شخصية الرسول الاعظم قرآنيا

اشارة

‏سرشناسه : حنفي جلال - ۱۹۱۵
‏عنوان و نام پديدآور : شخصيه الرسول الاعظم قرآنيا/ تاليف جلال الحنفي البغدادي
‏مشخصات نشر : بغداد: وزاره الثقافة و الاعلام دائرة الشوون الثقافيه ، م‌۱۹۹۷ = .ق‌۱۴۱۸ = .۱۳۷۶.
‏مشخصات ظاهري : ص ۳۸۸
‏وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
‏يادداشت : عنوان اصلي Sheikh Jalal Al Hanafi. The great prophet through the Holy Quran.
‏موضوع : محمد(ص ، پيامبر اسلام ۵۳ قبل از هجرت - ۱۱ق در قرآن
‏رده بندي كنگره : ‏‌BP۱۰۴/م۲۷‏‌ح۹ ۱۳۷۶
‏شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۱-۸۳۰۴

المقدمة

بقلم / كبير المؤرخين العرب‌الدكتور / حسين امين‌ان شخصية الرسول محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم من أبرز الشخصيات التي ظهرت علي مسرح التاريخ و انه صلوات الله عليه من اميز اولئك العظام الذين تركوا اثارا خالدة، فالرسول محمد صلي الله عليه و سلم اختاره الله عزوجل لتبليغ رسالته الي الناس كافة، لصفات تجمعت في شخصه الكريم و مزايا تحلي بها عن غيره من البشر، و ان الله سبحانه و تعالي قد أعده الاعداد العظيم لتحمل المسؤولية العظمي لانقاذ البشرية، و الجهاد الكبير من اجل هدايتها، و السعي الحثيث الي نشر الدعوة الاسلامية بين العرب و غيرهم من الاقوام، و كانت البداية غاية في الصعوبة اذ كان لابد عليه من نشر المبادي‌ء السامية بين ابناء جلدته العرب، اولئك القساة الجفاة الذين اتخذوا الاصنام آلهة والاوثان معابيد و كان ابناء قومه والاقربون من عشيرته اشد الناس مقاومة و عنادا كما كانوا الاشد اضطهادا و اذي لاصحابه و مؤيديه، و لاقي صلي الله عليه و سلم مالاقي من اولئك الذين كانت قلوبهم قاسية و عقولهم متحجرة، ولكن الله سبحانه و تعالي كان ابدا الي جانب الرسول محمد صلي الله عليه و سلم مؤيدا و ناصرا حتي كتب الله عزوجل النجاح و الفلاح و تكامل نزول القرآن الكريم علي نبيه صلوات الله عليه.ان القرآن الكريم هو معجزة الله تعالي لرسوله المختار محمد صلي الله عليه و سلم بل هو معجزة الاسلام و هو الوحي المنزل من عند الله تعالي علي محمد صلي الله عليه و سلم و المنقول عنه نقلا متواترا نظما و معني و هو آخر الكتب السماوية نزولا، والقرآن هو بدء تاريخ الاسلام، و انه دستور الامة و منه نستمد معاني السيرة الشريفة و تتعرف علي التوجيهات و الاوامر المرسله الي الرسول محمد صلي الله عليه و سلم ما تعني تلك التوجيهات و الاوامر و آثارها و ابعادها، ان تلك الامور المهمة و الخطيرة انتبه اليها عالم عربي عراقي كبير هو فضيلة الشيخ الجليل جلال الحنفي البغدادي، فشرع هذا العالم الكبير باقتباس الايات القرآنية الكريمة التي تضمنت نماذج من الاوامر و التوجيهات و الآيات التي تؤكد علي رسالة محمد صلي الله عليه و سلم، و ما يجب ان تكون عليه الجماعة الاسلامية من الخلق القويم و السيرة الحسنة و وحدة الكلمة لتصبح تلك الجماعة اهلا بتحمل المسؤولية العظيمة في نشر الرسالة السامية و قيادة الامة و انقاذها من براثن التخلف الديني و الاجتماعي و السياسي.و تتبع فضيلة الشيخ الجليل الحنفي تكوين شخصية الرسول صلي الله عليه و سلم قرآنيا، واثبت الباحث الجليل بالبراهين القاطعة، مستقرئا الايات القرآنية الكريمة التي ساندت الرسول صلي الله عليه و سلم و قومت شخصيته التي تكاملت بفضل العناية الالهية المباركة.و تدل دراسة الشيخ الجليل الحنفي لهذا الموضوع الخطير علي دراية عظيمة في فهم القرآن الكريم و ابعاد معانيه و احاطته الواسعة بمدارس التفسير الاسلامية، كما جاءت استنتاجاته العلمية صائبة و متميزة بالموضوعية و الصدق و النزاهة، و تتجلي بسعة الافق العلمي، فمن معالجاته القيمة علي سبيل المثال، اشارته الي نزول القرآن الركيم علي قلب النبي صلي الله عليه و سلم، قوله: بيان بوقوع القرآن الكريم في وعائه الذي احتواه، فما ينفلت منه و لا يزيغ عنه و لا يتوزع في اكثر [ صفحه 4] مله، آلا و هو قلب النبي صلوات الله عليه، و القلب في لغة القرآن الكريم هو مصدر العقل و الايمان و الصلاح و الرشاد و التقوي، و قد عنت الآية القرآنية الكريمة التي هي عنوان هذا النص [1] ، ان القرآن الكريم كان مستقرا في خير مستقر، كائنا في خير مكان و مؤتمنا عليه الائتمان التام و تلك مزية تمت للنبي صلي الله عليه و سلم، لم تكتب لغيره من رسل الله و انبيائه عليهم السلام.هذا نموذج من دراسة الشيخ الجليل لشخصية الرسول صلي الله عليه و سلم قرآنيا فهي كما نوهت دراسة علمية مستفيضة، تبحث في شخصية الرسول صلي الله عليه و سلم في سيرته الشريفة في قوته و جرأته، في ثباته و صبره، في امانته و شجاعته، في كل ما تحلي به الرسول صلي الله عليه و سلم من الصفات العظيمه التي اهلته لتحمل تلك المسؤولية العظيمة في تحدي المشركين الطغاة و العمل علي نصرة المستضعفين و نشر العدالة في الارض مستمدا القوة و العزم من الله عزوجل، و باسناد القرآن الكريم المعجزة العظمي، التي اخذت آياته العظيمة تسدد الي المشركين و المعاندين ضربات قاصمة أذهلتهم و كانت خير عون و سند للرسول صلي الله عليه و سلم في جهاده الكبير من اجل نشر المبادي‌ء الاسلامية النبيلة، مستمدا النصر و القوة من الله تعالي، قال عزوجل، و الله يعصمك من الناس و قال تعالي: و ان تظاهرا عليه فان الله هو مولاه و جبريل و صالح [2] المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير، و قال تعالي: و شاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل علي الله، هذه الايات الكريمة و غيرها تناولها الاستاذ الباحث الجليل برؤية علمية، فجاءت دراسته هذه اصيلة و مبتكرة، بل هي دراسة تاريخية شاملة لحياة الرسول صلي الله عليه و سلم، جديدة في عرضها ستمد الباحثين في التاريخ الاسلامي بآراء و افكار قدمها الباحث الجليل تساعد علي تحليل و تفسير و فهم العديد من القاضايا الاسلامية.ان الكتاب الذي اطلعت علي مسوداته و الذي قام بتأليفه شيخنا الجليل الاستاذ جلال الحنفي البغدادي سيكون له الاثر الكبير في توجيه الدراسات القرآنية وجهة علمية تتميز بطابعها العصري في تقييم شخصية الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم قرآنيا، و ان هذا الكتاب ستكون له اهمية علمية كبيرة لانه سيعمل علي خلق مدرسة عراقية جديدة في دراسة القرآن الكريم و دوره العظيم في مسيرة التاريخ الاسلامي.اسأل الله تعالي التوفيق لشيخنا الجليل جلال الحنفي البغدادي، و بورك له في جهده العلمي المبدع و متعه سبحانه و تعالي بالصحة و السلامة.والله ولي التوفيق.أ.د. حسين أمين‌بغداد في 21/ 12/ 1995 [ صفحه 5]

توطئة

من المعروف في الاوساط العلمية أن لنزول القرآن الكريم اسبابه يقال لها اسباب النزول، و يعني ذلك أن للايات القرآن صلة باحداث و وقائع يمكن أن توصف بانها يوميات. لان القرآن الكريم استمر نزوله نحوا من ثلاث و عشرين سنة. و من هنا كانت بعض سور القرآن الكريم موصوفة بأنها مكية و بعضها قد وصفت بأنها مدنية.. و هناك اوصاف اخري وردت في شأن اكثر من مجموعة قرآنية مما يعرفه اصحاب هذه الدراسات...و يمكن أن يفهم من هذا أن سيرة الرسول صلي الله عليه و سلم و وقائع حياته اليومية المتصلة بالتبليغ و نشر الدعوة الاسلامية قد كانت من بعض اسباب النزول او كانت مما وقع الاستطراد اليه. و ليس في ذلك من غرابة لا سيما اذا ما علمنا أن القرآن الكريم كان ينزل احيا علي هيئة خطاب او علي هيئة رد لسؤال او افتاء لأستفتاء من مثل قوله تعالي و يسألونك عن اليتامي...» البقرة /220.. و قد تكون الخصوصيات ذات الطابع اليومي في حياة النبي صلي الله عليه و سلم محل ايراد و اشارة مثل «و اذ أسر النبي الي بعض ازواجه حديثا» التحريم /003 و مثل «ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا» التوبة /0040اما الخصوصيات التي لا تتحصل منها مقاصد تشريعية فان القرآن الكريم لم يشر الي شي‌ء منها علي الاطلاق مما تبدو ازاءه دعوة بعض المستشرقين بأن القرآن الكريم ليس كتابا سماويا دعوي فاشلة و باطلة اضافة الي أنها مريبة و حاقدة.. و اذا قرأنا القرآن الكريم وجدناه وحدة متكاملة الا تفاوت في مناحيه التعبيرية رغم أن هذه الوحدة المتكاملة انما تكاملت خلال الفترة التي اشرنا اليها و هي ما يقرب من ثلاث و عشرين سنة فلو كان القرآن غير سماوي لظهر فيه من التباين و تباعد الشقة ما لا يخفي. و في القرآن «و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» النساء/0082ان شخصية النبي صلي الله عليه و سلم لم يظهر لسلوكياتها النفسية اي اثر في القرآن الكريم مما يتصل بمفردات حياته اليومية الخاصة... فليس في القرآن الكريم اي تلميح او تصريح لخديجة زوج النبي صلي الله عليه و سلم و ليس فيه آي تلميح اوتعريف لمارية القبطية و ليس فيه ما يومي‌ء ايماءا الي ابنه ابراهيم الذي ولد له صلي الله عليه و سلم في آخر حياته و كانت وفاة ابراهيم و هو ما يبرح طفلا اشق شي‌ء عليه صلي الله عليه و سلم... و ما من شك ان الرسول صلي الله عليه و سلم كان يري لبعض اصحابه دورا طيبا في مسيرة السيرة مثل ابي‌بكر الصديق رضي الله عنه و ارضاه اذ صاحبه في الغار و رافقه في الهجرة من مكة الي المدينة، ولكن لم يرد لابي‌بكر ذكر باسمه الصريح...ان الذين آذوا النبي صلي الله عليه و سلم و حاربوه من بدء الدعوة لم يرد التصريح باسمائهم باستثناء ابي‌لهب الذي كان في ايراد اسمه في القرآن الكريم ما يعد من المعجزات الكبيرة جدا، اذ جاء النص بانه من اهل النار، و كان ذلك في السنة الاولي من سني الدعوة، و لم يكن من ابي‌لهب الا الاصرار علي الكفر و ما كان النبي يطلع علي الغيب فيجزم الجزم الاكبر بكفر ابي‌لهب الذي ظل كافرا مدي حياته. [ صفحه 6] ان القبائل العربية التي لو جاءت الاشارة الي اسماء فريق منها لكان ذلك مساعدا علي خدمة الاعلام الديني ولكن القرآن لم يشر الي شي‌ء من اسماء هذه القبائل باستثناء قريش في معرض المنة التي منها الله عليها و كذلك في معرض التكليف بوجوب اعتناق مبادئه و الانخراط في السلك الايماني «الذي اطعمهم من جوع و آمنهم من خوف...» قريش/004 والنبي صلي الله عليه و سلم يعرف ذلك فلو كان القرآن الكريم قرآنه لما تحفظ في ذكر اسماء بعض قبائل العرب الشهيرة...ان الخطة التي وضعنا و فقها منهجنا في تأليف هذا الكتاب تعتمد علي ذكر المفردات الرئيسية في سيرته صلي الله عليه و سلم و كذلك انشأنا ابوابا للمجاميع القرآنية الواردة بعناوين معينة مثل باب (رأيت) و باب (واذكر) و باب (اللاءات) التي هي من نحو «و لا تصل علي احد منهم مات ابدا» و مثل ذلك «و لا تقف ما ليس لك به علم»... و مثل باب (بشر) و باب (انذر) و باب (اذا جاءك) و باب (تري) و باب (يسألونك و أسالهم) الي اخر ذلك... فان هذه الابواب تكشف عن مضمون كبير واسع من حقائق السيرة النبوية و دور الرسول الاعظم في القراع و المنازلة و توضح صور المواقف النبوية في العهدين المكي و المدني في سائر حالات الفرج و الشدة و العسر و اليسر...و بذلك يعلم متتبع النهج القرآني لكتابه السيرة النبوية فضل هذا الرسول العظيم علي الامة و عظم عطائه مضافا ذلك الي ما سوف يعرفه عن نبيه العظيم من الاقتدارات التي مازه الله بها فكانت معوانا له علي الصدع برسالة السماء العظمي الي الناس اجمعين... [ صفحه 7]

بيئة الدعوة و مهام النبي

كان من عنعنات القوم التباهي بمظاهر الغني و الثروة و ترف المعيشة لدي اصحاب البذخ و الثراء و قد اتخذ بعضهم هذا اساسا لانكار ان يكون النبي و المؤمنون به ممن لا يملكون مثل ذلك «و اذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنو اي الفريقين خير مقاما و احسن نديا» مريم/0073 فكان من عجيب انماط التفاضل بين الناس و المقايسة بين منازلهم الاجتماعية و وزن اقدارهم و شخصياتهم ان يتخذ القوم يومذاك الاثاث و الفرش و الزينة و الفخفخة اصلا التقييم و التمييز في ذلك النبي في نظرهم يجب ان يكون من اهل النوادي و المضايف و المضارب التي تقدم فيها الموائد و التي يقبل الناس منها علي كل سماط كثير الطعام و ما اليه من مقليات و مشويات و طيور و اسماك و حلويات و اشربة ساخنة و باردة.ان النبي غير ذلك فهو ليس مقبلا علي ترشيح نفسه لانتخابات رئاسة لكي يقدم المغزيات للناخبين و انما هو رسول من الله الي امة متمزقة ضائعة و من ورائها امم اخري اراد الله ان يكون نبيه العربي العظيم منقذا لها من الظلال و الفساد و الشقاق و ان كانت امما ذات سلطان و قوة و جبروت كالفرس و الرومان. و الناس في هذه المواجهة يستوي عند الله ان يؤمنوا او لا يؤمنوا فالذين آمنوا هم الذين تحروا رشدا و الذين لم يؤمنوا كانوا لجهنم حطبا.ان اتخاذ الابهة و الفخفخة و المال و الغني مقياسا للتمييز في موضوع الرسالات السماوية لا قيمة لا البتة. و قديما قال قوم في ملك اختير لهم من فقرائهم «اني يكون له الملك علينا و نحن احق بالملك منه و لو يؤت سعة من المال...» البقرة /247.. فرد نبيهم عليهم قائلا «ان الله اصطفاه عليهم و زاده بسطة في العلم و الجسم...» البقرة/247.مما يفهم منه ان العلم و بسطة الجسم تعني الاقتدار علي التحرك و التنقل و القدرة علي المقاومة و الصبر و ذلك من الصفات النبوية المشترطة و ان كان ما نقلناه من حديث الملك الذي اوتي من بسطتي العلم و الجسم و لم يؤت من المال ما يعد به من عداد الاغنياء فاذا كان الله جعل لاختيار الملك الذي هو رجل دنيا و ليس رجل رسالة سماوية من بسطة العلم و الجسم فانه عز شأنه اذ يختار الانبياء يختارهم متمتعين بمزايا ذاتية اكثر من ذلك بكثير...@...بيئة الدعوة في دورها الاول هي مكة و فيها الغني و الخصاصة و السادة و الارقاء و مصدر الشخصيات البارزة و متاجر التجار و الاسواق و كانت تأوي اليها القبائل من كل فج من اجل التجارة و الحج و كانت التكتلات القبائلية هي التي يركن اليها الوضع الاجتماعي... و كانت العنعنات و مجالس القوم علي اختلافها و اسواق الرقيق و الجاليات المختلفة. و في بيت الله العتيق كانت تقوم الاصنام اذ كانت تعبد و تؤدي لها طقوس العبادة الوثنية... و كانت الجزيرة العربية مطمعا للدولتين الكبيرتين في ذلك الزمان اي الروم و الفرس. و قد كان شمال الجزيرة من جهة الغرب مستعمرة رومانية و من جهة الشرق مستعمرة فارسية و كانت اليمن في اقصي الجنوب من ممتلكات الفرس، و قد عرفت جزيرة العرب ابان ذلك بالانقسامات السياسية و كان الغزو بين قبائل الجزيرة مسألة في عداد ما هو مألوف من المسائل...كانت مكة تتميز بأنها مناخ حضاري متطور في نظام الحياة اليومية لانها كانت موطن كبار التجار و الروساء و كانت كذلك بيئة ادبية ارتقت فيها اللغة و الشعر و البيان.في هذه البيئة ظهر رسول الله صلي الله عليه و سلم. و كان ظهوره علي رأس الاربعين من عمره. و قد عرفه سكان مكة رجلا من خيرة الرجال اخلاقا و سلوكا و نباهة و رجولة و مكانة عالية... و كان محل اطرائهم و موضع تقديرهم انه من اسرة عبدالمطلب سيد الجزيرة و صاحب الكعبة و خطيب العرب المصقع الذي آتاه الله من الابناء عدة معدودة كانوا من ذوي الشأن و الشهرة. فهو من ابناء مكة التي لم يكن في ابنائها من يجهله و لا يعطيه حقه من الاكبار و الاجلال. فلما اعلن نبوته و دعا الي وحدانية الله قام بينه و بينهم نفور عظيم و عداء شديد و صاروا يعاملونه معاملة منافية لما كانوا يعاملونه به من قبل و ذاك أن حرصهم علي اصنامهم و آلهتهم كان اقوي من كل الاعتبارات الاجتماعية و السلوكية التي كانت قد [ صفحه 8] انعقدت بينهم و بين النبي خلال اربعين سنة الماضية انه يريد تحطيم اصنامهم و جرهم الي عقيدة تنكر عبادة الاصنام و تدعو الي عبادة الله وحده...و رغم أن سكان مكة قد احاطوا علما او بعض علم بوجود ديانات قديمة يعبد اصحابها الله و أن لها كتبا يقرأونها و لهم أديرة و معابد يتعبدون الله بها فانهم كان لهم بأصنامهم تعلق عظيم و أنهم استنكروا دينا جديدا يحل بينهم يدعو الي وحدانية الله «أجعل الآلهه الها واحدا ان هذا لشي‌ء عجاب» ص/005لقد كانت مهمة الرسول الاعظم مهمة جد شاقة في بيئة هذا هو واقعها و تلك هي حالها اذ كان عليه أن يقضي علي عبادة الاصنام بالحجة و الموعظة الحسنة و اذ أن البيئة كلها تحمل تجاه رأيه العناد و المخالفة و الخصومة، فلقد كان عليه أن يتحمل كل شي‌ء و أن يصبر و يبالغ في الحلم و كان عليه أن لا يكل و لا يمل و يواصل المسيرة لكسب الاعوان و المؤيدين و كان علي النبي أن يصحح كثيرا من احوال الناس و يقوم ما كان من معوج سلوكهم هذا. و لم يكن خصوم النبي من جنس واحد من الرجال انما كانوا اجناسا شتي ففيهم العقلاء و فيهم السفهاء و كان الجميع مطبقين علي انكار رسالته بالطريقة التي يتعامل بها كل منهم. من ذلك نري في مجادلاتهم للرسول ما يتهافت تماما و يسخف و يبعد عن المنطقية لأن كل قوم منهم كانوا في هذه الساحة علي ما ألفوه و عرفوه «أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا» الاسراء/0092 فكان موقف النبي في هذه المعمعة موقفا لو وقف فيه غيره لانهار كل الانهيار و لعلق به الخذلان و الفشل العظيم.من هنا نعلم أن شخصية الرسول الاعظم كانت متميزة بمزايا لم يقدر مثلها للاخرين من الانبياء و القادات و الخشصيات التأريخية الكبري.. و قد صرح القرآن بأن مهمة النبي ثقيلة و ليست بالامر الهين و ذاك في قوله تعالي «انا سنلقي عليك قولا ثقيلا» المزمل/005 ففي هذا النص توضيح لثقل المهمة التي ناطها الله برسوله العظيم فهي تشريف و تكليف و هي عب‌ء شديد و ثقل ثقيل.. و قد كلم الله نبيه مصارحا اياه بان المهمة التي ناطها به مهمة جد عظيمة و ذاك بالنص الواضح «انا سنلقي عليك قولا ثقيلا» و قد كان حقا قولا ثقيلا..و كانت هناك بيئة ثانية للدعوة هي بيئة المدينة: التي كانت تتميز بأنماط من الخصوم ذوي مناهج في التعامل و الجدل و المراوغة مما لم يكن معروفا في البيئة الاولي كاليهود و المنافقين... و كانت هناك بيئة ثالثة هي التي تولي امرها اتباع النبي بعد وفاته صلي الله عليه و سلم، تلك هي بيئة العالم خارج الجزيرة اذ كانت هناك حضارات و دول و شعوب و لغات و قيم و ديانات شتي ولكنها ارتاحت للاسلام و قد كان قد ادخلها في حسابه منذ نزوله الاول لانه دين البشرية جمعاء و ان النبي الذي جاء به هو خاتم رسل الله الي عباد الله... و لا نخرج عن صدد الامر اذا قلنا ان الاديان انما قامت من اجل تصحيح مسيرة الامم و الشعوب و انما بعث الله الرسل لهذا الامر بعد توحيد الله عزوجل.و حين نتغلغل في مجالات القرآن الكريم نجد هذه الحقيقة تتألق كل التألق و تبرز كل البروز.. غير أن الرسالات القديمة كانت خاصة. و أن رسالة الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم هي رسالة عامة الي كل ابيض و اسود... و حين تتابع النصوص القرآنية التي جاء الكلام فيها علي ذكر النبي و اعماله و خطواته فسنري له صلي الله عليه و سلم مهام كثيرة يعجب الباحث في ذلك كيف كان النبي ينجز اعماله اليومية المستديمة. فهو امام القوم في الصلاة و هو قاضيهم في الاحداث اليومية، و هو قائد الفرق المحاربة هجوما او دفاعا و هو يستقبل الوفود القادمة اليه من اطراف الجزيرة و سائر القبائل. و هو كذلك ملزم أن يصلي الليل و يسبح لربه كما أنه يواجه في كل لحظة من سائل او مستفت او مجادل او متحد او [ صفحه 9] مستخف. بل كانت الايات القرآنية تنزل عليه في سائر الاوقات تقرر امورا و تعلن احكاما و تفرض فرائض شرعية يواجه النبي بها الناس من خصوم و مؤمنين.و عند وقوف من يقف منه الناس علي هذه التكاليف الكثيرة سيعجب كيف كان الرسول صلي الله عليه و سلم يتولاها جميعا باقتدار خارق عظيم..ان الله عزوجل نظم مهام النبي تنظيما زمنيا فجعل مبدأ اعماله هذه ان ينذر اهله و ذوي قرابته «و أنذر عشيرتك الاقربين» [3] الشعراء/00314 ثم عاني النبي من عشيرته ما عاني. ثم كانت دعوة قد راحت تشمل سائر الناس من اهل الجزيرة و من اهل الكتاب و اتسعت رقعة المناخ الاسلامي بعد الفتوحات العظيمة.ان دعوة الناس لاعتناق الاسلام لا تعتمد علي مطلق الشهادتين و انما هناك التزامات يجب أن يلتزم بها من يعتنق الاسلام هي الصلاة اليومية و هي الصيام في شهر رمضان و هي الزكاة لمن ملك نصابها و الحج و كذلك هناك احكام في الزواج و الطلاق و الميراث و البيوع و الحلال و الحرام والجهاد في سبيل الله و كذلك حفظ القرآن و حفظ السنن النبوية و معرفة ما يجوز و مالا يجوز و الاخذ بهدب الخلق الاسلامي الذي هو ملاك هذا الدين و قوام كيان هذه الامة و هناك امور تدخل في قانون السلم و الحرب و معاملة الاخرين. و هناك جنايات و عقوبات و كبائر و صغائر و هناك التزام بطاعة الله و طاعة رسوله.ان مهمة النبي في ايصال كل فرد من افراد الناس الي هذه المستوي الايماني ليست بالامر اليسير و ليست بالمسألة الهينة فمن هنا كانت مهام النبي في سائر الادوار من أشق المهام و اعسر التكاليف، غير أنه صلي الله عليه و سلم اكملها و اتمها و اتقنها، و من هنا كان هذا الاسلام الذي ضرب بأطناب خيمته في سائر ارجاء الارض شرقيها و غربيها...و قد صرح القرآن الكريم في كثير من سوره و آياته بالمهام الخطيرة التي ناطها الله برسوله محمد صلي الله عليه و سلم و من ذلك ما جاء في قوله تعالي «... كتاب أنزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات الي النور باذن ربهم الي صراط العزيز الحميد» ابراهيم/001 و كذلك قوله تعالي «انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله» النساء/105. وامر الحكم بين الناس ليس بالامر اليسير. فهو علي ثقل عبئه متكرر و متجدد. و امر الناس و اصلاح الناس و ارضاء الناس لم يكن شي‌ء من ذلك من هينات الامور يوما ما و كذلك قوله تعالي «و من الليل فتهجد به نافلة لك عسي ان يبعثك ربك مقاما محمودا» الاسراء/79.و من الليل فتهجد به نافلة لك بهذا التوجيه توجيه للنبي صلي الله عليه و سلم كان الغرض منه لفت انظار الامة الي ما في صلاة الليل و الناس نيام من عظيم اجر [ صفحه 10] و كبير ثواب فهو خطاب و ان كان الرسول صلي الله عليه و سلم مخاطبا به فانه مشمولة به الامة كلها اذ كان فيها من يسهر الليل و لا يهجع فيه الا قليلا و هم كائنون كل حين...اما قوله تعالي - عسي ان يبعثك ربك مقاما محمودا - فان (عسي) و هذه في موقعها هذا تعني التأكيد قصد بها من الاطمئنان و الاقتناع النفسي و ليس هي للتوقع و المقام المحمود علي ما عرف من استعمالاتها لدي اهل اللغة الذي قال الله جل جلاله فيه - عسي ان يبعثك ربك مقاما محمودا - و هو تعبير غير وارد له نظير او اكثر من نظير في القرآن الكريم في مخاطبة الانبياء فهو مما خصص للنبي صلي الله عليه و سلم من المكافآت العظيمة القيمة و ليست كلمة المقام المحمود مما تراجع فيه المعاجم استيضاحا لمعانيها و استخبارا عن مقاصدها فهي من الالفاظ الفصيحة المتميزة بالبساطة و الوضوح ولكن اذ كان المقام المحمود هو مقاما محمودا عند الله جل جلاله فهو مما يبيت محل تمني المتمنين و امل الآملين و رجاء الراجين و النص هنا جاء بلفظ (عسي ان يبعثك ربك) و فيه ما يومي‌ء الي ان المقام المحمود هو من كريم نعم الله جل جلاله المدخرة لهذا النبي العظيم صلي الله عليه و سلم و ما جاء قبل هذه الاية و كذلك ما جاء بعدها يعم و يخص. اذ يصيب منهما ما يصيبه و يصيب اتباعه رضي الله عنهم و ارضاهم من ذلك ما يصيبهم و قوله تعالي (و قل رب ادخلني مدخل صدق و اخرجني مخرج صدق) و قد وجدنا ان الله عزوجل كان يعلم النبي كيف يدعوه و كيف يسأله و يلقنه ما يلهج به في دعائه.لقد كان من مهام النبي ايقاع الحدود التي جاء النص بها في التنزيل العزيز من مثل «و السارق و السارقة فاقطعوا ايديهما المائدة/0038 و من مثل «الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة»... و من مثل «انما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا..» المائدة/33.

