دفع شبه من شبه و تمرد و نسب ذلک الی الامام احمد

اشارة

سرشناسه : حصنی، ابوبکربن محمد، 752 - 829ق.

عنوان و نام پديدآور : دفع شبه من شبه و تمرد و نسب ذلک الی الامام احمد/ تالیف ابوبکربن محمدبن عبدالمومن تقی الدین الحصنی الدمشقی (752 - 829 ھ.)؛ تحقیق جماعه من العلماء؛ باشراف السیدمحمدرضا الحسینی الجلالی.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1391.

مشخصات ظاهری : 256 ص.

شابک : 978-964-540-371-1

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ قبلی: المکتبة الازهریه للتراث، [ 14ق. = 19م. = 13].

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع : فقه شافعی -- قرن 9ق.

شناسه افزوده : حسینی جلالی، سیدمحمدرضا، 1324 - ، ویراستار

رده بندی کنگره : BP176/4/ح6د7 1391

رده بندی دیویی : 297/333

شماره کتابشناسی ملی : 2736137

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

المؤلف الإمام الحصني

قال صاحب شَذَرَات الذَّهَب(الجزء التاسع: الصفحات 273- 275)، في وفيات عام(829 ه): وفيها الشيخ تقي الدين أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن بن حريز بن سعيد بن داود بن قاسم بن علي بن علوي بن ناشي بن جوهر بن علي بن أبي القاسم بن سالم بن عبداللَّه بن عمر بن موسى بن يحيى بن علي الأصغر بن محمد التّقي (1) بن حسن العسكري (2) بن علي [الهادي] بن محمد بن الجواد بن علي الرّضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصّادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.


1- كذا الصواب، وفي المطبوع: المتّقي.
2- لفظة «العسكري» سقطت من «ط».

ص: 6

الحِصْني- نسبة إلى الحِصْن قرية من قرى حوران (1)- ثم الدمشقي، الفقيه الشافعي (2).

ولد سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وتفقه بالشّريشي، والزُّهري، وابن الجابي، والصَّرْخَدي، والغَزّي، وابن غَنُّوم. وأخذ عن الصَّدر اليَاسُوفي، ثم انحرف عن طريقته. وحطّ على ابن تَيْمِيَّة (3)، وبالغ في ذلك، وتلقى ذلك عنه الطلبة بدمشق، وثارت بسبب ذلك فتن كثيرة.

وكان يميل إلى التقشف ويبالغ في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وللناس فيه اعتقاد زائد.

ولخّص «المهمات» في مجلد، وكتب على «التنبيه».

قال القاضي تقي الدِّين الأسدي: كان خفيف الرّوح، منبسطاً، له نوادر، ويخرج إلى النُّزَه، ويبعث الطلبة على ذلك.

مع الدِّين المتين، والتَّحري في أقواله وأفعاله، وتزوَّج عدّة نساء، ثم انقطع وتقشَّف وانجمع، وكل ذلك قبل القرن (4)، ثم ازداد بعد الفتنة تقشّفه وانجماعه، وكَثُرَت مع ذلك أتباعه، حتَّى امتنع من مكالمة الناس، ويُطلق لسانه في القُضاة وأصحاب الولايات.


1- قال ياقوت في «معجم البلدان»(2/ 265): «حصن مَقْدِيَة»: هو من أعمال أذرعات من أعمال دمشق.
2- ترجمته في «إنباء الغمر» لابن حجر العسقلاني 8/ 110 وفيه «محمد بن عبداللَّه» و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شبهة(4/ 97- 99) و «الضوء اللامع» للسخاوي(11/ 81) و «درر العقود الفريدة» للمقريزي(1/ 190- 191)، وترجم له أيضاً: ابن خطيب الناصرية في تاريخ حلب، والرضيّ الغزّي في بهجة الناظرين، وله ترجمة في الفتاوى السهمية في ابن تيميّة.
3- لفظة «تيمية» سقطت من «آ».
4- أي قبل دخول القرن التاسع الهجري.

ص: 7

وله في الزُّهد والتَّقلُّل من الدّنيا حكايات تضاهي ما نُقِلَ عن الأقدمين، وكان يتعصب للأشاعرة، وأصيب في سَمْعِهِ وبصره فضعف.

وشرع في عِمَارَة رِبَاطٍ داخل باب الصغير، فساعده الناس بأموالهم وأنفسهم، ثم شرع في عِمَارَة خان السَّبيل ففرغ في مدة قريبة.

وكان قد جمع تآليف كثيرة قبل الفتنة، وكتب بخطّه كثيراً في الفقه والزُّهد.

وقال السخاوي: شَرَح «التنبيه» (1)أي الأربعين النووية.

(2) و «المنهاج» (3)أي الأربعين النووية.

(4) وشرح «مسلم» في ثلاث مجلدات، ولخّص «المهمات» (5) في مجلدين، وخرّجَ أحاديث «الإِحياء» مجلد (6) وشرح «النواوية» مجلد (7)، و «أهوال القيامة» (8) مجلد، وجمع «سير نساء السَّلف العابدات» مجلد، و «قواعد الفقه» مجلد، و «تفسير القرآن إلى الأنعام» آيات متفرّقة مجلد، و «تأديب القوم» مجلد، و «سير السالك» مجلد، و «تنبيه السالك على مضار (9) المهالك» ست مجلدات، و «شرح الغاية» مجلد، و «شرح النهاية» مجلد، و «قمع النّفوس» مجلد، و «دفع الشُّبه» (10) مجلد، و «شرح أسماء اللَّه الحسنى» مجلد،


1- التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي، في الفقه الشافعي، والشرح
2- مجلدات.
3- المنهاج للنووي، والشرح في
4- مجلدات.
5- المهمات للاسنوي.
6- قلت: لم أعثر على ذكر لكتابه المذكور عند السخاوي في «الضوء اللامع» ولكن ذكره ابن قاضي شهبة في «طبقاته» في معرض حديثه عن مؤلّفاته ولعلّ المؤلّف قد نقل عنه وعزا النقل للسخاوي. واللَّه أعلم.
7- أي الأربعين النووية.
8- في بعض المصادر: أهوال القبور.
9- في «ط»: «مظان» وما جاء في «آ» موافق لما عند ابن قاضي شهبة والسخاوي، وفي اسم الكتاب اختلاف.
10- كتابنا هذا.

ص: 8

و «المولد» مجلد.

وتوفي بخلوته بجامع المزَّاز بالشاغور، بعد مغرب ليلة الأربعاء خامس عشر جمادى الآخرة وصُلِّي عليه بالمصلى، صلَّى عليه ابن أخيه، ثم صُلِّي عليه ثانياً عند جامع كريم الدِّين، ودفن بالقُبيبات في أطراف العمارة على جادة الطريق عند والدته.

وحضر جنازته عَالَمٌ لا يحصيهم إلّااللَّه، مع بعد المسافة وعدم علم أكثر الناس بوفاته، وازدحموا على حمله للتبرك به، وختم عند قبره ختمات كثيرة، وصلّى عليه أُمَمٌ ممن فاتته الصلاة على قبره، ورؤيت له منامات صالحة في حياته وبعد موته.

انتهى.

وفي كتاب البدر الطالع(1/ 166):

السيد أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن بن حريز- بمهملتين وآخره زاي- العَلَوي الحسيني الحصني ثم الدمشقي الشافعي المعروف بالتقي الحصني(ولد) سنة 752 ه.

وأخذ العلم عن جماعة من أهل عصره وبرع، وقصده الطلبة وصنف التصانيف كشرح التنبيه في خمس مجلدات، وشرح أربعين النووي في مجلد.

وشرح مختصر أبي شجاع في مجلد. وشرح الأسماء الحسنى في مجلد، وتلخيص مهمّات الأسنوي في مجلدين، وقواعد الفقه في مجلدين. وله في التصوّف مصنّفات و(مات) ليلة الأربعاء منتصف جمادى الآخرة سنة 829 ه.

وقال خير الدين الزركلي الوهابي في الأعلام(2/ 99):

الإمام تقي الدين أبي بكر الحصنيّ الدمشقي(ت 829 ه):

تقي الدين الحصني:(752- 829 ه: 1351- 1426 م).

ص: 9

أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن بن حريز بن معلّى الحسيني الحصني، تقي الدين: فقيه ورع من أهل دمشق. ووفاته بها. نسبته إلى الحصن(من قرى حوران) وإليه تنسب «زاوية الحصني» بناها رباطاً في محلة الشاغور بدمشق، وله تصانيف كثيرة منها: كفاية الأخبار- ط، شرح به الغاية في فقه الشافعية، ودفع شبه من شبه وتمرّد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد- ط، وتخريج أحاديث الإحياء، وتنبيه السالك على مظان المهالك. ست مجلدات، وقمع النفوس.

ص: 10

ص: 11

سبب تأليف الكتاب و موضوعه، و نسخته

سبب تأليف الكتاب وموضوعه، ونسخته

قال العلامة التقي محبّ السنة والذاب عنها بكل ما استطاع في هذا العصر الشيخ محمد زاهد الكوثري: في ظهر الأصل المقابل به بخط الحافظ محمد بن طولون:

(فائدة) سبب تكلّم المؤلّف رحمه اللَّه تعالى في ابن تيمية وأتباعه ما نقل له عن الشيخ العلامة ناصر الدين التنكزي: أَنه اجتمع ببعض من ينتسب للحنابلة قال:

فرأيته يقول بمسألة التناسخ، ولا يقطع لأطفال المسلمين بالجنة وسمع منه هذا القول شخص آخر.

ونُقل للشيخ المؤلف أيضاً: أنّ شخصاً قال عند هذا المبتدع المشار إليه «يا جاه محمد».

فقال: لا تقل «يا جاه محمد»!

وكذا نقل له عن شخص آخر قال ذلك عنده، فقال: لا تقل «يا جاه محمد»،

ص: 12

فإنّه قد بقي قفة عظام؟» نعوذ باللَّه العظيم من هذه الزلة الجسيمة.

وسمع هذا الكلام أيضاً ابن أخ الشيخ المؤلف، فاجتمع مع عمه فتذاكرا ما وقع فيه الجاهل المشار إليه، ثم قال: يا عمّ، لو تكلّمت في ذلك، فقال: أَنا مشغول بنفسي.

فقال: ما يخلّصك هذا عند اللَّه عزّوجلّ، كيف يتعرّض هذا الجاهل للرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وحطّ مرتبته ومراتب النبيين ويتكلّم في اللَّه بما لا يليق بجلاله، وغير ذلك مما هو زندقة؟؟! لا يخلّصك هذا عند اللَّه مع تمكّنك من ردع هذا الزائغ عن تنزيه اللَّه، وتعظيم رسوله عليه الصلاة والسلام.

فقال المؤلّف رحمه اللَّه تعالى: ائتوني بشي ء من كلام هذا الرجل، أنظر فيه، فإذا تكلّمتُ تكلمتُ على بصيرة.

فأتي بأشياء من كلامه، فلمّا رأى كلامه، تكلّم بما تكلّم رحمه الله (1):

قال شيخنا النعيمي ومن خطه نقلت: نقلتها من خطّ شيخنا شهاب الدين بن قرا، تلميذ المؤلّف ملخصاً لها:

انتهى ما وجدته بخط ابن طولون (2) في ظهر الأصل المذكور.

وترجمة المصنف مبسوطة في كتاب(الضوء اللامع في القرن التاسع) للحافظ محمد بن عبدالرحمن السخاوي، وفي(طبقات الشافعية) للتقي ابن قاضي شهبة وفي


1- ولاحظ ما سيذكره المؤلّف عن سبب التأليف، في مقدمة الكتاب.
2- فابن طولون هذا حافظ جليل له من المؤلّفات ما يقرب من ستمائة مؤلّف وتوفي سنة 953 سنة تسعمائة وثلاث وخمسين.

ص: 13

(الطبقات) للرضي الغزي العامري.

وله مؤلّفات ممتعة: كشرحه على صحيح مسلم في ثلاث مجلدات وشرحه على التنبيه في خمس مجلدات، وشرح على المنهاج كذلك، وطبع حديثاً شرحه على مختصر أبي شجاع في مجلدين، وكان من مفاخر الشافعية في عصره زهداً وعلماً وسيرة، وسنستوفي ترجمته إن شاء اللَّه تعالى عند قيامنا بشرحه.

انتهى كلام الإمام الكوثري.

ص: 14

ص: 15

كلمة لإدارة المطبعة للطبعة الأولي عام (1350ه_)

من عجائب الصدف أننا ما كدنا ننتهي من طبع آخر ملزمة من الكتاب البديع(غوث العباد ببيان الرشاد) لحضرة صاحب الفضيلة ملك البيان وحامل لواء البرهان الاستاذ الشيخ مصطفى أبو سيف الحمامي أحد العلماء وخطيب المسجد الزينبي.

حتى ساق اللَّه تعالى إلينا نسخة خطية جليلة من كتاب «دفع شبه من شبّه وتمرّد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد» للإمام الهمام أبي بكر تقي الدين الحصني رضى الله عنه.

عُني حضرة صاحب الفضيلة المرشد الجليل والعلامة النبيل الشيخ سلامة العزّامي النقشبندي باستنساخها ونقلها من نسخة أخرى خطية ليس في القطر المصري سواها- على ما نعلم- هي لحضرة صاحب الفضيلة البحاثة المعروف

ص: 16

والجهبذ الشهير الشيخ محمد زاهد الكوثري.

ومن فضل اللَّه علينا أن هيّأ لنا من الظروف ما مكننا بعد قليل من النسخة الأصلية التي بيد الشيخ الكوثري.

فرأينا أن يكون الجمع مع النسخة الفرعية والمقابلة في التصحيح على النسخة الأصلية ليخرج الكتاب كما نحب له من الصحة والاتقان.

وإنا نقدمه، بيد الفرح والسرور، إلى إخواننا في جميع أنحاء العالم الإسلامي، راجين أن يكون ذلك خدمة لهم ولديننا الحنيف الذي يعنينا ويهمّنا كثيراً أن نعيش ونموت في خدمته.

وربنا المسؤول- وهو أكرم الأكرمين- أن يحقق لنا هذه الأمنية الغالية.

إدارة مطبعة

دار إحياء الكتب العربية

القاهرة 1350 ه.

ص: 17

هذه النسخة

اعتمدنا في تحقيق الكتاب على النسخة المطبوعة في دار إحياء الكتاب العربي، لأصحابها عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، في القاهرة عام(1350 ه) عن نسخة الإمام المحقق العلامة الكوثري، مع تعليقاته الثمينة.

وقد اطلعنا على وجود نسخة للكتاب مخطوطة في مكتبة جستربتي بمدينة دبلن الايرلندية برقم(4) في المجموعة(3406) كتبت عام(830) أي بعام واحد بعد وفاة المؤلّف جاء ذكرها في مقال(ذخائر التراث العربي) المنشور في مجلة(المورد) البغدادية، العدد الأول السنة الاولى.

وقد قمنا بتصحيح المطبوعة، وعرضها على المصادر التي اعتمدها المؤلّف، مثل كتاب(دفع شُبَه التشبيه) لابن الجوزيّ الحنبلي.

الذي نقل عنه المؤلّف قسماً كبيراً من عباراته واعتمدنا النسخة المطبوعة حديثاً في دار الإمام النووي- في الأردن- عمّان، بضبط فضيلة الشيخ حازم نايف أبو عزان، وتحقيق وتقديم العلامة المحدّث السيد حسن السقاف.

ص: 18

وقد حاولنا تخريج ما أثبته المؤلف من الأحاديث الشريفة، حسب المتوفّر من المصادر، وتصحيح المطبوعة حسب الوارد فيها.

وكذلك تصويب العبارات التي وقع الخطأ في طباعتها، ومنها عبارة الصلاة البتراء التي وقعت في الكتاب، بعد ذكر الرسول، حيث أثبتناها مع ذكر(آله) حذراً من ذلك البتر، واتّباعاً للسنّة المطهّرة التي علّمتنا الصلاة والسلام على نبيّنا الأكرم، بذكر آله معه في ذلك التكريم.

ثم وضعنا عناوين لما جاء في الكتاب مستخدمين المعقوفات لتمييزها عما جاء من العناوين في الأصل المطبوع.

وقدّمنا الكتاب بتقديم احتوى على التعريف بالمؤلّف، حسب المصادر التي ترجمت لحياته.

والتعريف بالكتاب وذكر سبب تأليفه وبيان موضوعه، وعن نسخته هذه.

ونسأل اللَّه أن يوفق المسلمين لقراءته والتزوّد مما أثبته المؤلّف فيه من حقائق، وأن يجزيه وإيانا على العمل الصالح، ويغفر لنا سيّئات أعمالنا آمين.

ونحمد اللَّه على إحسانه وإفضاله، ونسأله الرضا عنا بجلاله وإكرامه، إنّه ذوالجلال والإكرام.

وآخر دعوانا أنّ الحمد للَّه ربّ العالمين.

ص: 19

مقدمة المؤلف و سبب التأليف

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه ربّ العالمين: وصلّى اللَّه على سيّد الأوّلين والآخرين، وأكرم السابقين واللاحقين، وسلّم ومجّد وكرّم.

سبحان من بيده الضرّ والنفع، والوصل والقطع، والتفرقة والجمع، والعطاء والمنع، وفّق من أحبّ لتنزيهه، فحمى موضع نظره منه، وكذا السمع، وخذل من أبغض، فجرى لشقاوته على ما اعتاده وألِفه من ردي ء الطبع، فهبّ على الأوّل نسيمُ إسعاده، وعلى الثاني ريحُ إبعاده، لصدع قلبه بتمويه العدّو، فياله من صَدْعِ.

تقدّس وتمجّد بعزّ كبريائه وجلاله، وتفرّد بأوصاف عظمته وكماله، كما عمّ بجوده و إفضاله و نَواله. تقدّس و تبارك عن مشابهة العبيد، و تنزّه عن صفات الحدوث.

فمن شبّه فقد شابه السامرة وأبا جهل والوليد، ومن عطّل ما ثبت له من صفاته بالأدلة القاطعة فهو عن الحقّ مائل ومُحيد (1)، وكلا القسمين سفيه وشقّي وغير


1- كان ينبغي أن يقول: «حائد»، ولعلّه اختار ذلك مراعاة للسجع. انتهى. مصحّحه.

ص: 20

رشيد، ومن ورائهما عذاب شديد.

ونال خِلَع الرضوان في دار الأمان من نزّه، مع تزايد الكرامات ولديه مزيد.

فشتّان بين من هو راتع في رياض السلامة، ونُزُل الكرامة، في دار المقامة، وبين المطرود المبعود (1)، وقد حقّ عليه الوعيد.

وبعدُ: فإنّ سبب وضعي لهذه الأحرف اليسيرة، ما دهمني من الحَيْرة من أقوام أخباث السريرة؛ يُظهرون الانتماء الى مذهب السيّد الجليل الإمام أحمد؛ وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد.

والعجب أنّهم يُعظّمونه في الملأ، ويتكاتمون إضلاله مع بقيّة الأئمة!

وهم أكفر مّمن تمرّد وجحد، ويضلّون عقول العوامّ وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني، وإظهار التعبّد والتقشّف، وقراءة الأحاديث، ويعتنون بالمُسنَد.

كلّ ذلك خُزَعْبَلات منهم وتمويه.

وقد انكشف أمرهم حتّى لبعض العوامّ، وبهذه الأحرف يظهر الأمر- إن شاء اللَّه تعالى- لكلّ أحد، إلّالمن أراد عزّ وجلّ إضلاله وإبقاءه في العذاب السرمد.

ومن قال بنفي ذلك- أي بنفي خلود العذاب وسرمديّته، وهو ابن تيميّة وأتباعه- فد تجرّأ على كلام الغفور، قال تعالى والّذّين كَفَرُوا لَهمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عَنْهم مِنْ عَذابِهْا كذلك نجزي كلَّ كَفُور (2)

.

وعلى العليم الحكيم في قوله تعالى: يُرِيدونَ أن يخرجوا مِن النّار وما هُمْ بخارجين منها ولهم عذابٌ مُقيم (3)

.

والآيات في ذلك كثيرة عموماً وخصوصاً.


1- اسم المفعول «مُبَعد»، فيقال فيه كما قيل فيما قبله. انتهى. مصحِّحه.
2- سورة فاطر: 36.
3- سورة المائدة: 37.

ص: 21

ومنها قوله تعالى: رَبّنا اصرفْ عَنّا عَذَاب جَهنم إنّ عذابها كان غراما (1)

والغرام المستمّر الذي لا ينقطع، فلو انقطع قدر نَفَسٍ لا يسمى غراماً.

ومن ذلك قوله تعالى: وجاء رَبُّك (2)

.

قال الإمام أحمد: معناه جاء أمر ربك. قال القاضي أبو يعلى: قال الإمام أحمد:

المراد به قدرته وأمره، وقد بيّنه في قوله تعالى: أو يأتي أمر رَبِّكَ (3)

.

يُشير إلى حمل المُطلق على المُقيَّد، وهو كثير في القرآن والسنّة والإجماع وفي كلام علماء الأُمة، لأنّه لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى.

ومثله حديث النزول.

ومّمن صرّح بذلك الإمام الأوزاعي والإمام مالك؛ لأنّ الانتقال والحركة من صفات الحَدَث، واللَّه عزّ وجلّ قد نزّه نفسه عن ذلك.

ومن ذلك قوله تعالى إستوى على العرش (4)

.

فإذا سأل العامّي عن ذلك فيقال له: الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول (5)، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة (6).


1- سورة الفرقان: 65.
2- سورة الفجر: 22.
3- سورة النحل: 33.
4- سورة الأعراف: 54.
5- في(دفع شبه التشبيه) لابن الجوزي: والكيف غير معقول.
6- قاله ابن الجوزي في(دفع شبه التشبيه) ص 110.

ص: 22

وسنوضّح ذلك إن شاء اللَّه تعالى.

وإنّما أجاب الإمام ربيعة بذلك، وتبعه تلميذه مالك؛ لأنّ الاستواء الذي يفهمه العوامّ من صفات الحدث، وهو سبحانه وتعالى- نزّه نفسه عن ذلك بقوله تعالى ليس كمثله شي ء (1)

، فمتى وقع التشبيه ولو بزنة ذَرّة جاء الكفر بالقرآن.

قال الأئمة: وإنّما قيل: السؤال بِدعة؛ لأنّ كثيراً مّمن يُنسب الى الفقه والعلم، لا يُدركون الغوامض في غير المتشابه، فكيف بالمتشابه؟!

فآيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلّااللَّه سبحانه، والقرآن والسُنّة طافحان بتنزيهه عزّ وجلّ.

ومن أسمائه القُدّوس، وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفي خيال التشبيه.

وكذا في قوله تعالى: قُلْ هُو اللَّه أحد... الى آخره (2)

لما فيها من نفي الجنسيّة والبعضيّة، وغير ذلك مّما فيه مبالغة في تنزيهه سبحانه وتعالى.

وكان الإمام أحمد رضى الله عنه يقول: أمِرّوا الأحاديث كما جاءت (3).

وعلى ما قال جرى كبار أصحابه كإبراهيم الحربي وأبي داود والأثرم، ومن كبار أتباعه أبو الحسين المنادي، وكان من المحقّقين، وكذلك أبو الحسن التميمي، وأبو محمد رزق اللَّه بن عبدالوهاب، وغيرهم من أساطين الأئمة في مذهب الإمام أحمد (4).

وجروا على ما قاله في حالة العافية وفي حالة الابتلاء.

فقال تحت السياط: «فكيف أقول ما لم يقل».


1- سورة الشورى: 11.
2- سورة الأخلاص: 1.
3- سنن الترمذي 4/ 692، لاحظ دفع شبه التشبيه ص 111.
4- نفس المصدر والموضع.

ص: 23

وقال في آية الاستواء: «هو كما أراد».

فمن قال عنه: إنّه من صفات الذات، أو صفات الفعل، أو إنّه قال: إنّ ظاهره مراد، فقد افترى عليه، وحسيبه اللَّه تعالى فيما نسب إليه مّما فيه إلحاقه- عزّ وجلّ- بخلقه الذي هو كفر صراح؛ لمخالفته كلامه فيما نزّه نفسه به سبحانه وتعالى عمّا يقولون.

القائلون بالتجسيم من أئمة الحنابلة

ومنهم ابن حامد (1) والقاضي تلميذه (2) وابن الزاغوني (3)، وهؤلاء مّمن ينتمي الى الإمام، ويتبعهم على ذلك الجهلة بالإمام أحمد وبما هو معتمده مّما ذكرت بعضه، وبالغوا في الافتراء؛ إمّا لجهلهم، وإمّا لضغينة في قلوبهم، كالمغيرة بن سعيد وأبي محمّد عبداللَّه الكرامي؛ لأنهم أفراخ السامرة في التشبيه ويهود في التجسيم.


1- الحسن بن حامد البغدادي الورّاق(توفي 403) كان من أكبر مصنفي الحنابلة وشيخهم، له شرح اصول الدين، ردّ عليه ابن الجوزي في(دفع شبه التشبيه) ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 17.
2- هو القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن الفرّاء الحنبلي(توفي 458) هو صاحب كتاب الصفات نقل ابن الأثير في الكامل 10/ 52 قول التميمي فيه: لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار. وقال في حوادث عام(429) فيها أنكر العلماء على ابن الفرّاء ما ضمنه كتابه من الصفات المشعرة بأنه يعتقد التجسيم.
3- علي بن عبيداللَّه بن نصر الحنبلي(توفي 527) صاحب كتاب الإيضاح، وهو من كتب التجسيم.

ص: 24

وحُرِق المغيرة ومعه خمسة من أتباعه، كما أذكره من بعد.

قال ابن حامد في قوله تعالى: ويبقى وجه ربّكَ (1)

، وفي قوله تعالى: كُلُّ شي ء هالك إلّاوجههُ (2)

: «نُثبت للَّه وجهاً، ولا نثبت له رأساً»، وقال غيره:

«يموت إلّاوجهه».

وذكروا أشياء يَقْشَعِرُّ الجسد من ذكر بعضها.

قال أبو الفرج بن الجوزي (3): رأيت من تكلّم من أصحابنا في الأُصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف، وهم ثلاثة: ابن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني، صنّفوا كُتباً شانوا بها المذهب.

وقد رأيتهم نزلوا الى مرتبة العوامّ، فحملوا الصفات على مقتضى الحسّ.

فسمعوا أنّ اللَّه- سبحانه وتعالى- خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً ويدين وأصابع وكفّاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفَخِذاً وساقين ورِجلين.

وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس.

وقالوا: يجوز أن يُمَسّ ويَمُسّ ويُدني العبد من ذاته.

وقال بعضهم: ويتنفّس.

ثمّ إنّهم يُرضُون العوامّ بقولهم: لا كما يُعقل.

وقد أخذوا بالظواهر في الأسماء والإضافات، فسمّوا الصفات تسمية مُبتدعة؛ لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل.


1- سورة الرحمن: 27.
2- سورة القصص: 88.
3- دفع شبه التشبيه بأكفّ التنزيه ص 97- 104.

ص: 25

ولم يلتفتوا الى النصوص الصارفة عن الظواهر الى المعاني الواجبة للَّه سبحانه وتعالى، ولا الى إلغاء ما توجبه الظواهر من سِمات الحَدَث.

ولم يقنعوا أن يقولوا: صفة فعل؛ حتّى قالوا: صفة ذات.

ثمّ لمّا أثبتوا أنّها صفات [ذات] قالوا: لا نحملها على ما توجبه اللغة، مثل اليد على النعمة أو القدرة، ولا المجي ء على معنى البِرّ واللطف، ولا الساق على الشدّة، ونحو ذلك.

بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة.

والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميّين، والشي ء إنّما يُحمل على حقيقته إذا أمكن، فإن صرف صارف حُمل على المجاز.

وهم يتحرّجون من التشبيه، ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السُّنّة وكلامهم صريح في التشبيه.

وقد تبعهم خلق من العوامّ على ذلك لجهلهم ونقص عقولهم، وكفروا تقليداً، وقد نصحتُ للتابع والمتبوع.

عتاب المؤلف مع الحنابلة

ثمّ أقول لهم على وجه التوبيخ: ياأصحابنا أنتم أصحاب نقل وأتباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول [وهو تحت السياط]: «كيف أقول ما لم يقل؟!».

هل بلغكم أنّه قال: إنّ الاستواء من صفة الذات المقدّسة، أو صفة الفعل؟

فمن أين أقدمتم على هذه الأشياء؟!

وهذا كلّه ابتداع قبيح بمن ينكر البِدْعة؟

ثمّ قلتم: إنّ الأحاديث تُحمل على ظاهرها، وظاهر القدم الجارحة.

وإنّما يقال: تُمرّ كما جاءت، ولا تقاس بشي ء.

ص: 26

فمن قال: «استوى بذاته»، فقد أجراه مجرى الحسّيّات، وذلك عين التشبيه.

فاصرفوا بالعقول الصحيحة عنه سبحانه ما لا يليق به من تشبيه أو تجسيم.

وأمِرّوا الأحاديث كما جاءت من غير زيادة ولا نقص.

فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت، لما أنكر عليكم أحد.

ولا تُدخِلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي- أعني الإمام أحمد- ما ليس منه، فلقد كسوتم هذا المذهب شيناً قبيحاً؛ حتّى لا يقال عن حنبليّ إلّامجسّم.

ثمّ زيّنتم مذهبكم بالعصبيّة ل «يزيد بن معاوية»، وقد علمتم أنّ صاحب المذهب أجاز لعنته.

وقد كان أبو محمّد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهبَ شيناً قبيحاً لا يُغسل الى يوم القيامة (1).

فالحاصل من كلام ابن حامد والقاضي وابن الزاغوني- من التشبيه والصفات التي لا تليق بجناب الحقّ- سبحانه وتعالى- هي نَزْعة سامرية في التجسيم، ونزعة يهودية في التشبيه، وكذا نزعة نصرانية.

فإنّه لمّا قيل عن عيسى عليه السلام: إنّه روح اللَّه سبحانه وتعالى، اعتقدت النصارى أنّ للَّه صفة هي روح ولجت في مريم عليها السلام.

وهؤلاء وقع لهم الغلط من سوء فهمهم، وما ذاك إلّاأنّهم سمّوا الأخبار أخبار صفات، وإنّما هي إضافات، وليس كلّ مضاف صفة.

فإنّه- سبحانه وتعالى- قال: ونَفَخْتُ فيه مِن روحي (2)

، وليس للَّه صفة تسمّى روحاً، فقد ابتدع من سمّى المضاف صفة، ونادى على نفسه بالجهل وسوء الفهم.


1- إلى هنا المنقول عن ابن الجوزي في(دفع شبه التشبيه) وبين المنقول والمطبوع هناك اختلاف، أثبتنا بعضه بين المعقوفات.
2- سورة الحجر: 29، سورة ص: 72.

ص: 27

تأرجح الحنابلة مع الهوي في التجسيم والتأويل

ثمّ إنّهم في مواضع يؤوّلون بالتشهّي.

وفي مواضع أغراضِهم الفاسدة يُجرون الأحاديث على مقتضى العرف والحسّ، ويقولون ينزل بذاته، وينتقل ويتحرّك، ويجلس على العرش بذاته.

ثم يقولون: لا كما يُعقل، يغالطون بذلك من يسمع من عامّي وسيّ ء الفهم.

وذلك عين التناقض، ومكابرة في الحسّ والعقل؛ لأنّه كلام متهافت يدفع آخره أوّله وأوّلُه آخره.

وفي كلامهم: «نُنزّهه غير أنّنا لا ننفي عنه حقيقة النزول».

وهذا كلام من لا يعقل ما يقول.

ومثل قول بعضهم: المفهوم من قوله: هُو اللَّهُ الحيّ القيُّومُ (1)

في حقه هو المفهوم في حقّنا إلّاأنّه ليس كمثله شي ء.

فانظر- أرشدك اللَّه- كيف حكم بالتشبيه المساوي، ثمّ عقّبه بهذا التناقض الصريح؟!

وهذا لا يرضى أن يقوله من له أدنى رَويّة.

ولهم من مثل هذه التناقضات ما لا يحصى.

تناقض دعواهم

ومن التناقض الواضح في دعواهم في قوله تعالى: الرحمنُ على العرشِ استوى (2)

أنّه مستقرّ على العرش.


1- البقرة: 255، آل عمران: 2.
2- سورة طه: 5.

ص: 28

مع قولهم في قوله تعالى: أأمِنتُم مَنْ في السماءِ (1)

إنّ من قال: إنّه ليس في السماءِ فهو كافر. ومن المحال أن يكون الشي ء الواحد في حيِّزينِ في آن واحد وفي زمن واحد، ومن المعلوم أنّ «في» للظرفية، ويلزم أنّه- سبحانه وتعالى- مظروف تعالى عن ذلك.

وفي البخاري (2) من حديث أنس:(أنّه عليه السلام رأى نُخامة في القبلة، فشقّ ذلك عليه حتّى رُؤي في وجهه، فقال فحكّها بيده، فقال: إنّ أحدكم إذا قام في صلاته، فإنّه يُناجي ربّه، أو إنّ ربّه بينه وبين القبلة) (3).

وفيه من حديث ابن عمر رضى الله عنه: أنّه عليه السلام رأى نخامة في جدار الكعبة فحكّها، ثمّ أقبل على الناس، فقال: إذا كان أحدكم يصلّي فلا يبصق قِبَل وجهه، فإنّ اللَّه قِبَل وجهه إذا صلى».

وفي «صحيح مسلم» (4) وغيره من حديث أبي هريرة رضى الله عنه: أنّه عليه السلام رأى نُخامة في القبلة فقال:(ما بال أحدكم يستقبل ربّه فيتنخّع أمامه، أيُحبّ أحدكم أن يستقبل فيُنخَّع في وجهه).

وفي الصحيحين (5) من حديث أبي موسى الأشعري رضى الله عنه: أنّه عليه السلام قال:(يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم؛ إنّكم ليس تدعون أصمّ ولا غائباً؛ إنّكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم).


1- سورة الملك: 16.
2- صحيح البخاري: 1/ 159 ح 397 كتاب الصلاة/ أبواب المساجد. ولاحظ فتح الباري(1/ 508)، وقال: فيه الردّ على من زعم أنّه على العرش بذاته.
3- نفس المصدر السابق ح 398. ولاحظ فتح الباري(1/ 509).
4- صحيح مسلم: 2/ 76 كتاب الصلاة.
5- صحيح البخاري: 4/ 541 ح 3986 كتاب المغازي، صحيح مسلم: 8/ 73 كتاب الذكروالدعاء والتوبة.

ص: 29

وفي رواية:(والذي تدعون أقرب الى أحدكم من عُنُق راحلته) (1).

وفي الصحيح (2):(أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه يذكرني).

وحديث المريض (3):(أما لو عدته لَوَجدتني عنده).

وقال تعالى: وناديناهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيمنِ (4).

وقال تعالى: ونوديَ مِنْ شاطي ء الوادي الأيمنِ في البقعة المباركةِ مِنَ الشجرةِ أنْ ياموسى إنّي أنا اللَّه ربُّ العالمينَ (5)

.

وقال تعالى: فأينما تُوَلّوا فَثمَّ وجهُ اللَّهِ (6)

.

وفي الترمذي (7) في حديث العنان، وفيه ذكر الأرضين السبع؛ وأنّ بين كلّ أرض والأُخرى كما بين السماء والأرض، قال عليه السلام:(والذي نفسي بيده لو دلّى أحدكم بحبل لوقع على اللَّه سبحانه وتعالى).

ومثل هذه الأدلّة كثير، وكلّها قاضية بالكون السُّفلي دون العُلوي.

الاستواء لغة و تأويلا

واعلم (8) أنّ الاستواء في اللغة على وجوه، وأصله افتعال من السواء،


1- مسند أحمد: 4/ 402، وهو في الجامع الصحيح للربيع بن حبيب 3/ 35.
2- صحيح البخاري: 6/ 2694 ح 6970 كتاب التوحيد. [وصحيح مسلم 8/ 91 كتاب التوبة] والنص بلفظ مسلم.
3- كنز العمال: 15/ 824 ح 43277.
4- سورة مريم: 52.
5- سورة القصص: 30.
6- سورة البقرة: 115.
7- سنن الترمذي: 5/ 376- 377 ح 3298 كتاب التفسير.
8- من هنا ذكره ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ص 121 وانظر هامش ص 123.

ص: 30

ومعناه- أي السواء- العدل والوسط، وله وجوه في الاستعمال:

منها: الاعتدال، قال بعض بني تميم: استوى ظالم العشيرة والمظلوم؛ أي اعتدلًا.

ومنها: إتمام الشي ء، ومنه قوله تعالى: وَلَمّا بَلَغَ أشُدَّه واستوى (1)

.

ومنها: القصد الى الشي ء، ومنه قوله تعالى: ثُمَّ استوى الى السَّماء (2)؛ أي قصد خلقها.

ومنها: الاستيلاء على الشي ء، ومنه قول الشاعر:

ثمّ استوى بِشرٌ على العراقِ من غير سيفٍ ودمٍ مُهراقِ

وقال آخر:

إذا ما غزا قوماً أباح حريمَهم وأضحى على ما ملّكوه قد استوى (3)

ومنها: بمعنى استقرّ، ومنه قوله تعالى: واستوت على الجُوديّ (4)

.

وهذه صفة المخلوق الحادث، كقوله تعالى: وجَعَلَ لكُم مِن الفلكِ والأنعامِ ما تركبُون لتستوُوا على ظُهورهِ (5)

.

وهو نزّه نفسه سبحانه عن ذلك في كتابه العزيز في غير ما موضع، وقطع المادّة في ذلك أنّ المسألة علميّة وكفى اللَّه المؤمنين القتال والجدال.


1- القصص: 14.
2- سورة البقرة: 29.
3- إلى هنا عن(دفع شبه التشبيه) ص 121.
4- سورة هود: 44.
5- سورة الزخرف: 12.

ص: 31

كلام ابن الجوزي الحنبلي في الرد علي المجسمة

قال أبو الفرج بن الجوزي: وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.

قال عبداللَّه بن وهب: كنّا عند مالك بن أنس ودخل رجل، فقال: يا أبا عبداللَّه الرحمن على العرشِ استوى (1)

، كيف استواؤه؟

فأطرق مالك وأخذته الرُّحَضاء (2)، ثمّ رفع رأسه فقال: الرحمنُ على العرشِ استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال له: كيف، و «كيف» عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بِدعة أخرجوه، فأُخرج (3).

كان ابن حامد يقول: المراد بالاستواء القعود (4).

وزاد بعضهم: استوى على العرش بذاته، فزاد هذه الزيادة، وهي جُرأة على اللَّه بما لم يقل.

قال أبو الفرج: وقد ذهب طائفة من أصحابنا الى أنّ اللَّه- عزّ وجلّ- على عرشه ما ملأه، وأنّه يُقعِد نبيّه معه على العرش (5).

ثمّ قال: والعجب من قول هذا: ما نحن مجسّمة!

وهو تشبيه محض، تعالى اللَّه- عزّ وجلّ- عن المحلّ والحيّز؛ لاستغنائه عنهما، ولأنّ ذلك مستحيل في حقّه- عزّ وجلّ- ولأنّ المحلّ والحيّز من لوازم الأجرام، ولانزاع في ذلك، وهو- سبحانه وتعالى- منزّه عن ذلك؛ لأنّ الأجرام من صفات


1- سورة طه: 5.
2- العرق الكثير يغسل الجلد.
3- دفع شبه التشبيه ص 122 وأنظر تعليقته.
4- دفع شبه التشبيه ص 128.
5- دفع شبه التشبيه ص 128.

ص: 32

الحدث، وهو عزّ وجلّ منزّه عن ذلك شرعاً وعقلًا، بل هو أزليّ لم يسبق بعدم؛ بخلاف الحادث.

ومن المعلوم أنّ الاستواء إذا كان بمعنى الاستقرار والقعود لابدّ فيه من المماسة، والمماسّة إنّما تقع بين جسمين أو جُرمين.

والقائل بهذا شبّه وجسّم، وما أبقى في التجسيم والتشبيه بقيّة، كما أبطل دلالة ليس كمثله شي ء (1).

ومن المعلوم في قوله تعالى لتستووا على ظهورهِ (2)

أنّه الاستقرار على الأنعام والسفن، وذلك من صفات الآدميين.

فمن جعل الاستواء على العرش بمعنى الاستقرار والتمكّن، فقد ساوى بينه- عزّ وجلّ- وبين خلقه.

وذلك من الأمور الواضحة التي لا يقف في تصوّرها بليد، فضلًا عمّن هو حسن التصوّر جيّد الفهم والذوق، وحينئذٍ فلا يقف في تكذيبه ليس كمِثِله شي ء وذلك كفر محقّق.

ثمّ من المعلوم أنّ(الاستواء) من الألفاظ الموضوعة بالاشتراك، وهو من قبيل المجمل، فدعواه أنّه بمعنى الاستقرار في غاية الجهل؛ لجعله المشترك دليلًا على أحد أقسامه خاصّة.

فالحمار مع بلادته لا يرضى لنفسه أن يكون ضُحكة؛ لجعله القسم قسيماً.

فمن تأمّل هؤلاء الحمقى وجدهم على جهل مركّب؛ يحتجّون بالأدلّة المجملة التي لا دليل فيها قطعاً عند أهل العلم.

ويتركون الأدلّة التي ظاهرها في غاية الظهور في الدليل على خلاف دعواهم،


1- سورة الشورى: 11.
2- سورة الزخرف: 13.

ص: 33

بل بعضها نصوص، كما قدّمته في حديث النخامة وغيرها. فتنبّه لذلك لتبقى على بصيرة من جهل أولئك.

ومن المعلوم أنّه- عزّ وجلّ- واجب الوجود كان، ولا زمان ولا مكان، وهما- أعني الزمان والمكان- مخلوقان.

وبالضرورة أنّ من هو في مكان فهو مقهور محاط به، ويكون مقدّراً ومحدوداً.

وهو- سبحانه وتعالى- منزّه عن التقدير والتحديد، وعن أن يحويه شي ء، أو يحدث له صفة، تعالى اللَّه عمّا يصفون وعمّا يقولون عُلوّاً كبيراً.

فإن قيل: ففي الصحيحين (1) من حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس رضى الله عنه: أنّه ذكر المعراج، وفيه:(فعلا بي الجبّار تعالى، فقال وهو في مكانه: ياربّ خفّف عنّا) الحديث.

فالجواب: أنّ الحافظ أبا سليمان الخطابي قال: إنّ هذه لفظة تفرّد بها شريك، ولم يذكرها غيره، وهو كثير التفرّد بمناكير الألفاظ.

والمكان لا يضاف إلى اللَّه سبحانه وتعالى، إنّما هو مكان النبي صلى الله عليه و آله و سلم مقامه الأوّل الذي أُقيم فيه.

وفي الحديث:(فأستأذن على ربّي وهو في داره) (2).

يوهم مكاناً، وإنّما المعنى في داره التي دوّرها لأوليائه.

وقد قال القاضي أبو يعلى في كتابه «المعتمد»: إنّ اللَّه سبحانه وتعالى وتقدّس لا يوصف بمكان.

فإن قيل: يلزم من كلامكم نفي الجهات، ونفيها يحيل وجوده.


1- صحيح البخاري: 6/ 2732 ح 7079 كتاب التوحيد، وفي طبعة رقم 6963 صحيح مسلم: كتاب الايمان رقم 234 و 235 و 236 والصلاة 607.
2- رواه البخاري لاحظ فتح الباري 13/ 422.

ص: 34

فالجواب: أنّ هذا السؤال ساقط فيه تمويه على الأغبياء، يجرون الجهات المتعلّقة بالآدميّين بالنسبة الى اللَّه عزّ وجلّ عن ذلك.

وأيضاً إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فمسلم، فأمّا اذا لم يقبلهما فليس خُلوّه من طرفي النقيض بمحال.

ويوضّح هذا: أنّك لو قلت: كلّ موجود لا يخلو أن يكون عالماً أو جاهلًا.

قلنا: إنْ كان ذلك الموجود يقبل الضدّين فنعم، فأمّا إذا لم يقبلهما كالحائط- مثلًا- فإنّه لا يقبل العلم ولا الجهل.

ونحن ننزّه الذي ليس كمثله شي ء- سبحانه وتعالى- كما نَزَّهَ نفسه عن كلّ ما يدلّ على الحَدَث، وما ليس كمثله شي ء لا يتصوره وهم، ولا يتخيّله خيال، والتصوّر والخيال إنّما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات تعالى عن ذلك.

ومن هنا وقع الغلط واستدراج العدوّ، فأهلك خلقاً، وقد تنبّه خلق لهذه الغائلة فسلّموا، وصرفوا عنه عقولهم الى تنزيهه سبحانه وتعالى فسَلِموا.

مجموعة من الأحاديث المتشابهة

ومن الأحاديث التي يحتجّون بها حديث عبدالرحمن بن عائش (1)، عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «رأيت ربّي في أحسن صورة، فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم ياربّ فوضع كفّيه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السموات وما في الأرض» (2).


1- سنن الدارمي: 2/ 126، مسند أحمد: 4/ 66 و 5/ 378.
2- سنن الترمذي 5/ 369، تاريخ بغداد 8/ 152، والطبراني في الكبير 1/ 317، وابن الجوزي في الموضوعات 1/ 125، واللآلى ء المصنوعة 1/ 31، وسير أعلام النبلاء 10/ 113، وقال: وهو خبر منكر. وانظر الأسماء والصفات للبيهقي ص 30 ودفع شبه التشبيه لابن الجوزي ص 148.

ص: 35

وهذا الحديث قال الإمام أحمد فيه: إنّ طرقه مضطربة، وقال الدارقطني: كلّ أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح، وقال البيهقي: رُوي من أوجُه كلّها ضعيفة.

وأحسن طرقه يدلّ على أنّ ذلك كان في النوم، ويدلّ على ذلك أنّه رُوي من حديث أبي هريرة رضى الله عنه، أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: (1)(أتاني آتٍ في أحسن صورة، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، فوضع كفّيه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعرفت كلّ شي ء يسألني عنه).

وروي من حديث ثوبان رضى الله عنه قال (2):(خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد صلاة الصبح، فقال: إنّ ربّي أتاني الليلة في أحسن صورة، فقال لي: يا محمّد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أعلم ياربّ، فوضع كفّه بين كتفي حتّى وجدت برد أنامله في صدري، فتجلى لي ما بين السماء والأرض) (3).

ورُوي من وجوه كثيرة، فهي أحاديث مختلفة، وليس فيها ما يثبت.

مع أنّ عبدالرحمن لم يسمعه من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وعلى وجه التنزّل فالمعنى راجع الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فالمعنى رأيته على أحسن صفاته؛ أي من الإقبال والرضا ونحو ذلك؛ لأنّ الصورة يعبّر بها ويراد الصفة.

كما في حديث(خلق اللَّه آدم على صورته) (4).

تقول: هذه صورة هذا الأمر؛ أي صفته، فيكون المعنى خلق اللَّه آدم على


1- كنز العمال: 15/ 897 ح 43544 عن ابن عبّاس، و 15/ 898 ح 43545 عن معاذ، و 16/ 245 ح 44321 عن أنس.
2- نفس المصدر السابق.
3- في مجمع الزوائد 7/ 177 عن البزار في كشف الأستار 3/ 13 رقم 2128.
4- البخاري: كما في فتح الباري 11/ 3، صحيح مسلم 4/ 2017 رقم 115، وانظر مسند أحمد 2/ 434، وفتح الباري 5/ 183، وانظر دفع شبه التشبيه لابن الجوزي ص 146.

ص: 36

صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة.

مع أنّ هذا الحديث فيه علل:

منها: أنّ الثوري والأعمش كانا يدلِّسان ولم يذكرا أنّهما سمعا الحديث من حبيب بن أبي ثابت.

ومنها: أنّ حبيباً كان يدلّس، ولم يعلم أنّه سمعه من عطاء.

وهذا كلّه يوجب وهناً في الحديث.

ومع ذلك فالضمير يصحّ عوده الى آدم عليه السلام، فالمعنى أنّ اللَّه- عزّ وجلّ- خلق آدم على صورته التي خلقه عليها؛ تامّاً لم ينقله من نطفة الى علقة كبنيه.

قال الإمام أبو سليمان الخطابي: وذكره تغلب في أماليه.

وقيل: إنّ الضمير يعود الى بعض بني آدم.

وخَلْق من العلماء سكتوا عن تفسير هذا الحديث.

فالمشبِّه لامُتمسَّك له بهذه الأحاديث لما ذكرناه، وتمسّكه بها يدلّ على جهله وزندقته عافانا اللَّه- عزّ وجلّ- من ذلك.

ومن ذلك حديث القَدَم:(لا تزال جهنّم تقول: هل من مزيد؛ حتّى يضع ربّ العزّة فيها قدمه) الحديث (1)

.

وهذا يرجع الى الُمحْكم، قال اللَّه تعالى: وبَشّر الذّين آمنوا أنَّ لهم قَدَمَ صِدقٍ عند ربِّهم (2)

.

وقال الحسن البصري: القدم في الحديث هم الذين قدّمهم اللَّه من شرار خلقه وأثبتهم لها.


1- البخاري: كما في، فتح الباري 8/ 594، وصحيح مسلم 4/ 2188، وانظر دفع شبه التشبيه ص 170.
2- سورة يونس: 2.

ص: 37

وقال البيهقي: عن النضر بن شميل: القدم هنا الكفّار الذين سبق في علم اللَّه أنّهم من أهل النار.

وقال الأزهري: القدم الذين تقدّم القول بتخليدهم في النار.

وقال ابن الاعرابي: القدم المتقدّم، وكلّ قادم عليها يسمى قدماً، والقدم جمع قادم، كما يقال: عيب وعائب.

وروى الدارقطني:(حتّى يضع قدمه أو رِجله) وفي هذه دلالة على تغيير الرواية بالظنّ.

مع أنّ الرِّجْل في اللغة هي الجماعة؛ ألا تراهم يقولون: رجل من جراد، فيكون المعنى يدخلها جماعة يُشبهون الجراد في الكثرة.

قال ابن عقيل: تعالى اللَّه أن يكون له صفة تشغل الأمكنة، وهذا عين التجسيم، وليس الحقّ بذي أجزاء وأبعاض، فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن المكوّن تعالى اللَّه عن تخايل الجسمية.

وذكر كلاماً مُطوّلًا بالغاً في التنزيه وتعظيم اللَّه تعالى.

وقد تمسّك بهذا الحديث ابن حامد المشبّه، فأثبت للَّه سبحانه وتعالى صفات.

