالملك يبني المدينة ثم يستولي عليها يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمور الكائنات ما مِنْ شَفِيعٍ يشفع للمذنب إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ بأن يشفع ذلِكُمُ الموصوف بتلك الصفات اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ بأنه إلهكم لا غيره.
[4] إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم في الآخرة جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إن وعد الله صدق إِنَّهُ الله سبحانه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ يخلقهم ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت للقيامة لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ جزاء بالعدل وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء حار وَ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم.
[5] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ذات ضياء وَ الْقَمَرَ نُوراً ذا نور وَ قَدَّرَهُ قدّر لكل منهما مَنازِلَ في السماء لِتَعْلَمُوا بهذا الجعل و التقدير عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ للأيام و الشهور ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ لغرض و غاية، لا عبثا يُفَصِّلُ يشرح الْآياتِ الكونية لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون بهذه الأمور.
[6] إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ تعاقبهما وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الموجودات لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي، و إنما خصّهم لأنهم المنتفعون بهذه الآيات.
تبيين القرآن، ص: 221
[7] إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي القيامة وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا دون أن يعملوا للآخرة وَ اطْمَأَنُّوا بِها سكنوا إليها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ لا يتدبرونها.
[8] أُولئِكَ مَأْواهُمُ محلهم النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كسبهم الكفر و المعاصي.
[9] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ إلى الجنة بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ تحت قصورهم و أشجارهم الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ذات النعمة.
[10] دَعْواهُمْ فِيها دعاؤهم و ذكرهم في الجنة سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ إنا نسبحك تسبيحا يا الله، و التسبيح التنزيه وَ تَحِيَّتُهُمْ ما يحيي بعضهم بعضا فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ آخر كلامهم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
[11] وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ إذا دعوا على أنفسهم و على أقربائهم كما هو عادة الجهّال اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ أي كتعجيله لهم بالخير إذا طلبوه من الله لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي لهلكوا، و لكن يمهلهم فَنَذَرُ نترك الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي البعث فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يتحيرون.
[12] وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ البلاء و المشقة دَعانا لِجَنْبِهِ في حال الاضطجاع أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً أي في كل الأحوال فَلَمَّا كَشَفْنا أزلنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ استمر على طريقته الأولى كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ هكذا زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ من تعدى الحد في العقيدة أو العمل ما كانُوا يَعْمَلُونَ فإنهم يرون أعمالهم حسنة و لذا يستمرون فيها.
[13] وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ أهل كل عصر مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الأدلة الواضحات وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لأنهم عاندوا الحق كَذلِكَ كهلاك أولئك نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.
[14] ثُمَّ جَعَلْناكُمْ أيها المسلمون خَلائِفَ خلفاء فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ من خير أو شر لنجازيكم عليه.
تبيين القرآن، ص: 222
[15] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ على هؤلاء الخلائف آياتُنا بَيِّناتٍ في حال كونها واضحات قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا لا يعتقدون بالآخرة ائْتِ يا محمد بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا لا يعيب آلهتنا أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكانه ما لا يكون فيه عيب الآلهة، فيكون بنفس الأسلوب و المطالب لكن بدون عيب الآلهة قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ من جهة نَفْسِي إِنْ ما أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالتبديل عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الآخرة.
[16] قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ بأن أمرني الله أن لا أتلوا القرآن أصلا أو لا أتلو عليكم أنتم بالذات وَ لا أَدْراكُمْ أي لا أعلمكم الله بِهِ بهذا القرآن فَقَدْ لَبِثْتُ مكثت فِيكُمْ عُمُراً أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ قبل نزول القرآن أَ فَلا تَعْقِلُونَ أنه ليس من تلقاء نفسي و إلّا لكنت أقرأه عليكم قبل الأربعين أيضا.
[17] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أكثر ظلما من المفتري على الله كقوله: له تعالى ولد أو شريك أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كالقرآن، بأن أذكر الآيات إِنَّهُ لا يُفْلِحُ لا يفوز الْمُجْرِمُونَ.
[18] وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ أي الأصنام فإنها لا تضرّ بنفسها و إنما يعذب الله عبدتها وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ الأصنام شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ تشفع في أمور دنيانا و أخرانا قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ تخبرون، و الاستفهام للإنكار اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ من باب السالبة بانتفاء الموضوع إذ لو كانت الأصنام شفعاء و شركاء لعلمه الله فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ فإنه سبحانه يعلم أن لا شريك له في السماء و لا في الأرض سُبْحانَهُ أنزّهه عن الشرك وَ تَعالى ارتفع عن ذلك عَمَّا عن الأصنام يُشْرِكُونَ يشركونها معه عز و جل.
[19] وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فإن الناس على لون واحد قبل بعثة كل نبي فَاخْتَلَفُوا بمجي ء الأنبياء عليهم السّلام فبعضهم ناصر الحق و بعضهم عارض الحق وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بأن قال الله: أؤخر الجزاء إلى يوم الفصل، و ذلك لمصلحة الامتحان الكامل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لفصل بين المحق و المبطل في الدنيا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بنجاة المحق و هلاك المبطل.
[20] وَ يَقُولُونَ لَوْ لا هلّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آيَةٌ من الآيات التي نقترحها مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فإن الله يعلم لما ذا لا ينزل آية مقترحة، إذ يعلم أن الصلاح في عدم إنزالها فَانْتَظِرُوا نزولها و العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
تبيين القرآن، ص: 223
[21] وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً كالخصب و الرخاء مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ كالجدب و المرض إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا أي عوض أن يشكروا يمكرون، يريدون بذلك إطفاء الآيات و إبطالها قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً مجازاة على المكر إِنَّ رُسُلَنا الملائكة يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ما تدبرون لأجل إبطال الحق، فنجازيكم عليه.
[22] هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ يقدركم على السير فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ السفينة في البحر وَ جَرَيْنَ بِهِمْ أي أجرينا سفنهم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ بسبب ريح حسنة لينة وَ فَرِحُوا بِها بتلك الريح جاءَتْها أي الفلك رِيحٌ عاصِفٌ شديدة وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أطراف السفينة وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي سدّت مسالك الخلاص من أطرافهم دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك، إذ الفطرة ترجع إلى حالتها الواقعية عند الهول لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الشدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فلا نظلم.
[23] فَلَمَّا أَنْجاهُمْ الله إجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ يظلمون فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإن وبال الظلم يرجع إلى الظالم نفسه مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا إنما تتمتعون متاع الحياة الدنيا بسبب البغي ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ رجوعكم في القيامة فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لنجازيكم عليه.
[24] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا صفتها في سرعة زوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ أي امتزج بسبب المطر نَباتُ الْأَرْضِ بعضه ببعض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ من الحبوب و العشب حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها جمالها بالنبات وَ ازَّيَّنَتْ و تزينت بالخضرة وَ ظَنَّ أَهْلُها مالكيها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها بالحصاد و الانتفاع بالغلات أَتاها أَمْرُنا أي جاء إلى الأرض المزروعة عذابنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً أي أتلف العذاب الزرع حتى صارت الأرض كأنها محصودة كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي تكن الأرض على تلك الصفة المخضرة بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ نشرح الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ليعتبروا بها.
[25] وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ هي الجنة لسلامتها من كل آفة وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ممن هو قابل للهداية إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
تبيين القرآن، ص: 224
[26] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى مبتدأ، أي المثوبة الحسنة هي للذين أحسنوا وَ زِيادَةٌ زيادة على استحقاقهم وَ لا يَرْهَقُ لا يغشى وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ سواد وَ لا ذِلَّةٌ هوان أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.
[27] وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ عملوا بالمعاصي جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها بلا زيادة وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يحفظهم من بأس الله كَأَنَّما أُغْشِيَتْ ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً من سواد وجوههم أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ.
[28] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ نجمعهم للجزاء جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ ألزموا، و لا تذهبوا أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ الأصنام فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي فرقنا بينهم و قطعنا الصلة التي كانت بين الأصنام و عبّادها وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ فإن الله ينطق الأصنام ليتبرءوا من العبّاد: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ بل كنتم تعبدون الأهواء.
[29] فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا نحن الأصنام وَ بَيْنَكُمْ أيها المشركون إِنْ مخففة من الثقيلة كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ أي لم نكن نشعر بعبادتكم لنا.
[30] هُنالِكَ في ذلك المقام تَبْلُوا تختبر كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ من عمل، ليجزي عليه وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أرجعوا في جزائهم إليه تعالى مَوْلاهُمُ مالكهم الْحَقِّ حينما بطلت أصنامهم الباطلة وَ ضَلَّ بطل عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الأصنام.
[31] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَ الْأَرْضِ بالنبات أَمَّنْ يَمْلِكُ يخلق و في قبضته السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كإخراج الدجاجة من البيضة و البيضة من الدجاجة وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر العالم ينظمه فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ يفعل كل ذلك فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ عقابه، بأن لا تجعلوا له شريكا.
[32] فَذلِكُمُ الذي يفعل كل ذلك، و (كم) للخطاب اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فعبادة غيره ضلال فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إلى أين تصرفون عن عبادته.
[33] كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي كما حقت الربوبية لله حقت كلمة الله و حكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا عاندوا في الفسق و الخروج على الطاعة أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فقد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون باختيار أنفسهم.
تبيين القرآن، ص: 225
[34] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الذين جعلتموهم شركاء لله مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
[35] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بإرسال الرسل و نصب الدلائل قُلِ اللَّهُ وحده يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي أي هو بنفسه لا يتمكن من هداية نفسه إِلَّا أَنْ يُهْدى بأن يهديه غيره، و هذا وصف أشرف الشركاء كالمسيح عليه السّلام و الملائكة، فكيف بالأصنام فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ حكما جائرا.
[36] وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ أكثر الكفار و المشركين إِلَّا ظَنًّا إذ قليل منهم يقطعون بصحة الأصنام جهلا مركبا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فإن الظن ليس بعذر و لا مرآة للواقع إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ من اتباع الظن و ترك الحجة، و هذا تهديد لهم.
[37] وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى بأن يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم افتراه مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله وَ لكِنْ أنزل تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السابقة وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ أي شرح ما كتب و أثبت من أمور الدين لا رَيْبَ فِيهِ ليس محل شك و ريب مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
[38] أَمْ يَقُولُونَ بل يقول الكفار: افْتَراهُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ إن كان القرآن كلام البشر فأتوا بسورة مثل سور القرآن وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ لمعاضدتكم مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله كائنا من كان إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه افتراء.
[39] بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ بالقرآن قبل أن يتدبروا آياته و يحيطوا بالعلم بشأنه وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي بعد لم يفهموا معانيه و حقائقه كَذلِكَ بدون تدبر كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم و كتبهم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ حيث نزل بهم العذاب، و هذا تهديد لقريش و سائر الكفار.
[40] وَ مِنْهُمْ من الناس مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ المعاندين الذين يفسدون في الأرض.
[41] وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ كل يجزى بما عمل أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ و هذا كناية عن تركهم و شأنهم.
[42] وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن، لا بقصد الاستفادة أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ فإنهم كالأصم الذي لا يسمع، و الاستفهام لبيان عدم فائدة و عظهم وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ بأن انضمّ إلى صممهم عدم تعقلهم.
تبيين القرآن، ص: 226
[43] وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ بدون قصد العبرة بالنظر أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ تقدر على هدايته وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ بأن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة.
[44] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بترك اتباع الحق.
[45] وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يجمعهم كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا لم يبقوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ و ذلك لأن الزمان المنقضي كأنه لم يكن شيئا يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي بالبعث الذي فيه لقاء جزاء الله وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ هناك يظهر خسرانهم.
[46] وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ نعد هؤلاء الكفار من العقاب في الدنيا أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل تعذيبهم فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في الآخرة و هناك ترى عقابهم ثُمَّ للترتيب في الكلام اللَّهُ شَهِيدٌ شاهد عَلى ما يَفْعَلُونَ فيجازيهم عليه.
[47] وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ و كذّبوه قُضِيَ حكم، و الحاكم هو الله بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل، بأن يهلكهم الله وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بل يعاقبون جزاء عملهم.
[48] وَ يَقُولُونَ الكفار استهزاء: مَتى هذَا الْوَعْدُ بالعذاب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّ من لم يؤمن يعاقب.
[49] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً فالضر و النفع يوجههما الله إلى الإنسان، فكيف أملك لكم و استعجل في طلب عذابكم إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يوجهه إليّ من ضرّ أو نفع لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ وقت معلوم فيه فناء تلك الأمة إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ أي إذا جاء وقتهم و هو في طريق الوصول إليهم لا يتقدم و لا يتأخر عن الوقت المحدود.
[50] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الذي تستعجلونه بَياتاً ليلا أَوْ نَهاراً ما ذا أي شي ء يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ من العذاب الْمُجْرِمُونَ أي تندموا على استعجاله.
[51] أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ أي هل بعد وقوع العذاب آمَنْتُمْ بِهِ بالله، حين لا ينفعكم الإيمان، فيقال لهم آلْآنَ آمنتم وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ و الاستفهام للإنكار، أي في وقت الاستعجال لم تؤمنوا، و الآن تؤمنون حيث لا ينفع الإيمان.
[52] ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي الباقي الدائم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ الاستفهام بمعنى النفي أي لا تجزون إلا بمقابل كسبكم.
[53] وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أي يستخبرونك يا رسول الله أَ حَقٌّ هُوَ ما تقول من الوعد و الوعيد قُلْ إِي وَ رَبِّي بحق ربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لا تتمكنون من أن تعجزوا الله حتى لا يعذبكم.
تبيين القرآن، ص: 227
[54] وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالشرك و العصيان ما فِي الْأَرْضِ من الثروة لَافْتَدَتْ بِهِ أي جعلها فدية لنفسه ليخلصها من العقاب وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفوها كراهة شماتة المؤمنين لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي حكم الله بينهم بالعدل وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا يزاد في عقابهم الذي يستحقونه.
[55] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فيأتي ثوابه و عقابه وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
[56- 57] هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ من الاعتقادات السقيمة و الأخلاق الرذيلة وَ هُدىً هداية إلى الطريق وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم المنتفعون بها.
[58] قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ الفضل و الرحمة فَلْيَفْرَحُوا لا بسواهما من الأموال و المناصب و ما أشبه هُوَ الفضل و الرحمة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من أموال الدنيا، لأنها زائلة و فضله دائم.
[59] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً كالبحيرة و السائبة وَ حَلالًا كالمحرمات التي كانوا يتناولونها قُلْ آللَّهُ أصله (أ الله) أَذِنَ لَكُمْ في التحريم و التحليل أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ في نسبة ذلك إلى الله.
[60] وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي شي ء ظنهم به في يَوْمَ الْقِيامَةِ هل يظنون أنه لا يعاقبهم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث خلقهم و أمهلهم و أرسل إليهم الهدى وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعم بل يكفرون بها.
[61] وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ من شؤونك و حال من أحوالك وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ أي من شأنك مِنْ قُرْآنٍ بعض القرآن وَ لا تَعْمَلُونَ أيها الناس مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً نشهد حالكم و قراءتكم و عملكم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تدخلون في ذلك الشأن و القرآن و العمل وَ ما يَعْزُبُ يغيب عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ثقل ذَرَّةٍ هباءة فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ المثقال وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كتاب واضح، أي قد كتب عند الله.
تبيين القرآن، ص: 228
[62- 64] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين يتولونه لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ فإن خوفهم و حزنهم بالنسبة إلى غيرهم ليس بشي ء يذكر الَّذِينَ بدل من (أولياء الله) آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ المعاصي هُمُ الْبُشْرى
البشارةي الْحَياةِ الدُّنْيا
يبشرهم الله بالمستقبل الزاهر في الدنيا فِي الْآخِرَةِ
بالجنة تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
فإن البشارة لهم قطعيةلِكَ
المذكور من البشرى وَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[65] وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ بتكذيبك إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فإن الغلبة و السيادة لله و لك فلا يضرك قولهم حتى تحزن هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
[66] أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ فكلّهم خلقه، و ليسوا شركاء له وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي له أيضا ما يسمونه شركاء لله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي إن اتّباعهم للأصنام ناشئ عن الظن وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون في جعلهم الأصنام شركاء لله.
[67] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا تستريحوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً أي لتبصروا فيه إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل لَآياتٍ حجج و أدلة على وجود الله لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبّر.
[68] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً كالمسيح و عزيز و الملائكة سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها هُوَ الْغَنِيُّ عن اتخاذ الولد لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و المملوك لا يكون ولدا إِنْ ما عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ حجة بِهذا الذي تقولون به من اتخاذ الولد أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ استفهام إنكار.
[69] قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ باتخاذه الولد أو ما أشبه لا يُفْلِحُونَ لا يفوزون بالثواب.
[70] مَتاعٌ أي افتراؤهم لأجل تمتع فِي الدُّنْيا بالرئاسة و المال ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ رجوعهم ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ في جهنم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم.
تبيين القرآن، ص: 229
[71] وَ اتْلُ اقرأ عَلَيْهِمْ نَبَأَ خبر نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عظم و شقّ عَلَيْكُمْ مَقامِي إقامتي بينكم وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ أي وعظي و ما أذكركم فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ و به وثقت فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ اعزموا على أمر تكيدونني به وَ شُرَكاءَكُمْ أي مع شركائكم ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ في الإساءة إليّ عَلَيْكُمْ غُمَّةً كربة ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أدّوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون بي وَ لا تُنْظِرُونِ لا تمهلوني، و هذا تحدّ لهم بأن الله يحفظه عليه السّلام من بأسهم كائنا ما كان.
[72] فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن تذكيري فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ لم أسألكم أجرا على الرسالة حتى يكون ذلك سببا لإعراضكم، بل إعراضكم إنما هو للعناد إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سواء أسلمتم لله أم لا.
[73] فَكَذَّبُوهُ فيما قال فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ السفينة وَ جَعَلْناهُمْ أي الذين نجوا خَلائِفَ خلفاء لمن هلك وَ أَغْرَقْنَا بالطوفان الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا فلم يقبلوا الإنذار.
[74] ثُمَّ بَعَثْنا أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ بعد نوح عليه السّلام رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات الظاهرات فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ قبل إرسال الرسل لأنهم اعتادوا التكذيب و معاندة الحق كَذلِكَ هكذا نَطْبَعُ فإن الطبع عبارة عن القسوة التي هي طبيعة لمن ركب رأسه و عاند الحق عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ الذين يجاوزون الحد.
[75] ثُمَّ بَعَثْنا أي أرسلنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد أولئك الأنبياء كإبراهيم و يوسف و يعقوب عليهم السّلام مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أشراف قومه بِآياتِنا بأدلتنا فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد للرسل و الآيات وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ يكسبون الإثم.
[76] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ ما أتى به موسى عليه السّلام من المعجزات مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا الذي أتيته من المعجزات لَسِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر.
[77] قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ إنه سحر، و هذا استفهام إنكار أَ سِحْرٌ هذا أي هل هذا سحر، استفهام إنكار أيضا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ إذ يظهر السحر، فحيث أفلحت دل ذلك على أني لست بساحر.
[78] قالُوا أَ جِئْتَنا يا موسى لِتَلْفِتَنا لتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام وَ ل تَكُونَ لَكُمَا أي موسى و هارون عليه السّلام الْكِبْرِياءُ الملوكية فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ مصدقين لا نصدقكم فيما جئتما به.
تبيين القرآن، ص: 230
[79] وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي جيئوا إليّ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ حاذق في السحر.
[80] فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من الحبال و العصي التي تقلبونها حية وهمية.
[81] فَلَمَّا أَلْقَوْا السحرة قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ هو السِّحْرُ لا حقيقة له إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ يظهر بطلانه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يظهره بمظهر الصلاح.
[82] وَ يُحِقُّ يظهر اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ بسبب مواعيده وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.
[83] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ أولاد مِنْ قَوْمِهِ قوم موسى عليه السّلام، فإنهم من ذرية إسرائيل عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أشرافهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ يصرفهم فرعون عن الإيمان وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ غالب فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا في الطغيان.
[84] وَ قالَ مُوسى لما رأى خوف المؤمنين: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا اعتمدوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أسلمتم لله فيما يقول.
[85] فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا يا ربنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً أي موضع فتنة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تسلطهم علينا ليفتنونا و يصرفونا عن الدين.
[86] وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فرعون و ملأه.
[87] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا اتخذا لِقَوْمِكُما المؤمنين بمدينة مصر بُيُوتاً و لعلهم كانوا قبل ذلك بلا بيوت مملوكة، كالقبيلة المتفرقة التي تجتمع في مكان واحد بعد ذلك وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يتقابل بعضكم مع بعض، و لعل المراد اجتماع بيوتهم في محل واحد حتى يكونوا مجتمعين في مكان واحد وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنجاة و الجنة.
[88] وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ جماعته زِينَةً يتزينون بها من الحلي و الثياب وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا اللام للعاقبة أي عاقبة إعطائهم الإضلال عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ امسخها عَلى أَمْوالِهِمْ و قد قالوا: صارت أموالهم حجارة وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أخذلهم فَلا يُؤْمِنُوا و هذا دعاء عليهم بعد اليأس عن هدايتهم حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم في الدنيا.
تبيين القرآن، ص: 231
[89] قالَ الله قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما يا موسى و هارون فَاسْتَقِيما أثبتا على دعوتكما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ طريق الجهلة.
[90] وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي عبرنا بهم البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ لأجل إلقاء القبض عليهم بَغْياً ظلما وَ عَدْواً تعديا، فغرق في الماء حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ بأن أشرف على الهلاك قالَ فرعون آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
[91] آلْآنَ أي هل تؤمن في هذا الحال، فإن الإيمان لا يقبل إذا جاء الموت وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ بالكفر وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أفسدت الناس.
[92] فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي نلقي جسدك بلا روح خارج الماء لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ وراءك آيَةً علامة تدل على بأس الله وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ لا يعتبرون بها.
[93] وَ لَقَدْ بَوَّأْنا مكنّا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي منزلا لا ينزعجون فيه كأنه مكان صادق لا كذب فيه وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا أي بنو إسرائيل بل بقوا على يهوديتهم حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ بعيسى عليه السّلام و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فآمن بعض و بقي بعضهم على دينه المنسوخ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيجازي من آمن منهم بالثواب و من كفر بالعقاب.
[94] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من القرآن، و الجملة لبيان علم أهل الكتاب بحقية القرآن فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فإنهم يعرفون حقية دينك لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ الشاكين.
[95] وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم دنيا و آخرة.
[96] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ ثبتت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ بأن علم أنهم لا يؤمنون لا يُؤْمِنُونَ باختيارهم، فإن العلم ليس سببا.
[97] وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ كل معجزة، و هذا وصل بما قبله حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم، و إيمان ذلك الوقت ليس بنافع.
تبيين القرآن، ص: 232
[98] فَلَوْ لا أي فهلا كانَتْ قَرْيَةٌ من القرى التي أهلكناها آمَنَتْ قبل حلول العذاب بها فَنَفَعَها إِيمانُها أي لما ذا لم يؤمنوا قبل العذاب حتى لا يعذّبوا إِلَّا لكن قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا حين رأوا آثار العذاب كَشَفْنا رفعنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ الذي يذلهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أجلهم.
[99] وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً بأن يجبرهم على الإيمان أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لا تقدر على إكراههم و لو قدرت لم تكن مصلحة إذ لو كان في الإكراه مصلحة لفعله الله تعالى.
[100] وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إذ الإيمان لا يكون إلا بعد إرسال الرسول الذي هو بيد الله و بإذنه وَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ لوث العصيان عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ بأن لا يتدبروا آياته تعالى عنادا.
[101] قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الدلائل على وجود الصانع وَ ما تُغْنِي ما تفيد الْآياتُ الكونية وَ النُّذُرُ الرسل المنذرون عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي لا تفيد في دفع العذاب عنهم، لأنهم عاندوا الحق.
[102] فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ هؤلاء الذين لا يؤمنون بك إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مضوا، أي هل ينتظرون أن يعاقبوا كما عوقب الأمم المكذبة مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا عذاب الله إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
[103] ثُمَّ إذا جاء العذاب نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ الإنجاء حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي ننجي المؤمنين في حال كون نجاتهم حقا علينا.
[104] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي من صحة دين الإسلام فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي فلا تطمعوا أن اتخذ طريقتكم لأني على يقين وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ يميتكم، إذ بيده الحياة و الموت وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
[105] وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي أمرت بإقامة الوجه للدين، بأن لا أصرف وجهي عن الإسلام حَنِيفاً مائلا عن الباطل وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في العقيدة و العبادة.
[106] وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فإن الأصنام لا تأتي منها مضرة و لا منفعة فَإِنْ فَعَلْتَ دعوت الأصنام فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم.
تبيين القرآن، ص: 233
[107] وَ إِنْ يَمْسَسْكَ يصيبك اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ لا يرفعه إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ بأن أراد بك خيرا فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ إذ لا أحد يقدر على ردّ فضل الله يُصِيبُ بِهِ بفضله مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ لذنوبهم الرَّحِيمُ بهم.
[108] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ القرآن و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن فائدة الإيمان ترجع إلى نفس المؤمن وَ مَنْ ضَلَّ بالكفر فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فإن وبال الضلال على نفس الضال وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ و إنما أنا بشير و نذير.
[109] وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ بأن اعمل به و بلغه الناس وَ اصْبِرْ على إيذاء الناس حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بالنصر لك وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فإنه لا جور في حكمه لا عمدا و لا سهوا.
مكية و آياتها مائة و ثلاث و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الر رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كِتابٌ هذا كتاب أُحْكِمَتْ آياتُهُ أتقنت فلا خلل فيها ثُمَّ فُصِّلَتْ شرحت شرحا وافيا مِنْ لَدُنْ عند حَكِيمٍ يضع الأشياء مواضعها خَبِيرٍ عالم بكل شي ء.
[2] أَلَّا تَعْبُدُوا أي أحكمت لئلا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ من طرفه تعالى نَذِيرٌ لمن كفر و عصى وَ بَشِيرٌ لمن آمن و أطاع.
[3] وَ أَنِ عطف على (ألا تعبدوا) اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الكفر و المعاصي ثُمَّ تُوبُوا ارجعوا إِلَيْهِ بالطاعة يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً يسعدكم في الدنيا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت مسمى عنده، و هو منتهى عمركم وَ يُؤْتِ يعطي كُلَّ ذِي فَضْلٍ بالطاعة فَضْلَهُ جزاء عمله وَ إِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا فقل لهم إني أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يوم القيامة.
[4] إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر على إعادتكم بعد الموت.
[5] أَلا إِنَّهُمْ الكفار يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ أي يطوون في صدورهم بغض الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإسلام لِيَسْتَخْفُوا أي ليستروا عداوتهم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْهُ من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنهم يريدون النفاق أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يغطون أنفسهم بثيابهم يَعْلَمُ الله ما يُسِرُّونَ في قلوبهم و تحت أغطيتهم وَ ما يُعْلِنُونَ يظهرون. و الآية في مقام بيان أن الله عالم بما في قلوبهم و لو كانوا تحت الغطاء فلا ينفعهم قصدهم تستر نفاقهم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بمكنونات القلوب.
تبيين القرآن، ص: 234
[6] وَ ما مِنْ دَابَّةٍ كل حيوان يدب و يتحرك فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها معاشها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها موضع قرارها وَ مُسْتَوْدَعَها المحل الذي أودع فيه من الرحم و القبر كُلٌّ مما ذكر فِي كِتابٍ مكتوب عند الله مُبِينٍ ظاهر.
[7] وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من مقادير أيام الدنيا وَ كانَ عَرْشُهُ المحل الذي خلقه لنفسه تشريفا عَلَى الْماءِ فإنه مصدر الحياة للمخلوقات لِيَبْلُوَكُمْ يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ليجازيكم عليه وَ لَئِنْ قُلْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ تحيون للحساب لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا ما هذا القول إِلَّا سِحْرٌ تمويه لا حقيقة له مُبِينٌ واضح.
[8] وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ عن الكفار الْعَذابَ الموعود إِلى أُمَّةٍ أمد حسبنا ذلك الأمد مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ الكفار استهزاء ما يَحْبِسُهُ ما يمنع العذاب من الحلول أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً مدفوعا عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ حل بهم في ذلك اليوم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب.
[9] وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ سلبنا تلك النعمة منه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كثير اليأس من رحمة الله كَفُورٌ شديد الكفران فلا يرجو إعادة الرحمة إليه.
[10] وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ نعمة بَعْدَ ضَرَّاءَ شدة و بلاء مَسَّتْهُ أي مست تلك الضراء الإنسان لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ المحن و المصائب عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ يفرح بذلك فَخُورٌ كثير الفخر.
[11] إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا فإنهم لا ييأسون عند البلاء و لا يبطرون عند النعماء وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران لذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ بالجنة و الثواب.
[12] فَلَعَلَّكَ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ فلا تبلّغهم إياه لأجل استهزائهم بك وَ ضائِقٌ بِهِ بالوحي صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا أي ضائق لأجل أنهم يقولون لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ من الثروة لينفقها كالملوك أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ فليس تملك إلّا الإنذار وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ حفيظ فيجازيهم، أما إنزال الملك و الكنز فليس من شأن رسالتك.
تبيين القرآن، ص: 235
[13] أَمْ بل يَقُولُونَ افْتَراهُ أي القرآن فليس من عند الله قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ فإنه لو كان كلام محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لتمكنتم من الإتيان بمثله وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لمعاونتكم في إتيان السور إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنه مفترى.
[14] فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ بأن لم يقدروا على إتيان مثل القرآن فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ الله أنزله عالما به وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لعجز غيره و لو كان هناك إله آخر لتمكن من مثله فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثابتون على الإسلام.
[15] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها بأعماله الخيرة نُوَفِّ نردّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ جزاء أعمالهم فِيها في الدنيا وَ هُمْ فِيها في الدنيا لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون، إذ الدنيا دار جزاء لأعمال البر لمن لا نصيب له في الآخرة.
[16] أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ جزاء كفرهم و عصيانهم وَ حَبِطَ بطل ما صَنَعُوا فِيها من الأعمال الخيرة فلا ثواب لهم في الآخرة وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنه كان لغير الله.
[17] أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ برهان كالعقل مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ و هو النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْهُ من قبل الله وَ مِنْ قَبْلِهِ قبل الشاهد كِتابُ مُوسى التوراة في حال كونه إِماماً يؤتم به وَ رَحْمَةً فقبله نور و معه شاهد و برهان كمن ليس كذلك، و فيه تعريض بالكفّار أُولئِكَ الذين هم على بينة و يعتقدون بالشاهد يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن، و في بعض الروايات تأويل (من) بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و (الشاهد) بعلي عليه السّلام وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ كأهل مكة و سائر الكفار المتحزبين فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ مستقره و مصيره فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك مِنْهُ أي من القرآن إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لقلة نظرهم و فكرهم.
[18] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إليه ما ليس منه أو نفى عنه ما هو منه أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يوم القيامة كما يعرض المجرم على الحاكم وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ جمع شاهد، و هم الملائكة و غيرهم هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ بأن نسبوا إليه ما ليس منه، أو نفوا عنه ما كان منه أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكذب على الله.
[19] الَّذِينَ يَصُدُّونَ يصرفون الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه وَ يَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون أن تكون السبل معوجة إذ لا يريدون السبيل المستقيم وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
تبيين القرآن، ص: 236
[20] أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ أي لا يقدرون أن يعجزوا الله حتى لا يعذبهم و لا يأخذهم حال كونهم فِي الْأَرْضِ بل في الآخرة وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يمنعونهم من عقاب الله يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ لكفرهم و صدهم عن سبيل الله ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ سماع الحق لعدائهم له وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ بصر اعتبار و اتعاظ.
[21] أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
حيث عرضوها للعقاب الدائم وَ ضَلَ
ذهب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من الآلهة الباطلة فإنها لا تنفعهم.
[22] لا جَرَمَ لا محالة أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ الأكثر خسرانا من غيرهم من العصاة.
[23] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا خشعوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.
[24] مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المؤمنين و الكافرين كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ هذا مثل الكافر إذ لا يستفيد بسمعه و بصره وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا استفهام إنكار، أي لا يستويان أَ فَلا تَذَكَّرُونَ بالتأمل في الأمثال.
[25] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فقال لهم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ أخوفكم عذاب الله مُبِينٌ ظاهر.
[26] و قال لهم: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم يصيبكم العذاب إن لم تؤمنوا.
[27] فَقالَ الْمَلَأُ جماعة الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا فلا مزية لك حتى تكون نبيا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أخساؤنا الذين لا مال لهم و لا جاه فكيف نتبعك حتى نحشر في جملتهم، و هم بادِيَ الرَّأْيِ ظاهره بدون تعمق و لذا اتبعوك وَ ما نَرى لَكُمْ لك و لمن اتبعك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فلا أفضلية لكم علينا بل نحن مثلكم فلما ذا الاتباع بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فأنت تكذب في دعواك و هم يكذبون في دعوتهم العلم بصدقك.
[28] قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة مِنْ رَبِّي على صدق نبوتي وَ آتانِي رَحْمَةً بالنبوة مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ خفيت تلك البينة عليكم لقلة تأملكم و عنادكم أَ نُلْزِمُكُمُوها أي هل نلزمكم الاهتداء بتلك البينة وَ الحال أَنْتُمْ لَها للبينة كارِهُونَ لا تريدون معرفتها و الجملة في مقام إفادة أنه لا يلزم الناس الهداية و إنما يبين لهم الحجة.
تبيين القرآن، ص: 237
[29] وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ مالًا و أجرا إِنْ ما أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا من جهة كلامكم إنهم أراذل، فلا وجه لإبعاد المؤمن مهما كان حقيرا بحسب الظاهر إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فإذا طردتهم شكوني عنده تعالى وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ الحق و أهله.
[30] وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ فإن طرد المؤمن لا يجوز أَ فَلا تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن الأمر على ما قلته.
[31] وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ حتى تستعظموا ذلك، و المراد بخزائن الله أرزاقه و خزائن رحمته وَ لا أقول إني أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ من أملاك السماء وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ تحتقرهم أعينكم من المؤمنين الذين اتبعوني لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي لا أقول ذلك مجاراة لكم اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ فإنه إذا عرف منهم الإخلاص أثابهم في الدنيا و الآخرة إِنِّي إِذاً إذا قلت شيئا من ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
[32] قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا خاصمتنا بالأدلة و الحجج فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعوتك النبوة.
[33] قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ بالعذاب اللَّهُ إِنْ شاءَ إذا تعلقت مشيئته وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لا تقدرون على أن تعجزوا الله في دفع العذاب عن أنفسكم.
[34] وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ يضلكم بترككم و شأنكم حتى تضلوا هُوَ رَبُّكُمْ المتصرف في شؤونكم وَ إِلَيْهِ إلى جزائه في الآخرة تُرْجَعُونَ.
[35] أَمْ بل يَقُولُونَ كفار مكة افْتَراهُ افترى في قصة نوح عليه السّلام قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي عقوبة كذبي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ من أنواع جرمكم بالكفر و العصيان.
[36] وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ لا تحزن بِما كانُوا يَفْعَلُونَ فقد حان وقت الانتقام.
[37] وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ السفينة «1» بِأَعْيُنِنا برعايتنا و حفظنا وَ وَحْيِنا و تعليمنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بأن تطلب مني إمهالهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا محالة.
__________________________________________________
(1) سميت السفينة فلكا لدورانها في الماء، و أصله: الدور، و منه الفلك و فلكة المغزل.
تبيين القرآن، ص: 238
[38] وَ يَصْنَعُ نوح عليه السّلام الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ جماعة مِنْ أشراف قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ لأنه كان يصنع السفينة في محل بعيد من الماء قالَ نوح عليه السّلام إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ إذا أخذكم الغرق كَما تَسْخَرُونَ.
[39] فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ الذي يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يذله وَ يَحِلُّ ينزل عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم في الآخرة.
[40] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بتعذيبهم وَ فارَ غلى بالماء التَّنُّورُ فإن فوران الماء من التنوّر كان علامة من الله لهلاك القوم قُلْنَا احْمِلْ فِيها في السفينة مِنْ كُلٍّ أي كل نوع من أنواع الحيوانات زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر و أنثى، و ذلك لبقاء نسل الحيوانات وَ احمل في السفينة أَهْلَكَ عائلتك إِلَّا مَنْ سَبَقَ من الله عَلَيْهِ الْقَوْلُ بهلاكه فلا تحمله و هو ابنه كنعان الذي كان كافرا وَ احمل معك مَنْ آمَنَ من قومك وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا جماعة قَلِيلٌ.
[41] وَ قالَ نوح عليه السّلام: ارْكَبُوا فِيها في السفينة قائلين بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها حال جريها في الماء وَ مُرْساها حال إرسائها أي وقوفها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
[42] وَ هِيَ السفينة تَجْرِي بِهِمْ أي في حال كونهم فيها فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ في عظمها و ارتفاعها وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وَ كانَ الابن فِي مَعْزِلٍ عزل و بعد عن دين نوح عليه السّلام يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا بأن تؤمن و تركب حتى لا تغرق وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ في دينك فتغرق.
[43] قالَ كنعان: سَآوِي آخذ المأوى و المحل إِلى جَبَلٍ مرتفع يَعْصِمُنِي يحفظني لارتفاعه مِنَ الْماءِ قالَ نوح عليه السّلام لا عاصِمَ لا حافظ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الذي حتمه من غرق الناس إِلَّا مَنْ رَحِمَ الله بسبب إيمانه فانه لا يغرق وَ حالَ بَيْنَهُمَا بين نوح عليه السّلام و ولده الْمَوْجُ فَكانَ صار الولد مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
[44] وَ بعد انتهاء غرق المجرمين قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي اشربي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي امسكي عن المطر وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ انتهى أمر هلاك الكفار و نجاة المؤمنين وَ اسْتَوَتْ استقرت السفينة عَلَى الجبل المسمى ب الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً هلاكا و ابتعادا عن رحمة الله لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
[45] وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي عائلتي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ فإنك وعدت بنجاة عائلتي، و الابن من العائلة فنجه وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أعدلهم.
تبيين القرآن، ص: 239
[46] قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لأنه لا ولاية بين المؤمن و الكافر إِنَّهُ عَمَلٌ أي ذو عمل غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ يا نوح ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بأن لم تعلم أنه مصلحة، إذ لا مصلحة في نجاة الولد إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ لئلا تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فإن ترك الأولى عمل الجاهل.
[47] قالَ نوح عليه السّلام: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ من أن أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ فإن كل من لم يغفر الله له يكون خاسرا، و لو كانت الخسارة ناشئة من ترك الأولى.
[48] قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ من السفينة بِسَلامٍ سلامة مِنَّا وَ بَرَكاتٍ خيرات ثابتة عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ في السفينة وَ أُمَمٌ أخرى في الدنيا سَنُمَتِّعُهُمْ نعطيهم المتعة في الدنيا ثُمَّ يكفرون ف يَمَسُّهُمْ يصيبهم مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم، كما متعنا أمتك فكفروا فأغرقناهم.
[49] تِلْكَ قصة نوح عليه السّلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الأخبار الغائبة عن حواسك يا رسول الله نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا القرآن فَاصْبِرْ كما صبر نوح عليه السّلام إِنَّ الْعاقِبَةَ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ كما كانت العاقبة لنوح عليه السّلام.
[50] وَ أرسلنا إِلى عادٍ قبيلة عاد أَخاهُمْ في القبيلة هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ ما أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ تكذبون على الله بجعلكم شركاء له.
[51] يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ أَجْراً أجرة إِنْ ما أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي خلقني أَ فَلا تَعْقِلُونَ قولي فتعلمون أنه الحق.
[52] وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا غفرانه عن كفركم و عصيانكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا إليه بالأعمال الصالحة يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدر بالمطر، و قد كانوا أجدبوا وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً بالمال و الأولاد و القوة البدنية إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ لا تعرضوا عن قول في حال كونكم مجرمين.
[53] قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ لا حجة لك على رسالتك وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا لا نترك عبادة الأصنام، ناشئا تركنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
تبيين القرآن، ص: 240
[54] إِنْ ما نَقُولُ فيك و في ادعائك الرسالة إِلَّا اعْتَراكَ أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بأن خبّلك آلهتنا و لذا تنكرهم قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أنتم أيضا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ تجعلونه شريكا لله.
[55] مِنْ دُونِهِ دون الله فَكِيدُونِي احتالوا جَمِيعاً أنتم و آلهتكم في إنزال مكروه بي ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ لا تمهلوني، و هذا تحدّ لهم بأنهم لا يقدرون على أذاه لأن الله ناصره.
[56] إِنِّي تَوَكَّلْتُ اتكلت عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ تدب و تمشي إِلَّا هُوَ الله آخِذٌ بِناصِيَتِها الناصية مقدم الرأس، و هذا كناية عن كون أمرها بيد الله إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إن طريقته مستقيمة بخلاف طريقتكم.
[57] فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان فقل لهم:
قد أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ فقد أديت تكليفي فلا شي ء عليّ، أما أنتم فيهلككم الله وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يجعلهم مكانكم وَ لا تَضُرُّونَهُ الله شَيْئاً بتوليكم لأنه تعالى غني عن الناس إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ يحفظه و يراقبه فلا تخفى عليه أعمالكم.
[58] وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا بعذاب قوم عاد نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إذ لو لا رحمتنا بهدايتهم لهلكوا أيضا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ إما تأكيد أو المراد عذاب الآخرة أيضا.
[59] وَ تِلْكَ قبيلة عادٌ جَحَدُوا أنكروا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ يجبر الناس و يكرههم عَنِيدٍ معاند، أي اتبعوا كبراءهم الطاغين.
[60] وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه أَلا بُعْداً أبعدهم الله عن رحمته لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ.
[61] وَ أرسلنا إِلى قبيلة ثَمُودَ أَخاهُمْ في القبيلة صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ لا غيره من الأصنام أَنْشَأَكُمْ خلقكم مِنَ الْأَرْضِ باعتبار آدم عليه السّلام، و لأن أصل كل إنسان الأرض تنقلب نباتا ثم دما ثم منيا وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها جعلكم عمّارها و سكانها فَاسْتَغْفِرُوهُ عن ذنوبكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا إليه بالطاعة إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ من الناس قرب علم و قدرة مُجِيبٌ لداعيه.
[62] قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا كنا نرجو خيرك قَبْلَ هذا القول و ادعائك الرسالة أَ تَنْهانا استفهام استهزاء، أي هل أنت تنهى عن عبادة الأصنام أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد مُرِيبٍ موجب للريبة و التهمة.
تبيين القرآن، ص: 241
[63] قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة مِنْ رَبِّي على توحيده و على رسالتي وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً نبوة فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ من يمنعني عن عذاب الله إن لم أبلغ رسالته فَما تَزِيدُونَنِي بما تقولون لي غَيْرَ تَخْسِيرٍ أن أنسبكم إلى الخسران، فكلامكم لا يؤثر في عدم تبليغي بل يؤثر فيّ أن أقول أنكم خاسرون.
[64] وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة للتشريف، و قد كانت ناقة خرجت من الجبل عظيمة جدا لَكُمْ آيَةً علامة على صدقي فَذَرُوها اتركوها تَأْكُلْ من العشب فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لا تسيئوا إليها فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل.
[65] فَعَقَرُوها جرحوها فَقالَ صالح عليه السّلام لهم تَمَتَّعُوا عيشوا فِي دارِكُمْ بلدكم في الحياة ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فقط ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فيه فقد وعدني الله بذلك صدقا.
[66] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بعذاب القوم نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا فلو لا الرحمة لم يهدهم الله حتى ينجهم وَ مِنْ خِزْيِ عذاب يَوْمِئِذٍ يوم نزول العذاب إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ.
[67] وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا من قوم صالح عليه السّلام الصَّيْحَةُ فقد صاح بهم جبرئيل عليه السّلام صيحة فهلكوا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ميتين واقعين على وجوههم.
[68] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأنهم لم يقيموا في ديارهم أَلا إِنَّ ثَمُودَ «1» كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً عن رحمة الله لِثَمُودَ.
[69] وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا الملائكة إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى بشارة المولد قالُوا لإبراهيم عليه السّلام سَلاماً قالَ إبراهيم عليه السّلام في جوابهم سَلامٌ فَما لَبِثَ لم يتوقف أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ ولد البقر حَنِيذٍ أي مشوي لأجل ضيافتهم.
[70] فَلَمَّا رَأى إبراهيم عليه السّلام أَيْدِيَهُمْ أيدي الرسل لا تَصِلُ إِلَيْهِ لا يمدّون أيديهم إلى الأكل، لأنهم كانوا ملائكة نَكِرَهُمْ أي أنكرهم و استغرب عدم أكلهم وَ أَوْجَسَ أحس مِنْهُمْ خِيفَةً بأن خاف منهم أن يريدوا به سوء قالُوا لا تَخَفْ إنا لا نريد بك سوء إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ لنهلكهم.
[71] وَ امْرَأَتُهُ زوجة إبراهيم عليه السّلام سارة قائِمَةٌ تسمع كلامهم فَضَحِكَتْ من كلامهم فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ بأنها ستلده وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ من بعده يَعْقُوبَ.
__________________________________________________
(1) كذا في الأصل.
تبيين القرآن، ص: 242
[72] قالَتْ يا وَيْلَتى يا عجبا أَ أَلِدُ يكون لي ولد وَ أَنَا عَجُوزٌ خرجت عن وقت الحمل وَ هذا بَعْلِي زوجي شَيْخاً هرما لا يكون له ولد إِنَّ هذا أن يكون ولد لهرمين لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ.
[73] قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ قدرته رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أي أنتم أهل للرحمة و البركة أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب الحمد مَجِيدٌ ذو مجد و رفعة.
[74] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ الخوف الذي سيطر عليه من جهة عدم أكلهم وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى البشارة بالولد يُجادِلُنا أي أخذ يباحث و يتكلم مع الرسل فِي شأن قَوْمِ لُوطٍ و ذلك لأجل أن يرفع العذاب عنهم.
[75] إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ كثير الدعاء مُنِيبٌ يرجع إلى الله في أموره.
[76] قالت الملائكة: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بعذابهم وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مدفوع عنهم.
[77] وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا الملائكة من عند إبراهيم عليه السّلام لُوطاً إلى لوط عليه السّلام لأجل هلاك قومه سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ساءه مجيئهم ذَرْعاً أي خلقا، بأن ضاقت نفسه عنهم وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد لأن الملائكة كانوا على شكل أولاد جميلين فخاف أن يطمع فيهم قومه.
[78] وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ يسرعون إِلَيْهِ إلى جانب لوط عليه السّلام لأخذ ضيوفه وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ اللواط و لأجله جاءوا إلى الضيوف قالَ لوط عليه السّلام يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي تزوجوهن عوض الضيوف هُنَّ أَطْهَرُ أنظف من الذكور لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ لا تفضحوني فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يمنعكم عن المنكر.
[79] قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ حاجة وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ من إتيان الذكور.
[80] قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً منعة لدفعكم عن ضيفي أَوْ آوِي أي أنضم إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي إلى عشيرة تمنعكم عن المنكر، و جواب لو محذوف، أي لمنعتكم.
[81] قالُوا الضيوف: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ملائكته لَنْ يَصِلُوا القوم إِلَيْكَ بسوء فلا تهتم فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ سر مع عائلتك فرارا من القرية بِقِطْعٍ بظلمة مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ لا ينظر أحد منكم إلى ورائه لئلا يهوله منظر العذاب إِلَّا امْرَأَتَكَ فإنها كانت كافرة فلا تأخذها معك إِنَّهُ أي الشأن مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ من العذاب إِنَّ مَوْعِدَهُمُ وقت عذابهم الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ لبيان قرب عذابهم.
تبيين القرآن، ص: 243
[82] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بعذاب أهل القرية جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها بأن قلبناها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ من الطين اليابسة مَنْضُودٍ نضّد و تتابع بعضه إثر بعض.
[83] مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب عِنْدَ رَبِّكَ أي بعلائمه لدى الله وَ ما هِيَ الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ ككفار مكة بِبَعِيدٍ و هذا تهديد لكل ظالم.
[84] وَ أرسلنا إِلى قبيلة مَدْيَنَ أَخاهُمْ في القبيلة شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ حيث كانوا يطففون الكيل و الوزن إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ بسعة فلا تحتاجون إلى البخس وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يحيط بكم فلا ينجو منكم أحد.
[85] وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل، نهاهم عن البخس ثم أمرهم بالوفاء وَ لا تَبْخَسُوا لا تنقصوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ التي يشترونها وَ لا تَعْثَوْا العثو: السعي للفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
[86] بَقِيَّتُ اللَّهِ ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد إتمام الكيل و الوزن خَيْرٌ لَكُمْ من البخس إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم و إنما أنا نذير.
[87] قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، و الاستفهام للاستهزاء أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا من البخس إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قالوا له ذلك على وجه الاستهزاء.
[88] قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة مِنْ قبل رَبِّي بالتوحيد وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً حلالا، تعريض لهم بأن رزقهم حرام لأنه من التطفيف، و جواب (إن) محذوف، أي فهل أعدل بعد ذلك عن عبادته و عن رزقه الحلال وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ و أقصد إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ فارتكبه إِنْ ما أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ إصلاح عقيدتكم و عملكم مَا اسْتَطَعْتُ من الإصلاح وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في المعاد.
تبيين القرآن، ص: 244
[89] وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يسبّب لكم شِقاقِي خلافي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الصيحة وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فاعتبروا بهم كيف عذبوا، و المعنى أنكم حيث تريدون مخالفة أقوالي تقعون في العذاب كأولئك الأقوام، فارحموا أنفسكم.
[90] وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ليغفر ذنبكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا إليه بالأعمال الصالحة إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ محب للمتقين.
[91] قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ ما نفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ كالتوحيد و حرمة البخس وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا شأن لك وَ لَوْ لا رَهْطُكَ عشيرتك و حرمتهم لَرَجَمْناكَ بالحجارة وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ حتى تمنع عزتك عن الرجم.
[92] قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ حتى تتركون رجمي لأجلهم لا لله وَ اتَّخَذْتُمُوهُ أي الله وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أي وراء ظهركم إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ علما و قدرة فيجازيكم عليه.
[93] وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ حالتكم التي أنتم عليها إِنِّي عامِلٌ على مكانتي، أي كل يعمل عمله حتى نرى النتائج سَوْفَ تَعْلَمُونَ أيّنا المخطئ مَنْ منا و منكم يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يفضحه وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ أنا في توحيدي، أم أنتم في شرككم وَ ارْتَقِبُوا انتظروا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ منتظر لنرى لمن العاقبة.
[94] وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ صاح بهم جبرئيل عليه السّلام فأهلكهم فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ميتين على وجوههم.
[95] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأنهم لم يقيموا في تلك الديار، حيث انقطعت آثارهم أَلا بُعْداً عن الرحمة و النجاة لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ لتشابه عذابهما.
[96] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا دلائلنا وَ سُلْطانٍ حجة معجزة مُبِينٍ واضح.
[97] إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أشراف قومه فَاتَّبَعُوا الملأ أَمْرَ فِرْعَوْنَ بالكفر وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ بل هو غيّ و ضلال.
تبيين القرآن، ص: 245
[98] يَقْدُمُ يتقدم فرعون قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ هو الماء الذي يورد، فشبه به النار الْمَوْرُودُ أي بئس المورد الذي وردوه.
[99] وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لعنوا في الدنيا و الآخرة بِئْسَ اللعن الرِّفْدُ العطاء الْمَرْفُودُ الذي يعطونه.
[100] ذلِكَ النبأ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أخبار البلاد نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها من تلك القرى قائِمٌ معمّر وَ منها حَصِيدٌ خراب لم يعمّر.
[101] وَ ما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكهم وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث كفروا فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ لم تنفعهم لإنقاذهم من العذاب الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي و لو قليلا لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ عذابه وَ ما زادُوهُمْ الآلهة غَيْرَ تَتْبِيبٍ أي الخسران لأن عبادة الأصنام زادتهم عذابا.
[102] وَ كَذلِكَ مثل أخذ هؤلاء أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى عذّب أهلها وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ مؤلم شَدِيدٌ الألم.
[103] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي قصصنا عليك لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أما من لم يعتقد بالآخرة فهو يلهو و لا يعتبر بالآيات ذلِكَ يوم القيامة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ للحساب وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهده الناس و الملائكة و الجن.
[104] وَ ما نُؤَخِّرُهُ أي لا نؤخر يوم القيامة إِلَّا لِأَجَلٍ وقت مَعْدُودٍ قد عد و حوسب.
[105] يَوْمَ يَأْتِ الحساب و الجزاء لا تَكَلَّمُ لا تتكلم نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ بإذن الله فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ بسوء عمله وَ منهم سَعِيدٌ بحسن عمله.
[106] فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ إخراج النّفس بصوت وَ شَهِيقٌ إدخال النّفس بصوت، و فيها دلالة على شدة كرب الإنسان.
[107] خالِدِينَ فِيها في النار ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أي جهتا العلو و السفل إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ممن يخرجهم عن العذاب إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لا مانع منه.
[108] وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من أول الوقت، و هم الفسّاق الذين يدخلون النار أولا ثم الجنة، أو المراد إن الله قادر على إخراجهم من الجنة، و هذا للتنبيه على قدرته تعالى و إن كان لا يخرجهم من الجنة عَطاءً يعطيهم الجنة عطاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ مقطوع.
تبيين القرآن، ص: 246
[109] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ من الأوثان، لا تشك في أنها باطلة ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ فقد عبد آباؤهم الأصنام و هم يقلدونهم وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ معطوهم نَصِيبَهُمْ حقهم غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي تاما بلا نقص.
[110] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْكِتابَ التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ فبعض آمن و بعض كفر وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ قالها الله سابقا، لمصلحة في ذلك لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الحال بإهلاك المبطل وَ إِنَّهُمْ الكافرين لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من الكتاب مُرِيبٍ موجب للريب، فإن الشك يوجب ترددهم و تحيرهم.
[111] وَ إِنَّ كُلًّا من المصدق و المكذب لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ يعطيهم جزاء أعمالهم إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيهم عليه.
[112] فَاسْتَقِمْ في الإرشاد كَما أُمِرْتَ وَ ليستقم مَنْ تابَ عن الكفر و العصيان مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا لا تتعدوا الحدود إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يرى أعمالكم فيجازيكم عليها.
[113] وَ لا تَرْكَنُوا لا تميلوا أدنى ميل إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أي تأخذكم نار جهنم وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يمنعون العذاب عنكم ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ لا ينصركم أحد.
[114] وَ أَقِمِ الصَّلاةَ أدّها طَرَفَيِ النَّهارِ الصبح و العصر وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أول ساعات الليل القريبة من النهار إِنَّ الْحَسَناتِ كالصلوات الخمس يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ الذي ذكرناه باستقامتك و من معك ذِكْرى موعظة لِلذَّاكِرِينَ الذين يتذكرون الله.
[115] وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فيجازيهم بالحسنى.
[116] فَلَوْ لا أي فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ الأمم الماضية مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أصحاب بقية من العقل و الإدراك يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ لكن قليلا ممن أنجيناهم من الكفر و العصيان كانوا ينهون وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا ما أنعموا فِيهِ أي فيما أترفوا، و المعنى أنهم اتبعوا الشهوات وَ كانُوا مُجْرِمِينَ عصاة.
[117] وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ منه لها وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ أي و الحال أن أهل القرى يصلحون أحوالهم.
تبيين القرآن، ص: 247
[118] وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً بأن يجبرهم على الإيمان وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الأديان.
[119] إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بأن لطف به لطفا خاصا فاهتدى وَ لِذلِكَ للرحمة خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ثبت ما قاله عن علمه السابق لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ الجن وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ من الكفار و العصاة، فتملأ النار من هاتين الطائفتين.
[120] وَ كُلًّا من كل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ نخبرك مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ قلبك، فإن قصص صبر الأنبياء السابقين عليهم السّلام أمام أذى الكفار يوجب تقوية قلب المصلح أمام ما يلاقيه من الصعوبات وَ جاءَكَ فِي هذِهِ السورة، أو القصص الْحَقُّ فإنها ليست قصصا باطلة وَ مَوْعِظَةٌ تعظ الجاهلين بها وَ ذِكْرى تذكير لِلْمُؤْمِنِينَ.
[121] وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ حالتكم إِنَّا عامِلُونَ على حالنا.
[122] وَ انْتَظِرُوا عقوبة كفركم إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ثوابنا.
[123] وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فما غاب عن الحواس فيهما، يعلمه الله تعالى وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فأمر الكفار يرجع إليه لجزائهم فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه كافيك وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ إنه عالم بهم فيجازيهم عليه.
مكية آياتها مائة و إحدى عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الر رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تِلْكَ آيات هذه السور آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الواضح، لا غموض فيه.
[2] إِنَّا أَنْزَلْناهُ أنزلنا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغة العرب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تفهمونه فتؤمنوا به.
[3] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا بإيحائنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ أي هذه السورة وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ الذين لا يعلمون قصة يوسف عليه السّلام.
[4] إِذْ بدل (أحسن) قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فقد رآهم يوسف عليه السّلام قد سجدوا له.
تبيين القرآن، ص: 248
[5] قالَ يعقوب عليه السّلام: يا بُنَيَّ تصغير ابن لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ لا تخبرهم بمنامك فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً فيحتالوا للخلاص منك، فإن يعقوب علم أن الرؤيا تدل على عظمة يوسف عليه السّلام مما يثير حقد إخوانه عليه إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر، و من عادته الإفساد بين الإخوة.
[6] وَ كَذلِكَ هكذا يَجْتَبِيكَ يختارك يا يوسف رَبُّكَ للنبوة و الملوكية وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تعبير الرؤيا وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعطائك جميع النعم وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ سائر أولاده لأن من بينهم ينبغ مثل يوسف عليه السّلام و يكون أولادهم ملوكا و أنبياء كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ حيث جعلهما نبيين إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يصلح للرسالة حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها.
[7] لَقَدْ كانَ فِي قصة يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ دلائل قدرة الله لِلسَّائِلِينَ لمن سأل عن قصتهم.
[8] إِذْ قالُوا الإخوة: لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ من أمه و هو بنيامين أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ الحال نَحْنُ عُصْبَةٌ جماعة أقوياء فلما ذا يحبه أبونا أكثر منا إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح في تفضيله يوسف علينا.
[9] قال بعضهم لبعض: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً بعيدة عن عين أبينا يَخْلُ أي ليبقى لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ خاليا لكم بلا مشاركة يوسف وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد قتله أو طرحه قَوْماً صالِحِينَ تتوبون من هذه الجريمة.
[10] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أحد الإخوة: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قعر البئر حتى يغيب عن الأنظار يَلْتَقِطْهُ يأخذه بَعْضُ السَّيَّارَةِ الذين يسيرون أي المسافرين إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إن أردتم فعل شي ء بالنسبة إلى يوسف.
[11] و لما تمت المؤامرة جاءوا إلى أبيهم قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ لم تخاف منا عليه وَ إِنَّا لَهُ ليوسف لَناصِحُونَ قائمون بمصالحه.
[12] أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء يَرْتَعْ يتنعم و يأكل من الرتعة بمعنى الخصب وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه.
[13] قالَ يعقوب عليه السّلام: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ فإني لا أتمكن من مفارقته وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ فإن الأرض كانت مذئبة وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ بأن تغفلوا عنه فيأكله الذئب.
[14] قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ الحال نَحْنُ عُصْبَةٌ جماعة أقوياء إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ عجزة ضعفاء.
تبيين القرآن، ص: 249
[15] فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا عزموا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قعر البئر، و جواب (لما) محذوف أي فعلوا ما أرادوه وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ إلى يوسف عليه السّلام لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا لتخبرنهم بهذه المؤامرة بعد أن تصير ملكا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ لا يعلمون ما أوحينا إليه، أو لا يعرفونه حينذاك.
[16] وَ جاؤُ أي الإخوة أَباهُمْ عِشاءً أول ظلمة الليل يَبْكُونَ يظهرون البكاء.
[17] قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ نتسابق في العدو و الركض وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا رحلنا ليحفظه فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ مصدق لَنا لسوء ظنك بنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ.
[18] وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ لطخوا قميص يوسف عليه السّلام بدم و جاءوا به إلى أبيهم و (دم كذب) أي ليس دم يوسف عليه السّلام قالَ بَلْ سَوَّلَتْ زيّنت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا جزع فيه وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى دفع ما تَصِفُونَ من ابتلاء يوسف عليه السّلام.
[19] وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ قافلة من المسافرين فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ من يرد الماء للاستقاء فَأَدْلى أرسل في البئر دَلْوَهُ فتعلق بها يوسف عليه السّلام قالَ المستقي لما رأى يوسف عليه السّلام: يا قوم بُشْرى البشارة هذا غُلامٌ ولد وَ أَسَرُّوهُ أي أخفى الإخوة يوسف قائلين هذه بِضاعَةً أي عبد آبق لنا، فإن الإخوة جاءوا ليروا مصير يوسف عليه السّلام فرأوا أن القوم استخرجوه من البئر وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ فلم يخف عليه ما فعله الإخوة.
[20] وَ شَرَوْهُ باعه الإخوة من القافلة بِثَمَنٍ بَخْسٍ قليل دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ عبارة أخرى عن القلة وَ كانُوا فِيهِ في يوسف عليه السّلام مِنَ الزَّاهِدِينَ زهد خلاف رغب لأن الإخوة كانوا يريدون التخلص منه.
[21] وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ أهل مِصْرَ المعروفة لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ أي هيئي له محلا كريما عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بأن نبيعه فنربح عليه أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً مكان الولد وَ كَذلِكَ كما أخرجناه من البئر مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أرض مصر حيث عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ عطف على محذوف أي مكنا له ليعدل و ليفسر للناس الرؤيا فيظهر مقامه وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي على ما يريده وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ إن الله غالب على أمره.
[22] وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ منتهى اشتداد جسمه آتَيْناهُ أعطيناه الحكم بين الناس حُكْماً وَ عِلْماً من قبيل علوم الأنبياء عليهم السّلام وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ كما جزينا يوسف عليه السّلام.
تبيين القرآن، ص: 250
[23] وَ راوَدَتْهُ أي طلبت المرأة المواقعة من يوسف عليه السّلام الَّتِي هُوَ يوسف عليه السّلام فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ نفس يوسف عليه السّلام كأنها أرادت اغتصاب نفس يوسف عليه السّلام وَ غَلَّقَتِ المرأة الْأَبْوابَ لئلا يفر وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ أي هلمّ إلي، و (لك) خطاب قالَ يوسف عليه السّلام مَعاذَ اللَّهِ أعوذ بالله أن أفعل إِنَّهُ إن الله رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ محلي فكيف أعصي من أكرمني إِنَّهُ لا يُفْلِحُ لا يفوز الظَّالِمُونَ الذين يظلمون أنفسهم بالعصيان.
[24] وَ لَقَدْ هَمَّتْ المرأة قصدت بِهِ بيوسف عليه السّلام للمواقعة وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فلو لا أنه عليه السّلام كان معصوما لهمّ بها لكن رؤية يوسف عليه السّلام برهان الله و حجته منعته عن أن يقصد السوء بها كَذلِكَ أي هكذا أريناه البرهان و عصمناه لِنَصْرِفَ عَنْهُ عن يوسف عليه السّلام السُّوءَ بالخيانة مع زوجة الملك وَ الْفَحْشاءَ بالزنا إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لطاعته.
[25] وَ اسْتَبَقَا الْبابَ تسابقا إلى الباب، يوسف عليه السّلام للهرب و زليخا لتمسكه وَ قَدَّتْ شقت زليخا قَمِيصَهُ ثوب يوسف عليه السّلام مِنْ دُبُرٍ من ورائه وَ أَلْفَيا وجدا يوسف و زليخا سَيِّدَها زوجها لَدَى الْبابِ قالَتْ زليخا مبادرة لأجل رفع التهمة عن نفسها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً استفهام، أي أي شي ء جزاؤه إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ جزاء قصده الخيانة أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ بأن يضرب ضربا مؤلما.
[26] قالَ يوسف عليه السّلام: هِيَ زليخا راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي بأن قصدت السوء وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها أهل المرأة إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ شق مِنْ قُبُلٍ من الأمام فَصَدَقَتْ المرأة وَ هُوَ يوسف عليه السّلام مِنَ الْكاذِبِينَ لأنه علامة أنه قصد المرأة فدفعته بأن أخذت ثوبه لتدفعه فانشق من الأمام.
[27] وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ من خلف فَكَذَبَتْ المرأة وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ لأنه علامة أنه فر يوسف عليه السّلام فجرّت ثوبه لكي تمسكه فانشق من الخلف.
[28] فَلَمَّا رَأى الزوج قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ و أن الحق مع يوسف عليه السّلام قالَ إِنَّهُ إن هذا الصنع مِنْ كَيْدِكُنَّ حيلتكن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ لمهارتهن في الكيد.
[29] ثم قال الزوج: يا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الأمر و اكتمه وَ يا زليخا اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ لأنك الخاطئة إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ المذنبين.
[30] وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ في مصر، لما سمعن بالقصة امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الملك تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ تدعو عبدها ليفجر بها قَدْ شَغَفَها حُبًّا دخل حبه شغاف قلبها أي وسطه إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ من الطريق الصحيح مُبِينٍ واضح.
تبيين القرآن، ص: 251
[31] فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهن، و سمي ذلك مكرا، أنّهن اتخذن هذا الطريق وسيلة لرؤية يوسف عليه السّلام أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ هيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً وسائد يتكئن عليها وَ آتَتْ أعطت كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً لأجل تقشير الفاكهة التي هيأتها لهن وَ قالَتِ زليخا ليوسف عليه السّلام اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ليرينّك فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ عظّمن جماله وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بالسكين عوض الفاكهة، لأنهن فقدن الشعور وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها له عن المثيل، لأن الإنسان إذا رأى شيئا عجيبا تذكّر الله فنزهه حمدا لما أبدع ما هذا الغلام بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ من الملائكة كَرِيمٌ ذو كرامة على الله حتى خلقه بهذا الجمال.
[32] قالَتْ زليخا: فَذلِكُنَّ أي هذا الفتى، و (كنّ) خطاب لهنّ، هو الَّذِي لُمْتُنَّنِي من الملائكة فِيهِ في حبه وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ طلبت منه المواقعة فَاسْتَعْصَمَ فامتنع وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ به لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ الأذلاء.
[33] قالَ يوسف عليه السّلام: يا رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ فإن سائر النساء طمعن فيه أيضا وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ بأن لم تخلصني منهن بالعصمة و الحفظ أَصْبُ أميل إِلَيْهِنَّ ميل الشهوة وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ العصاة فإن العاصي جاهل.
[34] فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ دعاءه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعائه الْعَلِيمُ بحاله.
[35] ثُمَّ بَدا لَهُمْ ظهر للملك و صحبه مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدلائل الدالة على براءة يوسف عليه السّلام لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ إلى مدة، قطعا لألسنة الناس.
[36] وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ مع يوسف عليه السّلام فَتَيانِ شخصان آخران قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أرى نفسي في المنام أَعْصِرُ خَمْراً أي أصنع خمرا وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ يأتي الطير و يأكل من الخبز الذي فوق رأسي نَبِّئْنا أخبرنا يوسف عليه السّلام بِتَأْوِيلِهِ بتعبير الرؤيا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ لتعبير الرؤيا، أو لأهل السجن.
[37] قالَ يوسف عليه السّلام: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ أي أخبركم بتأويل رؤياكم قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما قبل أن يؤتى لكم بالطعام ذلِكُما أي التأويل، و (كما) خطاب مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالوحي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ طريقة قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ و قد قال يوسف عليه السّلام هذا الكلام تمهيدا لدعوة أهل السجن إلى الإيمان.
تبيين القرآن، ص: 252
[38] وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لا يصح لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي نشرك به صنما أو غيره ذلِكَ الإيمان مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ بأن أرسلنا لإرشادهم وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لهذا الفضل فلا يؤمنون.
[39] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أيها الملازمان لي في السجن أَ أَرْبابٌ آلهة مُتَفَرِّقُونَ من خشب و حجر و حيوان خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ الذي يقهر و يغلب، أما أصنامكم فإنها تغلب.
[40] ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ دون الله إِلَّا أَسْماءً لا حقيقة لها، إذ الأصنام ليست آلهة، و إنما سميتموها آلهة سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ من دليل و حجة إِنِ الْحُكْمُ ما الحكم بين الناس حكما تكوينيا و تشريعيا إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ التوحيد الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
[41] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما و هو من رأى أنه يعصر خمرا فيخرج من السجن و يسقي رَبَّهُ الملك خَمْراً كما كان سابقا وَ أَمَّا الْآخَرُ الذي قال رأيت إنني أحمل فوق رأسي خبزا فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ من مخه، فقال الثاني: كذبت في رؤياي:! فقال يوسف عليه السّلام: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي سألتما عن تأويله.
[42] وَ قالَ يوسف عليه السّلام: لِلَّذِي ظَنَّ علم من طريق الإلهام أَنَّهُ ناجٍ ينجو من السجن مِنْهُمَا من صاحبيه، و هو الساقي اذْكُرْنِي اذكر حالي و أني مسجون ظلما عِنْدَ رَبِّكَ الملك فَأَنْساهُ أي أنسى الساقي الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ذكر يوسف عليه السّلام عند الملك فَلَبِثَ مكث يوسف عليه السّلام فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ قيل كانت سبع سنوات.
[43] وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى في المنام سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ جمع سمين مقابل الهزيل يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ بقرات عِجافٌ جمع عجيف أي الهزيل، فالهزيل كان أكل السمين وَ رأيت سَبْعَ سُنْبُلاتٍ جمع سنبلة: العود الذي فيه حبات الحنطة خُضْرٍ خضراء وَ سبع سنبلات أُخَرَ يابِساتٍ قد التوت على الخضر و غلبت عليها يا أَيُّهَا الْمَلَأُ الأشراف أَفْتُونِي أخبروني عن تأويل فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ.
تبيين القرآن، ص: 253
[44] قالُوا أي الملأ: أَضْغاثُ أَحْلامٍ جمع حلم بمعنى الرؤيا، و أضغاث بمعنى أخلاط، و المراد أحلام باطلة وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ التي هذه صفتها بِعالِمِينَ.
[45] وَ قالَ الساقي الَّذِي نَجا مِنْهُما من صاحبي السجن وَ ادَّكَرَ تذكر أمر يوسف عليه السّلام بَعْدَ أُمَّةٍ مدة طويلة من الزمان: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ أرسلوني إلى من يعلم التأويل، فأجازه الملك أن يذهب فجاء إلى السجن و قال:
[46] يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ كثير الصدق أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ أعود إِلَى النَّاسِ الملك و حاشيته فأخبرهم لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويل الرؤيا.
[47] قالَ يوسف عليه السّلام: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي دائبين مستمرين، و هذا تأويل السمان و الخضر فَما حَصَدْتُمْ من الحاصل فَذَرُوهُ دعوه فِي سُنْبُلِهِ بدون الدياس إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك السنة.
[48] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ مجدبات يَأْكُلْنَ أي تلك السنوات المجدبات، و المراد أهلها ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ لأجلهن إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ تحفظونه لبذور الزراعة في العام المقبل و هذا تفسير عجاف و يابسات.
[49] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ السبع الشداد عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ يمطرون من السماء وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ الثمار التي تعصر في الخصب كالزيتون و العنب و غيرهما و ذلك لكثرة الفاكهة.
[50] وَ قالَ الْمَلِكُ بعد ما جاءه الرسول بالتعبير من عند يوسف عليه السّلام ائْتُونِي بِهِ بيوسف عليه السّلام فَلَمَّا جاءَهُ أي جاء إلى يوسف عليه السّلام الرَّسُولُ رسول الملك ليخرجه من السجن قالَ يوسف عليه السّلام: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ سيدك الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ أي ما كان من شأنهن معي اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي الملك بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ لأنه علم أن الذنب لم يكن ذنب يوسف عليه السّلام و إنما ذنب زليخا، و أراد يوسف عليه السّلام بهذا السؤال أن يظهر أمام الملأ براءة نفسه حتى يخرج من السجن استحقاقا لا تفضلا.
[51] قالَ الملك: ما خَطْبُكُنَّ شأنكنّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ هل بدا منه خيانة أم لا قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ الله منزه و هذا كناية عن قدرته على خلق عفيف مثله عليه السّلام ما عَلِمْنا عَلَيْهِ على يوسف عليه السّلام مِنْ سُوءٍ خيانة قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ ظهر الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله إنه لم يقصد سوء.
[52] فقال يوسف عليه السّلام لما أخبره الرسول بمقالة النساء: ذلِكَ الذي أردت استظهاره من براءتي لِيَعْلَمَ الملك أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي ما خنته في زوجته في حال كان الملك غائبا وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ فإنه تعالى لا يوصل كيد الخائن و مكره لأجل الخيانة إلى عاقبة محمودة.
تبيين القرآن، ص: 254
[53] وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي فإني لا أريد إظهار نفسي بمظهر البري ء، بل أريد بيان الحقيقة إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ كثيرة الأمر بِالسُّوءِ بالأعمال السيئة إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي فعصمها عن السوء إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[54] وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي بيوسف عليه السّلام أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أجعله خالصا نفسي فَلَمَّا كَلَّمَهُ كلم الملك يوسف عليه السّلام و عرف فضله و عقله قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو قدرة و جاه أَمِينٌ مأمون على أمرنا.
[55] قالَ يوسف عليه السّلام للملك: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ المال في الْأَرْضِ أرض مصر إِنِّي حَفِيظٌ أحفظها عَلِيمٌ عالم بأمرها و كيفية الإدارة.
[56] وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أرض مصر يَتَبَوَّأُ ينزل مِنْها من مصر حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ممن توفرت فيهم الأهلية وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل نوفيهم أجورهم.
[57] وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ من أجر الدنيا لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ الشرك و المعاصي.
[58] وَ لما صار القحط أخذ يوسف عليه السّلام يوزع الطعام على أهل البلاد ف جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ من بلدهم لأجل شراء الطعام فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ يوسف عليه السّلام وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي لم يعرفوه.
[59] وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ بأن أوقر لكل واحد منهم كيل بعير قالَ يوسف عليه السّلام: ائْتُونِي في المرة الثانية بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ لا من أمكم و هو بنيامين أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أتم الكيل لكم وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ للضيف، أحسن ضيافتكم.
[60] فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ بأخيكم فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي لا أعطيكم الطعام وَ لا تَقْرَبُونِ أي لا تقربوا مني و لا تدخلوا عليّ.
[61] قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنطلبه من الأب بكل جهدنا بتكرار طلبنا منه وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ذلك.
[62] وَ قالَ يوسف عليه السّلام: لِفِتْيانِهِ غلمانه الذين يكيلون اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ التي اشتروا بها الطعام فِي رِحالِهِمْ أوعيتهم تفضلا و خوفا من أن لا يكون عند يعقوب عليه السّلام ثمنا آخر لطعام يريدون شراءه جديدا لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها يعرفون الفضيلة ليوسف عليه السّلام في ردها عليهم إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ رجعوا إليهم و فتحوا المتاع لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع.
[63] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ يمنع منا العطاء إن لم نذهب ببنيامين فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ نأخذ الكيل وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه.
تبيين القرآن، ص: 255
[64] قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف عليه السّلام مِنْ قَبْلُ و قد قلتم إنا له لحافظون فلم تفوا، فلا آمنكم عليه فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً من حفظكم وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
[65] وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ أوعية طعامهم وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ ثمن الطعام رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي أي شي ء نطلب من إحسان الملك زيادة على هذا حيث رد الثمن إلينا هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ إذا أرسلت بنيامين معنا نَمِيرُ أَهْلَنا أي نجلب إليهم الميرة و هي الطعام وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ لأنه كان يعطي لكل إنسان مقدار حمل بعير ذلِكَ الذي جئنا به كَيْلٌ يَسِيرٌ قليل لا يكفينا فإذا جاء الأخ زادنا كيلا.
[66] قالَ يعقوب عليه السّلام: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ تعطوني مَوْثِقاً عهدا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ بأن ترجعوا بنيامين إليّ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ تغلبوا حتى لا تقدروا على إرجاعه بدون اختياركم فَلَمَّا آتَوْهُ أعطى الأخوة أباهم مَوْثِقَهُمْ عهدهم قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ شاهد مطلع.
[67] وَ قالَ يعقوب عليه السّلام: يا بَنِيَّ يا أولادي لا تَدْخُلُوا مصر مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ حتى لا يصيبكم الناس بالعين وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فإني لا أتمكن من رد قضاء الله إذا شاء شيئا، و إنما على المرء التدبير في أمره إِنِ ما الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فهو قادر على أن يحفظكم عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ يفوضوا أمرهم إليه.
[68] وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ من أبواب مختلفة ما كانَ يُغْنِي ما كان يفيد رأي يعقوب عليه السّلام عَنْهُمْ عن الأولاد مِنْ قضاء اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فإن حكم الله كان جاريا فيهم، كما قال يعقوب، و لذا بقي بنيامين في مصر حيث أراد الله ذلك إِلَّا لكن حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها شفقة في نفس يعقوب عليه السّلام عليهم أظهرها لهم وَ إِنَّهُ يعقوب عليه السّلام لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ لتعليمنا إياه، و لذا قال (و ما أغني ...) وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن القدر يجري و لا ينفع عنه الحذر.
[69] وَ لَمَّا دَخَلُوا الأخوة عَلى يُوسُفَ آوى ضم يوسف عليه السّلام إِلَيْهِ إلى نفسه أَخاهُ بنيامين قالَ يوسف عليه السّلام له: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ من الأبوين فَلا تَبْتَئِسْ لا تحزن بِما كانُوا الأخوة يَعْمَلُونَ في حقنا حيث اتهموا بنيامين بالسرقة و ألقوا يوسف عليه السّلام في الجب.
تبيين القرآن، ص: 256
[70] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ يوسف عليه السّلام بِجَهازِهِمْ الطعام الذي جاءوا لأجله جَعَلَ السِّقايَةَ المشربة التي كانت صاعا للكيل فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أعلم المتولي لأمر السقاية أَيَّتُهَا الْعِيرُ القافلة إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ و لم يكن ذلك بأمر يوسف عليه السّلام و إنما قال الرجل ذلك لمّا فقد السقاية.
[71] قالُوا أصحاب العير: وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ على أصحاب يوسف عليه السّلام و قولوا لهم: ما ذا تَفْقِدُونَ ماذا فقدتموه حتى تتهمونا بالسرقة.
[72] قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ صاعه وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ بالصواع جائزة حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام وَ أَنَا بِهِ بإعطاء الحمل زَعِيمٌ كفيل.
[73] قالُوا تَاللَّهِ أي و الله لَقَدْ عَلِمْتُمْ لما رأيتم من حسن معاشرتنا و أمانتنا في مدة ضيافتكم لنا ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ بالسرقة وَ ما كُنَّا سارِقِينَ مدة عمرنا.
[74] قالُوا أصحاب الملك للأخوة: فَما جَزاؤُهُ جزاء السرق إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ بأن ظهر الصواع لديكم.
[75] قالُوا الأخوة: جَزاؤُهُ جزاء السرق، استرقاق مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فإن شريعة يعقوب عليه السّلام كانت على استرقاق المسروق منه للسارق، ف (جزاؤه) مبتدأ و (من) خبره فَهُوَ السارق جَزاؤُهُ جزاء السرق، أي السرقة كَذلِكَ هكذا نَجْزِي الظَّالِمِينَ في السرقة.
[76] فَبَدَأَ المؤذن بفتش أوعيتهم و رحالهم قَبْلَ فتش وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أخرج الصواع مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ هكذا كِدْنا هيأنا لِيُوسُفَ أخذ أخيه بنيامين، و الكيد عبارة عن جعل الصواع في رحل الأخ أولا، ثم أنه طلب من الأخوة تقرير جزاء السارق لأنه ما كانَ لِيَأْخُذَ يوسف عليه السّلام أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إذ كان قانون مصر في أمر السارق أن يضرب و يغرم ضعف السرقة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي لكن بمشيئة الله أخذ الأخ بما ظهر حسب شريعة يعقوب عليه السّلام نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ كما رفعنا درجة يوسف عليه السّلام وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ حتى ينتهي إلى الله فهو أعلم من الجميع، و لعل هذا الكيد كان لأجل امتحان يعقوب عليه السّلام، و ليس فيه كذب من يوسف عليه السّلام.
[77] قالُوا الأخوة: إِنْ يَسْرِقْ بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ أي يوسف عليه السّلام مِنْ قَبْلُ فإن عمة يوسف عليه السّلام كانت تحب يوسف عليه السّلام و أراد أبوه انتزاعه منها فشدت منطقة أبيها على وسطه تحت ثيابه و بعثت به إلى أبيه و قالت سرقت المنطقة فوجدت عليه و كان الحكم أن يدفع السارق إلى المسروق منه فدفع يوسف عليه السّلام إليها فَأَسَرَّها أخفى هذه النسبة بالسرقة يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لم يظهرها و لم يحك لَهُمْ حقيقة قصة العمة قالَ يوسف عليه السّلام في نفسه: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً منزلة فيما فعلتم من أمر يوسف عليه السّلام وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ من سرقة يوسف عليه السّلام، فإنه يعلم أنه لم يسرق.
[78] قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ و كانوا يعبرون عن الملك بالعزيز إِنَّ لَهُ لبنيامين أَباً شَيْخاً في السن كَبِيراً في القدر فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ عوض بنيامين إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا.
تبيين القرآن، ص: 257
[79] قالَ يوسف عليه السّلام: مَعاذَ اللَّهِ نعوذ بالله معاذا «1» من أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ في مذهبكم لأن دينهم أخذ السارق لا أخذ غيره مكانه.
[80] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ يئسوا من إجابة يوسف عليه السّلام إلى طلبهم خَلَصُوا اعتزلوا ناحية نَجِيًّا يناجي بعضهم بعضا فيما يفعلون قالَ كَبِيرُهُمْ كبير الأخوة أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أن ترجعوا بنيامين إليه وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ و ألم تعلموا تفريطكم قبل هذا في يوسف عليه السّلام فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ لن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الرجوع إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ بالخروج من مصر مع أخي.
[81] فتخلف الأخ الكبير و قال لسائر الأخوة ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ حسب الظاهر وَ ما شَهِدْنا عليه إِلَّا بِما عَلِمْنا من إخراج الصاع من رحله وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثوق بأن نرجعه إليك.
[82] وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها أي مصر بأن تبعث إلى أهلها فتسألهم عن القصة وَ الْعِيرَ أصحاب القافلة الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها جئنا من مصر معها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ في كلامنا.
[83] قالَ يعقوب عليه السّلام: بَلْ سَوَّلَتْ زيّنت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فصنعتموه و ذلك بأن جعلتم الحكم حسب حكم شريعتي لا حكم دين الملك فأمري صبر جَمِيلٌ لا جزع فيه عَسَى اللَّهُ لعل الله أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ بيوسف عليه السّلام و بنيامين و أكبر الأخوة الذي بقي في مصر جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالنا الْحَكِيمُ يصنع حسب الحكمة.
[84] وَ تَوَلَّى أعرض يعقوب عليه السّلام عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى أيها الأسف بمعنى طول الحزن احضر فهذا وقتك عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فإن طول البكاء يوجب غشاوة بيضاء على العين فَهُوَ كَظِيمٌ ممتلئ حزنا.
[85] قالُوا أي الأولاد: تَاللَّهِ قسما بالله تَفْتَؤُا لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مشرفا على الموت أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ بأن تموت.
[86]قالَ
يعقوب عليه السّلام:نَّما أَشْكُوا بَثِّي
أي الهم الذي لا يصبر عليه حتى يبث حُزْنِي إِلَى اللَّهِ
لا إليكم، حتى تلوموني أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
من رحمته ا لا تَعْلَمُونَ
أنتم.
__________________________________________________
(1) عاذ به يعوذ عوذا و عياذا و معاذا: لاذ به و لجأ إليه و اعتصم.
تبيين القرآن، ص: 258
[87] يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا تفحصوا في مصر مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ بنيامين وَ لا تَيْأَسُوا لا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ رحمته و فرجه إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ فإن الكافر لا يعتقد بالله فيقنط.
[88] فَلَمَّا دَخَلُوا بعد أن ذهبوا مرة ثالثة إلى مصر لأجل الطعام عَلَيْهِ على يوسف عليه السّلام قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا شملنا وَ أَهْلَنَا و شمل أهلنا الضُّرُّ الجوع وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ رديئة قليلة فَأَوْفِ أتم لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا تفضل علينا بالزيادة إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.
[89] قالَ يوسف عليه السّلام: هَلْ عَلِمْتُمْ تذكرون ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ حيث كانوا يحتقرون بنيامين و يذلونه إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ فإن عمل القبيح لا يصدر إلا عن جاهل.
[90] قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير لأنهم عرفوه حين ذاك قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قاله عليه السّلام على سبيل التأكيد لكونه يوسف، إذ أنهم كانوا يعرفون الأخ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالسلامة و الكرامة إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ الله وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
[91] قالُوا تَاللَّهِ و الله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ اختارك عَلَيْنا وَ إِنْ مخففة من الثقيلة كُنَّا لَخاطِئِينَ فيما فعلنا بك.
[92] قالَ يوسف عليه السّلام: لا تَثْرِيبَ توبيخ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فإني لا أوبخكم مع قدرتي يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ طلب يوسف عليه السّلام من الله المغفرة لهم وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
[93] اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا و قد كان جي ء به من الجنة و لذا كانت له رائحة طيبة تعرف من مسافات بعيدة فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ يرجع أبي ببركة هذا القميص بَصِيراً بعد أن ابيضت عيناه وَ أْتُونِي إلى مصر بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.
[94] وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ انفصلت القافلة بأن خرجت من مصر قالَ أَبُوهُمْ لمن حضره: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ تنسبوني إلى الفند أي نقصان العقل، أي لو لا التفنيد لصدقتموني.
[95] قالُوا الحاضرون: تَاللَّهِ و الله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ ذهابك عن الصواب الْقَدِيمِ من إكثار ذكر يوسف عليه السّلام عبثا.
تبيين القرآن، ص: 259
[96] فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ المبشر بوجود يوسف عليه السّلام أَلْقاهُ القميص عَلى وَجْهِهِ وجه يعقوب عليه السّلام فَارْتَدَّ رجع بَصِيراً بعد ابيضاض العين قالَ يعقوب عليه السّلام: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من رحمته و من حياة يوسف عليه السّلام.
[97] قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا اطلب من الله غفرانها، و فيه دلالة التزامية على طلب غفرانه لهم أيضا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ فيما فعلناه بيوسف عليه السّلام.
[98] قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي يقال إنه عليه السّلام أراد تأخير الاستغفار إلى سحر الجمعة لأنه وقت استجابة الدعاء إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
[99] فَلَمَّا دَخَلُوا العائلة بأجمعهم عَلى يُوسُفَ آوى ضم إِلَيْهِ إلى نفسه، و قد استقبلهم خارج مصر أَبَوَيْهِ وَ قالَ لهم: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من كل مكروه.
[100] وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ معه عَلَى الْعَرْشِ سرير الملك وَ خَرُّوا أي سقط أهله لَهُ ليوسف عليه السّلام سُجَّداً ساجدين، إما لله تعالى احتراما ليوسف عليه السّلام، أو ليوسف عليه السّلام لأنه كان جائزا في ذلك الدين كما قيل، و هكذا قيل في سجدة الملائكة لآدم عليه السّلام، و إنما لا تجوز سجدة العبادة إلا لله تعالى وَ قالَ يوسف عليه السّلام: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ في أيام الصبا قَدْ جَعَلَها جعل الرؤيا رَبِّي حَقًّا صدقا مطابقا للواقع حيث نلت الملك وَ قَدْ أَحْسَنَ ربي بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لعله لم يذكر خروجه من الجب لئلا يستفز الأخوة وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ البادية، فإنهم سكنوا البادية لأجل مواشيهم و زرعهم مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ أفسد الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ في تدبيره لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه الصلاح الْحَكِيمُ يفعل كل شي ء حسب الصلاح.
[101] ثم توجه يوسف عليه السّلام إلى الله شاكرا قائلا: يا رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ بعض السلطة، و هي السلطة على مصر و نواحيها وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تعبير الرؤيا فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما أَنْتَ وَلِيِّي ناصري فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي اقبض روحي حين الموت في حال كوني مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام.
[102] ذلِكَ الذي ذكر من قصة يوسف عليه السّلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الأخبار التي هي غائبة عنك نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا الأخوة أَمْرَهُمْ في إلقاء يوسف عليه السّلام في الجب وَ هُمْ يَمْكُرُونَ يحتالون للخلاص منه.
[103] وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم بِمُؤْمِنِينَ لك و إن أتيت إليهم بأخبار غيبية.
تبيين القرآن، ص: 260
[104] وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على التبليغ مِنْ أَجْرٍ إِنْ ما هُوَ القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ فمن شاء تذكر و من شاء عاند.
[105] وَ كَأَيِّنْ و كم مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ دالة على الله سبحانه يَمُرُّونَ الكفار عَلَيْها على تلك الآيات وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يفكرون فيها ليؤمنوا بالله.
[106] وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ إذ يشركون بالله الأصنام.
[107] أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ عقوبة تغشاهم مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ القيامة بَغْتَةً فجأة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانها إذ لا علامة لها قبل ذلك مباشرة، و الاستفهام للتحذير، أي لا يأمن الكفار من ذلك.
[108] قُلْ هذِهِ الدعوة إلى الإيمان سَبِيلِي طريقتي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى في حال كوني على بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي من المسلمين فليس إيماننا إيمان الجهال و المقلدين وَ سُبْحانَ اللَّهِ أنزهه عن الشركاء وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
[109] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ كما أوحي إليك مِنْ أَهْلِ الْقُرى البلاد، و لم يكونوا ملائكة أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من مكذبي الرسل حتى يخافوا أن يصيبهم كما أصاب المكذبين وَ لَدارُ الْآخِرَةِ الحياة الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك و المعاصي أَ فَلا تَعْقِلُونَ أفلا تستعملون عقولكم لتدركوا هذه الحقائق.
[110] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ يئسوا من إيمان الناس وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا إن قومهم كذبوهم تكذيبا لا إيمان منهم بعد ذلك جاءَهُمْ نَصْرُنا بالتفاف الناس حولهم و نصرتهم على أعدائهم فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ من المؤمنين وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا عاندوا في الكفر.
[111] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ قصة الأنبياء عليهم السّلام و الأمم عِبْرَةٌ اعتبار و تذكرة لِأُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول ما كانَ ما ذكرناه من القرآن حَدِيثاً يُفْتَرى مكذوبا وَ لكِنْ القرآن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فإن القرآن مصدق للكتب السابقة وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إلى الشرح و التفصيل من أمور الدين و الدنيا وَ هُدىً دلالة إلى الرشاد وَ رَحْمَةً نعمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالله و اليوم الآخر، و خصهم لأنهم المنتفعون بالقرآن.
تبيين القرآن، ص: 261
مدنية آياتها ثلاث و أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] المر رمز بين الله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تِلْكَ هذه هي آياتُ الْكِتابِ القرآن وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي القرآن مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ خبر (الذي) وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لتركهم التدبر في القرآن.
[2] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ جمع عمود تَرَوْنَها ترون السماوات مرفوعة بلا عمد، و هذه الآية لبيان الأدلة على وجود الصانع الموجب للتصديق به ثُمَّ اسْتَوى استولى أو توجه بالتدبير عَلَى الْعَرْشِ عرش الملك وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ذللهما لمنافع العباد كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدة معينة قد سميت يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر الكون حسب الصلاح يُفَصِّلُ الْآياتِ ينزلها مشروحة واضحة لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ لأن الكون و الآيات دالة على قدرة الله فيقدر على البعث الذي فيه لقاء الحساب و الجزاء منه تعالى.
[3] وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها لمنافع الناس وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا ثابتات وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها في الأرض زَوْجَيْنِ ضعفين اثْنَيْنِ للتأكيد، ذكرا و أنثى، أو كالحلو و الحامض و الكبير و الصغير و المفيد و الضار يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلبس الليل بظلمته النهار، و ترك العكس للعلم به إِنَّ فِي ذلِكَ الذي سبق لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الكون.
[4] وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ بقاع متلاصقات و لكل قطعة كيفية خاصة كالسبخة و المالحة و الطيبة و ما أشبه وَ جَنَّاتٌ بساتين مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ كالحنطة و الخضروات وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ جمع صنو و هي نخلات أصلها واحد وَ غَيْرُ صِنْوانٍ متفرقة الأصول يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ في الثمر طعما و لونا و شكلا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم.
[5] وَ إِنْ تَعْجَبْ يا رسول الله من تكذيبهم رسالتك فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ فحقيق بأن تعجب أيضا من إنكارهم البعث أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بأن نحيى للمعاد أُولئِكَ المنكرون للبعث هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لأنهم كفروا بقدرة الله على المعاد وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ «1» فِي أَعْناقِهِمْ يوم القيامة وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ.
__________________________________________________
(1) الغل: طوق تشد به اليد إلى العنق.
تبيين القرآن، ص: 262
[6] وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ يطلبون منك العذاب، قبل أن يطلبوا الرحمة، و ذلك استهزاء وَ الحال إنه قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبات أمثالهم من المكذبين فلما ذا لا يعتبرون بها وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ لأنفسهم وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ فكيف لا يطلبون الرحمة و يطلبون العذاب.
[7] وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مثل ناقة صالح عليه السّلام و عصا موسى عليه السّلام مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ لهم فيكفي أن تأتيهم بما تثبت به نبوتك من المعجزات لا بما يقترح هؤلاء وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قسم خاص من الهادي يزود بقسم خاص من المعجزات التي تلائم عصره.
[8] اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى من الولد و البنت، الجميل و القبيح، السعيد و الشقي، إلى غيرها من الأوصاف وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ تنقص وَ ما تَزْدادُ من صغر جثة الجنين و كبرها، كأن الرحم غاضت و لذا صغر الولد، أو ازدادت و لذا كبر وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ لا يتجاوزه صغرا و لا كبرا.
[9] عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما كان محسوسا الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ العالي.
[10] سَواءٌ عند الله و في علمه مِنْكُمْ متعلق بما بعده مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ أظهره وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ مستتر بظلمته وَ سارِبٌ سالك طريقه، من سرب إذا برز بِالنَّهارِ.
[11] لَهُ لكل واحد من أولئك الأربعة مُعَقِّباتٌ ملائكة يتعاقبون في حفظه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أمامه وَ مِنْ خَلْفِهِ ورائه يَحْفَظُونَهُ من المهالك حفظا ناشئا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فإن الله يأمر بذلك إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ فإذا غيروا أحوالهم الحسنة إلى السيئة غير الله ما بهم من الرخاء إلى الشدة، و كذا العكس وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً لأنهم عملوا الآثام فَلا مَرَدَّ لَهُ أي لا يرد ما أراد بهم من سوء كالبلاء وَ ما لَهُمْ لذلك القوم مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ يلي أمورهم.
[12] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من الصواعق و الأمطار المخربة وَ طَمَعاً في الأمطار النافعة وَ يُنْشِئُ يخلق السَّحابَ الثِّقالَ بالمطر.
[13] وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ فإن للرعد تسبيح لله و تنزيه له، لأن كل شي ء دال على الله سبحانه منزه له بِحَمْدِهِ متلبسا بحمده، إذ كل شي ء يدل على صفاته الثبوتية و السلبية وَ يسبح الْمَلائِكَةُ لله مِنْ خِيفَتِهِ من خوف الله وَ يُرْسِلُ الله الصَّواعِقَ جمع صاعقة و هي النار التي تسقط من السحاب فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه وَ هُمْ هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ يخاصمون في وجوده وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ الكيد، فإنه تعالى يكيد لأخذ أعدائه و يعالج الأمر بدقة و خفاء.
تبيين القرآن، ص: 263
[14] لَهُ لله دَعْوَةُ الْحَقِّ كلمة الإخلاص، و هي شهادة أن لا إله إلا الله وَ الَّذِينَ الأصنام يَدْعُونَ التي يدعوها المشركون مِنْ دُونِهِ دون الله لا يَسْتَجِيبُونَ تلك الأصنام لَهُمْ لدعاتها بِشَيْ ءٍ من مطالبهم إِلَّا استجابة كاستجابة باسط كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ يبسط كفه نحو الماء لِيَبْلُغَ فاهُ يطلب بذلك أن يبلغ الماء إلى فيه بانتقاله من مكانه إليه وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ فإن البسط للكف نحو الماء لا يفيد في أخذ الماء، و هذا تشبيه لبسطهم كفهم نحو الأصنام وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ أصنامهم لحوائجهم إِلَّا فِي ضَلالٍ عن الإجابة.
[15] وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً فإن الأشياء خاضعة لله سواء أرادت كالإنسان المؤمن، أم لم ترد كالإنسان الكافر فإنه في قبضة الله و خاضع لإرادته وَ يسجد ظِلالُهُمْ فإن ظل الإنسان خاضع لله تعالى بِالْغُدُوِّ صباحا وَ الْآصالِ أي عصرا جمع أصيل «1»، و كأنه أريد التشبيه، فكما أن ظل الإنسان خاضع لمقابل اتجاه الشمس و ليس تحت إرادته كذلك ذاته خاضعة لله تعالى في الشؤون الكونية.
[16] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ فإنه الجواب الطبيعي لهذا السؤال قُلْ توبيخا لهم:
أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ دون الله أَوْلِياءَ أصنام، اتخذتموها وليا لأنفسكم لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا فإن الصنم لا ينفع الإنسان و لا يضره قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ فالمشرك كالأعمى و المؤمن كالبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ فالأول شبيه بالشرك و الثاني شبيه بالإيمان أَمْ بل جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ من الأصنام فهل خَلَقُوا الأصنام كَخَلْقِهِ كخلق الله فَتَشابَهَ الْخَلْقُ خلق الله و خلق الشركاء عَلَيْهِمْ و لذا اتخذوها شركاء حيث أنها فعلت كفعل الله قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فلا شي ء مخلوق للأصنام وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ الذي يقهر كل شي ء و كل شي ء خاضع له.
[17] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَسالَتْ أي جرت أَوْدِيَةٌ جمع وادي و هو مسيل الماء بِقَدَرِها كل واد أخذ من الماء بقدر سعته فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ الجاري حمل زَبَداً هو الأبيض المنتفخ على وجه الماء رابِياً طافيا عاليا فوق الماء وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ أي ما يوضع في النار من الفلزات كالذهب و الفضة، و يوقد عليه بإلقاء الحطب فوقه لتزييد اشتعال النار، يذاب ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أي طلب الزينة، كالحلي أَوْ مَتاعٍ أي طلب المتاع كصنع الأواني و شبهه زَبَدٌ مِثْلُهُ أي مثل زبد الماء كَذلِكَ هكذا يَضْرِبُ اللَّهُ مثل الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فالحق كالماء و الفلز، و الباطل كالزبد فوق الماء و فوق الفلز حال السيلان و حال الإذابة، و لعل التمثيل بهذين لبيان أن الحق حياة كالماء و زينة كالفلز فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً باطلا يرمى به وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من
الماء و الفلز فَيَمْكُثُ يبقى دهرا فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ليتفكر الناس.
[18] لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا أجابوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى الصفة الحسنة وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الثروة جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ و هذا من باب المثال، و إلا المراد كلما يتصور من الثروة لَافْتَدَوْا بِهِ جعلوه فدية لخلاص أنفسهم و لكن بلا فائدة أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ الحساب السيئ وَ مَأْواهُمْ محلهم جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ جهنم الْمِهادُ الفراش.
__________________________________________________
(1) و سمي العصر أصيلا، كأنه أصل الليل الذي ينشأ منه.
تبيين القرآن، ص: 264
[19] أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أي القرآن الذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فيستجيب كَمَنْ هُوَ أَعْمى القلب لا يستبصر فلا يستجيب إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
[20] الَّذِينَ صفة (من يعلم) يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الذي أخذه عليهم بالإيمان وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ كما ينقضه الكفار، و هذه عبارة أخرى عن الوفاء بالعهد.
[21] وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فإن الله أمر بوصل الرسل و المؤمنين و الأقرباء وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فلا يخالفوه وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ أي الحساب السيئ، و المراد به في الحساب.
[22] وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ طلب رضى وَجْهِ رَبِّهِمْ أي ذاته وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً أي في الخفاء و في العلانية، أي في كل حال وَ يَدْرَؤُنَ يدفعون بواسطة الحسنة التي يأتون بها السَّيِّئَةَ فإن الحسنات يذهبن السيئات أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ العاقبة الحميدة في الدار الآخرة.
[23] جَنَّاتُ بساتين عَدْنٍ إقامة يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ أولادهم فإن الصالح من الجميع يجتمعون في الجنة فينعمون باجتماعهم وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ أبواب الجنة، أو أبواب دورهم.
[24] قائلين لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ بسبب صبركم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
[25] وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ما وثقوه وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أي ما أمر بوصله وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالكفر و العصيان أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ البعد من رحمة الله وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ الدار السيئة و هي جهنم.
[26] اللَّهُ يَبْسُطُ أي يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ أي يضيق وَ فَرِحُوا الكفار بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ بالنسبة إلى الآخرة إِلَّا مَتاعٌ قليل فاللازم أن يعمل الإنسان للآخرة.
[27- 28] وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ آية نقترحها قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ممن أعرض عن الحق، إذ المعجزة الكافية قد جاء بها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاقتراح الآيات ليس إلا عنادا و المعاند يتركه الله حتى يضل وَ يَهْدِي إِلَيْهِ إلى نفسه مَنْ أَنابَ رجع بالطاعة. الَّذِينَ بدل (من أناب) آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ فإن تذكر الله يوجب طمأنينة القلب للاعتماد عليه سبحانه في السراء و الضراء أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
تبيين القرآن، ص: 265
[29] الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى الصفة الطيبة لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ المرجع الحسن.
[30] كَذلِكَ هكذا بهذه الآيات و الأدلة أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أرسلت الرسل إليهم فليس إرسالك مستغربا لِتَتْلُوَا تقرأ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ بكثير الرحمة التي أحاطت رحمته بهم قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ اتكلت و اعتمدت وَ إِلَيْهِ مَتابِ مرجعي و مرجعكم.
[31] وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً أي إن كان هناك في الوجود قرآنا بهذه الصفات لكان هذا القرآن سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أزيلت عن أماكنها لعظمة ذلك القرآن أَوْ قُطِّعَتْ تشققت بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بأن أحيوا بسبب القرآن، أو تمكن الأحياء من تكليمهم بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً فلو شاء أتى بما اقترحوه من الآيات لكنه أنزل هذا القرآن الذي هو أعظم من ذلك كله أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا عن الكفار المعاندين، استفهام إنكار، أي لا بد و أن ييأسوا عن أولئك بعد عنادهم أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً بأن يجبرهم على الهداية، و المعنى ايئسوا أيها المؤمنون عن هداية المعاندين لأنا أنزلنا لهم قرآنا أعظم من كل شي ء فلم يؤمنوا بل أخذوا يقترحون نزول آيات أخر. وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر و المعاصي قارِعَةٌ داهية تقرعهم و تنزل بهم من القحط و المرض و ما أشبه أَوْ تَحُلُّ القارعة قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيخافون منها فإن الخوف أيضا عذاب حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ بالغلبة عليهم أو عذابهم إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ الذي وعد رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنصر المؤمنين و هلاك الكافرين.
[32] وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزأ هؤلاء بك فَأَمْلَيْتُ أمهلت لِلَّذِينَ كَفَرُوا و ذلك لتكثير عصيانهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أهلكتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ عقابي لهم و هكذا آخذ المستهزئين بك.
[33] أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ بالعلم و التدبير عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من خير و شر أي كمن ليس كذلك من أصنامكم وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ استفهام إنكار أي كيف يجعلون شريكا لله قُلْ سَمُّوهُمْ أي سموا تلك الشركاء حتى يتبين أنهم ليسوا شركاء أَمْ بل تُنَبِّئُونَهُ تخبرون الله بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أي بشركاء لا يعلم الله أنهم شركاء له في الأرض أَمْ بل تسمونها شركاء بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بقول ظاهري فقط لا حقيقة له بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ شركهم. و سمّي مكرا لأنهم احتالوا بجعل الآلهة لأجل معاشهم و سيادتهم وَ صُدُّوا منعوا، و المانع لهم الشيطان عَنِ السَّبِيلِ سبيل الله وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يتركه لعناده حتى يضل فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه لأن الهداية خاصة بالله.
[34] لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل و الأسر و المصائب وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أشد وَ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
من عذابه مِنْ واقٍ
حافظ يحفظهم.
تبيين القرآن، ص: 266
[35] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الذين اتقوا الكفر و المعاصي، و (مثل) مبتدأ خبره محذوف، و هو (جنة) تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ أُكُلُها أي ثمرها دائِمٌ لا ينقطع، و ليس مثل ثمار الدنيا لها فصل خاص وَ ظِلُّها دائم فلا يرون فيها شمسا تِلْكَ الجنة الموصوفة عُقْبَى عاقبة الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ.
[36] وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ممن أسلم منهم يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَ مِنَ الْأَحْزابِ من أهل الكتاب الذين تحزبوا على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالعداوة مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ما يخالف شرائعهم و ما يخالف تحريفاتهم قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ فلا أكون كأهل الكتاب حيث أشركوا بالله إِلَيْهِ إلى توحيده أَدْعُوا الناس وَ إِلَيْهِ مَآبِ مرجع الناس فهو المبدئ المعيد.
[37] وَ كَذلِكَ هكذا أَنْزَلْناهُ أنزلنا القرآن حُكْماً للحكم بين الناس عَرَبِيًّا بلسان العرب وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ميول أهل الكتاب في عقيدتهم و شريعتهم بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بالإسلام ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ نصير وَ لا واقٍ يحفظك من العذاب.
[38] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً نساء وَ ذُرِّيَّةً أولادا و هذا رد لما زعمه بعضهم من أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس برسول و إلا لم تكن له زوج و أولاد وَ ما كانَ ما صح لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ معجزة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فليست الآيات بيده حتى يأتي بما يقترحون عليه و هذا رد لهم في اقتراحهم الآيات لِكُلِّ أَجَلٍ وقت كِتابٌ شي ء مكتوب حسب ما يقتضيه صلاح البشر فصلاحهم في كل زمان حسب الغالب على أهله فعصا موسى عليه السّلام للسحرة و إحياء عيسى عليه السّلام الموتى للأطباء و قرآن محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للفصحاء.
[39] يَمْحُوا اللَّهُ ينسخ ما يَشاءُ ما يستصوب نسخه وَ يُثْبِتُ ما يشاء مكانه وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل الكتاب و هو اللوح المحفوظ فيه كل شي ء، و هذا رد لقولهم إن كان أحكام التوراة و الإنجيل صحيحة فلم نسخت.
[40] وَ إِنْ ما أصله (إن) الشرطية و (ما) الزائدة نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب بأن نعذبهم في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ نميتك قبل أن ترى عذابهم فليس مما يهمك ذلك إذ إنما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أن تبلغهم الدين وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ الجزاء بما فعلوا من التبدل و الرد.
[41] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نقصد أرض الشرك نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بتوسيع رقعة الإسلام وَ اللَّهُ يَحْكُمُ بما يريد لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فلا أحد يتمكن من رد حكمه وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ يسرع في محاسبة الناس، أو أن حسابه آت قريبا.
[42] وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دبروا في تكذيب الرسل فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً فإن التدبير كله بيد الله، حتى أن تدبيرهم إنما هو بترك الله لهم حتى يدبّروا كيدهم يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ العاقبة الحسنة لدار الدنيا و الآخرة، لهم أم للمؤمنين.
تبيين القرآن، ص: 267
[43] وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا لم يرسلك الله قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فإن ظهور الآيات على يدي يشهد لي بأن الله أرسلني وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أهل الكتاب الذين لا يعاندون يشهدون بصدقي، و في التأويل إن من عنده علم الكتاب هم الأئمة المعصومون عليهم السّلام.
مكية و آياتها اثنتان و خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الر رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كِتابٌ أي هذا كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمة الكفر و العصيان و التفرقة إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمره إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الغالب في أمره الْحَمِيدِ المحمود في أفعاله.
[2] اللَّهِ بدل من (العزيز) الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ وَيْلٌ سخط لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ يوم القيامة.
[3] الَّذِينَ بدل من (الكافرين) يَسْتَحِبُّونَ يختارون الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ يمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً يريدون أن يكون السبيل أعوج أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق.
[4] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ بلغة قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ بدون احتياج إلى الترجمة فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ يترك من يعاند ليضل وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الذي يضع الأشياء مواضعها.
[5] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا اليد البيضاء و العصا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أيام الوقائع التي وقعت على الأمم من خير كنزول المائدة أو شر كعذاب الأمم إِنَّ فِي ذلِكَ التذكير لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ يصبر على بلاء الله شَكُورٍ يشكر نعمائه.
تبيين القرآن، ص: 268
[6] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ زمان أنجاكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ يذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ العذاب السيئ حيث كان يكلفهم بالأعمال الشاقة وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يبقونهن أحياء للاستخدام وَ فِي ذلِكُمْ ذلك العذاب و (كم) للخطاب بَلاءٌ امتحان مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
[7] وَ إِذْ تَأَذَّنَ أعلم رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أزيد النعمة عليكم وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ كفر عقيدة أو كفر عمل كعدم الشكر إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
[8] وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم حَمِيدٌ محمود في أفعاله.
[9] أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم المكذبة قَوْمِ بدل (الذين) نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من سائر الأمم لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ فإن الناس لم يحصوا أحوال الأمم لكثرتهم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالأدلة الواضحة فَرَدُّوا الأمم جعلوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ بأن أخذوا أمام أفواه الرسل حتى لا يتكلموا وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم، لأنهم لم يكونوا آمنوا بالرسل وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان مُرِيبٍ موجب للتردد.
[10] قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ خالق السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعض ذنوبكم، فليست دعوته لأن يضركم، و لعل المراد ببعض الذنوب التي هي حقه سبحانه، في مقابل مظالم العباد وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت سماه لكم و لا يعالجكم بالعقاب قالُوا إِنْ ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا فضل لكم علينا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا تمنعونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ حجة على قولكم مُبِينٍ واضح.
تبيين القرآن، ص: 269
[11] قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ ما نحن إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في أصل البشرية وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بإرساله رسولا و هذا هو الفارق بيننا و بينكم وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ بحجة فليس ما اقترحتم في وسعنا و إنما يكفينا أن نأتي بالمعجزات الكافية في الاحتجاج إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يكلون إليه تعالى أمورهم.
[12] وَ ما لَنا أي عذر لنا في أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا سبل الخير فعرفناه و من عرف الله لا بد و أن يتوكل عليه وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا أذيتكم فإن من عرف الله و توكل عليه علم أن للصبر في سبيله عاقبة محمودة وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ يعتمد الْمُتَوَكِّلُونَ من يريد التوكل.
[13] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا بلادنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا طريقتنا، لأن الكفار كانوا يظنون أن الرسل قبل ادعاء الرسالة كانوا على طريقتهم فَأَوْحى إِلَيْهِمْ إلى الرسل رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ.
[14] وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ أرضهم، فإنهم أرادوا إخراجكم لكن الله يخرجهم لأجلكم مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ الخير الذي يسبغه الله للرسل و المؤمنين لِمَنْ خافَ مَقامِي قيامي عليه رقيبا وَ خافَ وَعِيدِ وعيدي بالعقاب.
[15] وَ اسْتَفْتَحُوا طلب الرسل النصر و الفتح على الكفار، فاستجيب للرسل وَ خابَ خسر كُلُّ جَبَّارٍ «1» عَنِيدٍ معاند للحق.
[16] مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ماء من القيح يسيل من فروج الزناة.
[17] يَتَجَرَّعُهُ يشربه جرعة جرعة وَ لا يَكادُ لا يتمكن الشارب يُسِيغُهُ يبلعه بسهولة لو ساخته و نتنه و حرارته وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ أسباب الموت مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أطرافه من شدة العذاب وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ لا يموت حتى يستريح وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ و هو الخلود في النار الذي هو أشد من كل عذاب.
[18] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ رماد الحطب اشْتَدَّتْ بِهِ بذلك الرماد الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ كثير الريح فكما يذر الريح العاصف الرماد كذلك تذهب أعمالهم الحسنة هباء لا يَقْدِرُونَ الكفار مِمَّا كَسَبُوا من أعمالهم الحسنة عَلى شَيْ ءٍ و لو يسير منها لأن الكفر يحبط الحسنات ذلِكَ الكفر الموجب لذلك هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحق.
__________________________________________________
(1) الجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقا.
تبيين القرآن، ص: 270
[19] أَ لَمْ تَرَ ألم تعلم أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ بالحكمة التي يحق أن تخلق عليها لا بالباطل و اللعب إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ بإعدامكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ.
[20] وَ ما ذلِكَ إعدامكم و إيجاد غيركم عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعسر.
[21] وَ بَرَزُوا أي ظهروا في يوم القيامة لِلَّهِ جَمِيعاً الكفار و رؤساؤهم فَقالَ الضُّعَفاءُ الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تكبروا عن الإيمان: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً تابعين في الكفر فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ دافعون عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ و لو مقدارا قليلا قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ إلى طريق الخلاص من العذاب لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ مفر و منجى من العقاب و فيه إشارة إلى عدم فائدة الجزع.
[22] وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ بأن دخل السعداء الجنة و الأشقياء النار: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ بالبعث و الجزاء وَ وَعَدْتُكُمْ خلاف ذلك بأنه لا بعث فافعلوا ما شئتم فَأَخْلَفْتُكُمْ أي وعدا مخالفا للواقع وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ تسلط و قهر فأجبركم على الكفر و العصيان إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ بالوسوسة فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ فإن الملامة عليكم حيث أطعتموني بمجرد الوسوسة ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ مغيثكم من العذاب وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بمنقذ لي من العذاب إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ إني كافر بإشراككم لي مع الله، حيث أطعتموني مِنْ قَبْلُ في الدنيا إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[23] وَ أُدْخِلَ المدخل هم الملائكة الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ بأمر رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ يحيي بعضهم بعضا بالسلام، لأن هناك محل السلامة.
[24] أَ لَمْ تَرَ ألم تعلم كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بين مثلا للكلام الحسن كَلِمَةً طَيِّبَةً حسنة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض وَ فَرْعُها رأسها فِي السَّماءِ في جهة العلو.
تبيين القرآن، ص: 271
[25] تُؤْتِي تعطي أُكُلَها ثمرها كُلَّ حِينٍ في وقت الإثمار بِإِذْنِ بأمر رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ يبينها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون، فإن الكلام الطيب ثابت في الأرض و ينفع الناس كما ينفع ثمر الشجرة.
[26] وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كالكفر و الباطل كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ اقتلعت مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لأن عروقها كانت قريبة من سطح الأرض لا أساس لها ما لَها مِنْ قَرارٍ استقرار فهي بلا ثمر و لا أساس لها.
[27] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ لا تقلب لهم من قول إلى قول فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لهم قول واحد حق وَ فِي الْآخِرَةِ فلا يدهشهم هول الموقف حتى يبدلوا كلامهم كما أن لا كفار هناك يبدلون كلامهم حيث يقولون (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1» وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين عاندوا الحق يتركهم و شأنهم حتى يضلوا وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما فيه الصلاح من تثبيت المؤمن و ترك الظالم.
[28- 29] أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً بأن كفروا عوض الشكر وَ أَحَلُّوا أدخلوا قَوْمَهُمْ التابعين لهم دارَ الْبَوارِ دار الهلاك. جَهَنَّمَ عطف بيان ل (دار البوار) يَصْلَوْنَها يدخلونها وَ بِئْسَ الْقَرارُ المقر هي.
[30] وَ جَعَلُوا الكفار لِلَّهِ أَنْداداً أمثالا بأن أشركوا به لِيُضِلُّوا كانت عاقبة الأنداد الإضلال عَنْ سَبِيلِهِ سبيل الله قُلْ تَمَتَّعُوا خذوا المتعة و التلذذ بشرككم فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ و هذا تهديد لهم.
[31] قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ يوم القيامة لا بَيْعٌ فِيهِ فلا يمكن لهم أن يشتروا أنفسهم بالمال من عذاب الله وَ لا خِلالٌ أي صداقة نافعة.
[32] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً من الطعام و اللباس و غيرهما لَكُمْ وَ سَخَّرَ ذلل لَكُمْ لمنافعكم الْفُلْكَ السفينة لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ بمشيئته تعالى وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ.
[33] وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ دائمين في العمل وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ لتسكنوا فيه وَ النَّهارَ.
__________________________________________________
(1) سورة الأنعام: 23.
تبيين القرآن، ص: 272
[34] وَ آتاكُمْ أعطاكم مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ من أنواع النعم وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لا تحصروها لكثرتها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كثير الظلم لنفسه و غيره كَفَّارٌ كثير الكفران، لا يشكر النعم.
[35] وَ إِذْ و اذكر يا رسول الله قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ مكة آمِناً محل أمن لمن دخلها وَ اجْنُبْنِي بعّدني وَ بَنِيَّ و بعّد أولادي أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ.
[36] رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ ضل بسببهن كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي على ديني فَإِنَّهُ مِنِّي من زمرتي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ تقدر على هدايته لتغفر له رَحِيمٌ حتى بالعصاة.
[37] رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بعض أولادي بِوادٍ وادي مكة غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لا زراعة فيه عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ يحرم التعرض له بسوء و له حرمة رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ عند بيتك فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً جمع فؤاد بمعنى القلب مِنَ النَّاسِ تَهْوِي تميل إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ فإن النعمة توجب الشكر.
[38] رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي في أنفسنا وَ ما نُعْلِنُ نظهر وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ.
[39] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ و أنا كبير آيس عن الأولاد إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ فقد دعوته للولد فاستجاب.
[40] رَبِّ اجْعَلْنِي بلطفك مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي من يقيم الصلاة رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ استجب دعائي.
[41] رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ يثبت كأنه قائم.
[42] وَ لا تَحْسَبَنَّ لا تظنن أيها السامع اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يؤخر حسابهم و عقابهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ فلا تستقر بل تنظر هنا و هناك ذهولا.
تبيين القرآن، ص: 273
[43] مُهْطِعِينَ أي في حال كون الظالمين مسرعين في المشي بلا قصد مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها إلى السماء لخوفهم من نزول العذاب منها لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا يرجعون أعينهم إلى أنفسهم كما هو شأن الخائف ينظر هنا و هناك وَ أَفْئِدَتُهُمْ قلوبهم هَواءٌ خالية من الفكر و القصد.
[44] وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ عذاب الهلاك في الدنيا فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا أمهلنا إِلى أَجَلٍ مدة قَرِيبٍ قليلة، فإن أخرتنا نُجِبْ دَعْوَتَكَ إلى الإيمان وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما يقولون، فيقال لهم:
أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ في الدنيا، فقلتم: ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ عن الدنيا إلى الآخرة، بل نموت و نفنى.
[45] وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و المعاصي وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من العذاب حين كذبوا، و هذا كان يقتضي أن تعتبروا بأحوالهم وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ من أحوال الأمم المكذبة فلم ينفعكم كل ذلك.
[46] وَ قَدْ مَكَرُوا أولئك الأمم مَكْرَهُمْ في إبطال أمر الأنبياء عليهم السّلام وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم، أو المراد أنه تعالى أبطل مكرهم وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ لأنه كان مكرا عظيما لكن الله أبطله و أتم نوره.
[47] فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ يخلف وَعْدِهِ رُسُلَهُ حيث وعدهم بإظهار دينهم و إبادة خصومهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على ما يريد ذُو انتِقامٍ.
[48] يَوْمَ ظرف للانتقام تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ المعهودة لأنها تسوى بلا جبال و لا اعوجاج وَ السَّماواتُ أي تبدل السماوات غير السماوات لأن نظام السماوات ينهدم بتكوير الشمس و تناثر النجوم وَ بَرَزُوا ظهر الناس خارجين من قبورهم لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
[49] وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ يقرن و يضم أحدهم إلى الآخر فِي الْأَصْفادِ في الأغلال.
[50] سَرابِيلُهُمْ قميصهم مِنْ قَطِرانٍ دهن أسود منتن لزج تشتعل فيه النار بسرعة وَ تَغْشى تحيط وُجُوهَهُمُ النَّارُ.
[51] إنما برزوا لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير أو شر إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله حساب عن حساب، أو إن قيام القيامة إنما هو في وقت قريب.
[52] هذا القرآن بَلاغٌ تبليغ و كفاية لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ يخافوا بسبب هذا البلاغ وَ لِيَعْلَمُوا بالنظر و التأمل في البلاغ أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ يتذكر أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
تبيين القرآن، ص: 274
مكية آياتها تسع و تسعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الر رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تِلْكَ هذه الآيات آياتُ الْكِتابِ الشي ء المكتوب وَ قُرْآنٍ تخصيص بعد تعميم مُبِينٍ واضح.
[2] رُبَما يَوَدُّ يحب الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ و ذلك حين يشاهدون العذاب.
[3] ذَرْهُمْ دعهم يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا يتلذذوا بدنياهم وَ يُلْهِهِمُ يشغلهم الْأَمَلُ في البقاء في الدنيا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وبال ذلك.
[4] وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ أجل مكتوب مَعْلُومٌ كتب لوقت هلاكها.
[5] ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها لا تسبق أمة أجلها بأن يتأخر أجلها عن الموعد المحدد وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ بأن يتقدم أجلها عن الوقت المحدد.
[6] وَ قالُوا الكفار: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ القرآن إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ قالوا ذلك استهزاء.
[7] لَوْ ما لما ذا لا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ليصدقوك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
[8] ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ بمقتضى الحكمة لا باقتراح المعاندين وَ ما كانُوا إِذاً إذا نزلنا الملائكة مُنْظَرِينَ ممهلين لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون نزول الملائكة عند الموت أو العذاب.
[9] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ القرآن وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عن التغيير و النقصان و الزيادة.
[10] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسلا فِي شِيَعِ فرق الْأَوَّلِينَ كما أرسلناك في هذه الفرقة.
[11] وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما استهزأ هؤلاء بك.
[12] كَذلِكَ هكذا كما أرسلنا الرسل و أرسلناك نَسْلُكُهُ ندخل الذكر فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ إذ الله يرسل الرسل لوعظ الناس، حتى لا تكون لهم حجة.
[13] لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بالذكر لعنادهم وَ قَدْ خَلَتْ مضت سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي سنة الله في الأولين أنهم إذا لم يؤمنوا نزل عليهم العذاب، و هذا تهديد لهم.
[14] وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ أخذوا في الباب يَعْرُجُونَ يصعدون، بأن لمسوا المعجزة.
[15] لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أي أغشيت فلا تنظر صحيحا أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سحرنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما نراه إنما هو كذب، و ذلك لبيان أنهم معاندون.
تبيين القرآن، ص: 275
[16] وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثني عشر وَ زَيَّنَّاها بالكواكب لِلنَّاظِرِينَ لمن نظر إلى السماء.
[17] وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ مرجوم، ضرب بالشهاب أو باللعنة، و حفظها عبارة عن عدم وصول الشياطين إليها.
[18] إِلَّا لكن مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ بأن قرب إلى محل محاورة الملائكة فسمع بعض الكلمات منهم فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ شعلة من النار مُبِينٌ ظاهر.
[19] وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثابتات وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ مقدر بمقدار معين.
[20] وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها في الأرض مَعايِشَ من مطعم و مشرب و سائر أسباب العيش وَ مَنْ عطف على (لكم) لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ من الأنعام، و فيه بيان أن رزقها من الله لا من أصحابها، كما يزعمون.
[21] وَ إِنْ ما مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ فله سبحانه القدرة على إيجاد كل شي ء وَ ما نُنَزِّلُهُ نوجده إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ تقتضيه الحكمة.
[22] وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ تلقح السحاب ليمطر، و الأشجار لتحمل فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً المطر بعد تلقيح الريح للسحاب فَأَسْقَيْناكُمُوهُ تشربون من مائه وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ لستم بحافظيه في المخازن الأرضية كالعيون، بل كل ذلك بفعل الله تعالى.
[23] وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ يموت الكل و نبقى نحن.
[24] وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ الذين استقدموا ولادة و موتا وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ تأخروا ولادة أو موتا، أي لا يخفى علينا شي ء.
[25] وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ يجمعهم للجزاء إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
[26] وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ آدم و حواء عليهما السّلام مِنْ صَلْصالٍ طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر مِنْ حَمَإٍ طين متغير أسود مَسْنُونٍ مصبوب كما يصب الذهب في القالب.
[27] وَ الْجَانَّ أبا الجن خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ قبل خلق آدم عليه السّلام مِنْ نارِ السَّمُومِ شديد الحرارة.
[28- 29] وَ إِذْ و اذكر يا رسول الله قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدلت خلقته وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أعطيته الروح، و الإضافة للتشريف، أو روح خلقته فَقَعُوا من وقع يقع أي اسقطوا لَهُ ساجِدِينَ.
[30- 31] فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى امتنع أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ.
تبيين القرآن، ص: 276
[32] قالَ الله: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ لما ذا و أي شي ء لك في عدم السجود أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ.
[33] قالَ لَمْ أَكُنْ ما كنت لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
[34] قالَ الله: فَاخْرُجْ مِنْها من الجنة فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود ملعون.
[35] وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ البعد عن الرحمة إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء، و بعده تحاسب لتدخل جهنم.
[36] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أمهلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يوم القيامة.
[37] قالَ الله: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أمهلتك.
[38] إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ لدى الله سبحانه و هو النفخة أو ظهور الإمام المهدي (عج).
[39] قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي بسبب إغوائك لي بأن هيئت سبب ضلالي لَأُزَيِّنَنَّ المعاصي لَهُمْ بني آدم فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ بدعوتهم إلى الغواية.
[40] إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لطاعتك.
[41] قالَ الله: هذا الإخلاص صِراطٌ عَلَيَّ رعايته مُسْتَقِيمٌ صفة (صراط).
[42] إِنَّ عِبادِي المخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ تسلط بالوسوسة إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ الضالين فإن سلطانك عليهم لأنهم يتبعونك.
[43] وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ محل وعد إبليس و أتباعه أَجْمَعِينَ.
[44] لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الكفار و العصاة جُزْءٌ منهم مَقْسُومٌ قسم لهم حسب تفاوتهم في الإجرام.
[45] إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين اجتنبوا الشرك و المعاصي فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ من ماء و خمر و عسل و لبن.