منطق الكفر و الايمان

للذين كفروا منطق غير منطق الذين امنوا و مثل ذلك منطق المنافقين... و في القرآن الكريم نماذج كثيرة لمنطق هؤلاء الاعراب... و ندوون من ذلك نماذج من الجدل بين الفئتين من يتابع ذلك ما هناك من اصالة في منطق المؤمن و ما هناك من زيغ في منطق الكافرين... «ان الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم و اما الذين كفروا فيقولون ماذا اراد الله بهذا مثلا...» البقرة/0026ان منطق الكافرين يعتمد علي الاستفزاز و المراوغة في الحوار خلافا لمنطق المؤمنين الذي يبتغي الاقناع و كسب المنتسبين الي الملة، و لمنطق الكفر شعار من العناد و الانتقام لمعابيدهم الباطلة... اجل اننا بعد التمييز بين اساليب الجدل هذه نعلم أية مهمة كبري ناطها الله برسوله الاعظم يوم بعثه نبيا و رسولا الي مشركي مكة و كفارها و منافي المدينة و يهودها و غيرهم من اهل الكتاب...ان اسلوب جدل الكافرين يعتمد النفي و الانكار لان ذلك في رأي القوم ينسف الدعوي القائمة من اساسها «و يقول الذين كفروا لست مرسلا» الرعد/0043 و هو يخرج عن نهج المعقولات عنه المناقشة التي يراد بها الوصول الي المسلمات اما التهويش فهو خلق اساسي في جدل اهل الكفر: «و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون» فصلت/0026و كلمات الاتهام اول شي‌ء يظهر علي لسان المجادل غير المؤمن. و من هنا جاء اتهامهم للرسول الاعظم بالسحر و الشعر و الجنون.. و عناد الكفار في سائر العهود التي بعث الله فيها الرسل للعباد امر متوارث متفق عليه «أتواصوا به بل هم قوم طاغون» الذاريات/0053 [ صفحه 11]

بشرية متميزة

في القرآن الكريم: «آمن الرسول بما انزل اليه من ربه المؤمنون كل امن بالله و ملائكته و كتبه و رسله، لا نفرق بين احد من رسله و قالوا سمعنا و اطعنا غفرانك ربنا و اليك المصير». البقرة/285الرسول في امر الايمان بمفردات الدين حاله كحال اي احد من المؤمنين بدينه و ملته فهو ملزم باداء شعائر العبادات من صوم و صلاة و ما اليها و هو صلي الله عليه و سلم يتوضا للصلاة وضوء سائر الناس و يصلي صلاته و قد تمت لها جميع الشروط و يقرا في صلاته ما يقرا المصلي اذا صلاها منفردا و يركع و يسجد و يقعد و يقرا خلال القعود كلمة (التحيات) التي يقول في نضاعيفها (السلام عليك ايها النبي و رحمة الله و بركاته) كالذي يقوله سائر المصلين و كذلك كان يتشهد في اخر الصلاة و يصلي علي النبي كحال المصلين الاخرين و كان النبي يؤذن في اذن الوليد عند ولادته قاتلا (اشهد ان لا الله الا الله و اشهد ان محمدا رسول الله) و كان يصوم فيمسك عند الفجر و يفطر عند الغروب و كان مخاطبا في امور الشريعة بما يخاطب به كل مسلم و تنطبق عليه شروط صحة الصلاة من الطهارة و استقبال قبله و ستر عورة و قيام و ركوع الا عند عروض المرض له فانه يصلي قاعدا و يقضي الصلاة اذا فات وقتها عن غير عمد و يتيمم للصلاة عند فقدان الماء و ذلك كله علي جاري الامر لدي سائر المؤمنين.و هكذا كان النبي يعد نفسه واحدا من المؤمنين و ان كان هو امامهم و مصدر شريعتهم.و قد طلق النبي بعض زوجاته وردها الي عصمته و فق شروط الطلاق و الرجعة المطبقة علي جميع المسلمين علي انه صلي الله عليه و سلم كانت تحكم امره في هذا الباب خصوصيات معلومة، و حج النبي فادي المناسك و الشعائر مثل غيره من المسلمين.و الخطابات القرآنية الموجهة الي الرسول فيها ما يختص به و منها ما يكون عاما بينه و بين المؤمنين و من هذه الناحية فان الرسول صلي الله عليه و سلم حين يؤي الشعائر و يتذوق حلاوتها او يعاني ما فيها من ثقل يعرف بالتفصيل حالة المسلمين الذين يؤدون هذه الشعائر و ما يجدونه فيها من امور قد تثقل عليهم او يستطيبونها و يرتاحون لها فهو صلي الله عليه و سلم اذن في صميم الوضوع و بحبوحة التكاليف الشرعية.و كان صلي الله عليه و سلم اذا حدث غزو او جرت معركة موجودا في مقدمة من يمارس ذلك و لذا تعرض لكثير من متاعب الحروب و كان النبي يقرا القرآن كما يقرأه الغير من اتباعه و النص الذي نحن في صدده يوضح هذه الحقائق ايضاحا لا يحتاج لمزيد و قد جاء فيه..(كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله) و النبي مشمول بهذه (الكلية) الايمانية و معني بها فهو يؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله كأيمان أي من المؤمنين فصلي الله عيلك و سلم ايها النبي العظيم و الرسول الكريممن الامر الطبيعي ان الله جل جلاله اذا ارسل رسولا من الناس الي الناس فانه لابد ان يكون الرسول المرسل علي رغم بشريته شيئا متميزا علي الشريحة البشرية، و كانت الامم القديمة تواجه رسلها بانكار ما يدعون من رسالات السماء و كان يزيد من شكوكهم في صدق رسالات المرسلين ما يسمعونه من الانبياء من الاصرار علي كونهم - اي الانبياء - بشرا كسائر البشر يفهم من هذا ان النبي - اي نبي كان - يتميز باكثر من سحنة فوق مستوي البشرية و مع ذلك ظل الانبياء بشرا لا يعرف اتباعهم و المؤمنون لهم ذصلتهم بالاله الخالق العظيم و طريقة وصول الوحي الي رسله و ليس من الغريب أن نقول ان الانبياء شبوا عن طوق البشرية، بالرغم من ثبوت هذه الكينونه فيهم في سائر الحالات و الذين آمنوا بالرسالات السماوية كان عندهم هذا الامر واضحا و طبيعيا خلافا للفلاسفة و منكري الديانات، و لقد يصح ان توصف الحالة المضافة الي بشرية الانبياء بالروحانية اذ يتألق الروح في ملكوتها البشري فتستحق ان تعامل انذاك معاملة ليس من شأن البشرية و لا من حقهم ان يعاملوا بها في المجال البشري و كانت عائشة رضي الله عنها و صفت النبي صلي الله عليه و سلم بان خلقه القرآن و هذا اقصي ما وقع لها التعبير به في تصوير بشرية الرسول اذ لم تكن هناك مصطلحات لغوية يعبر بها عن شخصية ما يلفظ بها...و القرآن الكريم يوضح بعض الملامح الدالة علي هذه الحقيقة التي نعني بها وجود مميزات خاصة ترتفع بها البشر الي مستوي ملحوظ ففي قوله تعالي» و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض [ صفحه 12] أن تحيط اعمالكم و انتم لا تشعرون» الحجرات/002 و هنا نري الجانب البشري قد انحسر شي‌ء منه او طرف منه ليحل محله وضع آخر تتجلي فيه للنبي صلي الله عليه و سلم حالة تبدو البشرية فيها بشرية جد مكتملة وجد متسامية مما يتوجب ان ينظر اليها الناظر باكبار عظيم لا يتاح مثله لبني البشر و يحكم لها بالامتياز العظيم في جماعة البشرية و من ناحية ثانية نري ان الله جل جلاله اراد ان يعامل النبي صلي الله عليه و سلم معاملة تتميز بالتفرد في التعامل البشري و ذاك حين نقرأ قوله تعالي «قل ان كان آباؤكم و أبناؤكم و اخوانكم و ازواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها احب اليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتي يأتي الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين» التوبة/0034فلقد اوجب الله علي الامة ان تحب النبي صلي الله عليه و سلم حبا يطغي علي حب الناس آباءهم و ابناءهم و اخوانهم و ازواجهم و اموالهم و تجارتهم و مساكنهم و في الدهر الذي كان الانتماء القبائلي اصلا في استحقاق كل فرد ان يكون موجودا في الناس شرط ان يكون فوق حب الانسان لعشيرته...ان هذا النمط من الحب فوق كل ما يقع لدي المعروفين من عشاق العرب و غيرهم فهو اسمي و اوسع و ابلغ و اشد من كل ما علمنا من احداث الحب فليس قول القائل من عشاقهم و كما يقال:امر علي الديار ديار ليلي اقبل ذا الجدار و ذا الجداراان هذه النصوص القرآنية و نصوص اخري في معناها تعطينا اضاءة ساطعة في موضوع بشرية الرسول الاعظم المتميزة في اطارها البشري و سيمر بنا في آفاق الكتاب ما يقر هذه الحقيقة في النفوس و الافكار علي مستوي علمي قاطع البرهان و الدليل. و في مفردات هذا الكتاب تفاصيل وافية في الموضوع...

قداسة الشخصية النبوية

حين يختار الله لعباده نبيا من بينهم فانه جل شأنه يمنحه من اسباب التفضيل و التمييز الكثير ليكون للعالمين نذيرا و هاديا و ناطقا علي لسان ربه... كما انه جل شأنه يمنحه اكثر من سمة من سمات القداسة و البركة و السمو الروحي ليكون عند المستوي اللائق بمن يوسطه الله بينه و بين عباده في اخطر اسراره و توجيهاته. و مما لا شك فيه ان من يكون ذا صلة بالله ليحمل رسالته الي خلقه فانه لتزكو نفسه و تتطهر من ادران الشهوات التي يعرم بها وضعاء الناس و يترفع عن الدنايا و يبيت في سلوكياته ذا صدق و استقامة و خلق محمود و قد شهد الله لنبيه بذلك اذ قال فيه «و انك لعلي خلق عظيم» القلم/004 اجل ان شخصية النبي حين تكون علي هذا الصراط السوي من التكامل فان النفوس تهوي اليها و تقبل علي التعلق بها و الاستماع اليها و حبها و الذب عنها و مفاداتها، و علي هذا يمنحها الله القداسة و الطهر و العصمة. و اذا كان في الناس من هو ذو نفس خبيثة فان الانبياء منزهون قاطبة عن مثل ذلك بطبيعة حالهم و واقع امرهم و حسن موقعهم الذي اختارهم الله له.. ففي القرآن الكريم علي لسان يعقوب عليه‌السلام «اني لاجد ريح يوسف لولا ان تفندون» يوسف/0094 فلقد تم ذلك ليعقوب من فرط صفاء نفسه و صدق تعلقه بربه و سلامة بنيته النبوية اذ كان نبيا و ابن نبي و حفيد نبي و من كمال تفرده بالقدسية النبوية ان يقول الله فيه:«و ما كان الله ليعذبهم و انت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون» الانفال/33.فهذا نص قرآني ظاهر فيه التزكية المطلقة لشخصية الرسول الاعظم و ان الوجاهة العظمي في النص القرآني أثبتت ان وجود النبي بين افراد قومه يعد حائلا دون ان يعذبهم الله او يبطش بهم و في هذا تمييز قاطع لشخصية الرسول بالمكانة البشرية بين الناس... [ صفحه 13] اجل ان النص القرآني يجعل وجود النبي في قومه حصانة أن يصيبهم الله بمثل ما اصاب الامم القديمة التي كفرت بالله و رسوله فاوقع بهم الخسف و الاغراق و غير ذلك من العقوبات... ان الشعوب القديمة عوقبت و انبياؤها فيها و لم يشأ الله ان ينكل بقوم رسول الله رغم رفضهم الملة التي جاء بها صلي الله عليه و سلم و ذاك اكراما لمكانة هذا النبي العالية عند ربه... لا احسب احدا يملك ان ينفي هذا المعني في النص فانه من وضوح البيان و نصاعة النص بحيث لايقال في تأويله غير هذا الذي قلناه، و السر في ذلك ان هذه الامة خلقت عصية علي الطاعة و غير ذات تقلب في جوهريات معتقداتها في حبها و كرها و تعلقها بعنعناتها و ما تأصل في نفسها من روائع افكارها و ثوابت قيمها... اللهم الا اذا تكدست الادلة و البراهين في ساحاتها و افرغت كل جهدها في مناقشة المعتقد الجديد الذي يريد الله به نسخ المعتقد القديم...ان الله عزوجل اذ بعث محمدا الي العالم جعل المراحلة الاولي في البيئة العربية التي هي بيئة النبي نفسه و ذاك الاعداد فئة منهم تنهض بعد اعتناقها الاسلام الي التبشير به في انحاء العالم خلافا لسائر الديانات المقفلة علي نفسها في ذات اقوامها و هكذا كان الامر و كان اكثر نصيبا من صبر الله عليها...و قال تعالي في تزكية مطلقة:«النبي اولي بالمؤمنين من انفسهم» الاحزاب/6و المراد بالمؤمنين سائر من آمن منهم و الكلام عليهم هنا يتناول مؤمني جميع الامم العربية و الاعجمية عبر ازمان الدهر كله ان الخطاب موجه اليهم علي عهده صلي الله عليه و سلم و علي كل عهد يكون فيه مؤمنون يؤمنون بالله و رسوله و اليوم الآخر.اما النبي فانه مراد بأنه بالمؤمنين من انفسهم في سائر حالات حياته و وفاته و عبر سائر ازمنة الدهر.. لانه لا يصح ان يكون اولي بالمؤمنين من انفسهم في جيل دون جيل لا سيما ان تكون كلماته مسموعةو متداوله و مطاعه و الاذان باسمه قائم و ذائع في جميع البقاع و العصور. و قوله تعالي «و ازواجه امهاتهم» يتضمن عمومية غير محددة بحياتهن فهن امهات المؤمنين اذا ذكرهن المؤمنون ذكروهن موصوفات بهذه الصفة و ملقبات بهذا اللقب التكريمي الجليل...و معني كون النبي اولي بالمؤمنين من انفسهم انه لو وقع الخيار في امر حياة و موت او نفع و ضرر فان علي المؤمن ان يرجح أحقية النبي في الحياة و المنفعة و أن يجعل من نفسه فداءا له - أي للنبي - و دينه و شريعته لان النبي اولي به من نفسه... و النص آت لأقرار معني الفناء في الولاء للنبي و هذا من ادق معاني قدسيته صلي الله عليه و سلم و هي قدسية منحها الله هذا الرسول العظيم، فما عرف مثلها في شخص سواه و قد ظهر عبر التاريخ أن امما آمنت بقدسية ملوك لها وقادة فكانت تعاملهم معاملة فوق معاملة البشر بعضهم بعضا ولكن ذلك لم يكن عن نص سماوي بل كان عن شعور اولئك الرعايا بأن قادتهم يستأهلون منهم هذا التمييز العظيم... و الأمة الاسلامية لو لم يقل الله في قرآنه «النبي أولي بالمؤمنين من انفسهم» لكان حريا بهم أن ينظروا الي رسول الله محمد بن عبدالله نظرة تعظيم و تقديس عظيمين لانه قدم للبشرية جمعاء في سائر مجالات العطاء الانساني و الاجتماعي اعظم ما قدمه احد لهذا البشر من خير و اصلاح و هدي و سعادة و كيان متكامل... حقا أنه صلي الله عليه و سلم اولي بالمؤمنين من انفسهم بل انه اولي من غير المؤمنين بأنفسهم كذلك لو انصفت الناس...اما قوله تعالي «ان شائنك هو الابتر» الكوثر/003 فان الدلالة فيه علي قدسية النبي صلي الله عليه و سلم ناشئة من أن الله استعظيم أن يكون هناك شاني‌ء للنبي. و النبي ليس ممن يملك شاني‌ء أن يشنأه... ذلك سبه الله سبا ذريعا بأن وصفه بأنه ابتر أي لا احد وراءه و لا احد امامه و لا عون له و لا رصيد له من خير او مروءة [ صفحه 14] او عقل او شرف او جاه او كمال. اما ان تكون كلمة الابتر بمعني من لا ولد له و لا ذرية و لا عقب فانه مستبعد جدا لان امثال هؤلاء قد وقع لهم ذلك بسبب العقم. و في القرآن الكريم «و يجعل من يشاء عقيما» الشوري/50 فالعقم اذن من اقدار الله التي لا يذم عليها المبتلي بها و لا تكون منقصة تؤدي الي الاحتقار و الازدراء.و كلمة «الشاني‌ء» لا تعني شخصا واحدا بعينه فلقد يكون هناك بل لقد كان هناك اكثر من شاني‌ء و عدو مبغض لرسول الله صلي الله عليه و سلم... و لو كان المراد بكلمة الابتر من لا عقب له لما كان في قوله تعالي «ان شانئك هو الابتر» زجر او كبير رد وردع لرجل او لاكثر من رجل ممن عادوا رسول الله.و نحن نعلم أن الذين عادوا النبي كانوا كثيرين تري هل كانوا جميعا بلا عقب و هل ينطبق علي كل معاد منهم للنبي القرار القرآني القائل «ان شائنك هو الابتر»...اذن ان كلمة الابتر لا تعني المعني الذي يكرره قوم بأنه يعني من لا عقب له بل هي كلمة ذم لمن راح يعادي النبي و يبغضه و يشنأه و انما حكم الله عليه بذلك لانه غمط حق النبي و حق النبي حق عظيم و قدسيته قدسية ثابتة و مكانته عند ربه جد عالية. و في القرآن الكريم «و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه» التوبة/120... لقد ورد هذا النص في قوله تعالي «ما كان لاهل المدينة و من حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه». فان قوله تعالي «و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه». اشارة الي قدسية صلي الله عليه و سلم بحيث لا تملك نفس أن تترجح عليه او أن تستأثر بشي‌ء دونه او أن يكون النبي في مرحلة تلي مرحلة قوم اخرين...و من الادلة القاطعة علي قدسية النبي قوله تعالي «يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ان تحبط اعمالكم و انتم لا تشعرون» الحجرات/2...ان النص القرآني ميز النبي بأنه ليس من انماط الناس ممن يخاطبهم و يخاطبونه فهو اذ يخاطب من قبل من يخاطبونه يسمو علي الجميع فلابد من تهيبه و اجلال مكانته و غض الصوت عنده بل لقد جعل الله من لا يتأدب في مخاطبة النبي بهذا الادب العظيم جعله ممن يحبط الله علمه و يبطل صلاته و زكاته و يلغي من صفحة اعماله ما يقدم لله من قربات و ما يؤدي من حسنات «ان تحبط اعمالكم و انتم لا تعشرون»... فالرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم قد وهبه الله جماع الفضائل فصير فيه طاقات من القدسية و الطهر و النزاهة التامة فكان من الهيبة و سمو الشخصية علي ما عرفناه فيه قرآنيا أي من طريق الآي القرآني المقول له و المقول فيه خلال ثلاث و عشرين سنة هي السقف الزمني لنزول كتاب الله العزيز... و لم نكن عند الكلام علي شخصيته صلي الله عليه و سلم بشي‌ء من خارج هذا المصدر العظيم الذي هو القرآن الكريم. فان سيرة النبي التي نكتبها هنا مصدرها الاول و الاخير هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لامن خلفه...ان الادلة القرآنية علي قدسية النبي كثيرة المعنا منها بما لجأنا في شرحه الي الايجاز و الي الاسهاب احيانا اخري وفق ما يسره الله لنا في هذا الامر من تيسير...ففي قوله تعالي «ان صلاتك سكن لهم» التوبة/103 مزية شخصية يتفرد بها الرسول صلي الله عليه و سلم. بل ان هناك ما يومي‌ء الي أن الناس كانوا يتحسسون بتفرد النبي ببعض الخصائص و السمات الجليلة الشأن التي يفهم أن قدسيته صلي الله عليه و سلم كانت معروفة لدي كثير من اتباعه و غيرهم ايضا...و من آيات القدسية قوله تعالي «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر» الفتح/3... في النص [ صفحه 15] معني قاطع علي قدسية شخصية النبي اذ ان الله عزوجل نزهه أن يكون له ذنب في آتي ايامه عقب فتح مكة، فان قوله تعالي «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر» لا يعني علي وجه الضرورة أن يكون للنبي ذنب يقترفه في ما بعد فيغفره الله له و انما يعني أن الله نزه نبيه أن يكون له ذنب يقترفه خلال ما بقي له من عمره. الا ان الله عزوجل عرض ذلك علي وجه الامتنان و التفضل فكان النص علي ذلك النحو...ان قدسية شخصية النبي ثابتة و جلية في هذا النص الكريم و مما يصح أن يعد من هذا الباب اي من باب قدسية النبي ما ورد في بعض الآيات القرآنية من مثل قوله تعالي «و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفان مت فهم الخالدون»... الانبياء/34 في هذا النص تفصيل جد واضح لمكانة الرسول صلي الله عليه و سلم عند رب العالمين فلو أن الله جل جلاله جعل لاحد خلودا في الدنيا علي وجه يتميز به المتميز بأنه خالد و باق في حين يري الناس ينساقون الي مصائرهم الابدية لكان الله جل جلاله جعل محمدا واحد منهم.ان قانون الله عزوجل قائم علي كل نفس بشرية و نافذ في كل نسمة وهبها الله الحياة و لذلك فلابد من ان يموت كل حي ولكن حين يكون هناك استثناء لبعض الخلق في الخلود و الحياة علي خلاف ما قضي الله جل جلاله في خلقه فان محمدا صلي الله عليه و سلم اولي بهذا الاستثناء. و لذلك جاء النص القرآني الشريف و كان عليه مسحة التعجب و الانكار «أفان مت فهم الخالدون» و التفضيل - هنا - علي سائر البشر كائنة ما كانت مساحات وجودهم و نفوذهم و غناهم و سلطانهم في هذه الحياة. اجل ان قوله تعالي «افان مت فهم الخالدون» هو تفضيل مطلق غايته الاطلاق علي انه ليس في الدنيا من يسبق محمدا في شي‌ء و ليس في الدنيا من يقع له الترجيح بميزة ما عند الله جل جلاله علي هذه الذات النبوية العظيمة. و من الآيات التي نلحقها بآيات القدسية قوله تعالي:«ان تتوبا الي الله فقد صغت قلوبكما و ان تظاهرا عليه فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير...» التحريم/4.ففي هذا النص القرآني ما يشعر بعظيم حدب الله علي رسوله و كبير رعايته له و حرصه عليه فلقد جعل الله في مواجهة موقف اثنتين من نسائه وقفتا منه عليه الصلاة و السلام موقف التظاهر عليه فانه تعالي بدأ بذكر اسمه في طليعة من يتولون الدفاع عن نبيه «فان الله هو مولاه» اي وليه و ناصره و أتبع ذلك بقوله «و جبريل» و أتبع جبريل بجميع المؤمنين الصالحين ثم ختم الجمهرة المدافعة عن الرسول بسائر ملائكة الله، «و الملائكة بعد ذلك ظهير...».مثل هذا الكلام من الله واضح التنويه بعظم مكانة النبي عند الله و قياسا علي ذلك فان اية حركة معادية للرسول ستواجه باكثر من ذلك دفاعا عنه صلي الله عليه و سلم و المهم ما ينطوي عليه النص من بليغ رعاية الله لرسوله و عظيم لطفه به و مستعجل ما يقع من اسباب نصرة نبيه بحجم جد كبير... و ما من شك في أن شخصية تنال هذا الحفول الكريم من رب العالمين الا كانت شخصية مقدسة كل التقديس و محصنة كل الحصانة.و من ذلك «انك ميت و انهم ميتون...» الزمر/30...الاشارة الي ان النبي ميت و قد جاء ذلك بلفظ الخطاب و المواجهة انما هو امر طبيعي لان الموت عاقبة كل حي من ابناء البشر... ولكن قوله تعالي «و انهم ميتون» فيه ما يشبه التهوين و الملاحظة للرسول الاعظم اذ اورد النص أن الجميع سيموتون و في هذا من معاني القدسية النبوية ما هو جد ظاهر...ان الله اقسم بكثير من مخلوقاته من مثل الشمس و القمر و الليل و النهار ولكن ذلك القسم لم [ صفحه 16] يكن لقدسية هذه الجمادات الخالية من محتوي القدسية... اما البشر فان الله لم يقسم باحد منهم ولكن النبي وحده هو الذي اقسم الله بحياته من هذا التفرد و في قسم الله بحياة رسوله هو محل القدسية التي نقول بها...ان القسم بالجمادات لا يبرزها كشي‌ء مقدس و انما يبرزها بوصفها من بديع مخلوقات الله. اما القسم بحياة النبي و لم يقع مثله في التنزيل فانه يدل علي التشريف و التكريم و التقديس.و ها نحن اولاء نجد في التنزيل العزيز نصا يكشف عن جانب من قداسة هذه الذات النبوية العظيمة هو ان الله اقسم بحياته صلي الله عليه و سلم في قوله «لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون» الحجر/72.و لم يكن الله قد أقسم بحياة احد من رسله و في ذلك من الدلالة علي قدسية النبي صلي الله عليه و سلم مالا يرقي اليه شك او يقوم في مواجهته جدل او اساءة تفسير او خروج عن التأويل الي التضليل... ممن عسي أن يصرفهم الهوي عن الهدي كبعض من وجدناهم شاقوا الله و الرسول فضنوا عليه بما هو اهل له من تكريم الله و القسم بحياته [4] .و في قوله تعالي «لتؤمنوا بالله و رسوله و تعز روه و توقروه و تسبحوه بكرة و أصيلا». الفتح/9فقد امرت الامة بتوقير نبيها محمد صلي الله عليه و سلم و التوقير لغة اغداق مظاهر الاحترام و التبجيل علي من يراد توقيره الي التعزير فهو من الفاظ الاضداد التي جاء افتراضها بالتوقير محددا معناها الذي هو التوقير نفسه.لم يرد في القرآن الكريم علي توقير شخصية من الشخصيات بالنص الواضح والامر القاطع الا شخصية رسول صلي الله عليه و سلم و انما كان ذلك لعظم منزلة الرسول عند ربه و بهذا النص يفسر ما عمد اليه الامويون بعد فتح كثير من الامصار و وقوف الناس علي صور التكريم و التوقير التي كانت تتعاطاها الشعوب تجاه رؤسائها و فلاسفتها فان العرب ابان جاهليتهم كانوا يرون من مظاهر تكريم الموتي دفنهم في عراء من الارض و تركهم لامطار السماء و شمسها و ريحها و كذلك فعل بجثمانه الطاهر عند دفنه في ساحة البيت الذي كان سكن زوجه عائشة ام‌المؤمنين رضي الله عنها و ليس في غرفتها فلما انتشر الاسلام و وصل جنوده الي كل فج من فجاج العالم تنبه المسلون الي ان الالتزام بالطريقة الجاهلية هذه في دفن الموتي لم يعد مقبولا و لا سيما هذا النبي العظيم صلي الله عليه و سلم الذي امر القوم بتوقيره لذا بادروا الي اتخاذ القبة علي قبره الشريف [5] لاجل ان يعطوه نصيبا من الرعاية و الحماية ليكون في مأمن من اوساخ الفضاء و نفايات الارض و المطر و تخريبه و من اماكن وقوع الدفن ثانية و ثالثة علي ذات مكان الجدث الطاهر فكان هذا في المفهوم اللغوي و الاجتماعي و النص هو بكل تأكيد معني التوقير الذي لا مبالغة و لا غلو فيه.ان للتوقير معالم و مظاهر في التعامل مع شخصية الرسول صلي الله عليه و سلم في حياته و بعد التحاقه بالرفيق الاعلي اذا ما رأتها الامة حسنة فهي جديرة ان يؤخذ بها في التعبير عن شتي صور توقيره عليه الصلاة و السلام ان الله عزوجل جعل جزاء رسله مؤجلا الي يوم الحساب و لم يوجه امة من الامم بان تجزي رسولها بالجزاء الحسن و تدفع له ثمن جهاده الا رسول الله و لا يفهم من هذا انه صلي الله عليه و سلم لم يكن قد اصابه هذا التوقير من امته فاراد الله جل جلاله ضمانة [ صفحه 17] له فان الامة المعنية بهذا الامر هي الامة التي اعتنقت الاسلام اما ما كان من تعامل الناس مع الرسول بالشكل العدائي المعروف اول ايام الدعوة الي الاسلام اذ آذوه أدي شديدا و لم يستجيبوا له فذاك امر طبيعي في سير سائر الانبياء عليهم‌السلام و قد قال ورقة بن نوفل للنبي صلي الله عليه و سلم في الهزيع الاول من ايام البعثة النبوية (ما جاء أحد بمثل ما جئت به الا عودي).و ايضا من آيات القدسية [6] قوله تعالي:«و رفعنا لك ذكرك». الشرح/4.و هذا نص يميز به الله عزوجل نبيه الكريم بانه رفع له ذكره و تلك لعمري منزلة عظيمة لا تنال الا بلطف الباري‌ء العظيم...و رفع الذكر ليس بالامر الذي يكون قاصرا لاحد في ايام حياته وحدها و انما يكون ذلك بمن يقع له ذلك مقرونا بايام الدهر كلها، فلقد علمنا ان مهمة التاريخ هي الاشادة بمآثر ذي المآثر بعد وفاته و لذلك كان تاريخا و ليس التاريخ ان تسير صفات التكريم في ظل السائر حتي اذا مات لم يكن هناك من مجد يذكر له و مفخرة يتحدث بها عنه.و جهلة القوم ممن يظنون ان الرسول اذ توفاه الله اليه لم يعد ثمة ما يذكر به علي وجه الاجلال و التبجيل والاعزاز و التكريم في حين يثبت النص القرآني له صلوات الله عليه. هذه الحقيقة التي لا يماري فيها الا جاهل و معاند و غبي لا يفهم معاني الالفاظ الواردة في الكلام...اذن ان الله رفع ذكر النبي في دنياه و اخراه و في حياته و مماته و ليس من المنطق ان يسلب ذو فضل و مكانة و مزية ما كان له من ذلك لانه مات او لانه غاب و لو نظرنا الي الرسل و شعوبهم و الي رجال كبار ظهروا في ما خلا من الزمان لوجدنا أن سيرتهم تتلي مقرونة بكل اكبار و تقدير.و التاريخ ينقل لقراء اسفاره محامد اناس و مساوي‌ء اخرين فمن كان اهلا للمحمدة و من لم يكن كذلك قيل في حقه ما يستحقه...«فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره»... الزلزلة 8/7و علي هذا فان دخل التاريخ في ما اراده الله من رفع ذكر الرسول صلي الله عليه و سلم هو انه ينقل ذلك من جيل الي جيل فيروح الناس يلهجون بعظمة شخصية النبي في كل محفل من المحافل و في كل زمان و مكان و تظل صحف التاريخ تنوه بذلك اذ تظل الناس تطالعها و تقف مما فيها علي جلال قدر النبي و عظمة شخصيته و عظيم جهاده و كريم اعماله و جزيل خدماته و ذاك هو حقا معني رفع الذكر للانسان.و قد تنبه الشعراء لهذا المعني فقال قائلهم:و اجعل لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للانسان عمر ثان‌ان ثمرة ما ذكره القرآن الكريم من آيات في اعزاز النبي و اجلال قدر و عظم منزلته عند ربه و ما كان من النصوص الواردة في تقديسه انما كان الهدف به شد الامة الي قيادة صالحة مخلصة فان ذلك اصل في تكوين الامم و اقامة كيان الشعوب... [ صفحه 18] ان الطاعة التي تمنحها الجيوش لقاداتها هي مصدر التوفيق و التمكين و كذلك كان الامر في النهج القرآني. و هو عين الصواب و لقد رأينا في العصر الحديث امما تم لها النهوض في عالم السياسة بفعل ماتم لها من قوة الارتباط بقائد يقودها و من هذه الامم الصين التي كانت تعد قيادتها في مستوي العصمة المطلقة و مثلها الا لمان بعد ظهور زعيمها «هتلر»...تلك ثمرة ما اراد الله من اسباغ سمات القدسية علي نبيه العظيم، و ما تلام امة تتعلق بقيادتها و انما تلام اذا تفككت عري التعلق بهذه القيادة فاذا كان ذلك كذلك و كان علي رأس القيادة من هو جدير بجميع سمات العظمة و الحنكة و التمكين ثم للامة التوفيق...ان الدول العظمي و الصغري تمنح ملوكها الحصانة و الحماية و الرعاية فلا تمكن خصومهم منهم و لا تأذن بمسهم بالكلمة الجارحة بل انها تجعلهم غير مسؤولين اي لا يحاكمون و لا تنسب اليهم جناية و هذا هو ذات المعني الذي نجده في نظام القيادة الاسلامية...

الرسول في مجموعة الرسل

في القرآن الكريم ما يتكرر فيه ذكر رسول الله محمد صلي الله عليه و سلم عند ذكر جمهرة الرسل الاقدمين و من ذلك قوله تعالي: «انا اوحينا اليك كما أوحينا الي نوح و النبيين من بعده و أوحينا الي ابراهيم و اسماعيل و اسحق و يعقوب و الاسباط و عيسي و أيوب و يونس و هرون و سليمان و آتينا داود زبورا»النساء/163... و في القرآن الكريم فيما يتصل بالجانب السلوكي جاء قوله تعالي: «قل ما كنت بدعا من الرسل و ما ادري ما يفعل بي و لا بكم ان اتبع الا ما يوحي الي و ما أنا الا نذير مبين» الاحقاف/9... و في القرآن الكريم:«ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك» فصلت/43.ففي هذا النص ايماء الي وحدة المقولات الدينية الاساسية لدي سائر اديان السماء. فما كان قد قاله الله للرسل و فيهم الانبياء اذ لا فرق في المصطلح بين رسول و نبي و بشير و نذير و ما الي ذلك من المفردات التي جاءت في التنزيل في معني واحد... ان ما قاله الله للرسل هو ما قاله لرسول صلي الله عليه و سلم من التوحيد و النهي عن الاشراك بالله و تحريم قتل النفس و غير ذلك من المحرمات السماوية. فان هذه المحرمات قائمة كلها علي جوهر واحد، و لم يرد النص بعبارة «ما قاله الله للرسل قاله لك» لان فعل «قيل» الآتي بصيغة المجهول واضح فيه ان مصدر القول هو الله عزوجل لان من البديهي الذي لا يجادل فيه مجادل ان الوحي من الله و ان ما يقال للرسل انما هو من قول مرسل الرسل الي العباد الا و هو الله و حين يصل الامر الي البديهيات المعترف بها في اكثر من جيل فان التعبير بالمختصرات يعد تعبيرا بالمطولات و من هنا قالوا المعروف عرفا كالمشروط شرطا...و في قوله تعالي «ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك» بيان برسالة الرسول و ان كان النص لم يخاطبه بذلك فيه اذ جعل القياس و المقارنة اسلوبا في التعريف برسول الله محمد بن عبدالله رسولا من الله مقولا له في وحي الله ما قيل لنظرائه من رسل الله. و كان النبي صلي الله عليه و سلم يلقب كل نبي من قبله بلقب - أخي - تنويها بعلاقة مهمة واحدة و العمل علي الخط الواحد و اعتزاز بأولئك الرسل الكرام صلوات الله و سلامه عليهم. و اذا رجعنا الي تفاصيل سيرة الرسل وجدناها تتشابه و تتماثل فهم اهل كفاح و رجال جهاد و دعاة اصلاح و ما منهم من احد الا كان قد لاقي من قومه ما لاقي النبي. و لئن كانت التوراة في بعض اسفارها قد تكلمت علي الانبياء بما لا يليق و ربما كان ذلك نهجا في سياستها قد التزمت به عند ايراد اسم كل نبي من انبيائهم. فان القرآن الكريم زكي هؤلاء الرسل تزكية مطلقة و كشط عنهم جميع ما زعمه كتبة التوراة في شأنهم من اقتراف اعمال غير لائقة... [ صفحه 19] ان القرآن الكريم لم يقتصر في امر امتداح الانبياء السابقين علي ايرادهم في سورة واحدة او سورتين و انما توزع الكلام عليهم في كثير من السور القرآنية و قد بات من المعتقدات الدينية في الملة الحنيفية السمحة وجوب الاعتقاد بعصمة الانبياء و قد آخذ الله اشد المؤاخذة اليهود بقتلهم الانبياء و تكذيبهم و اساءة القول فيهم.و لقد كان من الدروس القرآنية ايراد قصص الانبياء ليكون في بعض ذلك ما يشجع النبي علي الصبر و التحمل و الاقتداء «اولئك الذين هدي الله فبهداهم اقتده» الانعام/90... و من ذلك قوله تعالي «و اذ اخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و ابراهيم و موسي وعيسي بن مريم و اخذنا منهم ميثاقا غليظا» الاحزاب /7... و ايضا قوله تعالي «شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا و الذي اوحينا اليك و ما وصينا به ابراهيم و موسي و عيسي أن اقيموا الدين و لا تتفرقوا كبر علي المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتبي اليه من يشاء و يهدي اليه من ينيب» الشوري/13...