وزاد، فروى من حديث ابن عباس رضى الله عنه أنّه عليه السلام قال:(لمّا اسري بي رأيت الرحمن على صورة شابّ أمرد نوره يتلألأ، وقد نُهيتُ عن صفته لكم، فسألت ربّي أن يُكرمني بُرؤيته، فإذا كأنّه عروس حين كشف عنه حجابه مستوٍ على عرشه).

وهذا من وضعه وافترائه وجرأته على اللَّه- عزّ وجلّ- وعلى رسوله صلى الله عليه و آله و سلم.

ومَنْ أعظم فريةً مّمن شبّه اللَّه- عزّ وجلّ- بأمرد وعروس؟

وكان بعض أئمة الحنابلة يتوجّع، ويقول: ليت ابن حامد هذا ومن ضاهاه لم ينسبوا الى أنّهم من أتباع الإمام أحمد، فقد أدخلوا بأقوالهم المفتراة الشينَ على المذهب، والتعرّض الى الإمام أحمد بالتشبيه والتجسيم، وحاشاه من ذلك، بل هو

ص: 38

من أعظم المنزّهة للَّه عزّ وجلّ، وقد خاب من افترى.

وقال بعض أئمة الحنابلة المنزِّهين: مَنْ أثبت للَّه تعالى هذه الصفات بالمعنى المحسوس، فما عنده من الإسلام خبر. تقدّس اللَّه- عزّ وجلّ- عمّا يقولون عُلوّاً كبيراً.

وخوضهم في ذلك كلام من لا يعرف اللَّه عزّ وجلّ.

وكذا خوضهم في الأحاديث خوض من لايعرف كلام اللَّه تعالى ولا كلام أهل اللغة، فيُجرونها على المتعارف عند الخلق، فيقعون في الكفر.

ونوضّح ذلك إيضاحاً مُبيناً يدركه أبلد العوامّ، فضلًا عن أذكياء الطلبة والعلماء الأخيار، الذين جعل اللَّه- عزّ وجلّ- قلوبهم معادن المعاني المرادة وكنوزها.

فمن ذلك ما في الصحيحين (1) من حديث أبي هريرة رضى الله عنه في حديث الضيف، فيه:(لقد عجب اللَّه من صنيعكما الليلة).

وفي أفراد البخاري (2) من حديث أبي هريرة رضى الله عنه:(عجب ربّك من قوم جي ء بهم في السلاسل حتّى يُدخلهم الجنّة).

قال ابن الأنباري: معنى «عجب ربّك» زادهم إنعاماً وإحساناً فعبّر بالعجب عن ذلك.

قال الأئمة: لأنّ العجب إنّما يكون من شي ء يدهم الإنسان، فيستعظمه ممّا لا


1- بهذا اللفظ في صحيح مسلم في الأشربة رقم 3830 وأنظر رقم 3829، وفي البخاري كتاب المناقب رقم 3514 بفظ: ضحك اللَّه الليلة أو عجب من فعالكما، ومثله في تفسير القرآن رقم 4510، وانظر شرح النووي لمسلم 14/ 12، وفتح الباري لان حجر 7/ 119، وسنن الترمذي 5/ 409 رقم 3304، وعارضه الأحوذي 12/ 190.
2- رواه البخاري في الجهاد والسير رقم 2788، بلفظ: «من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» وهو في أبي داود، الجهاد رقم 2302، ومسند أحمد بلفظ: عجب ربنا.

ص: 39

يعلمه، وذلك إنّما يكون في المخلوق، وأمّا الخالق فلا يليق به ذلك، فمعناه عظم قدر ذلك الشي ء عنده؛ لأنّ المتعجّب من الشي ء يعظم قدره عنده.

فالمعنى في حديث الضيف: عظم قدره وقدر زوجته عنده حتّى نوّه بذكرهما في أعظم كتبه، وعظم قدر المجي ء بهم في السلاسل حتّى أدخلهم الجنّة، وجعلهم من أوليائه وأنصار دينه.

ومن ذلك حديث:(لَلّهُ أفرح بتوبة عبده) (1)، ومعناه أرضى بها.

ومنه (2) قوله كُلُّ حِزبٍ بما لديهم فرحون (3)

؛ أي راضون، ونحو ذلك مما هو كثير في القرآن، وكذا الأحاديث:

ومنها حديث النزول.

وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أنه صلى الله عليه و آله و سلم قال:(ينزل ربّنا كلّ ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثُلُث الليل الآخر؛ يقول: من يدعوني فأستجب له....) الى آخره.

وهذا الحديث رواه عشرون نفساً من الصحابة رضي اللَّه عنهم.

وقد تقدّم أنّه يستحيل على اللَّه- عزّ وجلّ- الحركة والتنقل والتغيّر، لأنّ ذلك من صفات الحدث، فمن قال ذلك في حقّه تعالى فقد ألحقه بالمخلوق، وذلك كفر صريح لمخالفة القرآن في تنزيهه لنفسه سبحانه وتعالى.

ومن العجب العجيب أن يقرأ أحدهم قوله تعالى: وأنزلنا الحديد مع أنّ معدنه في الأرض.

وقوله تعالى: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج.


1- مسلم 8/ 91 كتاب التوبة.
2- أي من هذا الاستعمال ا ه مصححه.
3- سورة المؤمنون: 53.

ص: 40

فياللَّه العجب، من شخص لم يعرف نزول الجمل، كيف يتكلّم في تفصيلها.

وقد قال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب.

وقال تعالى: قد أنزل اللَّه إليكم ذِكراً، فنسب الإنزال الى هاتين الغايتين إليه سبحانه وتعالى.

وقد قال تعالى: مَن يُضلل اللَّهُ أي ببدعته فلا هادي له ونذرهم في طغيانهم يعمهون، والعَمَهُ في البصيرة، كما أنّ العمى في البصر، والعَمَه في البصيرة منه الهلكة أعاذنا اللَّه من ذلك.

وروى أبو عيسى الترمذي عن مالك بن أنس وسفيان بن عُيينة وابن المبارك:

أنّهم قالوا: أمّروا هذه الأحاديث بلا كيف (1).

قال الأئمة: فواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النُّقلة والحركة.

فإنّ النزول- الذي هو انتقال من مكان الى آخر- يفتقر الى الجسمية والمكان العالي والمكان السافل ضرورة.

كما في قوله تعالى: يخافون ربّهم من فوقهم فإنّ الفوقية باعتبار المكان لا تكون بالضرورة إلّافي الأجرام والاجسام مركّبة كانت أو بسيطة، والربّ- سبحانه وتعالى- منزَّه عن ذلك، إذ هو من صفات الحدث.

وقال ابن حامد الراسم نفسه بالحنبلي: هو فوق العرش بذاته، وينزل من مكانه الذي هو فيه، فينزل وينتقل.

ولمّا سمع تلميذه القاضي منه هذا استبشعه، فقال: النزول صفة ذاتية، ولا نقول: نزوله انتقال.

أراد أنْ يغالط الأغبياء بذلك.


1- سنن الترمذي 2/ 87 ذيل حديث 0659 و 4/ 692، وقال: وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يروي هذه الأشياء كما جاءت ونؤمن بها ولا تفسّر ولا تتوهّم ولا يقال: كيف.

ص: 41

وقال غيره: يتحرّك إذا نزل.

وحكوا هذه المقالة عن الإمام أحمد، فجوراً منهم، بل هو كذب محض على السيد الجليل السلفي المنزّه.

فإنّ النزول إذا كان صفة لذاته لزم تجدّدها كلّ ليلة وتعدّدها، والأجماع منعقد على أنّ صفاته قديمة، فلا تجدّد ولا تعدّد تعالى اللَّه عمّا يصفون.

وقد بالغ في الكفر من ألحق صفة الحقّ بالخلق، وأدرج نفسه في جريدة السامرة واليهود الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا.

ومنها: حديث الأصابع.

وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال:(جاء حَبْر الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا محمّد إنّ اللَّه يضع السماء على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والأنهار على أصبع، وسائر الخلق على أصبع- وفي لفظ- والماء والثرى على أصبع، ثمّ يهزّهنّ.

فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقال: وما قَدَروا اللَّه حَقَّ قَدره وفي لفظ:

(فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم تعجّباً وتصديقاً له) (1).

قال الأئمة- منهم أبو سليمان الخطابي-: لا نثبت للَّه صفة إلّابالكتاب، أو خبر مقطوع بصحّته مستند الى أصل في الكتاب أو السُّنّة المقطوع بصحّتها (2)، وما كان بخلاف ذلك فالواجب التوقّف عن إطلاق ذلك، ويتأوَّل على ما يليق بمعاني الأُصول المتّفق عليها من أقوال أهل العلم مع نفي التشبيه.


1- صحيح البخاري 6/ 33، وانظر 8/ 174 و 187 و 202- دار الفكر-، وفتح الباري 13/ 393 و 398، وصحيح مسلم 8/ 25- دار الفكر-.
2- لو لاحظ المتكلمون في هذه المواضيع هذا الأصل لاستراحوا وأراحوا أنتهى. مصحِّحه.

ص: 42

وقال غيره: قد نفى اللَّه تعالى التشبيه عنه في قوله تعالى: وما قدروا اللَّه حقّ قدره والأرض جميعاً قبضته يومَ القيامةِ والسمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ سُبحانه وتعالى دفعاً لما يتبادر إليه الفهم باعتبار المحسوسات.

قال الأئمة: معناه ما عرفوه حقّ معرفته.

وقال المبّرد: ما عظّموه حقّ عظمته.

وقبضة اللَّه- عزّوجلّ- عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته.

واليمين- في كلام العرب- بمعنى الملك والقدرة، كما قال تعالى: لأخذنا منه باليمين أي بالقوة والقدرة.

وأشعار العرب في ذلك أكثر جدّاً من أن تُذكر، وأشهر من أن تُنشد وتُبرز وتُظهر.

وفي الحديث(الحجرُ الأسودُ يمينُ اللَّه تعالى).

وقال تعالى يدُ اللَّه فوق أيديهم.

وقال أبو الوفاء بن عقيل- من أصحاب الإمام أحمد-: ما قدروا اللَّه حقّ قدره إذ جعلوا صفاته تتساعد وتتعاضد على حمل مخلوقاته، وإنّما ذكر الشرك في الآية ردّاً عليهم.

وفي معنى هذا الحديث قوله صلى الله عليه و آله و سلم:(إنّ قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلّبها كيف شاء) (1).

وفي ذلك إشارة الى أنّ القلوب مقهورة لمُقلِّبها.

قال الخطابي: واليهود مشبّهة، ونزول الآية دليل على إنكار الرسول عليهم، ولهذا ضحك صلى الله عليه و آله و سلم على وجه الإنكار.


1- رواه مسلم 4/ 2045 رقم 17، ومسند أحمد 2/ 168، والترمذي 4/ 449 برقم 2141، ومستدرك الحاكم 2/ 288.

ص: 43

وليس معنى الأصابع معنى الجارحة لعدم ثبوته، بل يُطلق الاسم في ذلك على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه!

وقال غيره من حمل الأصابع على الجارحة فقد ردّ على اللَّه- سبحانه وتعالى- في قوله: سبحانه وأدخل نفسه في أهل الشرك؛ لقوله تعالى: سبحانه وتعالى عمَّا يشركون.

وهو- عزّ وجلّ- يذكر في كتابه المبين التحرّس عمّا لا يليق؛ دفعاً وردّاً لأعدائه، كقوله تعالى: وقالوا اتخذ اللَّه ولداً، سبحانه وقال تعالى: وخَرقوا له بَنين وبناتٍ بغير علم، سبحانه ونحو ذلك، وآكد من ذلك قوله: وأنّه تعالى جدُّ ربِّنا ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً قدّم تنزيهه- عزّ وجلّ- أوّلًا في هذه الآية.

والقرآن طافح بذلك.

ومنها: ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:(لمّا قضى اللَّه الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: أنّ رحمتي غلبت غضبي) وفي لفظ: «سبقت».

قال القاضي المشبِّه- تلميذ ابن حامد-: ظاهر قوله: «عنده» التقرب من الذات.

وما قاله يستدعي القرب والمساحة، وذلك من صفات الأجسام، وقد عمي عن قوله تعالى: مسومة عند ربِّكَ.

ومن المعلوم أنّك تقول: عندي فوق الغرفة كتاب كذا، وهو في موضع شاسع نازل عن الغرفة بمسافة بعيدة.

ثمّ إنّ هذا القاضي روى عن الشعبي أنّه قال: إنّ اللَّه قد ملأ العرش حتّى أنّ له أطيطاً كأطيط الرَّحْل، وهو كذب على الشعبي (1).


1- دفع شبه التشبيه ص 249.

ص: 44

وقال بعضهم: ثم استوى على العرش قعد عليه.

وقال ابن الزاغوني: خرج عن الاستواء بأربع أصابع (1).

ولهم ولأتباعهم مثل ذلك خبائث كلّها صريحة في التشبيه والتجسيم، لا سيما في مسألة الأستواء.

وهو- سبحانه وتعالى- متنزه عمّا لا يليق به من صفات الحَدَث.

ثمّ إنّ هؤلاء الجمادات وأعالي الجهلة، يلزمهم أن يقولوا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره ما لم يمكن القول به من أجهل الناس:(ولا يزال عبدي يتقرّب اليّ بالنوافل حتّى أُحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يَبطش بها، ورجله التي يمشي بها...) الى آخره.

وبالضرورة لا يكون سبحانه جارحةً لعبده، ومع هذا يلزم التعدّد بحسب المتقرّبين والتجزئة والتفرقة، وغير ذلك مّما لا يقوله حمار، بل ولا جماد، تعالى اللَّه وتقدّس عن ذلك.

قال ابن الجوزي: وهؤلاء وأتباعهم جهلوا معرفة ما يجوز على اللَّه وما يستحيل عليه.

ومن أعجب ما رأيت لهم، ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنّه قال في كتاب العرش: إنّ اللَّه قد أخبرنا: أنّه صار من الأرض الى السماء، ومن السماء الى العرش، فاستوى على العرش.

ثمّ قال: ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا، فعابنا الناس بكلامهم.

ولو فهموا أنّ اللَّه- سبحانه وتعالى- لا يوصف بما يوصف به الخلق، لما بنوا أمورهم وقواعدهم على المحسوسات التي بها المساواة بينه وبين خلقه، وفي ذلك


1- دفع شبه التشبيه ص 248.

ص: 45

تكذيبه في تنزيهِهِ وتقديسِهِ نفسَهُ عزّ وجلّ.

وقال أبو الوفاء بن عقيل: تحسب الجهلة أنّ الكمال في نسبة النقائص إليه فيما نزّه نفسه عنه عزّ وجلّ، والذي أوقعهم في ذلك القياسُ المظنون، وكيف يكون له حكم الدليل وقد قضى عليه دليل العقل بالردّ؟!

اختلاف الناس في هذه الأخبار

قال أبو الفرج بن الجوزي: والناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب:

إحداها: إمرارها على ماجاءت من غير تفسير ولا تأويل إلّاأن تقع ضرورة، كقوله تعالى: وجاء ربُّكَ أي جاء أمره، وهذا مذهب السلف.

المرتبة الثانية: التأويل وهو مقام خطر.

المرتبة الثالثة: القول فيها بمقتضى الحسّ، وقد عمّ جهله الناقلين؛ إذ ليس لهم علوم المعقولات التي بها يعرف ما يجوز على اللَّه- عزّ وجلّ- وما يستحيل.

فإنّ علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه، فإذ عدموها تصرّفوا في النقل بمقتضى الحسّ.

ولو فهموا أنّ اللَّه- عزّ وجلّ- لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا جارحة ولا تغير، لما بقوا على الحسّيات التي فيها عين التشبيه وهو كفر بالقرآن أعاذنا اللَّه من ذلك.

ولا شكّ أنّ مذهب السكوت أسلم وقد ندم خلق من أكابر المتكلّمين على الخوض في ذلك.

قال أبو المعالي الجويني في آخر عمره: «خليتُ أهل الإسلام وعلومهم، وركبتُ البحر الأعظم، وغُصْتُ في الذي نهوا عنه، والآن رجعتُ الى قولهم:

عليكم بدين العجائز، فإن لم يُدركني الحقّ بلطفه وأموت على دين العجائز، وإلّا

ص: 46

فالويل لابن الجويني».

قال أبو الوفاء بن عقيل: معنى دين العجائز أنّ المدقّقين بالغوا في البحث والنظر، ولم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليل، فوقفوا مع المراسم واستطرحوا، وقالوا: لاندري.

وسئل الإمام أحمد- قدس اللَّه روحه- عن الاستواء، فقال «هو كما أخبر، لا كما يخطر بالبشر».

فانظر- وفقك اللَّه وارشدك الى الحقّ- الى هذه العبارة ما أرشقها وعلى اتباعه ما أشققها (1)، اعتقاد قويم ومنهاج سليم.

اتهام الإمام أحمد بالتجسيم

قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي- واسمه عبدالرحمن بن علي-: لمّا رأى الحُسّاد للإمام أحمد ما حصل له من الرفعة ونفاسة مذهبه؛ لتشييده بالكتاب والسُّنّة، انتموا الى مذهبه ليُدخلوا عليه النقص والخلل وصرف الناس عنه؛ حسداً من أنفسهم، فصرّحوا بالتشبيه والتجسيم، ولم يستحيوا من الخبير العليم، ونسبوه إليه افتراء عليه.

ومن نظمه في ذلك:

ولمّا نظرتُ في المذاهبِ كلّها طلبتُ الأسدَّ في الصواب وماأغلو

فألفيتُ عند السير قول ابن حنبلٍ يزيد على كلّ المذاهب بل يعلو


1- لعله «ماأشقها» بحذف إحدى القافين، أو بإبدال إحداهما فاء. انتهى. مصحِّحه.

ص: 47

وكلّ الذي قد قاله فمشيَّد بنقل صحيح والحديث هو الأصلُ

وكان بنقل العلم أعرف من روى بِقوم من السادات ما شانهم عظم (1)

ومذهبه أن لا يشبّه ربّه و يتبع في التسليم من قد مضى قبلُ

يشير الى صاحبه الإمام الشافعي وغيره من علماء السلف كما أذكر.

فقام له الحُسّاد من كلّ جانب فقام على رِجْل الثبات وهم زلّوا

وكان له أتباعُ صدقٍ تتابعوا فكم أرشدوا نحو الهدى وَلَكم دلّوا

وجاءك قوم يدّعون تمذهباً بمذهبه ما كلّ زرع له أُكلُ

ومالوا الى التشبيه أخذاً بصورة ال ذي نقلوه في الصفات وهم غُفلُ

وقالوا: الذي قلناهُ مذهبُ أحمدٍ فمال الى تصديقهم من به جهلُ

فصار الأعادي قائلين لكلّنا: مشبِّهة قد ضرّنا الصحبُ والخلُ


1- الشطر الثاني، لم يرد في المطبوعة في مصر، وأخذناه من المصدر.

ص: 48

فقد فضحوا ذاك الإمام لجهلهم ومذهبُهُ التنزيهُ لكن هُمُ اختلّوا

لَعمري لقد أدركتُ منهم مشايخاً وأكثر ما أدركته ماله عقلُ (1)

وحذفت أبياتاً من هذه القصيدة؛ لأنّي في هذه الورقات على سبيل الاقتصاد والرمز الى منهج الحقّ والرشاد.

كلام الإمام الشافعي و أبي حنيفة و مالك، في التأويل

وسُئل الإمام الشافعي- قدّس اللَّه روحه- عن الاستواء؟ فقال: «آمنتُ بلا تشبيه، وصدّقت بلا تمثيل، واتهمتُ نفسي في الإدراك، وأمسكتُ عن الخوض فيه كلّ الإمساك».

وهذا شأن الأئمّة، يُمسكون أعنّة الخوض في هذا الشأن، مع أنّهم أعلم الناس به، ولا يخوض فيه إلّاأجهل الناس به.

وسئل الإمام أبو حنيفة- قدّس اللَّه روحه- عن ذلك؟ فقال: «من قال: لا أعرف اللَّه أفي السماء أم في الارض فقد كفر؛ لأنّ هذا القول يؤذن أنّ للَّه سبحانه وتعالى مكاناً، ومن توهّم أنّ للَّه مكاناً فهو مُشبِّه».

وسئل الإمام مالك عن الاستواء؟ فقال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بِدعة».

فنفى العلم بالكيف، فمن استدلّ بكلامه على أنّه- سبحانه وتعالى- فوق عرشه، فهو لجهله وسوء فهمه.


1- أورد القصيدة كاملة ابن الجوزي في(دفع شبه التشبيه) ص 275- 277.

ص: 49

وقال الإمام مالك عند قوله: فلا تَضربوا للَّه الأمثالَ من وصف شيئاً من ذاته سبحانه وتعالى، مثل قوله تعالى: قالتِ اليهودُ يدُ اللَّه مغلولةٌ غُلّت أيديهم(فأشار بيده الى عنقه) قُطعت، وكذا السمع والبصر يقطع ذلك منه؛ لأنّه شبّه اللَّه بنفسه.

وقال مالك رضى الله عنه: «الاستواء معلوم» يعني عند أهل اللغة.

وقوله: «والكيف مجهول» أي بالنسبة الى اللَّه عزّ وجلّ؛ لأنّ الكيف من صفات الحدث، وكلّ ما كان من صفات الحدث فاللَّه- عزّ وجلّ- مُنزّه عنه، فإثباته له سبحانه كفر محقّق عند جميع أهل السُّنة والجماعة.

وقوله: «والإيمان به واجب» أي على الوجه اللائق بعظمته وكبريائه.

وقوله: «والسؤال عنه بِدعة» لأنّ الصحابة- رضي اللَّه عنهم- كانوا عالمين به وبمعناه اللائق بحسب اللغة، فلم يحتاجوا الى السؤال عنه فلّما ذهب العالمون به، وحدث من لم يعلم أوضاع لغتهم، ولا له نور كنورهم، شرع يسأل الجهلة بما يجوز على اللَّه عزّ وجلّ، وفرح بذلك أهل الزيغ، فشرعوا يُدخلون الشُّبَهَ على الناس، ولذلك تعّين على أهل العلم أن يبيَّنوا للناس، وأن لا يهملوا البيان؛ لقوله تعالى:

وإذ أخذ اللَّه ميثاق الذينَ أُتوا الكتابَ لتبيِّنُّنَه للنَّاس ولا تكتُمُونهُ.

فهذه (1) الأئمّة التي (2) مدار الأمّة عليهم في دينهم، متّفقون في العقيدة، فمن زعم أنّ بينهم اختلافاً في ذلك، فقد افترى على أئمّة الإسلام والمسلمين، واللَّه حسبه، وسيجزي اللَّه المفترين.

وفي الصحيحين من حديث ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما: أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:(من فارق الجماعة شبراً فمات، مات ميتةً جاهليّة).


1- لعله فهؤلاء انتهى. مصححه.
2- لعله الذين انتهى. مصححه.

ص: 50

وقال صلى الله عليه و آله و سلم:(إنّ الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم؛ يأخذ القاصية والنافرة والشاذّة، إياكم والشِّعاب، وعليكم بالعامّة والجماعة والمساجد). رواه الطبراني وغيره من حديث معاذ رضى الله عنه، ورواه الإمام أحمد، ورجاله ثقات (1).

وسُئل الإمام أحمد عن الشافعي؟ فقال: «ماالذي أقول فيه، وهو الذي أخرج من قشور التشبيه لبابها، وأطلع على معارفها أربابها، وجمع مذهبه أكنافها وأطنابها، فالمحدّثون صيادلة والشافعي طبيبهم، والفقهاء أكابر والشافعي كبيرهم، وما وضع أحد قلمه في محبرة إلّاوللشافعي عليه منّة».

وكان كثير الدعاء للشافعي، قال له ابنه عبداللَّه: أيَّ شي ء كان الشافعي، فإنّي أسمعك تُكثر الدعاء له؟ قال: «يابُنيّ كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض؟».

كلام السلف في التأويل

وسئل بعض أئمّة السلف عن قوله تعالى الرحمن على العرشِ استوى؟

فقال: الرحمن- جلّ وعلا- لم يزل والعرش مُحدَث بالرحمن استوى، ثمّ قال:

كلّ ما ميّزتموه بأذهانكم وأدركتموه في أتمّ عقولكم، فهو مصروف إليكم ومردود عليكم، محدث ومصنوع مثلكم؛ لأنّ حقيقته عالية عن أن تلحقه عبارة، أو يدركه وهم، أو يُحيط به علم، كلّا، كيف يُحيط به علم وقد اتّفق فيه الأضداد بقوله سبحانه وتعالى: هو الأوّل والآخرُ والظَّاهر والباطنُ؟!

أيّ عبارة تُخبر عنه؟! حقيقة الألفاظ كلام، قصرت عنه العبارات، وخرست عنه الألسنة بقوله: ليس كمثله شي ء تعالى اللَّه وتقدّس عن المجانسة والمماثلة.


1- في مجمع الزوائد للهيثمي 2/ 23 عن أحمد وفي 5/ 219 عن أحمد والطبراني، وكنز العمال 1/ 206 رقم 1026 و 1027 و 7/ 581 رقم 20355.

ص: 51

قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما في هذه الآية: معناها ليس له نظير.

وقال أهل التحقيق: ذكر العرش إظهاراً لقدرته، لا مكاناً لذاته؛ إذ الذات ممتنعة عن الإحاطة بها والوقوف عليها، كما أشار الى ذلك في قوله تعالى: اللَّه لا إله إلّاهو ربُّ العرشِ العظيم.

فسبحانه هو المنزّه عن الشبيه، القدّوس المبرّأ عن الآفات، والمُسبَّح بجميع اللغات، السلام السالم من نقائص المخلوقات، الصمد السيّد الذي لا يُشبهه شي ء من المصنوعات والمخلوقات، الغنيّ عن الأغيار، تبارك وتعالى عن أن تحويه الجهات، الفرد الذي لا نظير له، المنفرد بصفات الكمال والقدرة، ومن بعض مقدوراته الكرسيّ والعرش والأرضون والسموات، شهد لنفسه بالوحدانية، ونزّهها بالآيات البيّنات، فصفاته لا يوصف بها غيره.

ومن تعرّض لذلك فقد طعن في كلامه، وضاهى أهل العناد، فاستوجب اللعن وأشدّ العقوبات.

قول البغدادين في التأويل

قال البغداديّون في قوله تعالى: بديع السمواتِ والأرضِ وإذا قضى أمراً فإنّما يقولُ له كن فيكونُ (1)

: كلّ صُنع صنعه ولا علّة لصنعته، ليس لذاته مكان؛ لأنّه قبل الكون والمكان، وأوجد الأكوان بقوله: كُنْ أزال العلل عن ذاته بالدرك (2) وبالعبارة عنه وبالاشارة، فلا يبلغ أحد شيئاً من كنه معرفته؛ لأنّه لا يعلم أحد ما هو إلّاهو، حيّ قيّوم لا أوّل لحياته، ولا أمد لبقائه، احتجب عن


1- البقرة: 117.
2- قوله «بالدرك» متعلق بمحذوف فيما يظهر، تقديره: وأعجز الخلقَ عن أن يحيطوا به بالدرك... الى آخره. والدرك: الإدراك. انتهى مصحّحه.

ص: 52

العقول والأفهام، كما احتجب عن الأبصار فعجز العقل عن الدرك، والدرك عن الاستنباط، وانتهى المخلوق الى مثله، وأسنده الطلب الى شكله. انتهى.

وقولهم: «كلّ صنع» عبّروا بالمصدر عن اسم المفعول، كقوله تعالى: هذا خلقُ اللَّه (1).

ومن الجهل البيّن أن يطلب العبد المقهور ب «كُنْ» درك ما لا يُدرك، كيف؟ وقد تنزّه عن أن يُدرك بالحواسّ، أو يتصوّر بالعقل الحادث والقياس، مَنْ لا يدركه العقل من جهة التمثيل، ويُدركه من جهة الدليل.

فكلّ ما يتوهّمه العقل لنفسه فهو جسم، وله نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه، مع ما يلزمه من الحدود والمساحة؛ من الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث، تعالى عن ذلك.

فهو الكائن قبل الزمان والمكان، و هوالأوّل قبل سوابق العدم، الأبدي بعد لواحق القِدَم، ليس كذاته ذات، ولا كصفاته صفات، جلّت ذاته القديمة- التي لم تُسبق بعدم- أن يكون لها صفة حادثة، كما يستحيل أن يكون للذات الحادثة صفة قديمة.

قال تعالى: أولا يذكُرُ الإنسانُ أنَّا خلقناهُ مِنْ قبلُ ولم يكُ شيئاً (2).

كلام يحيي بن معاذ في التأويل

وسأل بعض المخبثين (3) الطوية للإمام العالم العلامة الجامع بين العلوم السَّنّية


1- لقمان: 11.
2- مريم: 37.
3- لعله «خبيثي...» الى آخره، وقوله «للإمام» لعلّ اللام الأولى من تصّرفات النُّساخ، وهذاظنّنا في كلّ ما تقدّم أو يجي ء في هذا الكتاب من الألفاظ التي تخالف اللغة؛ لأنّ الإمام الحصني أجلّ من أن يخفى عليه مثل ذلك. انتهى. مصحّحه.

ص: 53

والمناهج العَلِية؛ يحيى بن معاذ الرازي، فقال له: أخبرنا عن اللَّه؟ فقال: إله واحد.

فقال له كيف هو؟ قال: إله قادر. قال: فأين هو؟ قال: بالمرصاد.

فقال السائل: لم أسألك عن هذا. فقال: ما كان غير هذا فهو صفة المخلوق، فأمّا صفته فالذي أخبرتك عنه.

فالسائل سأل عن الذات والكيفية، فأجابه هذا الحَبْر بالصفات الجلاليّة القُدسيّة.

وهذا أخذه من قصة سيّدنا موسى عليه السلام مع فرعون اللعين لمّا قال له موسى عليه السلام:

إنّي رسول ربِّ العالمينَ فسأله فرعون وما ربُّ العالمينَ (1)

فقال موسى ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما إنْ كنتم موقنين (2)

.

فضمّن الجواب العدول عمّا سأل؛ لأنّه عدل فيه عن مطابقة السؤال؛ لأنّ فرعون سأل عن ماهيّته سبحانه وتعالى، وموسى أجابه عن قدرته وصفاته، فجاز له- حين خلط في السؤال وأخطأ، وسأل عمّا لا يمكن إدراكه- العدولُ عن سؤاله.

فقال فرعون: ألا تستمعونَ (3)

أنا أسأله عن شي ء، فيجيب عن غيره.

فقال موسى عليه السلام ربُّكم وربُّ آبائِكم الأولينَ (4)

.

فلما قال موسى عليه السلام ذلك استشعر فرعون أنّه أخطأ في السؤال، فخشي أن يدرك ذلك جلساؤه، فقال: إنَّ رسولَكُم الذي أُرسل إليكم لمجنونٌ رماه بذلك حتّى يتخلص ويصير موسى عليه السلام في مقام لا يُلتفت الى قوله، ولا يؤخذ به.


1- الزخرف: 46.
2- الدخان: 7.
3- الشعراء: 25.
4- الدخان: 8.

ص: 54

فتأمّل- أرشدك اللَّه عزّ وجلّ وهداك الى الحقّ- كيف أنّ ذلك معلوم عند الانبياء- عليهم الصلاة والسلام- وغيرهم عدم العلم بالذات والكيف؟

فلا أجهل ولا أعمى بصيرة مّمن فرعون أهدى منه في معرفته بالعجز عن درك ذاته!

قول أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة بالتأويل

قال الإمام الحافظ محمّد بن علي الترمذي- صاحب التصانيف المشهورة-:

«من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبيّة أجهل».

وقال أهل التحقيق من أهل السُّنّة والجماعة: «من اعتقد في اللَّه- عزّ وجلّ- ما يليق بطبعه كالعامّي، فهو مشبّه.

فإنّه- عزّ وجلّ- منزّه عن كلّ ما يصفه الآدمي أو يتخيّله؛ لأنّ ذلك من صفات الحدَث تعالى وتقدّس عن ذلك».

فإيمان العاميّ لضعف علمه وعقله يقبل التشكيك (1).

مجموعة من تأويلات ابن عباس

قال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما في قوله تعالى وما يؤمن أكثرهم باللَّه إلّاوهم مشركون: هم الذين شبّهوا اللَّه سبحانه وتعالى بخلقه، يؤمنون به مُجملًا، ويكفرون به مفصّلًا، حملهم على ذلك زُخرفُ العدوّ وإغواؤه، بدسيسة عدم علمهم بغوائل النفس الأمّارة بالسوء وعدم تأمّلهم قوله تعالى: ما أشهدتهم خلق


1- هذا الكلام ليس على عمومه، فإنّ من العامّة من يندهش العالم لِمبلغ كمال إيمانه باللَّه عزّ وجلّ، وقد يصدق ذلك في بعض العوامّ الذين لم ينشأوا في حجور أهل الدين، ولم يختلطوا بهم، وهم أندر من الكبريت الأحمر بين طبقات العوّام. انتهى. مصحّحه.

ص: 55

السمواتِ والأرضِ ولا خلقَ أنفسِهم (1)

، وفي ذلك إشارة الى عجز الخليقة أن تدرك بعض صفات ذواتها في ذاتها، أو تدري كيف كُنهها في أنفسها، بعدم شهودهم خلق السموات والأرض وخلق أنفسها، فلم تملك أن تحتوي علم أنفسها في أنفسها، فكيف تدري أو تدرك شيئاً من صفات مُوجدها من العدم وبارئها ومالكها؟!

وقال تعالى: ومن كلِّ شي ءٍ خلقنا زوجين (2) سُبحانَ الذي خلق الأزواج كُلَّها (3)

، وفي ذلك إشارة ظاهرة الى عجزك عن إدراك كُنه بعض المخلوقات على اختلاف ذواتها وصفاتها، وفي بعضها ما لا يخطر على قلب بشر، فكيف بالخالق الذي نزّه نفسه بقوله تعالى: ليس كمثله شي ء؟!

وهو- سبحانه وتعالى- مباين لخلقه من كلّ وجه لا يسعه غيره ولا يحجبه سواه، تقدّس أن يدركه حادث أو يتخيّله وَهم أو يتصوّره خيال، كل ذلك محال.

فهو الملك القُدّوس المنزّه في ذاته وصفاته عن مشابهة مخلوتاته، وأنت من مخلوقاته؛ ركّبك على منوال عجيب، وجعلك في أحسن صورة وأعجب ترتيب، مع تنقّل تارات من ماء مهين، فقال عزّ وجلّ: ولقد خلقنا الإنسانَ من سلالة من طين* ثمَّ جعلناه نطفةً في قرار مكين* ثمّ خلقنا النُّطفةَ علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضفة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمَّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك اللَّه أحسن الخالقين (4)

.

الإنسان هنا هو آدم عليه السلام وسلالته؛ لأنّه سلّةٌ من كلّ تربة، وكان عليه السلام يتكلم


1- الكهف: 51.
2- الذاريات: 49.
3- يس: 36.
4- المؤمنون: 12- 14.

ص: 56

بسبعمائة ألف لغة.

وقوله تعالى: ثمّ جعلناه أي الإنسان نطفةً في قرار مكين أي حرز منيع، وهو الرحم ثم خلقناه علقةً أي دماً فخلقنا العلقة مضغةً أي قدر ما يُمضغ فخلقنا المضغة عظاماً وبين كل خلقتين أربعون يوماً فكسونا العظام لحماً ثمَّ أنشأناه خلقاً آخر وهو نفخ الروح فيه.

قاله ابن عبّاس ومجاهد والشعبي وغيرهم.

وقيل: نبات الأسنان والشعر، قاله قتادة.

وقيل: ذكراً أو أنثى، قاله الحسن، وقيل غير ذلك.

فتبارك اللَّه أحسن الخالقينَ أي المصوّرين والمقدّرين.

تنزّه سبحانه وتعالى بعد ذكر هذه الأطوار. المعنى: أنّ مَن هذه مِن بعض مقدوراته، يستحقّ التعظيم والتنزيه؛ لأنّ هذه التارات والتنقّلات إنشاء بعد إنشاء، في غاية الدلالة على كمال القدرة ووصف الألوهية، ثمّ الإنشاء الآخر أن شقّ الشقوق وخرق الخروق، وأخرج العصب وجعل العروق كالأنهار الجارية، وركّبها على منوال غريب، مع كونه خلقاً سويّاً، فأظهر يد القدرة والآيات الظاهرة، وكمال الصنع والحكمة الباهرة، وأودع فيه الروح والحركة والسكون والإدراك والتمييز، ولغات الكلام والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة، وغير ذلك مّما يليق بهذا النوع الإنساني الحيواني الى غير ذلك مّما يطول عدّه، ويعسر تقديره وحدّه فتبارك اللَّه أحسنُ الخالقين.

ولو قيل لك: أخبرني عن قدر عروقك رقّة وثخانة وطولًا وقصراً، أو عن حقيقة بعض ما في باطنك من أي نوع كان، لعجزت عن بيان ذلك ولخرست، وأنت وجميع هذا النوع الإنساني نُتفة تراب جعله بشراً منتشراً.

فتعالى اللَّه وتبارك أن يخوض في ذاته وصفاته إلّامن عَدِم الرشاد، وسلك

ص: 57

سبيل الفساد والعناد، وصيّر نفسه أخسّ العباد.

فمن حقّق نظره واستعمل فكره، وجد نفسه أجهل الجاهلين بعظمة هذا العظيم.

فلا يقدّره أحد قدره ولا يعرفه سواه، وإن قرّبه وأدناه فسبحانه ما اثنى عليه حقّ ثنائه غيرُه، ولا وصفه بماغ يليق به سواه عجز الأنبياء والمرسلون عن ذلك، قال أجلّهم قدراً وأرفعهم محلًا وأبلغهم نُطقاً، مع ما أُعطي من جوامع الكَلِم: «لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك».

ومن تأمل كلام اللَّه- عزّ وجلّ- وجده محشواً بتنزيهه تارةً بالتصريح؛ وتارة بالتلويح، وتارة بالإشارات، وتارة بما تقصر عنه العبارات.

وهؤلاء (1) العلماءُ ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين قربوا من درجة النبوّة، لأنّهم دلّوا الناس على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلا، ويرجح مدادهم على دم الشهداء، ويستغفر لهم من في السموات والأرض حتّى الحيتان في الماء، وهم أمناء اللَّه- عزّ وجلّ- في أرضه، وأحدهم على الشيطان أشدّ من ألف عابد.

وقد قيل في قوله تعالى: ربِّ زدني علماً (2)

: أي زدني علماً بالقرآن ومعانيه.

وهؤلاء لهم علم لَدُنيّ يرد على قلوبهم من غيب الهدى، لها جَوَلان في الملكوت، فترجع الى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يلقي إليها عالم علمه.


1- معطوف على الأنبياء أي عجزوا كما عجز الأنبياء عن وصف ربّنا- عزّ وجلّ- كما ينبغي له ويليق به، ولولا ما علّمهم اللَّه تعالى في دينه ما عرفوا ما عرفوا من وحيه، وإنّما قلنا بذلك العطف؛ لأنّه لم يحي ء بعدهم حديث عنهم، فليعلم. انتهى. مصحّحه.
2- الكهف: 114.

ص: 58

ومن ثمرة ذلك حصول الخشية وتزايد الخوف، والعمل بالإخلاص والصدق والزهد وصون النفس عن مواطن الهلكة، وإلّا هلك وأهلك غيره.

ومثل العالم كمثل السفينة إذا انخرقت غرقت وغرق أهلها، فواجب على العالم أن يحترز لئلا يَهلك ويُهلك غيره، فيلقى اللَّه بذنوبه وذنوب غيره، فيضاعف عليه العذاب.

قول محمد بن المنكدر بالتأويل

قال محمد بن المنكدر- وهو من سادة التابعين، وكانت عائشة رضي اللَّه عنها تحبّه وتُكرمه وتَبّره: الفقيه يدخل بين اللَّه- عزّ وجلّ- وبين عباده، فلينظر كيف يدخل؟

وصدق ونصح قدّس اللَّه روحه.

وهذا شأن السلف بذلوا النصيحة للإسلام والمسلمين، وكانوا شديدين على من خالف، ولا سيّما لما ظهر أهل الزيغ، وتظاهروا بالتنويه بذكر آيات المتشابه وأحاديثه، بالغوا في التحذير منهم ومن مجالستهم، وكانوا يقولون: هم الذين عنى اللَّه- عزّ وجلّ- في قوله تعالى: فأمّا الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منهُ ابتغاء الفتنةِ (1)

الآية.

وكذا قالت عائشة رضي اللَّه عنها.

وكانوا يقولون- إذا جلس أحد للوعظ والتذكير-: تفقدوا منه أموراً، ولا تغترّوا بكلّ واعظ، فإنّ الواعظ إذا لم يكن صادقاً ناصحاً سليم السريرة من الطمع والهوى هلك وأهلك.

وذكروا أشياء ببعضها تنطفي ء نار الشبه التي بها يموّه أهل الزيغ.


1- آل عمران: 7.

ص: 59

ومن لا يقبلها فما ذاك إلّاأنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يريد إهلاكه وحشره في زمرة السامرة واليهود والزنادقة، ومن يرد اللَّه- عزّ وجلّ- إضلاله فلا هادي له واللَّه يحكم لا معقب لحكمه لا يُسأل عمّا يفعل قسّم الخلق الى شقيّ وسعيد، فهو الفعّال لما يريد، فمن اتبع هداه فلا يضلّ ولا يشقى، ومن اتبع هوى نفسه الأمّارة وأهل الزيغ والضلالة، وحاد عن سبيل من بهم يُقتدى هلك في المرقى.

ولنرجع الى قول السلف رضي اللَّه عنهم: إذا جلس شخص للوعظ فتفقدوا منه أُموراً إن كانت فيه، وإلّا فاهربوا منه، وإياكم والجلوس إليه، وإلّا هلكتم من حيث طلبتم النجاة.

قالوا ذلك حين ظهر أهل الزيغ والبدع، وكثرت المقالات، وذلك بعد وفاة عمر رضي اللَّه عنه وحديث حذيفة رضي اللَّه عنه يدلّ لذلك واللفظ لمسلم.

حديث حذيفة في الفتن و نبوغ الأهواء

قال حذيفة:(كنّا عند عمر رضي اللَّه عنه، فقال: أيّكم سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلّكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره، قالوا: أجل. قال: تلك تُكفّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيّكم سمع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة رضي اللَّه عنه: فأسكت القومُ، فقلت: أنا. قال: أنت للَّه أبوك.

قال حذيفة رضي اللَّه عنه: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: تُعرض الفتنُ على القلوب كالحصير، فأيّ قلب أُشرِبَها نُكِت فيه نُكتة سوداء، وأيّ قلب أنكرها نُكِت فيه نُكتة بيضاء؛ حتّى يصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاة، فلا تضرّه فتنة مادامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجْخيّاً؛ لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلّاما أُشرب من هواه.

ص: 60

قال حذيفة رضى الله عنه: وحدّثته: أنّ بينك وبينها باباً مُغلقاً يوشك أن يُكسر.

قال: قال عمر رضى الله عنه: أكسر لا أبا لك، فلو أنّه فتح لعلّه كان يعاد. قال: لا، بل يُكسر.

وحدّثته: أنّ ذلك الباب رجل يُقتل أو يموت حديثاً ليس بالأغاليط.

قال أبو خالد: فقلت لسعيد: يا أبا مالك ما «أسود مرباداً»؟

قال: شدة البياض في السواد.

قال قلت: فما «الكوز مجخيّاً»؟ قال: منكوساً (1).

فقوله: «ليس بالأغاليط» يعني أنّه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

والفتن كلّ أمر كشفه الأختبار عن أمر سوء، وأصله في اللغة الاختبار، وشُبّهت بموج البحر؛ لاضطرابها ودفع بعضها ببعض وشدّة عظمها وشيوعها.

وقوله: «تعرض الفتن على القلوب» أي تلصق بعرض القلوب؛ أي بجانبها كالحصير تلصق بجنب النائم، وتؤثر فيه لشدة التصاقها.

وهذا شأن المشبّهة تلصق فتنة التشبيه في قلوبهم وتؤثّر، وتحسن لعقولهم ذلك حتّى يعتقدوا ذلك ديناً وقرباناً من اللَّه عزّ وجلّ، وما يقنع أحدهم حتّى يبقى داعية وحريصاً على (2) إفتان من يقدر على إفتانه، كما هو مشاهد منهم.

وإلى مثل ذلك قوله «أُشرِبها» أي دخلت فيه دخولًا تامّاً وألزمها وحلّت منه محلّ الشراب ومنه قوله تعالى: وأُشربوا في قلوبهم العجلَ (3)

أي حبّه.


1- صحيح مسلم: كتاب الإيمان الحديث 207، والبخاري في مواقيت الصلاة رقم 494 وفي الزكاة 1345 وفي الصوم 1762 وفي المناقب 3321 وفي الفتن 6567، والترمذي في الفتن 2184، وابن ماجة في الفتن 3945، وأحمد في المسند رقم 22322.
2- يريد: فتنة من يقدر على فتنته أو فتن أو فتون... الى آخره. أنتهى. مصحّحه.
3- البقرة: 63.

ص: 61

فقوله: «إنّ بينك وبينها باباً مُغلقاً» معناه أنّ تلك الفتن لا تفتح، ولا يخرج منها شي ء في حياتك.

وقوله: يُوشك- هو بضم الياء وكسر الشين- معناه أنّه يكسر عن قرب، والرجل هو عمر، وقد جاء مبيّناً في الصحيح.

والحاصل: أنّ الحائل بين الناس وبين الفتن هو عمر رضى الله عنه ما دام حيّاً، فإذا مات دخلت.

ومبدأ الفتن هو الذين شَرِقوا (1) بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وبأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما؛ لعلمهم أنّ الدين لا يتمّ إلّابهما؛ لأنّ عندهم علماً بذلك، وكانوا يُظهرون الإسلام ويقرؤون شيئاً من القرآن، وكانوا يرمزون الى التعرّض بالنقص حتّى في النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أنّ منهم من كان يؤمّ الناس ولا يقرأ في الجهرية إلّابعبس؛ لما فيها من العتاب مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لأجل ابن أُمّ مكتوم، وهمّ رضى الله عنه على (2) قتاله.

وتظاهر شخص بسؤال: ماالذاريات ذَرْواً؟ فقال عمر رضى الله عنه: اللّهمّ أمكني منه، فمرّ يوماً، فقيل له: هوذا، واسم الرجل صبيغ، فشمّر عمر رضى الله عنه عن ذراعيه وأوجعه جلداً. ثمّ قال: أرحِلوه، فاركبوه على راحلته، فقال: طيفوا به في حيّه ليعلم الناس بذلك (3).

وكان رضى الله عنه شديداً في دين اللَّه- عزّ وجلّ- لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، وقد ذكرت نبذة يسيرة من سيرته في كتاب «قمع النفوس».

ولما كان أواخر القرن الأوّل اتّسع الأمر من القُصّاص.


1- أي غَصّوا به صلى الله عليه و آله و سلم وبصاحبيه، فلم يستطيعوا أن ينفذوا ما يضمرون من الكيد للإسلام في وجودهم؛ لعلمهم... الى آخره. انتهى.
2- «على» موضع الباء. انتهى. مصحّحه.
3- ونفاه بعد ذلك رضى الله عنه، ولم يرجعه حتّى صدقت توبته. انتهى. مصحّحه.

ص: 62

وتظاهر شخص يقال له المغيرة بن سعيد، وكان ساحراً، واشتهر بالوصّاف، وجمع بين الإلحاد والتنجيم، ويقول: إنّ ربه على صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء، ويقول ما لا ينطق به، ويقول: إنّ الأمانة في قول اللَّه تعالى: إنّا عرضنا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ (1)

، هي أن لا يُمنع عليٌّ الخلافة، وقوله تعالى: وحَمَلَها الإنسانُ إنّه كانَ ظلوماً جَهولًا (2)

هو أبو بكر رضى الله عنه، وقال عمر رضى الله عنه لأبي بكر أن يحملها ويمنع عليّاً منها، وضمن عمر أنّه يعيّن أبا بكر بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة له بعده، فقبل أبو بكر منه، وأقدما على المنع متظاهرين.

ثمّ وصفهما بالظلم والجهل، فقال: وحملها أبو بكر إنّه كان ظلوماً جهولًا، وزعم أنّه نزل في حقّ عمر رضى الله عنه كمثلِ الشيطانِ إذ قال للإنسانِ أكفرْ... (3)

الآية، وكان يقول بتكفير سائر الصحابة رضي اللَّه عنهم إلّالمن ثبت مع عليّ رضى الله عنه.

وكان يقول: إنّ الانبياء- عليهم الصلاة والسلام- لم يختلفوا في شي ء من الشرائع، وكان يقول بتحريم إنكار المنكر قبل خروج الإمام.

وقال لمحمّد الباقر: أقِرّ أنّك تعلم الغيب حتّى أجبي لك العراق، فانتهره وطرده.

وكذا فعل بجعفر الصادق- ولد محمّد الباقر- فقال: أعوذ باللَّه.

وكان يقول: انتظروا محمد بن عبداللَّه الإمام، فإنّه يرجع ومعه ميكائيل وجبريل يتبعانه من الركن والمقام.

وكان له خبائث، فلمّا كان في السنة التاسعة عشرة والمائة ظفر به خالد بن


1- الاحزاب: 72.
2- الاحزاب: 72.
3- الحشر: 16.

ص: 63

عبداللَّه القسري، فأحرقه وأحرق معه خمسة من أتباعه (1).

فهذا شأن أهل الزيغ.

واستمرّ الأمر على ذلك، إلّاأنّهم سلكوا مسلك المكر والحيلة بإظهار الكبّ (2) على سماع الحديث، ويكثرون من ذكر أحاديث المتشابه ويجمعونها ويسردونها على الناس والعوامّ.

ثم كثرت المقالات في زمن الإمام أحمد وكثر القُصّاص، وتوجّع هو وابن عُيينة وغيرهما منهم، وكان الإمام أحمد يقول: كنت أودّ لو كان قصّاصاً صادقاً نصوحاً طيّب السريرة.

بدعة الكرامية والحنابلة

ونبغ في زمنه محمّد بن كرام السجستاني، وترافق مع الإمام أحمد، وأظهر حسن الطريقة حتّى وثقه هو وابن عيينة، وسمع الحديث الكثير، ووقف على التفاسير، وأظهر التقشّف مع العفّة ولين الجانب، وكان ملبوسه جلد ضأن غير مخيط، وعلى رأسه قَلَنسُوة بيضاء، ثم أخذ حانوتاً يبيع فيه لبناً، واتّخذ قطعة فَرْوٍ يجلس عليها، ويعظ ويذكّر ويحدّث ويتخشّع.