[46] يقال لهم: ادْخُلُوها أي الجنة بِسَلامٍ بسلامة من الآفات آمِنِينَ من كل مخوف.
[47] وَ نَزَعْنا أقلعنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ حقد و عداوة في حال كونهم إِخْواناً كالإخوان في تبادل الحب عَلى سُرُرٍ جمع سرير: الكرسي مُتَقابِلِينَ أحدهم في مقابل الآخر.
[48] لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ لا يصيبهم في الجنة تعب وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ بل هم فيها خالدون.
[49] نَبِّئْ أخبر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
[50] وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ المؤلم.
[51] وَ نَبِّئْهُمْ أخبرهم عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ.
تبيين القرآن، ص: 277
[52] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إبراهيم عليه السّلام إِنَّا مِنْكُمْ أيها الضيوف الثلاثة وَجِلُونَ خائفون لأنهم لم يأكلوا من طعام فظن أنهم يريدون به سوء.
[53] قالُوا لا تَوْجَلْ إنا ملائكة إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ ولد عَلِيمٍ و هو إسحاق من سارة.
[54] قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ في وقت أصابتني الشيخوخة فَبِمَ تُبَشِّرُونَ فبما ذا تبشروني و العادة جرت أن لا يولد لمثلي.
[55] قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ لا كذب فيه فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ الآيسين من الولد أو من رحمة الله.
[56] قالَ وَ مَنْ استفهام إنكار، أي لا أقنط يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الذين لا يعتقدون بالله.
[57] قالَ إبراهيم عليه السّلام: فَما خَطْبُكُمْ أمركم الذي نزلتم من السماء لأجله أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ لأن الله أرسلهم.
[58] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ هم قوم لوط عليه السّلام.
[59] إِلَّا فلم نرسل العذاب على آلَ لُوطٍ لوط عليه السّلام و آله إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ.
[60] إِلَّا امْرَأَتَهُ زوجة لوط عليه السّلام قَدَّرْنا قضينا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين فيمن يهلك.
[61] فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ الملائكة.
[62] قالَ لوط عليه السّلام: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ تنكركم نفسي لخوفي من لحوق أذى القوم بكم.
[63] قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما بالعذاب الذي كانُوا كان قومك فِيهِ يَمْتَرُونَ يشكون، فإن لوط عليه السّلام كان يخوفهم بالعذاب و هم ينكرون ذلك.
[64] وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ بعذابهم الذي هو واقع قطعا وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك.
[65] فَأَسْرِ أخرج ليلا بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ بطائفة مِنَ اللَّيْلِ بأن مضى قسم من الليل وَ اتَّبِعْ يا لوط عليه السّلام أَدْبارَهُمْ عقب أهلك حتى تطلع على أنهم يسيرون و لم يبق منهم أحد وَ لا يَلْتَفِتْ إلى ورائه مِنْكُمْ أَحَدٌ لئلا يرى عذاب أهل المدينة وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ إلى المكان الذي تؤمرون بالمضي إليه.
[66] وَ قَضَيْنا أوحينا إِلَيْهِ إلى لوط عليه السّلام ذلِكَ الْأَمْرَ أمر عذاب القوم أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ أي هؤلاء إلى آخرهم، فإن دابر من الدبر بمعنى الوراء و الأخير مَقْطُوعٌ مستأصل مُصْبِحِينَ حال دخولهم في الصباح.
[67] وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مدينة لوط عليه السّلام يَسْتَبْشِرُونَ يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط يريدون بهم اللواط.
[68] قالَ لوط عليه السّلام، قبل أن يعرف أنهم ملائكة: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي لا تفضحوني بالتعرض لهم.
[69] وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ تخجلوني بسببهم.
[70] قالُوا القوم: أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ ننهاك عَنِ الْعالَمِينَ عن أن تجير أحدا من الناس.
تبيين القرآن، ص: 278
[71] قالَ لوط عليه السّلام: هؤُلاءِ بَناتِي أزوّجكم إياهن إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ تريدون النكاح.
[72] لَعَمْرُكَ قسما بحياتك يا لوط عليه السّلام إِنَّهُمْ القوم لَفِي سَكْرَتِهِمْ ضلالهم المسكر لهم المغطي على عقولهم يَعْمَهُونَ يتحيرون.
[73] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الصوت الهائل مُشْرِقِينَ في حال كونهم داخلين في وقت شروق الشمس.
[74] فَجَعَلْنا عالِيَها عالي المدينة سافِلَها بأن قلبناها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ طين متحجر.
[75] إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب لَآياتٍ أدلة لِلْمُتَوَسِّمِينَ الذين ينظرون إلى العلائم و الأشياء فيعرفون حقائقها.
[76] وَ إِنَّها قراهم الهالكة لَبِسَبِيلٍ في الطريق، و اللام للتأكيد مُقِيمٍ ذلك السبيل أي ثابت قائم يمرون عليها الناس بين مكة و الشام.
[77] إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب لَآيَةً لعبرة و دلالة لِلْمُؤْمِنِينَ.
[78] وَ إِنْ إنه كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هي الشجر الملتف كانت غيضة بقرب مدين، فيها قوم شعيب لَظالِمِينَ في تكذيب الرسول عليه السّلام.
[79] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالإهلاك وَ إِنَّهُما مدينتي لوط و شعيب لَبِإِمامٍ طريق يؤمّه الناس أي يقصده مُبِينٍ واضح.
[80] وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ سكان الحجر و هو واد بين المدينة و الشام، و أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح عليه السّلام الْمُرْسَلِينَ.
[81] وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا الناقة و سائر معجزات صالح عليه السّلام فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لا يعتبرون بها.
[82] وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من خرابها و من الأعداء و اللصوص.
[83] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ صيحة جبرئيل بالعذاب مُصْبِحِينَ حال كونهم دخلوا الصباح.
[84] فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما أفادهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ من نحت البيوت و جمع المال.
[85] وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ فلا يلائمان الشر و الفساد وَ إِنَّ السَّاعَةَ القيامة لَآتِيَةٌ لعذابهم فَاصْفَحِ أعرض يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الكفار الصَّفْحَ الْجَمِيلَ عفوا جميلا فإن الأخلاق الطيبة تقرب الناس إلى المبلغ.
[86] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه، و لذا يأمرك بالصفح.
[87] وَ لَقَدْ آتَيْناكَ أعطيناك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سَبْعاً سبع آيات مِنَ الْمَثانِي بيان السبع و هو من الثناء لأن سورة الحمد ثناء لله، أو المراد ما تثنى تلاوتها في كل صلاة وَ الْقُرْآنَ عطف الكل على البعض الْعَظِيمَ.
[88] لا تَمُدَّنَّ لا تنظر نظر راغب، و حيث أن شعاع العين يمتد، نسب المد إلى العين عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ عائد إلى (ما) و المراد به كل نعمة أَزْواجاً أصنافا مِنْهُمْ من الناس الكفار، أي لا تنظر إلى نعم الناس بنظر الرغبة، لأن نعم الدنيا لا شي ء بالنسبة إلى نعم الآخرة وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن لم يؤمنوا وَ اخْفِضْ جَناحَكَ ألن جانبك، تشبيه بالطير حين يخفض جناحه تواضعا لِلْمُؤْمِنِينَ.
[89] وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ الواضح أنذرهم من بأس الله.
[90] كَما متعلق ب (آتيناك) أي أنزلنا عليك الكتاب كما أَنْزَلْنا الكتاب عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ أي أهل الكتاب الذين اقتسموا القرآن إلى حق و هو ما يوافق توراتهم و باطل و هو ما لا يوافق توراتهم.
تبيين القرآن، ص: 279
[91] الَّذِينَ بيان للمقتسمين جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جمع عضة، أصلها عضوة، أي أجزاء «1».
[92- 93] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ و السؤال إنما هو لأجل الجزاء.
[94] فَاصْدَعْ أي اجهر يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِما تُؤْمَرُ من الأوامر وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لا تبال بهم.
[95] إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الذين يستهزئون بك فنكفيك شرهم.
[96] الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء عاقبتهم.
[97] وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من أنك شاعر و ساحر و كاهن و مجنون.
[98] فَسَبِّحْ نزّه متلبسا بِحَمْدِ رَبِّكَ فإن الحمد ذكر صفات الكمال، و التسبيح ذكر صفات الجلال وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
[99] وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ الموت لأنه متيقن، أي أعبده ما دمت حيا.
مكية آياتها مائة و ثمان و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أَتى آخذ في الإتيان أَمْرُ اللَّهِ بعذاب الكفار فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فإن الكفار كانوا يقولون إن كنت صادقا فأتنا بالعذاب سُبْحانَهُ منزه عن الشريك وَ تَعالى هو أرفع من أن يكون له شريك عَمَّا يُشْرِكُونَ يشرك الكفار به من الأصنام.
[2] يُنَزِّلُ الله الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ما يوجب روح الناس، لأن الناس بدون الإيمان أموات، كما قال: (إذا دعاكم لما يحييكم) «2» مِنْ أَمْرِهِ بإرادته، فليس مجبورا فيما يفعل عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممن يريد أن يتخذه رسولا أَنْ أَنْذِرُوا الناس أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ خافوا من مخالفتي.
[3] خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ لا عبثا تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
[4] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ قطرة مني فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ يخاصم الله مُبِينٌ واضح.
[5] وَ الْأَنْعامَ جمع نعم: الإبل و البقر و الغنم خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ ما يستدفئ به من اللباس وَ مَنافِعُ من ثروة و ركوب وَ مِنْها تَأْكُلُونَ اللحم و ما يتأتى من اللبن.
[6] وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حسن منظر و زينة حِينَ تُرِيحُونَ تردونها إلى مراحها و مباركها بالليل وَ حِينَ تَسْرَحُونَ ترسلونها إلى مرعاها بالغداة.
__________________________________________________
(1) عضوت الشي ء: فرقته و بعّضته.
(2) سورة الأنفال: 24.
تبيين القرآن، ص: 280
[7] وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ أحمالكم إِلى كل بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ لا تقدرون على بلوغه لبعده إِلَّا بِشِقِّ بكلفة الْأَنْفُسِ و إيقاعها في المشقة إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ الرأفة فوق الرحمة رَحِيمٌ.
[8] وَ الْخَيْلَ الفرس عطف على الأنعام وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً لتتزينوا بها وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ خلق من أنواع الحيوانات التي لا تعلمونها، أو يخلق في المستقبل.
[9] وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي بيان الطريق المستقيم وَ مِنْها من السبل ما هو جائِرٌ مائل عن القصد وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بأن ألجأكم إلى الإيمان.
[10] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ جهة العلو ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ما تشربونه وَ مِنْهُ شَجَرٌ ينبت بواسطة الماء فِيهِ في ذلك الشجر تُسِيمُونَ ترعون ماشيتكم.
[11] يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ بماء السماء الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جميع أنواع أشجار الأثمار إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً على الله سبحانه لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الآيات.
[12] وَ سَخَّرَ ذلل لمنافعكم لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ كلها مذللات بِأَمْرِهِ تعالى و إرادته، لا أنه تعالى مجبور فيما يفعل و لا أنها تفعل ما تشاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم.
[13] وَ سخر ما ذَرَأَ خلق لَكُمْ فِي الْأَرْضِ من حيوان و نبات و معدن مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ بألوان مختلفة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتذكرون.
[14] وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا لحم السمك، فإن لحومهم كانت غالبا يابسة لأنهم كانوا يصنعونها قديدا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً كاللؤلؤ و المرجان تَلْبَسُونَها للزينة وَ تَرَى الْفُلْكَ السفينة مَواخِرَ جمع ماخرة أي تشق الماء فِيهِ في البحر وَ لِتَبْتَغُوا تطلبوا مِنْ فَضْلِهِ تعالى بأن تركبوه للتجارة وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله لنعمه.
تبيين القرآن، ص: 281
[15] وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ لئلا تميل الأرض بكم، فلو لا الجبال لمالت الأرض و اضطربت وَ جعل في الأرض أَنْهاراً وَ سُبُلًا طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى مقاصدكم، أو إلى توحيده تعالى فإن الأثر يدل على المؤثر.
[16] وَ جعل عَلاماتٍ لكل أمر علامة وَ بِالنَّجْمِ جنس النجم هُمْ يَهْتَدُونَ إلى الطرق و الى بعض الكائنات.
[17] أَ فَمَنْ يَخْلُقُ هذه الأشياء و هو الله كَمَنْ لا يَخْلُقُ و هي الأصنام أَ فَلا تَذَكَّرُونَ فكيف تشركون الأصنام بالله تعالى.
[18] وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لا تتمكنوا من إحصائها و عدّها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فلا يقطع نعمه لعدم شكركم له.
[19] وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ من نية و عمل تأتون به سرا وَ ما تُعْلِنُونَ تظهرون.
[20] وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ فإن الأصنام مخلوقة لله.
[21] هم أَمْواتٌ لا حياة لها غَيْرُ أَحْياءٍ تأكيد وَ ما يَشْعُرُونَ لا تفهم الأصنام أَيَّانَ وقت يُبْعَثُونَ بعثهم، بخلاف الله فإنه يخلق و هو حي و يشعر وقت بعث الناس.
[22] إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و ذلك لازم عدم إيمانهم بالإله الواحد قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ للحق وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يتكبرون عن قبول الحق.
[23] لا جَرَمَ حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ فيجازيهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.
[24] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي الأكاذيب التي كان الأولون يقولونها.
[25] لِيَحْمِلُوا أي كانت عاقبة تكذيبهم حمل معاصيهم و معاصي من ضل بسببهم أَوْزارَهُمْ ذنوبهم كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ بعض أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فإن الضلال و الإضلال جهل أَلا ساءَ بئس ما يَزِرُونَ يحملون من الذنوب، أي بئس الحمل حملهم.
[26] قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أمم سائر الرسل قبل أمتك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد مكروا لإطفاء نور الرسل فَأَتَى اللَّهُ جاء أمر الله إلى بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أساسه فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ كناية عن إهلاكهم كمن يسقط عليه سقف بيته وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ لا يتوقعون.
تبيين القرآن، ص: 282
[27] ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ يفضحهم وَ يَقُولُ الله لهم: أَيْنَ شُرَكائِيَ أي الأصنام التي جعلتموها شركاء لي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ تعاندون المسلمين فِيهِمْ في شأنهم قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أعطوا العلم و هم الأنبياء و الأولياء و الملائكة عليهم السّلام: إِنَّ الْخِزْيَ الذلة في هذا الْيَوْمَ يوم القيامة وَ السُّوءَ العذاب عَلَى الْكافِرِينَ.
[28] الَّذِينَ بدل (الكافرين) تَتَوَفَّاهُمُ تميتهم الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في حال كونهم ظلموا أنفسهم بالكفر و المعاصي فَأَلْقَوُا السَّلَمَ استسلموا و انقادوا للملائكة، قائلين كذبا ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ كفر و عصيان بَلى كنتم تعملون إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[29] فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ كل صنف من الباب المعد له خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى محل الْمُتَكَبِّرِينَ الذين تكبروا عن الحق.
[30] وَ قِيلَ قالت الملائكة لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر و المعاصي: ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا: أنزل خَيْراً و لعل هذا السؤال و الجواب لأجل زيادة سرورهم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا بالإيمان و العمل الصالح فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ كرامة و سعادة وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لهم وَ لَنِعْمَ الآخرة هي دارُ الْمُتَّقِينَ.
[31] جَنَّاتُ بدل (دار) عَدْنٍ إقامة أي هي دار إقامة يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ما يريدون كَذلِكَ هكذا يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الذين يجتنبون الكفر و الآثام.
[32] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ تميتهم الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ طاهرين عن الكفر و العصيان يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلامة لكم من كل آفة و عاهة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأعمالكم الصالحة.
[33]لْ يَنْظُرُونَ
استفهام إنكار، أي ما ذا ينتظر الكفار، في عدم إيمانهم لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
بالهلاك و العذاب ذلِكَ
هكذاعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كذبوا رسلهم فأهلكوا ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بإهلاكهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بالكفر و المعاصي فاستحقوا العقاب.
[34] فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ عقاب أعمالهم السيئة ما عَمِلُوا وَ حاقَ أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فإنهم كانوا يستهزءون بالعذاب.
تبيين القرآن، ص: 283
[35] وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا جعلوا لله شريكا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ من الأصنام نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ دون أمر الله مِنْ شَيْ ءٍ كالبحيرة و السائبة كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فعلوا الكفر و القبائح فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ التبليغ الْمُبِينُ الواضح، و الاستفهام للإنكار و لبيان أن الرسل فعلوا ما هو تكليفهم، و إنما عصى الناس بعد إتمام الحجة.
[36] وَ لَقَدْ بَعَثْنا أرسلنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ جماعة رَسُولًا فيقول لهم: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ عبادة الأصنام فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ بأن لطف بهم اللطف الخفي لما سلكوا الطريق وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ ثبتت عَلَيْهِ الضَّلالَةُ لأنه لم يقبل الهداية فَسِيرُوا سافروا أيها الكفار فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من الأمم فإنكم ترون ديارهم الخربة و تسمعون أخبارهم ممن يسكنون حوالي بلادهم.
[37] إِنْ تَحْرِصْ يا رسول الله عَلى هُداهُمْ هداية هؤلاء المعاندين فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي ايأس منهم لأنهم عاندوا فتركهم الله حتى ضلوا وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفع العذاب عنهم.
[38] وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ جمع يمين بمعنى القسم أي أقسامهم المؤكدة لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ فليس هناك حياة بعد الموت بَلى يبعثهم، وعد ذلك وَعْداً عَلَيْهِ إنجازه حَقًّا فإنه لا يخلف الميعاد وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم يبعثون.
[39] و إنما يبعثهم لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي الحق الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فإن الآخرة محكمة كبرى يتبين فيها المحق من المبطل وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في نفيهم للبعث فيجازيهم، و ليس البعث صعبا على الله.
[40] إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أردنا وجود ذلك الشي ء أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فإذا أردنا البعث نقول له: كن، فيكون.
[41] وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ في سبيل الله مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بأذى كفار مكة لهم لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ننزلهم فِي الدُّنْيا حَسَنَةً منزلا حسنا وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مما نعطيهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لعلموا ذلك.
[42] الَّذِينَ بدل من (الذين هاجروا) صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
تبيين القرآن، ص: 284
[43] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فهم من جنس البشر خلافا لما كان يزعمه قريش أن الرسول لا يكون إلا من الملائكة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتب السابقة إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك حتى يعلموكم، و قد ورد تأويل الآية بالأئمة الطاهرين عليهم السّلام.
[44] بِالْبَيِّناتِ متعلق ب (أرسلنا) أي بالأدلة الواضحة وَ الزُّبُرِ الكتب المنزلة وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ القرآن لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من الشرائع و العلوم وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيه فيرجعوا إلى الحق.
[45] أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم السّلام أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ بأن تبلعهم الأرض كما خسف بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ لا يظنون مجي ء العذاب منه كما فعل الله بقوم لوط و صالح و شعيب و غيرهم.
[46] أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ في أسفارهم فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ لا يتمكنون من تعجيز الله تعالى سواء كانوا في حضر أو سفر.
[47] أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي في حال خوفهم بأن كانوا يتوقعون البلاء، في قبال قوله تعالى: (لا يشعرون) فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لا يعاجلكم بالعقوبة.
[48] أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار آثار قدرة الله فيؤمنوا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ له ظل كالشجر و الإنسان و الجبل يَتَفَيَّؤُا يتمايل ظِلالُهُ حين تقع الشمس عليه عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ جمع شمال، حال كون الشمس في طرفي المشرق و المغرب سُجَّداً خاضعة تلك الأظلة لِلَّهِ و هذا لبيان تشبيه واقع الأشياء في كونها بيد الله بالظلال المرئية للإنسان صباحا و مساء وَ هُمْ داخِرُونَ أذلاء.
[49] وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ يخضع ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ تدب و تتحرك وَ يسجد الْمَلائِكَةُ أيضا وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يتكبرون عن السجدة.
[50] يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ أي و الله فوقهم بالمنزلة و الرتبة وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ما يأمرهم الله سبحانه.
[51] وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ كما اتخذت الثنوية إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فمني لا من غيري فَارْهَبُونِ خافوا.
[52] وَ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ الطاعة واصِباً دائما فليس بعض الطاعة له و بعض الطاعة لغيره أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ تخافون من غيره، و الحال أن غيره لا يضر.
[53] وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أصابتكم شدة فَإِلَيْهِ إلى الله تَجْئَرُونَ تتضرعون لكشف ذلك الضر.
[54] ثُمَّ إِذا كَشَفَ الله الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ و هم الكفار بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يجعلون له شريكا.
تبيين القرآن، ص: 285
[55] لِيَكْفُرُوا إنما أشركوا كفرانا للنعمة، و اللام للعاقبة بِما آتَيْناهُمْ أعطيناهم من النعم فَتَمَتَّعُوا أمر للتهديد، أي تلذذوا بالنعم أيها الكفار فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ سوء عاقبتكم.
[56] وَ يَجْعَلُونَ المشركون لِما لا يَعْلَمُونَ لا علم لها، و هي الأصنام نَصِيباً قسما مِمَّا رَزَقْناهُمْ زرعهم و أنعامهم تَاللَّهِ و الله لَتُسْئَلُنَّ أيها المشركون عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ من أن الأصنام آلهة.
[57] وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ كانوا يقولون الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها وَ يجعلون لَهُمْ لأنفسهم ما يَشْتَهُونَ من البنين.
[58] وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أخبر بولادة بنت له ظَلَّ صار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا يعلوه سواد من شدة الحزن وَ هُوَ كَظِيمٌ ممتلئ غيظا.
[59] يَتَوارى يستخفي مِنَ الْقَوْمِ الناس خجلا مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ كأن البنت شي ء سيئ، و يتفكر أَ يُمْسِكُهُ هل يحفظ المولود، أي البنت عَلى هُونٍ على هوان و ذلة أَمْ يَدُسُّهُ يخفيه و يقبره حيا فِي التُّرابِ أَلا فلينتبه السامع ساءَ بئس ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا.
[60] لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ الصفة السيئة لأنهم يوصفون بالظلم و الكفر و الشرك وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى الصفات الحسنة كالسلطة و القدرة و العلم وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[61] وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ بسبب ظلمهم أنفسهم و غيرهم ما تَرَكَ عَلَيْها على الأرض مِنْ دَابَّةٍ فإن ظلم الظالمين يوجب عذابا إذا جاء عمّ الكل وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ يؤخر الله عقابهم إِلى أَجَلٍ وقت مُسَمًّى سماه الله سبحانه لهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ هلكوا في الوقت المحدد بدون تقدم أو تأخر لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ.
[62] وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ من البنات وَ مع ذلك تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ و هو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى الصفة الحسنة أي الجنة و القرب عنده سبحانه لا جَرَمَ حقا أَنَّ لَهُمُ النَّارَ نار جهنم وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ مقدمون إلى النار.
[63] تَاللَّهِ و الله إن حال هؤلاء الكفار حال الكفار السابقين لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ كما زين لهؤلاء أعمالهم فَهُوَ فالشيطان وَلِيُّهُمُ متولي أمرهم الْيَوْمَ في الدنيا، كالفرق الباطلة وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في القيامة.
[64] وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد و أحوال المعاد و سائر ما اختلف فيه أهل الكتاب و غيرهم وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم هم المنتفعون بالهداية و تنزل عليهم الرحمة.
تبيين القرآن، ص: 286
[65] وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً دالة على التوحيد و البعث لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع اعتبار.
[66] وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً اعتبارا فإن نعم الله موجبة للاعتبار نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ بطن كل واحد منها مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ المأكولات المنهضمة بعض الانهضام وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً سهل المرور في حلقهم لِلشَّارِبِينَ.
[67] وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ من كل واحد واحد سَكَراً مادة حلوة، أو المسكر و فيه إشعار بالتحريم لوصف قسيمها بالحسن وَ رِزْقاً حَسَناً سائر أقسام العصير إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم.
[68] وَ أَوْحى ألهم رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً تأوين إليها لإنتاج العسل وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ يرفعون من كرم العنب.
[69] ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ التي تشتهينها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ طرقه جائية و ذاهبة لأجل إنتاج العسل ذُلُلًا حال من السبل جمع ذلول، في حال كون تلك السبل مذللة يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أحمر و أصفر و أسود و أبيض فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في صنع الله تعالى.
[70] وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ يميتكم وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ يعاد إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أردأه و هو الهرم لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ بعد أن كان عالما شَيْئاً فيصير كالطفل ينسى معلوماته، أي ليبلغ إلى هذه الحالة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
[71] وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فرزق بعضكم أفضل من رزق بعض فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي بمعطي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ على مماليكهم فَهُمْ السادة و الموالي فِيهِ سَواءٌ في الرزق، و المعنى ما هم بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم و بين ممالكيهم حتى يتساووا فكيف يجعلون عبيد الله شركاء مع الله في الألوهية أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ينكرون، لأن معنى جعل الشركاء أن بعض النعم ليست من الله و إنما من الشركاء.
[72] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ جنسكم أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً أولاد الأولاد وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الأرزاق الطيبة أَ فَبِالْباطِلِ من الأصنام يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ حيث ينسبون بعض نعمه إلى الأصنام.
تبيين القرآن، ص: 287
[73] وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ المطر وَ الْأَرْضِ النبات شَيْئاً فإن شيئا من الرزق لا يرتبط بالأصنام وَ لا يَسْتَطِيعُونَ شيئا.
[74] فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لا تجعلوا له أشباها في الألوهية إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ فساد قولكم وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك.
[75] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لبطلان ما تجعلونه شريكا لله عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ عاجز عن التصرف لأنه مربوط بإذن المولى وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يتصرف فيه يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ المالك و المملوك، و هكذا لا يتساوى الله و الأصنام التي هي مخلوقاته الْحَمْدُ لِلَّهِ لا يستحق غيره من الأصنام الحمد بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره.
[76] وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ولد أخرس لا يفهم و لا يفهم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ من نطق و تدبير، و الأخرس أصم أيضا وَ هُوَ كَلٌّ ثقل عَلى مَوْلاهُ ولي أمره لأن له أتعابا و لا فائدة له عادة أَيْنَما يُوَجِّهْهُ يرسله المولى لا يَأْتِ الأبكم بِخَيْرٍ بكفاية مهم هَلْ يَسْتَوِي هُوَ الأبكم وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ لأنه ناطق فاهم وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا يتوجه إلى مطلب إلا و يبلغه بأقرب طريق، و الله سبحانه إله حق و الأصنام كالأبكم.
[77] وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يختص به علم ما غاب عن الخلق فيهما وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ أمره تعالى في إقامة القيامة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ كرد الطرف في السرعة أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر أن يحيي الخلائق في سرعة خاطفة.
[78] وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً في حال كونكم جهالا وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد بمعنى القلب لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه تعالى.
[79] أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران بأجنحتها فِي جَوِّ السَّماءِ وسطها ما يُمْسِكُهُنَّ يحفظهن عن السقوط إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دالة على قدرة الله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بهذه الآيات.
تبيين القرآن، ص: 288
[80] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً موضعا تسكنون فيه مما يتخذ من الحجر و المدر و ما أشبه وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً القبة من جلد الحيوانات و أصوافها تَسْتَخِفُّونَها تجدونها خفيفة يَوْمَ ظَعْنِكُمْ سفركم لا يثقل حمله عليكم وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ لا يثقل نصبه وَ مِنْ أَصْوافِها للضأن وَ أَوْبارِها للإبل وَ أَشْعارِها للمعز أَثاثاً فراشا و أكسية وَ مَتاعاً تتمتعون به إِلى حِينٍ موتكم أو حين تبلى.
[81] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الجبال و البناء و الشجر ظِلالًا تتقون بسببه حر الشمس وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً جمع كن، و هو الموضع الذي يستتر به الإنسان كالكهوف و الغيران وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع سربال بمعنى القميص تَقِيكُمُ تحفظكم الْحَرَّ و البرد وَ سَرابِيلَ دروعا تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي الحرب كَذلِكَ هكذا يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ تفكرون في نعمه فتسلمون له.
[82] فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ الواضح، و لا يضركم توليهم.
[83] يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها بالإشراك وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ عنادا.
[84] وَ يَوْمَ اذكر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً كالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمام عليه السّلام ليشهد على الأمة بما فعلت ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار، و هذا أحد مواقف القيامة وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب رضاهم.
[85] وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا عنادا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ العذاب عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ لا يمهلون.
[86] وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ الأصنام التي أشركوها بالله قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا نعبدهم مِنْ دُونِكَ فحملهم يا رب بعض عذابنا لأنهم سبب شركنا فَأَلْقَوْا الأصنام إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ أي قالت الأصنام لعبّادها: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ فلا تقصير لنا في عبادتكم إيانا.
[87] وَ أَلْقَوْا المشركون إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام لأمره وَ ضَلَّ اختفى و بطل عَنْهُمْ عن المشركين فلم ينفعهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الأصنام التي كذبوا في كونها شركاء لله.
تبيين القرآن، ص: 289
[88] الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا منعوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ عذابا لكفرهم و عذابا لصدهم عن سبيل الله بِما كانُوا يُفْسِدُونَ لفسادهم.
[89] وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ نبيهم أو إمامهم وَ جِئْنا بِكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ قومك وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ القرآن تِبْياناً بيانا واضحا لِكُلِّ شَيْ ءٍ ما يحتاج إليه الإنسان في سبيل الهداية وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى بالسعادة في الدارين لِلْمُسْلِمِينَ.
[90] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ هو زيادة على العدل كأن تحسن إلى إنسان لا يطلب منك شيئا وَ إِيتاءِ إعطاء ذِي الْقُرْبى الأقارب وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ القبيح المتزايد قبحه وَ الْمُنْكَرِ ما أنكره العقل و الشرع وَ الْبَغْيِ الظلم يَعِظُكُمْ الله بالأمر و النهي لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون.
[91] وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ كل عهد عاهده الإنسان مما أوجب الله الوفاء به إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ جمع يمين بمعنى القسم بَعْدَ تَوْكِيدِها توثيقها بذكر اسم الله تعالى وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا فيما عاهدتم أو حلفتم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ فيجازيكم عليه.
[92] وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي كالمرأة التي نَقَضَتْ غَزْلَها ما غزلته مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ فتل محكم له أَنْكاثاً مفعول ثان ل (نقضت) جمع نكث و هو ما ينكث فتله، فقد كانت ريطة بنت عمرو القرشية خرقاء تغزل و تنكث تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ جمع يمين دَخَلًا غدرا و مكرا، و هو ما يدخل في الشي ء للفساد أي تحلفون للفساد بَيْنَكُمْ أَنْ لئلا تَكُونَ أُمَّةٌ جماعة هِيَ أَرْبى أكثر مِنْ أُمَّةٍ أخرى فقد كانوا إذا رأوا في أعادي حلفائهم شوكة نقضوا عهد الحلفاء و حالفوا أعاديهم حتى لا يكون الأعادي أكثر عددا من حلفائهم فنهوا عن ذلك إِنَّما يَبْلُوكُمُ يختبركم اللَّهُ بِهِ بالوفاء هل تفون أم لا وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيجازيكم على ذلك: المحق بالثواب و المبطل بالعقاب.
[93] وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً بأن جعل الكل مهتدين وَ لكِنْ يُضِلُّ يتركه حتى يضل لأنه عاند الحق مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي بالألطاف الخفية مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه.
تبيين القرآن، ص: 290
[94] وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا لأجل الفساد، كما تقدم بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ من نقض اليمين بَعْدَ ثُبُوتِها ثبوت القدم و استقرارها فإن الناقض يزل عن الحق وَ تَذُوقُوا السُّوءَ العذاب بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ منعتم عن طريق الله و هو الوفاء وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.
[95] وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا بأن تنقضوا العهد لأجل متاع الدنيا الزائلة إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب على الوفاء هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لعلمتم أن ما عند الله خير.
[96] ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ يفنى وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على مشاق التكليف أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أحسن الأجر.
[97] مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إذ لا اعتداد بأعمال الكافر فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فإن المؤمن الصالح مرتاح الضمير راض بعيشه وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ في الآخرة أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
[98] فَإِذا قَرَأْتَ أردت قراءة الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ اطلب الإجارة بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
[99] إِنَّهُ الشيطان لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ تسلط عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يعتمدون.
[100] إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ يطيعون الشيطان وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ بسبب الشيطان مُشْرِكُونَ يجعلون شريكا لله.
[101] وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً بالنسخ مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ما هو مصلحة البشر قالُوا الكفار: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ تنسب إلى الله النسخ و ليس من عنده بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فوائد النسخ.
[102] قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ جبرئيل، فإنه روح طاهرة مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على إيمانهم لأنهم إذا تدبروا ما في الناسخ من الصلاح رسخ الإيمان في قلوبهم وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 291
[103] وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ يعلم القرآن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَشَرٌ سلمان الفارسي، أو غيره فكان الكفار يقولون إن القرآن من تعليم ذلك الرجل لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِسانُ لغة الَّذِي يُلْحِدُونَ يميلون إِلَيْهِ أي يقولون إنه يعلّم محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَعْجَمِيٌّ غير بين وَ هذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ واضح فكيف سلمان الفارسي يعلّم لغة العرب.
[104] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ عنادا لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ بألطافه الخاصة وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[105] إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ يخترع الكذب الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أشد الكاذبين كذبا.
[106] مَنْ مبتدأ خبره: (فعليهم) كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على قول كلمة الكفر وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ ثابت بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فتح صدره للكفر و طابت نفسه به فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا و الآخرة.
[107] ذلِكَ العذاب بِأَنَّهُمُ بسبب أنهم اسْتَحَبُّوا رجحوا حب الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ و بسبب أن اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يخذلهم إذا عاندوا فلهم العذاب بهذا السبب.
[108] أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ تركهم و شأنهم حتى صارت قلوبهم لا تفهم الحق عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ لا يسمع الحق سماعا مفيدا وَ أَبْصارِهِمْ فهم لا ينظرون إلى الحق نظر اعتبار وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة.
[109] لا جَرَمَ حقا أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ خسروا أنفسهم و كل شي ء.
[110] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا عذبوا، أو تلفظوا بالكفر، أو كانوا كفارا بغير عناد كأن الشيطان فتنهم ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها الهجرة و الجهاد و الصبر لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 292
[111] يَوْمَ اذكر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ذاتها لأجل الخلاص وَ تُوَفَّى تعطى كاملا كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ جزاء أعمالها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص من أجر المحسن و لا يزاد في عقاب المسي ء.
[112] وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لكل أمة أنعم الله عليها بالنعم فأبطرتهم النعمة فكفروا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً لا خوف و لا اضطراب لها يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من النواحي المختلفة فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ لم تؤد شكرها فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ فشمل جسدهم الجوع و الخوف بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بسبب كفرانهم.
[113] وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ من أنفسهم لا من الملائكة، و لا من أمة أخرى فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ حال ظلمهم لأنفسهم.
[114] فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا شرعا طَيِّباً لا خبث فيه وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.
[115] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ الضمير عائد إلى (ما) و المراد ما سمي اسم الأصنام عليه عند الذبح، و الإهلال رفع الصوت عند الذبح فَمَنِ اضْطُرَّ إلى أكل هذه الأشياء غَيْرَ باغٍ لم يبغ أي لم يطلب ذلك وَ لا عادٍ لم يتعد في أكله مقدار الضرورة، و إنما حصر المحرم ب (إنما) بالنسبة إلى ما حرموه من السائبة و البحيرة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[116] وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ أي ما تقوله ألسنتكم كذبا هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ فلا تقولوا لما أحللتموه بأنفسكم كالميتة هذا حلال و لما حرمتموه بأنفسكم كالسائبة هذا حرام لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بأن تضيفوا على أصل التحريم و التحليل، الافتراء على الله إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ لا يفوزون بالثواب.
[117] لهم مَتاعٌ تمتع في الدنيا قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ في الآخرة أَلِيمٌ مؤلم.
[118] وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا اليهود حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ في سورة الأنعام في آية (و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) «1» وَ ما ظَلَمْناهُمْ في تحريم تلك المحرمات عليهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر و العصيان فالتحريم كان جزاء أعمالهم.
__________________________________________________
(1) سورة الأنعام: 146.
تبيين القرآن، ص: 293
[119] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ المعصية بِجَهالَةٍ جاهلين بالله و عقابه، فإن كل عاص جاهل ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا عملهم إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها بعد التوبة و الإصلاح لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
[120] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً لأنه كان مؤمنا فهو أمة كاملة في مقابل سائر البشر الذين كانوا أمة كافرة قانِتاً مطيعا لِلَّهِ حَنِيفاً مائلا عن الشرك إلى الإيمان وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما زعم أهل الكتاب و قريش أنه عليه السّلام كان مشركا.
[121] شاكِراً لِأَنْعُمِهِ لنعم الله تعالى اجْتَباهُ اختاره الله للنبوة وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو صراط الدين.
[122] وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً الرسالة و السعادة وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ الذين يدخلون الجنة.
[123] ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ طريقته في التوحيد و الالتزام بالدين حَنِيفاً مائلا عن الباطل وَ ما كانَ إبراهيم عليه السّلام مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
[124] إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ وجب تعظيمه عَلَى اليهود الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فاصطاد بعض فيه و لم يصطد الآخر، و لم يكن إبراهيم عليه السّلام منهم وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإثابة المحق و عقاب المبطل.
[125] ادْعُ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ الإسلام بِالْحِكْمَةِ بأن تضع الدعوة في موضعها وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المواعظ المقبولة ترهيبا و ترغيبا وَ جادِلْهُمْ ناظرهم بِالَّتِي بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ باللين و الرفق إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فلا يهمك عدم اهتدائهم و إنما عليك البلاغ و الدعوة.
[126] وَ إِنْ عاقَبْتُمْ أردتم عقاب المسي ء فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ بأن تعاقبوه بقدر ما عاقبكم و آذاكم لا أكثر وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ فلم تعاقبوا، في موقع حسن الصبر لَهُوَ الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لما فيه من الأجر و الثواب.
[127] وَ اصْبِرْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تبليغ الرسالة وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ بتوفيق الله وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ في إعراضهم وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ لا يضيق صدرك مِمَّا يَمْكُرُونَ مكرهم ضدك.
[128] إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر و المعاصي، فإنه تعالى معهم بالنصرة و الثواب وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أحسنوا زيادة على التقوى.
تبيين القرآن، ص: 294
مكية آياتها مائة و إحدى عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] سُبْحانَ أنزهه تنزيها الَّذِي أَسْرى أذهب بِعَبْدِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مكة إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بيت المقدس في الأردن الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ فحوله مبارك بكثرة الأنبياء و بكثرة الأشجار و الثمار لِنُرِيَهُ علة للإسراء و الضمير لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ آياتِنا الأدلة التي يشاهدها في السماء و في الأرض في مسيره السريع إِنَّهُ تعالى هُوَ السَّمِيعُ لأقوال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْبَصِيرُ لأفعاله.
[2] وَ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْكِتابَ التوراة وَ جَعَلْناهُ هُدىً هداية لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا بيان كونه هدى تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربّا تكلون إليه أموركم.
[3] يا ذُرِّيَّةَ أولاد مَنْ حَمَلْنا في السفينة مَعَ نُوحٍ فإنكم ذريّة أولئك الذين فضلنا عليهم بنجاتهم من الغرق إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً كثير الشكر.
[4] وَ قَضَيْنا أوحينا و أخبرنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ التوراة لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ أولهما بقتل شعيا النبي عليه السّلام و ثانيهما بقتل زكريا و يحيى عليه السّلام وَ لَتَعْلُنَّ تستكبرون عُلُوًّا كَبِيراً بالجرأة على الله في انتهاك محرماته.
[5] فَإِذا جاءَ وَعْدُ عقاب أُولاهُما أولى المرتين بَعَثْنا أرسلنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا بخت نصر و جالوت أُولِي أصحاب بَأْسٍ بطش شَدِيدٍ فَجاسُوا طاف أولئك العباد خِلالَ الدِّيارِ أواسط بلاد اليهود للقتل و النهب وَ كانَ وعد عقابهم وَعْداً مَفْعُولًا لا بدّ و أن يفعل.
[6] ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ يا بني إسرائيل الْكَرَّةَ الدولة عَلَيْهِمْ أي على أولئك الذين بطشوا بكم وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً عددا من السابق.
[7] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأن جزاء الإحسان يعود إلى نفس الإنسان وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فوبال الإساءة يعود إلى أنفسكم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وعد عقوبة المرة الثانية لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي بعثنا عبادا لنا لأجل أن يسيئوا إليكم فيجعلوا وجوهكم بادية آثار المساءة فيها وَ لِيَدْخُلُوا أولئك المبعوثين الْمَسْجِدَ بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ للفساد، في عقوبة المرة الأولى وَ لِيُتَبِّرُوا ليهلكوا ما عَلَوْا ما غلبوا عليه تَتْبِيراً هلاكا.
تبيين القرآن، ص: 295
[8] عَسى لعل رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الثانية إن تبتم وَ إِنْ عُدْتُمْ إلى الفساد عُدْنا إلى عقوبتكم وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً سجنا و محبسا.
[9] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي للطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ أشد الطرق استقامة وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً عظيما.
[10] وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا هيّأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما.
[11] وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ يدعو عند غضبه بالشر على نفسه و أهله دُعاءَهُ مثل دعائه بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يسارع إلى ما يخطر بباله و لا ينظر إلى عاقبة دعائه.
[12] وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ تدلان على الله فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي الآية التي هي الليل فمحونا نورها بالظلام وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مضيئة لِتَبْتَغُوا لتطلبوا في النهار فَضْلًا رزقا و معاشا بالتجارة مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا باختلافهما عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ لتعلموا الحساب للأوقات وَ كُلَّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه الإنسان في أمور دينه و دنياه فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا شرحناه شرحا وافيا.
[13] وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ عمله، فإنّه كالطائر يصعد إلى فوق فِي عُنُقِهِ كالطوق الملازم للإنسان وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً صحيفة عمله يَلْقاهُ مَنْشُوراً مفتوحا أمامه.
[14] و يقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً فأنت تحاسب نفسك من كتابك الذي تقرأه.
[15] مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ففائدة هدايته لنفسه وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ضرره يعود إلى نفسه وَ لا تَزِرُ لا تحمل نفس وازِرَةٌ حاملة للعصيان وِزْرَ أُخْرى نفس أخرى، فذنب كل إنسان على نفسه وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فنلزمهم الحجة.
[16] وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
لأنهم خالفوا الأوامر العقليّة بالفساد و الظلم، لم نهلكهم قبل إتمام الحجّة ببعث الرسول، بل أَمَرْنا مُتْرَفِيها
أصحاب النعمة فيها، أمرناهم بأوامرنا فَفَسَقُوا فِيها
خالفوا أوامرنا في تلك القرية، كما يقال أمرته فعصاني و إنما خص المترفين بالذكر، لترتيب العصيان عليهم فإنهم رؤوس العصاة فَحَقَ
ثبت عَلَيْهَا
على تلك القرية الْقَوْلُ
لعقابها بعد مخالفتها أوامر الله فَدَمَّرْناها
أهلكناها تَدْمِيراً
إهلاكا.
[17] وَ كَمْ للتكثير أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ الأمم مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً كفى ربك عالما مبصرا لذنوب الناس فيجازيهم عليها.
تبيين القرآن، ص: 296
[18] مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله الدنيا الْعاجِلَةَ فيعمل لها فقط عَجَّلْنا لَهُ فِيها في الدنيا ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ إعطائه منها ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها يدخلها مَذْمُوماً ملوما مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله.
[19] وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها السعي اللائق بالآخرة بإتيان الأعمال الصالحة وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إذ العمل الصالح لا ينفع بدون الإيمان فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً يشكره الله بإعطائهم الثواب.
[20] كُلًّا كل واحد ممن يريد الآخرة و يريد الدنيا نُمِدُّ نعطيه هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا، بل يشمل المؤمن و الكافر.
[21] انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الذكاء و الرزق و الجمال و غيرها وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ أعظم دَرَجاتٍ فدرجة بعضهم فوق بعض وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا و هذا تشويق لتكثير العمل لأجل الآخرة.
[22] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ فتصير مَذْمُوماً مَخْذُولًا لا ناصر لك.
[23] وَ قَضى أمر رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ تحسنوا إِحْساناً إِمَّا أصله (إن) الشرطية و (ما) الزائدة يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ الشيخوخة أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فلا تتضجّر منهما و لا تقل لهما هذه الكلمة الجافية وَ لا تَنْهَرْهُما لا تطردهما و لا تزجرهما بإغلاظ و صياح وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً جميلا رقيقا.
[24] وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أي تواضع لهما كما يخفض ولد الطائر جناحه ذلة و تواضعا لأبويه مِنَ الرَّحْمَةِ و العطف عليهما، فلا يكون الخفض لأجل الطمع و ما أشبه وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي كما أنّهما رحماني صغيرا حيث ربياني في حال كوني صغيرا.
[25] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من برّ و عقوق إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ بإطاعة أوامر الله فَإِنَّهُ تعالى كانَ لِلْأَوَّابِينَ التوابين غَفُوراً يغفر ذنوبهم.
[26] وَ آتِ أعط ذَا الْقُرْبى الأقرباء حَقَّهُ المقرر في الشريعة من صلة الرحم و الإحسان وَ آت الْمِسْكِينَ الفقير وَ ابْنَ السَّبِيلِ المنقطع في سفره وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً بالإنفاق في غير ما أحله الله.
[27] إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ كالأخ لهم في كون كل واحد منهما يعصي الله تعالى وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً شديد الكفر فلا ينبغي لأحد أن يتخذه أخا.
تبيين القرآن، ص: 297
[28] وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي تعرض عن ذي القربى و المسكين و ابن السبيل فيما إذا لم تجد ما تعطيهم ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها بأن تنظر رحمة الله إليك تعطيهم منها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ليّنا حتى تجلب قلوبهم.
[29] وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ بأن لا تعطي شيئا كمن جعل يده في قيد مربوطة بعنقه وَ لا تَبْسُطْها بأن تعطي كل ما عندك كاليد المبسوطة التي لا يبقى فيها شي ء كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ فتصير مَلُوماً يلومك الله و الناس، بالإسراف مَحْسُوراً عاجزا، محبوسا لا تقدر على قضاء حوائجك.
[30] إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ أي يضيق لمن يشاء إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً فلا تخف الفقر حتى لا تعطي شيئا، و لا تسرف اعتمادا على أن الله يرزقك.
[31] وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ فإنهم كانوا يقتلون أولادهم من خشية الفقر، و يقولون: من يرزقهم؟
نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً إثما عظيما.
[32] وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى نهي عن قربه مبالغة في النهي عنه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً كثير الفحش و التعدي عن الحق، و الفحش كل ما يشتد قبحه من الذنوب و المعاصي وَ ساءَ سَبِيلًا أي بئس الطريق طريق الزنا.
[33] وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها الله و جعلها محترمة إِلَّا بِالْحَقِّ كالقتل قصاصا أو ما أشبه وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بغير حق فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً تسلطا على القاتل بأن يقتله أو يأخذ الدية منه فَلا يُسْرِفْ الولي فِي الْقَتْلِ بأن يجاوز الحد بالمثلة أو قتل غير القاتل، ممّن يسمّى مؤامرا، أو نحو ذلك إِنَّهُ أي الولي كانَ مَنْصُوراً من الله بإعطائه حق القصاص.
[34] وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي بالصفة التي هِيَ أَحْسَنُ لحفظه و تثميره حَتَّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ بأن يصير بالغا و رشيدا وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ بالمعاهدات التي بينكم و بين غيركم إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا يسأل عنه يوم القيامة هل و في به أم لا.
[35] وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه إِذا كِلْتُمْ أعطيتم بالكيل وَ زِنُوا أمر من وزن بِالْقِسْطاسِ الميزان الْمُسْتَقِيمِ المستوي ذلِكَ الوزن بالميزان المستقيم خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا مآلا.
[36] وَ لا تَقْفُ لا تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ في العقائد و الأعمال إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ القلب كُلُّ أُولئِكَ الأعضاء كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا يسأل عنها في القيامة، فإذا عمل حسب العلم أعفي، و إلّا عوقب.
[37] وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ذا مرح و اختيال إِنَّكَ بوضع رجلك على الأرض وضع المتكبرين لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لا تتمكن من أن تشق الأرض وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا حين تتطاول عند المشي خيلاء، فما فائدة مشيك بكبرياء.
[38] كُلُّ ذلِكَ الذي تقدم النهي عنه كانَ سَيِّئُهُ السوء المنهي عنه من أفراده عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً الله يكرهه.
تبيين القرآن، ص: 298
[39] ذلِكَ المذكور من الأوامر و النواهي مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنَ الْحِكْمَةِ معرفة وضع الأشياء مواضعها وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بأن تشرك فَتُلْقى فتطرح إذا أشركت فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً يلومك الله و الناس مَدْحُوراً مطرودا.
[40] أَ فَأَصْفاكُمْ خصّكم، يا من تقولون بأن الملائكة بنات الله، بأن أعطاكم البنين رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً و الاستفهام للإنكار إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بنسبة الأولاد إليه تعالى.
[41] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا كررنا الدلائل و العبر فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ليعتبروا وَ ما يَزِيدُهُمْ القرآن إِلَّا نُفُوراً عن الحق.
[42] قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ يقول الكفّار إِذاً حينذاك لَابْتَغَوْا طلبوا تلك الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ و هو الله سَبِيلًا طلبوا طريقا لمغالبته كما يفعل الملوك بعضهم ببعض.
[43] سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها وَ تَعالى ارتفع عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً فهو في غاية العلو و الارتفاع عن كلامهم.
[44] تُسَبِّحُ لَهُ تنزهه عن الشرك السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ لأن كل شي ء يدل على توحيده وَ إِنْ ما مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ينزهه عن النقص حامدا له لكماله وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ لا تفهمون تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً فلا يعاجلكم بالعقوبة غَفُوراً لمن تاب منكم.
[45] وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ساترا لكم عنهم فلا يتمكنون من إيذائك.
[46] وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قلوب الكفّار أَكِنَّةً أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفهموا القرآن، لأنّهم لما تركوا الحق تركهم الله تعالى حتى صار قلبهم كأنه في غطاء فلا يفهم الحق وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً حملا ثقيلا فلا يسمعوا الحق سماعا نافعا وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ بدون ذكر آلهتهم وَلَّوْا أعرضوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي مدبرين نُفُوراً جمع نافر أي في حال كونهم نافرين.
[47] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما بالنحو الذي يَسْتَمِعُونَ بِهِ بذلك النحو القرآن، فإنه سماع مستهزئ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ حين تقرأ القرآن و ترشد وَ إِذْ أي و في زمان هُمْ نَجْوى كونهم متناجين بعضهم مع بعض إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ في تناجيهم إِنْ ما تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً قد سحر فذهب السحر بعقله، فهو مجنون.
[48] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ شبّهوك بالمسحور و الساحر و الشاعر و الكاهن و المجنون فَضَلُّوا عن الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا لتكذيبك إلا الكذب و البهتان.
[49] وَ قالُوا إنكارا للبعث: أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً ترابا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ في يوم القيامة خَلْقاً جَدِيداً أحياء جدد.
تبيين القرآن، ص: 299
[50] قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جوابا لهم: كُونُوا بعد الموت شيئا لا يمكن أن يرجع بشرا في نظركم حِجارَةً في القوة أَوْ حَدِيداً في الشدة.
[51] أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ خلقا أشد من الحجارة و الحديد فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا إذا صرنا كذلك قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أي خلقكم فإن من يقدر على البدء يقدر على المعاد أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ يحركون ارتفاعا و انخفاضا إِلَيْكَ نحوك، تعجبا و استهزاء رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ في أي وقت البعث قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً فإن كل آت قريب.
[52] يَوْمَ يَدْعُوكُمْ الله للإحياء فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ تجيبونه حامدين له وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ ما مكثتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لأن الماضي قليل في نظر الإنسان.
[53] وَ قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِعِبادِي المؤمنين يَقُولُوا للكفّار الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من سائر الكلمات في مقام البحث و الإثبات إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ يفسد بَيْنَهُمْ بين المؤمنين و الكافرين لدى الشدة و الغلظة إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة.
[54] مثلا يقولون لهم «1»: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ بحالكم إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ على الناس وَكِيلًا و إنما أنت مبلغ سواء قبلوا أو لم يقبلوا.
[55] وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بأحوالهم وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بالفضائل النفسية و الخارجية بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا أعطينا داوُدَ زَبُوراً و كما فضلنا الأنبياء عليهم السّلام بعضهم على بعض كذلك جعلنا مراتب الناس متفاوتة.
[56] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم آلهة مِنْ دُونِهِ دون الله فَلا يَمْلِكُونَ لا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ رفع الاضرار كالمرض و الفقر عَنْكُمْ بإزالتها وَ لا تَحْوِيلًا منكم إلى غيركم.
[57] أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يدعونهم آلهة يَبْتَغُونَ يطلبون إِلى رَبِّهِمُ الله الْوَسِيلَةَ أي يريدون القرب من الله، حيث يعترفون بأنهم ليسوا بآلهة أَيُّهُمْ هو أَقْرَبُ إليه تعالى، فالأقرب يطلب القرب فكيف بالقريب و البعيد و الأبعد وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً يحذره كل واحد حتى الأنبياء و الملائكة و الأولياء.
[58] وَ إِنْ ما مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها بالموت قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقحط و المرض و ما أشبه كانَ ذلِكَ الحكم بالإهلاك و التعذيب فِي الْكِتابِ اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبا، و لعل المراد إهلاك الكافرين و تعذيبهم.
__________________________________________________
(1) أي يقول عباده المؤمنون للكفار.
تبيين القرآن، ص: 300
[59] وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ التي اقترحها قريش إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ لما اقترحوها و آتينا بها فأهلكناهم، و لذا لا نأتي بها الآن حتى لا نهلك المقترحون المعاندون وَ آتَيْنا ثَمُودَ قوم صالح النَّاقَةَ مُبْصِرَةً دلالة واضحة فَظَلَمُوا بِها لما عقروها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المعجزات إِلَّا تَخْوِيفاً للعباد من عذابنا ليؤمنوا.
[60] وَ إِذْ و اذكر قُلْنا لَكَ أوحينا إليك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ إحاطة علم و قدرة فبلّغهم و لا تخشهم وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ فقد رأى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ امتحانا لهم فلا تغتم له وَ ما جعلنا الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ بني أمية الذين لعناهم فِي الْقُرْآنِ إلا فتنة و امتحانا وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ ذلك إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً عتوّا عظيما، أي أنهم يخرجون من الامتحان، بنو أمية و أتباعهم أكثر طغيانا مما إذا كانوا رعية لا يستولون على الحكم.
[61] وَ إِذْ و اذكر قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً في حال كونه من الطين.
[62] قالَ أَ رَأَيْتَكَ أخبرني هذَا الطين هو الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ جعلته أكرم مني لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فلم تمتني يا ربّ لَأَحْتَنِكَنَّ لأستأصلن بالإغواء ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا منهم.
[63] قالَ الله: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً مكملا.
[64] وَ اسْتَفْزِزْ استخف للحركة و لاتباعك يا إبليس مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ من البشر بِصَوْتِكَ بدعوتهم إلى الشر وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ من الجلبة بمعنى الصياح أي أجمع عليهم لأجل إضلالهم بِخَيْلِكَ فرسانك وَ رَجِلِكَ الراجلين من أتباعك، و هذا كناية عن أن يكيد لهم بجميع أتباعه و أعوانه وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بأن يكسبوا من الحرام وَ الْأَوْلادِ بأن يزنوا، و المراد افعل ما شئت بهم وَ عِدْهُمْ بالمواعيد الباطلة، مثل أنه يشفع لهم الآلهة الصنمية و ما أشبه ذلك وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً باطلا يزينه في أنفسهم.
[65] إِنَّ عِبادِي الذين يتبعون الهدى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ سلطة في إغوائهم وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يتكلون إليه في إنقاذهم من شر الشيطان.
[66] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي يجري لَكُمُ الْفُلْكَ السفينة فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا تطلبوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً.
تبيين القرآن، ص: 301
[67] وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أصابكم خوف الغرق فِي الْبَحْرِ ضَلَّ غاب مَنْ تَدْعُونَ من الأصنام إِلَّا إِيَّاهُ الله تعالى، إذ هو الكاشف للضرّ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق إِلَى الْبَرِّ حيث الاطمئنان أَعْرَضْتُمْ عن توحيده وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كثير الكفر و الكفران.
[68] أَ فَأَمِنْتُمْ حتى أعرضتم عنه تعالى أَنْ يَخْسِفَ الله بِكُمْ معكم جانِبَ الْبَرِّ بأن يقلبه و أنتم عليه أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ريحا فيه الحصى من السماء ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا يحفظكم من بأسه.
[69] أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ في البحر تارَةً أُخْرى مرة ثانية، بإيجاد الرغبة في أنفسكم حتى تركبوا السفينة فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً ما يقصف، أي يكسر مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بكسر السفينة بِما كَفَرْتُمْ بسبب كفركم السابق ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً تابعا يطلب بثأركم و يقول لنا: لم فعلت هذا بهم؟
[70] وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بالعقل و النطق و سائر المزايا وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ على الدوابّ و ما أشبه وَ الْبَحْرِ على السفن و ما أشبه وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا على غير الخواص من الملائكة، و إن كان في البشر من هو أفضل من الخواص أيضا.
[71] أذكر يَوْمَ و هو يوم القيامة نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ إمام زمانهم من نبي أو إمام فَمَنْ من الناس أُوتِيَ أعطي كِتابَهُ بِيَمِينِهِ و هو علامة الفلاح فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ فرحا بما فيه وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا لا يظلمهم الله بقدر ما في شق النواة.
[72] وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى القلب عن الحق فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى عن طريق الجنّة وَ أَضَلُّ سَبِيلًا أبعد عن طريق الحق و السعادة.
[73] وَ إِنْ مخففة من الثقيلة كادُوا قارب الكفّار لَيَفْتِنُونَكَ يضلّونك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الشرائع و العقائد، و هذا كناية عن شدة كيدهم لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ غير الذي أوحينا إليك وَ إِذاً لو اتبعت مرادهم لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وليا لهم.
[74] وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ على الحق بالعصمة لَقَدْ كِدْتَ قربت تَرْكَنُ تميل إِلَيْهِمْ إلى الكفار شَيْئاً ركونا قَلِيلًا لكن العصمة منعت عن ذلك.
[75] إِذاً إذا ملت إليهم لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ عذاب الْحَياةِ في الدنيا وَ ضِعْفَ عذاب الْمَماتِ لأنّ الرسول إذا خالف استحق ضعف عذاب الناس ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً دافعا عنك.
تبيين القرآن، ص: 302
[76- 77] وَ إِنْ مخففة من الثقيلة كادُوا قرب الكفار لَيَسْتَفِزُّونَكَ يزعجونك مِنَ الْأَرْضِ أرض مكة، فإن الإنسان لا يقدر على البقاء في أرض الأعداء لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لو أخرجوك لا يَلْبَثُونَ لا يبقون خِلافَكَ بعدك إِلَّا قَلِيلًا لأنّا نهلكهم حسب:
سُنَّةَ طريقة مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا فإن أقوامهم لمّا أخرجوهم عذبناهم، أي الأقوام وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا تبديلا.
[78] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ زوالها من نصف النهار إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وسط الليل و ظلمته، و هذا بالنسبة إلى الصلوات الأربع وَ أقم قُرْآنَ الْفَجْرِ قراءة الصبح و هي صلاة الصبح إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار.
[79] وَ مِنَ اللَّيْلِ بعضه فَتَهَجَّدْ السهر للصلاة بِهِ بالليل نافِلَةً زيادة على الفرائض لَكَ لنفعك عَسى لعل أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ لأجل ما أتيت من الفرائض و النوافل مَقاماً مَحْمُوداً أي مكانا في الجنة يحمده الناس.
[80] وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي في كل أمر أدخل فيه مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيا، و الكذب ما خالف ظاهره باطنه وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ إخراجا مرضيا وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً قوة و سلطة نَصِيراً تنصرني بها على أعدائك.
[81] وَ قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: جاءَ الْحَقُّ الإسلام وَ زَهَقَ ذهب و زال الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً مضمحلا زائلا، فإن من شأن الباطل الزوال.
[82] وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من الأمراض النفسية و الجسدية، الفردية و الاجتماعية وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ القرآن الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً خسارة، فإن القرآن يوجب زيادة عنادهم، و ذلك يوجب زيادة خسرانهم.
[83] وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بمختلف النعم كالصحة و السعة أَعْرَضَ عن ذكر الله تعالى وَ نَأى بعّد بِجانِبِهِ بنفسه عن الله تعالى وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أصابه الشر كالمرض و الفقر كانَ يَؤُساً قنوطا من روح الله.
[84] قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كُلٌّ كل إنسان يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي طريقته التي اعتادها، فإن اعتاد الشكر شكر، و إن اعتاد الكفران كفر، و هكذا فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أكثر هداية و استقامة، ثم يجازيهم عليه.
[85] وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الذي يحيى به الإنسان، يسألونك ما هو قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي حصل من أمر الله الذي قال له كن فكان، فليس شيئا أزليا كما زعمه بعض الفلاسفة وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فليس تعلمون أكثر الحقائق و الأشياء، و إنّما تعرفونها بالآثار، فليكن الروح منه.
[86] وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بأن نمحي القرآن عن الأذهان و الألواح ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِهِ القرآن عَلَيْنا وَكِيلًا من يتوكل علينا لاسترداده، فالواجب أن يشكر الناس القرآن و يؤمنوا به، لأنه لو أذهبه الله تعالى فاتهم هذا الخير، و لا أحد يقدر على إرجاعه.
تبيين القرآن، ص: 303
[87] إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فإن إبقاء القرآن مع كفران الناس له ليس إلا من رحمة الله تعالى إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً بإرسالك و إنزال القرآن إليك و إبقائه.
[88] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ في فصاحته و بلاغته لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً معينا.
[89] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا بيّنا و كرّرنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ليعتبروا به فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً جحودا و إنكارا و عدم اهتداء القرآن.
[90] وَ قالُوا عنادا و اقتراحا، بعد إتمام الحجة عليهم:
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حَتَّى تَفْجُرَ تظهر لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً عينا من الماء.
[91] أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ بستان مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ تظهر الْأَنْهارَ خِلالَها في أواسط البستان تَفْجِيراً بالإعجاز.
[92] أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ إشارة إلى قوله تعالى: (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) «1» عَلَيْنا كِسَفاً قطعا، قطعة إثر قطعة أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا مقابلا نعاينهم.
[93] أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ بأن نراك و أنت تصعد نحو العلو وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ لصعودك وحده حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً بيدك نَقْرَؤُهُ فيه تصديق أنك رسول قُلْ سُبْحانَ رَبِّي أنزهه تنزيها، و فيه معنى التعجب هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً كسائر الناس رَسُولًا كسائر الرسل، و هل البشر يقدر على ذلك، أو هل الرسل أتوا بمقترحات أقوامهم، إنما على الرسول البلاغ المؤيّد بالمعجز.
[94] وَ ما مَنَعَ لم يمنع النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا من الإيمان إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى حين جاءتهم الهداية و الحجة من الله إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا إلا إنكارهم أن يكون الرسول بشرا، لزعمهم أن الرسول لا بد و أن يكون ملكا.
[95] قُلْ في جواب شبهتهم: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي ابن آدم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا إذ لا بد من تجانس الرسول و المرسل إليه ليمكنهم إدراكه، و ليكون قدوة في حركاته و سكناته.
[96] قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أنه يشهد لي بالرسالة بما أجراه على يدي من المعاجز إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بأحوالهم بَصِيراً يرى حركاتهم و سكناتهم.
__________________________________________________
(1) سورة سبأ: 9.
تبيين القرآن، ص: 304
[97] وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ لأن الهداية لا تكون من غير الله وَ مَنْ يُضْلِلْ يتركه حتى يضلّ، لأنّه رأى الحق فعانده فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ لأولئك الضالين أَوْلِياءَ أنصار يهدونهم مِنْ دُونِهِ غير الله وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ يسحبون عليها عُمْياً جمع أعمى وَ بُكْماً جمع أبكم، الذي لا يتكلم وَ صُمًّا جمع أصم، الذي لا يسمع، أي يحشرون هكذا، كما كانوا في الدنيا لا يرون الحق للاعتبار، و لا يتكلمون بالحق، و لا يسمعون الحق سماع عمل مَأْواهُمْ محلهم جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ سكنت نارها زِدْناهُمْ سَعِيراً تلهّبا.
[98] ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا إنكارا للبعث: أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً ترابا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً.
[99] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أو لم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بإعادتهم إلى الحياة وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا وقتا لإعادتهم لا رَيْبَ فِيهِ لا ينبغي الشك فيه فَأَبَى الظَّالِمُونَ المنكرون للبعث إِلَّا كُفُوراً جحودا.
[100] قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي كخزائن الأعمار و الأرزاق إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ و لم تعطوا خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ من خوف النفاد إذا أنفقتم وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً بخيلا، لأن في طبيعته الحاجة.
[101] وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ معاجز واضحات و هي: العصا و اليد و اللسان و البحر و الجراد و الطوفان و القمل و الضفادع و الدم، و قيل غيرها بتبديل بعضها بآخر فَسْئَلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ موسى عليه السّلام بهذه الآيات فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً سحرت فخولط عقلك.
[102] قالَ موسى عليه السّلام: لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ بينات لأجل أن تبصركم وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً هالكا لكفرك.
[103] فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ يستخفهم لأجل أن ينفيهم مِنَ الْأَرْضِ أرض مصر فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً.
[104] وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ بعد فرعون لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ أرض مصر و الشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وقت قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أنتم و هم للمحاكمة و الجزاء.
تبيين القرآن، ص: 305
[105] وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أنزلنا القرآن، فلم ننزله لأجل الباطل وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ فلم يبدل إلى الباطل، مثلا قد يصدر الحاكم أمرا بقتل زيد باطلا و قد يصدره حقا، ثم إذا جي ء للتطبيق قد يؤخذ زيد المجرم و قد يؤخذ رجل بري ء اسمه زيد وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً بالسعادة و الجنّة لمن أطاع وَ نَذِيراً لمن خالف.
[106] وَ أنزلناه قُرْآناً فَرَقْناهُ مفرقا، فإنّ نزول القرآن كان في بضع و عشرين سنة لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ مهل وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا حسب المصالح.
[107] قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإن ذلك لا يهمّ الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنما فائدة الإيمان ترجع إلى أنفسكم إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن و هم أهل الكتاب إِذا يُتْلى يقرأ القرآن عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ يسقطون لِلْأَذْقانِ جمع ذقن، و هو منتهى الوجه سُجَّداً جمع ساجد.
[108] وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا ننزه الله تنزيها عن خلف الوعد إِنْ كانَ إنه كان وَعْدُ رَبِّنا بإرسال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنزال القرآن لَمَفْعُولًا منجزا و هذا اعتراف منهم بالرسالة و القرآن.
[109] وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ من خوف الله وَ يَزِيدُهُمْ الله، أو القرآن خُشُوعاً خضوعا لله.
[110] قُلِ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادْعُوا يا أيها المشركون اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فإن اللفظين يشيران إلى ذات واحدة أَيًّا من هذين الاسمين ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الحسنة الدالة على صفات الجلال و الجمال وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ لا ترفع بها صوتك وَ لا تُخافِتْ بِها بحيث لا تسمع أذنيك وَ ابْتَغِ اطلب بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا وسطا لا جهرا و لا إخفاتا.
[111] وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ في الألوهية وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ من أجل ذل به، يريد بالولي دفع ذله عن نفسه وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً تعظيما.
مكية آياتها مائة و عشرة آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْكِتابَ القرآن وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ للقرآن عِوَجاً شيئا من الاعوجاج عن طريق الهداية.
[2] قَيِّماً في حال كون القرآن مستقيما، لا إفراط و لا تفريط فيه لِيُنْذِرَ الله بسبب القرآن الذين كفروا بَأْساً عذابا شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ صادرا من عنده وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً.
[3] ماكِثِينَ باقين فِيهِ في ذلك الأجر و هو الجنة أَبَداً بلا انقطاع.
[4] وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً و هم اليهود و النصارى ينذرهم بالحروب في الدنيا و العذاب في الآخرة.
تبيين القرآن، ص: 306
[5] ما لَهُمْ بِهِ بالولد مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ الذين كانوا يقولون هذا القول كَبُرَتْ عظمت مقالتهم هذه في حال كونها كَلِمَةً متصفة بأنها تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ فهي مجرد قول يقال لا أصل له إِنْ ما يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً.
[6] فَلَعَلَّكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باخِعٌ هالك نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ في أثر إعراضهم إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ القرآن أَسَفاً على عدم إيمانهم، و الأسف المبالغة في الحزن.
[7] إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الحيوان و النبات و الشجر و المعادن و غيرها زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ نختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فمن زهد عن زينة الدنيا و رغب في الآخرة فهو الأحسن عملا.
[8] وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ نجعل ما عَلَيْها على الأرض صَعِيداً أرضا مستوية جُرُزاً لا نبات فيها.
[9] أَمْ بل حَسِبْتَ ظننت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ غار في جبل، فقد كانوا جماعة هربوا من ملكهم الكافر، تحفظا على إيمانهم، و التجأوا إلى الكهف فأبقاهم الله أحياء ثلاثمائة سنة أو أكثر وَ الرَّقِيمِ هو لوح رقم و كتب فيه تفصيل قصتهم و وضع في الجبل كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً أي ما كانوا عجبا بالنسبة إلى قدرة الله تعالى.
[10] إِذْ أَوَى التجأ الْفِتْيَةُ الشباب إِلَى الْكَهْفِ غار الجبل فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ارحمنا وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً لنكون راشدين «1».
[11] فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ كناية عن إنامتهم، فإن النائم تسد أذنه عن السماع فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ذوات عدد.
[12] ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِنَعْلَمَ ليقع ما علمناه قديما، في الخارج أَيُّ الْحِزْبَيْنِ المؤمنين و الكافرين أَحْصى ضبط، من باب الإفعال لِما لَبِثُوا في الكهف أَمَداً أي ضبط مدة لبثهم، فقد اختلفوا فقال الكافرين المنكرون للبعث: ناموا قليلا و قال المؤمنين: ناموا طويلا، فالإيقاظ كان لأجل إثبات البعث بعد تبين صحة قول المؤمنين.
[13] نَحْنُ نَقُصُّ نذكر قصتهم عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ خبرهم بِالْحَقِّ المطابق للواقع إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ جمع فتى و هو الشاب آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً بأن ثبتناهم على طريقتهم.
[14] وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قويناها بما أريناهم من الآيات إِذْ قامُوا نهضوا لأجل التحفظ على دينهم فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً فليس دقيانوس الملك إلها كما يزعم لَقَدْ قُلْنا إِذاً إذ عبدنا غير الله شَطَطاً قولا ذا شطط، أي ذا بعد مفرط عن الحق.
[15] هؤُلاءِ قَوْمُنَا عطف بيان اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ دون الله آلِهَةً لَوْ لا هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ حجة ظاهرة فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك له.
__________________________________________________
(1) الرشد: نقيض الغي، لسان العرب.
تبيين القرآن، ص: 307
[16] وَ خاطب بعضهم بعضا قائلا: إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ابتعدتم عن القوم وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ و اعتزلتم آلهتهم فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ اجعلوه مأواكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يرحمكم ببسط الرحمة عليكم وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ما ترتفقون به أي تنتفعون.
[17] وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ وقت طلوعها تَتَزاوَرُ تميل عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ طرف اليمين، لئلا يقع شعاعها عليهم فتؤذيهم فإن باب الكهف كان مستقبلا للقطب الشمالي وَ إِذا غَرَبَتْ وقت غروبها تَقْرِضُهُمْ تقطع أشعتها عنهم ذاتَ الشِّمالِ طرف الشمال فلا يقع شعاعها عليهم أيضا وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ فسحة مِنْهُ من الكهف ذلِكَ المذكور مِنْ آياتِ اللَّهِ دلائل قدرته مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ فلا هداية سوى هدايته وَ مَنْ يُضْلِلْ بتركه حتى يضلّ، حيث عاند فلم يقبل الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً إذ لا أحد يرشد سواه.
[18] وَ تَحْسَبُهُمْ أي تظنّهم أَيْقاظاً غير نائمين، فقد قالوا كانت أعينهم مفتوحة، و الله يقلّبهم من جنب إلى جنب وَ هُمْ رُقُودٌ نائمون وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ على جنوبهم لئلا تأكلهم الأرض وَ كَلْبُهُمْ الحارس لهم باسِطٌ ماد ذِراعَيْهِ يديه، كما ينام الكلب بِالْوَصِيدِ بفناء الكهف لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لو رأيتهم أيها الرائي لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً هربت منهم وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً خوفا للهيبة التي أضفاها الله عليهم.
[19] وَ كَذلِكَ فكما أنمناهم بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ عن مدة لبثهم فيعرفوا صنع الله بهم قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ مكثتم قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم ظنّوا أن نومهم كان في ساعات فقط لأنهم ناموا صباحا و قاموا عصرا، فظنّوه عصر نفس اليوم، أو اليوم التالي له قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إذ لا علم لنا بالمقدار المضبوط فَابْعَثُوا أرسلوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ الفضة النقدية هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ طرسوس فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أي أهلها أَزْكى أحسن طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ طعام مِنْهُ من الأزكى وَ لْيَتَلَطَّفْ يظهر اللطف و اللين مع البائع لئلا يعرف وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً لا يفهم أحد أنك من الهاربين عن دقيانوس.
[20] إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا يطلعوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم برمي الحجارة عليكم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ في دينهم وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً إذا دخلتم في ملتهم أَبَداً إلى الأبد.
تبيين القرآن، ص: 308
[21] وَ كَذلِكَ كما أنمناهم و أيقظناهم أَعْثَرْنا أطلعنا عَلَيْهِمْ أهل المدينة لِيَعْلَمُوا ليعلم الذين اطّلعوا على أمرهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالمعاد حَقٌّ لأن نومهم و انتباههم بمنزلة الموت و البعث وَ ليعلموا أَنَّ السَّاعَةَ القيامة لا رَيْبَ فِيها ليس محل الريب و الشك إِذْ ظرف ل (أعثرنا) يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ الناس الذين اطلعوا على قصّتهم أَمْرَهُمْ هل ماتوا و استحيوا أم ناموا و استيقظوا فَقالُوا الكفار: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً حائطا يسترهم، أرادوا بذلك محو آرائهم رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة، أي أن الله أعلم بحالهم فيما اختلفوا فيه قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أمر الفتية و هم المؤمنون:
لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً موضعا للصلاة، و ذلك لتذكير الناس بأمرهم، و تقريبهم إلى طاعة الله.
[22] سَيَقُولُونَ المختلفون في شأنهم: هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ أي قذفا بالموضع المجهول، و قولا بغير علم وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كالنبي و أوصيائه عليهم السّلام فَلا تُمارِ فِيهِمْ فلا تجادل في عددهم إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي بما ظهر لك من أمرهم وَ لا تَسْتَفْتِ أي لا تستخبر فِيهِمْ في شأن أهل الكهف مِنْهُمْ من أهل الكتب أَحَداً فأنهم لا علم لهم بشأنهم.
[23] وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ لأجل شي ء تعزم عليه إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ أفعل ذلك الشي ء غَداً في المستقبل.
[24] إِلَّا متلبسا بقولك: أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ذلك وَ اذْكُرْ رَبَّكَ بإن شاء الله بعد ذلك إِذا نَسِيتَ ذكر المشيئة وقت الوعد، و لعلّ ذكر هذه الآية في وسط آيات الكهف للتنبيه على أن أهل الكهف ناموا ليقوموا بعد ساعات، لكن الأمر حيث كان بيد الله أنامهم هذا النوم الطويل، فاللازم التوجه إلى الله حال وعد المستقبل وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً.
[25- 26] وَ لَبِثُوا بقوا، قبل يقظتهم فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً تسع سنوات، قالوا و الأول بسني القمر و الثاني بسني الشمس قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فدعوا قول أهل الكتاب و اتبعوا الوحي لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ما غاب عن الحواس في السماء و في الأرض أَبْصِرْ بِهِ أي بالله وَ أَسْمِعْ أي ما أبصره و أسمعه، كناية عن أنّه تعالى يرى و يسمع كل شي ء ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ دون الله مِنْ وَلِيٍّ يتولّى أمورهم وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً فلا شريك له في الحكم كما لا شريك له في الملك.
[27] وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ القرآن لا مُبَدِّلَ لا أحد يقدر على تبديلها لِكَلِماتِهِ أي أحكامه و ما يريده وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملجأ.
تبيين القرآن، ص: 309
[28] وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ احبسها مَعَ الَّذِينَ المؤمنين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ أي في عامة أوقاتهم، صباحا و مساء يُرِيدُونَ وَجْهَهُ رضاه و ذاته، بلا شرك و رياء وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ لا تجاوز نظرك عنهم إلى غيرهم من أصحاب الثروة و الجاه تُرِيدُ بذلك زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ تركنا قلبه حتى غفل عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً لا نظام له، فإن المؤمن إيمانه نظام لجميع أموره، أما الكافر فيميل إلى هنا و هناك كالعنب الفرط الذي انسلخ عن عنقوده.
[29] وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ تهديدا لهم إِنَّا أَعْتَدْنا هيّئنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها فسطاطها، لأن النار كالسرادق ذات قاعدة واسعة و رأس تنتهي إلى نقطة وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ كالنحاس المذاب ثقلا و حرارة و لزوجة يَشْوِي يطبخ ذلك الماء الْوُجُوهَ بمجرد اقترابه منها، لشدة حرارته بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ النار مُرْتَفَقاً مقابل (حسنت مرتفقا) «1» لأصحاب الجنّة، كما سيأتي.
[30- 31] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ بساتين إقامة للخلود تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ تحت أشجارهم و قصورهم الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ يلبسون الحليّ و الزينة فِيها مِنْ أَساوِرَ ما يوضع في الذراع من الحلي مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً فإنه أجمل الألوان مِنْ سُنْدُسٍ الديباج الرقيق وَ إِسْتَبْرَقٍ الديباج الغليظ، و للغليظ منظر جميل كما أن الرقيق له ملمس حسن مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة و هي السرير نِعْمَ الثَّوابُ الجنة وَ حَسُنَتْ الأرائك مُرْتَفَقاً متكئا.
[32] وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا لعاقبة حال الكافر رَجُلَيْنِ مؤمن و كافر ورثا مالا تصدّق أحدهما بماله فبقي له ثوابه، و اشترى به الآخر مالا فذهب ضياعا جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ بستانين مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما أي أحاط النخل بالأعناب في أطراف البستان بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما بين البستانين زَرْعاً فعنب و نخيل و زرع منظر جميل و ثروة طائلة.
[33] كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أعطت ثمارها وَ لَمْ تَظْلِمْ الجنّة مِنْهُ من الثمر شَيْئاً بأن أعطتا ثمرا كاملا بلا نقص وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما وسط الجنّتين «2» نَهَراً يسقيهما بسهولة.
[34] وَ كانَ لَهُ للرجل ثَمَرٌ أي ثمر كثير، كقولهم (إن له لإبلا) فَقالَ الكافر لِصاحِبِهِ المؤمن وَ هُوَ يُحاوِرُهُ يراجعه في الكلام: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً جماعة، فجماعتي أكثر عزة من جماعتك.
__________________________________________________
(1) المرتفق: المتكأ، يقال: قد ارتفق إذا اتكأ على من يرفقه. لسان العرب. [.....]
(2) التفجير: التشقيق.
تبيين القرآن، ص: 310
[35] وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بكفره و عصيانه قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ تفنى هذِهِ الجنة أَبَداً بل هي باقية لي ما دمت.
[36] وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ القيامة قائِمَةً فلا أصدق لما يقوله الموحدون، و أنت منهم وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بأن صدقتم في وجود يوم القيامة لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها من هذه الجنة مُنْقَلَباً مرجعا، لأنه زعم أن الله أعطاه البستان باستحقاق، فإذا أرجعه بعد الموت أعطاه أيضا أحسن من هذا البستان.
[37] قالَ لَهُ صاحِبُهُ المؤمن وَ هُوَ يُحاوِرُهُ يباحث معه في الكلام: أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ لأن التراب ينقلب نباتا ثم طعاما ثم دما ثم منيا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا عدّلك و كملك، و الاستفهام إنكاري.
[38] لكِنَّا لكن أنا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً لا أجعل له شريكا.
[39] وَ لَوْ لا هلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ و أعجبت بها قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ كائن و قلت: لا قُوَّةَ لي إِلَّا بِاللَّهِ لا بالنفر، كما قلت لي: إِنْ تَرَنِ ترني يا صاحب البستان أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَ وَلَداً.
[40] فَعَسى لعل رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ في الدنيا و الآخرة وَ يُرْسِلَ الله عَلَيْها على جنتك حُسْباناً صواعق، جمع حسبانة و هي الصاعقة مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً أرضا ملساء زَلَقاً يزلق عليها القدم.
[41] أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غائرا في الأرض فتجف الزروع و الأشجار فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ للماء طَلَباً حيلة ترد الماء إلى النهر.
[42] وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ أحاط الهلاك بثمره فهلك فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ كما يفعله النادم، تحسرا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها في عمارة البستان وَ هِيَ خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها دعائم أعنابها فإنها سقطت و سقط عليها الكروم و النخيل وَ يَقُولُ يا قوم لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً فإن جزاء الكفران الحرمان.
[43] وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مقابل ما قال (أعز نفرا) وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ليست له قوة ينتصر بنفسه فلا يصبه السوء.
[44] هُنالِكَ في ذلك المقام الْوَلايَةُ تولي الأمور لِلَّهِ فإذا شاء الله شيئا لم يقدر أحد على دفعه الْحَقِّ لا الأصنام و الأفكار الباطلة هُوَ خَيْرٌ ثَواباً جزاء من غيره وَ خَيْرٌ عُقْباً عاقبة للمتقين.
[45] وَ اضْرِبْ لَهُمْ للناس مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا فهي في سرعة زوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ بالماء نَباتُ الْأَرْضِ فإن في النبات قدرا من الماء كأنه مخلوط به فَأَصْبَحَ النبات هَشِيماً يهشم و يكسر بعد يبسه تَذْرُوهُ الرِّياحُ تطيره الرياح هناك و هنالك وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً فينشئ و يفني.
تبيين القرآن، ص: 311
[46] الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتزين الإنسان بهما في الدنيا وَ الخيرات الْباقِياتُ للآخرة الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً من المال و البنين وَ خَيْرٌ أَمَلًا فإن أمل الإنسان فيها خير من أمله بما في دنياه.
[47] وَ اذكر يَوْمَ و هو عند قيام القيامة نُسَيِّرُ الْجِبالَ في الجوّ كالسحاب وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً لا يسترها شي ء، جبل و لا غيره وَ حَشَرْناهُمْ جمعنا الناس للحساب فَلَمْ نُغادِرْ لم نترك مِنْهُمْ أَحَداً من الناس.
[48] عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
مصطفين لا يحجب بعضهم بعضا، فيقال لهم:قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
بدون مال و عشيرة و قوةلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
وقتا لحسابكم، و هذا تهديد لهم.
[49] وَ وُضِعَ الْكِتابُ أي صحائف الأعمال للنظر فيها فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا فِيهِ من السيئات وَ يَقُولُونَ يا قوم وَيْلَتَنا سوء حالنا ما لِهذَا الْكِتابِ تعجبا من شأنه لا يُغادِرُ لا يترك معصية صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها عدّها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً لم يحذف شي ء منه وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً فلا يزيد سيئات أحد و لا ينقص من حسنات أحد.
[50] وَ إِذْ اذكر زمان قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ من جنسهم لا من جنس الملائكة، و إنما أمر بالسجود في ضمن الملائكة فَفَسَقَ خرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ بنيه و أتباعه أَوْلِياءَ تتولونهم مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ و أنا لكم ولي بِئْسَ إبليس لِلظَّالِمِينَ التابعين له بَدَلًا من الله.
[51] ما أَشْهَدْتُهُمْ ما أحضرت إبليس و ذريته خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ حال خلقت الكون وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ لم استعن بهم حال الخلق، فمن هذا حاله كيف تتخذونه وليّا وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ الشيطان و ذريته عَضُداً أعوانا في خلق أو أمر.
[52] وَ يَوْمَ يَقُولُ الله للكفّار: نادُوا ادعوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شركائي فَدَعَوْهُمْ نادوهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا الأصنام لَهُمْ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ بين المشركين و آلهتهم مَوْبِقاً مهلكا يعم جميعهم، من (وبق) بمعنى هلك.
[53] وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها واقعون فيها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً مكانا ينصرفون إليه تخلصا من النار.
تبيين القرآن، ص: 312
[54] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا بيّنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بقصد اعتبارهم بالأمثال وَ كانَ الْإِنْسانُ الكافر أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا بالباطل.
[55] وَ ما مَنَعَ النَّاسَ ماذا ينتظرون أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ بأن نعذّبهم عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ بالسيف قُبُلًا عيانا، أو المراد بالعذاب: عذاب الآخرة بأن يموتوا فيروا عذابها.
[56] وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ يجادلون لأجل إنكار الرسل لِيُدْحِضُوا أي يبطلوا بِهِ بالباطل الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آياتِي كالقرآن وَ ما أُنْذِرُوا من العذاب هُزُواً استهزاء.
[57] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ الكافر الذي ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ذكره النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقرآن فَأَعْرَضَ عَنْها و لم يتدبرها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الكفر و المعاصي بأن لم يتفكر في عاقبة نفسه إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية، كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ أي القرآن، و المعنى تركناهم حيث عاندوا حتى صار على قلوبهم كالغطاء في عدم فهم الحق وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً حملا ثقيلا فلا يسمعون سماعا نافعا وَ إِنْ تَدْعُهُمْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً إذا دعوتهم أَبَداً لأنهم يعاندون الحق.
[58] وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا من الكفر و المعاصي لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ في الدنيا بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ يوم القيامة لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ دون الله مَوْئِلًا منجى و ملجأ.
[59] وَ تِلْكَ الْقُرى كعاد و ثمود و غيرهما أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا بتكذيب الأنبياء عليهم السّلام وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ لهلاكهم مَوْعِداً وقتا معلوما.
[60] وَ إِذْ و اذكر قالَ مُوسى لِفَتاهُ يوشع بن نون لا أَبْرَحُ لا أزال أسير حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ محل اجتماع بحري فارس و الروم، لأنه وعد هناك بملاقاة الخضر عليه السّلام أَوْ أَمْضِيَ أسير حُقُباً زمانا طويلا.
[61] فَلَمَّا بَلَغا موسى عليه السّلام و فتاه مَجْمَعَ بَيْنِهِما بين البحرين نَسِيا حُوتَهُما كانا أعدا سمكا لطعامهما، فنسي يوشع السمك، و إنما نسب إليهما كقولهم (نسي القوم زادهم) إذا نساه معتمد أمرهم فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ اتخذ الحوت طريقه حيث أحياه الله تعالى فِي الْبَحْرِ سَرَباً مسلكا، قالوا صار مسلك الحوت كالكوة في الماء لا يلتئم.
تبيين القرآن، ص: 313
[62] فَلَمَّا جاوَزا ذلك المكان قالَ موسى عليه السّلام لِفَتاهُ آتِنا جئ إلينا غَداءَنا طعامنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً تعبا.
[63] قالَ الفتى: أَ رَأَيْتَ هل علمت ما حدث إِذْ أَوَيْنا ذهبنا للاستراحة إِلَى الصَّخْرَةِ الكائنة عند مجمع البحرين فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ هناك وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ بدل عن (نسيت) أي نسيت ذكر الحوت وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً سبيلا عجبا بأن بقي الماء كالكوة في مكان ذهابه!
[64] قالَ موسى عليه السّلام: ذلِكَ فقد الحوت و إحياء الله تعالى له ما كُنَّا نَبْغِ نطلب، لأن الله وعده بلقيا الخضر عليه السّلام في ذلك المكان فَارْتَدَّا رجع موسى عليه السّلام و فتاه عَلى آثارِهِما في الطريق الذي أتيا منه قَصَصاً أي اتباعا لآثارهما.
[65] فَوَجَدا عَبْداً هو الخضر عليه السّلام مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً بالنبوة مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً و لم يكن ألهم الله موسى عليه السّلام ذلك العلم، و لا غرابة فقد كان جبرئيل عليه السّلام يعلم النبي مع أنه أفضل منه.
[66] قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ علمك الله رُشْداً أي تعلمني علما ذا رشد.
[67] قالَ العالم: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً يثقل عليك الصبر لما تراه.
[68] وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً فإن ظاهره منكر و لا تعلم باطنه.
[69] قالَ موسى عليه السّلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً تأمرني به.
[70] قالَ العالم فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ ممّا أفعله حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أفسره لك.
[71] فَانْطَلَقا مشيا موسى و الخضر عليه السّلام حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ سفينة تعبر بهما الماء خَرَقَها شق الخضر عليه السّلام السفينة قالَ موسى عليه السّلام: أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها على نحو استفهام إنكاري لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً منكرا عظيما، و لم يكن اعتراض موسى عليه السّلام خلاف وعده لأنه علق الوعد بمشيئة الله تعالى.
[72] قالَ أَ لَمْ أَقُلْ حين أردت اتباعي إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
[73] قالَ موسى عليه السّلام: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ جعلته كالمنسي في الاعتراض عليك وَ لا تُرْهِقْنِي لا تكلفني مِنْ أَمْرِي عُسْراً مشقة بل عاملني بالمسامحة.
[74] فَانْطَلَقا بعد ما خرجا من السفينة حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً ولدا فَقَتَلَهُ الخضر عليه السّلام قالَ موسى عليه السّلام:
أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بريئة من الذنب بِغَيْرِ نَفْسٍ بغير أن كان قتل نفسا فليس قتلك له قودا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً فظيعا منكرا.
تبيين القرآن، ص: 314
[75] قالَ الخضر عليه السّلام: أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
[76] قالَ موسى عليه السّلام: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي من قبلي عُذْراً في مفارقتك إياي.
[77] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما طلبا الطعام، لما أصابهم من الجوع الكثير أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما امتنع أهل القرية عن ضيافتهما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ يسقط فَأَقامَهُ فبناه الخضر عليه السّلام قالَ موسى عليه السّلام: لَوْ شِئْتَ بنائه لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أجرة لنسدّ بها جوعنا.
[78] قالَ الخضر عليه السّلام: هذا الإنكار لبنائي الحائط فِراقُ سبب الفراق بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مآل ما الأمور التي فعلتها مما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
[79] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ فقراء يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ يكتسبون في البحر بسبب السفينة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ وراء أولئك المساكين مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صحيحة غَصْباً فإذا كانت معيوبة لم يغصبها و خرق بعض ألواح السفينة عيب فيها.
[80] وَ أَمَّا الْغُلامُ الذي قتلته فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ و قد علمنا أنه إذ كبر كفر و سبّب كفر أبويه فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما أن يسبب لهما إرهاقا و تعبا، أو أن يغشاهما و يحملهما طُغْياناً وَ كُفْراً باتباعهما له فقتله كان خيرا للثلاثة.
[81] فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما يرزقهما بدله رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ من الغلام زَكاةً طهارة و صلاحا وَ أَقْرَبَ رُحْماً رحمة و عطفا بأبويه، و كانت جارية من نسلها خرج سبعون نبيا و كان القصاص قبل الجناية جائزا في تلك الشريعة.
[82] وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي تلك الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما خلف لهما و قد علّم بذلك الجدار فإذا سقط الجدار ذهب أثره وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فحفظ الله لولدهما بسبب صلاح الأب ذلك الكنز فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما كمال الرشد وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ فعلت ما فعلت عَنْ أَمْرِي و إرادتي بل عن أمر الله تعالى ذلِكَ الذي ذكرت في سبب ما فعلت تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً قالوا: و قد كانت أعمال الخضر عليه السّلام إشارة إلى أعمال موسى عليه السّلام فالسفينة إشارة إلى وضعه في التابوت حال صغره، و قتل الغلام إشارة إلى قتل موسى عليه السّلام للقبطي، و إقامة الجدار إشارة إلى سقي أغنام شعيب عليه السّلام و هو جائع محتاج إلى الخبز.
[83] وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ من هو و ماذا صنع قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أذكر لكم بعض قصصه.
تبيين القرآن، ص: 315
[84] إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ بأن يتصرف فيها و يسير كيفما شاء وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه سَبَباً طريقا يوصله إلى مراده.
[85- 86] فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ آخر العمارة مما يلي المغرب وَجَدَها هكذا يتراءى للنظر تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ بحر حَمِئَةٍ أسود وَ وَجَدَ عِنْدَها عند العين قَوْماً قُلْنا بالإلهام إلى قلبه: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ القوم بسبب كفرهم وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي تحسن إليهم بهدايتهم.
[87] قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ بالإصرار على الكفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ في الدنيا ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً منكرا غير معهود لشدّته.
[88] وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً لفعلته الْحُسْنى أو هي مثوبة حسنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا أوامرنا الشرعيّة يُسْراً فإن تكاليف الله يسيره.
[89] ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً طريقا يوصله إلى المشرق.
[90] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أول المعمورة من طرف المشرق وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها غير الشمس سِتْراً إذ لم يكن لهم ساتر من جبل أو بيوت أو ملابس.
[91] كَذلِكَ أي أمرناه في أهل المشرق بالقتل أو الهداية كما أمرناه في أهل المغرب وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الجيش و العدة خُبْراً إحاطة علم.
[92] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً طريقا ثالثا آخذا من الجنوب إلى الشمال.
[93] حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قيل: هما جبلان بمنقطع أرض الترك سدّ الإسكندر ما بينهما، و قيل: هو سد الصّين وَجَدَ مِنْ دُونِهِما دون السدين قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ يفهمون قَوْلًا لغرابة لغتهم.
[94] قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ قبيلتان مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالقتل و النهب فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً شيئا نصرفه من مالنا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا حاجزا لا يتمكنون من الخروج علينا.
[95] قالَ ذو القرنين: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي الذي مكنني الله فيه من المال خَيْرٌ مما تجعلونه لي من الخراج فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ بالعمل مما أتقوى به أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً حاجزا حصينا.
[96] آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ قطع الحديد حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ الجبلين بنضد الزبر و جعل الفحم بينهما قالَ ذو القرنين: انْفُخُوا بالمنافخ النيرانية على الحديد حَتَّى إِذا جَعَلَهُ جعل الحديد ناراً كالنار قالَ آتُونِي أُفْرِغْ أصب عَلَيْهِ قِطْراً أي نحاسا.
[97] فَمَا اسْطاعُوا أي يأجوج و مأجوج أَنْ يَظْهَرُوهُ يعلوه لارتفاعه وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ للسد نَقْباً أن يثقبوه لصلابته.
تبيين القرآن، ص: 316
[98] قالَ ذو القرنين: هذا السدّ رَحْمَةٌ نعمة مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي بخروج يأجوج و مأجوج جَعَلَهُ دَكَّاءَ مدكوكا مسوّى بالأرض وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا كائنا لا محالة.
[99] وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ بعض يأجوج و مأجوج يَوْمَئِذٍ يوم خروجهم، و هو من علامات القيامة يَمُوجُ كموج البحر، أي يختلط فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل لإحياء الأموات فَجَمَعْناهُمْ أي الخلائق جَمْعاً.
[100] وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً أظهرناها لهم لإخافتهم.
[101] الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي عن آياتي، فلا يعتبرون بها كأنّ عيونهم في غطاء لا ترى وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي يثقل عليهم استماع الحق.
[102] أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي كالمسيح عليه السّلام مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ معبودين، بدون أن أعذبهم إِنَّا أَعْتَدْنا هيّأنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا منزلا.
[103] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ نخبركم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا من حيث العمل.
[104] الَّذِينَ ضَلَّ ضاع سَعْيُهُمْ عملهم لأن الكفر يبطل العمل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً صنيعا و عملا.
[105] أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بدلائله و حججه وَ لِقائِهِ أي لقاء جزائه، فينكرون المعاد فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت بسبب كفرهم فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي قدرا بل نعاقبهم.
[106] الأمر ذلِكَ الذي ذكرنا من حبط أعمالهم جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا بسبب كفرهم وَ اتَّخَذُوا آياتِي الأدلة الدالة على الله وَ رُسُلِي هُزُواً مهزوا بهما.
[107] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ البستان الجميل الجامع بين الثمر و الزهر و سائر المناظر الحسنة نُزُلًا منزلا.
[108] خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ لا يطلبون عَنْها عن الجنّات حِوَلًا تحولا.
[109] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً المداد هو ما يكتب به لِكَلِماتِ رَبِّي أي مخلوقاته، لأن كل مخلوق كلمة لَنَفِدَ انتهى ماء الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي لأنها غير متناهية من حيث أن الله سبحانه يستمر في خلقها وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ بمثل البحر مَدَداً للبحر.
[110] قُلْ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ و لذا أفعل ما يفعله البشر من الأكل و النوم و المشي، و الفرق أنه يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ لقاء جزاء الله بالجنة و الثواب فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي لا يجعل أحدا شريكا لله تعالى في عبادته.
تبيين القرآن، ص: 317
مكية آياتها ثمان و تسعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] كهيعص رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] هذه السورة ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ أي فيها ذكر لرحمة الله عبده زَكَرِيَّا.
[3] إِذْ نادى دعا زكريا عليه السّلام رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا لا يجهر به و ذلك أقرب إلى الخلوص.
[4] قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ضعف الْعَظْمُ مِنِّي فإنّ وهن العظم و هو شي ء صلب يدل على وهن لجميع الجسد وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً بياضا، أي أن الشيب قد عم الرأس، فشبه بالنار التي تشتعل فتشمل كل الأطراف وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ بدعائي إياك يا رَبِّ شَقِيًّا محروما، أي لم أكن كذلك فيما مضى فأرجو أن لا أحرم في المستقبل.
[5] وَ إِنِّي خِفْتُ أخاف الْمَوالِيَ الذين يتولّون أمر الأمة مِنْ وَرائِي بعدي بأن يبدلوا دين الناس وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ من عندك وَلِيًّا ولدا.
[6] يَرِثُنِي مالي و مقامي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لأن زكريا عليه السّلام هو من آل يعقوب، فإذا جاءه ولد ورث الوالد ذلك المقام و المنزلة وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا مرضيا عندك، فاستجاب الله دعاءه فخاطبه بقوله:
[7] يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا فلا أحد بهذا الاسم قبل يحيى عليه السّلام.
[8] قالَ رَبِّ أَنَّى كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا يبسا و جفافا «1».
[9] قالَ الله: كَذلِكَ هكذا قالَ رَبُّكَ هُوَ إعطاء الولد لكما عَلَيَّ هَيِّنٌ سهل وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ قبل يحيى عليه السّلام وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً فمن أوجدك من العدم قادرا على أن يعطيك الولد.
[10] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً علامة دالة لوقت الحمل قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ لا تقدر على تكليمهم ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا أي في حال كونك صحيحا بلا آفة و مرض و خرس.
[11] فَخَرَجَ زكريا عليه السّلام عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى أشار إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا الله بُكْرَةً وَ عَشِيًّا طرفي النهار.
__________________________________________________
(1) كل شي ء قد انتهى فقد عتا. لسان العرب.
تبيين القرآن، ص: 318
[12] فوهبنا له يحيى عليه السّلام و قلنا له: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ التوراة بِقُوَّةٍ بجد و عزم وَ آتَيْناهُ أي أعطينا يحيى عليه السّلام الْحُكْمَ النبوة صَبِيًّا في حال الصبى.
[13] وَ آتيناه حَناناً رحمة مِنْ لَدُنَّا من عندنا على الناس وَ زَكاةً طهارة و نزاهة وَ كانَ تَقِيًّا عن الشرك و المعاصي.
[14] وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
متكبرا ظالما عَصِيًّا
عاصيا لربّه.
[15] وَ سَلامٌ
سلامة عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
فهو سالم الأعضاء وَ يَوْمَ يَمُوتُ
من العذاب في القبر وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
من النار.
[16] وَ اذْكُرْ
يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فِي الْكِتابِ
القرآن قصة مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
أي اعتزلت مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
في طرف مشرق بيت المقدس.
[17] فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ
دون الناس حِجاباً
سترا لتغتسل فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
جبرئيل عليه السّلام فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
في صورة شاب تامّ الخلق.
[18] قالَتْ
مريم عليها السّلام: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
خائفا من الله، و الجواب محذوف أي فابتعد عنّي.
[19] قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
طاهرا من الأدناس.
[20] قالَتْ أَنَّى كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ بالحلال وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا زانية.
[21] قالَ كَذلِكِ هكذا قالَ رَبُّكِ هُوَ إحداث الولد بلا أب عَلَيَّ هَيِّنٌ سهل وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً برهانا لكمال قدرتنا لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ خلقه أَمْراً مَقْضِيًّا كائنا لا محالة.
[22] فَحَمَلَتْهُ حملت مريم بعيسى عليه السّلام فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي تنحّت بالحمل مَكاناً قَصِيًّا بعيدا من أهلها.
[23] فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أتى بها صعوبة الطلق و ألجأها إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ ساقها قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا الأمر و ذلك لخجلها من الناس وَ كُنْتُ نَسْياً من شأنه أن ينسى مَنْسِيًّا منسيّ الذكر.
[24] فَناداها نادى المسيح أمه عليه السّلام مِنْ تَحْتِها بعد الولادة: أَلَّا تَحْزَنِي يا أماه قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ تحت قدمك سَرِيًّا نهرا من الماء للشرب.
[25] وَ هُزِّي اجذبي إِلَيْكِ نحوك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ النخلة عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا طريّا قد جني الآن.
تبيين القرآن، ص: 319
[26] فَكُلِي الرطب وَ اشْرَبِي من الماء الجاري وَ قَرِّي عَيْناً لتطب نفسك فَإِمَّا إن الشرطية و ما الزائدة تَرَيِنَّ إن رأيت مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً يسألك عن الولد فَقُولِي أشيري: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا إنسانا.
[27] فَأَتَتْ مريم عليهم السّلام بِهِ بالولد قَوْمَها إلى قومها تَحْمِلُهُ حاملة له قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا منكرا عظيما.
[28] يا أُخْتَ هارُونَ كان رجلا صالحا، فقيل لها أنت في الصلاح كأنك أخت هارون ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ زانيا وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا زانية.
[29] فَأَشارَتْ مريم عليها السّلام إِلَيْهِ إلى عيسى عليه السّلام بأن كلموه ليجيبكم قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا.
[30] قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ردا على من زعم ربوبيته آتانِيَ أعطاني الْكِتابَ الإنجيل وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا.
[31] وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً كثير البركة و الخير أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي أمرني بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا.
[32] وَ بَرًّا أن أكون بارا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً متكبرا طاغيا شَقِيًّا عاصيا لله تعالى.
[33] وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ فأني سالم في الدنيا من جراء سلامتي عن العيوب حال الولادة وَ يَوْمَ أَمُوتُ فإني سالم في القبر عن العذاب وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا فإني سالم إلى الأبد.
[34] ذلِكَ الذي قال إني عبد الله بتلك الصفات المذكورة عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ قلنا فيه قول الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ يشكون، فاليهود يقولون ليس بنبي و النصارى يقولون هو إله.
[35] ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها إِذا قَضى أَمْراً أراد شيئا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فلا يهم أن يخلق إنسانا بدون أب.
[36] وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ و ليس المسيح عليه السّلام ربّا أو ابن رب فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا انحراف فيه.
[37] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ جماعات اليهود و النصارى مِنْ بَيْنِهِمْ أي اختلافا ناشئا من بينهم لا من قبل الله فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ من حضورهم يوم القيامة.
[38] أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ أي هم شديدوا السمع و البصر في يَوْمَ يَأْتُونَنا في القيامة لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ في الدنيا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح، فلا يسمعون الحقّ و لا يرون الآيات.
تبيين القرآن، ص: 320
[39] وَ أَنْذِرْهُمْ خوّفهم يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَوْمَ الْحَسْرَةِ يتحسر فيه الناس إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ انتهى كل شي ء، فلا يتمكن الإنسان من تبديل جزائه وَ هُمْ الحال فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
[40] إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها فلما ذا يبقون على الكفر من أجل الرئاسة و المال، فالكل زائل وَ إِلَيْنا إلى حسابنا يُرْجَعُونَ.
[41] وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً ملازما للصدق نَبِيًّا.
[42] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
عمّه آزر: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
فان الصنم لا يدفع عن الإنسان شيئا.
[43] يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ بالله ما لَمْ يَأْتِكَ فأنت جاهل بالله فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا مستقيما.
[44] يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ لا تطعه، فإن الكفر عبادة و طاعة للشيطان إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا عاصيا.
[45] يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ يصيبك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قرينا في العذاب.
[46] قالَ آزر: أَ راغِبٌ نافر، و الاستفهام للإنكار أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي الأصنام يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن مقالك لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة وَ اهْجُرْنِي أي ابتعد عني مَلِيًّا زمنا طويلا، و إلا رجمتك.
[47] قالَ إبراهيم عليه السّلام: سَلامٌ عَلَيْكَ سلّم عليه سلام الوداع سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي أطلب منه أن يوفقك للتوبة حتى تكون أهلا للغفران إِنَّهُ أي الله كانَ بِي حَفِيًّا أي لطيفا بارّا.
[48] وَ أَعْتَزِلُكُمْ أبتعد عنكم وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي و أعتزل أصنامكم وَ أَدْعُوا أعبد رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا خائبا، كما شقيتم في دعاء الأصنام.
[49] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن هجرهم وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلًّا من أولاده جَعَلْنا نَبِيًّا.
[50] وَ وَهَبْنا لَهُمْ للثلاثة مِنْ رَحْمَتِنا سعادة الدارين وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ثناء حسنا رفيعا، و عبر باللسان عن الثناء بعلاقة السبب و المسبب، و حيث أن المدح صادق قال: لسان صدق.
[51] وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ القرآن مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً أخلصه الله لنفسه وَ كانَ رَسُولًا إلى الناس نَبِيًّا مخبرا عن الله تعالى.
تبيين القرآن، ص: 321
[52] وَ نادَيْناهُ تكلمنا معه مِنْ جانِبِ الطُّورِ جبل في الشام الْأَيْمَنِ الأكثر يمنا و بركة وَ قَرَّبْناهُ تقريب كرامة نَجِيًّا مناجيا له.
[53] وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا أي جعلنا أخاه نبيا و وزيرا له.
[54] وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ إذا وعد بشي ء وفى به وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا.
[55] وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا رضي أعماله.
[56- 57] وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا عاليا.
[58] أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ بيان (الذين) النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا في السفينة أي من ذرية من حملنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ من ذرية إِسْرائِيلَ يعقوب عليه السّلام وَ أولئك مِمَّنْ هَدَيْنا هم وَ اجْتَبَيْنا اخترناهم إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا وقعوا على الأرض تواضعا لله سُجَّداً ساجدين وَ بُكِيًّا باكين من خوف الله.
[59] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي من أقوامهم و أولادهم الذين هم من بعدهم أَضاعُوا الصَّلاةَ بأن تركوها وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ المحرّمة فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ أولئك الخلف غَيًّا جزاء غيّهم و ضلالهم.
[60] إِلَّا مَنْ تابَ ندم عن معاصيه وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم.
[61] جَنَّاتِ بدل (الجنة) عَدْنٍ إقامة الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ و هي غائبة عنهم إِنَّهُ تعالى كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا آتيا.
[62] لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً من الكلام الذي لا فائدة فيه إِلَّا سَلاماً لكن يسمعون من الملائكة سلاما «1» وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها في الجنة بُكْرَةً صباحا وَ عَشِيًّا عصرا «2».
[63] تِلْكَ الجنة المذكورة هي الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ نعطي مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا اتقى الكفر و المعاصي، و حيث ذكر الجنة و قول الملائكة هناك للناس: سلاما عطف على أحوال الملائكة، فقد قالوا:
[64] وَ ما نَتَنَزَّلُ أي لا ننزل من السماء إلى الأرض إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا المستقبل وَ ما خَلْفَنا الماضي وَ ما بَيْنَ ذلِكَ الحال وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ينسى شيئا من أمور الأزمان الثلاثة، و حيث ذكر الأزمنة الثلاثة جاء إلى ذكر الأماكن فقال:
__________________________________________________
(1) و الاستثناء منقطع كما لا يخفى. و السلام اسم جامع لكل خير.
(2) و المراد: دوام الرزق.
تبيين القرآن، ص: 322
[65] رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ اصبر لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مثلا و شبيها يسمى بهذا الاسم حقيقة، و الاستفهام بمعنى النفي.
[66] وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ الكافر: أَ إِذا ما زائدة مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا بعد الموت، و الاستفهام على طريق الإنكار و الاستهزاء.
[67- 68] أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً فمن قدر على الإيجاد يقدر على الإعادة فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ نجمعنّهم وَ الشَّياطِينَ أي مقرّنين بالشياطين ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا أي واقعين على ركبهم لهول الموقف، فإن كثرة الخوف توجب سقوط الإنسان لاضطراب أعصاب الرّجل.
[69- 70] ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ لنستخرجن مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ من كل جماعة أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي الأعتى فالأعتى «1»، فنلقيهم في جهنم أولا فأول ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها أحق بجهنّم صِلِيًّا دخولا، و المعنى لا ندخل جهنم إلا المستحق لها.
[71] وَ إِنْ نافية مِنْكُمْ أيها البشر إِلَّا وارِدُها لأنّ الصراط على النار، فكلهم يردون على النار عبورا على الصراط كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا حكم بذلك حكم واجبا على نفسه.
[72] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر و المعاصي، بأن يعبروا الصراط بسلام وَ نَذَرُ نترك الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ساقطين، لأن أرجلهم لا تحملهم من الخوف و العذاب.
[73] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ المؤمنين و الكافرين خَيْرٌ مَقاماً مقامكم على الإيمان، أو مقامنا على الكفر وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا مجلسا، و معناه أن الكفار يقولون: نحن أحسن منكم.
[74] وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أهل كل عصر خالفوا أوامر الله هُمْ أَحْسَنُ من هؤلاء أَثاثاً متاعا و زينة وَ رِءْياً من الرؤية بمعنى المنظر.
[75] قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ عن الحق فَلْيَمْدُدْ لَهُ يمدّه و يمهله بطول العمر و إعطاء متاع الدنيا، و ذلك استدراجا له الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ عند انتهاء أمدهم إِمَّا الْعَذابَ بالقتل و الأسر وَ إِمَّا السَّاعَةَ أي الموت، فمن مات قامت قيامته فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ من الفريقين شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً هل جندهم أو جند المؤمنين.
[76] وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً بأن يلطف بهم الألطاف الخفيّة وَ الطاعات الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً مما متع به الكفار وَ خَيْرٌ مَرَدًّا عاقبة.
__________________________________________________
(1) عتا يعتو عتوا و عتيا: استكبر و جاوز الحد، لسان العرب.
تبيين القرآن، ص: 323
[77] أَ فَرَأَيْتَ استفهام للتعجب الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا ورد أن المراد به العاص بن وائل، و إن كان اللفظ عاما وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ أعطى من الله على تقدير الحساب و القيامة مالًا كثيرا وَ وَلَداً أولادا، فإن الكفار يزعمون كرامتهم على الله حتّى إذا كانت هناك قيامة أكرمهم هناك أيضا كما أعطاهم في الدنيا.
[78] أَطَّلَعَ الْغَيْبَ هل أشرف على أحوال الآخرة التي هي غائبة عن الحواس حتى يقول هذا الكلام و الاستفهام للإنكار أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً فعهد الله إليه بأن يعطيه المال و الولد.
[79] كَلَّا لا هذا و لا ذاك سَنَكْتُبُ السين للتأكيد ما يَقُولُ نحفظ عليه لنجزيه على كذبه وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا نزيده عذابا، كما زدناه عمرا و مالا فكفر.
[80] وَ نَرِثُهُ نرث منه عند هلاكه ما يَقُولُ من المال و الولد، إذ يبقى ماله و ولده لله تعالى بعد أن مات فلا يقدر أن يذهب بهما إلى الآخرة وَ يَأْتِينا في الآخرة فَرْداً بلا مال و ولد.
[81] وَ اتَّخَذُوا الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أصناما لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ليتعززوا بهم.
[82] كَلَّا ليس الأمر كما ظنّوا، بل الآلهة أسباب ذلّهم سَيَكْفُرُونَ تكفر الآلهة بِعِبادَتِهِمْ بأن تنكر منهم عبادتهم لها وَ يَكُونُونَ الآلهة عَلَيْهِمْ على الكفار ضِدًّا أعداء لهم، عوض ما أرادوا من أن تكون عزة لهم.
[83] أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ خلينا بينهم و بين الشياطين تَؤُزُّهُمْ أَزًّا تزعجهم إزعاجا، فكما إن الشياطين- الذين هم أولياء الكفار- سبب لإيذائهم، كذلك الآلهة المعبودة للكفّار سبب زيادة عذابهم في الآخرة.
[84] فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ على الكفّار بطلب عذابهم إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ الأيام عَدًّا حتى ينهوا أجلهم المقدّر لهم ثم نأخذهم.
[85] و ذلك يَوْمَ و هو يوم القيامة نَحْشُرُ نجمع الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و المعاصي إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً يذهبون جماعة إلى ثواب الله «1».
[86] وَ نَسُوقُ نسيّرهم سيرا بدون احترام الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً واردين لها عطاشا.
[87] لا يَمْلِكُونَ لا يملك أحد الشَّفاعَةَ لأحد إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بأن آمن و عمل صالحا و هو عهده عند الله بأن يدخله الجنة، و (إلا) بمعنى لكن من كان كذلك دخل الجنة.
[88- 89] وَ قالُوا الكفار: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ أيها القائلون بهذا القول شَيْئاً إِدًّا منكرا عظيما.
[90] تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ يتشقّقن مِنْهُ من هذا الكلام وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ تسقط بانكسار هَدًّا كسرا، فان الكلام السيئ يزلزل الكون.
[91- 92] و ذلك ل أَنْ دَعَوْا المشركون لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَ ما يَنْبَغِي لا يليق لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً.
[93] إِنْ ما كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي أتى الرَّحْمنِ عَبْداً و العبد ليس بولد.
[94] لَقَدْ أَحْصاهُمْ حصرهم وَ عَدَّهُمْ عدّ أشخاصهم عَدًّا.
[95] وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً منفردين بلا مال و لا شخص نصير.
__________________________________________________
(1) الوفد: الركبان المكرمون. لسان العرب.
تبيين القرآن، ص: 324
[96] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا محبة في قلوب الناس، و السين للتأكيد.
[97] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ القرآن بِلِسانِكَ بأن أنزلناه على لغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ من الشرك و المعاصي وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا جمع ألدّ: شديد الخصومة و العناد.
[98] وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أمة من الأمم هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ هل تشعر بأحد منهم و تراه، و هذا بيان لأنه لم يبق منهم أحد أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا خفيّا فلم يبق منهم خبر و لا أثر، و كما أهلكناهم نهلك هؤلاء.
مكية آياتها مائة و خمس و ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] طه اسم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو رمز.
[2] ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى لتتعب بكثرة العبادة.
[3] إِلَّا تَذْكِرَةً تذكيرا لِمَنْ يَخْشى الله، فإنه المنتفع بالتذكير.
[4] تَنْزِيلًا أي أنزل تنزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى الرفيعة.
[5] هو الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ أي السلطة اسْتَوى استولى.
[6] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما من المخلوقات وَ ما تَحْتَ الثَّرى أي التراب.
[7] وَ إِنْ تَجْهَرْ تريد الجهر بِالْقَوْلِ بالعبادة و الدعاء، فهو غني عن ذلك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ ما أسررته إلى غيرك وَ أَخْفى من السّر كالخطرات القلبية.
[8] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى كالرازق و الخالق و ما أشبه.
[9] وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ قصّة مُوسى .
[10] إِذْ رَأى ناراً في الصحراء على الشجرة فَقالَ لِأَهْلِهِ زوجته: امْكُثُوا ابقوا في مكانكم إِنِّي آنَسْتُ ناراً أبصرتها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ بشعلة أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ عند النار هُدىً هاديا يدلني على الطريق، إذ كانوا في الصحراء و الهواء بارد و قد ضلّوا الطريق.
[11- 12] فَلَمَّا أَتاها اقترب من النار نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ خلق الله الصوت هناك فسمعه موسى عليه السّلام فَاخْلَعْ انزع نَعْلَيْكَ من رجلك إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ المبارك طُوىً هو اسم الوادي.
تبيين القرآن، ص: 325
[13] وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إليك من كلامي.
[14] إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي خالصا بدون جعل شريك وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي لأن تكون مذكرة لي.
[15] إِنَّ السَّاعَةَ القيامة آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها أريد أن أخفيها عن عبادي لتأتيهم بغتة، أو أكاد أظهرها، من أخفاه بمعنى أزال خفاءه لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى بالذي سعي و عمل.
[16] فَلا يَصُدَّنَّكَ لا يمنعنك عَنْها أي عن الإيمان بالساعة مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ هوى نفسه في الإنكار فَتَرْدى فتهلك.
[17] وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ في يدك اليمنى يا مُوسى .
[18] قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا اتكئ عَلَيْها وَ أَهُشُّ أسقط ورق الشجر بِها عَلى غَنَمِي علوفة لها وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ حوائج أُخْرى كحمل الزاد في السفر و إلقاء الكساء عليها للاستظلال و طرد الموذيات.
[19- 20] قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ تنقلب حَيَّةٌ تَسْعى تمشي بسرعة.
[21] قالَ الله: خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها نرجع الحيّة إلى سِيرَتَهَا حالتها الْأُولى أي نجعلها عصا.
[22] وَ اضْمُمْ أخف يَدَكَ إِلى جَناحِكَ إبطك تَخْرُجْ اليد بَيْضاءَ لها شعاع كشعاع الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فليس بياضها كبياض البرص آيَةً أُخْرى معجزة ثانية لك.
[23] نفعل ذلك لِنُرِيَكَ يا موسى عليه السّلام مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى التي هي من أكبر المعجزات.
[24] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى تجاوز الحدّ.
[25] قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وسع صدري حتى لا أضجر.
[26] وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي سهل أمر القيام بالرسالة.
[27] وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي حتى لا أرتج في الكلام بل أكون بليغا.
[28] كي يَفْقَهُوا يفهموا قَوْلِي.
[29- 30] وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي يعاضدني في التبليغ.
[31] اشْدُدْ بِهِ بهارون أَزْرِي ظهري في الدعوة إليك.
[32] وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أمر النبوة ليكون نبيا.
[33] كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً فإنّ التعاون يوجب زيادة النشاط.
[34- 35] وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً و عالما بأن هارون نعم الظهر.
[36] قالَ الله: قَدْ أُوتِيتَ أعطيت سُؤْلَكَ سؤالك يا مُوسى .
[37] وَ لَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى في السابق.
تبيين القرآن، ص: 326
[38] إِذْ أَوْحَيْنا ألهمنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ما يلزم أن تلهم.
[39] أَنِ اقْذِفِيهِ و الوحي هو أن اجعليه فِي التَّابُوتِ الصندوق فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ اطرحي التابوت الذي فيه موسى عليه السّلام في البحر فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ أمر بمعنى الخبر أي فيلقي البحر الصندوق بِالسَّاحِلِ الشاطئ يَأْخُذْهُ أي موسى عليه السّلام عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ لموسى عليه السّلام، فإنّ فرعون كان عدوا لله و لرسوله وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ يا موسى عليه السّلام مَحَبَّةً مِنِّي من عندي فكان إذا رآه أحد أحبّه فورا. وَ لِتُصْنَعَ تربّى عَلى عَيْنِي برعايتي، لا برعاية عدوي فرعون.
[40] و أرجعناك إلى أمّك و يفهم ذلك من قوله إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فإن الأم أرسلت أخت موسى عليه السّلام لتقتفي أثره فجاءت و رأت موسى عليه السّلام عند فرعون و هو يطلب له الحاضنة فَتَقُولُ الأخت: هَلْ أَدُلُّكُمْ أرشدكم يا آل فرعون عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ يكفل موسى عليه السّلام، فقالوا:
نعم، فجاءت بأمّه فقبل ثديها فَرَجَعْناكَ يا موسى عليه السّلام إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها برؤيتك، أي تفرح وَ كي لا تَحْزَنَ بفراقك وَ منة أخرى مننّا عليك حين قَتَلْتَ نَفْساً قبطيا حال نازعت مع الإسرائيلي فخفت أن يقتلوك فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ بأن ألهمنا إليك بالفرار ففرت و استرحت عن قصاصهم وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً اختبرناك اختبارا بالشدائد و الآلام فَلَبِثْتَ مكثت و بقيت سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ قبيلة شعيب النبي عليه السّلام ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قدرة على الرسالة يا مُوسى .
[41] وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي صنعتك لأن تكون نبيا لي.
[42] اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي دلالاتي وَ لا تَنِيا تفترا، من الفتور فِي ذِكْرِي بالتسبيح و تبليغ الرسالة.
[43] اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى جاوز الحدّ.
[44] فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً رقيقا بدون خشونة. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ يتّعظ أَوْ يَخْشى العقاب.
[45] قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا بأن يعاقبنا فورا أَوْ أَنْ يَطْغى يزداد طغيانا.
[46] قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما بالحفظ و النصرة أَسْمَعُ قولكم وَ أَرى أفعالكم، فأدفع شرّه عنكما.
[47] فَأْتِياهُ اذهبا إليه فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ أطلق مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ حتى نخرج بهم عن مصر وَ لا تُعَذِّبْهُمْ بالتكاليف الشاقة قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ أدلة مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ السلامة من عقاب الدنيا و الآخرة عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى الهداية.
[48] إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ بما جئنا به وَ تَوَلَّى أعرض.
[49- 50] قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ من المخلوقات خَلْقَهُ صورته ثُمَّ هَدى هداه إلى ما يجلب له النفع و يدفع عنه الضرر.
[51] قالَ فرعون: فَما بالُ ما حال الْقُرُونِ الْأُولى الأمم السابقة فما حالهم في الآخرة، على زعمك بأن بعد الموت عالما آخر.
تبيين القرآن، ص: 327
[52] قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أعمالهم معلومة لله محفوظة لديه فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي لا يضيع ربي شيئا من أعمالهم «1» وَ لا يَنْسى و قد أراد موسى عليه السّلام عدم التفصيل في هذا الموضوع الذي لا يرتبط بكلامه و لذا رجع إلى بيان صنائع الله تعالى:
[53] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً فراشا وَ سَلَكَ جعل لَكُمْ فِيها في الأرض سُبُلًا طرقا تسلكونها وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ جهة العلو ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى مختلفة الألوان و الطعوم و الأشكال.
[54] كُلُوا منها وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ حيواناتكم فيها إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآياتٍ لعبر أو أدلة لِأُولِي النُّهى لذوي العقول، (نهى) جميع نهية، بمعنى العقل.
[55] مِنْها من الأرض خَلَقْناكُمْ فان التراب يتحوّل نباتا ثم مأكلا ثم دما ثم منيّا وَ فِيها نُعِيدُكُمْ بعد الموت، فإن الإنسان يصبح ترابا وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ بتأليف الأجزاء الأرضيّة و إحيائها تارَةً مرّة أُخْرى كما أخرجناكم من الأرض في المرة الأولى.
[56] وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ أي فرعون آياتِنا كُلَّها المعاجز التسع فَكَذَّبَ الآيات وَ أَبى امتنع عن القبول.
[57] قالَ أَ جِئْتَنا يا موسى لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا مصر بِسِحْرِكَ يا مُوسى فإن موسى عليه السّلام لو استولى اضطر القبط بقبول دينه أو الخروج منها.
[58] فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ يقابله حتى يبطل ادعاؤك الإعجاز فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً وعدا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ بل نحضر عند الموعد مَكاناً سُوىً في الوسط يستوي بيننا و بينك.
[59] قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ كان يوم عيد لهم يتزينون فيه و يخرجون للتفرج، عيّنه عليه السّلام ليشهد الجميع المقابلة وَ أَنْ يُحْشَرَ يجمع النَّاسُ ضُحًى قبل الظهر ليروا رؤية كاملة.
[60] فَتَوَلَّى انصرف فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ أسباب كيده من السحر و آلاته و أبهته ثُمَّ أَتى في الموعد.
[61] قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ السوء عليكم لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تنسبوا إعجازي إلى السحر فَيُسْحِتَكُمْ يهلككم بِعَذابٍ من عنده وَ قَدْ خابَ خسر مَنِ افْتَرى .
[62] فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي وقع النزاع بين أصحاب فرعون في أن موسى هل صادق في دعواه أم لا وَ أَسَرُّوا النَّجْوى أي أخذوا يخفون الكلام حول موسى عليه السّلام حتى لا يسمع موسى و قومه أنهم شاكون و يحتملون صدق موسى عليه السّلام.
[63] قالُوا إِنْ مخففة من الثقيلة هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بالاستيلاء عليها بِسِحْرِهِما بسبب سحرهما وَ يَذْهَبا يبطلا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى بدينكم الأحسن الذي هو عبادة فرعون و الأصنام.
[64] فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أحكموه و اجعلوه مجمعا عليه ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا مصطفّين ليكون أكثر رهبة و أنظم للأمر وَ قَدْ أَفْلَحَ فاز الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى صار الأعلى لدى المحاجّة و المقابلة.
__________________________________________________
(1) ضل الشي ء: خفي و غاب. لسان العرب.
تبيين القرآن، ص: 328
[65] قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما معك وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نحن السحرة أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما معنا.
[66] قالَ موسى عليه السّلام: بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ التي صوروها كالحيّات وَ عِصِيُّهُمْ جمع عصا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي إلى فرعون، أو إلى موسى عليه السّلام مِنْ جهة سِحْرِهِمْ بتلك الحبال و العصي أَنَّها تَسْعى تتحرّك مسرعة.
[67] فَأَوْجَسَ فأحس و وجد فِي نَفْسِهِ خِيفَةً خوفا مُوسى قيل: كان الخوف من جهة التباس الأمر على الناس.
[68] قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى عليهم بالغلبة.
[69] وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ عصاك تَلْقَفْ تأكل بسرعة ما صَنَعُوا من الحبال و العصي إِنَّما صَنَعُوا أي الذي افتعلوه هو كَيْدُ ساحِرٍ لا حقيقة له وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أينما كان الساحر، فألقى موسى عليه السّلام عصاه، فأكلت سحرهم مما أذعن الجميع أن عمله ليس سحرا.