الوحي

تنهض رسالات السماء التي يرسل بموجبها الرسل الي اقوامهم بالاصل الواحد الذي هو الوحي وفقا لقوله تعالي «و ما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا» الشوري/51...و كانت رسالة الرسول الاعظم محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم علي وفق ذلك اذ اوحي الله اليه مفردات الشريعة و مفصل امرها المثبت في القرآن الكريم من طريق الوحي. و قد اثبت القرآن ذلك في عدة معدودة من النصوص بعبارات و صيغ متعددة. و ها نحن اولاء آخذون سرد آيات الوحي و الايحاءبمختلف صيغها في هذه الجمهرة من النصوص المستوعبة لموضوع الوحي [7] .«ذلك من انباء الغيب نوحيه اليك و ما كنت لديهم اذ يلقون اقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم اذ يختصمون» آل‌عمران/44...«انا أوحينا اليك كما أوحينا الي نوح النبيين من بعده و أوحينا الي ابراهيم و اسماعيل و اسحق و يعقوب و الاسباط و عيسي و ايوب و يونس و هرون و سليمان آتينا داود زبورا» النساء/163...«و أوحي الي هذا القرآن لانذركم و من بلغ أئنكم لتشهدون ان مع الله آلهة أخري قل لا اشهد قل انما هو اله واحد و انني بري‌ء مما تشركون) الانعام/19...«اتبع ما أوحي اليك من ربك لا اله الا هو و أعرض عن المشركين» الانعام/106...«قل انما أتبع ما يوحي الي من ربي هذا بصائر من ربكم و هدي و رحمة لقوم يؤمنون» الاعراف/203...«ان أتبع الا ما يوحي الي اني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم» يونس/15... [ صفحه 20] «واتبع ما يوحي اليك واصبر حتي يحكم الله و هو خير الحاكمين» يونس/109...«تلك من انباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا فاصبر ان العاقبة للمتقين» هود/49...«نحن نقص عليك احسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن و ان كنت من قبله لمن الغافلين» يوسف/3...«كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا اليك و هم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا اله الا هو عليه توكلت واليه متاب»الرعد/30...«ثم أوحينا اليك أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا و ما كان من المشركين» النحل/123...«و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك لتفتري علينا غيره و اذن لاتخذوك خليلا» الاسراء/73...«واتل ما أوحي اليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته و لن تجد من دونه ملتحدا» الكهف/27...«قل انما أنا بشر مثلكم يوحي الي أنما الهكم اله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا» الكهف/110...«قل انما يوحي الي أنما الهكم اله واحد فهل انتم مسلمون» الانبياء/108...«نزل به الروح الأمين. علي قلبك لتكون من المنذرين» الشعراء194/193.لم يرد مثل هذا التعبير في ما تكلم الله به علي الانبياء و الرسل عند ايحائه اليهم برسالته. و انما اقتصر به علي رسول الله صلي الله عليه و سلم و اختص به وحده فلقد ذكر الروح في هذا النص موصوفا بالامين في نزوله في القرآن الكريم متلقيا اياه من لدن رب العالمين. و قد عين الله منطقة النزول بقلب الرسول صلي الله عليه و سلم حين اراد الله ان يجعله نذيرا للعباد علي تعدد الامم و اختلاف الاقوام. و الاصطفاء ظاهر هنا ظهورا تاما كما ظهر في هذا التعبير في التنزيل بأدق الالفاظ و اوثقها و اجمل معانيها و انما جاء الكلام علي القلب لان القلوب في القرآن الكريم جاءت موصوفة بشتي الصفات فمنها ما وصف بالاطمئنان و الزوغان و الرعب و الاشمئزاز و العمي و التقلب و القسوة و الانغلاق و الوجيف و الميل، و كونها يطبع عليها و يختم عليها و الغل و المرض و ما الي ذلك فجاء النص بتفريغ قلب النبي صلي الله عليه و سلم للهيئة التي نزل بها الروح الامين علي قلبه كما ان القرآن الكريم ذكر اسم الملك الذي نزل بالذكر الحكيم علي قلب الرسول صلي الله عليه و سلم و هو جبريل عليه‌السلام لبيان تفرد هذا الملك بالمهمة العظيمة التي و كلها الله اليه فان لله عزوجل اكثر من ملك لا يعصونه في شي‌ء ولكن جبريل عليه‌السلام كان الملك الوحيد الذي انتدبه الله جل جلاله لامر الوحي فلم يبق هناك من مجال لادعاءات مدعين من منكري الدين و المكابرين فيه بحيث يزعمون ان للقرآن أكثر من طابع و سمة و جاء فيه بحيث يزعمون ان للقرآن أكثر من طابع و سمة و جاء الكلام علي هذا الملك بالتزكية التامة «قل من كان عدو لجبريل فانه نزله علي قلبك باذن الله مصدقا لما بين يديه و هدي و بشري للمؤمنين» البقرة/97...«اتل ما أوحي اليك من الكتاب و أقم الصلاة ان الصلاة تنهي عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون» العنكبوت/45...«واتبع ما يوحي اليك من ربك ان الله كان بما تعملون خبيرا» الاحزاب/2...«و الذي أوحينا اليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه ان الله بعباده لخبير بصير» فاطر/31... [ صفحه 21] «قل انما أنا بشر مثلكم يوحي الي أنما الهكم اله واحد فاستقيموا اليه و استغفروه و ويل للمشركين» فصلت/6...«و كذلك اوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر ام القري و من حولها و تنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة و فريق في السعير» الشوري/7...«شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا و الذي أوحينا اليك و ما وصينا به ابراهيم و موسي و عيسي أن اقيموا الدين و لا تفرقوا فيه كبر علي المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتبي اليه من يشاء و يهدي اليه من ينيب» الشوري/13...«و كذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا و انك لتهدي الي صراط مستقيم» الشوري/52...قوله تعالي «ما كنت تدري ما الكتاب و لا الايمان» انما هو بمثل معني قوله تعالي «و ان كنت من قبله لمن الغافلين» و قوله تعالي «و وجدك ضالا فهدي». ولكن الروح الذي اوحاه الله الي رسوله من امره ملأه علما و حكمة و استيعابا لشرع الله و قرآنه فصار صلي الله عليه و سلم بذلك هاديا للعباد الي صراط مستقيم... و انها لشهادة الهية عظمي بحق الرسول الاعظم اذ جاء فيها الخطاب الصريح «و انك لتهدي الي صراط مستقيم» و كذلك كان قول الله في صفة الروح الذي هو روح من امره و نور من عنده و هو خطاب قرآني كريم أوجد لذاتية النبي ذاتية عالية المستوي فخمة الشأن عزيزة المقام... و قد بدأ هذا النص بكلمة (و كذلك) مما يفهم من استمرارية الألطاف الالهية في تدفقها علي شخصية هذا الرسول العظيم...«فاستمسك بالذي أوحي اليك انك علي صراط مستقيم» الزخرف/43...«و اذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين» الاحقاف/7.

او من وراء حجاب

أشرنا الي أن المصدر الاول للرسالات السماوية التي يكلف اداءها من يختارهم الله لهذه المهمة انما هو الوحي النازل بايصال المعلومات علي هيئة نصوص تعبيرية الي الرسول من طريق ملك يؤدي هذه المهمة و قد علمنا أن هناك ما هو خارج نطاق النصوص أي انه نمط من الوحي غير متلو او انه شي‌ء يقع بعلم الله في نطاق ما سماه الله «من وراء حجاب» [8] الشوري/51... و من ذلك ما يصل الي علم النبي في منامه «اذ يريكهم الله في منامك قليلا و لو اراكهم كثيرا فشلتم» الانفال/43... و من ذلك «و اذ اسر النبي الي بعض ازواجه حديثا فلما نبأت به و اظهره الله عليه عرف بعضه و أعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير» التحريم/3... فان تنبي‌ء العليم الخبير و هو الله انما هو من العلم الذي و صل الي النبي من غير نصوص الوحي المتلو...و كذلك قوله تعالي «و اظهره الله عليه» فان هذا الاظهار نمط من ابلاغ الله رسوله مسائل من غير طريق الوحي المتلو. و قوله تعالي «و انزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك مالم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما» النساء/113... في النص ما يجمع بين الوحي و غيره من اسباب ايصال المعلومات الي الرسول. فان قوله تعالي «و علمك مالم تكن تعلم» ان بعض ذلك مما يقع في مجال الوحي المتلو اي القرآن الكريم و أن بعضه يقع في غير هذا المجال... و كذلك ذكره تعالي لكلمة الحكمة التي قد يكون ايرادها لبيان ما وصل الي الرسول من الحكمة القرآنية و كذلك ما وصل اليه من الحكمة و حسن التبصر مما هو من [ صفحه 22] بعض ما كان الله يظهر عليه رسوله خارج نطاق النصوص القرآنية.و جاءت في القرآن كلمة الاراءة في صفة ما يصل الي النبي في منامه اخذا من الرؤيا المنامية... و ما يعد من وراء حجاب في باب المعلومات التي تصل الي الرسول قوله تعالي «ففهمناها سليمان». في النص القرآني «و داود و سليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نفشت فيه غنم القوم و كنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان و كلا آتينا حكما و علما...» الانبياء/79...ان هذا التفهيم تفهيم لم يوصله الله الي نبيه من طريق ملك الوحي و انما جعله مما ينقدح في ذهن نبيه من الرأي الصائب الذي يهتدي به في حكمه. و قوله تعالي «انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله و لا تكن للخائنين خصيما» النساء/105. فان قوله تعالي «لتحكم بين الناس بما اراك الله...» معني «اراك الله» من الرأي و هو ما يجعل الله الرأي ينقدح عن قرار سديد هو من بعض ما يلهمه الله رسوله من غير طريق الوحي القرآني و نعني بذلك أن الله يبلغ رسوله بأمور كثيرة خارج نطاق الكلام القرآني فهو صلي الله عليه و سلم في ترقب مستمر لوحي الله و الهامه و اظهاراته و اراءاته و القاء المعلومات في روعه. و في الحديث النبوي (ان روح القدس نفث في روعي أن النفس الخبيثة لن تخرج من الدنيا حتي تسي‌ء الي من أحسن اليها)... و قد يكون اختيار الرسول صلي الله عليه و سلم بيت‌المقدس قبلة في الصلاة في العهد المكي و صدر من العهد المدني قائما علي علم علمه النبي من ربه... و هو من الامور الخطيرة التي لا يقطع فيها الرسول برأي مستقل كما يلاحظ... و قد يصح أن يعد مما وصل الي الرسول من ربه من غير طريق الوحي المقروء... و قد يكون قوله تعالي «فلنولينك قبلة ترضاها» البقرة/144 معضدا بهذا الذي اسلفناه من القول في موضوع الاتجاه الي بيت‌المقدس اول عهد المسلمين في الصلاة. و قد تكون صيغة الاذان بصيغته المعلومة من بعض ذلك و احكام الصلاة و ركعاتها من بعض ذلك ايضا من الله عزوجل يخاطب من شاء من عباده من بشر و غير بشر بما يبلغهم به امورا يريدها فقد خاطب الجبال «يا جبال اوبي معه» سبأ/10 و كذلك «و أوحي ربك الي النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا» النحل/68.و كذلك «فقال لها و للارض ائتيا طوعا او كرها فالتا اتينا طائعين» فصلت/11 و كذلك «يا ارض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي» هود/44 و كذلك وجدنا ان الله خاطب البشر و هم لم يكونوا بعد نطفا اي انه عزوجل خاطبهم قبل ظهورهم الي عالم الحياة بدهر بعيد و ذلك في قوله تعالي «و اذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و اشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا...» الاعراف/172 حقا ان الله اذا خاطب من شاء من عباده لا يعييه ان يخاطبهم كما يشاء و ذاك ضمن اسراره البالغة التي لا يعلمها للناس...

الانزال والتنزيل

جاء في القرآن الكريم ما هو من قبيل الوحي المتلو و ذاك بلفظ الانزال و التنزيل كالذي في قوله تعالي «قل من كان عدوا لجبريل فانه نزله علي قلبك باذن الله» البقرة/97... و في باب «الانزال و التنزيل» جاءت الاشارة الي عدد من النصوص القرآنية التي استعمل فيها حرف الانزال و التنزيل و ذاك ما نسرده في هذا الجدول من غير ان نري ضرورة لشرح شي‌ء منه و ذاك لوضوحه و قد تكون بعض نصوص هذا الجدول قد وردت في ابواب اخري شرحت فيها.«قل من كان عدوا لجبريل فانه نزله علي قلبك باذن الله مصدقا لما بين يديه و هدي و بشري للمؤمنين». البقرة/97. [ صفحه 23] «و لقد انزلنا اليك آيات بينات و ما يكفر بها الا الفاسقون»... البقرة/99«نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه و أنزل التوراة و الانجيل من قبل هدي للناس»... آل‌عمران/3«هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله الا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا و ما يذكر الا أولوا الالباب»... آل‌عمران/7«انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله و لا تكن للخائنين خصيما»... النساء/105«يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله و رسوله و الكتاب الذي نزل علي رسوله و الكتاب الذي أنزل من قبل و من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا»... النساء/136«لكن الراسخون في العلم منهم و المؤمنون يؤمنون بما انزل اليك و ما انزل من قبلك و المقيمين الصلاة و المؤتون الزكاة و المؤمنون بالله و اليوم الاخر اولئك سنؤتيهم اجرا عظيما»... النساء/162«لكن الله يشهد بما انزل اليك انزله بعلمه والملائكة يشهدون و كفي بالله شهيدا»... النساء/166«و انزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله و لا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات الي الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون». المائدة/48.«و أن احكم بينهم بما انزل الله و لا تتبع اهواءهم و احذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك فان تولوا فاعلم انما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم و ان كثيرا من الناس لفاسقون»... المائده/49«قل يا اهل الكتاب هل تنقمون منا الا أن آمنا بالله و ما أنزل الينا و ما انزل من قبل و أن اكثركم فاسقون»... المائدة/59«و اذا سمعوا ما انزل الي الرسول تري اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين»... المائده/83«و هذا كتاب انزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه و لتنذر ام القري و من حولها و الذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به و هم علي صلاتهم يحافظون»... الانعام/92«أفغير الله ابتغي حكما و هو الذي انزل اليكم الكتاب مفصلا و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين»... الانعام/114«و هذا كتاب انزلناه مبارك فاتبعوه و اتقوا لعلكم ترحمون»... الانعام/155«كتاب انزل اليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به و ذكري للمؤمنين»... الاعراف/2«فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون»... الاعراف/157«فان كنت في شك مما انزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين»... يونس/94«تلك آيات الكتاب المبين، انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون»... يوسف/2«تلك آيات الكتاب و الذي انزل اليك من ربك الحق ولكن اكثر الناس لا يؤمنون»... الرعد/1 [ صفحه 24] «افمن يعلم أنما انزل اليك من ربك الحق كمن هو اعمي انما يتذكر اولوالألباب»... الرعد/19«و كذلك انزلناه حكما عربيا و لئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي و لا واق»... الرعد/37«كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات الي النور باذن ربهم الي صراط العزيز الحميد»... ابراهيم/1«انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون»... الحجر/9«و ما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي اليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون بالبينات و الزبر و انزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم و لعلهم يتفكرون»... النحل 44/43«و ما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه و هدي و رحمة لقوم يؤمنون»... النحل/64«و يوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم و جئنا بك شهيدا علي هؤلاء و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‌ء و هدي و رحمة و بشري للمسلمين»... النحل/89«قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا. و هدي و بشري للمسلمين»... النحل/98«و قرآنا فرقناه لتقرأه علي الناس علي مكث و نزلناه تنزيلا»... الاسراء/106«الحمد لله الذي علي عبده الكتاب و لم يجعل عوجا»... الكهف/1«ما انزلنا عليك القرآن لتشقي»... طه/2«و كذلك انزلناه قرآنا عربيا و صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون او يحدث لهم ذكرا»... طه/113«لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون»... الانبياء/10«و هذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون». الانبياء/50«و كذلك أنزلناه آيات بينات و أن الله يهدي من يريد»... الحج/16«تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا»... الفرقان/1«و انه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الامين. علي قلبك لتكون من المنذرين»... الشعراء 194/192«و كذلك أنزلنا اليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به و من هؤلاء من يؤمن به و ما يجحد بآياتنا الا الكافرون». العنكبوت/47«أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلي عليهم ان في ذلك لرحمة و ذكري لقوم يؤمنون»... العنكبوت/51«تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. ام يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون»... السجدة3/2«و يري الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق و يهدي الي صراط العزيز الحميد». سبأ/6«و القرآن الحكيم. انك لمن المرسلين. علي صراط مستقيم. تنزيل العزيز الرحيم. لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون»... يس 6/2 [ صفحه 25] «كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبرو آياته و ليتذكر أولوا الالباب»... ص/29«تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. انا انزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين»... الزمر2/1«الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم الي ذكر الله ذلك هدي الله يهدي به من يشاء و من يضلل الله فماله من هاد»... الزمر/23«انا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدي فلنفسه و من ضل فانما يضل عليها و ما أنت عليهم بوكيل»... الزمر/41«تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا اله لا هو اليه المصير»... غافر (المؤمن) 3/2«تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون». فصلت3/2«ان الذين كفروا بالذكر لما جاءهم و انه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد»... فصلت/42«انا انزلناه في ليلة مباركة انا كنا منذرين». الدخان/3«تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم». الجاثية/2«تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم». الاحقاف/2«الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله أضل اعمالهم. و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما نزل علي محمد و هو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم و أصلح بالهم. محمد2/1«انه لقرآن كريم. في كتاب مكنون. لا يمسه الا المطهرون. تنزيل من رب العالمين». الواقعة 80/77«هو الذي ينزل علي عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الي النور و ان الله بكم لرؤوف رحيم»... الحديد/9«لو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله و تلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون»... الحشر/21«انا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا»... الانسان (الدهر) /23«انا انزلناه في ليلة القدر. و ما ادراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر. القدر 3/1

الرسول في رقابة ربه

نجد في التنزيل العزيز آيات كثيرات تشير الي عظم مكانة النبي محمد صلي الله عليه و سلم عند ربه فهو - علي جهة التنويه - يرمقه و يلاحظ تحركاته و يسمعه اذ تكلم و اذا قام الي صلاته او سجد او لقي لناس او خاطبهم و من ذلك او من بعضه «الذي يراك حين تقوم و تقلبك في الساجدين» الشعراء/219... «ان ربك يعلم أنك تقوم أدني من ثلثي الليل و نصفه و ثلثه» المزمل/20... «قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام» البقرة/144... «و اذ صرفنا اليك نفرا من الجن» الاحقاف/29... «ثاني اثنين اذ هما في الغار» التوبة/40... «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي الي الله و الله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير» المجادلة/1... «و اذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه امسك عليك زوجك» الاحزاب/37...و ما من شك في أن الله يعلم كل شي‌ء عن سائر خلقه اذ «ما يكون من نجوي ثلاثة الا هو رابعهم» المجادلة/7. ولكن ما جاء في القرآن من متابعة الله تحركات نبيه يخرج عن الاصل الذي نعرفه في احاطة الله بأحوال عباده الي امر اخر هو فرط عنايته عز [ صفحه 26] و جل برسوله الاعظم صلي الله عليه و سلم علي ما نطقت به آيات التنزيل العزيز... و من ذلك ايضا قوله تعالي «و أنه لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا» الجن/19...

اشهد ان محمدا رسول الله

الله اكبر الله اكبرالله اكبر الله اكبراشهد ان لا اله الا اللهاشهد ان لا اله الا اللهاشهد ان محمدا رسول اللهاشهد ان محمدا رسول اللهحي علي الصلاةحي علي الصلاةحي علي الفلاححي علي الفلاحالله اكبر الله اكبرلا اله الا اللهالأذان الذي يؤذنه المؤذن يدعو به الناس الي الصلاة خمس مرات في اليوم انما هو صورة مصغرة و ملخصة كل التلخيص للحجم العقائدي في الاسلام فانه يبدأ بتكبير للخالق العظيم الذي هو الله لا اله الا هو وحده بشهادة تتكرر اربع مرات في ألفاظ مثنيات. ثم تأتي الشهادة بألوهية الله و وحدانيته مرتين. ثم يلي ذلك الشهادة برسالة رسول الله محمد صلي الله عليه و سلم مرتين «اشهد ان محمدا رسول الله» ثم يلي ذلك الدعوة الي الصلاة مرتين بلفظ «حي علي الصلاة» و يتبعها قول المؤذن مرتين «حي علي الفلاح» تعميما بعد تخصيص، فان الصلاة ليست عملية شكلية محدودة و انما هي ذات عمومية شاسعة اذ انها تنهي عن الفحشاء و المنكر ثم يرد التكبير مرتين و كلمة الاعتراف بوحدانية تعالي «لا اله الا الله» مرة واحدة في غالب اذان المؤذنين، و قد تتكرر هذه الصيغة مرتين لدي بعضهم وفق المذهب الفقهي الذي يرتئي ذلك.ففي وجود اسم النبي بذات اسمه و بذات صفة الرسالة التي هي صفته الملازمة له «اشهد ان محمدا رسول الله» و يكون النداء بهذه الالفاظ علانية و علي مسمع كل سامع، و من اشراط هذا الاذان ان يكون علي مواقع مرتفعة من المساجد، و حين ظهرت الاجهزة الكهربائية الناقلة للاصوات صار لها دور في نقل الاذان من المسجد الي جهات بعيدة.والاصل في الاذان الشرعي ان يختار له من هو صيت ذو قدرة علي النداء الذي يتغلغل في احشاء الجو فيصل الي اصمخة سامعيه، ممن يقصد المسجد ان يصلي فيه او انه يؤثر الصلاة في مكانه...ان اركان الاذان هي هذه و قد ذكر فيها اسم النبي بذات اسمه الكريم و صفته التي شاءها الله له، فكان لهذا الاسم رنينه في اجواء الفضاء و في اسماع الناس من مؤمنين و غير مؤمنين، و قد وقع الاجماع علي ذلك اذ ليس في المسلمين من يقصي اسم النبي من مجموعة النداءات و الشهادات الكائنة في صيغة الاذان...ان دعوة الجموع الي الصلاة قد كان يكفي فيها نداؤهم الي الصلاة، ولكن صيغة الاذان كما قلنا بدء القول صيغة جاء فيها تلخيص امر الدين تلخيصا جد دقيق. و عند الاقامة يقال مرتين (قد قامت الصلاة) و في اذان الفجر و الناس فيهم من هو نائم. جاءت صيغة بلفظ «الصلاة خير من النوم» مكررة مرتين، و هي عبارة ظاهرة الرفق و الرقة يراد بها انهاض النائم من سنة نوم ترتوي به اجفان عينه.العبرة هنا ان اسم النبي محمد لا يتم الاذان الا بالمناداة به اسما و حلية... و في ذلك ما لا ينكر من تكريم شخصيته صلي الله عليه و سلم و اعزازها و اللهج بها خمس مرات في اليوم مضافة اليها صيغة الاقامة التي هي ذات صيغة الاذان الا انها يضاف اليها ان [ صفحه 27] يقال «قد قامت الصلاة» مرتين لدي الجمهور و هي كذلك تتكرر في اليوم بمعدل خمس مرات و هناك من يختصر المربعات الي مثنيات، و المثنيات الي احاديات، و اذا كان يجوز ذلك فانما يجوز في ضيق الوقت او يخشي مقيم الصلاة ان تفوته صلاة الوقت لدخول وقت صلاة و خروج وقت صلاة...اذن ان ايراد اسم النبي في الاذان للصلوات الخمس و لاقامتها امر جذري و جوهري في الملة السمحة... ان الفرق الشكلي بين الاذان و الاقامة او الاقامة و الاذان هو ان الاقامة تكون باسترسال و صوت هادي‌ء و سرعة املائية متعجلة فما يحسن فيها التمطيط و التراخي لان الاقامة تؤدي و الناس قيام او شبه قيام في المسجد ينتظرون الدخول في الصلاة...و في الحديث النبوي ان من سمع الاذان كان عليه ان يقول (اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة ات سيدنا محمدا الوسيلة و الفضيلة و الدرجة الرفيعة و ابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته انك لا تخلف الميعاد)...كما ان النبي صلي الله عليه و سلم نبه الي ان يصلي عليه بعد الاذان و هكذا جرت العادة لدي المؤذنين في العراق الي اللهج بالصلاة علي النبي بعد الفراغ من الاذان علي الوجه المشروح او المسرود آنفا و الناس يعرفون مفردات الاذان و يعرفون متي تتم و تنتهي و يعرفون كذلك أن الصلاة علي الرسول بعد الفراغ من الاذان امر من نوافل الامور و من توابعها التي لا يلزم بادائها احد و لا يمنع من ادائها احد. اذ ليست الفاظ الصلاة علي النبي جزءا من الاذان... و التمييز ظاهر بين الاذان و بين الصلاة علي النبي بالشكل الذي لا يخفي علي احد...ان الاذان و هذا ما يجب ان يعلم ليس قرآنا و لا صلاة و لا ركنا من صلاة و لا شرطا فيها فان الحاقة بالفاظ الصلاة علي النبي لا يتأتي منه تغيير صيغة الاذان و بهذا لاحق لمن يتحرج في ايراد الصلوات علي النبي بعد الفراغ من الاذان. و قد فصلنا الكلام علي ذلك في مكان اخر من هذا الكتاب، و ليس هو مما تدخلت فيه الاجتهادات المعزوة الي مذهب دون مذهب و فئة دون فئة. [9] .ان اسم الرسول الاعظم حين يذيع به و يعلنه المؤذن من فوق اعالي القباب و الماذن لهو من بعض اعراق الاسلام و جذور الشريعة و أسسها الضاربة في الاعماق و اصولها التي قامت عليها شجرته العظيمة الباسقة.و كان الرسول الاعظم يختار مؤذنيه وفق مواصفات تتحقق بها المهمة الاعلامية. و في كتب السيرة اسماء عدة من هؤلاء المؤذنين و حيث ما وصل الاسلام من انحاء الجزيزة كان هناك مؤذن يؤدي هذه المهمة...و لبث الامر علي ذلك بعد وفاته صلي الله عليه و سلم و في سائر انحاء العالم الذي و صل اليه ركب الاسلام. لقد كان الرسول صلي الله عليه و سلم هو الذي يؤم المؤمنين في صلاتهم و صارت الامامة من ضرورات صلاة الجماعة الي ابد الايام و اخرالزمان علي ذات امرها في عهده صلي الله عليه و سلم...ان الشهادة بأن محمد رسول الله يؤديها المصلي و هو في اثناء صلاته عند قراءة (التحيات) اذ لم تكن تعني الا التعلق بشخصية الرسول الاعظم و التمسك بشريعته و حماية التعاليم التي استوعبتها هذه الشريعة.و بغير ذلك فان هذا التشهد لن يدل علي مفهوم محدد و سيكون مجرد كلمة خالية من المحتوي و هذا لا يقول به احد، فان الشهادة علي رسالة رسول الله عهد يتجدد كل صلاة بطاعة الله و اعظام مكانة النبي صلي الله عليه و سلم. [ صفحه 28] فالزعم بأن الرسول اذا مات انتهي كل ما يوجب التعلق برسول الله و توقف ما يجب لرسول الله من احترام و تقديس فانه قول فاسد لا يقوله الا من ظل سواء السبيل...