حتّى أخذ بقلوب العوامّ والضعفاء من الطلبة لوعظه وبزهده؛ حتّى حصر من


1- جمع المؤلّف في الحديث عن المغيرة بن سعيد بين هذه الخرافات وخلط فيها بين الحقّ والباطل نقلًا عن أعداء آل محمد صلى الله عليه و آله تشويهاً لسمعتهم وإبعاداً للناس عنهم وعن مآثرهم ومكارمهم ومعارفهم، فليتروّ القارى ء في أكثر هذه المنقولات، وليقرأها بحذَر!
2- يريد «الإكباب». انتهى. مصحّحه.

ص: 64

تبعه من الناس فإذا هم سبعون الفاً، وكان من غلاة المشبهة، وصار يُلقي على العوامّ الآيات المتشابهة والأخبار التي ظواهرها يوافق عقول العوامّ وما ألفوه.

ففطن الحُذّاق من العلماء، فأخذوه ووضعوه في السجن، فلبث في سجن نيسابور ثمانيَ سنين.

ثمّ لم يزل أتباعه يسعون فيه حتّى خرج من السجن، وارتحل الى الشام، ومات بها في زعر، ولم يعلم به إلّاخاصّة من أصحابه، فحملوه ودفنوه في القدس الشريف، وكان اتباعه في القدس أكثر من عشرين ألفاً على التعبّد والتقشّف، وقد زيّن لهم الشيطان ما هم عليه وهم من الهالكين وهم لا يشعرون، واستمرّ على ما هم عليه خَلق شأنهم حمل الناس على ما هم عليه إلى وقتك هذا.

قال اللَّه تعالى: أفمن زُيِّنَ له سوءُ عمله فرآه حسناً (1)

قال سعيد بن جبير:

هذه الآية نزلت في أصحاب الاهواء والبدع. المعنى: أنّه ركض في ميادين الباطل، وهو يظنّها حقّاً.

وكان ابن عبّاس- رضي اللَّه عنهما- يقول عند هذه الآية: إنّ الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها.

والبدعة هي استحسان ما يسوق إليه الهوى والشبهة مع الظنّ بكونها حقّاً.

وهؤلاء يُنزع من قلوبهم نور المعرفة، وسراج التوحيد من أسرارهم، ووُكلوا الى ما أختاروا، فضلّوا وأضلّوا ويحسبون أنّهم على شي ء ألا إنّهم همُ الكاذبونَ (2)

حتّى ينكشف لهم الأمر.

كما قال اللَّه تعالى: وبدا لهم من اللَّه ما لم يكونوا يحتسبونَ (3)

قيل: عملوا


1- فاطر: 8.
2- المجادلة: 18.
3- الزمر: 47.

ص: 65

أعمالًا ظنّوا أنّها في كفّة الحسنات، فإذا هي في كفة السيئات.

وهذه الآية قيل: إنّها في أهل البدع، يتصوّر (1) ويعتقد- مع تمام الورع والزهد وتمام الأعمال الصالحة وفعل الطاعات والقُرُبات- ما عاقبته خطرة، ومن ذلك أن يعتقد في ذات اللَّه وصفاته وأفعاله ما هو خلاف الحقّ، ويعتقده على خلاف ما هو عليه؛ إمّا برأيه ومعقوله الذي يُحاكي به الخصوم، وعليه يُعوّل وبه يغترّ، قد زيّن له العدّو وحلّاه له حتّى اعتقده ديناً ونعمة، وإمّا أخذاً بالتقليد مّمن هذه حاله. وهذا التقليد كثير في العوامّ، لا سيّما من يعضد بدعته واعتقاده بظاهر آية أو خبر، وهو على وفق الطبع والعادة.

وقد أهلك اللعين بمثل هذا خلقاً لا يُحصون حتّى إنّهم يعتقدون أنّ الحقّ في مثال ماهم عليه، وأنّ غيرهم على ضلالة.

ومثل هؤلاء ومن اتّبعوهم إذا بدا لهم ناصية مَلَك الموت، انكشف لهم (2)- ما اعتقدوه حقّاً- باطلًا وجهلًا، وخُتم لهم بالسوء، خرجت أرواحهم على ذلك، وتعذّر عليهم التدارك، وكذا كلّ اعتقاد باطل.

ولا يفيد زوال ذلك كثرة التعبّد وشدّة الزهد وكثرة الصوم والحجّ، وغير ذلك من أنواع الطاعات والقربات، لأنّها تبع لأمر باطل.

ولا ينجو أحد إلّابالاعتقاد الحقّ وقد قال تعالى: فماذا بعد الحقِّ إلّا الضَّلالُ (3)

وهذه الآية صريحة في أنّه ليس بين الحقّ والباطل واسطة.

والباطل هو الذهاب عن الحقّ، مأخوذ من ضلّ الطريق، وهو العدول


1- أي أحدهم انتهى. مصحّحه.
2- في الأصل: انكشف لهم بطلان ما اعتقدوه...» وهو من سهو القلم، والصحيح حذف كلمة «بطلان». ولعلّ «بطلان» من زيادة النسّاخ. انتهى. مصحّحه.
3- يونس: 32.

ص: 66

عن سمته.

والحقّ هو الصراط المستقيم الذي في قوله تعالى: وأنّ هذا صراطي مُستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُّبلَ فتَفَرقَ بكم عن سبيلهِ ذلكم وصَّاكم به لعلّكم تتّقون (1)

وصف اللَّه تعالى صراطه- وهو دينه- بالاستقامة، وأمر باتّباعه.

والمستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه، فمن اتّبعه أوصله الى مقعد صدق عند مليك مقتدر.

قال سهل: الصراط المستقيم هو الاقتداء والأتّباع وترك الهوى والابتداع.

ثمّ إنّه تعالى نهى عن اتّباع السُّبل؛ لما فيها من الحِيَدَة عن طريق الاستقامة، فقال: ولا تَتّبِعُوا السُّبلَ فتفرَّقَ بِكم عن سبيله أي تميل بكم عن طريقه- التي ارتضى، وبه (2) أوصى- الى سُبُل الضلالات من الأهواء، فتهلكوا.

قيل لعبداللَّه بن مسعود رضى الله عنه: ما الصراط المستقيم؟ فقال: «ما تركنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم في أدناه وطرفه في الجنّة، وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، وثَمّ رجال يدعون من مرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به الى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به الى الجنّة، ثمّ تلا: وأنَّ هذا صراطي مُستقيماً الآية.

فأشار رضى الله عنه بالرجال الذين على الجوادّ الى علماء السوء وأهل البدع، وأشار بقوله: «يدعون من مرّ بهم» الى الوعّاظ الذين هم سبب هلاك من قعد إليهم.

ولهذا بالغ السلف رضي اللَّه عنهم في التحذير من مجالسة كلّ أحد، وقالوا: إذا جلس للوعظ فتفقدّوا منه أموراً، فإن كانت فيه فأهربوا منه، وإلّا هلكتم من حيث ظننتم النجاة.


1- الانعام: 153.
2- راعى في وصف الطريق ب «التي» جواز تأنيثها، وراعى في رجوع الضمير إليها «به» جواز تذكيره، فليعلم. انتهى. مصحّحه.

ص: 67

منها: إن كان مبتدعاً فاحذروه واجتنبوه، فانه على (1) لسان الشيطان ينطق، ومن نطق على لسان الشيطان فلا شكّ ولا ريب في إغوائه، فيهلك الإنسان من حيث يظنّ السلامة.

وأيضاً ففي المشي إليه ومجالسته تعظيم له وتوقير.

روى ابن عدي من حديث عائشة رضي اللَّه عنها:(من وقّر صاحب بِدْعةٍ فقد أعان على هدم الإسلام)، ورواه الطبراني في مُعجمه الأوسط، ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث عبداللَّه بن بشر، وبهذا وغيره يجب التبرّي من أهل البدع والتباعد.

قال بعض السلف: «من بشّ في وجه مبتدع أو صافحه فقد حلّ عُرى الإسلام عروة عروة».

وقال شخص من أهل الأهواء لأيّوب السختياني رضى الله عنه: أكلّمك كلمة. فقال: لا واللَّه ولا نصف كلمة.

وكان يقول: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلّاازداد من اللَّه بُعداً.

قال رضى الله عنه: كنّا ندخل على أيّوب السختياني، فإذا ذكرنا له حديثاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يبكي حتّى نرحمه.

وكان يقول: إذا بلغني موت أحد من أهل السُّنّة فكأنّما يسقط عضو من أعضائي.

وكان يقول: واللَّه ما صدق عبد إلّاسرّه ألّا يراه أحد (2).

وكان يونس بن عبيد يقول: احفظوا عنّي ثلاثاً متُّ أو عشتُ: لا يدخلنّ أحد


1- «على» بمعنى عن أو الباء. انتهى. مصحّحة.
2- أي وهو يعمل الصالحات، وهو كلام جليل، فليفكّر فيه القارى ء طويلًا لعله يتحقق به. انتهى. مصحّحه.

ص: 68

على سلطان يعظه أو يعلّمه، ولا يخلونّ بأمرأة شابة وإن أقرأها القرآن، ولا يمكّن سمعه من ذي هوىً، وأشدها الثالثة؛ لما فيها من الزيغ أعاذنا اللَّه من ذلك.

وكان يقول: ما يزال العبد بخير ماأبصر ما يفسد عمله.

ويونس هذا تابعي من أصحاب الحسن البصري.

وكان أبو عبداللَّه الأصبهاني من عباد اللَّه الصالحين ومن البكّائين، ولم يكن بأصبهان أزهد منه ولا أورع منه، قال: وقفت على علي بن ماشاذة، وهو يتكلّم على الناس.

فلمّا جاء الليل رأيت ربّ العزة في النوم، فقال لي: وقفت على مبتدع وسمعت كلامه لأحرمنّك النظر في الدنيا، فاستيقظ وعيناه مفتوحتان لا يبصر بهما شيئاً.

وقال الحميدي: سمعت الفضيل يقول: من وقرّ صاحب بدعة أورثه اللَّه عمًى قبل موته.

قيل: أراد أيضاً عمى البصيرة.

البدعة و أسبابها

وأعلم: أنّ الكلام على البدعة وأهلها فيه طول جدّاً، وقد ذكرت جملة منه في «تنبيه السالك على مظانّ المهالك».

ومنها: أن يكون الواعظ سي ء الطعمة، فإنّه إنّما ينطق بالهوى؛ لأنّ مثل هذا يوقع الناس في الحرام، أو ربّما اعتقدوا حلّه؛ لأنّهم يقتدون به في فعله بواسطة قوله.

ومنها: أن يكون ردي ء العقل أحمق، فانه يفسد بحمقه أكثر مما يصلح، والأحمق هو الذي يضع الشي ء في غير موضعه ويعتقد أنّه يصيب.

قال عيسى عليه السلام: «أبرأت الأكمه والأبرص وأعياني الأحمق».

ص: 69

فالأحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه للطريق فاسد، فلا يكون له رؤية صحيحة في طريق الوصول الى الغرض، ويختار ما لاينبغي أن يختار، وهذا واجب الاجتناب.

بخلاف صاحب العقل الصحيح، فإنّه يُثمر حسن النظر وجودة التدبير وثقافة الرأي وإصابة الظنّ، والتفطن لدقائق الأدلّة والأعمال وخفايا النفس الأمّارة وغرور الشيطان.

ومنها: أن يذكر الأدّلة التي هي رجاء وتوسعة على النفوس، ويسكت عن آيات الخوف والرهبة وكذا الأخبار والآثار؛ لأنه بذلك يحلّ من القلوب الزواجر، ويسهل ارتكاب المعاصي، لا سيّما إذا علم منه ارتكاب شي ء ولو كان مكروهاً، فانه يوقع الناس في ورطة عظيمة.

قال: «إذا عبث العلماء بالمكروه عبث العوامّ بالحرام، وإذا عبث العلماء بالحرام كفر العوامّ»؛ معناه: أنّهم يعتقدون حلّه لارتكاب العلماء ذلك؛ لأنّهم القادة وعليهم المعوّل في التحليل والتحريم.

ومنها: أن يتعرّض لآيات المتشابه وكذلك الأخبار، ويجمعها ويسردها ويكرّر الآية والخبر مراراً؛ لأنّه يوقع العامّي فيما اعتاده وألفه، فيُجري صفات الخالق سبحانه وتعالى على ما ألفه وجرى عليه طبعه، ويزيّنه الشيطان له بغروره، لا سيّما إن كان الواعظ مّمن يُظهر زهداً وورعاً وشفقة على الناس، فكم من شخص حسن الظاهر خبيث الباطن، جميل الظاهر قبيح السرائر والضمائر.

والسلف رضي اللَّه عنهم لهم اعتناء بشدّة مجانبة هذا والتباعد عنه.

ومنها: أن يكون متهماً بالرفض وبسبّ الصحابة رضي اللَّه عنهم.

وهؤلاء نبّه مالك رضى الله عنه على أنّهم من سلالة المنافقين، وأوضح ذلك نوّر اللَّه تعالى قلبه، فقال: أرادوا أن يقدحوا في النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بشي ء فلم يجدوا مساغاً،

ص: 70

فقدحوا في الصحابة؛ لأنّ القدح في الرجل قدح في صاحبه وخليطه، وهؤلاء كفّار لا ستحلالهم سبّ أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.

ومنهم: أقوام يُلبسون على الناس بقراءة البخاري وغيره، وهم لا يعتقدون البخاري، ويسمّونه فيما بينهم بالفشاري، ولهم خبائث عديدة كلّ واحدة كفر محقّق.

وبقي أُمور لا أطوّل بذكرها.

فمن أراد اللَّه به خيراً حماه عن مجالسة هؤلاء؛ لأنّ القلب سريع الانقلاب وقبول الرخص والشبه، فإذا علقت به الشبهة والريبة فبعيد أن ترتفع عن قلبه غشاوة ما وقر فيه، وأقلّ ما ينال القلب التردّد والحيرة، وذلك عين الفتنة ومراد الشيطان.

فّان كان الذي دخلت قلبه الشبهة عاميّاً، والمبتدع أدخلها عليه ب «قال اللَّه عزّ وجلّ وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم» فبعيد أن يرجع ويتقشّع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة لتحكّم الشبهة بالدليل، وهذا من الهالكين إلّاأن يتداركه اللَّه برحمته.

لأنّ عمدة الناس الكتاب والسُّنّة، والهلكة الجهلة يفهمونهما على غير المراد منهما على الوجه المرضيّ.

فمن حقّ العبد الطالب للنجاة حراسة قلبه وسمعه عن خزايا خُزعبلات المبتدعة وتزويق كلامهم، وأن لا يغترّ بتقشّفهم وكثرة تعبّدهم وزهدهم ووصفهم لأنفسهم، فإنّ ذلك من أقوى حبائلهم التي يصطادون بها، وبها تتشرّب القلوب لبدعتهم، لا سيّما من قلبه مشغوف بحبّ الدنيا، إذا رأى زاهداً فيها، مع إكبابه على الكتاب والسُّنّة، مع الورع والزهد والعفّة والقناعة، فلا شكّ ولا ريب أنّه يرغب فيه غاية الرغبة، ويميل إليه غاية الميل، ولا يصدّه عنه صادّ، كما هو مشاهد من العوامّ ومحبّتهم ورغبتهم لمن هو بهذه المثابة.

ص: 71

فتنبّه لذلك، فقد أوضحتُ طريق السلامة والتباعد من مظانّ الهلكة.

فكم من شخص قصدُهُ صالحٌ، قد هلك بمثل هؤلاء إخوان الشياطين وهو لا يشعر.

وعليك بالاقتداء بالأطباء؛ أعني أطباء القلوب، وهم الأنبياء عليهم السلام؛ لأنهم العالمون بأسباب الحياة الأُخروية، ثمّ أتباعهم الذين أخذوا عنهم، وشاهدوا منهم مالم يشاهده غيرهم. شعر:

من كان يرغب في النجاة فما لَهُ غير اتّباع المصطفى فيما بدا

فاتْبعْ كتاب اللَّه والسنن التي صحّت فذاك إذا اتّبعتَ هو الهدى

فالدينُ ما قال النبيُّ وصحبُهُ فإذا اقتديت بهم فنِعْم المُقتدى

فسبحان الحليم الودود، الممهل الكريم العميم الجود، العالم بخفايا الضمائر ودبيب النملة على الصخرة في الليالي السود. ويرى جريان الماء في العود.

القادر فكلّ ما سواه بقدرته موجود. نزّه نفسه بنفسه لعجز خلقه عن ذلك، فتعالى عن الأشكال والأمثال والجهات والحدود، صفاته قديمة ثابتة بالنقل والعقل، فمن عطّل وقع في الجحود، وتنزيهه عن النقائص والأشباه محقّق ومعلوم، والتشبيه مذهب السامرة واليهود. وكفّ الكيف مشلولة بل مقطوعة، وباب التشبيه مردوم ومسدود، فمن فتحه هجمت عليه نار الوعيد، فأهلكته كما هلك فرعون ونمرود، وأصحاب الأخدود وعاد وثمود، فنسأل اللَّه العافية من الفتن ومن أسبابها ومن النار ذات الوقود، ونتوسّل إليك بسيّد الأوّلين والآخرين محمّد، كما توسّل به أبو البشر فقبلته، فهو أحمد المحمود، صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، فهو أعظم الوسائل، ولا يخيب من توسّل به ولو كان من أهل الجحود.

ص: 72

التوسل بالنبي في القرآن

قال اللَّه تعالى: وكانوا أي اليهود مِنْ قَبْلُ أي بعث محمّد صلى الله عليه و آله و سلم يستفتحون أي يستنصرون على الذين كفروا (1)

وهم مشركو العرب، كانوا يقولون إذا حَزَبَهُمْ أمر أو دهمهم عدوّ: «اللّهمّ انصرنا بجاه النبيّ المبعوث آخر الزمان، الذي نجد صفته في التوراة»، فكانوا يُنصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم كغطفان وغيرها من المشركين: «قد أطلّ زمانُ نبيٍّ يخرج بتصديق ما قلناه، فنقتلكم معه قتل عاد وثمود».

فانظر- أرشدك اللَّه- الى قدره ودُنوّ منزلته عند ربّه، كيف قبل عزّ وجلّ التوسّل به من اليهود، مع علمه سبحانه بأنهم يكفرون به، ولا يوقّرونه ولا يعظّمونه، بل يؤذونه، ولا يتّبعون النور الذي أُنزل معه؟

فمن مَنع التوسّل به فقد نادى على نفسه، وأعلم الناس بأنّه أسوأ حالًا من اليهود.

شعر:

أنت الملاذُ لنا وأنت المرتجى وبك اللياذُ وأنت ملجأُ مَن لَجا

يا سيّد الكونينِ يامَن قد سما معراجُه فوق السماءِ وعرَّجا

يا سيّد الثقلين والحكم الهدى والمقصد الأسنى لأبواب الرجا

يا سيّداً مَن أمَّ بابَ مقامه ألفاهُ خير مقامِ سُؤْلٍ يُرتجى

يا سيّداً ما أمَّهُ من ضامهُ ريبُ الزمان بخَطبه إلّانجا

يا سيّداً جعل الإلهُ وجودَهُ للعالمين المرتجى والمُلتجا

يا خاتم الرُّسُل الكرامِ ومن بهِ ربُّ البريّةِ كلَّ همٍّ فرَّجا

غيره:

وكن مستجيراً بالذي نالَ رفعةً الى عزّها ذلَّ الملوكُ الأكاسرُ

نبيٌّ لهُ جاهٌ عريض ومَنصَبٌ عظيمٌ له تُعزى العُلى والمفاخرُ

جليلٌ جميلٌ راحمٌ مُتعطِّفٌ فصيحٌ مليحٌ كاملُ الحُسنِ باهرُ

ألا يا رسولَ اللَّه يا غاية المُنى لقد نلتَ فخراً ما لأدناه آخرُ

أيا دُرة الأنباء ياجوهر الورى هنيئاً لنفسٍ في هواك تُتاجرُ

لقد ربحتْ في بيعها وتنعّمت وقد سَعِدت يادرّها والجواهرُ

حبيبي رسولَ اللَّه كُنْ لِيَ شافعاً أغِثْني أجِرْني يومَ تُبلى السرائرُ

بجاهك آمالُ الضعيف تعلّقتْ إذا نُصب الميزانُ والعقلُ طائرُ

فكن شافعي عند الإله فإنّه حليمٌ كريمٌ غافرُ الذنبِ ساترُ

مضى العُمرُ في لهوٍ وزهوٍ وغفلةٍ وإنّي عن الفعل الحميد لقاصرُ


1- البقرة: 89.

ص: 73

ص: 74

فياربِّ دارِكْنا بعفوٍ ورحمةٍ فأنت جيملُ العفو للكسرِ جابرُ

وخُذْ بنواصينا وطهِّرْ قُلوبَنا ومُنَّ بعفوٍ منكَ فالعفوُ غامرُ

وصلِّ على البدرِ الذي من جبينِهِ بَدا الشمسُ والأقمارُ والنجمُ زاهرُ

نجزتُ هذه الأحرف المباركات على قارئها ومستمعيها، المتأسّين بأهل الحقّ، التابعين للصفوة من أولي المعجزات، المنزِّهين لربّ العالمين، والمعظّمين لسيّد الأوّلين والآخرين، وسائر الأنبياء والمرسلين، وسرج هذه الأُمّة من بعدهم، كالصدّيقين وسائر الصحابة والتابعين لهم بأحسان الى يوم الدين.

ص: 75

ابن تيمية الحراني و آراؤه

وكنتُ قد عزمت على أن أقتصر على ذلك؛ لأنّ في بعض ما ذكرته وقاية من المقت والمهالك.

ثمّ قيل لي وكُرِّر عليّ: إنّ أهل التشبيه والتجسيم والمزدرين بسيّد الأولين والآخرين- تبعاًلسلالة القردةوالخنازير- لهم وجودوفيهم كثرة، وقدأخذوا بعقول كثير من الناس؛ لما يزيِّنون لهم من الأطراء على قدوتهم، ويُزخرِفون لهم بالأقوال والأفعال، ويموِّهون لهم بإظهار التنسّك، والإقبال على كثرة الصلاة والصوم والحجّ والتلاوة، وغير ذلك مّما يحسن في قلوب كثير من الرجال، لا سيما العوامّ المائلين مع كلّ ريح أتباع الدجّال، فانقادوا لهم بسبب ذلك، وأوقعوهم في اسر المهالك.

فرأيت بسبب هذه المكايد والخزعبلات أن أتعرض لسوء عقيدتهم؛ قمعاً لهذا الزائغ عن طريق أهل الحقّ، وهم الأئمة الأربعة المقتدى بهم والمعوّل عليهم في جميع الأعصار والأقطار؛ لأنّهم النجوم الذين بهم يُهتدى.

وقد بالغ جمع من الأخيار من المتعبّدين وغيرهم من العلماء، كأهل مكّة وغيرها، أن أذكر ما وقع لهذا الرجل من الحِيَدة عن طريق هذه الأئمة ولو كان أحرفاً يسيرة؛ إما بالتصريح أو بالتلويح مشيرة، فاستخرتُ اللَّه- عزّ وجلّ- في

ص: 76

ذلك مدّة مديدة.

ثم قلت: لا أبا لك، وتأملت ما حصل وحدث بسببه من الإغواء والمهالك، فلم يسعني عند ذلك أن أكتم ما علمت، وإلّا ألجمتُ بلجام من نار ومقت.

وها أنا أذكر الرجل، وأُشير باسمه الذي شاع وذاع، واتّسع به الباع، وسار بل طار في أهل القرى والأمصار.

وأذكر بعض ما أنطوى باطنه الخبيث عليه، وما عوّل في الإفساد بالتصريح أو الاشارة إليه.

ولو ذكرت كثيراً مّما ذكره ودوّنه في كتبه المختصرات، لطال جدّاً، فضلًا عن المبسوطات.

وله مصنّفات أُخر لا يمكن أن يطّلع عليها إلّامن تحقّق أنّه على عقيدته الخبيثة، ولو عصر هو واتباعه بالعاصرات؛ لما فيها من الزيغ والقبائح النحسات.

قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الأُموي في ملأ من الناس: لو اطّلع الحصني على ما اطّلعنا عليه من كلامه، لأخرجه من قبره وأحرقه وأكّد هؤلاء أن أتعرّض لبعض ما وقفت عليه.

وما أفتى به مخالفاً لجميع المذاهب، وما خطِى ء فيه وما انتقد عليه.

وأذكر بعض ما اتّفق له من المجالس والمناظرات، وما جاءت به المراسيم العاليات.

وأتعرض لبعض ما سلكه من المكايد التي ظنّ بسببها أنّه تخلص من ضرب السياط والحبوس وغير ذلك من الإهانات، وهيهات.

انتساب ابن تيمية إلي مذهب أحمد بن حنبل

فأوّل شي ء سلكه من المكر والخديعة أن انتمى الى مذهب الإمام أحمد،

ص: 77

وشرع يطلب العلم ويتعبّد، فمالت إليه قلوب المشايخ، فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه، فأظهر التعفّف فزادوه في الرغبة فيه والوقوع عليه، ثمّ شرع ينظر في كلام العلماء، ويعلّق في مسودّاته حتّى ظنّ أنّه صار له قوّة في التصنيف والمناظرة، وأخذ يدوّن ويذكر أن جاءه استفتاء من بلد كذا، وليس لذلك حقيقة، فيكتب عليها صورة الجواب، ويذكر مالا ينتقد عليه، وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد، إلّاأنّه يشير إليه على وجه التلبيس؛ بحيث لا يقف على مراده إلّاحاذق عالم متفنّن، فإذا ناظر أمكنه أن يقطع من ناظره إلّاذلك المتفنّن الفطن.

خداعه لعوام الناس

ثمّ شَرَع يتلقى الناس بالأُنس وبسط الوجه ولين الكلام، ويذكر أشياء تحلو للنفوس، لاسيّما الألفاظ العذبة، مع اشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، فطلبوا منه أن يُذكّر الناس ففعل، فطار ذكره بالعلم والتعبّد والتعفف، ففزع الناس إليه بالأسئلة، فكان إذا جاءه أحد يسأله عن مسألة، قال له: عاودني فيها، فإذا جاءه قال: هذه مسألة مشكلة، ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط، فإني أتقلدها في عنقي، فيقول: أنا أوفي لك، فيقول: أن تكتم عليّ، فيعطيه العهود والمواثيق على ذلك، فيفتيه بما فيه فرجه؛ حتّى صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون بنصرته أن لو عرض له عارض.

ثمّ إنّه علم أنّ ذلك لا يخلّصه، فكان إذا كان في بعض المجالس، قال: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد يبعد ارتتاقها، ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلاناً وزيراً، وفلاناً محتسباً، وفلاناً دويداراً، وفلاناً أمير البلد، فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب، فكانوا يقومون في نصرته.

ص: 78

محايلته للعلماء

ثمّ اعلم: أنّ مثل هؤلاء قد لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره، فجعل له مَخْلصاً منهم؛ بأن ينظر الى من الأمر إليه في ذلك المجلس، فيقول له: ما عقيدة إمامك، فإذا قال: كذا وكذا، قال: أشهد أنّها حقّ، وأنا مخطي ء، واشهدوا أني على عقيدة إمامك، وهذا كان سبب عدم إراقة دمه، فإذا انفضّ المجلس أشاع أتباعه أنّ الحقّ في جهته ومعه، وأنّه قطع الجميع؛ ألا ترون كيف خرج سالماً حتّى حصل بسبب ذلك افتتان خلق كثير، لا سيّما من العوامّ.

فلمّا تكرر ذلك منه علموا أنّه إنّما يفعل ذلك خديعة ومكراً، فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه، ولم يزل ينتقل من سجن الى سجن حتّى أهلكه اللَّه- عزّ وجلّ- في سجن الزندقة والكفر.

التزام ابن تيمية للتقية

ومن قواعده المقرّرة عنده، وجرى عليها أتباعه، التوقّي بكلّ ممكن حقّاً كان أو باطلًا ولو بالأيمان الفاجرة؛ سواء كانت باللَّه- عزّ وجلّ- أو بغيره.

وأمّا الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه، ألبتّة، ولا يعتبره سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز، وهذا مذهب فرقة الشيعة، فإنهم لا يرونه شيئاً، وإشاعته هو وأتباعه أنّ الطلاق الثلاث واحدة خُزَعْبَلات ومكر، وإلّا فهو لا يوقع طلاقاً على حالف به؛ ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أيّ وجه؛ سواء كان حثاً أو منعاً أو تحقيق خبر، فاعرف ذلك، وأنّ مسألة الثلاث إنّما يذكرونها تستّراً وخديعة وقد وقفتُ على مصنّف له في ذلك (1)، وكان عند شخص شريف زينبي،


1- هذا شى ء مدهش جدّاً، ولو أنّ الذي يحكيه [غير] الإمام الحصني المعروف بشحّه على دينه، ما وجد ما يحكيه الى القلوب سبيلًا. انتهى. مصحّحه.

ص: 79

وكان يردّ الزوجة الى زوجها في كلّ واقعة بخمسة دراهم، وإنّما أطلعني عليه لأنّه ظنّ أنّي منهم، فقلت له: ياهذا أتترك قول الإمام أحمد وقول بقيّة الأئمة بقول ابن تيميّة؟!

فقال: أشهد عليّ أنّي تُبتُ.

وظهر لي أنّه كذب في ذلك، ولكن جرى على قاعدتهم في التستّر والتقيّة، فنسأل اللَّه العافية من المخادعة، فإنّها صفة أهل الدَّرك الأسفل (1).

تزوير ابن تيمية في المصنفات والمصادر

ثمّ اعلم قبل الخوض في ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه: أنّه يذكر في بعض مصنّفاته كلام رجل من أهل الحقّ، ويدسّ في غضونه شيئاً من معتقده الفاسد، فيجري عليه الغبّي بمعرفة كلام أهل الحقّ فيهلك، وقد هلك بسبب ذلك خَلق كثير.

وأعمق من ذلك أنه يذكر: أنّ ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني، وليس لذلك الكتاب حقيقة، وإنّما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكّد قوله بأن يقول:

ما يبعد أنّ هذا الكتاب عند فلان، ويسمّي شخصاً بعيد المسافة، كلّ ذلك خديعة ومكر وتلبيس لأجل خلاص نفسه، ولا يحيق المكر السي ء إلّابأهله.

ولهذا لم يزل فيهم التعازير والضرب بالسياط والحبوس وقطع الأعناق، مع تكتمهم ما يعتقدونه والمبالغة في التكتم؛ حتّى أنّهم لا ينطقون بشي ء من عقائدهم الخبيثة إلّافي الأماكن الخفية، بعد التحرّز وغلق الأبواب والنطق بما هم عليه بالمخافتة، ويقولون: إنّ للحيطان آذاناً.


1- لا يتردّد عاقل في أن ما سيحكيه الإمام الحصني بعدُ فعلُ دجاجلة لا علماء، فليقرأه العاقل، وليعجب كيف يكون من هذه بلاياهم أئمة في دين اللَّه؟! انتهى. مصحّحه.

ص: 80

اساليب التيمية في خداع المسلمين

ومن جملة مكرهم وتحيّلهم: أنّ الكبير منهم المشار إليه في هذه الخبائث، له أتباع يُظهرون له العلم والعظمة والتعبّد والتعفّف؛ يخدعون بذلك أرباب الأموال، لاسيما الغرباء، فيدفع ذلك الغريب أوغيره الى ذلك الشيخ شيئاً، فيأبى ويُظهر التعفّف، فيزداد ذلك الرجل حرصاً على الدفع، فلا يأخذ منه إلّابعد جهد، فيأخذها ذلك الخبيث، ولا عليه من أطّلاع اللَّه تعالى على خبث طوّيته، ويدفع بعضها الى بعض اتباعه والى غيرهم، ويتمتّع هو وخواصّه بالباقي، ولهم يد وقدرة على ذلك.

ومن جملة مكرهم من هذا النوع أن يكسو عشرة مساكين قمصاناً أو غيرها، ثمّ يقولون: انظروا هذا الرجل كيف يجيئه الفتوح فيؤثركم بها وغيركم، ويترك نفسه وعياله وأصدقاءه، وهكذا كان السلف، ويكون قد أخذ أضعاف ما دفع، وكثير من الناس في غفلة من هذا.

ولولا أنّ ذلك من جملة النصيحة لماذكرته ولما تعرضت له، وكان ما في نفسي شاغلًا عن ذلك، إلّاأنّه كما قال ابن عباس- رضي اللَّه عنهما- بسبب نجدة الحروري المبتدع: «لولا أن أكتم علماً لما كتبت إليه»؛ يعني جواب ما كتب إليه بأن يعلّمه مسائل، والقصة مشهورة حتّى في صحيح مسلم (1).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم:(من سئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلِجام من نار) رواه غير واحد- من حديث أبي هريرة رضى الله عنه- منهم أبو داود، وكذا الترمذي، وحسنّه، والحاكم وصحّحه (2).


1- صحيح مسلم: في الجهاد والسير رقم 3377، وانظر مسند أحمد رقم 1866، وسنن أبي داود في الجهاد رقم 2351.
2- سنن ابي داود في العلم رقم 3173، وكذا الترمذي برقم 2573، والحاكم في المستدرك 1/ 101.

ص: 81

ثمّ إن كان المال المدفوع زكاة فلا تبرأ الذمّة بدفعه إليهم؛ لأنّهم ليسوا من أهلها، فليتنّبه لذلك فإنّه قد يخفى مع ظهوره، وقد تشكّك في ذلك وتلاعب الشيطان به، فلنأخذه بجانب الاحتياط منه، فإنّه طريق السلامة. واللَّه أعلم.

وأعلم أني لو أردت أن أذكر ما هم عليه من التلبيسات والخديعة والمكر، لكان لي في ذلك مزيد وكثرة وفيما ذكرته أُنموذج ينبّه بعضه على غيره، لا سيّما لمن له أدنى فراسة وحسن نظر بموارد الشرع ومصادره، التي أشار إليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وبعضها صرّح به تصريحاً ظاهراً، لا يخفى إلّاعلى أكمه لا يعرف القمر.

وفي الصحيحين من حديث عليّ رضى الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:

(سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند اللَّه يوم القيامة).

وفي صحيح مسلم من حديث علي رضى الله عنه، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول:(يخرج قوم من أمّتي يقرؤون القرآن، ليس قراءتكم الى قراءتهم بشي ء، وليس صلاتكم الى صلاتهم بشي ء، ولا صيامكم الى صيامهم بشي ء، يقرؤون القرآن يحسبون أنّه لهم، وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة) (1).

وفي الصحيحين (2) من حديث ابن عمر رضى الله عنه، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول وهو على المنبر:(ألا إنّ الفتنة هنا- ويشير الى المشرق- من حيث يطلع قرن الشيطان)،


1- صحيح مسلم في الزكام رقم 1773.
2- البخاري في بدء الخلق رقم 3037، والمناقب رقم 3249، ومسلم في الفتن وأشراط الساعةرقم 5167- 5172، والترمذي في الفتن 3194، ومسند أحمد رقم 4450.

ص: 82

وفي رواية:(إنّ الفتنة ههنا) ثلاثاً، وفي رواية:(خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم من بيت عائشة رضي اللَّه عنها، فقال: رأس الكفر ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان) (1).

هذا المبتدع من حرّان الشرق؛ بلدة لا تزال يخرج منها أهل البدع، كجعد وغيره.

وفي سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخُدري وأنس- رضي اللَّه عنهما- أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:(سيكون في أمّتي اختلاف، وفرقة يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، هم شرّ الخلق. طُوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يَدْعُو الى كتاب اللَّه، وليسوا منه في شي ء، من قتلهم كان أولى باللَّه منهم. قالوا: يا رسول اللَّه وما سيماهم؟ قال: التحليق والتسبيد، فإذا رأيتموهم فأنيموهم) (2) أي اقتلوهم، والتسبيد هو الحلق واستئصال الشعر، وقيل: ترك التدهّن وغسل الرأس وغير ذلك.

والأحاديث في ذلك كثيرة، وفي واحد كفاية لمن أراد اللَّه- عزّ وجلّ- به الرشد والهداية.

فقد أوضحهم سيّد الناصحين صلى الله عليه و آله و سلم- باعتبار أوصافهم وأماكنهم- إيضاحاً جليّاً لا خفاء فيه لا جهالة، فلا يتوقّف في معرفتهم بعد ذلك إلّامن أراد اللَّه تعالى إضلاله.

التحذير من عقائد التيمية أهل الزيغ

وإذا تمهّد لك هذا أيّها الراغب في فكاك نفسك من رِبْقة عقائد أهل الزيغ


1- صحيح البخاري 4/ 179 و 6/ 115، 8/ 52، ومسند أحمد- مسند المكثرين- رقم 4521، والنسائي 7/ 118، وصحيح مسلم 3/ 114، والبيهقي 8/ 170، والترمذي 3/ 326 عن عبداللَّه
2- سنن أبي داود كتاب السنة رقم 4137.

ص: 83

الضالين المضلين، والاقتداء بأهل السلامة في الدين.

فاعلم: أنّي نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ، المتتبّع ما تشابه في الكتاب والسُّنّة ابتغاء الفتنة، وتبعه على ذلك خَلْق من العوامّ وغيرهم ممّن أراد اللَّه- عزّ وجلّ- إهلاكه، فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به (1)، ولا لي أنامل تُطاوعني على رسمه وتسطيره.

لما فيه من تكذيب ربّ العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين.

وكذا الازدراء بأصفيائه المنتجبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموّفقين.

فعدلت عن ذلك الى ذكر ما ذكره الأئمة المتّقون، وما اتّفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدين، فمنه ما دُوّن في المصنّفات، ومنه ما جاءت به المراسيم العليات، وأجمع عليه علماء عصره مّمن يرجع إليهم في الأمور الملمّات والقضايا المهمات، وتضمّنه الفتاوي الزكيّات من دنس أهل الجهالات، ولم يختلف عليه أحد، كما اشتهر بالقراءة والمناداة على رؤوس الأشهاد في المجامع الجامعة؛ حتّى شاع وذاع، واتّسع به الباع حتّى في الفوات.

المرسوم السلطاني بشأن ابن تيمية

فمن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني (2)، ناصر الدنيا والدين محمّد بن قلاوون- رحمه اللَّه تعالى- وقُرى ء على منبر جامع دمشق، نهار الجمعة سنة خمس وسبعمائة. صورته (3):


1- ليتأمل هذا جدّاً، فإنّه عجيب. انتهى. مصحّحه.
2- لفظ «ناصر الدين» صفة لموصوف محذوف قطعاً ليستقيم الكلام، والتقدير الصادر من السلطان ناصر الدين... الى آخره. أنتهى. مصحّحه.
3- لاحظ الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني ص 145.

ص: 84

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه الذي تنزّه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المِثْل، فقال تعالى: لَيسَ كمثلِهِ شي ء وهو السميعُ البصيرُ (1)

.

نحمده على ما ألهمنا من العمل بالسُّنّة والكتاب، ورفع في أيّامنا أسباب الشكّ والأرتياب.

ونشهد أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له؛ شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير، وينزّه خالقه عن التحيّز في جهة؛ لقوله تعالى: وهو معكمْ أينما كنتُمْ واللَّهُ بما تعملونَ بصيرٌ (2)

.

ونشهد أنّ سيّدنا محمّداً عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته، وأمر بالتفكّر في الآيات، ونهى عن التفكر في ذاته، صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه الذين علا بهم منارُ الإيمان وارتفع، وشيّد اللَّه بهم من قواعد الدين الحنيفي ما شرع، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحقّ ومال الى البدع.

وبعدُ:

فإنّ القواعد الشرعية؛ وقواعد الإسلام المرعيّة، وأركان الإيمان العلمية، ومذاهب الدين المرضيّة، هي الأساس الذي يُبنى عليه، والموئل الذي يرجع كلّ أحد إليه، والطريق التي من سلكها فاز فوزاً عظيماً، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذاباً أليماً: ولهذا يجب أن تنعقد أحكامها: ويؤكد دوامها: وتصان عقائد هذه الأُمة عن الاختلاف: وتُزان بالرحمة والعطف والائتلاف: وتُخمد ثوائر البدع، ويُفرّق من فرقها ما اجتمع.

وكان ابن تيميّة في هذه المدّة قد بسط لسان قلمه، ومدّ بجهله عنان كلمه،


1- الشورى: 11.
2- الحديد: 4.

ص: 85

وتحدّث بمسائل الذات والصفات، ونصّ في كلامه الفاسد على أمور منكرات، وتكلّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما اجتنبه الأئمة الأعلام الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام، وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكّام، وشهر من فتاويه ما استخفّ به عقول العوامّ، وخالف في ذلك فقهاء عصره، وأعلام علماء شامه ومصره، وبثّ به رسائله الى كلّ مكان، وسمّى فتاويه بأسماء ما أنزل اللَّه بها من سلطان.

ولمّا اتّصل بنا ذلك، وما سلك به هو ومريدوه، من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه، من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه استخفّ قومه فأطاعوه، حتى اتّصل بنا أنّهم صرّحوا في حقّ اللَّه سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم.

فقمنا في نصرة اللَّه، مشفقين من هذا النبأ العظيم، وأنكرنا هذه البدعة، وعزنا (1) أن يشيع عمّن تضّمنه ممالكه هذه السمعة، وكرهنا ما فاه به المبطلون، وتلونا قوله تعالى: سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عمّا يصفونَ (2)

.

فإنّه- سبحانه وتعالى- تنزّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير، لا تدركه الأبصارُ وهو يدركُ الأبصارَ وهو اللَّطيفُ الخبيرُ (3)

.

فتقدمت مراسيمنا باستدعاء ابن تيميّة المذكور الى أبوابنا، حين ما سارت فتاويه الباطلة في شامنا ومصرنا، وصرّح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلّاوتلا قوله تعالى: لقد جئت شيئاً نُكراً (4)

.


1- هذه الفقرة محرّفة، ومعناها ليس بظاهر، والذي يظهر أنّ أصلها: «وعُذنا» أن يشيع عمّن تضمّه ممالكه هذه السمعة» يستعيذ السلطان باللَّه أن يشيع عنه هو تلك السمعة؛ لأنّ الرجل في مملكته. انتهى. مصحّحه.
2- الصافات: 180.
3- الأنعام: 103.
4- الكهف: 74.

ص: 86

ولمّا وصل إلينا الجمع أولوا العقد والحلّ، وذوو التحقيق والنقل، وحضر قضاة الإسلام، وحكّام الأنام، وعلماء المسلمين، وأئمة الدنيا والدين، وعُقد له مجلس شرعيّ في ملأ من الأئمة وجمع، ومن له دراية في مجال النظر ودفع.

فثبت عندهم جميع ما نُسب إليه، بقول من يُعتمد ويُعوّل عليه، وبمقتضى خطّ قلمه الدالّ على مُنْكَرِ معتقده (1).

وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه تالين: ستُكتَبُ شهادَتُهم ويُسألوُنَ (2)

.

وبلغنا أنّه قد استُتِيبَ مراراً فيما تقدّم، وأخّره الشرع الشريف لما تعرّض لذلك وأقدم، ثمّ عاد بعد منعه، ولم يدخل ذلك في سمعه.

ولمّا ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي، حكم الشرع الشريف أن يُسجن هذا المذكور، ويُمنع من التصرّف والظهور.

ويكتب مرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبيه في اعتقاد مثل ذلك، أو يعود له في هذا القول متّبعاً، أو لهذه الألفاظ مستمعاً، أو يسري في مسراه، أو يفوه بجهة العلّو بما فاه، أو يتحدّث أحد بحرف أو صوت، أو يفوه بذلك الى الموت، أو ينطق بتجسيم، أو يحيد عن الطريق المستقيم، أو يخرج عن رأي الأئمة، أو ينفرد به عن علماء الأُمّة، أو يحيّز اللَّه سبحانه وتعالى في جهة، أو يتعرّض الى حيث وكيف، فليس لمعتقد هذا إلّاالسيف (3).

فليقف كلّ واحد عند هذا الحدّ، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد.

وليلزم كلّ واحد من الحنابلة بالرجوع عن كلّ ما أنكره الأئمّة من هذه العقيدة،


1- ليحفظ هذا، ثمّ ليحفظه المغررون. انتهى. مصحّحه.
2- الزخرف: 19.
3- لينظر هذا كذلك. انتهى. مصحّحه.

ص: 87

والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة، ولزوم ما أمر اللَّه تعالى به، والتمسك بمسالك أهل الإيمان الحميدة، فإنّه من خرج عن أمر اللَّه فقد ضلّ سواء السبيل.

ومثل هذا ليس له إلّاالتنكيل، والسجن الطويل مستقرّه ومقيله وبئس المقيل.

وقد رسمنا بأن يُنادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية، وتلك الجهات الدنيّة والقصيّة: بالنهي الشديد، والتخويف والتهديد، لمن اتّبع ابن تيميّة في هذا الأمر الذي أوضحناه.

ومن تابعه تركناه في مثل مكانه وأحللناه، ووضعناه من عيون الأمّة كما وضعناه، ومن أصرّ على الامتناع، وأبى إلّاالدفاع، أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم، وأسقطناهم من مراتبهم مع إهانتهم، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا ولاية، ولا شهادة ولا إمامة، بل ولا مرتبة ولا إقامة.

فإنّا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد، وأبطلنا عقيدته الخبيثة التي أضلّ بها كثيراً من العباد أو كاد، بل كم أضلّ بها من خلق، وعاثوا بها في الأرض الفساد.

ولتثبت المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك، وتسيّر المحاضر بعد إثباتها على قضاء المالكية. وقد أعذرنا وحذّرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا.

وليُقرأ مرسومنا الشريف على المنابر؛ ليكون أبلغ واعظ وزاجر، لكلّ بادٍ وحاضر.

والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه.

وكُتب ثامن (1) عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة (2).


1- كذا بالأصل، والمعنى ظاهر، ولعلّ الأصل في ثامن وعشرين من شهر... الخ، وكذا ما يأتي يقال فيه ذلك. انتهى. مصحّحه.
2- إنّ في ذلك لعبرة لأولي الأبصار. انتهى. مصحّحه.

ص: 88

تاريخ ابن تيمية كما نقله المؤرخ ابن شاكر

وأزيد على ذلك ما ذكره صاحب «عيون التواريخ»، وهو ابن شاكر، ويعرف بصلاح الدين الكتبي وبالتريكي، وكان من أتباع ابن تيميّة، وضُرب الضرب البليغ؛ لكونه قال لمؤذّن في مأذنة العروس وقت السحر: أشركت، حين قال:

ألا يارسول اللَّه أنتَ وسيلتي الى اللَّه في غفران ذنبي وزلّتي

وأرادوا ضرب عنقه، ثمّ جدّدوا إسلامه.

وإنّما أذكر ما قاله لأنه أبلغ في حقّ ابن تيميّة في إقامة الحجّة عليه، مع أنّه أهمل أشياء من خبثه ولؤمه، لما فيها من المبالغة في إهانة قدوته. والعجب أنّ ابن تيميّة ذكرها، وهو سكت عنها:

كلام ابن تيمية في الاستواء و وثوب الناس عليه

فمن ذلك ما أخبر به ابو الحسن علي الدمشقي- في صحن الجامع الأموي- عن أبيه، قال: كنّا جلوساً في مجلس ابن تيميّة، فذكر ووعظ وتعرّض لآيات الاستواء، ثمّ قال:(واستوى اللَّه على عرشه كاستوائي هذا).

قال: فوثب الناس عليه وثبة واحدة، وأنزلوه من الكرسي، وبادروا إليه ضرباً باللكم والنعال وغير ذلك؛ حتّى أوصلوه الى بعض الحكّام.

واجتمع في ذلك المجلس العلماء، فشَرَع يناظرهم، فقالوا: ما الدليل على ما صدر منك؟

فقال: قوله تعالى: الرحمنُ على العرشِ استوى (1)

.

فضحكوا منه، وعرفوا أنّه جاهل لا يجري على قواعد العلم.


1- طه: 5.

ص: 89

ثمّ نقلوه ليتحققوا أمره. فقالوا: ما تقول في قوله تعالى: فأينما تُولُّوا فثمّ وجه اللَّه؟

فأجاب بأجوبة تحقّقوا أنّه من الجهلة على التحقيق، وأنّه لا يدري ما يقول.

وكان قد غرّه بنفسه ثناء العوامّ عليه، وكذا الجامدون (1) من الفقهاء، العارون عن العلوم التي بها يجتمع شمل الأدّلة على الوجه المرضي.

وقد رأيت في فتاويه ما يتعلّق بمسألة الاستواء، وقد أطنب فيها، وذكر أموراً كلّها تلبيسات وتجرّيات خارجة عن قواعد أهل الحقّ، والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحُسن رويّة، ظنّ أنّها على منوال مرضيّ.

ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله: «إنّ اللَّه معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع اللَّه بينهما في قوله تعالى: هو الذي خلق السمواتِ والأرضَ في ستةِ أيّام ثمّ استوى على العرشِ يعلم ما يَلجُ في الأرضِ وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم واللَّه بما تعملون بصيرٌ، فأخبر: أنّه فوق العرشِ يعلم كلّ شي ء، وهو معنا أينما كنّا».

هذه عبارته بحروفها.

فتأمّل- أرشدك اللَّه تعالى- هذا التهافت، وهذه الجرأة بالكذب على اللَّه تعالى: أنه- سبحانه وتعالى- أخبر عن نفسه أنّه فوق العرش، ومحتجاً بلفظ الاستواء الذي هو موضوع بالاشتراك، ومن قبيل المجمل.

وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه يتحقّق به جهله وفساد تصوّره وبلادته.

وكان بعضهم يسمّيه: حاطب ليل، وبعضهم يسمّيه: الهدار المهذار.

وكان الإمام العلامة شيخ الاسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل


1- كذا بالأصل، وليس بخفيّ أنّ لفظ «الجامدين» حقّها الجامدون، وكذا العارون. انتهى. مصحّحة.

ص: 90

القونوي يصرّح بأنّه من الجهلة، بحيث لا يعقل ما يقول.

ويخبر أنه أخذ مسألة التفرقة (1) عن شيخه، الذي تلقّاها عن أفراخ السامرة واليهود الذين أظهروا التشرّف بالاسلام.