[70] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ فإن أنفسهم لما أذعنت بأنّه حق أجبرتهم على الاعتراف سُجَّداً ساجدين قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى .
[71] قالَ فرعون: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في الإيمان، استفهام توبيخي إِنَّهُ موسى عليه السّلام لَكَبِيرُكُمُ أستاذكم و رئيسكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ و قد تواطأتم مع موسى عليه السّلام على ما فعلتم فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ اليد اليمنى و الرجل اليسرى وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ على أجسام النخيل وَ لَتَعْلَمُنَّ أيّها السحرة أَيُّنا أنا أو موسى عليه السّلام أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى عذابه أكثر بقاء.
[72] قالُوا السحرة: لَنْ نُؤْثِرَكَ نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ المعجزات وَ الَّذِي فَطَرَنا قسما بالذي خلقنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ فاحكم ما تريد أن تحكم فينا إِنَّما تَقْضِي تحكم في هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أما الآخرة فليست بيدك.
[73] إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا الكفر و المعاصي وَ يغفر لنا ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ فإنّ فرعون أكرههم على أن يسحروا في قبال موسى عليه السّلام و قد علموا قبل ذلك أن موسى عليه السّلام ليس بساحر وَ اللَّهُ خَيْرٌ ثوابا وَ أَبْقى أما ثوابك فهو زائل.
[74] إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً بأن يموت على الكفر فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها حتى يستريح وَ لا يَحْيى حياة مريحة.
[75] وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى المنازل الرفيعة.
[76] جَنَّاتُ بدل من (الدرجات) عَدْنٍ بساتين إقامة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى تطهر من أدناس الكفر.
تبيين القرآن، ص: 329
[77] وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ أذهب ليلا بِعِبادِي مع عبادي بني إسرائيل، و ذلك فرارا عن فرعون فَاضْرِبْ أي اضرب بعصاك لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً يصير يابسا لعبور بني إسرائيل لا تَخافُ دَرَكاً فكن آمنا من أن يدرككم فرعون وَ لا تَخْشى غرقا.
[78] فخرج بهم موسى عليه السّلام فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ مع جنوده ليردهم إلى مصر فَغَشِيَهُمْ علاهم مِنَ الْيَمِّ ماء البحر ما غَشِيَهُمْ تهويل لكيفيّة غرقهم.
[79] وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ سبّب ضلالهم في باب الدين وَ ما هَدى لم يهدهم إلى الخير.
[80] ثم قلنا لهم: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وَ واعَدْناكُمْ إعطاء التوراة في جانِبَ الطُّورِ اسم جبل الْأَيْمَنَ الأكثر يمنا وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ قسم من السكريات وَ السَّلْوى قسم من الطير، و ذلك حين كنتم في التيه.
[81] كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي اللذائذ المحلّلة وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ أي فيما رزقناكم بأن تبطروا بالنعم و لا تشكروها فَيَحِلَّ من الحلول أي الدخول عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى هلك و سقط في النار.
[82] وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ من الكفر وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى استمر على ما ذكر من الإيمان و العمل الصالح.
[83] وَ ما أَعْجَلَكَ ما سبب أن تعجل أنت عَنْ المجي ء مع قَوْمِكَ يا مُوسى حيث قال سبحانه: (و واعدناكم جانب الطور)، إذ كان الميعاد أن يخرج موسى عليه السّلام مع قومه فتعجّل عليه السّلام و وصل إلى الطور قبل قومه.
[84] قالَ موسى عليه السّلام: هُمْ القوم ه أُولاءِ الذين عَلى أَثَرِي في عقبي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى زيادة لرضاك.
[85] قالَ الله: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا امتحنا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ بعد خروجك من بينهم وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ الذي كان أحد بني إسرائيل حيث صنع لهم عجلا من الذهب و دعاهم إلى عبادته فعبدوه.
[86] فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً حزينا قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً بأن يعطيكم التوراة أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ زمان مفارقتي لكم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ يثبت عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ حيث عبدتم العجل فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي وعدكم إيّاي باللحاق بي و البقاء على ديني و الاستفهام إنكاري.
[87] قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي و نحن مالكون لإرادتنا، بل فقدنا الإرادة حين غلبنا السامري بتزويره وَ لكِنَّا حُمِّلْنا كان معنا أَوْزاراً أثقالا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ القبط فإنهم أخذوا منهم جملة من الحلي وقت كانوا في مصر فكانت معهم لما عبروا البحر فَقَذَفْناها ألقينا تلك الزينة في النار بأمر السامري فَكَذلِكَ كما ألقينا أَلْقَى السَّامِرِيُّ ما معه في النار حيث قال يجب أن تحترق هذه الزينة.
تبيين القرآن، ص: 330
[88] فَأَخْرَجَ السامري لَهُمْ عِجْلًا صاغه من الذهب جَسَداً جسما بلا روح لَهُ خُوارٌ صوت إما بالريح أو من أثر جبرئيل فَقالُوا السامري و أتباعه:
هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ موسى عليه السّلام أن هذا إلهه.
[89] أَ فَلا يَرَوْنَ أفلا يرى بنو إسرائيل أَلَّا يَرْجِعُ يرد العجل إِلَيْهِمْ قَوْلًا جوابا، و من لا يقدر على جواب السؤال ليس إلها وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً.
[90] وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ قبل عود موسى عليه السّلام: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ فتنكم السامري بهذا العجل أي أضلكم وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لا العجل فَاتَّبِعُونِي فيما أدعوكم إليه وَ أَطِيعُوا أَمْرِي.
[91] قالُوا لَنْ نَبْرَحَ لن نزال عَلَيْهِ على العجل عاكِفِينَ مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى .
[92] قالَ موسى عليه السّلام: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل.
[93] أَلَّا تَتَّبِعَنِ بأن تخرج إليّ و تتركهم فما سبب عدم خروجك أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي حيث أقمت فيما بينهم.
[94]الَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي
حيث أخذهما موسى عليه السّلام يجر هارون عليه السّلام إلى الخارج من الجماعة، إظهارا لبراءتهما منهم، و حيث كان ذلك منظر الساخط على هارون أمام بني إسرائيل، نهاه هارون عن ذلك نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
لو فارقتهم فانه يقع الخلاف الشديد بينهم كما هو شأن خروج كل زعيم من بين الناس
تقول لي مْ تَرْقُبْ
لم تراع وْلِي
حيث قلت لي: (أصلح)، بأن تقول لي خروجك لم يكن إصلاحا.
[95] ثم توجّه موسى عليه السّلام إلى السّامري قالَ فَما خَطْبُكَ شأنك الذي حملك على ما فعلت يا سامِرِيُّ.
[96] قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ رأيت ما لم يره بنو إسرائيل عند دخولنا البحر رأيت جبرئيل و تحت قدمه التراب يتحرّك، حيث تضفي قدمه عليه روحا فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ جبرئيل فَنَبَذْتُها ألقيتها في جوف العجل، و لذا صار له خوار وَ كَذلِكَ هكذا سَوَّلَتْ زيّنت لِي نَفْسِي بأن أفعل هكذا.
[97] قالَ موسى عليه السّلام للسامري: فَاذْهَبْ طريدا فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ ما دمت حيا أَنْ تَقُولَ لمن لقيته لا مِساسَ أي لا تمسّني و كان إذا مسّه أحد أخذته الحمّى فصار يهيم في البرّية وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً بعذابك لَنْ تُخْلَفَهُ لن تخلف عن ذلك الموعد و هو عند الموت أو في القيامة وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً تقيم على عبادته لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ نذريه فِي الْيَمِّ في البحر نَسْفاً.
[98] إِنَّما إِلهُكُمُ المستحق للعبادة اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً علمه شمل كل شي ء.
تبيين القرآن، ص: 331
[99] كَذلِكَ كما قصصنا عليك أخبار موسى و هارون عليهما السّلام نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ أخبار ما قَدْ سَبَقَ من الأمم وَ قَدْ آتَيْناكَ أعطيناك مِنْ لَدُنَّا عندنا ذِكْراً قرآنا.
[100] مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ عن الذكر فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً حملا ثقيلا من الذنب.
[101] خالِدِينَ فِيهِ في ذلك الوزر وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا بئس الحمل حملهم.
[102] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بوق ينفخ فيه لأجل إحياء الأموات وَ نَحْشُرُ نأتي بهم إلى المحشر الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً جمع أزرق، أي أجسامهم زرق من شدة العذاب.
[103] يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ يتكلمون سرا من جهة الهول المحيط بهم إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً يقولون بقيتم في الدنيا عشرة أيام.
[104] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي بمدّة لبثهم في الدنيا إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أعدلهم في الرأي إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فيظنون أنّ مدّة مكثهم في الدنيا يوم واحد فقط.
[105] وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ما حالها في القيامة فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً يجعلها كالرمل.
[106] فَيَذَرُها يدع موضع الجبال قاعاً أرضا ملساء صَفْصَفاً مستويا.
[107] لا تَرى فِيها عِوَجاً انخفاضا وَ لا أَمْتاً ارتفاعا.
[108] يَوْمَئِذٍ يوم القيامة يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ الذي يدعوهم إلى المحشر، إذ لا يتمكنون من العصيان كما كانوا يعصون الدعاة في الدنيا لا عِوَجَ لَهُ لا يميل عنه أحد، لأنه لا يميل دعاؤه عن أحد حتى لا يبلغه وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ سكنت لعظمة الرحمن و هول الموقف فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً صوتا خفيّا.
[109] يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا شفاعة مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الشفاعة وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا بأن كان مرضي القول سابقا، فإنه هو الذي يؤذن له.
[110] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما قدّموه إلى الآخرة وَ ما خَلْفَهُمْ ما تركوه من خير و شر بعدهم كسنّة حسنة أو سيئة وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً هم لا يعلمون ذاته سبحانه.
[111] وَ عَنَتِ خضعت الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ القائم على كل شي ء وَ قَدْ خابَ خسر مَنْ حَمَلَ ارتكب ظُلْماً.
[112] وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ بعض الطاعات الصالحات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً بأن يظلم هناك وَ لا هَضْماً بأن ينقص من حقّه، و المعنى لا يعذّب في مقابل غيره ممّن يعذب.
[113] وَ كَذلِكَ هكذا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا كرّرنا و بيّنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بعض الوعد بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي أَوْ يُحْدِثُ القرآن لَهُمْ ذِكْراً موعظة بسبب ما علموه من عقوبات الأمم السابقة.
تبيين القرآن، ص: 332
[114] فَتَعالَى ارتفع عن مشابهة المخلوقين اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا كملوك الدنيا حيث ملكهم اسمي فقط و زائل وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ بأن تقرأه أثناء قراءة جبرئيل لك، فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقرأه عاجلا لئلا ينساه مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى يتم إِلَيْكَ وَحْيُهُ بل اقرأه في إثر قراءة جبرئيل لأن الله قد أقوى ذاكرتك حتى لا تنسى وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فان فوق كل علم علم، حتى ينتهي إلى علم الله تعالى.
[115] وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ بالكف عن الشجرة مِنْ قَبْلُ زمانك يا محمد فَنَسِيَ أي ترك العهد، و كان ترك الأولى وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ثباتا، فهو عليه السّلام ليس من أولي العزم.
[116] وَ إِذْ و اذكر يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى امتنع.
[117] فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا الشيطان عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ بوساوسه فَتَشْقى تتعب في كسب المعاش و توابع الدنيا.
[118] إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها في الجنة وَ لا تَعْرى من الثياب.
[119] وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا لا تعطش فِيها وَ لا تَضْحى لا يصيبك حرّ الشمس.
[120] فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ إلى آدم عليه السّلام الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ إذا أكلت منها بقيت دائما في الجنة وَ مُلْكٍ لا يَبْلى لا يزول و لا يضعف.
[121] فَأَكَلا مِنْها من الشجرة فَبَدَتْ ظهرت لَهُما سَوْآتُهُما عورتهما، حيث سقطت عنهما ألبسة الجنة وَ طَفِقا أخذا يَخْصِفانِ يلصقان عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ من ورق أشجار الجنة لأجل الستر وَ عَصى خالف أمره الإرشادي كقول الطبيب أمرته فعصاني آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى انحرف عن طريق عيشه الهني ء.
[122] ثُمَّ اجْتَباهُ اصطفاه رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ قبل توبته و صرف النظر عن تركه للأولى وَ هَدى بأن ألهمه العصمة و حفظ ما يبقيها.
[123] قالَ اهْبِطا انزلا يا آدم و حواء مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فإنه عداوة بين الرجال و النساء «1» فَإِمَّا أصله (إن) و (ما) يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً كتاب و شريعة فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ في الدنيا وَ لا يَشْقى في الآخرة.
[124] وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي بأن لم يعمل طبق هدايتي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً عيشا ضَنْكاً ضيقا كما نرى أن دول العالم الكبار في أشد الضيق من المناهج المعقدة و الحروب و القلق النفسي وَ نَحْشُرُهُ نأتي به في المحشر يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى العين.
[125] قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً في الدنيا.
__________________________________________________
(1) أو عداوة بين الشيطان و الإنسان، و ذلك حيث قال سبحانه: بَعْضُكُمْ و لم يقل: بعضكما.
تبيين القرآن، ص: 333
[126] قالَ مثل ذلك فعلت: أتتك آيات مبصرة في الدنيا فعميت عنها كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا أدلّتنا فَنَسِيتَها تركتها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى تهمل و تترك و لا تقدّر.
[127] وَ كَذلِكَ هكذا نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ جاوز الحدّ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بحججه تعالى وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ من عذاب الدنيا وَ أَبْقى لأنه دائم باق.
[128] أَ فَلَمْ يَهْدِ يبين الله لَهُمْ لهؤلاء الكفار كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الأمم في حال كونهم يَمْشُونَ مطمئنين فِي مَساكِنِهِمْ فأخذهم العذاب بغتة، أو المراد إن هؤلاء الكفار يمشون في مساكن أولئك الأمم و ذلك مما يوجب أن يعتبروا إِنَّ فِي ذلِكَ الهلاك لَآياتٍ عبرا و عظات لِأُولِي النُّهى لذوي العقول.
[129] وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بأن قال ربك أمهل هؤلاء الكفار و لا أعاجلهم بالعقوبة لَكانَ الأخذ العاجل لِزاماً لازما لهم لأن كفرهم يقضي بتعجيل عقابهم وَ لو لا أَجَلٌ مدة مُسَمًّى قد سمّي.
[130] فَاصْبِرْ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى ما يَقُولُونَ من الطعن فيك و في القرآن وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزهه تنزيها مقترنا بالحمد، فإنك قد تقول إن الله ليس له شريك فهذا تنزيه، و قد تقول إن الله واحد فهذا تنزيه بحمد، إذ الحمد ذكر صفات الكمال قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صلاة الصبح وَ قَبْلَ غُرُوبِها صلاة الظهرين وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ ساعاته، صلاة العشاءين فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ بما شئت من التسبيح، أو صلاة النافلة لَعَلَّكَ تَرْضى بما يعطيك الله في الدارين فإنك إذا فعلت ما أمرت به أعطاك الله ما يرضيك.
[131] وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تنظر بنظر الرغبة و التمني فإن في التمني مد شعاع البصر إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً أصنافا مِنْهُمْ من الناس زَهْرَةَ زينة الْحَياةِ الدُّنْيا بدل من (ما متعنا) فإنها زينة الدنيا و لا دوام لها لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي متعناهم لأجل امتحانهم وَ رِزْقُ رَبِّكَ الذي وعدك في الآخرة خَيْرٌ وَ أَبْقى أكثر بقاء.
[132] وَ أْمُرْ أَهْلَكَ أهل بيتك بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ دوام أنت عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً حتى يشق عليك تحصيله بل نأمرك بالصلاة نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ المحمودة لِلتَّقْوى لذوي التقوى و الخوف من الله.
[133] وَ قالُوا الكفار: لَوْ لا هلا يَأْتِينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ مما نقترح عليه أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى بيان ما في سائر الكتب المنزلة يعني القرآن، لتضمنه أصول ما في تلك الكتب، و هو بينة أي معجزة.
[134] وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن أو قبل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا لهدايتنا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ في الدنيا وَ نَخْزى في الآخرة بالعذاب.
[135] قُلْ كُلٌّ منا و منكم مُتَرَبِّصٌ منتظر لما يحل بالآخر فَتَرَبَّصُوا أنتم و انتظروا لتروا عاقبة الأمر فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ منا و منكم أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ المستقيم وَ مَنِ اهْتَدى من الضلالة.
تبيين القرآن، ص: 334
مكية آياتها مائة و اثنتي عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] اقْتَرَبَ قرب لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وقت حسابهم و ذلك حين يموت الإنسان، أو يوم القيامة وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ عنه مُعْرِضُونَ عن الاستعداد.
[2] ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ تنزيله إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ يستهزئون به غير مبالين بالذكر.
[3] لاهِيَةً غافلة منصرفة قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى بالغوا في إخفائها الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر و العصيان هَلْ بدل من (النجوى) بمعنى (ما) هذا أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ و ليس برسول أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ هل تحضرون سحر محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاستفهام للإنكار وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ترون أنه بشر و كلامه سحر.
[4] قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ كائنا فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي كل قول يصدر من قائل سواء كان القائل في السماء أو الأرض فيعلم ما ليس يعلم هؤلاء الكفار وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
[5] بَلْ قالُوا: إن القرآن أَضْغاثُ تخاليط أَحْلامٍ منامات بَلِ افْتَراهُ نسبه إلى الله افتراء بَلْ هُوَ شاعِرٌ فما أتى به شعر فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ نقترحها كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ الأنبياء السابقون كاليد و العصا.
[6] ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ لم يأمنوا بالآيات المقترحة ف أَهْلَكْناها كما جرت عادة الله بإهلاك غير المؤمن بالآيات المقترحة أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ لو جئت بها.
[7] وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا فقولهم (هل هذا إلا بشر ...) كلام سخيف نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أهل الكتاب إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فإنهم يعلمون أن الأنبياء كانوا بشرا.
[8] وَ ما جَعَلْناهُمْ أي الأنبياء عليهم السّلام جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ رد لقول الكفار بأن النبي لما ذا يأكل الطعام وَ ما كانُوا خالِدِينَ لا يموتون، فكونهم بشرا يلازمهم كل ذلك.
[9] ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ بالنصرة لهم فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ ممن آمن بهم وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ المكذبين لهم.
[10] لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ما يوجب حسن الذكر لكم إن تمسكتم به أَ فَلا تَعْقِلُونَ.
تبيين القرآن، ص: 335
[11] وَ كَمْ قَصَمْنا أهلكنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً بالكفر و العصيان وَ أَنْشَأْنا أوجدنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ مكان أولئك.
[12] فَلَمَّا أَحَسُّوا أدركوا بحواسهم بَأْسَنا عذابنا إِذا هُمْ مِنْها من القرية يَرْكُضُونَ إلى خارجها لينجوا من العذاب.
[13] لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ أي إلى المحل الذي نعمتم فيه وَ إلى مَساكِنِكُمْ بيوتكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ عن أعمالكم و تحاكمون، فإن من يريد أخذ شي ء من شخص يسأله الحاكم عن دليله و برهانه، و هذا على سبيل الاستهزاء بهم.
[14] قالُوا يا وَيْلَنا يا سوء حالنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا بتكذيب الرسل.
[15] فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي كلامهم يرددون: يا ويلنا إنا كنا ظالمين حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً كالزرع المحصود خامِدِينَ موتى لا يتحركون كالنار التي تخمد.
[16] وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ بل لأجل غاية و غرض.
[17] لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً ما يلهى به من الألعاب لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا بأن نخلق اللهو في الملكوت، فلما ذا نتخذ اللهو من جنس البشر و السماء و الأرض، إذ لهو كل شخص من الشي ء الملائم له إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ اتخاذ اللهو.
[18] بَلْ إضراب عن اتخاذ اللهو نَقْذِفُ نضرب بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ الذي من جملته اللهو فَيَدْمَغُهُ يظهر بطلانه فَإِذا هُوَ الباطل زاهِقٌ باطل مضمحل وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ تصفون الله به من أنه اتخذ الخلق لهوا.
[19] وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ أي الملائكة الذين لهم القرب الشرفي منه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ لا يعجزون منها.
[20] يُسَبِّحُونَ ينزهون الله في اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ لا يكسلون.
[21] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ كائنة منها كالحجر و الخشب هُمْ يُنْشِرُونَ أي هل يقدرون على إحياء الموتى و نشرهم، الذي هو من لوازم الألوهية.
[22] لَوْ كانَ فِيهِما في السماوات و الأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ غير الله لَفَسَدَتا خربت السماوات و الأرض، فإن إرادة كل إن وافقت الأخرى لزم تأثير علّتين في معلول واحد و تقع المطاردة، إذ قدرة أحدهما تطرد قدرة الآخر، و إن خالفت لزم التصادم، و إن تعلقت إرادة دون إرادة لزم الاجتماع المصلحة و المفسدة، و هذا لا يعقل فَسُبْحانَ اللَّهِ أنزهه عن الشريك رَبِّ الْعَرْشِ السلطة المطلقة عَمَّا يَصِفُونَ الله من أن له شريكا.
[23] لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لأن كل أعماله حسب الصواب و الحكمة وَ هُمْ يُسْئَلُونَ لأنهم عبيد.
[24] أَمِ بل اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً كرر لاختلاف ما رتب عليه قُلْ هاتُوا ائتوا بُرْهانَكُمْ دليلكم على تعدد الآلهة هذا القرآن ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ تذكير لأمتي وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من سائر الكتب، ليس فيها دليل على تعدد الآلهة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ الذي هو توحيد الله فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن النظر.
تبيين القرآن، ص: 336
[25] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ فوحدوني.
[26] وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً قال المشركون إن الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها بَلْ الملائكة عِبادٌ مُكْرَمُونَ أكرمهم الله تعالى.
[27] لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لا يقولون شيئا حتى يقول الله وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ لا يعملون إلا ما يأمرهم الله به.
[28] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ أي ما عملوا و ما هم عاملون وَ لا يَشْفَعُونَ أي الملائكة إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى اختاره الله أن يشفع الملائكة له وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ خوفه تعالى مُشْفِقُونَ خائفون.
[29] وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ من الملائكة إِنِّي إِلهٌ أو ولد له مِنْ دُونِهِ دون الله فَذلِكَ القائل نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بادّعاء الألوهية.
[30] أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً ملتصقة فالسماء لا تنزل المطر و الأرض لا تخرج النبات فَفَتَقْناهُما أنزلنا من السماء المطر و من الأرض أخرجنا النبات وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ فإن حياة الحيوان و النبات بالماء أَ فَلا يُؤْمِنُونَ مع ظهور الآيات.
[31] وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ الجبال أَنْ تَمِيدَ لئلا تزل الأرض بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً طرقا سُبُلًا بدل (فجاجا) لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى مصالحهم.
[32] وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً عن الفساد وَ هُمْ عَنْ آياتِها الأدلة الدالة الموجودة فيها مُعْرِضُونَ لا يتفكرون.
[33] وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ واحد فِي فَلَكٍ دائرة خاصة به يَسْبَحُونَ يسرعون في الحركة كسباحة الإنسان في الماء.
[34] وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ البقاء في الدنيا أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ و المعنى أن الكل يموتون، و هذا مما يوجب معرفة الإنسان أن له ربا بيده زمام أمره.
[35] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ تذوق الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ نختبركم بِالشَّرِّ بالبلاء وَ الْخَيْرِ النعم فِتْنَةً ابتلاء وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بعد الموت لجزاء عملكم.
تبيين القرآن، ص: 337
[36] وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ ما يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً مهزوا به و يقولون أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ بسوء وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ الذي هو الإله حقيقة هُمْ كافِرُونَ فمن يكفر بالإله الحقيقي كيف يتّخذ الآلهة الباطلة.
[37] خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فإنه لفرط استعجاله في الأمور، كأنه خلق من جنس العجل، كما نقول خلق زيد من الشجاعة سَأُرِيكُمْ آياتِي الأدلة الدالة على التوحيد و الرسالة و المعاد فَلا تَسْتَعْجِلُونِ لرؤيتها، و فيه إشارة إلى لزوم التأمل و التفكر في الأمور.
[38] وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ وعد وقت العذاب الذي يهددنا به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنْ كُنْتُمْ أيها المسلمون صادِقِينَ في أن الله يعاقبنا إن بقينا على الكفر.
[39] لَوْ جوابه محذوف، أي لو علموا شدة العذاب لما استعجلوه يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ وقت لا يَكُفُّونَ لا يدفعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ يعني وقت إحاطة النار بكل جوانبهم وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لا ينصرهم أحد لدفع العذاب عنهم.
[40] بَلْ تَأْتِيهِمْ القيامة بَغْتَةً فجأة فَتَبْهَتُهُمْ تحيرهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها دفع القيامة وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ يؤخرن إلى وقت آخر.
[41] وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ استهزأ الكفار، و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ أحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ من الرسل أي استهزءوا بهم، جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
[42] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ يحفظكم بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ من بأسه و لعل ذكر الرحمن لأنه كانوا ينفرون من هذا الاسم بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ لا يلتفتون إليه.
[43] أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ من حلول العذاب بهم مِنْ دُونِنا غيرنا لا يَسْتَطِيعُونَ تلك الآلهة نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ بأن يدفعوا عن أنفسهم من يريد كسرها و تحطيمها وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ يحفظون، يقال: صحبك الله أي حفظك.
[44] بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ الكفار بأنواع نعيم الدنيا وَ متعنا آباءَهُمْ من قبل حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فغرّهم عدم أخذ الله لهم أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بتسليط المسلمين على بلاد الكفار دلالة على قدرتنا الكاملة أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ أي فهل لهم الغلبة علينا بعد ما يرون من غلبتنا على الكفار بأخذ أراضيهم؟
تبيين القرآن، ص: 338
[45] قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ بما أوحي إليّ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ شبّه الكفار بالأصم لأنهم مثله في عدم الانتفاع بالسماع الدُّعاءَ إذا دعي و نودي الأصم إِذا ما يُنْذَرُونَ يخوفون و (ما) زائدة.
[46] وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ أقل شي ء مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا يا سوء حالنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بتكذيب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[47] وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ التي تزن الأعمال ب الْقِسْطَ العدل لِيَوْمِ الْقِيامَةِ لأهل يوم القيامة فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بتقليل ثواب أو زيادة عقاب وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ زنة حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ حبة الأفيون و هي صغيرة جدا أَتَيْنا بِها أحضرناها لنعطي جزاء عاملها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ إذ لا حساب أحسن من حسابنا.
[48] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ الفارق بين الحق و الباطل وَ ضِياءً يستضاء به الناس وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ فإنهم المنتفعون بالذكر.
[49] الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ و هو غائب عن حواسهم وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ القيامة مُشْفِقُونَ خائفون.
[50] وَ هذا القرآن ذِكْرٌ مُبارَكٌ كثير البركة و الخير أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ استفهام توبيخي.
[51] وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ الهداية و النبوة مِنْ قَبْلُ موسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ بأنه أهل لذلك.
[52] إِذْ اذكر حيث قالَ إبراهيم عليه السّلام لِأَبِيهِ عمه آزر وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الأصنام الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ مقيمون.
[53] قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فقلدناهم.
[54] قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح.
[55] قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ بالجد في ما تقوله أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ تريد اللعب و الاستهزاء.
[56] قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ خلقهن وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ المذكور من التوحيد و (كم) للخطاب مِنَ الشَّاهِدِينَ فإن الشاهد من حقق الشي ء و أثبته.
[57] وَ تَاللَّهِ و الله لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأدبّرن في كسرها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا تذهبوا إلى عيدكم مُدْبِرِينَ عنها، قاله سرا فسمعه رجل فأفشاه.
تبيين القرآن، ص: 339
[58] فَجَعَلَهُمْ جعل الأصنام جُذاذاً قطعة قطعة إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أكبر الأصنام فجعله بحاله لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ إلى الكبير يَرْجِعُونَ فيسألونه فيكون عدم جوابه حجة لإبراهيم عليه السّلام في أنها ليست آلهة.
[59] قالُوا بعد رجوعهم: مَنْ فَعَلَ هذا الكسر بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ لنفسه حيث عرضها على القتل.
[60] قالُوا قال بعضهم: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يذكر الآلهة بالسوء يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ.
[61] قالُوا فَأْتُوا بِهِ بإبراهيم عليه السّلام عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ بمرأى من الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ بأنه كسر الأصنام فتتم الحجة.
[62] قالُوا بعد إحضار إبراهيم عليه السّلام: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا الكسر بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ.
[63] قالَ إبراهيم عليه السّلام: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا الصنم الكبير فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي أن كانوا ينطقون فكبيرهم فعل.
[64] فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ إلى عقولهم فَقالُوا بعضهم لبعض: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ حيث تعبدون ما لا يدفع الأذى عن أصدقائه الأصنام و لا يتكلم إذا سئل.
[65] ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ انقلبوا إلى الجدال كالمنكس على رأسه بعد استقامتهم بالتفكر، أو معناه إنهم نكسوا رؤوسهم خجلا قائلين: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فإن الأصنام لا تنطق فكيف نسألهم.
[66] قالَ إبراهيم عليه السّلام: أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ.
[67] أُفٍّ لَكُمْ تضجر من استمرارهم على الباطل وَ لِما لأصنامكم التي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ أليس لكم عقل يدرك قبح فعلكم.
[68] قالُوا قال بعضهم لبعض: حَرِّقُوهُ أحرقوا إبراهيم عليه السّلام و ذلك حيث أعوزتهم الحجة وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام ممن كسرها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ناصرين لها.
[69] فألقوه في النار و قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً يسلم فيك عَلى إِبْراهِيمَ.
[70] وَ أَرادُوا بِهِ بإبراهيم عليه السّلام كَيْداً إحراقا فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ لأن النار انقلبت دليلا آخر لإبراهيم عليه السّلام على صحة كلامه.
[71] وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً و هو من أقرباء إبراهيم عليه السّلام كانا بالعراق إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها و هي أرض بيت المقدس التي بورك بإرسال الأنبياء عليهم السّلام و كثرة الثمار لِلْعالَمِينَ فهي أرض بركة لكل الناس.
[72] وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً عطية وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وفقناهم للصلاح.
تبيين القرآن، ص: 340
[73] وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ الناس بِأَمْرِنا إلى الله تعالى وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ أي أن افعلوا الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ مخلصين في عبادتهم بلا شرك.
[74] وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً سلطة لأن يحكم بين الناس، فإنه لا يجوز الحكم إلا بإذن الله وَ عِلْماً نبوة وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ سدوم في أراضي الشام الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ فإن أهل القرية كان يلوطون مع الذكور إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ سيئين فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله.
[75] وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا بأن أفضنا عليه الرحمة و اللطف إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.
[76] وَ اذكر نُوحاً إِذْ نادى قائلا: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) «1» مِنْ قَبْلُ قبل إبراهيم عليه السّلام فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الغمّ الذي أصابه بسبب أذى قومه و كفرهم.
[77] وَ نَصَرْناهُ مِنَ خلصناه من أيدي الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ.
[78] وَ اذكر داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ الزرع إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ تفرقت ليلا و أكلت منه غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ حكم داود و سليمان عليهما السّلام و المتحاكمين إليهما شاهِدِينَ حاضرين حكم داود عليه السّلام بأن الغنم تكون لصاحب الزرع، و حكم سليمان عليه السّلام بأن ينتفع أهل الزرع بدرها و نسلها و صوفها و يقوم أهل الغنم على الحرث حتى يعود كما كان ثم يترادّان، و كان كلا الحكمين صحيحا و إن كان الثاني أحسن، كما إنك لو استعملت قلم زيد فصارت قيمته نصف دينار بعد أن كانت دينارا فللحاكم أن يقول أعط قلمك الذي يساوي نصف دينار لزيد و أن يقول خذ أنت قلم زيد و زيد قلمك و أصلح قلمه ثم ترادا القلمين لأنه في كلا الحالين ردت القلم ذاته أو نقصه إلى زيد.
[79] فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أي الحكومة التي هي أحسن وَ كُلًّا من سليمان و داود عليهما السّلام آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ الجبال مع تسبيح داود عليه السّلام بحيث يسمع صوتها وَ سخرنا الطَّيْرَ فكان الطير يسبح بتسبيح داود عليه السّلام وَ كُنَّا فاعِلِينَ لهذه الأمور و ان استغربها الناس.
[80] وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ صنع لَبُوسٍ لباس الحرب و هي الدرع لِتُحْصِنَكُمْ تحفظكم الدرع حال الحرب مِنْ بَأْسِكُمْ شدتكم في الحرب فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ نعمي.
[81] وَ سخرنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ فكانت تحمل بساطه في حال كونها عاصِفَةً شديدة الهبوب تَجْرِي الريح بِأَمْرِهِ بأمر سليمان عليه السّلام إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها و هي أرض الشام وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ فنفعل كل شي ء حسب الحكمة و الصلاح.
__________________________________________________
(1) سورة نوح: 26.
تبيين القرآن، ص: 341
[82] وَ سخرنا لسليمان عليه السّلام مِنَ الشَّياطِينِ أي من الجن مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ في البحار لاستخراج اللآلئ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ سوى الغوص من البناء و غيره وَ كُنَّا لَهُمْ للشياطين حافِظِينَ نحفظهم من أن يفسدوا.
[83] وَ اذكر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ الضرر حيث إنه مدة مديدة مرض مرضا شديدا وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
[84] فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ بإذهاب مرضه وَ آتَيْناهُ أعطيناه أَهْلَهُ فقد مات بعض أهله فأحياهم الله له وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ بأن ولد له أولاد أخر رَحْمَةً كائنة مِنْ عِنْدِنا على أيوب عليه السّلام وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ فيصبروا كما صبر أيوب عليه السّلام فيثابوا كما أثيب.
[85] وَ اذكر إِسْماعِيلَ بن إبراهيم عليه السّلام أو غيره وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ الذين صبروا لأوامرنا.
[86] وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا سعادة الدارين إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ عملا.
[87] وَ ذَا النُّونِ صاحب الحوت و هو يونس عليه السّلام إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً غضبان على قومه، فهجرهم قبل أن يأذن له الله في هجرهم فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أن لن نضيق عليه بحبسه في بطن الحوت فلما حبسناه في بطن الحوت نادى دعا فِي الظُّلُماتِ ظلمة البحر و ظلمة الليل و ظلمة بطن الحوت أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ أنزهك عما لا يليق بك إِنِّي كُنْتُ في هجرتي للقوم بدون إذن مِنَ الظَّالِمِينَ بترك الأولى.
[88] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ الحزن وَ كَذلِكَ هكذا نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من غمومهم.
[89] وَ اذكر زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً بدون ولد وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ الذي ترث الخلق بعد فنائهم.
[90] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ زوجته فكانت هرمة عقيمة فرددناها شابة ولودة إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ يبادرون فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً راغبين في ثوابنا وَ رَهَباً خائفين من عقابنا وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ خاضعين.
تبيين القرآن، ص: 342
[91] وَ اذكر مريم عليهم السّلام الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها حفظته عن الزنا و عن الزواج فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا الروح المشرفة بانتسابها إلينا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها عيسى عليه السّلام آيَةً دليلا على قدرة الله لِلْعالَمِينَ.
[92] إِنَّ هذِهِ هؤلاء الأنبياء عليهم السّلام أُمَّتُكُمْ جماعتكم المنقادون لله في حال كونها أُمَّةً واحِدَةً لوحدة دين الجميع وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ اعبدوني و لا تشركون.
[93] وَ تَقَطَّعُوا تفرقوا أمم هذه الأنبياء عليهم السّلام أَمْرَهُمْ أمر دينهم بَيْنَهُمْ بأن اختلفوا في الدين كُلٌّ من الفرق إِلَيْنا راجِعُونَ فنجازيهم.
[94] فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا نجحد أعماله الصالحة بل نثيبه عليها وَ إِنَّا لَهُ لسعيه كاتِبُونَ نكتب أعماله في صحيفة حسناته لنجزيه عليها.
[95] وَ حَرامٌ ممتنع عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها بالعذاب أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ بل يرجعون إلينا لنعاقبهم في الآخرة، و الحاصل أن المؤمن و الكافر رجوعهم إلى الله تعالى.
[96] حَتَّى متعلق ب (كاتبون) أي نكتب الأعمال إلى زمان القيامة إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ أي فتحت الأرض أمام قبائلهما ليأتوا إلى البلاد للفساد وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ ارتفاع في الأرض يَنْسِلُونَ يسرعون فلا يمنعهم ارتفاع عن التسلق.
[97] وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ القيامة فَإِذا هِيَ ضمير القصة شاخِصَةٌ أي أن قصة القيامة هي شخوص أبصار الكفار فهي متحركة خائفة غير مستقرة أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قائلين: يا سوء حالنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم فلم نعلم أنه حق بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا حيث لم ننظر إلى الآيات بنظر الاعتبار.
[98] إِنَّكُمْ وَ ما الأصنام التي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ وقود جَهَنَّمَ أَنْتُمْ أيها الكفار لَها للنار وارِدُونَ داخلون فيها.
[99] لَوْ كانَ هؤُلاءِ الأصنام آلِهَةً حقيقة ما وَرَدُوها إذ دخولها ينافي الألوهية، فالإله لا يرد لا أن كل من لم يرد فهو إله، فلا ينقض بالمسيح عليه السّلام وَ كُلٌّ من العابد و المعبود فِيها خالِدُونَ.
[100] لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ صوت شديد دالّ على شدة التلهف وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ كلاما حسنا أو شيئا لشدة العذاب.
[101] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي العدة الحسنة بأن قلنا إنهم محسنون، و كان قولنا تبعا لما علمنا من أعمالهم أُولئِكَ عَنْها عن النار مُبْعَدُونَ بعيدون.
تبيين القرآن، ص: 343
[102] لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها صوت النار وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من نعم الجنة خالِدُونَ باقون دائما.
[103] لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الخوف الأكبر الذي هو خوف القيامة وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تستقبلهم بالتهنئة قائلين: هذا يَوْمُكُمُ وقت ثوابكم و يوم عزكم الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا.
[104] و ذلك في يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ نجمعه بمحو نظامه كَطَيِّ السِّجِلِّ الذي يسجل فيه و يكتب لِلْكُتُبِ بيان السجل، أي طي الصحيفة المجعولة للكتابة كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ كما خلقنا أولا الناس نعيدهم، وعدناه وَعْداً عَلَيْنا إنجازه إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ.
[105] وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ لداود عليه السّلام مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ من بعد أن كتبنا في الذكر الذي هو التوراة أَنَّ الْأَرْضَ الدنيا يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ فإن الله يظهر الإسلام على كل الأديان و يملك المسلمين الدنيا، و أوّلت الآية بظهور الإمام الحجة (عج).
[106] إِنَّ فِي هذا الذي ذكرناه من الأخبار و المواعظ و المواليد لَبَلاغاً لكفاية من جهة الإرشاد و التنبيه لِقَوْمٍ عابِدِينَ لله تعالى.
[107] وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمناهجه رحمة لكل البشر، أما المسلمون منهم فواضح، و أما الكفار فتعلموا من المسلمين فكان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة لهم بالواسطة.
[108] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ استفهام إرشادي.
[109] فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أعلمتكم دين الإسلام عَلى سَواءٍ مستوين في الإعلام وَ إِنْ أَدْرِي لا أعلم أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين عليكم و من عذابكم في الدنيا و الآخرة.
[110] إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ما تقولونه جهرا في الطعن بالإسلام وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ من عداوة الدين و المسلمين، يعلم كل ذلك فيجازيكم عليه.
[111] وَ إِنْ ما أَدْرِي لَعَلَّهُ لعل تأخير عذابكم و ما توعدون فِتْنَةٌ امتحان لَكُمْ ليظهر كل قبائحكم وَ مَتاعٌ لأجل التمتع إِلى حِينٍ يأتي أجلكم المقرر.
[112] قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ بيني و بين المكذبين وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ الذي نستعين به عَلى ما تَصِفُونَ من تكذيب القرآن و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و البعث، فإنا نستعين به لأجل أن نغلب عليكم.
تبيين القرآن، ص: 344
مدنية آياتها ثمان و سبعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ عذابه فأطيعوه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ الزلزلة التي تقارن يوم القيامة شَيْ ءٌ عَظِيمٌ هائل.
[2] يَوْمَ تَرَوْنَها
ترون الزلزلة تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
تدهش المرأة المرضعة عن ولدها و تذهب لشدة هولها وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
جنينها، أي تسقط من شدة الخوف ما في بطنها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى
كأنهم في حالة سكر من الهول وَ ما هُمْ بِسُكارى
على الحقيقة وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
بحيث أذهلهم.
[3] وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ في توحيده أو صفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ برهان وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ المارد المفسد.
[4] كُتِبَ عَلَيْهِ على الشيطان أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ اتبع الشيطان فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ عن الطريق وَ يَهْدِيهِ يسلك به إِلى عَذابِ السَّعِيرِ المشتعل.
[5] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ شك مِنَ الْبَعْثِ القيامة فاعتبروا بأول الخلقة فإن من يقدر على البدء يقدر على الإعادة إنا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ تحول نباتا ثم طعاما ثم دما ثم منيا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ المني ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ دم مجمّد ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ لحمة قدر ما يمضغ مُخَلَّقَةٍ تام الخلقة وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ غير تام الخلقة لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التدريج قدرتنا وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ من ولد و بنت إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت الوضع الذي سمي بأن يوضع فيه ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ كمالكم و قوتكم وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى قبل الهرم وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ يرجع إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أردأه و هو الهرم و الخرف لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً بأن يرجع إلى حالة طفولته في عدم علمه بشي ء، و اللام للعاقبة وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً يابسة ميتة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت وَ رَبَتْ انتفخت وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ ذو رونق، فالقادر على إحياء الإنسان و الأرض قادر على المعاد.
تبيين القرآن، ص: 345
[6] ذلِكَ الخلق و الإحياء بِأَنَّ بسبب أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ و الإله الحق قادر على كل شي ء وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
[7] وَ أَنَّ السَّاعَةَ القيامة آتِيَةٌ تأتي لا محالة حيث وعد ذلك لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
[8] وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ في نفسه وَ لا هُدىً حسب دلالة عقلية وَ لا كِتابٍ مبادئ مُنِيرٍ ذي نور ينير الطريق.
[9] ثانِيَ عِطْفِهِ العطف جانب الإنسان، و الثاني بمعنى المائل للإعراض و هذا كناية عن التكبر إذ المتكبر يلوي جانبه معرضا لِيُضِلَّ علة (يجادل) عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ذل بغلبة المسلمين عليه وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ عذاب الشي ء الحريق و هو النار.
[10] و يقال له: ذلِكَ العذاب بِما قَدَّمَتْ يَداكَ بما عملته في الدنيا من الكفر و العصيان وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ بذي ظلم لِلْعَبِيدِ.
[11] وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ طرف من الدين لا على كل الأوجه و التقلبات فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ نعمة و رخاء اطْمَأَنَّ بِهِ بسببه على عبادة الله وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ محنة و بلاء انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ عاد إلى كفره كمن سقط على وجهه خَسِرَ الدُّنْيا بفقد فوائد الإسلام وَ الْآخِرَةَ بالعذاب ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الواضح.
[12] يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ من الأصنام ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن القصد.
[13] يَدْعُوا لَمَنْ الصنم الذي ضَرُّهُ لأنه يوجب عذاب الله أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ الذي يرجوه من أن يشفع له لَبِئْسَ الصنم الْمَوْلى النصير وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ الصاحب.
[14] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إثابة المؤمن و عذاب الكافر.
[15] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ بأن يئس عن نصرة الله و رحمته فليعلم أنه لا طريق آخر و لو أنه أوصل نفسه إلى السماء ليمدد يمدّ بِسَبَبٍ بحبل من الأرض إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ الطريق بأن يصعد بسببه إلى السماء فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ بالذهاب إلى السماء ما يَغِيظُ أي غيظه بأن يتمكن من إحراز النصرة حتى يذهب غمه و همه.
تبيين القرآن، ص: 346
[16] وَ كَذلِكَ هكذا أَنْزَلْناهُ أي القرآن آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ بأن يقيم له الحجة.
[17] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا اليهود وَ الصَّابِئِينَ قسم من المتدينين بيحيى عليه السّلام وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بالحكومة بينهم و إظهار المحق من المبطل يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ شاهد عليه.
[18] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ ينقاد لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ المؤمنين وَ كَثِيرٌ من الناس حَقَّ ثبت عَلَيْهِ الْعَذابُ بسبب كفره وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ يهنه بأن أراد إذلاله فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إذ الإكرام و الإذلال بيد الله إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ مما فيه الصلاح.
[19] هذانِ المؤمنون و الكافرون خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فالمؤمنون يوحدونه و الكافرون ينكرونه فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ كما يقص الخيّاط الثياب لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ الماء المغلي.
[20] يُصْهَرُ يذاب بِهِ بالحميم ما فِي بُطُونِهِمْ من الأحشاء وَ الْجُلُودُ أي يصهر جلودهم أيضا.
[21] وَ لَهُمْ مَقامِعُ سياط مِنْ حَدِيدٍ للضرب على رؤوسهم.
[22] كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها من النار مِنْ غَمٍّ من غموم النار و كربها أُعِيدُوا فِيها في النار و قيل لهم:
وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار المحرقة.
[23] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ يلبسون الحلي و الزينة فِيها مِنْ أَساوِرَ ما يلبس في اليد من الزينة مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ.
تبيين القرآن، ص: 347
[24] وَ هُدُوا هداهم الله إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ التحيات الحسنة في الجنة وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ الله المحمود.
[25] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ يمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه وَ عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بأن يخرجوا أهله منه و يمنعوا الناس عن زيارته الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً متساوين في حق الاستفادة منه الْعاكِفُ المقيم فِيهِ حول المسجد وَ الْبادِ الآتي من الخارج لأجل الزيارة وَ مَنْ يُرِدْ أي يريد فِيهِ في بلد المسجد بِإِلْحادٍ أي إلحادا و انحرافا عن القصد بِظُلْمٍ بيان (بإلحاد) نُذِقْهُ جواب (من) مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم، و المراد إما التعدي من مكة فإنه يقتص منه و إما الشرك فيها فإنه يضاعف له العذاب في الآخرة و ذلك لشرف المكان.
[26] وَ إِذْ اذكر يا رسول الله حيث بَوَّأْنا عينّا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أي محل الكعبة و ذلك لأجل أن يبني البيت و قلنا له: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً لا تجعل شريكا لي وَ طَهِّرْ من عبادة الأوثان و الأقذار، و المعنى أن حل بينه و بين أن يكون محلا للأوثان و الأقذار بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ حوله وَ الْقائِمِينَ للصلاة وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ الراكعين الساجدين.
[27] وَ أَذِّنْ ناد فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ بأن يأتوا لأجل المناسك يَأْتُوكَ الناس رِجالًا راجلين مشاة وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ كل بعير مهزول أهزله السفر يَأْتِينَ تلك الضامرات مِنْ كُلِّ فَجٍّ طريق عَمِيقٍ بعيد، و هذا كناية عن أن الناس يتوجهون إلى البيت من أبعد الأماكن.
[28] لِيَشْهَدُوا علة ل (أذن) أي يحضروا مَنافِعَ لَهُمْ التجارة و الشوكة في الدنيا و الثواب في الآخرة وَ ل يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ هي أيام الحج عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم، و البهيمة بمعنى التي لا تفصح فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف، و إنما قال أن يذكروا الاسم على ما رزقهم لان ذلك من أكبر المظاهر في مقابل الشرك فإنهم كانوا يذكرون اسم أصنامهم على الذبائح فَكُلُوا مِنْها من بهيمة الأنعام وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الذي أصابه بؤس أي شدة الْفَقِيرَ.
[29] ثُمَّ لْيَقْضُوا ليزيلوا تَفَثَهُمْ وسخهم بقص الشعر و نحوه للتحليل من الإحرام وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ما نذروا من البر في حجهم وَ لْيَطَّوَّفُوا طواف الزيارة و النساء، بعد رجوعهم من منى بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ الكعبة المعظمة و كان عتيقا لأنه أول بيت وضع للناس.
[30] ذلِكَ أي أمر الحج هكذا وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ ما احترمه الله من أحكام الحج و غيره، ما لا يحل انتهاكه فَهُوَ فالتعظيم خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ إذ يثيبه عليه ثوابا كبيرا وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ الإبل و البقر و الغنم إِلَّا ما يُتْلى يقرأ عَلَيْكُمْ تحريمه من الميتة و الدم إلخ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ القذر مِنَ الْأَوْثانِ أي الأصنام بأن لا تعبدوها وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ الكذب و نحوه.
تبيين القرآن، ص: 348
[31] حُنَفاءَ موحدين، مائلين عن الشرك لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ سقط مِنَ السَّماءِ فقد أهلك نفسه هلاك من يسقط من السماء فَتَخْطَفُهُ أي تأخذه بسرعة الطَّيْرُ في وسط السماء فتأكله أَوْ تَهْوِي تميل بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ بعيد فهو يجمع بين الهلاك و الهول.
[32] ذلِكَ الأمر كما ذكر وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ الأمور المرتبطة بالله، جمع شعيرة و هي الأمر اللاصق بالشخص كأنه لاصق بشعره فَإِنَّها أي فإن الشعائر، أي تعظيمها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ فإن القلب المتقي هو الباعث على التعظيم.
[33] لَكُمْ فِيها في الأنعام التي تهدي إلى البيت مَنافِعُ كاللبن و الركوب إِلى أَجَلٍ وقت مُسَمًّى قد سمي و هو حين النحر و الذبح ثُمَّ مَحِلُّها محل ذبحها و نحرها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ حواليه كمنى و مكة.
[34] وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم المتدينة جَعَلْنا مَنْسَكاً محل عبادة، من النسك بمعنى العبادة لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي عند ذبحها فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فلا تذكروا اسم الأصنام على الذبائح فَلَهُ أَسْلِمُوا انقادوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الخاضعين لله.
[35] الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ خافت هيبة منه قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المصائب وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فيما أمر الله.
[36] وَ الْبُدْنَ جمع بدنة و هي الإبل، و المراد بها التي تنحر في الحج جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ المرتبطة بدين الله لَكُمْ فِيها خَيْرٌ نفع ديني و دنيوي فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قائمات قد صفقت أيديها و أرجلها و ذلك حين تريدون نحرها فَإِذا وَجَبَتْ سقطت جُنُوبُها جمع جنب أي وقعت على الأرض لأنها ماتت فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ الذي يقنع بما أعطي وَ الْمُعْتَرَّ الذي يعتر أي يعترض لك بسؤال أو بدون سؤال كَذلِكَ هكذا سَخَّرْناها ذللناها لَكُمْ مع عظمها و قوتها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
[37] لَنْ يَنالَ اللَّهَ لن يصعد إليه لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ يصعد إليه التَّقْوى مِنْكُمْ فالأمر بنحرها ليس لأجل استفادة الله من لحمها و دمها، و إنما لأجل تقواكم التي تصعد إليه سبحانه كَذلِكَ هكذا سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ لتعرفوا عظمته عَلى ما هَداكُمْ أرشدكم إلى طريق تسخيرها و كيفية التقرب بها وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.
[38] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ يبالغ في الدفاع عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كيد المشركين و المنافقين إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كثير الخيانة بالشرك و غيره كَفُورٍ جحود لله و لنعمه.
ين القرآن، ص: 349
[39] أُذِنَ الله أذن لهم لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ يقاتلهم الكفار بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم ظُلِمُوا حيث ظلمهم الكفار فحق لهم القصاص وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ قادر على أن ينصرهم.
[40] الَّذِينَ بدل من (للذين) أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني مكة أخرجهم المشركون بِغَيْرِ حَقٍّ بلا موجب استحقوا به الإخراج إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ سوى التوحيد وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بأن ينصر كل ذي دين على من يخالف دينه لَهُدِّمَتْ خربت صَوامِعُ جمع صومعة للرهبان وَ بِيَعٌ كنائس للنصارى جمع بيعة وَ صَلَواتٌ أي مكان صلوات اليهود وَ مَساجِدُ للمسلمين يُذْكَرُ فِيهَا في المساجد، أو في الأربعة اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ينصر دينه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على النصر عَزِيزٌ لا يغالب.
[41] الَّذِينَ وصف ل (الذين أخرجوا) إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بأن جعلنا لهم السلطة أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ و لذا ينهي الأمور إلى أصحاب الدين.
[42] وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا رسول الله، و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ.
[43- 44] وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ شعيب عليه السّلام وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أمهلتهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بالانتقام منهم، و الاستفهام للتقرير.
[45] فَكَأَيِّنْ فكم مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ نفسها بالكفر و العصيان فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها بأن سقطت سقوفها ثم سقطت جدرانها على السقوف وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ متروكة بموت أهلها وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ مبني بأن مات أهله و بقي خاليا.
[46] أَ فَلَمْ يَسِيرُوا يذهب الكفار و يسافروا ليروا آثار الأمم الهالكة فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها يعرفوا العبر أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أخبار الأمم السابقة فَإِنَّها فإن القصة لا تَعْمَى الْأَبْصارُ عمى يوجب هلاك الإنسان وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ إذ عمى القلب يوجب الهلاك.
تبيين القرآن، ص: 350
[47] وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يطلبون منك أن تنزل عليهم العذاب كما أوعدتهم وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أنه لا بد و أن يعذبهم حال يحين موعدهم وَ إِنَّ يَوْماً من أيام عذابهم عِنْدَ رَبِّكَ في الآخرة كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا.
[48] وَ كَأَيِّنْ و كم مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها أمهلتها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب، و هكذا أفعل بهؤلاء الكفّار وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ مرجع الجميع إلى حسابي و جزائي.
[49] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ واضح.
[50] فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ يرزقونه مع كرامة.
[51] وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا سعوا لأجل إبطال الآيات مُعاجِزِينَ يظنون أنهم يعجزونا فلا نقدر على تنفيذ مقاصدنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
[52] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى قرأ أحكام الله أَلْقَى الشَّيْطانُ الزوائد و الأكاذيب فِي أُمْنِيَّتِهِ قراءته كما نرى أن المعاندين يزيدون في كلام الكبار ما يقصدون به التشويش و تنفيذ مأربهم فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ يبطله ببيان النبي أن هذا باطل ليس من الحكم المنزل ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ يبقيها محكمة بلا زيادة و تشويش وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يفعل الشيطان حَكِيمٌ في تدبيره.
[53] لِيَجْعَلَ اللام للعاقبة أي إن عاقبة زيادة الشيطان فتنة المنافقين، و حيث إن الله سبحانه يترك الشيطان ليلقي ما يشاء نسب الجعل إلى نفسه تعالى ما يُلْقِي الشَّيْطانُ من الزيادة فِتْنَةً امتحانا لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك و نفاق لأن هؤلاء هم الذين يلتفون حول كل باطل و مشكوك وَ ل الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الكفار الذين قست قلوبهم فلم يدخلها نور الإيمان، فإنه فتنة لهم أيضا وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ خلاف بَعِيدٍ من الحق.
[54] وَ لِيَعْلَمَ عطف على (ليجعل) الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ المؤمنون الصادقون أَنَّهُ أي القرآن، و ما قرأه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فيزيد إيمانهم، أي إن عاقبة إلقاء الشيطان زيادة نفاق و كفر أولئك و إيمان هؤلاء فَتُخْبِتَ تخضع لَهُ للقرآن قُلُوبُهُمْ بالإيمان و الانقياد وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا يهديهم ما أشكل عليهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
[55] وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ شك مِنْهُ من القرآن حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ القيامة أو الموت بَغْتَةً فجأة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ لا خير فيه، و المراد عذابهم على أيدي المؤمنين، أو نزول العذاب الغيبي عليهم.
تبيين القرآن، ص: 351
[56] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة لِلَّهِ بدون أن يكون هناك من يزعم أنه مالك يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فيما اختلفوا فيه فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يتنعمون فيها.
[57] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلهم.
[58] وَ الَّذِينَ هاجَرُوا من بلادهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأجل الدين ثُمَّ قُتِلُوا قتلهم الكفار أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً في الجنة وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
[59] لَيُدْخِلَنَّهُمْ الله مُدْخَلًا محلا يدخلون فيه، و المراد به الجنة يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بأحوالهم حَلِيمٌ لا يعاجل الكفار بالعقوبة.
[60] ذلِكَ الأمر هو الذي قصصنا عليك وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ جازى من ظلمه بقدر ظلمه بلا زيادة ثُمَّ بعد ذلك بُغِيَ عَلَيْهِ ظلمه الظالم ثانيا لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ بالانتقام من ظالمه فإن المسلمين إذا قاتلوا الكفار- حيث ظلمهم الكفار- ثم قتل الكافر أحدا منهم ينصره الله بالانتقام من قاتله في الدنيا و الآخرة، و الآية مربوطة بقوله (و الذين هاجروا) فإن المهاجرين ظلموا ثم إذا أرادوا الانتقام ظلمهم الكفار ثانيا بأن قتلوا كان الله ناصرهم إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.
[61] ذلِكَ النصر للمسلمين بسبب أن الله قادر على كل شي ء بدليل أنه يُولِجُ يدخل اللَّيْلَ فِي النَّهارِ بامتداد الليل وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ للأقوال بَصِيرٌ بالأفعال.
[62] ذلِكَ الوصف بالقدرة بسبب أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ و الإله الحق قادر على كل شي ء وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ فلا يقدر على نصرة من عبده وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ شأنا الْكَبِيرُ الذي لا أكبر منه.
[63] أَ لَمْ تَرَ دليلا على قدرة الله أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً بالنبات إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ في أفعاله خَبِيرٌ بتدبير خلقه.
[64] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ فلا يحتاج إلى إيمان أحد و عمله الْحَمِيدُ المحمود في أفعاله.
تبيين القرآن، ص: 352
[65] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جعلها معدة لمنافعكم وَ سخر لكم الْفُلْكَ السفينة تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ ما فيها من الأجرام أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فإنه إذا أراد وقوع السماء على الأرض وقعت إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ هي فوق الرحمة رَحِيمٌ و من رحمته هيّأ لهم أسباب الراحة.
[66] وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ أعطاكم الحياة بعد أن كنتم جمادا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في العالم الآخر إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ جحود لنعمة الله عليه.
[67] لِكُلِّ أُمَّةٍ أهل دين جَعَلْنا مَنْسَكاً شريعة هُمْ ناسِكُوهُ عاملون بتلك الشريعة فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ بأن يقول أهل الكتاب و الكفار لما ذا تعمل هكذا، فإن الجواب إنّ كل أمة لهم شريعة، و هذه شريعتي وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ عبادته إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي أنك مستقيم.
[68] وَ إِنْ جادَلُوكَ في أمور الدين فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه.
[69] اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أيها المسلمون و الكفّار يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
[70] أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ و منه أمر هؤلاء الكفّار إِنَّ ذلِكَ العلم مثبت فِي كِتابٍ هو اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ الثبت في الكتاب عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل.
[71] وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً حجة تدل على جواز عبادته وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فلا علم و لا دليل على صحة عبادته وَ ما لِلظَّالِمِينَ أنفسهم بالشرك مِنْ نَصِيرٍ يدفع عنهم العذاب.
[72] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات تَعْرِفُ ترى فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الإنكار لما تكره نفوسهم من الآيات يَكادُونَ يَسْطُونَ يبطشون بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا يقرءون لهم آيات القرآن قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ من غيظكم على الذين يتلون، و (كم) للخطاب، هو النَّارُ في الآخرة وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس النار مرجعا و محلا لهم.
تبيين القرآن، ص: 353
[73] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ لأصنامكم فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي و لو شيئا صغيرا كالذباب وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ اجتمع كل الأصنام لخلقه وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً بأن يأخذ منهم شيئا فيطير لا يَسْتَنْقِذُوهُ لا يقدرون على إرجاعه مِنْهُ من الذباب، فقد كانوا يطلون أصنامهم بالعطر فيأتي الذباب فيلمسه فلا يقدرون على حفظ ذلك العطر و إرجاعه منه ضَعُفَ الطَّالِبُ العابد وَ الْمَطْلُوبُ المعبود.
[74] ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عظموه حق عظمته حيث أشركوا به إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ و الأصنام لا قوة لها عَزِيزٌ بخلاف الصنم الذليل.
[75] اللَّهُ يَصْطَفِي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى أنبيائه وَ مِنَ النَّاسِ رسلا إلى البشر إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بأقوالهم بَصِيرٌ بأفعالهم.
[76] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ما مضى و ما يأتي من أحوال الملائكة و الأنبياء عليهم السّلام وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ في يوم القيامة فيجازي الكل حسب عمله.
[77] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون.
[78] وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ بما يلزم من الجهاد «1» هُوَ اجْتَباكُمْ اختاركم لدينه وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ من ضيق بل أحكامه سهلة مِلَّةَ اختار لكم طريقه أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ فإن دين إبراهيم عليه السّلام كان التوحيد، لا اليهودية و النصرانية و الشرك هُوَ الله سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ حيث قال إبراهيم عليه السّلام: (و من ذريتنا أمة مسلمة) «2» وَ فِي هذا أي القرآن لِيَكُونَ لام العاقبة أي اختاركم ليشهد الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ بالطاعة وَ ل تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بأن بلغتم أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ تمسكوا بدين الله هُوَ مَوْلاكُمْ وليكم و المتولي لأموركم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ الناصر.
__________________________________________________
(1) الجهاد: ممارسة الأمر الشاق و أصله من الجهد.
(2) سورة البقرة: 128.
تبيين القرآن، ص: 354
مكية آياتها مائة و ثماني عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] قَدْ أَفْلَحَ فاز بخير الدنيا و الآخرة الْمُؤْمِنُونَ.
[2] الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ متذللون لله.
[3] وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ الذي لا فائدة فيه من قول أو فعل مُعْرِضُونَ لا يلتفتون إليه و لا يقاربونه.
[4] وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ مؤدون.
[5- 6] وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ زوجاتهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ إمائهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ لا يلامون شرعا إذا استعملوا فروجهم بالنسبة إلى زوجاتهم و إمائهم.
[7] فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ طلب غير ذلك المباح من الفرج فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ تعدوا حدود الله.
[8] وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ ما أتمنه الناس عندهم وَ عَهْدِهِمْ مع الله و مع الناس راعُونَ يرعون فلا يخونون و لا ينقضون.
[9] وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ فيؤدونها في أوقاتها.
[10- 11] أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ الجنة هُمْ فِيها في الفردوس خالِدُونَ دائمون.
[12] وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ خلاصة و صفوة مِنْ طِينٍ.
[13] ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً منيا، لأن الطين يتبدل نباتا ثم مأكلا ثم دما ثم منيا فِي قَرارٍ الرحم مَكِينٍ مستحكم محفوظ.
[14] ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً دما جامدا فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً قطعة لحم فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً بأن صلّبناها حتى صارت عظاما فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أثبتنا اللحم على العظام ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خلقناه خَلْقاً آخَرَ بإعطاء الروح له فَتَبارَكَ اللَّهُ دام ذا خير أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فإن كل صانع لشي ء يسمى خالقا.
[15] ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ المذكور من خلق الإنسان لَمَيِّتُونَ.
[16] ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ تحيون للحساب.
[17] وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ سماوات لأنها طرق الملائكة و الكواكب وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ بل ندبّرها و نعرف أمورها.
تبيين القرآن، ص: 355
[18] وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ بمقدار ما علمنا من الصلاح فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ جعلناه مستقرا فيها وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ بذلك الماء بالتصعيد إلى السماء أو الإعدام لَقادِرُونَ.
[19] فَأَنْشَأْنا خلقنا لَكُمْ بِهِ بالماء جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها في تلك الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ تتعيشون.
[20] وَ شَجَرَةً عطف على (جنات) تَخْرُجُ مِنْ طُورِ جبل سَيْناءَ محل في أطراف مصر تَنْبُتُ تخرج بِالدُّهْنِ متلبسا بالدهن و هو الزيتون وَ ب صِبْغٍ أي إدام لِلْآكِلِينَ فإن الزيتون يكون إداما.
[21] وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم لَعِبْرَةً اعتبارا دالا على وجود الله نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها من اللبن وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ كالركوب و الحمل و الجلد و ما أشبه وَ مِنْها من لحومها تَأْكُلُونَ.
[22] عَلَيْها
على الإبل في البر عَلَى الْفُلْكِ
السفينة في البحرحْمَلُونَ
[23] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ عذابه.
[24] فَقالَ الْمَلَأُ الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ خاطبوا أتباعهم يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يسودكم وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ إرسال الرسول لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يؤدوا أحكامه إلى الناس ما سَمِعْنا بِهذا الذي يدعونا نوح عليه السّلام إليه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ في الأمم الماضية.
[25] إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ جنون و كلامه صادر عن جنون فَتَرَبَّصُوا بِهِ انتظروا بنوح عليه السّلام حَتَّى حِينٍ يفيق عن جنونه أو حين يموت.
[26] قالَ نوح عليه السّلام: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم لي فلم يبق إلّا نصرك.
[27] فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا برعايتنا و إعانتنا لك وَ وَحْيِنا و تعليمنا لك فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بعذاب القوم وَ فارَ التَّنُّورُ ارتفع الماء منه فَاسْلُكْ أدخل فِيها في السفينة مِنْ كُلٍّ من أنواع الحيوان زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر و أنثى وَ أدخل أَهْلَكَ عائلتك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بإهلاكه مِنْهُمْ من أهلك: زوجته الطالحة و ولده الفاسق وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا لا تكلمني يا نوح في إمهال الكفار إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ يغرقون قطعا فلا مجال لإمهالهم.
تبيين القرآن، ص: 356
[28] فَإِذَا اسْتَوَيْتَ ركبت أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ من المؤمنين عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالشرك.
[29] وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في السفينة مُنْزَلًا مُبارَكاً كثير الخير وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.
[30] إِنَّ فِي ذلِكَ أمر نوح عليه السّلام و قومه لَآياتٍ عبرا لمن أراد الاعتبار وَ إِنْ مخففة من الثقيلة كُنَّا لَمُبْتَلِينَ مختبرين الناس لنجازيهم بما عملوا.
[31] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد قوم نوح عليه السّلام قَرْناً أمة، و لعله عاد قوم هود عليه السّلام آخَرِينَ.
[32] فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ من نفس قبيلتهم فقال لهم: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ عذاب الله.
[33] وَ قالَ الْمَلَأُ الأشراف مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ بأن أنكروا يوم القيامة وَ أَتْرَفْناهُمْ نعمناهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ و البشر لا يكون رسولا.
[34] وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم به بزعم أنه من جانب الله إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ باتّباعه.
[35] أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً صارت لحومكم ترابا وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من قبوركم أحياء لأجل الحساب.
[36] هَيْهاتَ هَيْهاتَ بعيد بعيد لِما تُوعَدُونَ من الحياة بعد الموت.
[37] إِنْ هِيَ ما هي الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا القريبة فقط نَمُوتُ وَ نَحْيا يموت قوم و يحيا قوم وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بمحيون بعد الموت.
[38] إِنْ هُوَ ما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما ادعى من الرسالة وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ.
[39] قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عليهم بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم لي.
[40] قالَ الله: عَمَّا قَلِيلٍ بعد زمان قليل لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ لتكذيبهم.
[41] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ صاح بهم جبرئيل عليه السّلام فأهلكهم بِالْحَقِّ حيث استحقوا العذاب فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً هو الذي يحتمله السيل من النفايات، شبهوا به في عدم الروح و عدم ترتب الفائدة عليه فَبُعْداً أي أبعدوا عن الرحمة بعدا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
[42] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ جماعات أخر.
تبيين القرآن، ص: 357
[43] ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها بأن تموت قبل وصول أجلها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ بأن يصل وقت أجلها و لا تموت.
[44] ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا متواترين يتبع بعضهم بعضا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بعض الأمم بَعْضاً ببعض في الإهلاك وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لم يبق منهم إلّا حكايات فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ.
[45] ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا بأدلتنا وَ سُلْطانٍ حجة مُبِينٍ ظاهر.
[46] إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أشراف قومه فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان «1» وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ متكبرين.
[47] فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ موسى و هارون عليهما السّلام مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما بنو إسرائيل لَنا عابِدُونَ خاضعون فكيف نؤمن بمن لا قوم له.
[48- 49] فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة لَعَلَّهُمْ لعل بني إسرائيل يَهْتَدُونَ.
[50] وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ المسيح عليه السّلام وَ أُمَّهُ آيَةً دالة على قدرة الله بالإيلاد من غير أب وَ آوَيْناهُما أسكناهما إِلى رَبْوَةٍ مرتفع من الأرض ذاتِ قَرارٍ استواء يستقر عليها الإنسان وَ مَعِينٍ ماء جار.
[51] و قد خاطبنا الأنبياء عليهم السّلام بقولنا: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً عملا صالحا إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
[52] وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً لأن المؤمنين في كل زمان بمنزلة أمة واحدة وَ أَنَا رَبُّكُمْ الواحد فَاتَّقُونِ اخشوا عقابي.
[53] فَتَقَطَّعُوا الأمم أَمْرَهُمْ أمر دينهم بَيْنَهُمْ زُبُراً كتبا يدينون بها كُلُّ حِزْبٍ فريق و جماعة بِما لَدَيْهِمْ من الدين فَرِحُونَ لظنهم أنه الحق و ما عداه باطل.
[54] فَذَرْهُمْ دعهم فِي غَمْرَتِهِمْ في جهالتهم حَتَّى حِينٍ يموتون حيث يعاقبون هناك.
[55] أَ يَحْسَبُونَ يظنون أَنَّما نُمِدُّهُمْ نعطيهم بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ.
[56] نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ نسارع لهم فيما فيه خيرهم، هل يظنون ذلك؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ إنه لأجل الاستدراج لا لأجل الخير.
[57] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ خوف رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون.
[58] وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ يصدقون.
[59] وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ لا يجعلون له شريكا.
__________________________________________________
(1) الاستكبار: الامتناع عن قبول الحق معاندة و تكبرا.
تبيين القرآن، ص: 358
[60] وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ يعطون ما آتَوْا أعطوا من الأموال وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة أن لا يقبل منهم أَنَّهُمْ لأنهم يوقنون إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ يرجعوهم إلى ربهم العالم بخفيّات نفوسهم فلا يقبل إنفاقهم لاحتمال رياء أو سمعة فيه.
[61] أُولئِكَ الذين جمعوا هذه الصفات هم الذين يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها لأجل تلك الخيرات سابِقُونَ إلى الجنة، كما قال تعالى: (وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) «1».
[62] وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ما تتمكن أن تأتي به في يسر وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ بما عملوا وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقص من ثوابهم كما لا يزيد في عقاب المسيئين.
[63] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ غفلة مِنْ هذا الكتاب و هذا كناية عن عدم اعتنائهم بما يكتب عنهم لأنهم منكرون له وَ لَهُمْ أَعْمالٌ سيئة مِنْ دُونِ ذلِكَ سوى ذلك الكفر هُمْ لَها لتلك الأعمال السيئة عامِلُونَ.
[64] حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ متنعميهم «2»، و النسبة إليهم مع أن العذاب شامل للجميع لأجل أنهم الرؤوس في الضلال و الإضلال بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ يضجون من شدة العذاب.
[65] فيقال لهم: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ فلا يفيدكم الجأر ف إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ.
[66] قَدْ كانَتْ آياتِي القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ أيها الكافرون فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ترجعون القهقرى أي تكفرون.
[67- 68] مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ مكذبين بالقرآن سامِراً أي تسمرون و تتحدثون بذكر القرآن و الطعن فيه تَهْجُرُونَ تقولون كلاما هجرا و هذيانا. أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ يتدبروا القرآن، و الاستفهام للإنكار أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ فكيف يكفرون بالقرآن و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحال أنه قد جاء آباءهم رسل و كتب.
[69] أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ بالصدق و الأمانة و كمال العقل فلذا هم له للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُنْكِرُونَ نعم كل ذلك كان، فقد تدبروا القرآن و علموا إعجازه، و قد جاء آباءهم رسل و كتب و عرفوا رسولهم و لكنهم معاندون.
[70] أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ جنون بَلْ ليس شي ء من ذلك و إنما جاءَهُمْ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأنه مخالف لشهواتهم.
[71] وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ و ميولهم لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ لأنهم يريدون أشياء و تغييرات في الكون توجب الفساد بَلْ أَتَيْناهُمْ أعطيناهم بِذِكْرِهِمْ بما فيه تذكير لهم فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ.
[72] أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أجرا على تبليغ الرسالة و لذا يفرون من الإيمان بك فَخَراجُ أجر رَبِّكَ خَيْرٌ من أجرهم، فإن أجرك على الله وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فرزقك منه تعالى لا منهم.
[73] وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فلا اعوجاج لطريقك حتى يكون فرارهم لأجل اعوجاج الطريق.
[74] وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ لمنحرفون عنه.
__________________________________________________
(1) سورة الواقعة: 10- 11.
(2) المترف: المتنعم المتوسع في ملذات الدنيا و شهواتها. [.....]
تبيين القرآن، ص: 359
[75] وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا رفعنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ شدة هم فيها لَلَجُّوا أصروا فِي طُغْيانِهِمْ كفرهم و ظلمهم يَعْمَهُونَ يترددون و لا يشكرون الله تعالى.
[76] وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ بالشدائد فَمَا اسْتَكانُوا ما خضعوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ لا يرغبون إليه في الدعاء و الضراعة.
[77] حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ بأن نعذبهم بجوع أو خوف أو ما أشبه إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير.
[78] وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ خلق لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد بمعنى القلب قَلِيلًا ما تأكيد للقلة تَشْكُرُونَ.
[79] وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ أوجدكم فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ إلى حسابه تُحْشَرُونَ تجمعون.
[80] وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي كون أحدهما يعقب الآخر أَ فَلا تَعْقِلُونَ أفلا تستعملون عقولكم حتى تدركوا إن كل شي ء منه تعالى.
[81] بَلْ قالُوا هؤلاء الكفار مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ الكفار من آبائهم.
[82] قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً بأن تبدّل لحمنا إلى تراب وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ في القيامة، قالوا ذلك على وجه الإنكار.
[83] لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا المعاد مِنْ قَبْلُ أي وعد آباؤنا بذلك قبل هذا إِنْ هذا أي ما هذا الوعد إِلَّا أَساطِيرُ خرافات الْأَوَّلِينَ ممن ادعوا النبوة.
[84] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك فأجيبوني.
[85] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ لأنهم كانوا يعترفون بالله و إنما يجعلون الأصنام وسطاء و شركاء قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ بأن من قدر على الابتداء يقدر على الإعادة، أو بأن من له كل شي ء هو الله، لا غيره من أصنامكم.
[86- 87] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ عقابه باتباع أوامره.
[88] قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ ملك كُلِّ شَيْ ءٍ أي إن التصرف في كل شي ء تحت إرادته وَ هُوَ يُجِيرُ يغيث من يشاء وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ و لا أحد يغيثه لأنه لا يحتاج إلى إغاثة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
[89] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى فمن أين و كيف تُسْحَرُونَ تكونون كالمسحور يخيل إليه الباطل حقا و الحق باطلا.
تبيين القرآن، ص: 360
[90] بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ بيّنا لهم ما هو حق من التوحيد و المعاد وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في ادعاء الولد و الشريك و نفي المعاد.
[91] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ المسيح و عزير عليه السّلام و الملائكة وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ شريك له إِذاً أي إذا كان له شريك لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ بأن انحاز مع مخلوقاته في جانب وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ بالتغالب كما يفعل الملوك، و قد تقدم استحالة ذلك سُبْحانَ اللَّهِ إنه منزّه عَمَّا يَصِفُونَ من الولد و الشريك.
[92] عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ما غاب عن الحواس و ما حضر لديها فَتَعالى ارتفع عَمَّا يُشْرِكُونَ عن شركهم.
[93] قُلْ رَبِّ إِمَّا أصله (إن) الشرطية و (ما) الزائدة تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ من عذابهم و النقمة عليهم.
[94] رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم كي لا يصيبني ما أصابهم، و هذا دعاء لاستمرار لطفه.
[95] وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ و لكن نؤخرهم للوصول إلى أجلهم المسمى.
[96] ادْفَعْ بالكيفية التي هِيَ أَحْسَنُ الكيفيات السَّيِّئَةَ مفعول (ادفع) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ الله به من الشرك و الولد فنجازيهم عليه.
[97- 98] وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ وساوس «1» الشَّياطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي يحضر الشياطين عندي لإغوائي.
[99] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ أي الكفّار الْمَوْتُ بأن قارب موته قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أي ارجعوا بي و ردوني إلى الدنيا.
[100] لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ من الأموال بأن أنفق منها حق الله كَلَّا لا رجوع إِنَّها أي الكلمة التي يقولها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها فهي مجرد لفظ لا أثر له وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ و هو ما بين الدنيا و الآخرة إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ في الآخرة.
[101] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ بوق ينفخ فيه إسرافيل عليه السّلام لإحياء الناس فَلا أَنْسابَ نسب يفيد بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا خوفا من أن يبتلى به، و لأن كل إنسان مشغول بنفسه.
[102] فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بالطاعات فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[103] وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن كانت معاصيه أكثر فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ضيعوها و هم فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ باقون دائما.
[104] تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تضربها فتحرقها «2» وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ عابسون تتقلص شفاههم من شدة الاحتراق.
__________________________________________________
(1) و الهمزة في اللغة: شدة الدفع.
(2) لفحت وجهه النار: أصابته.
تبيين القرآن، ص: 361
[105] يقال لهم: أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي كالقرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها بالآيات تُكَذِّبُونَ.
[106] قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا «1» بعد أن تمت الحجة علينا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ اعتراف منهم بأنهم ضلّوا عن الحق.
[107] رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها من النار فَإِنْ عُدْنا إلى التكذيب فَإِنَّا ظالِمُونَ ظلما يقينيا.
[108] قالَ الله: اخْسَؤُا اسكتوا سكوت هوان فِيها في النار وَ لا تُكَلِّمُونِ لا تكلموني في رفع العذاب، و ذلك لأن الله عالم بأنهم إذا رجعوا عملوا مثل أعمالهم السابقة.
[109] إِنَّهُ إن الشأن كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي المؤمنين يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
[110] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ يا معاشر الكفار سِخْرِيًّا هزوا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي بأن تركوكم و شأنكم إلى أن نسيتم ذكر الله «2» وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ استهزاء بهم.
[111] إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم في الدنيا على أوامري أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ جزاؤهم فوزهم بالجنة و الثواب.
[112] قالَ الله للكفار: كَمْ لَبِثْتُمْ بقيتم فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ.
[113] قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم استقلوا بقاءهم في الدنيا فَسْئَلِ الْعادِّينَ الذين عدّوا بقاءنا بالساعات.
[114] قالَ إِنْ ما لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا بالنسبة إلى مكثكم في النار الذي يطول لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لم تفعلوا ما فعلتم.
[115] أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي لأجل العبث و اللهو وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا إلى حكمنا لا تُرْجَعُونَ.
[116- 117] فَتَعالَى اللَّهُ عما لا يليق به الْمَلِكُ الْحَقُّ فإنه يحق له الملك دون سواه تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ذي الكرم و الرفعة وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ لا دليل له على الإله الآخر فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ فيجازيه حسب استحقاقه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لا يفوزون بالثواب.
[118] وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
__________________________________________________
(1) شقوتنا: شقاوتنا.
(2) أو لاشتغالكم بالاستهزاء بهم.
تبيين القرآن، ص: 362
مدنية آياتها أربع و ستون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هذه سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها فرضنا ما فيها من الأحكام وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ظاهرات الدلالة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون بها.
[2] الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ رحمة فِي دِينِ اللَّهِ في حكمه فتعطلوا حدّه إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ ليحضر عَذابَهُما أي جلدهما طائِفَةٌ جماعة مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
[3] الزَّانِي لا يَنْكِحُ لا يزني إِلَّا زانِيَةً بزانية غير مشركة أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها لا يزني بها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ الزنا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
[4] وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ يتهمون بالزنا الْمُحْصَناتِ العفيفات من النساء ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يشهدون بما ادعوا فَاجْلِدُوهُمْ أي اجلدوا كل واحد من المدعين ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ما لم يتوبوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله.
[5] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ القذف وَ أَصْلَحُوا أعمالهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[6] وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ زوجاتهم وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ بأن يحلف أربع مرات إنه صادق في دعواه زنا زوجته.
[7] وَ الْخامِسَةُ أي يشهد و يحلف شهادة خامسة بهذا اللفظ: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي على المدعي إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعائه زنا زوجته، فإذا حلف الرجل كذلك حدت المرأة حدّ الزنا.
[8] وَ يَدْرَؤُا أي يمنع و يدفع عَنْهَا عن المرأة الْعَذابَ الحدّ أَنْ تَشْهَدَ فاعل (يدرؤ) أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ بأن تحلف أن زوجها كاذب في نسبة الزنا إليها.
[9] وَ تشهد الْخامِسَةَ بهذا اللفظ: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ الزوج مِنَ الصَّادِقِينَ.
[10] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يكثر قبول التوبة حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها، لعاجلكم بالعقوبة.
تبيين القرآن، ص: 363
[11] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ الكذب العظيم فإن بعض زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رمت مارية القبطية بالزنا، و قيل غير ذلك عُصْبَةٌ جماعة مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ أي الإفك شَرًّا لَكُمْ لأنه يوجب الامتحان مما يعود خيره إليكم، كقولك لا تحسب الجهاد شرا، مع أنه موجب لإراقة الدماء بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ من العصبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي بمقدار كسبه من الإفك و ما خاض فيه كثيرا أو قليلا وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ معظمه مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا و الآخرة.
[12] لَوْ لا هلّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ سمعتم الإفك أيها المسلمون ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ ظن بعضهم ببعض خَيْراً بأن يقول إنه كذب وَ قالُوا هذا القول إِفْكٌ مُبِينٌ ظاهر.
[13] لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ أي على الإفك بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ليشهدوا بالزنا فَإِذْ فحين لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ في نسبتهم الزنا إلى زوجة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[14] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا بأن أمهلكم لتتوبوا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ أصابكم فِيما أَفَضْتُمْ دخلتم فِيهِ من الإفك عَذابٌ عَظِيمٌ.
[15] إِذْ ظرف ل (مسكم) تَلَقَّوْنَهُ يرويه بعضكم لبعض بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ إذ كنتم تقولونه عن ظن وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً سهلا وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ لأنه افتراء.
[16] وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ أي لا يحل لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا الكلام سُبْحانَكَ بأن تقولوا حين تسمعون ننزهك يا الله تنزيها هذا بُهْتانٌ كذب عَظِيمٌ.
[17] يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لئلا ترجعوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
[18- 19] وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ تظهر الْفاحِشَةُ الزنا فِي الَّذِينَ آمَنُوا بنسبتها إليهم لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بإقامة الحد وَ الْآخِرَةِ بعذاب النار وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه من العقاب و السخط وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
[20] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لعاجلكم بالعقاب وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
تبيين القرآن، ص: 364
[21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ طرقه المؤدية إليه، و المراد بها المعاصي وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فليعلم أنه أي الشيطان يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ الإثم الفاحش كالزنا و الربا وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى ما طهر مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ من دنس المعاصي أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ و لذا يأمركم بما هو خير لكم.
[22] وَ لا يَأْتَلِ لا يحلف أُولُوا الْفَضْلِ الغنى مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ في المال أَنْ لا يُؤْتُوا يعطوا من أموالهم أُولِي الْقُرْبى أقرباءهم وَ الْمَساكِينَ الفقراء وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الذين هاجروا لأجله سبحانه وَ لْيَعْفُوا إذا رأوا إساءة وَ لْيَصْفَحُوا أصله إدارة صفح الوجه إعراضا، و المراد عدم المبالاة بما بدر من الطرف من الإساءة أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ فإذا أحببتم غفران الله فاغفروا لمن أساء إليكم، و الآية نهي لغالب الأغنياء الذين يجعلون بعض الأعذار الواهية مبررا لحلفهم على ترك الإعطاء وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[23] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ يقذفون بالزنا الْمُحْصَناتِ العفائف الْغافِلاتِ أي التاركات للفواحش الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا أبعدوا عن رحمة الله فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا بالجلد و في الآخرة بالنار.
[24] و ذلك يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فإن في يوم القيامة تشهد الجوارح بالجرائم.
[25] يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ يعطيهم جزاءهم الْحَقَّ الذي يستحقونه وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الظاهر، فإنهم لو علموا في الدنيا ذلك لم يرتكبوا الآثام.
[26] الْخَبِيثاتُ الزانيات من النساء لِلْخَبِيثِينَ للزناة من الرجال وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ العفيفات لِلطَّيِّبِينَ الأعفاء، و هذا كقوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية) «1» وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ الأطياب من الصنفين مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ يقول أهل الفسق فيهم من كلمات القذف، لفرض أنهم أطياب لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران لأجل ما قذفوا به وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ مقترن بالتكريم لهم.
[27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا تستأذنوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها سلام الاستئذان، و ذلك بأن يقول: السلام عليكم، ثلاث مرّات، فإن أذن له و إلّا انصرف ذلِكُمْ الاستئذان خَيْرٌ لَكُمْ من الدخول فجأة، و أنزلنا هذا الحكم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون.
__________________________________________________
(1) سورة النور: 3.
تبيين القرآن، ص: 365
[28] فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً يأذن لكم فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ بأن تجدوا من يأذن لكم وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ الرجوع أَزْكى أطهر و أحسن لَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
[29] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بغير استئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أمثال الحمامات و الخانات فِيها في تلك البيوت مَتاعٌ استمتاع و انتفاع لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ تظهرون وَ ما تَكْتُمُونَ تخفون في أنفسكم، في دخولكم و في قصدكم الإفساد و عدمه.
[30] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا غض طرفه خفضه، و المراد أما ما يحرم النظر إليه كالأجنبية مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عما لا يحل ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ.
[31] وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كالسوار و ما أشبه، فضلا عن مواضعها إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها بدون اختيارهن وَ لْيَضْرِبْنَ يلقين بِخُمُرِهِنَّ جمع خمار و هو ما يلفّ على الرأس عَلى جُيُوبِهِنَّ جيب الثوب ما يلي الصدر، و في ذلك ستر للوجه و الرقبة و الصدر وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أزواجهن أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أمام المسلمات فلا يتجردن أمام الكافرات أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من الإماء، أو الأعم أَوِ التَّابِعِينَ هو الذي يتبعك لأنه لا استقلال له غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ ليس بصاحب حاجة للنساء مِنَ الرِّجالِ و هم البله الذين لا يعرفون الحاجة إلى النساء أَوِ الطِّفْلِ الصغير الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا لم يطلعوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي لم يعرفوها لعدم شهوتهم وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ على الأرض لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فقد كانت المرأة تضرب برجلها لتسمع قعقعة الخلخال فيها وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فإن الغالب ارتكاب بعض هذه المناهي لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون.
تبيين القرآن، ص: 366
[32] وَ أَنْكِحُوا زوجوا الْأَيامى جمع (أيّم) بمعنى من لا زوج أو لا زوجة له مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ الذين يصلحون للزواج مِنْ عِبادِكُمْ العبيد وَ إِمائِكُمْ جمع أمة إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فلا يمنعكم فقرهم من تزويجهن أو تزويجهم وَ اللَّهُ واسِعٌ فضله عَلِيمٌ بمآل الأمور.
[33] وَ لْيَسْتَعْفِفِ ليجهدوا في العفة الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أسباب النكاح حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فيتمكنوا من النكاح وَ العبيد الَّذِينَ يَبْتَغُونَ يطلبون الْكِتابَ المكاتبة و هي أن يقرر المولى و العبد إن جاء العبد بكمية من المال أعتقه مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي العبيد و الإماء فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً تمكنا من أداء المال، أو كانت الكتابة خيرا لهم وَ آتُوهُمْ أعطوهم مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ بأن حطوا بعض مال الكتابة تخفيفا لهم وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ جمع فتاة تطلق على البنت الحرة و الأمة عَلَى الْبِغاءِ الزنا إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً عفة، فقد كان بعض أهل الجاهلية يكره فتاته على الزنا ليدر عليه بالمال لِتَبْتَغُوا تطلبوا بالإكراه عَرَضَ مال «1» الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ على الزنا فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ يغفر لهنّ إذا تبن رَحِيمٌ بهنّ.
[34- 36] وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ قد بيّنت و أوضحت وَ أنزلنا مَثَلًا أخبارا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم وَ أنزلنا مَوْعِظَةً وعظا و إرشادا لِلْمُتَّقِينَ فإنهم المنتفعون بالوعظ. اللَّهُ نُورُ هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره، و الله سبحانه هكذا، و لذا شبه بالنور السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ أحسن الأنوار و أبهاه، فليس كنور ضعيف، و نوره، أي النور الذي هو كَمِشْكاةٍ كوة في الحائط فِيها مِصْباحٌ هو الذي فيه الزيت و عليه الفتيلة الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ في قنديل الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ متلألئ فإن المصباح في الزجاجة في الكوة يوجب كثرة النور لانعكاسه بسبب الزجاجة و بسبب حصره في الكوة، و ذلك المصباح يُوقَدُ نوره مِنْ زيت شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة البركة زَيْتُونَةٍ بدل شجرة
لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ لا نابتة في طرف الشرق حتى تمنعها المرتفعات الشرقية عن إشراق الشمس عليها حال الشروق، و لا نابتة في طرف الغرب حتى تمنعها المرتفعات الغربية عن إشراق الشمس عليها حال الغروب، بل تشع الشمس عليها في كل النهار مما يسبب جودة زيتها و كثرة ضوء الزيت يَكادُ يقرب زَيْتُها يُضِي ءُ يعطي الضياء لصفائه و تلألؤه وَ لَوْ وصلية لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يضي ء قبل أن تصيبه النار و تشتعل فيه نُورٌ عَلى نُورٍ مضاعف نوره لقوة زيته و للزجاجة و الكوة يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي نور ذاته المقدسة، بأن يعرف الله سبحانه نفسه مَنْ يَشاءُ من خلقه بإرسال الرسل و إنزال الكتب وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريبا إلى الإفهام وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. فِي بُيُوتٍ يوقد ذلك المصباح في بيوت الله (المساجد) فنور زائد في محل طاهر، كمال الضياء و كمال النزاهة، و هكذا مثل الله سبحانه ضياء و نزاهة أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ رفعة بنائية و رفعة معنوية، و ذلك لأنه ورد في الحديث كراهة علو المنازل كما كره ترفيع ذكر من لا يليق وَ يُذْكَرَ فِيهَا في تلك البيوت و هي المساجد اسْمُهُ تعالى، فإنه كره الصلاة في أماكن خاصة كما ذكر في الفقه يُسَبِّحُ ينزه لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ بالصباح وَ الْآصالِ جمع أصيل، العصر.
__________________________________________________
(1) عرض الدنيا: متاعه و حطامه.
تبيين القرآن، ص: 367
[37] رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ لا تشغلهم تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ ذكر الخاص بعد العام عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عن إِقامِ إقامة الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً يوم القيامة تَتَقَلَّبُ تضطرب فِيهِ في ذلك اليوم الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ فإن الخائف يفكر بقلبه و يجول
ببصره ليجد مأمنا.
[38] لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أي عدم تلهيهم لأجل طلب الجزاء من الله أَحْسَنَ جزاء ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ يعطيهم أكثر من جزائهم مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بلا عدّ، و إنما كثيرا زائدا.
[39] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ و هو ما يرى في الصحراء كأنه ماء، و ذلك بسبب انعكاس أشعة الشمس في الهواء بِقِيعَةٍ أي في قيعة، بمعنى القاع و هي الأرض يَحْسَبُهُ أي يحسب السراب الظَّمْآنُ العطشان ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ جاء محل السراب لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً لأنه خيال محض وَ وَجَدَ اللَّهَ قدرته و هيمنته عِنْدَهُ أي عند محل السراب، و هكذا الكافر يظن أن له أعمالا صالحة في الآخرة فإذا جاء إلى الآخرة لم يجد عمله و وجد أمر الله فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أعطاه حسابه كاملا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فإن القيامة تأتي بسرعة فإن كل آت قريب.
[40] أَوْ أعمالهم في خلوها عن نور الحق كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق و هي الظلمة في قعر البحر يَغْشاهُ يغطي البحر مَوْجٌ يزيد في ظلمة قعره مِنْ فَوْقِهِ فوق ذلك الموج مَوْجٌ آخر مِنْ فَوْقِهِ فوق الموج الثاني سَحابٌ يحجب نور الشمس ظُلُماتٌ هذه ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ فظلمة السحاب فوق الجميع و ظلمة البحر تحت الجميع إِذا أَخْرَجَ من في تلك الظلمات يَدَهُ لينظر إليها لَمْ يَكَدْ يَراها لم يقرب من رؤيتها لشدة الظلمة وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً بأن تركه و شأنه حتى أخذته ظلمات الكفر و العصيان، فإن الكفر و اتباع الشهوات و العادات و التقاليد الباطلة أوجبت ظلمة أعمال الكفّار فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.
[41] أَ لَمْ تَرَ ألم تعلم أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يسبح له الطَّيْرُ حال كونها صَافَّاتٍ باسطات أجنحتهنّ في الهواء كُلٌّ ممن في السماوات و الأرض و الطير قَدْ عَلِمَ الله صَلاتَهُ دعاءه وَ تَسْبِيحَهُ تنزيهه لله تعالى وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ.
[42] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع في الآخرة.
[43] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي يسوق إلى حيث يريد سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ يضم بعضه إلى بعض ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فرج السحاب وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ السحاب فِيها في السماء، فإن السحاب كالجبال كما يشاهده راكب الطائرة فوق السحاب مِنْ بَرَدٍ أي بردا، و هو الثلج فَيُصِيبُ بِهِ بذلك البرد مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ بأن يمنع البرد عن إصابة بعض الناس عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ يقرب سَنا ضوء بَرْقِهِ برق ذلك السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ بأبصار الناظرين من فرط الإضاءة.
تبيين القرآن، ص: 368
[44] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ بأن يأتي بأحدهما مكان الآخر إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من عجائب صنع الله لَعِبْرَةً دلالة لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي البصائر.
[45] وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ تدب على وجه الأرض مِنْ ماءٍ النطفة فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحية وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيخلق ما يريد.
[46] لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ موضحات للحقائق وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يؤدي إلى السعادة.
[47] وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى يعرض عن الإطاعة فَرِيقٌ مِنْهُمْ هم المنافقون مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الذي قالوا آمنا وَ ما أُولئِكَ الذين يقولون بِالْمُؤْمِنِينَ.
[48] وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ عن حكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنهم يعلمون أن الحق عليهم.
[49] وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُذْعِنِينَ منقادين.
[50] أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ نفاق حتى لم يسلموا لحكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مطلقا أَمِ ارْتابُوا شكوا في عدالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ يجور اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ في الحكم بَلْ ليس ذلك و إنما أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم حيث لا ينقادون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[51] إِنَّما كانَ قَوْلَ خبر (كان) و اسمه (أن يقولوا) أي اللازم على المؤمن أن يقول: سمعت و أطعت، إذا أمره الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشي ء سواء كان له أو عليه الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ إلى حكم الله وَ رَسُولِهِ و الحضور عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[52] وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ يتقي عقابه فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالسعادة في الدارين.
[53] وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أغلظ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
بالجهاد لَيَخْرُجُنَ
إلى الجهاد قُلْ لا تُقْسِمُوا
بالكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
فإن المطلوب منهم طاعة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معروفة، لا طاعة مزورة، أما اليمين للطاعة فهي ليست بمهمة إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
فيجازيكم عليه.
تبيين القرآن، ص: 369
[54] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الطاعة فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ كلف بأدائه وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الطاعة وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا إلى الرشد وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أداء الرسالة أداء واضحا.
[55] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أيها المسلمون إيمانا بلا نفاق وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ يجعلهم خلفاء لمن سبق منهم بتمكينهم فِي الْأَرْضِ بدل الكفّار كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المؤمنين وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الإسلام و تمكين الدين أخذه بمجاري الأمور الَّذِي ارْتَضى اختار لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء أَمْناً فهم آمنون يَعْبُدُونَنِي أولئك المؤمنون لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً لا يجعلون شيئا شريكا لي وَ مَنْ كَفَرَ بهذه الأمور بَعْدَ ذلِكَ الوعد الصادق فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كاملو الفسق، و قد أوّلت الآية بالإمام المهدي.
[56] وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا أعطوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يرحمكم الله.
[57] لا تَحْسَبَنَّ لا تظننّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ يعجزوننا فلا نتمكن عليهم فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ محلهم النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي المحل و المرجع.
[58] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي مروا عبيدكم أن يطلبوا الأذن وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ أي أولادكم غير البالغين مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ في ثلاث أوقات إذا أرادوا أن يدخلوا غرفكم الخاصة في هذه الأوقات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنه وقت القيام من المضاجع و تبديل لباس الليل بلباس النهار وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ أي تنزعونها للقيلولة مِنَ الظَّهِيرَةِ فإن ذلك وقت تبديل الثياب و النوم و الخلوة بالأهل وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ فإنه وقت تبديل لباس النهار بلباس الليل ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ هذه الأوقات ثلاث أوقات خلل، فإن العورة بمعنى الخلل لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ حرج بَعْدَهُنَّ أي بعد هذه الأوقات طَوَّافُونَ يطوفون بالمجي ء بلا استئذان عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بيان (طوافون عليكم) كَذلِكَ هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الأحكام وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يصلحكم حَكِيمٌ في تشريعه الأحكام.
تبيين القرآن، ص: 370
[59] وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أيها الأحرار الْحُلُمَ البلوغ الشرعي فَلْيَسْتَأْذِنُوا في جميع الأوقات، فإن الاستئذان في ثلاث أوقات كان خاصا بالعبيد و الأطفال كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأحرار الكبار كَذلِكَ هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
[60] وَ الْقَواعِدُ جمع قاعدة و هي المسنة التي قعدت عن التزويج حيث لا يرغب فيها أحد مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن فيه فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ الظاهرة كالملحفة و الرداء في حال كونهنّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ مظهرات بِزِينَةٍ خفية فإن إظهار الزينة لا يجوز وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ عن وضع الثياب بأن يكنّ كسائر النساء خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ أقوالهنّ عَلِيمٌ بأحوالهنّ.
[61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ فقد كان أهل الجاهلية يستقذرون الأعمى و الأعرج و المريض فلا يأكلون معهم فنزلت الآية بأنه لا قذارة فيهم وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ليس عليكم حرج من أنفسكم في أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ بيوت الزوجات و الأزواج أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أي وكلتم بحفظه بأن كان بيدكم مفتاحه أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً متفرقين و هذا لأن بعضهم كان يتحرج من الأكل منفردا فنزلت الآية مصرحة بعدم البأس في ذلك فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ليسلّم بعضكم على بعض تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ شرعها لكم مُبارَكَةً لأنها دعاء بالسلامة من آفات الدارين، و البركة: الدوام و الثبات طَيِّبَةً تطيب النفس بها كَذلِكَ هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ مما تحتاجون إليه في دنياكم و آخرتكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ معالم دينكم.
تبيين القرآن، ص: 371
[62] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ من صميم قلبهم وَ إِذا كانُوا مَعَهُ مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ يجمع المسلمين كالجماعة و الحرب لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ يطلبوا منه الأذن إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أمّا الذين يذهبون بدون استئذان فليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ لبعض مهامهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ اطلب غفران الله لهم من جهة خروجهم عن جماعة المؤمنين فإنه خلاف يحتاج إلى الستر و العفو
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[63] لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ أي حال تنادونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تسموه باسمه كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً كما ينادي أحدكم الآخر باسمه قَدْ للتحقيق يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ يخرجون عن الجماعة خفية بدون استئذان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِواذاً ملاوذين يستتر بعضهم ببعض فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو أمر الله أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ عقوبة في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة.
[64] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالله عز و جل مالك كل شي ء و على المملوك إطاعة مالكه قَدْ للتحقيق يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الأعمال الصالحة أو الطالحة وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ الناس إِلَيْهِ إلى ثوابه و عقابه فَيُنَبِّئُهُمْ يخبرهم لأجل أن يجازيهم بِما عَمِلُوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فلا يفوته شي ء.
مكية آياتها سبع و سبعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] تَبارَكَ دام و ثبت، أو كثر خيره الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ القرآن الفارق بين الحق و الباطل عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِيَكُونَ عبده لِلْعالَمِينَ نَذِيراً مخوفا من العذاب.
[2] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي جميع الكون وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما زعم أهل الكتاب وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما زعم المشركون وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ من المخلوقات فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً حسب ما تقتضيه الحكمة و الصلاح.
تبيين القرآن، ص: 372
[3] وَ اتَّخَذُوا الكفّار مِنْ دُونِهِ غير الله آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ تلك الآلهة شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ مخلوقون لله فكيف تكون آلهة وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا فيدفعونه وَ لا نَفْعاً فيجرونه وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً بعثا بعد الموت.
[4] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب نسب إلى الله افْتَراهُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ كسلمان و صهيب و بعض أهل الكتاب فَقَدْ جاؤُ بهذه المقالة ظُلْماً وَ زُوراً كذبا.
[5] وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيبهم اكْتَتَبَها جمعها فَهِيَ تُمْلى تقرأ عَلَيْهِ على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأجل أن يحفظها فينشرها في المجتمع بُكْرَةً صباحا وَ أَصِيلًا عصرا.
[6] قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أَنْزَلَهُ أي القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ الغيب فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و لذا أنزل القرآن بما يفيد حال البشر، و لو كان أساطير لكان حسب الظواهر الخارجية إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً و لذا لا يعاجلهم بالعقوبة و يغفر لمن تاب منهم.
[7] وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ أي الزاعم أنه رسول يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ فكان زعمهم أن الرسول يجب أن لا يعمل أعمال البشر لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ من السماء فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يعينه في الإنذار و التخويف.
[8] أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ من السماء كَنْزٌ ليستغني به عن المعاش أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان يَأْكُلُ مِنْها أي يجعله لإدرار معاشه وَ قالَ الظَّالِمُونَ أنفسهم بالكفر إِنْ ما تَتَّبِعُونَ أيها المؤمنون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً سحر فذهب عقله.
[9] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بأنك مسحور و ساحر و مجنون و كاهن و شاعر فَضَلُّوا عن قصد السبيل فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي سلوك سبيل الحق، أو سبيلا لتكذيبك.
[10] تَبارَكَ دام و ثبت الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ الذي قالوه من الجنة و الكنز جَنَّاتٍ بدل من (خيرا) تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً.
[11] بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ بالقيامة، و لذا اقتصرت أنظارهم على حطام الدنيا وَ أَعْتَدْنا هيّأنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً نارا تلتهب.
تبيين القرآن، ص: 373
[12] إِذا رَأَتْهُمْ النار، أي كانت بمرأى منهم مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ عنهم سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً غليانا وَ زَفِيراً صوتا شديدا، فكيف بها إذا اقتربوا منها و ألقوا فيها.
[13] وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها أي من النار، و المراد فيها مَكاناً ضَيِّقاً فإن أهل النار مبتلون بضيق المكان على سعتها، و ذلك لتكثير عذابهم مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم ببعض، فإن ذلك مما يسبب كثرة الأذى، أو مغللين دَعَوْا هُنالِكَ في ذلك المكان ثُبُوراً أي هلاكا فإنهم يتمنون الهلاك و لا يأتيهم.
[14] و يقال لهم بقصد التبكيت: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً فإن عذابهم أنواع كثيرة يستدعي كل نوع منه ثبورا.
[15] قُلْ أَ ذلِكَ العذاب خَيْرٌ لهؤلاء الكفّار أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ التي فيها الخلود الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ الجنة لَهُمْ جَزاءً لأعمالهم وَ مَصِيراً يصيرون إليها.
[16] لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع النعيم خالِدِينَ كانَ إدخالهم فيها عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا يسأله الناس قائلين: (ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك) «1».
[17] وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي يجمع الله الكفّار وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أصنامهم فَيَقُولُ الله لتلك الأصنام: أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ و هذا السؤال لأجل توبيخ العبّاد لها بما تقوله الأصنام من الجواب.
[18] قالُوا أي المعبودون: سُبْحانَكَ تنزيها لك عن الشريك نحن لم نضلهم بل هم ضلّوا ما كانَ يَنْبَغِي يصح لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ بأن نوالي أعداءك الكافرين و نأخذهم عبّادا لنا وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ متعت آباءَهُمْ بأنواع النعم حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ تركوه كأنه منسي بأن لم يعملوا بما ذكروا به وَ كانُوا قَوْماً بُوراً هالكين.
[19] فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ كذبتكم أيها المشركون آلهتكم بِما تَقُولُونَ من أنهم آلهة لأنهم تبرأوا منكم فَما تَسْتَطِيعُونَ أي آلهتكم صَرْفاً دفعا للعذاب عنكم وَ لا نَصْراً بأن ينصروكم في دفع العذاب عن أنفسكم وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نفسه بالشرك نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً و هو جهنم.
[20] وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ردّ لقولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق) وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً امتحانا، فالشريف مبتلى بالوضيع و الفقير بالغني و هكذا، كما ابتلى الأنبياء عليهم السّلام بالأمم أَ تَصْبِرُونَ بأداء أمر الله في حال الابتلاء وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر و من لا يصبر.
__________________________________________________
(1) سورة آل عمران: 194.
تبيين القرآن، ص: 374
[21- 23] وَ قالَ الكفار الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا حيث ينكرون البعث: لَوْ لا أي هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ بأن نزلت على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دوننا أَوْ نَرى رَبَّنا ليقول لنا شريعته شفاها بدون واسطة لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا أظهروا الكبر الكامن فِي أَنْفُسِهِمْ فهل كل إنسان قابل لنزول الملائكة عليه أو هل الله يمكن رؤيته وَ عَتَوْا طغوا في مقالهم عُتُوًّا كَبِيراً. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لقبض أرواحهم لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي يمنعون من البشارة وَ يَقُولُونَ الكفّار حينذاك: حِجْراً مَحْجُوراً أي حراما محرما «1»، و هذه كلمة كانت العرب تقولها إذا رأت العدو، أي إن دمي عليك حرام، فإذا رأى الكفار الملائكة كانت الملائكة عدوّا لهم لا مبشرا و منزلا للوحي.
وَ قَدِمْنا تقدمنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ صالح كصلة رحم و إعانة فقير فَجَعَلْناهُ هَباءً هو الغبار الذي يرى في الشمس الداخلة من الكوة، حيث لا فائدة له إطلاقا مَنْثُوراً متفرقا، و ذلك لأن الإيمان شرط قبول العمل، نعم الأعمال الصالحة توجب تخفيف العقاب.
[24- 27] أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا مكانا يستقرون فيه وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا موضعا ينامون فيه نوم القيلولة. وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ تنفطر السَّماءُ بِالْغَمامِ بظهور الغمام منها كأنه بساط عليه الملائكة وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا و ذلك لأجل حساب الناس. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ بيان ل (يوم)، يعنى: الملك في يوم التشقق للرحمن الْحَقُّ الثابت و قد زال كل ملك زائف لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً شديدا. وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ لنفسه بكفر أو عصيان عَلى يَدَيْهِ ندما و تحسرا يَقُولُ يا قوم لَيْتَنِي في الدنيا اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا إلى الهدى.
[28] يا وَيْلَتى يا هلكتي احضري فهذا وقتك لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً الذي أضلني و سبب العذاب لي خَلِيلًا صديقا.
[29- 30] لَقَدْ أَضَلَّنِي فلان «2» عَنِ الذِّكْرِ عن القرآن بَعْدَ إِذْ جاءَنِي الذكر، و كان مقتضى القاعدة أن أؤمن وَ كانَ الشَّيْطانُ الذي أضلّه، إنسا كان أو جنا لِلْإِنْسانِ خَذُولًا فلا ينفعه في ذلك الوقت العصيب، بل أضلّه في الدنيا و تركه في الآخرة. وَ قالَ الرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي الكفار الذين بعثتني إليهم اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً متروكا فلم يقبلوه و لم يعملوا به.
[31] وَ كَذلِكَ كما تركنا أعداءك ليعادوك، حتى تتم الحجة جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ بأن تركناهم حتى يعادوا الأنبياء عليهم السّلام و ذلك لأن الدنيا دار اختيار و اختبار، و قوله: (جعلنا) كقولك: (جعل الملك الناس مفسدين) إذا تركهم و شأنهم، و في هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً يهديك فلا يضلونك وَ نَصِيراً ينصرك عليهم.
[32] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا هلّا نُزِّلَ عَلَيْهِ على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً لا تدريجا كَذلِكَ إنما نزلناه متفرقا لِنُثَبِّتَ بِهِ لنقوي بالقرآن فُؤادَكَ قلبك حيث أن التدريج يوجب الاستمرارية و تقوية الملكة بخلاف الدفعة وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي أنزلناه شيئا بعد شي ء للإرشاد في مختلف المناسبات، مثلا آيات بدر إنما نزلت في تلك الغزوة، و آيات حنين إنما نزلت في تلك الحرب، و آيات الصيام في وقت تشريعه و هكذا.
__________________________________________________
(1) أصل الحجر: الضيق و سمي الحرام حجرا لضيقه بالنهي عنه.
(2) أضله: وجهه للضلال عن الطريق.
تبيين القرآن، ص: 375
[33] وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ لبطلان أمرك كقولهم: لما ذا لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة، تمثيلا بسائر الأنبياء عليهم السّلام الذين نزلت كتبهم مرة واحدة إِلَّا جِئْناكَ في جوابهم بِالْحَقِّ الراد لإشكالهم وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً أي بما هو حسن بيانا من المثل الذي ضربوه لبطلان أمرك.
[34] الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ يجمعون و يسحبون على وجوههم إلى النار أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً من المؤمنين وَ أَضَلُّ سَبِيلًا من سبيل المؤمنين، و الكلام جار على حسب المنطق العرفي، و إلّا فليس في مكان المؤمنين شر و لا ضلال.
[35] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً.
[36] فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فرعون و جماعته فَدَمَّرْناهُمْ أي القوم أهلكناهم لمّا لم يقبلوا الإرشاد تَدْمِيراً.
[37] وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً عبرة وَ أَعْتَدْنا هيّأنا لِلظَّالِمِينَ سوى ما حلّ بهم في الدنيا عَذاباً أَلِيماً مؤلما، في الآخرة.
[38] وَ أهلكنا عاداً قوم هود عليه السّلام وَ ثَمُودَ قوم صالح عليه السّلام وَ أَصْحابَ الرَّسِّ هي البئر، و المراد قوم شعيب عليه السّلام- كما في بعض التفاسير- لأنه كانت لهم بئر مشهورة يستقون الماء منها، و عن الإمام الرضا عليه السّلام إنهم كانوا قوما على شاطئ نهر يسمى الرس ألقوا نبيّهم في البئر فأنزل الله عليهم العذاب وَ قُرُوناً أهل عصور بَيْنَ ذلِكَ المذكور كَثِيراً كلا أهلكناهم.
[39] وَ كُلًّا من أولئك الأقوام الهالكة ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ القصص و العبر، فلم يتنبهوا وَ كُلًّا تَبَّرْنا أهلكنا تَتْبِيراً.
[40] وَ لَقَدْ أَتَوْا مرّ قومك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَى الْقَرْيَةِ قرية لوط عليه السّلام لأنها بين الشام و المدينة الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ مطروا بحجارة السجيل أَ فَلَمْ يَكُونُوا قومك يَرَوْنَها في أسفارهم فلما ذا لم يعتبروا بها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً و بعثا، و لذلك لا ينظرون إلى العبر و لا يتعظون بالزواجر.
[41] وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ ما يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً محل استهزاء يقولون: أَ هذَا استحقارا يقصدون أنه لا يليق بالرسالة الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا.
[42] إِنْ إنه كادَ قرب لَيُضِلُّنا يصرفنا عَنْ آلِهَتِنا بأن نتركها و نتخذ إلها واحدا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي ثبتنا على عبادتها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ عند الموت مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا طريقه خطأ، هم أو أنت.
[43] أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بأن أطاع شهوات نفسه و ترك أوامر الله، و الاستفهام في معرض الإنكار عليه، أي أ رأيته كيف ضلّ بهذا السبب أَ فَأَنْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا تحفظه عن الكفر، و المعنى أنك لا تقدر على هدايته إذا هو عاند.
تبيين القرآن، ص: 376
[44] أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ أكثر هؤلاء الكفار يَسْمَعُونَ الحق سماع تفهم أَوْ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم و يتدبرون أَنَّ ما هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا إذ الأنعام إذا عرفت مصالحها اتبعته، و هؤلاء يعرفون الحق و يعاندونه.
[45] أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ أي إلى قدرته تعالى كَيْفَ مَدَّ بسط الظِّلَّ فإن للأشياء ظلا عند ظهور الشمس في السماء و هو نعمة كبيرة وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً لا يتحرك، لكنه يضرّ بمصالح الناس ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ على الظل دَلِيلًا إذ لو لا الشمس ما كان يعرف معنى للظل.
[46] ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا أزلنا الظلّ بإيقاع شعاع الشمس مكانه قَبْضاً يَسِيراً قليلا قليلا.
[47] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً ساترا بظلامه كما يستر اللباس وَ النَّوْمَ سُباتاً قاطعا للعمل لأجل الراحة وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً بعثا للناس من النوم.
[48] وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً مبشرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي المطر، فإن الريح تبشر بالمطر وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً طاهرا مطهرا.
[49] لِنُحْيِيَ بالنبات بِهِ بالمطر بَلْدَةً أرضا مَيْتاً و التذكير باعتبار البلد إذ التاء في بلدة لإفراد الجنس لا التأنيث وَ نُسْقِيَهُ أي و لنسقي من ذلك الماء أنعاما و أناسا مِمَّا خَلَقْنا بعض خلقنا أَنْعاماً بدل (مما) وَ أَناسِيَّ جمع إنسان كَثِيراً.
[50] وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ أي المطر، نقلناه من هنا إلى هناك بَيْنَهُمْ بين بلادهم لِيَذَّكَّرُوا ليتفكروا فيعرفوا كمال قدرة الله فَأَبى امتنع أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً جحودا لنعم الله.
[51] وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً نبيا ينذر أهلها، و خففنا عليك الدعوة، لكن المصلحة أن تكون- يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- نبيّا لكل البشر.
[52] فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ بعد أن علمت الحق وَ جاهِدْهُمْ بِهِ بالقرآن جِهاداً كَبِيراً بكل قواك و إمكاناتك.
[53] وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ جعلهما متلاصقين، فإن المياه العذبة تحت الأرض و المياه المالحة في البحار متلاصقان و مع ذلك لا يختلط أحدهما بالآخر بسبب الحواجز الأرضية هذا أحد البحرين عَذْبٌ حلو فُراتٌ بالغ العذوبة وَ هذا مِلْحٌ مالح أُجاجٌ شديد الملوحة وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً حاجزا من قدرته تعالى وَ حِجْراً مَحْجُوراً أي حراما محرما أن يفسد المالح العذب.
[54] وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ النطفة بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً الأولاد الذكور للنسب وَ صِهْراً البنات للصهر وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من الماء الواحد رجالا و نساء.
[55] وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله ما أي الأصنام لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً يظاهر الشيطان و يعاونه على مخالفة أوامر الله.
تبيين القرآن، ص: 377
[56] وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً بالثواب وَ نَذِيراً مخوفا من العقاب.
[57] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ إِلَّا فعل مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى ثواب رَبِّهِ و جزائه سَبِيلًا فإن فعل ذلك الإنسان هو الأجر الذي أبغيه و أطلبه.
[58] وَ تَوَكَّلْ فوّض أمرك عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ و هو الله، أمّا سائر الأحياء فيموتون وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ نزهه تعالى حامدا له وَ كَفى بِهِ بالله بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً فيجازيهم على ذنوبهم و هذا إلفات لهم حتى لا يذنبوا.
[59] الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي بقدر ستة أيام من أيام الدنيا ثُمَّ اسْتَوى توجه عَلَى الْعَرْشِ عرش الملك، أو الموضع المخلوق الخاص، و هذا من باب التشبيه كما أن الملك يصرف نظره بعد بناء المدينة إلى عرشه ثم يتوجه لإدارة شؤون البلاد الرَّحْمنُ مبتدأ فَسْئَلْ بِهِ بالرحمن خَبِيراً كأنك إذا سألته فقد سألت بسببه شخصا عالما، نحو: اشرب به عسلا يعني: إذا شربته فقد شربت بسببه عسلا، و هذا لإفادة علمه تعالى بكل شي ء فهو الخالق و هو المدبر و هو العالم.
[60] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ للكفار: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أي أيّ شي ء الرحمن، فإنهم كانوا يكرهون هذا اللفظ، جهلا و سفها أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا بالسجود له، و الاستفهام للإنكار وَ زادَهُمْ كلامك نُفُوراً تنفرا و ابتعادا عن الحق.
[61] تَبارَكَ دام و ثبت الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً للكواكب وَ جَعَلَ فِيها في السماء سِراجاً مصباحا و هو الشمس وَ قَمَراً مُنِيراً ذا نور.
[62] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً يخلف أحدهما الآخر و يقوم مقامه لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ يتذكر، فإن الكون مذكر بالله تعالى أَوْ أَرادَ شُكُوراً شكر الله على هذه النعم.
[63] وَ عِبادُ الرَّحْمنِ هم الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً مشيا هيّنا بدون تكبّر، بل بسكينة و تواضع وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ تكلموا معهم قالُوا للجاهلين سَلاماً أي كلاما سلميّا فلا يقابلونهم بالكلام السيئ.
[64] وَ الَّذِينَ عطف على (الذين) يَبِيتُونَ يقضون الليل، و التخصيص بالليل لأنه محل الفراغ للعبادة و هو أبعد من الرياء لِرَبِّهِمْ سُجَّداً ساجدين وَ قِياماً قائمين في الصلاة.
[65] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ ادفع عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً غرامة، أو لازما للإنسان لا ينفك منه.
[66] إِنَّها جهنم ساءَتْ مُسْتَقَرًّا محل استقرار وَ مُقاماً محل بقاء و إقامة.
[67] وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا لم يتجاوزوا الحد في الإنفاق وَ لَمْ يَقْتُرُوا لم يضيقوا بأن لم يعطوا المقدار الكافي وَ كانَ إنفاقهم بَيْنَ ذلِكَ الإسراف و الإقتار قَواماً وسطا.
تبيين القرآن، ص: 378
[68] وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ كالقصاص و ما أشبه وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الشرك أو القتل أو الزنا يَلْقَ يلاقي أَثاماً عصيانا كبيرا.
[69] يُضاعَفْ يشتد لَهُ الْعَذابُ لأنه أكثر جرما من سائر الجرائم الصغيرة يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ في العذاب حال كونه مُهاناً ذليلا.
[70] إِلَّا مَنْ تابَ عن تلك المعاصي وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ بأن يمحوا السيئات و يكتب مكانها الحسنات التي أتوا بها من الإيمان و العمل الصالح وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
[71] وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ يرجع إِلَى اللَّهِ مَتاباً مرجعا حسنا.
[72] وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ لا يقيمون شهادة باطلة وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي بالساقط من القول و الفعل مَرُّوا كِراماً متخذين موقف الإنسان الشريف من ذلك اللغو، فإن كان المقام مقام النهي نهوا و إن كان مقام الإعراض أعرضوا و هكذا.
[73] وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كالقرآن و العبر لَمْ يَخِرُّوا لم يقيموا عَلَيْها صُمًّا كالأصم الذي لا يسمع وَ عُمْياناً كالأعمى الذي لا يبصر، بل استفادوا من سماع المواعظ و من رؤية العبر.
[74] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا أولادنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي صلحاء تستقر بهم الأعين فرحا و حبورا، فإن الخائف و المحزون تتقلب عينه هنا و هناك ليجد ملجأ يزيل به همه بخلاف المطمئن الفرح وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً يقتدون بنا في أمر الدين.
[75] أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ غرف الجنة المشرفة عليها بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تتلقاهم الملائكة في الغرفة تَحِيَّةً من (حيّاك الله) أي أحياك حياة طيبة «1» وَ سَلاماً سلامة من الآفات.
[76] خالِدِينَ فِيها دائمين في تلك الغرفة و النعمة حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً مقابل (ساءت مستقرا و مقاما).
[77] قُلْ ما يَعْبَؤُا لا يكترث بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ بأن تدعوه فَقَدْ كَذَّبْتُمْ رسوله و دينه، و لذا فلستم بموضع مبالاته و اكتراثه فَسَوْفَ يَكُونُ جزاء تكذيبكم لِزاماً ملازما لكم.
__________________________________________________
(1) التحية: التلقي بالكرامة في المخاطبة.
تبيين القرآن، ص: 379
مكية آياتها مائتان و سبع و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] طسم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] تِلْكَ هذه الآيات المذكورة في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ القرآن الْمُبِينِ الواضح.
[3] لَعَلَّكَ يا رسول الله باخِعٌ هالك نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي من أجل عدم إيمانهم، و المعنى: لا تغتم لعدم إيمانهم.
[4] إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً علامة تجبرهم على الإيمان فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ منقادين، و ذكر الأعناق لأنه موضع الخضوع.
[5] وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ موعظة و إرشاد مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ مجدد تنزيله إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ جددوا إعراضا.
[6] فَقَدْ كَذَّبُوا بالذكر فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا أخبار ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فيعلمون أنه كان حقا، حيث يأخذهم جزاء تكذيبهم.
[7] أَ وَ لَمْ يَرَوْا ألا ينظرون إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من أصناف النبات كَرِيمٍ ذي فوائد هي محل تكريم الإنسان له.
[8] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي رأوه من إنبات النبات لَآيَةً على الله تعالى وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
[9] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الرَّحِيمُ و برحمته يمهلهم.
[10] وَ اذكر إِذْ زمان نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ اذهب إلى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
[11] قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل أَ لا يَتَّقُونَ الكفر و العصيان، و الاستفهام للإنكار.
[12] قالَ موسى عليه السّلام: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ يكذبوني.
[13] وَ يَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم لي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي لست أفصح الكلام كما ينبغي فَأَرْسِلْ ملائكتك إِلى أخي هارُونَ ليكون معينا لي.
[14] وَ لَهُمْ لآل فرعون عَلَيَّ ذَنْبٌ في اعتقادهم حيث قتلت أحدهم فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ يقتلوني قصاصا.
[15] قالَ الله، بعد أن حلّ عقدة لسانه و جعل أخاه نبيا يعضده: كَلَّا لا يقتلونك فَاذْهَبا يا موسى و هارون بِآياتِنا حججنا و براهيننا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أسمع كلامكما و كلامهم.
[16]فأْتِيا
اذهبا إلى رْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[17] أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ دعهم يذهبون معنا إلى الشام، فجاءا إليه و قالا له.
[18] قالَ فرعون: أَ لَمْ نُرَبِّكَ يا موسى تربية فِينا في منازلنا وَلِيداً طفلا وَ لَبِثْتَ بقيت فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ سنوات من عمرك حتى صرت شابا.
[19] وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ من قتل القبطي وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنعمتي التي أسبغتها عليك حيث قتلت أحد أتباعي.
تبيين القرآن، ص: 380
[20] قالَ موسى عليه السّلام: فَعَلْتُها فعلت الفعلة، أي القتل إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ عن طريقك، أي لم أكن اعترف بطريقتكم، و لست كافرا بنعمتك كما زعمت.
[21] فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ أن تقتلوني قصاصا للقبطي فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً سلطة و حكومة وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ نبيا.
[22] وَ تِلْكَ التربية نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أي هذه ليست نعمة و إنما هي خلاف النعمة أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ اتخذتهم عبيدا تقتل أولادهم مما ألجأت أمي إلى أن تقذفني في النيل.
[23] قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ ما هو حقيقته.
[24] قالَ موسى عليه السّلام: هو رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بشي ء، فهذا أولى الأشياء باليقين.
[25] قالَ فرعون لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ جواب موسى عليه السّلام، أنا أسأله عن حقيقة إلهه، و هو يجيبني عن آثاره.
[26] قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فهو خالقكم أجمعين.
[27] قالَ فرعون غيظا و بهتا من جواب موسى عليه السّلام:
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ لأنه يقول أشياء لا حقيقة لها حسب زعمه.
[28] قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن استعملتم عقلكم لعلمتم ذلك
[29] قالَ فرعون، بعد أن عجز عن الجواب: لَئِنِ اتَّخَذْتَ يا موسى إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أحبسك في السجن.
[30] قالَ موسى عليه السّلام: أَ تفعل ذلك وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ بمعجزة مُبِينٍ واضح.
[31] قالَ فرعون: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك.
[32] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ حية مُبِينٌ ظاهر.
[33] وَ نَزَعَ يَدَهُ أخرج يده من جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ بياضا منيرا لِلنَّاظِرِينَ لمن ينظر.
[34] قالَ فرعون لِلْمَلَإِ الأشراف حَوْلَهُ إِنَّ هذا موسى عليه السّلام لَساحِرٌ عَلِيمٌ خبير بفنون السحر.
[35] يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فإنه إذا تسلط اضطرت الهيئة الحاكمة إلى الفرار بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ في دفعه.
[36] قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ أي أخّر أمرهما وَ ابْعَثْ أرسل فِي الْمَدائِنِ في البلاد حاشِرِينَ أشخاصا جامعين للسحرة.
[37] يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ حاذق في السحر.
[38] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ وقت يَوْمٍ مَعْلُومٍ معيّن.
[39] وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ حث للناس على الاجتماع ليشاهدوا مقابلة موسى عليه السّلام للسحرة.
تبيين القرآن، ص: 381
[40] لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أي نبقى على ديننا القديم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على موسى و هارون عليهما السّلام.
[41] فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي هل تعطينا جزاء إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ إن تغلبنا على موسى عليه السّلام.
[42] قالَ فرعون: نَعَمْ أعطيكم الأجر وَ إِنَّكُمْ إِذاً إذا غلبتم لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أقرّبكم إلى بلاطي.
[43] قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ أيها السحرة مُلْقُونَ من أنواع السحر.
[44] فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ جمع حبل وَ عِصِيَّهُمْ جمع عصا، و هي التي أظهروها في أعين الناس كأنها حيّات وَ قالُوا أي السحرة: قسما بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ.
[45] فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ تبلع بسرعة ما يَأْفِكُونَ ما أظهروه في أعين الناس حيات، من الإفك بمعنى الكذب.
[46] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ألقاهم ما بهرهم من الحق حتى لم يتمالكوا أنفسهم أن أذعنوا و سجدوا لله.