استمرارية الصفة النبوية في شخصية الرسول الاعظم

حين بعث الله محدا صلي الله عليه و سلم نبيا الي جميع شرائح العالم البشري لم يجعل فترة نبوته مرتبطة بفترة حياته بل جعل نبوته مستديمة و مستمرة الي اخرالزمان اي ان ما قاله و ما وصي به و ما امر به و ما استحسنه و ما رجحه كان ذلك ذا اثر مستمر غير منقطع اي ان شيئا من ذلك لا يلغي او يتوقف عن تنفيذه بعد وفاته... و ما زالت الامة و قد مرت عصور عديدة علي لحاقه صلي الله عليه و سلم بربه ما تزال مآذن المساجد يصدح مؤذنوها بأصواتهم قائلين - أشهد أن محمدا رسول الله -...و في القرآن الكريم مما يؤكد هذه الاستمرارية في نبوة محمد صلي الله عليه و سلم حيا و ميتا أن الله ذكر اسامي الرسول و النبيين و لم يذكر ما يفهم منه فقدان اولئك الرسل اسماءهم و عناوينهم بعد موتهم... و في القرآن الكريم جاء قوله تعالي «و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا...» الحشر/7... و لا يعني هذا انما آتاهم الرسول و ما نهاهم عنه لا يجري الالتزام به الا في ايام حياته الشريفة بل انه ينطبق الائتمار بأمره في ما أمر به والانتهاء عن نهيه في ما نهي عنه الي مدي ايام الزمان و حتي يرث الله الارض و من عليها و كذلك جاء قوله تعالي «و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله منا تولي و نصله جهنم» النساء/115... فان هذا النص لا يرتبط بزمن حياة النبي وحده بل يتعداه الي ما وراءه من الازمنة. و كذلك القول علي المؤمنين فانه لا يراد به من كان من المؤمنين علي عهد رسول الله بل يراد به جميع المؤمنين في جميع الازمنة و الامكنة بعد رسول الله صلي الله عليه و سلم علي نفس الحال التي عني النص القرآني بها مؤمني عهد الرسول.اما قوله «و ما ارسلناك الا رحمة للعالمين» الانبياء/107... فمن البديهي أنه ليس المراد به عالمين زمانه وحدهم انما هم سائر افراد العالمين الي يوم الدين و ما نحسب احدا ينكر هذه الحقيقة الا من جهل و كابر... ان قوله تعالي «و ما ارسلناك الا رحمة لعالمين» في هذا النص و هو نص صريح اكثر من اشارة الي الدور الذي و كله الله الي رسوله العظيم محمد بن عبدالله في دعوة العالم البشري و الانساني اذ جعله الله مرسلا الي العالمين ليكون متنفس فرج لهم و منفذ أمن و خيرا للبشرية التي كانت معذبة بما تراكم عليها من ظلم حكامها و فساد اعرافها و ضلال خطتها.و الكلمة القرآنية آتية علي وجه الحصر أي ان الرسول الاعظم قد ارسله الله الي البشرية ليكون الرحمة المترحم بها علي جميع الخلائق و في هذا اعلان واضح لعمومية رسالة الاسلام الي عباد الله حيثما كانوا في هذا العالم. فهو صلي الله عليه و سلم رحمة لا يشوبها شي‌ء غير الرحمة. و الرحمة ظاهرة المعني و واضحة القصد و معروف في كل حرف من حروفها ماوراءها من بر و مروءة و احسان و اصلاح بين الناس.و في النص دلالة قاطعة علي استمرارية هذه الرحمة اي أنها كائنة و ملحوظة و متذوقة ايام حياته صلي الله عليه و سلم و بعد لحاقه بربه و الي ما بعد ذلك بعصور و قرون حتي يرث الله الارض و من عليها و هو خير الوارثين. فالذين يظنون ان مهمة النبي انتهت بعد وفاته آتون بمعني غير معني البتة في النص الكريم. والتاريخ اذا قلبنا صحفه يوضح لنا بل يعدد معاني هذه الرحمة التي جعلها الله شعار الرسالة التي بعث بها الي العباد.ان المهمة التي نهض النبي بادائها الي البشرية كانت كبيرة و بالغة الاهمية فانه صلوات الله عليه انقذ [ صفحه 29] العالم من جاهلية صلعاء كادت تهلك الحرث و النسل، فلقد عالج الرسل مشاكل المجتمعات البشرية و في طليعة ذلك مشاكل العرب في الجزيرة اذ نهض بتوحيد قبائلها و تصيحيح جهاز الحكم فيها فباتت الجزيرة رقعة واحدة تسكنها امة واحدة لا سلطان لتسلط احد عليها من خارج الجزيرة كالذري عرفت به خارطة وجودها يوم كان الفرس و الروم يسيطر كل منهما علي بعض رقاع هذه الجزيرة. واعطي الاسلام للمرأة كامل حقوقها و عامل الرقيق اكرم معاملة و وضع لتحريره مبادي‌ء و قواعد انسانية كريمة. وألغي ما كان سائدا يومذاك من ثأر و ترات بين القبائل فأحل مكانها حسن الصلات و المؤاخاة بينها و اصلح النظام الاقتصادي بارقي قانون وضعه للميراث و حمايه حقوق الورثة و دوي القربي من العصبات و أولي الارحام. و قضي علي الوثنية فحصن بذلك العقل و صان الفكر الانساني من لوثة الجهل و العبادات الوثنية و نظم الرسول العلاقات البشرية بين اتباعه و سائر اتباع الديانات الاخري.وحث علي التعلم و كافح الامية و اقام من الشريعة الخالدة معالم حضارة و سياسة و قيادة كانت من القوة و الرسوخ والافادة ذات ضوء اخضر نقي كريم و اكمل أتباعه بعد لحاق نبيهم بربه رسالته الاممية الجليلة ففتحوا انحاء الدنيا و ازالوا رموز الفساد و الطغيان فكانوا من الاقتدار العسكري بحيث لم تقف امامهم قوي الاكاسرة والقياصرة التي كانت ما تزال في عنفوانها و لم يكن العرب في الحقيقة بأكفأ منها لا في عدد و لا في خبرة قتالية متميزة بتفوق في السلاح و فنون القتال [10] .و في القرآن الكريم «فان تنازعتم في شي‌ء فردوه الي الله و الرسول ان كنتم تؤمنون بالله و اليوم الاخر ذلك خير و احسن تأويلا» النساء/59 الخطاب هنا و ان كان وجه للمؤمنين علي عهد رسول الله في ايام العهد المدني فانه موجه تلقائيا الي سائر افراد المؤمنين في سائر الدهور المتعاقبة و يكون رد ذلك الي الرسول بمراجعة اقواله المدونة في الكتب الموثوقة بعد وفاته.اما في حياته فقد تكون المراجعة في ذلك شخصية و قد تكون علي اساس مراجعة ما جاء به من شرع و بينات فقية فأي ذينك كان متيسرا فهو المطلوب و كذلك يكون رد الامر الي الله من طريق رد الامر الي شرعه و دينه...و في القرآن الكريم «و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات او قتل انقلبتم علي اعقابكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا و سيجزي الله الشاكرين» آل‌عمران/144... في [ صفحه 30] النص ما يشير الي استمرار علاقة الامة بنبيها و ذاك انه تعالي انكر عليهم ان ينفضوا عن نبيهم ان مات او قتل، في حين ان الرسالة قائمه دائمه لا تنقطع بانقطاع الحياة عن النبي، فهي قيم متلقاة من رب العالمين علي لسان نبيه الذي و كل اليه ايصال الرسالة و ابلاغ الامانة...و لو كان الامر مما ينتهي بانتهاء حياة الرسول لكان عمر كل رساله بعمر نبيها، و الذي عليه امر الامم انها تعيش فيها رسالات رسلها الي دهر بعيد. و قوله تعالي «قد خلت من قبله الرسل» يعني انه علي ذات حالهم في ان رسالته لا تنقطع بقتل او وفاة مادامت قد نسلمتها ايدي اتباعه من امته يعلمونها الناس و يستنبطون منها الاحكام و يصلون بها في المحاريب. و لعل الذين ينقلبون علي عقبهم يظنون ان وفاة النبي يتأتي منها انقطاع الوحي عن مسيرته في حين ان الله لا يميت نبيا قبل اكمال دينه و اكمال شريعته و قد وجدنا الرسول الاعظم تم نزول القرآن عليه قبل لحاقه بربه بمدة تبلغ الثلاثة اشهر.و كذلك وجدنا الانبياء و الرسل الذين جاءوا قبل رسول الله كان الله قد توفاهم بعد اكتمال الشرائع المنزلة عليهم و مهما يكن من امر فان شريعة كل نبي يلزم اتباعه بعد وفاته بالأخذ بها لا يغير من ذاك شيئا ان يكون النبي قد توفاه الله اليه... و علي هذا جرت سنة الله في خلقه و في رسله الي عباده و الاسلام علي ذات السنة و النهج الالهي السديد...و كان النبي صلي الله عليه و سلم يعلم هذا علما يقينا و يثق بان الله متم نوره و مكمل دينه و لذلك كان النبي يغشي ساحات القتال و يواجه السيوف و الرماح و لا يخاف عدوا و لم يكن في قومه و هو اجرء الجرءاء من يدانيه في جرأته... و رغم ان الله لمح في آياته القرآنية بان النبي ككل بشر عرضة للقتل و الموت «افان مات او قتل» فان النبي كان يدرك بوضوح ان الله لن يميته قبل اكتمال شريعته... فلما قال الله «اليوم أكملت لكم دينكم و اتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا» [11] المائدة/3. علم النبي ان امانه الحياة التي يحيا عليها او يحيا بها سيردها الي بارئها في وقت قريب و من الامر البديهي ان النبي لو مات في العهد المكي لما كان في الاسلام من مله و لا تشريع و لا حرام و لا حلال و لا صوم و لا صلاة و لا مواريث محددة و لا احكام للزواج و الطلاق و لا احكام في البيوع و ما اليها و معني هذا ان حلقة الاسلام [ صفحه 31] ستكون حلقة مضيقة جدا و لن يملك الاسلام بذلك ان يكون دينا ينسخ ما هناك من الديانات و هو كذلك لن تكون له حيثية يراها الناس من الجهات الست.و هذا كله يدحض ادعاء من ظن ان النبي هو الذي نبأ نفسه و صنع قرآنه و ما الي ذلك من مقولات بعض المستشرقين الذين غلبتهم الحقيقة القرآنية و اقامت عليهم الحجة الي يوم القيامة فلو كان الامر علي حد قول المستشرقين و كان النبي هو مؤسس الشريعة بكل تفاصيلها لبادر الي عرض جميع هذه التفاصيل و المفردات في العهد المكي و لما ارجأ منها شيئا الي العهد المدني و صلي الله علي سيدنا محمد رسول الله العظيم الي سائر عباد الله حتي يوم العرض علي الله. «و كذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا»... البقرة/143...يشير النص القرآني الي ان الله جعل امة محمد امة متميزة بالكمالات و سلامة العقيدة في جمهرة الامم بحيث كان لها من ذلك ان تنال مركز الشهادة علي الناس، المراد بالشهادة علي الناس التعليم و التوجيه و التلقين مما يعد من الواجبات التي فرضها الله علي الامة و قد اثبت التاريخ ان هذه الامة احسنت التعليم و الدعوة الي الدين و نشره في سائر انحاء العالم من دون الاخذ باساليب القوة و التعسف و لم يقل احد ان الاسلام انتشر في العالم بفعل السيف اذ ان الذين تولوا نشره. نشروه بالحكمة و الموعظة الحسنة و ليس بالهيمنة و الفرعنة و من هنا نعلم ان المهمة التي و كلها الله الي الامة قائمة دائمة الي قيام الساعة و ليس الخطاب قاصرا علي من كان من اتباع النبي في ايام حياته. اما قوله تعالي «و يكون الرسول عليكم شهيدا» اي انكم تعملون بمقتضي وصاياه و ارشاداته التي كانت مصدر اسلامكم و ايمانكم و ما نيط بكم من امر الجهاد في نشر الدين و تعليم الناس احكامه و حقائقه و فرائضه و نوافله.فللرسول بمقتضي هذا قيمومة علي الامة دائمة مستمرة في حياته و بعد وفاته غير محددة بحدود الزمان و المكان... و قوله تعالي «و اذا جاءهم امر من الامن او الخوف اذاعوا به ولو ردوه الي الرسول و الي أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم و لولا فضل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلا» النساء/83.ورد الامر الي الرسول غير محدد بفترة حياته عليه الصلاة و السلام و انما هو مستديم و المعني المتحصل من ذلك هو الرجوع الي ما حفظ المسلون من احاديثه و اقواله و أولو الامر من رؤساء الامة في سائر الاجيال كذلك يرجعون الي مصادر الشريعة ليستنبطوا منها ما يكون به الحل المقبول لمشكلات الناس في كل جيل. ان أولي الامر بهذا النص لا يعدون بدلاء عن النبي و انما يعدون من اتباعه و منفذي شريعته فليس لهم الا الاستنباط و هو استخراج الاحكام علي جهة الاجتهاد و تمحيص الادلة فالرسول اذن قائمة شخصيته في مثل هذه الامور و نافذة اوامره و اقواله في سائر الحالات...

الصلاة علي النبي...

الصلاة علي النبي من القربات التي تقرب المؤمن من ربه و هي كذلك من الطاعات التي أمرنا بها بنص القرآن الكريم «ان الله و ملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما» الاحزاب/56... و ما يؤمر به العبد من ربه ما كان منه مرادا به الفرض او النافلة او الاستحباب فان تنفيذه يعد من الطاعات التي يثاب عليها من يؤديها...و الصلاة علي النبي معروفة الغاية هنا فانها صلاة تكريم و اجلال و تعظيم. اما ما جاء في قوله «هو الذي يصلي عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات الي النور و كان بالمؤمنين رحيما» الاحزاب/43... فانها صلاة مغفرة و تطهير و اخراج الناس من الظلمات الي النور فالنصان ليسا علي امر واحد... و الفرق بين الصلاتين فرق بين النبي و سائر الناس. و الدليل علي ان رسول الله يصلح ان يكون محل الخطاب بعد وفاته. خلافا لما يزعمه قوم من أن حقوق النبي التي كانت له ابان حياته تسقط و هي مقولة فاسدة. هو ان جماهير المصلين منذ عهد الرسول بالحياة حتي يوم الناس هذا يقولون في كلمة (التحيات) التي يقولونها [ صفحه 32] عند قعدة الصلاة الاولي و الثانية اي المفروضة و غير المفروضة (السلام عليك ايها النبي و رحمة الله و بركاته) فانه لم يرد في نحلة اسلامية ان اوقفت هذا التسليم علي النبي بعد وفاته... و لم يرد في أي نحلة اسلامية التوقف عن الصلاة علي النبي عند ذكر اسمه و ذاك أن ذلك مما منحه الله لنبيه صلي الله عليه و سلم و ميتا...مما يفهم منه سلامة العقيدة الاسلامية الذائعة في اوساط المسلمين اذ يسلمون عليه صلوات الله عليه. ان الرسول صلي الله عليه و سلم يعيش في ذاكرة التاريخ و في نفوس المسلمين و في مصادر الشريعة التي استمد منها الفقهاء اصول الدين و في ما ورد في الكلام علي ذاته الشريفة في التنزيل العزيز و في ما امرت به الامة من الصلاة و السلام عليه في كل حين دون تحديد مواقيت هذا الحين و مفرداته...واذا كانت لصلوات العبادة اوقات تؤدي فيها و اوقات يكره الاداء فيها كمثل الصلاة فور شروق الشمس وفور غروبها و كذلك اذا كانت الصلاة يحكم عليها بالبطلان عند فقدان بعض شروطها كالوضوء و استقبال القبلة فان الصلاة علي النبي ليست الا الفاظا محفوظة و معروفة تقال كلما شاء أن يقولها من يصلي علي النبي لا وقت كراهة لها. و في منع من يصلي علي النبي من الصلاة عليه ما يخالف حكم الامر الالهي بالصلاة عليه اذ جعل من يمنع الصلاة علي النبي استثناءات لعمومية ذلك الامر كيفية لا سند لها من فقه الامة كالذي يفعله بعضهم من منع مؤذنين من الصلاة علي النبي بعد الاذان...ان صيغة الاذان معروفة بمفرداتها. فاذا اذن بها المؤذن اذانه للصلوات الخمس فانه لا حرج عليه ان يتكلم بأي كلام شاءه مما يعد من مطالب الدين او حاجات الدنيا فما يفسد ذلك ما كان من اذانه و علي هذا فانه ليس هناك ما يقنع احدا بفساد الاذان لمجرد أن يعقب المؤذن اذانه بشي‌ء من الكلام. لا سيما اذا كان ذلك الكلام صلاة علي النبي...

الحب النبوي...

الامر بحبه صلي الله عليه و سلم امر الهي تبت في النص القرآني الصريح و ذلك في الآية الكريمة «قل ان كان اباؤكم و ابناؤكم و اخوانكم و ازواجكم و عشيرتكم و اموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها احب اليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتي يأتي الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين»... التوبة/24... فهو نص ذو قرار ظاهر و حكم قاطع بأن لا يكون حب اب و اخ و زوجة و عشيرة و مال و مسكن احب من حب النبي او اكثر او ابلغ او اكبر و الا فان ذلك نمط من الفسق عن امر الله...و قد جمع الله بين حبه و حب نبيه و قرن بهما الجهاد في سبيله. و قد علمنا ما للجهاد في الملة من شأن عظيم بحيث كان الفرار من ساحته مروقا من الاسلام و كبيرة من كبائر الاثم فيه... و النص كذلك واضح فيه كل الوضوح انه ليس امرا محددا بوقت موقوت و لا مخصصا بايام وجود الرسول علي قيد الحياة بحيث اذا مات سكت النص ان يطالب احدا بايجاب هذا للرسول... فان الديمومة فيه مقصودة بما قرنه الله من اسم رسوله باسمه و في الجهاد في سبيله...ان معني الحب في هذا النص و قد ذكر الله في جمهرة من ذكر ممن جرت عادة البشر الاقبال عليهم بالحب و الميل الانساني و التعلق الدائم و المودة الفطرية و الازواج والابناء و العشيرة و الاموال. و هي مفردات اذا ذكر الحب مقرونا بها ظهر معناه و وضحت فحواه... مضافا الي ذلك ان الحب مفردة معجمية متداولة علي ألسنة الشعراء و الكتاب و في كل حين [12] . [ صفحه 33] ان احب الله يعني طاعته التامة المرجحة علي كل طاعة و ان يتعلق القلب به و ان لا ينقطع اللسان عن اللياذ به و تسبيحه و ذكره و شكره و طول الندم عند التقصير في شي‌ء من ذلك و انشغال ساحة النفس كلها به... بحيث لا يكون شي‌ء من اهل و مال و ذرية اقرب اليها منه... و كل خسارة في مال من اجله أو في حياة لا يتوجع لضياعها و فقدانها لانها وقعت في سبيله و ابتغاء مرضاته و تلبية لقضاء قضاه و قرار قرره... فذاك هو جانب الحب الذي فرضه الله علي مؤمني عباده لذاته العظيمة...اما حب النبي و قد قرنه الله بحبه و منع ان يرجح عليه حب احد من ذوي القرابات النسبية و المقتنيات الغالية فهو كذلك يعني جعل النبي بمحل الروح من البدن و القلب من الجسم و ان لا ينشغل البال عن مودته و اجلاله و توقيره بشي‌ء آخر يميز بحجم اكبر و قدر اكثر و زمن اطول... و ان لا يبخل احد علي نبيه يوم يجب عليه ان يذود عنه و يحميه و يصون كرامته و يرد عنه العادية من اي جهة كانت. و ان يستمع الي ما جاء علي لسانه من التوجيه و التعليم و الترتيب و ان لا ينقطع عن ذكره في نوم و يقظة و صلاة و عبادة و ما زالت الامة تسلم علي نبيها في صلواتها اليومية قائلة (السلام عليك ايها النبي و رحمة الله و بركاته)...و هي تصلي عليه سائلة الله ان يزيد في اكرامه و اعلاء مقامه. هذا الحب هو ان يكون في التمسك بما جاء به من دين حنيف و شرع جليل و نظام سديد و تهذيب رشيد و عبادة خالصة لله رب العالمين...ان تناسي شخصية النبي و الغفلة عن اللهج بذكره و الصلاة عليه يتأتي منه نسيان ما آتاهم من شريعة و تعليم فضلا عن ان سيرته صلي الله عليه و سلم كانت ذات قراع و جهاد و صبر و تحمل لاذي من جاء لانقاذهم من الضياع و اخراجهم من ظلمة الكفر الي نور الهداية التي اضاءت فجاج الارض و آفاق السماء...و في القرآن الكريم من الدلالات و الوثائق الناصعة مما يتصل بامر الحب النبوي ما هو كثير و قد ورد الكلام فيه بصيغ شتي و منها قوله تعالي «ان الله و ملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما» الاحزاب/56... و هذا نص ذو كثافة في الامر بالصلاة علي النبي اذ ان الله بدأ القول فيه بالاخبار عن انه و معه ملائكته يصلون علي النبي و هذا يكفي لفهم المعني المقصود بذلك الا انه عزوجل امرنا بصريح ما في الامر من صراحة ان نصلي عليه و نسلم علي هدي صلاته علي نبيه و صلاة ملائكته عليه.و في ذلك تركيز لدعوة الامة الي اعزاز مقام نبيها في نفسها و اجلال شخصيته في سائر مجالات تحركها و خطاب الناس موصوفين بالايمان دلالة علي جدارتهم لمثل هذا النداء و التوحيد.اما ايراد كلمة الجهاد في موجبات الحب الذي منع الله ان يكون اكثر من هذه التي ذكرها الله و هي اسمه جل شأنه و رسوله و الجهاد في سبيله... فان الجهاد هو عمود الاسلام فاذا سقط عمود خيمة الاسلام سقطت خيمته و اذا ترك الجهاد الذي هو ذود عن حمي البلاد فسد الدين وضاع امر المسلمين و حب الجهاد يعني المبادرة اليه و تفضيله علي ما سواه ممن ذكر الله في صدر الآية من مفردات نحو الآباء و الابناء و الاخوة و الازواج... و من النظر في معاجم اللغة و ادبياتها الشعرية و النشرية و قصص المحبين في التاريخ لا نري الامر الالهي بوجوب حب الله و رسوله و الجهاد في سبيله الا قائما علي ذات الركائز التي عرفت الناس فيها معني الحب... علي ان الحب النبوي المفروض علي الامة للرسول الاعظم انما يجول في مجالات تعبيرية منطقية و وجدانية واضحة المعالم لا سيما اذ قرن بحب الله و حب الجهاد في سبيل الله اذ لا يقع في مجال حب الله و الجهاد في سبيل الله الا الجد و التعقل و التصرف اللائق الذي يأخذ حجمه في سلوك المحبين. و هو سلوك [ صفحه 34] يتقيد بقيود عالية المكانة سليمة التعبير كبيرة الشرف... لذا فلا يمكن أن يكون حب النبي كائنا في مثل تصرفات العشاق و المدنقين الذين خرجوا علي المألوف في ذلك.ان تصرفات العشاق من عذريين و غير عذريين كانت في الغالب بل في المعتاد قد مالت الي اوضاع لا تستأهل أن توصف بالحب المعبر عن الحب الذي اراده الله في غلائل من القدسية و الطهر و التعلق العاطفي النبيل...ان حب العشاق و ما عرف عنهم في روايات تحركاتهم الغرامية من التبهلل و الجنة و الظهور بمظهر البهدلة و الشرود الذهني و النفسي و التسكع في البراري... فان النص القرآني الذي أوجب حب الأمة لنبيها لا يصل الي مثل هذه المراحل غير ذات المستوي اللائق.علي أن حب العشاق يغلب عليه الجانب الجنسي الرخيص الذي لم يكن الله يريده في ايجاب حبه جل جلاله علي الناس و لا في ايجاب هذا الحب لنبيه عليهم و لا كان هذا الحب هو المعني في مواجهة الجهاد في سبيل الله...من هنا نعلم أن الحب النبوي انما هو حب اسمي بكثير من سائر ما يسمي بالحب في التعامل البشري لا سيما ما كان منه غارقا في السذاجة و التعقيد... اذن حين نبحث عن معني الحب الذي عناه النص القرآني فليس من الضروري ان نلوذ باخبار المغرمين الذين وقعوا في غرام احباب أحبوهم و بالغوا كل المبالغة في حبهم...ان اكثر من حالة حب عنيف انقلبت الي حالة كره عنيف لان الناس تحب و تكره وفق اهوائها و حاجات تعرض لها و معظم ذلك من متغيرات الامور فلقد ينقلب الحب الي كره. و قوة الميل النفسي الي شدة حقد و نفور و لم يكن الامر الالهي بالحب النبوي جائلا في هذا المجال و لا حائما حول هذه الحومة...ان حب الامة لنبيها حب تعظيم و تقديس و طاعة و تفان و اخلاص لا حد يحده لان للرسول شريعة يعد حب الامة له صلي الله عليه و سلم لها و تعلقهم بشخصيته تعلقا بها و الذين يدرسون سيرته الذاتية يجدونه صلي الله عليه و سلم حقيقا بهذا الحب كله بل بما هو اعظم منه بكثير...ان المراد من هذا التوجيه القرآني العظيم في صدد الزام الامة بحب النبي هو أن تكون في خدمة الدين و الملة والالتزام التام بطاعة الله و رسوله و نكران ذاتها من اجل اثبات ذاته و ليس المراد بالحب الجانب الوجداني وحده بحيث يتغلب كل شي‌ء علي العقل فلا يبقي منه شي‌ء يرجع اليه و يستعاذ به... ان الحب اذا وصل الي حالة من غياب العقل فليس هو المطلوب البتة لأنه سينتهي الي فراغ و لا مصلحة للدين و الملة في حب ينتهي الي فراغ و ذهول و شذوذ في التصرف و ذهاب للعقل...فلقد علمنا ان الحكمة من فرض الله حبه وحب نبيه علي الامامة انما هو اعدادها للتضحية من اجل تثبيت الدين و الذياد عنه و ترجيح حقوقه علي سائر الحقوق الشخصية و هذا لا يتحقق منه كل و لا جزء يوم يفقد العقل سلطانه علي الانسان.ان الحب بريد الطاعة و دليل الاستجابة و لا تكون المعاداة عرقا لمودة و ألفة و انسجام...و من خلال آيات كثيرة جاء الكلام عليها في تضاعيف الكتاب ثبت ان الله ألزم الامة بحب نبيها. و المراد من هذا الحب ليس التقبيل و التغزل و الملازمة و اداء ضروب من الخدمة الشخصية و انما يعني الحب المفروض علي الامة لنبيها أن تكون ذات تعلق وجداني به و ميل قلبي اليه و أخذ بقوله و التزام بأوامره و نواهيه و ذياد عنه و دفاع عنه و هذا مما يكون في ايام حياته الشريفة و فيما بعد ذلك اي بعد انتقاله الي ربه لأن الامة تظل تهتدي بهديه و تصلي عليه و تحمد سيرته علي نحو ما تحمد من سير اهل [ صفحه 35] الخير و الصلاح فان النبي اولي بذلك من سائر من يستحقون الحمد و يستأهلون الذكر الجميل من الناس. فادعاء من ادعي ان الامة ملزمة بحب نبيها ايام حياته فقط ادعاء فاسد لانه ينتهي بالمسلم الي ان يعتقد ان نبيه لم يعد بعد وفاته مستأهلا لحب و تكريم و حماية و اجلال و توقير...و حين امر الله الامة بتوقير النبي بقوله «و تعزروه و توقروه» لم يكن يعني ان يكون ذلك في حياته فقط و انما عني ان يكون ذلك ذا ديمومة لا تنقطع في الحياة و في الممات. و اذ اجرينا الكلام علي هذا علي وجه الاستطراد وجدنا من يزعم ذلك و يدعيه اي يزعم ان الامر بحب النبي انتهي بوفاته و هذا ما فسر به بعضهم قوله تعالي «يحبهم و يحبونه»... تفسيرا كاد يمرق به من الاسلام...ان الامر بحب النبي ينبني عليه أن يطاع النبي طاعة تامة في سائر ما امر به ايام حياته و ما نقله عنه النقلة من اقوال و توجيهات احتوت عليها الكتب و المسانيد و ليس الامر في هذا الباب معقولا أن يقال فيه ان اوامر النبي تنفذ ايام حياته و لا تنفذ بعد لحاقه بالرفيق الاعلي. لان حقائق الدين واحدة في سائر الاجيال التي تتوارث هذا الدين و تلتزم بتطبيقه...

العصمة الالهية للنبي...