وهو (2) من أعظم الناس عداوة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، وقَتَلَ عليٌّ رضي اللَّه عنه واحداً منهم، تكلّم في مجلسه كلمة فيها ازد راء بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وقد وقفت على المسألة؛ أعني مسألة التفرقة التي أثارها اليهود؛ ليزدروه بها، وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة من الاشتقاق، وكانوا يقطعون بها الضعفاء من العلماء، فتصدّى لهم الجهابذة من العلماء، وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل والاستعمال الشرعي والعرفي، وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الأعناق، ولم يبقَ منهم إلّاالضعفاء في العلم، ودامت فيهم مسألة التفرقة حتّى تلقّاها ابن تيميّة عن شيخه، وكنت أظنّ أنّه ابتكرها.

واتفق الحُذّاق في زمانه من جميع المذاهب على سوء فهمه وكثرة خطئه، وعدم إدراكه للمآخذ الدقيقة وتصوّرها، عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم.

تاريخ ابن تيمية الأسود

ولنرجع الى ما ذكره ابن شاكر في تاريخه؛ ذكره في الجزء العشرين.

قال: وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب، عُقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الأبلق، فسُئل ابن تيميّة عن عقيدته؟ فأملى شيئاً منها.


1- ظاهر أنّها الفوقية، وكذا ما يأتي بعد كالسياق أو التفرقة حياة الرسول ومماته. أنتهى. مصحّحه.
2- ظاهر أنّ اللفظ هم لا هو. أنتهى. مصحّحه.

ص: 91

ثمّ أُحضرت عقيدته الواسطيّة، وقرئت في المجلس، ووقعت بحوث كثيرة، وبقيت مواضع أُخّرت الى مجلس ثانٍ، ثمّ اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب.

وحضر المجلس صفي الدين الهندي، وبحثوا، ثمّ اتفقوا على أنّ كمال الدين بن الزملكاني يحاقق ابن تيميّة، ورضوا كلّهم بذلك، فأفحم كمالُ الدين ابنَ تيميّة، وخاف ابن تيميّة على نفسه، فأشهد على نفسه الحاضرين أنّه شافعيّ المذهب، ويعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، فرضوا منه بذلك وانصرفوا.

ثمّ إنّ أصحاب ابن تيميّة أظهروا أنّ الحقّ ظهر مع شيخهم، وأنّ الحقّ معه، فأُحضروا الى مجلس القاضي جلال الدين القزويني، وأحضروا ابن تيميّة وصُفع ورُسم بتعزيره، فشفّع فيه، وكذلك فعل الحنفي باثنين من أصحاب ابن تيميّة.

ثمّ قال: ولمّا كان سَلخُ رجب جمعوا القضاة والفقهاء، وعُقد مجلس بالميدان أيضاً، وحضر نائب السلطنة أيضاً، وتباحثوا في أمر العقيدة، وسلك معهم المسلك الأوّل.

فلمّا كان بعد أيّام ورد مرسوم السلطان؛ صحبة بريديّ من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وبابن تيميّة، وفي الكتاب: تعرّفونا ما وقع في سنة ثمانٍ وتسعين في عقيدة ابن تيميّة.

فطلبوا الناس وسألوهم عمّا جرى لابن تيميّة في أيّام نُقل عنه فيها كلام قاله، وأحضروا للقاضي جلال الدين القزويني العقيدة التي كانت أُحضرت في زمن قاضي القضاة إمام الدين، وتحدّثوا مع ملك الأمراء في أن يكاتب في هذا الأمر، فأجاب، فلمّا كان ثاني يوم وصل مملوك ملك الأمراء على البريد من مصر، وأخبر أنّ الطلب على ابن تيميّة كثير، وأنّ القاضي المالكي قائم في قضيّته قياماً عظيماً، وأخبر بأشياء كثيرة من الحنابلة وقعت في الديار المصرية، وأنّ بعضهم صُفع، فلمّا سمع ملك الأمراء بذلك انحلّت عزائمه عن المكاتبة، وسيّر شمس الدين بن محمّد

ص: 92

المهمندار الى ابن تيميّة، وقال له:

قد رسم مولانا ملك الأمراء بأن تسافر غداً، وكذلك راح الى قاضي القضاة، فشرعوا في التجهيز، وسافر صحبة ابن تيميّة أخواه عبداللَّه وعبدالرحمن، وسافر معهم جماعة من أصحاب ابن تيميّة.

وفي سابع شوّال وصل البريدي الى دمشق، وأخبر بوصولهم الى الديار المصريّة، وأنّه عقد لهم مجلس بقلعة القاهرة بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والأمراء: فتكلّم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي وادّعى على ابن تيميّة في أمر العقيدة، فذكر منها فصولًا.

فشرع ابن تيميّة فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه، وتكلّم بما يقتضي الوعظ، فقيل له: ياشيخ إنّ الذي تقوله نحن نعرفه، وما لنا حاجة الى وعظك، وقد أدُّعي عليك بدعوى شرعية فأجب.

فأراد ابن تيميّة أن يعيد التحميد، فلم يمكّنوه من ذلك، بل قيل له: أجب.

فتوقّف، وكُرِّر عليه القول مراراً، فلم يزدهم على ذلك شيئاً، وطال الأمر، فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبسِ أخويه معه.

فحبسوه في بُرج من أبراج القلعة فتردّد إليه جماعة من الأمراء، فسمع القاضي بذلك، فاجتمع بالأمراء، وقال: يجب عليه التضييق إذا لم يقتل، وإلّا فقد وجب قتله، وثبت كفره.

فنقلوه الى الجُبّ بقلعة الجبل، ونقلوا أخويه معه بإهانة.

وفي سادس عشر ذي القعدة وصل من الديار المصرية قاضي القضاة نجم الدين بن صصري، وجلس يوم الجمعة في الشباك الكمالي، وحضروا القرّاء والمنشدون، وأُنشدت التهاني، وكان وصل معه كتب ولم يعرضها على نائب السلطنة، فلمّا كان بعد أيّام عرضها عليه، فرسم ملك الأمراء بقراءتها والعمل بما

ص: 93

فيها أمتثالًا للمراسيم السلطانية.

وكانوا قد بيّتوا على الحنابلة كلّهم بأن يحضروا الى مقصورة الخطابة بالجامع الأُموي بعد الصلاة، وحضر القضاة كلّهم بالمقصورة، وحضر معهم الأمير الكبير ركن الدين بيبرس العلاني، وأحضروا تقليد القضاة نجم الدين بن صصري، الّذي حضر معه من مصر باستمراره على قضاء القضاة وقضاء العسكر ونظر الأوقاف وزيادة المعلوم، وقرى ء الكتاب الذي وصل على يديه، وفيه ما يتعلّق بمخالفة ابن تيمية عقيدته وإلزام الناس بذلك، خصوصاً الحنابلة، والوعيد الشديد عليهم، والعزل من المناصب، والحبس وأخذ المال والروح؛ لخروجهم بهذه العقيدة عن الملّة المحمّدية.

ونسخة الكتاب نحو الكتاب المتقدّم، وتولّى قراءته شمس الدين محمّد بن شهاب الدين الموقع، وبلغ عنه الناس ابن صبح المؤذّن، وقُرى ء بعد تقليد الشيخ برهان الدين بالخطابة، وأحضروا بعد القراءة الحنابلة مُهانين بين يدي القاضي جمال الدين المالكي بحضور باقي القضاة، واعترفوا أنّهم يعتقدون ما يعتقده محمّد ابن إدريس الشافعي رضى الله عنه.

وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة، ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق الذي يُفتي بها ابن تيميّة.

وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة، وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء، وحضر ابن تيميّة وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق، وكونهم نهوه وما انتهى، ولا قبل مرسوم السلطان، ولا حكم الحكام بمنعه، فأنكر.

فحضر خمسة نفر، فذكروا عنه: أنه أفتاهم بعد ذلك، فانكر وصمّم على الإنكار، فحضر ابن طليش وشهود شهدوا أنّه أفتى لحّاماً اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا.

ص: 94

فقيل لابن تيميّة: اكتب بخطك: أنك لا تُفتي بها ولا بغيرها، فكتب بخطّه: أنه لا يُفتي بها وما كتب بغيرها.

فقال القاضي نجم الدين بن صصري: حكمتُ بحبسك واعتقالك.

فقال له: حكمك باطل؛ لأنّك عدوّي، فلم يُقبل منه، وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق.

وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يوم عاشوراء، أُفرج عن ابن تيميّة من حبسه بقلعة دمشق، وكانت مدّة اعتقاله خمسة أشهر ونصفاً.

وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة في السادس عشر في شعبان، قدم بريدي من الديار المصرية، ومعه مرسوم شريف باعتقال ابن تيميّة.

فاعتقل في قلعة دمشق، وكان السبب في اعتقاله وحبسه أنّه قال: لا تُشدّ الرحال إلّاالى ثلاثة مساجد، وإنّ زيارة قبور الأنبياء لا تُشد إليها الرواحل كغيرها، كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ثمّ إنّ الشامييّن كتبوا فُتيا أيضاً في ابن تيميّة؛ لكونه أوّل من أحدث هذه المسألة، التي لا تصدر إلّامّمن في قلبه ضغينة لسيّد الأولين والآخرين.

فكتب عليها الإمام العلّامة برهان الدين الفزاريّ نحو أربعين سطراً بأشياء، وآخر القول أنّه أفتى بتكفيره.

ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين بن جهبل الشافعي، وكتب تحت خطّه:

كذلك المالكي.

وكذلك كتب غيرهم.

ووقع الأتّفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته.

ثمّ أراد النائب أن يعقد لهم مجلساً، ويجمع العلماء والقضاة، فرأى أنّ الأمر يتّسع فيه الكلام، ولابدّ من إعلام السلطان بما وقع، فأخذ الفتوى وجعلها في

ص: 95

مطالعه وسيّرها.

فجمع السلطان لها القضاة، فلمّا قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وكتب عليها: القائل بهذه المقالة ضالّ مبتدع.

ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي، فصار كفره مُجمعاً عليه (1).

ثمّ كُتب كتاب الى دمشق بما يعتمده نائب السلطنة في أمره.

وفي يوم الجمعة عاشر شهر شعبان حضر كتاب السلطان الى نائب البلد، وأمره أن يُقرأ على السدّة في يوم الجمعة فقُرى ء، وكان قارى ء الكتاب بدر الدين ابن الأعزازي الموقع والمبلغ ابن النجيبي المؤذّن.

ومضمون الكتاب بعد البسملة: أدام اللَّه تعالى نعمه، ونوضّح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي جهّزها بسبب ابن تيميّة، فوقفنا عليها، وعلمنا مضمونها في أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرير المراسيم الشريفة بمنعه؛ حسب ما حكم به القضاة وأكابر العلماء.

وعقدنا بهذا السبب مجلساً بين أيدينا الشريفة، ورسمنا بقراءة الفتوى على القضاة والعلماء.

فذكروا جميعاً من غير خلف: أنّ الذي أفتى به ابن تيميّة في ذلك خطأ مردود عليه، وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقاً.

وكتبوا خطوطهم بين ايدينا على ظاهر الفتوى المجهّزة بنسخة ما كتبه ابن تيميّة.

وقد جهّزنا الى الجناب العالي طيّ هذه المكاتبة، فيقف على حكم ما كتب به القضاة الأربعة.

ويتقدم اعتقال المذكور في قلعة دمشق، ويُمنع من الفتوى مطلقاً، ويُمنع الناس من الاجتماع به والتردّد اليه تضييقاً عليه، لجرأته على هذه الفتوى.


1- لينظر هذا المغرورون. انتهى. مصحّحه.

ص: 96

فيحيط به علمك الكريم، ويكون اعتماده بحسب ما حكم به الأئمة الأربعة، وأفتى به العلماء في السجن للمذكور وطول سجنه.

فإنّه في كلّ وقت يُحدث للناس شيئاً منكراً، وزندقة يشغل خواطر الناس بها، ويُفسد على العوامّ عقولهم الضعيفة وعقلياتهم وعقائدهم.

فيمنع من ذلك، وتسدّ الذريعة منه.

فليكن عمله على هذا الحكم، ويتقدّم أمره به.

وإذا اعتمد الجناب الرفيع العالي هذا الاعتماد الذي رسمنا به في أمر ابن تيمية، فيتقدم منع من سلك مسالكه، أو يُفتي بهذه الفتاوى، أو يعمل بها في أمر الطلاق، أو هذه القضايا المستحدثة.

وإذا اطّلع على أحد عمل بذلك، أو أفتى به، فيعتبر حاله، فإن كان من مشايخ العلماء، فيعزّر تعزير مثله.

وإن كان من الشبّان الذين يقصدون الظهور- كما يقصده ابن تيميّة- فيؤدّبهم ويردعهم ردعاً بليغاً، ويعتمد في أمرهم ما يُحسم به موادّ أمثاله؛ لتستقيم أحوال الناس، وتمشي على السداد، ولا يعود أحد يتجاسر على الإفتاء بما يخالف الإجماع، ويبتدع في دين اللَّه- عزّ وجلّ- من أنواع الاقتراح ما لم يسبقه أحد إليه.

فالجناب العالي يعتمد هذه الأمور التي عرّفناه إيّاها الآن وسدّ الذرائع فيها.

وقد عجّلنا بهذا الكتاب، وبقيّة فصول مكاتبته تصل بعد هذا الكتاب إن شاء اللَّه تعالى.

وكتب في سابع عشرين رجب سنة ستٍّ وعشرين وسبعمائة.

فتوي الأئمة الأربعة بكفر ابن تيمية

صورة الفتوى من المنقول من خطّ القضاة الأربعة بالقاهرة على ظاهر الفتوى:

ص: 97

الحمد للَّه، هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله: إنّ زيارة الأنبياء والصالحين بدعة.

وماذكره من نحوذلك، وأنّه لايرخّص بالسفر لزيارةالأنبياء، باطل مردود عليه.

وقد نقل جماعة من العلماء: أنّ زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فضيلة وسُنّة مجمع عليها.

وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يُزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند الأئمة والعلماء، ويُمنع من الفتاوى الغريبة، ويحبس (1) إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره؛ ليحتفظ الناس من الاقتداء به.

وكتبه محمّد بن إبراهيم بن سعد اللَّه بن جماعة الشافعي.

وكذلك يقول محمّد بن الجريري الأنصاري الحنفي: لكن يُحبس الآن جزماً مطلقاً.

وكذلك يقول محمّد بن أبي بكر المالكي ويبالغ في زجره حسبما تندفع به المفسدة وغيرها من المفاسد.

وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي.

ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها: بأنّ زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها.

وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكّام، وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمّد بن عبدالرحمن القزويني، فلمّا رأوا خطّه عليها تحققوا فتواه، فغاروا لرسول صلى الله عليه و آله و سلم غيرة عظيمة، وللمسلمين الذين ندبوا الى زيارته، وللزائرين من أقطار الأرض، واتّفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه، وأهانوه ووضعوه في السجن.

وذكر الشيخ الإمام العلّامة شمس الدين الذهبي بعض محنته، وأنّ بعضها كان في سنة خمس وسبعمائة، وكان سؤالهم عن عقيدته وعمّا ذكر في الواسطيّة، وطلب


1- ظاهر أنّ اللفظ «ويحبس» لا يجلس. أنتهى. مصحّحه.

ص: 98

وصوّرت عليه دعوى المالكي، فسجن هو وأخواه بضعة عشر شهراً، ثمّ أُخرج، ثمّ حبس في حبس الحاكم.

وكان مّما أُدّعي عليه بمصر أن قال: الرحمن استوى على العرش حقيقة، وأنّه تكلّم بحرف وصوت.

ثمّ نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيميّة حلّ ماله ودمه (1).

حكم ابن حيان علي ابن تيمية بالتشبيه

وذكر أبو حيّان النحوي الأندلسي في تفسيره المسمّى ب «النهر» في قوله تعالى: وَسِعَ كُرسيُّهُ السَّمواتِ والأرضَ ما صورته: وقد قرأت في كتاب لأحمد ابن تيميّة هذا الذي عاصرناه، وهو بخطّه سمّاه «كتاب العرش»: إنّ اللَّه يجلس على الكرسيّ، وقد أخلى مكاناً يقعد معه فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

تحيّل عليه التاج محمّد بن علي بن عبدالحقّ، وكان من تحيّله عليه أنّه أظهر أنّه داعية له حتّى أخذ منه الكتاب، وقرأنا ذلك فيه.

ورأيت في بعض فتاويه: أنّ الكرسي موضع القدمين.

وفي كتابه المسمّى ب «التدمرية» ما هذا لفظه بحروفه- بعد أن قرّر ما يتعلق بالصفات المتعلّقة بالخالق والمخلوق-: ثمّ من المعلوم أنّ الربّ لمّا وصف نفسه: بأنّه حيّ عليم قادر، لم يقل المسلمون: إنّ ظاهر هذا غير مراد؛ لأنّ المفهوم ذلك في حقّه مثل مفهومه في حقّنا.

فكذلك لمّا وصف نفسه: أنّه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أنّ ظاهره غير مراد؛ لأنّ مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقّنا.

هذه عبارته بحروفها، وهي صريحة في التشبيه المساوي، كما أنّه جعل الاستواء


1- ليتأمل العاقل هذا، ثمّ ليتأمّله. انتهى. مصحّحه.

ص: 99

على العرش مثل قوله تعالى: لتستووا على ظهوره تعالى اللَّه وتقدّس عن ذلك.

وقال في كلام حديث النزول المشهور: أنّ اللَّه ينزل الى سماء الدنيا الى مَرْجة خضراء، وفي رجليه نعلان من ذهب. هذه عبارته الزائغة الركيكة.

وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه؛ حريصاً على ظاهرها واعتقادها، وإبطال ما نزّه اللَّه تعالى به نفسه في أشرف كتبه، وأمر به عموماً وخصوصاً، وذكره إخباراً عن الملأ الأعلى والكون العُلوي والسُّفلي، ومن تأمّل القرآن وجده مشحوناً بذلك.

وهذا الخبيث لا يعرُج على ما فيه التنزيه، وإنّما يتتبّع المتشابه، ويُمعن الكلام فيه، وذلك من أقوى الأدّلة على أنّه من أعظم الزائغين.

ومن له أدنى بصيرة لا يتوقّف فيما قلته؛ إذ القرائن لها اعتبار في الكتاب والسُّنّة، وتفيد القطع، وتفيد ترتّب الأحكام الشرعية، لا سيّما في محلّ الشُّبه.

قال بعض السلف رضي اللَّه عنهم: الإعراض عن الحقّ والتسخّط له علامة الركون الى الباطل، وطريق الحقّ دقيق وبعيد، والصبر معه شديد، والعدوّ لا يزال عنه يحيد، وأثقال الحقّ لا يحملها إلّامطايا الحقّ.

وقال بعض السلف: داعي الحقّ داعي رشد، ليس للشيطان فيه يد، ولا للنفس فيه نصيب. وداعي الباطل من نزغات الشيطان وهوى النفس، ومتّبعها هالك لا محالة؛ لأنّه عاصٍ في صورة طائع، ومُبعِد في صورة مُقرِّب.

وصدق ونصح رضى الله عنه، فقد هلك بسبب ذلك خلق لا يُحصون عدّاً، ولا يمكن ضبطهم حدّاً.

قال العلماء: إنّ وسوسة التشبيه من إبليس، فالردّ عليه وابطال وسوسته أن يقول في نفسه: كلّ ما تصوّر في صدري فالربّ بخلافه، فإنّه لا يتصوّر في صدري إلّا مخلوق له كيفيّة ومِثْل، والربّ- سبحانه وتعالى- لا مِثْل له ولا كيفية، فما مثل في

ص: 100

صدري فهو غير ربي، فهو- سبحانه وتعالى- موحّد الذات والصفات.

التوحيد والعدل في كلام الأئمة

وسُئل علي رضى الله عنه عن التوحيد والعدل، فقال:(التوحيد أن لا تتوهّمه، والعدل أن لا تتّهمه).

وقال يحيى بن معاذ: التوحيد في كلمة واحدة ما تصوّر في الأوهام فهو بخلافه.

وقال علي رضى الله عنه:(ليس لصفته حدّ محدود، ولا نعت موجود).

وقال رضى الله عنه:(أوّل الدين معرفته، وكمالُ معرفته التصديق به، وكمالُ التصديق به توحيده، وكمالُ توحيده الإخلاص له، وكمالُ الإخلاص له نفي الصفات الُمحدَثة عنه، فمن وصفه بحادث فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه (1)، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه) (2).

قال المحقّقون: من اعتقد في اللَّه- سبحانه وتعالى- ما يليق بطبعه فهو مشبّه؛ لأنه- سبحانه وتعالى- منزّه عمّا يصفه به أو يتخيّله؛ لأنّ ذلك من صفات الحَدَث.

وسُئل- أعني عليّاً رضى الله عنه: بمَ عرفت ربّك؟ فقال:(عرفتُه بما عرّف به نفسه؛ لا يُدرك بالحوّاس، ولا يُقاسُ بالناس، قريب في بُعده، بعيد في قُربه، فوق كلّ شي ء ولا يقال تحته شي ء وأمام كلّ شي ء، ولا يقال أمامه شي ء، وهو في كلّ شي ء لا كشي ء في شي ء فسبحان من هو هكذا وليس هكذا غيره) (3).

وقال أيضاً رضى الله عنه:(عرّفنا اللَّه- سبحانه وتعالى- نفسه بلا كيف، وبعث سيّدنا


1- قوله: «ثنّاه» هي ثنّاه. انتهى. مصحّحه.
2- نهج البلاغة، الخطبة الأولى ص 39 تحقيق الدكتور صبحي الصالح.
3- لاحظ هذا النص في كتب الشيعة الإمامية: المحاسن للبرقي ص 239، والكافي للكليني 1/ 85، والتوحيد للصدوق ص 285.

ص: 101

محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم بتبليغ القرآن، وبيان المفصّلات للإسلام والإيمان، وإثبات الحجّة وتقويم الناس على منهج الإخلاص، فصدّقته بما جاء به).

وقال الإمام الحافظ محمّد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة: من جهل أوصاف العبوديّة فهو بنعت الربوبيّة أجهل.

قال جعفر [الصادق] في قوله تعالى: قل هو اللَّهُ أحدٌ:(هو الذي لم يُعطِ لأحد من معرفته غير الأسم والصفة).

وقيل: هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته وصفاته إلّاهو.

وقوله تعالى اللَّه الصمد قيل هو الذي أيست العقول من أن تطّلع عليه، أو تُدرك ما وصف به نفسه ونسب إليه.

وقيل: هو السيّد الذي لا نهاية لسؤدده.

وقيل: هو المصمود إليه في الحوائج.

وقيل: هو الذي لا يستغني عنه شي ء من الأشياء.

وقال ابن عبّاس رضى الله عنه: معناه الذي لا جوف له. وقيل غير ذلك.

وقوله: لم يلد ولم يُولد نفي الجنسية والبعضية.

وقوله: ولم يكنْ له كفواً أحدٌ نفي الشريك والنظير، فهو الذي لا نظير له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله.

فتعالى أن تُدركه الأوهام والعقول والعلوم، بل هو كما وصف نفسه، والكيفية عن وصفه غير معقولة ولا موهومة، كيف يكون ذلك؟ وهو قديم الذات والصفات، والتخيّل إنّما يكون في المحدثات.

وسئل الإمام العلّامة أبو الحسن الدينوري عن الاستدلال بالشاهد على الغائب، فقال: كيف يستدلّ بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يُشاهد ولا يُعاين في الدنيا ولا نظير له ولا مثل؟!

ص: 102

هذا من جهل الجاهلين بالآيات التي قلبوا بها حقائق الأمور، فجعلوا الآيات صفات، ومعنى الآيات العلامات.

وهو كلام إمام محقّق، وقد زلّ خلق كثير بمثل ذلك.

فسبحان الأحدي الذات، العليّ الصفات، المنزّه عن الآلات، المقدّس عن الكيفيات، المنزّه عن مشابهة المخلوقات، تعالى عمّا يقوله من الإلحاقات.

كيف يُقاس القادر بالمقدورات والصانع بالمصنوعات؟! وهي من آياته البيّنات الظاهرات.

رفع السموات، وبسط الأرض وثبتها بالأوتاد الراسيات، وأتحفها بالمُزن الماطرات، فزهت بأنواع النباتات المختلفات، كذلك يحيي الموتى. إعلموا أنّ اللَّه يُحيي الأرض بعد موتِها قد بيَّنّا لكم الآياتِ.

قال أرباب البصائر وذوو التحقيقات: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم من جهة المعنى، ولا لصفته صفة من جميع الوجوه إلّامن جهة موافقة اللفظ.

وكما لم يجز أن يظهر من مخلوق صفة قديمة، كذلك يستحيل أن يظهر من الذات الذي ليس كمثله شي ء صفة حديثة.

وأنّ التكرار من حدوث الصفة، جلّ ربّنا أن يحدث له صفة أو أسم؛ إذ لم يزل بجميع صفاته واحداً، ولا يزال كذلك.

وكلّ أمور التوحيد والتفريد خرجت (1) من هذه الكلمة ليس كمثله شي ء.

لأنّه ما عبّر عن الحقيقة بشي ء إلّاوالعلّة مصحوبة والعبارة منقوضة؛ لأن الحقّ لا ينبعث (2) أقداره إلّاعلى إقراره؛ لأنّ كلّ ناعت مشرف على المنعوت،


1- أي ظهرت للمؤمنين وفهموها من هذه الكلمة. انتهى. مصحّحه.
2- قوله: «لا ينبعث» هو لا ننعت... الى آخره. بدليل قوله بعد ذلك: «لأنّ كلّ ناعت...» الى آخره. انتهى. مصحّحه.

ص: 103

وجلّ ربّنا أن يشرف عليه مخلوق، احتجب عن خلقه بخلقه، ثمّ عرّفهم صنعه بصنعه، وساقهم الى أمره بأمره، فلا يمكن الأوهام أن تناله، ولا العقول أن تختاله (1)، ولا الأبصار أن تمثله، ولا الأسماع أن تشتمله (2)، ولا الاماني أن تمتنحه.

هو الذي لا قبل له، ولا مفرّ (3) عنه ولا معدل، ولا غاية وراءه ولا مثل. ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء، ولا يستره حجاب، ولا يقلّه مكان ولا يحويه هواء، ولا يحتاطه (4) فضاء، ولا يتضمّنه خلاء ليس كمثلهِ شي ء وهو السميعُ البصيرُ.

قال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما: معنى الآية ليس له نظير.

وقيل: الكاف صلة؛ أعني زائدة، فالمعنى: ليس مثله شي ء.

وقيل: المثل صلة، فالمعنى ليس كهو شي ء، فأدخل المثل للتأكيد.

فمن الجهل البيّن أن يطلب العبد درك ما لا يُدرك، وأن يتصوّر ما لا يُتصوَّر.

كيف؟

وقد نزّه نفسه بنفسه عن أن يدرك بالحوّاس، أو يُتصور بالعقل الحادث والقياس، فلا يدركه العقل الصحيح من جهة التمثيل، ويدركه من جهة الدليل.

فكلّ ما يتوهّمه العقل فهو جسم، وله (5) نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه، مع ما يلزمه من الحدود والمساحة، ومن الطول والعرض، وغير ذلك من صفات الحدث، تعالى اللَّه عن ذلك.


1- يريد: أن تتخيّله. انتهى. مصحّحه.
2- لعلّها تشمله؛ أي هو ليس من جنس الأصوات فتسمعه الاسماع. انتهى. مصحّحه.
3- لعلّها مفرّ. أنتهى. مصحّحه.
4- لعلّ الأصل «لا يحيط به...» الى آخره. أنتهى مصحّحه. عبارة المصنّف صحيحة لمجي ء «احتاط» بمعنى «أحاط».
5- قوله: ولا نهاية صوابه وله نهاية الى آخره. كما هو ظاهر. انتهى. مصحّحه.

ص: 104

فهو الكائن قبل الزمان والمكان المحدَثين، وهو الأوّل قبل سوابق العدم، الأبدي بعد لواحق القدم، ليس كذاته ذات، ولا كصفاته صفات، جلّت الذات القديمة الواجبة الوجود- التي لم تُسبق بعدم (1) أن تكون كالصفة الحديثة.

قال تعالى: أو لا يَذكرُ الإنسان أنّا خلقناهُ مِن قبلُ ولم يكُ شيئاً.

فهو- سبحانه وتعالى- احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الإدراك والأبصار، فعجز الخلق عن الدَّرك، والدَّرك عن الاستنباط، وانتهى المخلوق الى مثله، وأسنده الطلب الى شكله.

قال الصدّيق رضى الله عنه: «العجز عن درْك الإدراك إدراك».

وقال رضى الله عنه: «سبحان من لم يجعل للخلق سبيلًا الى معرفته إلّابالعجز عن معرفته».

فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير، لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته.

كذلك عُلّوه واستواؤه؛ إذ الصفة تتبع الموصوف.

فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات، فكذلك حقيقة صفاته.

فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم للحقّ، مَن يُشبّه من ليس كمثله شي ء بالمخلوق المصنوع في شي ء من صفاته وأفعاله وذاته تعالى اللَّه عمّا يقولونَ علوّاً كبيراً.

لأنّه- سبحانه وتعالى- وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والأوهام السخيفة.

وقيل في قوله تعالى: وما قدروا اللَّه حقَّ قدره أي ما وصفوه حقّ وصفه.


1- قوله: «بقدم» هو بعدم، كما هو واضح. انتهى مصحّحه.

ص: 105

وقيل: ما عظّموه حقّ عظمته.

وقيل: ما عرفوه حقّ معرفته، وقيل غير ذلك.

قال بعض أهل المعاني والقلوب: لا يعرف قدر الحقّ إلّاالحقّ، وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدره الوسائط والرسل والأولياء والصدّيقون؟

ثم قال: ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه الى غيره، ولا تغفل عن ذكره، ولا تفتر عن طاعته؛ إذ ذاك (1) عرفت قدر ظاهر قدره، وأمّا حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلّا هو.

وصدق؛ لأنّ الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقّه من كمال صفاته وعظم ذاته.

في التسبيح

ولهذا نزّه سبحانه نفسه بقوله: سبحان ربِّك ربِّ العزّة عمَّا يصفون، وفي هذا غاية الحثّ على كثرة التنزيه ودوامه، مع أمره لأكمل خلقه في قوله تعالى:

سبّح اسم ربّك الأعلى، مع غير ذلك مّما في أشرف الكتب مّما أذكر بعضه.

فقوله: سبّح اسم ربِّك أي قل: سبحان ربّي الأعلى، والمعنى: نزّه اسم ربّك واذكره وأنت له معظّم.

وقيل: نزّه عن المعاني المفضِية الى نقصه.

وقيل: نزّه اسمه عن الكذب إذا أقسمت به.

وقيل: لفظ اسم زائد، وفي الكلام حذف، المعنى: نزّه مسمّى ربّك الذي خلق فسوّى، أي مخلوقه؛ بأن خلقه مستوياً بلا تفاوت فيه وفي أعضائه، وغير ذلك من مخلوقاته، فإنّ مَنْ هذا من بعض مصنوعاته يستحقّ التنزيه، فكيف بمخلوقات اخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها؟! وكلّها على اختلاف أجناسها وأنواعها، كلٌ


1- أي لو كنت كما ذكر قد الخ أنتهى. مصحّحه.

ص: 106

يسبّحه بلغته، وبما يليق بجلاله.

قال تعالى: يسبّحُ لهُ السمواتُ السَّبعُ والأرضُ ومن فيهنَّ وإن من شي ء إلّا يسبَّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.

وقال: والطيرُ صافاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتهُ وتسبيحهُ.

قال مجاهد: تسبيح المخلوقات هو تنزيه خالقها وتوحيده بما يستحقّه؛ من كمال صفات عظم ذاته.

قيل: يفقه تسبيحهم العلماء الرّبّانيون الذين انفتحت أسماع بصائرهم والمنوّرون البصائر الذين يشاهدون كلّ شي ء مرقوماً عليه بقلم القُدرة: هو الملك القُدّوس.

وقال مجاهد: كلّ الأشياء تسبّح حيواناً وجماداً، وتسبيحها: سبحان اللَّه وبحمده.

وروى ابن السني: أنّه عليه السلام قال:(ما تستقبل الشمس فيبقى شي ء من خلق اللَّه تعالى إلّاسبّح اللَّه تعالى وحمده، إلّاما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم. فقيل: ما أغبياء بني آدم؟ فقال: شرار الخلق).

وقال شهيب (1) بن حوشب: حملة العرش ثمانية: أربعة يقولون: سبحانك اللّهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللّهمّ وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.

في التقديس

وقال: هو اللَّه الذي لا إله إلّاهو الملكُ القدّوس فالملك اسم من أسمائه تعالى، وكذا مليك، وهو صفة مبالغة في الملك، قال تعالى: عند مليكٍ مقتدرٍ


1- معروف هذا الاسم ب «شهر». انتهى. مصحّحه.

ص: 107

فالملك هو المُستغني عن كلّ شي ء، ويفتقر إليه كلّ شي ء، ونافذ حكمه في مملكته طوعاً أو كرهاً.

وقيل: هو القادر على الإبداع والإنشاء والإعدام، وهذا على الحقيقة لا يكون إلّا للَّه- عزّ وجلّ- أبدع المكوِّنات العُلويّات والسُّفليّات الجليّات والخفيّات، أبدعها بقدرته ورتّبها على اختلاف أطوارهابحكمته، فكلّ مابرز فهو مقهور الوجود ب «كُنْ»، وكلّ ما انعدم فهو مقهور العدم ب «كُنْ».

وبهذا يُعلم أنّ إطلاق الملك على ما سواه أمر مجازيّ، إذ المملوك لا يكون مالكاً؛ لأنّ من هو تحت قهر الأغيار فهو كالعدم.

ولهذا لمّا تحقّق أرباب القلوب أنّ الملك للَّه- عزّ وجلّ- تحقّقاً قلبيّاً، سكنت أنفسهم عن وصف الإضافات، وتبرّؤوا من الحول والقوّة حتى بالإشارات، فلا يقول: منّي، ولا لي؛ حتّى قيل لبعضهم: ألك ربّ؟ فقال أنا عبد، وليس لي نملة، ومن أنا حتّى أقول: لي.

فهذا وأمثاله صفّى نفسه عن رعونة البشريّة وهواها، وفكّ رِبقة رِقّ خيالاتها الباطلة ومُناها، ومحض رقّ العبودية لمولاها.

فترى الملوك الجبابرة مع جبروتهم يخضعون ويتذلّلون له. ولهذا تتّمات ليس هذا المقام مقامها؛ إذ الغرض التنزيه.

والقُدُّوس من أسمائه- عزّ وجلّ- سمّى نفسه بذلك ليُرشدك الى تقديسه، كما أشار الى ذلك بقوله تعالى: يُسبِّحونَ اللَّيل والنَّهار لا يفترونَ.

وفيه الحثّ على دوام التقديس.

فالقُدُّوس قيل: هو المنزّه عمّا لا يليق به من الأضداد والأنداد.

وقيل: هو المنزّه والمطهّر من النقائص والعيوب.

وهاتان غير مرضيّين عند المحقّقين.

ص: 108

قال حجّة الإسلام الغوّاص الغزالي: «وهذا في حقّ الباري- سبحانه وتعالى- يقارب ترك الأدب، كما أنّه ليس من الأدب أن يقال لملك: ليس بحائك ولا بحجّام؛ لأنّ نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود، وفي ذلك الإيهام نقص.

بل القدّوس: المنزّه عن كلّ وصف يُدركه حِسّ، أو يتصوّره وَهْم، أو يسبق إليه فكر، أو يهجس به سِرّ، أو يختلج به ضمير، أو يسنح له خفيّ خيال».

وقد أجاد رضى الله عنه.

فائدة جليلة للمنزه والمشبه

وههنا فائدة جليلة للمنزّه والمشبِّه: وهي أنه ينبغي للعبد أن يجعل له حظّاً وافراً من تكرير هذا الاسم والإمعان في معناه، فإن كان منزَّهاً عطف ذلك عليه، وقدّس نفسه وقلبه وبدنه:

أمّا نفسه فيطهّرها من الأوهام المذمومة، كالغضب والحقد والحسد والغشّ وسوء الظنّ والكبر وحبّ الشرف والعُلوّ وحبّ الدنيا ولوازمها وغير ذلك، ويبدلها بالأوصاف المحمودة، فيطهّرها أيضاً عن العاهات والشهوات، وما تدعو إليه من المستحسنات والمألوفات؛ إذ هي أزّمة الشيطان يقود بها الى ارتكاب الموبقات.

وأمّا القلب فيطهّره بالعقد الصحيح المطابق الجازم، وبالمبادرة الى امتثال الأوامر واجتناب النواهي والأهواء، وتحقيق الإخلاص نيّة وقولًا وعملًا، وبالرضا بما جرى، فلا يأسف على فائت ولا يفرح بآتٍ، وذلك يرجع الى ذوق حلاوة الإيمان القلبي لا العملي، وعلامته تقديس القلب عن ملاحظة الأكوان، ولا يرى الأغيار إلّاعلى العدم الأصلي، فلا يتحرّك في ظاهره ولا باطنه حتّى في أنفاسه إلّا باللَّه عزّ وجلّ.

ص: 109

وأما البدن فيطهّره بماء الجوع، ويكفنّه بدوام التقشّف، ويحنّطه بالعُزلة، ويطيّبه بدوام الذكر والفكر، ويدفنه في لحد الخوف، فإذا قدّسه بذلك ذهب مغناه، وبقي معناه.

فإذا اجتمعت له هذه التقديسات ذهبت أوصافه القواطع والموانع، ولاح له خزائن أسرار الآيات في معارج ترداد الآيات، فأثمر له ذلك كشف أسرار الملكوتيات، فيثمر له ذلك الشوقَ إلى رؤية مطلوبه، فلا شي ء أشهى إليه من الموت؛ لأنّه لا سبيل الى الوصول الى محبوبه إلّابه، فمن أراد أن يجلسه في حضرة القُدس على منابر التقديس، فليجرِ على هذا التأسيس.

ومرّ إبراهيم بن أدهم- قدس اللَّه روحه- بسكران مطروح على قارعة الطريق وقد تقيأ، فنظر إليه وقال: بأي لسان أصابته هذه الآفة، وطهّر فمه ومضى.

فلمّا أفاق السكران أُخبر بما فعله به إبراهيم، فخجل وتاب، وحسنت توبته.

فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كأنّ قائلًا يقول: غسلت لأجلنا فمه، فلا جرم أنّا طهّرنا لأجلك قلبه.

وأمّا المشبّه والمجسِّم فلأنّه بتكرار هذا الاسم يتعقّل معناه، فيضي ء له نوره، فينكشف له حجاب الضلال، فإذا حقّق المعنى المراد منه ظهر له نوره، فأحرق حجاب الضلال، فصفا قلبه للحقّ وزاح الباطل.

وقد وقع ذلك لبعض الغُلاة في التشبيه والتجسيم، مرّ يوماً على هذه الآية هو اللَّه الذي لا إله إلّاهو الملك القُدُّوس، فكرّر هذا الاسم وتعقّل معناه، فقال:

واللَّه أنا لفي ضلال مُبين بيّن.

فبادر في الحال، وأتى بالشهادتين، وقال: واللَّه لا يخلّصني إلّااستئناف العمل.

فانظر- أرشدك اللَّه تعالى- الى بركة تكرير هذا الاسم العظيم في حقّ أهل التنزيه والتشبيه، واللَّه أعلم.

ص: 110

حقيقة التوحيد في الذات والأفعال

ثمّ تمام التقديس لا يحصل إلّابالتمكّن بعد كمال التوحيد، وحقيقة التوحيد تكون باعتبار الذات وباعتبار الفعل:

فتوحيد الذات ينفي الحدوث، وثبوت الأحديّة ينفي الأضداد، وثبوت الذات ينفي التشبيه، ويحيّر العقل في بحر الإدراك.

وأما توحيد الأفعال فهو شهود القدرة في المقدور، ثمّ الاستغراق في أنوار العظمة، فيغيب بذلك عن الموجودات، وتبقى القدرة بارزة بأسرار التوحيد، ثمّ الاستغراق في أنوار المحو، فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر.

ومن مقدوراته- جلّ وعلا- ما ذكره في قوله تعالى: يوم يقومُ الرُّوحُ.

قال أبو الفرج بن الجوزي: رُوي عن عليّ رضى الله عنه في تفسيرها:(أنّ الروح مَلَكٌ عظيم، له سبعون ألف وجه، في كلّ وجه سبعون ألف لسان، لكلّ لسان سبعون ألف لغة، يسبح اللَّه تعالى بتلك اللغات كلّها، يخلق اللَّه- عزّ وجلّ- من كلّ تسبيحة مَلَكاً يطير مع الملائكة الى يوم القيامة).

وقال ابن مسعود رضى الله عنه: «الروح مَلَكٌ عظيم؛ أعظم من السموات والأرضين والجبال والملائكة، يسبّح كلّ يوم ألف ألف تسبيحة، يخلق اللَّه- سبحانه وتعالى- من كلّ تسبيحة مَلَكاً يجي ء يوم القيامة صفّاً والملائكة بأسرهم يجيئون صفاً».

قال ابن عبّاس: وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة، وبيده لواء طوله ألف عام، فيغرزه في ظهر الكعبة، ولو أذن اللَّه- عزّ وجلّ- له أن يلتقم السموات والأرض لفعل.

وقيل: الروح هنا جبريل عليه السلام.

وقيل: هو مَلَكٌ ما خلق اللَّه بعد العرش خلقاً أعظم منه، وقيل غير ذلك.

رُوي أنّه عليه السلام قال:(رأيت على كلّ ورقة من السِّدرة مَلَكاً قائماً يسبّح

ص: 111

اللَّه عزّوجلّ).

ومراده «سدرة المنتهى» سُمّيت بذلك لأنّها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم، ولا يعلم ما وراءها إلّااللَّه عزّ وجلّ، وهي شجرة نَبقٍ على يمين العرش، عندها جنّة المأوى، يأوي إليها الملائكة عليهم السلام، وقيل: أرواح الشهداء، وقيل: أرواح المتّقين.

ذو الجلال والإكرام

وقال اللَّه تعالى: تبارك اسم ربِّك ذي الجلال والإكرام معنى «تبارك» جلّ وعظم، ومعنى «ذي الجلال» المستحقّ للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال.

جلّ أن يعرف جلاله غيره، تنزّه وعظُم شأنه عمّا يقول فيه المبطلون؛ لأنّ كلّ شي ء يُثني عليه بقدرته، وكلّ ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه.

والحقّ- جلّ جلاله- ذكره خارج عن أوهام الآدميّين؛ لأنّ الحادث ناقص بقهر الإيجاد والفناء، والعارف (1) دون الغايات الجلالية.

فسبحانه ما أثنى عليه حقّ ثنائه غيره، ولا وصفه بما يليق به سواه، عجز الأنبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك، قال أجلّهم قدراً، وأرفعهم محلًاّ، وأبلغهم نطقاً، مع ما أُعطي من جوامع الكَلِم:(لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).

وأمّا (2) «الإكرام» فمعناه: ذو الإنعام والمِنَن على العامّ والخاصّ والطائع


1- لم يظهر لي في هذه العبارة معنًى فلتحرّر. أنتهى. مصحّحه.
2- «ذو الإنعام» ليس معنى «الإكرام»، بل معنى «ذو الإكرام»، فهنا لفظ «ذو» ساقط. انتهى مصحّحه. بل ليس هناك سقط في العبارة حيث إنه يفسّر قوله تعالى: تبارك اسم ربّك ذو الجلال والأكرام والعطف بالواو أغنى عن تكرار لفظ «ذي».

ص: 112

والعاصي.

ووصف سبحانه وتعالى نفسه ب «الكريم» في قوله: ما غرَّك بربِّك الكريم.

قال عمر رضى الله عنه: «لو قيل لي: ما غرّك بي؟ لقلت: جهلي بك غرّني».

والكريم: هو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى.

وقيل: هو الذي إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي لمن (1) أعطى وكم أعطى ولا يضيع من لاذ به والتجا.

وقيل: هو الذي يُغني السائل عن الوسائل والشفعاء، واذا رُفعت الحاجة إلى غيره لا يرضى.

وقيل: هو الذي إذا أبصر خَلَلًا جَبَره وما أظهره، وإذا أولى فضلًا أجزله ثمّ ستره، وقيل غير ذلك.

فمن تأمّل القرآن الكريم وجده مشحوناً بالتقديس والإجلال والتعظيم، وناطقاً بإضلال أهل الإلحاد والتجسيم، والحِيَدة عن الصراط المستقيم، وطريقة السلامة في ذلك أنّ من أشكل عليه شي ء من المتشابه في الكتاب والسُّنّة، فليقل كما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن الراسخين في العلم ومدحهم عليه في قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربِّنا.

ويقول كما قال صلى الله عليه و آله و سلم في الحديث:(وما جهلتم منه فكِلوه الى عالمه) خرّجه غير واحد منهم الإمام أحمد والنسائي وغيرهم (2).

ويقول كما قاله الشافعي: آمنتُ باللَّه وما جاء عن اللَّه على مراد اللَّه، وآمنتُ برسول اللَّه وما جاء عن رسول اللَّه على مراد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

والراسخ في العلم هو من طولع على محلّ المراد منه.


1- لعلّه: بما أعطى... الى آخره. أنتهى. مصحّحه. عبارة المصنّف صحيحة.
2- مسند أحمد، المكثرين رقم 6453 ولاحظ 6415، ولم نجده في النسائي المطبوع.

ص: 113

وسئل مالك عن الراسخين في العلم؟

فقال: العالم العامل بما علم المتّبع له.

وقال عمر بن عبدالعزيز: انتهى علم الراسخين بتأويل القرآن الى أن قالوا:

آمنَّا به كلٌّ من عند ربِّنا.

وقال بعضهم: للقرآن تأويل استأثر اللَّه تعالى بعلمه؛ لا يطّلع عليه أحد من خلقه، كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ونحو ذلك، والخلق متعبَّدون بالإيمان به، ومتعبَّدون بالمحكم بالإيمان به وبالعمل به. وقيل غير ذلك.

الدعوة إلي اتباع العقل والنقل

ثمّ اعلم: أنّه حقّ على اللبيب المعتصم بكتاب اللَّه وسُنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم والمتمسّك بالعروة الوثقى أن يُثبت للَّه عزّ وجلّ- ما قضى العقل بجوازه ونصّ الشرع على ثبوته.

فإنّ المشبِّهة أثبتوا للَّه ما لم يأذن فيه، بل نهى عنه، وهي زيغة سامريّة ويهوديّة، والمعطِّلة سلبوه ما اتّصف به وسفّهوه.

ولقد أحسن أبو الحسن الأشعري في جوابه عن التوحيد؟ حيث قال: إثبات ذات غير مشبِّهة بالذوات، ولا معطَّلة عن الصفات.

شعر:

أللَّهُ أكبرُ أن يكون لذاتِهِ كيفيّةٌ كذواتِ مخلوقاتِهِ

أوْ أنْ تُقاسَ صفاتُنا في كلّ ما نأتيهِ من أفعالِنا بصفاتِهِ

أبداً عقولُ ذوي العقولِ بأسرها متحيِّراتٌ في دوام حياتِهِ

لَبَديعُ صَنعتِهِ عليه شواهدٌ تبدو على صفحاتِ مصنوعاتِهِ

فكلّ ماترى عينك الباصرة فهو دلائل ظاهرة على (1) أنّ العالم مخلوق بتقدير شامل، وتدبير كامل، وحكمة بالغة غير متناهية.

ولو جمعت عقول العقلاء عقلًا واحداً، ثمّ تفكّروا بذلك العقل في جناح بعوضة؛ حتّى يجدوا تركيباً أحسن منه وأكمل، لَفنيتْ تلك العقول، وانقطعت تلك الأفكار، ولم تصل الى درك ذرّة من ذرّات حكمته في تلك البعوضة على سبيل الكمال والتمام.

فما الظنّ بذي الجلال؟! تبّاً ثمّ تبّاً لأهل الضلال والجهل، وما اعتقدوه من النقص، مع تنزيه البحار وشوامخ الجبال.

فسبحان من تسبّحه البحار الصوافح والجبال الشُمّ والسُّحب السوائح، والأمطار الطوامح، والأفكار والقرائح، تقدّس عن مثل وشبيه، وتنزّه عن نقص يعتريه.

يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور من سرّ أضمرته الجوانح، تعالى عن النِّدّ المماثل والضدّ الكادح.

يفعل مايشاء، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

هلك الجاهل والمكافح.

متكلّم بكلام (2) مسموع بالآذان (3) بغير آلات ولا أدوات ولا جوارح، واين لهوات الحصى وحلقوم الجذع وجارحتهما؟!

فما أجهلك بقوله تعالى: فلمّا جاءَتهُمْ آياتُنا مُبصرةً نسب الإبصار الى الآيات.


1- هنا لفظ «أنّ» محذوف كما هو ظاهر. انتهى. مصحّحه.
2- المراد بهذا الكلام هو القرآن؛ لأنّه الذي يُسمع. أنتهى. مصحّحه.
3- قوله: «بغير آلات» متعلّق بمتكلم، فليفهم. انتهى. مصحّحه.

ص: 114

ص: 115

فأين الحذق يا قامح؟!

ومن آياته إنزال القطر بقدرته، وصبغ ألوان النبات والثمار بحكمته، مع مُخالفة الطُّعوم بمشيئته، وإرسال الرياح لواقح.

موصوف بالسمع والبصر، يرى في الدُّجُنّة كما يرى في القمر. من شبّهه أو كيّفه طغى وكفر. هذا مذهب أهل الحقّ والسُّنّة، وإنّ دليلهم لَجليّ واضح.

من شبّهه أو مثّل أو جسّم فهو مع السامرة واليهود ومن حزبهم، يوم تظهر المخبَّآت، وتُبلى السرائر، وتبين الفضائح:

وإن قيل عنه في الدنيا: إنّه وليّ صالح، هلك الهالكون بآرائهم؛ لأنّه عمل غير صالح، وفاز المنزّهون فيالها صفقةُ رابح.