[47- 49] قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ. قالَ فرعون: هل آمَنْتُمْ لَهُ لرب موسى عليه السّلام قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ لأنه كان يزعم أنه لا يجوز لأحد الإيمان إلا بإذنه إِنَّهُ موسى عليه السّلام لَكَبِيرُكُمُ رئيسكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال عملكم، و تآمركم مع موسى عليه السّلام، فإن فرعون أظهر أن موسى عليه السّلام و السحرة تآمروا على ذلك لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ اليد اليمنى و الرجل اليسرى وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ شنقا على المشانق.
[50] قالُوا لا ضَيْرَ لا ضرر علينا في ذلك إِنَّا إِلى رَبِّنا إلى ثوابه مُنْقَلِبُونَ راجعون.
[51- 52] إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا كفرنا و ذنوبنا أَنْ لأن، أي في قبال كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بإله موسى عليه السّلام. وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ أخرج ليلا بِعِبادِي بني إسرائيل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون، و لذا أخرج بهم ليلا.
[53] فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بأنهم خرجوا عن مصر فِي الْمَدائِنِ التي كانت تابعة له حاشِرِينَ جامعين للناس ليقولوا لهم عن لسان فرعون:
[54] إِنَّ هؤُلاءِ موسى عليه السّلام و بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ جماعة قَلِيلُونَ.
[55] وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ فاعلون ما أغضبنا.
[56] وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ في حذر من هؤلاء حتى لا يفسدوا، و كان هذا الكلام من فرعون لأجل توقي البلاد من موسى عليه السّلام و قد أعلنه قبل أن يخرج لتعقيب موسى عليه السّلام.
[57] فَأَخْرَجْناهُمْ فرعون و ملأه مِنْ جَنَّاتٍ بساتين مصر وَ عُيُونٍ عيون مياهها جارية.
[58] وَ كُنُوزٍ أموالهم المكنوزة وَ مَقامٍ كَرِيمٍ منازل حسنة كانت لهم.
[59] كَذلِكَ هكذا وَ أَوْرَثْناها تلك النعم بَنِي إِسْرائِيلَ حيث إن موسى عليه السّلام بعد أن غرق فرعون أرسل جماعة من بني إسرائيل لحكومة مصر.
[60] فَأَتْبَعُوهُمْ أتبع فرعون و جنوده موسى عليه السلام و من معه مُشْرِقِينَ وقت دخولهم في شروق الشمس.
تبيين القرآن، ص: 382
[61] فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ رأى جمع موسى عليه السّلام و جمع فرعون أحدهما الآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ يدركنا فرعون الآن، قالوا ذلك خائفين.
[62] قالَ موسى عليه السّلام: كَلَّا لا يدركوننا إِنَّ مَعِي رَبِّي بالنصرة و الخلاص سَيَهْدِينِ يهديني إلى طريق الخلاص.
[63] فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ البحر الأحمر الذي كان أمامهم، فضربه فَانْفَلَقَ أي انشق اثني عشر مسلكا فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كل قطعة من ماء البحر كَالطَّوْدِ الجبل الْعَظِيمِ فدخلوا في البحر يسلكون الطرق.
[64] وَ أَزْلَفْنا قربنا إلى البحر ثَمَّ هناك الْآخَرِينَ فرعون و جنوده حتى دخلوا البحر.
[65] وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بأن خرجوا من البحر، و فرعون و جنوده و صلوا إلى وسطه.
[66] ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ بإطباق ماء البحر عليهم.
[67] إِنَّ فِي ذلِكَ نجاة موسى عليه السّلام و هلاك فرعون لَآيَةً لمعجزة كبيرة وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ أكثر بني إسرائيل مُؤْمِنِينَ مع رؤية هذه الآية.
[68] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الرَّحِيمُ بعباده، و لذا لا يعاجلهم بالعقوبة.
[69] وَ اتْلُ اقرأ عَلَيْهِمْ على الناس نَبَأَ خبر إِبْراهِيمَ عليه السّلام.
[70] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ عمه آزر وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ استفهام إنكار.
[71] قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ ندوم لَها عاكِفِينَ مقيمين على عبادتها.
[72] قالَ إبراهيم عليه السّلام: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ أي يسمعون كلامكم إِذْ تَدْعُونَ حين تدعون الأصنام.
[73- 74] أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا أي الكفّار: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ يعبدون الأصنام، و نحن تبع لهم.
[75] قالَ إبراهيم عليه السّلام: أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ.
[76] أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فإن الباطل لا ينقلب حقا بتقادم عهده.
[77] فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي عدو للإنسان حيث يسبب هلاكه و عقابه إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ فإنه المعبود الحق الذي لا يضر الإنسان إذا عبده، بل ينفعه.
[78] الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ يهديني، يرشدني إلى مصالحي.
[79] وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ يسقيني، فإنه خلق الماء و الغذاء.
[80] وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ يشفيني، الشفاء بيده و إنما الطبيب وسيلة.
[81] وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ يحييني في الآخرة للحساب.
[82] وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي ترك الأولى، فإن أعمال الأنبياء عليهم السّلام الضرورية كالأكل و الشرب و ما أشبه يعدونها خطايا لمعرفتهم بالله معرفة تامة فيرون قصور أنفسهم أمام جلاله، كما إذا اضطر الإنسان لمد رجله أمام الملك فإنه يعده خطأ و إن كانت الضرورة ساقته إلى ذلك يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء.
[83] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً لبيان أن الحكم بين الناس إنما هو لله و لمن أذن له وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من عبادك.
تبيين القرآن، ص: 383
[84] وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ذكرا جميلا صادقا فيمن يأتي بعدي، و ذلك ليكون محفزا للناس على الخير و أكون أسوة لهم.
[85] وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ بأن أرث الجنة ذات النعمة فأملكها بعد أن كانت لغيري فإنها محل الحور و الولدان حتى يأتي الإنسان فيملكها منهم.
[86] وَ اغْفِرْ لِأَبِي بأن توفق عمي للتوبة حتى يستحق غفرانك إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ.
[87] وَ لا تُخْزِنِي لا تفضحني بذنب يَوْمَ يُبْعَثُونَ يبعث الناس.
[88] يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ لنجاة الناس و لإسعادهم.
[89] إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم عن الكفر و المعصية.
[90] وَ أُزْلِفَتِ قرّبت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ بحيث يرونها.
[91] وَ بُرِّزَتِ أظهرت الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ الضالين.
[92] وَ قِيلَ لَهُمْ للغاوين: أَيْنَ ما أي الأصنام التي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ تعبدونها، لما ذا لا تنصركم.
[93] مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفع العذاب عن أنفسهم فإن الأصنام تكون حصب جهنم، و الاستفهام للتقريع و التوبيخ.
[94] فَكُبْكِبُوا ألقوا فِيها في النار هُمْ الآلهة وَ الْغاوُونَ أتباعهم.
[95] وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ من الجن و الإنس عبدوا الأصنام أم لم يعبدوها أَجْمَعُونَ.
[96- 98] قالُوا أي العبدة وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ مع الأصنام: تَاللَّهِ و الله إِنْ إنّا كُنَّا لَفِي ضَلالٍ انحراف مُبِينٍ ظاهر. إِذْ نُسَوِّيكُمْ نجعلكم أيها الأصنام عدلا بِرَبِّ الْعالَمِينَ.
[99] وَ ما أَضَلَّنا عن التوحيد إِلَّا الْمُجْرِمُونَ رؤساؤنا.
[100] فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يشفعون لنا لإنقاذنا من العذاب كما يشفع الأنبياء و الأولياء للعصاة من أتباعهم.
[101] وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ يودنا ودّا بحيث يهمه أمرنا.
[102] فَلَوْ للتمني أَنَّ لَنا كَرَّةً رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
[103] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي قصصناه عليك لَآيَةً دلالة لمن نظر فيها وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ أكثر قوم إبراهيم عليه السّلام مُؤْمِنِينَ.
[104- 105] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلهم الله إليهم، لأنهم بتكذيبهم نوح كذبوا سائر الأنبياء عليهم السّلام، أو المراد الجنس فإن الجمع قد يأتي في مكان الجنس كالعكس.
[106] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ من قبيلتهم نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ الله بترك الشرك و العصيان.
[107] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ في أداء الرسالة.
[108] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ أطيعوني فيما آمركم به.
[109] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ.
[110] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ أطيعوني.
[111] قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ الحال أنه اتَّبَعَكَ في الإيمان الْأَرْذَلُونَ السفلة فنكون نحن و هم سواء.
تبيين القرآن، ص: 384
[112] قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إني لا أعلم أعمالهم السابقة و إنما المهم إيمانهم الآن فإنه يجبّ ما قبله.
[113] إِنْ ما حِسابُهُمْ حساب أعمالهم إِلَّا عَلى رَبِّي العالم بكل شي ء لَوْ تَشْعُرُونَ لعلمتم ذلك، و لكنكم تريدون الجدال.
[114] وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ لا أطردهم لكلامكم.
[115] إِنْ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أنذر بالعقاب من كفر و عصى مُبِينٌ واضح.
[116] قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عمّا تقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ نرجمك بالحجارة.
[117] قالَ نوح عليه السّلام: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ كذبوني.
[118] فَافْتَحْ احكم بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من أذاهم و سوء أعمالهم.
[119] فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ السفينة الْمَشْحُونِ المملوء بالإنسان و الحيوان.
[120] ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ ركوبهم في الفلك الْباقِينَ من قومه الكفّار.
[121- 122] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[123] كَذَّبَتْ عادٌ قبيلة عاد الْمُرْسَلِينَ.
[124] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في القبيلة هُودٌ النبي عليه السّلام: أَ لا تَتَّقُونَ.
[125] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ.
[126] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ أطيعوني.
[127- 128] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ مكان مرتفع آيَةً علامة من البناء تَعْبَثُونَ ببنائها، فإنهم كانوا يبنون محلّات اللهو في مرتفعات الطرق.
[129] وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ حصونا مشيدة لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلود و البقاء الأبدي بسبب تلك الحصون.
[130] وَ إِذا بَطَشْتُمْ عاقبتم أحدا بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي بطش الجبابرة بزيادة عن الاستحقاق.
[131] فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأمور وَ أَطِيعُونِ أطيعوني.
[132] وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ أعطاكم بِما تَعْلَمُونَ من ضروب النعم.
[133] أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ الإبل و البقر و الغنم وَ بَنِينَ.
[134] وَ جَنَّاتٍ بساتين وَ عُيُونٍ.
[135] إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عصيتم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا و الآخرة.
[136] قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ وعظتنا يا هود أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ لأنّا لا نترك عادتنا.
تبيين القرآن، ص: 385
[137] إِنْ ما هذا الذي تقوله إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ اختلاقهم و كذبهم.
[138] وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كما تزعم.
[139- 140] فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب تكذيبهم بريح صرصر عاتية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[141] كَذَّبَتْ ثَمُودُ قبيلة الْمُرْسَلِينَ.
[142] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ النبي عليه السّلام: أَ لا تَتَّقُونَ.
[143- 144] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ أطيعوني.
[145- 146] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا أي هل تظنون أنكم تتركون في ما أعطاكم الله من الخير في الدنيا آمِنِينَ في حال أمن و سلام.
[147- 148] فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها أي ما يطلعها من الرطب هَضِيمٌ هني ء يهضم.
[149] وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ من الفراهة بمعنى السعة و النشاط.
[150] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ أطيعوني.
[151] وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الذين يجاوزون الحد في أمورهم، و هم رؤساؤهم.
[152] الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ فيها.
[153] قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ الذين سحرهم الساحرون حتى ذهب عقلهم، فكلامك كلام مجنون.
[154] ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا و لست برسول فَأْتِ بِآيَةٍ بمعجزة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك الرسالة.
[155] قالَ صالح عليه السّلام بعد أن دعا الله فأخرج لهم ناقة كبيرة و فصيلها من الجبل: هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ نصيب من الماء وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فيوم لكم الماء لا تشرب هي، و يوم لها الماء لا تشربون أنتم.
[156] وَ لا تَمَسُّوها لا تصيبوا الناقة بِسُوءٍ بأذى فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا و الآخرة.
[157] فَعَقَرُوها جرحوها و قتلوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ من عقرها حيث رأوا نزول العذاب.
[158- 159] فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الذي وعدهم صالح عليه السّلام به إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
تبيين القرآن، ص: 386
[160- 163] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ أطيعوني.
[164] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ و قد كانت دعوة الأنبياء عليهم السّلام كلهم بهذه الأمور من الاعتقاد بالألوهية و الرسالة و الإطاعة و التقوى.
[165] أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ تلوطون بهم مِنَ الْعالَمِينَ الناس.
[166] وَ تَذَرُونَ تتركون ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ نسائكم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ تتجاوزون الحلال إلى الحرام.
[167] قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن كلامك يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ نخرجك عن بلدنا.
[168] قالَ لوط: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ القبيح مِنَ الْقالِينَ المبغضين.
[169] رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ بعّدني عنهم حتى لا أرى أعمالهم.
[170- 171] فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً هي زوجته الكافرة فِي الْغابِرِينَ بقيت في الباقين و عذّبت معهم.
[172] ثُمَّ دَمَّرْنَا أهلكنا الْآخَرِينَ الكافرين.
[173] وَ أَمْطَرْنا بالحجارة عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ فبئس المطر مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا فلم يقبلوا.
[174- 175] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[176] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هي الشجرة الملتفة كانت غيضة في قربها قوم شعيب عليه السّلام الْمُرْسَلِينَ.
[177- 179] إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ أطيعوني.
[180- 181] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ حقوق الناس.
[182] وَ زِنُوا من (وزن يزن) بِالْقِسْطاسِ الميزان الْمُسْتَقِيمِ التام حتى لا تنقصوا حق الناس.
[183] وَ لا تَبْخَسُوا لا تنقصوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا لا تسعوا سعي فساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ في حال كونكم مفسدين.
تبيين القرآن، ص: 387
[184] وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ خلق الْجِبِلَّةَ الخليقة الْأَوَّلِينَ آباءكم.
[185] قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ الذين سحّروا كثيرا فذهب عقلهم.
[186] وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فلست بنبي وَ إِنْ مخففة من الثقيلة نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ في دعواك.
[187] فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً قطعا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنك نبي.
[188] قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عقابا يناسب عملكم، من إسقاط كسف أو غيره.
[189- 191] فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ أصابهم حر شديد ثم أظلتهم سحابة ظنوا أن فيها الماء و الهواء فأمطرت عليهم نارا فأحرقتهم إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[192] وَ إِنَّهُ القرآن لَتَنْزِيلُ أنزله رَبِّ الْعالَمِينَ.
[193] نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ جبرئيل الْأَمِينُ في ما أتي به.
[194] عَلى قَلْبِكَ إلهاما لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ المخوفين للكفّار و العصاة.
[195] بِلِسانٍ بلغة عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح.
[196] وَ إِنَّهُ أي إن ذكر القرآن لَفِي زُبُرِ كتب الْأَوَّلِينَ الأنبياء السابقين عليهم السّلام.
[197] أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ لأهل الكتاب آيَةً دالة على صدق القرآن أَنْ كي يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ حتى يصدقوا به، و هذا استفهام تقريري، أي كانت لهم آية لكنهم أخفوها.
[198] وَ لَوْ نَزَّلْناهُ أي القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ الحيوانات العجم.
[199] فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ أي على الكفار، مما لم يكن محل شبهة أنه إعجاز ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ لأنهم معاندون، و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[200] كَذلِكَ كما أنزلنا القرآن عربيّا سَلَكْناهُ أدخلناه فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ليتم عليهم الحجة.
[201] و نحن نعلم أنهم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بالقرآن عنادا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم عند الموت أو في الآخرة.
[202] فَيَأْتِيَهُمْ العذاب بَغْتَةً فجأة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجيئه.
[203] فَيَقُولُوا حين يأتيهم العذاب: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ يمهلوننا لنؤمن، و قولهم ذلك من الندم و التحسر حين لا ينفع.
[204] أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فإن الكفّار كانوا يطلبون العذاب من الله استهزاء بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[205] أَ فَرَأَيْتَ أخبرني إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ بأن أمددنا في عمرهم.
[206] ثُمَّ جاءَهُمْ ما أي العذاب الذي كانُوا يُوعَدُونَ وعدناهم به إن لم يؤمنوا.
تبيين القرآن، ص: 388
[207] ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ لم يغن عنهم تمتيعهم في رفع العذاب، و المعنى أن تأخير العذاب أو تعجيله لا يفيدهم شيئا فإنهم معذبون لا محالة.
[208] وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ أنبياء أو من يقوم مقامهم في إتمام الحجة.
[209] ذِكْرى أي إنما نرسل لهم لأجل تذكيرهم وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ فما ظلمناهم بعذابهم.
[210] وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ بالقرآن الشَّياطِينُ كما زعم الكفّار بأن القرآن من كلام الشيطان و إنه ككهانة الكهان.
[211] وَ ما يَنْبَغِي لا يصح لَهُمْ للشياطين التنزّل به وَ ما يَسْتَطِيعُونَ ذلك.
[212] إِنَّهُمْ الشياطين عَنِ السَّمْعِ سماع كلام الملائكة لَمَعْزُولُونَ ممنوعون بالشهب، فكيف يقدرون على أخذ القرآن و إنزاله.
[213] فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ فإن المشرك يعذّبه الله تعالى.
[214] وَ أَنْذِرْ خوّف عَشِيرَتَكَ أقرباءك الْأَقْرَبِينَ منهم، أي ابدأ بالأقرب فالأقرب منهم.
[215] وَ اخْفِضْ جَناحَكَ أي تواضع، كما يخفض الطائر جناحه لصغاره تواضعا و محبة «1» لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
[216- 218] فَإِنْ عَصَوْكَ الناس و لم يؤمنوا بك فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من الكفر و العصيان. وَ تَوَكَّلْ فوّض أمرك عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
بالأمر.
[219- 220] وَ يرى تَقَلُّبَكَ حركتك فِي السَّاجِدِينَ في جملة المؤمنين، و الحاصل أنه يرى قيامك و حركتك في طائفة من المؤمنين، و هو مطّلع على كل أحوالك. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالك الْعَلِيمُ بأحوالك.
[221] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم أيها الكفّار، الذين تقولون بأن القرآن تنزيل الشيطان عَلى مَنْ تَنَزَّلُ تتنزل الشَّياطِينُ.
[222- 223] تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ كذاب أَثِيمٍ عاص. يُلْقُونَ السَّمْعَ يلقي الأفاك أذنه إلى الشيطان و يصغي إليه وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فيما يقولون، نعم أحيانا يطابق كلامهم الواقع.
[224] وَ الشُّعَراءُ ليس محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم كما زعمتم، و ليس بكاهن كما قلتم يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الضالّون، باستحسان أشعارهم الباطلة، و هل أتباع محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضالون؟ كلا، فليس بشاعر.
[225- 226] أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ الشعراء فِي كُلِّ وادٍ و مسلك يَهِيمُونَ يترددون متحيرون، تارة يذمون و تارة يمدحون، و تارة بالعفيفات و الغلمان يتشببون و هكذا. وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ من وعد كاذب و حلف باطل و وعيد فارغ، فليس محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالشعراء، و لا أتباعه كأتباعهم.
[227] إِلَّا الشعراء الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً بأن لم يكن شعرهم باطلا و أنهم يكثرون من ذكر الله حتى لا يرديهم الشعر وَ انْتَصَرُوا طلبوا الانتصار و الغلبة بشعرهم على الكفار الذين يهجون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإسلام مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا حيث يرون العذاب وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ مرجع يَنْقَلِبُونَ إليه، و المراد التهويل من مصيرهم الذي هو النار ...
__________________________________________________
(1) أو كما يخفض الطائر جناحه عند سكونه.
تبيين القرآن، ص: 389
مكية آياتها ثلاث و تسعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] طس رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تِلْكَ هذه آياتُ الْقُرْآنِ المقروء وَ كِتابٍ مكتوب مُبِينٍ واضح.
[2] في حال كونه هُدىً هداية وَ بُشْرى بشارة لِلْمُؤْمِنِينَ.
[3] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ لا يشكون فيه.
[4] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا جمّلنا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ حتى رأوها حسنة، و ذلك حيث تركوا الهدى تركناهم و شأنهم حتى زانت أعمالهم في أعينهم فلازموها فَهُمْ يَعْمَهُونَ يتحيرون في الضلال.
[5] أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ العذاب السيئ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ الأكثر خسرانا من كل عاص.
[6] وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى لتأخذ الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ الذي يضع الأشياء مواضعها عَلِيمٍ عالم بالأشياء.
[7] إِذْ اذكر زمان قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ زوجته، و هما في الصحراء: إِنِّي آنَسْتُ رأيت ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق و قد ضل فيه أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ شعلة من النار قَبَسٍ مقبوسة أي مأخوذة لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ لأجل الدف ء فإن الهواء كان باردا.
[8] فَلَمَّا جاءَها جاء نحو النار نُودِيَ ناداه الله بأن خلق الصوت أَنْ بُورِكَ بارك الله مَنْ فِي النَّارِ و هو موسى عليه السّلام حيث كان مشارفا لها وَ مَنْ حَوْلَها حول النار من الملائكة وَ سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها له فليس هو كالمخلوقين و ليس كلامه خارجا عن فم و لسان رَبِّ الْعالَمِينَ.
[9] يا مُوسى إِنَّهُ أي المتكلم و خالق النور أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْحَكِيمُ الذي يضع الأشياء مواضعها.
[10] وَ أَلْقِ عَصاكَ على الأرض فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ حية وَلَّى أعرض موسى عليه السّلام مُدْبِراً فارّا وَ لَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لأنهم يعلمون أن الله حافظهم.
[11] إِلَّا لكن مَنْ ظَلَمَ نفسه بفعل القبيح ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ بأن عمل خيرا فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[12] وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ طرف شق الثوب في جانب العنق تَخْرُجْ اليد بَيْضاءَ ذات شعاع مِنْ غَيْرِ سُوءٍ لا كبياض البرص فِي مع تِسْعِ آياتٍ الفلق و الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم و الطمس و الجدب و نقص الثمرات إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله، و لذا أرسلناك إليهم.
[13] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً واضحة كأنها تبصر قالُوا هذا الذي جاء به موسى عليه السّلام سِحْرٌ مُبِينٌ واضح.
تبيين القرآن، ص: 390
[14] وَ جَحَدُوا كذبوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي تيقنوا بها ظُلْماً لأنفسهم وَ عُلُوًّا تكبرا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ حيث أغرقوا.
[15] وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً عظيما وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ممن لم يؤت مثل علمنا.
[16] وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ إرثا من المال و العلم و الجاه وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا علمنا الله مَنْطِقَ معنى نطق الطَّيْرِ الطيور، قاله تحدثا بنعمة الله وَ أُوتِينا أعطانا الله مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ ممّا نحتاج إليه إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ من الله الْمُبِينُ الواضح.
[17] وَ حُشِرَ جمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبسون لأجل الاجتماع و فيه هيبة و عزة.
[18] حَتَّى إِذا أَتَوْا أتى سليمان عليه السّلام مع جنوده راكبا البساط عَلى وادِ النَّمْلِ واد كثير النمل قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لأجل أن لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بتحطيمكم.
[19] فَتَبَسَّمَ سليمان عليه السّلام، و هو أول الضحك ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها قول النملة، تعجبا من حذرها و تحذيرها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي وفّقني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من كل النعم التي منها معرفة منطق الطير وَ عَلى والِدَيَّ بأن جعلته نبيا و جعلتها زوجة نبي وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي جملة عِبادِكَ الصَّالِحِينَ مقابل الفاسدين.
[20] وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ افتقده فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ بل كانَ مِنَ الْغائِبِينَ.
[21] لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً كنتف ريشه أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ حجة مُبِينٍ واضح تكون عذرا له في غيبته.
[22] فَمَكَثَ لبث سليمان عليه السّلام غَيْرَ بَعِيدٍ زمانا قصيرا حتى جاء الهدهد فَقالَ أَحَطْتُ أطلعت بِما لَمْ تُحِطْ تعلم بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ مدينة باليمن بِنَبَإٍ بخبر يَقِينٍ صادق.
تبيين القرآن، ص: 391
[23] إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ و هي بلقيس ملكة سبأ وَ أُوتِيَتْ أعطيت مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه الملوك وَ لَها عَرْشٌ سرير عَظِيمٌ كبير.
[24] وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فلا يسجدون لله وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة فرأوها حسنة فَصَدَّهُمْ منعهم عَنِ السَّبِيلِ سبيل الله فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إليه.
[25] و ذلك ب أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ المخبوء المخفي فِي السَّماواتِ كالمطر وَ الْأَرْضِ كالنبات، أي كلما يخرج من العدم إلى الوجود وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ الخفايا و الظواهر.
[26- 27] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قالَ سليمان عليه السّلام: سَنَنْظُرُ في أمرك يا هدهد أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ.
[28] اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فإن سليمان عليه السّلام كتب كتابا إلى بلقيس فَأَلْقِهْ اطرح الكتاب إِلَيْهِمْ إلى أهل سبأ ثُمَّ تَوَلَّ تنح عَنْهُمْ إلى جانب فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ يرجع بعضهم إلى بعض من القول، فجاء الهدهد فألقى الكتاب إلى بلقيس.
[29] قالَتْ لمن حولها: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ الأشراف إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ محترم.
[30] إِنَّهُ أي الكتاب مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ أي المكتوب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
[31] أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ بأن لا تتكبروا على سليمان عليه السّلام وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ حال كونكم منقادين لله، و الكتاب دعوة إلى الألوهية و إلى الرسالة.
[32] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أجيبوني فيما ينبغي أن أتخذ في هذا الموقف ما كُنْتُ قاطِعَةً قاضية أَمْراً في أمر حَتَّى تَشْهَدُونِ تحضرون و تشيرون عليّ بالصواب.
[33] قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ بالمال و الجند وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ مراس في الحرب و شجاعة. وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ من الحرب و الصلح.
[34] قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً بالقهر و الغلبة أَفْسَدُوها خربوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أهانوهم بالقتل و الأسر، ثم أكدت كلامها بقولها: وَ كَذلِكَ كما قلت يَفْعَلُونَ الملوك.
[35] وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ إلى سليمان عليه السّلام و أصحابه بِهَدِيَّةٍ أصانعهم بها فَناظِرَةٌ ثم أنظر بِمَ بما ذا يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ الذين أرسلهم بالهدية هل يرجعون بالرّد أو القبول.
تبيين القرآن، ص: 392
[36] فَلَمَّا جاءَ الرسول سُلَيْمانَ قالَ سليمان عليه السّلام أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ أ تزيدونني مالا، على نحو استفهام إنكاري فَما آتانِيَ اللَّهُ ما أعطاني من الأموال و الجاه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ بما يهدي بعضكم إلى بعض تَفْرَحُونَ حيث تزدادون بها أموالا
[37] ارْجِعْ أيها الرسول إِلَيْهِمْ مع ما جئت من الهدية فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ طاقة لَهُمْ بِها بتلك الجنود وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها من سبأ أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ مهانون.
[38] قالَ سليمان عليه السّلام: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي يأتي أشراف سبأ و بلقيس في حال كونهم مُسْلِمِينَ.
[39] قالَ عِفْرِيتٌ مارد قوي مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ أي بعرشها قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ مجلسك الذي تجلس فيه للحكم، و كان مدته إلى الظهر تقريبا وَ إِنِّي عَلَيْهِ على حمل العرش لَقَوِيٌّ أَمِينٌ لا أخون ما فيه من الجواهر.
[40] قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ من كتب الله المنزلة، و هو آصف، و كان يعرف اسم الله الأعظم أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ يرجع إِلَيْكَ طَرْفُكَ و هو كلمح البصر فَلَمَّا رَآهُ رأى سليمان عليه السّلام العرش مُسْتَقِرًّا ساكنا حاضرا عِنْدَهُ قالَ هذا الإحضار للعرش مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي يختبرني أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن منفعة الشكر عائدة إلى نفس الشاكر وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره فلا يضرّه كفرانه كَرِيمٌ فإنه يتفضّل على الشاكر و الكافر.
[41] قالَ سليمان عليه السّلام: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها بتغيير هيئته و شكله نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي إلى معرفة عرشها أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ و قد أراد سليمان عليه السّلام بذلك اختيار عقلها و فطنتها.
[42] فَلَمَّا جاءَتْ بلقيس قِيلَ لها: أَ هكَذا عَرْشُكِ أي هل عرشك مثل هذا، تشبيها عليها لزيادة اختبارها قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ لا أنه مثله، ثم قالت: وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ بأن سليمان عليه السّلام نبي من عند الله مِنْ قَبْلِها قبل هذه المعجزة بإحضار العرش وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ قد أسلمنا لله.
[43] وَ صَدَّها منعها عن الإيمان سابقا ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي عبادة الشمس إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ نشأت بينهم و لذا كفرت.
[44]يلَ لَهَا لبلقيس:ْخُلِي الصَّرْحَ أي القصر و قد بني من زجاج أبيض و تحته ماء فيه سمك لَمَّا رَأَتْهُ
رأت الصرح سِبَتْهُ ظنت أنّه جَّةً ماءا غامرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها رفعت الثوب عن رجلها لتخوض الماءقالَ سليمان عليه السّلام لها:انَّهُ ليس بماء بل هورْحٌ مُمَرَّدٌ مملّس نْ قَوارِيرَ الزجاج قالَتْ بلقيس:ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بما سبق لي من الكفر أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ كما هو مسلم لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
تبيين القرآن، ص: 393
[45] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى قبيلة ثَمُودَ أَخاهُمْ في القبيلة صالِحاً أَنِ فقال لهم بأن اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ فريق كافر و فريق مؤمن يَخْتَصِمُونَ.
[46] قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة قَبْلَ الْحَسَنَةِ بأن تقولوا ائتنا بما تعدنا لَوْ لا هلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فلا تعذبون في الدنيا و الآخرة.
[47] قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ أي تشاء منا بوجودك، فإن ما يصيبنا من البلاء فهو منك وَ بِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ فإن ما حل بكم من الشؤم إنما هو من الله حيث جازاكم بكفركم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ تختبرون بالرخاء و الشدة.
[48] وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ مدينة صالح عليه السّلام تِسْعَةُ رَهْطٍ تسعة رجال يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ و يقومون بمخالفة نبيهم وَ لا يُصْلِحُونَ.
[49] قالُوا أي بعضهم لبعض: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ احلفوا به لَنُبَيِّتَنَّهُ أي على قتل صالح عليه السّلام ليلا «1» وَ أَهْلَهُ و قتل أهله ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ لولي دم صالح عليه السّلام إذا سألنا عنه و عن قتله ما شَهِدْنا ما كنّا حاضرين مَهْلِكَ أَهْلِهِ وقت هلاك أهلك أيّها الولي، فضلا عن أن نكون نحن قتلناه وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما نقول.
[50] وَ مَكَرُوا مَكْراً بهذا التدبير وَ مَكَرْنا مَكْراً بأن جازيناهم بإرسال العذاب عليهم وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بما مكرناهم به، و المكر عبارة عن تحرّي الأسباب الخفيّة للوصول إلى المقصد.
[51] فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أهلكنا أولئك التسعة وَ قَوْمَهُمْ الكفّار أَجْمَعِينَ.
[52] فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً منهدمة خربة بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم إِنَّ فِي ذلِكَ هلاك هؤلاء لَآيَةً عبرة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأهل العلم فإنهم المتعظون بالعبر.
[53] وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا صالحا عليه السّلام و من آمن به وَ كانُوا يَتَّقُونَ الكفر و العصيان.
[54] وَ اذكر لُوطاً إِذْ في زمان قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ترتكبون اللواط وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ تعلمون فحشها و سوءها.
[55] أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً إتيان شهوة مِنْ دُونِ النِّساءِ اللاتي خلقهنّ الله لكم، و كانت نساؤهم تساحق إطفاء لشهوتها بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
__________________________________________________
(1) بيّت الأمر: عمله ليلا أو دبره ليلا.
تبيين القرآن، ص: 394
[56] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزهون عن فعلنا.
[57] فَأَنْجَيْناهُ لوطا عليه السّلام وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ إذ كانت كافرة مثل القوم قَدَّرْناها جعلناها مِنَ الْغابِرِينَ الباقين الذين شملهم العذاب.
[58] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً من الحجارة فَساءَ فبئس المطر مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا فلم يقبلوا الإنذار.
[59] قُلِ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى الذين اختارهم الله لنبوّته و دينه آللَّهُ أصله أ الله خَيْرٌ للعبادة أَمَّا يُشْرِكُونَ يجعلونه شريكا لله من الأصنام.
[60] أَمَّنْ بل من، أي بل الخير هو من له هذه الصفات: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ لمنافعكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ بالماء حَدائِقَ بساتين ذاتَ بَهْجَةٍ حسن و نضارة ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي لا تقدرون على إنبات شجر الحدائق بل الله ينبتها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ حتى يجعل شريكا له بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ من الحق إلى الباطل بجعل الشريك لله سبحانه.
[61] أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ليستقر عليها وَ جَعَلَ خِلالَها بينها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها للأرض رَواسِيَ جبالا وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بحر الماء العذب الموجود في العيون و الأنهار و بحر الماء المالح حاجِزاً من الأرض يمنع عن اختلاطهما أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وحدانية الله فيشركون به.
[62] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ الذي ألجأته الحاجة و لا مخرج له إِذا دَعاهُ دعا الله تعالى فإنه يقضي حاجته وَ يَكْشِفُ يزيل السُّوءَ الحالة السيئة التي وقع الإنسان فيها وَ أمّن يَجْعَلُكُمْ أيها البشر خُلَفاءَ الْأَرْضِ بأن يأتيكم خلف السابقين أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تأكيد للقلة تَذَكَّرُونَ تتذكرون و تتعظون.
[63] أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بسبب النجوم و الريح و سائر العلامات البريّة و البحرية، يهديكم إلى مقاصدكم وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً لأجل البشارة بالمطر بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قبل نزول المطر، فإن الرياح تدلّ على المطر في الهواء المناسب له أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ ارتفع عَمَّا يُشْرِكُونَ عن الأصنام التي يشركونها بالله.
تبيين القرآن، ص: 395
[64] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بإيجاده ثُمَّ يُعِيدُهُ في يوم القيامة وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَ الْأَرْضِ بالنبات أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك قُلْ هاتُوا ائتوا بُرْهانَكُمْ حجتكم على شريك لله في ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في كون شريك لله.
[65] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ فإنه وحده يعلم ما غاب عن الحواس فله الخلق و القدرة و العلم وَ ما يَشْعُرُونَ لا يعرف هؤلاء الكفّار، أو من في السماوات و الأرض أَيَّانَ وقت يُبْعَثُونَ ينشرون للقيامة.
[66] بَلِ ادَّارَكَ تدارك و تكامل عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بأن اقتصر علمهم بأمر الدنيا، فلا يعلمون الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها من الآخرة، و هذا فوق الجهل بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ كالأعمى الذي لا يبصر، فالأول جهل بسيط، و الثاني جهل مع الالتفاف، و الثالث جهل مع عناد.
[67] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً بأن متنا فصرنا في القبر ترابا وَ آباؤُنا صاروا ترابا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ من القبر للحساب.
[68] لَقَدْ وُعِدْنا هذا البعث نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ قبل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ خرافاتهم و أكاذيبهم.
[69] قُلْ سِيرُوا سافروا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أهلكهم الله بالعذاب، فإذا سافرتم رأيتم آثارهم و سمعتم أخبارهم، فإنهم أيضا كذبوا بالمعاد.
[70] وَ لا تَحْزَنْ يا رسول الله عَلَيْهِمْ على هؤلاء الكفّار وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ لا يضيق صدرك مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم فإنا نعصمك منهم.
[71] وَ يَقُولُونَ مَتى في أي وقت هذَا الْوَعْدُ أي وعدكم بالعذاب إذا بقينا على الكفر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنه يعذب من لا يؤمن.
[72] قُلْ يا رسول اللّه: عَسى لعل أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ أي تبعكم بَعْضُ العذاب الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي تطلبون تعجيله.
[73] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ و لذا يؤخر عذاب الكفّار وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ نعمه.
[74] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ تخفي صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ يظهرونه فيجازيهم على كل ذلك.
[75] وَ ما مِنْ غائِبَةٍ خافية على الحواس فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ واضح، و هو اللوح المحفوظ فيعلم الله كل ذلك.
[76] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ يخبر بالحق عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر المسيح و مريم و عزير عليهم السّلام و غيرهم.
تبيين القرآن، ص: 396
[77] وَ إِنَّهُ أي القرآن لَهُدىً دلالة على الحق وَ رَحْمَةٌ أسباب رحمة لِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم المنتفعون به.
[78] إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بين المختلفين في الدين بِحُكْمِهِ بما يحكم هو وَ هُوَ الْعَزِيزُ النافذ قضاؤه الْعَلِيمُ بما صدر من كل إنسان.
[79] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و لا تهتم بالمكذبين إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الواضح.
[80] إِنَّكَ يا رسول اللّه لا تُسْمِعُ إسماعا نافعا الْمَوْتى و هؤلاء الكفار كالموتى في عدم انتفاعهم بالكلام وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ جمع الأصم الدُّعاءَ أي لا تسمعهم دعاءك لهم و كلامك معهم إِذا وَلَّوْا أعرض أولئك الصم مُدْبِرِينَ بأن أدبروا فإنه لا طمع في إفهام الأصم المدبر.
[81] وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ الذين فقدوا بصرهم عَنْ ضَلالَتِهِمْ فإنهم كالعمي في الضلالة، فلا تقدر على هداية من عمي قلبه إِنْ ما تُسْمِعُ إسماعا نافعا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا بأن يكون في صدد الإيمان و لا يكون معاندا فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون.
[82] وَ إِذا وَقَعَ قرب وقوع الْقَوْلُ و هو الذي قلناه من البعث عَلَيْهِمْ على الناس أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ و ذلك من آثار القيامة أَنَّ بأن النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي لا يتيقنون، و هذا هو كلام الدابّة.
[83] وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً جماعة، و لعلهم الرؤساء خصوا بالذكر مع أن الحشر للجميع، و في التأويل إنه وقت ظهور الإمام المهدي (عج) مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا من الكفّار فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبسون حتى تجتمع جميع الأفواج.
[84] حَتَّى إِذا جاؤُ في موقف الحساب قالَ الله: أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي استفهام إنكار و توبيخ وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أي و الحال أنّكم لم تنظروا فيها حتى تعلموا صحتها أَمَّا ذا أي بل- بعد التكذيب- كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، و هذا استنكار لعملهم، بعد الاستنكار لعقيدتهم.
[85] وَ وَقَعَ الْقَوْلُ أي ما وعدناهم من عذابهم، بأن غشيهم العذاب عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ حينذاك.
[86] أَ لَمْ يَرَوْا الأدلة الدالة على وجود الله و كمال قدرته أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ بالنوم و الدعة وَ النَّهارَ مُبْصِراً ليبصروا فيه حوائجهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات على وجود الله و قدرته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فهم المنتفعون بالآيات.
[87] وَ ذكرهم يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ البوق ينفخ فيه إسرافيل لإحياء الناس للحساب فَفَزِعَ خاف مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أن لا يخاف من الأنبياء و الأولياء و الملائكة وَ كُلٌّ أَتَوْهُ جاءوا إلى حساب الله داخِرِينَ صاغرين أذلاء.
[88] وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ثابتة في أماكنها وَ الحال إنّها ليست كذلك بل هِيَ تَمُرُّ تسير مَرَّ السَّحابِ كما يسير السحاب، و هي تكون كالقطن المندوف، و هو صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ و من إتقانه يوم القيامة صيرورة الجبال هكذا إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ فيجازيكم عليه.
تبيين القرآن، ص: 397
[89] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها لأنه يجزى بأكثر وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ خوف و هول يَوْمَئِذٍ يوم القيامة آمِنُونَ.
[90] وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ بالشرك أو نحوه فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ألقوا فيها منكوسين و يقال لهم: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي هذا جزاء أعمالكم.
[91] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أي مكة المكرمة الَّذِي الرب الذي حَرَّمَها جعلها حرما آمنا وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ فإن جميع المخلوقات خلق الله تعالى وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لله تعالى.
[92] وَ أَنْ أَتْلُوَا أقرأ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فإن ثواب الهداية عائد إلى نفس المهتدي وَ مَنْ ضَلَّ بترك الإجابة فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فما عليّ إلّا الإنذار، أما ضلال الناس فلا يعود و باله إلّا عليهم.
[93] وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ جنس الحمد له فلا يجوز حمد الأصنام و غيرها سَيُرِيكُمْ آياتِهِ الأدلة الدالة عليه في المستقبل كما أراكم في الماضي فَتَعْرِفُونَها حتى لا يبقى مجال للعذر وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل هو عالم بأعمالكم فيجازيكم عليها.
مكية آياتها ثمان و ثمانون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] طسم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] تِلْكَ هذه آياتُ الْكِتابِ القرآن الْمُبِينِ الواضح.
[3] نَتْلُوا نقرأ عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ بعض خبر مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ بالصدق لا قصتهم محرفة مكذوبة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بها.
[4] إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا تكبّر فِي الْأَرْضِ أرض مصر وَ جَعَلَ أَهْلَها أهل الأرض شِيَعاً فرقا متضاربة يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يعدهم ضعفاء، و هم بنو إسرائيل يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ أولادهم الذكور لئلا يكون أحدهم موسى، حيث أخبرته الكهنة أن أحد أولاد بني إسرائيل سيقضي على فرعون وَ يَسْتَحْيِي يبقي أحياء نِساءَهُمْ لأجل الاستخدام و الزواج إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بالقتل و الظلم و الكفر.
[5] وَ نُرِيدُ أي كنّا أردنا في ذلك الوقت أَنْ نَمُنَّ نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ و هم بنو إسرائيل وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً للخلق وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لفرعون و قومه. و في التأويل إن هذه الآية في الإمام المهدي المنتظر (عج).
تبيين القرآن، ص: 398
[6] وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ بأن يتمكنوا من التصرف فيها كيفما شاءوا وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وزير فرعون وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ أي نريهم من جهة بني إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ يخافون من ذهاب ملكهم على أيدي بني إسرائيل.
[7] وَ أَوْحَيْنا ألقينا في قلبها إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ما دمت لا تخافين ظهور أمره لجلاوزة فرعون فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ بأن يقتله فرعون فَأَلْقِيهِ اجعليه في صندوق و ألقي الصندوق فِي الْيَمِّ البحر وَ لا تَخافِي أن يغرق وَ لا تَحْزَنِي لفراقه إِنَّا رَادُّوهُ نرده إِلَيْكِ عن قريب، فأرضعته ثلاثة أشهر ثم جعلته في صندوق مطلي بالقير و ألقته في الماء وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
[8] فَالْتَقَطَهُ أخذه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ موسى عليه السّلام، و اللام للعاقبة لَهُمْ عَدُوًّا يعاديهم وَ حَزَناً أسباب حزنهم إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ عاصين لربهم.
[9] وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ و ذلك لما التقطوه من الماء و أراد فرعون قتله: إن موسى عليه السّلام قُرَّتُ عَيْنٍ نفرح به لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى لعل أَنْ يَنْفَعَنا باستخدامه في أمورنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً لأنهم ما كان لهم ولد وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بأن هلاكهم على يده.
[10] وَ أَصْبَحَ فُؤادُ قلب أُمِّ مُوسى فارِغاً فإن الإنسان إذا أهمّه أمر فأنجزه يفرغ قلبه عن تلك المهمة إِنْ إنها، بعد أن ألقته في الماء كادَتْ قربت لَتُبْدِي بِهِ لتظهر بأمر موسى عليه السّلام جزعا لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها سكّناها حفظا لها و له لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإن ربطنا كان لأجل إيمانها، فإن الله إذا ربط على قلب إنسان انقاد له تعالى و صبر على قضائه.
[11] وَ قالَتْ أم موسى عليه السّلام لِأُخْتِهِ لأخت موسى عليه السّلام: قُصِّيهِ اتبعي أثر موسى عليه السّلام حتى تعلمي أين صار فَبَصُرَتْ الأخت بِهِ بموسى عليه السّلام و هو في بيت فرعون عَنْ جُنُبٍ عن بعد وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنها أخته و تريد التعرف عليه.
[12] وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ على موسى عليه السّلام الْمَراضِعَ أماكن الرضاع أي ثدي النساء مِنْ قَبْلُ قبل أن تقص أخته أثره فلم يكن يأخذ موسى عليه السّلام ثدي امرأة فَقالَتْ الأخت: هَلْ أَدُلُّكُمْ أرشدكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ بالإرضاع و التربية وَ هُمْ لَهُ لموسى عليه السّلام ناصِحُونَ يقومون بأمره كاملا.
[13] فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ لأجل أن تَقَرَّ عَيْنُها بولدها وَ لا تَحْزَنَ لفراقه وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حيث وعدها بردّه إليها حَقٌّ صدق وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ أن وعده حق.
تبيين القرآن، ص: 399
[14] وَ لَمَّا بَلَغَ موسى عليه السّلام أَشُدَّهُ كمال قوته وَ اسْتَوى تم في استحكام آتَيْناهُ أعطيناه حُكْماً أن يحكم على الناس، فإن الحكومة شأن من خوله الله وَ عِلْماً نبوة وَ كَذلِكَ هكذا نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ من أحسن في العقيدة و العمل.
[15] وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ بعد أن كان خارجا عنها لغرض عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها بأن لم يكونوا منتشرين في الطرق فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ أشياع موسى عليه السّلام، من بني إسرائيل وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ من القبط فَاسْتَغاثَهُ طلب غوثه و إعانته الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فضرب موسى عليه السّلام القبطي بجميع كفه فَقَضى عَلَيْهِ بأن قتله قالَ موسى عليه السّلام بعد أن قتله: هذا التخاصم الذي كان بينهما مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ لأنه يأمر به إِنَّهُ عَدُوٌّ للإنسان مُضِلٌّ له مُبِينٌ ظاهر الضلال.
[16] قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي الظلم وضع الشي ء في غير موضعه، أي مجيئي إلى المدينة كان في غير موقعه فَاغْفِرْ لِي الغفران الستر، أي استرني من فرعون فَغَفَرَ لَهُ بأن ستره عن أعين أعدائه إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
[17] قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بسبب إنعامك عليّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ بل أكون عونا لأوليائك كما كنت عون الإسرائيلي على القبطي.
[18] فَأَصْبَحَ موسى عليه السّلام في اليوم الثاني فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً من بأس فرعون يَتَرَقَّبُ ينتظر الأخبار في أمر قتل القبطي فَإِذَا الَّذِي الإسرائيلي الذي اسْتَنْصَرَهُ طلب نصرة موسى عليه السّلام بِالْأَمْسِ حال نزاعه مع القبطي المقتول يَسْتَصْرِخُهُ يطلب من موسى عليه السّلام أيضا أن يعينه حيث أخذ يتخاصم مع قبطي آخر قالَ لَهُ للإسرائيلي مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ أي منحرف عن طريق المعاشرة حيث تخاصم كل يوم شخصا مُبِينٌ بين الغواية.
[19] فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى عليه السّلام أَنْ يَبْطِشَ يضرب و يأخذ بشدة بِالَّذِي بالقبطي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما لموسى عليه السّلام و الإسرائيلي قالَ الإسرائيلي، و قد ظن أن موسى عليه السّلام يريد البطش به: يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ ما تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً متطاولا بالقهر فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس فانتشر الخبر و بلغ فرعون فأخذ في طلب موسى عليه السّلام ليقتله.
[20] وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ آخر مصر يَسْعى يسرع في المشي قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ أشراف قوم فرعون يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون فيك لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ من مصر إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.
[21] فَخَرَجَ مِنْها من أرض مصر خائِفاً من فرعون يَتَرَقَّبُ الأخبار قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 400
[22] وَ لَمَّا تَوَجَّهَ موسى عليه السّلام تِلْقاءَ جهة مَدْيَنَ و هي قرية شعيب النبي عليه السّلام قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ وسط السَّبِيلِ الطريق المؤدي إلى السلامة.
[23] وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ بئر كانت في خارج المدينة وَجَدَ عَلَيْهِ على الماء أُمَّةً جماعة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم من البئر وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ ورائهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ تمنعان شياههم عن الماء قالَ موسى عليه السّلام: ما خَطْبُكُما ما شأنكما تذودان قالَتا لا نَسْقِي شياهنا حَتَّى يُصْدِرَ ينصرف الرِّعاءُ جمع الراعي، أي يتمّ الرعاة إشراب شياههم و ينصرفون فنسقي شياهنا وَ أَبُونا شَيْخٌ كثير السن كَبِيرٌ في العمر فلا يقدر على السقي و لذا يضطر لإخراجنا.
[24] فَسَقى موسى عليه السّلام لَهُما بأن فتح الماء لأجلهما ثُمَّ تَوَلَّى انصرف إِلَى الظِّلِّ بأن جلس تحت ظل شجرة فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما متعلق ب (فقير) أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ بيان (ما) و المراد به الطعام فَقِيرٌ محتاج لأنه كان جائعا، فذهبت البنتان و أخبرتا أباهما شعيبا عليه السّلام بالخبر فأرسل إحداهما لتأتي بموسى عليه السّلام.
[25] فَجاءَتْهُ إِحْداهُما جاءت إحدى البنتين إلى موسى عليه السّلام تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ على حالة الحياء قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ يا موسى عليه السّلام لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فأجابها موسى عليه السّلام و ذهب إلى بيت شعيب عليه السّلام فَلَمَّا جاءَهُ جاء موسى شعيبا وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قصته في مصر قالَ شعيب عليه السّلام: لا تَخَفْ يا موسى عليه السّلام نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إذ لا سلطان لفرعون على بلادنا.
[26] قالَتْ إِحْداهُما إحدى البنتين: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ اتخذه أجيرا لك إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ خبر (إن) أي إن خير الأجراء من كان قويا على العمل و أمينا، و موسى عليه السّلام جامع لهذين الوصفين.
[27] قالَ شعيب عليه السّلام: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ أزوجك إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي تكون أجيرا لي في مقابل النكاح، بأن يكون ذلك مهرا ثَمانِيَ حِجَجٍ سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً بأن خدمتني عشر سنوات فَمِنْ عِنْدِكَ تفضل منك تلك السنتان وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بتكثير العمل عليك سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن الصحبة.
[28] قالَ موسى عليه السّلام: ذلِكَ الذي قلت بَيْنِي وَ بَيْنَكَ تزوجني البنت و أخدمك المدة أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ الثمان أو العشر قَضَيْتُ أتممت فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ لا تعدي عليّ بأن تطلب مني الأكثر وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ شهيد.
تبيين القرآن، ص: 401
[29] فَلَمَّا قَضى أتم مُوسَى الْأَجَلَ المدة و هي أبعد الأجلين وَ سارَ بِأَهْلِهِ سافر مع زوجته قاصدا أرض مصر آنَسَ أبصر مِنْ جانِبِ الطُّورِ جبل الطور ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا اصبروا إِنِّي آنَسْتُ أبصرت ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق حيث كان ضلّ الطريق أَوْ جَذْوَةٍ قطعة حيث كان الهواء باردا مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بها.
[30] فَلَمَّا أَتاها جاء موسى عليه السّلام إلى النار نُودِيَ موسى عليه السّلام و المنادي كان الله مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ الجانب اليمين من الوادي فِي الْبُقْعَةِ المكان الْمُبارَكَةِ لأن الله باركها بإنزال الوحي فيها مِنَ الشَّجَرَةِ متعلق ب (نودي) أَنْ يا مُوسى إِنِّي المتكلم أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
[31] وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا ألقاها رَآها تَهْتَزُّ تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ حية وَلَّى أدبر موسى عليه السّلام مُدْبِراً منهزما خوفا من الحية وَ لَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من كل خوف.
[32] اسْلُكْ أدخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ شق القميص مما يلي العنق تَخْرُجْ يدك بَيْضاءَ ذات بياض كشعاع الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ لا يشبه بياض البرص وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ أي اجمع يدك على نفسك مِنَ الرَّهْبِ من أجل التقوّي من الخوف المسيطر عليك لدى رؤية الحية، فان ذلك يقوي الأعصاب فلا يظهر الارتعاش على البدن فَذانِكَ اليد و العصا بُرْهانانِ حجتان مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أشراف قومه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين من طاعة الله.
[33] قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ يقتلوني بها.
[34] وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي اجعله رسولا رِدْءاً وزيرا و معينا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ يكذبوني، فإذا كنا اثنين كنا أقدر على المواجهة.
[35] قالَ الله: سَنَشُدُّ نقوي عَضُدَكَ كناية عن تقوية النفس بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً عليه على الكفار فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بسوء، اذهبا بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ عليهم.
تبيين القرآن، ص: 402
[36] فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا الذي جاء به من الآيات إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً يفتريه و ينسبه إلى الله وَ ما سَمِعْنا بِهذا بادعاء النبوة أو بالسحر المفترى كائنا فِي زمن آبائِنَا الْأَوَّلِينَ.
[37] وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ فيعلم أني على حق و أنتم على باطل وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ محمودة في الدَّارِ الدنيا إِنَّهُ لا يُفْلِحُ لا يفوز الظَّالِمُونَ أنفسهم بالكفر و المعاصي.
[38] وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ يا جماعة الإشراف ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فأنا إلهكم الوحيد فَأَوْقِدْ أشعل النار لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ لاتخاذ الآجر المطبوخ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً قصرا عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى لأني أريد أن أصعد القصر فأرى هل هناك إله في السماء يدعي موسى عليه السّلام وجوده وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعاء إله آخر.
[39] وَ اسْتَكْبَرَ تكبر هُوَ فرعون وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ بدون استحقاق وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ في يوم القيامة حتى نجازيهم بجزاء أعمالهم.
[40] فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم فِي الْيَمِّ في البحر فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ فليحذر الظالمون في كل زمان.
[41] وَ جَعَلْناهُمْ فرعون و جنوده بتركهم حتى ضلوا، إذ عاندوا الحق أَئِمَّةً رؤساء يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ دعوا أتباعهم إلى ما عاقبته النار وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم.
[42] وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً طردا عن الخير و لعنة الناس وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ممن قبحوا و شوّه خلقتهم.
[43] وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأمم الْأُولى كأقوام نوح و هود و صالح و لوط عليهم السّلام بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي في حال كون آيات التوراة أنوارا يستبصرون بها وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما يلزم عليهم من العقيدة و الشريعة.
تبيين القرآن، ص: 403
[44] وَ ما كُنْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ من الجبل الذي كلم الله فيه موسى عليه السّلام إِذْ زمان قَضَيْنا أوحينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أمر الرسالة و الشريعة وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين للوحي إليه.
[45] وَ لكِنَّا أوحينا إليك خبر موسى عليه السّلام لتذكير الناس إذ أَنْشَأْنا أوجدنا قُرُوناً أمما بعد موسى عليه السّلام فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ مما سبب نسيانهم العبر، فإن الإنسان إذا طال عمره اغتر أكثر فأكثر فلم يبال بالدين و الأحكام فأرسلناك لتذكرهم ما نسوه وَ ما كُنْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثاوِياً مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ مدينة شعيب تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا التي وقعت في مدين وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك فنتلو عليك قصة موسى عليه السّلام و قصة شعيب عليه السّلام و غيرهما. و هذا إعجاز يجب أن يرضخوا له.
[46] وَ ما كُنْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا موسى عليه السّلام بالتورية، و الأول يراد به عند نبوته عند ما ذهب إلى مصر، و الثاني عند ما خرج من مصر وَ لكِنْ علمناك رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً قريش و سائر القبائل ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لأنهم لم يكونوا على شريعة بل طالت الفترة بين المسيح عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يقارب خمسة قرون لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
[47] وَ لَوْ لا أن لهم العذر في عدم الإيمان لم نرسلك إليهم، فإرسالك لأجل قطع عذرهم فلا يقولوا إذا عذبناهم:
لما ذا تعذبنا يا رب بدون إرسال الرسول أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ عقوبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر و المعاصي فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لو لا هذا القول منهم حال عقابهم لم نرسلك لأنا نعلم عنادهم.
[48] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا هلا أُوتِيَ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن أعطاه الله مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من اليد و العصا و غيرهما أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ فإن في جنس البشر الإشكال و المعاندة قالُوا سِحْرانِ ساحران تَظاهَرا تعاونا، أي موسى و أخوه عليه السّلام وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ من آياتك يا موسى كافِرُونَ فإنه لو لا العناد و الكفر لكفى القرآن دليلا، و مع العناد لا تنفع آيات كالعصا و اليد.
[49] قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى أكثر هداية و إرشادا مِنْهُما من التوراة و القرآن حتى أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن القرآن افتراء، كما قال معاصرو موسى عليه السّلام بأن التوراة كلام موسى لا كلام الله.
[50] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ لم يجيبوك بإتيان كتاب هو أهدى من الكتابين فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ إذ لو كانوا يتبعون حجة لأتوك بها وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ استفهام إنكاري، أي لا أحد أضل منه في حال كونه بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ فلا هداية له من قبل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر عنادا.
تبيين القرآن، ص: 404
[51] وَ لَقَدْ وَصَّلْنا أتبعنا البعض ببعض لَهُمُ الْقَوْلَ أي القرآن أنزلناه تباعا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فإن التدريج قد يوجب ذهاب العناد.
[52] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن هُمْ بِهِ بالقرآن يُؤْمِنُونَ أي الذين ليسوا بمعاندين، فإنهم أدرى من الجهال بالحقائق.
[53] وَ إِذا يُتْلى القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ أي القرآن الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ لما رأينا ذكره في الكتب السابقة.
[54] أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة لإيمانهم بكتابهم و مرة لإيمانهم بالقرآن بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم على الحق وَ يَدْرَؤُنَ يدفعون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فإن الحسنات تذهب السيئات وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
[55] وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ القول القبيح أو الذي لا فائدة فيه أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا فإنا نعمل بهذا و نجازي عليه وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ اللغوية سَلامٌ عَلَيْكُمْ كونوا في سلامة، و هذا سلام الوداع لا نَبْتَغِي لا نطلب مخالطة الْجاهِلِينَ الذين هم أنتم.
[56] إِنَّكَ لا تَهْدِي لا تصل إلى المطلوب مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فإن مهمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الإرشاد أما الإيصال إلى المطلوب فإنما يكون بلطف الله وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فيجازيهم على هدايتهم.
[57] وَ قالُوا أي الكفار: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نُتَخَطَّفْ نؤخذ بسرعة مِنْ أَرْضِنا لأن العرب تحاربنا و تخرجنا من بلادنا انتقاما، قاله بعض الجاهلين أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً هو حرم مكة المكرمة، فإن العرب لا تحارب من فيه، و الاستفهام لبيان كذب القائل يُجْبى يجلب إِلَيْهِ إلى الحرم ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ من مختلف حاجات الإنسان رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا عندنا لهم، هذا و هم كفرة فكيف نعاملهم إذا أسلموا و زادوا على أمن الحرم أمن الإسلام وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما أنعمنا عليهم.
[58] وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها استعملتها في البطر و الطغيان «1»، فقد كانوا مثلكم في الدعة و الرزق فلما بطروا أهلكناهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خربة لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا للمارة عند العبور أو بعض البيوت وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ إذ لم نخلف لهم ورثة يرثون تلك البيوت.
[59] وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها في القرية الكبيرة التي تلك القرى تكون حولها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا فإذا كفروا بالآيات أهلكناها وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ لأنفسهم بالكفر و العصيان.
__________________________________________________
(1) مؤنث مجازي.
تبيين القرآن، ص: 405
[60] وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ من أسباب الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تتمتعون بها وَ زِينَتُها تتزينون بها في الدنيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب على الأعمال الصالحة خَيْرٌ لأنه أحسن و أكثر وَ أَبْقى أدوم لخلود الجنة أَ فَلا تَعْقِلُونَ فلما ذا تقدمون الدنيا على الآخرة.
[61] أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً بالجنة فَهُوَ لاقِيهِ يلقى ذلك الوعد كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو فان و مشوب بالآلام ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ يحضر للحساب و العقاب، و الاستفهام لبيان عدم استواء الشخصين.
[62] وَ اذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ يناديهم الله في يوم القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الأصنام التي جعلتموها شركاء لي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تحسبون أنها شركائي.
[63] قالَ الَّذِينَ حَقَّ ثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بالعذاب، لأنه سبحانه قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) و المراد بهم رؤساء الكفار: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أي هؤلاء أتباعنا الذين أغويناهم أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا نحن بأنفسنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ أي نحن براء من هؤلاء الاتباع و نعلن براءتنا منهم إليك ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي لم تكن عبادة هؤلاء الأتباع لنا و لأجلنا بل عبدوا باختيارهم فإثمهم يقع على أنفسهم.
[64] وَ قِيلَ من قبل الله تعالى للمشركين: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الأصنام لينجوكم من عذاب الله فَدَعَوْهُمْ فدعى المشركون الأصنام فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا تلك الأصنام لَهُمْ للمشركين وَ رَأَوُا الْعَذابَ المهيأ لهم لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ في الدنيا لما رأوا العذاب.
[65] وَ اذكر يَوْمَ القيامة حيث يُنادِيهِمْ ينادي الله الكفار فَيَقُولُ لهم: ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين عليهم السّلام.
[66] فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ الأخبار، صارت كأنها عمياء لا تهتدي إليهم، حتى يتمكنوا من الجواب يَوْمَئِذٍ في يوم القيامة فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا لشدة دهشتهم، فلا يتمكنون من الجواب هم بأنفسهم و لا يتمكنون من السؤال عن غيرهم حتى يحصلوا على الجواب.
[67] فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى لعله أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ الفائزين، و لفظة (عسى) في هذه المقامات ترج من التائب.
[68] وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما يشاء ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أن يختاروا فكيف اختاروا الأصنام آلهة سُبْحانَ اللَّهِ أنزهه تنزيها وَ تَعالى ترفّع عَمَّا يُشْرِكُونَ عن الأصنام التي يشركونها بالله.
[69] وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ تخفي صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ فيجازيهم على كل ذلك.
[70] وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى الدنيا وَ الْآخِرَةِ لأن كل النعم منه وَ لَهُ الْحُكْمُ بين الناس إذ ليس لأحد أن يحكم سواه وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى جزائه رجوع الكل.
تبيين القرآن، ص: 406
[71] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ سماع تدبر.
[72] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس فوق الأرض مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ للاستراحة أَ فَلا تُبْصِرُونَ هذه الآيات.
[73] وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَ لِتَبْتَغُوا تطلبوا مِنْ فَضْلِهِ في النهار وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه تعالى.
[74] وَ اذكر يَوْمَ القيامة إذ يُنادِيهِمْ الله فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الأصنام الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
[75] وَ نَزَعْنا أخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً نبيهم أو إمامهم أو من قام مقامهما، الشهيد عليهم بما عملوا من الكفر و المعاصي فَقُلْنا للأمم: هاتُوا ائتوا بُرْهانَكُمْ دليلكم على صحة شرككم في الدنيا فَعَلِمُوا حينذاك علما وجدانيا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية وَ ضَلَّ غاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الأصنام التي جعلوها إلهة كذبا و افتراء.
[76] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أي من بني إسرائيل فَبَغى استطال و تكبر عَلَيْهِمْ على القوم وَ آتَيْناهُ أعطيناه مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مفتح بمعنى المفتاح لَتَنُوأُ تثقل بِالْعُصْبَةِ بالجماعة أُولِي الْقُوَّةِ أصحاب القوة لكثرة المفاتيح فما ظنك بمقدار الكنوز إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ بهذه الأموال بطرا و رئاء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ بالبطر.
[77] وَ ابْتَغِ اطلب فِيما آتاكَ أعطاك اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تنفق في سبيل الله وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا فإن هذا الذي جاءك من الدنيا إن لم تصرفه في أمر الآخرة فقد نسيت نصيبك، و معناه اطلب كلّا من الآخرة و الدنيا بهذه الأموال وَ أَحْسِنْ إلى عباد الله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ بأن أعطاك هذه الأموال وَ لا تَبْغِ لا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ يكرههم بسوء أعمالهم.
تبيين القرآن، ص: 407
[78] قالَ قارون تكبرا و انصرافا عن الحق: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فليس لله فضل عليّ و إنما علمي بكيفية جمع الأموال هو الذي ساق هذا المال إليّ أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ الأمم الكافرة مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ من قارون قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً للمال و الاستفهام للإنكار و التخويف، أي كيف ينكر صنع الله و قد علم حالة الأمم الطاغية وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ لأن الله يعلم أعمالهم فيجازيهم عليها، و في هذا زيادة تهديد و إنما السؤال الذي يقع بالنسبة إلى المجرمين إنما هو لتذكيرهم و فضحهم أمام الناس.
[79] فَخَرَجَ قارون بطرا و كبرياء عَلى قَوْمِهِ بني إسرائيل فِي زِينَتِهِ تزين بأنواع الجواهر و الحلي و خرج يريهم ماله و ثروته قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من المال و الثروة إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ نصيب من الدنيا عَظِيمٍ كبير.
[80] وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أعطوا العلم بأحوال الآخرة و ثوابها: وَيْلَكُمْ هلاكا لكم، و هي كلمة زجر ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ من أموال قارون لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها أي لا يعطي الله مثوبة الآخرة إِلَّا الصَّابِرُونَ الذين صبروا على أوامر الله تعالى.
[81] فَخَسَفْنا بِهِ بقارون وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ بأن ابتلعت الأرض قارون و داره التي فيها خزائنه فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أعوان و جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ بأسه وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ بأن يقدر هو على دفع العذاب عن نفسه.
[82] وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ منزلة قارون في المال و الجاه بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وي كلمة تعجب كأن الله أي كأن بسط الرزق و تقتيره ليسا لكرامة الإنسان على الله أو إهانته بل لمصالح خاصة حسب مشيئته تعالى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ عبيده وَ يَقْدِرُ يضيق لمن يشاء لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا حيث لم يعطنا مثله لَخَسَفَ الله الأرض بِنا لأن المال يولد فينا ما أولده في قارون وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ لا يفوز بخير الدارين الْكافِرُونَ بنعم الله، و الإتيان بلفظ كأن تواضع منهم، إذ الجزم في الأمر دليل على أن المتكلم يرى نفسه عالما.
[83] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها خبر (تلك) لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا غلبة استعلاء فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً و ظلما وَ الْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون الكفر و المعاصي.
[84] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ العقيدة و العمل الحسن فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها من جهة الذات و القدر و الوصف وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ بدون زيادة.
تبيين القرآن، ص: 408
[85] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ أوجب عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تلاوته و تبليغه و العمل به لَرادُّكَ ليردك و يرجعك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلى مَعادٍ محل العود أي الآخرة، أو مكة و ذلك حين رجع إليها يوم الفتح بعد أن أخرج منها قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ أنفذ علما مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح، و المراد أن الله يعلم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء بما يهدي الناس و أنتم الكفار في ضلال و سيجازي الطرفين كلّا حسب عمله.
[86] وَ ما كُنْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تَرْجُوا أَنْ يُلْقى ينزل إِلَيْكَ الْكِتابُ القرآن إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فرحمته تعالى هي التي سببت إنزال الكتاب و لولاها لم يكن رجاء فَلا تَكُونَنَّ حيث تفضل الله عليك بالكتاب ظَهِيراً معينا لِلْكافِرِينَ.
[87] وَ لا يَصُدُّنَّكَ لا يمنعك هؤلاء الكفار عَنْ اتباع و تبليغ آياتِ اللَّهِ القرآن بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ الناس إِلى رَبِّكَ بالتوحيد له و الطاعة لأمره وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
[88] وَ لا تَدْعُ لا تعبد مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ يهلك و يموت إِلَّا وَجْهَهُ ذاته، و ما هو هالك لا يكون إلها لَهُ الْحُكْمُ فإن الحكم على الناس و بين الناس لله وحده وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى حكمه و جزائه في الآخرة.
مكية آياتها تسع و ستون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
[1] الم رمز بين الله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] أَ حَسِبَ هل ظن النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا هم و شأنهم بدون امتحان لهم ليظهر مدى إيمانهم، بمجرد أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ ظنوا أن هُمْ لا يُفْتَنُونَ لا يمتحنون، كلا ليس الأمر كذلك.
[3] وَ الحال لَقَدْ فَتَنَّا امتحنا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ أي يتعلق علمه السابق بهم في حال الامتحان الَّذِينَ صَدَقُوا في إيمانهم وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ بأن رسبوا في الامتحان.
[4] أَمْ بل حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الكفر و المعاصي أَنْ يَسْبِقُونا فنعجز عن عذابهم، كما يسبق الشارد من يريد أخذه فلا يقدر عليه ساءَ بئس الحكم ما يَحْكُمُونَ حكمهم.
[5] مَنْ كانَ يَرْجُوا يأمل لِقاءَ اللَّهِ الوصول إلى ثوابه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ الوقت الذي وقته الله لإعطاء الثواب لَآتٍ ليأتي لا محالة وَ هُوَ السَّمِيعُ للأقوال الْعَلِيمُ بالأحوال.
[6] وَ مَنْ جاهَدَ تعب في اتباع أوامر الله فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لأن ثواب الجهاد يرجع إلى نفس المجاهد إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن جهاد المجاهد و عَنِ الْعالَمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 409
[7] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ لنبطلن عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ فإن الحسنات تذهب السيئات وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ جزاء العمل، مثلا أحسن جزاء البنّاء دينار و أوسطه نصفه و أقله ربعه فنعطيه دينارا كاملا الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ.
[8] وَ وَصَّيْنَا أي أمرنا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً بأن يحسن إليهما عملا حسنا وَ إِنْ جاهَداكَ أي أصر الوالدان عليك أيها الإنسان لِتُشْرِكَ بِي ما أي لتجعل شريكي صنما لَيْسَ لَكَ بِهِ بذلك الصنم عِلْمٌ حيث تعلم أنه ليس شريكا لله، فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع فَلا تُطِعْهُما في ذلك الشرك إِلَيَّ إلى جزائي مَرْجِعُكُمْ رجوعكم جميعا فَأُنَبِّئُكُمْ أخبركم، لأجل الجزاء بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير أو شر.
[9] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي جملة الصَّالِحِينَ الذين لهم الجنة.
[10] وَ مِنَ النَّاسِ و هم المنافقون مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ بأن أصابه أذى في سبيل الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ أي أذاهم كَعَذابِ اللَّهِ فكما إن خوف العذاب صرفه إلى الإيمان فإن أذى الناس يصرفه إلى الكفر حتى يستريح من أذاهم، فيرى أنه لا داعي لاستعجال الأذى في سبيل دفع عذاب في المستقبل وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ فتح و غنيمة مِنْ رَبِّكَ للمسلمين لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدين فأشركونا في الغنيمة أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإخلاص و النفاق، فيجازي كلّا حسب ما في صدره.
[11] وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم وَ لَيَعْلَمَنَّ الله الْمُنافِقِينَ فيجزي كل فريق بما يستحق.
[12] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا في الكفر وَ لْنَحْمِلْ أي نحن نحمل يوم القيامة خَطاياكُمْ فلا تعاقبون عليها وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ لأن خطيئة كل إنسان على نفسه إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم (نحمل خطاياكم).
[13] وَ لَيَحْمِلُنَّ الكفار أَثْقالَهُمْ ذنوبهم وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ و هي الذنوب التي اقترفوها بسبب إضلال الناس وَ لَيُسْئَلُنَّ هؤلاء الكفار يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأكاذيب التي ضلوا بها سائر الناس، يسألون عنها لأجل الجزاء.
[14] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ مكث فِيهِمْ يدعوهم إلى الإيمان أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فلم يجيبوه فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ أغرقهم الماء الكثير وَ هُمْ ظالِمُونَ لأنفسهم بالكفر و العصيان.
تبيين القرآن، ص: 410
[15] فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا عليه السّلام وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ الذين ركبوا معه من المؤمنين وَ جَعَلْناها أي قصة نوح عليه السّلام آيَةً علامة مبصرة لِلْعالَمِينَ ليعلموا مصير الكفار.
[16] وَ اذكر إِبْراهِيمَ إِذْ زمان قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ اجتنبوا الكفر و المعاصي ذلِكُمْ أي الاتقاء و (كم) للخطاب خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم فيه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لعلمتم أن ذلك خير لكم.
[17] إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أصناما وَ تَخْلُقُونَ بنحت الأصنام إِفْكاً كذبا، إذ ليست هذه آلهة إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فان الأصنام لا ترزق الناس فَابْتَغُوا اطلبوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ إذ هو الرازق وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى جزائه رجوعكم في الآخرة.
[18] وَ إِنْ تُكَذِّبُوا تكذبوني فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ الرسل فلم يضر الرسل تكذيبهم وَ ما يجب عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ التبليغ الْمُبِينُ الظاهر، أما إيمان الناس و عدم إيمانهم فليس الرسول مكلفا به.
[19] أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الذين ينكرون البعث كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ينشئه و يخلقه ثُمَّ يُعِيدُهُ أحياء بعد الموت كما بدأه إِنَّ ذلِكَ أي الإعادة عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل.
[20] قُلْ سِيرُوا سافروا أيها الكفار فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الله الْخَلْقَ فإن المسافر يرى من عجائب خلق الله ما يأخذ بقلبه إلى الإيمان ثُمَّ اللَّهُ هكذا، كما بدأ يُنْشِئُ يخلق النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي الحياة بعد الموت إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ الإنشاء و الإعادة قَدِيرٌ.
[21] يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن استحق العقاب وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ممن هو أهل الرحم وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي ترجعون لأجل الحساب.
[22] وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ الله فِي الْأَرْضِ بأن تهربوا، فلا يتمكن من أخذكم و عقابكم وَ لا فِي السَّماءِ بأن تصعدون في أطباق السماء للفرار منه وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يلي أموركم وَ لا نَصِيرٍ ينصركم.
[23] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أي جحدوا البعث الذي فيه لقاء ثواب الله و عقابه أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي لا بد لهم أن ييأسوا من رحمة الله لأنهم كفروا به وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
تبيين القرآن، ص: 411
[24] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم عليه السّلام إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ حين قذفوه فيها بجعل النار بردا و سلاما إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء لَآياتٍ أدلة على وجود الله و نصرة أوليائه و خذلان أعدائه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بالآيات.
[25] وَ قالَ إبراهيم عليه السّلام: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ عبدتم مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله أَوْثاناً أصناما مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ أي لتوادوا و تحابوا بينكم لأن الأصنام هي رابطة اجتماعكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فان هذه المودة خاصة بهذه الحياة ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيكون بينكم التعادي و التلاعن وَ مَأْواكُمُ محلكم و مصيركم النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونكم من عذاب الله.
[26] فَآمَنَ لَهُ لإبراهيم عليه السّلام لُوطٌ و كان من أقربائه وَ قالَ إبراهيم عليه السّلام: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربي، فذهب من العراق إلى الشام إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الْحَكِيمُ في ما يفعل.
[27] وَ وَهَبْنا لَهُ أعطينا إبراهيم عليه السّلام إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ ذرية إبراهيم عليه السّلام النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ بأن أنزلنا الكتب السماوية على أولاده كموسى عليه السّلام و عيسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ آتَيْناهُ أعطيناه أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا بالذكر الحسن وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فيدخل الجنة.
[28] وَ اذكر لُوطاً النبي عليه السّلام إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ تفعلون اللواط ما سَبَقَكُمْ بِها بهذه الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ فإنكم أول من ابتدعها.
[29] أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ تفعلون بهم، و الاستفهام للإنكار وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ فإن المارة كانوا لا يمرون بقربهم حيث علموا بفعلهم السيئ مع المارة وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ محل اجتماعكم الْمُنْكَرَ فكانوا يلوطون و يتضارطون و يفعلون سائر المنكرات في مجالسهم بلا حياء فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ الذي تعدنا به على أعمالنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أن الله يعذبنا على هذه الأعمال.
[30] قالَ لوط عليه السّلام عند ذلك: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بإنزال العذاب لإفنائهم.
تبيين القرآن، ص: 412
[31] وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا الملائكة إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى يبشرونه بإسحاق عليه السّلام قالُوا أي الملائكة لإبراهيم عليه السّلام: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية لوط عليه السّلام إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ لأنفسهم بالكفر و العصيان.
[32] قالَ إبراهيم عليه السّلام: إِنَّ فِيها لُوطاً فكيف تهلكونها قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها بالذين في القرية لَنُنَجِّيَنَّهُ أي لوطا عليه السّلام وَ ننجي أَهْلَهُ المؤمنين إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في القرية حتى تهلك لأنها كانت كافرة.
[33] وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا الملائكة، من عند إبراهيم عليه السّلام لُوطاً إلى لوط عليه السّلام سِي ءَ لوط عليه السّلام بِهِمْ بالملائكة، أي ساءه مجيئهم لما رأى فيهم من الجمال فخاف عليهم من قومه وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ضاق صدره عن مجي ء هؤلاء الضيوف، و الذرع كناية عن الطاقة وَ قالُوا أي الملائكة للوط عليه السّلام: لا تَخَفْ من قومك علينا وَ لا تَحْزَنْ إنا ملائكة من الله لأجل إهلاك القوم إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ في العذاب.
[34] إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم.
[35] وَ لَقَدْ تَرَكْنا أبقينا مِنْها من القرية بعد تدميرها آيَةً علامة المنازل الخربة المقلوبة بَيِّنَةً واضحة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم.
[36] وَ إِلى مَدْيَنَ أرسلنا إلى قوم مدين أَخاهُمْ في القبيلة شُعَيْباً و لا يخفى أن تكرار هذه القصص للتركيز في الأذهان، و لأن العرب كانوا يعرفون بعضها إجمالا، لأن هؤلاء الأمم سكنوا في الجزيرة و حواليها، و لأن أهل الكتاب كانوا يصدقون بها، و قد جاءت القصة في كل مرة بمزايا لم تذكر في مرة أخرى، و لأن التكرار أدعى إلى التحدي إذ يظهر عجز العرب عن الإتيان بمثلها أكثر فأكثر، إلى غير ذلك فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي افعلوا ما ترجون بسببه ثواب الآخرة وَ لا تَعْثَوْا لا تسعوا فِي الْأَرْضِ في حال كونكم مُفْسِدِينَ فيها.
[37] فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ميتين ساقطين على وجوههم.
[38] وَ اذكر عاداً قوم هود عليه السّلام وَ ثَمُودَ قوم صالح عليه السّلام وَ قَدْ تَبَيَّنَ ظهر لَكُمْ أيها الكفار، مِنْ مَساكِنِهِمْ التي تمرون عليها في أسفاركم أنهم أهلكوا و عذبوا لما تشاهدون من آثار ديارهم الخربة وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ بأن رأوها حسنة فَصَدَّهُمْ منعهم الشيطان عَنِ السَّبِيلِ طريق الحق وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ متمكنين من النظر لكنهم لم ينظروا فأهلكوا.
تبيين القرآن، ص: 413
[39] وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ بالأدلة الواضحة فَاسْتَكْبَرُوا تكبروا عن قبول الحق و العمل الصالح فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ لم يفوتونا بل أخذناهم.
[40] فَكُلًّا من المذكورين أَخَذْنا عاقبناه بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أي ريحا فيها حصباء و هي الحجارة، و هم قوم لوط عليه السّلام وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ صيحة جبرئيل عليه السّلام فأهلكهم و هم ثمود و مدين وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح عليه السّلام و فرعون وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ حيث عذبهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر و العصيان حتى استحقوا العقاب.
[41] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله أَوْلِياءَ آلهة كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ فالمشركون كالعنكبوت حال كونها اتَّخَذَتْ بَيْتاً صنعت بيتا ضعيفا موهونا وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أضعفها لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لعلموا أن بناءهم كبناء العنكبوت، فكما إن بيت العنكبوت إنما هو لأجل الرزق فقط و لا ينفعها في حر و لا برد و لا بقاء له، كذلك دين المشركين لا مستقبل له و لا ينفعهم.
[42] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما الأصنام التي يَدْعُونَ أي المشركون إياها مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ بيان (ما) وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الْحَكِيمُ و من حكمته لا يعاجلهم بالعقوبة.
[43] وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ هذه الأمثال و نظائرها نَضْرِبُها نذكرها لِلنَّاسِ تقريبا إلى أفهاههم وَ ما يَعْقِلُها لا يفهم فائدتها إِلَّا الْعالِمُونَ الذين يريدون التعلم.
[44] خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ لم يقصد بهما عبثا و باطلا إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق لَآيَةً دليلا على وجود الله و قدرته لِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم المنتفعون بالآيات.
[45] اتْلُ اقرأ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ القرآن وَ أَقِمِ الصَّلاةَ أدها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى لأنها سبب للانتهاء عَنِ الْفَحْشاءِ الفعال القبيحة المتعدية في الفحش و الإثم وَ الْمُنْكَرِ سائر الآثام وَ لَذِكْرُ اللَّهِ بأن تكونوا في ذكره أَكْبَرُ من الصلاة، لأن الذكر يقود إلى كل خير وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ما تعملون فيجازيكم عليه.
تبيين القرآن، ص: 414
[46] وَ لا تُجادِلُوا لا تحاجّوا أيها المسلمون أَهْلَ الْكِتابِ اليهود و النصارى إِلَّا بِالَّتِي بالصفة التي هِيَ أَحْسَنُ كمقابلة الشدة باللين و الغضب بالحلم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بأن أكثروا في العناد فلا بأس بمقابلتهم بالمثل كبحا لجماحهم وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ كالتوراة و الإنجيل وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ لله تعالى مُسْلِمُونَ منقادون.
[47] وَ كَذلِكَ أي هكذا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ القرآن مصدقا للكتب السابقة فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ أعطيناهم الْكِتابَ جنس الكتاب السماوي، ممن ليس بمعاند يُؤْمِنُونَ بِهِ بما أنزل إليك وَ مِنْ هؤُلاءِ المشركين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بكتابك أيضا وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا ينكرها مع وضوحها إِلَّا الْكافِرُونَ المعاندون في كفرهم.
[48] وَ ما كُنْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تَتْلُوا تقرأ مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ أي لا تكتب شيئا بِيَمِينِكَ بيدك إِذاً أي لو كنت تقرأ و تكتب لَارْتابَ لشك في رسالتك الْمُبْطِلُونَ الذين شأنهم الإبطال لكل ما لا يريدونه، أما الذين يتبعون الحق فلا فرق عندهم إذا رأوا المعجزة أن يكون الآتي بها قارئا و كاتبا أم لا، فليس القرآن إذا مجموعا من الكتب السابقة أخذه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منها.
[49] بَلْ هُوَ القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ أدلة واضحات فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ حفظها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الوحي وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا ينكرها إِلَّا الظَّالِمُونَ أنفسهم بترك النظر.
[50] وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آياتٌ مِنْ رَبِّهِ كعصا موسى عليه السّلام و ما أشبه من الخوارق قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فإذا رأى المصلحة في إنزالها أنزلها وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ منذر لكم عن عذاب الله مُبِينٌ ظاهر، و قد أتيت بما يثبت أني نبي و كفى.
[51] أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ آية دالة على صدقه أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إنزالنا الكتاب يُتْلى عَلَيْهِمْ دائما فهو آية لا تزول بخلاف سائر الآيات التي نزلت على الأنبياء السابقين إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب المعجز المستمر لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى تذكيرا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بالقرآن.
[52] قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً شاهدا لصدقي، إذ لو لا أني صادق لم يجر الله المعجزة على يدي يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فلا يخفى عليه حالي، فإذا كنت كاذبا لعلم بذلك وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ الأصنام وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ لم يوحدوه أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم و أهليهم.
تبيين القرآن، ص: 415
[53] وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ أي الكفار بِالْعَذابِ يقولون إن كنت نبيا فأنزل علينا العذاب وَ لَوْ لا أَجَلٌ وقت مُسَمًّى قد سمي لهلاكهم لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب بَغْتَةً فجأة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.
[54] يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ سيحيط بهم فلما ذا تعجيلهم.
[55] يَوْمَ ظرف لقوله (لمحيطة) يَغْشاهُمُ يحيط بهم الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ من جميع الجوانب وَ يَقُولُ الله لهم ذُوقُوا ما جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أعمالكم.
[56] يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فإذا لم تقدروا على إقامة الدين في وطنكم فسافروا فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
و لا تشركوا، و إذا لم تتمكنوا في بلدكم فهاجروا إلى بلد آخر.
[57] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ تنال الموت لا محالة ثُمَّ إِلَيْنا إلى جزائنا تُرْجَعُونَ في الآخرة.
[58] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ننزلهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً عاليا تشرف على الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت تلك الغرف الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها باقين أبدا نِعْمَ تلك الغرف أَجْرُ الْعامِلِينَ لأجل الله تعالى.
[59] الَّذِينَ صفة (العاملين) صَبَرُوا على ما أمرهم الله به وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أمورهم.
[60] وَ كَأَيِّنْ كم مِنْ دَابَّةٍ حيوان لا تَحْمِلُ لا تتمكن من إعداد رِزْقَهَا لضعفها اللَّهُ يَرْزُقُها بدون إعداد وَ إِيَّاكُمْ فالقوي و الضعيف سواء في إرزاق الله تعالى له وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بأحوالكم.
[61] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ ذلل الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فإنهم كانوا يعترفون بالله فَأَنَّى إلى أين يُؤْفَكُونَ يصرفون عن توحيده بعد أن اعترفوا بأن كل شي ء منه تعالى.
[62] اللَّهُ يَبْسُطُ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ يضيق لَهُ لمن يشاء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيرزقهم حسب المصلحة.
[63] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً المطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بالنبات مِنْ بَعْدِ مَوْتِها باليباب لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فكيف يجعلون الأصنام شركاء له سبحانه قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على أن اعترفوا بالحق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ لا يستعملون عقولهم و لذا يشركون.
تبيين القرآن، ص: 416
[64] وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ كما يلهو و يلعب الصبيان بالدمى، و ينتهي بعد قليل وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ الحياة الحقيقية لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لعلموا ذلك.
[65] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ السفينة دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ وحده بلا شريك لَهُ الدِّينَ فهم كمن أخلص دينه و طريقته لله، في دعائه فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ يرجعون إلى شركهم.
[66] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي يشركون ليكونوا كافرين بسبب شركهم نعمة النجاة وَ لِيَتَمَتَّعُوا بسبب عبادة الأصنام بدنياهم و رئاستهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة شركهم.
[67] أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً و هو مكة المكرمة يؤمن أهلها من تعدي الناس عليهم، فهل أصنامهم فعلت ذلك وَ يُتَخَطَّفُ يؤخذ بسرعة النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ بالتغادر قتلا و نهبا أ فبعد هذه النعم بالباطل التي هي الأصنام يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث إن شركهم كفران للنعمة، فإن الله أنعم عليهم فيشركون الأصنام معه.
[68] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له شريكا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن لَمَّا جاءَهُ الحق أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً محل إقامة لِلْكافِرِينَ و هذا تهديد لهم بأن محلهم النار.
[69] وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لأجلنا جاهدوا الكفار و النفس لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا طرق الخير، فانه كلما تقدم الإنسان إلى ناحية انفتح الطريق أمامه أكثر فأكثر وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر و العون.
مكية آياتها ستون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] غُلِبَتِ الرُّومُ النصارى، غلبهم المجوس الفرس في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاغتم المسلمون، لأن دين المسيح عليه السّلام كان أقرب إلى دين الإسلام، فسلاهم الله تعالى، بأن الروم سيغلبون على الفرس بعد سنوات.
[3] فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أدنى أرض العرب قرب الشام وَ هُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ مغلوبيتهم سَيَغْلِبُونَ الفرس.
[4] فِي بِضْعِ سِنِينَ هو ما بين الثلاث و العشر، و قد كان كما أخبر الله تعالى لِلَّهِ الْأَمْرُ فإن التقدير منه مِنْ قَبْلُ قبل أن يغلب الفرس وَ مِنْ بَعْدُ أن غلبوا فكل شي ء بإذن الله وَ يَوْمَئِذٍ يوم أن يغلب الروم على الفرس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ.
[5] بِنَصْرِ اللَّهِ لأنه نصر المسيحيين الذين هم أقرب إلى المسلمين يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ حسب مشيئته وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الرَّحِيمُ بعباده، فينصرهم حسب المصلحة.
تبيين القرآن، ص: 417
[6] وَعْدَ اللَّهِ نصرة الروم لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع القبيح عليه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الله لا يخلف وعده.
[7] يَعْلَمُونَ ظاهِراً أي ما يشاهدونه مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ و لذا لا يعملون لها.
[8] أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أ فلم يحدثوا الكفر في أنفسهم ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ إذ لو لم تكن آخرة كان خلق الحياة عبثا وَ أَجَلٍ أمد مُسَمًّى قد سمي فلا تبقى بعده حياة وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بملاقاة جزائه لَكافِرُونَ.
[9] أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا يسافروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود، حتى يروا آثارهم الخربة الدالة على عذابهم كانُوا أولئك أَشَدَّ مِنْهُمْ من هؤلاء الكفار قُوَّةً جسمية و مالية وَ أَثارُوا الْأَرْضَ قلبوها للزراعة و استخراج المعادن وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات، لكنهم كذبوا فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ حيث عذبهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر و المعاصي و لذا أخذهم الله بالعذاب.
[10] ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى كبشرى، أي عملوا العمل السيئ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها بآيات الله يَسْتَهْزِؤُنَ فإن العصيان يجر إلى الكفر.
[11] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئهم ثُمَّ يُعِيدُهُ يبعثهم ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى جزائه.
[12] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة يُبْلِسُ أي يتحيرون، فلا يجدون جوابا الْمُجْرِمُونَ الذي أجرموا بالكفر و العصيان.
[13] وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ الأصنام التي أشركوها بالله شُفَعاءُ ليدفعوا عنهم العذاب وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ الأصنام التي جعلوها شركاء لله كافِرِينَ يكفرون بها حين يشاهدون بطلانها.
[14] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ المؤمنون و الكافرون.
[15] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ جنة يُحْبَرُونَ يسرون سرورا يظهر على وجوههم.
تبيين القرآن، ص: 418
[16] وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ بأن أنكروا البعث فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ يحضرون هناك.
[17] فَسُبْحانَ اللَّهِ أنزهه تنزيها عن الشريك حِينَ تُمْسُونَ تدخلون المساء وَ حِينَ تُصْبِحُونَ تدخلون الصباح.
[18] وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأنه المستحق الوحيد في المكانين وَ عَشِيًّا ليلا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ تدخلون في وقت الظهر، أي في الأوقات كلها.
[19] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كالبيضة من الدجاجة و الفرخ من البيضة وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها بيبس النبات وَ كَذلِكَ كما أحيى الأرض تُخْرَجُونَ أحياء من قبوركم.
[20] وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ منتشرين في الأرض.
[21] وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً زوجاتكم لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتألفوها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً يحب بعضكم بعضا وَ رَحْمَةً يرحم بعضكم بعضا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دالات على وجود الله و لطفه لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنهم المنتفعون بالآيات.
[22] وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ بأن كان لكل جماعة لغة، أو لهجة خاصة وَ أَلْوانِكُمْ من اللون الخاص بكل جماعة و بكل فرد إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ فان العالم هو المنتفع بالآيات.
[23] وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ نومكم بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ طلبكم مِنْ فَضْلِهِ رزقه، ففي كل من الليل و النهار، ينام الإنسان و يكتسب إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر و تعقل.
[24] وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من الصاعقة و السيل و ما أشبه وَ طَمَعاً في المطر و تحسين الهواء وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها باليبات إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم.
تبيين القرآن، ص: 419
[25] وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي قيامهما بأمر الله و إرادته ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً لإحيائكم و إخراجكم مِنْ بطن الْأَرْضُ أي قبوركم إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ فإحياؤكم بعد الموت آية من آياته.
[26] وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ خاضعون منقادون.
[27] وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئه ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت إحياء وَ هُوَ أي البدء و الإعادة أَهْوَنُ عَلَيْهِ تعالى مما تتصورون وَ لَهُ الْمَثَلُ الوصف الْأَعْلى من كل وصف، لأنه لا مساوي له حتى يشاركه في علو المثل فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فلا في السماء و لا في الأرض من يشبهه في المثل وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْحَكِيمُ في أفعاله.
[28] ضَرَبَ الله لَكُمْ أيها المشركون مَثَلًا منتزعا مِنْ أَنْفُسِكُمْ لبطلان عبادتكم للأصنام هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبيدكم الذين اشتريتموهم بما كسبت أيديكم من المال مِنْ شُرَكاءَ بأن يكون العبد شريكا لكم، و الحال أنه ملك لكم فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال و السيادة فتكونوا هم و أنتم فيه في الرزق سَواءٌ متساوين تَخافُونَهُمْ أي تخافون تلك العبيد كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض، و حيث يجيب المشركون على هذا السؤال بالنفي، فاللازم عليهم أن لا يجعلوا عبيد الله شركاء له، إذ العبد لا يساوي السيد كَذلِكَ هكذا نُفَصِّلُ الْآياتِ نشرحها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم.
[29] بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك أَهْواءَهُمْ بدون حجة و دليل في حال كونهم بِغَيْرِ عِلْمٍ جاهلين فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي لا هادي لهم بعد إضلال الله لهم، و ذلك حيث تركهم حتى ضلوا بعد أن عاندوا الحق وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفعون العذاب عنهم.
[30] فَأَقِمْ قوّم وَجْهَكَ ذاتك لِلدِّينِ باتباعه، حال كونه حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الحق، فاتبع فِطْرَتَ اللَّهِ خلقته الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها على تلك الكيفية، فان الإنسان يجد من أعماق نفسه الاعتقاد بوجود إله للكون عالم قدير لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فإن كل إنسان يجد من نفسه ذلك بدون تبديل، حتى أن المشرك أيضا لا يقدر أن يبدل خلقته و فطرته ذلِكَ الذي قلنا بإقامة وجهك أمامه الدِّينُ الْقَيِّمُ الطريقة المستقيمة وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ استقامته لعدم تدبرهم في حال كونكم أيها المسلمون:
[31] مُنِيبِينَ راجعين إِلَيْهِ بالتوبة، كأن العاصي ذهب عن طريق الحق، فإذا تاب رجع إليه وَ اتَّقُوهُ خافوا منه فلا تفعلوا ما لا يرتضيه وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يجعلون لله شريكا.
[32] مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بأن اتبع كل فرقة و طريقة وَ كانُوا شِيَعاً فرقا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ من الطريق و الدين فَرِحُونَ بظن أن ما عندهم الحق.
تبيين القرآن، ص: 420
[33] وَ إِذا مَسَّ أصاب النَّاسَ ضُرٌّ شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه وحده فلا يرجعون إلى الأصنام ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً بأن خلصهم الله من الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ جماعة منهم و هم من اعتادوا عبادة الأصنام بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يجعلون له شريكا.
[34] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فإن الشرك كفران لنعمة النجاة فَتَمَتَّعُوا تلذذوا بالحياة، و هذا أمر تهديدي فَسَوْفَ عند الموت تَعْلَمُونَ العاقبة السيئة لتمتعكم.
[35] أَمْ أن شركهم ليس عن علم، بل لأنّا أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجة على الشرك فَهُوَ فذلك السلطان يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ بأن يقول بصحة شركهم.
[36] وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً كنعمة و خلاص من شدة فَرِحُوا بِها بسببها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب أعمالهم السيئة إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ من الرحمة.
[37] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يضيق على من يشاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات، إذ لو لم يكن الإله يجب أن يكون الأكثر سعيا أحسن رزقا، و الحال أنه ليس كذلك دائما لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بالآيات.
[38] فَآتِ أعط ذَا الْقُرْبى أقرباءك حَقَّهُ إذ تجب صلة الرحم وَ الْمِسْكِينَ الفقير وَ ابْنَ السَّبِيلِ و هو المنقطع في سفره ذلِكَ إعطاء حقوق هؤلاء خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ذاته وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[39] وَ ما آتَيْتُمْ أعطيتم مِنْ رِباً و هذا نهي عن إعطاء الربا لِيَرْبُوَا اللام للعاقبة فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ إذ يمحقه و لا يزيد المال بالربا وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ذاته، بأن أعطيتم طلب رضاه فَأُولئِكَ المؤدون للزكاة هُمُ الْمُضْعِفُونَ الذين يزيدون أموالهم.
[40] اللَّهُ هو الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للحساب هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ التي عبدتموها شركاء لله مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ الذي ذكرنا من الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها عن الشريك وَ تَعالى ترفع عَمَّا يُشْرِكُونَ يجعلونه شريكا لله.
[41] ظَهَرَ الْفَسادُ كالغرق و الحرق و القحط و الحروب و الزلازل فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بسبب الأعمال السيئة التي جاء بها الناس، و إنما أظهرها الله لِيُذِيقَهُمْ جزاء بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا من السيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن أعمالهم السيئة.
تبيين القرآن، ص: 421
[42] قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سِيرُوا سافروا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كقوم عاد و ثمود و لوط، فإن آثارهم الخربة دالة على أخذ العذاب لهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ و لذا أهلكهم الله، و هذا تهديد للمشركين بأنه سيصيبهم مثل ذلك العذاب، أما غير الأكثر فقد نجاهم الله تعالى.
[43] فَأَقِمْ لا تعدل عنه وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ المستقيم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ لا يقدر أن يرده أحد، و هو يوم القيامة مِنَ اللَّهِ متعلق ب (يأتي) يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتفرقون بعض إلى الجنة و بعض إلى النار.
[44] مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ أي على نفسه، لا على غيره كُفْرُهُ وبال كفره وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ لا لغيرها يَمْهَدُونَ يهيئون المحل الحسن.
[45] و إنما يهيئ الله لهم المنزل الحسن: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ أي جزاء زائدا على استحقاقهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي يكرههم فيجازيهم بالعقاب.
[46] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده و علمه و قدرته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بالمطر وَ لِيُذِيقَكُمْ أي يبشركم و يذيقكم مِنْ رَحْمَتِهِ التي هي المطر وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي السفينة بِأَمْرِهِ تعالى فإن الريح تسيرها وَ لِتَبْتَغُوا تطلبوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة في البحر وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته تعالى حيث حملكم على السفينة.
[47] لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
بالمعجزات انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالكفر و العصيان، بأن أهلكناهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ اسم كان، ننصرهم بالحجة و الغلبة.
[48] اللَّهُ هو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ تهيج سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ الله وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعا متفرقة فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من وسط السحاب فَإِذا أَصابَ بِهِ بالمطر مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بأن أروى بلادهم و مزارعهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون.
[49] وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ إرسال السحاب لَمُبْلِسِينَ يائسين.
[50] فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ آثار المطر في الأرض كَيْفَ يُحْيِ الله الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها باليبس إِنَّ ذلِكَ الله الذي أحيى الأرض لَمُحْيِ الْمَوْتى للقيامة وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
تبيين القرآن، ص: 422
[51] وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ضارة فَرَأَوْهُ أي النبات في أثر الرياح مُصْفَرًّا مقدمة ليبسه لَظَلُّوا صاروا مِنْ بَعْدِهِ إرسال الريح يَكْفُرُونَ فهم لا يشكرون عند الرخاء و لا يتضرعون عند البلاء.
[52] فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى سماعا نافعا و هؤلاء الناس كالأموات وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ من صم أذنه الدُّعاءَ كلامك و نداءك إِذا وَلَّوْا أعرضوا مُدْبِرِينَ بأن كان قفاهم في طرفك، و هذا بيان لعدم قبولهم الحق، كأنهم لا يسمعون.
[53] وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ لا تهدي من عمي، إلى الطريق، لأنه أعمى فلا يرى الطريق عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي الأعمى قلبا عن ضلالة إِنْ ما تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا لأنه هو الذي يسمع إليك سماعا ينفعه فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لك.
[54] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ حال كونكم ضعافا في حالة الجنينية و الطفلية، كأنهم خلقوا من قطعة من الضعف و العجز ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً في حالة الشباب ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً في حالة الهرم وَ شَيْبَةً شيخوخة يَخْلُقُ ما يَشاءُ من ضعيف و قوي وَ هُوَ الْعَلِيمُ بمصالح عباده الْقَدِيرُ لما يشاء.
[55] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة يُقْسِمُ يحلف الْمُجْرِمُونَ بالشرك و العصيان ما لَبِثُوا ما بقوا في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ فقط حيث يستقلون بقاءهم في الدنيا كَذلِكَ مثل هذا الصرف عن الصدق إلى الكذب كانُوا في الدنيا يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الحق إلى الباطل.
[56] وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ أي المؤمنون، قالوا لهم في الآخرة لَقَدْ لَبِثْتُمْ بقيتم أيها الكفار فِي كِتابِ اللَّهِ أي حسب ما هو موجود في ما كتبه الله من أعماركم إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ لا ساعة فقط فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم تكذبون به وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تنكرون وجوده في الدنيا فتعاقبون اليوم على إنكاركم.
[57] فَيَوْمَئِذٍ يوم القيامة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان مَعْذِرَتُهُمْ عذرهم وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب رضاهم، بل يتركون في غضبهم و غيضهم، لأنهم لا أهمية لهم.
[58] وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لتقريب الأذهان إلى الحق وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ مما اقترحوه لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ أيها المؤمنون إِلَّا مُبْطِلُونَ لأنهم معاندون فلا تنفعهم حتى الآيات المقترحة.
[59] كَذلِكَ هكذا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فإن الطبع معناه تركهم و شأنهم حتى ينطبعوا بلون العباد، و ذلك حيث لم يقبلوا الحق من أول يوم.
[60] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على كفرهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرك عليهم حَقٌّ لا بد و أن يأتي وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ لا يحملنك على الخفة و الضجر الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بالبعث، بل كن صابرا حامدا.
تبيين القرآن، ص: 423
مكية آياتها أربع و ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] تِلْكَ هذه آياتُ الْكِتابِ القرآن الْحَكِيمِ الذي وضع الأشياء مواضعها في حال كونه:
[3] هُدىً هداية وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ لأنهم المنتفعون بهذا الكتاب.
[4] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ يعطون الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.
[5] أُولئِكَ عَلى هُدىً على هداية مِنْ رَبِّهِمْ من جانبه تعالى وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[6] وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي ما يلهي به من القصص، يشتريه ببيع الحق، و هو كناية عن اتباع الباطل عوض الحق لِيُضِلَّ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إذ يقصد بنشر الباطل أن يأخذ مكان الحق بِغَيْرِ عِلْمٍ فإن مشتري الباطل جاهل، و إلا لم يشتر ما يضره وَ يَتَّخِذَها أي يتخذ سبيل الله هُزُواً مهزوا بها «1» أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يذلهم و يهينهم.
[7] وَ إِذا تُتْلى تقرأ عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى أعرض مُسْتَكْبِراً متكبرا عن قبول الآيات كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها الآيات في عدم الاستفادة منها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً حملا ثقيلا فَبَشِّرْهُ استهزاء به، و إلا فالبشارة في الخير بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.
[8] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ البساتين ذات النعمة.
[9] خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ وعد الله ذلك وعدا حَقًّا مطابقا للواقع وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الْحَكِيمُ الذي يفعل كل الأشياء حسب الصلاح و الحكمة.
[10] خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ بدون أعمدة تَرَوْنَها ترون السماوات أنها لا عمد لها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا أَنْ لئلا تَمِيدَ تضطرب بِكُمْ معكم وَ بَثَّ نشر فِيها في الأرض مِنْ كُلِّ دابَّةٍ من كل أقسام الحيوان وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من أصناف النبات كَرِيمٍ ذو كرامة و احترام لمنفعته.
[11] هذا الذي ذكر خَلْقُ مخلوق اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام، إنها لا خلق لها فكيف تعبدونها بَلِ الظَّالِمُونَ المشركون فِي ضَلالٍ عن الحق مُبِينٍ ظاهر.
__________________________________________________
(1) و الهزء: آلة الاستهزاء، أي ما يستهزئ به، فإنه جعل ذلك محورا للاستهزاء. [.....]
تبيين القرآن، ص: 424
[12] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ معرفة مواضع الأشياء و قلنا له أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن فائدة الشكر عائدة إلى ذاته وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن شكر الشاكرين حَمِيدٌ محمود في أفعاله سواء شكره أحد أم لا.
[13] وَ اذكر إِذْ زمانا قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ لأنه إعطاء العبادة لغير المستحق عَظِيمٌ.
[14] وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ فإن الحامل تضعف على ضعف إذ كلما كبر الحمل زاد الضعف وَ فِصالُهُ أي فطام الولد عن اللبن فِي عامَيْنِ سنتين و هذا أيضا صعوبة أخرى على الأم توجب شكر الولد لها، فقلنا للإنسان: أَنِ اشْكُرْ لِي بالطاعة و العبادة وَ لِوالِدَيْكَ بالبر و الصلة إِلَيَّ الْمَصِيرُ فأجازيكم بما عملتم.
[15] وَ إِنْ جاهَداكَ أي الوالدان بأن أصرّا عليك عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي معبودا آخر من ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ لأنه لا شريك لله حتى يعلم به الإنسان فَلا تُطِعْهُما في هذا الأمر وَ صاحِبْهُما كن مع الوالدين فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً صحابا معروفا حسنا وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ طريق مَنْ أَنابَ رجع إِلَيَّ بأن وحّدني و أخلص في الطاعة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم إلى جزائي فَأُنَبِّئُكُمْ أخبركم لأجل الجزاء بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[16] يا بُنَيَّ مصغر ابن إِنَّها الحسنة أو السيئة إِنْ تَكُ مِثْقالَ ثقل حَبَّةٍ التي هي في غاية الصغر مِنْ خَرْدَلٍ هو ما يعطي الترياق و له حبات صغار جدا فَتَكُنْ تلك الحبة فِي أخفى مكان كجوف صَخْرَةٍ أَوْ فِي أعلى مكان مثل السَّماواتِ أَوْ أسفل الأماكن كما فِي جوف الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا يحضرها اللَّهُ لأجل الجزاء إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ عالم بكل شي ء.
[17] يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد إِنَّ ذلِكَ الذي ذكرناه مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي الأمور التي تحتاج إلى العزم و القصد الأكيد.
[18] وَ لا تُصَعِّرْ لا تمل تكبرا خَدَّكَ طرف وجهك لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً مشيا فيه بطر «1» و كبر إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ متكبر فَخُورٍ يفتخر على الناس.
[19] وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه بين الإسراع و البطء وَ اغْضُضْ اقصر مِنْ صَوْتِكَ فلا ترفعه إِنَّ أَنْكَرَ أقبح الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ و ذلك لأنه يرفع صوته فتأدب منه و لا ترفع صوتك.
__________________________________________________
(1) البطر: الطغيان بالنعمة.
تبيين القرآن، ص: 425
[20] أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ ذلّل لَكُمْ لمنافعكم ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ أتم بسعته عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً محسوسة وَ باطِنَةً تعرف بآثارها وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ في توحيده و صفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ فلا علم له بما يقول وَ لا هُدىً دليل عقلي وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ واضح ذي نور، أي دليل سمعي.
[21] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من العقائد و الأحكام قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يتبعون طريقة الآباء أَ وَ لَوْ كانَ موجبا للفساد بأن كان الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ المستعر المشتعل.
[22] وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ ذاته إِلَى اللَّهِ بأن انقاد لأوامره وَ هُوَ مُحْسِنٌ في أفعاله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ تمسك بِالْعُرْوَةِ يد الكيزان «1»، شبه بها الإسلام الموجب للسعادة الْوُثْقى مؤنث الأوثق، فلا تنفصم وَ إِلَى اللَّهِ إلى ثوابه و جزائه عاقِبَةُ الْأُمُورِ.
[23] وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ لأنه لا يضرك إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ رجوع الكفار فَنُنَبِّئُهُمْ نخبرهم لأجل أن نعاقبهم بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في الصدور، و (ذات الصدور) أي بتلك الصدور.
[24] نُمَتِّعُهُمْ نعطيهم أسباب التلذذ في الدنيا تمتيعا قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ نلجئهم في الآخرة إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ شديد.
[25] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وحده قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ حيث اعترفوا بالحق، فلما ذا يعبدون الأصنام بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الخلق إذا كان لله يجب أن تكون العبادة أيضا له.
[26] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شي ء الْحَمِيدُ المحمود في أفعاله.
[27] وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ بيان (ما) أَقْلامٌ خبر (أن) أي لو أن الأشجار الكائنة على الأرض كلها تتحول أقلاما وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ أي يعنيه مِنْ بَعْدِهِ بالإضافة إليه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ من أمثال بحار الدنيا لتكون الكل مدادا و كتبت بتلك الأقلام و المياه كلمات الله حتى تنكسر الأقلام و تنفد المياه ما نَفِدَتْ ما تمت كَلِماتُ اللَّهِ مخلوقاته، فإن كل مخلوق كلمة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب في سلطانه حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها.
[28] ما خَلْقُكُمْ أيها الناس وَ لا بَعْثُكُمْ بعد الموت إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ كخلقها و بعثها، إذ تتساوى نسبة الأشياء كلها إلى قدرة الله تعالى، فلا فرق عند قدرته بين خلق بعوضة و بين خلق ملايين المجرات إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل شي ء بَصِيرٌ يرى كل شي ء فلا يشغله شي ء عن شي ء حتى يتفاوت عنده خلق واحد عن خلق كثير.
__________________________________________________
(1) مفردة: كوز.
تبيين القرآن، ص: 426
[29] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ يدخل اللَّيْلَ فِي النَّهارِ و ذلك حين امتداد الليل وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ و ذلك حين امتداد النهار وَ سَخَّرَ ذلل الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ وقت مُسَمًّى قد سمي فله وقت مضبوط وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم عليه.
[30] ذلِكَ العلم الواسع و القدرة الكاملة إنما يكون لله بسبب أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ و الإله الحق يقدر على كل شي ء و يعلم كل شي ء وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام الْباطِلُ فليست آلهة و لذا لا تعلم و لا تقدر وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ المطلق الْكَبِيرُ الأكبر من كل شي ء.
[31] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ السفينة تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه إلى البشر لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ فإن جريان الفلك آية من آيات قدرته إِنَّ فِي ذلِكَ الجريان لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر يتعب نفسه في التفكر في الآيات، فالماء آية و بقاء السفينة خارج الماء آية، و الجريان آية، و الرياح المسيرة آية و هكذا شَكُورٍ كثير الشكر لنعم الله.
[32] وَ إِذا غَشِيَهُمْ على أصحاب السفينة مَوْجٌ كَالظُّلَلِ جمع ظلة و هي ما أظلك من جبال أو سحاب أو نحوها دَعَوُا اللَّهَ أهل السفينة مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يخلصون دينهم لله، بدون شرك فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ سالك قصد السبيل و هو التوحيد وَ ما يَجْحَدُ ينكر بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ خداع ناقض للعهد الذي أخذه الله على عباده بما أودع فيهم من الفطرة كَفُورٍ كثير الكفر.
[33] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ خافوا عقابه وَ اخْشَوْا يَوْماً يوم القيامة لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ لا يغني عنه شيئا في دفع العذاب عنه وَ لا مَوْلُودٌ ولد هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب و العقاب حَقٌّ لا بد و أن يأتي فَلا تَغُرَّنَّكُمُ تخدعكم الْحَياةُ الدُّنْيا بشهواتها وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فاعل (يغرنكم) أي لا يخدعكم الشيطان بأن ترتكبوا الآثام و تخالفوا الله.
[34] إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ يوم القيامة وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ المطر وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ من ذكر أو أنثى، سعيد أو شقي، قبيح أو جميل إلى آخره وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ماذا تعمل في المستقبل وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ يكون موتها إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكل ذلك خَبِيرٌ نافذ علمه بخفايا الأشياء.
تبيين القرآن، ص: 427
مكية آياتها ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] هذا تَنْزِيلُ الْكِتابِ إنزاله من قبل الله تعالى لا رَيْبَ فِيهِ ليس محل ريب و إن شك فيه المعاند أو الجاهل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
[3] أَمْ بل يَقُولُونَ أي الكفار افْتَراهُ نسبه محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الله كذبا، و ليس كذلك بَلْ هُوَ الْحَقُّ المطابق للواقع، حال كونه نازلا مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً الكفار المعاصرين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لأن الأنبياء عليهم السّلام بعثوا على أجيال سابقة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بإنذارك.
[4] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مقدار ستة أيام ثُمَّ اسْتَوى استولى عَلَى الْعَرْشِ على السلطة، بأن خلق ثم أخذ في تدبير المخلوق ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ يلي أموركم و يدبرها وَ لا شَفِيعٍ ينقذكم من عذابه، فإن الشفعاء إنما يشفعون بإذن الله أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ فتعلمون صحة ما ذكرناه.
[5] يُدَبِّرُ الله الْأَمْرَ أمر الكائنات فينزله مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ الملك، أو الأمر أي نتائج ما فعله البشر و ما صار في العالم إِلَيْهِ تعالى فِي يَوْمٍ المسافة بين محل نزول الأمر إلى الأرض أو عروجه إلى السماء كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ من سنوات الدنيا، فإن الشخص إذا أراد أن يسير من محل الأمر في السماء إلى الأرض الذي يأتي في يوم واحد كانت المسافة له ألف سنة «1».
[6] ذلِكَ الذي يفعل و يأمر هو عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما حضر لدى الحواس بأن كان محسوسا الْعَزِيزُ الغالب الرَّحِيمُ بعباده.
[7] الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ أي خلقه خلقا حسنا وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ آدم عليه السّلام مِنْ طِينٍ.
[8] ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ذرية آدم مِنْ سُلالَةٍ صفوة منسلة مِنْ ماءٍ مني، و سمي سلالة لانسلاله من صلبه مَهِينٍ ضعيف حقير.
[9] ثُمَّ سَوَّاهُ جعله بشرا سويا كاملا وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أي روح خلقه، و الإضافة للتشريف وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد أي القلب قَلِيلًا ما (ما) زائدة للتأكيد تَشْكُرُونَ أي قليل شكركم على هذه النعم.
[10] وَ قالُوا أي منكرو القيامة أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ بأن صار ترابنا مخلوطا بتراب الأرض فلم يعرف أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي نخلق مرة ثانية بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي لقاء ثوابه و جزائه كافِرُونَ منكرون فإنهم لا يريدون الاعتراف بلقاء الله و لذا ينكرون البعث.
[11] قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ يميتكم مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ لأجل إماتتكم، فلا يميتكم الدهر كما زعمتم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ إلى جزائه تُرْجَعُونَ في الآخرة.
__________________________________________________
(1) ثم إن الألف قد لا يكون من باب التحديد، بل للدلالة على الكثرة، كما في قوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ سورة التوبة: 80، و الله العالم.
تبيين القرآن، ص: 428
[12] وَ لَوْ تَرى إِذِ يوم القيامة الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا مطأطئو رُؤُسِهِمْ ذلا و خجلا عِنْدَ حساب رَبِّهِمْ قائلين رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ اليوم بما رأينا، لكن طلبهم هذا يقابل بالرد لأنهم (لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون) «1».
[13] وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا أعطينا كُلَّ نَفْسٍ هُداها بأن نلجئها على الهداية وَ لكِنْ حَقَّ ثبت الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ الكافرين منهم، و ذلك حيث إن التكليف يقارن الاختيار، و إلا بطلت الحجة أيضا.
[14] فيقال ذوقوا بِما فعلتم من الكفر و الآثام التي هي وليدة ما نَسِيتُمْ عن عمد بأن تركتم حتى أخذكم النسيان لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ اليوم بأن تركناكم حتى يأخذكم العذاب وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ الذي لا فناء له بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بسبب أعمالكم.
[15] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها بتلك الآيات خَرُّوا سقطوا على الأرض سُجَّداً ساجدين وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي نزهوا الله حامدين له وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته.
[16] تَتَجافى ترتفع جُنُوبُهُمْ أطراف أبدانهم عَنِ الْمَضاجِعِ الفرش و مواضع النوم، لأجل العبادة يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً من عذابه وَ طَمَعاً في رحمته وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الله.
[17] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ شخص ما أُخْفِيَ لَهُمْ أي ادّخر لهم في الآخرة مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ما تستقر به أعينهم فإن السرور يوجب قرار العين أما الخائف فينظر هنا و هناك جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعات.
[18] أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجا عن طاعة الله، و الاستفهام للإنكار لا يَسْتَوُونَ عند الله.
[19] أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال الصالحة فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى التي يأوون إليها نُزُلًا عطاء «2» بِما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا من الحسنات.
[20] وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا خرجوا عن طاعة الله فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها فإنهم يريدون الفرار لكن زبانية جهنم يرجعونهم إليها بالعنف وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي صفة (عذاب) كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ و تقولون إنه لا عذاب.
__________________________________________________
(1) سورة الأنعام: 28.
(2) النزل: ما يهيأ للضيف إذا نزل على الإنسان، و عمم للعطية مطلقا.
تبيين القرآن، ص: 429
[21] وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى في الدنيا على أيدي المسلمين دُونَ قبل الْعَذابِ الْأَكْبَرِ في الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بأن يتوبوا و يسلموا.
[22] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها بأن لم يقبلها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان مُنْتَقِمُونَ في الدنيا و الآخرة.
[23] وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كما أعطيناك فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ شك مِنْ لِقائِهِ لقائك للكتاب، فأن أهل الكتاب كانوا يشككون المسلمين في أن القرآن ليس كتابا من عند الله وَ جَعَلْناهُ أي كتاب موسى عليه السّلام هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ.
[24] وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ من بني إسرائيل أَئِمَّةً يَهْدُونَ الناس بِأَمْرِنا حيث أمرناهم بالهداية لَمَّا صَبَرُوا جعلناهم أئمة وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ لإمعانهم النظر فيها.
[25] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بين أهل الكتاب المختلفين فيميز المحق من المبطل يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
[26] أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ ألم يسبب هدايتهم ما رأوا و علموا من إهلاك القوم الكافرين كَمْ للكثرة أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ الأمم يَمْشُونَ هؤلاء الكفار فِي مَساكِنِهِمْ حيث يمرون على أراضي عاد و ثمود و قوم لوط إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآياتٍ عبرا أَ فَلا يَسْمَعُونَ سماع تدبر.
[27] أَ وَ لَمْ يَرَوْا آيات قدرتنا حيث أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ ماء المطر أو ماء العيون و الأنهار إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي لا نبات فيها فَنُخْرِجُ بِهِ بواسطة الماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ من ذلك الزرع أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ هذه الآية فيستدلوا بها على عظيم قدرة الله.
[28] وَ يَقُولُونَ أي الكفار مَتى هذَا الْفَتْحُ أي نصر المؤمنين الذي تقولونه، و هذا قالوه على سبيل الاستهزاء إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في كلامكم إن الله ينصركم علينا.
[29] قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ لأن الحرب توجب القتل و الأسر فإذا آمنوا بعد الفتح لم ينفعهم في الأسر وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ إذ لا مهلة بعد الحرب.
[30] فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و لا تصر على دعوتهم بعد أن أظهروا العناد وَ انْتَظِرْ لمجي ء يوم الفتح إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ لأنهم ينتظرون القضاء على المسلمين و انتظر أنت حتى تظهر النتيجة.
تبيين القرآن، ص: 430
مدنية آياتها ثلاث و سبعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ اثبت على تقواك، و هذا مثل (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) «1» وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ فيما يريدون، و لا يخفى أن الإمكان العقلي «2» كاف في الأمر و النهي و فائدته الإعلام للعموم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمصالح و المفاسد حَكِيماً فيما يأمر و ينهى.
[2] وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم على أعمالكم.
[3] وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في أعمالك وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظا لك.
[4] و حيث أن المشركين كانوا يظنون أن بعض الناس لهم قلبين، و أنه إذا قال الرجل لزوجته: أنت كأمي، صارت كأمه، و أنه إذا جعل شخص ولدا لنفسه، صار ولدا حقيقة في الأحكام، جاءت الآية لإنكار الأمور الثلاثة فقال عز و جل: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أي داخله وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي جمع التي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ بأن تقولوا لهن: (أنت عليّ كأمي، أو كظهر أمي) و كان طلاقا جاهليا أُمَّهاتِكُمْ على الحقيقة وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ الدعي هو الذي يدعيه الإنسان ابنا له أَبْناءَكُمْ حتى يجري عليهم حكم الأبناء ذلِكُمْ أي ما تقدم من قولكم في الأمور الثلاثة و (كم) للخطاب قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي مجرد لفظ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ من أنه ليس كما تقولون وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ طريق الحق.
[5] ادْعُوهُمْ أي الأدعياء لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إلى آبائهم الحقيقيين هُوَ أَقْسَطُ أعدل عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فلا تتمكنوا أن تقولوا: يا ابن فلان فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ قولوا لهم: يا أخي وَ مَوالِيكُمْ أي أبناء عمكم، فقولوا لهم: يا ابن عمي وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ حرج فِيما أَخْطَأْتُمْ أي في نسبة المتبنى إلى غير أبيه الحقيقي بِهِ عائد إلى (ما) وَ لكِنْ الإثم ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ بأن تعمدتم نسبتهم إلى غير آبائهم وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر ذنبكم و يرحمكم إذا تبتم عما سلف منكم.
[6] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فإذا أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شيئا منهم وجب عليهم تنفيذه و لا يحق لهم أن يقدموا مطلب أنفسهم على مطلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ كأمهاتهم في وجوب الاحترام و حرمة الزواج بهن بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أُولُوا الْأَرْحامِ ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في الإرث و سائر الشؤون فِي كِتابِ اللَّهِ في حكمه الذي كتبه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فالقريب أولى بقريبه من مؤمنين ليست بينهما قرابة، أو مهاجرين كذلك إِلَّا لكن أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ المؤمنين و المهاجرين مَعْرُوفاً تبرعا بوصية أو غيرها، كان جائزا كانَ ذلِكَ جواز فعل المعروف فِي الْكِتابِ الذي كتبه الله و قدره مَسْطُوراً مكتوبا.
__________________________________________________
(1) سورة الفاتحة: 6.
(2) أي باعتبار الإنسان بما هو انسان، و الا فالمعصوم عليه السّلام لا يمكن أن يعصي أو يخطئ و إن كان قادرا على ذلك.
تبيين القرآن، ص: 431
[7] وَ إِذْ اذكر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زمان أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ عهدهم الأكيد بتبليغ الرسالة وَ أخذنا مِنْكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً شديدا.
[8] و إنما أخذنا الميثاق لِيَسْئَلَ الله الأنبياء عليهم السّلام الصَّادِقِينَ في عهدهم مع الله عَنْ صِدْقِهِمْ عما قالوه لقومهم من الكلام الصادق، أي أخذنا منهم الميثاق لنسألهم عن أنهم هل أدوا الرسالة أو لا وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ الذين لم يقبلوا كلام الأنبياء عليهم السّلام عَذاباً أَلِيماً مؤلما.
[9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ من الكفار، في غزوة الأحزاب فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً تقلع خيامهم و تنشر التراب و الرمل عليهم وَ أرسلنا جُنُوداً من الملائكة لَمْ تَرَوْها بأعينكم وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ لأجل الدفاع بَصِيراً فيجازيكم بما عملتم.
[10] إِذْ جاؤُكُمْ أي الكفار مِنْ فَوْقِكُمْ أعلى الوادي وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أسفل الوادي وَ إِذْ زاغَتِ مالت الْأَبْصارُ عن مواضعها خوفا وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ خوفا، إذ عند شدة الفزع تنتفخ الرئة لتأخذ هواء أكثر لأجل إطفاء الحرارة المتولدة من الخوف، فتضغط الرئة على القلب فيرتفع القلب إلى الحنجرة وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا يظن المخلصون نصرة الله لهم، و المنافقون نصرة الكفار عليهم بتخلي الله عنهم.
[11] هُنالِكَ في ذلك المكان ابْتُلِيَ اختبر الْمُؤْمِنُونَ فظهر المخلص من المنافق وَ زُلْزِلُوا أزعجوا زِلْزالًا شَدِيداً من الخوف و ظهور ضعف العقيدة.
[12] وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف يقين ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ بالنصرة إِلَّا غُرُوراً وعدا باطلا.
[13] وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ من المنافقين كابن أبي و جماعته يا أَهْلَ يَثْرِبَ أي المدينة لا مُقامَ موضع لَكُمْ هاهنا في ساحة الحرب لأن الكفار يغلبونكم فَارْجِعُوا إلى منازلكم في المدينة وَ يَسْتَأْذِنُ يطلب الإذن فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ في أن يرجعوا يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ غير حصينة فنخاف من السارق إن لم نكن فيها وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل حصينة إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً من القتال بهذا العذر السخيف.
[14] وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ أي دخل الكفار على هؤلاء المنافقين مِنْ أَقْطارِها جوانب المدينة ثُمَّ سُئِلُوا أي الكفار من المنافقين الْفِتْنَةَ بأن جاء الكافر إلى المنافق يطلب منه أن يقوم بفتنة لَآتَوْها لأعطوها بدون إبداء الأعذار كما يبدونها لك يا رسول الله وَ ما تَلَبَّثُوا بِها أي لم يمكثوا للإتيان بالفتنة إِلَّا زمانا يَسِيراً و هذا كناية عن أنهم مسرعون إلى الفتنة، أما إلى الجهاد فإنهم يريدون الفرار.
[15] وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ قبل الخندق، عند ما فروا في أحد لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به، و من لم يف به فيجازى على تركه.
تبيين القرآن، ص: 432
[16] قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: إن كان حضر أجلكم لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً إن نفعكم الفرار فرضا لا تُمَتَّعُونَ في الدنيا إِلَّا زمانا قَلِيلًا فلم هذا الخوف من الموت.
[17] قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ يمنعكم مَنْ بأس اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ من يتمكن من أن يمنعه إن أَرادَ الله بِكُمْ رَحْمَةً فالكل بيد الله وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله وَلِيًّا يلي أمورهم وَ لا نَصِيراً ينصرهم.
[18] قَدْ للتحقيق يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ المبطئين عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الجهاد مِنْكُمْ و هم المنافقون وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ المؤمنين هَلُمَّ تعالوا إِلَيْنا و لا تذهبوا إلى الحرب وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ القتال إِلَّا قَلِيلًا إتيانا قليلا، لأنهم منافقون.
[19] أَشِحَّةً بخلاء عَلَيْكُمْ بالمال و المعاونة فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ من حرب أو شبهها رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في أحداقهم كدوران عين الذي يُغْشى عَلَيْهِ تأخذه الغشوة مِنَ جهة الْمَوْتِ فإن الموت غشوة فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ و جاء الأمن و الغنيمة سَلَقُوكُمْ خاصموكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ طوال ذربة طلبا للغنيمة أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ يشاحون المؤمنين على الغنيمة عند القسمة أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا عن إخلاص فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ الخيرية أي لم يقبلها وَ كانَ ذلِكَ الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً سهلا.