«و الله يعصمك من الناس» المائدة/67...هذا عهد من الله لرسوله يعلن به انه عاصم رسوله من كل سوء يراد به مما يكيده له خصومه و يدبره اعداؤه. في هذه الوثيقة الالهية ما يدل دلالة ظاهرة علي عظم رعاية الله لنبيه بحيث لم يتركه يواجه اعداء دعوته بمفرده و ان كان قد واجههم بمفرده في احرج الظروف التي تفتقر الي العون و المعين فكان ذا اقتدار عال علي القراع و المواجهة ولكن النص القرآني في ان الله تعهد لنبيه بان يعصمه من الناس و قد جاء ذلك بصيغة غير محددة بمستقبل او حالة معينة انما جاء بصيغة مطلقة، اجل لقد جعل الله ذلك مطلقا في عصمة نبيه [13] فكان ذلك من الخصوصيات التي عرفت للرسول [ صفحه 36] الاعظم وحده صلي الله عليه و سلم... و بهذا رددنا علي دعوي السحر و ما كان من قبيلها اذ تتنافي و وثيقة العصمة الالهية في مواجهة ما قيل في تصوير اثر السحر علي شخصية النبي مما اورده المحدثون و كتاب السيرة و اصحاب الاخبار...ان في ادعاء وقوع النبي في كماشة السحر الذي زعموا ان ابن الاعصم اليهودي كان قد وضعه و دبره بطلع وضع فيه مشط و خصلة من الشعر و القاه في البئر. مقولة غير صحيحة في حقه صلي الله عليه و سلم هي غير صحيحة ايضا لو عزيت الي اي انسان من الناس لان السحر رغم الاعتراف به علميا فانه لا يرقي الي هذا النمط من الباراسايكو لوجيات و غرائب الخوارق.و هناك نص يفهم منه تدارك الله نبيه لئلا يقع في ما يحوكه له خصومه من مكايد ذلك هو قوله تعالي:«و ان يريدوا أن يخدعوك فان حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين» الانفال/62...خداع الناس للناس لا يشترط فيه ابدا ان يكون من تفعل الخديعة فيه فعلها غير واع و لا حذر و لا متثبت فلعل من يعرض له ذلك يعد من احذق الحذاق و اذكي الاذكياء و اكثر الحذرين حذرا... و ذلك ان المخادعين حين يعمدون الي المخادعة فانهم يتخذون لها ادق الوسائل و يحوكون لها اقوي الخيوط.و القرآن الكريم نبه الرسول الاعظم الي ان الله عالم بخداع المخادعين. و لقد جاء في النص ما يشبه العهد الالهي ان وراء النبي عند خداع المخادعين ربه يبدد خداعهم و يفسد عليهم خططهم و هناك المؤمنون الذين يكونون مع النبي فلا يضره من خداع المخادعين شي‌ء. ان دقة مكر الماكرين و قوة حبكهم خدعهم سيكشفها الله للنبي...اما قوله تعالي: «ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا». الحشر/7... فانه لا يخصص هذا الاخد باقوال النبي في حياته، و الخطاب ب«ما آتاكم» يعم جميع المؤمنين في ايام حياة الرسول و بعد وفاته و كذلك ما كان قد نهي عنه النبي ايام حياته فانه لا تترك الاستجابة لشي‌ء من ذلك بعد وفاته و انما هو امر و نهي ملزمان باطاعة في سائر الحالات... حتي يرث الله الارض و من عليها.و قوله تعالي: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة اذا قضي الله و رسوله امرا أن يكون لهم الخيرة من امرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا» الاحزاب/36...فان ذلك ليس خاصا بفترة حياة النبي بحيث ان توفاه الله كان للمؤمن و المؤمنة الخيرة في القبول و اللاقبول... و يؤيد هذا ان الله قرن بين امره و بين أمر رسوله «اذا قضي الله و رسوله امرا» مما يدل علي الاستمرارية الابدية في وجوب الالتزام بأي من امر الله و رسوله.ان الشريعة الاسلامية السمحة ليست شريعة وقت محدد بحياة النبي و انما هي ماضية الي سائر اجيال الزمان فما يقع لها أن ينسخها الله بشريعة فما هي بالشريعة الخاصة بأمة بعث الله اليها نبيها وحدها علي ما كان في الشرائع القديمة...و حادثة بعد وفاته صلي الله عليه و سلم اذ زعم قوم انهم آمنوا بالنبي ايام حياته قامت علي أن القوم اطاعوا رسول الله اذ كان بينهم ففيم يطيعون بعده غيره و قد جهلوا ان الشرائع تعني بناء امة كانت مفككة الاوصال و ذاك يتطلب ان تنهض هذه الامة فتظل ناهضة الي ابد الايام و هذا ما شاءه الله للامة العربية و ما شاءه كذلك لسائر أمم العالم من اصلاح الاحوال أمة حتي كان الاسلام فصنع الذي صنع من توحيد العالم البشري في الثقافة و السلوك و العبادة... [ صفحه 37] الصفات الخلقية في شخصية الرسول...في النص القرآني «و انك لعلي خلق عظيم» القلم/4... شهادة الهية عظيمة شهد بها الله لرسوله ما تضارعها شهادة و لا تساوقها تزكية. حقا ان تزكية الله لمن شاء من عباده هي التزكية المطلقة التي لا تعلق بها مجاملة و لا تجر اليها غاية يتغياها هذا و ذاك لقد كان خلق الرسول الاعظم في البيئة التي عاش فيها مع الكفار من قومه و مؤمنيهم خلقا متميزا بالرفق و اللين و الطلف و العطف علي ما نصت عليه خديجة زوجته الكريمة اذ وصفته قائلة: انك لتحمل الكل و تغيث الملهوف و تعين ذا الحاجة و تؤوي الضيف. فتلك كانت خلاله و فعاله بين يدي مبعثه علي ما شهدت به الزوجة الكريمة الفاضلة و هي زوجته في حقبة غير قليلة من الزمن قبل اختيار الله اياه نبيا و رسولا...ان الخلق العظيم الذي كان سمة قرآنية لشخصية لرسول الاعظم تثبته بكل دليل و حجة مفردات السيرة النبوية المكتوبة بحيث لو ان الله لم ينص علي هذه الفضيلة في نبيه لنص عليها الناس و المؤرخون في اقوالهم...انها عبارة رائعة موجزة غير انها مزدحمة بالمعاني الجليلة و السمات المستشهد بها في هذه الجملة انه مستهشد بكلمة الهية لا تجد لها حدودا في عالم الفضائل و القيم الخلقية الكريمة... و في القرآن الكريم في الكلام علي بعض معالم الخلق الحميد في شخصية الرسول جاء قوله تعالي «فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل علي الله ان الله يحب المتوكلين» آل‌عمران/159.و هذه من بعض شهادات الله في رسوله محمد بن عبدالله و هي شهادة صادقة قائمة علي ظاهر سلوك النبي في سائر حالاته قبل النبوة و بعدها و معايشته لقومه فانه لم يكن فظ لسان في مخاطبة و لا غليظ قاب في معاملة والا لأنفضت الناس عنه في حين كانت فئات كثيرة من الناس ملتمة عليه مرتاحة اليه تصدقة و تطمئن اليه و تستجيب لامره و نهيه و تهش له عند لقائه و تأتم به في صلاته و تحرص علي تطبيق قراراته... و ما قضية (كعب بن زهير) ببعيدة عن الموضوع اذ هدر النبي دمه فراح الي مشاهير اصحاب النبي يلوذ بهم فرضوا لجوءه و ايواءه و قال في ذلك...فقال كل خليل كنت آمله لا ألهينك اني عنك مشغول‌فاضطره هذا الموقف الموحد الي مراجعة الرسول في مسجده بقصيدته التي مطلعها...بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم اثرها لم يفد مكبول‌و ما سعاد غداة البين اذ رحلوا الا أغن غضيض الطرف مكحول‌تجلو عوارض ذي ظلم اذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول‌و استقبله الرسول بصدر رحب ثم عفو عنه و غفر له و انما اقبل (كعب) علي النبي و هو مهدور الدم لما يعلمه من ان النبي غير فظ و لا غليظ قلب و انه كما وصفه الله تعالي من عظمة الخلق و شرف النفس و الخلال... فقد كانت قصيدة (كعب) مثخنة بغريب اللفظ ولكن النبي كان يستوعب جميع مفرداتها و اذ كان (كعب) ينشد قصيدته انشادا منغما علي جاري عادة شعراء تلك الحقبة فكانت لالقائه رنة استحسان لا سيما اذ كان مخلوع الفؤاد يضرب الخوف جوانب قلبه و للنغمة في هذه الحالة ما فيها من شجي، و من حزن و رعب الا ان حسن موقف النبي من الشاعر بدد حزنه و خوفه و ارتاح النبي لتصحيح (كعب) موقفه لصحبه و خصومه علي حال سواء و هو مما من الله به علي نبيه «فبما رحمة من الله لنت لهم»... و كان من بعض محاسن صلي الله عليه و سلم انه كان حييا أي كثير الحياء... و الحياء و الاستحياء غلبة الخجل علي رجل او امرأة يظهر علي الوجوه عند عروض ما يخجل. و قول [ صفحه 38] العرب -]ان الملوك لا يستحيا من مسألتهم[- أي ان الاستجداء من الملوك ليس مما يخجل او يستوجب الحياء لانه ليس مثل الاستجداء من الناس...و الاستحياء منازل و درجات. و قول النبي صلي الله عليه و سلم (الحياء من الايمان) لان الحياء يمنع من اقتراف الدنايا و ارتكاب المخازي... و في الامثال العربية - اذا لم تستح فاصنع ما شئت - فاذا لم يخجلك العمل المخجل فلا عليك أن تصنع ما تريد. و في بعض الروايات بعد تناول آدم من الشجرة التي نهي عن الاكل منها راح يختبي‌ء بين الاشجار. فقال له الله (أفرارا مني يا آدم فقال بل حياءا منك يا رب)... و قال جرير...لولا الحياء لهاجني استعبار و لزرت قبرك و الحبيب يزاراي انه كان يستحي من الناس أن يزور قبر زوجته. اذ ان مثل ذلك يعد عيبا في نظر المجتمع يومذاك... فالحياء حلية نبلاء الناس و ذوي العقل و الوجاهة منهم يستوي في ذلك الرجال و النساء و قد عرف الرسول الاعظم بأنه كان اشد حياءا من الفتاة ذات الخدر اي انه كان يتهيب ان يري في موقف لا يليق به... و قولهم الحياء يمنع الرزق و الفسق يشير الي أن الرجل قد يكون جائعا فلا يكشف ذلك للاخرين و ان كانوا من اقرب الناس اليه بفعل الحياء.و قد تحمله الحاجة الي الاستدانة من معارفه في سد خلته و قضاء حاجته فلا يملك الجرأة علي مخاطبة صديق له في ذلك و قد يكون هو الدائن ولكنه لا يستطيع مطالبة المدين ببعض دينه من فرط حيائه و قد يكون في قوم فتقرب منه مائدة الطعام فيستحي أن يأخذ كامل حاجته و قد يكون في ملابسه ما هو قديم او مخلولق فانه لا يجرأ علي الخروج به الي الناس و هو كذلك لا يستطيع أن يقترف عملا يعاب عليه و هذا من حسنات الحياء و من جميل اثره في الناس. فاذا جئنا الي رسول الله فانه اكثر تحسسا بذلك من سائر الناس رغم انه كان أجرأ الناس علي الصدع بالحق. و النص القرآني: - «يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم الي طعام غير ناظرين اناه ولكن اذا دعيتم فادخلوا فاذا طعمتم فانتشروا و لا مستأنسين لحديث ان ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم و الله لا يستحيي من الحق» الاحزاب/53...اجل ولكن النبي لم يكن لفرط حياته من الذين اكلوا علي مائدته أن يطلب اليهم ان يغادروا بيته بعد الفراغ من تناول الطعام و ذاك من ضرورات امور المآدب اذ ان نساء الدار و من فيها من بقية الاهل و الابناء قد يقبلون علي تناول طعامهم بعد خروج الضيفان كما يقبلون علي تنظيف البيت و غسل الصحون ورد المستعار منها الي اصحابها من الجيران و لابد لاهل البيت من اخذ قسط من الراحة بعد ما بذلوه من جهد في اعداد الطعام و تقديمه الي الضيوف... و كانت الناس لا تعرف الاستئذان في دخول البيوت و لا تزال بعض الشعوب في العالم لا تعرف هذا الاستئذان رغم أن من الاداب المدنية المعاصرة الدعوة اليه و الحث عليه...و من آداب الاسلام الاجتماعية انه امر بالاستئذان، و الآيات في ذلك معروفة و من هنا كان الرسول يستحي أن يقول لاصحابه ذلك قبل نزول الوحي به. و لما نزل التشريع بذلك صار الامر من المطالب الشرعية الواجبة التنفيذ...ان قوله تعالي: «ان ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم» يدل علي أن حياء النبي كان اعلي انماط الحياء لانه كان يتحمل الاذي النفسي كل تحمل علي أن يأمر اصحابه بعمل شي‌ء او تركه في مثل هذه الامور التي هي من خصوصيات حياته...اجل ان الحياء كان من متممات الخصال الكريمة و الاداب العالية في شخصية الرسول محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم...و لقد لخص النبي رسالته العظيمة بقوله انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق... و بذلك باتت الاخلاق الكريمة من بعض رموز الاسلام و معالمه... [ صفحه 39]

استقلال شخصية الرسول...

لشخصية الرسول الاعظم استقلال خاص في التعامل البشري و ان كان صلي الله عليه و سلم من بني البشر و من صميم جنسهم في عالمهم البشري... و ذاك ان طبيعة النبوة تتطلب كثيرا من صور التفرد عن العموميات الآدمية و هذا امر لا يملك احد ان ينكره لان النبوة تعني انتزاع كائن بشري من بيئته الي شي‌ء يتميز به عن مفردات تلك البيئة و شخوصها الدنيوية من اجل ان يؤدي مهمة ارتباط بسلطان من وراء الطبيعة يرسم من طريقة للناس نهجا سلوكيا و تعبديا...و من خصوصيات ما كان من امر شخصيته البشرية انه جعل له الحق في الزواج من اكثر من اربع كما ان الشريعة جعلت زوجاته امهات للمؤمنين منعا لزواجهن من احد من الرجال بعد رسول الله و قد ماز الله سائر نساء النبي علي سائر نساء المؤمنين. و من ذلك ان قانون الارث توقف عن تطبيقه عليه بعد وفاته لان معاشر الانبياء لا يورثون و كذلك فانه عند وجوده صلي الله عليه و سلم لا تنعقد لاحد امامة في صلاة تؤدي في ساحة واحدة و وقت واحد و ذلك ما يطلق عليه اسم صلاة الخوف. «و اذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك و ليأخدوا اسلحتهم فاذا سجدوا فليكونوا من ورائكم و لتأت طائفة اخري لم يصلوا فليصلوا معك و ليأخذوا حذرهم و اسلحتهم» السناء/102... و قد كان من حكمة الخالق الحكيم انه لم يترك للنبي ولدا من الذكور بعده و الا لترتب علي ذلك احكام تتدخل الناس في صنعها.اجل ان الله لم يترك للنبي ان يكون له ابناء من الذكور لئلا تذهب الامة في توليهم بعد وفاته الي مذاهب تختلف فيها. كما أن النبي سيكون في شغل شاغل بهموم ابنائه و احفاده و ما يقع منهم في بيئتهم و ما يقع منها او فيها و قد تتكرر قصة نوح و ابنه...ان الله عامل نبيه معاملة استفرده الله فيها فكان له وحده. حقا أن حكمة الله حكمة عظيمة... و نهي الناس عن رفع اصواتهم في مخاطبته «لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط اعمالكم و انتم لا تشعرون» الحجرات/2...و من ذلك في القرآن الكريم... «خالصة لك من دون المؤمنين» و ذلك في النص القرآني الذي تمامه «و امرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان اراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين» الاحزاب/50. فلقد جعل الله هذا النمط من الانكحة مما اختص به الرسول صلي الله عليه و سلم و قوله تعالي «ان اراد النبي أن يستنكحها». فيه امتياز للارادة النبوية كانت هي المفتاح لنكاح تلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلي الله عليه و سلم فلعله لا يريد ذلك فلا يكون لتلك الهبة شي‌ء من تقديم او تأخير... و ارادة كهذه الارادة تسجل للنبي في حياته البشرية تعد احدي الوثائق الدالة علي تمتعه صلي الله عليه و سلم بخصوصيات ثابتة... و ينبني علي قوله تعالي: «خالصة لك من دون المؤمنين»... ان للنبي تفردا يتفرد به عن حالات التقييد التي يخضع الناس بها و بهذا يفهم جليا ان النبي معترف له بمزية التفرد التي منها هذه اذ نص الله علي ذلك في النص الكريم...

الطاقة الجسدية للرسول الاعظم...

كانت للنبي طاقة جسدية وصفها يوما ما بانه يبيت يطعمه الله و يسقيه اذا ما واصل الصوم فهو في ذلك ليس كسائر الناس. علي ان الطاقة البشرية لديه صلي الله عليه و سلم ظاهرة التفرد في عطائها و قوة شخصيتها فانه كان يؤدي اعمال الامامة في مسجده بالمدينة خمس مرات في اليوم و خطابة الجمع و الوعظ المستمر و يقضي بين الناس و يتهجد الليل و يطوف علي نسائه و يقود كتائب الجهاد و الغزو... و كل اولئك يقصر عنها الوقت [ صفحه 40] و مع ذلك فلقد كان يملي علي الصحابة ما يوحي اليه من كلمات ربه آناء الليل و آناء النهار... و في تضاعيف الكتاب ما يقع منه في هذا الموضوع اكثر من ذلك بل ان النبي صلي الله عليه و سلم كان يحتكم لديه اقوام من غير المسلمين و كانوا يرجعون عنه بالرضا و الارتياح اذ كان اولئك اليهود لا يطمئنون الي فتاوي حاخاميهم و كهانهم في حل مشاكلهم فاذا قدموا علي النبي انصفهم في الحكم اذ لم يكن يتحيز لفريق منهم«فلا و ربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما» النساء/65.فلقد جاء الكلام مبدوءا بقسم الله عزوجل بلفظ - فلا و ربك - اي و رب محمد الذي خاطبه الله جل جلاله بكاف الخطاب صلي الله عليه و سلم ثم بين انهم سيسلمون بالقرار الذي يتخذه النبي في مسألة التحكيم هذه و قوله تعالي (حتي يحكموك فيما شجر بينهم). اي في امر يخص القوم و قد يكون عشائريا او عائليا او شخصيا و لعظم ثقتهم بالنبي رغم انهم لم يكونوا قد آمنوا برسالته فقد فرضوا هم بانفسهم الثقة بالنبي فان معني - شجر بينهم - هو ما يبلغ حد اشتجار القنا و شدة الخصومة و كثرة اللغط و اللجاجة. و القسم الوارد في صدر العبارة القرآنية ذو حجية علي حقيقة ما تضمنه النص و ما من شك في ان ايراد هذا النص القرآني انما كان لاثبات تسامي شخصية النبي صلي الله عليه و سلم في مجالات التحكيم و الاسترشاد و كذلك رجحان رأيه و حسن تبصره في الاحداث...و الذي يلفت النظر ان المقبلين علي النبي ابتغاء تحكيمه في امر كان قد شجر بينهم هم من غير اتباعه و اعوانه مما يفهم منه ان شخصية النبي كانت محل احترام سائر اصناف الناس من مؤمن و غير مؤمن... و قوله تعالي (لا يؤمنون) ليس المراد منه اعتناق الاسلام و الدخول في حظيرة الدين و انما يراد بها الاعتراف و الثقة و الاطمئنان الي اقتدار الرسول و تمكنه بسعة افقه و رشيد رأيه بحيث كان اهلا لان ينتدب لمهمات الامور و يراجع في حل معضلات القاضايا التي تعرض للناس يومذاك...المراد بالايمان هنا معناه اللغوي و ليس معناه العقائدي الشرعي و النص يتعلق بمكانة الرسول بين قومه من جهة ما اضطلع به صلي الله عليه و سلم من الحكمة و القدرة علي معالجة الخلافات المستعصية بين الناس فيما لو لجأوا اليه لحل عقد الخصومة بينهم. و الحلف بقوله تعالي (فلا و وربك) لبيان قوة الثقة في المقام الذي ورد فيه الكلام الالهي و قربه من الله و رسوله (حتي يحكموك فيما شجر بينهم) اي اذا عرض بينهم عارض شجار عنيف، علي ان القوم بعد الاحتكام الي الرسول في امر شجر بينهم آنسوا الرشاد في معالجة المشكلة.و مما يفهم من ذلك ان الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم لو لم يكن قد جعل نبيا و رسولا لامته فانه كان سيعامل من قبلها معاملة الحكيم الذي يستأنس بحكمته و يسترشد لسليم رأيه و يلاذ به كل لياذ.و من معالم الطاقة النادرة في شخصيته صلي الله عليه و سلم انه كان يقود الجيوش و ينظم الجند سوقيا و يقتحم اخطر الحروب وفق منهاج يدبره بنفسه و قليلا ما كان يشاركه فيه الغير و في القرآن الكريم: «و اذا غدوت من اهلك تبوي‌ء المؤمنين مقاعد للقتال» آل‌عمران/121.و سنتكلم علي شخصية النبي العسكرية بمكان آخر. و مما يستدل به علي قوته الجسدية انه اشترك في حفر الخندق في الغزوة المعلومة و كان يعمل اكثر مما يعمل غيره في الحفر و نقل الحجارة لا يعوقه عن ذلك جوع و لا طول سهر... [ صفحه 41]

الرسول الاعظم عسكريا...

كانت للرسول صلي الله عليه و سلم القيادة العامة للامة و لقد اقتحم كثيرا من الغزوات و امتطي صهوة جواده في اكثر من ساحة قتالية و خوطب من ربه بخطابات ذات منحي عسكري و منها قوله تعالي «يا أيها النبي حرض المؤمنين علي القتال...» الانفال/65...و في هذا النص تعليمات قتالية في تحديد واجبات المقاتل المسلم. بحيث ألزم المقاتل المسلم بأن يقاتل بطاقة قتالية تبلغ عشر مرات اكثر من الطاقة القتالية للمقاتل الكافر ثم جري التخفيف عن المقاتل المسلم بحيث كلف ان يقاتل بطاقة تبلغ ضعفي طاقة المقاتل الكافر و علي هذا ما يزال المقاتل المسلم في موقف هو فيه اقوي من موقف المقاتل الكافر و هذا معني قوله تعالي «ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين و ان يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا» و قوله تعالي «بأنهم قوم لا يفقهون» اي انهم لا يقاتلون وراء فكرة عقائدية او وطنية انما يقاتلون وراء اسلاب و مغانم. و ابرازا لمعالم القوة و الشجاعة و الجرأة فيهم...و المقاتل المسلم يبتغي في قتاله حماية عقيدته و طاعة ربه و اقتفاء خطي قيادته التي تدرك ما هو خير و ما هو اصلح... اما قرار التخفيف فقد جاء في قوله تعالي «الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم مئة صابرة مئتين و ان يكن منكم الف يغلبوا ألفين بأذن الله و الله مع الصابرين» الانفال/66.و هذه اوامر قتالية تحدد فيها للمقاتلين طاقاتهم القتالية وفق كل موقع و كل حالة حربية. و قوله تعالي «يا أيها النبي حرض المؤمنين علي القتال» لم يرد فيه القول علي كيفية هذا التحريض و طريقته و ذلك لان الله يعلم قدرة رسوله علي تنفيذ هذا الامر فهو حقا قائد يحسن ادارة الوطيس الحربي بسائر مفرداته و اولياته و سوقياته و كذلك ما يسمي اليوم بستراتيجية الحرب. و للحرب جوانب تتعلق بالكر و الفر و تنظيم الجنود في الساحة وفق قوانين الحرب في تلك الازمنة...لقد كان رسول الله محيطا بذلك كله و ان توصياته العسكرية في اكثر من موقع دلت علي بعد نظره و حسن تبصره في هذه الامور... و نري في الآية التالية ما اوضحه الله لنبيه من رسوم الحرب و اعرافها و قوانينها «ما كان لنبي أن يكون له أسري حتي يثخن في الارض...» الانفال/67...ان خلاصة المعني الذي تعنيه هذه الآية هو ان الحرب التي تخوضها الجهة المسلمة مع جهة اخري كافرة يجب ان تكون حربا ذا خطة حاسمة [14] ... لان الحرب ضد جهة مقاتلة ذات سلاح و جند يجب الوصول الي مواقعها بأقرب وقت اي انها ان وقعت فانما تعني حماية الجهة المسلمة التي تريد الجهة التي تحاربها تنحيتها عن مكانها و ازالة وجودها بالمرة فلابد اذن ان تكون خطة هذه الجهة اي الجهة المسلمة خطة اندفاع ساحق يؤدي الي دحر العدو دحرا شديدا. و ذاك بعقلية تنصرف الي القضاء علي المحارب القادم بكل سلاحه لغرض التدمير و الاكتساح و القضاء علي فئة ذات عقيدة و فكر ديني اصلاحي. فالقيادة الاسلامية اذا كانت تتسامح بعض التسامح في القتال من اجل ان يكون في يدها عدد من اسري العدو فان ذلك ليس في صالحها الا اذا كانت من القوة بحيث لا يؤثر عليها وجود الاسري في ديارها اذ يحتاج الاسير لمأوي حصين يحول دون هربه و لتغذية دائمة و علاج حاضر و حماية و رقابة.ففي هذا النص توجيه عسكري حدي اراد الله توجيهه للنبي اذ كان هو قائد الامة في قيادة الحروب [ صفحه 42] و المواجهات المسلحة [15] . و لا يعني هذا اباحة قتل الاسير و اجاعته ولكنه يعني المبادرة الي كل قادم من جيش العدو لغزو البلاد بالقتل و الابادة و الاستئصال اي ان تكون الحرب حربا غير قائمة علي المداراة و المشاغلة و التناوش الذي لا سياسة حربية وراءه...و من آيات القتال قوله تعالي «و اذ غدوت من اهلك تبوي‌ء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم» آل‌عمران/121. ففي هذا النص توكيد علي شخصية الرسول القيادية الثابتة له تلقائيا و قوله تعالي «و اذ غدوت من اهلك» بيان بان هذه القيادة لا تنشأ من رغبة القوم و لا من قرار يقررونه عند كل خروج و ان كان النبي يستشيرهم في مثل هذه المهام. و انما هي صفة مستديمة فيه صلي الله عليه و سلم و في النص ما يشير الي استعدادات النبي القيادية في سائر ضروب حالات الخروج للقتال... و تبوي‌ء المؤمنين مقاعد للقتال ظاهر الدلالة علي الدراية العسكرية التامة لدي الرسول الاعظم و فيها كذلك دلالة اخري علي انه صلي الله عليه و سلم كان يتولي ذلك بنفسه و بمقتضي علمه العسكري و دهائه الشخصي في ذلك. و في مثل هذا التفرد في تدبير امور القتال يتوفر ادق مسائل الكتمان التي هي في الغالب مناط النصر و الغلبة و كان صلي الله عليه و سلم يوزع المهام العسكرية و يعقد الرايات و يوزع الاسلحة و كان هو الذي يتصرف بأمر الغنائم وفق خطة معلومة. بل كان يحسن اختيار المقاتلين و يرفض خروج قوم معه للقتال و يؤمر علي السرايا و غيرها...لقد علمنا ان نشأة الرسول البيئية لم تكن نشأة عسكرية تجعله ملما كل الالمام بأمور الحرب، و عالم التجارة الذي كان له وجود في ساحاته و اسواقه ليس عالم حرب و طعن و ضرب ولكن الله عزوجل هو الذي علم النبي اسرار هذا الامر و سلمه مفاتيح النصر و مكه من أن يحسن القيادة و يدير دفة الحرب التي تكرر عروضها في العهد المدني فكان احذق قائد عسكري في سائر المهارات الحربية و المواقف القتالية بدءا و انتهاءا.اجل ان الله عزوجل كان وراء النبي يلقنه ما يتعلم به مسائل الحرب و ما اليها و في الآية التالية «فان رجعك الله الي طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي ابدا و لن تقاتلوا معي عدوا انكم رضيتم بالقعود اول مرة فاقعدوا مع الخالفين» التوبة/83...ففي هذا النص ارشاد للرسول صلي الله عليه و سلم بأن لا يعتمد في المواقف العسكرية علي اناس ثبتت انهزاميتهم و لا التزاميتهم في ظروف سابقة، و أمر الله نبيه أن يجاهر هؤلاء الناس - بأعيانهم - بقرار ابعادهم عن المجال العسكري الاسلامي الذي كانت السياسة الحربية فيه تعتمد الايمان بالقضية المشتركة و تؤمن بأن الحرب في الاسلام حرب عقيدة علي من يعتقدها أن يؤدي حقها لدرجة الاستشهاد...ان الحرب التي كان يشهدها النبي و اصحابه و اعوانه و سائر المقاتلين كانت في بعض الاحيان تحظي بمدد سماوي يؤيد الله به نبيه تأييدا مكينا و ينصره به نصرا عزيزا و من آيات القرآن في هذا المعني قوله تعالي «اذ يوحي ربك الي الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان. ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاقق الله و رسوله فان الله شديد العقاب» الانفال 13/12... لا سيما ما كان من امر القتال الالهي موجها الي النبي وحده في مثل قوله تعالي:«فقاتل في سبيل الله لا تكلف الا نفسك و حرض المؤمنين عسي الله أن يكف بأس الذين كفروا و الله اشد بأسا و اشد تنكيلا» النساء/84... [ صفحه 43] فان القتال هنا موجه ضمنا الي الامة التي خوطب بالقتال نبيها و قائدها اشعارا بوحدة المهمة و تمثيل القائد للامة...قوله تعالي «لا تكلف الا نفسك» اي اذا لم يكن في الساحة غيرك من المقاتلين و كان عددهم قليلا او جد قليل فان عليك اقتحام الساحة وحدك ان لم تكن هناك استجابة تامة لتحريضك و في هذا دليل علي عظم ثقة الله برسوله اذ يزج به في المعامع الثقال و هي شهادة من الله للذات النبوية المتميزه بأعظم المزايا و الطاقات و في مقدمتها اتسامها بالبطولة الرائعة المتفردة علي أن الله كان لطيفا بنبيه و كان فضله عليه عظيما ابدا ففي مثل الموقف الذي زج الله نبيه فيه منفردا كان الله يعينه بفريق قتال عظيم هو فريق الملائكة...ان امر القتال في الاسلام خرج غير قليل عن نظامه عند العرب قبل الاسلام. و لذلك كان الذين يقبلون علي المشاركة في الحرب مع الرسول انما يفعلون ذلك عن ايمان و رغبة في الحصول علي احدي الحسنيين الشهادة او كسب المعركة و لذا نري اناسا من المقاتلين يقبلون علي النبي يسألونه أن يجعل لهم حظا في المشاركات القتالية فكان عليه الصلاة و السلام يرد عليهم «لا أجد ما أحملكم عليه» فليس عنده سلاح و لا أفراس فكانوا يرجعون عنه و هم يبكون. و هذا معني قوله تعالي «و لا علي الذين اذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا و اعينهم تفيض من الدمع حزنا ان لا يجدوا ما ينفقون» التوبة/92...ان الحرب في اعراف اهل الجاهلية الاولي غير الحرب في عرف الاسلام و هذا - كما قلنا - جعل المقبلين علي المشاركة في الحروب النبوية يكون فيهم المتردد و المتقاعس و غير الجاد، و في القرآن الكريم ما يشير الي أن المنافقين خاصة يبذعرون عند نزول آية قتالية...«و اما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم علي سواء ان الله لا يحب الخائنين» الانفال/58...حين يذر قرن الخيانة من قوم بما يريدون به الوقيعة بالاسلام و اتباعه و تقوم الادلة علي ذلك من طرق شتي تصل منها حقيقة الامر الي المسلمين و الي رسول الله مهما كان حجم تلك الخيانة فلا يجوز مباغتة العدو من غير اشعاره بالتحرك ضده و هذا معني قوله تعالي (فانبذ اليهم علي سواء) اي اخبرهم بانك اكتشفت خيانتهم و انك مقبل علي تأديبهم و استئصال شأفتهم و ذاك هو الخط الاسلامي في التعامل مع ألد الاعداء خبثا و اشدهم سطوة و بطشا مما يفهم ان لا عدوانية في السلوك العسكري الاسلامي علي احد...و قوله تعالي (و اما تخافن) لا يعني الظن المجرد من موجبات الثقة و اليقين و انما يعني الحالة التي يثبت بها ان هناك قوما يعتزمون خيانة عهدهم و نقض ميثاقهم بالقوة التي يستقر منها في النفس حجم كبير.و بديهي ان قيادة الامة في مواجهة جهة تنوي الغدر بها و غزوها انما يحسن ان تكون قيادة متأنية كتومة صابرة غير جزوعة و رغم ذلك ان علي هذه القيادة ان تعلم الجهة الثانية بقرارها في تأديب الخائنين و ناقضي العهود.و قوله تعالي (ان الله لا يحب الخائنين) يراد منه ان الله يبغض الخائنين و يمقتهم و لا يريد لهم الا النكال و شدة العقاب.و في هذا النص الذي خاطب الله به رسوله العظيم ادق ما هناك من تعبير فيما يسمي في لغة العصر المعاصر بضبط النفس لان اكتشاف خيانة قوم معاهدين يجر الي السخط و الغضب و هما يجران الي اتخاذ اجراءات فورية جدا غير ان نهج الاسلام كان غير ذلك.«و يقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فاذا أنزلت سورة محكمة و ذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون اليك نظر المغشي عليه الموت...» محمد/20. [ صفحه 44] علي أن النبي صلي الله عليه و سلم عاني في مسيرته القتالية معاناة شديدة في حالات كثيرة و رغم ذلك يجتاز اصعب المحن الحربية بنجاح و تفوق عظيمين. و في الكتاب باب في موضوع هذه المعاناة فيه تفاصيل كافية.

الاسراء...

«سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام الي المسجد الاقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير» الاسراء/1...الاسراء بالنبي صلي الله عليه و سلم من مكة الي القدس يعد الكلام عليه مسألة اعلامية تم لها سائر مقومات الابلاغ الاعلامي فلقد وصفت الكعبة بالمسجد الحرام رغم اكتظاظها بالاصنام و وصفت القدس و هي مقر النصرانية يومذاك بالمسجد الاقصي، و لقد كان في هذا لفت لأنظار الناس داخل الجزيرة العربية و خارجها اذ مكان فيه ما يقرر علي وجه الجزم ان الكعبة ستصبح مسجدا لأتباع الدين الجديد و ان القدس سيصبح مسجدا لهؤلاء الاتباع الذين سينقلون الدين الي تلك الانحاء التي كانت تحت سلطان الرومان و بهذا قويت عزائم المؤمنين بمكة و هم في غاية الضعف فاستبشروا خيرا و اطمأنوا الي ان الله جل جلاله ناصر دينه و مؤيد رسوله صلي الله عليه و سلم. و قلق الذين كانوا كغيرهم من الناطقين بغير العربية قلقا شديدا علي ما سمعوه من الاتجاه السياسي للرسول العربي في توسيع نطاق دعوته الي اماكن بعيدة و الاستيلاء علي بيت المقدس ليكون مسجدا...ان الجانب الاعلامي في هذا النص كان غاية متغياة قبل كل شي‌ء لتقوية الامة التي كانت ما تزال مهددة من المشركين بالابادة و الاستئصال و كانت خديجة زوجة النبي صلي الله عليه و سلم المرأة التي ناصرته كل المناصرة و عمه ابوطالب الذي كان من حماته قد توفيا قبل حادث الاسراء و لم يكن الذين هاجروا الي الحبشة قد عادوا بعد. و لذا تعد هذه الايات قد منحت مسلمي مكة القليلي العدد فيها ثقة و رجاءا عظيمين و احدثت في نفوس خصوم الدين قلقا و خوفا اذ دب الي اذهانهم ان هناك مصدر قوة عظمي بدأ يصل الي أوساط المسلمين.هناك جانب اخبر في قصة الاسراء التي تلاها المعراج ذلك الجانب هو ان الله عزوجل اراد للنبي صلي الله عليه و سلم ان يتصل باحداث غيبية استوعب النبي امورا يمكن ان توصف بانها امور مرئية رؤية محسوسة او انها رؤية تكاد ان تكون محسوسة و قد لخص ذلك بقول الرسول (زويت لي الارض) و ذلك بمجمله و مفصله ظاهر الدلالة علي ان النبي صلي الله عليه و سلم لقي من ربه عناية خاصة كانت باهرة النتائج مما لا يكون عروض مثله للبشر بالامر المعتاد و المألوف او المتوقع... و نزداد بذلك ثقة ان النبي لم يجعل الله رسالته و مخاطبته بالوحي الحالة الوحيدة بل اضاف الي ذلك انه اخذ بيده الي مواطن من غيبه و اسرار في كونه و كان ذلك علي حد قوله تعالي «عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه احدا. الا من ارتضي من رسول فانه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا» الجن 27/26... و لا حاجة للتأكيد ان الاسراء و المعراج زادا من ثقتنا بان بشرية النبي صلي الله عليه و سلم كانت ذات مستوي متفرد زادت به شخصيته تساميا في ملكوتها البشري العظيم.

المعراج...