هو الواحد المتوحّد في صفاته الأزلي الجبّار، العظيم العزيز القهار، تبارك وتعالى وتنزّه عن دَرْك الخواطر والأفكار، وَسَم كلّ مخلوق بمِيسم الافتقار، وأظهر آثار قدرته في مخلوقاته؛ ومن أظهرها السموات والأرض والبراري والبحار، والأعين والأنهار، وجريانها على المدرار، وتصريف السحاب المسخّر بين السماء والأرض، واختلاف الليل والنهار، إنّ في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

يعلم حركات الأسرار، ودبيب النملة السوداء في الظلمة على سواد الصخور والأحجار:

نَوّع هذا العالم الإنساني، فمنهم شقيّ، ومنهم سعيد، وربُّك يخلق ما يشاءُ ويختارُ.

وصفاته كذاته، والمشبّهة والمجسّمة أهل زيغ وكفّار، نزّه نفسه بنفسه وقدَّسها، فمن شبَّه أو عطّل فمأواه النار، ومن أناب ورجع قَبِلَهُ وإن ارتكب العظائم الكبار؛ لأنّه سبحانه وتعالى عزيز غفّار ستّار.

ومن بديع صنعته أن خلق اليوم وليلته، وقمر السماء وشمسه، وآدم عليه السلام وما

ص: 116

مسَّه، علم ذلك المنزَّه فنزّه قُدسَه، وجهله أعمى البصيرة المشبّه، فتصوّر فيه جنسه؛ لأنّه بجهله قاس الخالق- جلّ وعلا- على ما ألفهُ وأحسّه، فتراكم عليه غبار التشبيه فضاعت المحسّة.

وأمّا المعطّل فجحد صفاته، فما أغباه وما أخسّه، وإذا كان الأمر كذلك فادفع المعطّل بيديك النقيّة، وألحق بالمشبّه دفعةً ورَفسة.

مبحث الرد علي ابن تيمية في قوله بفناء النار

واعلم: أنّه انتُقد عليه: زعمه: أنّ النار تفنى، وأنّ اللَّه تعالى يُفنيها، وأنّه جعل لها أمداً تنتهي إليه وتفنى، ويزول عذابها.

وهو مُطالب أين قال اللَّه عزّ وجلّ؟ وأين قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وصحّ عنه؟

وقد سفّه اللَّه تعالى ذكره في كتابه العزيز، كما سفّهه في تنزيهه لنفسه.

وأتى بأُمور إقناعية (1)، صادم بها النصوص الصريحة في دوام العذاب عليهم:

فمن ذلك قوله تعالى: إنّ الذّين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كُلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.

تُبدَّل في كلّ ساعة مائة مرة.

وقال الحسن: تأكلهم النار كلّ يوم سبعين ألف مرّة.

إنّ اللَّه كان عزيزاً؛ أي شديد النقمة على من عصاه.

وقيل: العزيز الشديد القادر القوي.

وقيل: الغالب الذي لا يُغلب، والقاهر الذي لا نظير له.

وقيل: معناه المُعِز، فيكون فعيل بمعنى مُفعِل، كالأليم بمعنى المؤلم ونحوه.


1- أي للعامّة البُله الذين لم يخالطوا المؤمنين، أمّا من عرف دين اللَّه عالماً أو مخالطه، فمعاذ اللَّه أن يقتنع بغير كلام ربّه، فليعلم. أنتهى. مصحّحه.

ص: 117

وقال أهل المعاني وأرباب القلوب: العزيز من ضلّت العقول في بحار تعظيمه، وحارت الألباب دون إدراك نعته، وكلّت الألسن عن استيفاء مدح جلاله ووصف كماله، والقيام بشكر آلائه.

وقوله: حكيماً أي حكم على الأعداء بدوام العذاب، كما حكم للأولياء بدوام النعيم، فلا يعلم كنه حقيقة حكمته غيره، فلا شي ء من الأشياء إلّاوفيه من حكمته على وفقه لمناسبته.

صُنعَ اللَّه الذي أتقن كلَّ شي ءٍ.

وقال تعالى: فالذين كفروا قُطِّعت لهم ثيابٌ من نارٍ يُصبُّ من فوقِ رؤوسهِمُ الحميمُ يُصهر به ما في بطونهم والجلودُ ولهم مقامعُ من حديد كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أُعيدوا فيها وذُوقوا عذاب الحريقِ.

وقال: فلن نزيدَكُم إلّاعذاباً.

وقال تعالى: كُلّما خبت زدناهُم سعيراً.

وقال تعالى: يريدون أن يَخرجوا من النَّارِ وما هم بخارجين منها ولهم عذابٌ مُقيمٌ.

وقال تعالى إنّ عذابها كان غراماً؛ أي مقيماً ملازماً، فكلّ عذاب يُفارق صاحبه فليس بغرام. والآيات في ذلك كثيرة جدّاً.

وأمّا السُّنّة فطافحة بذلك، وتدلّ على إخراج المؤمنين دون غيرهم؛ حتّى يخرج مَن في قلبه مِثقال ذَرّة من الإيمان، وفي رواية: مثقال ذرّة من خير، فأقول:

ياربّ ما بقي في النار إلّامن حبسه القران؛ أي وجب عليه الخلود.

قال اللَّه تعالى: لهم فيها دارُ الخلدِ الى غير ذلك.

ولأنّ العذاب يدوم بدوام سببه بلا شكّ ولا ريب، وهو قصد الكفر وبقاء العزم عليه، ولا شكّ أنّهم لو عاشوا أبد الآباد لاستمرّوا على كفرهم.

ص: 118

وكذلك المؤمن يستحقّ الخلود.

وهذا معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم:(نيّة المؤمن خير من عمله)، وفي معناه أقوال أُخر.

فادّعاء فناء النار بعد أمد نزعة يهودية.

ألا ترى الى قوله تعالى: وقالوا لن تَمسَّنا النارُ إلّاأيّاماً معدودةً الآية؛ أي قدراً مقدوراً، ثمّ يذهب عنّا العذاب.

وكانت اليهود تقول: إنّ هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنّما نُعذَّب بكلّ ألف سنة يوماً، ينقطع العذاب بعد سبعة أيام، وقيل: أربعين يوماً الذي عبد آباؤنا العجل فيها.

وكانت تقول: إنّ ربّنا عتب علينا في أمر، فأقسم لَيُعذِّبنَّا أربعين يوماً، فلن تمسّنا النار إلّاتحلة القسم أربعين يوماً. فالرجل ساعٍ خلف سلفه، كما تقدّم وكما يأتي.

مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم

ومّما انتُقد عليه- وهو من أقبح القبائح: ما ذكره في مصنّفه المسمّى ب «حوادث لا أوّل لها»، وهذه التسمية من أقوى الأدلة على جهله، فإنّ الحادث مسبوق بالعدم (1) والأوّل ليس كذلك.

وبنى أمره فيه على اسم من أسماء الأفعال، ونفى المجاز في القرآن، وهو من الجهل أيضاً، فإنّ القرآن مُعجز ومحشوّ بالمجازات والاستعارات؛ حتّى أنّ أوّل حرف فيه أحد أنواع المجاز.

وتضمّن هذا المصنّف مع صِغره شيئين عظيمين:

تكذيب اللَّه- عزّ وجلّ- في قوله: هو الأوّل فجعل معه قديماً.


1- لعلّه والذي لا أوّل له ليس كذلك. أنتهى. مصحّحه.

ص: 119

وتكذيب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في قوله:(كان اللَّه ولا شي ء معه).

وفي البخاري من رواية عمران بن حصين رضى الله عنه:(كان اللَّه ولم يكن شي ء قبله).

وليس وراء ذلك [إلّا] زيغ وكفر، فإنّ الدين ما قاله عزّوجلّ وقاله رسوله صلى الله عليه و آله و سلم.

وقد قال: هو الأوّل والآخر والظّاهر والباطن وهو بكلّ شي ء عليمٌ هو الأوّل قبل كلّ شي ء بلا ابتداء، كان ولم يكن شي ء موجوداً، والآخر بعد فناء كلّ شي ء بلا انتهاء ويبقى هو.

والظاهر هو الغالب على كلّ شي ء.

والباطن هو العالم بكلّ شي ء. هذا معنى قول ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما.

والأقوال في ذلك كثيرة: ومنها قول أبي القاسم الجنيد: نفي القدم عن كلّ أوّل بأوّليّته، ونفي البقاء عن كلّ آخر بآخريّته، واضطرّ الخلق الى الإقرار بربوبيته لظاهريته، وحجب الإدرك عن إدراكه كنهه وكيفيته بباطنيّته.

وقال أيضاً: هو الأوّل بشرح القلوب، والآخر بغفران الذنوب، والظاهر بكشف الكروب، والباطن بعلم الغيوب.

وقال السيّد الجليل محمد بن الفضل: الأوّل ببرّه، والآخر بعفوه، والظاهر بإحسانه، والباطن بستره.

ومن حقّ العبد أن يجعل له حظّاً من هذا الخطاب، فيزيّن ظاهره بأنواع الخدمة، ويزّين باطنه بأنوار الهيبة، ويحقّق جميع أفعاله وحركاته وسكناته وسائر طاعاته وقُرباته بالصدق والإخلاص؛ لقوله عزّ وجلّ: واللَّه بكلّ شي ء عليمٌ.

وسأل عمر رضى الله عنه كعب الأحبار عن معنى هذه الآية، فقال: إنّ علمه بالأوّل كعلمه بالآخر، وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن.

ص: 120

تكذيب ابن تيمية للنبوة و توهينه لمقام النبي

ومّما انتُقد عليه: تكذيبه النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيما أخبر به عن نبوّته من حديث أبي هريرة رضى الله عنه.

قالوا: يا رسول اللَّه متى وجبت لك النبوّة؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم:(وآدم بين الروح والجسد)، وفي رواية:(وإنّ آدم لمُنجدل في طينته).

وتكلّم بكلامٍ لَبَّسَ فيه على العوامّ وغيرهم من سيّئي الأفهام، يقصد بذلك الازدراء برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم والحطّ من قدره ورتبته.

وما فيه رفعه يسكت عنه، يفهم ذلك منه كلّ عالم امتلأ قلبه بعظمته صلى الله عليه و آله و سلم وتوقيره، وبما خصّه اللَّه تعالى من مزايا المواهب الإلهية التي لم ينلها غيره.

وهذا الخبيث حريص على حَطّ رتبته والغضّ منه؛ تارة يقع ذلك منه قريباً من التصريح، وتارة بالإشارة القريبة، وتارة بالإشارات البعيدة التي لا يدركها إلّا أهلها:

فمن ذلك وقد سُئل- على مازعم- أيّما أفضل مكّة أو المدينة؟

فأجاب: مكة أفضل بالإجماع. وكتبه أحمد بن تيميّة الحنبلي، وعليها خطّه، وأنا أعرف خطّه.

وفي هذا الجواب دسائس وفجور ورمز بعيد.

فمن الفجور نسبته نفسه الى الإمام أحمد، والإمام أحمد وأتباعه برآء منه ومّما هم (1) عليه.

وهو لا يلتفت إليه إلّاإذا كان له في ذكره غرض، أمّا إذا لم يكن فلا يلوي على قوله، ويسفّهه حتّى فيما ينقله، ويكفّره فيما يعتقده إذا كان على خلاف هواه.


1- «هم» هو. انتهى. مصحّحه.

ص: 121

تجاسر ابن تيمية علي الإمام أحمد

ومن مواضع تسفيهه الإمام أحمد مسألة الطلاق، فإنّ الإمام أحمد قال: «الذي أخبرنا بأنّ الطلاق واحدة أخبرنا بأنّ الطلاق ثلاث»، وعلى ذلك جرى الأئمة من جميع المذاهب.

فإذا كان الإمام أحمد غير ثقة فبمن يوثق؟

وقال- أعني ابن تيميّة- في الجواب عن المسألة المبسوطة: «والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسُّنّة»، وبالغ في الثناء عليه.

فياللَّه العجب من هذا الأعمى البصيرة الذي لا يحسّ بتناقض كلامه، كيف يجعل الإمام أحمد فيما له فيه غرض أعلم الناس بالسُّنّة، ويسفّهه فيما لا غرض له فيه.

وهذا ونحوه- مّما يأتي في غير الإمام أحمد من أئمة الحديث- يعرّفك ما في قلبه من الخبث وعمى بصيرته، وأنّه لا عليه فيما يقوله.

ادعاء ابن تيمية للاجماع، في موارد الخلاف

ومن فجوره ادّعاء الإجماع على ما يقوله ويُفتي به كهذه الفتوى مع شهرة الخلاف في المسألة؛ حتّى أنّه مشهور في أشهر الكتب المتداولة بين الناس، وهو «الشفاء»، فإنّه ذكر الخلاف بين مكّة والمدينة؛ وأنّ مالكاً وأكثر أهل المدينة قائلون: بأنّ المدينة أفضل من مكّة، وقال أهل مكة والكوفة: مكّة أفضل.

ومحلّ الخلاف في غير الموضع الذي ضمّ سيّد الأوّلين والآخرين صلى الله عليه و آله و سلم، وأمّا هو فالإجماع منعقد على أنّه أفضل من مكّة وسائر البقاع.

ومّمن حكى الإجماع القاضي عياض في «الشفاء»، بعد أن حكى الخلاف في

ص: 122

التفضيل بين مكّة والمدينة، فقال: «ولا خلاف في أنّ موضع قبره أفضل بقاع الأرض».

وكذا ذكره الإمام هبة اللَّه في كتابه(توثيق عرى الإيمان).

وذكر الإمام أبو زكريا يحيى النووي في شرح مسلم ذلك فقال القاضي عياض أجمعوا على أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وأقره على ذلك.

فسكوت الخبيث عن مثل ذلك دليل على خبث في باطنه في حقّ سيّد الأوّلين والآخرين صلى الله عليه و آله و سلم.

وفي هذه الفتوى رمز الى عدم الاعتداد بقول عمر رضى الله عنه، فإنّه رضى الله عنه من القائلين بأنّ المدينة أفضل من مكّة.

ويدلّ على ما قلته من الرمز (1) الى تخطئته في الطلاق وعدم الاعتداد بذلك، كما رمز الى تكفير الصدّيق رضى الله عنه في قوله في بعض تصانيفه: «من قال: اللَّه ورسوله في أمر يلحقه، فإنّه يكون مشركاً»، فإنّ الصدّيق رضى الله عنه لمّا قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:(ما أبقيت لأهلك)؟ قال: أبقيت لهم اللَّه ورسوله.

ويؤيّد ما قلته ما هو مشهور في كتبه وعند أتباعه: «لا ينبغي أن يُنسب الى غير اللَّه تعالى ضُرّ ولانفع، ولا أنّه يُغني».

وهذا من الدسائس أيضاً فإنه يلبس به على كثير من الناس، لا سيّما الضعفاء في العلم وأصحاب الأذهان الجامدة، فهي كلمة حقّ أُريد بها باطل.

وقد قال اللَّه تعالى في كتابه العزيز: وما نقموا إلّاأن أغناهم اللَّه ورسولُه من فضلِهِ.

وقال تعالى: وقالوا حسبُنا اللَّه سيُؤتينا اللَّه من فضله ورسولُه وغير ذلك.


1- هنا لفظ «الى» محذوف. انتهى. مصحّحه.

ص: 123

فهذا نصّ القرآن العظيم على مثل هذا القول في الذين يقولون: إنّه شِرك.

ففي قولهم قدح في القرآن، وفي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لإقراره الصديق رضى الله عنه على هذا القول الذي هو شرك (1).

وهذا منهم كفر بيقين؛ لأنّه واجب وحتم لازم على كلّ أحد بأن يؤمن بالقرآن، وبما جاء به سيّد الأوّلين والآخرين صلى الله عليه و آله و سلم عن ربّ العالمين من غير شكّ ولا ارتياب.

قال اللَّه تعالى: ومن لم يؤمن باللَّه ورسولِهِ فإنّا أعتدنا للكافرين سعيراً.

وقال تعالى: وأطيعوا اللَّه واطيعوا الرسولَ.

وقال: وآمنوا باللَّه ورسولِه جمع بينهما بواو العطف للشركة، ولا يجوز هذا في حقّ غيره صلى الله عليه و آله و سلم.

ولما خطب صلى الله عليه و آله و سلم أمّ سلمة رضي اللَّه عنها فاعتذرت اليه بأعذار منها: وأنا موتم مرملة في أربعة من الولد، فقال لها من جملة قوله: وأما ولدك فهم ولد أخي أبي سلمة وهم على اللَّه وعلى رسوله، وقال: إنّما وليُّكم اللَّهُ ورسُولُهُ.

ابن تيمية رافضي و يقول بالتناسخ

واعلم: أنّ ما ذكرته من الرمز الى الصدّيق والفاروق رضي اللَّه عنهما، وأنّ فيه إشعاراً بأنّه رافضيّ هو كذلك، وفي الردّ على الرافضي أنّه رافضيّ، وهذا نبّه عليه الشيخ زين الدين القرشي والشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي.

نعم وقفت على مصنّف لطيف له ولم يتمّ، وفيه ما يدلّ على ما قالاه.


1- يعني في زعمهم. انتهى. مصحّحه.

ص: 124

وفي هذا الكتاب رمز الى أنّه من القائلين بتناسخ الأرواح (1)، وبعض أتباعه الذين هم رسل في التبعية يقع منه (2) ما يدلّ على ذلك، واللَّه أعلم.

تجويز ابن تيمية للمكس

ومن الأمور الخبيثة التي وقفت عليها في فتاويه ما فيه: أنّ بعض المكّاسين مثاب في وظيفة المَكْس؛ بل أبلغ من ذلك.

وأقبض عنان الكلام فيه لما أخشى ممّا يترتّب على التصريح من أهل المكس وتجُّرئهم عليه، وقرر ما قاله بتقرير مقبول في شق، وأهمل الآخر.

فلمّا وقفتُ على ذلك قبَّ بدني، وهجت على الكلام في ذلك.

وكان شخص من الحنابلة يدّعى بعلاء الدين بن اللحّام البعلبكي، وكان عندهم عظيماً وصنّف في مذهب الإمام، فأتيته وهو في حلقة في الجامع الأموي وهم يقرؤون عليه في بعض مصنّفاته، فسألته عن شي ء يتعلّق بمسألة تقرأ عليه في كتابه فما أجاب، ثم أُخرى فما أجاب ثمّ قلت: ما هذه المسألة التي ذكرها الشيخ


1- القول بتناسخ الأرواح كفر؛ لأنّه عبارة عن اعتقاد أنّ أرواح من يموتون تتّصل بغيرهم، فقديكون روح الخواجة الذي مات اليوم، روح أكبر عالم مرشد زاهد ورع بعد ذلك والعكس، وقد يتّصل روح الخنزير الذي مات بمحمّد الذي ولد بعد ذلك ويعكس، وقد يتّصل بعد ذلك بكلب، ثم يتّصل بحمار، ثمّ يتّصل بنبيّ، وهكذا الى غير نهاية. وهذا يقتضي أن لا بعث وأن لا جزاء، فإنّ الروح لا يقف عند حدّ معلوم يجازى عليه، بل قد يكون بحال يقتضي العذاب، ويصبح بحال يقتضي النعيم، ثمّ بحال لا يقتضي عذاباً ولا نعيماً وهكذا، وهذا غير ما تنطق به الشرائع الإلهية كلّها، فهو مصادم للأنبياء ولما جاء به الأنبياء، وكيف لا يكون ما هذا حاله كافراً؟! وهذا المذهب لا دليل عليه من العقل، مع كونه مخالفاً مع الشرع كما ذكرنا، وذلك أنّ الأرواح ليست من عالم المحسوسات حتى نراها ونحكم عليها، وهي لم تخبرنا عن نفسها بشى ء، فالجهالة بها مطلقة. أنتهى مصحِّحه.
2- أي من ذلك البعض. انتهى. مصحِّحه.

ص: 125

تقيّ الدين بن تيميّة في المكس؟

فقال وشرع يقرّر ما قرّره ابن تيميّة، فأخذت الشقّ الآخر وقرّرته، فسكت ولم يجد جواباً.

فقلت: يلزم أحد شيئين: إمّا بطلان ما قاله، أو تكفيره، فقال: هذه المسألة ما هي في فتاويه وأنا أختصرتها.

فهذه قاعدة من قواعدهم يبحثون مع الخصم، فإن ظفروا به فلا كلام، وإن ظفر بهم قالوا: هذه ما هي في كلامه، فهم خَلَفُ إمامهم في المكر والخديعة والكذب، وقد خابَ من افترى واللَّه أعلم.

قول ابن تيمية بالتفرقة في احترام النبي بين حياته و موته و تكفيره الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة

ومن الأمور المنتقدة عليه- وهو من أقبح القبائح وشرّ الأقوال وأخبثها-:

مسألة التفرقة التي أحدثها غلاة المنافقين من اليهود، وعصوا أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، واستمر عليها أتباعهم الذين يُظهرون الإسلام، وقلوبهم منطوية على بغض النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يقدروا أن يتوصّلوا الى الغضّ منه إلّابذلك.

وقد ذكر المسألة الأئمة الأعلام فأذكر بعض كلامهم فيها، ثمّ أعود الى تتميمه؛ مستدلًا بأُمور سمعيّة وغيرها تفيد جلالته وعظامته، وحياته في قبره صلى الله عليه و آله و سلم، وبقاء حرمته على ما كان عليه في حياته.

ويقطع الواقف عليها- أو على بعضها- بأنّ القائلين بالتفرقة من متغالي أهل الزيغ والزندقة.

وأنّ ابن تيميّة الذي كان يوصف بأنّه بحر في العلم، لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه: من أنّه زنديق مطلق.

ص: 126

وسبب قوله ذلك أنّه تتبّع كلامه فلم يقف له على اعتقاد؛ حتّى أنّه في مواضع عديدة يكفّر فرقة ويضلّلها، وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه.

مع أنّ كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة الى الازدراء بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والشيخين، وتكفير عبداللَّه بن عبّاس رضى الله عنه، وأنّه من الملحدين، وجعل عبداللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما من المجرمين، وأنّه ضالّ مبتدع، ذكر ذلك في كتاب له سمّاه(الصراط المستقيم) والردّ على أهل الجحيم.

وقد وقفت في كلامه على المواضع التي كفّر فيها الأئمة الأربعة (1)، وكان بعض أتباعه يقول: إنّه أخرج زيف الأئمة الأربعة يريد بذلك إصلاح هذه الأمّة؛ لأنّها تابعة لهذه الأئمة في جميع الأقطار والأمصار، وليس وراء ذلك زندقة.

اقوال الأئمة في التوسل بالنبي

ولنرجع الى قول بعض الأئمة:

فمنهم: الإمام العلّامة شيخ شيوخ وقته أبو الحسن علي القونوي، قال بعد ذكره أشياء لا أطوّل بذكرها، وفيها دلالة على أنّ التوسّل بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الحاجات بعد وفاته كالتوسّل به في حال حياته.

ثمّ قال: وهذا وأمثاله يرد على هؤلاء المبتدعة الذين نبغوا في زماننا، ومنعوا التوسّل برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقد جمع بعضهم كلاماً يتضمّن نفي عمله صلى الله عليه و آله و سلم بعد الوفاة.

ونقل طائفة منهم التفرقة بين حياته وحال وفاته، فقال: والتفريق بين الحياة


1- أحبّ أن لا يستغرب القارى ء شيئاً يراه منسوباً الى هذا الرجل، بعد تصريح العلماء عنه: أنّه يستخفّ برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ويزدريه، ويصغّر من شأنه، فإنّ الذي يجترى ء على أسمى مقام في الوجود لا يتهيّب ما دونه، فليعلم. انتهى. مصحّحه.

ص: 127

والوفاة كان ثابتاً عند الصحابة، فلهذا استسقى أمير المؤمنين عمر بالعبّاس، ولولا هذا التفريق الواضح عندهم لما عدل عمر- مع جلالته وكونه خليفة راشداً، وكان يشاور أيضاً- عن قبر رسول اللَّه إلى غيره.

ثمّ قال: هذا لفظ المبتدع الجاهل الذي قامت البيّنة عليه بأشياء من هذا القبيل، وعُزِّر على ذلك التعزير البالغ بالضرب المبرّح والحبس وغير ذلك، في شهور سنة خمس وعشرين وسبعمائة بالقاهرة.

وهذا الكلام من التفرقة بين الحالتين، والاستناد فيه الى استسقاء عمر بالعباس، ليس له، وإنّما هو لشيخه، فإنّه لمّا أظهر القول بنفي التوسل برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، أورد عليه حديث الاستقاء، ففزع إلى التفرقة المذكورة، ولا مُتشبَّث في الحديث المذكور، فإنّ عمر رضى الله عنه إنّما قصد أن يقدّم العبّاس، ويباشر الدعاء بنفسه، وهذا لا يُتصور حصوله من غير الحيّ؛ أي الحياة الدنيّوية.

وأمّا التوسّل برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فلا نسلّم أنّ عمر رضى الله عنه تركه بعد موته، وتقديم العبّاس ليدعو للناس لا ينفي جواز التوسّل به مع ذلك.

ثمّ قال: وهذا القول الشنيع والرأي السخيف الذي أخذ به هؤلاء المبتدعة من التحاقه صلى الله عليه و آله و سلم بالعدم- حاشاه من ذلك- يلزمه أن يقال: أنّه ليس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم اليومَ، وهو قول بعض الضُّلّال.

فرقة ابن تيمية مبتدعة

قال أبو محمّد بن حزم في كتابه «الملل والنحل»: حدثت فرقة مبتدعة تزعم:

أنّ محمد بن عبداللَّه بن عبدالمطلب بن هاشم صلى الله عليه و آله و سلم، ليس هو اليومَ رسول اللَّه، لكن كان رسولًا.

ثمّ قال: «وهذه مقالة خبيثة مخالفة للَّه- عزّ وجلّ- ولرسوله صلى الله عليه و آله و سلم، ولما عليه

ص: 128

أهل الإسلام منذ كان أهل الإسلام الى يوم القيامة».

قال: «وإنّما حملهم على هذا الرأي الخبيث قولهم الآخر الخبيث: إنّ الروح عَرَض، والعَرَض يفنى أبداً، أو يحدث ولا يبقى وقتين.

قال: «فروح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عند هؤلاء بطل، ولا روح له الآن عند اللَّه.

وأمّا جسده ففي قبره تراب، فبطلت نبوّته ورسالته بموته عندهم.

فنعوذ باللَّه من هذا القول، فإنّه كفر صراح لا تردّد فيه، ويكفي في بطلان هذا القول الفاحش الفظيع، أنّه مخالف لما أمر اللَّه تعالى به ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم، واتّفق عليه أهل الإسلام من الأذان- في الجوامع والصوامع وأبواب المساجد جهاراً في شرق الأراضي وغربها- كلّ يوم خمس مرّات بأعلى أصواتهم، قد قرنه اللَّه تعالى بذكره:

أشهد أن لا إله إلّااللَّه. أشهد أنّ سيّدنا محمّداً رسول اللَّه. كان يجب أن يقال على قولهم: أشهد أن محمّداً كان رسول اللَّه، وكذلك كان يجب أن يقال في ثاني الشهادتين في الإسلام.

وقد قال تعالى: ورُسُلًا قد قصصناهُم عليكَ من قبل ورُسُلًا لم نقصصهم عليكَ.

وقال تعالى: يومَ يجمعُ اللَّه الرُّسُّلَ.

وقال تعالى: وجي ء بالنبيّين والشُّهداء، فسمّاهم اللَّه- عزّ وجلّ- بعد موتهم رُسلًا ونبيّين، والأصل الحقيقة.

وكذلك أجمع المسلمون وجاء به النصّ: أنّ كلّ مُصلٍّ فرضاً أو نفلًا يقول في تشّهده: السلام عليك أيُّها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، ولو كان بعد موته في حكم العدم لمّا صحّت هذه المخاطبة». هذا معنى كلام ابن حزم.

ثمّ قال «إنّ ابن حزم أورد على نفسه إيرادات، وأجاب عنها».

قلت: وقد حذفتها أنا لأجل الإطالة، ولا تسع عقول العوامّ وكثير مّمن أُشير

ص: 129

إليه بالعلم أن يدركها ويدرك الجواب.

ثم قال: «وإنّما أطلتُ النَّفَس في هذه المسألة- وإن كانت في غاية الوضوح- لقرب العهد بهذيان من أظهر الخلاف فيها، وأفسد به عقائد خَلْقٍ كثير من العوامّ، فلذلك استطرقتُ في هذا المقام بما يتعلق بهذه المسألة هذا المقدار اليسير من الكلام، وللمقال فيها مجال واسع، لكن إشباع القول في ذلك خارج عمّا نحن بصدده في هذا الكتاب واللَّه تعالى أعلم».

وهذا الكتاب الذي أشار إليه ومنه نقلت يقال له: «شرح التعرّف لمذهب أهل التصوف».

وأعلم أرشدنا اللَّه وإياك أيها الموّفق المنزِّه المعظِّم لسيّد الأوّلين والآخرين صلى الله عليه و آله و سلم، ولذرّيّته الذين بهم تمّ الدين، ولسائر الصحابة رضي اللَّه عنهم، والتابعين لهم بإحسان الى يوم الدين- أنّ في هذا الذي ذكره الأئمة كفاية لمن له أدنى فهم ودراية إلّاأنّي وعدت بذكر شي ء، وخلف الوعد صعب شديد، فأنا أذكر نُبذة يسيرة، وأرجو من اللَّه- عزّ وجلّ- حصول البركة فيها، وقد ذكرت في كتاب «تنبيه السالك على مظان المهالك» جملة كثيرة تتعلق بذلك وبغيره، وسُقتُ فيها فتواه المطولة والجواب عمّا قاله، ذكرته في فضل الحجّ، واللَّه أعلم.

ومن الأمور المهمة: معرفة الإنسان حاله في التوفيق والخذلان:

فمن الخذلان عدم إيمان الإنسان بالآيات والنذر، كما قال تعالى: وما تُغني الآياتُ والنذُرُ عن قومٍ لا يؤمنونَ. قيل: المعنى لا تصل العقول الخالية عن التوفيق الى سبيل النجاة.

وما يُغني ضياء العقل مع الخذلان، إنّما ينفع نور العقل مؤيّداً بنور التوفيق وعناية الأزل، وإلّا فإنّه متخبّط بإدراكه بعقله.

فإذا وعيت ما قلته، ووقفت على بعض ما أذكره من الأدّلة، ولم تجد قلبك

ص: 130

مؤمناً بها، فاعلم أنّك من أهل الخذلان، ومرقوم في حزب الشيطان، وتابع لأهل البدع عصاة الرحمن.

قال كعب الأحبار: «تجد الرجل يستكثر من أنواع البرّ، ويحتاط في (1) صنائع المعروف، ويكابد سهر الليل وشدّة ظمأالهواجر، وهو مع ذلك لا يساوي عند اللَّه جيفة حمار».

يشير الى أهل البدع والتبرّي منهم؛ بحيث لا يمكن سمعه من ذي هوًى.

لما صالح عمر رضى الله عنه أهل بيت المقدس، وقدم عليه كعب الأحبار، وأسلم، وفرح به عمر رضى الله عنه وبإسلامه، قال له عمر رضى الله عنه: «هل لك أن تسير معي الى المدينة، وتزور قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتنتفع بزيارته؟ قال: نعم ياأمير المؤمنين أفعل ذلك».

فهذا صريح في الندب الى زيارة قبره صلى الله عليه و آله و سلم وشدّ الرحل وإعمال المطيّ إليه.

والكلام على هذا يأتي إن شاء اللَّه تعالى.

في بقاء النبي بعد موته والاستغاثة به

بيان زندقة من قال: إنّ روحه صلى الله عليه و آله و سلم فنيت، وإنّ جسده صار تراباً، وبيان زيغ ابن تيميّة وحزبه في جواب الفتوى التي زعم أنّه سُئل عنها:

فقال في جوابه: «الحمد للَّه ربّ العالمين. من استغاث بميّت أو غائب من البشر، بحيث يدعوه في الشدائد والكُرُبات، ويطلب منه قضاء الحاجات، فيقول:

«يا سيدي الشيخ فلان» أنا في حسبك أو في جوارك، أو يقول عند هجوم العدّو عليه: ياسيدي فلان يسترعيه أو يستغيث به، أو يقول نحو ذلك عند مرضه وفقره وغير ذلك من حاجاته، فإنّ هذا ظالم ضالّ مشرك». وفي بعض النسخ: «كافر


1- صائع المعروف صوابها صنائع. انتهى. مصحّحه.

ص: 131

عاصٍ للَّه تعالى بأتّفاق المسلمين، فإنّهم متّفقون على أنّ الميّت لا يُسأل ولا يُدعى، ولا يُطلب منه شي ء؛ سواء كان نبيّاً أو غير ذلك».

ثمّ أكّد ما قاله بقصّة عمر والعبّاس في الاستسقاء؛ تبعاً لشيخه الجاري خلف سلالة اليهود.

وأنت- أرشدك اللَّه تعالى وبصّرك- إذا تأمّلتَ ما قاله في هذا الجواب اقشعرّ جلدك، وقضيت العجب مّما فيه من الخبائث والفجور، وادّعاء اتّفاق المسلمين، وما فيه من الرمز الى تكفير الأنبياء وتضليلهم، والتلبيس على الأغبياء بقصّة عمر رضى الله عنه.

وليت شعري! من أيّ الدلالات أنّ من توجّه الى قبر سيّد الأوّلين والآخرين صلى الله عليه و آله و سلم وتوسّل به في حاجة الاستسقاء أو غيرها، يصير بذلك ظالماً ضالًاّ مُشركاً كافراً؟!

هذا شي ء تقشعرّ منه الأبدان، ولم نسمع أحداً فاه، بل ولا رمز إليه في زمن من الأزمان، ولا بلد من البلدان، قبل زنديق حرّان- قاتله اللَّه عزّ وجلّ وقد فعل-.

جعل الزنديق الجاهل الجامد قصّة عمر رضى الله عنه دعامة (1) للتوصّل بها الى خبث طويّته في الازدراء بسيّد الأوّلين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين، وحطّ رتبته في حياته، وأن جاهه وحرمته ورسالته وغير ذلك زال بموته.

وذلك منه كفر بيقين وزندقة محقّقة.

حرمة النبي وتعظيمه في القرآن

فإنّه صلى الله عليه و آله و سلم حرمته وقدره ومنزلته عند ربّه ما زالت ولم تزل، وهو سيّد ولد آدم وأكرمهم على اللَّه- عزّ وجلّ- على الدوام.


1- قوله: «للتوصل بها الى خبث طويّته في الازدراء...» الى آخره، الصواب أن تقدّم «في» وتؤخّر «الى»؛ ليظهر معنى الكلام. انتهى. مصحِّحه.

ص: 132

ومن تأمّل القرآن العظيم وجده مشحوناً بذلك.

وقد ذكرت جملة من ذلك في مولده صلى الله عليه و آله و سلم وأُشير هنا الى نُبذة يسيرة من ذلك؛ ليتحقّق السامعُ لها خُبثَ هذا الزنديق، وما انطوى عليه باطنه من الخبث، بإبداله هذه الأنواع من التعظيم بالازدراء وما فاه به من الفجور والافتراء كما ترى.

سلْ عن فضائله الزمانَ لتُخَبرا فنظير مجدِكَ يا محمّد لا يُرى

ولقد جمعتَ مناقباً ما استجمعتْ مااستعجمت يا سيّدي فتُفسّرا

ما بين مجدِكَ والمحاوِلِ نيلَه إلّا كما بين الثُّريّا والثَّرى

عصمة النبي

فمن ذلك: أنّه سبحانه وتعالى تولّى عصمته بنفسه، فقال تعالى: واللَّهُ يعصمُكَ من النَّاسِ.

وحقّاً عصمه- عزّ وجلّ- في ظاهره وباطنه؛ حفظه في ظاهره من أن ينالوا ما همّوا به، وردّ كيدهم في نحورهم، وحفظه في باطنه من الناس من أن يكون منه إليهم التفات، أو يكون له بهم اشتغال؛ صان سرّه عن موارد السكون إليهم، وعن نزغات الشيطان وفلتات النفس.

ومنها: قوله تعالى: لا تجعلوا دُعاءَ الرَّسول بينَكم كدُعاءِ بعضِكم بعضاً.

قيل: معناه لا تدعوه باسمه، كمايدعو بعضكم بعضاً: يا محمّد، يا عبداللَّه، ولكن فخمّوه وعظموه وشرّفوه، وقولوا: يانبي اللَّه يارسول اللَّه، مع لين وتواضع.

قاله مجاهد وقتادة.

وقيل: معناه احذروا دعاء الرسول عليكم، فإنّ دعاءه مستجاب لا يردّ، ليس كدعاء غيره. قاله ابن عباس رضي اللَّه عنهما.

وقيل: معناه من ضيّع حرمة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقد ضيّع حرمة اللَّه- عزّ وجلّ-

ص: 133

ومن ضيّع حرمة اللَّه فقد دخل في ديوان الأشقياء، وحرمة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من حرمة اللَّه تعالى، بل من ضيّع حرمة الأولياء فقد عرّض نفسه للهلكة.

ومنها: قوله تعالى: إنّا أرسلناكَ شاهداً؛ أي عليهم بالتوحيد ومبشراً؛ أي لهم بالتأييد والمغفرة ونذيراً؛ أي محذراً إيّاهم الزيغ والضلالات لتؤمنوا باللَّهِ ورسولِهِ وتُعزّروهُ وتُوقِّروهُ أي تعظّموه تعظيماً يليق به وبمرتبته.

قال الأئمة: لم يؤمن بالرسول من لم يُعزّه ويُعزّ أوامره ويُوقّره ويوقّر أصحابه رضي اللَّه عنهم.

ومنها: قوله تعالى: فالذَّين آمنوا بهِ؛ أي بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم وعزّروهُ؛ أي وقّروه ونصروهُ؛ بذلوا أنفسهم في نصرته وأموالهم واتَّبعوا النَّورَ الذي أُنزلَ معه وهو القرآن أُولئك هُم المفلحونَ؛ أي الفائزون؛ حصر الفلاح فيهم.

فهذه الآيات موجبة لتوقيره وتعظيمه وتبجيله وتعريف قدره عند ربّه.

ومنها: قوله تعالى: من يطع الرَّسولَ فقد أطاعَ اللَّهَ.

قال عمر رضى الله عنه بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم- أثناء كلام طويل-: بأبي أنت وأمّي يارسول اللَّه، لقد بلغ من فضيلتك عند اللَّه أن جعل اللَّه- عزّ وجلّ- طاعتك طاعته.

وقال جعفر الصادق معناه: «من عرفك بالنبوّة والرسالة فقد عرفني بالربوبيّة والأُلوهيّة».

وقيل: «بطاعتك يصل العبد الى الحقّ، وبمخالفتك يقطع عنه». وقيل غير ذلك.

ومن أحسنها: «من ألزم نفسه طاعته وصحّح الاقتداء به، أوصله الى مقامات الأنبياء والصدّيقين والشهداء؛ ألا ترى قوله تعالى: ومن يطع اللَّه والرّسول فأولئك مع الذَّين أنعمَ اللَّه عليهم من النبيّين والصِّدِّيقين والشهداءِ الآية.

ومنها:- وهو أبلغ مّما تقدم- قوله تعالى: إنّ الذَّين يُبايعونك؛ أي يامحمّد

ص: 134

إنّما يبايعونَ اللَّهَ نفى سبحانه وتعالى الواسطة في المبالغة، وقد تنبّه لذلك أرباب المعاني والقلوب، العارفون بمراتبه صلى الله عليه و آله و سلم وما وهبه اللَّه تعالى من سنيّ الأوصاف التي لا تليق بغيره، ولا يقدر على حملها إلّاهو، قالوا: إنّ البشريّة في نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم عارية وإضافة، دون الحقيقة» (1) وهو كلام حكيم منوَّر القلب.

وقال بعضهم: لم يُظهر الحقُّ- سبحانه وتعالى- مقامَ الجمع على أحد بالتصريح إلّا على أخصّ نَسَمة وأشرفها، وهو المصطفى، فقال: إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعونَ اللَّه.

ومنها: قوله تعالى: ورَفعنا لك ذكركَ قال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما «المراد الأذان والإقامة والتشهّد والخطبة على المنابر، فلو أنّ عبداً عبد اللَّه وصدّقه في كلّ شي ء ولم يشهد أنّ محمداً رسول اللَّه، لم يسمع منه ولم ينتفع بشي ء، وكان كافراً».

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه:(أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية، فقال: قال اللَّه- عزّ وجلّ- إذا ذُكرتُ ذُكِر معي).

وقال قتادة رضى الله عنه: «رفع اللَّه ذكره في الدنيا والآخرة».

وقيل: رفع ذكره بأخذ الميثاق على النبيّين، وألزمهم الإيمان به والإقرار به.

وقيل: ورفعنا لكَ ذِكركَ ليعرف المذنبون قدر رتبتك لديّ ليتوسّلوا بك اليّ، فلا أردّ أحداً عن مسألته، فأُعطيه إيّاها إمّا عاجلًا وإمّا آجلًا، ولا أُخيب من


1- قوله عارية: «وإضافة دون الحقيقة» لفظ «إضافه» بالضمير هو «إضافة» بالتاء، ومعنى هذا الكلام غامض، وكأنّ قائليه يريدون أن يقولوا: إنّ حقيقته صلى الله عليه و آله و سلم مَلَكية وإن كانت صورته بشريّة، وهو معنًى يكون مدحاً إن سُلِّم أنّ حقيقة الملكية أفضل من حقيقة البشريّة، وليس لنا قسم آخر يُراد إلحاقه صلى الله عليه و آله و سلم به إلّاالإلهية، ولا يتصوّر أن يكون مراداً للقائلين، فليعلم. انتهى مصحّحه.

ص: 135

توّسل بك وإن كان كافراً.

ألا ترى قوله تعالى: وكانوا من قبلُ يستفتحون على الذّين كفروا وسيأتي الكلام على هذه الآية. وقيل غير ذلك.

ولمّا هاجر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الى المدينة قيل: بكت مكّة لفقده بدموع الحرقة على الخدّ، وقالت: وا أسفاه على من أُنزل عليه: لا أُقسمُ بهذا البلدِ وهو مكّة لحلولك فيه.

ومن جعل «لا» أصلية، فالمعنى: لا أُقسمُ بهذا البلدِ وأنت حالّ فيه، بل أُقسم بك وبحياتك وهذا يدلّ على عُلُوّ قدره عند ربّه، ورفعته التي لم يُفزْ بها غيره.

وفي حديث عائشة رضي اللَّه عنها:(أنّ جبريل- عليه الصلاة والسلام- قال:

قلبتُ مشارق الأرض ومغاربها، فلم أرَ رجلًا أفضل من محمّد صلى الله عليه و آله و سلم).

وقال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما- من رواية أبي الجوزاء رضى الله عنه-: «ما خلق اللَّه ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم على اللَّه من محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، ولا رأيت اللَّه- عزّ وجلّ- أقسم بحياة أحد إلّابحياته، فقال: لَعمرُك إنّهم لَفي سكرتِهم يعمهونَ، والعمه في البصيرة والعمى في البصر».

وفي رواية عطاء عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما: «المعنى: وعيشك يا محمّد إنّهم لفي سكرتهم يعمهون».

وقال بعضهم: أقسم بحياة محمّد لأنّ حياته كانت به، وهو في قبضة الحقّ وبساط القرب وشرف الانبساط، ومقام الاتّفاق الذي لا يقوم به غيره، فبحياتك يكون القسم، فإنّ الكلّ زاغوا وما زغتَ، وما لوا وما ملتَ؛ حتّى برأناك ونزّلناك منزلة ما نالها غيرك، ولا ينالها أحد سواك.

وقيل: المعنى وحياتك التي خصصت بها بين الخلق، فحيوا بالأرواح، وحييت بنا.

ص: 136

ولهذا تتمّة مهمّة ذكرتها في المولد يتعين الوقوف عليها.

وقيل: أقسم اللَّه- عزّوجلّ- في الأزل بحياته؛ ليظهر شرفه وعُلُوّ قدره ودُنُوّ منزلته عنده؛ ليتوسّل المتوسّلون به إليه قبل بروزه إلى الوجود، وفي حياته وبعد وفاته وفي عرصات القيامة.

ولهذا وغيره لم يزل أهل الايمان يتوسّلون به في حياته وبعد وفاته من غير نكير.

التوسل بالنبي قبل مولده

وكان أهل الكتاب لهم علم من ذلك، فكانوا يتوسّلون به قبل وجوده، فيُستجاب لهم، كما قال اللَّه تعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا.

وقال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما: «كانت أهل خيبر تقاتل غطفان، كلّما التقوا هزمت غطفانُ يهود، فعاذت يهود بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّا نسألك بحقّ النبيّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلّانصرتنا عليهم»، فكانوا إذا التقوا ودعوا بهذا الدعاء هزمت يهودُ غطفان».

ويهود غير منصرف للعلميّة والتأنيثِ، علم على (1) قبيلة- فلمّا بُعث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كفروا به، فأنزل اللَّه عزّوجلّ: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذينَ كَفَروا...؛ أي يدعون بك يا محمّد إلى قوله: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ.

وإذا كان عزّوجلّ يستجيب لأعدائه بالتوسّل به صلى الله عليه و آله و سلم إليه سبحانه، مع


1- هي أُمّة موسى عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام. انتهى.

ص: 137

علمه- عزّوجلّ- بأنّهم يكفرون به ويؤذونه، ولا يتّبعون النور الذي أُنزل معه قبل وجوده وبروزه إلى الوجود وإرساله رحمة للعالمين، فكيف لا يستجيب لأحبّائه إذا توسّلوا به بعد وجوده- عليه الصلاة والسلام- وبعثته رحمة للعالمين؟!

وإذا كان رحمة للعالمين، فكيف لا يتوسّل ولا يتشفّع به؟!

المنكر للتوسل: أسوأ من اليهود

ومن أنكر التوسّل به والتشفّع به بعد موته وأنّ حرمته زالت بموته، فقد أعلم الناس ونادى على نفسه أنّه أسوأ حالًا من اليهود، الذين يتوسّلون به قبل بروزه إلى الوجود، وأنّ في قلبه نزغة هي أخبث النزغات.

توسل أبي البشر آدم بالنبي ليغفر له

وهذا آدم عليه السلام توسّل به، كما هو مشهور، ورواه غير واحد من الأئمة.

منهم الحاكم في «مستدركه على الصحيحين» من حديث عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:(لمّا اقترف آدم الخطيئة قال: يا ربّ بحقّ محمّد لمّا (1) غفرتَ لي.

فقال اللَّه: يا آدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: يا ربّ لأنّك لمّا خلقتَني بيدك ونفختَ فيَّ من روحك، رفعتُ رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلّاأحبّ الخلق إليك. فقال: يا آدم إنّه لأحبّ الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقّه فقد غفرتُ لك، ولولا محمّد لما خلقتُك) (2).


1- أي: «إلّا» انتهى.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم 2/ 615.

ص: 138

قال الحاكم: صحيح الإسناد (1)، ورواه الطبراني، وزاد:(وهو آخر الأنبياء من ذُرّيّتك).

ورواه الحاكم أيضاً من حديث ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما بزيادة بلفظ:

(أوحى اللَّه إلى عيسى: يا عيسى آمن بمحمّد، ومُرْ من أدركه من أُمّتك أن يؤمنوا به، فلولا محمّد ما خلقتُ آدم، ولولا محمّد ما خلقتُ الجنّة والنار. ولقد خلقتُ العرش على الماء فاضطرب، فكتبتُ عليه لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه فسكن) قال الحاكم في «مستدركه»: هذا صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (2)؛ يعني البخاري ومسلم.

فهذا الإمام الحافظ قد كفانا المؤنة وصحّح الحديث، وقد رواه غير واحد من الحفّاظ وأئمة الحديث بألفاظ:

منهم أبو محمّد مكّي، وأبو الليث السمرقندي وغيرهما:(أنّ آدم عليه السلام عند اقترافه قال: اللّهمّ بحقّ محمّد عليك اغفر لي خطيئتي).

ويروي نفيل:(فقال اللَّه: من أين عرفت محمّداً؟ قال: رأيت في كلّ موضع من الجنّة مكتوباً: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه). ويروى:(محمّد عبدي ورسولي،


1- لا التفات بعد هذا التصحيح من الحاكم- وهو الحاكم- إلى طعن طاعن في هذا الحديث، وقد رأينا من يطعن فيه وفي أمثاله من الأحاديث التي يصحّحها الحاكم، وهي دالّة على سُموّ شرفه- عليه الصلاة والسلام- وعُلوّ منزلته عند ربّه، كأنّ هذا الطاعن أُوذي ممّن يستخفّون بشأنه- عليه الصلاة والسلام- فصدر منه ذلك الطعن؛ طاعة لشعوره وهو لا يشعر أو يشعر، وكأنّ هذه المسألة- مسألة عِظَم حُرمته صلى الله عليه و آله و سلم ورفعة شأنه- موضع خلاف بيننا وبين هؤلاء الناس، ونحن لا نسلّم هذا الخلاف إلّابعد أن نسمع من هذه الشِّرْذِمة: أنّ كلام اللَّه تعالى مطعون في صدقه أيضاً، فإذا قالوها سكتنا عنهم، ويكونون بذلك أراحوا واستراحوا، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل. انتهى مصحِّحه.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم 2/ 615.

ص: 139

فعلمت أنّه أكرم خلقك عليك، فتاب اللَّه عليه وغفر له).

وفي رواية الحافظ الآجري:(فقال آدم: لمّا خلقتني رفعتُ رأسي إلى عرشك، فإذا فيه مكتوب: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنّه ليس أحد أعظم قدراً عندك ممّن جعلتَ اسمه مع اسمك، فأوحى اللَّه إليه: وعزّتي وجلالي إنّه لآخر النبييّن من ذُرّيّتك، ولولاه ما خلقتُك. قال: وكان آدم عليه السلام يكنّى: أبا محمّد).

بدا مجدُهُ من قبلِ نشأةِ آدمٍ وأسماؤهُ في العرشِ من قبلُ تكتبُ (1)

وعن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما في قوله تعالى: وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال:

«لوح من ذهب فيه مكتوب:

عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصب؟!

عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟!

عجباً لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها؟!

أنا اللَّه لا إله إلّاأنا محمّد عبدي ورسولي».

وعن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما أيضاً قال: «على باب الجنّة مكتوب: إنّي أنا اللَّه لا إله إلّاأنا محمّد رسول اللَّه، ولا اعذّب من قالها».

وذكر السميطاري: أنّه شاهد في بعض بلاد خراسان مولوداً ولد وعلى جبينه مكتوب: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه، وذلك بقلم القدرة.