[20] يَحْسَبُونَ هؤلاء المنافقون الْأَحْزابَ التي أتت لحرب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَمْ يَذْهَبُوا عن المدينة و قد فرت الأحزاب وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ مرة ثانية يَوَدُّوا تمنى هؤلاء المنافقون لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ خارجون في البادية عند الأعراب، حتى لا يكونوا في المدينة يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي يسألون الناس القادمين من المدينة عن أخباركم ماذا فعلتم مع الأحزاب وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ في المرة الثانية ما قاتَلُوا إِلَّا قتالا قَلِيلًا لأنهم لا يقاتلون عن إيمان.
[21] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ قدوة حَسَنَةٌ في الثبات في الحرب و غيره لِمَنْ كانَ يَرْجُوا ثواب اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً.
[22] وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا الخطب و البلاء ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ في الوعد، بأن الكفار يتكالبون علينا ثم نحن ننتصر عليهم وَ ما زادَهُمْ ما رأوا إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً لأمره تعالى.
تبيين القرآن، ص: 433
[23] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات في الحرب و التسليم لأوامر الله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ مات، أي عمل بما التزم على نفسه، كحمزة (رضي اللّه عنه) حيث قتل وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة كعلي وَ ما بَدَّلُوا العهد تَبْدِيلًا كما بدل المنافقون.
[24] لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ اللام للعاقبة، أي عاقبة هذه الامتحانات جزاء الصادقين بسبب صدقهم وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا، فإن شاء عذبهم بنقضهم العهد و إن شاء تاب عليهم إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
[25] وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي الأحزاب، ئ إلى أماكنهم خائبين بِغَيْظِهِمْ أي مع الغيظ الذي احتملوه بسبب الهزيمة لَمْ يَنالُوا خَيْراً غنيمة من المسلمين، لأنهم لم ينتصروا عليهم وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ لأنه أنزل جنودا من الريح و الملائكة وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا قادرا لما يريد عَزِيزاً لا يغالب.
[26] وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ عاونوا الأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بيان ل (الذين) و المراد بهم قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ حصونهم وَ قَذَفَ ألقى الله فِي قُلُوبِهِمُ أي قلوب قريظة الرُّعْبَ الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ أيّها المسلمون تقتلون فريقا منهم وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً الذراري و النساء.
[27] وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ مزارعهم وَ دِيارَهُمْ حصونهم وَ أَمْوالَهُمْ نقودهم و أثاثهم وَ أورثكم أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بأقدامكم، و هي خيبر وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً فقد نقضت قريظة عهدهم مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين جاء الأحزاب، ثم عاقبهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى قتلهم و أسرهم و أخذ أراضيهم.
[28] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ و كن أردن زيادة النفقة إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا التنعم بها وَ زِينَتَها زخارفها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ أعطيكن متعة الطلاق وَ أُسَرِّحْكُنَّ أطلقكن سَراحاً جَمِيلًا طلاقا بلا خصومة.
[29] وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ طاعة الله وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً في نعيم الجنة.
[30] يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ معصية مُبَيِّنَةٍ ظاهرة قبحها يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي مثلي عذاب غيرها وَ كانَ ذلِكَ تضعيف العذاب عَلَى اللَّهِ يَسِيراً سهلا.
تبيين القرآن، ص: 434
[31] وَ مَنْ يَقْنُتْ يطع الله مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ مثلي أجر غيرها وَ أَعْتَدْنا هيّأنا لَها رِزْقاً كَرِيماً مع التكريم.
[32] يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي لستن كسائر النساء حتى تعملن مثل أعمالهن إِنِ اتَّقَيْتُنَّ خفتن الله فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ بأن تتكلمن مع الرجال تكلما فيه دلال فَيَطْمَعَ فيكن الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ريبة و شهوة وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي تكلمن كلاما بدون لين، فإنه ليس بمنكر.
[33] وَ قَرْنَ أبقين فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ التبرج:
الخروج من البيت مظهرا للزينة تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي الحالة الجاهلية السابقة على الإسلام وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ أعطين الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ و المراد الخمسة الطيبة: محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام كما في متواتر الروايات، و يؤيده الإتيان بضمير الجمع المذكر، و حيث إن المراد بالرجس الذنب كانت الآية دالة على عصمتهم وَ يُطَهِّرَكُمْ عن المعاصي تَطْهِيراً.
[34] وَ اذْكُرْنَ بالقراءة و العمل ما يُتْلى يقرأ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ القرآن وَ الْحِكْمَةِ الشريعة يتلوها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ينزل بها جبرئيل من غير أن يكون قرآنا إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً في تدبير خلقه خَبِيراً عالما و لذا يأمر بما فيه الصلاح.
[35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ من أظهر الإسلام وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ من تعلق بالإيمان عن كل قلبه وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ المطيعين لله وَ الْقانِتاتِ وَ الصَّادِقِينَ في القول و العمل وَ الصَّادِقاتِ وَ الصَّابِرِينَ لما أمر الله وَ الصَّابِراتِ وَ الْخاشِعِينَ الخاضعين لله وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ بما وجب في مالهم وَ الْمُتَصَدِّقاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ عن الحرام وَ الْحافِظاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ أَعَدَّ هيّأ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً غفرانا وَ أَجْراً عَظِيماً في الآخرة، و المراد من جميع هذه الصفات: من الرجال و النساء.
تبيين القرآن، ص: 435
[36] وَ ما كانَ لا يجوز لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى أوجب و حكم اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أن يختاروا خلاف أمر الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يختاران له فَقَدْ ضَلَّ عن الطريق ضَلالًا مُبِيناً ظاهرا.
[37] وَ إِذْ و اذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قصة زيد، فقد تبناه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل نزول الشريعة، ثم لما جاء الإسلام زوجه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بزوجة، فطلقها، فأخذها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأجل أن يبطل حكم الجاهليين بأن زوجة الابن المتبنى مثل زوجة الابن الحقيقي تحرم على الرجل تَقُولُ لِلَّذِي أي زيد أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإيمان وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بأن أعتقته بعد أن كان عبدا أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ احفظها و لا تطلقها، و ذلك حين صارت مخاصمة بينهما و أراد طلاقها وَ اتَّقِ اللَّهَ خف الله في أمرها وَ تُخْفِي يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فِي نَفْسِكَ مَا أي الذي أمرك الله به من تزوجها بعد طلاقه لها لأجل إبطال أمر جاهلي اللَّهُ مُبْدِيهِ يظهره الله سبحانه وَ تَخْشَى النَّاسَ تخافهم أن يعيّروك به وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ و هذا كناية عن عدم الاهتمام بأمر الناس لوضوح أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن عمل شيئا ينبغي له أن يكون خائفا من الله لأجل ذلك العمل فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها من زوجته وَطَراً حاجة، بأن لم يبق له حاجة
فيها فطلقها و تم عدتها زَوَّجْناكَها أمرناك بتزوجها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فتكون توسعة على المؤمنين فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ من جهة جواز تزويج زوجات أولادهم الذين تبنوهم بعد الطلاق و ما أشبه إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ أي لا يكون ضيق و حرج فيما أحلّ الله مَفْعُولًا.
[38] ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فقد سن الله نفي الحرج سنة فِي الأنبياء و المؤمنين الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلُ قبلك وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً قضاء مقضيا.
[39] الَّذِينَ صفة ل (في الذين) يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ أحكامه وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي بالنسبة إلى تنفيذ أحكام الله وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً محاسبا.
[40] ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ فإنه لما تزوج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بزينب قال جماعة من الناس إن محمدا تزوج امرأة ابنه، فجاءت الآية نافية أن يكون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبا لزيد وَ لكِنْ كان رَسُولَ اللَّهِ وَ كان خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً و لذا نفى أبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لرجالكم.
[41- 42] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَ سَبِّحُوهُ نزهوه بُكْرَةً أول الصباح وَ أَصِيلًا آخر النهار.
[43] هُوَ الَّذِي يُصَلِّي يعطف عَلَيْكُمْ بإنزال الرحمة وَ مَلائِكَتُهُ يعطفون عليكم بالدعاء و الاستغفار لكم لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الكفر و الجهل و الرذيلة إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.
تبيين القرآن، ص: 436
[44] تَحِيَّتُهُمْ أي تحية المؤمنين يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يلاقون جزاءه في القبر أو القيامة سَلامٌ يسلّم بعضهم على بعض وَ أَعَدَّ هيأ الله لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً مع تكريم لهم عند إعطاء الأجر.
[45] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على الأمة وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً.
[46] وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ بأمره وَ سِراجاً مصباحا مُنِيراً يفيض النور.
[47] وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا زيادة على ما يستحقون كَبِيراً.
[48] وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ لا تهتم بما يؤذونك وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه يكفيك أذاهم وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا إليه الأمر في الأحوال كلها.
[49] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوا معهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ أيّام تتربص المرأة فيها تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها فَمَتِّعُوهُنَّ أعطوهن متعة و هي ما تطيب خاطرها وَ سَرِّحُوهُنَّ خلوا سبيلهن إذ لا عدة عليهن سَراحاً جَمِيلًا من غير إضرار.
[50] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مهورهن وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ مما أعطاك الله غنيمة وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ بأن جئن من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وَ أحللنا لك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ هبة بدون صداق إِنْ أَرادَ رغب النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها ينكحها خالِصَةً لَكَ أي إن حلية المرأة بلفظ الهبة، خاصة برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلا يحل لغيره النكاح بهذا اللفظ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ من الأحكام المرتبطة بالعقد و غيره، فليست تلك الأحكام اعتباطية صادرة عن جهل وَ في ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الأحكام المرتبطة بالإماء لِكَيْلا متعلق ب (خالصة) يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ضيق في باب النكاح، و ما بين العلة و المعلول جملة معترضة لبيان أن المصلحة اقتضت مخالفة حكمه لحكمهم في ذلك، و السرّ في بعض التوسعات و التضييقات على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن من على عاتقه المهام الكبرى يجب أن يسهّل له في بعض الأمور حتى لا يمنعه الضيق عن مهامه، كما يضيق عليه في بعض الأمور المرتبطة بتلك المهام حتى يتناسب مع تلك المهام وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
بالتوسعة على عباده.
تبيين القرآن، ص: 437
[51] تُرْجِي تؤخر مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ من نسائك فلا تضاجعها وَ تُؤْوِي تضم إلى نفسك بالمضاجعة إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ عطف على (من) ابْتَغَيْتَ طلبت مِمَّنْ عَزَلْتَ أي تركتها بأن تؤويها بعد أن أرجأتها فَلا جُناحَ حرج عَلَيْكَ في ذلك كله ذلِكَ التفويض في أمرهن إلى مشيئتك أَدْنى أقرب إلى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ لاستوائهن في هذا الحكم فلا تفاضل حتى يوجب سخط بعضهن وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فلا تسروا ما يسخطه وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً لا يعاجل بالعقوبة.
[52] لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي بعد النساء اللاتي أحللناهن لك في الآية السابقة وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ كما كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، يتبادل الرجلان زوجاتهم، و الآية عامة و إن كان الخطاب موجها إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ حسن المحرمات عليك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ فإنه تحل و إن كانت فوق العدد وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً مراقبا مطلعا.
[53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ في دخول بيته إِلى طَعامٍ بأن يدعوكم لأجل الطعام. و هذا الحكم مقدمة لما يأتي فادخلوا إذا أذن لكم في حال كونكم غَيْرَ ناظِرِينَ منتظرين إِناهُ إدراك ذلك الطعام، أي لا تدخلوا قبل نضج الطعام فيطول لبثكم وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا تفرقوا و لا تمكثوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ عطف على (ناظرين) أي لا تجلسوا بعد الأكل في حال كونكم مأنوسين بالتحدث في بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّ ذلِكُمْ اللبث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ تضيقه و تضيق أهله بكم فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ بأن يقول لكم اخرجوا وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ و هو إعلامكم بهذا الحكم أي إيجاب خروجكم بعد الطعام وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أي نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَتاعاً حاجة فَسْئَلُوهُنَّ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ يحجب نظركم إلى وجوههن و أيديهن، و قد كانت نساء الجاهلية تحجب غير وجهها و يدها فلما نزلت آية الحجاب حجبت المسلمات وجوههن كما يدل على ذلك قصة الإفك و غيرها ذلِكُمْ أي السؤال
من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ من خواطر الريبة و وسوسة الشيطان وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ بأي نوع من أنواع الأذية وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ بعد وفاته أو طلاقه لهن أَبَداً و هذا حكم خاص بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّ ذلِكُمْ إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانَ عِنْدَ اللَّهِ ذنبا عَظِيماً فلا تتعرضوا له.
[54] إِنْ تُبْدُوا تظهروا شَيْئاً مما نهيتم عنه أَوْ تُخْفُوهُ في أنفسكم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيحاسب عليه.
تبيين القرآن، ص: 438
[55] لا جُناحَ لا ضيق في عدم الحجاب عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ أي المؤمنات، أو المراد كل النساء وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من الإماء، أو مطلقا على قول وَ اتَّقِينَ اللَّهَ فيما كلفكن فلا تخالفن أوامره إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً حاضرا فيجازيكم عليه.
[56] إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ يعطفون بالثناء و الرحمة عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ قولوا: اللهم صل على محمد و آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ سَلِّمُوا لأوامره تَسْلِيماً.
[57] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ بمخالفة أوامره وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن رحمته فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً يذلهم و يهينهم.
[58] وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بدون جرم استحقوا بذلك الأذية فَقَدِ احْتَمَلُوا حملوا بُهْتاناً لأنه كالكذب، هذا إيذاء بدون سبب و ذلك كلام بدون مطابقة للواقع وَ إِثْماً عصيانا مُبِيناً ظاهرا.
[59] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ يرخين على وجوههن و أجسامهن مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ «1» بعض ملاحفهن الفاضل من التلفع «2» ذلِكَ الإدناء أَدْنى أقرب إلى أَنْ يُعْرَفْنَ إنهن حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ لا يؤذيهن أهل الريبة الذين يتعرضون للإماء، فقد كانت الإماء تخرج بادية الوجه فيتعرض لهن الأجلاف فأمرن المؤمنات بالسرّ حفظا لهن عن تعرضهم وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف رَحِيماً بعبده فيأمرهم بما فيه مصالحهم.
[60] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف إيمان و ريبة وَ الْمُرْجِفُونَ الذين يوجبون اضطراب قلوب المؤمنين، لئن لم ينتهوا عن الإرجاف و نشر الأخبار الكاذبة فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي أمرناك بقتلهم و إجلائهم عن البلد ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ لا يساكنونك فِيها في المدينة إِلَّا زمانا قَلِيلًا.
[61] مَلْعُونِينَ مطرودين أَيْنَما ثُقِفُوا وجدوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا أبلغ القتل.
[62] سُنَّةَ اللَّهِ سنّ الله لعنهم و قتلهم سنّة فِي الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلُ قبلك من الذين كانوا يؤذون الأنبياء و المؤمنين وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغييرا بل أمره في الآتي كأمره في الماضي.
__________________________________________________
(1) الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار و دون الرداء، تلويه المرأة على رأسها و يبقى منه ما ترسله على صدرها.
(2) التلفع: التغطية.
تبيين القرآن، ص: 439
[63] يَسْئَلُكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ وقت قيام القيامة قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ فهو وحده يعلم وقتها وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً في وقت قريب.
[64] إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً نارا ملتهبة.
[65] خالِدِينَ باقين فِيها في تلك النار أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم وَ لا نَصِيراً ينصرهم من بأس الله.
[66] يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ تصرف من حال إلى حال «1» فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا قوم لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا حتى لا نعذب.
[67] وَ قالُوا أي الأتباع منهم: يا رَبَّنا في مقام الاعتذار إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا الزعماء و القادة فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا طريق الحق.
[68] رَبَّنا آتِهِمْ أعطهم، أي السادة و الكبراء ضِعْفَيْنِ حصة لهم و حصة لأجل إضلالهم لنا مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً عظيما.
[69] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى بأن قالوا أنه أبرص، و غير ذلك فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أظهر براءته من أكاذيبهم وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه و قدر، فلا تؤذوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[70] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً قاصدا إلى الحق.
[71] فإن فعلتم ذلك يُصْلِحْ الله لَكُمْ أَعْمالَكُمْ بقبوله لها و سدّ الخلل فيها وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ أفلح فَوْزاً عَظِيماً.
[72] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أي الطاعة، و سماها أمانة لأنها واجبة الأداء، أو المراد الأمانة المشهورة عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ امتنعن أَنْ يَحْمِلْنَها و المعنى أن الأمانة لعظمتها بحيث لو عرضت على هذه العظام و كان لها شعور لأبت من حملها، و ذلك لثقلها، أو كناية عن ثقل الأمانة حتى أن أعظم العظام لا تتمكن من تحملها، و هذا من تشبيه المعقول بالمحسوس وَ أَشْفَقْنَ خفن مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ قبل أن يحملها، و القبول إما يراد به ما ركب في طبيعته من تمكن القبول و الأداء، و أما القبول النفسي للأمانات الخارجية إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لنفسه فلا يؤدي الأمانة جَهُولًا بحال نفسه فيظن أنه يتمكن من الأداء و الحال أنه لا يفي بها.
[73] و إنما أعطى الله الأمانة للإنسان للامتحان الذي عاقبته هو لِيُعَذِّبَ اللَّهُ فاللام للعاقبة أو للعلة الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ ما خالفوا ثم تابوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن عصى و تاب رَحِيماً حيث لم يحمل ما لا طاقة للإنسان به.
__________________________________________________
(1) فتصفر و تسود مثلا.
تبيين القرآن، ص: 440
مكية آياتها أربع و خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ لا لغيره ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ كما له الحمد في الدنيا، إذ كل ما في الآخرة أيضا له تعالى وَ هُوَ الْحَكِيمُ في تدبيره الْخَبِيرُ بخلقه.
[2] يَعْلَمُ ما يَلِجُ يدخل فِي الْأَرْضِ كالمطر و الكنز و ما أشبه وَ ما يَخْرُجُ مِنْها من نبات و معدن و نحوهما وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من ملك و ماء و غيرهما وَ ما يَعْرُجُ فِيها في السماء كالعمل و الملك وَ هُوَ الرَّحِيمُ بعباده الْغَفُورُ الساتر عليهم.
[3] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ القيامة قُلْ بَلى تأتيكم وَ رَبِّي قسما بالله لَتَأْتِيَنَّكُمْ الساعة عالِمِ الْغَيْبِ صفة (لربي) و الغيب ما غاب عن الحواس كالروح و العقل لا يَعْزُبُ لا يغيب عَنْهُ مِثْقالُ ثقل ذَرَّةٍ هباءة ترى في النور الداخل من الكوة في الغرفة المظلمة فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ من مثقال ذرة وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ كتبه الله سبحانه و هو اللوح المحفوظ أو غيره مُبِينٍ ظاهر.
[4] لِيَجْزِيَ علة لقوله (لتأتينّكم) الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران لذنوبهم وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ يعطونه مع التكريم.
[5] وَ الَّذِينَ سَعَوْا أخذوا يسعون فِي آياتِنا أي لأجل إبطال آياتنا مُعاجِزِينَ يريدون تعجيزنا عن إتمام الأدلة أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ العذاب السيئ أَلِيمٌ مؤلم.
[6] وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يرى العلماء الَّذِي مفعول أول ل (يرى) أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ مفعول ثان ل (يرى)، أي يرون القرآن حقا وَ يرون أنه يَهْدِي إِلى صِراطِ سبيل الْعَزِيزِ الذي لا يغالب الْحَمِيدِ المحمود في كل أفعاله.
[7] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بعضهم لبعض هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُنَبِّئُكُمْ يخبركم إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرّقت أوصالكم في القبر كل تفرّق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي تبعثون، قالوا هل نريكم من يقول إنكم تبعثون بعد أن تفرقت أوصالكم- قالوا ذلك استنكارا و تعجبا-.
تبيين القرآن، ص: 441
[8] أَفْتَرى أي هل افترى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ جنون يخيل له ذلك البعث بَلِ الأمر صدق و إنما الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ البعث و الجزاء فِي الْعَذابِ في الآخرة وَ الضَّلالِ في الدنيا الْبَعِيدِ عن الحقيقة.
[9] أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي ما أحاط بهم من كل جوانبهم، فيستدلوا بها على قدرته تعالى على كل شي ء إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ فتبلعهم أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً قطعا «1» مِنَ السَّماءِ فتهلكهم إِنَّ فِي ذلِكَ الذي يرونه لَآيَةً دلالة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه فإنه يعرف الآيات.
[10] وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا على سائر الناس إذ قلنا يا جِبالُ أَوِّبِي ارجعي مَعَهُ بالتسبيح وَ الطَّيْرَ فكان إذا سبح عليه السّلام سبحت معه الجبال و الطيور وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ جعلناه لينا في يده كالشمع.
[11] و أمرناه أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ دروعا تامات وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ في نسج الدرع حتى تتناسب حلقها، من التقدير وَ اعْمَلُوا يا داود عليه السّلام و أهلك صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم عليه.
[12] وَ سخرنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها جريها في الصباح شَهْرٌ مقدار مسيرة سير الراكب شهرا وَ رَواحُها أي جريها عصرا شَهْرٌ وَ أَسَلْنا أجرينا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ النحاس المذاب ليعمل منه ما يشاء وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ كما يعمل الإنس بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره تعالى وَ مَنْ يَزِغْ يعدل مِنْهُمْ من الجن عَنْ أَمْرِنا أي طاعة سليمان عليه السّلام الذي أمرنا الجن بطاعته نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي المشتعل.
[13] يَعْمَلُونَ الجن لَهُ لسليمان عليه السّلام ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي المساجد أو القصور وَ تَماثِيلَ المجسمات وَ جِفانٍ جمع جفنة و هي القصعة التي يؤكل فيها كَالْجَوابِ جمع جابية و هي الحوض الكبير فكان يأكل في كل واحدة منها عدد كبير من الناس وَ قُدُورٍ جمع قدر راسِياتٍ ثابتات على أثافيها لأجل الطبخ، ثم قلنا لهم اعْمَلُوا يا آلَ داوُدَ شُكْراً و عمل الشكر عبارة عن الطاعة مقابل قول الشكر الذي هو التلفظ فقط وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ المجتهد في أداء الشكر.
[14] فَلَمَّا قَضَيْنا حكمنا عَلَيْهِ على سليمان عليه السّلام الْمَوْتَ بأن يموت ما دَلَّهُمْ أعلم الجن عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ الأرضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ عصاه لأنه مات متكئا على عصاه و زعم الجن أنه واقف فاستمروا في أعمالهم حتى أكلت الأرضة عصاه فسقط فَلَمَّا خَرَّ سقط سليمان عليه السّلام تَبَيَّنَتِ علمت الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فإن الجن كان يزعم أنه يعلم الغيب فلما ظهر له أن سليمان عليه السّلام مات منذ زمان و لم يعلم بموته، انقشع غروره و علم أنه لو كان يعلم الغيب ما لَبِثُوا ما بقوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ العمل الشاق الذي يهينهم و يذلهم.
__________________________________________________
(1) كسف: جمع كسفة و هي القطعة من الشي ء.
تبيين القرآن، ص: 442
[15] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ لقوم سبأ فِي مَسْكَنِهِمْ باليمن آيَةٌ دالة على قدرة الله تعالى و هي جَنَّتانِ بستانان ممتدان من اليمن إلى الشام عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ يمين السائر و شماله، و قد قلنا لهم كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ نعمه، هذه بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ جميلة نزهة وَ رَبٌّ غَفُورٌ فدنياكم جنة و آخرتكم غفران
[16] فَأَعْرَضُوا عن الشكر فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ المطر و الماء الكثير حتى أباد بلادهم و زروعهم وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ العامرتين جَنَّتَيْنِ خربتين ذَواتَيْ صاحبتي أُكُلٍ ثمر خَمْطٍ مرّ بشع وَ أَثْلٍ الطرفاء و لا ثمر لها وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ نبق قَلِيلٍ الثمر.
[17] ذلِكَ ما فعلنا بهم جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا بسبب كفرهم وَ هَلْ نُجازِي بالجزاء السيّئ إِلَّا الْكَفُورَ الذي يكفر بالنعم.
[18] وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الشام الَّتِي بارَكْنا فِيها بكثرة الأنبياء و الثمار قُرىً ظاهِرَةً ترى كل قرية من القرى الأخرى لاتصال العمران وَ قَدَّرْنا فِيهَا في تلك القرى السَّيْرَ أي كان السير بتقدير لقرب بعضها من بعض لا مبعثرة هنا و هناك بلا حساب و مقدار، و قلنا لهم سِيرُوا فِيها أي في تلك القرى و بينها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ أي في حال كونكم في أمن عن اللص و التعب و الجوع و العطش.
[19] فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا حتى تكون صحارى و نطارد الخيل، و هذا كناية عن عدم شكرهم وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفران فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم فحين تزول النعمة يتحدث الناس عن أهل النعم و كيف زالت دولتهم وَ مَزَّقْناهُمْ فرقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ تمزيقا كاملا، فتفرق أولاد سبأ في مختلف البلاد إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أدلة لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ للنعم، فإن الصابر الشاكر هو الذي يمكن أن يستفيد من الآيات.
[20] وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ على بني آدم إِبْلِيسُ في ظَنَّهُ حيث ظن أنهم يتبعونه فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
[21] وَ ما كانَ لَهُ لإبليس عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ تسلط فلم يجبرهم على العصيان إِلَّا اختيارهم بأنفسهم لاتباعه، و نحن أعطيناهم الاختيار لِنَعْلَمَ ليقع معلومنا في الخارج مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ حتى نجازي كل طائفة حسب عملها وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ يحفظه فيجازي عليه.
[22] قُلِ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للمشركين ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله فهل يستجيبون لكم، ثم أجاب سبحانه بقوله: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ثقلها من خير أو شر فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ لا قدرة لهم في السماء و لا في الأرض وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ لم يشتركوا مع الله في خلق شي ء وَ ما لَهُ لله تعالى مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ معين، بل خلق الكون وحده.
تبيين القرآن، ص: 443
[23] وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ عند الله، ردّ لقول المشركين (هؤلاء شفعاؤنا) إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أن يشفع و هم الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام حَتَّى إِذا فُزِّعَ انكشف الفزع و الخوف عَنْ قُلُوبِهِمْ أي الكفار في الآخرة، أي رجعوا إلى وعيهم قالُوا قال بعضهم لبعض ما ذا قالَ رَبُّكُمْ في باب الشفاعة هل أذن للأصنام و زعماء الكفار بالشفاعة قالُوا أي المسؤول منهم: قال الله الْحَقَّ و هو إذن الصالحين بالشفاعة، فلا نصيب لكم منها وَ هُوَ الْعَلِيُّ بقهره الْكَبِيرُ بعظمته، فلا راد لقوله.
[24] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإذا لم يجيبوا قُلِ اللَّهُ يرزقكم من السماء بإنزال المطر و من الأرض بإخراج النبات وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر، و الترديد لإنصاف الطرف و تدريجه إلى الحق.
[25] قُلْ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للكفار لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا عصينا بزعمكم وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ فليعمل كل حسب عمله حتى يرى جزاءه.
[26] قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ يحكم بَيْنَنا بِالْحَقِّ و أن أينا كان على الحق وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الكثير الحكم الْعَلِيمُ بالواقع و بالحكم.
[27] قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أي الأصنام أَلْحَقْتُمْ بِهِ بالله شُرَكاءَ بأن جعلتموهم شركاء لله كَلَّا ليسوا له بشركاء بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الْحَكِيمُ في تدبيره، و لا شريك له.
[28] وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ كافة: أي جميعا و التاء للمبالغة بَشِيراً للمؤمن وَ نَذِيراً للكافر و العاصي وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
[29] وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وعدكم بجمع الله بيننا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن هناك يوما كذلك.
[30] قُلْ لَكُمْ أيها المنكرون مِيعادُ يَوْمٍ أي وعد يوم، و هو يوم القيامة لا تَسْتَأْخِرُونَ لا تتأخرون عَنْهُ عن ذلك اليوم ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ تتقدمون.
[31] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي الكتب السابقة عليه من التوراة و الإنجيل وَ لَوْ تَرى أيها الرائي ذلك الموقف لرأيت أمرا فضيعا إِذِ زمان الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ للحساب يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يجادلون في دفع العذاب عنهم لأجل أن يحمّل كل الآخر إثم أعماله يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي الأتباع الذين عدهم الأسياد ضعفاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي المتبوعين لَوْ لا أَنْتُمْ تصدوننا عن الحق لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بالله عز و جل.
تبيين القرآن، ص: 444
[32] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى على طريق الإنكار بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الهدى بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ بأنفسكم حيث تركتم الهداية باختياركم.
[33] وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لم يصدنا إجرامنا، بل مكركم لنا دائما ليلا و نهارا إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً شركاء وَ أَسَرُّوا أضمر الفريقان النَّدامَةَ على الضلال و لم يظهروها خوفا من الشماتة لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ جمع غل فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ أي ما يُجْزَوْنَ إِلَّا ما جزاء ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
[34] وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ نبي أو من قام مقامه إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها متنعموها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.
[35] وَ قالُوا أي المترفون نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً منكم فنحن أكرم عند الله وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لأن لنا جاها عند الله.
[36] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يوسعه و يضيقه حسب المصالح لا لكرامة و هوان وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيظنون أن كثرة المال و الأولاد إنما هي للكرامة عند الله.
[37] وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي تقرّبا إِلَّا لكن يقرب إلينا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ جزاء للإيمان و جزاء للعمل الصالح بِما عَمِلُوا بسبب عملهم وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ الطبقات العليا من الجنة آمِنُونَ من المكاره.
[38] وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي يسعون لأجل إبطال آياتنا مُعاجِزِينَ يريدون تعجيز الأنبياء عن الهداية أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ يحضرون لأجل أن يعذّبوا.
[39] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ في وقت وَ يَقْدِرُ لَهُ و يضيق له في وقت آخر وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ في الخير فَهُوَ يُخْلِفُهُ يعطي عوضه عاجلا أو آجلا وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن رزقه كثير و بدون منة.
تبيين القرآن، ص: 445
[40] وَ اذكر يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يجمعهم الله و المراد المشركين جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ الله لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ.
[41] قالُوا أي الملائكة: سُبْحانَكَ أنت منزه عن الشريك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ فإنا نواليك و لا نوالي هؤلاء العبدة، و هذا تبرّؤ منهم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ الشياطين لأن الكفار أطاعوهم في عبادتهم لنا أَكْثَرُهُمْ أي الكفار بِهِمْ بالشياطين مُؤْمِنُونَ و هذا الكلام من الله للملائكة لأجل تبكيت الكفار.
[42] فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ أيها الكفار و معبوداتهم لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا بأن يجلب المعبود لعابده نفعا أو يدفع عنه ضرا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ حيث أنكرتم البعث.
[43] وَ إِذا تُتْلى تقرأ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات قالُوا ما هذا أي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ يمنعكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الأصنام وَ قالُوا ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب مُفْتَرىً بإضافته إلى الله تعالى وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ للقرآن لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر كونه سحرا.
[44] وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها حتى يجدوا فيها الشرك وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يأمرهم بالشرك فلا مستند لهم سوى التقليد و العناد.
[45] وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأن أشركوا و اتبعهم هؤلاء تقليدا وَ ما بَلَغُوا هؤلاء الكفار مِعْشارَ عشر ما آتَيْناهُمْ أعطينا أولئك من المال و القوة، و مع ذلك أخذناهم لما كذبوا الرسل، و هذا تهديد لهؤلاء فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ نكيري و إنكاري لهم حين كذبوا الرسل بأن دمّرناهم.
[46] قُلْ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للكفار: إِنَّما أَعِظُكُمْ أرشدكم بكلمة واحدة فإن تكثير الأمر يوجب تشويش الذهن، و الواحدة هي التفكر في أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و من المعلوم أن تفكيرهم يقودهم إلى قبول الحق إن جانبوا العناد، و الواحدة هي أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ بأن تهتموا بأمر الله، مجانبين الهوى مَثْنى للتشاور إن لم يتمكن من التفكر مفردا وَ فُرادى إن تمكن من التفكر مفردا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ جِنَّةٍ جنون إِنْ هُوَ ما النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا نَذِيرٌ مخوف لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ قبل عَذابٍ شَدِيدٍ هو عذاب الآخرة.
[47] قُلْ لهم يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ على أداء الرسالة فَهُوَ لَكُمْ فإني لا أريد الأجر، و بهذا نفى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما قاله الكفار من أن ادعاء النبوة إما لأجل أنه مجنون، أو لأجل أنه يريد أجرا إِنْ ما أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ مطلع فهو يعلم صدقي.
[48] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ يلقي بِالْحَقِّ إلي عَلَّامُ خبر ثان ل (إن ربي) الْغُيُوبِ.
تبيين القرآن، ص: 446
[49] قُلْ جاءَ الْحَقُّ الإسلام وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ الشرك، أي زهق الباطل فلا يتكلم ببادئه و لا عائده، و هذا كالمثل وَ ما يُعِيدُ.
[50] قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ كما تزعمون فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي فإن وبال الضلال يعود إليّ وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ لأقوالنا قَرِيبٌ منا بالعلم فيعرف المهتدي من الضال.
[51] وَ لَوْ تَرى لرأيت أمرا عظيما إِذْ فَزِعُوا خاف الكفار عند البعث فَلا فَوْتَ فلا يفوتني أحد منهم وَ أُخِذُوا للحساب مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ فإنهم قريب في قدرة الله و إن كانوا في أقاصي الأرض.
[52] وَ قالُوا حينذاك آمَنَّا بِهِ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن وَ أَنَّى من أين لَهُمُ التَّناوُشُ تناول الإيمان بسهولة مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فإنه في دار التكليف و هم في الآخرة بعيدون عن التكليف.
[53] وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ أي بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن مِنْ قَبْلُ في الدنيا وَ يَقْذِفُونَ يرمون الكلام بِالْغَيْبِ بما غاب عن علمهم حيث ينفون البعث و هم جاهلون به مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فإنهم بعداء عن حقيقة الأمر و لذا كلامهم ككلام الإنسان البعيد عن شي ء حيث لا يعلمه.
[54] وَ حِيلَ حال أمر الآخرة بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ مشتهياتهم فإنه ليس لهم في الآخرة إلا النار كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ بموافقيهم في الكفر مِنْ قَبْلُ سابقا حيث كفروا، فلما ماتوا أبعدوا عن مشتهياتهم إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ من الإيمان مُرِيبٍ موجب للتردد في العمل، إذ الشك قد لا يظهر أثره، و قد يظهر.
مكية آياتها خمس و أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ مبدع و خالق السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى الأنبياء عليهم السّلام أُولِي أصحاب أَجْنِحَةٍ مَثْنى جناحان جناحان وَ ثُلاثَ أجنحة وَ رُباعَ أجنحة، ينزلون و يعرجون بها يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يخلق من الملائكة و غيرهم ما يَشاءُ كما و كيفا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
[2] ما يَفْتَحِ يعطي اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ كمال و أولاد فَلا مُمْسِكَ لَها يمنعها عن الوصول إلى الخلق وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ لما أمسك مِنْ بَعْدِهِ بعد إمساكه تعالى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الْحَكِيمُ في تدبيره.
[3] يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ التي من جملتها أنه خلقكم هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإنزال المطر وَ الْأَرْضِ بالنبات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى أين تُؤْفَكُونَ تصرفون إلى الأصنام.
تبيين القرآن، ص: 447
[4] وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فاصبر كما صبروا وَ إِلَى اللَّهِ إلى جزائه تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيجازي المكذب بالعقاب و الصابر بالثواب.
[5] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالجزاء حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأباطيلها حتى تصرفكم عن الآخرة وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان الذي هو كثير الخداع، بأن يجرّئكم على معصية الله وعدا لكم بأنه لا جزاء.
[6] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا عاملوا معه معاملة الأعداء في عدم سماع كلامه إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ اتباعه لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ النار الملتهبة.
[7] الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران لذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ عظيم في الآخرة.
[8] أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ زينت نفوسهم إليهم أعمالهم السيئة فَرَآهُ ظنه حَسَناً كمن ليس كذلك، و الاستفهام لإنكار التسوية فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ يتركه حتى يضل إذا أعرض عن الحق وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ فلا تهلك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نفسك عَلَيْهِمْ على الكفار حَسَراتٍ للحسرات على غيهم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم على سيئاتهم.
[9] وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ تهيج الرياح سَحاباً فَسُقْناهُ أرسلنا ذلك السحاب إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ لا زرع فيه فَأَحْيَيْنا بِهِ بالمطر الْأَرْضَ بالزرع بَعْدَ مَوْتِها باليبس كَذلِكَ كإحياء الأرض بعد موتها النُّشُورُ و البعث.
[10] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً فليطلبها من عنده تعالى بالإيمان و الطاعة إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ جمع كلمة الطَّيِّبُ الحسن وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الله إلى ذاته المقدسة- بمعنى قبوله له- و هذان هما موجبا العزة وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ المنكرات السَّيِّئاتِ لأجل إطفاء الدين و إذلال المسلمين لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ يبطل و لا ينفذ.
[11] وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ فإن التراب يتحول نباتا ثم طعاما ثم دما ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ التي هي المني ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكرا و أنثى وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ فإنه عالم بكل شي ء وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ما يمد في عمر من يصير إلى كبر وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ لمن لا يمتد عمره إلى المقدار المعتاد إِلَّا فِي كِتابٍ اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ الزيادة و النقصان عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل.
تبيين القرآن، ص: 448
[12] وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ حلو فُراتٌ شديد العذوبة سائِغٌ شَرابُهُ هني ء يمر في الحلق بسهولة وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة وَ مِنْ كُلٍّ منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا السمك وَ تَسْتَخْرِجُونَ من البحر حِلْيَةً زينة كاللؤلؤ و المرجان تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ السفينة فِيهِ في البحر مَواخِرَ جمع ماخرة أي تشق الماء شقا لِتَبْتَغُوا تطلبوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله على ذلك.
[13] يُولِجُ يدخل اللَّيْلَ فِي النَّهارِ بتمديد الليل وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بتمديد النهار وَ سَخَّرَ ذلل الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مدة مُسَمًّى قد سمي عند الله تعالى ذلِكُمُ الفاعل لهذه الأشياء اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ القشرة التي في شق النواة.
[14] إِنْ تَدْعُوهُمْ أي الأصنام لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد وَ لَوْ سَمِعُوا فرضا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لعدم قدرتهم على الإنفاع وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ يقرون هناك ببطلان إشراككم إياهم مع الله وَ لا يُنَبِّئُكَ يخبرك مِثْلُ الله الذي هو خَبِيرٍ و قد أخبرك بحالة الأصنام.
[15] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ المحتاجون إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه الْحَمِيدُ المستحق للعبادة.
[16] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يفنيكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ غيركم.
[17] وَ ما ذلِكَ إذهابكم و الإتيان بغيركم عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر.
[18] وَ لا تَزِرُ لا تحمل وازِرَةٌ نفس حاملة للذنب وِزْرَ إثم نفس أُخْرى بل كل عاص يجزى عقاب عصيان نفسه وَ إِنْ تَدْعُ تطلب نفس مُثْقَلَةٌ ثقيلة بالذنب إِلى حِمْلِها أي حمل بعض وزرها لا يُحْمَلْ مِنْهُ من وزره شَيْ ءٌ نائب فاعل ل (لا يحمل) وَ لَوْ كانَ المدعو ذا قُرْبى قريبا للداعي إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي في حال كونهم غائبين عن عذابه، فإن فائدة الإنذار تعود إليهم وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى تطهر فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ لأن فائدة التطهير ترجع إلى نفس المتزكي وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ مرجع الكل إلى جزائه.
تبيين القرآن، ص: 449
[19] وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى الكافر وَ الْبَصِيرُ المؤمن.
[20] وَ لَا الظُّلُماتُ الكفر وَ لَا النُّورُ الإيمان.
[21] وَ لَا الظِّلُّ الثواب وَ لَا الْحَرُورُ النار الحارة و المراد بها العقاب.
[22] وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ المؤمنون وَ لَا الْأَمْواتُ الكفار إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ سماعا نافعا، و هو من لا يعاند الحق وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي الأموات، فإن مثل المعاند مثل الميت الذي لا يسمع سماعا ذا أثر.
[23] إِنْ ما أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ فما عليك إلا الإنذار.
[24] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ ما مِنْ أُمَّةٍ جماعة إِلَّا خَلا مضى فِيها نَذِيرٌ من نبي أو من قام مقامه.
[25] وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ أي هؤلاء الكفار فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم، فاصبر كما صبر الأنبياء عليهم السّلام جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات وَ بِالزُّبُرِ الصحف من دون جمع في كتاب كامل وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ ذي النور، و هو الكتاب الكامل كالتوراة و الإنجيل.
[26] ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري لهم بالعذاب، و هذا تهديد لهؤلاء الكفار.
[27] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أصنافها لونا و شكلا و طعما و خاصية وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ خطط و طرائق بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشدة و الضعف وَ منها غَرابِيبُ جمع غربيب و هو شديد السواد سُودٌ مفسرة ل (غرابيب) أي أن الثمار و الجبال، مختلف ألوانها.
[28] وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كاختلاف الثمار و الجبال كَذلِكَ هكذا إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فاعل (يخشى) فإن الأكثر علما بمخلوقات الله أكثر خوفا منه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغالب غَفُورٌ لمن تاب من عباده.
[29] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ يقرءون كِتابَ اللَّهِ القرآن وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً في حالتي السر و العلن يَرْجُونَ خبر (إن) تِجارَةً تحصيل ثواب بالطاعة لَنْ تَبُورَ لن تهلك.
[30] لِيُوَفِّيَهُمْ اللام للعاقبة، أي يعطيهم كاملا أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم وَ يَزِيدَهُمْ على استحقاقهم مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ لما بدر منهم من السيئات شَكُورٌ لطاعاتهم.
تبيين القرآن، ص: 450
[31] وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ بيان ل (أوحينا) و المراد به القرآن هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السماوية، أي ما تقدمه إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ يرى بواطنهم بَصِيرٌ يرى ظواهرهم.
[32] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي كل كتاب الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الأمة التي اخترناها لحمل الرسالة فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يعملون بالسيئات وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ متوسط في العمل وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ترجح حسناته بِإِذْنِ اللَّهِ بأمره ذلِكَ السابق بالخيرات بالتوفيق له هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي تفضل الله عليهم به.
[33] جَنَّاتُ بدل من (الفضل) عَدْنٍ إقامة، فإن الجنان هي دار الإقامة يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ يزينون فِيها في تلك الجنات مِنْ أَساوِرَ ما يوضع في اليد مِنْ ذَهَبٍ بيان (أساور) وَ لُؤْلُؤاً عطف على محل (أساور) وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ.
[34] وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ هموم الدنيا و أحزان الآخرة إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ لذنوب عباده شَكُورٌ للطاعات.
[35] الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي التي نقيم فيها أبدا مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ إعياء إذ لا مشقة في الجنة.
[36] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ لا يحكم عليهم بالموت فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها حتى يخف حرقهم كَذلِكَ هكذا نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ في الكفر.
[37] وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ يصيحون بأعلى صياحهم فِيها في النار قائلين رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ سابقا من السيئات، فقال لهم توبيخا أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما عمرا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي عمرا طويلا حتى أنكم لو كنتم قابلين للتذكر لاتعظتم وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ الرسول المنذر فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ينصرهم و يدفع العذاب عنهم.
[38] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فلا يخفى عليه شي ء إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بتلك الصدور و محتوياتها.
تبيين القرآن، ص: 451
[39] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ بأن جعلكم خليفة و خلفا لمن تقدمكم فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ جزاء كفره وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً غضبا، فإن تمادي الكافر في الكفر يزيده غضبا من الله وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً خسارة للآخرة.
[40] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أصنامكم التي تدعونها شركاء لله، أخبروني و أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ أجزاء الْأَرْضِ و ما فيها أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ شركة فِي خلق السَّماواتِ فإذا لم يكن لهم شرك في الأرض و لا في السماء فكيف كانوا آلهة أَمْ آتَيْناهُمْ أعطيناهم كِتاباً فيه إنهم شركاء لله فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ حجة مِنْهُ أي من ذلك الكتاب بَلْ هذا و لا ذاك و إنما إِنْ ما يَعِدُ من الوعد الظَّالِمُونَ عباد الأصنام بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً و خداعا فهم يعدون أن في عبادة الأصنام اتخاذ شفعاء عند الله.
[41] إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ يحفظ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا عن محلهما وَ لَئِنْ زالَتا بأن تركهما الله حتى زالتا إِنَّ ما أَمْسَكَهُما حفظهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ بعد الزوال إِنَّهُ كانَ حَلِيماً فلا يعاجل الكفار بالعقوبة غَفُوراً يغفر ذنب من تاب.
[42] وَ أَقْسَمُوا أي الكفار بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي أيمانهم المغلظة لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول منذر لَيَكُونُنَّ أَهْدى أكثر هداية مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الماضية كاليهود و النصارى فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما زادَهُمْ مجي ء النذير إِلَّا نُفُوراً تباعدا عن الحق.
[43] اسْتِكْباراً أي لأجل ما فيهم من الكبر عن الحق فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ أي ما زادهم إلا المكر السيئ ضد الإيمان و أهله وَ لا يَحِيقُ لا يحيط الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي الماكر فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الله و طريقته في الْأَوَّلِينَ المكذبين للرسل حيث عذبهم الله، أي هل ينتظر هؤلاء الكفار عذاب الله فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لا يبدل بالعذاب غيره وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا لا يحول إلى غير مستحقه.
[44] أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا يسافروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حيث يمرون على بلاد عاد و ثمود و قوم لوط و يرون آثارها الخربة وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فاعل ل (يعجزه) و (من) للتبعيض، بأن يكون هناك شي ء يسبب عجز الله عن الانتقام منهم فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بكل شي ء قَدِيراً على ما يشاء.
تبيين القرآن، ص: 452
[45] وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من الذنوب ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ تدب و تتحرك، و لعل المراد بها الإنسان بتقدير (نسمة) وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ أي العصاة إِلى أَجَلٍ وقت مُسَمًّى قد سمي و حدّد فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ وقت حسابهم و هو يوم القيامة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً فيجازيهم حسب أعمالهم.
مكية آياتها ثلاث و ثمانون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يس اسم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو رمز بين الله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي قسما بالقرآن المحكم أحكامه و آياته.
[3] إِنَّكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
[4] عَلى صِراطٍ طريق مُسْتَقِيمٍ يؤدّي بسالكه إلى المطلوب.
[5] نزّل تَنْزِيلَ الله الْعَزِيزِ الذي لا يغالب الرَّحِيمِ بعباده.
[6] لِتُنْذِرَ متعلق ب (تنزيل) قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ إذ آباؤهم لم يكن لهم رسول فَهُمْ غافِلُونَ عن الدين و لذا أرسلناك إليهم.
[7] لَقَدْ حَقَّ ثبت الْقَوْلُ بالعذاب عَلى أَكْثَرِهِمْ أكثر الناس فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ حيث علم الله ذلك أثبت لهم العذاب.
[8] إِنَّا جَعَلْنا حيث تركوا طريق الحق بعد أن عرفوه فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا جمع غل، كالذي في عنقه غل و من أمامه و خلفه سد و على عينه غطاء، حيث لا يبصر شيئا و لا يقدر على شي ء، تشبيه لهم بمن هو هكذا في عدم قبولهم الإيمان فَهِيَ أي الأغلال إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن منتهى الوجه، و الغل الطويل يوجب رفع الرأس إلى فوق كناية عن عدم رؤية أمامه لأن رأسه مرفوع فَهُمْ مُقْمَحُونَ مرفوعو الرأس، يقال قمح البعير إذا رفع رأسه.
[9] وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أمامهم سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ غطيناهم بغطاء فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.
[10] وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لعنادهم في الباطل.
[11] إِنَّما تُنْذِرُ تنفع بإنذارك مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ تدبره و أراد العمل به، و المراد بالذكر: القرآن أو مطلق الموعظة وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ في حال كونه سبحانه غائبا عن حواسه فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ غفران وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ يعطى له مع التكريم.
[12] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى في الآخرة وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا قدم الناس في حياتهم وَ نكتب آثارَهُمْ الباقية بعد مماتهم كالصدقة الجارية وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ أحطنا به و أدرجناه فِي إِمامٍ اللوح المحفوظ مُبِينٍ واضح.
تبيين القرآن، ص: 453
[13] وَ اضْرِبْ لَهُمْ لهؤلاء الكفار مَثَلًا من قصص الأمم السابقة الموجبة للعبرة أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إنطاكية في سوريا إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ رسل عيسى عليه السّلام لهداية الناس.
[14] إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ أوّلا اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما أي كذب أصحاب القرية الرسولين فَعَزَّزْنا قويناهما برسول ثالث جاءهم فَقالُوا أي الرسل إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ.
[15] قالُوا أي أهل القرية ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فلا تصلحون للرسالة وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ وحي و رسالة إِنْ ما أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ.
[16] قالُوا أي الرسل رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ.
[17] وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ التبليغ الْمُبِينُ الظاهر، أما عدم قبولكم فيعود و باله عليكم.
[18] قالُوا أي أهل القرية إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشأّمنا من وجودكم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن ادعائكم الرسالة لَنَرْجُمَنَّكُمْ لنرمينكم بالحجارة وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ يصيبنكم مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[19] قالُوا أي الرسل طائِرُكُمْ شؤمكم مَعَكُمْ أي أنتم سبب شؤمكم لكفركم أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ الاستفهام للإنكار، أي هل وعظنا لكم سبب لرجمكم إيانا و تطيركم بنا، فالجواب محذوف بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ مجاوزون الحد.
[20] وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا آخر الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى يعدو، و هو حبيب النجار قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ.
[21] اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على الرسالة وَ هُمْ مُهْتَدُونَ إلى طريق الحق.
[22] وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي خلقني، أي ما يمنعني عن الهداية وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عند البعث، إذ تردون إلى جزائه.
[23] أَ أَتَّخِذُ استفهام إنكار أي كيف آخذ مِنْ دُونِهِ دون الله آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ أراد بي الرَّحْمنُ بِضُرٍّ بلاء لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ أي شفاعة الأصنام لا تفيدني في إنقاذي من ذلك الضر شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ أي لا تخلصني تلك الأصنام.
[24] إِنِّي إِذاً إذا عبدت الذي لا يفيدني شيئا لَفِي ضَلالٍ انحراف عن الحق مُبِينٍ ظاهر.
[25] إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذي خلقكم فَاسْمَعُونِ فاسمعوا إيماني، ثم إن القوم قتلوا حبيب النجار فأدخله الله الجنة.
[26] قِيلَ و القائل الملائكة: ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ.
[27] بِما غَفَرَ لِي رَبِّي بغفران ربي وَ بما جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ عنده، حتى يسبب ذلك إيمان القوم.
تبيين القرآن، ص: 454
[28] وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ بعد موت حبيب النجار مِنْ جُنْدٍ جيش مِنَ السَّماءِ لأجل محاربتهم وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي ليس من شأننا الإنزال.
[29] إِنْ ما كانَتْ العقوبة التي أنزلنا بهم لكفرهم إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً بأن صاح بهم جبرئيل فأهلكهم فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميتون.
[30] يا حَسْرَةً تحسرا و تحزنا عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و المعنى إن الكفار حقيقون بأن يتحسر عليهم.
[31] أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ للكثرة أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الأمم المكذبة أَنَّهُمْ إي الهالكين إِلَيْهِمْ إلى هؤلاء القوم لا يَرْجِعُونَ فقد انقطعوا عن الدنيا تماما و لا مرجع حتى يتدارك الإنسان ما فرط منه.
[32] وَ إِنْ ما كُلٌّ لَمَّا إلا جَمِيعٌ لَدَيْنا لدى جزائنا في الآخرة مُحْضَرُونَ يحضرون لأجل الحساب.
[33] وَ آيَةٌ دالة على وجود الله و قدرته لَهُمُ لأبصارهم الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ عن النبات أَحْيَيْناها بالنبات و الشجر وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا جنس الحب كالحنطة فَمِنْهُ أي من ذلك الحب يَأْكُلُونَ.
[34] وَ جَعَلْنا فِيها في الأرض جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا أخرجنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ عيون الماء.
[35] لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ فاكهة ما ذكر من الجنات وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ فإنه من عمل الله، لا من عمل أيديهم أَ فَلا يَشْكُرُونَ.
[36] سُبْحانَ أنزه تنزيها الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ الأصناف من النبات و الحيوان و الإنسان و غيرها كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ذكرا و أنثى وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ من الموجودات الكائنة في الكون، مثلا الكهرباء التي لم يعلموها ذلك الوقت، ذكر و أنثى.
[37] وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ كأن النهار جلد على الليل، كالجلد على الحيوان، فإذا سلخ النهار ظهر الليل فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام.
[38] وَ آية لهم الشَّمْسُ في حال كونها تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها منتهى وجودها، إذ في يوم القيامة تبطل الشمس ذلِكَ الجري تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي لا يغالب الْعَلِيمِ بما هو الصلاح.
[39] وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ قدرنا لسيرة مَنازِلَ في السماء حَتَّى عادَ رجع في آخر منازله الثمانية و العشرين كَالْعُرْجُونِ عذق التمر الْقَدِيمِ العتيق في الدقة و القوس و الاصفرار.
[40] لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي يصح و يجوز لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سرعة سيرها، فإن ذلك يفسد نظام الكون وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ بأن يسبقه فيدخل في وقته، فمثلا يرى في وسط النهار مفاجئة الليل وَ كُلٌّ من الشمس و القمر فِي فَلَكٍ دائرة يَسْبَحُونَ يجرون، كما يسبح الإنسان في الماء.
تبيين القرآن، ص: 455
[41] وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم، أما هم و إن كان إركابهم آية أيضا، لكنهم حيث يتمكنون من السباحة كانت القدرة بالنسبة إلى الذرية أظهر فِي الْفُلْكِ السفينة الْمَشْحُونِ المملوء، كيف لا يغوص في الماء و يغرق.
[42] وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مثل الفلك في الماء ما يَرْكَبُونَ في البر و هي الخيل و البغال و الحمير.
[43] وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ في البحر فَلا صَرِيخَ مغيث و منجي لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ لا ينقذهم أحد من الموت.
[44] فإنقاذهم ليس إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا لهم وَ مَتاعاً أي لأجل أن يتمتعوا حسب ما قدر لهم من الحياة إِلى حِينٍ وقت آجالهم.
[45] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ للمشركين اتَّقُوا خافوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ما تقدم عليكم من العذاب الذي نزل على الأمم السابقة وَ ما خَلْفَكُمْ أي النار في الآخرة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا راجين رحمة الله، و الجواب مقدر، أي أعرضوا.
[46] وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ أي أدلة رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فلا يتفكرون فيها حتى يهتدوا.
[47] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أعطاكم من ماله قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا الذين يأمرونهم بالإنفاق أَ نُطْعِمُ أي نعطي المال لطعام مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ فعدم إطعام الله له دليل على أنه تعالى لا يشاء إطعامه فكيف نطعمه نحن إِنْ ما أَنْتُمْ أيها المؤمنون إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح- حسب زعمهم- حيث تأمروننا بإطعامهم.
[48] وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ بالعذاب الذي تعدوننا بأنه ينزل بالكفار، قالوا ذلك استهزاء إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم بنزول العذاب على غير المؤمن.
[49] ما يَنْظُرُونَ ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً من جبرئيل لإهلاكهم كما صاح على الأمم السابقة واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ يختصمون في معاملاتهم و أمورهم.
[50] فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً لأن الصيحة تأخذهم فجأة فلا يقدرون على الوصية وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ لأنهم يموتون حيث تأخذهم الصيحة فلا يقدرون على الرجوع إلى أهلهم.
[51] وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ بوق ينفخ فيه إسرافيل فيحيى كل الناس للبعث فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ القبور إِلى رَبِّهِمْ إلى جزائه يَنْسِلُونَ يسرعون.
[52] قالُوا لما شاهدوا أهوال ذلك اليوم يا وَيْلَنا هلاكا لنا مَنْ بَعَثَنا أحيانا مِنْ مَرْقَدِنا محل نومنا أو موتنا، ثم قالوا هذا البعث ما وَعَدَ الرَّحْمنُ حال كوننا في الدنيا وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ في كلامهم بالحشر.
[53] إِنْ ما كانَتْ النفخة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً و في ذلك دلالة على أن الأمر سهل لله سبحانه فَإِذا هُمْ بمجرد الصيحة جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ حاضرون لأجل الحساب.
[54] فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بزيادة العقاب أو نقص الثواب وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما أي جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
تبيين القرآن، ص: 456
[55] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ متنعمون.
[56] هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ زوجاتهم الدنيوية و الحورية فِي ظِلالٍ جمع ظل، و المراد عدم إصابتهم الشمس عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة و هي السرير مُتَّكِؤُنَ في حالة الراحة.
[57] لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ أنواع الثمار وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ ما يطلبون من أنواع النعم.
[58] سَلامٌ لهم قَوْلًا يقال لهم مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ بهم، أي يقال لهم: سلامة لكم من الله عز و جل.
[59] وَ يقال للكفار: امْتازُوا تميزوا عن المؤمنين في هذا الْيَوْمَ و يقال لهم أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ.
[60] أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ألم آمركم على لسان رسلي يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ لا تطيعوه إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
[61] وَ أَنِ اعْبُدُونِي وحدي هذا عبادتي وحدي دون شريك صِراطٌ طريق مُسْتَقِيمٌ لا اعوجاج فيه.
[62] وَ لَقَدْ أَضَلَّ الشيطان مِنْكُمْ جِبِلًّا خلقا كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ حتى تحفظوا أنفسكم عن إضلاله.
[63] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في دار الدنيا.
[64] اصْلَوْهَا ذوقوا حرها الْيَوْمَ بسبب ما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
[65] الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ حتى لا يقدروا على الكلام، و هذا موقف من مواقف القيامة و ذلك حين يكذبون في أقوالهم و لا يقبلون بالشهود و لا بكتابهم وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ بما عملوا وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فإن الله ينطق جوارحهم لتشهد عليهم بسيئاتهم.
[66] وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أعميناها طمسا أي محوا لمكانها فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي انحرفوا عن الطريق الذي كانوا يسلكونه فَأَنَّى فكيف يُبْصِرُونَ بعد إعمائهم.
[67] وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ قردة و خنازير عَلى مَكانَتِهِمْ مع عظم شرفهم الظاهري فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا إلى المقصد وَ لا يَرْجِعُونَ إلى أهلهم إذ الممسوخ لا يكون له مقصد و أهل.
[68] وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نطيل عمره نُنَكِّسْهُ نقلبه فِي الْخَلْقِ بنقص بنيته و ضعف قوته أَ فَلا يَعْقِلُونَ أي من يقدر على ذلك يقدر على إحياء الموتى و الطمس و المسخ.
[69] وَ ما عَلَّمْناهُ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشِّعْرَ حيث كانوا يقولون إنه شاعر وَ ما يَنْبَغِي لَهُ أن يقول الشعر إِنْ ما هُوَ القرآن إِلَّا ذِكْرٌ تذكرة و موعظة وَ قُرْآنٌ يقرأ مُبِينٌ واضح.
[70] لِيُنْذِرَ يخوف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا فإن الغافل كالميت وَ يَحِقَّ أي يحق و يثبت الْقَوْلُ بالعذاب عَلَى الْكافِرِينَ فإن الاستحقاق إنما يكون عقب الإنذار و إتمام الحجة.
تبيين القرآن، ص: 457
[71] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي الكفار، ليعتبروا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ لمنافعهم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا مما أحدثناه و خلقناه، و إسناد العمل إلى اليد استعارة أَنْعاماً الإبل و البقر و الغنم فَهُمْ لَها مالِكُونَ بتمليكنا إياهم.
[72] وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ صيرناها منقادة لهم فَمِنْها رَكُوبُهُمْ يركبون عليها وَ مِنْها يَأْكُلُونَ لحمها.
[73] وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ كالانتفاع بالجلد وَ مَشارِبُ من لبنها أَ فَلا يَشْكُرُونَ الله بإعطائهم هذه النعم.
[74] وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ تنصرهم الآلهة في حروبهم.
[75] لا يَسْتَطِيعُونَ أي الآلهة نَصْرَهُمْ نصر المشركين وَ هُمْ المشركون لَهُمْ للآلهة جُنْدٌ خدم مُحْضَرُونَ حاضرون لأنهم يخدمون الآلهة.
[76] فَلا يَحْزُنْكَ يا رسول الله قَوْلُهُمْ الباطل إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ يخفون من الكلام وَ ما يُعْلِنُونَ يظهرون فنجازيهم عليه.
[77] أَ وَ لَمْ يَرَ يعلم الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ من المني فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مخاصم لنا مُبِينٌ ظاهر، فبدل شكره يكون خصما لله تعالى.
[78] وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا في إنكار البعث بالعظم البالي وَ نَسِيَ خَلْقَهُ من النطفة، و أن القادر على تبديل النطفة إلى الإنسان قادر على تبديل العظم البالي إلى الإنسان قالَ في مثله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ بالية.
[79] قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ فهو قادر على الخلق وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ عالم فلا يضيع أجزاء الإنسان البالية.
[80] الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً المرخ و العفار، إذا صك أحدهما بالآخر خرج منه النار، أو أن الشجر ينقلب إلى اليابس الذي يشتعل فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ تخرجون النار منه، فمن قدر على إخراج النار من الشجر الأخضر قادر على البعث.
[81] أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بأن يعيدهم بعد الموت، فإن الخلق ثانيا مثل الخلق أولا بَلى قادر على ذلك وَ هُوَ الْخَلَّاقُ فيقدر على الخلق الْعَلِيمُ فيعلم أجزاءه المتفرقة.
[82] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ف (كن) أمره فَيَكُونُ ما أراده.
[83] فَسُبْحانَ أنزهه تنزيها الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السلطة و الملك على كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ إلى جزائه تُرْجَعُونَ في يوم القيامة.
تبيين القرآن، ص: 458
مكية آياتها مائة و اثنتان و ثمانون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ الصَّافَّاتِ قسما بالملائكة المصطفين لإطاعة أوامر الله صَفًّا تأكيد له.
[2] فَالزَّاجِراتِ التي تزجر السحاب و تسوقه زَجْراً.
[3] فَالتَّالِياتِ لكتب الله ذِكْراً.
[4] إِنَّ جواب القسم إِلهَكُمْ لَواحِدٌ.
[5] رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ فإن للشمس في كل يوم مشرقا.
[6] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا القريبة منكم بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ فإن الكواكب مزينة لنا.
[7] وَ جعلنا الكواكب حِفْظاً حافظا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ خبيث، فإن من سمع منهم كلاما من السماء رمي بالشهاب.
[8] لا يَسَّمَّعُونَ لا يستمعون إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى الملائكة، خوفا منهم وَ يُقْذَفُونَ يرمون مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء.
[9] دُحُوراً أي لأجل الدحر و الطرد وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ دائم في الآخرة.
[10] إِلَّا استثناء من واو في (لا يسمعون) مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ أي استرق من كلام الملائكة خطفة بسرعة فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ هو النيزك ثاقِبٌ يثقب الجو فيلحقه و يهلكه.
[11] فَاسْتَفْتِهِمْ أي سلهم، احتجاجا أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً من السماء و ما فيها، فإن الخالق للأشد قادر على بعث الأضعف لأنه قسم من الخلق أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ملتصق، فهم في اللين و الضعف.
[12] بَلْ عَجِبْتَ من إنكارهم المعاد وَ يَسْخَرُونَ منك.
[13] وَ إِذا ذُكِّرُوا بما يدل على الحشر لا يَذْكُرُونَ لا يتعظون.
[14] وَ إِذا رَأَوْا آيَةً معجزة يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية.
[15] وَ قالُوا إِنْ ما هذا الكلام أي القرآن إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر السحرية.
[16] أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً بأن تبدل لحمنا ترابا وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ في يوم القيامة.
[17] أَ وَ يبعث آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
[18] قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون.
[19] فَإِنَّما هِيَ البعثة زَجْرَةٌ صيحة و نفخة واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ أحياء يَنْظُرُونَ ينتظرون ماذا يفعل بهم.
[20] وَ قالُوا يا وَيْلَنا هلاكنا هذا يَوْمُ الدِّينِ يوم الجزاء.
[21] هذا يَوْمُ الْفَصْلِ القضاء الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا فتقولون إنه كذب.
[22- 23] و يقول الله للملائكة احْشُرُوا اجمعوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و الشرك وَ أَزْواجَهُمْ أي أشباههم، فعابد الصنم مع مثله، و عابد الكوكب مع مثله، أي الذين اتبعوا طريقتهم، أو كبارهم مع أتباعهم وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ عرّفوهم إِلى صِراطِ طريق الْجَحِيمِ النار.
[24] وَ قِفُوهُمْ في الموقف إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم و أعمالهم.
تبيين القرآن، ص: 459
[25] ثم يقال لهم ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضا.
[26] بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون حيث يرون القوة الهائلة.
[27] وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ الأتباع عَلى بَعْضٍ المتبوعين يَتَساءَلُونَ يتلاومون.
[28] قالُوا أي الأتباع إِنَّكُمْ أيها السادة كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ عن طريق الحلف لنا بأنكم على حق و تخدعوننا بذلك.
[29] قالُوا أي السادة بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إنكم بأنفسكم كنتم ضالين فإنا لم نسبب ضلالكم.
[30] وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ سلطة نقهركم على الكفر بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ بأنفسكم و لذا لم تتبعوا الحق.
[31] فَحَقَّ فثبت عَلَيْنا جميعا قَوْلُ رَبِّنا و هو إِنَّا لَذائِقُونَ العذاب، حيث أنذر الله تعالى أن من كفر يذوق العذاب.
[32] فَأَغْوَيْناكُمْ أي دعوناكم إلى الضلال إِنَّا كُنَّا غاوِينَ حيث أحببنا أن تكونوا مثلنا.
[33- 34] فَإِنَّهُمْ أي السادة و الأتباع يَوْمَئِذٍ يوم القيامة فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الضلال في الدنيا. إِنَّا كَذلِكَ هكذا نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالشرك.
[35] إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: قولوا لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ يتكبرون عن التوحيد.
[36] وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا نترك الأصنام لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يقصدون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[37- 38] بَلْ جاءَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْحَقِّ لا بالشعر و لا بكلام المجانين وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ فكلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يطابق كلامهم عليهم السّلام. إِنَّكُمْ أيها المشركون لَذائِقُوا تذوقون الْعَذابِ الْأَلِيمِ المؤلم.
[39] وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما أي جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[40] و هذا حال الناس إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لعبادته.
[41] أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ عند الله، و من له رزق معلوم في كمال الراحة.
[42] فَواكِهُ يتفكهون بها وَ هُمْ مُكْرَمُونَ يكرمهم الله.
[43] فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ذات النعمة.
[44] عَلى سُرُرٍ جمع سرير في حال كونهم مُتَقابِلِينَ بعضهم لبعض، يمتع بعضهم بكلام الآخر و لقائه.
[45] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ أي تقدّم الملائكة لهم الكأس التي فيها مِنْ خمر مَعِينٍ جار.
[46] بَيْضاءَ من صفائها لَذَّةٍ لذيذة لِلشَّارِبِينَ.
[47] لا فِيها غَوْلٌ فساد كما في خمر الدنيا وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون.
[48] وَ عِنْدَهُمْ زوجات قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرت أعينهن على أزواجهن عِينٌ جمع عيناء أي واسعات العيون.
[49] كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ مصون محفوظ عن الفساد فيبقى على صفائه و بياضه.
[50] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يتحادثون.
[51] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ جليس في الدنيا.
تبيين القرآن، ص: 460
[52] يَقُولُ لي توبيخا: أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بالبعث.
[53] أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ مجزيون.
[54] ثم قالَ ذلك القائل لجلسائه: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ هل تحبون الاطلاع على النار فأريكم ذلك الجليس.
[55] فَاطَّلَعَ عليه فَرَآهُ رأى قرينه الدنيوي فِي سَواءِ الْجَحِيمِ في وسطها.
[56] قالَ مخاطبا لقرينه تَاللَّهِ و الله إِنْ مخففة من الثقيلة كِدْتَ قربت لَتُرْدِينِ لتهلكني بإغوائك.
[57] وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي بأن لطف بي فحفظني لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ في النار.
[58] ثم يوجه الكلام إلى الكفار أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ أ نخلّد في الدنيا إلى الأبد حتى أنتم تنكرون الآخرة.
[59] إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كنّا ميتين قبل إحيائنا وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على الكفر.
[60] إِنَّ هذا الفوز بالجنان لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
[61] لِمِثْلِ هذا الفوز فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ.
[62] أَ ذلِكَ المذكور من الثواب خَيْرٌ نُزُلًا ما يعد للضيف من المأكول و نحوه أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ التي هي نزل أهل النار.
[63] إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً عذابا في الآخرة لِلظَّالِمِينَ في الدنيا.
[64] إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ في قعرها.
[65] طَلْعُها حملها و ثمرها في البشاعة كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ.
[66] فَإِنَّهُمْ أهل النار لَآكِلُونَ مِنْها من تلك الشجرة فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ لشدة جوعهم.
[67] ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي بعد الأكل إذا عطشوا، لمرارة تلك الثمرة لَشَوْباً أي شرابا من الصديد «1» المشوب بماء مِنْ حَمِيمٍ الحار.
[68] ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ رجوعهم بعد ذلك الأكل و الشرب لَإِلَى الْجَحِيمِ النار، أي لا مخلص لهم منها.
[69] إِنَّهُمْ أَلْفَوْا و جدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ.
[70] فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ يسرعون في الضلال.
[71] وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك يا رسول الله أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ.
[72] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ رسلا مخوفين لهم.
[73] فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ الأمم الذين خوفوا فلم ينفعهم الإنذار كانت عاقبتهم العذاب.
[74] إِلَّا الذين قبلوا الإنذار عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لطاعته.
[75] وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ بأن ننصره فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ له نحن.
[76] وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أذى القوم له.
__________________________________________________
(1) الصديد: القيح و الدم، أو ما يسيل من جلود أهل النار.
تبيين القرآن، ص: 461
[77] وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ أولاد نوح عليه السّلام هُمُ الْباقِينَ لأن ما سواهم هلكوا.
[78] وَ تَرَكْنا أبقينا عَلَيْهِ على نوح عليه السّلام بإبقاء ذكره و نسله فِي الْآخِرِينَ من الأمم.
[79] سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ فإن الناس يسلمون عليه إلى الأبد و يقدرونه.
[80- 81] إِنَّا كَذلِكَ هكذا نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.
[82] ثُمَّ لترتيب الكلام أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ كفار قومه.
[83] وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ ممن شايعه في طريقته لَإِبْراهِيمَ.
[84] إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من آفات القلوب كالكفر و الرذيلة.
[85] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ عمه وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ.
[86] أَ إِفْكاً آلِهَةً أي تريدون عبادة آلهة بالكذب دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ.
[87] فَما ظَنُّكُمْ بأن يفعل بكم رب الْعالَمِينَ.
[88] فَنَظَرَ إبراهيم عليه السّلام نَظْرَةً فِي النُّجُومِ للتعرف على أحوال نفسه من النجوم.
[89] فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ أي سأسقم في يوم عيدكم و لا أتمكن أن أخرج معكم.
[90] فَتَوَلَّوْا أعرضوا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ذاهبين خارج البلد إلى عيدهم.
[91] فَراغَ ذهب إبراهيم عليه السّلام خفية إِلى آلِهَتِهِمْ إلى الأصنام فَقالَ استهزاء بالأصنام أَ لا تَأْكُلُونَ.
[92] ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ بجوابي.
[93] فَراغَ فمال عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ باليد اليمنى لأنها أقوى.
[94] فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ إلى إبراهيم عليه السّلام يَزِفُّونَ يسرعون ليستنطقوه في كسر أصنامهم.
[95] قالَ إبراهيم عليه السّلام توبيخا لهم: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي تنحتونه من الأصنام.
[96] وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ من الأصنام فلا تعبدون الخالق و تعبدون المخلوق.
[97] قالُوا ابْنُوا لَهُ لإبراهيم عليه السّلام بُنْياناً محوطة لتملئوها نارا، ثم تلقون إبراهيم عليه السّلام فيها فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ النار.
[98] فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً تدبيرا لحرقه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ بأن أهلكناهم و نجينا إبراهيم عليه السّلام منهم.
[99] وَ قالَ إبراهيم عليه السّلام لما يئس منهم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي مهاجر من بلاء الكفر إلى المكان الذي أمرني ربي سَيَهْدِينِ أي يهديني ربي إلى ما فيه صلاح ديني و دنياي.
[100] رَبِّ هَبْ لِي ولدا مِنَ الصَّالِحِينَ.
[101] فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ ولد حَلِيمٍ ذي حلم و هو إسماعيل عليه السّلام.
[102] فَلَمَّا بَلَغَ الغلام مَعَهُ مع أبيه السَّعْيَ أن يسعى في أموره قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى هل توافق على أن أذبحك أو لا قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح.
تبيين القرآن، ص: 462
[103] فَلَمَّا أَسْلَما أي الأب و الابن لأمر الله وَ تَلَّهُ ألقاه إبراهيم عليه السّلام لِلْجَبِينِ على وجهه على الأرض، و جواب لمّا محذوف، أي كان ما كان.
[104- 105] وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا بأن عملت ما هو مربوط بك، أما عدم ذبح الولد فلم يك مقدورا لإبراهيم عليه السّلام لأن القطع إنما هو بإذن الله إِنَّا كَذلِكَ هكذا بإعطائه درجة المطيع من دون وصول أذى إليه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
[106] إِنَّ هذا الأمر بالذبح لَهُوَ الْبَلاءُ الامتحان الْمُبِينُ الظاهر.
[107] وَ فَدَيْناهُ أي إسماعيل عليه السّلام بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فقد جاء كبش من الجنة فذبحه إبراهيم عليه السّلام عوض إسماعيل عليه السّلام و ما أعظمها من كرامة، و في التأويل إنه عوّض بالحسين عليه السّلام.
[108] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ على إبراهيم عليه السّلام ذكرا حسنا فِي الْآخِرِينَ الأمم المتأخرة.
[109- 113] سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَ بارَكْنا عَلَيْهِ على إبراهيم عليه السّلام وَ عَلى إِسْحاقَ بأن أخرجنا من ذريتهما الأنبياء عليهم السّلام وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ على نفسه و هم المؤمنون الطائعون وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر و المعاصي مُبِينٌ بيّن الضلال و الظلم.
[114] وَ لَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا عَلى مُوسى وَ هارُونَ.
[115] وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من أذى فرعون.
[116] وَ نَصَرْناهُمْ موسى و هارون عليهما السّلام و قومهما فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون و قومه.
[117] وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ التوراة الْمُسْتَبِينَ البين.
[118- 122] وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.
[123- 124] وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ الكفر و المعاصي، على نحو استفهام الإرشاد.
[125] أَ تَدْعُونَ تعبدون بَعْلًا صنما كانوا يعبدونه يسمى البعل، أو البعل في لغته بمعنى الرب وَ تَذَرُونَ تتركون عبادة أَحْسَنَ الْخالِقِينَ.
[126] اللَّهَ بدل من (أحسن) رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ.
تبيين القرآن، ص: 463
[127] فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ يوم القيامة للحساب.
[128- 129] إِلَّا استثناء من (كذبوه) عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ.
[130- 132] سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ لغة في إلياس إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ و في التأويل إن ياسين اسم النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله أهل بيته عليهم السّلام.
[133- 135] وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً زوجته الكافرة فِي الْغابِرِينَ الباقين الذين أهلكوا بالعذاب.
[136] ثُمَّ دَمَّرْنَا أهلكنا بعد نجاة لوط عليه السّلام الْآخَرِينَ .
[137- 138] وَ إِنَّكُمْ يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ على منازلهم القريبة من الشام مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ صباحا و مساء عند سفركم إلى الشام أَ فَلا تَعْقِلُونَ تعتبرون بهم.
[139- 140] وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ هرب من قومه إِلَى الْفُلْكِ السفينة الْمَشْحُونِ المملوء من الناس.
[141] فَساهَمَ فقارع، لأن السفينة أشرفت على الغرق فرأوا أنهم إن طرحوا واحدا في البحر لم يغرق الباقون فاقرعوا و خرجت القرعة باسم يونس عليه السّلام فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ المغلوبين بالقرعة فألقي في البحر.
[142] فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ابتلعه وَ هُوَ مُلِيمٌ مستحق اللوم لأنه خرج من قومه من غير أمر ربه و كان ذلك ترك الأولى.
[143] فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ في بطن الحوت.
[144] لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ بطن الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ بأن صار بطنه قبرا له إلى يوم القيامة، أي لم يخرج منه حيّا.
[145] فَنَبَذْناهُ طرحناه بِالْعَراءِ بالصحراء وَ هُوَ سَقِيمٌ مريض من جراء حبسه في بطن الحوت.
[146] وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ القرع فغطته بأوراقها.
[147] وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ إنسان أَوْ بمعنى الواو يَزِيدُونَ على هذا العدد.
[148] فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ آجالهم فلم يأخذهم العذاب.
[149] فَاسْتَفْتِهِمْ سل قومك، توبيخا لهم أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ إذ قال المشركون إن الملائكة بنات الله وَ لَهُمُ الْبَنُونَ بأن يولد لهم الابن.
[150] أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ حاضرون وقت خلقهم.
[151] أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ كذبهم لَيَقُولُونَ.
[152] وَلَدَ اللَّهُ صارت له أولاد وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم.
[153] أَصْطَفَى أي هل اختار الله الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ و الاستفهام للإنكار.
تبيين القرآن، ص: 464
[154] ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بما لا يقبله عقل و لا دليل لكم عليه.
[155] أَ فَلا تَذَكَّرُونَ إنه سبحانه منزه عن ذلك.
[156] أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ حجة مُبِينٌ ظاهرة بأن الله ولد البنات.
[157] فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الدال على قولكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم.
[158] وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ بين الله وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ الجن نَسَباً قالوا إن الله صاهر الجن فوجدت الملائكة وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ للحساب، و لو كان بينهم و بين الله نسبا لم يحاسبهم للجزاء.
[159] سُبْحانَ اللَّهِ أنزهه تنزيها عَمَّا يَصِفُونَ يصفونه من الولد و الزوجة.
[160] إِلَّا استثناء عن (يصفون) فإن المخلصين لم يصفوا الله بالوصف الباطل عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لطاعته.
[161] فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ من الأصنام.
[162] ما أَنْتُمْ أيها الكفار عَلَيْهِ على الله بِفاتِنِينَ بمفسدين الناس.
[163- 164] إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ يصلي النار أي أن الذين يتمكن الكفار و أصنامهم إفساده و إضلاله هم الذين سبق في علم الله إنهم أصحاب الجحيم. وَ ما مِنَّا معاشر الملائكة، و هذا كلامهم ردّا على قول الكفار إن الملائكة بنات الله إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ من الطاعة لا يتمكن أن يتجاوزه.
[165- 166] وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ حول العرش أو نصطف للعبادة. وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزهون لله تعالى.
[167- 169] وَ إِنْ مخففة من الثقيلة كانُوا لَيَقُولُونَ أي كفار مكة لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً كتابا مِنَ الْأَوَّلِينَ من كتبهم بأن نزل علينا كتاب مثل كتبهم. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لطاعته.
[170] فلما أنزل عليهم الكتاب كفروا به و تبين كذبهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.
[171] وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا وعدنا بالنصر لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ.
[172] إِنَّهُمْ مفسر ل (كلمتنا) لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ننصرهم على أعدائهم.
[173] إِنَّ جُنْدَنا و هم المؤمنون هُمُ الْغالِبُونَ على أعدائهم.
[174] فَتَوَلَّ أعرض يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ حين تؤمر بقتالهم.
[175] وَ أَبْصِرْهُمْ بالأصول و الشرائع فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ يرون حقية ما قلت لهم.
[176] أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فإنهم كانوا يقولون لو أنك صادق ائتنا بالعذاب، و الاستفهام للتهديد.
[177- 178] فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ بفناء دارهم فَساءَ بئس صَباحُ الْمُنْذَرِينَ صباحهم، فإن الغارة غالبا كانت قبل الصباح. وَ تَوَلَّ أعرض عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ حين تؤمر بقتالهم.
[179] وَ أَبْصِرْ أي أبصرهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ.
[180- 181] سُبْحانَ رَبِّكَ تنزيها لربك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَبِّ الْعِزَّةِ الذي له كل عزة عَمَّا يَصِفُونَ يصف الكفار الله به من الأولاد و الشريك و الزوجة. وَ سَلامٌ تحية عَلَى الْمُرْسَلِينَ.
[182] وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أنعم رَبِّ الْعالَمِينَ كل عالم من عوالم الكون.
تبيين القرآن، ص: 465
مكية آياتها ثمان و ثمانون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] ص رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْقُرْآنِ قسما بالقرآن ذِي الذِّكْرِ الذي يذكر الناس بالله و الآخرة.
[2] لم يكفر من كفر بالقرآن لخلل فيه بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ استكبار عن الحق وَ شِقاقٍ خلاف يريدون به مخالفة الله.
[3] كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ جماعة و أمة، و هذا تهديد للكفار فَنادَوْا بالاستغاثة عند إهلاكهم وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ و ليس الحين- أي حين نزول العذاب- حين مناص و خلاص، لأن العذاب إذا نزل لا يرجع.
[4] وَ عَجِبُوا أي الكفار أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ نبي مِنْهُمْ من أنفسهم لا أجنبي عنهم وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ساحِرٌ كَذَّابٌ كثير الكذب.
[5] أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن قال ببطلان كل الآلهة إلا الله إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ بليغ في التعجب.
[6- 7] وَ انْطَلَقَ تكلم الْمَلَأُ الأشراف مِنْهُمْ قال بعضهم لبعض أَنِ امْشُوا في طريقكم الشركي وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ عبادتها إِنَّ هذا الأمر و هو الشرك لَشَيْ ءٌ يُرادُ منا فلا يجوز لنا أن نعدل إلى غيره. ما سَمِعْنا بِهذا أي بالتوحيد فِي الْمِلَّةِ الدين الْآخِرَةِ أي ما أدركنا عليه آباءنا من الدين إِنْ هذا ما هذا التوحيد إِلَّا اخْتِلاقٌ كذب.
[8] أَ أُنْزِلَ كيف أنزل عَلَيْهِ على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذِّكْرُ القرآن مِنْ بَيْنِنا و لم ينزل علينا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي فلا يحملهم على هذا الكلام إلا الشك، أي ليسوا بمتيقنين ببطلانه بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ لم يذوقوا عذابي بعد، فإذا ذاقوا زال شكهم.
[9] أَمْ هل عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ التي من جملتها النبوة حتى لا يعطوها النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنما يعطوا النبوة لإنسان آخر الْعَزِيزِ الغالب الْوَهَّابِ ما يشاء لمن يشاء.
[10] أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا أي إن زعموا ذلك فليصعدوا فِي الْأَسْبابِ في المعارج الموصلة إلى السماء ليأتوا بالوحي إلى من يختاروا، فإن لم يكن لهم ملك السماوات و الأرض فلما ذا يتحكمون في الاعتراض على أنه لما ذا نزل الوحي على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[11] جُنْدٌ ما أي إن الكفار جند و جماعته قليلون هُنالِكَ أيضا للتحقير، كما أن (ما) للتحقير مَهْزُومٌ عما قريب مِنَ الْأَحْزابِ فمن أين لهم التدابير الإلهية و التحكم في شؤون الوحي.
[12] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ فإنه كان يعذب الناس بشدهم بالأوتاد.
[13] وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي الذين كانوا في قرب الشجرة الملتفة و هم قوم شعيب أُولئِكَ الْأَحْزابُ الذين تحزبوا على الرسل و كان منهم هذا الجند المنهزم.
[14] إِنْ ما كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ فثبت عِقابِ عقابي عليهم.
[15] وَ ما يَنْظُرُ لا ينتظر هؤُلاءِ الكفار إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً نفخة لقبض أرواحهم ما لَها مِنْ فَواقٍ توقف.
[16] وَ قالُوا أي الكفار رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قسطنا من العذاب قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ و هذا قالوه على سبيل الاستهزاء.
تبيين القرآن، ص: 466
[17] اصْبِرْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى ما يَقُولُونَ هؤلاء الكفار وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي القوة إِنَّهُ أَوَّابٌ كثير الرجوع إلى الله.
[18] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ مع داود عليه السّلام فإذا سبح يُسَبِّحْنَ معه بِالْعَشِيِّ عصرا وَ الْإِشْراقِ صبحا.
[19] وَ سخرنا الطَّيْرَ معه مَحْشُورَةً مجموعة كُلٌّ من الجبال و الطير لَهُ لداود عليه السّلام أَوَّابٌ رجّاع في التسبيح.
[20] وَ شَدَدْنا قوينا مُلْكَهُ بالجنود وَ آتَيْناهُ أعطيناه الْحِكْمَةَ معرفة وضع الأشياء موضعها وَ فَصْلَ الْخِطابِ أي الخطاب الفاصل بين الحق و الباطل.
[21] وَ هَلْ أَتاكَ استفهام للتعجب و التشويق نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ صعدوا سور محراب داود عليه السّلام.
[22] إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ خاف مِنْهُمْ لأنهم دخلوا من غير استئذان و من غير الباب قالُوا له لا تَخَفْ فلا نريد بك شرا و إنما نحن خَصْمانِ فريقان متخاصمان بَغى تعدى و ظلم بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ أي لا تتجاوز الحق وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ وسط الصِّراطِ أي العدل، و قد أراد الله بهذه القصة اختبار داود عليه السّلام و كان مغزى الاختبار إنه حكم بمجرد سماع المدعي ثم انتبه فاستغفر من هذا التعجيل و لعل دخول الخصم من السور لأجل إيقاع الدهشة في نفسه و الإنسان المندهش يستعجل في الكلام.
[23] فقال أحد الخصمين و كانا ملائكة لأجل الامتحان إِنَّ هذا أَخِي في الدين أو في الجنس لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً الشاة وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فقط فَقالَ الأخ أَكْفِلْنِيها أي اجعلني كفيلا «1» لنعجتك الواحدة حتى تتم لي مائة نعجة وَ عَزَّنِي غلبني الأخ فِي الْخِطابِ أي التكلم و الحجاج.
[24] قالَ داود عليه السّلام بمجرد أن سمع كلام المدعي: لَقَدْ ظَلَمَكَ أخوك بسبب سؤال نَعْجَتِكَ الواحدة إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما زائدة للتأكيد هُمْ أي قليل من لا يظلم شريكه وَ ظَنَّ علم داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ اختبرناه بهذه القصة فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ من تعجيله في الحكم و كان ترك الأولى وَ خَرَّ سقط راكِعاً لله في استغفاره وَ أَنابَ رجع إلى الله بالتوبة.
[25] فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الترك للأولى وَ إِنَّ لَهُ لداود عليه السّلام عِنْدَنا لَزُلْفى أي قربى في المنزلة وَ حُسْنَ مَآبٍ أي المرجع الحسن في الآخرة.
[26] يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى هوى النفس فَيُضِلَّكَ اتباع الهوى عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا أي بسبب نسيانهم يَوْمَ الْحِسابِ أي لم يهتموا به و لم يعملوا لأجل إنقاذ أنفسهم فيه.
__________________________________________________
(1) الكافل و الكفيل: هو الذي يلزم نفسه القيام بالأمر و حياطته.
تبيين القرآن، ص: 467
[27] وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا لا حكمة فيها حتى يكون خلق الإنسان أيضا بلا جزاء و لا حساب ذلِكَ أي كون الخلق باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أي وا سوء أحوالهم من دخولهم في النار.
[28] أَمْ أي هل، على نحو استفهام الإنكار نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و المعاصي كَالْفُجَّارِ الذين يكثرون الفجور و الخروج عن طاعة الله.
[29] هذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ كثير نفعه و خيره لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ليتفكروا في آيات هذا الكتاب وَ لِيَتَذَكَّرَ ليتعظ به أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
[30] وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان عليه السّلام إِنَّهُ أَوَّابٌ كثير الرجوع إلى الله تعالى.
[31] إِذْ اذكر زمان عُرِضَ عَلَيْهِ على سليمان عليه السّلام بِالْعَشِيِّ وقت العصر الصَّافِناتُ الأفراس الْجِيادُ الجيدات «1»، و ذلك لتهيئتها للحرب في سبيل الله، و لما طال العرض تأخرت صلاته عن وقت الفضيلة و تلافيا لذلك قدّم تلك الأفراس كلها في سبيل الله.
[32] فَقالَ سليمان عليه السّلام: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي هذا النوع من الحب بأن أحببت الجياد التي أعدت لسبيل الله، فانصرفت عَنْ ذِكْرِ رَبِّي في وقت الفضيلة حَتَّى تَوارَتْ الصافنات بِالْحِجابِ في محلاتها، أي انصرافي عن ذكر الله كان من أول العرض إلى حين التواري.
[33] رُدُّوها أي الصافنات، عَلَيَّ ارجعوها إليّ لأنفقها في سبيل الله فلما ردت (طفق) شرع سليمان عليه السّلام يمسح الصافنات مَسْحاً بِالسُّوقِ جمع ساق وَ الْأَعْناقِ جمع عنق، فإن الإعطاء كان بأن يأخذ ساقها فيعطيها أو عنقها فيعطيها.
[34] وَ لَقَدْ فَتَنَّا اختبرنا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا طرحنا عَلى كُرْسِيِّهِ سريره جَسَداً بلا روح حيث ولد له مولود ميت، لأنه لم يقل إن شاء الله حال المواقعة حيث رجا أن يرزق أولادا يجعلهم في الجهاد، و يحتمل أن يراد بالفتنة اختباره كيف يفعل بهذا الأمر هل يصبر أو يجزع ثُمَّ أَنابَ إلى الله بالتوبة عن تركه الأولى، و لا يخفى أنه كرر في القرآن الحكيم ذكر ترك الأولى للأنبياء عليهم السّلام لئلا يتخذهم الناس أربابا.
[35] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ترك الأولى وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي حتى يكون معجزة لي، أو المراد لا يتسهل لسائر الناس ليكون دليلا لفضلك عليّ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ كثير الهبة لمن تشاء.
[36] فَسَخَّرْنا لَهُ ذلّلنا لطاعته الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً لينا حَيْثُ أَصابَ أراد سليمان عليه السّلام فكانت تحمل بساطه و تسير في السماء كما يشاء.
[37] وَ سخّرنا له الشَّياطِينَ الجن «2» كُلَّ بَنَّاءٍ يبني في البر وَ غَوَّاصٍ يغوص في البحر، و (كل) بدل من (الشياطين) أي سخرنا البناء و الغواص من الشياطين له.
__________________________________________________
(1) و قالوا: الجياد جمع جواد و هو السريع في الجري. [.....]
(2) فسرت بالأجنة، لأنها مستورة عن الأنظار كالجن.
تبيين القرآن، ص: 468
[38] وَ آخَرِينَ من الشياطين الذين كانوا عصاة مُقَرَّنِينَ بالسلاسل فِي الْأَصْفادِ جمع صفد و هو الوثاق.
[39] و قلنا لسليمان عليه السّلام هذا الملك عَطاؤُنا لك فَامْنُنْ أعط ما شئت لمن شئت أَوْ أَمْسِكْ و لا تعط بِغَيْرِ حِسابٍ و لا حرج لك في ذلك.
[40] وَ إِنَّ لَهُ لسليمان عليه السّلام عِنْدَنا لَزُلْفى قرب المنزلة وَ حُسْنَ مَآبٍ المرجع الحسن بالجنة.
[41] وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ أصابني بِنُصْبٍ تعب وَ عَذابٍ و شدة مكروه، و ذلك إن الشيطان سبب إحراق زرعه و ضرعه و موت أولاده و مرض جسمه، أو المراد إنه كان يوسوس إليه الشيطان بأنك نبي و لا يرحمك ربك.
[42] فقلنا له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ أي اضرب برجلك الأرض، كما يفعل الراكض هذا الذي يظهر من الماء بسبب ركضك مُغْتَسَلٌ محل اغتسال بارِدٌ وَ شَرابٌ و تشرب منه، ففعل ذلك فشوفي بإذن الله.
تبيين القرآن، ص: 469
[43] وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن أحييناهم وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ بأن زدناه أولادا جدد رَحْمَةً مِنَّا عليه وَ ذِكْرى تذكيرا لمن ينتظر الفرج لِأُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
[44] وَ خُذْ عطف على (اركض) بِيَدِكَ ضِغْثاً قبضة من الحشيش فَاضْرِبْ بِهِ زوجتك لأنه قالت قولا فأنكره فحلف أن يضربها مائة عود، و كان ذلك شاملا لعيدان الضغث و للعصا، و تفصيل مسائل التأديب في الفقه وَ لا تَحْنَثْ لا تخالف اليمين و لا تؤذ الزوجة أذية كثيرة، و هذا كالتعزير الذي هو بنظر الحاكم الشرعي إن شاء زاد و إن شاء نقص إِنَّا وَجَدْناهُ أي أيوب عليه السّلام صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ هو إِنَّهُ أَوَّابٌ كثير الرجوع إلى الله تعالى.
[45] وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي أصحاب القوة في طاعة الله وَ الْأَبْصارِ و أولي البصيرة في الدين.
[46] إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ جعلناهم خالصين لنا، و مختصين بنا بسبب صفة خالصة فيهم هي خالصة ذِكْرَى الدَّارِ أي أنهم كانوا دائمي التذكر للدار الآخرة عاملين لها.
[47] وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ المختارين الْأَخْيارِ جمع خيّر.
[48- 49] وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ هذا القرآن ذِكْرٌ لمن أراد أن يتذكر وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ المرجع الحسن.
[50] جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة، فإن الناس يقيمون في الجنات مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أبوابها مفتوحة لهم.
[51] مُتَّكِئِينَ فِيها بحالة راحة يَدْعُونَ يطلبون فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ ما يشربون.
[52- 53] وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ زوجات عيونهن مقصورة على أزواجهن الطَّرْفِ العين أَتْرابٌ جمع ترب، فهن قرينات لهم في السن. هذا المذكور من النعم ما تُوعَدُونَ أيها المؤمنون لِيَوْمِ في يوم الْحِسابِ.
[54] إِنَّ هذا الذي ذكرناه لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع.
[55] هذا للمؤمنين وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ الذين يتجاوزون الحد لَشَرَّ مَآبٍ أي المرجع السيئ.
[56] جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ الفراش الممهد لهم.
[57] هذا أي العذاب فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ ماء شديد الحرارة وَ غَسَّاقٌ ما يغسق أي يسيل من صديد «1» أهل النار.
[58] وَ عذاب آخَرُ لهم مِنْ شَكْلِهِ مثل العذاب السابق أَزْواجٌ أي أصناف من العذاب لهم.
[59- 60] هذا الجمع، إذ يؤتى بالأتباع بعد أن دخل النار أسيادهم، فيراد إدخالهم في النار مع السادة، فيقال لأهل النار: فَوْجٌ جمع مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أي داخل بشدة فيكم، و ذلك لضيق مكانهم في النار، و هو من أقسام عذابها لا مَرْحَباً بِهِمْ لا يرحب بأولئك الأتباع إِنَّهُمْ لأنهم صالُوا النَّارِ داخلوها، و هذا قول القادة بالنسبة إلى الأتباع فيرد عليهم الأتباع قائلين: قالُوا بَلْ أَنْتُمْ أيها القادة لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ أي العذاب لَنا بسبب إضلالكم إيانا فَبِئْسَ جهنم الْقَرارُ المستقر لنا و لكم.
[61] قالُوا أي الأتباع: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا العذاب فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً لضلاله و إضلاله فِي النَّارِ.
__________________________________________________
(1) الصديد: القيح و الدم.
تبيين القرآن، ص: 470
[62] وَ قالُوا أي الطاغون: ما لَنا لا نَرى رِجالًا في النار أي المؤمنين كُنَّا نَعُدُّهُمْ نحسبهم مِنَ الْأَشْرارِ في دار الدنيا.
[63] أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أي هل كنا نستهزئ بهم و الحال أنهم كانوا أخيارا أَمْ زاغَتْ مالت عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أبصارنا، بأن كانوا أشرارا واقعا، و الآن هم في جهنم و لكن لا نراهم لأن بصرنا لا يقع عليهم.
[64] إِنَّ ذلِكَ الذي نقلناه من كلام أهل النار لَحَقٌّ مطابق للواقع تَخاصُمُ تنازع، بدل من (حق) أَهْلِ النَّارِ.
[65] قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أنذركم عذاب الله سواء آمنتم أم لا وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ لكل شي ء فلا إله سواه.
[66] رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الْغَفَّارُ للذنوب.
[67- 68] قُلْ هُوَ ما أنذركم به نَبَأٌ خبر عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ.
[69] ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى أي بالملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ يتكلمون و يتقاولون، فلو لا أني نبي كيف كنت أعلم كلام الملائكة عند ما اختصموا في أمر آدم عليه السّلام و تكلموا مع الله.
[70] إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ظاهر واضح.
[71] إِذْ متعلق ب (يختصمون) قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً آدم عليه السّلام مِنْ طِينٍ.
[72] فَإِذا سَوَّيْتُهُ تممت أعضاءه وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أحييته، و أضاف الروح إلى نفسه تشريفا «1» فَقَعُوا خرّوا لَهُ ساجِدِينَ إكراما له.
[73- 74] فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ تكبر وَ كانَ صار مِنَ الْكافِرِينَ.
[75] قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ لما توليت خلقته بنفسي أَسْتَكْبَرْتَ هل تكبرت عن السجود له أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ بأن كنت في الحقيقة أعلى شأنا منه.
[76] قالَ إبليس: بل الشق الثاني أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ من آدم عليه السّلام لأنك خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ و النار أشرف من الطين.
[77] قالَ الله: فَاخْرُجْ مِنْها من الجنة فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مرجوم مبعد عن رحمة الله.
[78] وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي طردي و عذابي إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم القيامة، حيث هناك تدخل النار.
[79] قالَ الشيطان: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أمهلني بالحياة إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يوم القيامة.
[80] قالَ الله: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ.
[81] إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ لعله ظهور الإمام المهدي (عج).
[82] قالَ الشيطان فَبِعِزَّتِكَ يا رب لَأُغْوِيَنَّهُمْ أضلّ البشر أَجْمَعِينَ.
[83] إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لنفسك.
__________________________________________________
(1) و المراد: أي روح خلقته.
تبيين القرآن، ص: 471
[84- 85] قالَ الله: فَالْحَقُّ أي ما أريد أن أذكره من الكلام حق، و هو أن جهنم مكانكم وَ الْحَقَّ أَقُولُ تفسير لقوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ من جنس البشر أَجْمَعِينَ.
[86] قُلْ يا رسول الله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ مِنْ أَجْرٍ فتنفروا من الهداية لأجل الأجر وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ الذي تكلف ادعاء الرسالة كذبا فتنفروا من الهداية لأجل أني كاذب.
[87] إِنْ ما هُوَ القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.
[88] وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ خبر صدق القرآن بَعْدَ حِينٍ أي بعد الموت.
مكية آياتها خمس و سبعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] تَنْزِيلُ الْكِتابِ القرآن، و هذا مبتدأ خبره مِنَ اللَّهِ لا من غيره كما يزعمون الْعَزِيزِ الذي لا يغالب الْحَكِيمِ الذي يفعل كل شي ء حسب تدبير و إحكام.
[2] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لا بالباطل فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي أخلص الدين و الطريقة له تعالى.
[3] أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ فالواجب إخلاص الدين له وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أصناما يعبدونها، يقولون في حجتهم لاتخاذ الأصنام: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي قربى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين، و ذلك بإدخال المحق الجنة و المبطل النار إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى الطريق باللطف الخاص، فإن الإنسان إذا ترك الحق يتركه الله و شأنه حتى يضل مَنْ هُوَ كاذِبٌ على الله في اتخاذ الشركاء و الولد كَفَّارٌ كثير الكفر للنعم.
[4] لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما زعموا لَاصْطَفى لاختار للولدية مِمَّا يَخْلُقُ من خلقه ما يَشاءُ هو، لا ما يختاره الناس و يسمونه ولدا لله سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها عن الولد هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ الذي يقهر كل شي ء.
[5] خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ لا بالباطل و عبثا يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ أي يطرح بعض الليل على النهار و ذلك حين امتداد الليل وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ و ذلك وقت امتداد النهار وَ سَخَّرَ ذلّل الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ وقت مُسَمًّى قد سمي ذلك الوقت و هو يوم القيامة، إذ تبطل حينذاك المنظومة الشمسية أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الْغَفَّارُ لمن تاب و آمن.
تبيين القرآن، ص: 472
[6] خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فإن ابتداء الخلق آدم عليه السّلام ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها فإن حواء خلقت من فضل طينة آدم وَ أَنْزَلَ خلق بسبب ما أنزل من المطر لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الضأن و المعز ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ من كلّ ذكرا و أنثى يَخْلُقُكُمْ أنتم و الحيوانات فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ نطفة فعلقة فمضغة فعظاما فلحما فإنسانا أو حيوانا فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة الرحم و البطن و المشيمة ذلِكُمُ الفاعل لهذه الأشياء اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ حقيقة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى إلى أين تُصْرَفُونَ يعدل بكم عن التوحيد إلى الإشراك.
[7] إِنْ تَكْفُرُوا فلا يضره كفركم لأجل إن اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ أي الشكر لَكُمْ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لا تحمل نفس حاملة إثم نفس أخرى بل لكل إنسان جزاء عمله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ إلى جزائه مَرْجِعُكُمْ مصيركم فَيُنَبِّئُكُمْ يخبركم لأجل الجزاء بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير و شر إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما أضمرتم في الصدور فكيف بسائر الأعمال الظاهرة.
[8] وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ أصابه ضرر و بلاء دَعا رَبَّهُ ليفرّجه مُنِيباً راجعا إِلَيْهِ وحده بلا شريك ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أعطاه نِعْمَةً مِنْهُ من عند نفسه بلا شراكة الأصنام له في الإعطاء نَسِيَ ما الضر الذي كانَ يَدْعُوا الله إِلَيْهِ إلى كشفه مِنْ قَبْلُ أي حال الضر وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً شركاء لِيُضِلَّ فإن نتيجة جعل الأنداد الضلال و الإضلال، و لذا صح جعله غاية لجعل الأنداد عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا مدة حياتك الزائلة، و هذا تهديد إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ الملازمين لها في الآخرة.
[9] أَمَّنْ (أم) بمعنى بل هُوَ قانِتٌ خاضع لله آناءَ جمع أنى بمعنى الساعة اللَّيْلِ أي في ساعاته ساجِداً وَ قائِماً في الصلاة يَحْذَرُ عذاب الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ بالفوز بالجنة، فهل يستوي هذا الإنسان و الإنسان الكافر بربه، و الاستفهام للإنكار قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فأولوا العلم هم المؤمنون و الجهال هم الكافرون إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول، و الكافر ليس بصاحب عقل.
[10] قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ خافوه فلا تعصوه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي أطاعوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ في الآخرة بالجنة وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فمن لا يتمكن من الإطاعة في أرض فليهاجر إلى أرض أخرى إِنَّما يُوَفَّى يعطى الصَّابِرُونَ على الطاعة و المحنة أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ لأنه لا حصر له.
تبيين القرآن، ص: 473
[11] قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي أخلص الدين له، بدون شرك.
[12] وَ أُمِرْتُ بذلك لِأَنْ لأجل أن أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ سابقهم إلى الإسلام فإن السابق له فضل.
[13] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظم أهواله و هو يوم القيامة.
[14] قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أخلص عبادتي له بلا شرك.
[15] فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ دون الله، و هذا تهديد لهم قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ في الحقيقة هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن استحق كلهم النار أَلا ذلِكَ الخسران هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الواضح.
[16] لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ أطباق كالظلة مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أطباق هي ظلل للآخرين ذلِكَ العذاب هو العذاب الذي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ بذلك العذاب عِبادَهُ يا عِبادِ عبادي فَاتَّقُونِ هذا العذاب.
[17] وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ كل ما يعبد من دون الله أَنْ يَعْبُدُوها بدل من (الطاغوت) وَ أَنابُوا رجعوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى البشارة بالسعادة في الدارين فَبَشِّرْ عِبادِ أي عبادي، و هم:
[18] الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ مثلا الأحسن الإتيان بالفريضة و النافلة معا و هكذا أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ إلى سبيل الحق وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
[19] أَ فَمَنْ حَقَّ ثبت عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ بأن ثبت في حقه قوله تعالى (لأملأن جهنم) «1» و الجواب محذوف، أي لا تتمكن أن تنقذه أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ بالهداية مَنْ فِي النَّارِ بأن اختار أن يكون من أهل النار.
[20] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مشرفة على الجنة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ أرفع من الأولى تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ وعدهم الله ذلك وعدا لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ ما وعده.
[21] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ أدخله يَنابِيعَ مجاري و أعين كائنة فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ بذلك الماء زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ شكلا و طعما و لونا ثُمَّ يَهِيجُ ييبس فَتَراهُ بعد الخضرة مُصْفَرًّا صار أصفر ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً مكسّرا فتاتا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى تذكرة لِأُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
__________________________________________________
(1) سورة هود: 119، قال تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
تبيين القرآن، ص: 474
[22] أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ وسعه لِلْإِسْلامِ و قبول الحق، و ذلك لأنه لما رأى الحق لم يعاند فَهُوَ عَلى نُورٍ هداية و يقين مِنْ قبل رَبِّهِ كمن ليس كذلك فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ بأن قست فلم يدخلها نور الإيمان مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي القسوة تظهر من جهة ذكر الله، إذ لا يدخل الذكر قلوبهم أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح.
[23] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أي القرآن فهو أحسن من كل حديث كِتاباً مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا في البلاغة و حسن النظم و قوة الأحكام مَثانِيَ يثني على الله تَقْشَعِرُّ ترتعد مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ خوفا ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ لتذكرهم رحمته و لطفه ذلِكَ القرآن هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ممن قبل الحق و لا يعانده وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن تركه حتى يضل، لأنه ترك قبول الحق فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه.
[24] أَ فَمَنْ يَتَّقِي يتجنب بِوَجْهِهِ لأن النار تصل إلى وجهه فكأن وجهه وقاية فإن يده تغل فلا يد له مطلقة تقي وجهه سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ خير أم من كان منعّما في الجنة وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي وبال أعمالكم التي اكتسبتموها.
[25] كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قومك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَأَتاهُمُ جاءهم الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ بأن العذاب يأتيهم من هذه الجهة.
[26] فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ الذل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالمسخ و ما أشبه وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعدّ لهم أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لعلموا أن عذاب الآخرة أسوأ.
[27] وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الإنسان في الهداية لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون.
[28] قُرْآناً في حال كونه عَرَبِيًّا بلغة العرب غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اعوجاج فيه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الكفر و العصيان.
[29] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للموحد و المشرك رَجُلًا مملوكا فِيهِ شُرَكاءُ سادة له مُتَشاكِسُونَ متنازعون في استخدامه وَ رَجُلًا سَلَماً خالصا لِرَجُلٍ سيد واحد هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا و الاستفهام للإنكار، أي لا يستويان مثلا، فالمؤمن له سيد واحد هو الله، و الكافر جعل لنفسه سادات متعددة و هم كالمتشاكسين إذ الله لا يرضى عن إطاعة المشرك للصنم الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم الحجة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الحمد كله لله.
[30] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ فالكل سيجزون حسب أعمالهم.
[31] ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ تتقاولون حول أنك بلغت و هم لم يقبلوا، مع علمهم بذلك.
تبيين القرآن، ص: 475
[32] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بنسبة الشريك و الولد إليه سبحانه وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً محلا لِلْكافِرِينَ و ذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم.
[33] وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ بأن نفى الولد و الشريك عنه تعالى وَ صَدَّقَ بِهِ أي صدق بالصدق و هو ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين يتقون الكفر و الآثام.
[34] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من الثواب عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة ذلِكَ الذي ذكر من أن لهم ما يشاءون جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ.
[35] لِيُكَفِّرَ اللام للعاقبة أو للغرض، أي إنما جاءوا بالصدق و صدقوا، ليمحو اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا أعمالهم السيئة فإنها أسوأ من الأعمال الصالحة، و التفضيل في هذه المقامات عرفية وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي بأحسن جزاء أعمالهم، إذ للجزاء مراتب.
[36] أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ فلا يضره ما سواه إذا أراد الله كفايته وَ يُخَوِّفُونَكَ أيها المؤمن بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام و ما أشبه، يقولون إن اتقيت أصابك الصنم أو الطاغي الفلاني بسوء وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يتركه حتى يضل إذا عاند الحق فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه عن ضلالته، و هذا وصف لمن يخوف الناس من دون الله.
[37] وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بأن يلطف به، و هو في طريق الحق فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ إذ لا يقدر أحد على إضلاله أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ لا يغالب فلا يقدر أحد أن يفعل خلاف إرادة الله ذِي انْتِقامٍ ينتقم ممن يضل الناس.
[38] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح أن أصنامهم لم يخلقوها قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ أخبروني ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام ما حالها؟ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ بأن يصيبني مكروه هَلْ هُنَّ الأصنام كاشِفاتُ أي دافعات ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ بنفع هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ مانعات رَحْمَتِهِ و من المعلوم أنهم يجيبون بالنفي، إذ لا راد لأمر الله تعالى، فإذا ما هي فائدة الأصنام و الحال أنكم اعترفتم أن الضر و الرحمة بيد الله قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ يكفيني فلا أحتاج إلى الأصنام عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ من يريد التوكل.
[39] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم، و هذا تهديد بمعنى أن سترون جزاء عملكم إِنِّي عامِلٌ على مكانتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
[40] مَنْ مفعول (تعلمون) يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يذله وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم.
تبيين القرآن، ص: 476
[41] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لهدايتهم بِالْحَقِّ لا بالباطل فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ لأن جزاء الهداية يعود لنفسه وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها على ضرر نفسه وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ حتى تكون مسؤولا عن أعمالهم و إنما أنت منذر.
[42] اللَّهُ يَتَوَفَّى يميت الْأَنْفُسَ بقبض روحها حِينَ مَوْتِها في الوقت المقرر لموت الأنفس وَ يتوفى وفاة في الجملة بقبض بعض روحه النفس الَّتِي لَمْ تَمُتْ موتا كاملا فِي مَنامِها عند المنام فالوفاة الكاملة بيد الله، كذلك وفاة النوم فَيُمْسِكُ الله النفس الَّتِي قَضى و حكم الله عَلَيْهَا الْمَوْتَ فيمسكها في حالة نومه وَ يُرْسِلُ إلى البدن، النفس الْأُخْرى التي لم يحكم عليها بالموت إِلى أَجَلٍ وقت مُسَمًّى قد سمي و هو وقت موتها إِنَّ فِي ذلِكَ الموت في اليقظة و في المنام، و اليقظة بعد النوم لَآياتٍ أدلة على وجود الله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في هذا التدبير العجيب.
[43] أَمِ بل اتَّخَذُوا أي المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله شُفَعاءَ من الأصنام، ظنوا أنها تشفعهم عند الله قُلْ أَ تتخذونها وَ لَوْ كانُوا هذه الأصنام لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً فلا يملكون الشفاعة وَ لا يَعْقِلُونَ و كيف يكون من لا يعقل شفيعا.
[44] قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً فإنه إذا أراد شفاعة أحد أذن لنبي أو ولي بشفاعته لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ إلى جزائه تُرْجَعُونَ في الآخرة فالملك و المرجع و الشفاعة له، فما تفعلون بالأصنام.
[45] وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ دون آلهتهم اشْمَأَزَّتْ انقبضت و نفرت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي المشركين وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ دون الله من الأصنام إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون.
[46] قُلِ ملتجأ إلى الله داعيا، إذا عجزت عن إقناعهم اللَّهُمَّ يا الله يا فاطِرَ خالق السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما حضر لدى الحواس أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فتعطي جزاء المحق بالثواب و المبطل بالعقاب.
[47] وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ زيادة عليه، و هذا لفظ المبالغة، و المراد كل ما يتصور و لو ألف مثل ما في الأرض لَافْتَدَوْا بِهِ أعطوه فدية و بدلا عن أنفسهم لتخليصها مِنْ سُوءِ الْعَذابِ العذاب السيئ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ.
تبيين القرآن، ص: 477
[48] وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ أحاط بِهِمْ ما جزاء كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ استهزاؤهم بالدين في دار الدنيا.
[49] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ و هذا طبيعة الإنسان ضُرٌّ أي أصابه ضرر من مرض أو فقر أو ما أشبه دَعانا لكشفه ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ أي أعطيت ما خوّلته من النعمة عَلى عِلْمٍ فإن علمي بوجوه الطلب سبب مجي ء هذه النعمة نحوي بَلْ هِيَ النعمة فِتْنَةٌ امتحان له أ يشكر أم يكفر وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن النعم امتحان.
[50] قَدْ قالَهَا قال هذه الكلمة و هي (أوتيته على علم) الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كقارون فَما أَغْنى ما أفاد عَنْهُمْ لدفع العذاب ما كانُوا يَكْسِبُونَ أموالهم التي اكتسبوها.
[51] فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ جزاء أعمالهم السيئة ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ كفار قومك يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ لا يقدرون على تعجيز الله و الفرار منه.
[52] أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يضيق لمن يشاء، فليس البسط من جهة علم الشخص بوجوه الكسب كما يزعمون إِنَّ فِي ذلِكَ البسط و القبض لَآياتٍ دالة على أن الله هو المعطي و المانع «1» لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بالآيات.
[53] قُلْ يا رسول الله: إن الله يقول: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بارتكاب الآثام لا تَقْنَطُوا لا تيأسوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فإنكم إذا تبتم تاب الله عليكم إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إذا تاب الإنسان إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الذي يغفر الذنب الرَّحِيمُ بعباده.
[54] وَ أَنِيبُوا ارجعوا من الشرك و العصيان إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ بالطاعة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بالموت أو عذاب الاستئصال ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ لا ينصركم أحد بدفع العذاب عنكم.
[55] وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ بأن اعملوا بالأحسن، فإذا كان الأحسن صوم شهر رمضان مع الكف عن الكلام الفارغ اتبعوه دون الصوم المجرد الذي هو حسن مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً فجأة وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ وقت نزوله.
[56] و إنما ننصحكم بهذا ل أَنْ لا تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى أي أيتها الحسرة و الندامة احضري فهذا وقتك عَلى ما فَرَّطْتُ قصرت فِي جَنْبِ اللَّهِ في قربه، و ذلك بقرب أحكامه مني و تمكني من استفادتها و إنقاذ نفسي، و مع ذلك قصرت وَ إِنْ مخففة من الثقيلة كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ المستهزئين بدين الله.
__________________________________________________
(1) إذ:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقاه قد رزقا هذا الذي دل أن الله رازقه و من أبى أحمق أو كان زنديقا
تبيين القرآن، ص: 478
[57] أَوْ لئلا تَقُولَ نفس لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بأن أرشدني إلى الطريق لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
[58] أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في العقيدة و العمل.
[59] بَلى لا كرة لك قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ تكبرت عن الانخراط في سلك المؤمنين وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ.
[60] وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فقالوا بأن له شريكا أو ولدا أو ما أشبه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أي تراهم في حالة اسوداد الوجوه لما يصيبهم من الشدة و الذل، و يريد الله بهم اسوداد الوجه حتى يعرفوا بما كسبوا في الدنيا أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقاما لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي أن ذلك يكفيهم جزاء.
[61] وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر و العصيان بِمَفازَتِهِمْ بفوزهم أي بسبب أنهم فائزون و الفائز ينجو لا يَمَسُّهُمُ لا يصيبهم السُّوءُ العذاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.
[62] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ حافظ و مدبر له.
[63] لَهُ مَقالِيدُ مفاتيح السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بمعنى مفاتيح خزائنهما فالمطر و الأولاد و المناصب و غيرها كلها بيد الله وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا دنياهم و أخراهم.
[64] قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ كالأصنام تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ.
[65] وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ أي يمحى عَمَلُكَ الحسن وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ.
[66] بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ بلا شريك له وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمه.
[67] وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عظموه حق عظمته حيث عبدوا غيره وَ الحال أن كل شي ء له و بإرادته ف الْأَرْضُ جَمِيعاً جميع الأرضين قَبْضَتُهُ أي في يده، و المراد قدرته عليها يَوْمَ الْقِيامَةِ فإذا كان يوم الدين الذي هو أعظم الأيام هكذا فسائر الأيام بطريق أولى وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ أي مجموعات بِيَمِينِهِ بيد قدرته و هذا تصوير للعظمة و القوة، كأن الأرض في كفه اليسرى و السماوات في يده اليمنى سُبْحانَهُ أنزهه عن الشريك وَ تَعالى ارتفع عن أن يكون له شريك عَمَّا يُشْرِكُونَ يضيفون إليه من الشركاء.
تبيين القرآن، ص: 479
[68] وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الأولى قبل القيامة لأجل إماتة الناس جميعا فَصَعِقَ مات مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ كجبريل و بعض الملائكة حيث يميتهم الله بأمر آخر ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ في الصور نفخة أُخْرى ثانية للإحياء فَإِذا هُمْ أي الناس قِيامٌ قائمون من قبورهم يَنْظُرُونَ ينتظرون أوامر الله فيهم.
[69] وَ أَشْرَقَتِ أضاءت الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها لأن الشمس تكور و إنما ينير الله الأرض للحساب وَ وُضِعَ الْكِتابُ أي جنس الكتاب الذي فيه أعمال الخلائق وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ جاءوا بهم وَ الشُّهَداءِ الذين يشهدون على أعمال الناس من الأئمة و الملائكة وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الناس بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص من ثواب محسن و لا يزاد في عقاب مسي ء.
[70] وَ وُفِّيَتْ أعطيت جزاء كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ من خير و شر وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ في الدنيا فلا يفوته شي ء هناك.
[71] وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ساقهم الملائكة إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً جماعات جماعات حَتَّى إِذا جاؤُها و صلوا إلى جهنم فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها الموكلون بجهنم أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم أيها البشر يَتْلُونَ يقرءون عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ ملاقات و حضور يَوْمِكُمْ هذا أي يوم القيامة قالُوا بَلى جاءتنا الرسل وَ لكِنْ حَقَّتْ ثبتت كَلِمَةُ الْعَذابِ أي الكلمة التي قالها الله (لأملأن جهنم) «1» عَلَى الْكافِرِينَ و حين كنا معاندين لا ننظر في الحق و لا نعمل به حقت الكلمة علينا.
[72] قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها دائمين في جهنم فَبِئْسَ جهنم مَثْوَى مقام الْمُتَكَبِّرِينَ الذين تكبروا عن قبول الحق.
[73] وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها رأوا مالا يوصف من النعم و المسرات وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ تكونون في سلامة دائمة طِبْتُمْ نفسا، و لذا فَادْخُلُوها خالِدِينَ دائمين فيها إلى الأبد.
[74] وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث و الثواب وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ بأن جعل أرض الجنة إرثا لنا «2»، أو المراد أورثنا الأرض في الدنيا كما وعد بقوله: (ليستخلفنهم في الأرض) «3» نَتَبَوَّأُ ننزل مِنَ قصور الْجَنَّةِ و أماكنها حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة.
__________________________________________________
(1) سورة هود: 119، قال تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
(2) لأن الله خلق لكل إنسان مكانا في الجنة، فلما كفروا تركوا الجنة للمؤمنين.
(3) سورة النور: 55.
تبيين القرآن، ص: 480
[75] وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدقين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ حيث إن العرش مكان كبير جعله الله محل كرامته و تدبيره يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزهون الله حامدين له وَ قُضِيَ حكم بَيْنَهُمْ بين المؤمنين و الكافرين بِالْحَقِّ حيث أدخل المؤمن الجنة، و الكافر النار وَ قِيلَ القائل المؤمنون و الملائكة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هذه النعم الكثار.
مكية و آياتها خمس و ثمانون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] حم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ إنزال القرآن إنما هو مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الذي لا يغالب الْعَلِيمِ العالم بكل شي ء.
[3] غافِرِ الذَّنْبِ يغفر ذنوب عباده وَ قابِلِ التَّوْبِ يقبل التوبة شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ ذي الفضل و الإنعام لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ المرجع، و (إليه) بمعنى إلى حسابه و جزائه.
[4] ما يُجادِلُ لا يخاصم فِي آياتِ اللَّهِ لدفعها و إبطالها إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله فَلا يَغْرُرْكَ لا يخدعك حتى تظن أن الكفار بيدهم كل شي ء و أنهم السادة و القادة لما ترى من تَقَلُّبُهُمْ مجيئهم و ذهابهم و حركتهم في مختلف الشؤون فِي الْبِلادِ بلاد العالم، فإنه مهلة قصيرة و هي استدراج و ليس بتكريم.
[5] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ الذين تحزبوا على الرسل مِنْ بَعْدِهِمْ بعد قوم نوح عليه السّلام كأمة صالح و هود و موسى و عيسى و لوط و غيرهم وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هؤلاء بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ بتعذيبه و إهلاكه وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له لِيُدْحِضُوا ليزيلوا بِهِ بباطلهم الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ جزاء لأعمالهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي، ألم يكن شديدا أليما.
[6] وَ كَذلِكَ هكذا حَقَّتْ ثبتت كَلِمَةُ رَبِّكَ وعيده بالعقاب عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ بدل (كلمة) أَصْحابُ النَّارِ.
[7] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ و هم ملائكة عظام وضعوا العرش على أكتافهم وَ مَنْ حَوْلَهُ من حول العرش من سائر الملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزهونه حامدين له وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يطلبون من الله غفران زلات المؤمنين بهذه العبارة: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً أي وسعت رحمتك و علمك كل شي ء فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا عن الكفر و العصيان وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ الذي دعوت إليه و هو الإسلام وَ قِهِمْ احفظهم من عَذابَ الْجَحِيمِ جهنم.
تبيين القرآن، ص: 481
[8] رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ أي المؤمنين جَنَّاتِ عَدْنٍ جنات إقامة الَّتِي وَعَدْتَهُمْ بأن لا تؤاخذهم ببعض السيئات فلا تدخلهم الجنة، و إلا فلا يخلف الله الوعد حتى يحتاج إلى الدعاء، وَ أدخل الجنة مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ليكمل بذلك سرورهم إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر على ما تريد الْحَكِيمُ الذي يفعل الأشياء حسب الصلاح.
[9] وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ احفظهم من المعاصي وَ مَنْ تَقِ تحفظه من السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ في الدنيا و الآخرة وَ ذلِكَ الحفظ عن السيئات هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأن فيه سعادة الدنيا و الآخرة.
[10] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ يناديهم الملائكة و قد غضبوا على أنفسهم أشد الغضب حين رأوا وبال أعمالهم لَمَقْتُ اللَّهِ غضبه عليكم أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ من غضبكم أنتم على أنفسكم إِذْ أ تذكرون زمان كنتم تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ في الدنيا فلا تقبلون بل تكفرون.
[11] قالُوا أي الكفار: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ مرتين مرة وقت كنا ترابا، و الإماتة بمعنى الخلق ميتا و قد كان ذلك لأجل تغلب الموت الثاني عليه، مثل أبوين و مرة بعد حياتنا في الدنيا وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ حياة في الدنيا و حياة يوم القيامة فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا الآن، بعد أن نضجت أفكارنا بالموتين و الحياتين و رأينا جزاء أعمالنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ من النار مِنْ سَبِيلٍ نسلكه حتى نخرج منها، و الجواب لا سبيل إلى ذلك، إذ (لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) «1».
[12] ذلِكُمْ الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه كنتم في دار الدنيا إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ بتوحيده وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإشراك فَالْحُكْمُ في تعذيبكم لِلَّهِ الْعَلِيِّ المرتفع عن الشريك الْكَبِيرِ الذي لا شي ء يوازيه.
[13] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على وجوده و صفاته وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً المطر الذي هو أسباب الرزق وَ ما يَتَذَكَّرُ بالآيات إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع إلى الله تعالى.
[14] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي أخلصوا الدين له، بدون إشراك وَ لَوْ كَرِهَ لم يرد ذلك الْكافِرُونَ لأنهم يريدون الشرك.
[15] رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ارتفعت درجات جلاله من أن يكون له شريك ذُو الْعَرْشِ صاحب السلطة المطلقة يُلْقِي الرُّوحَ الوحي و سمي روحا لأن به قوام الاجتماع الصالح مِنْ أَمْرِهِ عالم الأمر عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ من الأنبياء عليهم السّلام لِيُنْذِرَ يخوف الرسول الملقى إليه الوحي يَوْمَ التَّلاقِ أي يوم القيامة الذي يتلاقى فيه الأجساد و الأرواح، و الناس بعضهم ببعض.
[16] يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ظاهرون في سطح القيامة لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ من أعمالهم لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فقد بطلت الملكيات المجازية، و الجواب: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الذي يقهر كل شي ء.
__________________________________________________
(1) سورة الأنعام: 28.
تبيين القرآن، ص: 482
[17] الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ بجزاء عملها في الدنيا لا ظُلْمَ الْيَوْمَ لا يظلم أحد إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ إذ لا يشغله حساب عن حساب.
[18] وَ أَنْذِرْهُمْ خوفهم يَوْمَ الْآزِفَةِ القيامة، و سميت بالآزفة لقربها، يقال: أزف، بمعنى قرب إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ جمع حنجرة، فإن الإنسان إذا خاف كثيرا، انتفخت رئته فتضغط على قلبه فيأتي القلب قرب الحنجرة كاظِمِينَ في حال كون الناس ممتلئين غما ما لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان مِنْ حَمِيمٍ صديق يساعدهم وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ تقبل شفاعته.
[19] يَعْلَمُ الله خائِنَةَ الْأَعْيُنِ الخيانة الصادرة من العين بالنظر اختلاسا إلى ما حرم الله وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ من النيات و الأفكار.
[20] وَ اللَّهُ يَقْضِي يحكم بِالْحَقِّ بما هو حق وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعبد المشركون مِنْ دُونِهِ دون الله من الأصنام لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ لا حق و لا باطل، لأنها جماد إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أما الأصنام فلا ترى و لا تسمع.
[21] أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا يسافر هؤلاء الكفار فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كقوم هود و صالح و لوط عليهم السّلام، حيث إنهم إذا سافروا رأوا بلادهم الخربة و سمعوا أخبار عذابهم ممن حوالي تلك الخرابات كانُوا هُمْ الذين هلكوا أَشَدَّ مِنْهُمْ من هؤلاء قُوَّةً بدنية و مالية و عددية وَ أكثر آثاراً فِي الْأَرْضِ كالقلاع و الأنهار و القصور فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أهلكهم بسبب ما أتوا به من الآثام وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ يقيهم و يحفظهم من بأس الله.