في القرآن الكريم «ما ضل صاحبكم و ما غوي» النجم /2... هذا نص من نصوص سورة النجم التي جاء في بدئها القسم بالنجم اذ هوي ثم كان الكلام الالهي نافيا ان يكون رسوله العظيم قد ضل او غوي، و جاء ذلك بتسمية النبي باسم «صاحبكم» لبيان انه معروف من قبلهم معرفة تامة اذ انه ليس غريبا عنهم نسبا و لا قومية و لا سكنا و ذاك امعانا في اثبات واقع ثابت. [ صفحه 45] و المراد بالضلال الخروج عن الحجة الواضحة والجد في القول و الصحة في الخطة و قوله تعالي «و ما ينطق عن الهوي» النجم/3... فيه تأييد مطلق لما قاله النبي لهم و ما يقوله و ذلك لدفع مظنة ان يكون كلام النبي لهم من غير كلام ربه. و جاء بعد ذلك قوله تعالي «ان هو الا وحي يوحي» النجم/4... و فيه حصر ظاهر لاقوال النبي التي كان قد قالها في موضوع الاسراء و المعراج فانها اقوال صدقها الله عزوجل. و قوله تعالي «علمه شديد القوي» النجم/5... المراد بذلك ذاته الالهية و قد نسب الله الي نفسه التعليم في اكثر من مكان في التنزيل العزيز و من ذلك «تعلمونهن مما علمكم الله...» المائدة/4... و «و علمناه من لدنا علما» الكهف/65... «و علمك ما لم تكن تعلم...» النساء/113 «علم الانسان مالم يعلم» العلق/5... «و علمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم...» الانبياء/80.اما قوله تعالي «ذو مرة فاستوي. و هو بالافق الاعلي. ثم دنا فتدلي. فكان قاب قوسين او ادني» النجم 8/6... فانه كلام علي النبي للتعبير عن حالة عروجه في السماء و هي حالة غير متصورة بصريا و لا مجال لتوضيحها صورة و اطارا لان الكلام عليها لا يدخل في شائع المصطلحات التي يتعارف عليها الناس و يتداولون بها فيما بينهم كما ان هذه المفردات ليست من فصيلة المفردات المعجمية التي ينظر الي معانيها في المعاجم.و في القرآن الكريم «أعنده علم الغيب فهو يري» النجم/35... مما يفهم منه ان الرؤية تعني انها تجول في مدار علم الغيب فهذه رؤية لا تشبه الرؤي لدي الرائين لأن الله جعل السبيل اليها معرفة الغيب و ادراك علمه «أعنده علم الغيب فهو يري» اي ان من يعلم الغيب يملك الرؤية الا انها رؤية من نمط لا نعلم تفصيل اسراره... و اراد النص ان يؤيد حقيقة ما نقله النبي الي قومه من احداث العروج الي السماء و ما كان قد رآه هناك من عظيم اسرار الله و باهر خلقه و مكنون غيبه...ان ما رآه النبي في مستوغل السماء و المراد بذلك عالم الغيب البعيد عن احاطة الناس و ادراكهم انما رآه بعين الفؤاد الذي كان وراء البصر «ما كذب الفؤاد ما رأي» النجم/11... و قوله تعالي «ما زاغ البصر و ما طغي» النجم/17... بيان بأن الامر وصل الي حد الابصار الطبيعي في النبي اذ وهبه الله علما ضروريا و طاقة متفردة خاصة فصار يدرك بذلك دقائق الامور مما هو خفي علي سائر البشر و اذا كان البصر يزيغ في البشر احيانا فانه لم يكن قد زاغ في رسول الله صلي الله عليه و سلم. و الدنو و التدلي يعنيان فرط القرب من الخالق العظيم و هو امر حين يوصف بالحسية فان المراد بذلك قوة التوكيد علما ان شيئا حدث للنبي من اقتراب مكانته من ربه. و قوله تعالي «قاب قوسين او ادني» يراد به فرط القرب لدرجة جد محددة لا مجال لتجاوزها الي ما هو اكثر قربا. فان اصل العبارة «فكانا قابي قوس» لان لكل قوس قابين اي طرفين فاذا اخذت خيزرانة لدنة فطويتها لتجعل منها قوسا فانك ملت بها الي مجال لا تستطيع تجاوزه الا اذا انكسرت الخيزرانة المطوية. اي ان الله قرب النبي منه اقصي ما يقع فيه قرب عبد من ربه... و تلك مزية عالية غالية اتاحها الله لرسوله صلي الله عليه و سلم و القصد من ذلك أن لا احد بلغ من عظيم تكريم الله بالتقريب مثل هذا المبلغ في خلق الله سوي رسول الله...ان رؤية النبي لربه ثبتت في هذه السورة الكريمة غير انها رؤيا شاء الله تعالي ان يحققها للنبي فانها مما كان قد تمناه انبياء و رسل علي الله. و يقول الرازي المفسر (ان الله خلق في النبي علما ضروريا) هو حتما ليس من نمط سائر العلوم امكن للنبي به فهم الاشياء و استيعابها والاحاطة بها و كذلك قلنا من قبل ان الله اذ يرسل الرسل الي اقوامهم و هم من بني البشر [ صفحه 46] يمنحهم مؤهلات و طاقات تمكنهم من تلك الوساطة بين السماء و الارض في التبليغ و متطلباته و نقلها الوحي.و قوله تعالي «أفتمارونه علي ما يري» النجم/12... يدل علي لغط حدث لدي القوم بعد وصول امر العروج اليهم و هو في الحقيقة لم يتهيأ لهم معرفة النقطة الاساسية في عالم ارسال الرسل اذ يتم اختيارهم من ربهم اختيارا مصحوبا بالتأهيل و التدريب و الزيادة في الخلق و التكوين مما يعلمه الله وحده و لا تعلم الناس منه الا الظواهر القليلة التي يؤمن بها المؤمن لصدق الدلائل عليها «الله أعلم حيث يجعل رسالته» الانعام/124...

التأديب النبوي...

في الحديث النبوي انه صلي الله عليه و سلم قال «ادبني ربي فاحسن تأديبي».و قد لمسنا جوانب من التأديب الالهي الذي ادب به الرسول الاعظم في آيات من التنزيل كانت تلقي عليه و فيها العبرة و التأسي و مفردات الادب و الخلق الانساني المحمود. و هذه النصوص تتردد بين الامر و الايجاب و بين النهي و التحذير و في ما يلي عدة معدودة من كل منهما اي مما هو امر و مما هو نهي... و كفي بمن يكون الله معلمه و مؤدبه ان يكون انجب النجباء في التحصيل و التلقي و الالتزام و الاستيعاب و التطبيق و من اوليات هذا النمط التأديبي سرد قصص الانبياء و الرسل الاقدمين و ما كان قد مر عليهم ايام حياتهم من الاحداث و ما كان منهم من عزم و صبر و لياذ بالله، و القرآن لا يشبه كتابا اخر و لا يشبهه كتاب غيره فانه يتلي سرا و علانية و تؤدي به الصلوات اليومية المتكررة و لا سيما اذا اضيفت اليها نوافل و صلوات تطوع ففيها كلها يقرأ القرآن فيتعظ به قارئه و يتعظ به سامعه...ان التأديب الالهي يعد من عناوين سائر الرسالات السماوية والمراد بالتأديب الالهي تكوين شخصيات الرسل والانبياء علي الوجه الذي يؤهلهم لاداء رسالاته عزوجل الي شعوبهم و أممهم. و ما زالت الآيات القرآنية تنزل علي رسول الله و فيها ما يعد من مسائل التأديب الالهي الخاص لهذه الذات النبوية المتميزة من قبل رب العالمين لهداية العباد و اصلاح الامم. و من تلك الاداب العالية التي لقنها الله نبيه فاحسن تلقيها و الاخذ بها قوله تعالي «و لا تقف ما ليس لك به علم ان السمع و البصر و الفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا» الاسراء /36... و كذلك قوله تعالي «و لا تقولن لشي‌ء اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله و اذكر ربك اذا نسيت و قل عسي ان يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا» الكهف 24-23... و من ذلك «و لا تجعل يدك مغلولة الي عنقك و لا تبسطها كل البسط» الاسراء/29 و ما الي ذلك من الآيات التي قام علي ركائزها عمود الدين في اوساط الامة بدءا من شخصية الرسول الاعظم و انتهاءا بسائر افراد المسلمين... و كان رسول الله قد عني هذا بقوله ]اد بني ربي فأحسن تأديبي[...

التوجيهات التحذيرية...

وردت في التنزيل العزيز آيات حذر الله فيها نبيه أن يقع منه ما وقع من انبياء سبقوه في التاريخ الي أممهم اذ كان كل نبي يبعث الي قومه. و من هاتيك الآيات ما نثبته في هذا الجدول و علي ما هو ظاهر انها آيات ما نثبته في هذا الجدول و علي ما هو ظاهر انها آيات تنبيه و توجيه و تعليم و تقويم.«و لا تكن كصاحب الحوت اذ نادي و هو مكظوم. لو لا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء و هو مذموم» القلم/49/48...فهناك تنبيهات الهية و تحذيرات وجهها الله نبيه من اجل ان تكون من حلقات سيرته المنسقة و المؤتلقة في آن واحد... فان صاحب الحوت و هو يونس عليه‌السلام كان ناقما علي قومه لكن رسول الله لم يكن ناقما علي قومه بل كان شديد المودة لهم والعطف عليهم، و في النص اذ جاء بلفظ «و لا تكن» قيد [ صفحه 47] اتفاقي غير احترازي و سائر ما يرد من مثل هذه التحذيرات لا دلالة فيه علي المنع من حالة كائنة بل ان الدلالة فيه ظاهرة علي انها منع من حالة كائنة في الغير من أن تتسرب الي شخصية الرسول و ذاك قصد التمييز بين الشخصيتين النبويتين لا غير... و في العربية كثيرا ما يكون النهي عن شي‌ء اعلانا عن صفة شي‌ء يراد احاطته باطار... و كذلك من مثل قوله تعالي:«و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله ان يصيبهم ببعض ذنوبهم و ان كثيرا من الناس لفاسقون» المائدة/49...اشرنا في بعض آيات المواجهة ولدد الخصومة الي ما كان يبذله كفار قريش و مشركوهم من جهود يبتغون بها ايقاف مسيرة الاسلام و صد النبي عن اعمال الدعوة و التبليغ و اخافة اعوانه بالتهديد و الترويع و ذكرنا من فنون الشر الذي كانوا يتبعونه و يبتغونه الكثير و في النص الذي نحن في صدد الكلام عليه جاءت كلمة التحذير التي هي «و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك...» و في استعمال هذا الحرف دليل علي تفنن المشركين في مكرهم و خبث محاولاتهم التي يظنون أنهم يغرون بها النبي و يجرونه الي مزالقهم و يحملونه علي الانشغال عن بعض ما انزل الله اليه و التقصير فيه اذ كان الرسول صلي الله عليه و سلم شديد الالتزام بواجب ايصال مفردات الدين الي القوم من غير هدنة يهادنهم بها او مجاملة او تسامح. و كان الله عزوجل مع النبي يحميه و يعصمه و يشد أزره...ان الكلمة الموجهة من الله الي نبيه بلفظ «واحذرهم» توضح لنا ما قلناه من لدد خصومة القوم و خبث نياتهم و سوء خططهم. و ظاهر من مثل هذه النصوص أن الله كان يوجه نبيه توجيها مستديما الي ما يسدده و يمكنه من اداء مهمة الرسالة علي أتم وجه و اهدي سبيل...«يحسبون كل صيحة عليهم من العدو فاحذرهم قاتلهم الله أني يؤفكون» المنافقون/4...حذر الله نبيه من جماعة يتصور من يراهم أنهم من نبلاء الناس و فضلاء الرجال اذ كانوا يتميزون بجمال الهندام و قوة البنية و اكتمال الهيئة و براعة الكلام ممن لا يتهم ظاهرهم بما يسوء او يبعث علي الشك ان هؤلاء وصفهم الله بأنهم يجب الحذر منهم. و يفهم من النص أن الله وهب النبي ملكة التوسم الصادق في الناس فلقد جعله اذا توسم خيرا في أحد جاء توسمه فيه مطابقا للحقيقة و اذا توسم فيه شرا كان ذلك مطابقا للواقع كل المطابقة لأن الله عندما وصف القوم لم ينبزهم بما تنكشف به حقيقتهم لأول وهلة لذلك وقع التحذير في النص من المنافقين و لذا فان التحذير يعتمد اعتماد كليا علي دقة التوسم و الفطنة في الحكم علي الرجال و هذا ما كان من بعض صفات الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم...

آيات المواجهة...

حين بعث الله صلي الله عليه و سلم الي العرب في بدء رسالته العالمية كذبوه و واجهوه بالاتهامات و برفض ما جاء من ربه و قالوا فيه و في شريعته اقوالا ثبتها القرآن الكريم ورد عليها و كذب مزاعمهم و سوء ظنهم في رسولهم. ان الناظر في آيات المواجهة هذه قد يأخذ منه العجب كل مأخذ لشدة هذه المواجهة و لعنف ما لقيه الرسول من هؤلاء الناس من مقاومة و لضروب كثيرة من اساليب رد الدعوة التي مما اتخذها المشركون و الكافرون مما هو منطقي و غير منطقي ليذهل العقل البشري اذ يري محمدا بن عبدالله واقفا امام هذا التيار الالحادي الرهيب حتي استطاع ان يجاوز هذه المحن المتتابعة...لم يكن من الهين علي أمة متشتتة الاهواء كل فرد من افرادها يري انه هو الأمة بكامل وجودها و هي في معتقدها الديني تعبد الاوثان و الاصنام كما أنها [ صفحه 48] تحتكم الي السيف في الامر الذي يحتاج للاحتكام فيه الي العصا... اجل لم يكن بالهين علي مثل هذه الامة أن تستجيب لرجل منها ظهر في اقرب مدنها الي الحضارة و التطور فتؤمن برسالته التي دعاها فيها الي عبادة الله وحده و نبذ ما هناك من الاصنام التي تصنعها بيدها و تقبل بكل طواعية علي عبادتها...أجل لم يكن من الهين علي مثل هذه الامة أن تتخلي بين عشية و ضحاها عن جميع ما ألفته من التقاليد التي لبثت عاكفة عليها الدهر الطويل، لا سيما حين تكون تلك التقاليد قد باتت قيما راسخة و مثلا ثابتة لها جذورها في اعماق نفوسهم و قد ورثوها من آبائهم و آباء آبائهم و من هنا كانت المواجهة بين القوم في مكة و بين النبي و قد قامت مواجهتهم تلك علي ركائز مهزورة [16] لا يكاد يحصيها من يحاول احصاءها... فمن مكاشرة في العداوة و مظاهرة في البغضاء الي مناقشات تقوم علي الاضجار و الاستفزاز الي التهديد بالقتل و الاخراج من الديار الي شتي انماط الاضطهاد و اعمال العنف و القسوة و كانت السخرية من بعض سلاحهم و الاتهام بالجنون و السحر و الشعر والكهانة من بعض تلك الاسلحة التي شهروها في وجه نبيهم.ان سائر الشعوب القديمة وقفت في وجوه انبيائها و عمدت الي ايذائهم و تسفيههم و كانت الرسل تتمسك بهدب الصبر و التحمل و الحلم، الا أن الذي فعله العرب في مواجهتهم الدعوة الناصحة و الكلمة الهادية قد جاوزوا كل حد في مساعي الشر و وسائل الشقاق و التعامل العدواني الشرس الأليم...و حين نتصفح آي القرآن الكريم نري فيها نصوصا واضحة كل الوضوح تدل علي ما وقع من اهل مكة و من بعدهم اهل المدينة من بليغ العدوان و شديد الشراسة تجاه الدعوة التي دعاهم بها النبي الي الله... و قد وجدنا في النصوص القرآنية خطابات الهية تدعو الرسول الي الصبر و التحمل و فيها ما يدعوه الي الحذر من أن يميل الي القوم بشي‌ء من المداراة و الممانعة و التوقف عن اداء المهمة علي فرط ما فيها من مشقة و شديد كلفة... و قد كان النبي الناصح الامين يعاني العناء الكبير الذي يتجدد علي مدي الايام مما لم يقع مثله لنبي من الاقدمين و أنا مشيرون الي هذه الجوانب بايراد الآيات التي تضمنت نصوصها و ربما عمدنا الي شرح فريق منها لوضع كل صورة في اطارها و كل نقطة علي حروفها ليعلم من ينظر في هذا الكتاب عظم جهد النبي صلي الله عليه و سلم في تدبير الامور و السير بخطوات الدعوة الي ابعد غايات التوفيق و النصر [ صفحه 49] و النجاح. ان ذلك كله بل بعضه ليدل علي عظمة هذه الشخصية التي شاء لها الله أن تنفرد برشيد الرأي و سديد الأمر و مزايا الكمال التي اجتازت بها جميع المصاعب و المشاكل و محدقات الاخطار فبات الاسلام دين العالم كله يري له في كل اقليم عمود من نور يهدي الناس الي البر و صالح الاعمال...ان بعض مفردات المواجهة تعتمد علي التكذيب المطلق بلا روية و لا حجة و لا شبهة لأن موقف هذا النفر الذين يقفون هذا الموقف ليس موقف جدال و حجاج و انما هو موقف الرد الشرس من اول لحظة... و بعض مفردات هذه المواجهة يقوم علي تكديس المقترحات غير المنطقية اي ما يتضمن المطالب التعجيزية لغاية التعجيز لا غير... و هؤلاء لو تمت الاستجابة لكثير من طلباتهم لما كان لذلك ما يقدم او يؤخر في ساحة الدعوة من استجابة و قبول...و قد كان من غريب ما حديث في المواجهة ان اكتشف القوم في المدينة وسيلة النفاق فراحوا يقولون «منوا وجه النهار و اكفروا آخره» آل‌عمران/72... و جاء في بعض ذلك النص القرآني «و اذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و اذا خلو الي شياطينهم قالوا انا معكم انما نحم مستهزئون» البقرة/13...و في ما يلي نماذج من نصوص المواجهة علي تعدد اشكالها و اتساع احجامها و ثقل اوزانها...«و اذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما انزل علينا و يكفرون بما وراءه و هو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون انبياء الله من قبل ان كنتم مؤمنين» البقرة/91...من بعض آيات المواجهة في العهد المدني الكلام فيها كلام علي الكتاب و يكادون يكونون علي وجه الحصر من اليهود. اذ ان اليهود حين دعوا الي الايمان بكتاب الله يقولون انهم يؤمنون بكتابهم لا غير، و قد ناقشهم النص القرآني بأنهم كانوا يقتلون انبياء الله. و قتل انبياء الله ينفي الايمان، بما ادعوا الايمان به من كتابهم. و هي حجج تدحض حججهم و حقائق تبطل مزاعمهم...ان في آيات المواجهة لتأريخا لوقائع الكفر و الايمان و التجاذب العدواني الشرس في ساحة هذه المواجهة التي امتدت الي آخر ايام الاسلام. و كان رسول الله صلي الله عليه و سلم وحده الجهة التي تبرز في ساحة كل مواجهة دائمة غير منقطعة و متصلة غير منفصلة خلال ثلاث و عشرين سنة هن ملاك الدعوة الدينية في العهد المكي و المدني...«و اذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون» البقرة/170...من آيات المواجهة المدنية و غالب ما كان يرد من ذلك كان يعقب عليه بتعقيب قرآني يبطل به خطط الكفر و اساليب الشقاق و الذي تضمنه النص هنا هو علي ذات الخط الجدلي في آيات المواجهة...«فان كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر و الكتاب المنير» آل‌عمران/184...«أفلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» النساء/82...«و قد نزل عليكم في الكتاب أن اذا سمعتم آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتي يخوضوا في حديث غيره انكم اذن مثلهم ان الله جامع المنافقين و الكافرين في جهنم جميعا» النساء/140. [ صفحه 50] في هذا النص المدني اشارة الي بعض انماط المواجهة اللئيمة اذ كانوا يجتمعون ساخرين عابثين عند نزول الآيات و ذلك علي نحو ما كان يقع من تصرفات الكفار ايام العهد المكي مما يفهم منه أن سبيل الكفر غالبا ما يكون واحدا رغم اختلاف البيئات...و قد حذر الله المؤمنين من مواصلة الصحبة و الرفقة مع الذين يكفرون بآيات الله و يسخرون منها اذ امرهم بمغادرة المكان استنكافا من مجالسة اهله و احتجاجا علي موقف العدوان الرخيص تجاه آيات الله البينات...«و اذا قيل لهم تعالوا الي ما أنزل الله و الي الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون»المائدة/104«و لو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا ان هذا الا سحر مبين». الانعام/7«قل لا اقول لكم عندي خزائن الله و لا اعلم الغيب و لا اقول لكم اني ملك ان اتبع الا ما يوحي الي قل هل يستوي الاعمي و البصير أفلا تتفكرون» الانعام/50.«قل اني نهيت أن اعبد الذين تدعون من دون اللهن قل لا أتبع اهواءكم قد ضللت اذن و ما أنا من المهتدين». الانعام/56«و ما قد روا الله حق قدره اذ قالوا ما أنزل الله علي بشر من شي‌ء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسي نورا و هدي للناس تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيرا و علمتم مالم تعلموا انتم و لا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون». الانعام/91.«أن تقولوا انما أنزل الكتاب علي طائفتين من قبلنا و ان كنا عن دراستهم لغافلين. أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا اهدي منهم فقد جاءكم بينة من ربكم و هدي و رحمة فمن اظلم ممن كذب بآيات الله و صدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون» الانعام 157/156.«أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ان هو الا نذير مبين» الاعراف/184.«أكان للناس عجبا أن أوحينا الي رجل منهم أن انذر الناس و بشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون ان هذا لساحر مبين» يونس/2.«و يقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه انما انت منذر و لكل قوم هاد». الرعد/7.«و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون. لو ما تأتينا بالملائكة ان كنت من الصادقين. ما ننزل الملائكة الا بالحق و ما كانوا اذن منظرين» الحجر 7/6.من بعض آيات المواجهة التي تسجل علي كفار القوم موقفهم العدائي من رسول الله صلي الله عليه و سلم و رسالته السماوية السمحة فيري حجم المخاشنة و لؤم الخطاب ظاهرا في ما وجهوه الي الرسول من خطاب، اذ كان خطابا خاليا من آداب الخطاب كله لغو و هجو و سباب. و قد تكرر علي لسان هذا النمط من الزمر المنكرة للدين أنهم يطالبون بالالتقاء بالملائكة و قد عقب النص القرآني علي كلمتهم هذه بأن الملائكة لا تنزل استجابة للرغبات و الاهواء...«نحن اعلم بما يستمعون به اذا يستمعون اليك و اذ هم نجوي اذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا» الاسراء/47.لم يكف القوم أن زعموا أن الرسول ساحر وانما راحوا يزعمونه مسحورا أي تحكم فيه السحرة. في حين أن الساحر لا يسحر... [ صفحه 51] «و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك لتفتري علينا غيره و اذن لاتخذوك خليلا» الاسراء/73.في النص ابراز صورة الكفر و العناد ولدد فالخصومة بما لا يقال فيه انه صورة مكبرة بل انه صورة لواقع المكر الشرس المخاشن الناهض بكل ما فيه من قوة تحد في وجه رجل واحد...اجل لقد حاولوا ان يصرفوا النبي عن وجهته و ان يمسكوه عن المضي في خطته و هم يدثرون دثار العداء السافر يغرونه لينهج منهجهم و هو ما وصفه الله بقوله «لتفتري علينا غيره» و من فرط مكابرتهم في عدائهم هذا كانوا يمنون النبي بأنهم سينتقلون الي عالم الود و الصداقة اذا استجاب لامرهم و مال الي معابيدهم و نزع من عنقه رقة الاسلام و الايمان...لقد كان النبي يسمع هذا الذي يقولون و ينظر الي هذا الذي يصنعون و هو يأسف لعقول هداها الله الي الحقيقة كيف تضل و ترضي لنفسها الشقاء في ظل اوثان و اصنام لا تعقل و لا تملك أن تصنع له خيرا او سوءا و لا تملك ان تدرأ عن نفسها ضربة فأس اذا اهوي به علي رأسها... ان هؤلاء القوم علي ما يلاحظ لم يكونوا ينسبون لأصنامهم شيئا من فضيلة او شيئا من مزية او انهم ينسبون للخالق العظيم الذي جاء النبي يدعوهم الي عبادته اجل لم يكونوا يملكون ان ينسبوا اليه عجزا او غيابا عن الوجود او ضعفا او حاجة يحتاجها للغير. لقد كان من اصول المواجهة التي و وجه الرسول الاعظم بهذا الذي جاء به النص القرآني الكريم.«و ان كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها و اذن لا يلبثون خلافك الا قليلا»... الاسراء/76كانت تحركات كفار مكة و مشركيها تهدف الي احراج النبي و اخراجه من مكة، ولكن الآية الكريمة حذرتهم بأن النبي اذا خرج من مكة فانه سيرجع اليها بقرآنه و شريعته و جملة أتباعه و اعوانه...و انه اذا غادر مكة فسيرتاحون بعض الوقت و ليس الي الابد أو الي أمد طويل لان رسالته ستمتد في كل بطاح مكة و تنتقل الي شتي انجاء الجزيرة العربية...و ذاك هو معني النص الذي يفقد خصوم المتربصين به لذة انتصاراتهم الموهومة علي النبي اذا ما خرج من مكة أو أخرجوه...«ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث الا استمعوه و هم يلعبون لاهية قلوبهم و اسروا النجوي الذين ظلموا هل هذا الا بشر مثلكم أفتأتون السحر و انتم تبصرون. قال ربي يعلم القول في السماء و الارض و هو السميع العليم».الانبياء/4-2.«و ان يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح و عاد و ثمود. و قوم ابراهيم و قوط لوط. و اصحاب مدين و كذب موسي فأمليت للكافرين ثم اخدتهم فكيف كان نكير» الحج 44/42...«و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي الا اذا تمني ألقي الشيطان في أمنية فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته و الله عليم حكيم» الحج/52.مما يدخل في مجال المواجهة أن مشركي القوم في مكة و كفرتهم كانوا اذا سمعوا النبي يتلوا القرآن في صدد انكار شركهم و الغاء شأن آلهتهم كانوا لفرط ضلالهم يتوهمون النص علي غير ما جاء به من صريح القول و واضحه كالذي وقع حين قرأن النبي قوله تعالي: «افرأيتم اللات و العزي، و مناة الثالثة الاخري. ألكم الذكر و له الانثي، تلك اذن قسمة ضيزي، ان هي الا اسماء سميتوها انتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ان يتبعون الا الظن و ما تهوي الانفس و لقد جاءهم من ربهم الهدي» النجم 23/19... [ صفحه 52] فانهم من فرط رسوخ الكفر في نفوسهم و شدة الحقد علي نبيهم و رسولهم توهموا انه قال اشياء لصالحهم و راحوا يتناقلون هذا الوهم و هم يعلمون ان الخط الايماني الذي ناط الله بالرسول الالتزام به لا مجال لاي تحول فيه و ما زالت الايات القرآنيه تشدد النكير علي الدين يحرفون الكلم عن مواضعه و يروون امورا لم تقع و لا تصح روايه تروي وقوعها و في امر هذا النص قد قلنا ما فيه الكفاية في موقعه من الكتاب.«و اذا تتلي عليه آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالدين يتلون عليهم اياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الدين كفروا و بئس المصير» الحج/72...لم يكن خصوم النبي صلي الله عليه و سلم في العهد المدني بأقل شرا و عدوانا علي المسلمين منهم ابان العهد المكي. و في النص ما يكشف عن هذه الحقيقة بوضوح كبير. و قد جاء وصف هؤلاء الخصوم بظهور المنكر علي وجوههم و التمعر و الشراسة و ليس ذلك وحده بل انهم وصفوا بأنهم يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آيات القرآن...و ذلك من آيات المواجهة و المعاناة التي كان الرسول الاعظم يواجههما هو و اتباعه في المدينة... و المراد بالذين «كفروا» - هنا - جمهرة خصوم النبي من مشركين و منافقين و يهود. و كان صلي الله عليه و سلم يقف كالطود الشامخ في وجوه هؤلاء جميعا...«و قالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الاسواق لولا أنزل اليه ملك فيكون معه نذيرا» الفرقان/7.«و ما ارسلنا قبلك من المرسلين الا انهم ليأكلون الطعام و يمشون في الاسواق و جعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون و كان ربك بصيرا» الفرقان/20.المراد من أن النبي يمشي في الاسواق و يأكل الطعام أنه يتسوق طعامه من الاسواق و يأكله في بيته و ليس في الطريق و ما هو ماش...«و قال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا...» الفرقان/30.كان الرسول صلي الله عليه و سلم يجنح الي الله بالشكوي من سوء موقف القوم من الدين و الشريعة و يتجه الي الله شارحا الوضع و مفصلا الحاله و عارضا المعاناة و في هذه دلالة علي عدم الانقطاع عن الله علي مدي ساعات الحياة و دقائقها و جاءت العبارة القرآنية بما لا يترك للظان ان يظن ان ما وقع من القوم في هجر القرآن و الغفلة عن بيناته انما كان عن غير قصد مقصود...اذ قال النص «اتخذوا هذا القرآن مهجورا» و الاتخاذ هو عمل اصراري غير طاري‌ء علي النفس من وسوسة شيطانية آتية.والعبارة القرآنية في سبكها هذا غاية في بلاغة التعبير و دقة ايقاع الحجة و توجيه التهمة و المسؤولية.اذ لو جاء النص بلفظ هجروا هذا القرآن لكان في ذلك ما يصور هذا الهجر و قد وقع عن غفلة أو جهل او عن غير عمد و هو مما يخفف المسؤولية و لا ينحي بشديد اللأئمة علي الجهة الهاجرة للقرآن لا سيما اذا ادعي هاجروه شيئا من ذلك... اما اذ جاء النص بلفظ اتخذوا فان العمد ظاهر فيه...قوله تعالي «و قال الرسول يا رب ان قومي» بنسبة القوم الي نفسه و هم مجرحون بجريرة اتخاذ القرآن مهجورا عن عمد لا عن سهو يفهم منه ان الانتماء القومي لا يبطل بسبب كفرأ و معصية و من هذا القبيل قوله تعالي «و الي عاد اخاهم هودا» و هود هو نبي معروف. و «عاد» قومه الذين بعث اليهم و هم كفار يومذاك لان الله لم يقطع الخيط الاخوي بينه و بين قومه.«و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا. و لا يأتونك بمثل الا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا» الفرقان/33-32... [ صفحه 53] من آيات المواجهة التي كان للكفار فيها بعض الحظ في الجدل و النقاش و المراجعة اذ قالوا انهم يرون أن ينزل القرآن مرة واحدة. فأوضح لهم الله الحكمة في هذا التنجيم و هو حقا النهج السديد في نزول التنزيل اذ استغرق امد نزوله ثلاثا و عشرين سنة تلقت الامة خلالها حقائق هذا الدين العظيم و استوعبت احكامه بتسلسل سليم و حفظته علي ادق وجه و اهدي سبيل...«ان كاد ليضلنا عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها و سوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا» الفرقان/42...موضوع العبادات لا سيما ما كان منها باطلا لا شأن للعقل في ابطاله أو تزكيته، و كفار مكة - والآية مكية - ورثوا الوثنية من آبائهم و من اسلافهم فصار ذلك عرقا في نفوسهم عميقا. و النبي صلي الله عليه و سلم انما كان يخاطبهم بالعقل و المواعظة الرشيدة و الدلائل البينة. فالامر ليس بالهين اليسير و ان كانت حجة النبي تغلبهم و تدحض حججهم. و كان اصرارهم علي كفرهم شديدا و صبرهم علي ضلالتهم صبرا لا صبر علي شي‌ء يفوقه و يزيد عليه الا أن تمكن النبي من هز متتقداتهم و اضعاف شأنها في أنفسهم قد بلغ مبلغا ملحوظا في ساحة الدعوة و ذلك باعترافهم اذ قالوا «ان كاد ليضلنا علي آلهتنا لولا أن صبرنا عليها...» و من هنا يفهم عظم الاقتدار النبوي في مواجهة قوم كان عرق الكفر في نفوسهم عميقا جد عميق...«و قالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه قل انما الآيات عند الله و انما نذير مبين» العنكبوت/50.«و اذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه أباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم الي عذاب السعير» لقمان/21.«و من اظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم اعرض عنها انا من المجرمين منتقمون»... السجدة/22 مثل هذا النص قد تكرر في آيات التنزيل علي مختلف وجوه التعبير و ذاك لأنه يمثل حقيقة ثابتة في اصول الدعوة الدينية تحمل المعرضين عنها مسؤولية ذلك...«و قال الذين كفروا هل ندلكم علي رجل ينبئكم اذا مزقتم كل ممزق انكم لفي خلق جديد. أفتري علي الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب و الضلال البعيد» سبأ 8/7.«و اذا تتلي عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا الا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم و قالوا ما هذا الا افك مفتري و قال الذين كفروا للحق لما جاءهم ان هذا الا سحر مبين. سبأ/43.الآية مكية و هي من آيات المواجهة الذريعة التي اطلق فيها كفار القوم ألسنتهم بالسوء، اذا وصفوا القرآن بالافك المفتري و وصفوه بالسحر المبين و ليس في مثل هذه الاقاويل من معني جدلي أو من نقاش منطقي و انما هو صوت العناد و التكذيب و الاصرار علي الكفر و مثل ذلك يعد من اضعف الحجج في مواجهة شرع و عقيدة ينزلها لها الله من السماء لهداية عباده علي يد رجل من اكرم الرجال و اعظمهم خلقا و حكمة و حلما، و اطولهم باعا بكل ساحة جدال منطقي سديد.«و ان يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك والي الله ترجع الأمور» فاطر/4.«و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدي من احدي الأمم فلما جاءهم نذير مازادهم الا نفورا» فاطر/43...الآية مكية و فيها ما ينوه بأن بعض اهل مكة كانوا علي مستوي من الادراك جعلهم يتمنون أن يبعث الله فيهم نبيا منهم علي نحو ما كان من بعثه رسلا الي اقوامهم و هو مما يقع لكثير من العقلاء ينظرون في واقع امرهم المتخلف اذ ان عبادة الاصنام كانت تجرح كبرياء فريق منهم ولكنهم بعد أن جاءهم الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم [ صفحه 54] ركبوا مركب العناد القديم و الجاهلية المتواريه و الاصرار علي الكفر...«و اذا رأوا آية يستسخرون، و قالوا ان هذا الا سحر مبين» الصافات 15/14.«انهم كانوا اذا قيل لهم لا اله الا الله يستكبرون. و يقولون أئنا لتاركوا الهتنا لشاعر مجنون. بل جاء بالحق و صدق المرسلين». الصافات 37/35.«و عجبوا أن جاءهم منذر منهم و قال الكافرون هذا ساحر كذاب. أجعل الالهة آلها واحدا ان هذا لشي‌ء عجاب. و انطلق الملأ منهم أن امشوا و اصبروا علي ألهتكم ان هذا لشي‌ء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة ان هذا الا اختلاق. أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل يذوقوا عذاب» ص 8/4...من بعض آيات المواجهة التي كان القوم يواجهون بها النبي في البيئة المكية و تبدو علي مواجهتهم هذه صرامة الخطاب و شراسة اللقاء و اللجوء الي مخرقات القول في تكذيب الحجج القرآنية تكذيبا لا يقوم علي دليل او برهان و انما هو القول الملقي علي عواهنه...و بديهي أن اللغط الذي لا طائل فيه لا يقف في وجه ما جاء به الرسول الاعظم من عقيدة رشيدة و حكم سديد و ملة كلها هدي و رشاد... اما عجب القوم ان يبعث الله لهم نبيا منهم فانه ادعي الي العجب اذ انهم يعلمون بان هناك امما و شعوبا بعث الله اليهم انبياء منهم كاليهود و غيرهم و ذاك امر مستفيض غاية الاستفاضة و اليهود كانوا يعايشون العرب في اليمن و الحجاز و المسيحيون كانوا يعايشونهم في ديار الشام و يعرفون من امرهم ما يعرفون في الحبشة التي كان ذهابهم اليها و قدومهم منها حالة معتادة مألوفة لذلك يعد عجبهم من ان يبعث الله لهم نبيا منهم عجبا مصدره العناد و كان العناد ابدا عاهة لا علاج لها.اما قولهم (أجل الالهة الها واحدا ان هذا لشي‌ء عجاب) فان العجاب ان تكون الالهة متعدده و ليس الها واحدا غير ان مصدر هذه المقوله ان العرب كانوا يتحدون لهم الهة تختص كل قبيله باله منها و من هنا بعدت الشقه بين هذه القبائل و صار امر تجميعها و تاليفها مسأله من الصعوبه بمكان و اذ جاء النبي صلي الله عليه و سلم بشريعه توحد الا له و تبطل سائر المعابيد التي ألهها العرب يومذاك... و لم يكن هينا علي عبده الاوتان هؤلاء ان يهجروا ما اتحدوه لا نفسهم من اوثان يعبدونها و اصنام يقربون لها القرابين و تنتمي اليها قبائلهم و يعدونها رمز وجودهم و تجمعاتهم و في توحيد الالهه في اله واحد ما يرونه قاضيا علي انسباهم و اتتماءاتهم القبائلية و تقردهم في بيئتهم بالتمكين و السلطة في حين ان النبي جاء يجعل من سائر قبائل العرب امه واحدة لا تمايز بين قبائلهم و عشائرهم و بطونهم و افخاذهم، و قد تحقق ذلك بما بدله الرسول الاعظم من صبر و جلد و تحمل و كبير اصرار علي نشر الدعوة في سائر اوساط الجزيرة.و كان حريا بالعرب أن يهللوا لمن جاءهم بدعوة التوحيد ليخرجوا من مجالات التفرق الي ساحات التجمع لينجوا من اطماع الروم و الفرس و لينجوا كذلك مما يدب بينهم من الشحناء و الشقاق و الغزو الداخلي الذي اضعف من قوتهم و شتت من طاقاتهم و آونة علي بكر اخينا اذا ما لم نجد الا أخانا فكانوا اقسي امة قست علي نفسها و تجنت علي شخصيتها فلنستمع اليهم و هم يقولون في رسولهم (و قال الكافرون هذا ساحر كذاب، اجعل الآلهة الها واحدا ان هذا لشي‌ء عجاب ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة ان هذا الا اختلاق).فأي سحر تري و اي كذب في دعوة النبي قومه الي الواحدة و نبذ الآلهة المتعددة.و حين انتهت جهود الرسول في هذا الميدان بالتوفيق بعد انتقاله للمدينة، و قد حقق الله له ما كان يصبو [ صفحه 55] اليه من توحيد الامة و القيادة ادركت العرب انها ضلت السبيل في مواجهة الرسول العظيم بأتهاماتها الجائرة لشخصيته العظيمة بالكذب و السحر و ما الي ذلك مما كان لا يليق ان يقع منهم تجاه هذا المحذر و الناصح و الناقد المجالد من اجل الحق جلادا لم يعلق به الفتور و لا التخاذل و لا اليأس...«و قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه و في آذاننا وقر و من بيننا و بينك حجاب فاعمل اننا عاملون» فصلت/5...المواجهة هنا ظاهرة الشراسة و هم يعلنون سلفا أنهم لن يسمعوا و لن يستوعبوا و لن يطيعوا و وصفوا اسماعهم بأن فيها و قرا و قلوبهم بأن عليها اغطية و مغاليق و أن بينهم و بينه عازلا و حاجزا يحول بينهم و بينه.و في النص شي‌ء من التحدي الذي لم يكن يفت في عضد النبي و لا يمسكه عن الصدع بالحق في اوساطهم المنغلقة علي العناد و العتو و العصيان... ان عظمة الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم لتتجلي في مثل هذه المواقف العدائية المكاشرة، اذ كان يعرف كيف يستحوذ علي عقولهم و قلوبهم و يسد عليهم منافذ حججهم ومزاعمهم حتي جاءه نصر الله. و في ذلك ما يوضح لنا عظمة هذه الشخصية التي لم تكن تتعرض للاستفزاز الذي كانوا يريدون تعريض النبي له عساه يلوذ بالصمت و لا يظل يلاحقهم و يناقشهم و يكبتهم...«و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغو فيه لعلكم تغلبون». فصلت/26.من آيات المواجهة التي جاء فيها التصريح ببعض اساليب القوم في اسكات الصوت النبوي الناطق بالقرآن في الناس. فانهم علي ما وضح في النص كانوا يلغطون و يلغون عند قراءة النبي القرآن كان التصارخ و الزعيق من اساليب مواجهاتهم للدعوة القرآنية فلقد كان جهلاؤهم يفعلون ذلك علي قلة و ليس علي كثرة لأن النص لم يرد بصيغة الاخبار عن ذلك بل ورد بصيغة الاشارة الي تنادي القوم الي ذلك... و كانت بلاغة الاسلوب القرآني تجرهم الي الاصغاء اليه و الاستماع له و التأثر به فهو القرآن الذي لو انزله الله علي جبل لخشع له و ذاك كناية عن عظم تأثيره في ذوي الحس و الادراك من البشر لا سيما متذوقي البلاغة من العرب.ان النص القرآني يسرد لنا بعض محاولات المشركين في مكة تجاه النبي ليصرفوه عن المضي في وجهته التي امره الله أن يجد فيها و يصبر عليها و يفهم من النص الكريم ان التلاوة القرآنية كانت تجد صداها في كثير من البيئات و ذاك لحسن تلاوتها فضلا عن سمو كلماتها و جلالة محتوياتها، و الظاهر انها كانت تلاوة منغمة متلوة بلحون العرب يومذاك... و المعاناة هنا واضحة فان النبي اذ كان يتلو القرآن علي القوم فكان فيهم من يضجج و يهرج فان ذلك ليترك في النفس هما و حزنا كبيرين اذ قد يكون رد الفعل موجبا التوقف قليلا و الاستمرار مثل ذلك والمعاناة في كلتا الحالتين معاناة قاسية و ثقيلة و انا لنستدل بذلك علي حسن حكمة النبي التي كانت تسنده في معالجة الموقف العدائي الذي كان يتكرر في اكثر من بيئة و وقت... و قوله تعالي «و قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون» يصرف الي ان متنفذين في القوم كانوا يدعون الناس الي اللجوء الي اللغو عند التلاوة... انها صورة من صور المواجهة المعادية للرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم في أول نأنأة الاسلام يوم كان الاعوان قليلين و معظمهم من المستضعفين... و دعوة الداعين الي اللغو عند تلاوة القرآن لم يصرح القرآن بالفاظ لغوهم التي كانوا يلغونها ولكنها حتما من لئيم القول و قاسي الكلام و سيئه يبتغون بذلك السيطرة علي جو التلاوة و اشاعة الرعب و التهويش مكان الطمأنينة و حسن الاصغاء... علي ان هذه الوسيلة المتشنجة لم تفد القوم في الوقوف تجاه تيار القرآن فلقد آل الامر الي انصرافهم الي اخذهم بهديه و تمسكهم بحبله و انصياعهم اليه... فلقد ظهر الحق و جاء امر الله... [ صفحه 56] «و قالوا لولا نزل هذا القرآن علي رجل من القريتين عظيم. أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا و رحمة ربك خير مما يجمعون» الزخرف 32/31...من متابعة آيات المواجهة نعلم ان النبي صلي الله عليه و سلم كان يتوقع من خصومة في العهد المكي خاصة ضروبا من الاعتراضات و المزاعم التي يرونها تمسك الجهة الداعية الي الله أن تصنع شئيا. و هنا نري القوم قد مالوا في جدلهم عن صميم الدعوة و عن صريح محتواها الذي كانوا انكروه جملة و تفصيلا الي مقترحات ترجح ان يكون النبي المرسل هو فلان و فلان و هم في ذلك مخفقون و خائبون لأن الرجل الذي اختاره الله كان ذا مكانة اجتماعية و سديد عقل و كبير حلم و سلطان في الناس و اداب عالية و نسب رفيع فما يكون لمن اقترحوه بحمل رسالة السماء أن يبلغ مبلغ رسول الله محمد صلي الله عليه و سلم...و في النص القرآني في الرد علي مقولة هؤلاء القوم ما يكبتهم و يفحمهم بأن الله آتاهم من الفضل ما ليس بزائدهم فيه من شي‌ء، و وبخهم النص توبيخا لاذعا و زجرهم أن يتدخلوا في اقدار الله في عباده... «أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا...»...«أني لهم الذكري و قد جاءهم رسول مبين. ثم تولوا عنه و قالوا معلم مجنون». الدخان 14/13.«و اذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين. أم يقولون افتراه قل ان افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفي به شهيدا بيني و بينكم و هو الغفور الرحيم. قل ما كنت بدعا من الرسل و ما ادري ما يفعل بي و لا بكم ان أتبع الا ما يوحي الي و ما أنا الا نذير مبين» الاحقاف 9/7.«بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شي‌ء عجيب. أئذا متنا و كنا ترابا ذلك رجع بعيد» ق 3/2...من بعض آيات المواجهة التي لجأوا فيها الي شي‌ء من الجدل العقلي اذ عجبوا أن يكون هناك حشر و نشر يعودن به الي الحياة... ان الجدل القرآني دائما يعلو بحجته علي كل جدل آخر، و في تضاعيف القرآن ما نوقشت به هذه الامور. و لا يري في شي‌ء مما يحتج به الكفار اذا لجأوا الي الجدل المنطقي ما فيه احراج للرسل او افحام للانبياء و النذر و انما تكون المواجهات مزعجة و مسئمة اذا لم يكن في محتواها سوي الانكار و التكذيب...«بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في امر مريج». ق/5«فذكر ما أنت بنعمة ربك بكاهن و لا مجنون. ام يقولون شاعر نتربص به ريب المنون. قل تربصوا فاني معكم من المتربصين». الطور 31/29«و ان يكاذ الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر و يقولون انه لمجنون» القلم/51.ليس في الآية ما يصح ان يفسر بالاصابة بالعين او ما يسمي بالعائنية و انما كان القوم اذا سمعوا الذكر الذي فيه من بليغ الكلام و جزله و رقيقه مما يحقر معابيدهم و ينفذ شركهم و ذاك من مثيرات الحقد في نفوسهم و الغيظ في قلوبهم بحيث يتمنون البطش بالرسول صلي الله عليه و سلم فلا يقدرون، فادعاء الجنون للرسول كسائر ادعاءات خصومه لا يقوم عليه من الادلة ما يحصيه في عداد الواقع و انما هو كلام يراد به التنفير و هي قالة اكثروا من اذاعتها في الناس سابقا مثل قالة الشعر و الكهانة، و اما الازلاق بالابصار اثر سماعهم الذكر فانه تعبير عن الهم بأيذاء الرسول و اخافته. و ورود النص بلفظ (و ان يكاد) ابعد هذا الامر عنه صلي الله عليه و سلم فلم يكن يؤثر فيه ادني تأثير [ صفحه 57] و التعبير جاء بالاخبار عن محاولات جماعية يغلب علي الظن انها اريد بها ذلك، و المعروف في التجمعات ان تكون علي احدي حالتين ان يأتي القوم او ان يؤتوا و الثابت ان الرسول كان هو الذي يقبل عليهم في مجالسهم فكان ذلك يؤجج سعار غيظهم فكانوا ينظرون اليه شزرا محرقين الأرم في رؤيته.«فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين و عن الشمال عزين»... المعارج 37/36.من آيات المواجهة مما نزل في العهد المكي اذ كانت للكفر اكثر من صولة... اذ صور لنا النص القرآني جماعة الكافرين و قد التموا علي الرسول صلي الله عليه و سلم من سائر الجهات محدقين به و قد ظهروا بمظهر المستخف المستهزي‌ء المكابر، و يبدو من تمام النص انهم كانوا من بعض ذوي الشأن في البيئة اذ جاء فيه «فلا أقسم برب المشارق و المغارب انا لقادرون. علي أن نبدل خيرا منهم و ما نحن بمسبوقين» فانه بدأه الله بقسم عظيم و ذاك مما يشعر بأهمية الموضوع و قوة فحواه و محتواه ثم قال: «علي أن نبدل خيرا منهم» فلو كانوا من وضعاء القوم و رعاعهم لما قال فيهم ذلك...و قوله تعالي: «و ما نحن بمسوبقين» أي نجدت من يملك أن يسبقنا الي ما يريد دون ما نريد و قوله تعالي في صفتهم «عزين» اي متحلقين حلقات امعانا في التكتل و اخافة للنبي في وضعهم ذاك...و قوله تعالي أول النص: «فما للذين كفروا قبلك» يعني الاستفهام التهكمي الذي يحمل الاستغراب من وضع كان عليه القوم غير آبهين...والصورة التي صورها النص تبدو فيها العدوانية الشرسة القاهرة في الشكل و الموضوع. لدي تلك اللمة الجاحدة للدين الذي جاء به سيد المرسلين أما قوله تعالي: «أيطمع كل امري‌ء منهم أن يدخل جنة نعيم» يفهم منه أنهم كانوا يرون الجنة مرهونة بمعتقداتهم الباطلة فما يجدون في الاسلام اذا اعتنقوه مما يقدم او يؤخر...في هذا النص انموذج من المواجهات العدوانية التي كان النبي يلقاها من قومه ابان العهد المكي فكان عليها ذا صبر عظيم و تحمل ملحوظ كبير مما يتبين منه عظم حلمه صلي الله عليه و سلم و حسن دفعه الخصوم ناقل ضجة او توسيع لمجال الخصام و كان ما ينزل من القرآن لساعته امارة تدارك الباري العظيم لرسوله من اشتداد الهم في صدره و تكاثف الضجر في نفسه و تمكين التفاؤل بالنصر و الغلبة له...ان العربي يستعظم الهجو و يؤذيه أن توجه اليه القالة القاسية و ماداموا هم يلجأون الي ذلك في نعت النبي فقد كان جزاؤهم من جنس عملهم اذ اطلقها الله في من اشتد شره و عظم عدوانه فقال فيه «هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم ان كان ذا مال و بنين، اذا تتلي عليه آياتنا قال اساطير الاولين» القلم 15/11.و هذه الالفاظ علي ظاهر ما فيها من قسوة ليست ثالبة عرضا و لا جارحة كرامة و لا موجهة الي أحد ممن قيلت فيهم تهمة من شنيع التهم و انما هي الفاظ قصد بها الاستخفاف و الازدراء و التهكم ليشعروا بأثر ذلك في نفوسهم فلا يعمدوا الي مواجهة خصومهم بشي‌ء من مثل ذلك...