وذكر الأخباريّون: أنّ ببلاد الهند ورداً أحمر مكتوباً (2) عليه بالأبيض: لا إله إلّا اللَّه محمد رسول اللَّه.


1- أي كُتبتْ، والتعبير بالمضارع بحكاية الحال الماضية. انتهى.
2- يتعيّن نصب لفظ مكتوب» لأنّه وصف لمنصوب. انتهى مصحِّحه.

ص: 140

وفي بعض البوادي حيوان مكتوب على شِقّه الأيمن: لا إله إلّااللَّه، وعلى شِقّه الأيسر: محمّد رسول اللَّه، وذلك بقلم القدرة، وهو مرئيّ ظاهر لكلّ من له بصر، وذكر غير ذلك.

فسيّد الأوّلين والآخرين عظيم عند ربه، نوّه بذكره في الأزل وفي الكون العُلوي والسُّفلي؛ ليعلم أنّه الفاضل الكامل، وأنّه أعظم الوسائل.

مناظرة المنصور العباسي و مالك إمام المذهب

قال أبو حميد: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال له مالك: لا ترفع صوتك في هذا المسجد.

فإنّ اللَّه- عزّوجلّ- أدّب أقواماً، فقال: لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية.

ومدح قوماً، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية.

وذمّ قوماً، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.

وإنّ حرمته ميّتاً كحرمته حيّاً.

فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبداللَّه أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؟

فقال: ولمَ تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة؟!

بل استقبله واستشفع به، فيشفعه (1) اللَّه عزّوجلّ.


1- قوله: «فيشفعك اللَّه» السياق يقتضي أن يكون «فيشفعك» فيشفعه؛ لأنّه هو صلى الله عليه و آله و سلم الشافع. انتهى مصحِّحه.

ص: 141

قال اللَّه تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُواا أَنْفُسَهُمّ جَاؤُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.

القصّة معروفة مشهورة، ذكرها غير واحد من المتقدّمين والمتأخّرين بأسانيد جيّدة.

ومنهم القاضي عياض في أشهر كتبه، وهو «الشفاء» المشهور بالحسن والإتقان في سائر البلدان.

ومنهم الإمام العلّامة هبة اللَّه في كتابه «توثيق عرى الإيمان».

وقد اشتملت هذه القصّة على تعظيمه بعد وفاته، وأنّه حيّ، والتوسّل به، وحسن الأدب في حقّه كما في حياته، وأنّ في الآية الحثّ على المجي ء إليه ليستغفر له، وليس في الآية تعرّض لزمن حياته دون الوفاة، وكذا فهم العلماء مالك وغيره- كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى- العموم، واستحبّوا لمن زار قبره المكرّم أن يتلو هذه الآية، ويستغفر ويتوسّل به ويطلب الشفاعة منه.

ولم نعلم أنّ أحداً طعن في قصّة مالك إلّاهذا الفاجر ابن تيميّة، فإنّه لمّا كان فيها هذه الفضائل طعن فيها، وقال: إنها مكذوبة.

فإنّ هذا شأنه؛ إذا وجد شيئاً لا مساس فيه لما ابتدعه قال به وقبله ولم يطعن، وإذا وجد شيئاً على خلاف بدعته طعن فيه وإن اتُّفق على صحّته، ولا يذكر شيئاً على خلاف هواه وإن اتُّفق على صحّته.

لا سيّما إذا كان آية أو خبراً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل (1)، إلّاأنّه تعرّض لتخصيصها، وهي دعوى


1- هذا المبدأ عليه أتباعه المفتونون به إلى اليوم، يعرف ذلك منهم من يلتفت لحالهم أدنى التفاتة، فالواجب على المسلم أن لا يعتبر تصحيحهم لحديث ولا تضعيفهم، فإنّهم للهوى يصحّحون ويضعّفون، واحب أن يأخذ القارى ء قول الإمام الحصني: ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل على ظاهره، دون أن يظنّ فيه أيّ مبالغة، وليطّرده في أتباعه كذلك. انتهى مصحِّحه.

ص: 142

مجرّدة وعلى خلاف ما فهمه العلماء من العموم ووقع العمل عليه.

فمن ادّعى التخصيص بغير دليل سمعيّ ظاهر الدلالة قطعنا بخطئه واتّهمناه، واستدللنا بذلك على استنقاصه سيّد الأوّلين والآخرين الكامل المكمّل، وهو كفر بإجماع أهل التوحيد.

الأعرابي المتوسّل بجاه النبي

وذكر القرطبي في تفسيره عن علي رضى الله عنه أنّه قال:(قدم علينا أعرابيّ بعدما دُفن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وحثا على رأسه من ترابه، ثمّ قال: قلتَ يا رسول اللَّه فسمعنا قولك، ووعيت عن اللَّه- عزّوجلّ- فوعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ الآية، وقد ظلمتُ نفسي وجئتُك تستغفر لي، فنودي من القبر: قد غفر لك).

وهذه القصّة غير قصّة العتبي.

قصّة العتبي في التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم

وقصّة العتبي مشهورة في غاية الشهرة، وقد ذكرها الأئمّة في كتبهم قديماً وحديثاً.

وكُنية العتبي أبو عبد الرحمن، واسمه محمد بن عبداللَّه بن عمرو، وكان من أفصح الناس، وصاحب أخبار، وصاحب رواية للآثار، حدّث عن أبيه وعن

ص: 143

ابن عُيينة.

وقد ذكر قصّته خلائق.

منهم ابن عساكر في تاريخه.

وذكرها الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن، وذكرها غيرهما بالأسانيد.

وممّن ذكرها الإمام العلّامة- المتّفق على علمه ودينه وزهده- أبو زكريّا يحيى ابن شرف النووي- قدّس اللَّه روحه ونوّر ضريحه- قال في زيارة قبره: إنّها من أعظم القُربات وأفضل المساعي والطلبات، وإذا انتهى إلى قبره وقف قبالة وجهه، ويتشفّع به إلى ربّه، ومن أحسن ما يقوله ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له.

قال العتبي: كنتُ جالساً عند قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فجاء أعرابيّ فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه، سمعتُ اللَّه يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّه تَوَّاباً رَحِيماً وقد جئتُك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربّي، ثمّ أنشأ يقول:

يا خيرَ مَنْ دُفِنَتْ بالقاعِ أعظُمُهُ فَطابَ مِن طِيبهِنَّ القاعُ والأُكُمُ

نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُهُ فيه العفافُ وفيه الجودُ والكَرَمُ

قال: فرأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم في النوم، فقال: «يا عتبي، إلحق الأعرابي، فبشّره بأنّ اللَّه قد غفر له» (1).

وفي رواية غيره: «إلحق الأعرابي، وبشّره بأنّ اللَّه قد غفر له بشفاعتي»، فخرجت فلم أجده.


1- وهكذا رواه المارودي في الأحكام السلطانية ص 109- 110، الباب العاشر.

ص: 144

فأفاد النووي- قدّس اللَّه تعالى روحه-: أنّ أصحاب الشافعي استحسنوا ذلك، وحكوه عن غيرهم.

وأفاد شمول الآية للحياة والممات، وأنّه يستشفع به إلى ربّه، وساق ذلك مساق ما هو متّفق عليه، ولم يتعرّض لذلك أحد بالإنكار في سائر الأعصار، وزدتُ أنا هذين البيتين لعلّي يلحقني نصيب من شفاعته، وهما:

وفيه كلُّ خصالِ الحمدِ قد جُمعتْ فَلذْ بِهِ فَهْوَ مَن تُرعى لَهُ الذِّمَمُ

وَهْوَ الذي يُرتجى في كلّ مُعضلةٍ وفي المعادِ إذا زلّتْ بنا القَدم

قصة الراهبين مع أبي عبدالله الفرحي

وقال السيّد الجليل قطّاع المفاوز على قدم التوكّل أبو عبد اللَّه الفرحي- قدّس اللَّه سرّه ونوّر ضريحه-: خرجتُ مرّة أُريد الزيارة من طريق المفاوز، فوقعت في التيه، فكنت فيه أيّاماً حتّى أشرفتُ على الموت، فبينا أنا كذلك إذ رأيت راهبين (1) يسيران، كأنّهما خرجا من مكان قريب يريدان دَيْراً لهما بالقرب، فملتُ إليهما، فقلت: أين تريدان؟ فقالا: لا ندري. فقلت: من أين أتيتما؟ قالا: لا ندري. قلت:


1- هذه القصّة فيها خبى ء خفي ولعل هذين الراهبين ملكان أو وليّان للَّه تعالى أرسلهما سبحانه وتعالى للشيخ الفرحي لينتقل بحالهما من حاله إلى حال أرفع، كما ترى في القصّة، وأمّا أنّهما راهبان حقيقة، فهذا ما لا يستطيع العقل فهمه، فإنّا لا نعرف أنّ اللَّه تعالى يُكرم إلّاالصادقين من عباده المؤمنين، فكيف يُكرم بهذه الكرامة الباهرة- التي تضمنتها القصّة- راهبين كافرين بسيّد أنبيائه، وهما يعرفانه حقّ المعرفة كما ترى من كلامهما؟! فاعرف ذلك. انتهى مصحّحه.

ص: 145

فتدريان أين أنتما؟ قالا: نعم، نحن في ملكه، وبين يديه. قال: فأقبلتُ على نفسي أقول لها: راهبان يتحقّقان بالتوكّل دونك. ثمّ قلت لهما: أتأذنان لي في الصحبة؟

فقالا: ذاك إليك.

قال: فسرنا، فلمّا أمسينا قاما إلى صلاتهما، وقمت إلى صلاة المغرب، فتيمّمتُ وصلّيتُ، فنظرا إليّ وقد تيمّمتُ فضحكا منّي، فلمّا فرغا من صلاتهما، بحث أحدهما بيده فإذا بالماء قد ظهر، وإذا بطعام موضوع.

قال: فبقيت أتعجّب من ذلك، فقالا لي: أُدنُ وكُلْ واشرب.

قال: فأكلنا وتوضّأتُ، وقاما فلم يزالا في صلاتهما وأنا في صلاتي حتّى أصبحنا، فصلّيت الفجر، ثمّ قاما يسيران، فسرنا (1) إلى الليل، فلمّا أمسينا تقدّم الآخر، فصلّى بصاحبه، ثمّ دعا بدعوات ثمّ بحث الأرض بيده، فنبع الماء وظهر الطعام، فقالا لي: ادنُ وكُلْ واشرب.

قال: فأكلنا وشربنا وتوضّأت للصلاة، ثم نضب الماء وغار حتّى لم يبقَ له أثر، فلمّا كانت الليلة الثالثة، قالا لي: يا مسلم الليلة نوبتك. قال: فاستحييت من قولهما، ودخلني من ذلك همّ شديد.

قال: فقلت في نفسي: اللّهمّ إنّي أعلم أنّ ذنوبي لم تدعْ لي عندك جاهاً، ولكنّي أسألك وأتوسّل إليك بنبيّك المكرّم عندك: ألّا تفضحني عندهما، ولا تُشمت (2) بنبيّك محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

قال: فإذا بعين خرّارة وطعام كثير، قال: فأكلنا وشربنا، ولم نزل على حالنا حتّى بلغت النوبة الثانية إليّ، قال: فدعوتُ بمثل ما دعوتُ أوّلًا وتوسّلتُ بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فإذا بطعام اثنين وشراب اثنين دون ما كان. قال: فتقاصرتُ إلى


1- قوله فساروا بالجمع بل الصحيح: «فسرنا»، كما هو مقتضى السياق.
2- اي تشمتهما. انتهى مصحّحه.

ص: 146

نفسي، وقصرتُ عن الأكل، وأريتهما أنّي آكل، فسكتا عنّي.

قال: وسرنا حتّى بلغت النوبة الثالثة إليّ، قال: فدعوتُ بمثل ما دعوتُ وتوسّلتُ بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وقوي حالي في أمر صدق توسّلي به صلى الله عليه و آله و سلم علمي بأنّه وسيلة من قبلي، فإذا بطعام اثنين والماء مثل ذلك، فغمّني ذلك.

قال: فغلبتني عيناي من الهمّ خوف الشماتة بديننا، فإذا بقائل يقول لي:

أدركناك بالإيثار الذي خصصنا به محمّداً من دون الأنبياء (1)، وهي علامته وكرامة أُمّته من بعده إلى يوم القيامة.

قال: فلمّا بلغت النوبة الرابعة إليّ قالا: بلى يا مسلم ما هذا؛ إنّا نرى في طعامك وشرابك نقصاً، فلم ذلك؟ فقلت لهما: أو لم تعلما أنّ هذا خصّ اللَّه- عزّوجلّ- به نبيّه محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم من بين الأنبياء، وخصّ أُمّته به من بعده، إنّ اللَّه- عزّوجلّ- يريد لي الإيثار، وقد آثرتكما اقتداء بنبي الكرم، فقالا: صدقت.

ثمّ قالا: نشهد أنْ لا إله إلّااللَّه، ونشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ، صدقت في قولك، هذا خلق محمّد في كتب اللَّه المنزلة؛ إنّ اللَّه- عزّوجلّ- خصّ محمّداً وأُمّته بذلك. قال: وحسن إسلامهما.

قال: ثم قلت لهما في الجمعة والجماعة، فقالا: ذلك واجب؟ قلت: نعم فاسألا اللَّه تعالى وادعوا أن يخرجنا من هذا التيه إلى أقرب الأماكن.

فدعوا، فبينا نحن نسير إذا نحن ببيوت قد أشرفنا عليها، فإذا هي بيت المقدس.

قال: فدخلنا المسجد، وأقمنا أياماً، ثمّ تجدّد لي سفر ففارقتهما، وقد مُلى ء قلبي


1- أي خصصنا به أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم من دون أُمم الأنبياء، وإلّا فالأنبياء جميعاً أوائل أهل الإيثارصلىّ اللَّه وسلّم عليهم جميعاً. انتهى صحّحه.

ص: 147

فرحاً بإسلامهما وبصحّة (1) توسّلي بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّه غياث الصادقين في محبته (2)، السالكين خلفه في صدقه مع ربّه وصحّة الاعتماد عليه.

فانظر- أرشدك اللَّه- كيف بصدق التوسّل به جرى ما جرى؛ من حصول الكرامات من نبع الماء والطعام والاهتداء، فله عزّوجلّ المنّة على ما أكرمنا به، وعلى ما وهب الأولياء من آثار معجزاته.

قصة سفيان الثوري مع المصلي علي النبي في الطواف

وقال سفيان الثوري: بينا أن أطوف بالبيت؛ وإذا أنا برجل يرفع قدماً ولا يضع اخرى، إلّاوهو يصلّي على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقلت: يا هذا إنّك تركت التسبيح والتهليل، وأقبلت على الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فهل عندك من هذا شي ء، فقال لي: من أنت؟ قلت: سفيان الثوري، فقال: لولا أنّك غريب في أهل زمانك، لما أخبرتك عن حالي، ولما أطلعتك على سرّي.

ثم قال: خرجت أنا ووالدي حاجّين إلى بيت اللَّه الحرام وإلى زيارة سيّد الأنام، حتى إذا كنّا ببعض المنازل مرض والدي، فعالجته فمات، فلمّا مات اسودّ وجهه فغلبتني عيناي من الهمّ، فنمت فإذا أنا برجل لم أرَ أجمل منه ولا أنظف ثوباً ولا أطيب رائحة منه، فدنا من والدي وكشف عن وجهه وأمرّ يده عليه، فعاد وجهه أبيض، ثمّ ذهب، فتعلّقت بثوبه وقلت له: يا عبداللَّه من أنت الذي منّ اللَّه- عزّوجلّ- عليّ وعلى والدي بك في دار الغربة؛ لكشف هذه الكُربة؟

فقال: أو ما تعرفني أنا محمّد بن عبداللَّه صاحب القرآن. أمّا إنّ والدك كان مسرفاً على نفسه، ولكنّه كان يُكثر الصلاة عليّ، فلمّا نزل به ما نزل استغاث بي،


1- قوله: «وبصحبة توسّلي» صوابه: وبصحّة توسّلي... الخ. انتهى مصحّحه.
2- قوله: «في محبّة السالكين»، صوابه: في محبّته، السالكين... إلى آخره. انتهى مصحِّحه.

ص: 148

وأنا غياث من أكثر الصلاة عليّ.

قال: فانتبهت فإذا وجه والدي قد ابيضّ.

فانظر أرشدك اللَّه- عزّوجلّ- إلى جلاله وتعظيمه في حياته وبعد وفاته، كيف أغاث من استغاث به حتّى في البرزخ؟!

فهو- عليه الصلاة والسلام- كما قيل:

غياثٌ لملهوفٍ وغيثٌ لآملٍ وعينٌ لظمآنٍ وعونٌ لذي جَهْدِ

له فَوق إيوان الزمانِ مراتبٌ يُقصِّر عنها الأنبياء أولو المجْدِ

فموسى وعيسى والخليلُ ونوحُهمْ يقولون طه منتهى السُّؤْلِ والقصدِ

حوى قَصَباتِ السَّبْق من قبلِ آدمٍ وكهلًا وأيامَ الطفولة في المهدِ

بهِ طيبةٌ طابتْ ولاغرْو قدْ حوتْ طبيبَ قلوب الخلق من مرض الجَحْدِ

فلولاهُ ما اشْتاقتْ قُلوبٌ نفيسة إلى الشيح من أرض الحِجازِ ولا الرَّنْدِ

ولا ذُكِرتْ سَلْعٌ ونعمانُ والنّقا ولا استُعذِبتْ من شدّةِ الوجدِ للوجدِ

فسبحان من قرّبه وبجّله وعظّمه ومنحه وتوّجَهُ خِلَعَ الفضائل، وجعله أعظم ما يُتوَجّه به إليه وأعظم الوسائل:

ص: 149

حديث عثمان بن حنيف والضرير المتوسل بالنبي

روى التِّرْمذي من حديث عثمان بن حنيف رضى الله عنه:(أنّ رجلًا ضرير البصر جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: ادعُ لي أن يعافيني اللَّه. فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك. قال: فادعه، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يتوضّأ فيُحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة، يا محمّد إني توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتُقضى، اللهمّ شفّعه فيّ) (1).

قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه النسائي بنحوه.

ورواه البيهقي، وزاد محمّد بن يونس في روايته:(فقام وقد أبصر).

وفي رواية شعبة:(فَفَعل فبرى ء).

وفي رواية:(يا محمّد إنّي توجّهتُ بك إلى ربّي فتجلي عن بصري، اللّهمّ شفّعه فيّ وشفّعني في نفسي).

قال عثمان رضى الله عنه: فواللَّه ما انصرفنا ولا طال الحديث، حتّى جاء الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ (2).

فهذا حديث صحيح صريح في التوسّل والاستجابة، وليس فيه: أنّه فعل ذلك في حضرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وليس فيه التقييد بزمن حياته، ولا أنّه خاصّ بذلك الرجل.

بل إطلاقه- عليه الصلاة والسلام- يدلّ على أنّ هذا التوسّل مستمرّ بعد وفاته


1- سنن الترمذي كتاب الدعوات رقم 3502، ورواه ابن ماجه في سننه كتاب إقامة الصلاة رقم 1375، ومسند أحمدء، الشاميين رقم 16604.
2- وفي رواية: أنّه قال- عليه الصلاة والسلام-:(وإن كان لك حاجة فمثل ذلك). انتهى مستنسخ النسخة.

ص: 150

شفقة عليهم؛ لأنّه بهم رؤوف رحيم، ولاحتياجهم إلى ذلك في حاجاتهم.

ويدلّ على ذلك أنّ عثمان بن حنيف- راوي الحديث- هو وغيره فهموا التعميم، ولهذا استعمله هو وغيره بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم.

كما رواه الطبراني في «معجمه الكبير» في ترجمة عثمان بن حنيف رضى الله عنه، ذكره في أوّل الجزء الخمسين من مسنده:(أنّ رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا ينظر في حاجته، فلقي الرجل عثمان بن حنيف، وشكا (1) إليه ذلك.

فقال له عثمان بن حنيف رضى الله عنه: «إئتِ الميضاة فتوضّأ، ثمّ ائتِ المسجد فصلّ ركعتين، ثمّ قل: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد نبيّ الرحمة يا محمّد إنّي أتوجّه إلى ربّي» فُتقضى (2) حاجتك، وتذكر حاجتك. ورُحْ حتّى أروح معك.

فذهب الرجل، وفعل ما قاله عثمان بن حنيف له، ثمّ إنّ الرجل أتى إلى باب عثمان بن عفان رضى الله عنه، فجاء البوّاب، فأخذ بيده حتّى أدخله إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه، فأجلسه معه على الطُّنْفُسة، فقال: حاجتك، فأعلمه بها، فقضاها، وقال ما ذكرت حاجتك إلّاالساعة. ثمّ قال عثمان بن عفان رضى الله عنه: ما كان لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عند عثمان ابن عفانّ رضى الله عنه، فلقي عثمان بن حنيف رضى الله عنه، فقال له: جزاك اللَّه خيراً؛ أما إنّه ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إليّ حتّى كلّمته فيّ.

فقال عثمان بن حنيف رضى الله عنه: ما كلّمتهُ، ولكن شهدت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له عليه الصلاة والسلام: أَوَ تصبر؟ فقال يا


1- قوله: «وشكى» يُرسم «شكا» بالألف. انتهى مصحّحه.
2- قوله: «فتُقضى حاجتك» ليس بظاهر معناه، وقد راجعتُ الأصل، فرأيت النصّ:(فتقضي حاجتي، وتذكر حاجتك... إلى آخره، وبه يتّضح المعنى. انتهى مصحِّحه.

ص: 151

رسول اللَّه إنّه ليس لي قائد، وقد شقّ عليّ.

فقال عليه الصلاة والسلام: إئتِ الميضاة فتوضّأ، ثمّ صلّ ركعتين، ثمّ ادعُ بهذه الدعوات.

قال عثمان بن حنيف: فواللَّه ما انصرفنا ولا طال الزمان؛ حتّى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قطّ).

ورواه البيهقي بإسناده من طريقين.

فهذا من أوضح الأدلّة على الاحتجاج للتوسّل بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاته كحياته، لفعل (1) عثمان راوي الحديث ولفعل غيره في حياته وبعد وفاته، وهم أعلم باللَّه- عزّوجلّ- وبرسوله صلى الله عليه و آله و سلم من غيرهم، وإليهم تُرجع الأُمور في القضايا التي شاهدوها في زمنه وأخذوها عنه رضي اللَّه عنهم (2).

ومن عدل عن ذلك فقد أفهم عن نفسه إنّ عنده ضغينة لهم.

وهذا من الواضحات الجليّات التي لا يُنكرها إلّاصاحب دسيسة؛ أعاذنا اللَّه تعالى من ذلك.

حرمة الرسول بعد وفاته

وقال القاضي عيّاض في أشهر كتبه المتداولة بين الناس وهو «الشفاء»:

«الفصل الثاني: في حرمته بعد وفاته، وأمّا حرمة (3) النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاته وتوقيره وتعظيمه، فهو لازم كما كان في حياته.

وذلك عند ذكره- عليه الصلاة والسلام- وذكر حديثه وسُنّته وسماع اسمه


1- الكاف في قوله: «كعفل» لام. انتهى مصحِّحه.
2- قوله: «وأخذوها عنهم رضى الله عنه» تؤخّر فيه «عنهم»، وتقدّم «عنه» كما هو ظاهر. انتهى مصحِّحه.
3- الصواب: «وحرمة» ويُحذف الضمير. انتهى مصحِّحه.

ص: 152

وسيرته ومعاملة آله، وتعظيم أهل بيته وصحابته واجب على كلّ مؤمن متى ذُكر عنده.

أن يخضع ويخشع ويتوقّر ويسكن من حركته، فيأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ بعينه (1) لو كان بين يديه، ويتأدّب بما أدّبنا اللَّه- عزّوجلّ- به».

وقال ابن حبيب: إذا دخلت مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فصلّ ركعتين بين الروضة والمنبر، ثمّ اقصد القبر من تجاه القبلة وادْنُ منه، ثمّ سلّم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وأثْنِ عليه وعليك السكينة والوقار، فإنّه- عليه الصلاة والسلام- مسلّم (2)، ويعلم وقوفك بين يديه.

وكذا قاله غيره من الأئمة.

قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي: أمّا زيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- فأحضرْ قلبك لتعظيمه ولهيبته، وأحضر عظيم رتبته في قلبك، واعلم أنّه عالم بحضورك وتسليمك.

وهذا الذي قالاه معروف مشهور؛ لأنّ الصحابة رضي اللَّه عنهم كانوا يغضّون أصواتهم في مسجده تعظيماً له وتوقيراً.

وفي البخاري: «أنّ عمر رضى الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف: لو كُنتما من أهل البلد لأوجعتُكُما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم».

وكانت عائشة رضي اللَّه عنها إذا سمعت دقّ الوتد أو المسمار يضرب في بعض الدور المطنبة لمسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ترسل اليهم لا تؤذوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وروي أنّ عليّاً رضى الله عنه لمّا عمل مِصْراعي داره، ما عملهما إلّابالمناصع


1- قوله: «بما كان يأخذ بعينه» عبارة الشفاء: «بما كان يأخذ به نفسه...» إلى آخره. انتهى محصّحه.
2- قوله: «مسلِّم» بتشديد اللام؛ أي رادّ عليك السلام الذي تسلّمه عليه. انتهى مصحِّحه.

ص: 153

توقّياً لذلك.

والآثار بمثل ذلك كثيرة جدّاً.

وكذا الأخبار بعرض الصلاة عليه.

وكذا بردّ (1) روحه الشريفة العظيمة الكريمة على اللَّه- عزّوجلّ- وإذا ثبت ردّها ثبتت حياته، وإذا ثبتت حياته وجب القطع بصحّة التوسّل به.

فضيلة الصلاة علي النبي

في ابن ماجة من حديث أبي الدرداء رضى الله عنه:(أنّه- عليه الصلاة والسلام- قال:

أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنّه مشهود تشهده الملائكة، وإنّ أحداً لن يصلّي عليّ إلّاعُرضت عليّ صلاته حتّى يفر منها.

قال: قلت: يا رسول اللَّه وبعد الموت؟ قال: وبعد الموت، فإنّ اللَّه حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبيّ اللَّه حيّ يُرزق) (2).

وقال عليه الصلاة والسلام:(إنّ للَّه ملائكة سيّاحين في الأرض يبلّغوني عن أُمّتي السلام) رواه النسائي، وكذا الحاكم من حديث ابن مسعود رضى الله عنه وصُحّح (3).

وقال عليه الصلاة والسلام:(ما من أحد يسلّم عليّ إلّاردّ اللَّه عليّ روحي


1- سيأتي للمصنّف شرح الحديث الوارد بذلك، وتوضيحه: أنّ الوجود لا يخلو لحظة من مسلّم عليه صلى الله عليه و آله و سلم، فهو دائماً يرد السلام، فهو دائماً مردودة عليه روحه، فهو دائماً حيّ. وشرح الحديث: بأنّ جملة «ردّ ...» إلى آخره حالية تحلّ إشكال الحديث كذلك، وهناك أحاديث اخرى كثيرة تدلّ على حياة الأنبياء في البرزخ بلا قيد ولا شرط، وهو أمر مُجمَع عليه بنين علماء الأُمّة، فليعلم. انتهى مصحّحه.
2- سنن ابن ماجة في الجنائز رقم 1627.
3- سنن النسائي/ السهو رقم 1265، والمستدرك على الصحيحين للحاكم 2/ 421، ورواه أحمد في المسند رقم 3484 و 4093، وسنن الدارمي في كتاب الرقاق رقم 2655.

ص: 154

حتّى أردّ عليه السلام) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضى الله عنه بإسناد جيّد (1).

قال البيهقي: معنى قوله: إلّا ردّ اللَّه عليه روحه: إلّاوقد ردّ اللَّه عليه روحه لأجل سلام من سلّم عليه، واستمرّت في جسده؛ لأنّه لا يبلى، ولا تفتر صلاة المصلّين عليه، ولا سلام المسلّمين عليه من الثقلين وغيرهم.

وقال عليه الصلاة والسلام:(لا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ، فإنّ صلاتكم تبلغني حيثما (2) كنتم) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضى الله عنه بإسناد صحيح (3).

والأحاديث في ذلك كثيرة.

وقال كعب الأحبار: «ما من فجر يطلع إلّاأَنزل اللَّه سبعين ألفاً من الملائكة؛ حتّى يحفّوا بالقبر الشريف، يضربون بأجنحتهم، ويصلّون على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم؛ حتّى إذا أمسوا عرجوا، وهبط مثلهم، وصنعوا مثل ذلك؛ حتّى إذا انشقّت الأرض خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في سبعين ألفاً من الملائكة يوقّرونه».

وروى الحافظ أبو القاسم الأصبهاني صاحب الترغيب، عن أنس رضى الله عنه، قال:

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:(من صلّى عليّ في يوم جمعة وليلة جمعة مائة من الصلاة، قضى اللَّه له مائة حاجة، سبعين من حوائج الآخرة، وثلاثين من حوائج الدنيا، ووكل بذلك ملكاً يُدخله على قبري، كما يُدخل عليكم الهدايا؛ إنّ علمي بذلك بعد موتي كعلمي به في حياتي).

وقال السيّد الجليل سلمان بن شحيم- قدّس اللَّه تعالى روحه-: «رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المنام، فقلت: يا رسول اللَّه الذين يأتونك ويسلّمون عليك تفقه


1- سنن أبي داود المناسك رقم 1745، ورواه أحمد في المسند رقم 10395.
2- توصل «حيث» ب «ما». انتهى مصحِّحه.
3- سنن أبي داود المناسك رقم 1746، ورواه أحمد في المسند رقم 8449.

ص: 155

سلامهم؟ قال: نعم وأردّ عليهم».

وقال بعض المشايخ: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في النوم، فقلت: استغفر لي، فأعرض عنّي. فقلت: يا رسول اللَّه استغفر لي، فأعرض عنّي. فقلت: يا رسول اللَّه إنّ سفيان بن عيينة حدّثنا عن محمّد بن المنكدر، عن جابر أنّك لم تُسأل شيئاً قطّ فقلت: لا، فأقبل عليّ، وقال: غفر اللَّه لك.

وكان موهوب ابن الجزري الشافعي إماماً عالماً فاضلًا مفيداً، يشارك في سائر العلوم مشاركة جيّدة، مع العقل والدين والإيثار لأهل الضرورات، وكان يتّجر فكثر ماله، فأراد الصاحب أن يتعرّض له، قال: فخفت منه خوفاً شديداً، فلمّا كان في بعض الليالي رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المنام، فقلت: يا رسول اللَّه إني خائف من الصاحب، فقال: لا تخف منه وقل له بعلامة كذا وكذا: لا تُؤْذِني، فرسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يشفع فيّ.

فلمّا انتبهتُ صليتُ الصبح، وركبت دابّتي، ووقفتُ للصاحب في الطريق وهو طالع إلى القلعة، قال: فسلمتُ عليه وصحبته، وقلت له: معي رسالة، فقال: ممّن؟

قلت: من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقال: قل له بعلامة كذا وكذا، فقال: صدقت أنت، وصدق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأنا اليوم أتشفّع بك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فالمولى يرسم والمملوك يمتثل، ومهما كان لك من الحوائج تعرّفني بها، أو لأحد أصحابك.

وطلب بعض أمراء الجور رجلًا أراد منه شيئاً، وهدّده تهديداً، وتوعّده (1) بالعقوبات، فقال له الرجل: أنا أتشفّع إليك بسيّد الأوّلين والآخرين أن لا تتعرّض لي بما لا يحلّ لك، فلم يلتفت إليه، ولا إلى قوله، فلمّا أصبح الصباح طلب الأمير الرجل، وأكرمه بعد أن فكّ عنه الطلب، فقيل للأمير في ذلك، فقال رأيت البارحة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فنهرني، وهمّ بي، وقال: يتشفّع بي إليك ولا تقبل، فواللَّه لا يتشفّع


1- الصواب حذف ألف «تواعده». انتهى. مصححِّه.

ص: 156

به أحد إليّ إلّاقبلتُ شفاعته، فإني خفتُ على نفسي الهلكة.

وعن منصور بن عبداللَّه قال: سمعت ابن الجلاء يقول: دخلت مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وبي شي ء من الفاقة، فتقدّمت إلى القبر، فسلّمتُ على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعلى ضجيعيه أبي بكر رضى الله عنه وعمر رضى الله عنه، ثمّ قلت: يا رسول اللَّه بي فاقة وأنا ضيفك الليلة، ثمّ تنحّيت ونمتُ بين القبر والمنبر، وإذا أنا بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد جاءني، ودفع إليّ رغيف خبز، فأكلتُ نصفه، فانتهبتُ فإذا في يدي نصف الرغيف.

ومن تتمّة القصّة: أن قال ابن الجلاء: إنّه دام بعد ذلك أربعين سنة، لم يحتج فيها إلى طعام الدنيا ولا إلى شرابها ببركة تلك الأكلة.

قال العلماء: الظاهر أنّ ما أتاه به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من طعام الجنّة؛ لأنّ من أكل من طعام الجنّة استغنى عن طعام الدنيا. قالوا: وهذه رؤيا حقّ؛ لما جاء في الحديث:

(من رآني في المنام فقد رآني حقّاً، فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي).

ومثل هذا وقع للسيّد الجليل أبي الخير الأقطع، صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة، قال: دخلت مدينة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأنا بفاقة، فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقاً، فتقدّمت إلى القبر، وسلّمتُ على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعلى أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وقلت: أنا ضيفك يا رسول اللَّه، وتنحّيت ونمت خلف القبر، فرأيت في المنام النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله، وعليّ بين يديه، فحرّكني، وقال: قم قد جاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال: فقمت إليه وقبّلتُ بين عينيه، فدفع إليّ رغيفاً فأكلتُ نصفه، وانتبهتُ وإذا في يدي نصف رغيف.

قال العلماء: وإنّما يبقى نصف الرغيف ليتحقّق الأمر، وتظهر الكرامة لأولياء اللَّه- عزّوجلّ- الذين سلكوا سبيله بصدق صلى الله عليه و آله و سلم، ورضي عنهم.

وقال ابن أبي ذرعة الصوفي: سافرتُ مع أبي ومع ابن حنيف إلى مكّة، وأصابتنا فاقة شديدة، فدخلنا مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وبتنا طاوين، وكنت دون

ص: 157

البالغ فكنت أجي ء إلى أبي غير دفعة، وأقول: أنا جائع، فأتى والدي إلى الحضرة الشريفة، وقال: يا رسول اللَّه أنا ضيفك الليلة، وجلس على المراقبة، فلمّا كان بعد ساعة رفع رأسه وكان يبكي ساعة ويضحك ساعة، فقال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فوضع في يدي دراهم، وفتح يده فإذا فيها دراهم، وبارك اللَّه تعالى لنا فيها إلى أن رجعنا [إلى] شيراز، فكنّا نُنفق منها.

وقال السيّد الجليل أبو العبّاس أحمد الصوفي: تهت في البادية ثلاثة أشهر، وانسلخ جلدي، فدخلت المدينة الشريفة، وجئت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فسلّمتُ عليه وعلى صاحبيه، ثمّ نمتُ، فرأيتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في النوم، فقال لي: يا أحمد جئت.

قلت: نعم، وأنا جائع، وأنا في ضيافتك. فقال لي: افتح كفّيك (1)، ففتحهما فملأهما دراهم، فانتبهتُ وهما مملوءتان، فقمت فاشتريت لي خبزاً حواري وفالوذجاً وأكلتُ، وقمتُ للوقت ودخلت البادية.

ومثل هذا كثير، وهؤلاء رجال صدقٍ يقطعون البوادي على قدم التوكّل، لا يعتمدون على غيره، ولا يأنسون بسواه، وتقع لهم ألطاف وأُمور عجيبة.

وقد ذكرت جملة من ذلك في كتاب(تنبيه السالك) في فصل الكرامات، فمن أراد أن يقف على الغرائب والعجائب، فلينظر فيه وفيما وهب لهم من الكرامات على مقدار طبقاتهم.

وخرج بعض المشايخ يريد الزيارة في جماعة من الفقراء، قال: فلمّا وصلنا إلى شِعْب النَّعام أدركنا العطش، وبيننا وبين المدينة مراحل، قال: فاستغثتُ بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وصليتُ ونمتُ، فرأيتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: مرحباً بك وبجماعتك، وضمّني إلى صدره وقبّلني، فقبّلتُ يده الكريمة وقدمه، وقلت له: يا سيّدي يا


1- الصواب «ففتحتهما». انتهى. مصحِّحه.

ص: 158

رسول اللَّه أنا خائف على أصحابنا من العطش، فقال: لا تخف فإنّا نسيّر لكم الماء، وها نحن نُعدّ لكم الضيافة، ورأيته- عليه الصلاة والسلام- مشمّر الأكمام، فجاءنا السيل في تلك الليلة، وملأنا ركابنا، فلمّا قدمنا المدينة تلقّانا أحد خدّام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقال لي: سلّم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأشتهي أن أجتمع بك حتى أُوفي لك بما أوصاني به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا سلّمتُ على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جئتُ إليه، فقال لغلامه: جي ء بالمائدة فجاء بها وعليها كلّ خير يراد، فالتفت إليّ، وقال: كُلْ هذا الذي أوصاني به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال لي: هذه ضيافتك يا فلان، وسمّاني باسمي.

وما يبعد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سمّاه.

كما وقع لغيره من الخدّام من تسمية أقوام قصدوا زيارته من أرض شاسعة، كما أخبرني به الشيخ محمّد فولاذ في المسجد الأقصى، وكان من الأخيار وكثير التعبّد والإيثار، وحجّ ماشياً ما يزيد على ثلاثين حجّة، قال لي: إذا جاء أوان الحجّ هاج بي الشوق إلى تلك المعاهد الشريفة وإلى زيارة سيّد الأوّلين والآخرين، فآخذ زادي على ظهري وإناء الماء، وأسير مع الناس إلى جانب، وأنا مشغول بحالي، قال: فاتّفق أنّي تحدّثتُ أنا وخادم الضريح، وتذاكرنا مواهب اللَّه- عزّوجلّ- لسيّدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال لي: يا شيخ محمّد إنّي أخدم هذا الضريح ستّين سنة، فاتفق في يوم حارّ أنّي سمعتُ السرير يصرصر، وسمعتُ صوته- عليه الصلاة والسلام- وهو يقول: «وعليك السلام يا فلان بن فلان»، وسمّى ثمانية أنفس.

قال الخادم: فقمتُ من ساعتي، وجئتُ الضريح وإذا بشخص كاد أن يموت من الهزال، جالس عند الضريح، فسلّمتُ عليه، وقلتُ: ما اسمك؟ فقال: فلان بن فلان لأحد الثمانية، فقلت له: وأين رفقتك؟ فقال: عند باب الحرم قد عجزوا عن الوصول إلى الضريح. قال: فعمدت إليهم فإذا ثلاثة من الذين سمّاهم

ص: 159

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقلتُ: وأين بقيّتكم؟ فقالوا: فارقناهم من وراء تلك الأكمة.

قال: فأخذت ما أحملهم عليه وماءً وشيئاً من الأكل، ومضيت، فوجدتُ الأربعة قد قضوا فجهّزتهم.

ثمّ رجعتُ إلى الأربعة، فأخذتُهم وأكرمتُهم وسألتُهم: من أين ورودهم؟

فقالوا: من بلاد شاسعة تعاقدنا وتعاهدنا على زيارة سيّدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأن لا نرجع عن ذلك ولو ذهبت أنفسنا، فأمّا نحن فقد أعطانا اللَّه- عزّوجلّ- مرادنا، وأمّا إخواننا الذين ماتوا عند الأكمة، فنرجو أنّ اللَّه- عزّوجلّ- لا يخيّب مسعاهم.

ووقع مثل ذلك كثيراً جداً وقد دوّنه الأئمّة، كابن أبي الدنيا وغيره، وعقدوا له باب الاستغاثة بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وخرّجوه بأسانيدهم على اختلاف الوقائع، وفيها ما يتعلّق بالصدّيق والفاروق رضي اللَّه عنهما (1).

ابن تيمية في قبره

قلت: وبلغني أنّه لما دُفن ابن تيميّة، قال شخص بعد ثلاثة أيام: قد اضطرب القول في هذا الرجل، واللَّه لأنظرنّ ما صنع اللَّه به، قال: فحفر قبره، فوجد على صدره ثُعباناً عظيماً هاله منظره.

فكان الرجل يحذّر الناس من اعتقاده، ويُعلمهم بما رأى، واللَّه أعلم.


1- لا ريب في أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أكرم الناس على اللَّه تعالى، ولأجل عينه تكرم الآف العيون، من آله الكرام والمؤمنين من صحابته العظام، وسائر محبّيه وزواره، وذلك ثابت بالنص واليقين، من دون حاجةٍ إلى الركون إلى الأطياف والمنامات والأحاديث التي لا خطم لها ولا أزمّة، فهي لا يحتجّ بها على ما في كثير منها من الخرافات والخزعبلات والمخالفات للشرع الأقدس، فكيف للنسب إلى ساحة الرسول المقدّس. وهي بمقدار صفحات من الأصل، فلا حاجة إلى ذكرها، فلتراجع في الأصل ليعرف صحّة ما ذكرناه.

ص: 160

الاستغاثة بالنبي علي طول التأريخ ولو من بعيد

والمراد أن الاستغاثة بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واللواذ بقبره مع الاستعانة به، كثير على اختلاف الحاجات، وقد عقد الأئمة لذلك باباً، وقالوا: إنّ استعانة من لاذ بقبره وشكا إليه فقره وضرّه، توجب كشف ذلك الضرّ بإذن اللَّه تعالى:

فمن ذلك ما أخبر به يوسف بن علي قال: ركبتني ديون، فقصدت الخروج من المدينة الشريفة، ثمّ جئتُ إلى قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فاستغثت به في وفاء ديني، فنمتُ فرأيتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فأشار عليّ بالجلوس، فاستيقظت فقيّض اللَّه لي من وفى ديني.

وقال بعضهم: بلغنا أنّ أبا الليث يقرأ القرآن في المصحف؛ من غير تعلّم سبق منه للكتابة، وكنت أنكر ذلك، قال: فدخلتُ مكّة فوجدته يقرأ القرآن في المصحف قراءة محمودة، فسألته عن سبب ذلك؟ فقال: كنتُ في مدينة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أبيتُ في المسجد وأخلو به فتشفّعتُ إلى اللَّه- عزّوجلّ- بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يسهّل عليّ القرآن في المصحف. قال: وجلست فأخذتني سِنَة، فرأيتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهو يقول:

قد أجاب اللَّه تعالى دعاءك، فافتح المصحف واقرأ القرآن. قال: فلما أصبح الصباح فتحتُ المصحف، وشرعتُ أقرأ القرآن، فكنت أقرأ في المصحف، فربّما تتصحّف عليّ الآية، فأنام فأرى من يقول لي: الآية التي تصفّحتْ عليك كذا وكذا.

وذكر ابن عساكر في تاريخه: أنّ أبا القاسم ابن ثابت البغدادي، رأى رجلًا بمدينة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، أذّن الصبح عند قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال فيه: الصلاة خير من النوم، فجاءه خادم من خَدَمِ المسجد فلطمه حين سمع ذلك منه، فبكى واستغاث بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وقال: يا رسول في حضرتك يُفعل بي هذا الفعل. قال: فضربه الفالج في الحال، وحُمل إلى داره، فمكث ثلاثة أيّام، ثمّ مات.

وقال أبو العبّاس أحمد المقري الضرير التونسي: جعتُ بالمدينة ثلاثة أيام،

ص: 161

فجئتُ إلى القبر، وقلت: يا رسول اللَّه جعتُ. ثمّ نمتُ ضعيفاً، فلكزتني جارية برجلها، فقمت إليها، فقالت: اعزم، فقمتُ معها إلى دارها فقدّمت لي خُبز بُرّ وتمراً وسمناً، وقالت: كُل أبا العباس، فقد أمرني بهذا جدّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال أَبو العبّاس: فرجعتُ إلى بلادي، فرأيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بمصر بعد رجوعي، فقال: أَوحشتْنا يا أبا العبّاس قراءتُك، وكنت أُكثر قراءة القرآن عند ضريحه. قال الباجي: كم قرأت من ختمة عند قبره؟ قلت: ألف ختمة.

وقال أبو العباس أحمد اللواتي: كانت عندنا بمدينة فاس امرأة، وكانت إذا أصابها أَمر أو شي ء يفزعها، جعلت يدها على عينيها، واستغاثت بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فتغاث، فلمّا تُوفِّيت قال لي قريب لها: رأيتها في النوم فقلت لها: يا عمّة أرأيتِ المَلَكينِ الفتّانين؟ فقالت: نعم جاءآني، فعندما رأيتُهما جعلتُ يدي على عيني، وقلت: يا محمّد، فلمّا نزعت يدي عن وجهي فلم أرَهما.

وهذه القصّة ذكرها بعض الأئمة وعزاها، وقال: إنّ الاستغاثة من بعيد به صلى الله عليه و آله و سلم كالاستغاثة به عند قبره صلى الله عليه و آله و سلم.

وساق عن أبي إسحاق الحسين، قال: كنت بين مدينة النبي صلى الله عليه و آله و سلم والشام، فضلّ لنا جمل، قال: وكان قد بلغني عن الشيخ أحمد الرفاعي أنه قال: من كانت له حاجة فليستقبل عبّادان نحو قبري، ويمشي سبع خطوات ويستغيث، فإنّ حاجته تقضى. قال: فلمّا استقبلتُ عبّادان، وقصدتُ الاستغاثة، هتف بي هاتف: أما تستحي من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وتستغيث بغيره. قال: فتحوّلتُ نحو المدينة، فقتلتُ:

يا سيّدي يا رسول اللَّه أنا مستغيث بك. قال: فواللَّه ما استكملتُ ذلك إلّاوالجمّال يقول لي: هذا الجمل قد وجدناه.

وسافر بعض الفقراء لقصد زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فتاه في الطريق، فاستغاث بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فظهرت له قبّة العبّاس رضى الله عنه وبينه وبين الموضع المذكور يومان

ص: 162

أو نحوهما.

وقال أبو الحجاج يوسف بن علي- قدّس اللَّه روحه-: خرجتُ من مكّة متوجّهاً إلى المدينة على طريق المشاة، فتهتُ في الطريق، فاستغثتُ بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فإذا بامرأة آتية من نحو المدينة، وهي تشير إلي أن أمشي على أثرها، فلم أزل أمشي على أثرها إلى أن وصلتُ المدينة.

وقال: سمعتُ أبا عبداللَّه بن سالم يقول: رأيت في المنام كأنّي في بحر النيل، وإذا بتمساح يريد أن يقفز عليّ فخفت منه، وإذا بشخص وقع لي أنّه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقال لي: إذا كنت في شدّة فقل: أنا مستغيث بك يا رسول اللَّه، فكنت أفعل فأُغاث، فأراد بعض الإخوان السفر لزيارته صلى الله عليه و آله و سلم، وكان ضريراً، فحكيتُ له الرؤيا، وقلت له: إذا كنت في شدّة فقل: أنا مستغيث بك يا رسول اللَّه، فسافر في تلك الأيام، فجاء إلى رابُغ وهي غزيرة الماء، وكان له خادم قد ذهب في طلب الماء، قال: فبقيت القربة في يدي وأنا في شدة من طلب الماء، فذكرت ما قلت لي، وقلت:

أنا مستغيث بك يا رسول اللَّه، فبقيت أنا كذلك، وإذا بصوت يقول: زِمَّ قِرْبتك، وسمعت صرير الماء في القِربة إلى أن امتلأت، ولم أعلم من أين أتى القائل.

وقال: سمعت محمد السلاوي يقول: لمّا ودّعتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، قلت: يا حبيبي يا محمّد يا سيّد الكونين أَنا أَدخل الصحراء، فإذا أخذتني شدّة أدعو اللَّه وأتوسّل بك.

وجئت إلى أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وقلت لهما كذلك. قال: فبقيت في البرية سبعة أيّام، ووقعت في جُبّ وفيه ماء، فبقيت فيه من أوّل النهار إلى ما بعد الظهر، فلم يبقَ إلّاالموت. قال: ففكرتُ ما كنتُ قلتُ عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وقلت: يا حبيبي يا محمّد الذي كنت قلت لك وقلت كذلك لأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، قال فكأني بمن حوّلني وطلعت ببركة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وصاحبيه رضي اللَّه عنهما.

وقال: أخبرني رجل من مدينة طرابلس، قال: كنّا جائين من الاسكندرية في

ص: 163

مركب، فهاج البحر علينا، وأشرفنا على التلف والهلاك، فقمت إلى الناس، فقلت:

استغيثوا بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فإنّه غياث، فقلنا جميعاً: الغياث يا رسول اللَّه، العفو يا رسول اللَّه، العفو يا رسول اللَّه، جانين مذنبين استجرنا بك، أجرنا يا محمّد الحبيب، يا حبيبنا يا شفيعنا يا وليّنا.

فنام رجل من أهل المركب مشهور بالخير والصلاح، فرأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأخذ بيده، فقال: انجُ وأبشروا بالسلامة، فلمّا أفاق الرجل بشّرنا برؤياه، فلمّا أصبح رجع البحر كالزيت، وكأنّه عقد بيضة، وجئنا إلى طرابلس سالمين ببركته صلى الله عليه و آله و سلم.

وقال: سمعت أبا الحسن العسقلاني يقول: ركبنا البحر في طلب جدّة، فهاج علينا، ورمينا ما معنا فيه، وأشرفنا على التلف، فجعلنا نستغيث بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم ونحن نقول: وامحمّداه، وكان معنا رجل مغربيّ صالح، فقال لنا: ارفقوا حجّاج إنّكم سالمون، رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المنام، فقلت: يا رسول اللَّه أُمّتك يستغيثون بك قال:

فالتفت إلى أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه، وقال: يا أبا بكر أَنجدهم. قال: فكأنّ عيني ترى أبا بكر رضى الله عنه وقد خاض البحر، وأدخل يده في مقدّم الحلَق، ولم يزل يجذبها حتّى دخل بها البرّ، فلِمَ تستغيثون فأنتم سالمون؟ فسلمنا ولم نَرَ بعد هذا إلّاخيراً، ودخلنا البرّ سالمين. والحمد للَّه رب العالمين.