[22] ذلِكَ الأخذ لهم بسبب كفرهم بعد إتمام الحجة أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ قادر على ما يريد شَدِيدُ الْعِقابِ فإذا عاقب عاقب بشدة.
[23] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا المعجزات وَ سُلْطانٍ حجة مُبِينٍ ظاهرة.
[24] إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا إن موسى ساحِرٌ كَذَّابٌ.
[25] فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى عليه السّلام بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ من بني إسرائيل لئلا يكثروا وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ ابقوهن أحياء للاستخدام و الإذلال وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ مكرهم في قبال الله تعالى إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع لأن الله ينفّذ أمره.
تبيين القرآن، ص: 483
[26] وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي دعوني أيها الملأ، و قال هذا استعلاء و إلا فإنه كان يعلم أنه لا يقدر على موسى عليه السّلام أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ لينقذه إن قدر على إنقاذه، قاله استهزاء إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ يغير موسى عليه السّلام ما أنتم عليه أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ بالهرج و المرج.
[27] وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ استجرت بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ يعني فرعون و ملأه.
[28] وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ يخفي أنه مؤمن، و كان في حاشية فرعون أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أي كيف تريدون قتل موسى عليه السّلام لأجل أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ فإن هذا الكلام لا يوجب القتل وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وبال كذبه وَ إِنْ يَكُ صادِقاً في دعواه الرسالة يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي لا أقل من أن يصيبكم بعض وعيده و في ذلك كفاية في هلاككم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ و هذا احتجاج ثالث من ذلك المؤمن، بأنه كيف يكون موسى عليه السّلام كذابا و الحال أنه إنسان مهدي هداه الله حيث أجرى المعجزات على يده.
[29] يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ غالبين فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ عذابه إِنْ جاءَنا كما يقول موسى عليه السّلام قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ لا أشير عليكم إِلَّا ما أَرى و استصوب من قتله وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ طريق الصواب.
[30] وَ قالَ الَّذِي آمَنَ من حاشية فرعون: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ الذين تحزبوا ضد الرسل، و المراد بيومهم: يوم عذابهم.
[31] مِثْلَ دَأْبِ مثل جزاء ما دأبوا و اعتادوا عليه من الكفر قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط عليه السّلام وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فلا يعاقبهم بغير ذنب.
[32] وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ ينادي بعضكم بعضا، و هو يوم عذابكم، أو في الآخرة، حيث يستغيث أحدكم بالآخر و لا نجاة.
[33] يَوْمَ تُوَلُّونَ عن الموقف مُدْبِرِينَ منصرفين إلى النار ما لَكُمْ مِنَ بأس اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ حافظ يحفظكم من عذابه وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يتركه حتى يضل لأنه عاند الحق فَما لَهُ مِنْ هادٍ إذ لا هادي إلا الله.
تبيين القرآن، ص: 484
[34] وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ قبل موسى عليه السّلام بِالْبَيِّناتِ بالأدلة الواضحات فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ جاء آباءكم القبط بِهِ من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ مات قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا فضممتم إلى تكذيب رسالة يوسف عليه السّلام تكذيب رسالة من يأتي بعده كَذلِكَ هكذا يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ أسرف على نفسه بأن تعدى بها عن الطريق الوسط مُرْتابٌ شاك في دينه.
[35] الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي دفع و إبطال آياتِ اللَّهِ أدلته و أحكامه بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ بغير حجة جاءتهم في دفع الآيات، بل عنادا كَبُرَ عملهم مَقْتاً و غضبا عِنْدَ اللَّهِ فإن الله يمقتهم مقتا كبيرا وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ هكذا يَطْبَعُ اللَّهُ و معنى الطبع كونه مطبوعا و مختوما بسوء تصرفه و عناده، على الكفر عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ عن قبول الحق جَبَّارٍ يجبر الناس و يظلمهم.
[36] وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ من البناء بمعنى اصنع لِي صَرْحاً قصرا عاليا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أي الطرق بأن أصعد فوقه فأصل إلى:
[37] أَسْبابَ السَّماواتِ طرقها فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى حيث ظن أن الله ساكن في السماء وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ أظن موسى عليه السّلام كاذِباً في أن له إلها وَ كَذلِكَ هكذا زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فعمله السيئ زين له الكفر، لأن الأعمال مقدمة العقائد وَ صُدَّ منع فرعون، منعه هواه عَنِ السَّبِيلِ طريق الهدى وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ لأجل إبادة موسى عليه السّلام و قومه إِلَّا فِي تَبابٍ خسار.
[38] وَ قالَ الَّذِي آمَنَ مؤمن آل فرعون يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ اتبعوني في قولي لكم آمنوا بموسى عليه السّلام أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ الذي فيه الرشد.
[39] يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ تمتع يسير وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ الذي يستقر فيه الإنسان و يخلد.
[40] مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها بقدر جزائها لا أكثر وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ لا عدّ و لا حصر لجزائهم تفضلا من الله.
تبيين القرآن، ص: 485
[41] وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ مالكم تقابلون الإرشاد بالضلال و الإضلال.
[42] تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ أجعل له شريكا ما شريك لَيْسَ لِي بِهِ بكونه شريكا عِلْمٌ إذ المؤمن يعلم أنه لا شريك لله، إذا: فلا يعلم له شريكا، من باب السالبة بانتفاء الموضوع وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ في سلطانه الْغَفَّارِ كثير الغفران و العفو.
[43] لا جَرَمَ حقا أَنَّما أي الأصنام تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لأن أعبده لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ حق فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ لأنها جمادات و الجماد لا يصلح دنيا الإنسان و لا آخرته وَ أَنَّ مَرَدَّنا رجوعنا في الآخرة إِلَى اللَّهِ إلى حسابه و جزائه وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ الكفار الذين يتعدون الحد هُمْ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها.
[44] فَسَتَذْكُرُونَ عند معاينة العذاب ما أَقُولُ لَكُمْ من النصح وَ أُفَوِّضُ أكل أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليحفظني من كل مكروه إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يراهم و يعلم حالهم.
[45] فَوَقاهُ اللَّهُ حفظه تعالى عن سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا مكرهم السيّئ لأجل أذية مؤمن آل فرعون وَ حاقَ أحاط بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ أشد العذاب.
[46] النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي يعرض فرعون و ملأه على النار في الدنيا «1» غُدُوًّا صباحا وَ عَشِيًّا عصرا، إما كناية عن دوام النار عليهم، أو أن هذين الوقتين يعذبون بعرض النار و في ما بينهما مبتلون بتوابع الحرق وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة، يقال للملائكة أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
[47] وَ إِذْ اذكر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زمان يَتَحاجُّونَ يخاصم الأتباع القادة فِي النَّارِ نار جهنم فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تكبروا عن قبول الحق و هم القادة إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً تابعين في الدنيا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً تدفعون عنا قسما مِنَ النَّارِ.
[48] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ نحن و أنتم فِيها في النار فكيف نتمكن من دفع العذاب عنكم إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ بدخول الكفار في النار و المؤمنين في الجنة.
[49] وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ الملائكة الموكلون بها: ادْعُوا رَبَّكُمْ اطلبوا منه يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً قدر يوم مِنَ الْعَذابِ.
__________________________________________________
(1) أي في عالم البرزخ.
تبيين القرآن، ص: 486
[50] قالُوا أي الخزنة: لا تخفيف فقد ذهب وقت قبول الطلب أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات فلم تستجيبوا و عاندتم قالُوا أي أهل النار:
بَلى جاءت الرسل فكذبنا قالُوا أي الخزنة:
فَادْعُوا أنتم، حتى يخفف الله فإنا نعلم أن لا فائدة في الدعاء، و لذا لا ندعو وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ بتخفيف العذاب إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع فلا يجاب.
[51] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإن الله ناصرهم، كما نصر موسى و عيسى و إبراهيم و نوح و محمد و لوط و صالح و يونس و شعيب و آدم و يوسف و غيرهم عليهم السّلام كما نصر المؤمنين، أما قضية اضطهاد الأئمة الطاهرين عليهم السّلام فإنهم شاءوا ذلك لرفعة درجاتهم.
و لذا ورد أن النصر رفرف على الحسين عليه السّلام فلم يرده، و الأئمة عليهم السّلام كان بإمكانهم رفع الاضطهاد عن أنفسهم فلم يريدوها وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي الشهود على الناس بما عملوا و ذلك يوم القيامة.
[52] يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ عذرهم لأنه عذر باطل وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ الطرد عن رحمة الله وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ الدار السيئة و هي جهنم.
[53- 54] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْهُدى ما يهتدي به الناس وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي أعطيناهم التوراة إرثا بعد موسى عليه السّلام هُدىً في حال كون الكتاب هداية وَ ذِكْرى مذكرا لِأُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
[55] فَاصْبِرْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أذى المشركين إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالنصر لك حَقٌّ مطابق للواقع وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فإن الأنبياء يعدون أمورهم البدنية الضرورية كالنوم و الأكل و ما أشبه ذنبا كما يرى من مدّ رجله في محضر الملك، اضطرارا لوجع في رجله، إنه ذنبا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزّهه حامدا له بِالْعَشِيِّ عصرا وَ الْإِبْكارِ الصباح.
[56] إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي لأجل دفع آياته و إبطالها بِغَيْرِ سُلْطانٍ حجة أَتاهُمْ أي أعطاهم الله، و إنما جدالهم عن عناد و هو، لا عن حجة و هدى إِنَّ ما فِي صُدُورِهِمْ الباعثة للجدال إِلَّا كِبْرٌ تكبر عن الحق و هو باعث الجدال ما هُمْ بِبالِغِيهِ لا يبلغون مرادهم في إبطال الآيات فَاسْتَعِذْ استجر يا رسول الله بِاللَّهِ من شرهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْبَصِيرُ بأفعالكم.
[57] لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ في أذهان الناس مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ثانيا بعد الموت، فالقادر على الأكبر قادر على الأصغر وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنهم لا يتأملون.
[58] وَ ما يَسْتَوِي لا يتساوى الْأَعْمى الكافر الذي لا يرى الطريق وَ الْبَصِيرُ المؤمن وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لَا الْمُسِي ءُ أي لا يتساوى المؤمن و المسي ء و هو الذي أساء في عقيدة أو عمل قَلِيلًا ما تأكيد للقلة تَتَذَكَّرُونَ تتعظون بالآيات.
تبيين القرآن، ص: 487
[59] إِنَّ السَّاعَةَ يوم القيامة لَآتِيَةٌ تأتي يقينا لا رَيْبَ فِيها ليس محل الشك وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدقون بإتيان الساعة.
[60] وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي في حوائجكم أَسْتَجِبْ لَكُمْ بإعطاء الحاجة، يعني أن طبيعة الدعاء هكذا، فلا ينافي عدم استجابة بعض الدعوات، كما أن طبيعة الدواء الشفاء فلا ينافي عدم شفاء بعض الأدوية إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي يتكبرون عن أن يدعوني، فإن الدعاء قسم من العبادة سَيَدْخُلُونَ في الآخرة جَهَنَّمَ داخِرِينَ أذلاء.
[61] اللَّهُ هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ بالنوم و الكف عن العمل وَ النَّهارَ مُبْصِراً يبصركم حوائجكم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ بما لا يستحقون إزاء عملهم عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ نعمه.
[62] ذلِكُمُ الذي أظهر هذه الآيات اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى فإلى أين تُؤْفَكُونَ تصرفون و كيف تعبدون الأصنام.
[63] كَذلِكَ هكذا يُؤْفَكُ يصرف عن الله الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ينكرون و لا يقبلون آياته عز و جل.
[64] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً مستقرا وَ السَّماءَ بِناءً مبنيا سقفا وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ حيث خلقكم شكلا جميلا وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ مما فيها فائدة و تلتذ النفس منها ذلِكُمُ الذي وصف هو اللَّهُ دام و كثر خيره رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
[65] هُوَ الْحَيُّ الذي حياته أبدية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أخلصوا الدين له بلا شريك، الْحَمْدُ لِلَّهِ وحده لأنه مصدر كل خير رَبِّ الْعالَمِينَ.
[66] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ أي أعبد الأصنام التي تَدْعُونَ يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله لَمَّا ظرف (نهيت) جاءَنِي الْبَيِّناتُ الحجج مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ أنقاد لِرَبِّ الْعالَمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 488
[67] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ فإن التراب ينقلب إلى النبات، و النبات إلى الدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ المني ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ حيث تنقلب النطفة إلى قطعة دم ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا ثُمَّ يبقيكم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ قوتكم في حالة الشباب ثُمَّ يبقيكم لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى يموت مِنْ قَبْلُ الأشد و قبل الشيخوخة وَ يبقيكم بعد الشيخوخة لِتَبْلُغُوا أَجَلًا وقتا مُسَمًّى قد سمّي لموتكم، في علم الله تعالى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تستعملون عقولكم فتعلمون ماذا أريد منكم.
[68] هُوَ الله الَّذِي يُحْيِي التراب إنسانا، و يحيي في الآخرة الأموات وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أراد أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ و هذا كناية عن إرادته تعالى فَيَكُونُ أي يوجد ذلك الشي ء.
[69] أَ لَمْ تَرَ استفهام لأجل التعجيب إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ لأجل إبطال الآيات أَنَّى يُصْرَفُونَ إلى أين يصرفهم الفساد عن طريق الحق.
[70] الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ القرآن وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من الشرائع و الكتب فَسَوْفَ في الآخرة يَعْلَمُونَ جزاء تكذيبهم.
[71] إِذِ الْأَغْلالُ جمع غل، و هو طوق من حديد يجعل على العنق للإذلال و الأذية فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ في أعناقهم أيضا يُسْحَبُونَ يجرون.
[72] فِي الْحَمِيمِ في الماء المنتهى في الحرارة ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يحرقون.
[73] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما أي أين الأصنام التي كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ تجعلونها شريكا لله.
[74] مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله قالُوا ضَلُّوا عَنَّا تلك الأصنام و غابوا، ثم يكذبون على الله قائلين بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي لم نكن نعبد صنما كَذلِكَ هكذا يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ في الآخرة، يضلهم عما ينفعهم، فإن ضلالهم في الدنيا سبب إضلالهم عن طريق الجنة في الآخرة و يقال لهم:
[75] ذلِكُمْ العذاب الذي نزل بكم بسبب ما كُنْتُمْ كونكم تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لأنهم كانوا يفرحون بالشرك و الضلال وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تبطرون.
[76] ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ كل صنف منكم من باب في حال كونكم خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ جهنم مَثْوَى محل الْمُتَكَبِّرِينَ الذين تكبروا عن قبول الحق.
[77] فَاصْبِرْ يا رسول الله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بهلاك الكفار و نصرتك حَقٌّ فَإِمَّا أصله (إن) الشرطية و (ما) الزائدة للتأكيد نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ نعد هؤلاء الكفار من الإذلال و العذاب في الدنيا أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ نميتك قبل أن ترى عذابهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم.
تبيين القرآن، ص: 489
[78] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أخبارهم كموسى عليه السّلام و عيسى عليه السّلام و غيرهما وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أخبارهم كسائر الأنبياء الكثيرين وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بمعجزة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بأمره، فاقتراح هؤلاء عليك بأن تأتي بآية اقتراح باطل فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بعذابهم في الدنيا أو الآخرة قُضِيَ حكم بين المحق و المبطل بِالْحَقِّ بإنجاء المؤمن و إهلاك الكافر وَ خَسِرَ هُنالِكَ وقت مجي ء أمر الله الْمُبْطِلُونَ أهل الباطل لأن العذاب يأخذهم حينذاك.
[79] اللَّهُ هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها كالإبل وَ مِنْها تَأْكُلُونَ كالبقر و الغنم.
[80] وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كاللبن و الجلد و الشعر وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها بركوبها و حملها إلى حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بالسفر و حملها الأثقال لإيصالها إلى أماكنها وَ عَلَيْها في البر وَ عَلَى الْفُلْكِ السفينة في البحر تُحْمَلُونَ يحملكم الله حتى تبلغوا مقاصدكم.
[81] يُرِيكُمْ الله آیاته دلائل توحيده و سائر صفاته فأَيَ آية من آیاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ و كلها جلية واضحة.
[82] أَ فَلَمْ يَسِيرُوا يسافر هؤلاء الكفار فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السابقة فإن سفرهم يوجب أن يروا آثار المنازل الخربة التي عذّب أهلها، و يسمعوا أخبارهم من الذين في أطراف تلك الخرائب كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ من هؤلاء الكفار أفرادا وَ أَشَدَّ قُوَّةً في البدن و المال و العلم و ما أشبه وَ أكثر آثاراً كالقلاع و المدن و الصنائع فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما أفادهم في دفع العذاب عنهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ كسبهم.
[83] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالأدلة الظاهرة فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ و قالوا يكفينا علمنا عن هدايتكم، و المراد بالعلم ما حسبوه علما من عقائدهم الباطلة وَ حاقَ أحاط بِهِمْ ما العذاب الذي كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فإنه إذا قيل لهم: يأخذكم العذاب، استهزءوا.
[84] فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا عذابنا الشديد قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما الأصنام التي كُنَّا بِهِ بسبب تلك الأصنام مُشْرِكِينَ بالله.
[85] فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا إذ لا يقبل إيمان المضطر فإن الإيمان إنما هو للامتحان و لا امتحان للمجبور في فعله سُنَّتَ اللَّهِ أي سنّ الله سنته بإهلاك المكذبين و عدم قبول إيمانهم في حال نزول العذاب الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ وقت رؤيتهم بأسنا الْكافِرُونَ لأنه قد فاتهم الثواب و لا مناص.
تبيين القرآن، ص: 490
مكية آياتها أربع و خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
[1] حم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] تَنْزِيلٌ أي هذا القرآن تنزيل مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
[3] كِتابٌ فُصِّلَتْ شرحت شرحا كافيا آياتُهُ من حكم و قصص و شرائع، في حال كونه قُرْآناً مقروء عَرَبِيًّا بلغة العرب لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأهل العلم فإنهم المستفيدون بالآيات و بالقرآن.
[4] بَشِيراً لمن آمن و عمل صالحا وَ نَذِيراً مخوفا لمن كفر أو عصى فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبره فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تأمل و تقبل.
[5] وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية، جمع كنان بمعنى الغطاء مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ فلا يدخل قولك في قلوبنا وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ حمل ثقيل فلا نسمع قولك وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ يمنع وصول أحدنا بالآخر فَاعْمَلْ على دينك إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا.
[6] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لست ملكا و لا جنيا حتى لا تتمكنوا من فهم كلامي يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فَاسْتَقِيمُوا في عقيدتكم و أعمالكم متوجهين إِلَيْهِ تعالى وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ هلاك و سوء لِلْمُشْرِكِينَ.
[7] الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ لا يعطون الزَّكاةَ لعدم إشفاقهم على الخلق وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ لعدم اعتقادهم بالخالق.
[8] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع.
[9] قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ مقدار يومين وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً أمثالا من الأصنام ذلِكَ الذي خلق الأرض في يومين رَبُّ الْعالَمِينَ.
[10] وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا مِنْ فَوْقِها مرتفعة عليها وَ بارَكَ فِيها كثّر خيرها بالماء و النبات و المعدن و الحيوان وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها القوت للإنسان و الحيوان فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً أي استوت تلك الأيام سواء لِلسَّائِلِينَ عنها، و التقدير إنما ذكرنا عدد الأيام لإفادة السائلين.
[11] ثُمَّ اسْتَوى توجه الله بقدرته إِلَى خلق السَّماءِ بعد الأرض وَ هِيَ أي السماء قبل بنائها دُخانٌ كالدخان أجزاء متناثرة فَقالَ لَها للسماء وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا أي كونا طَوْعاً طائعين أَوْ كَرْهاً كارهين، و هذا كناية عن أن ما أراده الله يكون قالَتا أَتَيْنا جئناك و صرنا طائِعِينَ فإن كل شي ء في الكون خاضع لله تعالى.
تبيين القرآن، ص: 491
[12] فَقَضاهُنَّ خلقهن سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ فالمجموع ستة، يومان للأرض و يومان للسماء، و يومان لتقدير الأقوات وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي الأمر المربوط بأهل تلك السماء وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا القريبة بِمَصابِيحَ فإن الكواكب زينة وَ حِفْظاً لأن الكواكب محل إرصاد الشياطين فإذا اقتربوا من السماء لتلقي كلام الملائكة رجموا من قبل الكواكب بالشهب ذلِكَ الخلق تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي لا يغالب في سلطانه الْعَلِيمِ العالم بكل شي ء.
[13] فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان بعد إتمام الحجة فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ أخوفكم صاعِقَةً بنزول صاعقة و عذاب عليكم ليصعقكم أي يهلككم مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ.
[14] إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ من كل جهاتهم فكانت قبلهم رسل و معهم رسل و بعدهم رسل قائلين لهم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا أي الكفار في جواب الرسل لَوْ شاءَ رَبُّنا هدايتنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مرسلين، لا أنتم البشر فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ لأنكم بشر فلستم رسلا.
[15] فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ على الحق، تكبروا من قبوله بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً اغتروا بقوتهم و إن أحدا لا يقدر عليهم بزعمهم أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً فإذا شاء إهلاكهم تمكن من ذلك وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ينكرون الآيات.
[16] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة مهلكة فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ مشؤومات عليهم لِنُذِيقَهُمْ بتلك الريح عَذابَ الْخِزْيِ الذل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أكثر إذلالا لهم وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ لا ينصرهم أحد عن بأس الله.
[17] وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أريناهم الطريق فَاسْتَحَبُّوا أحبوا الْعَمى عن الحق عَلَى الْهُدى فلم يسلكوا سبيل الهداية فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ أي العذاب الصاعق المهلك الْهُونِ المهين لهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ جزاء كسبهم الكفر و الضلال.
[18] وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ الشرك و المعاصي.
[19] وَ يَوْمَ يُحْشَرُ يجمع أَعْداءُ اللَّهِ هم الكفار و العصاة إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا، فإن ذلك أخزى لهم.
[20] حَتَّى إِذا ما زائدة للتأكيد جاؤُها حضروا على شفير النار شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ كاليد و الرجل و الفرج بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فإن الله ينطقها فتقول بأعمالهم السيئة.
تبيين القرآن، ص: 492
[21] وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لأعضائهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا بما يضرنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدون قدرة على النطق ثم أنطقكم و هكذا أنطقنا وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة إلى حسابه و جزائه.
[22] وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ قبائحكم عن أعضائكم لأن بهذه الأعضاء عصيتم الله، و لم تظنوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ في السرّ فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.
[23] وَ ذلِكُمْ أي ذلك الظن الخاطئ، و (كم) للخطاب ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أهلككم، فإن ظنكم بجهل الله سبب جرأتكم التي أوجبت هلاككم فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ حيث دخلتم النار.
[24] فَإِنْ يَصْبِرُوا لا ينفعهم الصبر فَالنَّارُ مَثْوىً محلا لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا يطلبوا العتبى أي الرضا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي المرضيين، و المعنى سواء سكتوا أو تكلموا فالنار مثوى لهم.
[25] وَ قَيَّضْنا هيّأنا لَهُمْ لهؤلاء الكفار قُرَناءَ إخوانا من الشياطين، حيث إنهم لم يطيعونا في الاقتران بالمؤمنين قرناهم بالشياطين فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا و شهواتها حتى ارتكبوها وَ ما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة حتى نفوها وَ حَقَّ ثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي قوله تعالى: (لأملأن جهنم) «1» فِي جملة أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ هلكت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و هؤلاء مثل أولئك في الكفر و العصيان إِنَّهُمْ إن هؤلاء كانُوا خاسِرِينَ خسروا سعادة الدارين.
[26] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بعضهم لبعض لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ إذا قرأه محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْغَوْا فِيهِ ارفعوا أصواتكم باللغو و الكلام الباطل عند قراءة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على قراءته فيترك القراءة.
[27] فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً في الآخرة وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أقبح الجزاء، فإن الجزاء فيه سيئ و أسوأ.
[28] ذلِكَ الجزاء السيّئ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ عطف بيان ل (ذلك) لَهُمْ فِيها في النار دارُ الْخُلْدِ محل إقامة أبدية جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ينكرون آياتنا.
[29] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا سببا إضلالنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أي الشيطان و الإنس اللذين هما أضلانا نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا نطأهما انتقاما لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ في المكان و الحال.
__________________________________________________
(1) سورة هود: 119، قال تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
تبيين القرآن، ص: 493
[30] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ اعترفوا بوحدانيته ثُمَّ اسْتَقامُوا على التوحيد و العمل تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت قائلين لهم أَلَّا تَخافُوا عقابا وَ لا تَحْزَنُوا لفوت ثواب وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وعدكم الأنبياء عليهم السّلام في الدنيا.
[31] نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ نتولى شؤونكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالحفظ و الدفاع عنكم وَ فِي الْآخِرَةِ بالثواب و الشفاعة بأمر الله وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من اللذائذ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ تتمنون و تريدون.
[32] نُزُلًا ما يهيّأ للضيف مِنْ غَفُورٍ يغفر ذنوبكم رَحِيمٍ يرحمكم.
[33] وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ إلى توحيده، أي لا أحد أحسن منه وَ عَمِلَ عملا صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ بأن كان هو مسلما و دعا إلى الإسلام.
[34] وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ في العمل و لا في الجزاء ادْفَعْ السيئة بِالَّتِي بالخصلة هِيَ أَحْسَنُ الخصال، كالجهل بالحلم و القطيعة بالصلة فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ إذا دفعت عداوته بالأحسن كَأَنَّهُ وَلِيٌّ صديق حَمِيمٌ حار في الصداقة.
[35] وَ ما يُلَقَّاها أي هذه الخصلة، لا يعطاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على تجرّع المكاره وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ نصيب كبير من العقل.
[36] وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ أي يدعونك إلى خلاف الصواب مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ بما وسوس لك الشيطان على أن لا تدفع السيئة بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ اطلب من الله الاعتصام من وسوسته إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذك الْعَلِيمُ بقصدك.
[37] وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لأنها كلها تدل على وجوده و قدرته لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي خلق كل تلك الآيات إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تخصونه بالعبادة.
[38] فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا تكبروا عن عبادته وحده فلا يضره ذلك، و لا يخلو عن عابد له مطيع إذ الملائكة الذين عِنْدَ رَبِّكَ في الملأ الأعلى يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملّون.
تبيين القرآن، ص: 494
[39] وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ذليلة لعدم النبات و الحركة فيها فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ المطر اهْتَزَّتْ تحركت وَ رَبَتْ انتفخت بالنبات إِنَّ الَّذِي أَحْياها أي الأرض لَمُحْيِ لهو الذي يحيي الْمَوْتى للبعث إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من إحياء الأرض و الميت و غير ذلك.
[40] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ يميلون عن الاستقامة فِي آياتِنا بالطعن و التكذيب لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فسنجزيهم بعملهم أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ و هم الملحدون خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً من العذاب يَوْمَ الْقِيامَةِ و هم المؤمنون اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أيها الملحدون، و الأمر للتهديد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يراه و سيجازيكم عليه.
[41] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ بالقرآن، و هذا بدل عن قوله: (إن الذين يلحدون) لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ كثير النفع عديم النظير، و العزة تنشأ من هذين الوصفين.
[42] لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ من جهة من الجهات لا في زمان نزوله و لا بعده إلى الأبد، فلا بطلان و نقص فيه تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ في أفعاله حَمِيدٍ محمود في كل عمله.
[43] ما يُقالُ لَكَ يقوله كفار قومك من التكذيب و الاستهزاء إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فاصبر كما صبروا، فإن قول هؤلاء مثل أقوال أولئك إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ غفران لمن آمن بك وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ مؤلم لمن كذبك و لم يؤمن.
[44] وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا بأن أنزلناه بغير لغة العرب لَقالُوا لَوْ لا هلا فُصِّلَتْ آياتُهُ تبينت آياته بلغة نفهمها ءَ قرآن أَعْجَمِيٌّ وَ مخاطب عَرَبِيٌّ و كان لهم شبه عذر في عدم قبوله، و لكنا أنزلناه عربيا و مع ذلك لم يؤمنوا قُلْ هُوَ القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً هداية فائدتها لهم وَ شِفاءٌ لما في صدورهم من الشك و الباطل وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ حمل ثقيل حيث إنهم و الأصم سواء في عدم الانتفاع وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى لتعامي قلوبهم عن تدبّره أُولئِكَ أي الكفار يُنادَوْنَ بالقرآن مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ حيث إنهم كالشخص البعيد الذي لا يسمع النداء.
[45] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْكِتابَ التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ كما اختلف في القرآن و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير عذاب المنكر لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بإهلاك الكافر و نجاة المؤمن وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من القرآن مُرِيبٍ موجب للريب و التردد العملي.
[46] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ جزاؤه عائد إلى ذاته وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها فضره عائد إلى نفسه وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ بذي ظلم لِلْعَبِيدِ و إنما عقابهم جزاء عمل أنفسهم.
تبيين القرآن، ص: 495
[47] إِلَيْهِ تعالى يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إذا سئل عن الساعة أرجعوا السائلين عنها إلى الله إذ لا يعلمها إلّا هو وحده وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أوعيتها جمع كم: وعاء الثمرة «1» وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى طفلا وَ لا تَضَعُ المولود إِلَّا بِعِلْمِهِ فإن علمه تعالى شامل لكل ذلك وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ ينادي الله المشركين أَيْنَ شُرَكائِي الذين جعلتموهم لي شريكا قالُوا آذَنَّاكَ أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ يشهد اليوم بأن لك شريكا.
[48] وَ ضَلَّ غاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ يعبدونه شريكا مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا وَ ظَنُّوا أيقنوا بأنه ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب عن العقاب.
[49] لا يَسْأَمُ لا يمل الْإِنْسانُ الكافر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ من طلب السعة و النعمة وَ إِنْ مَسَّهُ أصابه الشَّرُّ الضيق أو البؤس فَيَؤُسٌ شديد اليأس قَنُوطٌ من رحمة الله، كما قال تعالى: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) «2».
[50] وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أصابته تلك الضراء لَيَقُولَنَّ هذا الخير لِي أستحقه بعملي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ القيامة قائِمَةً تقوم، و لذا أعمل في هذا الخير ما أشاء بلا تقيد بشرع أو عقل وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي في الآخرة فرضا إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي الخلة الجميلة، كما أكرمني في الدنيا فَلَنُنَبِّئَنَّ نخبرن الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا لنجازيهم عليه وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ شديد هو عذاب النار.
[51] وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن الشكر وَ نَأى بعد بِجانِبِهِ جنبه عن الناس تبخترا وَ إِذا مَسَّهُ أصابه الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير.
[52] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ منكم، وضع مكانه الظاهر لشرح حالهم مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ خلاف الحق بَعِيدٍ عنه الحق، أي لا أحد أضل منكم.
[53] سَنُرِيهِمْ فإن الإراءة تدريجية آياتِنا حججنا و أدلتنا فِي الْآفاقِ أقطار السماوات و الأرض وَ فِي أَنْفُسِهِمْ من ضروب الأعضاء و الأجهزة حَتَّى يَتَبَيَّنَ ليظهر لَهُمْ أَنَّهُ أي الذي تدعونهم إليه من التوحيد الْحَقُّ المطابق للواقع أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ شاهد حاضر فيشهد على ما عملوا و يجازيهم عليه.
[54] أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ شك مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ لقاء الله في الآخرة أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ علما و قدرة فلا يفوته شي ء.
__________________________________________________
(1) و في لسان العرب: أكمام جمع كم بكسر الكاف، و هو غلاف الثمر و الحب قبل أن يظهر.
(2) سورة يوسف: 87.
تبيين القرآن، ص: 496
مكية آياتها ثلاث و خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] حم عسق رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[3] كَذلِكَ هكذا يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ فاعل (يوحي) الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ في تدبيره.
[4] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ بقول مطلق الْعَظِيمُ فهو أعلى و أعظم من كل شي ء.
[5] تَكادُ تقرب السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ يتشققن من هول أن دعوا لله ولدا و شريكا مِنْ فَوْقِهِنَّ فإن انفطار الأعلى أشد في الهول وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزهون الله حامدين وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من المؤمنين أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ لمن استغفر الرَّحِيمُ بعباده.
[6] وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ غير الله أَوْلِياءَ أي الأصنام اللَّهُ حَفِيظٌ حافظ عَلَيْهِمْ أعمالهم وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بحافظ و إنما أنت منذر.
[7] وَ كَذلِكَ هكذا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغة العرب لِتُنْذِرَ تخوف أُمَّ الْقُرى مكة وَ مَنْ حَوْلَها من البلاد وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة الذي يجتمع فيه الخلق لا رَيْبَ فِيهِ ليس محل شك فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ النار الملتهبة.
[8] وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً بأن أجبرهم على الهداية وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ ممن قبل الهداية فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ يلي أمورهم بالصلاح لهم وَ لا نَصِيرٍ ينصرهم بدفع العذاب عنهم.
[9] أَمِ بل اتَّخَذُوا أي الكفار مِنْ دُونِهِ دون الله أَوْلِياءَ كالأصنام فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الحقيقي وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و الصنم لا يقدر على شي ء.
[10] وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ أيها المؤمنون و الكفار فِيهِ عائد إلى (ما) مِنْ شَيْ ءٍ بيان (ما) فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ الذي يفصل بين المختلفين ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في أموري وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع.
تبيين القرآن، ص: 497
[11] فاطِرُ خالق السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساءكم وَ جعل مِنَ الْأَنْعامِ البقر و الغنم و الإبل أَزْواجاً ذكرا و أنثى يَذْرَؤُكُمْ يكثركم فِيهِ في هذا الجعل، أي بسبب جعل الزوجين لَيْسَ كَمِثْلِهِ كذاته شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
[12] لَهُ مَقالِيدُ مفاتيح خزائن السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يضيق لمن يشاء إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم بأفعالكم و يجازيكم عليها.
[13] شَرَعَ جعل لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى فإن دين الجميع واحد، فقد أوصاهم جميعا أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أصوله و فروعه وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ بأن يخالف أحدكم الآخر كَبُرَ عظم عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد اللَّهُ يَجْتَبِي يختار إِلَيْهِ إلى دينه مَنْ يَشاءُ أن يوفقه له وَ يَهْدِي بالتوفيق إِلَيْهِ إلى الدين مَنْ يُنِيبُ يرجع عن معاصيه، فمنهم مجتبى و منهم مهتد.
[14] وَ ما تَفَرَّقُوا أي أهل الكتاب بأن بقي بعضهم على الهدى و بعضهم ضلّ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ و علموا الحقائق بَغْياً حسدا بَيْنَهُمْ حسد بعضهم أن يتقدم البعض الآخر وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير عذاب الكافر إِلى أَجَلٍ وقت مُسَمًّى قد سمي، و ذلك لمصلحة في التأخير لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بإهلاك المبطلين وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ أهل الكتاب الذين ورثوه من أسلافهم مِنْ بَعْدِهِمْ بعد نوح و إبراهيم و غيرهما عليهم السّلام لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من القرآن مُرِيبٍ موجب للريب و التردد عملا.
[15] فَلِذلِكَ الدين، أي إليه فَادْعُ الناس وَ اسْتَقِمْ عليه كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أهواء المشركين الباطلة الموجبة للانحراف وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ بكل الكتب وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أسير بالعدل اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لا شريك له لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ فكل مجزي بما عمل لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ لا خصومة و لا حجاج لأنه ظهر الحق اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة لأجل تميز المحق من المبطل وَ إِلَيْهِ إلى جزائه الْمَصِيرُ مصير الكل.
تبيين القرآن، ص: 498
[16] وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ في دينه و توحيده مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ما استجاب له الناس و دخلوا فيه حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ باطلة عِنْدَ رَبِّهِمْ و إن كانت وجيهة عند بعض الناس، فماذا يريدون بعد ذلك، فهل الإسلام باطل و قد ظهر لديهم كونه حقا، أو هل الإسلام لا ناصر له و الإنسان يتجنب الالتفاف حول الذي لا ناصر له لأنه يكون موجبا للتشهير بين الناس، و قد استجيب للدين و دخل فيه الناس وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ من الله وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة.
[17] اللَّهُ هو الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ القرآن بِالْحَقِّ فلم يكن الإنزال بالباطل وَ الْمِيزانَ بأن قرر آلة الوزن، فالكتاب للنظام و السعادة، و الميزان للتطبيق و العدالة وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ القيامة قَرِيبٌ مجيئها فيخسر المبطلون.
[18] يَسْتَعْجِلُ بِهَا يطلب أن تعجل الساعة الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استهزاء وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ خائفون مِنْها لما يعلمون من أهوالها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ فتجي ء قطعا أَلا للتنبيه إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ يشككون و يجادلون فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ انحراف عن الحق بَعِيدٍ عن الواقع.
[19] اللَّهُ لَطِيفٌ بار بِعِبادِهِ كلهم يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بما يشاء حيث تقتضي المصالح وَ هُوَ الْقَوِيُّ فيما يريد الْعَزِيزُ الذي لا يغالب.
[20] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ثوابها «1» الذي هو نتيجة زرعه الأعمال الصالحة في الدنيا نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ لأنا نعطيه بدل الواحد عشرة وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها بعض الدنيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذ لم يحرث للآخرة.
[21] أَمْ بل لَهُمْ للمشركين شُرَكاءُ الأصنام التي جعلوها شريكة لله شَرَعُوا وضعوا و قننوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ الطريقة في العمل و العقيدة ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ إذ لم يأذن الله إلا بطريقة الإسلام وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ الوعد بتأخير الفصل و القضاء إلى يوم القيامة لَقُضِيَ حكم بَيْنَهُمْ بين المشركين و المؤمنين بإهلاك المشركين وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ أنفسهم بالشرك و العصيان لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة.
[22] تَرَى الظَّالِمِينَ في الآخرة مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا كَسَبُوا من الكفر و المعاصي في الدنيا وَ هُوَ وبال ما عملوا واقِعٌ بِهِمْ لا محالة أشفقوا أم لا وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ متنزهاتها لَهُمْ ما يَشاؤُنَ يريدون عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة ذلِكَ الثواب هُوَ الْفَضْلُ الزيادة من الله لهم الْكَبِيرُ.
__________________________________________________
(1) أي ثواب الآخرة، و الحرث: الزرع، انظر لسان العرب: ج 2 ص 134. [.....]
تبيين القرآن، ص: 499
[23] ذلِكَ الثواب هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ به الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على أداء الرسالة أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ الحب و إظهاره فِي الْقُرْبى في أقربائي، فإن ذلك أيضا عائد إليهم، لأنهم عليهم السّلام الشارحون للكتاب الهادون إلى الصواب وَ مَنْ يَقْتَرِفْ يكتسب حَسَنَةً عملا حسنا نَزِدْ لَهُ فِيها لمضاعفة ثوابها إلى عشرة أضعاف حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للسيئات شَكُورٌ للحسنات.
[24] أَمْ بل يَقُولُونَ افْتَرى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَى اللَّهِ كَذِباً في ادعائه الرسالة فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ إذا كنت كاذبا يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ بأن تنسى القرآن فكيف تكون مفتريا و الحال أن الله أنزل القرآن على قلبك مما يدل على أنك من قبله تعالى وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ الذي يقولونه وَ يُحِقُّ الْحَقَّ يظهر كونه حقا بِكَلِماتِهِ بوحيه إليك إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بمضمراتها، و المراد بالصدور القلوب التي في الصدور.
[25] وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ فكيف تتركون هذا الإله و تتخذون الأصنام.
[26] وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يجيبهم إلى ما يسألونه وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بأن يعطيهم ما لا يسألون وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة.
[27] وَ لَوْ بَسَطَ وسع اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا ظلموا و تعدوا الحدود فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ بقدر ما تقتضيه المصلحة إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ يعلم كل شي ء منهم بَصِيرٌ يراهم.
[28] وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ المطر مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي يئسوا عن نزوله وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ يبسطها على الناس وَ هُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى أمور الناس الْحَمِيدُ المحمود في أفعاله.
[29] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده و صفاته خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ نشر فِيهِما مِنْ دابَّةٍ حيوانات تدب و تتحرك وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ بإماتتهم أو حشرهم إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ في أي وقت شاء.
[30] وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي بسبب ذنوبكم- و هذا غالبي- وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب فلا يعاقبكم عليه.
[31] وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قادرين على أن تعجزوا الله حتى لا يتمكن من أخذكم فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يتولى شؤونكم وَ لا نَصِيرٍ ينصركم من بأس الله.
تبيين القرآن، ص: 500
[32] وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال.
[33] إِنْ يَشَأْ الله يُسْكِنِ الرِّيحَ بأن لا تهب فَيَظْلَلْنَ فيبقين تلك السفن رَواكِدَ واقفات عَلى ظَهْرِهِ ظهر البحر إِنَّ فِي ذلِكَ التسيير للسفن لَآياتٍ على الله و صفاته لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر و التأمل في الآيات شَكُورٍ فإن الشاكر أعرف بالآية لأنه يتحرّاها ليشكرها.
[34] أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي إن شاء أهلك أهل السفن بإرسال ريح شديدة لتغرقها بِما كَسَبُوا بسبب أعمالهم السيئة وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ من الناس أو من الذنوب.
[35] وَ يَعْلَمَ عطف على علة مقدرة أي إن شاء أهلكهم لينتقم و ليعلم الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا لأجل إبطالها ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب من العذاب.
[36] فَما أُوتِيتُمْ أعطيتم مِنْ شَيْ ءٍ من الأموال و ما أشبه فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تتمتعون بها مدة حياتكم وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة خَيْرٌ وَ أَبْقى أكثر بقاء لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أمورهم.
[37] وَ الَّذِينَ عطف على (للذين) يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ الآثام الكبيرة، أما الصغائر فكثيرا ما يبتلى الإنسان بها وَ الْفَواحِشَ المعاصي المتعدية للحد وَ إِذا ما زائدة للتأكيد غَضِبُوا بما يفعل بهم من الظلم هُمْ يَغْفِرُونَ و يتجاوزون عن الظالم.
[38] وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أجابوه فيما دعاهم إليه وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى ذو تشاور بَيْنَهُمْ لا يقدمون عليه إلا بعد المشورة وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في طاعة الله.
[39] وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ الظلم من غيرهم هُمْ يَنْتَصِرُونَ ينصر بعضهم بعضا لدفع ذلك البغي، و لا تنافي بين هذه الآية و الآية السابقة إذ للعفو محل و للانتقام محل.
[40] وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها بدون زيادة فَمَنْ عَفا عن المؤاخذة وَ أَصْلَحَ بينه و بين خصمه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون الناس.
[41] وَ لَمَنِ أي الذي انْتَصَرَ على خصمه بَعْدَ ظُلْمِهِ بعد أن ظلمه شخص فَأُولئِكَ المنتصرون ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة و المعاقبة.
[42] إِنَّمَا السَّبِيلُ بالعقاب عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ بغير حق وَ يَبْغُونَ يتعدون فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم لأجل ظلمهم.
[43] وَ لَمَنْ صَبَرَ على الأذى وَ غَفَرَ لمن تعدى عليه إذا كان موقع الغفران إِنَّ ذلِكَ الصبر و الغفران لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ معزوماتها المحتاجة إلى عزم في النفس، لأن ذلك صعب جدا، و خبر (لمن) مقدر، أي فهو ذو عزم قوي، و هذا حث على الصبر.
[44] وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يتركه حتى يضل لأنه ترك قبول الحق فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ ناصر يتولى شأنه بالصلاح مِنْ بَعْدِهِ بعد اللّه أي سواه وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ رجوع إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ طريق حتى نسلكه فنرجع إلى الدنيا و نعمل صالحا.
تبيين القرآن، ص: 501
[45] وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها على النار بأن يؤتي بهم على شفيرها في حال كونهم خاشِعِينَ أذلاء مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ نظر قليل يسرقون النظر إلى النار، كما هو شأن كل ذليل في محل فإنه لا يجرأ من النظر بملإ عينه وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملي الخسران هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها للعذاب وَ أَهْلِيهِمْ بأن أدخلوهم النار أيضا، أو دخل الأهل في الجنة فلم يكونوا مع آبائهم و أوليائهم يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ دائم.
[46] وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يتركه حتى يضل فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ للوصول إلى الهداية و الجنة.
[47] اسْتَجِيبُوا أجيبوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ لا رجوع لذلك اليوم، فلا يتأخر حتى يكون الإنسان في الحالة السابقة مِنَ اللَّهِ صلة (مردّ)، أي لا يرده الله بعد إتيانه ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ تلجئون إليه ليرد العذاب عنكم يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ قوة إنكار ترد العذاب عنكم.
[48] فَإِنْ أَعْرَضُوا أعرض الكفار عن قبول قولك فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم عن الكفر، فلا تغتم لذلك إِنْ ما عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أن تبلغهم و قد فعلت وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ كالفقر و المرض بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب أعمالهم فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ كثير الكفران ينسى النعم الكثيرة التي هو فيها و يتذكر النعمة المفقودة فقط.
[49] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ فله أن يقسم النعمة و النقمة كيف يشاء يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً من الأولاد وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ.
[50] أَوْ يُزَوِّجُهُمْ يعطيهم القسمين ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً فلا يعطيه الأولاد إِنَّهُ عَلِيمٌ بما فيه الصلاح قَدِيرٌ لما يريد.
[51] وَ ما كانَ ما صح لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وجها لوجه لأنه مستحيل، فإنه تعالى ليس بجسم إِلَّا وَحْياً إلهاما كما كلّم أمّ موسى أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن لا يرى الله كما كلّم موسى عليه السّلام أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا كجبرئيل أتى محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما أراد الله فَيُوحِيَ الرسول أي الملك إلى النبي أو غيره بِإِذْنِهِ تعالى ما يَشاءُ من الأقوال و الأحكام إِنَّهُ عَلِيٌّ عن رؤية الأبصار حَكِيمٌ يفعل ما يقتضيه الصلاح.
تبيين القرآن، ص: 502
[52] وَ كَذلِكَ هكذا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً القرآن و إنما سمي روحا لأن العالم بلا نظام صحيح كالميت و القرآن نظام للعالم مِنْ أَمْرِنا من جنس أوامرنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ القرآن وَ لَا الْإِيمانُ فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدون تعليم الله لا يدري شيئا وَ لكِنْ أوحينا فعلمت جَعَلْناهُ أي القرآن نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ ممن قبل الهداية مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي ترشد إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
[53] صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ ترجع الْأُمُورُ كل شي ء من الخلق و أعمالهم، فيجازي كلا حسب عمله.
مكية آياتها تسع و ثمانون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] حم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] وَ الْكِتابِ قسما بالقرآن الْمُبِينِ الموضح طريق الحق، و خبر القسم مقدر دلّ عليه (أ فنضرب) أي لا نصرف الذكر عنكم.
[3] إِنَّا جَعَلْناهُ أي الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغة العرب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تفهمونه.
[4] وَ إِنَّهُ أي القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ اللوح المحفوظ لأن الكتب السماوية مأخوذة منه، الذي هو لَدَيْنا في الملأ الأعلى لَعَلِيٌّ رفيع حَكِيمٌ قد أحكمت آياته.
[5] أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ القرآن صَفْحاً كما يضرب على صفح الدابة و طرفها، لأجل أن تنصرف إلى طريق آخر أَنْ لأن كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ مجاوزين الحد بأن يكون عدم قبولكم للقرآن موجبا لرفع أحكامه عنكم، و الاستفهام للإنكار أي لا يكون هذا.
[6] وَ كَمْ للكثرة أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأمم الْأَوَّلِينَ السابقين.
[7] وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[8] فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ من قومك بَطْشاً أخذا، أي الذين هم كانوا أقوى من قومك، و هذا تهديد للكفار وَ مَضى سلف في القرآن مَثَلُ الْأَوَّلِينَ قصص أخذهم لمّا كفروا.
[9] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الْعَلِيمُ بخلقه، فلما ذا يتخذون الأصنام آلهة.
[10] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مستقرا وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا طرقا تسلكون فيها لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى وجوده سبحانه لما ترون من آثار قدرته.
تبيين القرآن، ص: 503
[11] وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً المطر بِقَدَرٍ بمقدار يراه صلاحا فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أحييناها بالزرع بعد أن كانت يابسة كَذلِكَ كحياة الأرض بعد موتها تُخْرَجُونَ من القبور للبعث.
[12] وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ أصناف الخلق كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ السفينة وَ الْأَنْعامِ الإبل ما تَرْكَبُونَ في البحر و البر.
[13] لِتَسْتَوُوا تستقروا عَلى ظُهُورِهِ أي ظهر ما تركبون ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ بأن تشكروه على تلك النعمة وَ تَقُولُوا سُبْحانَ أنزهه تنزيها الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ذلله لنا لنركبه وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مطيقين مقارنين في القوة.
[14] وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا إلى جزائه لَمُنْقَلِبُونَ راجعون فإن السفر يذكّر بسفر الآخرة.
[15] وَ جَعَلُوا أي المشركون لَهُ لله مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً حيث قالوا المسيح ابن الله، فإن المسيح عليه السّلام من عبيد الله، فجعلوه ولدا له، و الولد جزء من الوالد إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ كثير الكفر و الكفران مُبِينٌ ظاهر الكفر.
[16] أَمِ استفهام إنكاري أي هل اتَّخَذَ الله مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ لأنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله وَ أَصْفاكُمْ اختاركم بِالْبَنِينَ بأن أعطاكم البنين، فلم يكتفوا بجعل الولد له بل جعلوا الأولاد من أخس الأولاد في نظرهم.
[17] وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما أي بالبنت التي ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا جعلها لله شبها، إذ الولد يشبه الوالد ظَلَّ صار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا اسود من الخجل و الغضب وَ هُوَ كَظِيمٌ ممتلئ غيظا.
[18] أَ وَ جعلوا لله مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي البنت التي تتربى في الزينة وَ هُوَ فِي الْخِصامِ عند المخاصمة غَيْرُ مُبِينٍ موضح للحجة، فإن النساء هكذا لكونهن عاطفيات و ذلك يوجب عدم قدرتهن على الإتيان بالحجة العقلية الكاملة عادة.
[19] وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً فقالوا هم بنات الله أَ شَهِدُوا هل حضروا خَلْقَهُمْ وقت خلقتهم فرأوهم إناثا و هذا استفهام إنكار سَتُكْتَبُ السين للتحقيق شَهادَتُهُمْ بأن الملائكة إناث وَ يُسْئَلُونَ يوم القيامة عن افترائهم.
[20] وَ قالُوا عبّاد الملائكة لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ أن لا نعبد الملائكة ما عَبَدْناهُمْ فإنما عبدنا الملائكة لأن الله شاء لنا أن نعبدهم ما لَهُمْ بِذلِكَ أي بما قالوا من أن الله شاء لنا عبادة الملائكة مِنْ عِلْمٍ مستند و دليل إِنْ ما هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون في هذا القول.
[21] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن مكتوبا فيه أن الملائكة إناث فَهُمْ بِهِ بذلك الكتاب مُسْتَمْسِكُونَ متمسكون، فلا حجة لهم عقلية و لا نقلية.
[22] بَلْ صرف التقليد قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ على طريقة وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ سالكون.
تبيين القرآن، ص: 504
[23] وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فِي قَرْيَةٍ بلد مِنْ نَذِيرٍ نبي أو قائم مقامه إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها الأغنياء، و خصهم بالذكر لأنهم عادة يعارضون الأنبياء ابتداء إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ فأقوال هؤلاء مثل أقوال أولئك.
[24] قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَ تتبعون آباءكم وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بدين أهدى أكثر استقامة مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من الدين قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ و إن كان أهدى.
[25] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بإنزال العذاب فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا الرسل.
[26] وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ بري ء «1» مِمَّا تَعْبُدُونَ من الأصنام.
[27] إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي خلقني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ يهديني إلى الطريق المستقيم، و السين للتأكيد.
[28] وَ جَعَلَها جعل إبراهيم كلمة التوحيد كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ذريته فلا يزال فيهم من يدعو إلى التوحيد و يوحد الله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من الشرك إلى التوحيد بدعائه و دعاء عقبه.
[29] بَلْ أي سبب كفرهم ليس أنهم يرون ما جاء به الرسول باطلا، و إنما لأنهم أترفوا و عادة المترفين الكفر مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ بأنواع النعم فانهمكوا في الشهوات حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر.
[30] وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا القرآن سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ فزادوا إلى شركهم معاندة الحق.
[31] وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ أهل الْقَرْيَتَيْنِ مكة و الطائف عَظِيمٍ صفة رجل، أرادوا الوليد بن مغيرة بمكة و عروة بن مسعود بالطائف فإنهم زعموا أن الرسالة لا تليق إلا بمن له مال و جاه.
[32] أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ فيضعون النبوة حيث شاءوا نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و لم نكل تدبيرها إليهم فكيف نفوض أمر الرسالة الذي هو من أعظم الأمور إلى تقديراتهم وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الرزق و العلم و الذكاء لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا مسخرا يستخدمه في حوائجه لتنتظم أمور العالم فليس المال و الجاه دليل عظم الشخص حتى يكون قابلا للنبوة كما زعموا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ كالنبوة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأموال، و إنما يعطاها من كانت له قابلية نفسية.
[33] وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مجتمعين على الكفر، حيث يرون الكفار أعلى درجة منهم، لجعلنا الكفار أكثر مالا، و ذلك لبيان أن المال لا قيمة له، خلاف ما زعموا من أن الأموال الكثيرة دليل العظمة لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ بدل (لمن) سُقُفاً جمع سقف مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ جمع (معرج) و هو السلم، أي سلالم من فضة عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعلون السطوح.
__________________________________________________
(1) براء: مصدر لبرء يبرأ، و المعنى: المبالغة في كونه بريئا.
تبيين القرآن، ص: 505
[34] وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً من فضة، جمع سرير عَلَيْها على تلك السرر يَتَّكِؤُنَ.
[35] وَ جعلنا لهم زُخْرُفاً زينة و ذهبا وَ إِنْ مخففة من الثقيلة كُلُّ ذلِكَ لَمَّا قطعا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ أما الْآخِرَةُ الجنة التي هي عِنْدَ رَبِّكَ عند محل لطفه فهي لِلْمُتَّقِينَ الذين يجتنبون الكفر و المعاصي.
[36] وَ مَنْ يَعْشُ يتعامى أو يعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ نهيئ لَهُ شَيْطاناً نتركه حتى يذهب لإغوائه، جزاء إعراضه عن الحق فَهُوَ الشيطان لَهُ لذلك الشخص قَرِينٌ ملازم بقصد إضلاله.
[37] وَ إِنَّهُمْ الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ يمنعون الذين يعشون عَنِ السَّبِيلِ للهدى وَ يَحْسَبُونَ يظنون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ إلى الحق و الرشاد.
[38] حَتَّى إِذا جاءَنا العاشي في الآخرة قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أيها الشيطان بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ مثل بعد المشرق عن المغرب «1» فأنت بئس القرين لي.
[39] وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ في هذا اليوم إِذْ ظَلَمْتُمْ أنفسكم في الدنيا أَنَّكُمْ فاعل (ينفعكم) «2» فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي اشتراككم في العذاب غير مجد لكم، إذ لا يخفف أحدكم عن عذاب الآخر.
[40] أَ فَأَنْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تُسْمِعُ الصُّمَّ جمع أصم، شبه به الكافر المعاند لعدم انتفاعه بالسماع أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ جمع أعمى، فالمعاند مثله في عدم انتفاعه بنور الإيمان وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر يعاند الحق، و الاستفهام بقصد تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[41] فَإِمَّا أصله (إن) الشرطية و (ما) الزائدة للتأكيد نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أي نحن ننتقم من هؤلاء سواء في حياتك أو بعد موتك.
[42] أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ من العذاب فَإِنَّا عَلَيْهِمْ على كل حال مُقْتَدِرُونَ سواء في حياتك أو بعد موتك.
[43] فَاسْتَمْسِكْ تمسك بِالَّذِي أُوحِيَ من الشرائع إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا اعوجاج فيه.
[44] وَ إِنَّهُ القرآن لَذِكْرٌ مذكّر لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ عن القيام بحقه.
[45] وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا اسأل أممهم، نحو (اسأل القرية) «3» أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ فكيف ينسبون عبادة الأوثان إلى الأنبياء و الفرض أن التوحيد دين الأنبياء كلهم.
[46] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أشراف قومه فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ.
[47] فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا بأدلتنا إِذا هُمْ فرعون و ملأه مِنْها من الآيات يَضْحَكُونَ يستهزءون بها.
__________________________________________________
(1) المشرقين: المشرق و المغرب، و التثنية للتغليب كالحسنين عليهما السّلام.
(2) أي أن و ما بعدها في تأويل المصدر فاعل (ينفعكم).
(3) سورة يوسف: 82.
تبيين القرآن، ص: 506
[48] وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من آياتنا كالعصا و الطوفان و الجراد إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها في الدلالة على صدق موسى عليه السّلام وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ كالجراد و القمل و الضفادع لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم.
[49] وَ قالُوا أي فرعون و ملأه يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أن يكشف عنا العذاب إن صرنا في صدد الإيمان، ادعه بكشف العذاب، فإن كشفه ف إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ نقبل قولك.
[50] فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ يخالفون عهدهم فلا يؤمنون.
[51] وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي تحت قصوري أَ فَلا تُبْصِرُونَ ما أنا فيه من العز و الملك.
[52] أَمْ تبصرون فتعلمون أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا موسى عليه السّلام بزعمه أن كثرة المال و الملك دالة على الأفضلية الَّذِي هُوَ مَهِينٌ حقير و العياذ بالله لا يصلح للرئاسة وَ لا يَكادُ يُبِينُ لا يقدر على التكلم، فإن موسى عليه السّلام لم يكن فصيح اللسان.
[53] فَلَوْ لا فهلا إذا كان صادقا أُلْقِيَ عَلَيْهِ من السماء أَسْوِرَةٌ جمع سوار، ما يلبس في اليد مِنْ ذَهَبٍ و كان ذلك من علائم الملوك يلبسون السوار من الذهب و الفضة أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ يقترن بعضهم ببعض يشهدون له أنه نبي مرسل.
[54] فَاسْتَخَفَّ فرعون قَوْمَهُ بأن طلب من قومه الخفة في طاعته فَأَطاعُوهُ في الكفر و العصيان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله.
[55] فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا لما رأينا من عنادهم انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ.
[56] فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً متقدمين على من أتى بعدهم من الكفار في نزول العذاب بهم وَ مَثَلًا موعظة و عبرة لِلْآخِرِينَ الذين يأتون من بعدهم.
[57] وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ضرب المشركون مثلا بعيسى عليه السّلام لأجل إبطال كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث أنزل عليه (إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم) «1» فقالوا على هذا يلزم أن يكون عيسى عليه السّلام حصب جهنم لأنه عبد من دون الله، جاهلين أنه ورد في الآية (ما) و هي تطلق على ما لا يعقل فلا تشتمل الآية المسيح عليه السّلام إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ من المثل يَصِدُّونَ يصيحون فرحا لزعمهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انقطع «2».
[58- 60] وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ عيسى عليه السّلام، فإذا كان عيسى عليه السّلام الذي هو خير في النار فلتكن آلهتنا أيضا في النار ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بالباطل بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ شديد و الخصومة و الجدال، ثم عطف القرآن السياق إلى حقيقة أمر عيسى عليه السّلام بقوله: إِنْ ما هُوَ المسيح عليه السّلام إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا أمرا عجيبا كالمثل السائر، أو آية لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ بدلكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يخلف بعضهم البعض، فإنا نقدر على إبادتكم أيها الكفار.
__________________________________________________
(1) سورة الأنبياء: 98.
(2) صد يصد صدا: ضج و عج، لسان العرب: ج 3 ص 246.
تبيين القرآن، ص: 507
[61] وَ إِنَّهُ أي هلاك الناس جميعا لَعِلْمٌ سبب علم لِلسَّاعَةِ للقيامة، فإن هلاك الناس بأجمعهم يكون من علائم القيامة فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكن أيها الناس في مجي ء القيامة وَ اتَّبِعُونِ في أوامري هذا اتباعي صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه.
[62] وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ لا يمنعنكم عن سلوك الطريق المستقيم إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
[63] وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ بالأدلة الظاهرة قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بالإنجيل الذي هو معرفة مواضع الأشياء في العقيدة و العمل وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أمور الشريعة السابقة فَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه في مخالفتي وَ أَطِيعُونِ أطيعوني.
[64] إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا توحيده صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
[65] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ الجماعات مِنْ بَيْنِهِمْ بين الذين أرسل إليهم، فقسم آمنوا به و قسم لم يؤمنوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بمخالفته عيسى عليه السّلام مِنْ عَذابِ يَوْمٍ القيامة أَلِيمٍ مؤلم.
[66] هَلْ يَنْظُرُونَ هل ينتظر هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد إتمام الحجة إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجأة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بها لغفلتهم عنها.
[67] الْأَخِلَّاءُ الأحباب يَوْمَئِذٍ يوم القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأن ما تحابوا عليه صار سبب عدائهم إِلَّا الْمُتَّقِينَ من الأخلاء.
[68] فيقال لهم يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ من العذاب وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ لفوات ثواب.
[69] الَّذِينَ صفة ل (عباد) آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ أسلموا لله تعالى.
[70] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ زوجاتكم تُحْبَرُونَ تسرون سرورا يبدو في وجوهكم.
[71] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ جمع صحفة أي القصعة فيها الطعام مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ جمع كوب و هو قسم من الكوز لا عروة له، فيه الشراب وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من النعم وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ من المناظر الحسنة وَ أَنْتُمْ فِيها في الجنة خالِدُونَ دائمون.
[72] وَ يقال لهم تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بأن صرتم أهلها بعد أن لم تكن لكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بسبب أعمالكم الصالحة.
[73] لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها من تلك الفاكهة تَأْكُلُونَ.
تبيين القرآن، ص: 508
[74- 75] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ لا يخفف عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ آيسون.
[76] وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لأنفسهم حتى استحقوا هذا العذاب.
[77] وَ نادَوْا يا مالِكُ الخازن للنار، اطلب لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ليموتنا قالَ مالك إِنَّكُمْ ماكِثُونَ باقون لا موت لكم.
[78] لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ لما هو حق وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ.
[79] أَمْ بل أَبْرَمُوا أَمْراً أحكموا أمرهم في كيد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَإِنَّا مُبْرِمُونَ محكمون أمرنا في إعلاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[80] أَمْ يَحْسَبُونَ بل يظن هؤلاء الكفار أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ في ما يخفون من الكلام وَ نَجْواهُمْ ما يناجي بعضهم بعضا من الكلام بَلى نسمع ذلك وَ رُسُلُنا الحفظة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ كل ما يبدو منهم.
[81] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فرضا كما تزعمون فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لذلك الولد، لأن تعظيم الولد الصالح تعظيم لوالده.
[82] سُبْحانَ أنزّهه تنزيها عن الولد رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ السلطة العظيمة عَمَّا يَصِفُونَ يصفونه به من الولد.
[83] فَذَرْهُمْ اتركهم يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَخُوضُوا في باطلهم وَ يَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي القيامة.
[84] وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي انه إله الكون بسمائه و أرضه وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أفعاله الْعَلِيمُ بكل شي ء.
[85] وَ تَبارَكَ دام و كثر خيره الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وقت قيام القيامة وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى جزائه و حسابه، في يوم القيامة.
[86] وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام الشَّفاعَةَ لعبادها عند الله إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ كالمسيح و عزير عليهم السّلام و الملائكة وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنه لا تملك الأصنام الشفاعة.
[87] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي المشركين مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لأنهم يعلمون أن ما سواه ليس خالقا فَأَنَّى إلى أين يُؤْفَكُونَ يصرفون من عبادة الله.
[88] وَ قِيلِهِ قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي قال هذا القول يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ و هذا على وجه التشكي.
[89] فَاصْفَحْ أعرض عَنْهُمْ قبل أمرك بقتالهم وَ قُلْ سَلامٌ لأجل الوداع فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أعمالهم السيئة.
تبيين القرآن، ص: 509
مكية آياتها تسع و خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] حم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] وَ الْكِتابِ قسما بالكتاب الْمُبِينِ الظاهر و هو القرآن.
[3] إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ليلة القدر فقد نزل القرآن جملة في ليلة القدر على قلب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم نزل منجما في ثلاث و عشرين سنة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مخوفين و لذا أنزلناه.
[4] فِيها في ليلة القدر يُفْرَقُ يفصل كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ محكم.
[5] أَمْراً حال من (أمر) مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ من شأننا إنزال الكتب و إرسال الرسل.
[6] رَحْمَةً أي أنزلناه لأجل الرحمة مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للأقوال الْعَلِيمُ العالم بكل شي ء.
[7] رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ من أهل الإيقان فأيقنوا بهذا.
[8- 9] لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ من هذا الكتاب يَلْعَبُونَ في الدنيا و لا يعملون للآخرة.
[10] فَارْتَقِبْ فانتظر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ فإن السماء تتحول إلى دخان مُبِينٍ ظاهر.
[11] يَغْشَى النَّاسَ يحيط الدخان بالناس هذا الذي تشاهدونه عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[12] يقولون رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ إن كشفت العذاب عنا.
[13] أَنَّى من أين و كيف لَهُمُ الذِّكْرى أن يتذكروا كما قالوا اكشف عنا العذاب نؤمن وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر.
[14] ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أعرضوا عن الإيمان به وَ قالُوا مُعَلَّمٌ علّمه القرآن بشر «1» مَجْنُونٌ كانوا ينسبون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الجنون.
[15] إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ إن كشفنا العذاب قليلا و لو لمدة قليلة- عدتم إلى ما كنتم عليه من الكفر، كما قال تعالى: (و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) «2».
[16] يَوْمَ القيامة نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى نأخذ بشدة الأخذة الكبيرة إِنَّا مُنْتَقِمُونَ منكم في ذلك اليوم.
[17] وَ لَقَدْ فَتَنَّا امتحنا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء الكفار قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ موسى عليه السّلام.
[18] أَنْ أَدُّوا أرسلوا معي إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي بني إسرائيل الذين استعبدهم فرعون إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ مأمون على ما حمّلت و أرسلت به.
__________________________________________________
(1) قالوا انه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعلم من رومي أو شامي أو فارسي!.
(2) سورة الأنعام: 28.
تبيين القرآن، ص: 510
[19] وَ أَنْ لا تَعْلُوا لا تتكبروا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ بحجة مُبِينٍ ظاهرة.
[20] وَ إِنِّي عُذْتُ استجرت بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ تضربونني بالحجارة، فإن الكفار كانوا يهددون الأنبياء بالرمي بالحجارة إن استمروا في دعوتهم.
[21] وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ اتركوني لا لي و لا عليّ.
[22] فَدَعا موسى عليه السّلام رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ فرعون و ملأه قَوْمٌ مُجْرِمُونَ لا ينفع معهم النصح و الإرشاد.
[23] فأوحى الله إليه فَأَسْرِ أي سر ليلا بِعِبادِي مع بني إسرائيل لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون و جنوده لإرجاعكم.
[24] وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ساكنا إذا قطعته و عبرته فلا تضربه بعصاك ليرجع ماؤه كما كان إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ لأجل أن يأتي فرعون و جنده في البحر فيغرقون.
[25] كَمْ تَرَكُوا أي آل فرعون مِنْ جَنَّاتٍ بساتين وَ عُيُونٍ ماء.
[26] وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ مجالس حسنة و منازل جميلة.
[27] وَ نَعْمَةٍ تنعموا بها كانُوا فِيها فاكِهِينَ ناعمين.
[28] كَذلِكَ هكذا فعلنا بهم وَ أَوْرَثْناها أعطينا كل نعمهم قَوْماً آخَرِينَ بني إسرائيل لأنهم حكموا مصر بعد فرعون.
[29] فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ أي لم يكن لهم أهمية حتى تحزن عليهم وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لما أتاهم العذاب لم يمهلوا.
[30] وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ المذل لهم و هو عذاب فرعون و إذلاله لهم.
[31] مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً متجبرا مِنَ الْمُسْرِفِينَ الذين يتعدون الحد.
[32] وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ بني إسرائيل عَلى عِلْمٍ منا باستحقاقهم ذلك عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانهم.
[33] وَ آتَيْناهُمْ أعطيناهم مِنَ الْآياتِ كالعصا و اليد و فلق البحر ما فِيهِ بَلؤُا امتحان مُبِينٌ واضح.
[34] إِنَّ هؤُلاءِ كفار مكة لَيَقُولُونَ.
[35] إِنْ هِيَ ما الموتة التي تعقب الحياة إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى إلا موتة نموتها في الدنيا و لا حشر بعدها وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ للحساب.
[36] فَأْتُوا يا أيها النبي و المؤمنون بِآبائِنا أحيوهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن بعد الموت حياة.
[37] أَ هُمْ خَيْرٌ أشد قوة و أكثر جمعا أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أحد الملوك الكبار وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كقوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ فاستحقوا الهلاك، و هؤلاء مثلهم فإن بقوا على إجرامهم أهلكناهم.
[38] وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ لأجل العبث حتى لا يكون حساب و جزاء.
[39] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ و ذلك يقتضي إثابة المحسن و عقاب المسي ء وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك لتركهم التأمل و التفكر.
تبيين القرآن، ص: 511
[40] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ يوم القيامة الذي فيه يقضي و يفصل بين الخلائق مِيقاتُهُمْ موعدهم للجزاء أَجْمَعِينَ.
[41] يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى لا يفيد وليّ بقرابة أو صداقة أو سيادة عَنْ مَوْلًى شَيْئاً بأن يخفف عن إثمه وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لا ينصرهم أحد.
[42] إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ بالعفو عنه إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الرَّحِيمُ بعباده.
[43] إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ شجرة مرة جدا.
[44] طَعامُ يأكله الْأَثِيمِ المذنب، في الآخرة.
[45] هي كَالْمُهْلِ النحاس المذاب في البشاعة [46] يَغْلِي هذا الطعام و يفور فِي الْبُطُونِ.
[46] كَغَلْيِ الْحَمِيمِ مثل فوران الماء الشديد الحرارة.
[47] و يقال للزبانية خُذُوهُ أي الأثيم فَاعْتِلُوهُ جروه بعنف و غلظة إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ وسطها.
[48] ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ من الماء المغلي.
[49] و يقال له تهكما ذُقْ هذا العذاب إِنَّكَ بزعمك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ و لذا كنت تمتنع عن الإيمان اغترارا بنفسك.
[50] إِنَّ هذا العذاب ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكون حيث تقولون لا بعث.
[51] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ محل أَمِينٍ من المكاره.
[52- 53] فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ الحرير الرقيق وَ إِسْتَبْرَقٍ الحرير الخشن، و هذا أجمل مظهرا و ذلك أحسن ملمسا، في حال كونهم مُتَقابِلِينَ جالسين بعضهم في قبال بعض للأنس.
[54] كَذلِكَ الأمر وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ نساء جميلات بيض «1» عِينٍ واسعات العيون.
[55] يَدْعُونَ يطلبون فِيها في الجنة بِكُلِّ فاكِهَةٍ مما يشاءون آمِنِينَ من كل خوف و ضرر.
[56] لا يَذُوقُونَ فِيهَا في الجنان الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى فإن ما يشاهدونه طول حياتهم من أول الدنيا إلى الأبد هو موت واحد، بخلاف الكافر في النار الذي يأتيه الموت من كل مكان و ما هو بميت.
وَ وَقاهُمْ حفظهم ربهم عَذابَ الْجَحِيمِ النار.
[57] أعطوا كل ذلك فَضْلًا زيادة بدون استحقاق إذ لا يستحق أحد على الله شيئا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ الدخول للجنة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي ليس فوقه فوز.
[58] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ سهلنا القرآن حيث أنزلناه بِلِسانِكَ بلغتك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون.
[59] فَارْتَقِبْ انتظر لترى ما يحل بهم إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ليروا ما يحل بك.
__________________________________________________
(1) الحور: جمع حوراء أي شديدة البياض.
تبيين القرآن، ص: 512
مكية آياتها سبع و ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] حم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] تَنْزِيلُ إنزال هذا الْكِتابِ أي القرآن إنما هو مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الذي لا يغالب الْحَكِيمِ في تدبيره.
[3] إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ دالات على وجود الله و قدرته لِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم المستفيدون بالآيات.
[4] وَ فِي خَلْقِكُمْ أيها البشر وَ ما يَبُثُّ ينشر الله مِنْ دابَّةٍ حيوان متحرك آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ هم من أهل اليقين، بأن يتأملوا في الأشياء حتى يحصل لهم اليقين بالحق.
[5] وَ في اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ بأن يخلف أحدهما الآخر وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أي المطر الذي هو سبب الرزق فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ تقليبها من هنا إلى هناك آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم.
[6] تِلْكَ الآيات المذكورة آياتُ اللَّهِ دلائل وجوده و صفاته نَتْلُوها نقرأها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فليس ما نقول باطلا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ بعد الحديث عن وجود الله و صفاته وَ آياتِهِ دلائله يُؤْمِنُونَ و الحال أنهم لا يؤمنون بهذه الأمور الظاهرة، و الاستفهام للتعجب.
[7] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذاب أَثِيمٍ كثير الإثم.
[8] يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ من القرآن تُتْلى تقرأ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ على كفره مُسْتَكْبِراً متكبرا عن قبول الحق كَأَنْ كأنه لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ تهكما بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.
[9] وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا القرآن شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً جعلها مادة لاستهزائه أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة لهم.
[10] مِنْ وَرائِهِمْ بعد أن يموتوا جَهَنَّمُ وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا من مال و جاه شَيْئاً في دفع العذاب عنهم وَ لا يغني عنهم ما أي الأصنام التي اتَّخَذُوا ها مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله جاعلين الأصنام أَوْلِياءَ لهم وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
[11] هذا القرآن هُدىً وسيلة هداية الناس وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أشد العذاب أَلِيمٌ مؤلم.
[12] اللَّهُ هو الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ ذلله بحيث تنتفعون به لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ السفينة فِيهِ في البحر بِأَمْرِهِ بإذنه و تكرار كلمة بأمره في كثير من الآيات للدلالة على أن الله لم يكن مجبورا فيما فعل سخره لتركبوا إلى مقاصدكم وَ لِتَبْتَغُوا تطلبوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة و الغوص وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه.
[13] وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لأنها مذللة لاستفادة الإنسان منها جَمِيعاً مِنْهُ في حال كون كل ذلك منه تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في صنائع الله تعالى، و التخصيص بهم لأنهم المنتفعون بالآيات.
تبيين القرآن، ص: 513
[14] قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا فلا يقابلوا أذاهم بالمثل لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ من الكفار أَيَّامَ اللَّهِ أي الأيام التي يجري الله فيها أمرا عظيما من إحسان أو انتقام، لأنهم كفار بالله فلا يتوقعون شيئا من قبله لِيَجْزِيَ الله قَوْماً أي الكافرين بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بمقابل ما عملوه من الأعمال السيئة، فإنه إن قابل المسلم الكافرين في أذاهم فربما لم يبق لجزاء الله موقع بعد ذلك، أما إن صفح المؤمنون فإنه يبقى محلا لمجازاة الله التي هي أكبر من جزاء المؤمنين لهم.
[15] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ لأن جزاءه عائد إلى نفسه وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها على نفسه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ في الآخرة فيجازي كلّا جزاء عمله.
[16] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ التوراة وَ الْحُكْمَ السلطة و الحكم بين الناس وَ النُّبُوَّةَ كان فيهم أنبياء كثيرون وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اللذائذ المحلّلة وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانهم، حيث إنهم حينذاك كانوا على الحق و من عداهم على الباطل.
[17] وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ أدلة واضحات مِنَ الْأَمْرِ أوامرنا لهم فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بما هو الحق و ما هو الباطل بَغْياً حسدا بَيْنَهُمْ فأراد كل فريق أن يجلب الناس إلى ناحيته فأبدع شيئا جديدا إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي يحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإثابة المحق و عقاب المبطل.
[18] ثُمَّ جَعَلْناكَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى شَرِيعَةٍ طريقة مِنَ الْأَمْرِ أمر الدين فَاتَّبِعْها اعمل بهذه الشريعة وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الحق في أي شي ء من أمر الدين.
[19] إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا لن يفيدوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ مما أراد الله بك شَيْئاً بأن يدفعوا عن الآثم عقابا وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فليس المسلم منهم وَ اللَّهُ وَلِيُّ و هذا كالعلة في (لا تتبع) الْمُتَّقِينَ فإنه تعالى يتولى شؤونهم فاللازم عليهم أن يتبعوا أوامره لا أهواء الكفار.
[20] هذا القرآن بَصائِرُ أسباب بصيرة لِلنَّاسِ وَ هُدىً من الضلال وَ رَحْمَةٌ أسباب رحمة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بما قاله الله، و الاختصاص بهم لأنهم المنتفعون بالقرآن.
[21] أَمْ هل حَسِبَ زعم الَّذِينَ اجْتَرَحُوا اكتسبوا السَّيِّئاتِ الكفر و المعاصي أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ حياتهم و موتهم بأن نسعدهم في الدنيا و الآخرة، و الاستفهام للإنكار ساءَ ما يَحْكُمُونَ بئس الحكم حكمهم.
[22] وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ لا بالعبث و الباطل وَ لِتُجْزى عطف على (بالحق) أي كان الخلق لأجل إحقاق الحق و لأجل الجزاء، و لعلّ معنى (بالحق) أن كمال الخالق و اقتضاء المخلوق يقتضي الخلق كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من خير و شر وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ في الجزاء فلا يزاد على إساءة المسي ء و لا ينقص من إحسان المحسن.
تبيين القرآن، ص: 514
[23] أَ فَرَأَيْتَ أخبرني مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بأن اتبع هوى نفسه، لا ما يشاهده من الحق وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ بأن تركه حتى ضل حيث عاند الحق عَلى عِلْمٍ منه حيث علم الحق فأنكره وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ بأن جعله بحيث لا يستفيد من السماع وَ قَلْبِهِ بأن لا يفهم الحق و ذلك حيث ترك هو الحق عنادا وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي الغطاء فلا يرى جمال الحق فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي بعد أن تركه الله حتى صار كذلك أَ فَلا تَذَكَّرُونَ تتذكرون أيها الكفار أنه لا هادي لكم إن تركتم هداية الله.
[24] وَ قالُوا أي الكفار ما هِيَ الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا القريبة فلا حياة في الآخرة نَمُوتُ وَ نَحْيا تموت الآباء و تحيى الأبناء و هكذا إلى الأبد وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ مرور الزمان، فليس هناك إله يميت الناس فلا مبدأ و لا معاد وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ القول مِنْ عِلْمٍ حجة و مستند إِنْ ما هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ظنا بما يقولونه.
[25] وَ إِذا تُتْلى تقرأ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات في حشر الناس و بعثهم ما كانَ حُجَّتَهُمْ التي قابلوا بها الآيات البينات إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا أحيوهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن بعد الموت بعثا و حياة.
[26] قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ يعطيكم الحياة ابتداء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ في الدنيا ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ أحياء للنشور و ينهي بكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ للجزاء لا رَيْبَ فِيهِ ليس هذا محل شك و ريب وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لقلة تفكرهم.
[27] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فليس كما قلتم من أن الدهر يميتكم وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يوم القيامة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ الذين قالوا و عملوا باطلا.
[28] وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً تبرك على الركب للخوف و الهول كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الذي أنزله الله عليها، ليوزن عملها بذلك الكتاب، و يقال لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما أي جزاء الذي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير و شر.
[29] هذا كِتابُنا ديوان الحفظة يَنْطِقُ يشهد عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ فلا يزيد و لا ينقص شيئا إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ نكتب في دار الدنيا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير و شر.
[30] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ التي منها الجنة ذلِكَ الإدخال في الرحمة هُوَ الْفَوْزُ الفلاح الْمُبِينُ الظاهر.
[31] وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الإيمان بها وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أذنبتم بتكذيب الآيات.
[32] وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ كائن لا محالة وَ السَّاعَةُ القيامة لا رَيْبَ فِيها ليست محلا للشك قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إنكارا لها إِنَّ ما نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا بأنها كائنة وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ لا يقين لنا بالآخرة، و لذا لا نعمل لأجلها.
تبيين القرآن، ص: 515
[33] وَ بَدا ظهر لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا جزاء سيئات أعمالهم وَ حاقَ أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب.
[34] وَ قِيلَ للكفار الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في العذاب كأنكم منسيّون كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا فلم تعملوا له وَ مَأْواكُمُ محلكم النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفعون العذاب عنكم.
[35] ذلِكُمْ الذي فعلنا بكم بسبب أنكم أيها الكفار اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً مهزوا بها وَ غَرَّتْكُمُ خدعتكم الْحَياةُ الدُّنْيا فتكالبتم عليها و لم تعملوا للآخرة فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها من النار وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم العتبى و هي أن يرضوا ربهم بالتوبة إذ لا محل للتوبة.
[36] فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ خالق جميع الأكوان و العوالم.
[37] وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ السلطان القاهر فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْحَكِيمُ في كل تدبيراته.
مكية آياتها خمس و ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] حم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] تَنْزِيلُ إنزال هذا الْكِتابِ القرآن إنما هو مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الذي لا يغلب الْحَكِيمِ في تدبيره.
[3] ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ خلقا متلبسا بالحكمة و هو ما يقتضيه الحكمة وَ ب أَجَلٍ وقت مُسَمًّى فقد سمي عند الله مدة كونهما وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا خوفوا من عقاب الله مُعْرِضُونَ فلا يهتمون به.
[4] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ فهل خلقوا شيئا مما في الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ شراكة فِي خلق السَّماواتِ فإذا لم يكن لهم لا هذا و لا ذاك فلما ذا استحقوا العبادة ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا القرآن، ليدل على صحة عبادة الأصنام أَوْ أَثارَةٍ بقية مِنْ عِلْمٍ الأولين تؤيد دعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الأصنام آلهة.
[5] وَ مَنْ أَضَلُّ أكثر ضلالا و انحرافا عن الطريق مِمَّنْ يَدْعُوا يعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله مَنْ أي الصنم لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فإن الأصنام جماد لا تعقل و لا تستجيب وَ هُمْ أي الأصنام عَنْ دُعائِهِمْ دعاء العباد لتلك الأصنام غافِلُونَ لا يشعرون لأنها جمادات.
تبيين القرآن، ص: 516
[6] وَ إِذا حُشِرَ جمع النَّاسُ في القيامة كانُوا أي الأصنام لَهُمْ لعبادها أَعْداءً لأن الصنم يضر صاحبه وَ كانُوا أي الأصنام بِعِبادَتِهِمْ لها كافِرِينَ فإن الجماد إذا شعر كفر بعبادة الكافر له.
[7] وَ إِذا تُتْلى تقرأ عَلَيْهِمْ على الكفار آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ للقرآن لَمَّا جاءَهُمْ هذا مفعول (قال) سِحْرٌ و ليس بمعجزة مُبِينٌ ظاهر.
[8] أَمْ بل يَقُولُونَ أي الكفار افْتَراهُ افترى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن و نسبه كذبا إلى الله قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فرضا فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي كيف أجترئ على الافتراء و الحال أن الله إن عاقبني لم تقدروا أنتم على دفع عقابه عني هُوَ الله أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ تدخلون فِيهِ من الطعن في القرآن كَفى بِهِ بالله شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ و شهادة الله هي إجراء المعجزة على يد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هُوَ الْغَفُورُ لمن استغفر الرَّحِيمُ بعباده فلا يعاجلكم بالعقوبة.
[9] قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً جديدا مِنَ الرُّسُلِ بل أنا رسول كالرسل السابقين فأدعوكم كما دعت الرسل الأمم السابقة وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ فإن مشيئة الله في خلقه و مستقبلهم لا يعلمها إلا الله إِنْ ما أَتَّبِعُ في قولي و عملي إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أنذركم من بأس الله مُبِينٌ واضح.
[10] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعض من آمن من اليهود عَلى مِثْلِهِ أي مثل القرآن، بأن قال إن في التوراة ما يصدق ما في القرآن من أحوال المبدأ و المعاد و سائر الأمور فَآمَنَ لأنه وجد القرآن مطابقا لما في كتابه وَ اسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الإيمان، ألستم أظلم الناس حينئذ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و الفساد يتركهم حتى يضلوا عن الحق.
[11] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي قالوا عن المؤمنين و في شأنهم لَوْ كانَ هذا الذي يدعونا إليه من الإيمان و القرآن خَيْراً نافعا ما سَبَقُونا أي المؤمنون إِلَيْهِ إلى هذا الخير، لأنه لو كان خيرا لسبقناهم إلى الإيمان به وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ بالقرآن، لأنهم لم يتدبروه، أو عاندوا فَسَيَقُولُونَ هذا القرآن إِفْكٌ كذب قَدِيمٌ أساطير الأولين.
[12] وَ مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن كِتابُ مُوسى التوراة في حال كونه إِماماً يؤتم به وَ رَحْمَةً للناس، و مع ذلك كفر الناس به وَ هذا القرآن كِتابٌ مُصَدِّقٌ بكتاب موسى عليه السّلام في حال كونه لِساناً عَرَبِيًّا أنزل بلسان العرب لِيُنْذِرَ يخوف من العقاب الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى بشارة لِلْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا في القول و العمل.
[13] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا جمعوا بين التوحيد في العقيدة و الاستقامة في العمل فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات مطلوب عنهم.
[14] أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ دائمين فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
تبيين القرآن، ص: 517
[15] وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً بأن يحسن إليهما إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً بمشقة و صعوبة، و لذا يجب عليه الإحسان إليهما وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ عن اللبن ثَلاثُونَ شَهْراً ستة أشهر للحمل و سنتان للرضاع حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ كمال قوته وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً و هي وقت استحكام الرأي قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ أنعمت عَلى والِدَيَّ إذ نعمة الوالدين نعمة الولد أيضا وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعل الصلاح ساريا في أولادي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ رجعت إليك من سيأتي وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لأوامرك.
[16] أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أحسن قبول لعملهم، أي نقبله بأحسن القبول فنجازيهم أحسن الجزاء وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ نغفرها لهم و هم معدودون فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أهلها وَعْدَ الصِّدْقِ نعدهم هذا وعدا لا خلف فيه الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا.
[17] وَ الَّذِي مبتدأ خبره (أولئك) قالَ لِوالِدَيْهِ حينما دعياه إلى الإيمان أُفٍّ لَكُما بعدا لكما، فإن (أف) كلمة لإظهار السخط أَ تَعِدانِنِي من الوعد أَنْ أُخْرَجَ من القبر للبعث وَ قَدْ خَلَتِ مضت الْقُرُونُ الأمم مِنْ قَبْلِي و لم يخرج أحد منهم من القبر وَ هُما والداه يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يسألان الله الغوث و الإعانة بتوفيقه للإيمان، قائلين له وَيْلَكَ كلمة تضجر، أي الهلاك لك آمِنْ بالله و اليوم الآخر إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ فَيَقُولُ في جوابهما ما هذا القول بالبعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ خرافاتهم و ليس له حقيقة.
[18] أُولئِكَ هؤلاء الأولاد الذين هذا شأنهم الَّذِينَ حَقَّ ثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي كلمة العذاب فِي جملة أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الذين كانوا كافرين بالله و المعاد إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ قد خسروا دنياهم و آخرتهم.
[19] وَ لِكُلٍّ من المؤمن و الكافر دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا حسب تفاوت أعمالهم وَ لِيُوَفِّيَهُمْ يعطيهم الله جزاء أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص في الثواب أو زيادة في العقاب.
[20] وَ اذكر يَوْمَ هو يوم القيامة يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يؤتون إليها فيقال لهم أَذْهَبْتُمْ آثرتم طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا بأن أخذتم قسطكم منها في الدنيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها تمتعتم و تلذذتم بالطيبات فما بقي لكم شي ء منها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ العذاب الذي فيه الهوان بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ بسبب تكبركم فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إذ لا يحق للإنسان أن يتكبر وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تخرجون عن طاعة الله.
تبيين القرآن، ص: 518
[21] وَ اذْكُرْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَخا عادٍ أي هود النبي عليه السّلام الذي بعث إلى قبيلته عاد إِذْ أَنْذَرَ خوّف قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ جمع حقف: رمل مرتفع دون الجبل و هو واد كان يسكنه عاد قرب عمان وَ قَدْ خَلَتِ مضت النُّذُرُ المنذرون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أمامه قبل زمانه وَ مِنْ خَلْفِهِ بعد أن أرسل في زمانه، أو بمعنى قبله و بعده «1»، قائلين أولئك الرسل للقوم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إن عبدتم غيره.
[22] قالُوا يا هود أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا التي نعبدها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في مجي ء العذاب.
[23] قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ فهو يعلم الوقت الصالح لعذابكم وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ و إنما أنا مبلغ إليكم وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ بالله و بآياته و بعذابه لمن كذب و كفر.
[24] فجاءهم العذاب في صورة سحاب و قد اشتد حر الهواء قبل ذلك و لما رَأَوْهُ العذاب الموعود عارِضاً سحابا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ يأتي نحو واديهم قالُوا فرحا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا يمطر فيبرد الهواء و نخلص من هذا الحر بَلْ ليس سحابا ممطرا و إنما هُوَ مَا العذاب الذي اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ طلبتم تعجيله عليكم رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[25] تُدَمِّرُ تهلك كُلَّ شَيْ ءٍ من النفوس و النبات و الحيوان و غيرها بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا ميتين بحيث لا يُرى إذا جاءهم الرائي إِلَّا مَساكِنُهُمْ فقط بدون أن يكونوا فيها كَذلِكَ هكذا نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان.
[26] وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ أي عادا فِيما إِنْ ما مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي جعلنا لهم من الأموال و القوة ما لم نجعل مثله لكم وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً ليسمعوا الآيات وَ أَبْصاراً ليروا العبر وَ أَفْئِدَةً قلوبا ليفهموا الأشياء فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إذ لم يستعملوها في صلاحهم إِذْ لأنهم كانُوا يَجْحَدُونَ ينكرون بِآياتِ اللَّهِ أدلته وَ حاقَ حل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب الذي استهزءوا به، و هذا تهديد للكفار بأنهم عذبوا على كثرة قوتهم و بأسهم فكيف بكم و أنتم أقل منهم قوة و بأسا.
[27] وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى البلاد كعاد و ثمود و قوم لوط حيث كانت بلادهم في أطراف الجزيرة وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ كررناها ليعتبروا بها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم و لكن لما أصروا أهلكناهم.
[28] فَلَوْ لا فهلا نَصَرَهُمُ منعهم من العذاب الأصنام الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً لأجل أن تقربهم إلى الله آلِهَةً بدل من (قربانا) بَلْ ضَلُّوا تلك الآلهة عَنْهُمْ وقت نزول العذاب وَ ذلِكَ الاتخاذ إِفْكُهُمْ كذبهم وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ على الله من أنها شركاءه، و من المعلوم أن الإله الكاذب لا ينصر.
__________________________________________________
(1) الضمائر المفردة ترجع إلى هود عليه السّلام.
تبيين القرآن، ص: 519
[29] وَ اذكر إِذْ زمانا صَرَفْنا وجّهنا إِلَيْكَ نَفَراً جماعة مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ حضر الجن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند قراءته القرآن ببطن نخلة عند انصرافه من الطائف إلى مكة، و ذلك قبل الهجرة قالُوا قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا اسكتوا حتى نستمع للقرآن فَلَمَّا قُضِيَ تم القرآن بأن فرغ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من التلاوة وَلَّوْا انصرفوا إِلى قَوْمِهِمْ من الجن مُنْذِرِينَ يخوفونهم من الكفر و العصيان.
[30] قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أي القرآن أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى لعلهم لم يكونوا سمعوا بالمسيح عليه السّلام أو كانوا يهودا مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدمه من الكتب يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لا انحراف فيه.
[31] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يدعوكم إليه وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ الله لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي من هذا الجنس وَ يُجِرْكُمْ يمنعكم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم في الآخرة.
[32] وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يقدر أن يعجز الله في الأرض بأن يفوته حتى لا يتمكن الله من عقابه وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ دون الله أَوْلِياءُ ينصرونه من بأس الله أُولئِكَ الذين لا يجيبون داعي الله فِي ضَلالٍ انحراف عن الحق مُبِينٍ واضح.
[33] أَ وَ لَمْ يَرَوْا ألم يعلم الكفار المنكرون للبعث أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ أي لم يتعب في خلقه لهما، أي الذي بهذه القدرة العظيمة بِقادِرٍ أي قادر خبر (إن) و الباء للتأكيد عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى للبعث بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و منه إحياء الموتى.
[34] وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يقدمون إليها بقصد إدخالهم فيها، فيقال لهم أَ لَيْسَ هذا الذي تشاهدون بِالْحَقِّ لأنهم كانوا يقولون في الدنيا ليست النار إلا كذبا قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قسما به إنه حق قالَ الله لهم فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم في الدنيا.
[35] فَاصْبِرْ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أصحاب العزم و الثبات الشديد مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ بأن تطلب عذابهم عاجلا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا لم يبقوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ كأن لبثهم في الدنيا ساعة واحدة فقط بَلاغٌ هذا تبليغ لكم حتى تتم الحجة عليكم فَهَلْ يُهْلَكُ و يعذب بعد البلاغ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله بعد إتمام الحجة عليهم، و الاستفهام في معنى النفي، أي لا يهلك إلا الفاسقون.
تبيين القرآن، ص: 520
مدنية آياتها ثمان و ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بأن منعوا الناس عن الإيمان، أي ضلوا و أضلوا أَضَلَّ أبطل الله أَعْمالَهُمْ الحسنة كصلة الرحم و إطعام الفقراء لأن الكفر مبطل للأعمال.
[2] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ بكل الأحكام وَ الحال إن ما نزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هُوَ الْحَقُّ مِنْ قبل رَبِّهِمْ كَفَّرَ ستر الله بالغفران عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ حالهم في دنياهم و أخراهم.
[3] ذلِكَ الإضلال لأولئك، و الغفران لهؤلاء بسبب أن الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ الذي جاءهم من قبل الله كَذلِكَ هكذا يَضْرِبُ يبين اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أحوالهم، ليعتبر الناس بهم.
[4] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا رأيتموهم في حال القتال فَضَرْبَ الرِّقابِ اضربوا أعناقهم ضربا حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم من القتل فيهم فأسروهم و شدوا أحكموا الْوَثاقَ أي الحبل الذي يوثق به لئلا يفروا فَإِمَّا تمنون عليهم مَنًّا بَعْدُ الأسر بأن تطلقوا سراحهم بدون فداء وَ إِمَّا تفادوهم و تأخذوا منهم فِداءً في مقابل إطلاقهم حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أثقالها بأن تنتهي، و ذلك بأن يضع المسلمون و الكفار سلاحهم ذلِكَ الأمر هكذا وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بإهلاكهم بدون قتال وَ لكِنْ يبقيهم و يأمركم بحربهم لِيَبْلُوَا ليختبر بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ المؤمنين بالكافرين فيظهر المطيع من العاصي وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد من المؤمنين فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ لن يضيع الله ما عملوا بل يثيبهم عليها.
[5] سَيَهْدِيهِمْ إلى طريق الجنة وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ حالهم في الآخرة.
[6] وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ في حال كونه عَرَّفَها لَهُمْ في الدنيا.
[7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي دينه يَنْصُرْكُمْ على أعدائكم وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواقف الخوف و الصعوبات.
[8] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي هلاكا لهم، و هذا دعاء عليهم بالهلاك وَ أَضَلَّ ضيع الله أَعْمالَهُمْ الصالحة كالإحسان و الصلة.
[9] ذلِكَ الإضلال لأعمالهم بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أبطلها و لم يثبهم عليها.
[10] أَ فَلَمْ يَسِيرُوا ليسافر هؤلاء الكافرون فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الذين أهلكوا، فإن المسافر يرى آثار بلادهم و يسمع أخبار هلاكهم دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أهلكهم الله وَ لِلْكافِرِينَ في المستقبل أَمْثالُها أمثال تلك العقوبات التي نزلت بالأمم السابقة.
[11] ذلِكَ نصر المؤمنين و تدمير الكافرين بسبب أن اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ناصرهم و المتولي لشئونهم وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ينصرهم.
تبيين القرآن، ص: 521
[12] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ بمتاع الدنيا وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ غافلين عن العاقبة وَ النَّارُ مَثْوىً منزل لَهُمْ للكافرين.
[13] وَ كَأَيِّنْ بمعنى كم للتكثير مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ أي من مكة الَّتِي أَخْرَجَتْكَ فإن أهل مكة أخرجوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ يدفع العذاب عنهم.
[14] أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة مِنْ قبل رَبِّهِ كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنون كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ زين الشيطان في أنظارهم أعمالهم السيئة وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ شهواتهم النفسية.
[15] مَثَلُ أي حاله حال الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ غير متغير بالعفونة وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فلم يفسد وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لذيذة لا مثل خمر الدنيا لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لم يخالطه الشمع وَ لَهُمْ فِيها في الجنة مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أنواع الفواكه وَ مَغْفِرَةٌ غفران، فمن هو خالد في الجنة بهذه النعم مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً شديد الحرارة فَقَطَّعَ ذلك الماء من شدة حرارته أَمْعاءَهُمْ أحشاءهم.
[16] وَ مِنْهُمْ من المنافقين مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتكلم حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ من المجلس قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ العلماء من المؤمنين ما ذا قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آنِفاً قبل ساعة، يقولون ذلك استهزاء أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ لأنهم لما ضلوا عنادا و سم الله قلوبهم بسمة النفاق وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بدل أن يتبعوا الحق.
[17] وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا قبلوا الهدى و لم ينافقوا زادَهُمْ كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هُدىً ثبوتا على الهدى و هداية جديدة وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ وفقهم الله للتقوى.
[18] فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظر هؤلاء المنافقون إِلَّا السَّاعَةَ القيامة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجأة فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها علائمها التي منها بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انشقاق القمر و ما أشبه فَأَنَّى فمن أين لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ أي تذكرهم فلا ينفعهم التذكر حينذاك.
[19] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ قد سبق أن الحاجات الضرورية للبدن يعدها الأنبياء عليهم السّلام ذنبا أمام الله تعالى كمن يعد مدّ رجله لمرض في قبال الملك ذنبا وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ انتشاركم بالنهار وَ مَثْواكُمْ مستقركم بالليل، أو محل عملكم في الدنيا و مصيركم في الآخرة.
تبيين القرآن، ص: 522
[20] وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أي من أظهروا الإيمان لَوْ لا هلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ تأمرنا بالقتال فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ صريحة وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ الأمر بالقتال رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك و نفاق يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ الذي أخذته الغشوة مِنَ الْمَوْتِ من جهة قرب موته، و المراد إن حالتهم تصبح كحالة المحتضر من الخوف و الجبن فَأَوْلى لَهُمْ هذا مثال بمعنى وليهم المكروه، يقال: أولى لك أي وليك المكروه، أو بمعنى أولى لهم.
[21] طاعَةٌ بأن يطيعوا وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ يقولون قولا معروفا بإظهار الموافقة للحرب فَإِذا عَزَمَ جد الْأَمْرُ مجاز «1»، أي عزم أصحاب الأمر للقتال فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ بامتثال أمره لَكانَ الصدق خَيْراً لَهُمْ في دنياهم و آخرتهم.
[22] فَهَلْ عَسَيْتُمْ أي هل يتوقع منكم يا معاشر المنافقين إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الدين و ذهبتم أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أي أنتم أهل الفساد لا أهل القتال.
[23] أُولئِكَ المنافقون هم الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن رحمته فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ أي تركهم أصم عن سماع الحق و أعمى عن رؤية الحق.
[24] أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ بأن يتفكروا فيه حتى يعتبروا أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها جمع قفل فلا يدخل قلوبهم معانيه.
[25] إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ بأن كفروا قلبا و نافقوا كمن يرجع موليا دبره مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ظهر لَهُمُ الْهُدَى بحقيقة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشَّيْطانُ سَوَّلَ زين لَهُمُ النفاق و العصيان وَ أَمْلى أمدّ لَهُمُ في الآمال.
[26] ذلِكَ التسويل و الإملاء بسبب أنهم أي المنافقين قالُوا لِلَّذِينَ لأسيادهم الكفار كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي كرهوا الإسلام و الدين سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ كالتظاهر على عداوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التشكيك في القرآن وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ما يسره بعضهم إلى بعض فيجازيهم.
[27] فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ أخذت أرواحهم الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ المواضع التي كانوا لم يقاتلوا توقيا منهم لها.
[28] ذلِكَ التوفي بهذا الحال بسبب أنهم أي المنافقين اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ أغضبه وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ رضاه بأن لم يفعلوا ما يرضيه فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أبطلها و لم يثبهم على أعمالهم الحسنة كصلة الرحم و الإنفاق.
[29] أَمْ بل حَسِبَ زعم الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ النفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أحقادهم للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين.
__________________________________________________
(1) أي نسبة العزم إلى الأمر مجاز، لأن الأمر لا يتصف بالعزم، بل الآمر يتصف به.
تبيين القرآن، ص: 523
[30] وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي عرفناك يا رسول الله المنافقين بدلائل تدل على نفاقهم فَلَعَرَفْتَهُمْ بعد أن أريناكهم بِسِيماهُمْ بعلاماتهم وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ كيفية كلامهم فإن في كلامهم التواء و انحرافا وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم عليها.
[31] وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نختبرنكم بالجهاد و نحوه حَتَّى نَعْلَمَ يظهر علمنا إلى عالم الخارج الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ على الشدائد وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي ما تقولونه عن أنفسكم: بأنكم مؤمنون صابرون مجاهدون، نمتحن هل هذا الكلام صدق أم لا.
[32] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بأن منعوا الناس عن سلوك طريق الحق وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ خالفوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ظهر لَهُمُ الْهُدى بأن علموا بصدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً و إنما يضرون أنفسهم وَ سَيُحْبِطُ يبطل الله أَعْمالَهُمْ الحسنة بسبب كفرهم و نفاقهم.
[33] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ الحسنة بالشك و النفاق.
[34] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ بأن لم يتوبوا فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأن الكافر المعاند لا غفران له.
[35] فَلا تَهِنُوا لا تضعفوا أيها المسلمون وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ الهدنة، أي لا تدعوا إلى ذلك وَ الحال أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ قوة وعدة وَ اللَّهُ مَعَكُمْ ناصركم وَ لَنْ يَتِرَكُمْ لن ينقصكم أجر أَعْمالَكُمْ فإن اللازم محاربة الكافرين لأجل إحقاق الحق و إنقاذ المظلومين من براثن الحكام الجائرين.
[36] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ ما يلهي الإنسان عن المقصد، فلا ترجحوا الدنيا حتى لا تقاتلوا وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا الكفر و العصيان يُؤْتِكُمْ يعطكم الله أُجُورَكُمْ ثواب أعمالكم وَ لا يَسْئَلْكُمْ الله أَمْوالَكُمْ حتى تفروا خوفا و تحفظا على الأموال.
[37] إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أي إن يسألكم أن تعطوا جميع أموالكم في سبيل الله فَيُحْفِكُمْ يجهدكم بطلب كل أموالكم تَبْخَلُوا و لم تبذلوا وَ يُخْرِجْ البخل أَضْغانَكُمْ أحقادكم على الدين، و لذا لا يكلفكم تكليفا شاقا يوجب انحرافكم، تفضلا منه.
[38] ها للتنبيه أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بعض أموالكم لأجل الجهاد و غيره فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ لأن ضرر البخل يعود إلى نفسه وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ عن أموالكم وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ فأمركم بالإنفاق لأجل أن يغنيكم من الثواب وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا تعرضوا عن اتباع أوامر الله يَسْتَبْدِلْ يبدلكم الله قَوْماً إلى أناس آخرين مطيعين لله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولي عن الطاعة، بل هم مطيعون لله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما أمرا.
تبيين القرآن، ص: 524
مدنية تسع و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِنَّا فَتَحْنا لَكَ قضينا لك بالفتح فَتْحاً مُبِيناً ظاهرا، و المراد فتح مكة.
[2] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ فإن الفتح سبب لأن يغفر لك أهل مكة ما زعموه من ذنبك كنفي آلهتهم و ما أشبه، حيث إن الناس يغفرون للسلطان معاصيه السابقة إليهم إذا سيطر و أحسن ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قبل الهجرة وَ ما تَأَخَّرَ عن الهجرة وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعطائك السيطرة على الجزيرة العربية وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يثبتك عليه، لأن الإنسان في كل يوم يحتاج إلى هداية جديدة و كذلك في كل عمل.
[3] وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً فإن نصره على مكة يوجب نصره الكامل الذي لا ذل بعده عن الناس.
[4] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ الطمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً بما أنزل عليك مَعَ إِيمانِهِمْ السابق فإن الإيمان ملكة له مراتب وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الملائكة و الجن و قسم من الناس و سائر الكائنات فيتمكن من نصر من يشاء وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بكل شي ء حَكِيماً في تدبيره.
[5] و إنما زادهم إيمانا لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ دائمين فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي يمحيها وَ كانَ ذلِكَ الثواب عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً أي فوزا عظيما عند الله.
[6] وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ فإن المنافق يتأذى من تقدم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ بالغلبة و السيطرة عليهم الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ بأن الله لا ينصر دينه و نبيه عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي تدور عليهم الفلك بدائرة سيئة و هذا دعاء عليهم وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ طردهم عن رحمته وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً محلّا أي جهنم.
[7] وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً فيما أراد حَكِيماً في تدابيره.
[8] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على أمتك بما يفعلون تشهد عليهم يوم القيامة وَ مُبَشِّراً بالجنة وَ نَذِيراً بالنار.
[9] لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أيها الناس وَ تُعَزِّرُوهُ أي تنصروا الله وَ تُوَقِّرُوهُ تعظموه وَ تُسَبِّحُوهُ تنزهوه عما لا يليق به بُكْرَةً صباحا وَ أَصِيلًا عصرا.
تبيين القرآن، ص: 525
[10] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ و البيعة أن يمد الشخص يده مادة بيد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كناية عن أنه باع كل شي ء للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المراد هنا بيعة الحديبية إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأنه المقصود بالبيعة و لأن طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي طاعة الله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ تمثيل للتأكيد حيث شبهت يد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حال البيعة بيد الله فَمَنْ نَكَثَ نقض البيعة فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ إذ ضرر النكث يعود إلى نفسه وَ مَنْ أَوْفى ثبت على الوفاء بِما عاهَدَ عَلَيْهُ يجوز في الضمير المجرور الخفض و الضم، و هنا القراءة على الضم اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً هو الجنة.
[11] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ الذين خلّفهم ضعف اليقين فلم يخرجوا مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى مكة عام الحديبية خوفا من الكفار مِنَ الْأَعْرابِ أهل البادية الذين كان لهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حلف شَغَلَتْنا عن الخروج معك أَمْوالُنا التي كنا بصدد إصلاحها وَ أَهْلُونا الذين كنا نداريهم و نقوم بحوائجهم فَاسْتَغْفِرْ لَنا اطلب أن يغفر الله لنا قعودنا عن الخروج معك يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ لأن عدم خروجهم كان خوفا لا شغلا قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أي من يمنعكم عن مراد الله إن أراد بكم إيقاع ضرر فما فائدة فراركم من الخروج مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع أن الله مسيطر عليكم أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً جاء هذا لتتميم
الكلام و بيان القاعدة الكلية و إن لم يكن هو بالذات محل الاستشهاد بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من التخلف عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خوفا خَبِيراً فيجازيكم عليه.
[12] بَلْ ظَنَنْتُمْ أيها الأعراب أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً لا يرجعون، لأن الكفار سيقتلونهم و لذا لم تخرجوا وَ زُيِّنَ زينه الشيطان ذلِكَ الظن فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ بهلاك الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً جمع بائر، أي هالكين، بسبب تخلفكم عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[13] وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا هيّأنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً نارا ذات لهب.
[14] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فيدبرهما كيف يشاء حسب المصلحة يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ من استحق العقاب وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً كثير الغفران رَحِيماً فقد سبقت رحمته غضبه.
[15] سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ الذين تخلفوا عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عام الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ أيها المسلمون إِلى مَغانِمَ غنائم لِتَأْخُذُوها و المراد غنائم خيبر، إذ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما رجع عن الحديبية غزى خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها و خصهم بغنائمها دون من سواهم ذَرُونا دعونا نَتَّبِعْكُمْ في الغزو و أخذ الغنيمة يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ فإن الله وعد أصحاب الحديبية بغنائم خيبر دون من سواهم فإعطاء المخلفين من الغنائم تبديل لكلام الله قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا نفي في معنى النهي كَذلِكُمْ هكذا و (كم) للخطاب قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ قبل عودنا من الحديبية فَسَيَقُولُونَ أي المخلفون بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نشارككم في الغنيمة بَلْ ليس كذلك و إنما كانُوا أي المخلفون لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون الحكم و المصالح إِلَّا قَلِيلًا منها، فإن هذا العمل يوجب أن لا يتخلف أحد من بعد عن أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خوفا من أن يصيبه الحرمان.
تبيين القرآن، ص: 526
[16] قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ فيما بعد إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب قوة و مراس في الحرب، كثقيف و هوازن و غيرهما تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ بأن تخيروهم بين الأمرين من الإسلام أو القتال، و ذلك لنقضهم العهد مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَإِنْ تُطِيعُوا بإجابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى القتال يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً غنيمة في الدنيا و ثوابا في الآخرة وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا تعرضوا عن القتال كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ في الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما.
[17] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ضيق في ترك الجهاد وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ الذي يصعب عليه الجهاد حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يعرض عن أوامر الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً مؤلما.
[18] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تَحْتَ الشَّجَرَةِ التي كانت في الحديبية، فقد خرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أصحابه لأجل العمرة، و لما وصل إلى الحديبية و هي موضع قرب مكة أرسل بعض أصحابه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت للقتال، فشاع بين المسلمين أن من ذهب إلى قريش قتل، فغضب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للخبر و جمع أصحابه و أخذ منهم بيعة ثانية لقتال قريش، لكن قريشا لما علموا بالخبر أرسلوا بعضهم للمفاوضة مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الرجوع و المجي ء إلى مكة في العام المقبل، و تبين أن الإشاعة كانت باطلة، و بعد الحديبية ذهب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى خيبر و فتحها فَعَلِمَ الله ما فِي قُلُوبِهِمْ من صدق النية للقتال فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ السكون و الطمأنينة عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ أعطاهم ثواب صدقهم فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر.
[19] وَ أثابهم مَغانِمَ غنائم كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً في سلطانه حَكِيماً في أفعاله.
[20] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ من المشركين و غيرهم في المستقبل كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ غنائم خيبر أعطاكم إياها عاجلا وَ كَفَّ منع أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ فإن يهود خيبر و حلفاءهم لم يقدروا على مقابلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لِتَكُونَ هذه الغنائم العاجلة آيَةً علامة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث وعدهم ثم صار كما وعد لِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم المستفيدون منها وَ يَهْدِيَكُمْ يثبتكم على الهداية صِراطاً مُسْتَقِيماً.
[21] وَ وعدكم الله مغانم أُخْرى عاجلة أيضا كغنائم خيبر لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها بعد قَدْ أَحاطَ استولى اللَّهُ بِها حيث علم أنكم تأخذونها عن قريب وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً.
[22] وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة في الحديبية لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ انهزموا ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يلي أمرهم بحفظهم وَ لا نَصِيراً ينصرهم، و إنما أمر الله بالصلح معهم، لأنه تعالى أراد فتحها بدون إراقة دم و بدون جهد.
[23] سُنَّةَ اللَّهِ أي سن الله غلبة أنبيائه سنة الَّتِي قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلُ في سائر الأنبياء عليهم السّلام حيث نصرهم على الكفار وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغييرا.
تبيين القرآن، ص: 527
[24] وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ منع أَيْدِيَهُمْ أي الكفار عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بأن نهى عن قتالهم بِبَطْنِ مَكَّةَ أي داخلها، و المراد به الحديبية مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ حيث إنه خرج جمع من الكفار لمحاربة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأرسل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جماعة من أصحابه فهزموهم و علموا أنه لا طاقة لهم بالمسلمين وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً يجازيكم عليه.
[25] هُمُ أهل مكة الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ منعوكم أيها المسلمون عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ في عام الحديبية فلم يأذنوا لدخولكم إليها لأداء المناسك وَ صدوا الْهَدْيَ الأنعام التي كانت معكم مهداة إلى الكعبة لأجل ذبحها في حال كونه مَعْكُوفاً ممنوعا منعوه منعا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ مكانه المعهود لنحره و ذبحه و هو مكة وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ في مكة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالكفار أَنْ تَطَؤُهُمْ أي لو لا مخافة وطئكم أي قتلكم للمسلمين في مكة، إذا صارت المحاربة في الحديبية فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ من جهة أولئك المسلمين مَعَرَّةٌ تبعة كلزوم الدية و الكفارة و التأسف بِغَيْرِ عِلْمٍ منكم، متعلق ب (تطئوهم)، و جواب (لو لا) مقدر أي لأذن الله لكم في قتال أهل مكة لِيُدْخِلَ علة أخرى لعدم إذنهم في القتال، و هو دخول الناس في الإسلام، لأن صلح الحديبية صار سببا لدخول جماعات في الإسلام اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا تفرقوا و تميز الكافر من المؤمن في مكة لَعَذَّبْنَا بإجازة القتل و القتال الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما بقتلهم و أسرهم.
[26] إِذْ اذكر زمانا جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ العصبية حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ حيث قالوا كيف يدخل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكة بلدنا و قد قتل في أحد آباءنا و إخواننا و الحال أن الحج و العمرة لا يرتبطان بالمنازعات- حتى في عرف الكفار- فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ طمأنينته عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لأنهم هاجوا حيث أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصلح، ثم أسكن الله قلوبهم حتى رضوا بما أراد الرسول صلّى اللّه
عليه و آله و سلّم وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى أن اتقوا معصية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ كانُوا أي المسلمون أَحَقَّ بِها بالتقوى من غيرهم وَ كانوا أَهْلَها أي أهل التقوى وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فعلم صدق نياتهم و إطاعتهم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[27] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا المنام الذي رآه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل الحديبية أنه دخل مكة و أدى المناسك فقص رؤياه على أصحابه، و لما أراد الصلح قال بعض الأصحاب فأين رؤياك يا رسول الله، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنه سيكون في المستقبل- و لم أقل لكم أنه في هذا العام- و كان كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ دخل مكة بعد ذلك و أدّى المناسك بِالْحَقِّ صدقا متلبسا بالحق، فالصدق مطابقة الشي ء للواقع، و الحق مطابقة الواقع للشي ء لَتَدْخُلُنَّ أي أيها المسلمون لتدخلن في المستقبل- كما رأى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رؤيا صادقة- الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ في حال أمن مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ هو أخذ بعض الشعر و الظفر، و أحدهما سبب التحليل عن الإحرام لا تَخافُونَ تأكيدا ل (آمنين) فَعَلِمَ الله ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة في تأخير دخولكم مكة فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ قبل دخول مكة فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر.
[28] هُوَ الله الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي مع ما يهدي الناس كالقرآن وَ دِينِ الْحَقِّ الإسلام لِيُظْهِرَهُ أي يغلب دينه و هو الإسلام عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كل الأديان وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً شاهدا على أن ما وعده سيكون لا محالة.
تبيين القرآن، ص: 528
[29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ جمع شديد عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يرحم بعضهم بعضا تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً جمع راكع و ساجد يَبْتَغُونَ يطلبون فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً زيادة ثوابه و رضاه سِيماهُمْ علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ كالمحل الخشن في الجبهة ذلِكَ الوصف المذكور: (أشداء ...) إلخ مَثَلُهُمْ الذي يعرفون به فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ فقد عرّفوا في الكتابين بهذه الأوصاف فهم كَزَرْعٍ نبات أَخْرَجَ شَطْأَهُ فراخه فَآزَرَهُ فقوى الزرع الشطأ فَاسْتَغْلَظَ صار غليظا فَاسْتَوى استقام الزرع عَلى سُوقِهِ جمع ساق، بأن صار محكما قويا يُعْجِبُ ذلك الزرع الزُّرَّاعَ الزارعين لاستوائه و غلظته، و وجه الشبه أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا وحده، ثم كثروا و قووا حتى أن الرائي يعجب من كثرتهم و قوتهم و حسن عملهم، و إنما فعل الله بالمسلمين ذلك لِيَغِيظَ بِهِمُ أي بسب المسلمين الْكُفَّارِ فإنهم أعداء الله فأغاظهم الله بالمسلمين وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ من المسلمين- لأن جماعة منهم كانوا منافقين فليس الوعد لهم- مَغْفِرَةً غفرانا لذنوبهم وَ أَجْراً عَظِيماً في الآخرة.
مدنية آياتها ثماني عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بقول أو فعل بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي لا تعجلوا بأمر قبل إذنهما فيه، و الأصل أن أمام الإنسان يكون بين يديه، و لذا استعير بين اليدين للإمام وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم.
[2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ فإذا كلمتموه لا يكن صوتكم أرفع من صوته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي كما يجهر أحدكم في الكلام إذا تكلم مع الآخر، بل اخفضوا عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصواتكم، كما ينبغي عند العظماء فإنه مرتبة من الاحترام و التكريم، و ذلك ل أَنْ لا تَحْبَطَ تبطل أَعْمالُكُمْ الحسنة بسبب رفع الصوت أو الجهر وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ لا تفهمون أنها أحبطت.
[3] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ يخفضون أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إجلالا له أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى اختبرها فرآها أهلا للتقوى، و لذا منح التقوى لها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ في الآخرة.
[4] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ كانوا يأتون و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في غرفته بعد فيصيحون من وراء الباب يا محمد يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إنه مخل بالآداب، و لعل الإتيان بلفظ (الأكثر) لأجل أن بعضهم كانوا مغرضين في ذلك.
تبيين القرآن، ص: 529
[5] وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ بدون أن ينادوك لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من الاستعجال لما في الصبر من حفظ الآداب وَ اللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ و لذا لا يعاجلهم بالعقاب.
[6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ بخبر فَتَبَيَّنُوا اطلبوا بيان صدقه و كذبه و لا ترتبوا الأثر على خبره فورا و ذلك ل إِنْ لا تُصِيبُوا بمكروه قَوْماً ممن وشي الفاسق عليهم بِجَهالَةٍ في حال كونكم جاهلين أمرهم فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ من إصابة القوم بالأذى نادِمِينَ حين تبين كذب الفاسق، و قد وشى الوليد الفاسق على بني المصطلق كذبا فأراد جمع من المسلمين الانتقام منهم و طلبوا من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك فنزلت الآية ناهية عن الاستعجال و إنه يلزم عليهم اتباع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا أن يطلبوا من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اتباع آرائهم.
[7] وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ الذي تريدون أن يتبع رأيكم فيه لَعَنِتُّمْ وقعتم في العنت و المشقة وَ لكِنَّ بيان لعذر المسلمين حيث استعجلوا في تصديق الخبر فإنهم من فرط حبهم للإيمان و كراهتهم الكفر أشاروا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالانتقام من القوم اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ أي الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ الخروج عن الطاعة وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ المستثنون هُمُ الرَّاشِدُونَ المهتدون الذين لهم رشد فكري.
[8] فَضْلًا مِنَ اللَّهِ حبب و كره فضلا و زيادة منه تعالى لا باستحقاقكم وَ نِعْمَةً منه عليكم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين حَكِيمٌ في أوامره و نواهيه.
[9] وَ إِنْ طائِفَتانِ جماعتان كما حدث بين الأوس و الخزرج على عهد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا تقاتلوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح و دعوتهم إلى الرجوع إلى موازين الشريعة فَإِنْ بَغَتْ تعدت بعد النصح إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا أيها المسلمون الطائفة الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ في الصلح و الرضوخ لحكم الشرع فَإِنْ فاءَتْ رجعت الطائفة المعتدية فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بأن تأخذوا من الظالم منهما دية المظلوم و ما أشبه ذلك، لا بمثل الأحكام الاعتباطية و العادات القبلية وَ أَقْسِطُوا اعدلوا في كل أمر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
[10] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ كأن الدين أب لهم فهم أخوة في الدين فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إذا تخاصما وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بتقواكم.
[11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ رجال مِنْ قَوْمٍ عَسى لعل أَنْ يَكُونُوا أي المسخورون خَيْراً مِنْهُمْ من الساخرين، عند الله فكيف يسخرهم لبعض الأمور الدنيوية وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ لا يعيب بعضكم بعضا فإن المؤمنين كنفس واحدة وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ لا يدعو بعضكم بعضا بلقب يكرهه بِئْسَ الِاسْمُ أي العلامة الْفُسُوقُ الخروج عن طاعة الله بَعْدَ الْإِيمانِ فإنكم حيث كنتم مؤمنين لا تعملوا على أنفسكم علامة الفسق بسبب التنابز بالألقاب وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ من هذه المعاصي فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أنفسهم بتعريضها للعقاب.
تبيين القرآن، ص: 530
[12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ أي ظن السوء، فإنه الكثير في ظنون الإنسان، مقابل الظن الحسن كحسن الظن بالله و بالمؤمنين إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ معصية وَ لا تَجَسَّسُوا لا تبحثوا عن عورات المسلمين وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و الغيبة هي ذكرك أخاك في غيبته بما يكره أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً في حال موت الأخ، فعرضه كلحمه، و غيبته كالموت، لأنه الغائب و الميت كلاهما لا يشعران فَكَرِهْتُمُوهُ كما كرهتم ذلك فاكرهوا الغيبة لأنها نظيره وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يتوب على من تاب رَحِيمٌ و لذا لا يعاجلكم بالعقوبة.
[13] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ آدم وَ أُنْثى حواء وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً جمع شعب أعم من القبيلة وَ قَبائِلَ جمع قبيلة، فلا النسب و لا الشعب و القبيلة موجبة لرفع الإنسان و كرامته لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أكثركم تقوى، فإن ميزان الفضيلة عند الله التقوى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بما تفعلون خَبِيرٌ ببواطنكم.
[14] قالَتِ الْأَعْرابُ جماعة من أهل البادية أظهروا الإسلام في سنة جدبة لينالوا من الصدقة التي كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوزعها على الفقراء آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا و هذا تحريض لهم على الإيمان فلا ينافي قوله تعالى (و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) «1» وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا دخلنا في الإسلام بإظهار الشهادتين وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي بعد لم يدخل الإيمان الذي هو الاعتقاد القلبي وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ لا ينقصكم مِنْ ثواب أَعْمالِكُمْ شَيْئاً أي يعطيكم ثوابكم كاملا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ بعباده حيث لا يعاجلهم بالعقوبة.
[15] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ حقيقة هم الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكّوا فيما آمنوا به وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأجل إعلاء كلمة الله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في كونهم مؤمنين.
[16] قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي هل تخبرون الله بقولكم (آمنا) إنكم متدينون، و الاستفهام للتوبيخ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فهو أعلم بأنكم مؤمنون أم لا.
[17] يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي بإسلامهم، كأنه منة على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بإسلامكم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ حيث هداكم لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء إيمانكم.
[18] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ما غاب عن الحواس في السَّماواتِ وَ في الْأَرْضِ فهو يعلم أنكم صادقين في إيمانكم أم لا وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فسوف يجازيكم عليه.
__________________________________________________
(1) سورة النساء: 94.
تبيين القرآن، ص: 531
مكية آياتها خمس و أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] ق رمز بين الله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ذو المجد و الرفعة، و جواب القسم مقدر، أي أنكم مبعوثون، دل عليه (بل عجبوا) إلخ.
[2] بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْهُمْ من جنسهم فَقالَ الْكافِرُونَ هذا الذي يقوله محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شَيْ ءٌ عَجِيبٌ.
[3] أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً نرجع أحياء ذلِكَ الرجوع إلى الحياة رَجْعٌ رجوع بَعِيدٌ أن يكون.
[4] قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكل الأرض من أجسادهم، فإذا أردنا إحياءهم جمعنا الأجزاء وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ حافظ لكل شي ء، و المراد اللوح المحفوظ أو علم الله.
[5] بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ النبوة لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب فيقولون عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تارة إنه شاعر و تارة كاهن و هكذا.
[6] أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا للاستدلال على الله و صفاته و قدرته على البعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها بلا عمد بهذا الشكل الجميل وَ زَيَّنَّاها بالكواكب وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ شقوق توجب خللا فيها.
[7] وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من النبات بَهِيجٍ حسن ذو بهجة يسر من رآه.
[8] تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى أي فعلنا كل ذلك لأجل تبصيرهم و تذكيرهم بالفطرة الكامنة فيهم لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه.
[9] وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً المطر مُبارَكاً كثير البركة فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ أشجار و بساتين وَ حَبَّ الْحَصِيدِ حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد، كالحنطة.
[10] وَ أنبتنا به النَّخْلَ باسِقاتٍ طوالا لَها طَلْعٌ أول ما يطلع منها و فيه التمر نَضِيدٌ منضود بعضه على بعض.
[11] رِزْقاً لأجل الرزق و الأكل لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً باليبس لا نبات فيه كَذلِكَ كالإحياء للبلدة بعد الموت الْخُرُوجُ خروج الموتى أحياء عند البعث.
[12] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قبل قومك يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ البئر التي رسوا فيها نبيهم قرب شط الرس وَ ثَمُودُ.
[13] وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ أي قومه.
[14] وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ قوم شعيب النبي عليه السّلام وَ قَوْمُ تُبَّعٍ الملك كما سبق في سورة الدخان كُلٌّ أي كل واحد من هؤلاء الأقوام كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ ثبت عليهم وَعِيدِ وعيدي أي عذابي فأهلكتهم.
[15] أَ فَعَيِينا أي هل عجزنا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي بهذه الخلقة ابتداء، حتى لا نقدر على إعادة الخلق للآخرة، و الاستفهام للإنكار بَلْ لم نعي و إنما هُمْ الكفار فِي لَبْسٍ شك مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ من أن نخلق الناس جديدا للحساب.
تبيين القرآن، ص: 532
[16] وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الوسوسة ما تدور في صدره من الأفكار فنحن الخالق العالم وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ عرق العنق، و الإضافة بيانية، و في طرفي العنق عرقان كل واحد وريد، فإنه قد يريد شيئا بقلبه فنحول دون أن ينفذ إرادته بعينه أو أذنه أو لسانه، و قد يتكلم بشي ء أو يرى أو يسمع و نحول دون أن يصل ذلك الشي ء إلى قلبه، كما في حالات الغفلة.
[17] إِذْ اذكر زمانا يَتَلَقَّى يأخذ الْمُتَلَقِّيانِ الآخذان و هما ملكان يكتبان ما يعمل الإنسان عَنِ الْيَمِينِ أحدهما قاعد وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي قاعد، و في بعض الروايات أنهما على الشدقين أي طرفي الفم.
[18] ما يَلْفِظُ لا يتكلم الإنسان مِنْ قَوْلٍ كلمة إِلَّا لَدَيْهِ لدى التلفظ رَقِيبٌ يراقب كلامه عَتِيدٌ حاضر مستعد لكتابته.
[19] وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته المزيلة للفعل، كالسكر بِالْحَقِّ أي بالحقيقة من أمر الإنسان، فإن الحقائق هناك تنكشف ذلِكَ الموت ما الذي كُنْتَ أيها الإنسان مِنْهُ تَحِيدُ تهرب.
[20] وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ بوق ينفخ فيه إسرافيل لأجل إحياء البشر للحساب ذلِكَ الوقت يَوْمُ الْوَعِيدِ يتحقق فيه الوعيد بالعذاب.
[21] وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ ليسوقها وَ شَهِيدٌ شاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا.
[22] و يقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم، كالإنسان الغافل لا تعمل لهذا اليوم فَكَشَفْنا رفعنا عَنْكَ غِطاءَكَ الذي كان على قلبك في الدنيا فيمنعك عن فهم الحقائق فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ حاد يرى الحقائق إذ زالت الشهوات و الموانع عن القلب.
[23] وَ قالَ قَرِينُهُ الملك الشاهد عليه: هذا ما لَدَيَّ هذا الأمر الذي هو مكتوب عندي عَتِيدٌ حاضر.
[24] أَلْقِيا أيها السائق و الشهيد فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ كثير الكفر المعاند للحق.
[25] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للأعمال الخيرية مُعْتَدٍ مجاوز للحق مُرِيبٍ شاك في الدين.
[26] الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ من الأصنام أو نحوها فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ.
[27] قالَ قَرِينُهُ الشيطان الذي كان يغويه في الدنيا: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ لم أكن سببا لطغيانه وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ هو كان ضالا فدعوته فاستجاب لي، و البعيد يعني بعيد عن الحق، و هو يقول ربنا إنه أضلّني.
[28] قالَ الله: لا تَخْتَصِمُوا لا يخاصم أحدكم الآخر لَدَيَّ الآن فلا يفيد الاختصام وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على أن من كفر فجزاؤه النار.
[29] ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لا يقع خلاف وعيدي للكفرة وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ بذي ظلم لِلْعَبِيدِ فلا أعاقب إلا من استحق العقاب.
[30] يَوْمَ اذكر يوما نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ و السؤال لأجل التقرير و تبكيت الداخلين فيها وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ تبيين القرآن، ص: 533
أي هل في موضع زيادة، كناية عن امتلائها كما قال سبحانه: (لأملأن جهنم) «1».
[31] وَ أُزْلِفَتِ قرّبت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ الذي كانوا يتقون الكفر و العصيان في الدنيا، في حال كونها غَيْرَ بَعِيدٍ منهم.
[32] و يقال لهم هذا الثواب ما كنتم تُوعَدُونَ في الدنيا فهو لِكُلِّ أَوَّابٍ كثير الأوبة و التوبة حَفِيظٍ حافظ نفسه عن الكفر و العصيان.
[33] مَنْ بدل من (أواب) خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ حال كونه لا يرى الله وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ راجع إلى الله.
[34] و يقال لهم ادْخُلُوها أي الجنة بِسَلامٍ سالمين عن المكروه ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْخُلُودِ خلود أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار.
[35] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها في الجنة، من أنواع النعم وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ زيادة على ما يشاءون، مما لا يخطر ببالهم.
__________________________________________________
(1) سورة هود: 119.
تبيين القرآن، ص: 534
[36] وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء الكفار مِنْ قَرْنٍ أمة هُمْ ذلك القرن أَشَدُّ مِنْهُمْ من هؤلاء بَطْشاً قوة و أخذا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ فتحوا المسالك في البلاد لشدة بطشهم و قوتهم ف هَلْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب من العذاب إذا جاءهم، فلم تفدهم قوتهم و نقبهم.
[37] إِنَّ فِي ذلِكَ إهلاك الأمم السابقة لَذِكْرى تذكرة للاعتبار لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ عقل يتفكر به أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أصغى للاستماع وَ هُوَ شَهِيدٌ حاضر القلب، ليفهم الحقائق.
[38] وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ تعب، أي لم نتعب، و من هو بهذه القدرة قادر على البعث.
[39- 40] فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي الكفار، فيك و في القرآن وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزّهه حامدا له قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ في صلاة الصبح وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ في صلاة الظهر و العصر وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي في صلاة المغرب و العشاء وَ أَدْبارَ السُّجُودِ أي بعد الصلاة، و أدبار جمع دبر بمعنى العقب.
[41] وَ اسْتَمِعْ أي انتظر سماع قول إسرافيل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ هو إسرافيل، ينادي لإحياء الأموات مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بحيث يسمعه كل الأموات فيحيون.
[42] يَوْمَ بدل من (يوم ينادي) يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ نداء إسرافيل بِالْحَقِّ الذي هو البعث ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور.
[43] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي من التراب وَ نُمِيتُ في الدنيا وَ إِلَيْنَا إلى جزائنا الْمَصِيرُ العود في الآخرة.
[44] يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ تنفتح الأرض عَنْهُمْ عن الأموات سِراعاً في حال كونهم مسرعين إلى المحشر ذلِكَ حَشْرٌ جمع للناس للحساب عَلَيْنا يَسِيرٌ سهل.
[45] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في إنكار البعث وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ بمسلط قادر على أن تجبرهم على الإيمان فَذَكِّرْ لأن شأنك التذكير بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي وعيدي، و خص به لأنه المنتفع بالتذكير.
مكية آياتها ستون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ الذَّارِياتِ قسما بالرياح التي تذري التراب و تنشره في الهواء ذَرْواً مصدر تأكيدي.
[2] فقسما بالرياح الحاملات للسحاب وِقْراً أي حملا ثقيلا.
[3] فقسما بالرياح الجاريات التي تجري من مهابها جريا يُسْراً سهلا.
[4] فقسما بالرياح المقسمات ما نأمرها بتقسيمها كالمطر و تلقيح الثمار و الأزهار أَمْراً أي ما تؤمر به و هناك تفاسير أخر للآيات.
[5] إِنَّما جواب القسم تُوعَدُونَ من البعث و غيره لَصادِقٌ لا خلف فيه.
[6] وَ إِنَّ الدِّينَ الجزاء لَواقِعٌ يقع لا محالة.
تبيين القرآن، ص: 535
[7] وَ قسما ب السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ الطرق للملائكة و الطيور و الأمطار و ما أشبه.
[8] إِنَّكُمْ جواب القسم لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن و الله سبحانه، أي ليس قولكم عن منشأ صحيح بل عن الهوى و لذا هو مختلف.
[9] يُؤْفَكُ يصرف عَنْهُ عن الإيمان مَنْ أُفِكَ من صرف عن الخير.
[10] قُتِلَ دعاء عليهم بأن يقتلوا الْخَرَّاصُونَ الكذابون.
[11] الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ جهل يغمرهم ساهُونَ يسهون و يغفلون عن البعث و الجزاء.
[12] يَسْئَلُونَ استهزاء أَيَّانَ أي وقت يكون يَوْمُ الدِّينِ الجزاء.
[13] وقت يوم الدين هو يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يعذبون.
[14] و يقال لهم ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ عذابكم هذَا العذاب هو الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ تطلبون تعجيله في دار الدنيا، استهزاء به.
[15] إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و العصيان فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ من الماء.
[16] آخِذِينَ في حال كونهم قد أخذوا ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من النعم إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في دار الدنيا مُحْسِنِينَ في عقيدتهم و عملهم.
[17] كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما زائدة للتأكيد يَهْجَعُونَ الهجوع النوم، أي يصلون و يذكرون الله أكثر الليل.
[18- 21] وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ نصيب يعطونه لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ الذي هو عفيف فيظن غناه فيحرم من الإعطاء. وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ دلائل على وجود الله و قدرته لِلْمُوقِنِينَ الذين يريدون اليقين، و خصهم لأنهم المنتفعون بالآيات. وَ آيات فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ هذه الآيات لتعتبروا بها.
[22- 23] وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فإن المطر ينزل من السماء، كما أن تقدير الرزق هناك وَ ما تُوعَدُونَ من الثواب و العقاب، فإن تقديره هناك. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ أي القرآن، أو ما قلناه لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فكما أن نطقكم واضح و حق عندكم، كذلك ما قلناه.
[24] هَلْ أَتاكَ سمعت حَدِيثُ قصة ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ صفة (ضيف) كانوا ذوي كرامة، لكونهم ملائكة.
[25] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إبراهيم عليه السّلام في جوابهم سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي أنتم أناس لا نعرفكم.
[26- 28] فَراغَ مال إبراهيم عليه السّلام و ذهب إِلى أَهْلِهِ عائلته ليأتي إليهم بالأكل فَجاءَ بِعِجْلٍ ولد البقر المشوي سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ أدناه إبراهيم عليه السّلام إِلَيْهِمْ إلى الضيف ليأكلوا لكنهم لم يأكلوا منه قالَ أَ لا للعرض أي لما ذا لا تَأْكُلُونَ منه. فَأَوْجَسَ فأحسّ مِنْهُمْ خِيفَةً خوفا حيث ظن أن عدم أكلهم دليل أنهم يريدون به سوء قالُوا لا تَخَفْ إنا ملائكة وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ ولد عَلِيمٍ عالم هو إسحاق عليه السّلام.
[29- 30] فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة لما سمعت البشارة فِي صَرَّةٍ في صيحة تصيح تعجبا فَصَكَّتْ لطمت وَجْهَها بأطراف الأصابع كما يفعل المتعجب وَ قالَتْ كيف ألد و أنا عَجُوزٌ تجاوزت سن الولادة بالإضافة إلى أني عَقِيمٌ عاقر لا ألد أصلا. قالُوا كَذلِكَ أي هكذا، و الكاف خطاب إليها قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في تدبيره فيعطيك الولد بحكمته الْعَلِيمُ عليم بحالك.
تبيين القرآن، ص: 536
[31] قالَ إبراهيم عليه السّلام: فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم و لأي أمر جئتم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ الملائكة.
[32] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ و هم قوم لوط.
[33] لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ أصله طين و قد جف و هو أشد إيذاء.
[34] مُسَوَّمَةً معلّمة لتكون عذابا عِنْدَ رَبِّكَ العذاب من عنده لِلْمُسْرِفِينَ الذين تجاوزوا الحد في الكفر و العصيان.
[35] فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها في القرية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لوط عليه السّلام و عائلته.
[36] فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هو بيت لوط عليه السّلام.
[37] وَ تَرَكْنا فِيها في القرية بعد إهلاكها آيَةً علامة و هي البيوت الخربة و الصحراء التي لا تزرع لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم، و خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالآية.
[38] وَ فِي مُوسى آيات، عطف على (في الأرض) إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة ظاهرة هي العصا و سائر المعاجز.
[39- 40] فَتَوَلَّى أعرض فرعون بِرُكْنِهِ الركن ما يعتمد عليه و يتقوى به من الملك و الجند وَ قالَ: إن موسى ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم في الْيَمِ البحر هُوَ مُلِيمٌ آت بما يلام عليه، أو يلوم نفسه حين أدركه الغرق.
[41] وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ لم تكن كسائر الرياح التي توجب ولادة السحاب أو تلقح الأشجار، بل ما كانت تلد، فإنها كانت ريح عذاب.
[42] ما تَذَرُ لا تدع تلك الريح مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ مرت عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ كالرماد في حرقه و تفتيته، أو كالعظام البالية.
[43] وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا بالدنيا حَتَّى حِينٍ أي ثلاثة أيام حيث إنهم لما عقروا الناقة قال لهم صالح بعد ثلاثة أيام تهلكون.
[44] فَعَتَوْا أعرضوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ العذاب الذي صعقهم أي أهلكهم وَ هُمْ يَنْظُرُونَ وقت نزول العذاب لا يقدرون دفعه.
[45] فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ بأن يقوموا بعد الصاعقة وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين منها.
[46] وَ أهلكنا قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ قبل عاد إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله.
[47] وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ بقوة وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ نوسع في السماء.
[48] وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها جعلناها فراشا فَنِعْمَ نحن الْماهِدُونَ جاعلون المهد للاستقرار.
[49] وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ذكرا و أنثى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا شريك له.
[50] فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ التجئوا إليه بالإيمان و الطاعة، فرارا عن عقابه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ من عنده نَذِيرٌ أخوفكم عقابه مُبِينٌ.
[51] لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ظاهر الإنذار.
تبيين القرآن، ص: 537
[52] كَذلِكَ هكذا كما قالوا لك ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا أي الأمة التي أتاهم رسولهم ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ و فيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[53] أَ تَواصَوْا بِهِ استفهام إنكاري أي هل أوصى بعضهم بعضا بأن يقولوا للأنبياء إنهم سحرة مجانين بَلْ ليس قولهم بالتواصي هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ فإن الطغيان جمعهم في تفكير واحد.
[54] فَتَوَلَّ أعرض يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَنْهُمْ و لا تقابلهم بالمثل فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على إعراضك.
[55] وَ ذَكِّرْ عظهم مع ذلك فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الذين هم في طريق الإيمان.
[56] وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فعدم عبادتهم خلاف ما خلقوا لأجله.
[57] ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ فما خلقتهم لينفعوني بل لأنفعهم.
[58] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ لكل من يحتاج إلى الرزق ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الشديد الذي لا يغالب.
[59] فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان ذَنُوباً نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ سائر الأقوام السابقة المكذبة للرسل فَلا يَسْتَعْجِلُونِ فلا يطلبوا عجلة عذابهم فإنهم معذبون لا محالة.
[60] فَوَيْلٌ و أسوأ حالهم لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ هو يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم.
مكية آياتها تسع و أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ الطُّورِ قسما بالجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السّلام.
[2] وَ كِتابٍ القرآن مَسْطُورٍ قد سطر و كتب.
[3] فِي رَقٍّ الورق الذي يكتب فيه مَنْشُورٍ المبسوط المفتوح.
[4] وَ الْبَيْتِ الكعبة الْمَعْمُورِ بالحجاج و الزوار.
[5- 6] وَ السَّقْفِ السماء الْمَرْفُوعِ. وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ المملوء بالماء.
[7] إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ يقع لا محالة.
[8] ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه عن الكفار.
[9] يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً تتحرك و تضطرب، و ذلك في يوم القيامة.
[10] وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً من مقامها حتى تستوي الأرض.
[11] فَوَيْلٌ سوء و هلاك يَوْمَئِذٍ يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[12] الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ في حديث باطل يخوضون يَلْعَبُونَ يلهون عن البعث.
[13] يَوْمَ يُدَعُّونَ يدفعون بعنف إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا دفعا بشدة.
[14] و يقال لهم هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في الدنيا.
تبيين القرآن، ص: 538
[15] أَ فَسِحْرٌ هذا استفهام بقصد التوبيخ، لأنهم كانوا في الدنيا كلما شاهدوا من المعاجز قالوا إنه سحر أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ النار كما كنتم تقولون في الدنيا إنا لا نبصر المعاجز و إنما هي على خلاف واقعها.
[16] اصْلَوْها ادخلوا النار فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ لأن الصبر و عدمه لا يفيدكم في دفع العذاب إِنَّما تُجْزَوْنَ ما جزاء الأعمال التي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[17] إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و العصيان فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ نعمة.
[18] فاكِهِينَ ناعمين متلذذين بِما آتاهُمْ أعطاهم من أنواع النعيم رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ حفظهم الله من عَذابَ الْجَحِيمِ.
[19] يقال لهم: كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بلا مشقة و سوء عاقبة بِما بسبب ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الأعمال الصالحة.
[20] مُتَّكِئِينَ في حال كونهم عَلى سُرُرٍ جمع سرير مَصْفُوفَةٍ مصطفة متصلة بعضها ببعض وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ نساء جميلات بيضاوات عِينٍ واسعات العيون.
[21] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الجنة ليكمل سرورهم بذلك وَ ما أَلَتْناهُمْ نقصناهم بسبب هذا الإلحاق مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فليس هناك كالدنيا توجب الأولاد المشاركة مع الآباء في خيراتهم كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ كل إنسان مرهون عند الله بعمله فإن عمل صالحا فك من النار و لم يعذب و إلا هلك.
[22] وَ أَمْدَدْناهُمْ زدناهم وقتا بعد وقت بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ من مختلف أنواعها.
[23] يَتَنازَعُونَ يتعاطون بالتجاذب مزاحا فِيها في الجنة كَأْساً لا لَغْوٌ لا يتكلمون اللغو بسبب تلك الكأس كما يفعل السكارى في الدنيا فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ لا إثم فيها.
[24] وَ يَطُوفُ يجي ء و يذهب بالكأس و الطعام عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ جمع غلام أي الأولاد لَهُمْ مخصوصون بهم كَأَنَّهُمْ في البياض و الصفاء لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ قد حفظ فلم يغيره الزمان.
[25] وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ عن أحوالهم.
[26] قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في الدنيا فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ خائفين من عذاب الله.
[27] فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالجنة وَ وَقانا حفظنا من عَذابَ السَّمُومِ النار النافذة في المسام «1».
[28] إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ في الدنيا نَدْعُوهُ تعالى و نسأل فضله إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ البار الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين.
[29] فَذَكِّرْ الناس، يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا تبال بما يقال فيك فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بسبب إنعامه عليك بِكاهِنٍ تخبر بواسطة الشياطين وَ لا مَجْنُونٍ كما يزعمون.
[30] أَمْ بل يَقُولُونَ شاعِرٌ لأن القرآن بقولهم شعر نَتَرَبَّصُ ننتظر بِهِ بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَيْبَ ما يقلب الْمَنُونِ الموت، أي ننتظر به الموت حتى نستريح منه.
[31] قُلْ تَرَبَّصُوا انتظروا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لنرى الغلب مع أينا.
__________________________________________________
(1) المسام: منافذ البدن. [.....]
تبيين القرآن، ص: 539
[32] أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ عقولهم بِهذا الذي يقولون فيه من أنك شاعر و كاهن و مجنون، و هل يمكن الجمع بين هذه الأمور أَمْ هُمْ بل هم قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحد فهم معاندون.
[33] أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ادعاه على الله كذبا بَلْ لا يُؤْمِنُونَ لعنادهم فيرمون القرآن بهذه المطاعن.
[34] فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مثل القرآن إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أنه كلام آدمي.
[35] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ من غير خالق فلذا ينكرون الله أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ بأن أحدثوا هم أنفسهم.
[36] أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ بالله و إلا لوحدوه و أطاعوا رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[37] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ خزائن فضله حتى يعطوا النبوة من شاءوا أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ المسلطون على العالم يدبرونه كما يشاءون حتى لا يريدوا نبوتك.
[38] أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يصعدون بسببه إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ في ذلك السلم فيعلمون ما هو الحق فيسمعون فرضا أن الله لم يبعثك بالرسالة فيكفرون بك فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ إن قالوا بذلك الصعود بِسُلْطانٍ دليل مُبِينٍ واضح على دعواه بأن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس برسول.
[39] أَمْ لَهُ لله الْبَناتُ كما قالوا بأن الملائكة بنات الله وَ لَكُمُ الْبَنُونَ.
[40] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ غرامة هي أجر الرسالة مُثْقَلُونَ لأنه يثقل عليهم و لذا لا يقبلون رسالتك فرارا من الغرامة.
[41] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ يعلمون ما غاب عن الحواس فَهُمْ يَكْتُبُونَ عن ذلك اللوح، و لذا لا يؤمنون بالبعث لأنهم رأوا في الغيب تكذيبا له.
[42] أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً مكرا لإفنائك فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ يعود عليهم وبال كيدهم.
[43] أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ كما يقولون سُبْحانَ اللَّهِ أنزّهه تنزيها أن يكون له شريك عَمَّا يُشْرِكُونَ عن شركهم.
[44] وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعا مِنَ السَّماءِ ساقِطاً على الكفار كما قالوا (أسقط علينا كسفا من السماء) «1» يَقُولُوا عنادا هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ مجموع بعضه فوق بعض.
[45] فَذَرْهُمْ اتركهم حَتَّى يُلاقُوا يروا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يموتون، أو يعذبون.
[46] يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ و مكرهم ضد أعدائهم شَيْئاً في دفع العذاب عنهم وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لا ينصرهم أحد.
[47] وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ قبل عذاب الآخرة، في الدنيا بالإفناء، أو عذاب القبر وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك لأنهم لا يؤمنون بكلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[48] وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ و احتمل أذى القوم فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا بمرئى منا، جمع عين، فنجازيك بالثواب على الصبر وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزّهه حامدا له حِينَ تَقُومُ من النوم صباحا.
[49] وَ مِنَ اللَّيْلِ بعضه فَسَبِّحْهُ أيضا وَ إِدْبارَ النُّجُومِ حين تدبر النجوم بظهور النهار.
__________________________________________________
(1) سورة الشعراء: 187.
تبيين القرآن، ص: 540
مكية آياتها اثنتان و ستون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] وَ النَّجْمِ قسما بجنس النجم إِذا هَوى مال نحو الغروب. ما ضَلَّ لم ينحرف صاحِبُكُمْ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما غَوى عن إصابة الرشد.
[3- 5] وَ ما يَنْطِقُ لا يتكلم عَنِ الْهَوى التشهي و هوى النفس. إِنْ ما هُوَ الذي ينطق به إِلَّا وَحْيٌ يُوحى إليه من الله. عَلَّمَهُ لهذا الوحي- من قبل الله- ملك شَدِيدُ الْقُوى هو جبرئيل.
[6- 10] ذُو مِرَّةٍ قوة عقلية كبيرة فَاسْتَوى على صورته القوية العاقلة. وَ هُوَ جبرئيل بِالْأُفُقِ الْأَعْلى من السماء. ثُمَّ دَنا اقترب من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَتَدَلَّى فتعلق في الهواء و نزل. فَكانَ جبرئيل من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مقدار قابَ المسافة بين طرفي قَوْسَيْنِ أي بمقدار بعد قوسين أَوْ أَدْنى أقل بعدا. فَأَوْحى
ألقى جبرئيل إِلى عَبْدِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أَوْحى الله إليه.
[11] ما كَذَبَ الْفُؤادُ قلب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما رَأى من جبرئيل فلم يكن قلبه يحكم بخلاف الواقع فيما رآه كما يحكم قلب من يرى السراب أنه ماء كذبا.
[12] أَ فَتُمارُونَهُ تجادلون محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى ما يَرى على ما رآه.
[13] وَ لَقَدْ رَآهُ رأى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل على صورته نَزْلَةً عند نزول جبرئيل مرة أُخْرى قبل ذلك.
[14] عِنْدَ سِدْرَةِ هي الْمُنْتَهى في محل ارتفاع الملائكة و هي شجرة عن يمين العرش.
[15] عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى التي تأوي إليها نفوس المتقين.
[16- 17] إِذْ في زمان يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى يحيط بها ما يحيط من النور و البهاء و ذلك حين عرج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السماء. ما زاغَ الْبَصَرُ أي لم يمل يمينا و شمالا وَ ما طَغى لم يجاوز الحد.
[18] لَقَدْ رَأى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ آياتِ بعض آيات رَبِّهِ الْكُبْرى صفة الآيات كالجنة و النار و نحوهما.
[19- 22] أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ هي ثلاثة أصنام كان أهل الجاهلية يعبدونها الْأُخْرى صفة للثالثة، بمعنى هي الأخرى أيضا إله لكم في زعمكم. أَ لَكُمُ الذَّكَرُ بأن يولد لكم الأولاد الذكور وَ لَهُ الْأُنْثى البنات إذ قالوا الملائكة بنات الله و هذه الأصنام الثلاثة هياكل لأولئك الملائكة. تِلْكَ القسمة بأن لكم الذكر و له الأنثى إِذاً على ما تقولون قِسْمَةٌ ضِيزى جائرة غير عادلة حيث أخذ الله البنات التي تكرهونها و أعطاكم الأولاد.
[23- 26] إِنْ ما هِيَ الأصنام التي تسمونها آلهة إِلَّا أَسْماءٌ فقط لا حقيقة لها، إذ ليست بآلهة سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ بدون حجة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بكونها آلهة مِنْ سُلْطانٍ دليل إِنْ ما يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ لا العلم وَ ما تَهْوَى تميل الْأَنْفُسُ حسب ميلكم وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى فتركوه عنادا. أَمْ منقطعة بمعنى الإنكار لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أي ليس للإنسان ما تمناه من شفاعة الأصنام. فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى فالشفاعة و الإعطاء و المنع كل له لا شريك له. وَ كَمْ للتكثير مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ من عباده وَ يَرْضى عنه فإذا كان حال الملائكة هكذا فكيف يكون حال الجماد، و إنما قال (كم) و الحال إن كل الملائكة هكذا لأن قسما من الملائكة ليسوا في محل الشفاعة أصلا لأنهم لا يرتبطون بمثل هذه الأمور.
تبيين القرآن، ص: 541
[27- 28] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى بأن قالوا إن الملائكة بنات الله وَ ما لَهُمْ بِهِ بما يقولون مِنْ عِلْمٍ إِنْ ما يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ فإنهم يظنون ذلك تقليدا لآبائهم وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فإن الحق إنما يحصل بالعلم.
[29- 30] فَأَعْرِضْ لا تهتم عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا بأن كان عمله للدنيا فقط فإنه لا أهمية له. ذلِكَ أمر الدنيا فقط مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فإن علمهم لا يتجاوز منها إلى الآخرة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فيجازي كلا حسب عمله و إنما عليك أنت البلاغ فقط.
[31- 32] وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ علة ل (أعرض) أي أعرض عنهم بعلة أن الله هو المجزي و لست أنت مجزيا و الجمل في الوسط من صلة المعلول و لذا قدمت على العلة الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا بعقاب أعمالهم وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي بالمثوبة الحسنة و هي الجنة. الَّذِينَ صفة (الذين أحسنوا) يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ ما كبر من الآثام كالشرك وَ الْفَواحِشَ ما تعدى عن الحدّ في القبح كالزنا إِلَّا اللَّمَمَ ما ألم به الإنسان في حياته من غير قصد و عمد، و هو ما يقع فيه الإنسان غالبا من الصغائر فإن الضعف البشري يسبب ذلك في غير من له ملكة قوية إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ غفرانه يسع مرتكبي اللمم هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ بضعفكم و لذا يغفر اللمم لكم إِذْ حين أَنْشَأَكُمْ ابتدأ خلقكم مِنَ الْأَرْضِ فإن الإنسان كان أرضا فنباتا فدما فنطفة وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جنين، الطفل في بطن الأم، فهو يعلم ضعفكم من أول الأمر فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لا تمدحوها فإن الإنسان معرض للخطأ و من هو كذلك لا يستحق المدح هُوَ الله أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى الكفر و المعاصي.
[33- 35] أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أعرض عن الحق. وَ أَعْطى قَلِيلًا في سبيل الخير وَ أَكْدى قطع العطاء. أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس من أمر الآخرة فَهُوَ يَرى أن ما أعطاه قبل و يكفيه في الآخرة و لذا قطع عطاءه.
[36] أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى أي في التوراة، و الاستفهام للإنكار.
[37] وَ صحف إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى بما أمر به من تبليغ الأحكام و الصبر على المكاره.
[38- 39] فإن في تلك الصحف: أَلَّا أن لا تَزِرُ تحمل وازِرَةٌ نفس حاملة وِزْرَ أُخْرى حمل إنسان آخر، بل (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) «1»، فلا يحمل ذنب هذا الغني البخيل أحد غيره، مما يقتضي أن يكثر من الإعطاء لعله يكون سببا لمحو ذنبه. وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى إلا سعي نفسه، فله سعيه و عليه وزره.
[40- 41] وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى في الآخرة يراه الناس. ثُمَّ يُجْزاهُ أي يجزى الإنسان سعيه، بمعنى يعطى جزاء سعيه الْجَزاءَ الْأَوْفى ما يستحقه و أكثر لأن (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «2».
[42- 44] وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي انتهاء الخلائق في الحساب إليه تعالى، فإن هذه الأمور المذكورة و الآتية توجب أن يعمل الإنسان كثيرا. وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى فعل أسبابهما. وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا الإنسان من التراب.
__________________________________________________
(1) سورة الطور: 21.
(2) سورة الأنعام: 160.
تبيين القرآن، ص: 542
[45] وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الصنفين الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى .
[46] مِنْ نُطْفَةٍ المني إِذا تُمْنى تدفق في الرحم.
[47] وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى البعث.
[48- 49] وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى الإنسان بالمال وَ أَقْنى أعطى القنية أي أصول المال. وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى هو نجم في السماء كان بعض الجاهليين يعبدونه.
[50- 51] وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً قوم هود عليه السّلام الْأُولى فإن من نسلهم كان عاد أخرى. وَ أهلك ثَمُودَ قوم صالح عليه السّلام فَما أَبْقى أحدا من الفريقين.
[52- 53] وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ قبل عاد و ثمود إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ أكثر ظلما وَ أَطْغى أكثر طغيانا من عاد و ثمود. وَ أهلك الْمُؤْتَفِكَةَ أي القرى المنقلبة و هي قرى لوط عليه السّلام أَهْوى أسقطها مقلوبة بعد أن أمر جبرئيل برفعها.
[54] فَغَشَّاها فغطى الله تلك القرى ما غَشَّى للتهويل، و المراد به الحجارة التي أمطرت عليهم.
[55] فَبِأَيِّ آلاءِ نعم رَبِّكَ تَتَمارى تشكّك أيها السامع: نعمة الخلق و الإعطاء و الإضحاك و عدم التعذيب كما عذب السابقين، و لما ذا لا تؤمن مع هذه النعم.
[56- 57] هذا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نَذِيرٌ مخوف عن الله مِنَ النُّذُرِ أي من جنسهم الْأُولى فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جنس الأنبياء المنذرين. أَزِفَتِ اقتربت الْآزِفَةُ الساعة و تسمى آزفة لاقترابها.
[58] لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره كاشِفَةٌ نفس تكشفها و تأتي بها.
[59] أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ القرآن تَعْجَبُونَ و الحال أنه ليس موردا للتعجب.
[60- 61] وَ تَضْحَكُونَ استهزاء وَ لا تَبْكُونَ خوفا من الوعيد. وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ غافلون ساهون.
[62] فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا و لا تعبدوا غيره.
مكية آياتها خمس و خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] اقْتَرَبَتِ دنت السَّاعَةُ القيامة وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ نصفين فقد سألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علامة على نبوته فشق لهم القمر.
[2] وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً معجزة يُعْرِضُوا عن تأمّلها و الإيمان بها وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ دائم ففي كل معجزة يقولون هذا الكلام.
[3] وَ كَذَّبُوا بالآيات وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في أمورهم وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ له قرار، و هذا تهديد لهم بأن تكذيبهم سوف يستقر على ما لا يحمد.
[4] وَ لَقَدْ جاءَهُمْ أي الكفار مِنَ الْأَنْباءِ أخبار هلاك الأمم السابقة ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ زجر لهم لو أرادوا التنبّه.
[5] حِكْمَةٌ هي تلك الأنباء بالِغَةٌ قد بلغتهم فَما تُغْنِ النُّذُرُ أي لم يفدهم الإنذار الصادر من النذر- جمع نذير-.
[6] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم و لا تقابلهم على سفههم يَوْمَ مفعول فعل مقدر، دل عليه قوله (فتول)، أي انتظر عاقبة أمرهم يوم يَدْعُ الدَّاعِ هو إسرافيل حين ينفخ في البوق إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ منكر للنفوس و هو الحساب.
تبيين القرآن، ص: 543
[7] فتراهم خُشَّعاً خاشعة ذليلة أَبْصارُهُمْ فإن الذل يظهر على البصر يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة و التفرق و الاضطراب في الاتجاه.
[8] مُهْطِعِينَ مسرعين في المشي إِلَى إجابة الدَّاعِ خوفا من أن يكون تأخيرهم جرما يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب.
[9] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا عليه السّلام وَ قالُوا مَجْنُونٌ هو وَ ازْدُجِرَ زجروه بالضرب و غيره حتى يكف عن تبليغهم.
[10] فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي بأني مَغْلُوبٌ غلبني قومي فَانْتَصِرْ فانتقم لي يا رب منهم.
[11] فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ مجاري المطر، و سمي بابا مجازا بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب بشدة.
[12- 13] وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَ حَمَلْناهُ أي نوحا عليه السّلام عَلى سفينة ذاتِ أَلْواحٍ خشبية وَ دُسُرٍ جمع دسار و هو المسمار.
[14] تَجْرِي السفينة في الماء بِأَعْيُنِنا أي بمرأى منا محفوظة بحفظنا، فعلنا ذلك جَزاءً حسنا لِمَنْ لنوح عليه السّلام الذي كانَ كُفِرَ كفر به قومه.
[15] وَ لَقَدْ تَرَكْناها أي جعلنا قصة نوح عليه السّلام آيَةً عبرة يعتبر بها الناس فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ معتبر أي هل يوجد من يعتبر بهذه الآية.
[16] فَكَيْفَ استفهام للتعظيم و التهويل كانَ عَذابِي لقوم نوح عليه السّلام وَ نُذُرِ أي نذري.
[17] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا سهلنا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ لأن يتذكر به كل أحد فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فهل من متعظ يتعظ بالقرآن.
[18] كَذَّبَتْ عادٌ رسولهم هودا عليه السّلام فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ إنذاري لهم هل وفيت بما قلت أم لا.
[19] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً شديد البرودة فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ استمر شؤمه لأنهم لم يرجعوا إلى حال حسن بعدها بل عذابهم استمر إلى الأبد.
[20] تَنْزِعُ تلك الريح النَّاسَ من أماكنهم و تضرب بهم الأرض بشدة كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ أصول نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ منقطع حيث لا حياة لها.
[21- 22] فَكَيْفَ كرّر للتهويل كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ. وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ.
[23] كَذَّبَتْ ثَمُودُ قوم صالح عليه السّلام بِالنُّذُرِ بالإنذارات، أو بالرسل، لأن تكذيب رسول واحد تكذيب لكل الرسل.
[24] فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا من جنسنا واحِداً منفردا نَتَّبِعُهُ هذا لا يكون إِنَّا إِذاً إن اتبعناه لَفِي ضَلالٍ انحراف وَ سُعُرٍ جنون.
[25] أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ الوحي عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا و لم ينزل على غيره كيف يكون هذا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ في ادعائه الرسالة أَشِرٌ متكبر يريد استعلاء.
[26] سَيَعْلَمُونَ أي ثمود غَداً عند نزول العذاب، و هذا حكاية حال ماضية مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ المتكبر، صالح عليه السّلام أم هم.
[27] إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مخرجوها من الجبل فِتْنَةً امتحانا لَهُمْ لأنهم طلبوا هذه المعجزة فَارْتَقِبْهُمْ راقبهم يا صالح عليه السّلام ماذا يفعلون وَ اصْطَبِرْ على ما أمرك ربك و على أذاهم.
تبيين القرآن، ص: 544
[28] وَ نَبِّئْهُمْ أخبرهم أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ فيوم لهم و يوم لها كُلُّ شِرْبٍ نصيب من الماء مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه، في يومه المقرر له.
[29] فَنادَوْا أي ثمود صاحِبَهُمْ صديقهم لأجل أن يعقر الناقة فَتَعاطى أي أخذ السلاح فَعَقَرَ جرح الناقة.
[30- 31] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً صاح بهم جبرئيل عليه السّلام فَكانُوا صاروا بسبب الصيحة كَهَشِيمِ كالحشيش اليابس الْمُحْتَظِرِ الذي يجمعه من يبني الحظيرة لأجل سدّ فرجها، فإنه لا يعتني بالهشيم كيف ما كسر و وضع.
[32] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ.
[33] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ بالإنذارات، أو بالرسل.
[34] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ريحا رمتهم بالحصباء أي الحجارة إِلَّا آلَ لُوطٍ لوط عليه السّلام و أهل بيته نَجَّيْناهُمْ أمرناهم بالخروج من القرية بِسَحَرٍ قبل نزول العذاب.
[35] نِعْمَةً إنعاما لآل لوط عليه السّلام مِنْ عِنْدِنا بإهلاك الكفار المؤذين له و نجاته كَذلِكَ هكذا نَجْزِي مَنْ شَكَرَ عمل الشكر قلبا و لسانا و أعضاء.
[36] وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ خوفهم لوط عليه السّلام بَطْشَتَنا أخذنا بالعذاب فَتَمارَوْا شكوا و كذبوا بِالنُّذُرِ بالإنذارات.
[37] وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ حيث جاءت الملائكة في صور جميلة إلى لوط عليه السّلام فراودهم القوم يريدون اللواط بهم فَطَمَسْنا محونا أَعْيُنَهُمْ لأنهم لما رأوا الضيوف هجموا على بيت لوط عليه السّلام، فأشار إليهم جبرئيل فعميت عيونهم فتراجعوا عميانا ذاهلين فقيل لهم ذوقوا عَذابِي وَ نُذُرِ إنذاراتي أي العذاب المترتب على الإنذار.
[38] وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ أتاهم صباحا بُكْرَةً أول الصبح عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ استقر عليهم إلى الأبد.
[39- 40] فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ.
[41- 42] وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنا المعاجز التسع كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ قادر على ما يريد.
[43] أَ كُفَّارُكُمْ يا معشر قريش خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أحسن من الأمم السابقة، حتى لا يأخذكم العذاب أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ من العذاب فِي الزُّبُرِ الكتب السابقة بأن من كفر منكم لا يأخذه العذاب.
[44] أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ جماعة مُنْتَصِرٌ ننتصر ممن يريد بنا سوء فندفع العذاب عن أنفسنا.
[45] سَيُهْزَمُ يفر الْجَمْعُ جماعتكم إذا جاء العذاب و لا ينصركم أحد وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ فإن الإنسان المنهزم يعطي ظهره عند الفرار.
[46] بَلِ السَّاعَةُ القيامة مَوْعِدُهُمْ وقت عذابهم الشديد وَ السَّاعَةُ أَدْهى أفضع وَ أَمَرُّ أكثر مرارة من عذاب الدنيا.
[47] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ عن الحق وَ سُعُرٍ جنون.
[48] يَوْمَ مفعول (ذوقوا) يُسْحَبُونَ يجرّون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ فإنه أشد نكاية و يقال لهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ألم إصابة النار.
[49] إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ بمقدار و ميزان، فعذابهم بقدر إنكارهم و عنادهم.
تبيين القرآن، ص: 545
[50] وَ ما أَمْرُنا بمجي ء الساعة إِلَّا كلمة واحِدَةٌ هي كلمة (كن) كَلَمْحٍ حركة بِالْبَصَرِ في السرعة و السهولة.
[51] وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أشباهكم في الكفر من الأمم السابقة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متذكر متعظ بأحوال الأمم السابقة.
[52] وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ جميع أعمالهم فِي الزُّبُرِ صحف الحفظة، فنجازيهم عليها.
[53] وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ من أعمالهم مُسْتَطَرٌ مسطور مكتوب.
[54] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ أنهار الجنة.
[55] فِي مَقْعَدِ مكان صِدْقٍ حق لا أذى فيه و لا مكروه عِنْدَ مَلِيكٍ ملك عظيم السلطان مُقْتَدِرٍ قادر على كل شي ء.
مدنية آياتها ثمان و سبعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ و فيه ما يستقيم به أمر الدنيا و الآخرة.
[3] خَلَقَ الْإِنْسانَ أي جنسه.
[4] عَلَّمَهُ الْبَيانَ ما يفهم الغير بما في ضميره.
[5] الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ يجريان بحساب مضبوط، مصدر حسب يحسب.
[6] وَ النَّجْمُ في السماء وَ الشَّجَرُ في الأرض يَسْجُدانِ ينقادان لأوامره تعالى، أو المراد بالنجم ما لا ساق له و بالشجر ما له ساق.
[7] وَ السَّماءَ رَفَعَها خلقها مرفوعة وَ وَضَعَ الْمِيزانَ العدل في كل شي ء، و الوضع عبارة عن تقريره و جعله و إرشاد الناس إليه.
[8] و إنما وضع الميزان ل أَلَّا تَطْغَوْا تجوروا فِي الْمِيزانِ في وزن الأشياء.
[9] وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ بالعدل وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ لا تنقصوه بل أعطوا حق من يوزن له.
[10] وَ الْأَرْضَ وَضَعَها خلقها لِلْأَنامِ للناس.
[11] فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ جمع كم أي أوعية التمر.
[12] وَ الْحَبُّ كالحنطة ذُو الْعَصْفِ ورق الزرع اليابس كالتبن وَ الرَّيْحانُ أي الرزق، و هو ما يؤكل من الحب.
[13] فَبِأَيِّ آلاءِ نعماء رَبِّكُما أيها الإنس و الجن تُكَذِّبانِ بأن تقولا إنها ليست من آلاء الله، و كررت هذه الآية للتركيز.
[14] خَلَقَ الله الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ الطين اليابس كَالْفَخَّارِ الخزف.
[15- 16] وَ خَلَقَ الْجَانَّ أبا الجن مِنْ مارِجٍ لهب صاف من الدخان مِنْ نارٍ بيان ل (مارج) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
تبيين القرآن، ص: 546
[17- 18] رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الشتاء و الصيف وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ كذلك. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[19] مَرَجَ أرسل الْبَحْرَيْنِ بحر الماء العذب الموجود تحت الأرض و الماء المالح و هي بحار الدنيا يَلْتَقِيانِ لقرب أحدهما بالآخر في الأرض.
[20- 21] بَيْنَهُما بَرْزَخٌ فاصل من طبقات الأرض لا يَبْغِيانِ لا يبغي أحدهما على الآخر فيمازجه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[22- 23] يَخْرُجُ مِنْهُمَا أي من البحرين، فإن الخارج من أحدهما خارج من هذا المجموع اللُّؤْلُؤُ الدر وَ الْمَرْجانُ الخرز الحمر. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[24- 25] وَ لَهُ لله تعالى الْجَوارِ أي السفن، جمع جارية الْمُنْشَآتُ التي أنشئت و صنعت فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[26] كُلُّ مَنْ عَلَيْها على الأرض فانٍ يفنى.
[27- 28] وَ يَبْقى وَجْهُ ذات رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ يجل عن النقائص وَ الْإِكْرامِ يكرم لما فيه من صفات الكمال فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[29- 30] يَسْئَلُهُ يطلب من الله تعالى حوائجه كل مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من ذوي العقول و غيرهم لاحتياج الكل إليه كُلَّ يَوْمٍ وقت هُوَ الله فِي شَأْنٍ من إحياء و إماتة و إيجاد و إعدام و هكذا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[31- 32] سَنَفْرُغُ من أعمال الدنيا لَكُمْ أيها الخلق، أي لحسابكم أَيُّهَ الثَّقَلانِ الجن و الإنس فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[33- 34] يا مَعْشَرَ جماعة الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ في يوم القيامة، لأجل الفرار من الحساب أَنْ تَنْفُذُوا تخرجوا مِنْ أَقْطارِ نواحي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا اخرجوا و اهربوا لا تَنْفُذُونَ لا تستطيعون النفوذ إِلَّا بِسُلْطانٍ بحجة، بأن تتموا الحساب ثم تذهبون إلى الجنة أو النار. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[35- 36] يُرْسَلُ عَلَيْكُما أي الجن و الإنس شُواظٌ لهب مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ صفر مذاب فَلا تَنْتَصِرانِ لا ينصركم أحد بدفع العذاب عنكم. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[37- 38] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ بأن انهدم نظام الكواكب فَكانَتْ وَرْدَةً حمراء كالوردة كَالدِّهانِ كالأديم الأحمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[39- 40] فَيَوْمَئِذٍ يوم القيامة، جواب (فإذا)، و أصل يومئذ: يوم إذ كان كذا لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ أي ذنب المذنب إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ بل كل أحد هو المسؤول عن ذنبه، لا أن أحدا غيره يسأل عن ذنبه، أو المراد أن المجرم لا يسأل عن إجرامه لأنه (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ)، و هذا لا ينافي السؤال لأن مواقف القيامة مختلفة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
تبيين القرآن، ص: 547
[41- 42] يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ بعلامتهم الظاهرة من الكآبة فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي جمع ناصية مقدم الرأس وَ الْأَقْدامِ فيؤخذ الملائكة هذين الموضعين لغرض رميهم في النار فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[43] و يقال لهم هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ حيث كانوا يقولون لا وجود لها.
[44- 45] يَطُوفُونَ يسعون بَيْنَها بين محلهم في جهنم وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ماء حار متناه في الحرارة، لأجل أن يشربوه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[46- 47] وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ المحل الذي يقوم فيه حكم الله- أي القيامة- جَنَّتانِ جنة للعقيدة الصحيحة و جنة للعمل الصالح فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[48- 49] ذَواتا صاحبتا أَفْنانٍ أنواع من الشجر، جمع فن فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[50- 51] فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ عين من لبن و عين من خمر- مثلا- أو ما أشبه ذلك فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[52- 53] فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان كبير و صغير- مثلا- فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[54- 55] مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ جمع فراش بَطائِنُها البطانة مقابل الظهارة مِنْ إِسْتَبْرَقٍ الحرير الغليظ، و لعله إشارة إلى نوع من البرد الموجود هناك فيحتاجون إلى الدف ء وَ جَنَى ثمر الْجَنَّتَيْنِ دانٍ قريب يناله القاعد و النائم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[56- 57] فِيهِنَّ في قصور تلك الجنان قاصِراتُ الطَّرْفِ نساء قصرت أعينهن إلى أزواجهن لَمْ يَطْمِثْهُنَّ لم يجامعهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ فهن باكرات، من حور الجنة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[58- 59] كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ من الحمرة الحسنة وَ الْمَرْجانُ صغار اللؤلؤ، بياضا و صفاء فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[60- 61] هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في العقيدة و العمل إِلَّا الْإِحْسانُ في الآخرة بالثواب فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[62- 63] وَ مِنْ دُونِهِما دون الجنتين المذكورتين لمن خاف مقام ربه من المتقين جَنَّتانِ لأصحاب اليمين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[64- 65] مُدْهامَّتانِ خضراوان تضربان إلى السواد لشدة الخضرة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[66- 67]يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فوارتان بالماء فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
تبيين القرآن، ص: 548
[68- 71] فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ- أي في تلك الجنان- باعتبار محلاتها المختلفة- نساء خَيْراتٌ في الأخلاق حِسانٌ الوجوه و الأبدان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[72- 73] حُورٌ بدل (خيرات) مَقْصُوراتٌ مخدرات فِي الْخِيامِ فإن لهؤلاء خيام و للأولين قصور فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[74- 77] لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ جمع رفرفة هي المخدة خُضْرٍ جمع خضراء وَ عَبْقَرِيٍّ جمع عبقرية: ثوب موشاة حِسانٍ حسنة جميلة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[78] تَبارَكَ تعالى اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ المنزه عن كل نقص وَ الْإِكْرامِ الحائز لكل كمال.
مكية آياتها ست و تسعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ قامت القيامة.
[2] لَيْسَ لِوَقْعَتِها حين تقع نفس كاذِبَةٌ كما يكذب الكفار بها في الدنيا.
[3] خافِضَةٌ تخفض قوما بإدخالهم النار رافِعَةٌ ترفع قوما بإدخالهم الجنة.
[4] و إنما تقوم القيامة إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ حرّكت الأرض رَجًّا حركة شديدة.
[5] وَ بُسَّتِ سيّرت عن أماكنها الْجِبالُ بَسًّا.
[6] فَكانَتْ فصارت الجبال هَباءً غبارا مُنْبَثًّا متفرقا منتشرا.
[7] وَ كُنْتُمْ أيها البشر أَزْواجاً أصنافا ثَلاثَةً.
[8] فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ تعجب من حالهم الحسن.
[9] وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ الذين يؤتون صحائفهم بشمالهم ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ تعجب من حالهم السيئ.
[10] وَ السَّابِقُونَ الذين سبقوا إلى الإيمان و الطاعة بمجرد ما يظهر لهم ذلك السَّابِقُونَ الذين عرفت حالهم.
[11] أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ إلى الله تعالى قرب شرف و منزلة.
[12] فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ذات النعمة.
[13] ثُلَّةٌ جماعة كثيرة مِنَ الْأَوَّلِينَ أمم الأنبياء السابقين.
[14] وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ من هذه الأمة، و ذلك لكثرة الأنبياء السابقين فكان المؤمنون بهم ابتداء أكثر.
[15] و هم عَلى سُرُرٍ جمع سرير مَوْضُونَةٍ منسوجة بالذهب مشبكة بالدر و الجوهر.
[16] مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ يقابل بعضهم بعضا للتنعم بالنظر إلى الأحباب و الحديث معهم.
تبيين القرآن، ص: 549
[17] يَطُوفُ يسعى من هذا إلى ذاك و هكذا عَلَيْهِمْ للخدمة وِلْدانٌ جمع وليد، ملائكة صغار في الصورة مُخَلَّدُونَ دائمون في الجنة في صورة ولدان.
[18] بِأَكْوابٍ جمع كوب إناء لا عروة له و لا خرطوم وَ أَبارِيقَ جمع إبريق ما له ذلك وَ كَأْسٍ الجام مِنْ مَعِينٍ نهر جار من العيون الخمرية.
[19] لا يُصَدَّعُونَ عَنْها لا يحصل لهم من الخمر صداع، كما في خمر الدنيا وَ لا يُنْزِفُونَ لا تذهب عقولهم من الخمر.
[20] وَ ب فاكِهَةٍ الثمار مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ يشتهون و يختارون.
[21] وَ لَحْمِ طَيْرٍ مشوي مِمَّا يَشْتَهُونَ.
[22] وَ حُورٌ عطف على (ولدان) عِينٌ واسعات العيون.
[23] كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ المصون الذي بقي على بياضه و صفائه.
[24] يعطون ذلك جَزاءً بمقابل ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
[25] لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً باطلا وَ لا تَأْثِيماً نسبة إلى الأثيم فلا يقال لأحدهم قد أثمت و أذنبت.
[26- 28] إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً أي يسلّم بعضهم على بعض. وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ شجر النبق مَخْضُودٍ قد خضد و قطع شوكه.
[29] وَ طَلْحٍ شجر الموز مَنْضُودٍ قد نضّد بعضه على بعض.
[30- 31] وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ منبسط دائم. وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ جار أبدا.
[32- 33] وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ في وقت من الأوقات بل هي دائمة وَ لا مَمْنُوعَةٍ لا تمنع عمن يطلبها.
[34- 35] وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي النساء المرفوعات القدر. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ خلقنا تلك النساء إِنْشاءً.
[36] فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً لم يمسهن قبل أهل الجنة أحد.
[37- 38] عُرُباً متحببات إلى أزواجهن أَتْراباً مثل أزواجهن في السن. هذه النعم لِأَصْحابِ الْيَمِينِ.
[39- 40] ثُلَّةٌ أي أصحاب اليمين هم جماعة كثيرة مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.
[41- 43] وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ نار تنفذ إلى المسام أي منافذ البدن وَ حَمِيمٍ ماء متناه في الحرارة. وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ دخان أسود مما يوجب ظلمة و حرارة و وساخة و ضيق نفس.
[44] لا بارِدٍ كسائر الظلال وَ لا كَرِيمٍ لا يكرم من فيه.
[45] إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُتْرَفِينَ منعمين قد ألهتهم النعمة.
[46] وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الذنب الْعَظِيمِ أي الشرك لأنه حنث لما أودع فيهم من الفطرة.
[47] وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً صارت لحومنا ترابا وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ في الآخرة، على نحو استفهام الإنكار.
[48] أَ وَ يبعث آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ممن قد مات سابقا.
[49- 50] قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ يجمعهم الله إِلى أن ينتهي بهم في مِيقاتِ وقت يَوْمٍ مَعْلُومٍ هو يوم المحشر.
تبيين القرآن، ص: 550
[51] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ المنحرفون عن الطريق الْمُكَذِّبُونَ بالبعث.
[52] لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ شديد المرارة.
[53] فَمالِؤُنَ تملئون من كثرة جوعكم مِنْهَا من تلك الشجرة الْبُطُونَ.
[54] فَشارِبُونَ عَلَيْهِ على أكل الزقوم مِنَ الْحَمِيمِ الماء البالغ في الحرارة.
[55] فَشارِبُونَ شُرْبَ مثل شرب الْهِيمِ الإبل العطاش فإنهم مع شدة حرارة الماء يشربون منه كثيرا.
[56] هذا نُزُلُهُمْ ما هيّئ لهم يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء.
[57] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ فهلا صدقتم بالبعث مع أنكم علمتم بالخلق الأول، و أن الله القادر على الأول قادر على الأخير.
[58] أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ما تقذفونه في الأرحام من النطف.
[59] أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تجعلونه بشرا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ.
[60] نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ كما قدرنا خلقكم، فكل من الحياة و الموت منا وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بأن تسبقونا حتى لا نقدر عليكم.
[61] بل نقدر عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أي نبدلكم بأمثالكم بأن نفنيكم و نوجد آخرين وَ نُنْشِئَكُمْ نخلقكم فِي ما لا تَعْلَمُونَ من الصور كالقرد و الخنزير.
[62] وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي خلقناكم أولا فَلَوْ لا فهلا تَذَكَّرُونَ تتعظون.
[63] أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ تزرعون حبته.
[64] أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ فإن الله ينبت النبات.
[65] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ أي النبات حُطاماً هشيما متكسرا فَظَلْتُمْ صرتم تَفَكَّهُونَ تتكلمون متعجبين من أنه كيف صار حطاما قائلين:
[66] إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ملزمون غرامة ما ألزمنا.
[67] بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ عن الرزق- لا مجرد الغرم فقط-.
[68- 69] أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ السحاب أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ.
[70] لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً مالحا فَلَوْ لا فهلا تَشْكُرُونَ هذه النعم.
[71] أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ تخرجونها من القدح.
[72] أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها التي منها النار أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ الخالقون.
[73] نَحْنُ جَعَلْناها النار تَذْكِرَةً مذكرة بأمر الآخرة وَ مَتاعاً منفعة لِلْمُقْوِينَ لنازلي القواء أي الصحراء.
[74] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّهه بذكر اسمه.
[75] فَلا لا زائدة للتأكيد، أو المراد الإشارة إلى الحلف بدون أن يحلف أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ بمحلها من السماء.
[76] وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ حقيقتها لعلمتم أنه عَظِيمٌ فقد ذكر علماء الفلك أن الشمس أكبر من الأرض مليونا و ثلاثمائة ألف مرة، و أن بعض النجوم العادية أكبر من الشمس ستين مليون مرة.
تبيين القرآن، ص: 551
[77] إِنَّهُ هذا القرآن لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ذو كرامة.
[78] فِي كِتابٍ في اللوح المحفوظ مَكْنُونٍ مصون لا تمسه يد التغيير.
[79] لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من الملائكة، أو من تطهر عن الحدث من البشر.
[80] هو تَنْزِيلٌ إنزال مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
[81] أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون مجاملون.
[82] وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي بدل أن تشكروا الرازق أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بالله و آياته، و الاستفهام للإنكار و التوبيخ.
[83] فَلَوْ لا فهلا- إن زعمتم أنه لا رب لكم- إِذا بَلَغَتِ النفس الْحُلْقُومَ وقت نزع الروح.
[84] وَ أَنْتُمْ أيها الحاضرون عند المحتضر حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ إلى حاله.
[85] وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ إلى المحتضر مِنْكُمْ علما و قدرة وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ أنتم ذلك.
[86] فَلَوْ لا فهلا- تكرار للأول، و الجمل بينهما معترضة- إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ غير مملوكين.
[87] تَرْجِعُونَها ترجعون النفس إلى مقرها، حتى لا يموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم إنه لا رب لكم.
[88- 89] فَأَمَّا إِنْ كانَ الميت مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى الله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فله روح استراحة وَ رَيْحانٌ رزق طيب وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ ذات نعمة.
[90] وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ الذين يعطون صحفهم بأيمانهم، و هم الصالحون دون المقربين.
[91] فَسَلامٌ لَكَ يا صاحب اليمين، يسلمون عليك أمثالك مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ و يقولون أنت سالم مما تكره.
[92] وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بالله و آياته الضَّالِّينَ عن طريقه و هم أصحاب الشمال.
[93- 94] فَنُزُلٌ أي نزلهم الذي أعدّ لهم مِنْ حَمِيمٍ ماء و طعام حار. وَ تَصْلِيَةُ إدخال جَحِيمٍ جهنم.
[95] إِنَّ هذا الذي ذكر في السورة من الفرق و أحوالهم لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي اليقين الحق المطابق للواقع.
[96] فَسَبِّحْ نزّه بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي اذكر اسمه منزّها له عن ما لا يليق به.
مدنية آياتها تسع و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] سَبَّحَ نزّه لِلَّهِ خالصا له ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إما بلسان الحال أو لها لسان خاص (وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) «1» وَ هُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ في تدبيره.
[2- 3] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي في الآخرة، أو الجماد يحوله ذا حياة وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو القادر المطلق. هُوَ الْأَوَّلُ السابق على الموجودات وَ الْآخِرُ الباقي بعد فنائها وَ الظَّاهِرُ بآثاره وَ الْباطِنُ لا يدرك كنهه العقل وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ عالم.
__________________________________________________
(1) سورة الإسراء: 44.
تبيين القرآن، ص: 552
[4] هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي قدر سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى توجه و استولى عَلَى الْعَرْشِ الملك يَعْلَمُ ما يَلِجُ يدخل فِي الْأَرْضِ كالميت يقبر وَ ما يَخْرُجُ مِنْها كالنبات وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالمطر وَ ما يَعْرُجُ فِيها كالملك وَ هُوَ مَعَكُمْ بعلمه و قدرته أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه.
[5] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ إلى حكمه و حسابه تُرْجَعُ الْأُمُورُ أمور الناس و غيرهم.
[6] يُولِجُ يدخل اللَّيْلَ فِي النَّهارِ بتمديد الليل وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بتمديد النهار وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بأسرار صدور الناس.
[7] آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ من المال الذي جعلكم خلفاء لمن سلف منكم في ذلك المال فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ثواب جزيل.
[8] وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي ماذا يعود عليكم من عدم الإيمان وَ الحال أن الرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ الله مِيثاقَكُمْ عهدكم الأكيد بما أودع فيكم من الفطرة الدالة على خالقكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي في طريق الإيمان، بأن لم تعاندوا، فإنه يظهر ميثاقه جليا عليكم.
[9] هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمة الكفر و الجهل و الرذيلة إِلَى النُّورِ المرشد للطريق وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ حيث يفعل ذلك بكم رَحِيمٌ يرحمكم فضلا منه، و الرأفة أكثر من الرحمة قلبا، و إن كانت الرحمة أظهر في الأمر العملي.
[10] وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي شي ء يعود إليكم في ترك الإنفاق لأجل إقامة الدين وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يرثهما، و أنتم تتركون أموالكم، فأنفقوا مما لا يبقى لكم حتى تفوزوا بثوابه لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ فتح مكة وَ قاتَلَ و من أنفق و قاتل بعد الفتح لأن الناس بعد فتح مكة اطمأنوا بالإسلام و لذا أخذوا يدخلون فيه أفواجا و يبذلون أموالهم له أُولئِكَ المنفقون المقاتلون قبل الفتح أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلًّا من الفريقين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى المثوبة الحسنة وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم عليه.
[11] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن ينفق ماله لله، ليسترجعه منه في الآخرة، و كان حسنا بأن كان خالصا لوجهه فَيُضاعِفَهُ الله لَهُ بإعطاء العشرة عوض الواحد وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ مقرون بالكرامة.
تبيين القرآن، ص: 553
[12] و ذلك في يَوْمَ و هو يوم القيامة تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ فإن القيامة مظلمة و نور المؤمنين يسعى أي يتحرك بحركتهم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أمامهم وَ بِأَيْمانِهِمْ فإن صحائفهم التي بأيمانهم تشع نورا، و يقال لهم بُشْراكُمُ البشارة لكم في هذا الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ دائمين فِيها ذلِكَ الفوز بالجنة هُوَ الْفَوْزُ الظفر المطلوب الْعَظِيمُ.
[13] يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا نحوهم شع نورهم في جانب المنافقين فرأوا طريقهم نَقْتَبِسْ نأخذ قبسا و شعلة مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ لهم تهكما بهم ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الدنيا فَالْتَمِسُوا اطلبوا نُوراً بالعمل الصالح فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بين الفريقين بِسُورٍ بحائط لَهُ بابٌ حيث يدخل منه المؤمنون إلى طرف المحشر الذي فيه سلام و يبقى الكافرون و المنافقون في الطرف الذي فيه عذاب باطِنُهُ داخل السور فِيهِ الرَّحْمَةُ و السلام وَ ظاهِرُهُ ظاهر السور مِنْ قِبَلِهِ من طرف الباب الْعَذابُ لأنهم في المحشر أيضا في العذاب.
[14] يُنادُونَهُمْ أي المنافقون ينادون المؤمنين أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا لأنا كنا في زمرة المؤمنين فكيف صرنا هكذا مع الكافرين قالُوا أي المؤمنون بَلى كنتم معنا في الظاهر وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالنفاق وَ تَرَبَّصْتُمْ أي انتظرتم بنا شرا وَ ارْتَبْتُمْ شككتم في الدين وَ غَرَّتْكُمُ خدعتكم الْأَمانِيُّ الآمال الطوال بأن تركتم الدين أملا للبقاء في الدنيا حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالموت وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان الخادع غركم و قال إن الله يتجاوز عنكم.
[15] فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ بدل حتى لا تعذبوا وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كفرا علانية مَأْواكُمُ محلكم النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ أولى بكم وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ المحل، أي النار.
[16] أَ لَمْ يَأْنِ أما حان الوقت لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ بأن يكونوا خاشعين بالإضافة إلى الإيمان وَ ل ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ القرآن وَ لا يَكُونُوا أي لم يأن لهم أن لا يكونوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ اليهود و النصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ الزمان فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ زال خشوعها، فإن الوعظ إذا بعد عن الإنسان غلظ قلبه وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله، بالإضافة إلى قسوة قلوبهم.
[17] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها و حياة الأرض بالماء و كذلك حياة القلب بالموعظة و الهداية قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي يكمل عقولكم.
[18] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ الذين يعطون الصدقة وَ الذين أَقْرَضُوا اللَّهَ بأن أنفقوا أموالهم في سبيل الله ليسترجعوها يوم القيامة قَرْضاً حَسَناً خالصا لوجهه الكريم يُضاعَفُ لَهُمْ الثواب وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ يعطونه مع التكريم لهم.
تبيين القرآن، ص: 554
[19] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ المبالغون في التصديق وَ الشُّهَداءُ الذين يشهدون على الناس عِنْدَ رَبِّهِمْ يوم القيامة لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ يوم القيامة وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ الملازمون لجهنم.
[20] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ لا حقيقة لها بالنسبة إلى حياة الآخرة وَ لَهْوٌ ما يسبب إلهاء الإنسان عن مقصده الحقيقي وَ زِينَةٌ يتزين بها الإنسان وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ يفتخر بعضكم على بعض وَ تَكاثُرٌ مباهاة في الكثرة فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ الزراع «1» نَباتُهُ الذي نشأ من الغيث ثُمَّ يَهِيجُ ييبس فَتَراهُ مُصْفَرًّا اصفر قد مات ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً يتحطم و يتكسر، و تذهب الدنيا كما يذهب النبات وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لأعداء الله الذين كان كل همهم الدنيا وَ مَغْفِرَةٌ غفران للمؤمنين مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ رضاه تعالى وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ ما يتمتع به الْغُرُورِ الذي يغتر به الإنسان و ينخدع فيبيع به آخرته الباقية.
[21] سابِقُوا سارعوا إِلى مَغْفِرَةٍ أسباب الغفران مِنْ رَبِّكُمْ وَ إلى جَنَّةٍ عَرْضُها سعتها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ هيئت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذلِكَ إعطاء الجنة فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ممن استحق ذلك، و كونه فضلا لأنه زائد على الأجر وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على عباده.
[22] و إن كان عدم إنفاقكم و مسارعتكم في الخير لأجل الخوف من الفقر و الصعوبات فاعلموا ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ بيان (ما) فِي الْأَرْضِ كالجدب وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ كالمرض إِلَّا و هو مقدر فِي كِتابٍ اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أن نوجد تلك المصيبة، فهي مقدرة سواء علمتم أم لا، و سواء كان الإنسان مؤمنا أم لا إِنَّ ذلِكَ الإصابة بالمصائب للناس عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فليس تتوقف المصائب على الإنفاق و المسارعة و الجهاد و ما أشبه.
[23] اعلموا أن المصائب ثابتة مقدرة لِكَيْلا تَأْسَوْا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من النعيم الدنيوي وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ من نعيم الدنيا، لأن المصيبة لها أجر، و النعمة قد تجر الإنسان إلى العصيان فلا فرح منها، و المراد النهي عن الجزع و البطر وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ متكبر فَخُورٍ يفتخر على الناس و المراد من أبطرته النعمة.
[24] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فإن الذي يختال بالمال يبخل به غالبا وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فإن النفس تنضح بما فيها وَ مَنْ يَتَوَلَّ يعرض عما يجب عليه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ فلا يحتاج إلى أموالكم، و إنما الإنفاق يعود إليكم الْحَمِيدُ المحمود في أفعاله.
__________________________________________________
(1) الكفر: الستر، و يسمى الزارع كافرا لستره البذر بالتراب. راجع لسان العرب ج 5 ص 146.
تبيين القرآن، ص: 555
[25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ بالأدلة الواضحات وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ للنظام وَ الْمِيزانَ آلة الوزن للعدالة في المعاملات، و إنزال الميزان إلهام الناس بالوزن لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ بالعدل وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ لدفع شر المعتدي الذي يخالف النظام و الميزان، و إنزاله تقديره من السماء أو خلقه فِيهِ بَأْسٌ للحرب شَدِيدٌ قوي وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ في صنائعهم و حاجاتهم وَ أنزله لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ في الحرب وَ ينصر رُسُلَهُ بآلات المحاربة بِالْغَيْبِ أي في حال كون الله غائبا عن حواس الذي ينصره إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على ما يريد عَزِيزٌ لا يغالب.
[26] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا فإن الأنبياء من أولاد إبراهيم عليه السّلام و هم من أولاد نوح عليه السّلام أيضا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ بأن أوحينا إليهم بالكتب السماوية فَمِنْهُمْ من الذرية مُهْتَدٍ قد اهتدى وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله.
[27] ثُمَّ قَفَّيْنا أتبعنا عَلى آثارِهِمْ بعد أولئك الرسل- أي نوح و إبراهيم عليه السّلام و من في طبقتهم بِرُسُلِنا الكثيرة وَ قَفَّيْنا أولئك الرسل- و المراد رسل بني إسرائيل- بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ أعطيناه الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ تلاميذه رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبانِيَّةً زهدا ابْتَدَعُوها أي تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ما كَتَبْناها تلك الرهبانية عَلَيْهِمْ إِلَّا استثناء منقطع، أي غير ما كان ابْتِغاءَ طلب رِضْوانِ اللَّهِ رضاه تعالى، فإن ذلك كان تطبيقا للكلي على المصداق، كمن يتقشف في أمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث إنه لم يكن مفروضا و إنما تطبيق للكلي على الفرد فبعد ذلك أخلافهم ما رَعَوْها أي الرهبانية حَقَّ رِعايَتِها أي ما كان مقتضى تلك الرهبانية من إطاعة أوامر الله، بل كفروا بالله بأن اتخذوا آلهة ثلاثة و كفروا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله.
[28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالرسل السابقة اتَّقُوا اللَّهَ خافوه فيما نهاكم عنه وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بمن تقدم و إيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً هي الشريعة التي تنير طريق الحياة تَمْشُونَ بِهِ في الناس سالكين طرق السعادة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم وَ اللَّهُ غَفُورٌ لذنوبكم رَحِيمٌ بكم.
[29] لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي إنا أرسلنا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعلم أهل الكتاب أنهم قادرون على نيل فضل الله بأن يدخلوا في الإسلام فينالوا فضل الله، فإن أهل الكتاب كانوا يعلمون بانحرافهم و لا يقدرون على تغيير ذلك و نجاة أنفسهم وَ أَنَّ إنما الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فيتفضل بما يشاء لمن يشاء، و قيل في الآية معنى آخر.
تبيين القرآن، ص: 556
مدنية آياتها اثنتان و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ المرأة الَّتِي تُجادِلُكَ تتكلم معك يا رسول الله فِي زَوْجِها فإن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة فجاءت المرأة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تستفتيه في جواز رجوعه إليها وَ تَشْتَكِي الزوجة إِلَى اللَّهِ شدة حالها وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أنت و الزوجة، أي تراجعكما في الكلام حيث هي كانت تصرّ على إجازة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم برجوعها إلى زوجها و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يأذن لها إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ للكلام بَصِيرٌ بالحال.
[2] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ أيها الرجال مِنْ نِسائِهِمْ بأن يقول لزوجته (أنت علي كظهر أمي) و هذا كان نوع طلاقها في الجاهلية ما هُنَّ النساء أُمَّهاتِهِمْ على الحقيقة إِنْ ما أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي النساء اللاتي وَلَدْنَهُمْ فلا تحرم إلا الأم الحقيقية و المرضعة وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ ينكره الشرع وَ زُوراً كذبا وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ يعفو عمن تاب غَفُورٌ يستر ذنبه.
[3] وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا بأن أراد الرجل وطي زوجته فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فعليهم إعتاق رقبة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا يجامعا بالوطء ذلِكُمْ الإعتاق قبل المس تُوعَظُونَ بِهِ لئلا تفعلوا الحرام وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم عليه.
[4] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أحدهما عقيب الآخر مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا يجامعا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين مد من الطعام ذلِكَ فرض عليكم كفارة للظهارة لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي تديموا الإيمان فإن العمل بالأحكام توجب إدامة الإيمان وَ تِلْكَ الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ فلا تخالفوها وَ لِلْكافِرِينَ بأحكام الله عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[5] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يخالفونهما كُبِتُوا أذلّوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيمن حادّ الأنبياء عليهم السّلام وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ دالات على صدقك وَ لِلْكافِرِينَ بالآيات عَذابٌ مُهِينٌ يذلّهم.
[6] ذلك العذاب في يَوْمَ و هو يوم القيامة يَبْعَثُهُمُ أي المحادين اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ يخبرهم بِما عَمِلُوا لأجل أن يجازيهم أَحْصاهُ اللَّهُ علمه و كتبه كاملا وَ نَسُوهُ لكثرته و عدم اهتمامهم به وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ حاضر لا يغيب عنه شي ء.
تبيين القرآن، ص: 557
[7] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ما يقع من تناجي ثلاثة سرا إِلَّا هُوَ الله رابِعُهُمْ بالعلم وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ كما لو ناجى اثنان وَ لا أَكْثَرَ كما لو ناجى ستة إِلَّا هُوَ الله مَعَهُمْ بالعلم أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ يخبرهم ليجازيهم بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شي ء.
[8] أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى كان المنافقون يناجون فيثيروا شكوك المسلمين فنهوا عنه ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ بدون أن يرتدعوا وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ بما هو إثم كالكذب وَ الْعُدْوانِ كالتعدي على المؤمنين باغتيابهم وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ بأن يوصي بعضهم بعضا بعدم تنفيذ أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ تحية طويلة ليخفوا وراء التحية نفاقهم وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ فيما بينهم أو يضمرون في نفوسهم لَوْ لا هلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ فلو كان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيا و خالفناه لعذبنا الله حَسْبُهُمْ يكفيهم جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها يدخلونها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ المحل جهنم.
[9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ بأفعال الخير وَ التَّقْوى بأن يأمر بعضكم بعضا باتقاء المعاصي وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره و نواهيه الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تجمعون للجزاء.
[10] إِنَّمَا النَّجْوى بالإثم و العدوان مِنَ الشَّيْطانِ فإنه يأمر به لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا فإنهم يحزنون إذا رأوا مناجاة المنافقين لما يعلمون من سوء نواياهم وَ لَيْسَ التناجي بِضارِّهِمْ يضرهم شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بأن يترك المؤمنين ليكونوا محل أذى المنافقين وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في أمورهم حتى لا تضرهم النجوى و غيره.
[11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا توسعوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا بإعطاء المكان للقادم يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فيما تريدون التفسح فيه من الرزق و المكان و غيرهما وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا قوموا لأمر خيري فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا أعطوا الْعِلْمَ يرفعهم الله بصورة خاصة دَرَجاتٍ في الدنيا لدى الناس و في الآخرة أيضا وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم عليه.
تبيين القرآن، ص: 558
[12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أردتم مناجاته فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ قبله صَدَقَةً و لم يعمل بهذه الآية إلا أمير المؤمنين علي عليه السّلام، ثم رفع الحكم لأنه كان امتحانيا ذلِكَ تقديم الصدقة خَيْرٌ لَكُمْ لأنه يوجب الثواب وَ أَطْهَرُ لأنه يوجب توقير الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طهارة أنفسكم من البخل فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تتصدقون به فناجيتم بدون صدقة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لمن تاب إذا خالف رَحِيمٌ يرحمكم.
[13] أَ أَشْفَقْتُمْ خفتم أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ بأن بخلتم بذلك خوفا من نقص أموالكم فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا التصدق وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لما أظهرتم البخل فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فلا تفرطوا في هذه الأحكام و قد وضع عنكم إعطاء الصدقة قبل النجوى وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه.
[14] أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ و هم المنافقون تَوَلَّوْا بالمحبة و إطاعة الأمر قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ و هم اليهود ما هُمْ ليس هؤلاء المتولون مِنْكُمْ أيها المؤمنون وَ لا مِنْهُمْ و لا من اليهود، لأنهم منافقون وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ بأنهم مؤمنون وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون.
[15] أَعَدَّ هيّأ اللَّهُ في الآخرة لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من النفاق.
[16] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ حلفهم بأنهم مؤمنون جُنَّةً وقاية لحفظ دمائهم و أموالهم فَصَدُّوا منعوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأن المنافق سدّ أمام تقدم الإيمان فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مذلّ لهم.
[17] لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً بأن تدفع عنهم بعض عذاب الله أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ.
[18] اذكر يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ أي المنافقين جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ لله بأنهم كانوا مؤمنين كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا وَ يَحْسَبُونَ يظنون أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ من النفع هناك بحلفهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في حلفهم لله بأنهم كانوا مؤمنين.
[19] اسْتَحْوَذَ استولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ فلا يذكرون الله كالناسي أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ جنوده أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين فوّتوا على أنفسهم خير الدنيا و سعادة الآخرة.
[20] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ يخالفونه، و هم المنافقون وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي جملة الْأَذَلِّينَ لأن العزة للمؤمنين.
[21] كَتَبَ اللَّهُ قرّر و قضى لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي غلبة في الدنيا و الآخرة إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على ما يريد عَزِيزٌ في سلطانه.
تبيين القرآن، ص: 559
[22] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ يحبون و يوالون مَنْ حَادَّ اللَّهَ خالفه وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا أي أولئك المحادون آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ الذين لم يوادوا كَتَبَ الله فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ بلطفه وَ أَيَّدَهُمْ قوّاهم بِرُوحٍ مِنْهُ من قبله تعالى و هو روح الإيمان وَ يُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حيث آمنوا و عملوا صالحا وَ رَضُوا عَنْهُ لأنه تعالى أثابهم بما أرضاهم أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ جنده أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجحون الفائزون بالثواب.
مدنية آياتها أربع و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ في تدبيره.
[2] هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني يهود بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ بلادهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ جمعهم للإخراج، فإنهم أول من أجلاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لخياناتهم، ثم بعد ذلك أجلى قسما آخر من اليهود عند ما خانوا بالعهد ما ظَنَنْتُمْ أيها المؤمنون أَنْ يَخْرُجُوا لما رأيتم من قوتهم وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ قلاعهم مِنْ بأس اللَّهِ فَأَتاهُمُ أمر اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا لم يظنوا حيث لم يخطر ببالهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قادر على إجلائهم وَ قَذَفَ ألقى الله فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الخوف من المؤمنين يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ حسدا حتى لا يسكنها المسلمون وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حيث أخذ المسلمون يخربون بيوتهم حتى لا يطمعوا في البقاء فَاعْتَبِرُوا بحالهم، حتى لا تخالفوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا أُولِي الْأَبْصارِ يا أصحاب البصائر.
[3] وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ حكم عَلَيْهِمُ على بني النضير الْجَلاءَ الخروج عن ديارهم لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بأن أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقتلهم وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مع الجلاء في الدنيا عَذابُ النَّارِ.
تبيين القرآن، ص: 560
[4] ذلِكَ الذي فعلنا بهم بسبب أنهم شَاقُّوا خالفوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقبه.
[5] ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ نخلة من نخيلهم أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها بأن لم تقطعوها فَبِإِذْنِ اللَّهِ بأمره، حيث أمكنكم منهم تفعلون ما تشاءون وَ لِيُخْزِيَ ليذل الْفاسِقِينَ أي اليهود حيث يرون أن المسلمين يتصرفون في بلادهم و أموالهم.
[6] وَ ما أَفاءَ اللَّهُ أرجع الله، فإن الأرض لله و للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أما الكفار فإنهم يتصرفون فيها غصبا فإذا أخذها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إرجاعا من الله إليه عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ من الإيجاف و هو سرعة السير، أي لم تفتحوها أنتم بالسير إليهم أيها المسلمون عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ من جهة ركوب الخيل وَ لا رِكابٍ أي ركوب الإبل، فهي إذا ليست لكم وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من الكفار بقذف الرعب في قلوبهم وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
[7] ما أَفاءَ اللَّهُ بيان للجملة السابقة، و هذا هو المسمى في اصطلاح الفقهاء: بالفي ء عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى الكافرة بأن أخذها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدون حرب و لا مشاركة المسلمين فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى أقرباء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي الإمام عليه السّلام وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ من بني هاشم في هذه الطوائف الثلاث، و إنما يقسم الفي ء هكذا كَيْ لا لئلا يَكُونَ الفي ء دُولَةً هي ما يتداوله القوم بينهم بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ يتداوله الرؤساء كما كانوا يفعلون في الجاهلية، و لذا خصص بالنبي و الإمام و المستحقين فقط وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ أعطاكم من الأحكام فَخُذُوهُ اعملوا به وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا عنه وَ اتَّقُوا اللَّهَ و لا تخالفوه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه، و قد ورد أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قسم حصة من في ء بني النضير في فقراء المهاجرين.
[8] و عليه فقوله لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف تقديره، فلله و للرسول يضعه الرسول للفقراء، و قيل غير ذلك الْمُهاجِرِينَ من مكة إلى المدينة الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ مكة المكرمة وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ يطلبون بهجرتهم فَضْلًا مِنَ اللَّهِ بأن يتفضل عليهم بالغفران وَ رِضْواناً رضاه تعالى وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ دينه وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إظهارهم الإيمان.
[9] وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا جعلوا محلا و منزلا الدَّارَ أي المدينة و هم الأنصار وَ قبلوا الْإِيمانَ بأن صاروا مؤمنين مِنْ قَبْلِهِمْ قبل أن يهاجر المهاجرون إلى المدينة يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من أهل مكة وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً حسدا و غيظا مِمَّا أُوتُوا أي مما أعطي المهاجرين من أموال بني النضير، إذ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قسم الأموال في المهاجرين و لم يعطها للأنصار وَ يُؤْثِرُونَ أولئك الأنصار، أي يقدمون المهاجرين عَلى أَنْفُسِهِمْ فإنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم و واسوهم في أموالهم وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ فقر و حاجة وَ مَنْ يُوقَ يحفظ شُحَّ بخل نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
تبيين القرآن، ص: 561
[10] وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد المهاجرين و الأنصار من المؤمنين إلى يوم القيامة يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا في الإيمان الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا حقدا لِلَّذِينَ آمَنُوا أزل الحقد عن قلوبنا حتى لا نحقد مؤمنا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فحقيق أن ترحمنا باستجابة دعائنا.
[11] أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر كابن أبيّ و أضرابه يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ في الكفر الَّذِينَ بدل (إخوانهم) كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و هم بنو النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من وطنكم بإخراج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ مواساة وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ في خذلانكم أَحَداً كمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ قاتلكم المسلمون لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يقولون، فقد قال ابن أبي لبني النضير هذا الكلام تقوية لهم على مقابلة المسلمين، ثم حين قابلهم المسلمون و أخرجهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قراهم ظهر كذب ابن أبي فإنه لم يساعدهم بشي ء.
[12] لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ فرضا لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ فرارا من الحرب ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أولئك المنافقون.
[13] لَأَنْتُمْ أيها المسلمون أَشَدُّ رَهْبَةً مرهوبية فيخافكم المنافقون فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ فإنهم لا يخافون الله و إنما يخافونكم و لذا ينافقون ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يعلمون عظمة الله.
[14] لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود جَمِيعاً مجتمعين إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ لها حصون و جدران قوية أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ حتى يقوا أنفسهم من بأسكم بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ فإنهم شديد و الاختلاف فيما بينهم تَحْسَبُهُمْ تظنهم أنهم جَمِيعاً أي مجتمعين في الآراء وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة، لكل واحد آراء و أهواء ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ الرشد و إلا لاجتمعوا على الحق.
[15] مثلهم في سوء العاقبة كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً هم الكفار الذين اجتمعوا في بدر قبل غزوة بني النضير بزمان قريب فإن بينهما كان أقل من سنة ذاقُوا وَبالَ عقوبة أَمْرِهِمْ بقتل المسلمين إياهم و أسرهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة.
[16] و مثل المنافقين كَمَثَلِ الشَّيْطانِ في أنه يغش الإنسان ثم يدعه، كما فعل ابن أبيّ ببني النضير إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فإني معك فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ كما قال الشيطان ذلك لأهل بدر و كذلك يتبرأ من تابعيه في الآخرة.
تبيين القرآن، ص: 562
[17] فَكانَ عاقِبَتَهُما الغار و المغرور أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ بالكفر و بالنفاق.
[18] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ليوم القيامة بأن يراقب عمله حتى يكون قدم لآخرته أعمالا صالحة وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم على أعمالكم.
[19] وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ تركوا أوامره كترك الناسي فَأَنْساهُمْ الله أَنْفُسَهُمْ فأهملوها من سعادتها أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله.
[20] لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ بثواب الله، و أصحاب النار هم المبتلون في العقاب الشديد.
[21] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ فإن ذرات الكون كلها شاعرة، لكن بقسم آخر من الشعور لا مثل شعور الإنسان و الحيوان لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً متشققا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ و هذا توبيخ للإنسان كيف لا يخشع للقرآن وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيتعظون، و المراد بتلك الأمثال، هذا المثل و غيره مما ذكر في القرآن.
[22] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما ظهر للحواس هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ.
[23] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الحق و من سواه من الملوك إنما هم ملوك بالمجاز الْقُدُّوسُ المنزّه عما لا يليق به السَّلامُ السالم من كل نقص الْمُؤْمِنُ معطي الأمن الْمُهَيْمِنُ المسيطر على كل شي ء بالعلم و الرقابة الْعَزِيزُ في سلطانه الْجَبَّارُ الذي يقهر الكون حسب إرادته الْمُتَكَبِّرُ ذو الكبرياء و العظمة سُبْحانَ اللَّهِ أنزهه تنزيها عَمَّا يُشْرِكُونَ معه فإنه لا شريك له.
[24] هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الموجد للكيفيات و الخصوصيات، فمثلا أن الله سبحانه يخلق خشبة، ثم يبرءوها بأن يعطيها كيفية القص من زوائدها الْمُصَوِّرُ ثم يعطيها صورة الباب- مثلا- لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الحسنة كالغفور و الرازق و المحيي، و حسن الاسم باعتبار حسن المعنى الموجود في الله بذاته المدلول عليه بالاسم يُسَبِّحُ ينزه لَهُ تنزيها خاصا به تعالى ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ في تدبيره.
تبيين القرآن، ص: 563
مدنية آياتها ثلاث عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فإنه لما أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتح مكة أمر الناس بالكتمان لكن (الحاطب) خالف و كتب كتابا إلى أهل مكة و قد عفا عنه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد أن أظهره الله على الكتاب، و استرجعه، فنزلت هذه السورة لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ كأهل مكة أَوْلِياءَ أصدقاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي تفضون إليهم بما يدل على حبكم لهم وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ أي كفروا و أخرجوا الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا أي لأجل إيمانكم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ و جواب الشرط محذوف دل عليه (لا تتخذوا) خَرَجْتُمْ من مكة جِهاداً فِي سَبِيلِي لأجل الجهاد في سبيل الإسلام وَ ل ابْتِغاءَ طلب مَرْضاتِي رضاي تُسِرُّونَ بدل (تلقون) من السّر- فإنه بعث الكتاب سرا- إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بالحب وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ فأجازيكم عليه وَ مَنْ يَفْعَلْهُ اتخاذ الكافرين أولياء مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ وسط السَّبِيلِ.
[2] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يظفر الكفار بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً فلا ينفعكم إلقاء المودة وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ بما يسوءكم كالقتل و الضرب و الشتم وَ وَدُّوا تمنوا لَوْ تَكْفُرُونَ بأن ترتدوا عن دينكم.
[3] لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ قراباتكم وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إن كفرتم، بل تبتلون بعذاب الله يَفْصِلُ الله بَيْنَكُمْ فيثيب المحق و يعاقب المبطل وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على ما عملتم.
[4] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ قدوة حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ بأن تقتدوا به وَ ب الَّذِينَ آمنوا مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا جمع بري ء مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام كَفَرْنا بِكُمْ بدينكم وَ بَدا ظهر بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ البغض و الحقد أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا و تكونوا مثلنا مؤمنين بِاللَّهِ وَحْدَهُ دون شريك، فاللازم أن يقتدي المسلم بإبراهيم عليه السّلام في أن يكون هكذا مع الكافرين إِلَّا أي تأسوا بإبراهيم عليه السّلام إلا في قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ أي لعمه آزر لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ فإنه كان قبل النهي عن الاستغفار للمشركين وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إذا أراد الله عقابك لا يمكنني دفع ذلك عنك رَبَّنا مربوط بما قبل الاستثناء، أي قولوا أيها المؤمنون عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا اعتمدنا في أمرنا حتى لا يؤذينا المشركون وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا رجعنا عن ذنوبنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ نعتقد بأن صيرورتنا إليك فتجازينا.
[5] رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب أو بتشكيك وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ في سلطانك الْحَكِيمُ في تدبيرك.
تبيين القرآن، ص: 564
[6] لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المسلمون فِيهِمْ في إبراهيم عليه السّلام و المؤمنين معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ أي ثوابه وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ بأن يعتقد بالمعاد وَ مَنْ يَتَوَلَّ يعرض فلا يتأسى بهم فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ لا يضره التولي الْحَمِيدُ المحمود في أفعاله.
[7] عَسَى لعل اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ من الكفار مَوَدَّةً بأن يؤمنوا فيوادوكم، لا أن تنافقوا فتوادوهم و هم كفار وَ اللَّهُ قَدِيرٌ على أن يجعل بينكم مودة وَ اللَّهُ غَفُورٌ لما سلف من ذنوبكم رَحِيمٌ بكم.
[8] لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ موادة الكفار الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ لأجله وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ من بلادكم أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من (عن الذين) أي لا ينهاكم الله عن برّهم و الإحسان إليهم وَ تُقْسِطُوا تعدلوا بالنسبة إِلَيْهِمْ أيها المسلمون إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين.
[9] إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ موادة الكفار الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا تعاونوا عَلى إِخْراجِكُمْ كمشركي مكة أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من (الذين) وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ منكم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم.
[10] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ المظهرات للإيمان مُهاجِراتٍ من دار الكفر فَامْتَحِنُوهُنَّ اختبروهن بما يدل على موافقة قلوبهن للسانهن بأن خروجهن لأجل الإسلام لا لكره أزواجهن أو عشق أحد اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ باطنا و إنما عليكم الاختبار فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ بأن ظهر لكم دليل أو حلفن على صدقهن في إرادة الإيمان فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي أزواجهن لا هُنَّ حِلٌّ حلال لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ أعطوا أزواجهن الكفار ما أَنْفَقُوا عليهن من المهور وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا حرج أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن، بأن تجعلوا لهن مهرا وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ جمع كافرة، أي لا تبقوا على نكاح المرأة التي كفرت بعد إسلامها- و العصم جمع عصمة، بمعنى ما اعتصمت به و هو العقد- بل فارقوها وَ إذا التحقت امرأة بالكفار بأن كفرت ف سْئَلُوا و اطلبوا من الكفار ما أَنْفَقْتُمْ عليها من المهر وَ لْيَسْئَلُوا أي الكفار منكم ما أَنْفَقُوا فيما إذا التحقت كافرة بكم بأن أسلمت فعليكم إعطاء مهور نسائهم المهاجرات ذلِكُمْ المذكور في الآية حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يقتضيه الصلاح حَكِيمٌ في أحكامه و تدبيره.
[11] وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ زوجاتكم و (من) بيان (شي ء) إِلَى الْكُفَّارِ بأن ارتدت امرأة مسلمة و ذهبت إلى الكفار فَعاقَبْتُمْ بأن أخذتم المرأة الكافرة التي أسلمت و التحقت بكم فَآتُوا أعطوا الكفار الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ بأن جاءت زوجاتهم إليكم مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي مهورهن، فتدفعون مهر المسلمة المهاجرة عن زوجها الكافر، إلى زوجها وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تخالفوا أمره الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
تبيين القرآن، ص: 565
[12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ يردن البيعة بهذه الصورة عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً لا يجعلن شيئا شريكا لله سبحانه وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فإنه كان من عادة الجاهلية قتل البنت و قتل الولد خوف الفقر وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ و هو أن يلحقن بأزواجهن غير أولادهن من اللقطاء، أو غير أولادهم مما جاءت به من الزنا، فهو بهتان و كذب افترته المرأة مربوطا بالولد الذي سقط من بطنها بين يديها و رجليها، أو ربته بين يديها و رجليها من اللقطاء وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ مما تأمرهن به فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ اطلب من الله غفران ما مضى من ذنوبهن إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا لا تصادقوا قَوْماً من الكفار غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لكفرهم قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ أي من ثوابها لعلمهم بأنهم على باطل، كاليهود، فإن بعض المسلمين الفقراء كانوا يتولونهم طمعا في النيل من خيراتهم كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ فقد يئس الكفار أن يحيى الميت.
مدنية آياتها أربع عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] سَبَّحَ لِلَّهِ بلسان الحال أو بلسان المقال ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ في تدبيره.
[2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ بأن تقولوا الخير و لا تعملون به.
[3] كَبُرَ عظم مَقْتاً من حيث المقت عِنْدَ اللَّهِ أي غضب الله عليكم أَنْ تَقُولُوا فاعل (كبر) ما لا تَفْعَلُونَ نزلت فيمن تحسروا عن فوتهم ثواب بدر و قالوا نحارب في المستقبل فلما جاءت غزوة أحد فرّوا.
[4] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا مصطفين، فإنه أكثر رهبة في نفس العدو و قوة في نفس المحارب كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ بناء مَرْصُوصٌ ملصق بعضه ببعض في الشدة و المنعة.
[5] وَ اذكر إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ للتحقيق تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا مال قوم موسى عليه السّلام عن الحق بأن استمروا في إيذائه أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بأن تركهم حتى زاغت قلوبهم وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعة الله عنادا، فإنه تعالى لا يلطف بهم الألطاف الخفية، و الإتيان بقصة موسى عليه السّلام لشباهتها بأذية بعض المسلمين لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فرارهم و بعض أعمالهم و أقوالهم.
تبيين القرآن، ص: 566
[6] وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ لما تقدم مِنَ التَّوْراةِ بيان ل (ما) وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ رسولنا العظيم محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَلَمَّا جاءَهُمْ أي عيسى عليه السّلام، أو أحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْبَيِّناتِ بالأدلة الواضحة قالُوا هذا الذي جئتنا به من المعجزات سِحْرٌ مُبِينٌ واضح.
[7] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي لا أظلم منه مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ بأن قال إن لله شريكا، أو إن رسوله كاذب، بأن جعل مكان الإجابة الافتراء وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المعاندين فلا يلطف بهم الألطاف الخفية.
[8] يُرِيدُونَ أي الكفار لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ الإسلام بِأَفْواهِهِمْ الطاعنة في الإسلام وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مظهره بإعلانه و تأييده و نشره وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إتمامه.
[9] هُوَ الله الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى مع الدين الذي يهدي الناس وَ دِينِ الْحَقِّ عطف بيان ل (الهدى) لِيُظْهِرَهُ يعليه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي كل الأديان، و يكون ذلك على نحوه الأتم في زمان الإمام المهدي (عج) وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ظهوره.
[10] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ أرشدكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم و هو عذاب الآخرة.
[11] تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ الإيمان و الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ في دنياكم و أخراكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم لعلمتم أن ذلك خير لكم.
[12] فإن تفعلوا ذلك يَغْفِرْ الله لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ السابقة وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ وَ يدخلكم في مَساكِنَ طَيِّبَةً حسنة مستلذة فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة، أي في جنة هي أبدية ذلِكَ الغفران و إدخال الجنة الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
[13] وَ يعطيكم بالإضافة إلى تلك النعمة الآجلة نعمة أُخْرى عاجلة تُحِبُّونَها أي تحبون أنتم هذه النعمة الأخرى و هي نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ ينصركم على أعدائكم وَ فَتْحٌ لبلادهم قَرِيبٌ فتح مكة أو مطلق الفتوحات وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بكل خير.
[14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ بنصرة دينه كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ تلاميذه الاثنا عشر مَنْ أَنْصارِي ينصرني منتهيا إِلَى اللَّهِ و معناه العمل بما يقول للفوز بثوابه تعالى قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فأخذوا يبلغون الناس الدين فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ و صدقت بعيسى عليه السّلام وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ فلم يؤمنوا فَأَيَّدْنَا نصرنا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ الكافرين فَأَصْبَحُوا أي المؤمنون منهم ظاهِرِينَ غالبين على الكفار.
تبيين القرآن، ص: 567
مدينة آياتها إحدى عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يُسَبِّحُ جاء هنا بالمضارع دلالة على المستقبل، و في بعض السور بالماضي دلالة على الماضي لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ المنزّه عن كل نقص الْعَزِيزِ في سلطانه الْحَكِيمِ في تدبيره.
[2] هُوَ الله الَّذِي بَعَثَ أرسل فِي الْأُمِّيِّينَ المنسوبين إلى أم القرى مكة أو منسوب إلى الأم لأنهم ما كانوا يقرءون و لا يكتبون رَسُولًا مِنْهُمْ من جنسهم يَتْلُوا يقرأ عَلَيْهِمْ آياتِهِ القرآن وَ يُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الكفر و الفسق وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القرآن وَ الْحِكْمَةَ الشريعة وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ قبل أن يأتيهم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح.
[3] وَ آخَرِينَ عطف على (الأميين) مِنْهُمْ أي من جنس هؤلاء في الكفر و الضلال لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ بعد لم يلحقوا بهؤلاء في الإيمان، و ينتظر لحوقهم، و المراد بهم المؤمنون إلى يوم القيامة وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[4] ذلِكَ الإرسال إلى الناس فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ كما أعطاه للأمة الإسلامية دون الأمم السابقين وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يستحقر عند فضله كل فضل.
[5] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ كلّفوا حملها و هم لا يريدون الحمل و المراد كلفوا العمل بها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها تركوا العمل بها- و هم اليهود- كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً كتبا من العلم يتعب من حملها و لا ينتفع بها بِئْسَ المثل بالحمار مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ بأدلته، و هم اليهود الذين كذبوا بما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم عنادا، فإنه تعالى لا يلطف بهم الألطاف الخفية.
[6] قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أظهروا اليهودية إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ إذ كانوا يقولون نحن أحباء الله، دون سوانا فَتَمَنَّوُا اطلبوا من الله الْمَوْتَ بنقلكم من دار البلية إلى دار الكرامة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم.
[7] وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما قدموا إلى آخرتهم من الكفر و المعاصي وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيجازيهم على ظلمهم.
[8] قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ بإعداد الوسائل لامتداد حياتكم خوفا من الآخرة فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ تلقونه لا محالة ثُمَّ بعد الموت تُرَدُّونَ ترجعون إِلى عالِمِ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما ظهر للحواس فَيُنَبِّئُكُمْ يخبركم لأجل أن يجازيكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
تبيين القرآن، ص: 568
[9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ أذّن لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا امضوا مسرعين إِلى ذِكْرِ اللَّهِ الصلاة وَ ذَرُوا اتركوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ السعي إلى الذكر و ترك البيع خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم لعلمتم إن ذلك خير لكم.
[10] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فرغ من أدائها فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ إباحة بعد حظر، كل يذهب إلى محل عمله وَ ابْتَغُوا اطلبوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بالتجارة و الاكتساب وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لئلا تشغلكم الدنيا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون بثوابه.
[11] وَ إِذا رَأَوْا أي الذين حضروا لصلاة الجمعة تِجارَةً كسبا أَوْ لَهْواً ما يلهي كالطبل و الغناء انْفَضُّوا تفرقوا مسرعين إِلَيْها إلى تلك التجارة أو اللهو وَ تَرَكُوكَ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائِماً واقفا تخطب، فقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخطب للجمعة إذ جاءت قافلة تجارية إلى المدينة فضربت الطبول للإعلام كما كانت عادتهم فخرج الحاضرون إلا جماعة منهم، و تركوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت الآية موبخة لهم قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ لعدم نفعه وَ مِنَ التِّجارَةِ لأن نفعها زائل وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فتوكلوا عليه يرزقكم و لا تحرصوا على تحصيل الرزق بترك الواجبات.
مدنية آياتها إحدى عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِذا جاءَكَ يا رسول الله الْمُنافِقُونَ و المراد به عبد الله بن أبي قالُوا نفاقا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ حقيقة وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ في قولهم (نشهد) إذ يخالف قلبهم لسانهم.
[2] اتَّخَذُوا أخذ المنافقون أَيْمانَهُمْ حلفهم جُنَّةً وقاية لحفظ مالهم و دمهم فَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ منعوهم عن الإيمان إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ساء العمل عملهم.
[3] ذلِكَ العمل السيّئ إنما صدر منهم بسبب أنهم آمَنُوا ظاهرا ثُمَّ كَفَرُوا باستمرارهم في النفاق، أو المراد آمنوا حقيقة ثم لما رأوا أن الإيمان لا يوافق شهواتهم كفروا فَطُبِعَ طبع الله عَلى قُلُوبِهِمْ تمكن الكفر منهم حتى صار كالختم على قلوبهم فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون الحق.
[4] وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ بحسن منظرهم وَ إِنْ يَقُولُوا يتكلموا تَسْمَعْ تصغ لِقَوْلِهِمْ لحسن منطقهم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ جمع خشبة مُسَنَّدَةٌ أسندت إلى الحائط، لها ظاهر جميل لكنها فارغة لا تتمكن من القيام بنفسها، فهم أشباح خالية عن العلم و الإيمان يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ لجبنهم و حب أنفسهم فإذا حدثت صيحة في العسكر أو ما أشبه حسبوها أنها تقع عليهم و أن و بالها عائدة نحوهم فيخافون و يرتجفون، و هذا شأن المنافق دائما هُمُ الْعَدُوُّ الحقيقي إذ الكافر يتمكن الإنسان من اجتنابه أما المنافق فيضر و لا يمكن عادة التجنب من آثاره السيئة فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالهلاك أَنَّى إلى أين و كيف يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الحق.
تبيين القرآن، ص: 569
[5] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ للمنافقين تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أكثروا تحريكها استهزاء وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ يعرضون عن المجي ء وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يتكبرون عن الإتيان إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند رجوعه من حرب بني المصطلق كان في منزل إذ تنازع أنصاري و مهاجري على الماء فقال ابن أبيّ:
عند رجوعنا إلى المدينة نخرج الرسول و المهاجرين و تكلم بكلام سيئ، فأتى زيد إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبره بالخبر، و لما سمع القوم قالوا لابن أبي اذهب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اعتذر منه لكنه أبى و أخيرا اضطر إلى أن يأتي و يطلب من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العذر و أنكر القصة، فنزلت السورة مصدقة لما قاله زيد.
[6] سَواءٌ عَلَيْهِمْ على المنافقين أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لإصرارهم على النفاق إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يلطف بالخارج عن أحكام الله عنادا.
[7] هُمُ المنافقون الَّذِينَ يَقُولُونَ لإخوانهم لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أي على فقراء المهاجرين حَتَّى يَنْفَضُّوا يتفرقوا من حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كالمطر من خزينة السماء، و النبات من خزينة الأرض، فالرزق بيده تعالى لا بأيديهم وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون ذلك بل يزعمون أن الرزق بيد الناس.
[8] يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ و يقصدون بالأعز المنافقين أنفسهم مِنْهَا من المدينة الْأَذَلَّ قاصدين بالأذل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه المهاجرين وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ بل يزعمون أن العزة لهم.
[9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ لا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الصلاة و غيرها وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ بأن اشتغل بماله و ولده و ترك ذكر الله فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا ثواب الله تعالى.
[10] وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ بعض ما رزقناكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فلما يأتي يقول رَبِّ لَوْ لا هلّا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ زمانا قليلا فَأَصَّدَّقَ أتصدق بمالي وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ في أعمالي.
[11] وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها منتهى عمرها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه.
تبيين القرآن، ص: 570
مدنية آياتها ثماني عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ لأنه المتفضل بكل شي ء وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من إيجاد و إعدام قَدِيرٌ.
[2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم حسب عقائدكم و أعمالكم.
[3] خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ بالحكمة لا لأجل اللهو وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فإن صورة الإنسان جميلة جدا وَ إِلَيْهِ إلى جزائه الْمَصِيرُ منتهى كل إنسان.
[4] يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ تخفون من الأعمال و الأقوال وَ ما تُعْلِنُونَ تظهرون وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بمضمرات القلوب الموجودة في الصدور.
[5] أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيها الكفار نَبَأُ خبر الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح و صالح و شعيب و لوط و غيرهم فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ عاقبة أمورهم السيئة وَ لَهُمْ عَذابٌ في الآخرة أَلِيمٌ مؤلم.
[6] ذلِكَ الوبال و العذاب بسبب أنه كفروا بعد إتمام الحجة كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الحجج الواضحات فَقالُوا أَ بَشَرٌ يقع على الواحد و الجمع يَهْدُونَنا أي كيف يكون البشر رسولا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا أعرضوا عن اتباع الرسل وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ أظهر غناه عن إيمانهم و طاعتهم وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ محمود في أفعاله.
[7] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا في الآخرة قُلْ بَلى وَ رَبِّي قسما بربي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ تخبرنّ لأجل الجزاء بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ البعث عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
[8] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ القرآن الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم عليه.
[9] يَوْمَ إن البعث و الإخبار و الجزاء هو في يوم يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ من أسماء القيامة لاجتماع الناس فيه ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ يأخذ فيه أهل الجنة منازل أهل النار، إذ يبنى لكل إنسان منزلان: في الجنة و النار، فيأخذ أهل الجنة منازل أهل النار، و بالعكس، فالتفاعل إنما هو من باب المزاوجة، إذ لا غبن في طرف أهل الجنة وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ عملا صالِحاً يُكَفِّرْ يغفر عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ دخول الجنة الْفَوْزُ الوصول إلى المطلوب الْعَظِيمُ.
تبيين القرآن، ص: 571
[10] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي المرجع.
[11] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإنها إن كانت من الله فواضح و إن كانت من غيره كالقتل فإن الله يخلي بين الإنسان و بين وصول المصيبة إليه حيث خلق الإنسان حرا مختارا. وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ يثبته على الصبر، لأنه يعلم أنها بعين الله و أنه يثيبه عليها وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيجازيكم بأعمالكم.
[12] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الإطاعة فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ التبليغ الْمُبِينُ الظاهر، و لا يضر التولي إلّا أنفسكم.
[13] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يكلوا أمورهم إليه.
[14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ أي بعضهم عَدُوًّا لَكُمْ يحملونكم على عصيان الله فَاحْذَرُوهُمْ خافوا منهم حتى لا يخدعوكم وَ إِنْ تَعْفُوا عنهم بترك عقابهم وَ تَصْفَحُوا بترك توبيخهم وَ تَغْفِرُوا لهم ما فرط منهم مما جاز غفرانه فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم.
[15]نَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ امتحان لكم هل تعملون فيهما حسب أمر الله أم لا اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
فلا يسبب المال و الولد فوات ذلك الأجر.
[16] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ بقدر وسعكم و طاقتكم وَ اسْمَعُوا أوامره وَ أَطِيعُوا أحكامه وَ أَنْفِقُوا في طاعته خَيْراً من المال فإنه عائد لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ يحفظ من شُحَّ نَفْسِهِ أي بخلها الكامن في النفس، بأن تمكن من الإنفاق فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[17] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ بأن تنفقوا في سبيله تعالى قَرْضاً حَسَناً بدون رياء و منة و عصيان يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي يعطيكم إياه مضاعفا، لكل واحد عشرة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ بسبب إقراضكم ف (إن الحسنات يذهبن السيئات) «1» وَ اللَّهُ شَكُورٌ يشكر المحسن حَلِيمٌ لا يعجل بعقوبة من خالفه.
[18] عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما حضر لدى الحواس الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ في تدبيره.
__________________________________________________
(1) سورة هود: 114.
تبيين القرآن، ص: 572
مدنية آياتها اثنتي عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ أردتم طلاق النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لوقت عدتهن و وقت العدة هو الطهر الذي لم يواقع المرأة فيه، و العدة هي الأيام التي لا يجوز فيها أن تتزوج المرأة وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ اضبطوها وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ فلا تخالفوه فيما أمر لا تُخْرِجُوهُنَّ مدة العدة مِنْ بُيُوتِهِنَّ التي طلّقن فيها وَ لا يَخْرُجْنَ هن بأنفسهن إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ معصية مُبَيِّنَةٍ ظاهرة كالزنا فتخرج لإجراء الحد، و كإيذاء أهل الدار فتنقل إلى مكان آخر وَ تِلْكَ الأحكام التي بينّاها حُدُودُ اللَّهِ أحكامه وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بأن خالفها فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ حيث عرّضها على العقاب، و إنما قلنا ببقائها في بيتها لأنك لا تَدْرِي العاقبة ف لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ الطلاق أَمْراً بأن رغب الزوج فيها فأرجعها إلى نفسه.
[2] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بأن قرب إتمام العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ بالرجوع إليهن بِمَعْرُوفٍ بحسن المعاشرة لا إمساكا للإضرار أَوْ فارِقُوهُنَّ بأن اتركوهن حتى تنقضي عدتهن بِمَعْرُوفٍ لا بإضرار و خشونة وَ أَشْهِدُوا عند الطلاق ذَوَيْ عَدْلٍ رجلين عادلين مِنْكُمْ أيها المسلمون وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ أيها الشهود لِلَّهِ لوجهه تعالى، فإذا طلب منكم أن تشهدوا فاشهدوا ذلِكُمْ المذكور من الأحكام و (كم) خطاب يُوعَظُ بِهِ بذلك مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ بامتثال أوامره وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً خروجا من المشاكل.
[3] وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ لا يخطر بباله وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يكل أموره إلى الله فَهُوَ فالله حَسْبُهُ كافيه إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ يبلغ ما يريده و لا يفوته أمر قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً مقدارا، فإذا انتهى قدره صار إلى ما يخالفه.
[4] وَ النساء اللَّائِي أي اللاتي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ أي الحيض مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ شككتم بأن قطع الحيض عنها ليأس أو لعارض فَعِدَّتُهُنَّ بعد الطلاق ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ و هن في سن الحيض، كذلك عدتهن ثلاثة أشهر وَ أُولاتُ صاحبات الْأَحْمالِ المرأة الحامل إذا طلقت أَجَلُهُنَّ مدة عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قريبا أو بعيدا وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ييسّر أمره.
[5] ذلِكَ الذي ذكر من الأحكام أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ يغفرها وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً يعطيه أجرا عظيما في الآخرة.
تبيين القرآن، ص: 573
[6] أَسْكِنُوهُنَّ اسكنوا المطلقات أيها الأزواج مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ بعض مكان سكناكم مِنْ وُجْدِكُمْ وسعكم و طاقتكم وَ لا تُضآرُّوهُنَّ بإسكانهن ما لا يليق بهن لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فتضطروهن إلى الخروج وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ سواء كانت بائنة أو رجعية فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا تشاوروا لأجل السكنى و النفقة أيها الأزواج و المطلقات بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ يقره العرف بدون التشديد و التعاسر وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ في إرضاع الولد، بأن أرادت الزوجة أكثر من حقها، أو أراد الزوج أن يعطي أقل من حقها- و لم يقبل الطرف الآخر- فَسَتُرْضِعُ لَهُ للولد امرأة أُخْرى غير الأم المطلقة.
[7] لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ والد الولد مِنْ سَعَتِهِ أجرة متعارفة وَ مَنْ قُدِرَ ضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ على قدره، فإن كل واحد مكلف بإعطاء أجرة أمثاله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا بقدر ما آتاها أعطاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً فلا يضيق صدر الفقير حيث يرى ضيق أموره.
[8] وَ كَأَيِّنْ كم و هي للكثرة مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ طغت و تعدت عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها لأجل عذابها حِساباً شَدِيداً بعدم العفو، عما نعفو عنه للمؤمن وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً منكرا بأن أنزلنا عليها العذاب الشديد.
[9] فَذاقَتْ وَبالَ عقوبة أَمْرِها كفرها و عتوها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً لا ربح فيه.
[10] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً يوم القيامة بالإضافة إلى عذاب الدنيا فَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عذابه يا أُولِي الْأَلْبابِ يا أصحاب العقول الَّذِينَ آمَنُوا صفة (أولي الألباب) قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً تذكيرا للمؤمنين بهذه النعمة العظيمة.
[11] رَسُولًا بدل من (ذكرا) فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكونه في كمال التذكير، صار كأنه ذكر محض نحو: زيد عدل يَتْلُوا يقرأ عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ موضحات للأمور لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا أي الذين هم في هذا الصدد وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمة الكفر إِلَى النُّورِ نور الإيمان الهادي إلى طريق السعادة وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ الله جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً أعطاه رزقا حسنا في الجنة.
[12] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ سبع أرضين كل أرض حولها سماؤها و هي الكواكب السيارة أو غيرها يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ أمر الله و حكمه بَيْنَهُنَّ بين السماوات و الأرضين إلى النبي و الإمام عليهم السّلام، أو المراد مطلق أوامره التكوينية و التشريعية لِتَعْلَمُوا فعل ذلك لأن تعلموا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً فله قدرة كاملة و علم شامل، إذ الخلق و الأمر يقتضيان ذلك و دليلان على كمال العلم و القدرة.
تبيين القرآن، ص: 574
مدنية آياتها اثنتي عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ فقد ورد أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلا بمارية فاطلعت بعض زوجاته، فكره النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك و حرم على نفسه أن يخلو بمارية فنزلت السورة، و قيل غير ذلك تَبْتَغِي تطلب بهذا التحريم مَرْضاتَ رضا أَزْواجِكَ أي زوجاتك وَ اللَّهُ غَفُورٌ ما فعلت من التحريم رَحِيمٌ بك، حيث أرشدك إلى نبذ التحريم، و لا يخفى أنه ليس في الآيات دلالة على أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حلف على عدم وطيها بل لعله قال: حرمت على نفسي، مثل (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) «1»، مضافا إلى أن عهده كان مشروطا كما سيأتي.
[2] قَدْ فَرَضَ أوجب اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ حلّ أَيْمانِكُمْ عهدكم على أنفسكم فإن العهد على النفس إن لم يشتمل على الشروط المذكورة في الفقه لا يوجب تحليلا و لا تحريما وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ فهو أعرف بمصالحكم وَ هُوَ الْعَلِيمُ بكل شي ء الْحَكِيمُ في تدبيره.
[3] وَ إِذْ اذكر زمانا أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال لها كلاما مخفيا، بأن قال لحفصة: أسرّي قصة مارية فلا أقاربها بعد ذلك فَلَمَّا نَبَّأَتْ أخبرت الزوجة بِهِ بالحديث خلافا لكلام رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنها أخبرت عائشة، و لذا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حلّ من عهده حيث كان عدم المقاربة مشروطا بأن تخفي حفصة القصة وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي أعلمه الله تعالى بأن حفصة أخبرت عائشة عَرَّفَ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبر حفصة بَعْضَهُ بعض ما ذكرته لعائشة وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ بأن لم يخبرها بجميع إفشائها له، تكرما، فإن عادة الكبار أن لا يتعرضوا لكل الحديث الذي يسي ء الطرف المقابل أو أساءه، بل يلمحون إليه تلميحا فَلَمَّا نَبَّأَها أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حفصة بِهِ بإفشائها لحديثه معها قالَتْ حفصة، متعجبة مَنْ أَنْبَأَكَ أخبرك يا رسول الله هذا بأني أفشيت حديثك إلى عائشة قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ أي الله العالم بكل شي ء و المطلع على الخفايا.
[4] إِنْ تَتُوبا يا عائشة و حفصة من التعاون على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما يؤذيه إِلَى اللَّهِ فَقَدْ كانت التوبة لازمة إذ صَغَتْ مالت قُلُوبُكُما من مرضاة الله وَ إِنْ تَظاهَرا تتعاونا عَلَيْهِ على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما يسوؤه فلا يضره تعاونكما إذ إن اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ يلي أمره بما لا يصيبه مكروه وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ خيارهم، و في الرواية أن المراد به أمير
المؤمنين علي عليه السّلام وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ بعد نصر الله و جبرئيل و المؤمنين ظَهِيرٌ ظهراء له و أعوان لدفع الإيذاء عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[5] عَسى لعل رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ مطيعات لله تائِباتٍ عن الذنب عابِداتٍ لله سائِحاتٍ صائمات «2» ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً.
__________________________________________________
(1) سورة آل عمران: 93.
(2) السائح: الجاري، و سمي الصائم بالسائح لجريه في الإمساك من المفطرات.
تبيين القرآن، ص: 575
[6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا احفظوا أَنْفُسَكُمْ بترك المعاصي وَ أَهْلِيكُمْ بالنصح و الحفظ ناراً عن نار جهنم التي وَقُودُهَا حطب تلك النار النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ فما ظنك بنار وقودها الحجارة و الناس عَلَيْها خزنتها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ القلوب لا يرحمون أهل النار شِدادٌ البطش لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ في تعذيب أهل النار فلا يقبلون الاستغاثة و الضراعة، كما في وسائط الدنيا.
[7] فإذا عذبوا الكفرة يأخذون في الاعتذار فيقال لهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ فإنه لا يلتفت إلى عذركم إِنَّما تُجْزَوْنَ جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا.
تبيين القرآن، ص: 576
[8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا ارجعوا عن الآثام إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً خالصا عَسى لعل إذا تبتم رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ يمحو عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ في يَوْمَ لا يُخْزِي لا يذل اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بل يعزهم، و يذل الكفار و العصاة نُورُهُمْ فإن للمحشر ظلمات، و للمؤمنين نور في وجوههم الساجدة لله و في أيمانهم التي فيها صحائف حسناتهم يَسْعى يمتد شعاعه و يسير بسيرهم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا بإدخالنا الجنة وَ اغْفِرْ لَنا معاصينا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من إتمام النور و غفران العصيان.
[9] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالحرب وَ الْمُنافِقِينَ بالكلام و ما يردعهم وَ اغْلُظْ كن غليظا شديدا عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ محلهم جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ الذي يصير المنافقون إليه.
[10] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لبيان أنه كيف أنه يعاقب الكافر بكفره لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما بالكفر فَلَمْ يُغْنِيا لم يفد نوح و لوط عليهما السّلام عَنْهُما عن الزوجتين مِنْ عذاب اللَّهِ شَيْئاً فلم يتمكنا أن يدفعا عنهما و لو بعض العذاب، فلا قربهما من النبي أفادهما، و لا تمكن النبي من شفاعتهما وَ قِيلَ لهما ادْخُلَا النَّارَ في عالم البرزخ، قبل نار الآخرة مَعَ الدَّاخِلِينَ سائر الكفار و العصاة.
[11] وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لبيان أنه كيف يثاب المؤمن و لا يضره كفر من كان قريبا منه لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ آسية بنت مزاحم حيث آمنت بموسى عليه السّلام إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ من البناء لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ نفس فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ السيئ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ التابعين لفرعون، فاستجاب الله لها و رأت محلها في الجنة و هي بعد في دار الدنيا.
[12] وَ امرأة أخرى، لم يكن أحد من أطرافها كافرا، فمثالان لقسمين من النساء مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ حفظت فَرْجَها من الحرام فَنَفَخْنا فِيهِ في الفرج بواسطة جبرئيل مِنْ رُوحِنا الروح المشرف بنسبته إلينا «1» وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها بما قال الله تعالى في شرائعه وَ كُتُبِهِ كتب الأنبياء عليهم السّلام وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ في جملة المطيعين لله، و لذا اختارها الله و اصطفاها.
__________________________________________________
(1) أي روح خلقناه و قد شرف بنسبته إلى الباري عز و جل.
تبيين القرآن، ص: 577
مكية آياتها ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] تَبارَكَ دام و كثر خيره الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تحت تصرفه وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإحياء و الإماتة و كل شي ء يريده.
[2] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ بأن قدرهما، أو خلقهما خلقا فيكون الموت مخلوقا أيضا لِيَبْلُوَكُمْ يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا من الآخر فيجازيكم على أعمالكم وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْغَفُورُ لمن يشاء.
[3] الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مطابقة بعضها فوق بعض ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ تناقض و عدم تناسب فَارْجِعِ الْبَصَرَ أعده متكررا متأمّلا هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ صدوع و خلل.
[4] ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ مرة بعد مرة يَنْقَلِبْ يرجع إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً ذليلا لأنه لم ينل ما كان يترقبه من الخلل وَ هُوَ حَسِيرٌ كليل من كثرة النظر.
[5] وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا القريبة بِمَصابِيحَ الكواكب وَ جَعَلْناها أي تلك المصابيح رُجُوماً شهبا ترجم لِلشَّياطِينِ فإن الشياطين إذا اقتربوا من الملأ الأعلى الاستراق السمع رموا بالشهب من جانب الكواكب وَ أَعْتَدْنا هيّأنا لَهُمْ للشياطين عَذابَ السَّعِيرِ النار المستعرة الملتهبة.
[6] وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ هي.
[7] إِذا أُلْقُوا أي الكفار فِيها في جهنم سَمِعُوا لَها للنار شَهِيقاً صوتا كصوت الحمار فيزيدهم هولا و تخويفا وَ هِيَ تَفُورُ تغلي بهم كغلي القدر.
[8] تَكادُ النار تَمَيَّزُ تتقطع مِنَ الْغَيْظِ الغضب على الكفار، فإن النار الملتهبة يراها الإنسان كأنها تتقطّع كُلَّما أُلْقِيَ فِيها في النار فَوْجٌ جماعة من الكفار سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها خزنة النار الموكلون بها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ينذركم من هذه النار.
[9] قالُوا أي أهل النار: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ مما تدعوننا إليه من الشرائع إِنْ ما أَنْتُمْ أيها المنذرون إِلَّا فِي ضَلالٍ انحراف كَبِيرٍ حيث تزعمون أنكم مرسلون من قبل الله.
[10] وَ قالُوا أي أهل النار: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلام الرسل أَوْ نَعْقِلُ نستعمل عقولنا حتى نتّبعهم ما كُنَّا فِي جملة أَصْحابِ السَّعِيرِ النار الملتهبة.
[11] فَاعْتَرَفُوا حين لا ينفع الاعتراف بِذَنْبِهِمْ و أنهم مذنبون فَسُحْقاً أي بعدا عن رحمة الله لِأَصْحابِ السَّعِيرِ.
[12] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ في حال أنهم لم يروه تعالى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران لذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ هو ثواب الله تعالى في الآخرة.
تبيين القرآن، ص: 578
[13] وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بضمائرها فكيف بما نطقتم به سرا أو جهرا.
[14] أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ فإن الخالق يعلم سر مخلوقه وَ هُوَ اللَّطِيفُ النافذ علمه في الأشياء الْخَبِيرُ ببواطن الأمور.
[15] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ذليلة مسخرة لمنافع الناس فَامْشُوا فِي مَناكِبِها جوانبها و طرقها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ رزق الله وَ إِلَيْهِ إلى جزائه و حسابه النُّشُورُ الحياة بعد الموت.
[16] أَ أَمِنْتُمْ أيها البشر من مَنْ فِي السَّماءِ أي الله فإن تقديره ينزل من السماء أَنْ يَخْسِفَ من في السماء بِكُمُ الْأَرْضَ بأن تبلعكم فَإِذا هِيَ الأرض تَمُورُ تضطرب بكم.
[17] أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ريحا فيها صغار الحصى لأجل إهلاككم فَسَتَعْلَمُونَ حين ذاك كَيْفَ نَذِيرِ كيف كان إنذاري لكم صدقا.
[18] وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قبل هؤلاء الكفار فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري عليهم بإنزال العذاب.
[19] أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ في الهواء صافَّاتٍ باسطات أجنحتهن وَ يَقْبِضْنَ أجنحتهن أحيانا للجري ما يُمْسِكُهُنَّ ما يحفظهن من السقوط إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ فهو يرى الطير و يحفظه.
[20] (أم) استفهام (من) مبتدأ هذَا خبره الَّذِي صفة (هذا) هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ أعوان لكم يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ يمنعكم من عذابه إِنِ ما الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ يغرهم الشيطان بأن العذاب لا ينزل بكم.
[21] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ أي الله إِنْ أَمْسَكَ و لم يعطكم رِزْقَهُ بسبب قحط و نحوه فمن يرزقكم بَلْ لَجُّوا أصروا فِي عُتُوٍّ عناد و طغيان وَ نُفُورٍ عن الحق.
[22] أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا واقعا عَلى وَجْهِهِ كالذي يسحب على وجهه أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا معتدلا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فالكافر كالأول لأنه لا يعرف الحقائق و لا يهتدي إلى الطريق.
[23] قُلْ هُوَ الله الَّذِي أَنْشَأَكُمْ خلقكم وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد أي القلوب قَلِيلًا ما تأكيد للقلة تَشْكُرُونَ نعمه.
[24] قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ خلقكم و أكثر نسلكم فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تجمعون للجزاء.
[25] وَ يَقُولُونَ أي الكفار مَتى هذَا الْوَعْدُ بالعذاب الذي تعدون أنه يأخذ الكافرين إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أيها النبي و المؤمنون في وعدكم.
[26] قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقته عِنْدَ اللَّهِ فإنه يعلم وقت العذاب وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ظاهر.
تبيين القرآن، ص: 579
[27] فَلَمَّا رَأَوْهُ رأى الكفار العذاب زُلْفَةً اقترب منهم قربا سِيئَتْ قبحت و اسودّت وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا خوفا، و المراد يوم بدر، أو يوم القيامة، أو وقت الموت وَ قِيلَ قال خزنة جهنم أو عزرائيل، أو من كان هناك عند الحرب هذَا العذاب هو الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ تطلبون و تستعجلون، لقد أتاكم.
[28] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين بأن أماتنا، فلم نر عذاب الكفار في الدنيا أَوْ رَحِمَنا بأن أبقانا أحياء فَمَنْ يُجِيرُ يحفظ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم، أي فهم معذبون لا محالة.
[29] قُلْ هُوَ الذي أدعوكم إليه الرَّحْمنُ الذي يرحم جميع الناس آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا في أمورنا فَسَتَعْلَمُونَ عند قيام الساعة مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح، أ نحن أم أنتم.
[30] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً غائرا في الأرض فلم يكن لكم ماء فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ظاهر سهل المأخذ، أفلا تشكرون الله على ذلك.
مكية آياتها اثنتان و خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] ن رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْقَلَمِ قسما بالقلم وَ ما يَسْطُرُونَ يكتبون أي أصحاب الأقلام، فإنه من آيات الله تصلح الحلف به.
[2- 3] ما أَنْتَ يا رسول اللّه بِنِعْمَةِ رَبِّكَ التي أنعم عليك و هي النبوة بِمَجْنُونٍ فلست مجنونا بسبب النبوة كما يقول المعاندون. وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً جزاء كبيرا غَيْرَ مَمْنُونٍ غير مقطوع بل دائم.
[4] وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ أي قمة الأخلاق الحسنة.
[5] فَسَتُبْصِرُ أي ترى وَ يُبْصِرُونَ يرون حين ظهر أمرك.
[6] بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي الجنون- و هو مصدر- فإنهم كانوا يقولون إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مجنون، و لكن المجنون هو العاصي لله تعالى.
[7] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ فاستحق أن يسمى بالمجنون وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فهم في كمال العقل.
[8] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ في أقوالهم.
[9] وَدُّوا تمنوا و أحبوا لَوْ تُدْهِنُ تلين لهم في دينك فَيُدْهِنُونَ يلينون لك أيضا.
[10] وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف بالباطل مَهِينٍ حقير.
[11] هَمَّازٍ عياب للناس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يمشي بين الناس بالنميمة و الإفساد.
[12] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يمنع الناس عن عمل الخير مُعْتَدٍ مجاوز للحد أَثِيمٍ عاص لله تعالى.
[13] عُتُلٍّ جاف غليظ بَعْدَ ذلِكَ الذي ذكر من أوصافه زَنِيمٍ دعيّ إذ لم يظهر له أب، و قيل إن المراد به الوليد بن المغيرة.
[14] أَنْ لا تطعه لأنه كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ فإنه كان يريد اتّباع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له لما يتمتع به من مال و جاه بين الناس.
[15] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ هذه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيبهم و خرافاتهم.
تبيين القرآن، ص: 580
[16] سَنَسِمُهُ نعلمه بعلامة عَلَى الْخُرْطُومِ على أنفه، و شبّه بالخرطوم لتكبّره و قد خطف أنفه بالسيف يوم بدر.
[17] إِنَّا بَلَوْناهُمْ امتحنا هؤلاء الكفار بإرسال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ البستان، فقد كان لرجل صالح بستان و كان يعطي الفقراء منه فلما مات قال بنوه نقطع ثمره صباحا حتى لا يحضر الفقراء فأصبحوا و قد أحرقت الثمار بالصاعقة إِذْ أَقْسَمُوا حلفوا أصحاب الجنة لَيَصْرِمُنَّها أي يقطعون ثمرها مُصْبِحِينَ أول دخولهم في الصباح.
[18] وَ لا يَسْتَثْنُونَ سهما منها للفقراء.
[19] فَطافَ أحاط عَلَيْها على الجنة طائِفٌ و المراد به نار مِنْ قبل رَبِّكَ وَ الحال أن هُمْ نائِمُونَ.
[20] فَأَصْبَحَتْ الجنة كَالصَّرِيمِ كالمقطوع ثمره بلا ثمر أصلا.
[21] فَتَنادَوْا نادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ في أول الصبح قائلين ب:
[22] أَنِ اغْدُوا اخرجوا غدوة عَلى حَرْثِكُمْ ثمركم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ تريدون الصرم و القطع.