ولمّا قُتل الحسين بن عليّ رضي اللَّه عنهما- يوم عاشوراء أوّل سنة إحدى وستّين، وهو يومئذٍ ابن أربع وخمسين سنة ونصف شهر- ووقع ما وقع من السبي وحمل النساء والصبيان، فلمّا مرّوا بالقتلى صاحت زينب بنت علي رضي اللَّه عنهما مستغيثة بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:(يا محمّداه هذا حسين بالعراء، مُزمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، يا محمّداه).

فلمّا كان سنة ثلاث وأربعمائة أخذ أهل الكوفة جدريّ عظيم، ثمّ عمي منهم ألف وخمسمائة كلّهم من نسل من حضر قتل الحسين رضى الله عنه. وهذا من أعجب ما سُمع.

ص: 164

واعلم- أرشدك اللَّه عزّوجلّ- أنّ مثل هذه القضايا كثيرة جدّاً، وقد ذكر جماعة من الأئمة من ذلك أُموراً عديدة عجيبة، منهم البيهقي، ومنهم أبو محمّد عبدالحقّ، ومنهم بعض الأئمّة، وذكر جملة مستكثرة في ذلك، وعقد أبواباً في الاستغاثات بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ومنها باب في أصحاب العاهات، وذكر منها جملة مستكثرة من ذلك؛ على اختلاف أنواع العاهات، كالعمى والصداع والزمانة ووجع البطن وغير ذلك، وأنّه- عليه الصلاة والسلام- يضع يده الشريفة على موضع العاهة فتزول ببركة يده الشريفة، وتشفى وكأنّه ما به وجع قلبه (1).

ثمّ إنّه مع ذلك قال: ولو تتبّعت هذا الفنّ لحفيت الأقلام، وجفّت المحابر، وفنيت الطُّروس في تتبّعه والدفاتر.

ثمّ قال: ولقد سألت بعض إخواننا المجتهدين، وكان بمدينة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على التجريد، فقلت: هل استغثتَ بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو لجأت إليه في شي ء قطّ مدّة إقامتك في المدينة، فقال: كنتُ أستحي أن أسأله إذ كنت بحضرته صلى الله عليه و آله و سلم.

ثمّ قال: سمعت الفقيه الإمام برهان الدين بن الطيّب المالكي يقول: قال لي من أثق به وكان بمدينة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّه أصابه الجوع، فأتى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: يا رسول اللَّه إنّي جائع، وجلس بالقرب من حجرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فأتاه رجل من الأشراف، فقال له: قم، فقال: إلى أين؟ فقال: تأكل عندي شيئاً، فقام معه إلى بيته، فقدّم إليه جَفْنة فيها ثريد ولحم ودهن، فأكل حتّى شبع، وأراد الانصراف، فقال له: كُل وازدد، فلمّا أراد الانصراف قال له: يا أخي الواحد منكم يأتي من البلاد البعيدة، ويقطع المفاوز والقِفار، ويترك الأهل والأوطان، ويقطع البحار،


1- الصواب: قبله. انتهى. مصحّحه.

ص: 165

ويأتي إلى زيارة النبيّ العظيم على ربّه صلى الله عليه و آله و سلم، وتكون همّته أن يطلب منه كسرة خبز، يا أخي لو طلبت الجنّة، أو المغفرة، أو الرضا، مهما طلبته منه لنلته ببركة هذا النبي الكريم صلى الله عليه و آله و سلم (1).

هذا وعدم السؤال يكون للأكابر؛ لما يشاهدون في الحضرة النبويّة من الإجلالات والكرامات العلوية.

وأنت- أرشدك اللَّه عزّوجلّ إلى الحقّ، وأزاح عنك الباطل- إذا استحضرت بعض ما تقدّم، وعطفت على قول هذا الزائغ: أنّ المسلمين متّفقون على أنّ الميّت لا يُسأل ولا يُدعى ولا يُطلب منه؛ سواء كان نبيّاً أو شيخاً أو غير ذلك.

قطعتَ بفجوره وببهتانه، وأنّه من أخبث الناس طويّة، وأنّه لا اعتقاد له، وهذه عادته بادّعاء الاتّفاق وبالإجماع المقطوع به، كما سيأتي عند ذكر شدّ الرحال وإعمال المطي وفي غير ذلك.


1- هذا كلام جليل جدّاً، فليتأمّله القارى ء، ولا يستكثر على منزلته صلى الله عليه و آله و سلم عند ربّه إغاثة أيّ ملهوف، فإنّه تعالى يسمع له في الآخرة في الشفاعة العظمى التي تشمل كلّ خلق اللَّه كافرهم كمؤمنهم، فيحمده لذلك الأوّلون والآخرون من الخلق، وإذا كان تعالى يُكرمه بذلك في دار الجزاء- وقد غضب غضباً لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله- فعدمٌ كلّ ما يُحكى في هذه الدار [الدنيا] من أنواع إغاثته تعالى للمستغيثين به صلى الله عليه و آله و سلم بالنسبة لذلك المقام المحمود.

ص: 166

من أنباء التوسل بقبر النبي و آثاره

وقد تقدّم توسّل آدم عليه السلام بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّ اللَّه قبله بسبب التوسّل، وجعل هذا الزنديق آدم عليه السلام بتوسّله بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم ظالماً ضالّاً مشركاً.

وليس وراء ذلك زندقة وكفر.

وروي عن أبي الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة رضي اللَّه عنها ذلك، فقالت: أُمضوا إلى القبر واجعلوا منه كُوّة إلى السماء؛ حتّى لا يكون بينها وبين السماء شي ء.

ففعلوا فمطروا حتّى نبت العشب، وسمنت الإبل حتّى تفتّقت من الشحم، فسُمّي عام التفتّق.

وروى البيهقي بسنده إلى الأعمش، عن ابن صالح، قال: أصاب الناس قَحَطٌ في زمن عمر رضى الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: يا رسول اللَّه هلك الناس، استسقِ لأُمّتك، فأتاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في المنام، إئتِ عمر فاقرأهُ منّي السلام، وأخبره أنّهم مُسقون، وقل له: عليك الكيس. قال: فأتى الرجل عمر فأخبره، فبكى عمر رضى الله عنه، وقال: يا ربّ ما آلوا إلّاما عجزتُ عنه.

فهذا رجل مبارك قد أتى قبره- عليه الصلاة والسلام- وطلب الاستسقاء منه- عليه الصلاة والسلام- فلو كان ذلك جهلًا وضلالًا وشركاً لمنعه عمر رضى الله عنه، الذي احتجّ الزائغ باستساقه بالعبّاس.

وقد تقدّمت قصّة عثمان بن حنيف، وهي من الأُمور المشهورة.

التفريق في التوسل بين الحياة والممات، باطل

فسكوت هذا الزائغ- القائل بمسألة الفرق تبعاً لسلالة اليهود- عن هذه الأُمور الواضحة الجلية المشهورة، والعدول إلى الفجور من أقوى الأدلّة على

ص: 167

خُبث طويّته.

ومثل هذا لا يحلّ لأحد تقليده فيما يقوله، ولا ينظر في كلامه إلّامن يكون أهلًا لمعرفة دسائس أهل البدع والزيغ، وإلّا هلك وأهلك.

فتنبّه لذلك، وخذ حِذْرك، وإلّا هلكتَ من حيثُ ظننت السلامة.

وقوله: ولا يطلب منه شي ء؛ سواء كان نبيّاً، أو شيخاً، أو غير ذلك.

قال الأئمّة الأعلام النقّاد أصحاب الأذهان الجيّدة: هذا منه كفر؛ لما فيه من حطّ رتبة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- والإجماع على أنّ من غمط من نبيّ في شي ء من الأشياء كفر.

وأيضاً ففيه ترفيع غير الأنبياء إلى رُتبة الأنبياء وإلحاقهم بهم، وفيه إشارة بعيدة ترجع إلى اعتقاد الشيعة (1)، وهو أنّ النبوّة عندهم تُكتسب بالرياضات وتهذيب النفس، وكتبهم (2) مشحونة بهذا، وهذا من فجورهم، فإنّ النبوّة إنّما هي من اللَّه- عزّوجلّ- فمن نبّأه اللَّه- عزّوجلّ- فهو النبيّ، ومن أرسله فهو الرسول اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.

فتوي ابن تيمية بأن زيارة النبي في قبره معصية

ومن الأُمور المنتقدة عليه: قوله: زيارة قبر النبيّ وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها.

وهذا ثابت عنه أنّه قاله، وثبت ذلك على يد القاضي جلال الدين القزويني.


1- هذا ليس اعتقاد الشيعة، وإنّما هو اعتقاد الفلاسفة. هكذا رُؤي على حاشية خطّ الشيخ. انتهى. صاحب الأصل.
2- كتب الشيعة موفورة ومنتشرة في البلاد الإسلامية، ولم نعثر على كتاب واحد منهايذكر ذلك.

ص: 168

فانظر هذه العبارة ما أعظم الفجور فيها؛ من كون ذلك معصية، ومن ادّعى الإجماع وأنّ ذلك مقطوع به؟

فهذا الزائغ يُطالب بما ادّعاه من إجماع الصحابة رضي اللَّه عنهم، وكذا التابعون ومن بعدهم من أئمّة المسلمين إلى حين ادّعائه ذلك.

وما أعتقد أنّ أحداً يتجاسر على مثل ذلك.

مع أنّ الكتب المشهورة، بل والمهجورة، وعمل الناس في سائر الأعصار على الحثّ على زيارته من جميع الأقطار، فزيارته من أفضل المساعي وأنجح القُرَب إلى ربّ العالمين، وهي سُنّة من سُنن المرسلين، ومجمع عليها عند الموحّدين، ولا يطعن فيها إلّامن في قلبه مرض المنافقين، ومن هو من أفراخ اليهود وأعداء الدين؛ من المشركين الذين أسفروا في ذمّ سيّد الأوّلين والآخرين.

ولم تزل هذه الأُمّة المحمّديّة على شدّ الرحال إليه على ممرّ الأزمان، من جميع الأقطار والبلدان، سار في ذلك الزرافات والوحدان، والعلماء والمشايخ والكهول والشبّان.

حتّى ظهر في آخر الزمان مبتدع من زنادقة حرّان، لبّس على أشباه الرجال ومن شابههم من سيّئي الأذهان، وزخرف لهم من القول غروراً، كما صنع إمامه الشيطان، فصدّهم بتمويهه عن سبيل أهل الايمان، وأغواهم عن الصراط المستقيم إلى ثنيّات الطريق ومدرجة النيران، فهم برزيّته في ظلمة الخطأ يعمهون، وعلى منوال بِدْعته يَهْرعون.

فتاوي العلماء باستحباب زيارة القبور

وسأذكر ذلك ماتحقّق به فجوره وبدعته وتضليل من مشى خلفه وهلكته، وأبيّن ما أظهره من القول الباطل ومارمز إليه وأُوضّحه لكلّ من سمعه ووقف عليه.

ص: 169

ثمّ أُردف ذلك بما يدلّ على المنهج من ذلك، فلا يزيغ عنه بعد ذلك إلّاهالك.

قال القاضي عيّاض- في أشهر كتبه الذي شاع ذكره في سائر البلاد، وقُرى ء في المجامع والجوامع على رؤوس الأشهاد-:

«فصل في حكم زيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- وفضل من زاره، وكيف يسلّم عليه ويدعو؟ وزيارة قبره سُنّة من سُنن المرسلين، مُجمع عليها، ومرغَّب فيها.

ورُوي عن ابن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:(من زار قبري وجبت له شفاعتي).

وعن أنس بن مالك رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:(من زارني في المدينة محتسباً كان في جواري، وكنتُ له شفيعاً يوم القيامة).

وفي حديث آخر:(من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي)». هذه ألفاظه بحروفها (1).

وكذا ذكره الإمام العلّامة هبة اللَّه في كتاب «توثيق عُرى الإيمان».

فهذا نقل الإجماع على خلاف ما نقله هذا الزائغ الفاجر المبالغ في فجوره وعزوه إلى السلف. وأمّا غير هذين الإمامين ممّن نقل الندب إلى زيارته فخلق لا يحصون، وسأذكر بعضهم.

استدلال ابن تيمية علي أقواله بالباطل

على أنّه ذكر في فتوى مطوّلة ما يناقض ما ادّعاه من الإجماع والقطع هنا.

وقد ذكرتُ المسألة في تنبيه السالك، وذكرتُ صورة الفتوى وجوابه، وهذا


1- كتاب الشفا للقاضي عياض: وقد أسندها بطرق الإمام السبكي في شفاء السقام، في الباب الأوّل، فراجعه.

ص: 170

جواب مطوّل، وتعرّضت لما فيه من الخلل وسوء الفهم وفجوره في النقل والعزو.

وها أنا ذا أذكر هنا بعض الجواب، وأبيّن ما فيه من الخطأ وعدم صحّة الاحتجاج بما احتجّ به، كحديث(لا تُشدّ الرحال)، ولا أُدقّق في الجواب؛ لأنّ قصدي بيان جهله، وأنّه لا حجّة له في الحديث؛ جرياً على القواعد التي عليها مدار الاستدلال صحّة وبطلاناً.

وأَذكر ما ذكره في أحاديث الزيارة، وما ادّعاه فيها من الفجور، وما رمز إليه في تكفير الأئمة الذين رووها.

وأنّه قال قولًا مفترىً لم يسبقه إليه أحد، ولا رمز ولا أشار إليه، وباللَّه التوفيق.

فممّا ذكره في الجواب بلفظ قوله: «وقد يحتجّ بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المرويّة في زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، كقوله:(من زار قبري بعد مماتي فكأنّما زارني في حياتي) رواه الدارقطني وابن ماجة».

فانظر- أرشدك اللَّه تعالى- كيف جعل هذين الإمامين ممّن لا يعرف الحديث.

وهو من أقبح البهتان.

وقد احتجّ بهذا الحديث خلائق من أئمة الحديث غير هذين الإمامين: منهم القاضي عياض وصاحب «توثيق عرى الإيمان» وأبو الفرج ابن الجوزي في كتابه(مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن) ذكره في الباب الذي عقده لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ومنهم ابن قدامة ذكره في كتابه «المُغني» في فصل: يُستحبّ زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، واستدلّ بحديث ابن عمر من طريق الدارقطني، ومن طريق سعيد بن منصور، وذكر أيضاً حديث أَبي هريرة رضى الله عنه:(ما من أحد سلّم عليّ عند قبري).

وقوله: وأمّا ما يذكره بعض الناس من قوله:(من حجّ ولم يزرني فقد جفاني)

ص: 171

فلم يورده أحد من العلماء.

وهذا أيضاً من البهتان البيّن والجهل.

فقد روى هذا الحديث غير واحد من الأئمة بألفاظ متقاربة: منهم الحافظ أبو عبداللَّه بن النجّار في كتابه(الدُّرّة الثمينة)، من حديث عليّ رضى الله عنه.

ومنهم الإمام الحافظ- المتّفق على حفظه وعُلُوّ قدره في هذا الشأن- أبو سعيد عبد الملك النيسابوري، خرّجه في كتابه «شرف المصطفى» من حديث عليّ رضى الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:(من زار قبري بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي، ومن لم يزُرني فقد جفاني)، رواه ابن عساكر من طرق.

وقوله: وهو مثل(من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنتُ له على اللَّه الجنة)».

تَنَبّهْ، يا من أُشير إليه بالعلم، في قوله، فإنّه يشير به إلى أنّ الحديث الأول كذب على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّه سوّى بينهما، وذكر الحديث الثاني توطئة لقصده الفاسد في إرادة تجاسره به، والتمويه على العوامّ والضعفاء من الطلبة، وهو شديد الاعتناء بهذا القصد الخبيث في الكلام على آيات الصفات وأحاديثها.

فليحذر الواقف على كلامه في آيات المتشابه وأحاديثه غاية الحذر، فإنّ الخطأ فيها كفر، بخلاف غيرها من مسائل الفروع.

وقوله: وقد احتجّ أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقبور الأنبياء: بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يزور قباء، وأجاب عن حديث(لا تشدّ الرحال): بأنّ ذلك محمول على نفي الاستحباب، وأمّا الأوّلون فإنّهم محتجّون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، أنّه قال: (1)(إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي) وهذا الحديث اتّفق الأئمّة على صحّته والعمل به.


1- أوّل الحديث:(لا تُشدّ الرحال)، ثم المذكور هنا. انتهى. مصحِّحه.

ص: 172

انظر- بصّرك اللَّه تعالى- ما في هذا الكلام من الإبهام والتدليس، فإنّه قال:

(وقد احتجّ الشيخ أبو محمد على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم: بأنّ النبيّ كان يزور قباء).

ولم يذكر: «راكباً وماشياً»؛ لأنّ الراكب قد شدّ الرحل، وهو لا غرض له في ذلك.

وأيضاً فلم يذكر غير الشيخ أبي محمد، وهو يوهم انفراده بذلك، ولم ينفرد كما أذكره من بعد.

وقوله: أجاب- يعني أبا محمّد- عن حديث(لا تُشدّ الرحال): بأنّ ذلك محمول على نفي الاستحباب.

وهو يوهم: أنّ ذلك لم يقُلهُ إلّاالشيخ أبو محمد، وهو من التدليس الذي هو كثير الاعتناء به، والمكر السيّي ء.

قوله: أمّا الأوّلون يعني القائلين بتحريم السفر؛ وعدم جواز القصر في سفر المعصية، فإنّهم يحتجّون بما في الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، أنّه قال:(لا تُشدّ الرحال إلّا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الاقصى، ومسجدي) هذا، وهذا الحديث اتّفق الأئمة على صحّته والعمل به.

وهو يوهم أنّهم احتجّوا لتحريم (1) قبور الأنبياء وقبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم به.

وهو من التدليس الفاحش، وهو مطالب: بأنّ الأوّلين صرّحوا: بأنّ شدّ الرحال وإعمال المطيّ إلى قبره وقبر الخليل إبراهيم- عليهما الصلاة والسلام- حرام ومعصية، ولا تقصر فيه الصلاة.

وهذا لا يجده، بل الموجود غيره والندب إلى ذلك، كما يأتي إن شاء اللَّه، وقد خاب من افترى.


1- فيه حذف مضاف، تقديره «زيارة قبور الأنبياء ...» انتهى مصححه.

ص: 173

ثمّ ما ذكره من انفراد الشيخ أَبي محمّد: بأنّ الحديث محمول على نفي الاستحباب، كذب وفجور وجهل، فإنّه لم ينفرد بذلك، بل ولا الحديث مسوق لتحريم زيارة القبور، وإنّما هو لبيان فضيلة المساجد الثلاثة دون غيرها؛ لأنّ المساجد الثلاثة مساجد الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- والعمل فيها يضاعف ما لا يضاعف في غيرها، وليس لزيارة القبور تعلّق بالحديث.

ولما تكلّم الأئمة على هذا الحديث، ومنهم الإمام العلّامة أبو زكريا يحيى النووي رضى الله عنه في «شرح مسلم» قال: في الحديث فضيلة المساجد الثلاثة وفضيلة شدّ الرحال إليها؛ لأنّ معناه عند جمهور العلماء: لا فضيلة في شدّها إلى مسجد غيرها.

وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: يحرم شدّها إلى غيرها، وهو غلط، ومرّ بيانه في باب سفر المرأة.

فصرّح بأن جمهور العلماء انما ذكروا ذلك في الفضيلة، وصرّح: بأنّه لا فضيلة في شدّ الرحال إلى مسجد غيرها، ولم يتعرّض للزيارة، ألبتّة.

قلت: وجزم الشيخ محيي الدين رضى الله عنه، بأنّ الشيخ أبا محمّد جزم بالتحريم.

وهو ممنوع، وإنّما تردّد في ذلك، فقال: ربما يحرم، وربما يُكره، واللَّه أعلم.

وقال- أعني النووي في «شرح مسلم» في باب سفر المرأة-:

«واختلف في شدّ الرحال وإعمال المطي إلى غيرها، لا الذهاب إلى قبور الصالحين والمواضع الفاضلة ونحو ذلك.

فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم، وهذا الذي أشار إليه عياض مختاراً له.

والصحيح عند أصحابنا، واختاره الإمام والمحقّقون لا يحرم ولا يكره.

والمراد: أنّ الفضيلة التامّة إنّما هي في شدّ الرحال إلى الثلاثة خاصّة». انتهى.

فذكر أوّلًا: أنّ جمهور العلماء إنّما ذكروا ذلك في الفضيلة.

وذكر ثانياً: أنّه قول المحقّقين، وأنّه لا يحرم ولا يكره، وأنّ المراد: أنّ الفضيلة

ص: 174

التامّة إنّما هي في شدّ الرحال إلى المساجد الثلاثة خاصّة، ولم يصرّح بقبور الأنبياء.

وقوله: «وأَنّ الفضيلة التامّة إنّما هي في شدّ الرحال إلى المساجد الثلاثة» يفيد أنّ شدّ الرحال إلى غير الثلاثة فيه فضيلة إلّاأنّها غير تامّة.

تقليد ابن تيمية حرام لا يجوز

وإذا علمت ذلك وما قرّره هذا العبد الصالح وما نقله، استفدت منه أنّه لا يجوز تقليد هذا الزائغ في نقله، ولا يرجع إليه في تقريره؛ لسوء فهمه وتدليسه، وسيأتي- إن شاء اللَّه تعالى- ما تقطع به بصحّة ما قلته بلا شكّ ولا تردّد.

كلام ابن قدامة في الزيارة

وأزيدك على ما ذكره النووي ما يؤكّد ما قلته:

قال ابن قدامة الحنبلي في كتابه «المغني»: «فصل: فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد.

قال ابن عقيل: لا يُباح له الترخيص؛ لأنّه منهيّ عن السفر إليها، قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:(لا تُشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد).

والصحيح إباحته وجواز القصر فيه؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يأتي قباء ماشياً وراكباً، وكان يزور القبور، وقال:(زوروها تُذكّركم الآخرة).

وأمّا قوله:(لا تُشدّ الرحال إلّاالى ثلاثة مساجد) فيحمل على نفي الفضيلة، لا على التحريم، وليس الفضيلة شرطاً في إباحة القصر، ولا يضرّ انتفاؤها». انتهى.

وفيه من الفوائد:

أنّه صرّح بأنّ الصحيح أنّ ذلك في نفي الفضيلة، وأنّ المنع إنّما نسبه إلى ابن عقيل فقط.

ص: 175

فأين قول ابن تيمية: «وطوائف كثيرون من العلماء المتقدّمين»؟!

وابن قدامة واسع الباع في الاطّلاع، فكيف يقتصر على ابن عقيل وحده ويترك طوائف كثيرة من العلماء المتقدّمين؟!

وهذه كتب الحنابلة وغيرها مشهورة، فأين النقل فيها عن المتقدّمين؟! وهذا ممّا يعرّفك أن ابن تيميّة يكذب في الإجماع.

ومن تتبّع ذلك وجده صحيحاً، وينقل في بعض الأحيان شيئاً، وهو كذب محقّق، وإذا نقل كلام الغير لم ينقله على وجهه، وإن نقله على وجه دسّ فيه ما ليس من كلام ذلك المنقول [عنه] (1).

فاعلم ذلك، وتنبّه، واحذر تقليده تهلك كما هلك.

وقول ابن عقيل: «لا يباح الترخيص لزيارة القبور؛ لأنّه منهيّ عن السفر إليها».

لم يصرّح بقبور الأنبياء، ولا بقبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يُعلم مراده.

وعلى تقدير إرادته ذلك فهو مخطى ء، وضعيف الإدراك في الاستدلال؛ ألا تراه اعتمد على الحديث.


1- هل الذي يبلغ في الخيانة في النقل إلى هذه الدرجة، يُعدّ من متوسّطي المؤمنين، فضلًا عن أفاضل العلماء، فضلًا عن الأئمة المجتهدين؟!

ص: 176

وما ابن عقيل؟!

وسيأتي- إن شاء اللَّه تعالى- أنّ الحديث لا دليل فيه إلّاعند عوامّ الفقهاء، وأنّ من تمسّك به فقد تمسّك بما لا يفيد.

حديث لا تشد الرحال و ألفاظه

ولا بدّ من ذكر ألفاظ الحديث لتتمّ الفائدة، وقد ورد بألفاظ مختلفة:

أشهرها:(لا تُشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى).

واللفظ الثاني:(تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد) من غير لفظ الحصر.

اللفظ الثالث:(إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء) وإيلياء بيت المقدس.

وهذه الروايات ذكرها مسلم في فضل المدينة من حديث أبي هريرة رضى الله عنه.

وذكر قبل ذلك في سفر المرأة من حديث أبي سعيد الخُدري رضى الله عنه:(لا تشدّوا الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى).

وهذا بصيغة النهي، والثلاثة الأُوَل بصيغة الخبر.

وبصيغة النهي رواه الطبراني من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما:(لا تشدّوا الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجد إبراهيم، ومسجد محمّد، ومسجد بيت المقدس).

وهذا اللفظ رواه ابن راهويه في مسنده من حديث أبي سعيد رضى الله عنه.

هذا ما يتعلّق بلفظ الحديث.

وأمّا ما يتعلّق بمعناه، وما يدلّ عليه.

ص: 177

فاعلم: أنّ الاستثناء في الحديث مُفرَّغ كما هو واضح، ولابدّ فيه من تقدير، وهو شيئان:

أحدهما: لا تُشدّ الرحال إلى مسجد إلّاإلى المساجد الثلاثة.

وعلى هذا فلا حجّة للخصم فيه.

والتقدير الثاني- لا تُشدّ الرحال إلى مكان إلّاإلى المساجد الثلاثة.

ولابدّ من تقدير أحد هذين؛ ليكون المستثنى مندرجاً تحت المستثنى منه.

والتقدير الأوّل- وهو لا تشدّ الرحال إلى مسجد- أولى من التقدير الثاني- وهو لا تشدّ الرحال إلى مكان- لأنّه على التقدير الأوّل جنس قريب؛ لما فيه من قلّة التخصيص؛ لأنّ التخصيص على تقدير إضمار الأمكنة أكثر، فيكون مرجوحاً.

ولو خطر بالبال تقدير العموم في الحديث لكان خيالًا فاسداً لسياقه، وللقرينة اللفظية فيه، ولدخول التخصيص بالأدلّة السمعيّة والعملية الكثيرة جدّاً:

أمّا سياقه: فلأنّ الحديث إنّما ورد لبيان شرف هذه المساجد الثلاثة وخِيْرتها (1) على غيرها من المساجد، كما مرّ من أنّها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهذا تُضاعف الأعمال فيها ما لا تُضاعف في غيرها، والمتكلّمون على الحديث إنّما يتكلّمون في ذلك ونحوه؛ من لزوم النذر المتعلّق بها، دون الزيارات.

ولهذا لمّا تكلّم بعض المتأخّرين على الحديث وأدرج ذكر الزيارة، اعترض عليه في ذكر الزيارة، وقيل: لم يرد الحديث لذلك، وإنّما ورد لبيان شرف هذه المساجد دون غيرها.

وهذا كافٍ في بطلان الاحتجاج بالحديث لمنع زيارة القبور، والزيادة على


1- قول المصنّف صواب ومعنى «خِيْرتها» فضلها. وفي هامش المطبوعة صوابه وخيريتها كمالا يخفى. انتهى مصححه.

ص: 178

ذلك إنّما هو على وجه التنزّل.

فمن احتجّ بالحديث لمنع الزيارة ينبغي أن لا يرسم في حزب الفقهاء ألبتّة؛ لما قرّرنا.

وإن قلنا بعموم اللفظ فكذلك؛ لأنّ وقائع الأعيان إذا تطرّق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال. وهذا في الاحتمال وإن كان فيه بعد، فما ظنّك بهذا الحديث، الذي لا احتمال فيه من لفظه؟!

وهو قرينة ظاهرة قويّة ولها شاهد ظاهر الدلالة، كما أذكره إن شاء اللَّه تعالى، ولا سيما وقد دخله التخصيص بالأدلّة السمعيّة والعملية، مع كثرة المخصّصات على اختلاف أنواعها: فمنها ما هو فرض عين، ومنها ما هو فرض كفاية، ومنها ما هو مندوب، ومنها ما هو قُربة، ومنها ما هو مباح. وصور هذه الأنواع لا تكاد تنحصر عدّاً.

فأمّا القرينة اللفظية فذكر المساجد الثلاث في الاستثناء وهو بعض المستثنى منه، وهذا قويّ جدّاً.

و «إلى» تكون بمعنى اللام إذ حروف الصلة ينوب بعضها عن بعض كما هو كثير في الكلام، فالمعنى لا تشدّ الرحال لمسجد إلّاللمساجد الثلاثة.

ويؤيّد هذا: أنّ رجلًا من التابعين قال لابن عمر رضي اللَّه عنهما: أُريد أن آتي الطور. قال:(إنّما تُشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومسجد الأقصى، ودع عنك الطور، فلا تأته).

فهذا عبداللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما من أجلّاء الصحابة رضي اللَّه عنهم، لم يتكلّم إلّافي شدّ الرحال إلى المساجد دون غيرها، وهو أعلم بالحديث وموارده ومصادره.

وعلى منواله تكلّم العلماء في شدّ الرحال بالنسبة إلى المساجد، وكذا ذكر

ص: 179

القاضي عياض في كتابه «الإكمال»، ولم يتعرّض لزيارة الموتى أصلًا، وليس في الحديث تعرّض لمنع الزيارة ألبتّة.

وبهذا وغيره يُعرف أنّ دعوى: أنّ الحديث يدلّ على منع الزيارة.

من كلام الجهلة العارين عن العلوم التي بها يصحّ الاستدلال والاستنباط، ومن سوء الفهم وبلادة الذهن وجموده.

وأَنّ مثل هذا لا يحلّ لأحد تقليده ولا الأخذ بقوله؛ لتحقّق جهله ببعض ما قرّرنا. ومن لم يجعل اللَّه له نوراً فماله من نور.

ومثل هذا لا يزال يتخبّط في ظلمة جهله هو وأتباعه، وباللَّه التوفيق.

وقوله في جواب الفتوى: ولو نذر أن يأتي مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو المسجد الأقصى؛ لصلاة أو اعتكاف، وجب الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد، ولم يجب عند أبي حنيفة؛ لأنّه لا يجب عنده بالنذر إلّاما كان من جنسه واجباً بالسمع... إلى آخره.

فقوله: «وجب الوفاء عند الشافعي» يوهم أنّ الشافعي جازم بذلك، وليس كذلك، بل هو قول مرجوح عند الشافعي، وعلّل: بأنّ مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسجد الأقصى لا يقصدان بالنسك، فأشبها سائر المساجد.

وقوله: «ولو نذر أن يصلّي في مسجد أو مشهد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إلى غير هذه المساجد الثلاثة، لم يجب ذلك باتّفاق الأئمة».

وهذا أيضاً ليس بصحيح، وما رأيت أجرأ منه على الفجور، ولا أكذب في دعوى الاتفاق والإجماع، وقصده بذلك الترويج على الأغمار، ولا عليه من غضب الجبّار.

وفي كلامه مسألتان:

الاولى: إذا نذر أن يصلّي في مسجد أو مشهد، أو يعتكف فيه؛ من غير

ص: 180

المساجد الثلاث. وقد حكى الاتّفاق على أنه لا يجب الوفاء بذلك، وهو البهتان البيّن.

ففي ذلك قولان آخران: أحدهما: يجب الوفاء مطلقاً، والثاني: إن نذرها في الجامع تعيّن، وإلّا فلا.

المسألة الثانية: إذا نذر أَن يسافر إلى غير هذه المساجد الثلاثة، فإنّها لا تجب عليه باتّفاق الأئمة.

ثمّ أردف ذلك بقول: «وأمّا السفر إلى بُقعة غير المساجد الثلاث، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره؛ حتّى نصّ العلماء على أنّه لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من المساجد الثلاث».

فانظر إلى هذه الجُرأة والفجور بقوله: «حتّى نصّ العلماء» والمسألة فيها خلاف، وقد قال الإمام محمد بن مسلمة المالكي: إذا قصد مسجد قباء لزمه؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يأتيه كلّ سبت راكباً وماشياً.

بل قال الليث بن سعد: إذا نذر المشي إلى أي مسجد كان؛ لزمه؛ سواء في ذلك المساجد الثلاثة وغيرها.

وقال الإمام ابن كج- من كبار أصحابنا-: إذا نذر أن يزور قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فعندي أنه يلزمه وجهاً واحداً، ولو نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ففيه قولان:

أحدهما لا يلزمه، والثاني يلزمه، فعلى هذا لابدّ من ضمّ عبادة، قيل: يلزمه صلاة.

وقيل: اعتكاف ولو لحظة، والصحيح أنّه يتخيّر في مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بين الصلاة وبين زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فجعل زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم طاعة، وهي أخصّ من القربة، وجعلها تقوم مقام الصلاة التي هي أفضل عبادات البدن، والمساجد موضوعة لها بالأصالة.

وقوله: وقالوا: لأنّ السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بِدعة، لم يفعلها

ص: 181

أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أَمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا استحبّ ذلك أَحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسُّنّة ولإجماع الأُمّة.

قلت: لمّا وقف بعض الأئمة على هذا الكلام الباطل، قال: هذا من البَهْت الصريح. وصدق رضى الله عنه لما أذكره، وفيه أيضاً تدليس من الفجور.

وبيان التدليس: قوله: «قالوا»:

فإنّه يوهم أنّ هذا الذي قاله لم يقله من عند نفسه، وإنّما نقله عن أئمة المسلمين، وأنّه مجمع عليه.

وهذا شأنه يدلّس في الإغراء ليحمل الناس على عقيدته الفاسدة المفسدة؛ لأنه لو عزاه إلى نفسه لما انتظم له ذلك؛ لعلم الحُذّاق النُّقّاد بسوء فهمه وكثرة خلطه؛ ممّا عرفوه منه في بحثه وتدوينه إذا انفرد.

فقوله: لأنّ السفر إلى قبور الأنبياء.

يشمل قبر الخليل والكليم وقبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وغيرهم.

وقوله: والصالحين.

يشمل قبور الصحابة رضي اللَّه عنهم وغيرهم، وهو مطالب بتصحيح ما عزاه إلى أئمة المسلمين، وأنّه مجمع عليه، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلًا، بل المنقول خلاف ذلك كما تراه.

وقوله: إنَّ السفر إلى قبور الأنبياء بدعة؛ لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين.

هذا من الفجور والإفك المبين.

زيارة قبر النبي سنة سائرة بين المسلمين

ولم تزل الناس على زيارة قبر الخليل والكليم وغيرهما في سائر الأعصار من

ص: 182

جميع الأمصار.

وهذا بلال- مؤذّن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم- سافر من الشام إلى المدينة الشريفة لزيارة قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وممّن ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر، والحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه «الإكمال» في ترجمة بلال.

وقال فيه: ولم يؤذّن لأحد بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم- فيما يروى- إلّامرّة واحدة في قَدْمة قدمها إلى المدينة؛ لزيارة قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، طلب إليه الصحابة رضي اللَّه عنهم ذلك، فأذّن لهم ولم يتمّ الأذان.

وقيل: إنّه أذّن لأبي بكر رضى الله عنه في خلافته. انتهى.

وممن ذكر ذلك أيضاً إمام الأئمة في الحديث أبو الحجّاج الشهير بالمِزّي (1).

وسبب سفر بلال رضى الله عنه لزيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- أنّه رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المنام، فقال له: ما هذه الجفوة يا بلال؛ أمّا آن لك أن تزورني يا بلال؟

فانتبه من نومه حزيناً وَجِلًا خائفاً، فقعد على راحلته من حينه، وقصد المدينة، فأتى قبره- عليه الصلاة والسلام- فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما إليه، فجعل يضمّهما ويقبّلهما ثمّ قالا له: يا بلال نشتهي أن نسمع أَذانك الذي كنت تؤذن للنبي صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد، فعلا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقف.

فلمّا أنْ قال: «اللَّه أكبر» ارتجّت المدينة، فلمّا قال: «أشهد أن لا إله إلّااللَّه» ازدادت رجّتها.

فلمّا قال: «أشهد أنّ سيّدنا محمّداً رسول اللَّه» خرجت العواتق من خُدورهنّ، وقالوا: أَبُعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فما رُؤي يوم أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة- بعد


1- المِزِّي- بكسر الميم وتشديد الزاي- نسبة إلى قرية بالشام. انتهى. مستنسخ الأصل.

ص: 183

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم- من ذلك اليوم.

فهذا بلال من سادات الصحابة رضي اللَّه عنهم قد شدّ رحله من الشام، وسافر لزيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- فقط، وأعلم بذلك الحسن والحسين، وطار بذلك الخبر في المدينة، وكان في خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ولم ينكر عليه ولا أحد من الصحابة رضي اللَّه عنهم.

ولو كان السفر لزيارة قبره مخالفاً للسنة ولإجماع الأُمّة لأنكروا عليه؛ لأنّهم ينكرون أدنى شي ء من المخالفات، ولا سيّما عمر وهو أمير المؤمنين، وأشدّ الناس في الإنكار وأبطشهم يداً، وأحدّهم لساناً ووقوفاً مع الحقّ، ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم.

وأيضاً فمن الشائع الذائع أنّ عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه، كان يُبرد البريد من الشام لأجل السلام على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فقط.

ذكر هذا غير واحد منهم القاضي عيّاض في أشهر كتبه وهو «الشفاء».

وذكره الإمام هبة اللَّه في كتابه «توثيق عُرى الإيمان».

وذكره الإمام العلّامة بن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن.

وذكره الإمام أبو بكر أحمد ابن النبيل في مناسك له لطيفة جرّدها من الأسانيد، والتزم فيها الثبوت، ولفظه: «وكان عمر بن عبدالعزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة، ليُقرِى ء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم السلام، ثمّ يرجع».

وهذا الإمام أبو بكر قديم تُوفّي في سنة سبع وثمانين ومائتين.

فهذا السيّد الجليل عمر بن عبدالعزيز يبعث الرجل لأجل السلام فقط، لا لقصد آخر، وكان ذلك في زمن صدر التابعين، وكان سفر بلال في زمن صدر الصحابة رضي اللَّه عنهم، ولم يُنكر عليه ذلك أحد، فدل على أنّ السفر لأجل زيارة

ص: 184

قبره صلى الله عليه و آله و سلم ولأجل السلام عليه، مجمع عليه بين الصحابة والتابعين.

فأين دعوى ابن تيميّة أنّ ذلك مخالف للسنّة ولإجماع الأُمّة.

وقد تقدّم قول عمر رضى الله عنه لكعب الأحبار: ألا تسافر لتزور قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وتتمتّع بزيارته؟! فقال: نعم يا أمير المؤمنين أفعل.

وهذا أو بعضه كافٍ في إبطال دعوى ابن تيميّة وإثبات فجوره.

وأتبرّع بزيادة، وأقتصر غاية الاقتصار:

قال بعض الأئمة: وأمّا زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فلم ينكرها أحد، ولم يقع في السفر إليها نزاع، ولم يزل سفر الحجيج إليه في السلف والخلف.

وصدق رضى الله عنه، وهذه كتب العلماء من جميع المذاهب مصرّحة بذلك.

وقد تقدّم قول القاضي عياض: زيارة قبره صلى الله عليه و آله و سلم سُنّة من سُنن المرسلين، ومجمع عليها ومرغّب فيها، واحتجّ بحديث ابن عمر وأنس رضي اللَّه عنهم، وقد ذكر غير القاضي عياض ما ذكره.

ابن تيمية من أعظم الكذبة والفجار

وإذا تقرّر ذلك، ففي ذكري ما أتبرّع به- مع غاية الاقتصار- تتحقّق أنّ ابن تيمية من أعظم الكَذَبة والفُجّار، وقد انكشف لك ذلك كما انكشف ضوء النهار:

فمن ذلك ما ذكره القاضي أبو الطيب- وهو من أئمة الشافعيّة- قال: ويُستحبّ أَن يزور قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن يحجّ ويعتمر.

وكيف يزور من غير سفر؛ سواء كان راكباً أو ماشياً؟!

وقال المحاملي في كتابه «التجريد» ويستحب للحاج إِذا فرغ من مكّة أن يزور قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم انتهى.

وقال الحليمي في كتابه «المنهاج»، عند ذكر تعظيم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وذكر جملة، ثمّ

ص: 185

قال: وهذا كان من الذين رُزقوا مشاهدته وصحبته، وأمّا اليوم فمن التعظيم بيان تعظيمه وزيارته.

وقال الماوردي في كتابه «الحاوي»: أمّا زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فمأمور بها ومندوب إليها.

وقال في كتابه «الأحكام السلطانية» في باب الولاية على الحجيج، وذكر كلاماً يتعلّق بأمير الحاجّ، ثمّ قال: وإذا قضى الناس الحجّ أمهلهم الإمام الأيّام التي جرت عادتهم بها، فإذا رجعوا سار بهم على طريق المدينة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم؛ ليجمع بين حجّ بيت اللَّه- عزّوجلّ- وزيارة قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ رعاية لحرمته، وقياماً ببعض حقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحجّ، فهو من مندوبات الشرع المستحبّة وعبادات الحجيج المستحسنة (1).

فتأمّل هذه العبارة من هذا الإمام، وما اشتملت عليه من الفوائد الجليلة.

وقال الإمام العلّامة- المتّفق على دينه وكثرة علومه وعُلُوّ قدره- الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: ويستحبّ زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وذكر القاضي حسين نحوه، وكذا الروياني.

ولا حاجة إلى الإطالة بذكر من قال بزيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- سواء في ذلك قبل الحجّ أو بعده.

وذكر السير إليه كثير من أصحاب الشافعي، من جملتهم السيّد الجليل أبو زكريا يحيى النووي- قدّس اللَّه روحه- قال في كتابه «المناسك وغيرها»: «فصل:

في زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سواء كان ذلك على طريقه أم لا، فإنّ زيارته صلى الله عليه و آله و سلم من أهمّ الُقرّبات وأربح المساعي وأفضل الطلبات» انتهى.


1- الأحكام السلطانية للماوردي: ص 109 الباب العاشر.

ص: 186

زيارة قبر النبي من أفضل المندوبات

وإذا عرفت هذا فأتبرّع إليك بزيادة أُخرى مع زيادة فائدة:

قال الحنفية: إنّ زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من أفضل المندوبات والمستحبّات، بل تقرب من درجة الواجبات.

وممّن صرّح بذلك الإمام أبو منصور محمّد الكرماني في مناسكه، والإمام عبداللَّه بن محمود في شرح المختار.

وقال الإمام أبو العبّاس السروجي: وإذا انصرف الحاجّ من مكّة- شرّفها اللَّه تعالى- فليتوجّه إلى طِيبة مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لزيارة قبره، فإنها من أنجح المساعي.

وكلامهم في ذلك يطول.

كلمات أئمة الحنابلة في استحباب زيارة قبر النبي

وأتبرّع بزيادة هي أبلغ في تكذيب هذا الفاجر؛ لأنّها من كلام أئمّة الحنابلة:

قال ابن الخطاب محفوظ الكلواذي الحنبلي- في كتابه «الهداية» في آخر باب صفة الحجّ-: استُحبّ له زيارة قبره صلى الله عليه و آله و سلم وصاحبيه.

وفيه فائدة، وهي استحباب شدّ الرحال الى زيارة الصدّيقين رضي اللَّه عنهما.

وقال الإمام أحمد بن حمدان في «الرعاية (1) الكبرى»: ويستحبّ لمن فرغ من نُسكه زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقبر صاحبيه رضي اللَّه عنهما، وذلك بعد فراغ الحجّ وإن شاء قبله.

وذكر نحو ذلك غيرهم، ومنهم الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتابه «مثير


1- هي الدعاية بالدال. انتهى. مصحّحه.

ص: 187

الغرام»، وعقد له باباً في زيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- واستدلّ بحديث ابن عمر وأنس رضي اللَّه عنهم.

وذكر ابن قدامة في «المُغني» فصلًا في ذلك، فقال: يستحبّ زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، واستدلّ بحديث ابن عمر وأبي هريرة رضي اللَّه عنهم.

ولا أُطوّل بذكري من ذكره من أئمة الحنابلة تبعاً لإمامهم رضي اللَّه عنهم.

القول بوجوب زيارة قبر النبي

وأتبرّع بزيادة لفوائد جمّة ومهمّة:

فمن ذلك ما في كتاب «تهذيب الطالب» لعبد الحقّ الصقلي عن أبي عمران المالكي: أنّ زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واجبة.

وقال عبدالحقّ في هذا الكتاب: رأيت في بعض المسائل التي سُئل عنها أبو محمد بن أبي زيد، قيل له في رجل استؤجر بمال ليحجّ به، وشرطوا عليه الزيارة، فلم يستطع تلك السنة أن يزور لعذر منعه من ذلك؟ فقال: يردّ من الأُجرة بقدر مسافة الزيارة، وهي مسألة حسنة.

وفي كتاب النوادر لأبن أبي زيد فائدة أُخرى، فإنّه بعد أن حكى في زيارة القبور من كلام ابن حبيب ومن المجموعة عن مالك ومن كلام القرْطي- بإسكان الراء وبالطاء المهملتين- ثمّ قال عقبة (1): ويأتي قبور الشهداء بأُحُد ويسلّم عليهم، كما يسلّم على قبره صلى الله عليه و آله و سلم وعلى صاحبيه، وفي الكتاب المذكور.

ويدلّ على التسليم على أهل القبور ما جاء في السُّنّة والتسليم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما مقبورين.


1- هي عقبة بالقاف، لا بالتاء. انتهى. مصحِّحه.

ص: 188

وقال العبدي المالكي في «شرح الرسالة»: إنّ المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أفضل من المشي إلى الكعبة وبيت المقدس.

وصدق وأجاد رضى الله عنه؛ لأنّه أَفضل البقاع بالإجماع.

فهذه نُبذة يسيرة، والنقول في ذلك كثيرة جداً، وفيها الإجماع على طلب الزيارة بعدت المسافة أو قصرت، وعمل الناس في ذلك في جميع الأعصار من جميع الأقطار.

تجاسر السلفية علي وفد الله تعالي و ضيوف الرحمن

فكيف يحلّ لأحد أن يبدعهم بالقول الزور، ويضلّل أئمّة أُمّة المختار؟!

بل من المصائب العظيمة أنْ يوقع وفد اللَّه تعالى في جريمة عظيمة، وهي عصيانهم بشدّ رحالهم لزيارة قبره عقب ما رجوه من المغفرة وبتركهم الصلاة التي هي أحد أركان الدين؛ لأنّهم إذا لم يَجُزْ لهم القصر وقصّروا، فقد تركوا الصلاة عامدين، ومن تركها متعمّداً قُتل إمّا كفراً وإما حدّاً.

ولا يصدر هذا إلّاممّن هو شديد العداوة لوفد اللَّه تعالى، ولحبيبهم الذي (1) يرتجون بزيارتهم له استحقاق الشفاعة التي بها نجاتهم.

حكم ابن تيمية علي مجموعة من أحاديث الزيارة بالوضع والكذب

وسأذكر عقب هذا، الأدلّةَ الخاصة بالحثّ على زيارته، وأتعرّض لما قدح فيها وفي الأئمة رواتها.

ومنه تعلم أنّ هذا الخبيث لا دين له يعتمد عليه، فتراه واضحاً جلياً لا تشكّ فيه ولا ترتاب.


1- «الذي» بالإفراد انتهى. مصحِّحه.

ص: 189

فنسأل اللَّه تعالى العافية ممّا يرتكبه هذا الزائغ الفاجر الكذّاب.

وأن يذيقه أشدّ العذاب، على ما أفسد في هذه الأُمّة، وسيلقى أشدّ الحساب.

وقوله: «إنّ ما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فكلّها ضعيفة باتّفاق أهل العلم، بل هي موضوعة لم يروِ أحدٌ من أهل السُّنَن المعتمدة شيئاً منها».

أعوذ باللَّه من مكر اللَّه عزّوجلّ. أنظر- أدام اللَّه لك الهداية، وحماك من الغواية- إلى فجور هذا الخبيث، كيف جعل الأحاديث المرويّة في زيارة قبر خير البريّة كلّها ضعيفة.

ثمّ أردف ذلك بقوله: «باتّفاق أهل العلم بالحديث»، ولم يجعل الأئمّة الذين أذكرهم من أهل الحديث؟!

والعجب أنّه روى عنهم في مواضع عديدة من كتبه، وهذا من جهله وبلادة ذهنه وعماءة قلبه؛ من أنّه لا يعلم تناقض كلامه ونقضه بذلك.

ثمّ إنّه لم تخمد نار خبثه بما ذكره من الفجور، حتّى أردف ذلك: بأنّ الأحاديث المرويّة في زيارة القبر المكرّم موضوعة؛ يعني أنّها كذب.

وهذا شي ء لم يُرَ أحد من علماء المسلمين ولا من عوامّهم فاه به، ولا رمز إليه؛ لا مَن في عصره ولا مَن قبله- قاتله اللَّه تعالى-.

ولقد أسفرت هذه القضيّة عن زندقته بتجرّئه على الإفك على العلماء، وعلى أنه لا يعتقد حرمة الكذب والفجور، ولا يُبالي بما يقول، وإن كان فيه عظائم الأُمور.

التحذير من تقليد ابن تيمية

وإذا عرفت هذا، فينبغي أيّها المؤمن- الخالي من البِدْعة والهوى- أن لا تقلّده

ص: 190

فيما ينقله، ولا فيما يقوله، بل تفحص عن ذلك، وتسأل غير أتباعه ممّن له رتبة في العلوم، وإلّا هلكت كما هلك هو وأتباعه (1).

احاديث في زيارة قبر النبي

ولنذكر بعض الأحاديث الواردة في زيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- وأذكر من رواها، وأحذف الأسانيد؛ لأنّها لا تليق بهذه الأوراق، وقد رُويت من طُرُق بلغت بهامنزلة الصحيح أوقاربت، أو منزلة الحسن، وأذكر من صحّح بعضها، وأُبيّن أنّه من الأئمّة الأعلام بالحديث، وأنه يُعتمد بتصحيحه، وباللَّه التوفيق (2):

فمن الأحاديث في زيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- قوله صلى الله عليه و آله و سلم:(من زار قبري وجبت له شفاعتي).

رواه غير واحد من أئمّة الحديث، منهم الدارقطني والبيهقي وغيرهما، والحديث مرويّ بهذا اللفظ في عدّة نسخ معتمدة، وهو من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما. وخرّجه أبو اليمن في كتابه «إيجاف (3) الزائر وإطراف المغنم للسائر في زيارة سيّدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم».

وخرّجه الحافظ ابن عساكر في «تاريخه» في زيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- بعد وفاته كان كمن زاره في حياته.