[23] فَانْطَلَقُوا ذهبوا إلى البستان وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ يتشاورون بينهم بكلام خافت قائلين:
[24] أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا يدخلن البستان الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
[25] وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ منع قادِرِينَ أي زعموا أنهم قدروا على حرد الفقراء و منعهم ف (على) متعلق ب (قادرين).
[26] فَلَمَّا رَأَوْها الجنة و قد أحرقت قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ عن الحق.
[27] بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ من ثمرها لما أردنا من منع حقها.
[28] قالَ أَوْسَطُهُمْ أعدلهم أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ قبلا لَوْ لا تُسَبِّحُونَ تنزّهون الله و لا تقصدون هذا القصد فإن من نزّهه سبحانه علم أنه لم يجر «1» في أمره بإعطاء الفقراء.
[29] قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا ننزهه تنزيها إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ في عزمنا منع الفقراء.
[30] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم أحدهما الآخر.
[31] قالُوا يا وَيْلَنا يا سوء حالنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ مجاوزين الحد.
[32] عَسى لعل رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها من هذه الجنة، حيث تبنا عن ذنوبنا إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ نرغب إلى فضله.
[33] كَذلِكَ هكذا الْعَذابُ في الدنيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لعلموا أن عذاب الآخرة أكبر.
[34] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة جَنَّاتِ بساتين النَّعِيمِ ذات نعمة.
[35] أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ في إعطاء الجزاء الحسن.
[36] ما لَكُمْ أيها القائلون بتساوي الطائفتين كَيْفَ تَحْكُمُونَ حكما بالباطل.
__________________________________________________
(1) من الجور، أي لا يظلم أحدا حينما أمر بالإنفاق للفقراء.
تبيين القرآن، ص: 581
[37] أَمْ لَكُمْ كِتابٌ سماوي فِيهِ تَدْرُسُونَ تقرأون فيه.
[38] إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ تريدون من خير الدنيا و الآخرة.
[39] أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عهود عَلَيْنا بالِغَةٌ في التأكيد إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ به لأنفسكم بأن أخذتم منا عهدا بذلك.
[40] سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم، و هو إن لهم ما يتخيرون و يحكمون زَعِيمٌ كفيل.
[41] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ في هذا القول فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ ليشهدوا بهذا إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أن لهم شركاء يعتقدون مثل اعتقادهم، و الحاصل أنه لا مستند لهم من عقل أو نقل.
[42] اذكر يَوْمَ أي يوم القيامة حيث يُكْشَفُ يظهر عَنْ ساقٍ كناية عن شدته، فإن الإنسان إذا وقع في مشكلة و أراد أن ينجي نفسه كشف ثوبه عن ساقه لئلا يعرقل حركته ثوبه وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ توبيخا لهم، و بيانا لأنهم لم يسجدوا في الدنيا و لذا ابتلوا بهذا العذاب فَلا يَسْتَطِيعُونَ السجود النافع لأن وقته قد مضى.
تبيين القرآن، ص: 582
[43] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ لا ترفع تَرْهَقُهُمْ تغشاهم ذِلَّةٌ حيث علموا ما لهم من العذاب وَ قَدْ كانُوا في الدنيا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ ينفعهم السجود فلا يسجدون.
[44] فَذَرْنِي اتركني وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي القرآن، فأنا أعاقبه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ نقرّبهم درجة درجة، بالإنعام عليهم حتى ينسوا و يلهوا و يتموا أمدهم في الدنيا مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ إنه استدراج.
[45] وَ أُمْلِي لَهُمْ أمهلهم إِنَّ كَيْدِي علاجي للأمور مَتِينٌ مستحكم.
[46] أَمْ هل تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على الرسالة فيفرون لأنهم مِنْ مَغْرَمٍ غرامة و إعطاء مال مُثْقَلُونَ بحملها و لذا لا يؤمنون.
[47] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي علم الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ من ذلك العلم و فيه ما ينهاهم عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[48] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بأن بلّغه و لا تبال بالأذى وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ السمك، و المراد به يونس عليه السّلام حيث إنه لم يصبر على البلاغ، فقد يئس و خرج عن قومه فألقاه الله في بطن الحوت إِذْ نادى ربه من هناك وَ هُوَ مَكْظُومٌ مملوء غيظا.
[49] لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ بأن استغفر الله على ما صدر منه من ترك الأولى لَنُبِذَ أي طرح بِالْعَراءِ بالصحراء بعد تأديبه ببطن الحوت وَ هُوَ مَذْمُومٌ بتركه الأولى.
[50] فَاجْتَباهُ اختاره رَبُّهُ بالعفو عن تركه للأولى فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح.
[51] وَ إِنْ مخففة من الثقيلة يَكادُ يقرب الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ أي ينظرون إليك نظر غاضب فيزلونك عن موقفك، أو المراد يصيبونك بالعين، لأنهم أرادوا ضرب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالعين لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ القرآن وَ يَقُولُونَ حسدا إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ فقوله قول المجانين.
[52] وَ الحال ما هُوَ أي القرآن إِلَّا ذِكْرٌ موعظة لِلْعالَمِينَ لجميع الناس و ليس كلام مجنون.
مكية آياتها اثنتان و خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] الْحَاقَّةُ القيامة التي هي حق و واجبة الوقوع. مَا الْحَاقَّةُ أيّ شي ء هي، و الاستفهام للتهويل و التفخيم.
[3] وَ ما أَدْراكَ أيّ شي ء أعلمك مَا الْحَاقَّةُ ما هي، فإنها أعظم من أن تدرك حقيقتها و عظيم الهول فيها.
[4] كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ الحالة التي تقرع الناس بالأهوال.
[5] فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بسبب تكذيبهم بِالطَّاغِيَةِ بالصيحة المجاوزة الحد في الطغيان.
[6] وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ شديدة البرودة عاتِيَةٍ شديدة الهبوب كأنها عتت على خزّانها.
[7] سَخَّرَها سلطها الله عَلَيْهِمْ على عاد سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً متتابعات فَتَرَى الْقَوْمَ لو حضرتهم فِيها في تلك الأيام و الليالي صَرْعى ملقين في حالة الهلاك كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ أصول نَخْلٍ خاوِيَةٍ نخرة ساقطة.
[8] فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ نفس باقِيَةٍ كلا بل أبدناهم جميعا.
تبيين القرآن، ص: 583
[9- 10] وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ من الأمم المكذبة وَ الْمُؤْتَفِكاتُ أي أهل القرى التي ائتفكت و انقلبت، و هي قرى قوم لوط بالفعلة الخاطئة من الكفر و المعاصي. فَعَصَوْا كل جماعة من هؤلاء رَسُولَ رَبِّهِمْ المبعوث إليهم فَأَخَذَهُمْ الله أَخْذَةً رابِيَةً زائدة في الشدة.
[11] إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ تجاوز حده في زمان نوح صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأجل إهلاك قومه حَمَلْناكُمْ في أصلاب آبائكم فِي السفينة الْجارِيَةِ التي كانت تجري في الطوفان.
[12] لِنَجْعَلَها أي تلك الفعلة بإنجاء المؤمنين و إغراق الكافرين لَكُمْ تَذْكِرَةً عبرة وَ ل تَعِيَها تحفظها أُذُنٌ واعِيَةٌ من أنها أن تعي و تحفظ.
[13] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل لأجل إحياء الأموات نَفْخَةٌ واحِدَةٌ لا أكثر.
[14] وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ من أماكنها، فالجبال تكون سرابا و الأرض تحمل من أعاليها لتملأ منخفضاتها فَدُكَّتا ضربتا بعضهما ببعض دَكَّةً واحِدَةً في مرة واحدة، لا تطول، فصارت الجبال هباء و الأرض قاعا صفصفا.
[15] فَيَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم وَقَعَتِ قامت الْواقِعَةُ القيامة.
[16] وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ بأن تبدد نظامها فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ غير مستحكمة.
[17] وَ الْمَلَكُ جنس الملائكة يرى عَلى أَرْجائِها أطراف السماء صعودا و نزولا وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ و هو شي ء عظيم خاص بالله تعالى تشريفا، كالكعبة في الأرض فَوْقَهُمْ فوق أكتاف الملائكة يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ من أفرادهم.
[18] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ تحضرون للحساب لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ نفس خافية على الله.
[19] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ أعطي كِتابَهُ كتاب أعماله بِيَمِينِهِ و في ذلك دلالة على نجاته فَيَقُولُ فرحا هاؤُمُ أمر للجماعة، بمنزلة (هاكم) أي خذوا، و التفتوا اقْرَؤُا كِتابِيَهْ أي كتابي، و الهاء للسكت.
[20- 22] إِنِّي ظَنَنْتُ علمت أَنِّي مُلاقٍ ألاقي و أرى في الآخرة حِسابِيَهْ حسابي، و لذا عملت لهذا اليوم.
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مرضية. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ رفيعة.
[23] قُطُوفُها ثمارها دانِيَةٌ قريبة من الإنسان حتى إذا أراد أن يتناولها و هو مستلق تمكن.
[24] و يقال لهم: كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً أكلا بدون تعب و لا حزن بسبب ما أَسْلَفْتُمْ قدمتم من الخير فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية أي أيام الدنيا.
[25- 27] وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ و ذلك علامة سوء الحال فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ حتى يسيئني. وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ لم أعرف حسابي. يا لَيْتَها أي الموتة التي ذقتها كانَتِ الْقاضِيَةَ المبيدة لحياتي إلى الأبد فلم أحي.
[28- 31] ما أَغْنى ما أفادني في النجاة من عذاب الله عَنِّي مالِيَهْ أموالي. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ذهب جاهي و سلطنتي و لم يفدني. ثم يقال للملائكة: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ اربطوا يديه و رجليه بالأغلال. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أدخلوه فيها.
[32- 34] ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ من الحديد ذَرْعُها قدرها بالذراع سَبْعُونَ ذِراعاً و هذا المقدار إما لأجل التهويل في عذابهم، أو لأجل لفّها على أعضائهم فَاسْلُكُوهُ اجعلوه فيها. إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ لا يحث عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ و من لا يحض لا يبذل، فإنه قسم من الحث، و لعل المراد الزكاة.
تبيين القرآن، ص: 584
[35] فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ صديق.
[36] وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ صديد أهل النار، و أصله ما يبقى من الغسالة.
[37] لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ الذين تعمدوا الخطيئة.
[38] فَلا أُقْسِمُ لا، زائدة للتأكيد، أو المراد التلميح إلى القسم بدون القسم بِما تُبْصِرُونَ.
[39] وَ ما لا تُبْصِرُونَ أي بالمخلوقات كلها، أو بها و بخالقها، لأن الله لا يبصر.
[40] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ على الله، و قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو قول الله، إذ (ما ينطق عن الهوى إنه هو إلا وحي يوحى) «1».
[41] وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ كما تزعمون قَلِيلًا ما زائدة لتأكيد القلة تُؤْمِنُونَ لعنادكم، و المعنى أنكم لا تصدقون إلا ببعض ما ظهر لكم من الحق، لا بكله.
[42] وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ و هو من يخبر عن الشياطين قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تذكرا و اتعاظا قليلا.
[43] بل هو تَنْزِيلٌ إنزال مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
[44] وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن نسب إلينا قولا بالكذب بَعْضَ الْأَقاوِيلِ الأقوال.
[45] لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ بيمينه.
[46] ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ عرق قلبه.
[47] فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ عن المقتول حاجِزِينَ مانعين، بأن يمنعنا عن إذلاله و قتله، و لكنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكذب علينا قط.
[48] وَ إِنَّهُ القرآن لَتَذْكِرَةٌ مذكر و واعظ لِلْمُتَّقِينَ فإنهم المنتفعون بالذكرى.
[49] وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ يا أهل مكة مُكَذِّبِينَ فنجازيهم على تكذيبهم.
[50] وَ إِنَّهُ القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ في يوم القيامة حيث يتحسرون لما ذا لم يعملوا به في الدنيا.
[51] وَ إِنَّهُ القرآن لَحَقُّ الْيَقِينِ الحق المتيقن الذي لا شك فيه.
[52] فَسَبِّحْ نزّه بذكر اسم رَبِّكَ الْعَظِيمِ صفة (الرب) فإذا قال الإنسان: الله العادل الغني الصادق مثلا فقد نزهه عن الظلم و الاحتياج و الكذب.
مكية آياتها أربع و أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] سَأَلَ سائِلٌ دعا داع بِعَذابٍ واقِعٍ كان الكفار يقولون (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) فالعذاب واقع بهم لا محالة، إن عاجلا أو آجلا، و قد ورد إن الآية نزلت في بعض المنافقين يوم الغدير، لما طلب من الله أن يعذبه إن كان نصب أمير المؤمنين علي عليه السّلام بأمره تعالى، فرماه الله بحجر فقتله.
[2] لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ لا أحد يدفعه من الكفار.
__________________________________________________
(1) سورة النجم: 3- 4.
تبيين القرآن، ص: 585
[3] مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ المصاعد، أي السماوات التي تعرج الملائكة فيها، أو درجات الجنة.
[4] تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ جبرئيل إِلَيْهِ إلى محل تشريف الله فِي يَوْمٍ أي أن العروج يكون في يوم و هو يوم القيامة كانَ مِقْدارُهُ بأيام الدنيا خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
[5] فَاصْبِرْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صَبْراً جَمِيلًا لا شكوى فيه و لا جزع.
[6] إِنَّهُمْ أي الكفار يَرَوْنَهُ أي يوم القيامة بَعِيداً عن أن يكون.
[7] وَ نَراهُ قَرِيباً كائنا في وقت قريب، فإن أمد الدنيا قصير مهما طال.
[8] يَوْمَ ظرف ل (قريبا) تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ كالفلز المذاب.
[9] وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف الملوّن المنفوش، يسير به الريح.
[10] وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي لا يسأل الصديق صديقه لهول ذلك اليوم.
تبيين القرآن، ص: 586
[11- 12] يُبَصَّرُونَهُمْ فإن عدم السؤال لتشاغل كل بنفسه، لا لأنه لا يبصر صديقه يَوَدُّ يتمنى الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بأن يعطي الفدية و يخلّص نفسه بِبَنِيهِ. وَ صاحِبَتِهِ زوجته وَ أَخِيهِ.
[13- 14] وَ فَصِيلَتِهِ عشيرته الَّتِي تُؤْوِيهِ تضمّه فإن العشيرة تضم أفرادها. وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الخلائق جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ الافتداء.
[15] كَلَّا لا نجاة إِنَّها النار المعدة للمجرم لَظى لهب محرقة.
[16] نَزَّاعَةً كثيرة النزع لِلشَّوى للأطراف من الجسم.
[17] تَدْعُوا النار إلى نفسها مَنْ أَدْبَرَ ذهب عن الحق و أعطى إليه دبره وَ تَوَلَّى أعرض.
[18] وَ جَمَعَ المال فَأَوْعى جعله في وعاء و منع حق الله عنه.
[19] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً قليل الصبر شديد الحرص، يفسره قوله:
[20] إِذا مَسَّهُ أصابه الشَّرُّ كالفقر و المرض جَزُوعاً يكثر الجزع.
[21] وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ كالصحة و الغنى مَنُوعاً يمنع حق الله في بدنه و ماله.
[22- 23] إِلَّا فليس المستثنى هلوعا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ مواظبون.
[24] وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ كالزكاة.
[25] لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ الذي لا يسأل فيحسبه الناس غنيا، فيحرمونه.
[26- 27] وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ يوم القيامة. وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون.
[28] إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ أن ينزل بالإنسان.
[29- 30] وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي إمائهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ من استعمال فرجهم في الزوجة و الأمة.
[31- 32] فَمَنِ ابْتَغى طلب وَراءَ ذلِكَ الذي أباحه الله من الزوجة و المملوكة فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ المجاوزون للحدود. وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ أمانة الناس عندهم وَ عَهْدِهِمْ مع الناس راعُونَ يراعون و يحفظون.
[33- 35] وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ يقيمون الشهادة كما تحملوها. وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ بأدائها في أوقاتها. أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ يكرمهم الله و الملائكة و الصالحون.
[36] فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا فأي شي ء للكفار الذين هم قِبَلَكَ عندك مُهْطِعِينَ مسرعين.
[37] عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عن يمينك و شمالك عِزِينَ جماعات متفرقة، جمع (عزة) بمعنى جماعة، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين كان يقرأ القرآن كان الكفار يسرعون نحوه للاستهزاء به فيحفون به جماعات جماعات.
[38] أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ذات نعمة، فإنهم كانوا يقولون: لو كان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صادقا لكان لنا عند الله أفضل مما له، كما تفضل علينا في الدنيا بالمال و الأولاد، و لم يعطها لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[39] كَلَّا لا جنة لهم إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ من نطفة قذرة فلا كرامة لهم ذاتا، و إنما تكون الكرامة و دخول الجنة بالإيمان و العمل الصالح.
تبيين القرآن، ص: 587
[40] فَلا أُقْسِمُ (لا) زائدة للتأكيد، أو تلميح إلى القسم فتكون نافية بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ لأن للشمس في كل يوم مشرقا و مغربا خاصا إِنَّا لَقادِرُونَ.
[41] عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ بأن نهلكهم و نبدلهم بأناس آخرين خيرا منهم، فلا كرامة لهم عندنا، كما يزعمون وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بمغلوبين، بأن يسبقونا، فلا نصل إليهم، كما يسبق من يفرّ ممن يريد أخذه.
[42] فَذَرْهُمْ دعهم و لا تقابلهم بالإساءة يَخُوضُوا يدخلوا في باطلهم وَ يَلْعَبُوا في دنياهم بدون تفكر بالآخرة حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي يوم القيامة.
[43] يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ القبور سِراعاً مسرعين، فرارا من أهوال المحشر بزعمهم كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ صنم يُوفِضُونَ يسرعون، فإنهم كانوا في الدنيا يسرعون إلى الأصنام لعبادتها.
[44] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ ذلا و خوفا تَرْهَقُهُمْ تغشاهم ذِلَّةٌ في ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ به في الدنيا فلا يصدقون به.
مكية آياتها ثمان و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ بأن خوف قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم، في الدنيا بالغرق، و في الآخرة بالنار.
[2] قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ واضح.
[3] أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ اعتقدوا به وَ اتَّقُوهُ خافوا عقابه وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني فيما أمركم الله.
[4] فإن فعلتم ذلك يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعضها، فإن حق الناس يلزم أن يرد إليهم وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ وقت مُسَمًّى قد سمي لكم، بأن تموتوا فيه، و إلا أخذتم بالعذاب قبل انتهاء الأجل الطبيعي إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ الوقت المقرر لموتكم أو عذابكم إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ فبادروا إلى الإيمان قبل فوات الأوان لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الحقائق لعلمتم ما ذكرت لكم.
[5] قالَ نوح عليه السّلام: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً أي دائما.
[6] فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً عن الإيمان.
[7] وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ بأن يؤمنوا حتى تغفر لهم جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلا يسمعوا كلامي وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ تغطوا بها على وجوههم لئلا يروني وَ أَصَرُّوا على كفرهم وَ اسْتَكْبَرُوا تكبروا عن الإيمان اسْتِكْباراً.
[8] ثُمَّ لترتيب الكلام إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً بصوت جهوري.
[9] ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ الدعوة في الملأ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً تكلمت معهم في السر أيضا، و الحاصل تكلمت معهم بكل الوجوه الممكنة.
[10] فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر و العصيان إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً لمن استغفره.
تبيين القرآن، ص: 588
[11] فإن استغفرتم يُرْسِلِ السَّماءَ بإنزال المطر عَلَيْكُمْ مِدْراراً مطرا كثيرا.
[12] وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ أي يكثرها لكم وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ بساتين وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً أي يكثر خيركم.
[13] ما لَكُمْ أي شي ء لكم في أن لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أي ثباتا، فلا تعتقدون بوجوده، فمن لا يعتقد بالله لا يرجوه و لا يخاف عقابه، و أتى بلفظ الرجاء لأن من اعتقد بوجود الله و ثباته رجاه.
[14] وَ الحال قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً طورا بعد طور:
منيا و جنينا و هكذا، فإن هذا الخلق يدل على الخالق فلما ذا لا تعتقدون به.
[15] أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مطابقة بعضها فوق بعض.
[16] وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ في السماوات نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً مصباحا.
[17] وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ أنشأكم مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً إذ الأرض تتحول إلى العشب فيؤكل و تكون دما و نطفة.
[18] ثُمَّ يُعِيدُكُمْ بعد الموت فِيها في الأرض وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً عند القيامة.
[19] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً مبسوطة.
[20] لِتَسْلُكُوا تمشوا مِنْها في بعض الأرض سُبُلًا فِجاجاً واسعات.
[21] قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ أي رؤساءهم الذين لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً فإن الأموال و الأولاد إذا صرفت في عصيان الله سبب زيادة الخسارة، بالإضافة إلى كفر الشخص و عصيانه الشخصي.
[22] وَ مَكَرُوا لأجل إطفاء الدين مَكْراً كُبَّاراً كبيرا جدا.
[23] وَ قالُوا أي الرؤساء للناس لا تَذَرُنَّ لا تدعنّ آلِهَتَكُمْ لتعبدوا إله نوح عليه السّلام، ثم ذكروا خمسة من الآلهة الكبار في نظرهم حيث قالوا: وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً.
[24] وَ قال نوح عليه السّلام: يا رب قَدْ أَضَلُّوا هؤلاء الرؤساء كَثِيراً وَ رب لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أنفسهم بالعناد إِلَّا ضَلالًا بأن تخذلهم أكثر فأكثر.
[25] مِمَّا من أجل خَطِيئاتِهِمْ معاصي أولئك القوم أُغْرِقُوا بالطوفان فَأُدْخِلُوا ناراً في الآخرة فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله أَنْصاراً فلم تنصرهم آلهتهم.
[26] وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ لا تدع عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي أحدا ينزل الدار.
[27] إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ المؤمنين وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً إلا من يؤول أمره إلى الفجور و الكفر.
[28] رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ منزلي مُؤْمِناً حال كونه مؤمنا، فإنهم كانوا يراودون نوح عليه السّلام في داره وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ عامة وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً هلاكا، لأنهم معاندون، فلا يستحقون زيادة نعمة و فضل.
تبيين القرآن، ص: 589
مكية آياتها ثمان و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
[1] قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ أي الشأن اسْتَمَعَ القرآن نَفَرٌ جماعة مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا لقومهم لما رجعوا إليهم إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً بديعا لا يشبه كلام البشر.
[2] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ الصواب فَآمَنَّا بِهِ بالقرآن وَ لَنْ نُشْرِكَ فيما بعد بِرَبِّنا أَحَداً لا نجعل له شريكا.
[3] وَ أَنَّهُ الشأن تَعالى ارتفع جَدُّ رَبِّنا أي عظمته، يقال جد فلان في عيني أي عظم مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً زوجة وَ لا وَلَداً كما يقول الكفار.
[4] وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أي الشيطان لأنه من الجن عَلَى اللَّهِ شَطَطاً قولا كذبا حتى يجعل له الولد و الشريك.
[5] وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي إنما اتبعنا الشيطان السفيه في اتخاذ الولد و الشريك لظننا أنه صادق في قوله.
[6] وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ كان الرجل إذا مشى بقفر يقول أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فَزادُوهُمْ زاد الجن الإنس رَهَقاً تعبا و ظلما بإغوائهم للإنس.
[7] وَ أَنَّهُمْ أي الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً لا يرسل رسولا.
[8] وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ مسسناها لاستراق السمع فَوَجَدْناها مُلِئَتْ السماء حَرَساً من الملائكة شَدِيداً في الحراسة وَ شُهُباً جمع شهاب، و هي لمن استرق السمع من الشياطين.
[9] وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها من السماء مَقاعِدَ مجالس لِلسَّمْعِ إلى كلام الملائكة، و ذلك قبل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ بأن يذهب إلى تلك المقاعد للاستماع يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً قد رصد ليرجم به إذا خطف الخطفة.
[10] وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بنزول العذاب إليهم، و لذا ملأ السماء بالرصد و الحرس، كما أن الحكومة إذا أرادت تدمير بلد أكثرت فيه من الجيش و الأرصاد أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً كما أن الحكومة إذا أرادت البناء و التأسيس و العمران أكثرت من العمال و الموظفين و ما أشبه.
[11] وَ أَنَّا مِنَّا معاشر الجن الصَّالِحُونَ إيمانا و عملا وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ الصلاح بالفسق ثم الكفر كُنَّا طَرائِقَ ذوي طريقات و مذاهب قِدَداً متفرقة.
[12] وَ أَنَّا ظَنَنَّا تيقّنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ بأن ندافع عن ما يريد بنا من التقديرات، في حال كوننا فِي الْأَرْضِ وَ ظننا أن لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً بأن نهرب منه فلا يدركنا.
[13] وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى القرآن آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً نقصا في أجره وَ لا رَهَقاً ظلما و تعبا.
تبيين القرآن، ص: 590
[14] وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون، العادلون عن الحق فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا طلبوا رَشَداً صوابا.
[15] أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً و قودا.
[16] وَ علمنا أَنْ مخففة من الثقيلة لَوِ اسْتَقامُوا أي الثقلان عَلَى الطَّرِيقَةِ الصحيحة و هي الإيمان لَأَسْقَيْناهُمْ التفات من كلام الجن إلى كلام الله تعالى ماءً غَدَقاً كثيرا، و المراد الرزق الكثير فإن الماء يسبب الإرزاق.
[17] لِنَفْتِنَهُمْ نختبرنهم فِيهِ في ذلك الماء، فإن كثرة النعمة امتحان، كما أن البلاء امتحان وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ بأن كفر و عصى يَسْلُكْهُ يدخله عَذاباً صَعَداً يشمله و يصعد على كل جسمه أي صاعدا.
[18] وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ بنيت لأجله فَلا تَدْعُوا في المساجد مَعَ اللَّهِ أَحَداً كما كان المشركون يعبدون الأصنام في مسجد مكة أو المراد بالمساجد الأعم من الأبنية و مواضع السجود.
[19] وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَدْعُوهُ أي يدعو الله وحده كادُوا أي الجن يَكُونُونَ عَلَيْهِ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِبَداً أي مزدحمين لاستماع القرآن.
[20] قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً صنما أو غيره.
[21] قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً نفعا، فلا أقدر على نفعكم أو ضركم لأنهما بيد الله.
[22] قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي يحفظني مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن أراد بي ضرر وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ دون الله مُلْتَحَداً ملجأ أفر إليه إذا أراد بي ضررا.
[23] إِلَّا استثناء من: (لا أملك) بَلاغاً التبليغ إليكم مِنَ اللَّهِ وَ إلا رِسالاتِهِ عطف بيان ل (بلاغا) وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً يبقون فيها إلى الأبد.
[24] حَتَّى غاية لمحذوف دلّ عليه الكلام، أي أن الكفار يستضعفون الأنبياء و المؤمنين إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من العذاب فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً أعوانا، هم أم الأنبياء؟.
[25] قُلْ إِنْ أَدْرِي لست أعلم أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً مدة بعيدة إنه كائن لا محالة لكن لا أعلم وقته.
[26] هو تعالى عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس فَلا يُظْهِرُ لا يعلم عَلى غَيْبِهِ أَحَداً من خلقه.
[27] إِلَّا مَنِ ارْتَضى اختاره الله لأن يطلعه على بعض غيبه مِنْ رَسُولٍ و علم الأئمة عليه السّلام بواسطة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد الغيب الخاص بالله، أما ما جعل الله له طرقا، و لو بواسطة تصفية النفس كما نرى في الزهاد و من إليهم فليس من الغيب الخاص بالله فَإِنَّهُ أي الله يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً يجعل ملائكه حوالي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حينذاك يوحى إليه بالغيب، حفظا للوحي من تخاليط الشيطان، و من المعلوم أن هذا تشريفي، كسائر شؤون الكون مثل جعل الحفظة لأعمال الإنسان، مع أن الله مطلع، و هكذا.
[28] لِيَعْلَمَ أي ليحصل علمه تعالى في الخارج أَنْ مخففة من الثقيلة قَدْ أَبْلَغُوا الرسل، أو الملائكة الرصد الذين يأتون بعلم الغيب إلى الرسول رِسالاتِ رَبِّهِمْ بلا زيادة أو نقصان وَ قد أَحاطَ الله علما بِما لَدَيْهِمْ مما يفعلون فليس الرصد لعلمه بواسطتهم وَ أَحْصى علما كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً فمن يعلم عدد الأشياء و يعلم ما لدى الناس، عالم بالجميع.
تبيين القرآن، ص: 591
مكية آياتها عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أي المتلفف بثيابه، و المراد به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لعله أوحي إليه حال كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نائما في الليل، كما يلمح إلى ذلك قوله: قُمِ اللَّيْلَ أي للصلاة في الليل إِلَّا قَلِيلًا من الليل فنم فيه.
[3] نِصْفَهُ بدل من (الليل) أَوِ انْقُصْ مِنْهُ من النصف قَلِيلًا.
[4] أَوْ زِدْ عَلَيْهِ على النصف، و الحاصل قم نصف الليل أو أكثر منه أو أقل، و لا يخفى إن الإنسان إذا قام بالعبادة بمقدار نصف الليل، يقال: نام البارحة قليلا، فهو اصطلاح، لا أن المراد القليل من الليل لغة حتى يقال: كيف يحمل لفظ (قليلا) على ظاهره وَ رَتِّلِ اقرأ بهدوء الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.
[5] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا أي القرآن ثَقِيلًا و المراد الآيات التي تنزل بعد ذلك، و ثقلها لما فيها من الأحكام الشاقة و الأوامر و النواهي الصعبة على النفس عملا، و تبليغا.
[6] إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ العبادة التي تنشأ في الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً صعوبة على الإنسان لأن ذلك وقت النوم اللذيذ وَ أَقْوَمُ قِيلًا أي أصوب قولا، لكثرة ثوابه.
[7] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً تقلبا في حوائجك طَوِيلًا فلا تفرغ لمناجاة الله، و لذا أمرت بالعبادة في الليل، أو المراد: تسبيحا، فيكون أمرا بصورة خبر، أي سبحه في النهار سبحا طويلا- أيضا-.
[8] وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ دائما وَ تَبَتَّلْ انقطع إِلَيْهِ في العبادة تَبْتِيلًا.
[9] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا موكلا إليه أمورك فإنه يكفيكها.
[10] وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من تكذيبك وَ اهْجُرْهُمْ فلا تقابلهم بالمثل هَجْراً جَمِيلًا بالمداراة لئلا تستفزهم.
[11] وَ ذَرْنِي دعني وَ الْمُكَذِّبِينَ فإنا أجازيهم، و بي غنية عنك أُولِي النَّعْمَةِ أصحاب النعمة أي صناديد قريش وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا زمانا قليلا فإني سوف آخذهم و أنصرك عليهم.
[12] إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا جمع نكل و هو القيد الثقيل وَ جَحِيماً جهنما.
[13- 14] وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ ينشب في الحلق لمرارته و حرارته و عفوصته و نتنه، و الغصة ما اعترض في الحلق وَ عَذاباً أَلِيماً مؤلما. و ذلك في يَوْمَ و هو يوم القيامة تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ تتزلزل وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً رملا مَهِيلًا منشورا فإنها تتحرك من هنا إلى هناك.
[15- 16] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يا أهل مكة رَسُولًا محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا موسى عليه السّلام. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ المبعوث إليه فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا شديدا أليما، بالغرق.
[17] فَكَيْفَ تَتَّقُونَ و تدفعون العذاب إِنْ كَفَرْتُمْ في الدنيا يَوْماً أي عذاب يوم يَجْعَلُ ذلك اليوم الْوِلْدانَ أي الأولاد شِيباً جمع أشيب، لشدة هوله و طول مدته.
[18- 19] السَّماءُ مُنْفَطِرٌ منشق بِهِ أي تنشق و (به) لأجل التعدية كانَ وَعْدُهُ وعد الله بإتيان ذلك اليوم مَفْعُولًا كائنا لا محالة. إِنَّ هذِهِ الآيات تَذْكِرَةٌ مذكرة لكم فَمَنْ شاءَ الهداية بهذه الآيات اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ رضاه تعالى سَبِيلًا بأن سلك السبيل الموجب لرضوانه.
تبيين القرآن، ص: 592
[20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أقل مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ في بعض الليالي كسبع ساعات من ليلة اثنتي عشرة ساعة- مثلا- وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ كست و أربع، في بعض الليالي الأخر وَ تقوم أيضا للعبادة طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ من المؤمنين وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أي يوجدهما مقدرين بالمقادير المضبوطة بالامتداد تارة و التقليص أخرى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ لا تقدرون على قيام تمام الليل، فالله المقدر عالم بحالكم فَتابَ عَلَيْكُمْ بأن خفف في قيام الليل، و أصل التوبة العطف، و إلا كان مقتضى العبودية أن يقوم الإنسان كل الليل مناجيا مصليا فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ في الليل عند العبادة، في الصلاة و خارجها عَلِمَ ضعف حالكم، فلم يأمركم بقيام تمام الليل، فالمشقة النوعية سبب إسقاط التكليف الاستحبابي أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى و المريض لا يقدر على السهر وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يسافرون يَبْتَغُونَ يطلبون مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بالتجارة، و المسافر قد تعب في النهار فلا يقدر على السهر وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فالمجاهد ذو تعب كثير فيريد النوم ليلا فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ما سهل من القرآن، ليلا وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً بالإنفاق في سبيله، فإنه قرض يرده الله عليكم حَسَناً بإخلاص وَ ما تُقَدِّمُوا إلى الآخرة لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ عمل أو
مال تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ في الآخرة هُوَ التقديم يكون لكم خَيْراً من البخل و التقصير وَ أَعْظَمَ أَجْراً ثوابا وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ اطلبوا غفرانه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ كثير الغفران رَحِيمٌ يرحم عباده المؤمنين.
مكية آياتها ست و خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أي المتغطي بالدثار، و المراد به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] قُمْ من مضجعك فَأَنْذِرْ الناس، خوفهم من بأس الله.
[3] وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ عظّمه عما لا يليق به.
[4] وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ عن الأدناس، و من جملة التطهير تقصيره.
[5] وَ الرُّجْزَ الأوثان فَاهْجُرْ ابتعد عنه.
[6] وَ لا تَمْنُنْ في عطيتك تَسْتَكْثِرُ بأن تراه كثيرا.
[7] وَ لِرَبِّكَ لذاته تعالى فَاصْبِرْ على ما تلاقيه من الأذى.
[8] فَإِذا نُقِرَ نفخ فِي النَّاقُورِ الصور.
[9] فَذلِكَ النقر يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم و هو يوم القيامة يَوْمٌ عَسِيرٌ شديد.
[10] عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ غير سهل.
تبيين القرآن، ص: 593
[11] ذَرْنِي دعني فإني أكفيكه وَ مَنْ خَلَقْتُ أي الوليد بن مغيرة وَحِيداً في حال كونه بلا ولد و لا مال ثم تفضلت عليه حيث:
[12] وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً كثيرا مبسوطا.
[13] وَ بَنِينَ شُهُوداً حاضرين معه بمكة يتمتع بلقائهم.
[14] وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً هيأت له الأمور من الجاه و الرئاسة.
[15] ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ فيما أنعمت به عليه.
[16] كَلَّا لا أزيده ف إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً معاندا، و المعاندة تسلب النعمة و لا تزيدها فإن الشكر يزيد النعمة.
[17] سَأُرْهِقُهُ أكلفه في الآخرة صَعُوداً عذابا يصعد عليه، أو جبلا يصعد عليه في جهنم، كما صعد بأنفه في الدنيا.
تبيين القرآن، ص: 594
[18] إِنَّهُ تعليل آخر للوعيد فَكَّرَ فيما يطعن به القرآن وَ قَدَّرَ ذلك في نفسه.
[19] فَقُتِلَ دعاء عليه بأن يقتله الله كَيْفَ قَدَّرَ.
[20] ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ استهزاء بتقديره السخيف.
[21] ثُمَّ نَظَرَ في أمر القرآن ماذا يطعنه به.
[22] ثُمَّ عَبَسَ قطّب وجهه كما يفعل من يفكر في مؤامرة سيئة وَ بَسَرَ و اهتم لذلك، أو عبارة أخرى عن العبوس.
[23] ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق وَ اسْتَكْبَرَ تكبر.
[24] فَقالَ إِنْ ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يروى عن السحرة.
[25] و قال: إِنْ هذا ما هذا القرآن إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ و ليس كلام الله.
[26] سَأُصْلِيهِ أدخله في الآخرة سَقَرَ النار.
[27] وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ إنها أعظم من أن يدرك حقيقة عذابها الإنسان.
[28] لا تُبْقِي شيئا يدخلها وَ لا تَذَرُ لا تتركه حتى تهلكه و تغطيه بأشد العذاب.
[29] لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ مغيرة لظاهر الجلود بالإحراق.
[30] عَلَيْها من الملائكة الذين هم خزنتها تِسْعَةَ عَشَرَ ملكا.
[31] وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ أي الموكلين بها إِلَّا مَلائِكَةً فلا يتمكن أهل النار من مقاومتهم، لقوتهم، و لا يرحمون لأنهم لا يحسون بحس البشر وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ أي جماعتهم إِلَّا فِتْنَةً تعذيبا لِلَّذِينَ كَفَرُوا فإن كثرة العدد أشد في الإيلام من أن يكون واحدا، مع أنه كان يمكن أن يكون الخازن واحدا لِيَسْتَيْقِنَ يعلم الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود صدق النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث أخبر بحقائق هم يجدونها في كتبهم وَ ل يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِيماناً فإن التخويف يزيد المؤمن إيمانا وَ لكي لا يَرْتابَ لا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فإن من تيقن لا يدخله الريب في المستقبل وَ لا يرتاب الْمُؤْمِنُونَ و المعنى للعلم و الإيمان حالا و مستقبلا وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من أهل النفاق وَ الْكافِرُونَ علنا ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي بهذا المطلب الذي قاله من أن أصحاب النار ملائكة بهذا العدد، إذ الحق يزيد المبطل ضلالا، فالإتيان بالحق لأجل تقوية المؤمنين، و زيادة ضلال المبطلين حتى يصلوا إلى جزائهم المقرر كَذلِكَ أي هكذا بإنزال الآيات الموجبة لضلال الكفار و المنافقين و زيادة إيمان المؤمنين يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ بتركهم حتى يضلوا وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ كم هم و كيف هم إِلَّا هُوَ وَ ما هِيَ هذه السورة أو الآيات إِلَّا ذِكْرى تذكرة لِلْبَشَرِ.
[32] كَلَّا ليس الأمر كما زعم الكفار من أنه لا جنة و لا نار وَ الْقَمَرِ قسما به.
[33] وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ بأن ذهب.
[34] وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أضاء.
[35] إِنَّها أي سقر لَإِحْدَى الدواهي الْكُبَرِ جمع كبرى أي عظمى.
[36] نَذِيراً موجبا تخويفا لِلْبَشَرِ.
[37] لِمَنْ بدل من (البشر) شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بأن يتقدم إلى الخير أو يتأخر في إتيان الخير.
[38] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ مرهونة فإذا قدّم العمل الصالح فك نفسه من عذاب الله.
تبيين القرآن، ص: 595
[39] إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ الذين يؤتون صحائف أعمالهم بأيمانهم فإنهم يذهبون إلى الجنة إذ لا عمل فاسد لهم.
[40] فهم فِي جَنَّاتٍ البساتين يَتَساءَلُونَ يسألون.
[41] عَنِ الْمُجْرِمِينَ الذين دخلوا في النار.
[42] ما سَلَكَكُمْ أدخلكم فِي سَقَرَ النار.
[43] قالُوا أي المجرمون في جوابهم لَمْ نَكُ في الدنيا مِنَ الْمُصَلِّينَ.
[44] وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ لم نزكّ أموالنا.
[45] وَ كُنَّا نَخُوضُ ندخل في الباطل مَعَ الْخائِضِينَ.
[46] وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الجزاء فكنا لا نعتقد بالجزاء.
[47] حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت.
تبيين القرآن، ص: 596
[48] فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ فإنهم لو شفعوا لهم فرضا لا تنفعهم لأن الشفاعة لمن أسلم.
[49] فَما لَهُمْ أي شي ء لهم في إعراضهم عَنِ التَّذْكِرَةِ أي التذكر بسبب القرآن مُعْرِضِينَ.
[50] كَأَنَّهُمْ في تنفّرهم عن التذكّر و بلادتهم حُمُرٌ جمع حمار مُسْتَنْفِرَةٌ وحشية متنفرة.
[51] فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أسد.
[52] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ من هؤلاء الكفار أَنْ يُؤْتى يعطيه الله صُحُفاً مُنَشَّرَةً حيث إنهم قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء.
[53] كَلَّا إنهم لا يريدون الحجة لأن الحجة تمت عليهم بَلْ لا يؤمنون لأنهم لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذا أعرضوا عن التذكر و الإيمان.
[54] كَلَّا ليس الأمر على ما زعموا حتى لا يخافون إِنَّهُ أي القرآن تَذْكِرَةٌ مذكر لهم.
[55] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ اتعظ به.
[56] وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بأن يجبرهم لأنهم معاندين هُوَ أَهْلُ التَّقْوى أهل لأن يتقى منه و يخاف وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ بأن يغفر للمؤمنين.
مكية آياتها أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] لا إما زائدة للتأكيد، أو إشارة إلى القسم بلفظ النفي، كما يقال: لا أحلف بك لكن الأمر هكذا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ.
[2] وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ المؤمنة التي تلوم صاحبها دائما على ترك الخير و الإتيان بمكروه.
[3] أَ يَحْسَبُ هل يزعم الْإِنْسانُ المنكر للبعث أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بعد الموت و تفرقها.
[4] بَلى نجمعها في حال كوننا قادِرِينَ نقدر عَلى أَنْ نُسَوِّيَ و نحيي بَنانَهُ أنامله، فإن الأنملة لخطوطها المختلفة من أصعب الأشياء إعادة بالنسبة إلى القدرة البشرية المحدودة.
[5] بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي يدوم على فجوره في أوقاته الباقية من عمره، فإنه لا يريد تقييد نفسه بالدين و الإيمان.
[6] يَسْئَلُ استهزاء أَيَّانَ متى يَوْمُ الْقِيامَةِ.
[7] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ تحير رعبا، يقال برق الرجل إذا دهش بصره.
[8] وَ خَسَفَ الْقَمَرُ ذهب نوره.
[9] وَ جُمِعَ في مكان واحد و المراد طلوع الشمس من المغرب الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ.
[10] يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ في هذا اليوم أَيْنَ الْمَفَرُّ أي لا محل للفرار، فالاستفهام لليأس.
تبيين القرآن، ص: 597
[11] كَلَّا لا مفرّ لا وَزَرَ لا محل يعتصم به الإنسان.
[12] إِلى رَبِّكَ إلى أمره و جزائه يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ محل استقرار العباد لحسابهم و جزائهم.
[13] يُنَبَّأْ يخبر لأن يجزى الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ إلى الآخرة في حياته وَ أَخَّرَ بأن تركه بعد وفاته كسنة حسنة أو سيئة.
[14] بَلِ لا يحتاج الْإِنْسانُ إلى أن ينبأ لأنه عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ التاء للمبالغة.
[15] وَ لَوْ أَلْقى أعطى و جاء ب مَعاذِيرَهُ بأعذاره فإنه يعلم كذبها.
[16] لا تُحَرِّكْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِهِ بالقرآن لِسانَكَ قبل إتمام وحيه لِتَعْجَلَ بِهِ لتأخذه بعجلة فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يتابع جبرئيل في القراءة خوفا من أن ينسى.
[17] إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك وَ قُرْآنَهُ قراءته.
[18] فَإِذا قَرَأْناهُ أي قرأه جبرئيل فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي قراءته بعد استماعه تماما.
[19] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ بتفهيمك إياه.
تبيين القرآن، ص: 598
[20] كَلَّا إنهم يعاندون القرآن و لا يريدون الحق بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي الدنيا.
[21] وَ تَذَرُونَ تدعون الْآخِرَةَ أي العمل لها.
[22] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ في يوم القيامة ناضِرَةٌ ذات بهجة.
[23- 24] إِلى رَبِّها إلى رحمته تعالى ناظِرَةٌ لأنه ينتظر الرحمة. وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ عابسة.
[25] تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ داهية تقصم فقار الظهر.
[26- 27] كَلَّا لا تنتظرون رحمة الله إِذا بَلَغَتِ النفس التَّراقِيَ أعالي الصدر. وَ قِيلَ قالت الملائكة الذين حوله مَنْ راقٍ يرقى بها إلى الملأ الأعلى، أي هل يذهب بها ملائكة الرحمة أو العذاب.
[28- 29] وَ ظَنَّ المحتضر أَنَّهُ الْفِراقُ إن ما حل به هو فراق الدنيا. وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ساقه بساقه من كرب الموت فلا يقدر على تحريكهما.
[30] إِلى حكم رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ السوق.
[31] فَلا صَدَّقَ بالحق وَ لا صَلَّى لله.
[32] وَ لكِنْ كَذَّبَ بالحق وَ تَوَلَّى أعرض عن الإيمان.
[33] ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر إعجابا بنفسه.
[34] أَوْلى لَكَ فَأَوْلى هذا مثل، أي المكروه أولى لك، و هذا دعاء عليه.
[35- 36] ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً هملا بلا تكليف و لا جزاء.
[37] أَ لَمْ يَكُ في أوله نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى يراق في الرحم.
[38] ثُمَّ كانَ عَلَقَةً قطعة دم فَخَلَقَ الله إياه إنسانا فَسَوَّى فعدّله.
[39] فَجَعَلَ مِنْهُ من هذا الأصل الزَّوْجَيْنِ الصنفين الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى .
[40] أَ لَيْسَ ذلِكَ الفاعل لهذه الأمور بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فإن من خلق ابتداء قادر على الإعادة، فكيف ينكر هؤلاء المعاد.
مدنية آياتها إحدى و ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ جنسه حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ مدة من الزمان لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً يذكر، بل كان عدما محضا، و الاستفهام لأجل التقرير و تذكيرهم بأصلهم.
[2] إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ مني أَمْشاجٍ أخلاط من ماء الزوجين نَبْتَلِيهِ لأجل أن نمتحنه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً لأجل أن يكون قابلا للامتحان.
[3] إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ طريق الخير و الشر إِمَّا شاكِراً لنعم الله بالإيمان و الطاعة وَ إِمَّا كَفُوراً بأنعم الله.
[4] إِنَّا أَعْتَدْنا هيّأنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ لأن يغلوا بها وَ أَغْلالًا وَ سَعِيراً في نار ملتهبة.
[5] إِنَّ الْأَبْرارَ جمع بار يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ إناء من خمر الجنة كانَ مِزاجُها ما مزج بتلك الكأس كافُوراً في بياضه و عطره.
تبيين القرآن، ص: 599
[6] و ترى في الجنة عَيْناً من الماء أو اللبن يَشْرَبُ بِها منها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يظهرونها حيث ما شاءوا من أماكن الجنة.
[7] و من صفاتهم أنهم يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ شر ذلك اليوم مُسْتَطِيراً منتشرا في كل الجهات.
[8] وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ حب الله تعالى مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً من الكفار عند المسلمين، فقد نذر علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم الصلاة و السلام) أن يصوموا ثلاثة أيام فصاموا و أعطوا إفطارهم ليلة للمسكين و ليلة لليتيم و ليلة للأسير فنزلت فيهم هذه السورة.
[9] قائلين إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ تقربا لمرضاته لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً في إطعامكم وَ لا شُكُوراً شكرا على الطعام- و الشكور مصدر-.
[10] إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا عذابه يَوْماً عَبُوساً تعبس فيه الوجوه قَمْطَرِيراً مكفهرا.
[11] فَوَقاهُمُ حفظهم اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ يوم القيامة وَ لَقَّاهُمْ كساهم و أعطاهم نَضْرَةً حسنا في وجوههم وَ سُرُوراً في نفوسهم.
[12] وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا في مقابل صبرهم على الطاعة جَنَّةً يسكنونها وَ حَرِيراً يلبسونه.
[13- 15] في حال كونهم مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة و هي السرير لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً أي حر الشمس وَ لا زَمْهَرِيراً أي بردا. وَ دانِيَةً حال، أي قريبة عَلَيْهِمْ ظِلالُها ظلال أشجارها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها سهل أخذ ثمارها لأنها قريبة تَذْلِيلًا. وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ يأتي إليهم ولدان الجنة بِآنِيَةٍ ظرف مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ أباريق بلا عروة، جمع كوب كانَتْ قَوارِيرَا زجاجا.
[16] قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ جامعة لصفاء الزجاج و بياض الفضة قَدَّرُوها تَقْدِيراً فلها شكل مقدر لا التواء فيها و لا اعوجاج.
[17- 18] وَ يُسْقَوْنَ فِيها في الجنة كَأْساً من الخمر كانَ مِزاجُها أي الذي مزج بخمر الكأس زَنْجَبِيلًا فإن طعمه لذيذ «1». و ترى عَيْناً فِيها في الجنة تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا سلسالا عذبا.
[19] وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ لخدمتهم مُخَلَّدُونَ دائمون في الجنة إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ ظننتهم لُؤْلُؤاً لبياضهم و صفائهم مَنْثُوراً لانتشارهم في الخدمة هنا و هناك.
[20] وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ هناك في الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً كبيرا وَ مُلْكاً كَبِيراً متسعا.
[21] عالِيَهُمْ فوقهم ثِيابُ سُندُسٍ ما رق من الحرير خُضْرٌ جمع أخضر وَ إِسْتَبْرَقٌ ما غلظ من الديباج [22] وَ حُلُّوا زينوا أَساوِرَ ما يوضع في يد الإنسان مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً طاهرا من الأقذار.
[22] إِنَّ هذا الثواب كانَ لَكُمْ جَزاءً على أعمالكم الصالحة وَ كانَ سَعْيُكُمْ للآخرة مَشْكُوراً مقبولا عند الله.
[23] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فلا تهتم بما يرموك من الأقاويل الباطلة.
[24] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بتبليغه وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً عاصيا أَوْ كَفُوراً كافرا كثير الكفر.
[25] وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً صباحا وَ أَصِيلًا عصرا، أي دائما.
__________________________________________________
(1) الزنجبيل: نبت طيب الطعم.
تبيين القرآن، ص: 600
[26] وَ مِنَ اللَّيْلِ بعضه فَاسْجُدْ لَهُ لربك وَ سَبِّحْهُ نزهه لَيْلًا طَوِيلًا أي في طول الليل أي وقت منه.
[27] إِنَّ هؤُلاءِ الكفار و العصاة يُحِبُّونَ الدنيا الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ كأن الآخرة خلفهم لأنهم مقبلون على الدنيا يَوْماً ثَقِيلًا عليهم، فلا يعملون له.
[28] نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ أحكمنا ربط مفاصلهم وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا هم ب أَمْثالَهُمْ بأن أهلكناهم و جئنا بأمثالهم تَبْدِيلًا.
[29] إِنَّ هذِهِ السورة أو الآيات تَذْكِرَةٌ موعظة لهم فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ إلى رضاه سَبِيلًا بأن سلك سبيل الطاعة.
[30] وَ ما تَشاؤُنَ اتخاذ السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بأن ينزل إليكم الهدى، إذ مشيئة الإنسان للهداية لا تنفع إذا لم يكن هناك بعث رسول و إنزال كتاب إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بكل شي ء حَكِيماً في تدبيره.
[31] يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ أي المؤمنين فِي رَحْمَتِهِ أي الجنة وَ الظَّالِمِينَ بالكفر و العصيان أَعَدَّ هيأ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما.
مكية آياتها خمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ الْمُرْسَلاتِ قسما بالملائكة المرسلة بأوامره تعالى عُرْفاً متتابعة كعرف الفرس، و هو شعره الكائن في أطراف عنقه.
[2] فقسما بالملائكة العاصفات التي تعصف عند هبوطها و صعودها عَصْفاً كعصف الرياح أي هبوبها.
[3] وَ قسما بالملائكة النَّاشِراتِ التي تنشر الكتب المنزلة من السماء، أو نشر الشرائع، أو تنشر أجنحتها نَشْراً.
[4] فقسما بالملائكة الفارقات التي تفرق بين الحق و الباطل بسبب ما أتوا به من الدين إلى الأنبياء عليهم السّلام فَرْقاً.
[5] فَالْمُلْقِياتِ الملائكة التي تلقي ذِكْراً إلى الأنبياء عليهم السّلام و المراد به كل ما يذكر الإنسان بالآخرة من الكتب المنزلة و غيرها، و الحاصل قسما بالملائكة التي أرسلت إلى الأرض فعصفت فنشرت الشرائع ففرقت بين الحق و الباطل فألقت الآيات إلى الأنبياء، و الفاء للترتيب الذكري، و في الآيات تفاسير أخر.
[6] عُذْراً إنما أتى بالذكر لأجل أن يكون عذرا لمن آمن أَوْ نُذْراً مخوفا لمن كفر و عصى.
[7- 8] إِنَّما جواب القسم تُوعَدُونَ من قيام الساعة لَواقِعٌ لا محالة. فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ محق نورها.
[9- 10] وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ انشقت. وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أقلعت عن أماكنها.
[11- 13] وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ جمعت لوقتها المقرر و هو يوم القيامة. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي أخرت جمع الرسل، و الاستفهام للتهويل. لِيَوْمِ الْفَصْلِ بين الخلائق بإثابة المحق و عقاب المبطل.
[14] وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ هذا للتهويل، أي لا يعلم حقيقة يوم الفصل و أهواله أحد.
[15- 19] وَيْلٌ هلاك يَوْمَئِذٍ في هذا اليوم لِلْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا بالمبدأ و المعاد. أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ بالعذاب، كقوم نوح عليه السّلام و عاد. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ في الإهلاك الْآخِرِينَ من الكفار، ككفار مكة. كَذلِكَ الإهلاك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
تبيين القرآن، ص: 601
[20] أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ نطفة مَهِينٍ حقير ذليل.
[21] فَجَعَلْناهُ أي الماء: النطفة فِي قَرارٍ الرحم مَكِينٍ محفوظ.
[22] إِلى قَدَرٍ مقدار مَعْلُومٍ من الوقت كتسعة أشهر.
[23] فَقَدَرْنا أي قدرناه تقديرا فَنِعْمَ نحن الْقادِرُونَ على ما أردنا.
[24- 25] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أي محل ضم و جمع، من كفت بمعنى ضم.
[26] أَحْياءً على ظهرها وَ أَمْواتاً في بطنها فهي تجمع البشر في كل حال.
[27] وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ جبالا شامِخاتٍ طويلات وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً عذبا، بأن خلقنا لكم الماء.
[28- 29] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ انْطَلِقُوا اذهبوا أيها الكفار في يوم القيامة إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من جزائكم.
[30] انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ دخان جهنم ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ شعبة للكفار و أخرى للمنافقين و ثالثة للعصاة، و المراد الانطلاق إلى النار التي فوقها الدخان.
[31] لا ظَلِيلٍ ليس ببارد وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ حرارة النار إذ ليس جسما يحول دون لهب النار.
[32] إِنَّها أي النار، أو الشعب تَرْمِي تقذف بِشَرَرٍ من الحمم التي تطايرها النار كَالْقَصْرِ كل شرارة منها كالقصر في عظمتها.
[33] كَأَنَّهُ أي الشرر، في لونه و كثرته و تتابعه جِمالَتٌ جمع جمل، أي الإبل صُفْرٌ جمع أصفر، فلا رماد معه.
[34- 35] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ أي الكفار بما ينفعهم.
[36] وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ عذرا واهيا، و هذا موقف من مواقف القيامة.
[37- 38] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحق و المبطل جَمَعْناكُمْ يا كفار مكة وَ الْأَوَّلِينَ من كفار سائر الأمم.
[39] فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ حيلة لنجاتكم من العذاب فَكِيدُونِ و هذا لبيان عجزهم.
[40- 41] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ فوق رؤوسهم وَ عُيُونٍ جارية تحت أرجلهم.
[42] وَ فَواكِهَ مِمَّا من جنس ما يَشْتَهُونَ.
[43] كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً لا أذى في الأكل و الشرب بِما بمقابل ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا.
[44] إِنَّا كَذلِكَ هكذا نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
[45- 46] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا أيها المجرمون في دار الدنيا وَ تَمَتَّعُوا تلذذوا بمتاع الدنيا قَلِيلًا في أيام قليلة إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ فعاقبتكم سيئة.
[47- 48] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا اخشعوا لله لا يَرْكَعُونَ.
[49- 50] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا بالقرآن.
تبيين القرآن، ص: 602
مكية آياتها أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] عَمَّ أي عن ماذا يَتَساءَلُونَ يسأل الكفار بعضهم بعضا.
[2] و الجواب يتساءلون عَنِ النَّبَإِ الخبر الْعَظِيمِ أي البعث، فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أخبرهم بذلك أخذ بعضهم يسأل الآخر: ماذا يقول محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و في التأويل: إن المراد بالنبإ أمير المؤمنين علي عليه السّلام.
[3] الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ بالتصديق و التكذيب، فإن بعض الكفار كانوا يؤمنون بالبعث.
[4] كَلَّا ليس كما زعموا أنه لا بعث سَيَعْلَمُونَ صدق ذلك إذا ماتوا.
[5] ثُمَّ لتأكيد الأمر كَلَّا سَيَعْلَمُونَ.
[6] أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً مهدا للبشر، فمن يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة.
[7] وَ الْجِبالَ أَوْتاداً كالمسامير المثبتة بالخشبة.
[8] وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أصنافا، أو ذكرا و أنثى.
[9] وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً قاطعا للعمل، لأجل الراحة.
[10] وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً كالغطاء يستركم.
[11- 12] وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً وقت معاش لتحصيل الرزق. وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً سبع سماوات شِداداً محكمات.
[13] وَ جَعَلْنا في السماء سِراجاً الشمس وَهَّاجاً منيرا متلألئ
[14] وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ من الرياح التي تعصر السحاب، و من للابتداء ماءً ثَجَّاجاً منصبا بكثرة.
[15] لِنُخْرِجَ بِهِ بالماء حَبًّا كالحبة وَ نَباتاً كالحشيش.
[16] وَ نخرج به جَنَّاتٍ بساتين أَلْفافاً ملتفة بعضها ببعض.
[17] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي القيامة الذي يفصل فيه بين المحق و المبطل كانَ مِيقاتاً وقتا للجزاء.
[18] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ البوق، ينفخ فيه إسرافيل لإحياء الناس فَتَأْتُونَ إلى المحشر أيها البشر أَفْواجاً جماعات.
[19] وَ فُتِحَتِ السَّماءُ ظهر فيها الفرج لنزول الملائكة فَكانَتْ الفتحات أَبْواباً للصعود و الهبوط.
[20] وَ سُيِّرَتِ أزيلت عن أماكنها الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً كالسراب يظن أنها جبال و ليست بجبال.
[21] إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً يرصد فيها خزنة النار للكفار منتظرين لإيقاعهم فيها.
[22] لِلطَّاغِينَ الذين طغوا بالكفر و العصيان مَآباً مرجعا و محلا.
[23- 24] لابِثِينَ ماكثين فِيها أَحْقاباً دهورا متتابعة. لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً هواء باردا وَ لا شَراباً يسكن عطشهم.
[25] إِلَّا حَمِيماً ماء حارا وَ غَسَّاقاً ما يسيل من الجرح أي الصديد.
[26] و يكون هذا لهم جَزاءً وِفاقاً موافقا لأعمالهم في الدنيا.
[27] إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ لا يتوقعون حِساباً لأعمالهم، أي أنكروا المعاد.
[28] وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي أتت بها الرسل كِذَّاباً تكذيبا.
[29] وَ كُلَّ شَيْ ءٍ كل عمل صدر منهم أَحْصَيْناهُ كتبناه كِتاباً كتابة.
[30] فيقال لهم هناك ذوقوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فإن الاستمرار يوجب زيادة و إضافة كل حين على سابقه.
تبيين القرآن، ص: 603
[31] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً فوزا.
[32] حَدائِقَ بساتين وَ أَعْناباً.
[33] وَ كَواعِبَ جاريات ظهرت أثداءهن جديدا أَتْراباً في عمر أزواجهن.
[34] وَ كَأْساً من الخمر دِهاقاً مملوءة.
[35] لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنة قولا لَغْواً وَ لا كِذَّاباً تكذيبا من بعضهم لبعض.
[36] جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً بدل من (جزاء) حِساباً بالحساب، فليس إعطاؤها لهم اعتباطا.
[37] رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ بدل من (رب) لا يَمْلِكُونَ لا يملك أحد مِنْهُ تعالى خِطاباً أي كلاما، فالتكلم إنما يكون هناك بإذنه، و لم يملك أحدا أن يتكلم بدون إذنه.
[38] يَوْمَ ظرف لما سبق يَقُومُ الرُّوحُ جبرئيل وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا مصطفين كما يصطف الجنود لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بأن يتكلم وَ قالَ حينذاك صَواباً كلاما صحيحا.
[39] ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ الثابت الوقوع لا محالة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى ثواب رَبِّهِ مَآباً مرجعا بأن يطيعه فيما أمر.
[40]نَّا أَنْذَرْناكُمْ يا كفار مكةذاباً قَرِيباً فإن الآخرة قريبة إلى الإنسان یوْمَ هو يوم القيامةنْظُرُ الْمَرْءُ يرى لأن يجزى به ما قَدَّمَتْ يَداهُ من خير و شر يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً فلم أخلق في الدنيا، أو بقيت ترابا في القبر، أو صرت الآن ترابا.
مكية آياتها ست و أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ النَّازِعاتِ قسما بالملائكة التي تنزع أرواح الناس غَرْقاً مستوفيا في النزع.
[2] وَ النَّاشِطاتِ الملائكة الجاذبات للأرواح بعد إخراجها، من نشط إذا جذب نَشْطاً.
[3] وَ السَّابِحاتِ في الفضاء لأجل إيصال الأرواح إلى أماكنها سَبْحاً.
[4] فَالسَّابِقاتِ الملائكة التي تسبق إلى ما أمر الله في إيصال الأرواح إلى أماكنها سَبْقاً.
[5] فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً الملائكة التي تدبر أمور الأرواح من إيصالها إلى النعيم أو الجحيم، و في الآيات تفاسير أخر.
[6] يَوْمَ ظرف ل (قلوب) و هو يوم القيامة تَرْجُفُ تضطرب الرَّاجِفَةُ الأرض، بسبب الزلزال، و ذلك في النفخة الأولى لإماتة الناس.
[7] تَتْبَعُهَا أي تتبع الراجفة الرَّادِفَةُ النفخة التي تردفها لإحياء الناس.
[8] قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ قلقة من الخوف.
[9] أَبْصارُها أبصار أصحاب تلك القلوب خاشِعَةٌ ذليلة.
[10] يَقُولُونَ أي الكفار المنكرون للبعث: أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ نرجع إلى الحياة إذا صرنا فِي الْحافِرَةِ القبور تبيين القرآن، ص: 604
المحفورة أي إذا متنا.
[11] أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً بالية.
[12] قالُوا أي الكفار: تِلْكَ الرجعة إِذاً إذا كانت كما تقولون كَرَّةٌ رجعة إلى الحياة خاسِرَةٌ لأنها توجب خسارة الإنسان.
[13] و جوابهم فَإِنَّما هِيَ الكرة زَجْرَةٌ صيحة واحِدَةٌ يصيح بهم إسرافيل فيحيون.
[14] فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أي حاضرون في عرصة القيامة.
[15] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى قصة موسى عليه السّلام مع قومه، فاصبر يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما صبر موسى عليه السّلام على تكذيب القوم.
ين القرآن، ص: 605
[16] إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ المطهر لأنه محل لطف الله طُوىً اسم الوادي.
[17] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى تجاوز الحد في الكفر و العصيان.
[18] فَقُلْ هَلْ لَكَ هل تريد إِلى أَنْ تَزَكَّى تتطهر.
[19] وَ أَهْدِيَكَ أدلك إِلى رَبِّكَ على معرفة ربك فَتَخْشى عقابه أي تعمل صالحا حتى لا تعاقب.
[20] فَأَراهُ أرى موسى عليه السّلام فرعون الْآيَةَ الْكُبْرى المعجزة العظيمة، أي جنسها كالعصا.
[21- 22] فَكَذَّبَ بالآية و قال إنها سحر وَ عَصى الله فيما أمره موسى عليه السّلام. ثُمَّ أَدْبَرَ أعرض عن الإيمان يَسْعى لأجل دفع موسى عليه السّلام.
[23] فَحَشَرَ جمع قومه فَنادى فيهم.
[24- 25] فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى لا رب فوقي كما يزعم موسى عليه السّلام. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نكّل به نَكالَ عقاب الْآخِرَةِ بالنار وَ الْأُولى الدنيا: بالإغراق.
[26] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فعل الله بفرعون لَعِبْرَةً اعتبارا و موعظة لِمَنْ يَخْشى فإنه المنتفع بالعبرة.
[27- 28] أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ أقوى و أمتن خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها أي إن الله بنى السماء، فإذا كان الله قادرا على بناء السماء فيقدر على إعادتكم و خلقكم من جديد، فما هذا الإنكار منكم للبعث؟. رَفَعَ سَمْكَها ارتفاعها، أي جعل ارتفاعها عاليا جدا فَسَوَّاها جعلها مستوية بدون اعوجاج.
[29] وَ أَغْطَشَ أظلم لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها أي نهارها، و ذلك بسبب الدوران.
[30- 31] وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ الخلق للسماء دَحاها بسطها و حركها، و كانت قبل السماء مخلوقة غير مدحية، أو المراد ب (بعد ذلك) الترتيب الكلامي. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها أي العيون وَ مَرْعاها محل الرعي، أي نباتها.
[32- 34] وَ الْجِبالَ أَرْساها أثبتها أوتادا في الأرض. مَتاعاً أي جعل كل ذلك للتمتع و العيش لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ. فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الداهية التي تطم أي تعلو و تقهر الْكُبْرى و المراد القيامة.
[35- 36] يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ما عمله في الدنيا. وَ بُرِّزَتِ ظهرت الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى لكل راء.
[37- 38] فَأَمَّا مَنْ طَغى بالكفر و العصيان. وَ آثَرَ قدم الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة فاشتغل بها ناسيا الآخرة.
[39- 40] فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أي مأواه و مصيره. وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي خاف ربه، لمقامه الربوبي وَ نَهَى النَّفْسَ أي نفسه عَنِ الْهَوى أي الشهوات بأن لم يقترفها.
[41] فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى تكون مأواه و مصيره.
[42] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة أَيَّانَ متى مُرْساها إرساؤها أي إقامتها.
[43] فِيمَ في أي شي ء أَنْتَ مِنْ ذِكْراها من العلم بها حتى تعلمها، أي لا تعلم أنت وقتها.
[44] إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي منتهى علمها إلى الله، فهو العالم بوقتها.
[45] إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ إنما عملك الإنذار ل مَنْ يَخْشاها يخشى القيامة، و تخصيص الإنذار بهم، لأجل انتفاع هؤلاء فقط بالإنذار دون سواهم.
[46] كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها أي حين تقوم عليهم القيامة لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا عَشِيَّةً أي ليلة واحدة أَوْ ضُحاها نهار عشية واحدة، أو المراد ساعة من ليل أو ساعة من نهار، لأنهم يستقلون مدة مكثهم في الدنيا.
تبيين القرآن، ص: 606
مكية آياتها اثنتان و أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] عَبَسَ قطّب عثمان وجهه وَ تَوَلَّى أعرض.
[2] أَنْ حين أن جاءَهُ الْأَعْمى فقد كان عثمان جالسا، فجاء ابن أم مكتوم الأعمى، فتقذر منه و جمع نفسه و أعرض بوجهه عنه.
[3] وَ ما يُدْرِيكَ أي شي ء أعلمك أنه قذر لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يكون طاهرا زكيا.
[4] أَوْ يَذَّكَّرُ يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى الموعظة.
[5] أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى كان غنيا بالمال.
[6] فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى تتعرض مقبلا عليه.
[7] وَ ما عَلَيْكَ لا تهتم أَلَّا يَزَّكَّى في أنه غير طاهر.
[8] وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يسرع طالبا للخير.
[9] وَ هُوَ يَخْشى الآخرة.
[10] فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى تتشاغل و لا تهتم بشأنه، و الآيات في معرض الإنكار.
[11] كَلَّا لا تكن هكذا، ثم استأنف قوله تعالى إِنَّها أي السورة تَذْكِرَةٌ مذكرة.
[12] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ اتعظ به، و الضمير عائد إلى الوعظ المفهوم من (تذكرة).
[13] فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ذات كرامة عند الله.
[14- 16] مَرْفُوعَةٍ قدرها مُطَهَّرَةٍ منزهة عن الباطل. بِأَيْدِي أخذتها أيدي سَفَرَةٍ سفراء بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. كِرامٍ أولئك السفرة بَرَرَةٍ أخيار.
[17] قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه بأن يقتله الله و يهلكه ما أَكْفَرَهُ تعجب من كفره.
[18] مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ الله.
[19] مِنْ نُطْفَةٍ قذرة خَلَقَهُ ابتداء فَقَدَّرَهُ خلقة و أطوارا.
[20] ثُمَّ السَّبِيلَ الطريق إلى السعادة يَسَّرَهُ سهل له سلوكه.
[21] ثُمَّ أَماتَهُ بعد تمام عمره فَأَقْبَرَهُ أدخله القبر.
[22] ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ بعثه حيا في يوم القيامة.
[23] كَلَّا ليس الأمر كما زعم من إنكار الخالق و عصيانه لَمَّا يَقْضِ بعد لم يأت ب ما أَمَرَهُ الله تعالى.
[24] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ نظر اعتبار و تفكر إِلى طَعامِهِ الذي يطعمه كل يوم كيف يرى فيه آثار النعم.
[25] أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ المطر صَبًّا.
[26] ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات، الذي صار بسبب الماء شَقًّا.
[27] فَأَنْبَتْنا فِيها في الأرض حَبًّا كالحنطة.
[28] وَ عِنَباً وَ قَضْباً و هو القت «1».
__________________________________________________
(1) نبت يأكله الحيوان، يقال له بالفارسية: (يونجه).
تبيين القرآن، ص: 607
[29- 30] وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا وَ حَدائِقَ بساتين غُلْباً كثيرة الأشجار تغلب بعضها بعضا في الاستطالة.
[31] وَ فاكِهَةً سائر الفواكه وَ أَبًّا المرعى.
[32] مَتاعاً لَكُمْ لأجل تمتعكم وَ لِأَنْعامِكُمْ كالقت و الأبّ.
[33] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ أي الصيحة التي تصم الآذان، و المراد صيحة القيامة.
[34- 36] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ زوجته وَ بَنِيهِ أولاده، لئلا يبتلى بهم.
[37] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ من هؤلاء المذكورين يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم شَأْنٌ يُغْنِيهِ حال يشغله عن غيره، و قوله:
(لكل) مربوط، ب (فإذا).
[38] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ مضيئة.
[39] ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ذات بشارة بما يرى من النعيم.
[40] وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ غبار و كدورة.
[41] تَرْهَقُها تغشاها قَتَرَةٌ ظلة و سواد.
[42] أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الجامعون بين سوء العقيدة و فساد العمل، بالكفر و الفجور.
تبيين القرآن، ص: 608
مكية آياتها تسع و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ رفع ضوءها.
[2] وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أظلمت.
[3] وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ بأن قلعت و سارت في الفضاء.
[4] وَ إِذَا الْعِشارُ جمع عشراء: الناقة الحامل عُطِّلَتْ أهملت لأن أصحابها في هول يوم القيامة.
[5] وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ جمعت ليقتص منها بما ظلمت.
[6] وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أوقدت نارا، من سجر التنور.
[7] وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قرنت بالأجساد.
[8- 9] وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ البنت التي دفنت حية سُئِلَتْ تبكيتا لقاتلها. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ فإذا قالت إنها قتلت بلا ذنب، عذب الله قاتلها.
[10] وَ إِذَا الصُّحُفُ للأعمال نُشِرَتْ لحساب الناس.
[11] وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي قلعت كما يكشط الجلد، و ذلك بهدم نظام الكواكب.
[12] وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أو قدت فازدادت حرارة.
[13- 14] وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ قربت ليراها الناس. عَلِمَتْ جواب (إذا) نَفْسٌ كل نفس ما أَحْضَرَتْ من خير و شر.
[15- 16] فَلا إما زائدة للتأكيد، أو للنفي و ذلك للتلميح بالقسم كما تقدم أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ أي النجوم التي تخنس «1» و ترجع و تختفي. الْجَوارِ الجاريات في السماء الْكُنَّسِ التي تكنس أي تختفي نهارا.
[17] وَ قسما ب اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أقبل ظلامه.
[18] وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أضاء، عبّر به لإقبال النسيم عند الصبح.
[19] إِنَّهُ أي القرآن، و هذا جواب القسم لَقَوْلُ رَسُولٍ أي جبرئيل الذي جاء به من عند الله كَرِيمٍ ذي كرامة.
[20] ذِي قُوَّةٍ في الجسم و العمل عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ذي مكانة و جاه عند الله.
[21] مُطاعٍ تطيعه الملائكة ثَمَّ هناك أَمِينٍ عند الله.
[22] وَ ما صاحِبُكُمْ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِمَجْنُونٍ كما زعمتم.
[23] وَ لَقَدْ رَآهُ رأى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ الواضح، أي في طرف الأفق.
[24- 25] وَ ما هُوَ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَى ما يخبره من الْغَيْبِ كالقرآن و الشريعة و المبدأ و المعاد بِضَنِينٍ بمهتم، فلا يكذب. وَ ما هُوَ القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ مرجوم مطرود، كما هو شأن الكاهن حيث ينقل عن الشيطان.
[26] فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أيها الكفار من الحق إلى الباطل.
[27] إِنْ ما هُوَ القرآن إِلَّا ذِكْرٌ موعظة لِلْعالَمِينَ للإنس و الجن.
[28- 29] لِمَنْ بدل من (العالمين) شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ في العقيدة و العمل. وَ ما تَشاؤُنَ الاستقامة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ بأن يرسل الرسول و ينزل الكتاب إذ لو لا ذلك لا يقدر أحد على الهداية.
__________________________________________________
(1) تخنس: تستتر. [.....]
تبيين القرآن، ص: 609
مكية آياتها تسع عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ انشقت.
[2] وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تفرقت ببطلان نظامها.
[3] وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فتحت بعضها على بعض حتى صارت بحرا واحدا.
[4] وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قلب ترابها و أخرج أمواتها.
[5] عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ في حياتها إلى الآخرة وَ أَخَّرَتْ من سنّة حسنة أو سيئة أو صدقة خلفها لمن بعده.
[6] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ حتى عصيته.
[7] الَّذِي خَلَقَكَ أوجد أصلك فَسَوَّاكَ جعلك إنسانا فَعَدَلَكَ جعلك معتدل الأعضاء.
[8] فِي أَيِّ صُورَةٍ ما زائدة للتأكيد شاءَ الله رَكَّبَكَ حسنة أو قبيحة ذكرا أو أنثى.
[9] كَلَّا لا تشكرون الله بالإيمان و الإطاعة بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ بالجزاء.
[10] وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ يحفظون أعمالكم، و هم الملائكة.
[11] كِراماً جمع كريم كاتِبِينَ يكتبون أعمالكم.
[12] يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ من خير و شر فيكتبونها.
[13] إِنَّ الْأَبْرارَ الأخيار لَفِي نَعِيمٍ الجنة ذات النعمة.
[14] وَ إِنَّ الْفُجَّارَ الفاجرين و هم العصاة لَفِي جَحِيمٍ النار.
[15] يَصْلَوْنَها يدخلونها يَوْمَ الدِّينِ يوم القيامة.
[16] وَ ما هُمْ عَنْها عن الجحيم بِغائِبِينَ بل يكونون فيها دائما.
[17- 18] وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ تفخيم لشأنه حتى كأن الإنسان لا يطّلع على حقيقته.
[19] يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً دفاعا عن عذابها، أو إثابتها وَ الْأَمْرُ في الثواب و العقاب يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وحده.
مكية آياتها ست و ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَيْلٌ هلاك لِلْمُطَفِّفِينَ التطفيف بخس المكيال و الميزان.
[2] الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي كالوا لأجل أن يأخذوا بأن كانوا مشترين يَسْتَوْفُونَ يأخذون الكيل وافيا.
[3] وَ إِذا كالُوهُمْ أي كالوا لهم، بأن باعوا للناس شيئا أَوْ وَزَنُوهُمْ أي وزنوا للناس يُخْسِرُونَ ينقصون حق الناس.
[4] أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ المطففون أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ بعد الموت.
[5] لِيَوْمٍ عَظِيمٍ هو القيامة، إذ لو ظنوا الحساب لما تجرأوا على هذا العصيان.
[6] يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لحكم رب الْعالَمِينَ.
تبيين القرآن، ص: 610
[7] كَلَّا لا تطففوا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ما يكتب من أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ الكتاب الذي يجمع فيه أعمال الكفار و العصاة.
[8] وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كأنه لا تدري حقيقته و هول ما فيه و ما أعدّ لأصحابه.
[9] كِتابٌ مَرْقُومٌ رقّم و كتب فيه أعمال الطغاة.
[10] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ بالله و الرسول و المعاد.
[11] الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ يوم القيامة.
[12] وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ بيوم الدين إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ مجاوز للحد أَثِيمٍ عاص لله تعالى.
[13] إِذا تُتْلى تقرأ عَلَيْهِ آياتُنا القرآن قالَ هذا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيبهم و خرافاتهم.
[14] كَلَّا ليس الأمر كما يقول بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ غلبت ذنوبهم على قلوبهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ من العصيان فصارت قلوبهم كأنها في غلاف و لذا لا يدركون الحقائق.
[15] كَلَّا لا يتركون هكذا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة لَمَحْجُوبُونَ يحجبون و يمنعون عن رحمته.
[16] ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا لداخلون في الْجَحِيمِ.
[17] ثُمَّ يُقالُ يقول لهم الزبانية هذَا اليوم هو الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا حيث كنتم تقولون لا بعث.
[18] كَلَّا ليس الأمر كما زعم الكفار إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ كتاب يجمع فيه أعمال المؤمنين الصالحين.
[19- 21] وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يحضره الملائكة المقربون لأنه كتاب مهم فاللازم أن يكون بيد المقربين.
[22] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ الجنة ذات النعمة.
[23] عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة و هي السرير يَنْظُرُونَ إلى جمال الجنة.
[24] تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم، فإذا نظرت إلى وجوههم ترى فيها آثار النعمة.
[25] يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خمر الجنة الذي لا غش فيه مَخْتُومٍ قد ختم على ظرفه علامة أنه لم يمسّه أحد من قبل.
[26] خِتامُهُ ما ختم به مِسْكٌ بدل الطين و المداد. وَ فِي ذلِكَ النعيم فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ الذين يتسابقون في الخير، ينبغي أن يتسابقوا لتحصيل هذا النعيم.
[27] وَ مِزاجُهُ ما مزج به هذا الرحيق مِنْ تَسْنِيمٍ ماء في الجنة في كمال الحلاوة و الصفاء و العطر.
[28] عَيْناً حال من (تسنيم) يَشْرَبُ بِهَا أي منها الْمُقَرَّبُونَ إلى الله تعالى بالمنزلة.
[29] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا من الكفار كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ استهزاء.
[30] وَ إِذا مَرُّوا أي المؤمنون بِهِمْ بالمجرمين يَتَغامَزُونَ يشير بعضهم إلى بعض بعيونهم و أيديهم استهزاء بالمؤمنين.
[31] وَ إِذَا انْقَلَبُوا أي المجرمون إِلى أَهْلِهِمُ ذهبوا إلى بيوتهم انْقَلَبُوا فَكِهِينَ متلذذين بالسخرية بالمؤمنين.
[32] وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا أي المجرمون إِنَّ هؤُلاءِ المؤمنين لَضالُّونَ عن الطريق حيث آمنوا.
[33] وَ ما أُرْسِلُوا أي الكفار عَلَيْهِمْ على المؤمنين حافِظِينَ موكلين بحفظ أعمالهم، فلم هذا الاستهزاء و السباب.
[34] فَالْيَوْمَ يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ حين يرون حالهم في النار و العذاب.
تبيين القرآن، ص: 611
[35] عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إليهم نظر احتقار و استخفاف، كما كان المجرمون ينظرون إليهم في الدنيا.
[36] هَلْ ثُوِّبَ جوزي الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ من الكفر و العصيان، و الاستفهام للتقرير، أي لقد عوقبوا جزاء لأعمالهم.
مكية آياتها خمس و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ علامة للقيامة، بأن ظهرت فيها الفرج.
[2] وَ أَذِنَتْ انقادت لِرَبِّها في ما يريد أن يفعل بها من التشقيق وَ حُقَّتْ أي حق بها أن تنقاد.
[3] وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ بسطت، لأن الجبال تنقلع منها، و الأغوار تملأ.
[4] وَ أَلْقَتْ ما فِيها من الأموات و الكنوز وَ تَخَلَّتْ خلت غاية الخلو.
[5] وَ أَذِنَتْ الأرض لِرَبِّها وَ حُقَّتْ.
[6] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ ساع سعيا متواصلا إِلى أن تنتهي إلى رَبِّكَ عند الموت كَدْحاً تأكيد فَمُلاقِيهِ ترى ثوابه و عقابه.
[7- 9] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ بيده اليمنى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً لا يناقش في الحساب و يتجاوز الله عن سيئاته. وَ يَنْقَلِبُ يرجع إِلى أَهْلِهِ الذين معه في الجنة مَسْرُوراً.
[10] وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ بأن تجعل شماله مغلولة وراء ظهره و يعطى كتابه بها.
[11- 12] فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أي هلاكا، فيقول يا ليتني أموت. وَ يَصْلى يدخل سَعِيراً نارا ملتهبة.
[13] إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ في الدنيا مَسْرُوراً بالملذات و المحرمات لا يدخله خوف الآخرة.
[14] إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ لن يرجع بعد الموت.
[15] بَلى يرجع إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً فقد حفظ أعماله السيئة و يجزيه بها.
[16] فَلا أُقْسِمُ (لا) زائدة للتأكيد، أو نفي للقسم تلميحا إليه بِالشَّفَقِ الحمرة عند الغروب.
[17] وَ ب اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ جمعه فإن الليل يجمع الإنسان و الحيوان المنتشر إلى أماكنها.
[18- 19] وَ ب الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ تم بدرا. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أي تركبون حالا بعد حال، الموت و مواقف القيامة و غيرها، فليس كما تزعمون من الفناء بعد الموت.
[20] فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالقيامة، فأي عذر لهم في ترك الإيمان.
[21] وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ لله، بأن لا يعترفون به مع ظهور الإعجاز في القرآن.
[22] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ بالله و اليوم الآخر و القرآن.
[23] وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ يحفظون في صدورهم من الكفر و الضلال، و سوف يجازيهم عليه.
[24] فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم، و هذا من باب التهكم.
[25] إِلَّا لكن الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة لَهُمْ أَجْرٌ جزاء حسن غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع، بل دائم أبدي.
تبيين القرآن، ص: 612
مكية آياتها اثنتان و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ السَّماءِ قسما بالسماء ذاتِ الْبُرُوجِ الاثني عشر.
[2] وَ قسما ب الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يوم القيامة.
[3] وَ قسما ب شاهِدٍ هو النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشهد على أمته وَ مَشْهُودٍ الأمة، و جواب القسم محذوف: أي إن الكفار يلعنون كما لعن الكفار السابقون، و يدل عليه قوله:
[4] قُتِلَ أي قاتلهم الله، و المراد تعذيبهم أَصْحابُ الْأُخْدُودِ فإن جماعة آمنوا بعيسى عليه السّلام فأخذهم الكفار و ألقوهم في أخاديد من النار و أحرقوهم، و الأخدود الشق في الأرض.
[5] النَّارِ بدل عن (الأخدود) ذاتِ الْوَقُودِ ما يوقد به النار.
[6] إِذْ هُمْ أولئك الأصحاب، الكافرون عَلَيْها على النار قُعُودٌ جالسون يتفرجون.
[7] وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ من إلقائهم في النار شُهُودٌ حاضرون يرونه.
[8] وَ ما نَقَمُوا أنكروا أولئك الكافرون مِنْهُمْ من المؤمنين إِلَّا إيمانهم أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ في سلطانه الْحَمِيدِ المحمود.
[9] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ حاضر فيجازي المحق بالثواب و المبطل بالعقاب.
[10] إِنَّ الَّذِينَ من الكفار فَتَنُوا بلوا بالأذى و الإحراق الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ماتوا كفارا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ الزائد في الإحراق، لأنهم زادوا على كفرهم فتنة المؤمنين أيضا.
[11] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ الذي لا فوز يشبهه.
[12] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ أخذه لأجل العذاب لَشَدِيدٌ في كمال الألم.
[13] إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ الخلق وَ يُعِيدُ هم بعد الموت للحساب.
[14] وَ هُوَ الْغَفُورُ لمن تاب الْوَدُودُ المحب لمن أطاع.
[15] ذُو الْعَرْشِ صاحب الملك الْمَجِيدُ العظيم.
[16] فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ يفعل كل ما يريد و لا يمتنع عليه شي ء.
[17] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ حتى يدلّك على أنه تعالى كيف يفعل ما يريد.
[18] فِرْعَوْنَ و قومه وَ ثَمُودَ و حديثهم إن الله أهلكهم بتكذيبهم.
[19] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ لما جئت به، معرضين عن العبر و الآيات.
[20] وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ بهم قدرة و علما فلا يمكنهم الفرار منه.
[21] بَلْ هُوَ الذي كذبوا به قُرْآنٌ مَجِيدٌ ذو مجد و عظمة.
[22] فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ عن التغيير و التحريف.
تبيين القرآن، ص: 613
مكية آياتها سبع عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ السَّماءِ قسما بالسماء وَ الطَّارِقِ الكوكب الذي يظهر ليلا.
[2] وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ لأنه شي ء عظيم لا يحيط بحقيقته الإنسان- و هذا للتعظيم-.
[3] النَّجْمُ الثَّاقِبُ الذي يثقب بضيائه ظلام الليل.
[4] إِنْ ما كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا إلا عَلَيْها حافِظٌ من الملائكة يحفظ أعمالها- و هذا جواب القسم-.
[5] فَلْيَنْظُرِ يفكر الْإِنْسانُ مِمَّ من ماذا خُلِقَ و ذلك ليعتبر، و يعترف بالمبدأ و المعاد.
[6] خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ المني الذي يخرج بدفق و شدة.
[7] يَخْرُجُ ذلك الماء مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ عظام الظهر وَ التَّرائِبِ عظام الصدر.
[8] إِنَّهُ أي الخالق له عَلى رَجْعِهِ أن يرجعه إلى الحياة بعد أن مات لَقادِرٌ كما قدر على ابتداء خلقته.
[9] يَوْمَ ظرف (رجعه) تُبْلَى تظهر و تختبر السَّرائِرُ الضمائر ليظهر ما فيها من خير و شر.
[10] فَما لَهُ للإنسان مِنْ قُوَّةٍ يمتنع بها عن ما يراد بها من العذاب وَ لا ناصِرٍ ينصره.
[11] وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ترجع نيراتها في كل دورة إلى الموضع الذي تحركت منه.
[12] وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ التشقق بالأنهار و النباتات.
[13] إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلٌ فَصْلٌ بين الحق و الباطل.
[14] وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ فإنه جد كله.
[15] إِنَّهُمْ أي الكفار يَكِيدُونَ كَيْداً لإبطال القرآن.
[16] وَ أَكِيدُ كَيْداً أي أعالج و أهيئ الأسباب في الخفاء لإبقاء القرآن و إعلاء شأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[17] فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ لا تتعرض لهم أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً قليلا حتى ترى ما ذا أفعل بهم.
مكية آياتها تسع عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] سَبِّحِ نزه اسْمَ إما المراد المسمى، أو الاسم، و تنزيه الاسم عدم اقترانه بأسماء الأصنام و وصفه بالصفات السيئة رَبِّكَ الْأَعْلَى الذي لا يساويه شي ء.
[2] الَّذِي خَلَقَ الخلائق فَسَوَّى خلقها بجعلها مستعدة للكمال اللائق بها.
[3] وَ الَّذِي قَدَّرَ لكل مخلوق ما يصلحه فَهَدى أرشده إلى منافعه و مضاره.
[4] وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى محل رعي الحيوان، أي النبات.
تبيين القرآن، ص: 614
[5] فَجَعَلَهُ بعد خضرته غُثاءً يابسا أَحْوى أسود.
[6] سَنُقْرِئُكَ القرآن، أي نعلّمك فَلا تَنْسى شيئا منه، و هذا من إعجاز النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[7] إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن تنساه، إشارة إلى أن الأمر بيد الله فلو شاء أن ينسيك تمكن منه إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ ما ظهر وَ ما يَخْفى ما خفي.
[8] وَ نُيَسِّرُكَ أي نسهل لك لِلْيُسْرى أي الشريعة السهلة اليسيرة في العمل.
[9] فَذَكِّرْ الناس بالله و المعاد إِنْ قد نَفَعَتِ الذِّكْرى التذكير.
[10] سَيَذَّكَّرُ يتعظ بقولك مَنْ يَخْشى التردي و العقاب.
[11] يَتَجَنَّبُهَا يبتعد عن الذكرىْ َشْقَى الأكثر شقوة بسبب المعاصي، و المراد به الكافر.
[12] الَّذِي يَصْلَى يدخل النَّارَ الْكُبْرى جهنم.
[13] ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها في النار ليستريح وَ لا يَحْيى حياة طيبة.
[14] قَدْ أَفْلَحَ فاز بالثواب مَنْ تَزَكَّى تطهر من الكفر و الإثم.
[15] وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بقلبه و لسانه فَصَلَّى كما أوجب الله له.
تبيين القرآن، ص: 615
[16] بَلْ تتركون الذكرى و تُؤْثِرُونَ ترجحون الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة.
[17] وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ أحسن من الدنيا وَ أَبْقى لأنها دائمة أبدية.
[18] إِنَّ هذا الذي ذكرناه في القرآن لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى الكتب المنزلة قبل القرآن أيضا، مثل:
[19] صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى و سائر الصحف.
مكية آياتها ست و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ القيامة التي تغشي الناس بأهوالها.
[2] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ في يوم القيامة خاشِعَةٌ ذليلة.
[3] عامِلَةٌ تعمل في النار ناصِبَةٌ و تتعب.
[4] تَصْلى تدخل ناراً حامِيَةً شديدة الحر.
[5] تُسْقى تعطى الماء مِنْ عَيْنٍ ماء آنِيَةٍ قد تناهت في الحر.
[6] لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ شوك ينبت في النار أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة.
[7- 8] لا يُسْمِنُ البدن وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فإذا أكله لا يشبع بل يبقى على جوعه. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ متنعمة.
[9- 10] لِسَعْيِها عملها الذي عملته في الدنيا راضِيَةٌ حيث ترى ثوابها. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ محلا و شأنا.
[11] لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً نفسا تلغو و تقول الباطل.
[12] فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ تجري ماؤها.
[13] فِيها سُرُرٌ جمع سرير مَرْفُوعَةٌ عن الأرض.
[14] وَ أَكْوابٌ جمع كوب، إناه لا عروة له مَوْضُوعَةٌ قد وضعت بين أيديهم.
[15] وَ نَمارِقُ جمع نمرقة، المسند مَصْفُوفَةٌ قد صفت بعضها جنب بعض.
[16] وَ زَرابِيُّ جمع زربي، البساط مَبْثُوثَةٌ مفروشة.
[17] أَ فَلا يَنْظُرُونَ بنظر الاعتبار إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ خلقا دالا على الكمال في قدرة خالقه.
[18] وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ بلا عمد.
[19] وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ثابتة جميلة فيها منافع كثيرة.
[20] وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ حتى صارت مهدا للإنسان و محلا لحوائجه.
[21] فَذَكِّرْ الناس بالله و آياته إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ شأنك التبليغ.
[22] لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ متسلط تقهرهم على الإيمان.
[23] إِلَّا مَنْ تَوَلَّى أعرض وَ كَفَرَ فما عليك منه.
[24] فإنه يعذبه اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ و هو عذاب الآخرة.
[25] إِنَّ إِلَيْنا إلى حسابنا و جزائنا إِيابَهُمْ رجوعهم.
[26] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ كي نجازيهم بما عملوا.
تبيين القرآن، ص: 616
مكية آياتها ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ الْفَجْرِ قسما بالصبح.
[2] وَ لَيالٍ عَشْرٍ من ذي الحجة.
[3] وَ قسما ب الشَّفْعِ بكل زوج وَ الْوَتْرِ كل شي ء فرد.
[4] وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ يمضي و يدبر.
[5] هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ لذي عقل، أي هل يكفي العاقل بهذه الأيمان، حتى يصدق ما نقول و نحلف عليه، و المقسم عليه محذوف، أي يعذب الكفار، كما عذب السابقين.
[6] أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ قوم هود عليه السّلام، حيث أهلكهم.
[7- 8] إِرَمَ عطف بيان ل (عاد) أي بإرم بلدهم ذاتِ الْعِمادِ التي كانت ذات أعمدة طوال، فأهلك القوم، و خرب بلادهم الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ.
[9] وَ ثَمُودَ قوم صالح عليه السّلام الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ نحتوه و جعلوه بيوتا بِالْوادِ واديهم وادي القرى.
[10] وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ فإنه كان يعذب الناس بالأوتاد أي المسامير.
[11] الَّذِينَ صفة للثلاثة طَغَوْا بالكفر و العصيان فِي الْبِلادِ.
[12] فَأَكْثَرُوا فِيهَا في البلاد الْفَسادَ أي أفسدوا.
[13] فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ عذابا متواترا مؤلما كتواتر السوط و إيلامه.
[14] إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ عجل المراقبة، يراقب أعمال الناس، فيجازيهم بما عملوا.
[15] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ اختبره رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ جعله ذا مكانة و كرامة في الناس وَ نَعَّمَهُ أعطاه النعمة فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ أعطاني لكرامتي عليه.
[16] وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ ضيق عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أي أهانني و إلا لم يضيّق عليّ، زاعما أن المال ميزان الكرامة و الهوان.
[17] كَلَّا ليس الأمر هكذا بَلْ فعلكم أسوأ من قولكم فإنكم لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ و قد أمر الله بإكرامه و جمع شمله.
[18] وَ لا تَحَاضُّونَ لا تحثون عَلى طَعامِ إطعام الْمِسْكِينِ بإعطاء الزكاة و غيرها.
[19] وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ الميراث أَكْلًا لَمًّا جمعا بين حصتكم و حصة سائر الوراث.
[20] وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا كثيرا و لذا تمنعون حقوق الله و حقوق الناس.
[21] كَلَّا ليس عملكم حسنا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دقت دَكًّا دَكًّا حتى تكون مستوية، أو المراد زلزالها.
[22] وَ جاءَ رَبُّكَ أي أمر ربك وَ جاء الْمَلَكُ في يوم القيامة صَفًّا صَفًّا أي في صفوف متعددة.
[23] وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تجرّ من مكانها و تقرب من موقف القيامة يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ يتعظ و يعرف سوء عمله وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى كيف يفيده التذكر و قد فات الأوان.
تبيين القرآن، ص: 617
[24] يَقُولُ تحسرا يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ خيرا لِحَياتِي هذه.
[25] فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ عذاب الإنسان المقرر عذابه أَحَدٌ غير الله، أي لا يتولى تعذيب المعذّب إلا الله.
[26] وَ لا يُوثِقُ أوثقه إذا شد يده أو رجله وَثاقَهُ أَحَدٌ أي لا يتولى أحد غير الله غلّ المعذب و شد يديه و رجليه.
[27] يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ بفضل الله، لأنك كنت مؤمنة عاملة بالصالحات.
[28] ارْجِعِي إِلى ثواب رَبِّكِ راضِيَةً بما أعطاك مَرْضِيَّةً عنده تعالى.
[29] فَادْخُلِي فِي جملة عِبادِي الصالحين.
[30] وَ ادْخُلِي جَنَّتِي معهم.
مكية آياتها عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] لا أُقْسِمُ لا إما زائدة للتأكيد، أو نفي، للتلميح إلى القسم، بدون أن يحلف بِهذَا الْبَلَدِ أي بمكة.
[2] وَ الحال أَنْتَ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حِلٌّ حال بِهذَا الْبَلَدِ.
[3] وَ قسما ب والِدٍ كل أب وَ ما وَلَدَ من الأولاد.
[4] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنسه فِي كَبَدٍ تعب، أي يكابد الأتعاب.
[5] أَ يَحْسَبُ هل يظن الإنسان أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فيبطش به، فكيف ينكر وجود الله القادر عليه.
[6] يَقُولُ أَهْلَكْتُ أفنيت مالًا لُبَداً كثيرا في مقاصدي.
[7] أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ كيف أنفق، و المعنى إنا سنجازيه بما أنفق عقابا، حيث إن إنفاقه كان في سبيل الباطل.
[8- 9] أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما. وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ للتكلم.
[10] وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ طريقي الخير و الشر.
[11] فَلَا اقْتَحَمَ أي لم يقتحم، و الاقتحام الدخول بعسر الْعَقَبَةَ فإن عمل الخير كالعقبة من الجبل الصعب المرتقى.
[12] وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ تعظيم لشأنها و كثرة ثوابها.
[13] فَكُّ رَقَبَةٍ تحرير العبد.
[14] أَوْ إِطْعامٌ للمساكين فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ذي جوع، بأن كانت مجاعة و قحط.
[15] يَتِيماً أي يطعم يتيما ذا مَقْرَبَةٍ قرابة بالنسب.
[16] أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ قد لصق بالتراب لفقره.
[17] ثُمَّ كانَ أي فلما ذا لم يكن بالإضافة إلى ذلك مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ على طاعة الله وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ بالرحمة على عباد الله.
[18] أُولئِكَ المتصفون بهذه الصفات أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اليمين في الآخرة.
[19] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ الشمال يؤخذ بهم إلى النار.
[20] عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ مطبقة عليهم أبوابها، لا مفر لهم منها.
تبيين القرآن، ص: 618
مكية آياتها خمس عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ الشَّمْسِ قسما بالشمس وَ ضُحاها نورها.
[2- 3] وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها تلا الشمس في الطلوع أو الغروب. وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها أبرز النهار الشمس.
[4] وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها غطّى الشمس.
[5] وَ السَّماءِ وَ ما من بَناها خلقها.
[6] وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها بسطها.
[7] وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها خلقها معتدلة.
[8] فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها عرفها طريقي الخير و الشر.
[9] قَدْ جواب الأيمان أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها طهرها عن الكفر و المعصية.
[10- 11] وَ قَدْ خابَ خسر مَنْ دَسَّاها أخفاها بالكفر و الإثم. كَذَّبَتْ قبيلة ثَمُودُ بالرسل بِطَغْواها بسبب طغيانها.
[12- 13] إِذِ في زمان انْبَعَثَ قام أَشْقاها الرجل الذي هو أشقى القبيلة. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صالح عليه السّلام احذروا ناقَةَ اللَّهِ فلا تمسوها بسوء وَ سُقْياها و احذروا شربها الماء فلا تمنعوها.
[14] فَكَذَّبُوهُ أي كذبوا صالحا عليه السّلام فَعَقَرُوها جرحوها و قتلوها فَدَمْدَمَ أطبق عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ العذاب بِذَنْبِهِمْ بسبب ذنبهم فَسَوَّاها فسوى الدمدمة عليهم بأن عمهم بالعذاب.
[15] وَ لا يَخافُ تعالى عُقْباها أي عاقبة الدمدمة لأنه ليس كالملوك يخاف إذا دمّر أو قتل، بل لا يسأل عما يفعل.
مكية آياتها إحدى و عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ اللَّيْلِ قسما بالليل إِذا يَغْشى يغطي بظلامه الأشياء.
[2- 3] وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى ظهر. وَ قسما ب ما بمن خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى .
[4- 5] إِنَّ سَعْيَكُمْ في الدنيا لَشَتَّى مختلفة. فَأَمَّا مَنْ أَعْطى حق الله وَ اتَّقى الكفر و الإثم.
[6] وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى أي الكلمة الحسنة و هي الشهادتان.
[7] فَسَنُيَسِّرُهُ نسهل له لِلْيُسْرى للطريقة السهلة و هي الشريعة الإسلامية.
[8] وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ فلم ينفق وَ اسْتَغْنى عن الثواب.
[9- 10] وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى للطريقة العسرة بأن يسلك الطريق العسير.
[11] وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى هلك، فإن ماله لا ينجيه.
[12] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى الإرشاد، فمن شاء اهتدى و من شاء ضلّ.
[13] وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى فنعطي ما نشاء لمن نشاء، في الدارين.
[14] فَأَنْذَرْتُكُمْ خوفتكم أيها الناس ناراً تَلَظَّى تلتهب.
تبيين القرآن، ص: 619
[15] لا يَصْلاها لا يدخلها ملازما لها إِلَّا الْأَشْقَى الكافر الأكثر شقوة من العاصي.
[16] الَّذِي كَذَّبَ بآيات الله وَ تَوَلَّى أعرض.
[17] وَ سَيُجَنَّبُهَا يبعد عنها الْأَتْقَى الأكثر تقوى و هو المؤمن العامل للصالحات.
[18] الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يعطي الحقوق المالية و ينفق حال كونه يَتَزَكَّى يتطهر بهذا الإعطاء.
[19] وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى فليس إعطاؤه جزاء لمن قدم له نعمة من قبل حتى يكون مكافأة.
[20] فلا يؤتي ماله إِلَّا ابْتِغاءَ طلب رضا وَجْهِ ذات رَبِّهِ الْأَعْلى .
[21] وَ لَسَوْفَ يَرْضى يرضاه الله بما يتفضل عليه من جزاء إنفاقه.
مكية آياتها إحدى عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ الضُّحى قسما بالنهار، أو وقت ارتفاع الشمس.
[2] وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى استقر بظلامه.
[3- 4] ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ ما تركك الله، و الآية نزلت حين أبطأ على الرسول الوحي، فقال الكفار تركه ربه أو غضب عليه وَ ما قَلى ما أبغضك. وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى الدنيا الفانية.
[5] وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ بقدر فَتَرْضى بما أعطاك.
[6] أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى جعل لك مأوى في كنف جدك عبد المطلب عليه السّلام.
[7] وَ وَجَدَكَ ضَالًّا حيث ضاع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في بعض الصحاري فَهَدى هداك إلى الطريق.
[8- 9] وَ وَجَدَكَ عائِلًا فقيرا فَأَغْنى أغناك. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فلا تذهب بحقه، و لا تقهره بأخذ ماله و إيذائه.
[10] وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ فلا تطرده.
[11] وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ الناس، فإن الحديث بالنعمة شكر و تثبيت للإيمان في قلوب الناس.
مكية آياتها ثمان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ نوسعه بالعلم و الأخلاق.
[2] وَ وَضَعْنا حططنا عَنْكَ وِزْرَكَ حملك الثقيل، حيث خففنا عليك مهمة التبليغ.
[3] الَّذِي أَنْقَضَ أثقل ظَهْرَكَ تشبيه المعقول بالمحسوس.
[4] وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بأن جعلناك نبيا يقرن ذكرك بذكر الله تعالى.
[5] فإذا رأيت عسرا فاصبر حيث رأيت سالف إحساننا بك إن مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً بعد كل عسر يسر.
[6- 7] إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كرّر للتأكيد. فَإِذا فَرَغْتَ من أعمالك الضرورية فَانْصَبْ اتعب نفسك في التبليغ.
[8] وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ بطلب ما عنده من خير الدارين.
تبيين القرآن، ص: 620
مكية آياتها ثمان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ قسما بهذين الثمرين.
[2- 3] وَ طُورِ اسم جبل سِينِينَ اسم سيناء، أي قسما بالجبل الذي في سيناء. وَ قسما ب هذَا الْبَلَدِ مكة الْأَمِينِ الذي من دخله كان آمنا.
[4] لَقَدْ جواب القسم خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ قوام: شكله و صورته و مزاجه و نفسه.
[5] ثُمَّ رَدَدْناهُ تركناه فيما إذا عاند الحق أَسْفَلَ سافِلِينَ أدنى درك في الخسة و الدناءة، و النار في الآخرة.
[6] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ ثواب غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع لأن نعيم الجنة دائم.
[7- 8] فَما يُكَذِّبُكَ أي ما يسبب أن تكذب أيها الإنسان بَعْدُ أي بعد ظهور هذه الآيات عندك بِالدِّينِ بالجزاء. أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ بأعدل من كل عادل، فيلزم لعدله إقامة دار الجزاء لإثابة المحسن و عقاب المسي ء.
مكية آياتها تسع عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] اقْرَأْ افتح القرآن بِاسْمِ رَبِّكَ في قول مشهور إنها أول سورة نزلت الَّذِي خَلَقَ الخلق.
[2- 3] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ جمع علقة، و هي قطعة دم جامدة. اقْرَأْ تكرير للتأكيد وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ من كل شي ء.
[4- 5] الَّذِي عَلَّمَ الخط بِالْقَلَمِ لأجل بقاء العلم. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من علم الدنيا و علم الآخرة.
[6] كَلَّا لا يطيع الإنسان و لا يقدّر هذه النعم إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى يتجاوز الحد.
[7- 8] ل أَنْ رَآهُ رأى نفسه اسْتَغْنى بالمال و الجاه. إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى الرجوع لجزاء الأعمال.
[9- 10] أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى الاستفهام للتعجب من حال الناهي.
[11] أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ المصلي عَلَى الْهُدى .
[12] أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى فكيف ينهاه الناهي؟ و لما ذا؟.
[13] أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ الناهي بالله و آياته وَ تَوَلَّى أعرض عن الإيمان.
[14] أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ما يفعله فيجازيه بالعقاب.
[15] كَلَّا لا يطيع هذا الإنسان لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عن كفره و صده لسبيل الله لَنَسْفَعاً لنأخذن بشدة بِالنَّاصِيَةِ بناصيته، مقدم رأسه، فنلقيه في النار.
[16] ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ نسبة الكذب إلى الناصية من باب علاقة الكل و الجزء خاطِئَةٍ ذات أخطاء و آثام.
[17] فَلْيَدْعُ هذا الإنسان نادِيَهُ أهل مجلسه لينصروه من عذاب الله.
[18] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ندعو خزنة جهنم لتعذيبه، فنرى أينا أقوى و أقدر.
[19] كَلَّا لا نتركه بحاله لا تُطِعْهُ في مراده وَ اسْجُدْ دم على سجودك لله وَ اقْتَرِبْ تقرب إلى الله بعبادته.
تبيين القرآن، ص: 621
مكية آياتها خمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي القرآن فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ في شهر رمضان، فقد انزل بمجموعه على قلب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم ابتدأ من يوم المبعث منجما بواسطة جبرئيل.
[2] وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ تعظيم لها و إيهام لفضلها.
[3] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فإنها أفضل عند الله من ذلك، و ثواب العمل فيها كثير جدا.
[4] تَنَزَّلُ تتنزل في كل عام الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ جبرئيل عليه السّلام فِيها في تلك الليلة إلى الأرض بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمره تعالى، يأتون إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو الإمام عليه السّلام مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مربوط بهذا العالم، و ذلك مثل عرض الملك ما يريد عمله إلى رئيس الوزراء تشريفا له.
[5] سَلامٌ هِيَ ليلة القدر ينزل الله بالسلام لأهل الأرض، لكنهم يغيرونه بسبب المعاصي إلى المكاره حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ فإن عند طلوع الفجر تنقطع الملائكة و قد جاءوا بكل ما يكون في السنة المقبلة.
مدنية آياتها ثمان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ (من) للبيان، فإن أهل الكتاب كفروا باتخاذهم الأولاد لله وَ من الْمُشْرِكِينَ عبدة الأصنام مُنْفَكِّينَ عن كفرهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الحجة الواضحة، و هو:
[2] رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنه يفكهم من كفرهم يَتْلُوا يقرأ عليهم صُحُفاً صحائف مُطَهَّرَةً منزهة عن الكذب و الانحراف.
[3] فِيها في تلك الصحف كُتُبٌ مكتوبات قَيِّمَةٌ ذات استقامة.
[4] وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بأن آمن بعضهم و كفر بعضهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إلا فقبل مجيئه كان كلهم يصدقون به.
[5] وَ ما أُمِرُوا أهل الكتاب إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بلا إشراك و اتخاذ ولد حُنَفاءَ مائلين عن العقائد الباطلة وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ الصحيح، أصوله و فروعه دِينُ الملة الْقَيِّمَةِ المستقيمة.
[6] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها و ذلك في الآخرة أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ الخليقة، لأنهم عرفوا فعاندوا.
[7] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ لأنهم جمعوا بين العقيدة الصحيحة و العمل الصالح.
تبيين القرآن، ص: 622
[8] جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لاتباعهم أوامره وَ رَضُوا عَنْهُ بما أعطاهم من الثواب ذلِكَ الجزاء الحسن لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فأطاعه.
مدنية آياتها ثمان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ أرجفت لقيام الساعة زِلْزالَها المقدّر لها.
[2] وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ما في بطنها من الكنوز و الموتى.
[3] وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها ما للأرض تتزلزل، تعجبا لها.
[4] يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم تُحَدِّثُ الأرض أَخْبارَها تنطق بلسان الحال بالأهوال التي تغمر الناس، أو تحدث و تشهد بما عمل على ظهرها.
[5] تحدث بسبب أن رَبَّكَ أَوْحى لَها أمرها بأن تظهر الأهوال.
[6] يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فيجازون عليها.
[7] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ثقل ذَرَّةٍ ترى في النور الداخل من الكوة في الغرفة المظلمة خَيْراً يَرَهُ يرى ثوابه.
[8] وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ يرى جزاءه.
مكية آياتها إحدى عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ الْعادِياتِ قسما بالأفراس للمجاهدين في سبيل الله التي تعدو و تركض ضَبْحاً أي ضابحة، و هي صوت أنفاسها.
[2] فقسما بالموريات الخيل التي توري النار بسبب ضرب أقدامها على الحصى قَدْحاً يقال قدح الزند إذا أوراه.
[3] فَالْمُغِيراتِ أغاروا صُبْحاً وقت الصبح، نزلت في أمير المؤمنين علي عليه السّلام حيث حارب بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جماعة، فغزاهم بعد صلاة الصبح.
[4] فَأَثَرْنَ من الإثارة بمعنى هيّجن بِهِ بذلك الوقت نَقْعاً غبارا.
[5] فَوَسَطْنَ توسطن بِهِ بذلك الوقت جَمْعاً في جمع العدو.
[6] إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ لكفور أي جنس الإنسان هكذا.
[7] وَ إِنَّهُ أي الإنسان عَلى ذلِكَ على كفرانه لَشَهِيدٌ شاهد على نفسه، لأنه يعلم باطنا أنه كافر، فيشهد يوم القيامة على نفسه.
[8] وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ أي المال لَشَدِيدٌ و لذا يمنعه عن بذله في سبيل الله.
[9] أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ أخرج ما فِي الْقُبُورِ من الأموات.
تبيين القرآن، ص: 623
[10] وَ حُصِّلَ ظهر ما فِي الصُّدُورِ من الكفر و الإيمان.
[11] إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ عليم بأحوالهم فيجازيهم على أعمالهم.
مكية آياتها إحدى عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الْقارِعَةُ من أسامي القيامة، لأنها تقرع الناس بأصناف الأهوال.
[2] مَا الْقارِعَةُ استفهام للتهويل.
[3] وَ ما أَدْراكَ أي شي ء أدراك، فكأنه لا تعلم أنت مَا الْقارِعَةُ لهولها.
[4] يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الجراد الْمَبْثُوثِ المنتشر.
[5] وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف الْمَنْفُوشِ المندوف الملون، لتفرق أجزائها «1» و خفة سيرها.
[6] فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ رجحت حسناته.
[7] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مرضية- اسم فاعل بمعنى اسم المفعول-.
[8] وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ من الحسنات مَوازِينُهُ.
[9] فَأُمُّهُ مأواه الذي يؤمّه و يقصده هاوِيَةٌ جهنم يهوي فيها.
[10] وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ لكثرة هولها.
[11] نارٌ حامِيَةٌ شديدة الحر.
مكية آياتها ثمان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أَلْهاكُمُ أشغلكم أيها الناس عن الآخرة التَّكاثُرُ التباهي بكثرة المال و الأولاد.
[2] حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ صرتم إليها بأن متم.
[3] كَلَّا لا ينبغي أن يكون الإنسان هكذا سَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة سوء عملكم.
[4] ثُمَّ للتأكيد كَلَّا للردع أيضا سَوْفَ تَعْلَمُونَ.
[5] كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ علما يقينيا بعاقبة أمركم.
[6] لَتَرَوُنَّ برؤية القلب الْجَحِيمَ المعدة لمن ألهته دنياه.
[7] ثُمَّ عند الموت أو في الآخرة لَتَرَوُنَّها أي الجحيم عَيْنَ الْيَقِينِ اليقين الذي هو معاينة بدخولها.
[8] ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عند دخولها عَنِ النَّعِيمِ فتقولون تحسرا أين ذهب ذلك النعيم الذي كنا فيه؟
__________________________________________________
(1) أي أجزاء الجبال.
تبيين القرآن، ص: 624
مكية آياتها ثلاث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ الْعَصْرِ قسما بالعصر، و المراد وقت العصر أو الدهر، و في التأويل إنه الإمام المهدي (عج).
[2] إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ خسارة، لأنه كلما فات يوم منه ذهب قسم من عمره وفاته ما أمكنه من العمل الصالح فيه و لم يعمله.
[3] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا أوصى بعضهم بعضا بِالْحَقِّ بأن يعمل بالحق وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ بأن يصبر على المكاره و أتعاب التكليف.
مكية آياتها تسع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَيْلٌ سوء و هلاك لِكُلِّ هُمَزَةٍ كثير الهمز أي الكسر من أعراض الناس لُمَزَةٍ كثير الطعن فيهم.
[2] الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ حسبه مرارا، فإن الثري الغافل عن الآخرة يكون هكذا همازا لمازا حسّابا.
[3- 4] يَحْسَبُ يزعم أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أبقاه سالما عن الآفات. كَلَّا ليس هكذا فإن المال لا يسلم الإنسان لَيُنْبَذَنَّ يطرحن بذلة فِي الْحُطَمَةِ النار التي تحطم عظام الإنسان.
[5] وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ تعظيم لها و تهويل فيها.
[6] نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ التي أشعلت.
[7] الَّتِي تَطَّلِعُ تستولي عَلَى الْأَفْئِدَةِ القلوب، لأنها مكان الكبر و التجبر.
[8] إِنَّها أي النار عَلَيْهِمْ على هؤلاء الكفار مُؤْصَدَةٌ مسدودة الباب فلا يقدرون على الخروج منها.
[9] و هم فِي عَمَدٍ تربط أرجلهم بعمد مُمَدَّدَةٍ ممدودة، كما تربط أرجل المجرمين بالأعمدة المبنية في الأرض حتى لا يفروا.
مكية آياتها خمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ الذين قصدوا تخريب الكعبة و جاءوا معهم بالفيلة لهذا الغرض.
[2] أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ تدبيرهم لأجل هدمها فِي تَضْلِيلٍ تضييع، بأن أهلكهم و حفظ الكعبة.
[3] وَ أَرْسَلَ الله عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ بيان (طيرا).
[4] تَرْمِيهِمْ الأبابيل بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ الطين المتحجر، و كان كل واحد من الطير يحمل في منقاره و رجليه ثلاثة أحجار فيقتل ثلاثة أشخاص.
[5] فَجَعَلَهُمْ الله تعالى كَعَصْفٍ كورق زرع مَأْكُولٍ أكله الدواب، فإنه لا فائدة فيه و لا منظر له، أي أهلكهم جميعا.
تبيين القرآن، ص: 625
مكية آياتها أربع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] لِإِيلافِ متعلق ب (فليعبدوا) أي يعبدوا قريش رب البيت لجهة أن الله يسّر لهم أن يألفوا و يذهبوا إلى سائر البلاد لجلب الطعام و الحاجيات قُرَيْشٍ.
[2] إِيلافِهِمْ بدل من (لإيلاف) في رِحْلَةَ رواحهم في الشِّتاءِ إلى اليمن وَ الصَّيْفِ إلى الشام.
[3]لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الكعبة.
[4] الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ بأن هيأ لهم الرحلة حتى يجلبوا الطعام ليأكلوا.
وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ لأنه جعل مكة حرما آمنا لا يعتدي عليهم أحد، باحترام مكة.
مكية آياتها سبع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أَ رَأَيْتَ استفهام تعجب الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ بالجزاء.
[2] فَذلِكَ المكذب- إن لم تعرفه- هو الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ يدفعه عن حقه بعنف.
[3] وَ لا يَحُضُّ لا يحث نفسه و لا غيره عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ إطعامه، لما فيه من الشح و تكذيبه بالجزاء.
و إذا كان عدم المبالاة باليتيم و بالمسكين موجبا للذم فالسهو عن الصلاة التي هي عمود الدين أولى بالندم
[4] فَوَيْلٌ هلاك لِلْمُصَلِّينَ الغافلين.
[5] الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ غافلون غير مبالين بها، صليت أم لا، بالشرائط أم لا.
[6] الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ يرون الناس أعمالهم ليمدحوهم بها.
[7] وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ الخير، بأن يمنعوا أنفسهم و الناس عن عمل الخير.
مكية آياتها ثلاث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الخير الكثير، و من مصاديقه إعطائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاطمة عليهم السّلام.
[2] فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ الإبل، شكرا له.
[3] إِنَّ شانِئَكَ مبغضك هُوَ الْأَبْتَرُ الذي لا عقب له، و لا خير يبقى بعده، و الآية نزلت حين قال الكفار إن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبتر لا عقب له.
تبيين القرآن، ص: 626
مكية آياتها ست بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ فقد قالوا: يا محمد نعبد إلهك سنة و تعبد آلهتنا سنة.
[3] وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ في المستقبل ما أَعْبُدُ و هذا إخبار منه بأن من قال له هذا الكلام يموت كافرا، و كان كما نزل.
[4] وَ لا أَنا في الحال عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ من الأصنام.
[5] وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ في الحال ما أَعْبُدُ فالأولان للاستقبال و الأخيران للحال، أو العكس.
[6] لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ديني، فأنتم لا تتركون دينكم و أنا لا أرفض ديني.
مدنية آياتها ثلاث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ بنصرك على أعدائك وَ الْفَتْحُ فتح مكة.
[2] وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ الإسلام أَفْواجاً جماعات جماعات.
[3] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزّهه عن النقائص بذكر محامده، فإذا قلت: عادل، كان معناه أنه ليس بظالم وَ اسْتَغْفِرْهُ اطلب غفرانه إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً كثير الغفران لمن تاب و استغفر، و قد تقدم وجه استغفار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
مكية آياتها خمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] تَبَّتْ خسرت يَدا أَبِي لَهَبٍ فإنه كان يضرب الرسول بالحجارة وَ تَبَّ خسر هو نفسه.
[2] ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ ما أفاده عن عذاب الله ما له وَ ما كَسَبَ ما كسبه من الأولاد و الجاه، فإنها لا تغنيه عن العذاب.
[3] سَيَصْلى يدخل ناراً ذاتَ لَهَبٍ اشتعال.
[4] وَ تبت امْرَأَتُهُ أم جميل أخت أبي سفيان، حال كونها حَمَّالَةَ الْحَطَبِ كانت تحمل الشوك و تنشره في الليل في طريق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليؤذي رجله الكريمة.
[5] فِي جِيدِها رقبتها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ من ليف، فإنها كانت تحمل الحطب في ذلك الليف.
تبيين القرآن، ص: 627
مكية آياتها أربع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا شريك له.
[2] اللَّهُ الصَّمَدُ السيد المقصود في كل الأمور.
[3] لَمْ يَلِدْ مسيحا و لا غيره كما قال المسيحيون و غيرهم وَ لَمْ يُولَدْ فليس له أب و أم.
[4] وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً مثلا أَحَدٌ إذ لا أحد يماثله حتى يكون كفوا له.
مكية آياتها خمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] قُلْ أَعُوذُ أجير نفسي بِرَبِّ الْفَلَقِ الصبح.
[2] مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ مما له شر.
[3] وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ ظلمة الليل إِذا وَقَبَ دخل، فإن الليل معرض البلاء.
[4] وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ النساء الساحرات اللاتي ينفخن عند السحر فِي الْعُقَدِ جمع عقدة التي يعقدنها في الخيط.
[5] وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ بأن عمل بمقتضى حسده من الأذى و المكر.
مكية آياتها ست بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ مالكهم.
[3- 4] إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الشيطان الذي يلقي الوسوسة و الشبهة الْخَنَّاسِ لأنه يخنس كثيرا، أي يتراجع و يختفي إذا ذكر الله تعالى.
[5] الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ قلوب النَّاسِ.
[6] مِنَ بيان (الوسواس) الْجِنَّةِ الجن وَ النَّاسِ البشر.
صدق الله العلي العظيم سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و صلى الله على محمد و آله الطيبين الطاهرين.
استغرقت كتابته مجموعا 48 يوما، و تم في:
كربلاء المقدسة 15/ رجب/ 1389 ه بيد: محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي
تبيين القرآن، ص: 629
اللّهمّ ارحمني بالقرءان و اجعله لي إماما و نورا و هدى و رحمة اللّهمّ ذكّرنى منه ما نسيت و علّمنى منه ما جهلت و ارزقني تلاوته آناء اللّيل و أطراف النّهار و اجعله لي حجّة يا ربّ العالمين اللّهمّ أصلح لي ديني الّذى هو عصمة أمرى و أصلح لي دنياى الّتى فيها معاشي و أصلح لي آخرتي الّتى فيها معادي و اجعل الحياة زيادة لّى في كلّ خير و اجعل الموت راحة لّى من كلّ شرّ اللّهمّ اجعل خير عمرى آخره و خير عملي خواتمه و خير أيّامى يوم ألقاك فيه اللّهمّ إنّي أسألك عيشة هنيّة و ميتة سويّة و مردّا غير مخزى و لا فاضح اللّهمّ إنّى أسألك خير المسألة و خير الدّعاء و خير النّجاح و خير العلم و خير العمل و خير الثّواب و خير الحياة و خير الممات و ثبّتنى و ثقّل موازيني و حقّق إيمانى و ارفع درجتي و تقبّل صلاتي و اغفر خطيئاتي تبيين القرآن، ص: 630
و أسألك العلا من الجنّة اللّهمّ إنّى أسألك موجبات رحمتك و عزائم مغفرتك و السّلامة من كلّ إثم و الغنيمة من كلّ برّ و الفوز بالجنّة و النّجاة من النّار اللّهمّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلّها و أجرنا من خزي الدّنيا و عذاب الآخرة اللّهمّ اقسم
لنا من خشيتك ما تحول به بيننا و بين معصيتك و من طاعتك ما تبلّغنا بها جنّتك و من اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدّنيا و متّعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوّتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منّا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عاد انا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدّنيا أكبر همّنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلّط علينا من لّا يرحمنا اللّهمّ لا تدع لنا ذنبا إلّا غفرته و لا همّا إلّا فرّجته و لا دينا إلّا قضيته و لا حاجة من حوائج الدّنيا و الآخرة إلّا قضيتها يا أرحم الرّاحمين ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النّار و صلّى اللّه على نبيّنا محمّد و على آله و أصحابه الأخيار و سلّم تسليما كثيرا
تبيين القرآن، ص: 631
السورة رقمها الصفحة الفاتحة 1 10 مكية البقرة 2 11 مدنية آل عمران 3 61 مدنية النساء 4 88 مدنية المائدة 5 117 مدنية الأنعام 6 140 مكية الأعراف 7 163 مكية الأنفال 8 189 مدنية التوبة 9 199 مدنية يونس 10 220 مكية هود 11 223 مكية يوسف 12 247 مكية الرعد 13 261 مدنية إبراهيم 14 267 مكية الحجر 15 274 مكية النحل 16 279 مكية الإسراء 17 294 مكية الكهف 18 305 مكية مريم 19 317 مكية طه 20 324 مكية الأنبياء 21 322 مكية الحج 22 344 مدنية المؤمنون 23 354 مكية النور 24 362 مدنية الفرقان 25 371 مكية الشعراء 26 379 مكية النمل 27 389 مكية القصص 28 397 مكية العنكبوت 29 408
مكية السورة رقمها الصفحة الروم 30 416 مكية لقمان 31 423 مكية السجدة 32 427 مكية الأحزاب 33 430 مدنية سبأ 34 440 مكية فاطر 35 446 مكية يس 36 452 مكية الصافات 37 458 مكية ص 38 465 مكية الزّمر 39 471 مكية غافر 40 480 مكية فصلت 41 490 مكية الشورى 42 496 مكية الزخرف 43 502 مكية الدخان 44 509 مكية الجاثية 45 512 مكية الأحقاف 46 515 مكية محمد 47 520 مدنية الفتح 48 524 مدنية الحجرات 49 528 مدنية ق 50 531 مكية الذّاريات 51 534 مكية الطور 52 537 مكية النّجم 53 540 مكية القمر 54 542 مكية الرحمن 55 545 مدنية الواقعة 56 548 مكية الحديد 57 551 مدنية المجادلة 58 556 مدنية تبيين القرآن، ص: 632
السورة رقمها الصفحة الحشر 59 559 مدنية الممتحنة 60 563 مدنية الصّف 61 565 مدنية الجمعة 62 567 مدنية المنافقون 63 568 مدنية التّغابن 64 570 مدنية الطلاق 65 572 مدنية التّحريم 66 574 مدنية الملك 67 577 مكية القلم 68 579 مكية الحاقة 69 582 مكية المعارج 70 584 مكية نوح 71 587 مكية الجن 72 589 مكية المزّمّل 73 591 مكية المدّثّر 74 592 مكية القيامة 75 596 مكية الإنسان 76 598 مدنية المرسلات 77 600 مكية النّبأ 78 602 مكية النّازعات 79 603 مكية عبس 80 606 مكية التكوير 81 608 مكية الانفطار 82 609 مكية المطففين 83 609 مكية الانشقاق 84 611 مكية البروج 85 612 مكية الطارق 86 613 مكية السورة رقمها الصفحة الأعلى 87 613 مكية الغاشية 88 615 مكية الفجر 89 616 مكية البلد 90
617 مكية الشمس 91 618 مكية الليل 92 618 مكية الضّحى 93 619 مكية الشّرح 94 619 مكية التّين 95 620 مكية العلق 96 620 مكية القدر 97 621 مكية البيّنة 98 621 مدنية الزلزلة 99 622 مدنية العاديات 100 622 مكية القارعة 101 623 مكية التكاثر 102 623 مكية العصر 103 624 مكية الهمزة 104 624 مكية الفيل 105 624 مكية قريش 106 625 مكية الماعون 107 625 مكية الكوثر 108 625 مكية الكافرون 109 626 مكية النصر 110 626 مدنية المسد 111 626 مكية الإخلاص 112 627 مكية الفلق 113 627 مكية الناس 114 627 مكية