وخرّجه العقيلي وغيره، فلا نطوّل بذكر من رواه من أئمّة الحديث المعتبرين


1- لعلّك في دهشة ممّا مرّ مفصّلًا من تعمّد كذب هذا الرجل في نقوله وأحكامه؛ حتّى تعدّى كذبُه الخلقَ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم. انتهى. مصحِّحه.
2- تجد تفصيل الكلام عن هذه الأحاديث متناً وسنداً وبحثاً حول رواتها في(شفاء السقام) للإمام السبكي، فراجعه.
3- لا أدري أهو إيجاف- كما ذكره- أم إتحاف. انتهى. مصحِّحه.

ص: 191

وهو مرويّ من طرق تبلغ الحسن.

قال أئمّة الحديث: والحديث أو الأحاديث وإن لانت أسانيد مفرداتها، فمجموعها يُقوّي بعضها بعضاً، ويعتبر الحديث حديثاً حسناً، ويحتجّ به.

وممّن ذكر ذلك أبو زكريّا النووي، ذكره في «شرح المهذّب» في كتاب الحجّ.

وهي فائدة جليلة ينبغي معرفتها؛ ليعلم بها جهل هذا الفاجر المبالغ في فجوره.

وقوله- عليه الصلاة والسلام-:(وجبت له شفاعتي) معناه حقّت، ولابدّ منها بوعده الصادق، وفي ذلك بشارة عظيمة لزوّار قبره الشريف، وهي أنّ من زاره محتسباً مات على التوحيد، وهذه البشارة العظيمة من ثمرة زيارة قبره المكرّم.

وفي قوله- عليه الصلاة والسلام-:(وجبت له شفاعتي) تحقيق لما قلته، لأجل إضافة الشفاعة إليه، ولأنّه- عليه الصلاة والسلام- مُشفَّع لا تردّ شفاعته؛ لا في حياته، ولا بعد وفاته، ولا في عرصات القيامة.

وقال- عليه الصلاة والسلام-:(من زار قبري حلّت له شفاعتي).

رواه الحافظ البزّار في مسنده، وهو بهذا اللفظ في نسخة معتمدة، وسمعها الحافظ أبو الحسين الصدفي على الإمام أبي عبداللَّه مورتش (1) سنة ثمانين وأربعمائة.

ومعنى «حلّت» وجبت، وقد عزى عبدالحقّ هذا الحديث إلى البزّار والدارقطني.

وقال- عليه الصلاة والسلام-:(من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي).

رواه الدارقطني في سُننه وغيرها.


1- هو فرتس كما في الأصل. انتهى. مصحِّحه.

ص: 192

وفي رواية:(ومن مات بأحد الحرمين بُعث في الآمنين يوم القيامة).

ورواه غير واحد، وهو من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما، ورُوي من طرق.

ورواه الحافظ بن عدي في كتابه «الكامل» بزيادة، قال- عليه الصلاة والسلام-:(من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني)، وذكر البيهقي في سننه: أنّه ذكره ابن عدي، وخرّجه هو بدون هذه الزيادة، وخرّجه الحافظ بن عساكر من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: قال- عليه الصلاة والسلام-:(من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي) زاد السهمي(وصحبني) ورواه الحافظ ابن الجوزي بهذه الزيادة.

وقال عليه الصلاة والسلام:(من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني).

رواه ابن عديّ في كتابه «الكامل» وغيره.

وهو من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما، وخرّجه الدارقطني في أحاديث مالك التي ليست في المُوطَّأ، وهو كتاب ضخم.

وقال ابن الجوزي: إنّ هذا الحديث موضوع، وقد نُسب ابن الجوزي في ذلك إلى السرف، فاعرف ذلك.

وقال عليه الصلاة والسلام:(من زار قبري أَو زارني كنتُ له شفيعاً أو شهيداً).

رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وهو من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما، ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، ورواه البيهقي وابن عساكر من جهة الطيالسي.

وروي بزيادة: قال أبو داود الطيالسي: حدّثنا سوار بن ميمون أبو الفرج العبدي، قال: حدّثني رجل من آل عمر رضي اللَّه عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:(من زار قبري- أو قال: من زارني- كنت له شفيعاً أَو شهيداً، ومن مات في أَحد الحرمين بعثه اللَّه في الآمنين يوم القيامة).

ص: 193

وقال عليه الصلاة والسلام:(من زارني متعمّداً كان في جواري يوم القيامة).

رواه أبو جعفر العقيلي وغيره، ومنهم الحافظ ابن عساكر.

وفي رواية السحاي (1)، قال: حدثنا هارون بن قزعة، عن رجل من آل الخطاب، عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، قال:(من زارني متعمّداً كان في جواري يوم القيامة، ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بُعث في الآمنين يوم القيامة).

ومن هو في جواره فهو في الآمنين لا محالة صلى الله عليه و آله و سلم.

وقال عليه الصلاة والسلام:(من حجّ حجّة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلّى في بيت المقدس، لم يسأله اللَّه فيما افترض عليه).

ورواه الحافظ أبو الفتح الأزدي في فوائده.

وهذا أبو الفتح اسمه محمد بن الحسين، وكان حافظاً من أهل العلم والفضل، وصنّف كُتُباً في علوم الحديث. ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه، وابن السمعاني في الأنساب، وأثنى عليه محمد بن جعفر بن غيلان، وذكره في الحفظ وحسن المعرفة بالحديث.

وقال عليه الصلاة والسلام:(من زارني محتسباً كنت له شفيعاً أو شهيداً).

وفي رواية:(من زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة).

وهو من رواية أنس رضى الله عنه، ورواه غير واحد، وممّن ذكره ابن الجوزي في كتابه «مثير الغرام الساكن» وهو من طريق ابن أبي الدنيا، وروي من طرق.

وقال عليه الصلاة والسلام:(من زارني ميّتاً فكأنّما زارني حيّاً، ومن زارني وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أُمّتي له سعة، ثمّ لم يزرني، فليس له عذر).


1- في الأصل «السحامي». انتهى. مصحِّحه، والظاهر أنّه: الشحامي.

ص: 194

رواه الحافظ أبو عبداللَّه محمد بن محمود النجار في كتابه الدُّرّة اليتيمة في فضائل المدينة.

وعن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما أنّه- عليه الصلاة والسلام- قال:(من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زار قبري حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً).

خرّجه العقيلي، ورواه ابن عساكر من جهته إلّاأنّه قال:(من زارني في المنام كان كمن زارني في حياتي) وهي فائدة جليلة.

وعن عليّ- كرم اللَّه وجهه- أنّه- عليه الصلاة والسلام- قال:(من زار قبري بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني).

رواه الحسن بن يحيى بن جعفر في كتاب «أخبار المدينة».

ورواه الحافظ أبو عبداللَّه بن النجار في كتابه «الدُّرّة اليتيمة».(من لم يزرني فقد جفاني).

ورواه الحافظ أبو سعيد عبدالملك بن محمّد النيسابوري في كتابه «شرف المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم»، وهذا الكتاب في ثمان مجلّدات.

وأبو سعيد هذا له مصنّفات في علوم الشريعة. تُوفّي سنة ستّ وأربعمائة بنيسابور، وقبره بها مشهور ويتبرّك به، وكان ينتفع بكلامه وبوعظه، وتنجلي بكلامه القلوب قدّس اللَّه روحه ونوّر ضريحه.

وقال عليه الصلاة والسلام:(من جاءني زائراً لا تحمله حاجة إلّازيارتي، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)، وفي رواية:(من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلّازيارتي).

رواه غير واحد من الأئمّة الحفّاظ المشهورين من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما، ومنهم الطبراني في «معجمه الكبير»، ومنهم الدارقطني في «أماليه»، ومنهم

ص: 195

أبو بكر بن المقري في «معجمه»، ومنهم العلّامة الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن، ذكره في كتابه المسمّى ب «الصحاح المأثورة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم».

يا هذا انتبه لما أذكره: قال في خطبة كتابه هذا: «أمّا بعدُ فإنّك سألتني أن أجمع لك ما صحّ عندي من السُّنن المأثورة، التي نقلها الأئمّة من أهل البلدان، الذين لا يطعن فيهم طاعن؛ ممّا نقلوه، فتدبّرتُ ما سألتني عنه، فوجدتُ جماعة من الأئمّة قد تكلّفوا ما سألتني من ذلك، وقد وعيتُ جميع ما ذكروه، وحفظتُ عنهم أكثر ما نقلوه، واقتديتُ بهم، وأجبتُك إلى ما سألتني من ذلك، وجعلتُه أبواباً في جميع ما يحتاج إليه في أحكام المسلمين، فأوّل من نصب نفسه لطلب الصحيح البخاري، وتابعه مسلم وأبو داود والنسائي، وقد تصفّحت ما ذكروه وتدبّرتُ ما نقلوه، فوجدتهم مجتهدين فيما طلبته، فما ذكرته في كتابي هذا مجملًا فهو ممّا أجمعوا على صحّته، وما ذكرته بعد ذلك ممّا اختاره أحد الأئمة الذين سمّيتهم، فقد ثبتت حجّته في قبول ما ذكره، ونسبتُه إلى اختياره دون غيره، وما ذكرته فيما ينفرد به أحد أهل النقل للحديث، فقد بيّنتُ علّته، ودللتُ على انفراده دون غيره، وباللَّه التوفيق».

انتهى.

فانظر- أرشدك اللَّه تعالى- هذا الاتّفاق من هذا الإمام، والحرص على تحقيق ما وضعه في كتابه؛ لم يقنع بوضع البخاري ومسلم وغيرهما مع جلالتهم، بل تتبّع ما وضعوه حتّى وضع في كتابه.

وهذا شأن الأئمّة الخائفين من اللَّه- عزّوجلّ- من أن يقع منهم زلل في الإخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ثمّ إنّه رضي اللَّه تعالى عنه ذكر في هذا الكتاب- في كتاب الحجّ في باب ثواب من زار قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

(من جاءني زائراً لم ينزعه إلّازيارتي كان حقّاً على اللَّه أن أكون له شفيعاً يوم

ص: 196

القيامة).

ولم يذكر في هذا الباب غير هذا الحديث، وهذا حكم منه بأنّ هذا الحديث مجمع على صحّته بمقتضى الشرط الذي شرطه في الخطبة.

وهو رضى الله عنه إمام جليل، حافظ مُتقِن، كثير الحديث، واسع الرحلة؛ سمع بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وسمع بالشام ومصر، وسمع من خلائق من أئمّة الحديث والأجلّاء أهل الدين، وهو من القدماء أصله بغداديّ، وسكن مصر، ومات بها في نصف المحرّم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة رحمة اللَّه تعالى عليه وعلى أمثاله.

وإذا كان هذا حديثاً صحيحاً فكيف يحلّ لأحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يجعله ضعيفاً، فضلًا عن أن يجعله كذباً؟!

وأقلّ درجات الثقة الخائف أن يقول: صحّحه فلان، وأمّا القول بوضعه وبتكذيب هذا الإمام وأمثاله، فلا يصدر إلّامن زنديق محقّق الزندقة بهذه القرينة وغيرها.

عائذاً باللَّه- عزّوجلّ- من ذلك.

طعن ابن تيمية في الأئمة والأحاديث المروية

وإذا تقرّر لك ذلك، فانظر- أرشدك اللَّه تعالى وعافاك- هذا الخبيث الطويّة كيف طعن في هذه الأئمّة الأعلام في علوم الحديث، الذين بهم يُقتدى، وعليهم يُعوّل، وعند ذكرهم تتنزّل الرحمة.

ورماهم بالوضع على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وطعن في هذه الأخبار المرويّة عن هذه الأئمة.

وهذا شأنه- قاتله اللَّه تعالى- كلّما جاء إلى شي ء لا غرض له فيه، طعن فيه وإن كان مشهوراً ومعمولًا به بين الأئمّة.

ص: 197

ولا عليه لا من اللَّه- عزّوجلّ- ولا من رسوله صلى الله عليه و آله و سلم، ولا من الناس.

وتنبّه لشي ء عظيم رمى به هذه الأئمّة: وهو أنّ من قاعدته أنّ من كذب على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم متعمّداً كفر، فعليه من اللَّه- عزّوجلّ- ما يستحقّه.

وهذا وغيره يدلّ على أنّ عنده ضغينة للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولصاحبيه، وكذا لأُمّته؛ ليفوّت عليهم هذا الخبر الذي رتّبه على زيارة قبره- عليه أفضل الصلاة والسلام-.

فاحذروه، واحذروا تزويق مقالته المطويّ تحتها أخبث الخبائت، فإنّها لا تجوز إلّاعلى عامّيّ أو بليد الذهن، كالحمار يحمل أسفاراً، أو خالٍ من العلوم وأخبار الناس.

وباللَّه تعالى التوفيق، واللَّه أعلم.

قال عليه الصلاة والسلام:(إنّ بين يدي الساعة دجاجلة (1) فاحذروهم).

رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سَمُرة رضى الله عنه.

وقوله: «وفي الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال في مرض موته:(لعن اللَّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذّر ما فعلوا. قالت عائشة:

ولولا ذلك لأبرزوا قبره، ولكن كره أن يُتّخذ مسجداً، فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحاري؛ لئلّا يصلّي أَحد عند قبره ويُتّخذ مسجداً، ويُتّخذ قبره وثناً...» إلى آخره.

احتجاج ابن تيمية علي منع الزيارة و تدليسه في كلامه

تأمّل- بصّرك اللَّه تعالى وفهّمك- كيف بعد تضليل هذه الأئمة وفجوره؛


1- هذا إخبار من المصنّف بأنّ هذا الرجل دجّال وهو يؤيّد ما سبق لنا من أنّ أفعاله أفعال دجاجلة. انتهى. مصحِّحه.

ص: 198

بادّعاء أنّ هذه الأحاديث المتعلّقة بالزيارة كذب.

كيف أَردف ذلك بهذا الحديث؛ محتجّاً به على منع زيارة القبر الشريف.

وفيه من أقوى الأدلّة على تدليسه وسوء فهمه؛ إذ الحديث ليس فيه تعرّض للزيارة ألبتّة، وإنّما فيه منع اتّخاذ القبور مساجد.

ونحن لم نتّخذ قبره المكرّم المعظّم مسجداً، ولا نصلّي فيه ولا إليه، بل نزوره وندعو مع الأدب والخشوع والسكينة ورؤية العظمة؛ لعلمنا بأنّه يسمعنا ويجيبنا، وعلى ذلك جرت عادة المؤمنين.

قال بعضهم: رأيت أَنس بن مالك رضى الله عنه خادم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أتى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فوقف فرفع يديه حتّى ظننت أنّه قد افتتح الصلاة، فسلّم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ انصرف.

وقوله: «فهم دفنوه في حجرة عائشة رضي اللَّه عنها خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحاري؛ لئلّا يصلّي أحد عند قبره، ويُتّخذ مسجداً، فيُتّخذ قبره وثناً».

هذا أيضاً من التدليس منه وسوء الفهم على عادته، وما قاله باطل يموّه به على الضعفاء من الطلبة وغوغاء الناس.

وإنّما دفنوه في حجرة عائشة رضي اللَّه عنها؛ لما رُوي لهم أنّ الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- يدفنون حيث يُقبضون.

وكان ذلك بعد اختلافهم أن يدفن؟ فقال بعضهم: يُدفن في مسجده، وقال بعضهم: مع إخوانه.

فقال أبو بكر رضى الله عنه: عندي من ذلك علم فذكر لهم: أنّ النبي يُدفن موضع يقبض، فلمّا روى لهم الحديث دفنوه موضع قبضه.

وهذا من القضايا المشهورة في غاية الشهرة، ولا نعلم أنّ أحداً قال: إنّهم

ص: 199

دفنوه موضع قبضه للمعنى الذي ذكره.

وهذا شأنه إن وجد شيئاً يوافق هواه وخبث طويّته، ذكره ووسّع الكلام فيه وزخرفه، وإن وجد شيئاً عليه أهمله، أو حمله على محمل يعرف به أهل النقل جهله وتدليسه عند تأمّله، وفي بعض المواضع يُعرف من غير تأمّل.

وقوله: وكانت الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد لا يدخل للصلاة هناك، ولا يتمتّع بالقبر، ولا دعاء هناك».

هذا أيضاً من الجسارة التي يُزخرف بها على العوامّ وأشباههم من سيّئي الأفهام من الطلبة، فإنّ هذا لا يدلّ على مراده من منع الزيارة، بل كلامه يدلّ على الزيارة بلا هذه الأفعال إلّاالدعاء، فليس كما قال، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى.

ومع ذلك ليس مجمعاً عليه، كما زعمه وأوهمه كلامه.

فإنّ أبا أيوب الأنصاري رضى الله عنه زار والتزم القبر، فأنكر عليه مروان بن الحكم، فوبّخه أبو أيوب، وقال في كلامه ما معناه: أُبكوا على هذا الأمر إذا وليه غير أهله (1).

ذكر ذلك أبو الحسين في كتابه «أخبار المدينة».

وروى عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أنّه وضع يده على موضع مقعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من المنبر، ثمّ وضعها على وجهه (2).

وكان رضى الله عنه يتردّد إلى الأماكن التي كان يتردّد إليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وبراحلته لأجل التبرّك.


1- في ذلك جواز ضمّ قبور الصالحين، وأبو أيّوب الأنصاري الذي ضمّ ضريح سيّد الوجود صلى الله عليه و آله و سلم، هو أبو أيّوب وكفى. انتهى مصحِّحه.
2- في ذلك جواز التبرّك بآثار الصالحين أيّاً كانت حتّى الخشب الذي كانوا يجلسون عليه، وابن عمر هو ابن عمر. انتهى. مصحِّحه.

ص: 200

وقد تقدّمت قصّة بلال رضى الله عنه لمّا شدّ رحله لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام، فلمّا وصل الضريح المكرّم جعل يمرّغ وجهه عليه ويبكي (1).

وقوله: «ولا دعاء هناك».

قضيّة سياقه أنّ الإجماع على أنّه لا يدعو عند القبر، وهي دعوى عريضة.

ثمّ أكّد ذلك بقوله: «إنّما يفعلونه في المسجد».

ثم أردف ذلك بقوله: «وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه، وأرادوا الدعاء، دعوا مستقبلي القبلة، ولم يستقبلوا القبر».

ثمّ قال: وأمّا وقت السلام فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة ولا يستقبل القبر، وقال أكثر الأئمّة: يستقبل القبر عند السلام خاصّة، ولم يقل أحد من الأئمّة: إنّه لا يستقبل القبلة عند الدعاء إلّافي حكاية مكذوبة عن مالك، ومذهبه بخلافها.

ثمّ أردف هذا بأُمور يجسر بها على الأغمار، يتخيل الواقف عليها من العوامّ حسم باب الزيارة لقبره عليه الصلاة والسلام.

والحاصل من كلامه: أنه لا يُدعى عند القبر بالاتّفاق، ولا يُستقبل القبر عند


1- انظر تمريغ سيّدنا بلال وجهه على ضريح خير الخلق، وبلال هو بلال، تجده صورة طبق الأصل لما يحصل من كثير من الزائرين اليوم والزائرات للصالحين من أهل البيت وغيرهم، ويقوم ويقعد كثير من المتنطّعين لذلك، ولا يرضون لفاعله غير الشرك باللَّه، ليحكموا بذلك على بلال الذي يُعدّ من أجلّاء الصحابة، وهو مؤذّن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم. ليعلم أولئك المتنطّعون أنّ ذلك أثر وجد في النفوس لا يشعرون هم به، يحمل أهله على التبرّك بما يجاور حبيب ربّهم، وهو من باب قول القائل:

ص: 201

الدعاء بالإجماع، وأَنّ الحكاية التي وقعت بين مالك وأبي جعفر المنصور كذب.

سبحانك هذا بهتان عظيم، وهذا من الفجور الذي لا أَعلم أحداً فاه به، ولا رمز إليه؛ لا من العلماء ولا من غيرهم.

أما قضيّة مالك مع المنصور فقد ذكرتها في الكلام على التوسّل، فإنّها صحيحة بلا نزاع.

وأَما الدعاء عند القبر فقد ذكره خلق، ومنهم الإمام مالك، وقد نصّ على أنّه يقف عند القبر، ويقف كما يقف الحاجّ عند البيت للوداع، ويدعو، وفيه المبالغة في طول الوقوف والدعاء، وقد ذكره ابن المواز في الموازية.

فأفاد ذلك: أَنّ إتيان قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والوقوف عنده والدعاء عنده من الامور المعلومة عند مالك، وأنّ عمل الناس على ذلك قبله وفي زمنه، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لأنكره، فضلًا عن أن يُفتي به، أَو يُقرّه عليه.

وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر، لا إلى القبلة، ويدعو ويسلّم، ولا يمسّ القبر بيده.

نعم في «المبسوطة»: لا أَرى أنّه يقف عنده ويدعو، ولكن يسلّم ويمضي.

وإنّما ذكرت كلام «المبسوطة» لأنّ من حقّ العالم الذي يؤخذ كلامه أن يذكر ما له وما عليه؛ لأنّ ذلك من الدين.

وقال أبو عبداللَّه محمّد بن عبداللَّه السامري في كتاب «المستوعب» في باب زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «وإذا قدم مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم استُحبّ له أن يغتسل لدخوله، ثمّ يأتي مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويقدّم رجله اليمنى في الدخول، ثمّ يأتي حائط القبر، فيقف ناحيته، ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره، ثمّ ذكر كيفية السلام والدعاء وأطال، ومنه: اللّهمّ إنّك قلت في كتابك لنبيّك- عليه الصلاة والسلام-: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ الآية، وإنّي

ص: 202

قد أتيتك مستغفراً، فأسألك أن توجب لي المغفرة، كما أوجبتها لمن أتاه في حال حياتهِ اللّهمّ إنّي أتوجه إليك بنبيّك» وذكر دعاء طويلًا، ثم قال: وإذا أراد الخروج عاد إلى القبر فودّع».

وهذا أبو عبداللَّه من أئمة الحنابلة، وساق هذا الكلام سياق المتّفق عليه. ومن جملة ما أفاد: أنّه يتوسّل بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ويتوجّه به بعد وفاته كما في حياته، وأنّ الآية عامّة وشاملة للحياة وبعد الوفاة، فتنبّه لذلك.

وكذلك ذكره أبو منصور الكرماني من الحنفية: أنّه يدعو ويُطيل الدعاء عند القبر المكرّم.

وقال الإمام أبو زكريا النووي في مناسكه وغيره: فصل في زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وذكر كلاماً مطوّلًا، ثمّ قال: «فإذا صلّى تحيّة المسجد أتى القبر، فاستقبله واستدبر القبلة على نحو أربعة أذرع من جدار القبر، وسلّم مقتصداً لا يرفع صوته»، وذكر كيفيّة السلام، ثمّ قال: «ويجتهد في إكثار الدعاء، ويغتنم هذا الموقف الشريف...» إلى آخره.

فهذه نُقُول الأئمّة بتطويل الدعاء عند القبر المكرّم، وقد خاب من افترى وكلّ أحد تلحقه الخيبة على قدره.

وقوله: «وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك باللَّه اتّخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: لَاتَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقْدْ أَضَلُّوا كَثِيراً.

قالوا: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح، فلمّا ماتوا اعتكفوا على قبورهم ثمّ صوّروا على صورهم تماثيل، ثمّ طال عليهم الأمد فعبدوها.

وقد ذكر ذلك المعنى البخاري في صحيحه عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما، وذكره ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره عن غير واحد من السلف...»

ص: 203

إلى آخره.

وأنت- أيّها اللبيب أرشدك اللَّه عزّوجلّ وزادك بصيرة وفهماً- إذا تأمّلتَ هذا الاستدلال منه قطعت بجهله وبخلطه في خبطه، وعلمت بذلك سوء فهمه وخيالاته الفاسدة، ومن نفس الدليل تعلم ذلك.

فإنّه تخيّل بذهنه الجامد وخياله الفاسد: أنّ منع الزيارة والسفر إليها من المحافظة على التوحيد، وأنّ الزيارة تؤدّي إلى الشرك وعبادة الأوثان.

وهذا خيال فاسد؛ لأنّ اتّخاذ الصور مساجد وعيداً والعكوف وتصوير الموتى فيها، هو المحذور، والمؤدّي إلى الشرك عند تطاول الزمان، وهذا هو الممنوع منه، كما هو مصرّح به في الأحاديث الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام:(لعن اللَّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا.

وفي قوله- عليه الصلاة والسلام- لمّا أخبر بكنيسة بأرض الحبشة، قال:

(أُولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثمّ صوّروا فيه تلك الصور، أُولئك شرار الخلق عند اللَّه عزّوجلّ).

فهذا هو الذي حذّر منه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وأمّا الزيارة والسلام على الميّت والدعاء له وعنده، فلم يؤدِّ إلى ذلك ولا له تعلّق بتلك الأُمور.

ومن تخيّل ذلك فهو من سوء فهمه في هذا الأمر الواضح.

ولو كان يؤدّي إلى ذلك لما شرّعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وأبلغ من ذلك لما أمره اللَّه- عزّوجلّ- بالخروج إلى قبور الشهداء الذين أكرمهم بالشهادة، حين نزل عليه جبريل عليه السلام، وأمره بأمر اللَّه تعالى بالخروج إلى بقيع الغرقد، بل كان نهاه أن لو أراد الخروج.

وأيضاً فإنّه- عليه الصلاة والسلام- قال:(زوروا القبور) كما رواه مسلم

ص: 204

وغيره بزيادة...

إلى غير ذلك ممّا علّمهم عليه الصلاة والسلام كيفيّة الزيارة، كما جاء في الأحاديث في زيارتها قولًا وفعلًا، وتواتر ذلك.

وأجمع عليه المسلمون حتى أنّ منهم من أوجب زيارتها؛ لظاهر قوله- عليه الصلاة والسلام-:(زُوروا القبور).

فلو كانت الزيارة من الأُمور التي تؤدّي إلى الشرك- كاتّخاذها مساجد وعيداً والتصوير ونحو ذلك- لم يشرعه اللَّه- عزّوجلّ- لنبيّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا شرّعها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بقوله وبفعله.

وقد أطلعه اللَّه- عزّوجلّ- على ما أراد من غيبه، وبعثه بدينه القويم، وهو الصراط المستقيم.

ولا فعلها الصحابة رضي اللَّه عنهم الذين هم من أصفياء اللَّه تعالى.

بل كانوا أحرص الناس على ذلك؛ خوفاً من إعادة ما جاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بإماتته ودفنه واندراس أثره، واللَّه أعلم.

وأنت أيّها العاقل الفطن إذا تصوّرت ما نقلتُهُ لك، وتعقَّلْتَهُ بذهنك الصحيح، علمت وتحقّقتَ أنّه ليس لأحد أن يحرّم إلّاما حرّم اللَّه تعالى ورسوله، وأنّه لا يحلّ له التهجّم على موارد الشرع ومصادره بخيالاته الفاسدة.

وأنّه بذهنه الجامد أدرك ما لم يدركه الصحابة رضي اللَّه عنهم.

ولو فتحنا هذا الباب، وتتبّعنا هذه الخيالات الفاسدة، لهدمنا أُموراً كثيرة من الدين ولانحلّت عُراه عُروة عروة، وتبدلّت بعد الجهالة، ولمات الدين، وذلك من الخسران المبين.

شعر:

فالقول ما قال النبيُّ وصحبُهُ فإذا اقتديتَ بهم فنعْمَ المُقْتدى

و احتجاج ابن تيمية بحديث آخر علي مدعاه

وأعلم: أنّ من جملة ما احتجّ به على منع زيارة قبره- عليه الصلاة والسلام- حديث(اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً وعيداً، اشتدّ غضب اللَّه على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد).

وهذا من أظهر الامور على عمى قلبه وطَمْس بصيرته.

كيف يتخيّل متخيّل- فضلًا عن أن يعتقد معتقد- أنّ قبره المكرّم المعظّم يصير وثناً.

كلّا والذي رفع ذكره، وأعلى قدره وعظّمه، وملأ كتابه بذلك، لا يمكن تصوّر ذلك.

وكيف يُتصوّر وهو لا تردّ له دعوة ولو في حقّ غيره؟! فكيف بما هو في حقّه؟!

موارد من أدعية النبي

وهذا من المعلوم الشائع الذائع عند المتّسع الباع، ولو عددت لك نقطة من ذلك مع الاقتصاد، لضاقت القراطيس والألواح. ولما أُدرك غبار مباديه ولما لاح:

دعا عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقّاص: أن يجيب اللَّه دعوته، فما دعا على أحد إلّااستُجيب له.

وإذا كان هذا قد ناله ببركة دعوته، فكيف بدعائه لنفسه، لا سيّما في هذا الأمر الفظيع؟!

ومرض أبو طالب فعاده عليه الصلاة والسلام، فقال: ادعُ ربّك أن يعافيني، فقال: اللّهمّ اشفِ عمّي، فقام في الحال كأنّما نشط من عقال. فقال له: يا ابن أخي أيطيعك ربّك؟ فقال: يا عمّاه لئن أطعت اللَّه- عزّوجلّ- ليطيعنّك).

ودعا عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة رضي اللَّه عنها أنّ اللَّه لا يُجيعها.

ص: 205

ص: 206

قالت رضي اللَّه عنها: فما جعتُ بعد.

ودعا عليه الصلاة والسلام لعليّ رضى الله عنه أن يكفيه الحرّ والبرد، فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف، وفي الصيف ثياب الشتاء، ولا يصيبه حرّ ولا برد.

ودعا عليه الصلاة والسلام لابن عبّاس، فقال:(اللّهمّ فقّهْهُ في الدين وعلم (1) التأويل) فكان كذلك، وكان بعد ذلك يُسمّى الحَبْر وترجمان القرآن.

ودعا لعبد الرحمن بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه، فما اشترى شيئاً إلّا ربح فيه.

ودعا عليه الصلاة والسلام لعروة بن أبي الجعد، فكان لو اشترى التراب لربح فيه.

ودعا عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه بالبركة، قال عبدالرحمن: فلو رفعت حجراً لرجوتُ أن أُصيب تحته ذهباً.

وندت عليه ناقة فدعا بردّها، فجاءها إعصار ريح حتّى ردّها عليه.

فانظر كيف من كساه خِلَع القُرب والمنزلة عنده أن جعلها سائسة بعيره.

والإعصار أحد الأعاصير، وهو الريح العاصف التي ترتفع إلى السماء كأنّها عمود.

وفي حديث أسماء بنت عميس رضي اللَّه عنها أنّه- عليه الصلاة والسلام-:

(كان يُوحى إليه ورأسه في حِجْر عليّ رضى الله عنه، فلم يصلِّ العصر حتّى غَرُبت الشمس، فقال عليه الصلاة والسلام: اللّهمّ إنّه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس. فقالت أسماء رضي اللَّه عنها: فرأيتُها غربت، ثمّ رأيتُها طلعتْ بعدما غرُبتْ، ووقعتْ على الجبال، وذلك بالصبهاء بخيبر).


1- وعلمه. انتهى. مصحِّحه.

ص: 207

وقيل: رجعت حتّى بلغت نصف المسجد (1).

ومثل هذا كثير جدّاً، وقد ذكرتُ جملة من ذلك في فصل الحجّ في كتاب «تنبيه السالك على مظانّ المهالك».

يا من أمدّ أبا هرٍّ بمزْودةٍ فأُوقرتْ منهُ للغادينَ أحمالُ

جئناكَ نَطْوي الفِجاجَ المُقْفِراتِ على عيسٍ لها في السُّرى وجدٌ وإرقالُ

قال أبو هريرة رضى الله عنه:(أصاب الناس مخمصة، فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: هل من شي ء؟ فقلت: نعم، شي ء من التمر في المِزْود. قال: فأْتِني به، فأدخل يده، فأخرج قبضة، فبسطها ودعا بالبركة. ثمّ قال: ادعُ عشرة فأكلوا حتّى شَبِعوا، ثم عشرة كذلك؛ حتّى أطعم الجيش كلّهم وشبعوا. ثمّ قال: خذ ما جئتَ به، وأدخل يدك واقبض منه، ولا تُكفِئه، فقبضتُ على أكثر ما جئتُ به، فأكلتُ منه وأطعمتُ حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما إلى أن قُتل عثمان رضى الله عنه، فانتُهب مني، فذهب).

وفي رواية: فقد حملتُ من ذلك التمر كذا وكذا أوسقاً في سبيل اللَّه تعالى.

فقد تحققتَ بهذا- فضلًا عن غيره، وهو مثل الرمال كثيرة- يا صحيح الذهن وقويّ الإيمان به، أنّه لا يكون قبره وثناً ألبتة.

بل في الحديث الصحيح:(قد أيس الشيطان أن يُعبد في جزيرة العرب).

أَوَ مثل هذا السيّد المُعظَّم المُكرَّم لا يُتوسّل به، ولا تُشدّ الرحال إليه؟!

قاتل اللَّهُ العزيزُ من قاله، وضاعف العذاب عليه.


1- هذا حديث ردّ الشمس.

ص: 208

جديرٌ بنا نسعى إليه ونُدلجُ فذاك الذي يُسعى إليه ويُدلَجُ

جعلنا إليه في الحياة احتياجنا ونحنُ إليه في القيامةِ أحوجُ

جميعُ الورى والرُّسْلِ تحت لوائه ومن ذا له عن جاهِ أحمدَ مَخْرجُ

أو لهذا السيّد الجليل المبجَّل لا يشدّ إليه رحل ولا يتوسّل به؟!

قاتل اللَّه قائله، وجعله على رَضْف (1) جهنّم يتمايل.

زكا قدرُهُ من ذا يُجاريهِ في العلا وأعلامُهُ في ذِرْوة العزِّ تُركَزُ

زحاماً ترى للرُّسْلِ تحت لوائِهِ وكلُّ نبيٍّ باللِّوا يتعزّزُ

زعيم بتعجيل الشفاعةِ عندما أُولو العزمِ عنها في القيامة تعجزُ

زفيرُ لظىً عنّا يُردُّ بجاهِهِ إذا هيَ من غيظٍ علينا تميَّزُ

زكاة على الأبدان تسعى لقبره فسيروا وزوروا فالغنائمُ تُحرَزُ

فمن زارهُ نالَ السعادَة كلَّها ومن ماتَ عجْزاً ذاك واللَّه أميزُ

فمن توسّل به- عليه الصلاة والسلام- إنّما توسّل به لعلُوّ قدره ورتبته، وارتفاع منزلته وكمالها عند ربّه، وعظيم إجلاله وفضله على جميع خلقه، كما أخبر هو عن نفسه.

فإنّه سيّد الأوّلين والآخرين، وحبيب ربّ العالمين، وأحبّ الخلق إليه أجمعين.

ذلك شائع وذائع في الأقدمين والآخرين؛ حتّى في أَعدائه المبطلين.

قديماً بدا قبلَ النبيّينَ فضلُهُ وإن قدموا بعثاً ففي الفضل أسبقُ

قضى اللَّهُ أن لا يلحق الرُّسْلَ لاحقٌ ولا أحدٌ منهم بأحمدَ يلْحَقُ

قَطعنا بأن لا يخلق اللَّهُ شبههُ قديماً ولا في آخر الخلق يُخلَقُ

قل الحقّ هل تدري لأحمدَ مُشْبهاً فبادر وقل: لا لا، فإنّك تصدُقُ

قرأنا أحاديثاً صِحاحاً بأنّه عليه لواءُ الحمدِ في الحشرِ يخْفِقُ

قياماً له الأملاكُ والرُّسْل تحتَهُ ومن حولِهِ صفّواً وحفّواً وأحْدَقوا

قويّ ولكن ليّنٌ في أُناسه رفيق ولكن بالمساكين أرفقُ

قريب لأرباب الحوائجِ ما ترى لأحمدَ حُجّاباً ولا البابُ يُغلقُ

وكيف لا يكون كذلك؟ وهو كما قيل فيه:

أكرمُ العالمينَ أصلًا وفصلًا وجلالًا وسيّد البطحاءِ

خُصّ بالحوضِ والشفاعةِ في الحشرِ لكلِّ الورى ورَفْعِ اللواءِ

والمقام المحمود والسبق للنّا سِ دُخولًا في الجنّةِ الفيحاءِ

ثمّ يُعطى وسيلةً هي أعلى درجاتِ الجنانِ ذاتِ البقاءِ

هو جاري وعُدّتي ونصيري وعمادي في شدّتي ورخائي

وليس هذا خاصّاً بي وبفقري، بل هو كما قيل فيه:

له المقام الذي ما ناله أحدٌ والفخرُ والمجدُ والإحسانُ والحَسَبُ

وَهْو الشفيعُ الذي تُنجي شفاعتُهُ كلَّ الأنامِ إذا ما مسَّها العَطَبُ

محمّدٌ خيرُ خلْقِ اللَّهِ قاطبةً وَهْو الذي لفخار المجدِ يكتسبُ

نوِّهْ بِهِ يا مُنادي الحيِّ إنَّ بِهِ تزولُ عن قلْبيَ الآلامُ والكُرَبُ

عانٍ له مُقلةٌ تشتاقُ تنظرُهُ ومُهجةٌ بلهيبِ الشوقِ تلتهبُ

وكيف لا تلتهب؟! وقد شاهدت ما شاهدت ممّا لا يمكن النطق به، ولا أفوه، وكيف كيف أسلوه؟!

وعى اللَّهُ بالبطحاءِ أيّامنا التي مضت كوميضِ البْرقِ ثَمّ تولّتِ


1- الرَّضْف: الحجارة المحماة.

ص: 209

ص: 210

ص: 211

وحيّا قِباباً بين سَلْعٍ إلى قِبا لعزّتها يحلو خضوعي وذِلّتي

نَعِمتُ بها لكن كأحلامِ نائمٍ كأنْ لم تَزُرْها العيسُ حتّى تولّتِ

فهل لي إلى تلك العوالمِ عودةٌ ولو دونها بيضُ الصوارمِ سُلّتِ

وألثَمُ إجلالًا ثَراها وأجْتلي شموسيَ في أرجائها وأَهلّتي

سقى اللَّهُ ذاتَ الظلِّ من دارة الحِمى حياً نَهِلتْ منهُ رُباها وعلّتِ

وسحّتِ على أعلامِ سَلْعٍ مديمةً غمائمُ بالنوءِ الرَّويّ استهلّتِ

فتلكَ لَعمْرُ اللَّهِ دارُ أحبَّتي وسُكّانها كلّ المرادِ وبُغيتي

ألا ليتَ شِعْري هل أزورُ قِبابَها فتحمَدُ فيها العيسُ شدّي ورِحْلتي

وأنشدُ في أكنافِها مترنّماً لمن نظم مدحي فيهِ بيت قصيدتي

ألا يا رسولَ اللَّهِ أنتَ وسيلتي إلى اللَّهِ إذْ ضاقت بما رُمتُ حيلتي

وان شئت قلت:

إلى اللَّهِ في غفرانِ ذنبي وزلّتي.

فالتوسّل به- عليه الصلاة والسلام- لم يزل منذ آدم عليه السلام، لا يتوقّف فيه أحد، ولا يطعن؛ إلى أن ظهر بعض زنادقة اليهود وغلاتهم في بغضه- عليه الصلاة والسلام-.

قال: وإنّه بموته بطلت حُرمتُهُ وجاهُهُ، فلا يتوسّل به، ولا يقال: يا جاه محمّد.

وتمّ ذلك بتوارث سلالتهم معتقدين ذلك مُصرّين عليه.

استدلال ابن تيمية علي أن التوسل شرك، والرد عليه

ثمّ زاد هذا الخبيث: أنّ التوسّل به شرك.

وقرّره بتقرير ألحقه بقوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى.

وذلك يدلّ على انّه من أجهل الجهلة.

ص: 212

فإنّ التوسّل به- عليه الصلاة والسلام- معناه: أسأل اللَّه- عزّوجلّ- برسوله، وأتشفّع إليه به.

فهو سائل للَّه- عزّوجلّ- لا لغيره.

ولا يلزم من التوسّل به أو بشخص والتشفّع إليه به، أن يكون عبده، ولا اتّخذه إلهاً وربّاً من دون اللَّه، ولا جعله شريكاً في الإلهية.

ومن جعل التوسّل بشخص، مثل هؤلاء (1)، فهو من جهله وسوء فهمه وعدم تعقّله ما يقول.

ومثل هذا لا يحلّ لأحد أن يقلّده، ولا ينظر في كلامه إلّامن له رتبة التمييز بين الحقّ والباطل، وإلّا هلك وهو لا يشعر.

وقد قال عليه الصلاة والسلام:(حياتي خير لكم ومماتي خير لكم) قالوا: يا رسول اللَّه قد عرفنا أنّ حياتك خير لنا، فكيف وفاتك خير لنا؟ قال:(أمّا حياتي فإنّكم كلّما أحدثتم حدثاً أحدث اللَّه لكم المخرج منه بي، فإذا متّ فلا أزال أُنادي من قبري: «ربّي أُمّتي» حتّى يُنفخ في الصور، ثم لا أزال أُجاب أربعين سنة حتّى يُنفخ الأُخرى، وتعرض عليّ أعمالكم، فما كان من حسن شكرتُ اللَّه عليه، وما كان سيّي ء دعوتُ اللَّه أن يغفره).

رواه الإمام العلّامة هبة اللَّه في كتابه «توثيق عُرى الإيمان»، ورواه غيره.

فهو- عليه الصلاة والسلام- رحمة لنا في حياته وبعد وفاته، فكيف لا يُتوسّل به إليه، ولا نُعمل البُزُل (2) القناعيس (3) نحوه وإليه.

وذلك ممّا أجمع أهل التوحيد عليه، وأجمعوا على تكفير من قال بخلاف ذلك.


1- هنا محذوف هو المفعول الثاني ل «جعل»، تقديره «شركاً» ليستقيم الكلام. انتهى مصحِّحه.
2- مفرده: بازل، وهو البعير الذي طلع نابه.
3- مفرده: قِنْعاس، وهو الجمل الضخم العظيم.

ص: 213

صرّح به أئمّة الأُمّة، وأوّلهم مالك.

وكان ابن تيميّة ممّن يعتقد ويُفتي: بأنّ شدّ الرحال إلى قبور الأنبياء حرام؛ لا تُقصَر فيه الصلاة، ويصرِّح بقبر الخليل وقبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وجاء بريديّ من مصر باعتقاله على ذلك فاعتقل.

ابن القيم و ابن كثير و تعزيره لأجل اتباع ابن تيمية

وكان على هذا الاعتقاد تلميذه ابن قيّم الجوزيّة الزرعي، وإسماعيل بن كثير الشركويني.

فاتّفق أنّ ابن قيّم الجوزيّة سافر إلى القدس الشريف، ورقى على منبر في الحرم ووعظ، وقال في أثناء وعظه، بعد أن ذكر المسألة، وقال: ها أنا راجع، ولا أزور الخليل. ثمّ جاء إلى نابلس، وعمل له مجلس وعظ، وذكر المسألة بعينها حتّى قال:

فلا يزور قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فقام إليه الناس وأرادوا قتله، فحماه منهم والي نابلس، وكتب أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرّفون صورة ما وقع منه، فطلبه القاضي المالكي، فتردّد، وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي، وأسلم على يديه!

فقَبل توبته، وحكم بإسلامه، وحُقن دمه، ولم يعزّره لأجل ابن تيميّة.

ولمّا كان يوم الجمعة رابع شعبان، جلس القاضي جلال الدين بعد العصر بالمدرسة العادلية، وأحضر جماعة من جماعة ابن تيميّة كانوا معتقلين في سجن الشرع، فادّعى على إسماعيل بن كثير صاحب التاريخ أنّه قال: إنّ التوراة والإنجيل ما بُدِّلا، وأنّهما بحالهما كما أُنزلا، وشهدوا عليه بذلك، وثبت في وجهه، فعُزِّر في المجلس بالدِّرّة، وأُخرج وطيف به، ونُودي عليه بما قاله.

ثمّ أُحضر ابن قيّم الجوزيّة، وادُّعي عليه بما قاله في القدس الشريف وفي

ص: 214

نابلس، فأنكر، فقامت عليه البيّنة بما قاله.

فأُدّب وحمل على جمل، ثمّ أُعيدوا في السجن.

ولمّا كان يوم الأربعاء أُحضر ابن قيّم الجوزيّة إلى مجلس شمس الدين المالكي، وأرادوا ضرب عنقه (1)، فما كان جوابه إلّاأن قال: إنّ القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي.

فأُعيد إلى الحبس إلى أن أُحضر الحنبلي، فأُخبر بما قاله، فأُحضر ولم يثبت له عُذر.

وضرب بالدِّرّة، وأُركب حماراً وطيف بن في البلد والصالحية، وردّوه إلى الحبس، ولم يزل هذا في أتباعه.

وحضر شخص إلى دمشق يقال له أحمد الظاهري، وكان قد حفظ آيات المتشابه وأحاديثه، فكان يسردها على العوامّ وآحاد الناس من الفقهاء، فعظّمه أتباع ابن تيميّة وأكرموه.

ثم إنه توجّه إلى القاهرة، فشرع يسرد الآيات والأحاديث، فعلم به الإمام العلّامة الشيخ سراج الدين البلقيني فطلبه، وأَعلم به برقوق، فأخذوه وقيدوه، وكانوا يضربونه بالسياط أوّل النهار، ثم يستعملونه في العمارة، فإذا كان آخر النهار أعادوا عليه الضرب.

ثمّ بلغني أنّ آخر الأمر أن ضربوا عُنُقه.

ابن رجب الحنبلي يكفر ابن تيمية

وكان الشيخ زين الدين ابن رجب الحنبلي ممّن يعتقد كفر ابن تيميّة، وله عليه


1- هذه قيمة ابن القيّم يراها القارى ء مجسّمة أمامه في هذا السياق، فليعرفها ولا يغترّ. انتهى. مصحِّحه.

ص: 215

الردّ، وكان يقول بأعلى صوته في بعض المجالس: معذور السُبكي؛ يعني في تكفيره.

والحاصل: أنّه وأتباعه من الغلاة في التشبيه والتجسيم، والازدراء بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وبغض الشيخين، وبإنكار الأبدال الذين هم خلفوا الأنبياء.

ولهم دواهٍ أُخر لو نطقوا بها لأحرقهم الناس في لحظة واحدة.

فنسأل اللَّه تعالى العافية ودوامها، إنّه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.

وجرّسوا (1) بابن القيّم وابن كثير، وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزيّة؛ لفتواهم في مسألة الطلاق، واللَّه أَعلم.

وأعلم: أنّي اقتصرت على الكلام على هذه الفتوى لإشاعتها بين العوامّ، وفيها التعرّض لمنع الوسيلة، ومنع شدّ الرحال إلى قبر سيّدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، واستدلاله لما قاله بالتجسير والتمويهات التي بينا بطلانها وفسادها.

وأنّ ذلك من أظهر الأُمور على فجوره في النقل والإغراء.

وأنّه لا يحلّ أن يقلّده ولا يأخذ عنه، ولا ينظر في كلامه ولا يسمعه إلّامن يكون له رتبة التمييز بين الحقّ والباطل، وإلّا هلك وهو لا يشعر (2).


1- أي ندّدوا.
2- هذا حكم من هذا الإمام الكبير على كلّ من يتبع ابن تيميّة بأنّه هالك في دينه. وانظر معنى الهلاك في مثل هذا المقام.

ص: 216

الدعوة إلي معارضة ابن تيمية و أتباعه السلفية قولا و عملا

ثمّ من الأُمور المهمّة المقرِّبة إلى اللَّه- عزّوجلّ- وإلى رسوله وإلى وزيريه رضي اللَّه عنهما، بسط الألسن والأيدي فيهم؛ جرياً على ما درج عليه العلماء والسلاطين؛ منذ أثار هذا الخبيث هذه الخبائث.

وأن يُعلن بالتوسّل بسيّد الأوّلين والآخرين.

وأن يُعتنى بإظهار شدّ الرحال وإعمال المُطيّ والأقدام إلى خير خلقه وحبيب القلوب، ومن بذكره تنجلي الكروب، ويهتزّ الطروب.

وبالصلاة والسلام عليه تذهب الذنوب، التي بسبها حصل الإبعاد عن المزار وبعد الدار:

روى زيد بن أسلم أنّ عمر خرج ليلة يحرس، فرأى مصباحاً في بيت، وإذا عجوز تنفش صوفاً وتقول:

على محمّد صلاة الأبرارْ صلّى عليه الطيّبون الأخيارْ

قد كنتَ قوّاماً بكا في الأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوارْ

هل تجمعُني وحبيبي (1) الدارْ

تعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال: فجلس عمر رضى الله عنه يبكي شوقاً إلى حبيبه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وتتصعّد أنفاسه من نار الشوق، لولا دموع المحبّين تطفي ء نار الشوق لاحترقت أكبادهم بأنفسهم.

يا خليليَّ قد بلغتُ القصدا وعرفتُ الغرام هَزْلًا وجدّا

خلّياني من ذكر سلمى ونجدٍ ودعاني من حبّ سلمى وسعدى

أنا لي في حشاشتي حبُّ بدرٍ أقسم الدهرُ أنّه لا يبدى


1- «وحبيبي» انتهى مصحِّحه.

ص: 217

نار وجدي بحبّه في ازديادٍ وغرامي به تزايدَ جدّا

كُلّما رُمتُ أنّ نفسيَ عنهُ تتسلّى أبت ولا تتهدّى

وتراها إذا ترنّم حادٍ بُرباها تذوب شوقاً ووَجْدا

لا تَلُمْها إذا بدت بحنينٍ وأنينٍ يقِدّ ذا القلبَ قدّا

فلها مَعْهدٌ وأنسٌ قديم ليس يفنى وإن تطاول عهدا

كان الصدّيق رضى الله عنه من المشغوفين بمحبّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال سيف بن عمر: وكان سببُ موتِ الصّديق رضى الله عنه وفاةَ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ كمداً عليه، فما زال جسمه يتحرّق حتّى مات.

والكمد الحزن المكتوم

كنتَ السوادَ لناظري وعليك كنتُ أُحاذرُ

من شاء بعدكَ فلْيمتْ فَعليكَ يبكي الناظرُ (1)


1- أحفظ هذين البيتين هكذا:

ص: 218

والحمدُ للَّه أوّلًا وآخراً؛ وباطناً وظاهراً، والحمد للَّه ربّ العالمين، وصلّى اللَّه على سيّد الأوّلين والآخرين، وأكرم السابقين واللاحقين، ورضي اللَّه عن الصدّيقين والصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. آمين آمين.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.