آيات المعاناة...

ما من نبي في الاولين الا كان قد عاني العناء الثقيل من سائر فئات قومه خلال دعوته اياهم الي الهدي و طاعة الله و اصلاح ما فسد من امرهم ولكن الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم عاني من قومه الكثر من الآلام و المتاعب و الهموم مما يعد اكبر حجما من معاناة من سبق من الانبياء و المرسلين. لا سيما اذا علمنا ان النبي واجه قومه في اكثر من بيئة منها مكة [ صفحه 58] و منها المدينة و لكل بيئة طراز و نمط لا يشبهه الاخر و لا سيما اذا تذكرنا أن مهام النبي كانت كثيرة و شتي و لا سيما اذا علمنا ان الامة العربية كانت محاطة بدول كبري لها تأثيرها في الزمان و المكان. و الخلاصة أن معاناة النبي كانت معاناة لا نموذج لها في الاحتمال و طول الصبر في معاناة الرسل و القادة و غيرهم ممن تولوا امر اصلاح الامم و تصحيح مسار الشعوب...و في آيات المعاناة سنري بوضوح تام عظمة شخصيته اللهم صلي الله عليه و سلم في شق سائر التيارات العقائدية و النزعات السياسية و الاتجاهات الاجتماعية حتي حقق معجزة النصر العظمي علي الوجه الذي اعانه الله عليه.و المراد بالمعاناة جدية النبي في مخاطبة القوم علي اخلاف مشاربهم و قوة تمسكه صلي الله عليه و سلم بلعقيدة التي جاء بها قومه يضاف الي ذلك شدة عناد المشركين الذين كان رأس مالهم العناد و الشراسة... و انه لمن البديهي أن يلقي الانبياء و الرسل الاعظم احدهم من اقوامهم الرفض والانكار و التحدي و اللا تعقل من التصرف و ذلك من بعض روافد المعاناة التي تنصب علي رسل الله... و كان الانبياء قديما يعززون بأنبياء و رسل لتهوين الخطب عليهم و تخفيف عب‌ء المعاناة عنهم «... ارسلنا اليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث» يس/14...و اذا علمنا أن الانبياء كانوا يرسلون كل الي قومه دون غيره ثم وجدنا ان محمدا صلي الله عليه و سلم كان قد ارسل الي كافة البشر. ظهر لنا حجم معاناته هذه بحيث يعظم الفرق بين معاناته و معاناتهم... و في القرآن الكريم اشارة الي اكثر من ذلك مما سنتكلم عليه...«و اذا قيل لهم تعالوا الي ما انزل الله و الي الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا، فكيف اذا اصابتهم مصيبة بما قدمت ايديهم ثم جاؤك يحلفون بالله ان اردنا الا احسانا و توفيقا، اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم و قل لهم في انفسهم قولا بليغا». النساء 63/61.في هذه الآيات ايماء الي جانب من معاناة الرسول صلي الله عليه و سلم في مهجرة بالمدينة فانه وجد فيها عدل ما كان قد وجد من اهل مكة قبل الهجرة.و في النص القرآني اشارة الي ان عقوبات الهية عاجلة كانت تعرض لبعض خصوم النبي فكانوا يدركون انها من بعض نقم الله عليهم جراء اساءتهم لرسوله العظيم. لذلك كانوا يقبلون عليه صلي الله عليه و سلم معتذرين من موقفهم السي‌ء الذي يروحون يفسرونه بما يظنون فيه تصحيح عملهم ذاك «ثم جاؤك يحلفون بالله ان اردنا الا احسانا و توفيقا) و قد وصي الله نبيه ان لا يأبه لما وقع منهم و ان يعرض عن ذلك اي لا يجعل منه محل نقمة عليهم، اذ ان قوله تعالي (فأعرض عنهم) لا يعني الزجر و الانصراف و انما يعني التسامح، و مثل ذلك قوله تعالي (يوسف اعرض عن هذا) اي لا تشغل بالك به و لا تحمل من اجله هما...ثم اوصي الله نبيه ان يعظ القوم بقوله تعالي (وعظهم و قل لهم في انفسهم قولا بليغا) و في هذا النص دلالة علي ان النبي صلي الله عليه و سلم كان قوي الحجة متين الاسلوب يحسن النقاش و يقنع الجهة التي يخاطبها و يأخذ بتقريعها وردها الي الصواب... و في هذا النص كذلك اشارة الي انه صلي الله عليه و سلم كان محل ثقة الله باقتدار نبيه علي تنفيذ اوامره و نواهيه...«و ان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله و ان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قد كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا». النساء/78...المعاناة هنا واضحة في أن القوم اذا تعرضوا لخسارة في مال و غيره مما يكرهون نسبوا ذلك الي رسول الله و كون الامر من المعاناة يرجع الي ان الله [ صفحه 59] وصفهم بأنهم لا يكادون يفقهون حديثا علي هذا فانه لا ينض من مثلهم الا ما يؤذي و يزعج و يجر الي المعاناة.و لم يكونوا يخجلهم ان يتشاءموا من النبي علي دأب تشاؤم الامم القديمة من رسلها... و من ذلك ما كان من قوم صالح من تطيرهم منه و تشاؤمهم «قالوا اطيرنا بك و بمن معك قال طائركم عن الله بل أنتم قوم تفتنون» النمل/47 و كذلك قال قوم لرسلهم «قالوا انا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم و ليمسنكم منا عذاب أليم. قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أتتم قوم مسرفون» يس 19/18... و في تطير القوم من موسي عليه‌السلام جاء قوله تعالي «فاذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و ان تصبهم سيئة يطيروا بموسي و من معه ألا انما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون» الاعراف/131...و آية المعاناة في النص القرآني كانت قاسية علي نفس النبي صلي الله عليه و سلم و هي لا تختلف عن موقف الاولين من انبيائهم...«و يقولون طاعة فاذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم و توكل علي الله و كفي بالله وكيلا» النساء/81.يشير النص الي ما كان يقع من القوم من خلاف متعمد و في مثل ذلك تطرأ المعاناة و يثقل الهم و يضيق الصدر، و قد وصي الله النبي بالتحمل و الصبر و هو تحمل لمكابرة، و تصبر علي مخاشنة. و مثل ذلك علي النفوس الخيرة الكريمة اثقل من الجبال مع كثرة المشاغل و تداعي المشاكل فلله هذه الشخصية العظيمة و لله صبرها النادر المثيل في صبر الصابرين علي احقاب الدهر و السنين...«و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي و نصله جهنم و ساءت مصيرا» النساء/115.مشاقة القوم نبيهم بعد ما تبين لهم الهدي و ظهر الحق تعد من أجلب جوالب المعاناة علي النبي اذ ليست هناك نفس بشرية تهدأ عند بلوغ العناد و اللجاجة في الكفر و المشاقة مثل هذا المبلغ الموغل في الزيغ و الاصرار علي البغي الذي لا يشفع فيه منطق و لا يقره من هو ذو مزعة من عقل و رشاد و سلامة تصرف... و قوله تعالي «و من يشاقق الرسول» أريد به مجرد المشاقة الموجهة الي الرسول... ابتغاء االمشاقة لا غير... فالنبي في مواجهة عناء كهذا العناء كان يتأذي كل الأذي و يحمل من الكرب الحمل العظيم...علي أن الله عزوجل كان يعلن انكاره لمشاقتهم و ينزل بهم ما يتسأهلون لقاء ذلك من عقاب و تنكيل و جزاء وفاق... ولكن الذي يكون قد حصل و وقع في ساحة الدعوة انما هو ثقل وطأة المعاناة علي نفسه و انحصار صدره صلي الله عليه و سلم.و النص مدني و قد كان قوم يظنون ان بيئة المدينة كانت تمثل الربيع في السقف الزمني للسيرة النبوية الشاقة...«و ان يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم و الله عليم حكيم» الانفال/71.في هذه الآية تخفيف للهم الذي يعرض للنبي عندما يجد القوم قد أرادوا خيانته و مالوا الي شقاقه و ذاك ان الله تعالي اخبره بان القوم ألفوا هذا النمط من المكر و التعامل غير الكريم اذ خانوا الله من قبل و حين يري النبي انهم خانوا من هو اكبر منه و اعظم شأنا و اقتدارا فسيجد تصرفهم الخياني منه شيئا غير جدير بثقيل الهم و كما ان الله عزوجل عاقبهم علي خيانتهم ربهم بان امكن منهم و سلط عليهم و انتزع سلطانهم فانه فاعل ذلك بهم اذا خانوا النبي. و ما جاء في ختام الآية من قوله تعالي «و الله عليم حكيم» يوضح ان الخيانة التي يدبر لها اعداء النبي مهما احكموا تدبيرها و اغلقوا مغاليقها و غلفوها بالحذر و الكتمان الشديد فان الله يعلمها و اذا كان يعلمها فان سيبلغ نبيه [ صفحه 60] بكل ما يكون فيها و قوله تعالي ايضا في صفة نفسه بانه حكيم اي انه عندما يعلم من خيانة القوم ما يعلم فانه يعقب ذلك بما يفسد علي الماكرين مكرهم بحكمته و حسن تدبيره و الا فالعلم بخيانة الخائنين لا يتأتي منه احباط تلك الخيانة و اماطة اذاها عن طريق من يراد خيانتهم...ان النبي و هو يواجه امة ذات ديانات و معابيد باطلة و نزعات جاهلية و ميراث حياة مضطربة و هو يواجه كذلك اقواما ركبهم الغرور و علتهم الغطرسة و ظنوا انهم قادرون علي ان يرقوا اسباب السماء بسلم فان علي هذا النبي ان يعرف كيف يتعامل في مثل هذه الاجواء مع خصومه خاصة و هكذا كان تدريب الله نبيه و تعليمه و الاخذ باضباعه في مجالات التكليف الشاق في حملة روحانية عالية المستوي يراد بها تطهير القلوب و تربية الضمائر و اخراج الناس من الظلمات الي النور...«يا ايها الذين آمنوا ما لكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الي الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة الا قليل» التوبة/38.حين ينزل القرآن بايجاب الخروج الي الجهاد. يخرج قوم و لا يخرج آخرون و حين يكون الخطاب موجها الي الذين آمنوا بذات اللفظ فلا يخرجون فان ذلك لأمر يشق علي رسول الله فيعاني منه العناء الثقيل، اذ انه صلي الله عليه و سلم يعنيه أن تقبل الامة علي طاعة ربها و نبيها و أن تبادر الي الذياد عن عقيدتها و شريعتها و المكان الذي يلم شملها فهو صلي الله عليه و سلم يعظم كربه و يثقل همه حين يصل الامر بفريق من الذين آمنوا الي ما يشبه العصيان. و لا معاناة أشق من مثل هذه المعاناة و لا غم اشد من مثل هذا الغم...ان الشواهد من كتاب الله علي مواقع المعاناة الكثيرة التي كان النبي يعانيها و لا سيما في البيئة المدنية كثيرة جدا و ما منها من حالة الا هي أشد من اختها و هكذا كان الرسول الاعظم يشق طريقه الي النصر في سائر نيارات الخطوب و الهموم الثقال. فصلي الله عليك و سلم ايها النبي العظيم لقد كنت حقا جديرا بنصر الله و تاييده لقاء كبير صبرك و طويل احتمالك و وثيق رجائك في عون ربك صلي الله عليك و سلم يا رسول الله...«لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة و سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون انفسهم و الله يعلم انهم لكاذبون» التوبة/42...من آيات المعاناة التي توضح ان فئة من المنافقين كان تحججهم عن المشاركه في اعمال الجهاد و هم يحلفون بالله مكثرين الايمان به علي أنهم لو كانوا يستطيعون الخروج للجهاد لخرجوا مع النبي و المؤمنين...و قد أشار القرآن الي ان الخروج لو كان لسفر فيه منافع لهم لاتبعوك و لما تقاعسوا عن الخروج معكم ولكنه خروج الي الجهاد و ما كان الايمان قد بلغ من نفوسهم مبلغ استقرار و تشبع و عقيدة متيقنة... ما من شك ان النبي صلي الله عليه و سلم كان يجد مثل هذه المواقف شديدة القسوة علي نفسه فهو منها في معاناة ثقيلة غير خفيفة و هو في مركز قيادة و امامة و مهمة منوطة به من ربه الذي اختاره لحمل رسالة السماء العظيمة الي بني البشر اجميعين...فلله هذه النفس الكبيرة في صبرها ومعاناتها و جهادها و تحملها. و لله هي. و لله كل لحظة من لحظات وجودها في هذه الساحة العريضة التي قل فيها العون الا من فئة المؤمنين الصادقين...«عفا الله عنك لم أذنت لهم حتي يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين» التوبة/43.في مسألة الاستئذان و هو وسيلة الي التملص من مهمة الجهاد في سبيل الله اجل في موضوع الاستئذان تتعقد عقد كثيرة و تتعرض الامة لتيارات انهزامية عنيفة [ صفحه 61] و الرسل لا يعلم الغيب و لا يدري ما في صدور الناس فاذا جاءه من يستأذنه للقعود في بيته بشتي المعاذير و النبي أحوج ما يكون الي النفر الواحد في المواجهات المسلحة فانه كان يعاني خلال ذلك من هم الأذن لأحد بالقعود عن الجهاد و يبدو أن حجج المعذرين كانت شبهة مقنعة و حاجة الساحة الحربية الي المقاتلين حاجة جد ماسة. و من هنا يثقل عب‌ء المعاناة و هي حالة كنيرة العروض و التكرار و علي ضوئها يكون تقرير المصير...و قد جعل الله لهذا الامر قاعدة هي غاية في الصفحة و ذاك أن الذين يستأذنون للتملص من الانخراط في المعركة انما هم مشكوك في ايمانهم «لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله و اليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم و انفسهم والله عليم بالمتقين. انما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله و اليوم و الآخر و ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون»التوبة 45/44... و ذاك أن الامة تلقت عن نبيها من اركان الدين ما جعلها ترجح الشهادة علي الحياة و تتشوق الي الجنة تشوقا يجعلها تفر من الدنيا كل فرار فكانت تلبي داعية الجهاد لا تتخلف عنه لأي سبب كان... و كانت تعتقد أن الفرار من الزحف من الكبائر التي تغتفر... و لم يكن ضعفاء الايمان علي هذا المستوي من التشبع من العقيدة و علي ذلك لم يكن المؤمنون الصادقون ليراجعوا الرسول في طلب الاذن منه بعدم الخروج و انما كان يكثر طلب الاذن لدي من كانوا مهزوزي الايمان لا يرضون أن يسفك من دمهم شي‌ء من اجل قيم الدين و حرماته.أن مثل هذه المسائل لتنهض فيها المعاناة النبوية علي اكثر من ساق و قدم و في بقية النص القرآني من ذات السورة توضيح اكثر لدواعي المعاناة «لو خرجوا فيكم مازادوكم الا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة و فيكم سماعون لهم و الله عليم بالظالمين» التوبة/47...«و يحلفون بالله انهم لمنكم و ما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون. لو يجدون ملجا او مغارات او مدخلا لولوا اليه و هم يجمحون. و منهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا و ان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون. و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله انا الي الله راغبون»... التوبة 59/56...في بيئة مثل هذه البيئة و علي ذات الوصف الذي وصفه الله به تتعب القيادة و ينهك الاخذ بهدب السلطة و تعظم المعاناة و لا يتهيأ لولي الامر اتخاذ القرار ولكن رسول الله صلي الله عليه و سلم علي رغم ما كان متعكرا من اجواء المدينة ابان ذلك كان اقوي من الجميع...«و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة للذين آمنوا منكم و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»... التوبة/61...في النص اشارة الي نمط من التحرشات الاستفزازية التي كان فريق من القوم يغمزون بها النبي علي جهة الاشغال و اقلال البال و قد دافع الله عن نبيه بما اسكت به صوت صلالتهم... انا لو لا حظنا الوضع القيادي في المدينة و ما يواجهه من امور و ما يتعرض له من شدائد فان كل تحرك صغر او كبر من الخصوم يتأتي منه ارباك جهة القيادة و الهاؤها عما هي في صدده من مهام الامور و دقائق الاعمال و من هنا عددنا هذه المقالة من بعض مسائل المعاناة في اليوميات النبوية.«و لئن سألتهم ليقولن انما كنا نخوض و نلعب قل أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزؤن» التوبة/65.يجاهر خصوم الرسول بنهجهم الطائش غير حذرين من شي‌ء و حين يبلغ الامر بخصوم دين او معارضي فيادة قائد هذا المبلغ من الاستهتار و الاستخفاف فان معاناة الجهة التي تعمل علي الاصلاح و التوجيه الرشيد تكون معاناة شديدة و ثقيلة و صعبة الاحتمال... [ صفحه 62] «و منهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا و هم معرضون» التوبة 76/75...النكول عن مثل هذا العهد ممن عاهد الله عليه طواعية و من تلقاء نفسه انما هو امر جدير ان يكون محل المعاناة لدي كل قيادة تقود الامة و المجتمع الي أمر ديني او اجتماعي او سياسي، لأن العهود المنكول عن تنفيذها تنزع من الجد جديته و تفقد الحق واقعه و قدسيته و لا يكون هناك ملاك يعتد به و لا مساك يصار اليه و من هنا اكثرت النصوص الدينية من الحث علي احترام العقود و الاستمساك بالعهود و شددت النكير علي من يخرج علي ذلك...علي ان النكول في مثل هذه الاحوال يكون نكولا نبرأ منه المروءة و تنكره القيم الحميدة فان علي المملق اذا آتاه الله من فضله أن يحسن مكافأة هذا الفضل فان بخل و أخذ الشح منه مأخذه. فانه لبئس الناس في نكران نعمة الله عليه...لقد كانت بيئة المدينة يكثر فيها ذوو الحوائج الذين ينتقعون من عون المتصدقين فاذا انعدم هذا العون وشح اهل الصدقات فان الضرر سيكون جسيما علي امثال هذه البيئات و لا يعود بخل اصحاب الاموال مسألة شخصية تنسب اليهم وحدهم بل يعد بخلهم هذا خطرا يعم و لا يخص...«الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات و الذين لا يجدون الا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم و لهم عذاب أليم»... التوبة/79.وجود فئة في هذه الصفة في البيئة المدنية تتدثر بدثار اللؤم و تثبط المحسنين عن احسانهم الي الناس لتعد من أشد اسباب المعاناة التي يشغل بها الرسول صلي الله عليه و سلم، و ذاك لما في هذا المنحي الشائن من احباط مساعي الخير و اسماك افراد الامة ان يتعاونوا فيما بينهم علي معالجة كل ضائقة تصيبهم...«فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الهل و كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون»... التوبة/81.مثل هذه المواقف العدائية البحتة مما كان يملا قلب النبي صلي الله عليه و سلم هما يطيل من معاناته و ان كان يحمله علي أن يعمل فكره للوقوف في مواجهة ظواهر عنيفة مثل هذه الظواهر التي تقع علانية في البيئة التي اتخذها النبي مستقر الدين و مناخ المسلمين الذين صار عددهم هناك كثيرا و بات الرجاء في ظهورهم علي مسرح الحياة رجاءا قويا. حقا لقد كان جو المدينة بمثل هذه الضوضائية جوا ملبدا بغيوم المعاناة، و حين ننظر الي النتائج نراها رغم ذلك قد ظهرت لصالح الاسلام و المسلمين و خسر هنالك المبطلون...لقد كانت راية النصر عالية بيد النبي صلي الله عليه و سلم و وجدنا قراره هو النافذ و كلمته هي العليا و وجدناه صلي الله عليه و سلم يملي ارادته علي الجميع «فان رجعك الله الي طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي ابدا و لن تقاتلوا معي عدوا انكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخائفين. و لا تصل علي احد منهم مات أبدا و لا تقم علي قبره انهم كفروا بالله و رسوله و ماتوا و هم فاسقون. و لا تعجبك اموالهم و اولادهم انما يريد الله أن يعذبهم بها في الدينا و تزهق انفسهم و هم كافرون» التوبة 85/83...«و اذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله و جاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم و قالوا ذرنا نكن مع القاعدين» التوبة/86.من وقائع المعاناة الثقيلة علي نفسه صلي الله عليه و سلم ان يعمد اولو الطول و القوة الي الاستئذان من النبي بعدم المشاركة في القتال و واجبات الدفاع عن المؤمنين و انه لأمر جدير أن تضيق به الصدور و تعصر القلوب في حين كان المفروض و المتوقع أن تكون المبادرة [ صفحه 63] قد بدرت من ذوي الاقتدار المالي و الجسدي و المركز الاجتماعي لتبني الامة الرجاء علي النصر بالاعتماد عليهم...و المفروض عند نزول السور القرآنية أن تنشط عزائم الذين يحيطون بالنبي الي الاستجابة لجميع اسباب الطاعة غير أن أولي الطول هؤلاء كانوا يجاهرون بالاستئذان للتملص من واجبات الجهاد في سبيل الله و الرسول بحجج يختلقونها و معاذير يفتعلونها و كيف لا تكون المعاناة قاسية علي نفسه صلي الله عليه و سلم و الزمن زمن دفاع عن الارواح و الاموال و الاعراض و العقيدة... و قد وبخ الله هؤلاء المعذرين المنافقين بقوله: «رضوا بأن يكونوا مع الخوالف [17] و طبع علي قلوبهم فهم لا يفقهون» التوبة/87...و كيف لا يشق الخطب علي تلك النفس النبوية الكريمة و في الوسط الاسلامي من يجاهرون بالموقف المتخاذل و يواجهون الرسول علانية بالتنصل من كل مسؤولية و تباعة موجهة اليهم علانية...ان شخصية الرسول الاعظم لتتألق تألقا في سماء العظمة و قد بات محسوبا عليه أناس هم علي هذه الشاكلة... اجل كانت معاناة النبي اليومية علي اشدها في مثل هذه المواقف و الاحوال...«و جاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم و قعد الذين كذبوا الله و رسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم»... التوبة/90.قدوم الاعراب كان لغرض الاستئذان. و كان ذلك يكثر منهم و قد وسمهم الله بأنهم أشد كفرا و نفاقا و أجدر أن لا يعلموا حدود ما انزل الله و وصف الله القاعدين عن الجهاد بأنهم كذبوا الله و رسوله و أنهم سيصيبهم من الله عذاب أليم...«ليس علي الضعفاء و لا علي المرضي و لا علي الذين لا يجدون ما ينفقون حرج اذا نصحوا لله و رسوله ما علي المحسنين من سبيل الله غفور رحيم. و لا علي الذين اذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما احملكم عليه تولوا و اعينهم تفيض من الدمع حزنا أن يجدوا ما ينفقون»... التوبة 92/91...معاناة الهم كانت علي اشدها حين يتقدم متطوعون يبدون استعدادهم للجهاد في سبيل الله ورد الاعداء عن دين الله و ذاك حين لا يكون ثمة ما يعين علي تجهيزهم بمؤنة القتال من سلاح و كراع. فكان المتطوعون يرجعون يبكون اذ انهم كانوا حقا من الراغبين في الجهاد بمعية رسول الله...«و من الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما و يتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء و الله سميع عليم» التوبة/98...المعاناة هنا كائنة بقضها و قضيضها و هي ذات جانب خفي يزداد به هم المعاني هما اذ وصفهم الله بأنهم يتربصون للمؤمنين بالدوائر و يعملون علي جلب الضرر اليهم من كل جانب...«و ممن حولكم من الاعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا علي النفاق تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون الي عذاب عظيم». التوبة/101.المعاناة في تعرض لعدوان قوم مجهولين انما هي من اقسي انماط المعاناة اذ ان الحذر حين لا يجد لعدوه مكانا ينطلق منه او يأوي اليه او أن ينتمي الي من فيه. فان الهم في امثاله هم عظيم...«و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا و كفرا و تفريقا بين المؤمنين و ارصادا لمن حارب الله و رسوله من قبل و ليحلفن ان أردنا الا الحسني والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه ابدا لمسجد أسس علي التقوي من أول يوم أحق أن تقوم فيه رجال يحبون أن يتطهروا و الله يحب المطهرين. أفمن أسس بنيانه علي تقوي من الله و رضوان خير ام من أسس بنيانه [ صفحه 64] علي شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم و الله لا يهدي القوم الظالمين»... التوبة 109/107...كان قيام أناس من سكنة المدينة ببناء مسجد جامع يبعد عن المسجد النبوي بعض الشي‌ء قد اثار همسا شديدا في نفسه صلي الله عليه و سلم لانه رمز تفريق بين المؤمنين و تعدد جماعتهم و افساد نظام وحدتهم و لذلك امر الله بهدم هذا المسجد و ازالته من علي الارض لانه مسجد لم يؤسس علي تقوي. ان المعاناة التي عاناها النبي و المسلمون ابان بناء مسجد الضرار كانت معاناة من اقسي انواع المعاناة و ذاك لان هذا المسجد سينطلق باسم مسجديته الي افساد الدين و تفريق جماعة المسلمين، و قد ظن الذين صنعوه أنهم يمتلكون به التستر علي دخائل انفسهم و سوء نياتهم الا أن مسجدهم هدم و عاد جمع المؤمنين يأتم برسول الله في مسجده الذي هو احد المساجد التي تشد اليها الرحال.«لقد تاب الله علي النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رؤوف رحيم»... التوبة / 117.في النص القرآني كلام علي ظروف قاسية مرت بالامة أقلقت بالها و حيرت جمعها فان غزوة تبوك كانت من اشق الغزوات علي الامة و ان لم تكن قد حدثت فيها احداث قتال لانها كانت مجرد استعراض علي الحدود...و قوله تعالي: «من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم». انما جاء تعبيرا عن شدة الخطب و عظم الهم و فرط المعاناة و كلمة التوبة هنا للتطمين و اشعار النفوس بالطمأنينة من وقوع لوم و معاتبة و تعرض لعقاب...«ما كان لاهل المدينة و من حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بانهم لا يصيبهم ظمأ و لا نصب و لا مخمصة في سبيل الله و لا يطأون موطئا يغيظ الكفار و لا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح ان الله لا يضيع أجر المحسنين. و لا ينفقون نفقة صغيرة و لا كبيرة و لا يقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم الله احسن ما كانوا يعملون»... التوبة 121/120.في النص تحذير لأهل المدينة ان يقفوا من رسول الله موقفا غير محمود من نحو التقصير و عدم الالتزام التام بالطاعة و ذاك لأن الله كان يكافئهم علي كل تحرك يتحركونه لمصلحة الاسلام و الدين و هذا ما يجعل مسؤوليتهم كبيرة حين تقع منهم هفوة صغرت او كبرت...«و اذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم الي بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون» التوبة/127...عند نزول السور القرآنية التي كان الرسول صلي الله عليه و سلم يتلوها علي القوم كان هناك اكثر من موق عند ذلك فالخصوم كانت تظهر عليهم علامات الانكار و ان صورة المعاناة التي كان الرسول يعانيها ظاهرة في مثل هذا الموقف و ما اليه مما هو قاطع في الحكم علي فئة المنافقين هؤلاء...ان المعاناة و هي احتمال الهم الثقيل كانت تتكرر بغير حساب و كانت شديدة علي رسول الله تجلب اليه الحيرة و تجعله يطيل التفكير و تقليب الامور علي اكثر من وجه. فالمعارك تتطلب الجند، و الجند يلوذون بالاعتذار و الاعداء يصرون علي الغاء وجود الاسلام في المدينة و علي ابادة المسلمين و ازالتهم، و علي تضييق الخناق علي المؤمنين بحيث كانت المعاناة التي يعانيها الرسول الاعظم في العهد المدني اوسع دائرة و اعرض مجالا مما كان عليه الامر في العهد المكي...و قوله تعالي: «و جاء المعذرون» و قد اطلق عليهم هذه الصفة لغلبة ذلك عليهم فباتوا و كأن أيا منهم لا يصل الي المدينة لامر غير الاذن بالقعود عن الجهاد و مقاتلة الاعداء الغزاة. [ صفحه 65] «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فان تولوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم» التوبة 129/128.النص ظاهر في عظم فضل الرسول علي القوم اذ وصفه الله بالرأفة و الرحمة و فرط الحرص علي رشاد القوم و صدق تعاملهم و انه كان من أنفسهم و ليس غريبا عنهم و انه كان يتأذي بأدني شي‌ء يقع من تفريطهم في الطاعة و العبادة... و تبدأ المعاناة من عاقبة امرهم حين يتولون عن ذلك كله لذا وصاه الله ان يلوذ به قائلا «حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم»...و في هذا النص شهادة ناصعة لرسول الله توضح انه صلي الله عليه و سلم كان يشق عليه ما يري من صدود امته عنه و عن تعاليم دينه التي تدعو الي استنقاذهم من الضلال، و الصعود بهم الي معارج الهداية و الايمان و قد وصفه الله بانه رؤوف بالمؤمنين و انه رحيم بهم و انه عظيم الحرص عليهم و هذا يعني فرط انصراف النبي نفسيا الي قومه يحمل همومهم و يتمني هدايتهم و يصبر علي اذاهم و يدعو لهم الله بالتبصرة مكان الغفلة و بالايمان بدل الكفر و بطاعة الله بدل عصيانه و بترك المراء و الجدل و اللجاجة لحكم العقل و النظر السديد.و اخيرا حقق الله مراد نبيه و تمنياته لقومه و امته، من سعادة و صلاح حال و وحدة و رشاد و استقامة و هدي راسخ في النفوس لا يضل بعده من خرج الي الهدي من ضلال...اما قوله تعالي (لقد جاءكم رسول من انفسكم) فانه عرق الموضوع و سنخه الذي قام عليه أمر هذه الآية و هو استعمال (قد) التحقيق و (لام) التوكيد و التنويه بان الرسول المرسل اليهم من أنفسهم، و سائر الانبياء ارسلوا من ذات نسبهم لكي يكون ذلك مهمدا الي التعارف و حسن الالتقاء بينهم و بين الرسول المرسل اليهم. و قد علمت العرب من مجاورة اليهود لهم و النصاري ان الامم القديمة كانت الرسل ترسل اليها من ابنائها و النص القرآني فيه بعض التقريع لمنكري رسالة النبي علي معاداته و عدم الاستجابة له و هو من ذات انفسهم و هي كلمة فيها حجم كبير من التحبيب و التقريب... و الذين بادروا الي الايمان برسالة النبي فور سماعهم هذا النص كانوا حتما قد تذوقوه و استوعبوه و فهموا ما اراده الله به...«و اذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ان أتبع الا ما يوحي الي اني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا ادراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون»... يونس 16/15.لم تكن للخصوم حجة يبنون عليها طلبهم بتبديل القرآن و انما هو محض التعسف و التحكم و كان ذلك دأبهم في العهد المكي، و القرآن يرد عليهم موقفهم المتعسف هذا برفق و لين من اجل اشعارهم بما هم عليه من خطأ و ضلال في أسلوبهم الجدلي العقيم.و الاسلوب الجدلي القرآني يأخذ بهدب من التوجيه و المنطقية في الرد عليهم اذ يقول ان امر القرآن هو من امر الله فما يملك الرسول أن يغير ذلك من تلقاء نفسه... و بهذا اثبت لهم ان القول في هذا الامر لله و ليس لسواه...و لم يقل لهم ما الذي يدفعهم الي هذه المقولة و يغريهم بطلب تغيير القرآن و تبديله لان ذلك لا يعد من صلب الموضوع بل هو من حواشيه، و المهم هو اسكاتهم وردهم بالكلمة الدامغة و ليس المهم فتح باب جدل بينهم و بينه اذ انهم لا يصلحون ان يكونوا طرفا في جدل و غيره...«ومنهم من يستمعون اليك أفأنت تسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون. و منهم من ينظر [ صفحه 66] اليك أفأنت تهدي العمي و لو كانوا لا يبصرون». يونس 43/42.المراد بالاستماع و النظر ما هو سطحي غير مقصود اي انه استماع و نظر بغير وعي و لا استعياب، و ذلك من بعض مواقف المعاناة ايام العهد المكي اذ كان ذلك يترك في نفسه صلي الله عليه و سلم هما وحزنا ذريعا... و انما تكون المعاناة حين لا يملك ذو كلمة أن يوصلها الي غير ذي سمع و لا بصيرة من مثل اولئك القوم الذين كانت مواقفهم مواقف عناد و تجاهل و اغماض عين و قلب...«و يستنبئونك أحق هو قل أي و ربي انه لحق و ما أنتم بمعجزين» يونس/53...الغريب في اسلوب القوم الجدلي ايام العهد المكي خاصة انهم بعد أن تتكشف لهم الحقائق و الدلائل الدامغة و تظهر لهم البينات بكل وضوح يروحون يستنبئون الرسول اذلك حق.ان مثل هذا الاسلوب في الجدل و النقاش و الاستيضاح لأسلوب في غاية السذاجة و العناد و التغابي...و كان الرسول صلي الله عليه و سلم يهضم ذلك كله و يصبر علي امثال تلك الفهاهات الغريبة التي ليس وراءها جد في نقاش و لا صدق في حجاج...«و ما تكون في شأن و ما تتلو منه من قرآن و لا تعملون من عمل الا كنا عليكم شهودا اذ تفيضون فيه و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض و لا في السماء و لا اصغر من ذلك و لا أكبر الا في كتاب مبين». يونس/61في النص بيان بأن الله عزوجل يعلم ما يبذله النبي من جهد جهيد في اعماله الوظائفية التي ناطها الله به و وكلها اليه مما هي في عداد المعاناة و مكابدة الصعاب.«و هو الذي خلق السماوات و الارض في ستة أيام و كان عرشه علي الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا و لئن قلت انكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا ان هذا الا سحر مبين». هود/7.معاناة الموقف القاسي في النص انما تكون اذ يخبرهم بأنهم سيبعثون بعد موتهم فيكون جوابهم ان ذلك سحر مبين... و الفرق بين الجواب و صلب المسألة فرق كبير و بعيد فلا مكان للسحر و ادعائه في هذا المكان... و من الامر البديهي ان الاجابات الخارجة علي الصدد المنطقي في كل مقدمة و نتيجة و منطوق و مفهوم ليثير الهم و يثقل المعاناة و ينفذ به الصبر و معظم آيات المعاناة تدور في هذا الفلك و قد اكتفينا بما اوردناه من نصوص التنزيل العزيز اذ انها كثيرة و كلها تكشف عن عظم صبر النبي و هو يصغي الي مقولات المعاندين من قومه اذ لا يرد في تضاعيف قولهم ما ينفع في ساحة جدال و في معرض جواب و سؤال...و هكذا كان علي النبي ان يصبر علي ما يسمع ان الخصوم و ان يهضم ذلك مما لا يهضم مثله عادة... و أنا لنجد في آيات المعاناة ما نجد من امارات تفرد الشخصية المحمدية بالحلم و الثبات و التماسك العقلي و التعالي علي السفاسف و الهنات و اجتياز اشق ظروف الجدل الفارغ من المحتوي السديد.و لم يكن امر هذه المعاناة كائنا من فترات زمينة قصيرة او محدودة بل كان ما مر عليها من الزمن قد استغرق سني الدعوة الممتدة الي نحو ثلاث و عشرين سنة خلال العهد المكي و المدني و صلي الله عليك ايها النبي العظيم...«فلعلك تارك بعض ما يوحي اليك و ضائق به صدرك»... هود/12.بدء الكلام في هذا المقام بكلمة لعل يشير اشارة واضحة الي عظم الجهد و شدة المقاومة فليس من الامر اليسير ان يطلب الي قوم استمرأوا عبادة الاوثان و وجدوا فيها غاية رجائهم ان يتركوا عبادتها. اذ كانت كل قبيلة من قبائلهم [ صفحه 67] تحرص علي ما عندها من آلهة تعبدها و تناشدها النصر علي اعدائها و تري فيها رمز كيانها القبائلي و لعلها وجدت انها قد انتصرت بأصنامها علي اعدائها في حرب ما. فأكد ذلك صدق عقيدتها فيها علي حين ان النصر الذي كانت قد احرزته انما احرزته بقوة سلاحها و رشيد رأيها و سلامة خطتها في تلك الحرب و لا شأن لأصنامها في شي‌ء من ذلك حتما...اما ضيق الصدور فانما يكون لمغالبة الهم. و في مفردات الكلام القرآني في صدد معاملة القوم للرسول و هو في مكة خاصة فانها تدل علي القسوة في سوء المعاملة و علي توخي اذلال النبي كل اذلال و اهانة من آمن معه و من استجاب لدعوته لا سيما من كان منهم من الموالي المستضعفين عادة و الذين لا يملكون جهدا ملموسا يقدمونه في نصرة الدين الذي اعتنقوه و ارتضوه و راحوا يتعبدون الله علي نهجه.ان التعبير القرآني «فلعلك تارك بعض ما يوحي اليك» تعبير يستحق ان يتوقف عنده الدارس لشخصية الرسول الاعظم اذ لم يكن الرسول متهما بالتنصل من المهمة الالهية الملقاة علي عاتقه و لا كان يري في موقفه من الصدع بالدين ما يومي‌ء الي انه تارك من ذلك شيئا. ان النص سرعان ما يبدد ظن من يظن ذلك من الناس بكلمة (لعل) و الكلام بها هنا كلام علي امر لم يقع بعد لانه كلام علي محاولة مستقبلية كل القصد من ايرادها وضعها موضع الحقيقة. ان الامر جد عسير وجد شاق في دعوة، طرفها الاول رجل واحد و طرفها الثاني سائر عرب الجاهلية، و بؤرة الامر و صميم الموضوع هو اخراج قوم من اعماق ظلمات دامسة الي عالم النور الوهاج و الهداية النقية الطيبة و ذاك حقا مما يشق علي القابليات كل المشقة و انا لو راجعنا القوم بعد ثلاث و عشرين سنة من بدء الدعوة الي الاسلام لوجدنا خارطة تعاليم هذا الدين قد تناولت بالتصحيح و التنقيح من عادات القوم و عباداتهم و سلوكهم الاجتماعي و الفكري ما تعد سنو الدعوة الي ذلك و هي ثلاث و عشرون سنة جد قليلة في صدد تحقيق النجاح الذي تحقق.«فلعلك باخع نفسك علي اثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث اسفا... الكهف/6اي لعلك قاض علي نفسك غما و حزنا ان لا تجد قومك قد فهموك بعد... انها لاشارة الي عظم حرص النبي ان يصل بقومه الي ما يريده لهم من كمال الايمان و البعد عن عبادة المعابيد الباطلة التي لا تتحقق بها للعابد كرامة و لا فضيلة، و كان رسول الله يعلم ان التمام قومه علي دينه و ملته سيجعل منهم خير امة اخرجت للناس و انهم سيكونون شئيا مذكورا بين امم الارض ذات الشأن يومذاك فكان صلي الله عليه و سلم يحز في نفسه موقفهم الذي يتمثل في انكار شريعته ورد دعوته و الاصرار علي الضلال الذي كان صلي الله عليه و سلم يعمل علي سحبهم من مواقعه و استنقاذهم من عمق هوته...في هذا النص تصور لفرط الغم الذي كان يتملك الرسول في موقف الدعوة الي الله و الدين الحق و هي شهادة الهية صادقة قيمة علي هذه الحقيقة الناصعة... ان حرص الرسول علي ان ينقذ قومه من هوة الوثنية الي قمة التوحيد ليكون الله وحده مصدر تفكيرهم في الحياة اذا ان الاوثان و الاصنام لا تمنح عبادها اي توجيه سديد و لا يصل اليهم من قبلها اي تعليم رشيد.اجل كان النبي يأكل معه و يشرب هم ثقيل ناشي‌ء من اصرار القوم علي كفرهم و هو كفر بواح لم يعد يخفي علي احد ممن صدع الرسول فهيم بامر رسالته التي اوضحت للجميع فساد العقيدة الوثنية الغائصة في الجهل الي الاعماق... ان النبي لم يكن في سيرته الجهادية تاركا الامر الي ما يتحقق له من توفيق او لا يتحقق... شأن من ينهض بمهمة ان نجحت او ان لم تنجح فانه علم الناس من امره انه بذل اصي جهوده في الوجهة التي [ صفحه 68] مضي فيها... فالنبي لم يكن يريد ان يعذر الي الله و الي نفسه في انه صدع بما امره الله ان يصدع به بل كان يهمه و يعنيه ان يكون وراءه ذلك التوفيق كل التوفيق لا قناع المعاندين بما يصحح و جهتهم فانهم حريون منه بكل ذلك الحرص العظيم علي اخراجهم من الظلمات الي النور...«و يستأذن فريق منهم النبي يقولون ان بيتوتا عورة و ما هي بعورة ان يريدون الا فرارا». الاحزاب/13كان هذا الاستئذان من اجل الفرار من الحرب و قد زعموا له زعما كذبه الله اذ قالوا ان بيوتهم عورة و ما هي بعورة... و من اقسي انواع المعاناة في ايامه صلي الله عليه و سلم بالمدينة أن يقبل عليه قوم ينكصون عن المشاركة في الدفاع عن المدينة في موقف وصفه النص القرآني بالجملة القرآنية «و اذ زاغت الابصار و بلغت القلوب الحناجر.» الاحزاب/10. و هو وصف لطغيان الرعب في المعركة و اشتداد قوة الاحزاب المهاجمين ولكن الله نصر نبيه في معمعان هذه المعاناة باشراك جند من السماء خاضوا المعركة التي انتهت لصالح المسلمين...«و لقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار و كان عهد الله مسؤولا». الاحزاب/15النص ظاهر فيه أنه من آيات المعاناة. فان القوم خذلوا الجبهة الاسلامية بفرارهم بعد أن عاهدوا النبي أن لا يفروا... لقد كانت مثل هذه الاحداث تكلف النبي هما شديدا و تعرضه لمعاناة قاسية لا سيما حين تكون الحرب قائمة علي حساب دقيق لما يقدر من توفر عدد الاعوان الذين يقبلون علي خوض غمارها فاذا بعددهم جد قليل. فلله حنكة هذا النبي و شدة اصطباره و حسن تدبيره و توفيقه باجتياز مثل هذه الطواري‌ء التي تنهض عبر السيرة علي غير توقع.اجل الله هذا النبي في كسب النصر العظيم رغم المثبطين و الناكثين لعهود الله...«فاذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون اليك تدور اعينهم كالذي يغشي عليه من الموت فاذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة علي الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله اعمالهم و كان ذلك علي الله يسيرا. يحسبون الاحزاب لم يذهبوا و ان يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون في الاعراب يسألون عن أنبائكم و لو كانوا فيكم ما قاتلوا الا قليلا»... الاحزاب 20/19في هذا النص صورة جلية لما كان يعانيه النبي صلي الله عليه و سلم و فئة المؤمنين من لمة الجبناء الملتمين علي ذعر و جبن و خوف شديد و وجود امثال هؤلاء في البيئة يجر الي تثبيط الهمم و اشاعة الذعر و الخوف و هم يتمنون عند وقوع غزو علي المدينة أن لا يكونوا فيها و أن يكونوا في البادية بعيدين عن شي‌ء اسمه ساحة قتال...ان ما ينشره هؤلاء من نار الانهزامية في وسط المدينة لهو اشد وقعا علي الناس من وقوع غزو حقيقي، فالمعاناة فيهم معاناة قاسية الوقع و شديدة الوطأة ولكن رسول الله بفعل اقتداره العسكري العالي كان يملك احتواء جميع هذه الارجافات رغم ضيق الوقت و الاحراجات الناشئة من قبل قوم يزعمون الاسلام و هم اشد خطرا عليه من كل خطر...و في مقابلة هؤلاء الذين أذلوا انفسهم و لم يملكوا أن يذلوا الاسلام نري الصادقين من المؤمنين يتجلي موقفهم الايماني الثابت يفعل فعله في الساحة و هذا ما اشار اليه النص الكريم «و لما رأي المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله. و صدق الله و رسوله و مازادهم الا ايمانا و تسليما. من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من [ صفحه 69] قضي نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا» الاحزاب 23 /22.اجل لقد كان من عظيم عون الله لنبيه في مثل الظروف القاسية التي جاء الكلام عليها فيما اوردنا من نصوص قرآنية أن الله كتب النصر كله لرسول الله و الفئة المؤمنة الصادقة التي عاشت تأتمر بأمره و تأخذ بتوجيهه و تلتزم بسديد موقفه حتي جاء نصر الله و وجدنا آيات التنزيل في السورة التي نحن في صددها و في سورة الاحزاب تقول بالحرف الواحد «ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفي الله المؤمنين القتال و كان الله قويا عزيزا. و انزل الذين ظاهروهم من اهل الكتاب من صياصيهم و قذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون و تأسرون فريقا. و اورثكم ارضهم و ديارهم و اموالهم و ارضا لم تطأوها و كان الله علي كل شي‌ء قديرا» الاحزاب 27/26/25.«و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه امسك عليك زوجك و اتق الله و تخفي في نفسك ما الله مبديه و تخشي الناس و الله أحق أن تخشاه فلما قضي زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون علي المؤمنين حرج في ازواج ادعيائهم اذا قضوا منهن وطرا و كان امر الله مفعولا [18] » الاحزاب/37.النبي اطوع كائن بشري في يد الله يصرفه وفق ما قدره من امره و رسمه له في غيبه و هو - اي النبي - مطالب أن يكون اكثر من غيره عبادة و اشد من الاخرين صبرا و اعظم احتمالا للمتاعب و الهموم و التكاليف و اذا كان في الناس من يعصي الله فان هذا العصيان ابعد شي‌ء عن الانبياء لانهم اعدوا من قبله تعالي اعدادا متكاملا للمهمة التي ارادهم لها و علي ان الله شرف انبياءه و رسله لهذه المهمة و اضفي عليهم ألطافه و رعايته فانه قدر عليهم أن يقتلوا و يعذبوا و يتعرضوا لقسوة المعاملة من اممهم و شعوبهم... و قد وجدنا ان رسول الله صلي الله عليه و سلم تحمل من ذلك الكثير فكان حساب الله للانبياء شاقا مشقة ملحوظة و كان االانبياء يكثرون من الاعتذار الي الله و اللجوء الي مغفرته و هم معصومون و منهم ابراهيم عليه‌السلام اذ قال: «و لا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال و لا بنون، الا من اتي الله بقلب سليم» الشعراء 89/87 و نظراء ابراهيم في مثل هذا الموقف غير قليلين...كان العرب اذا تبني احدهم ولدا و رباه صار له حكم الابن الصلبي فلا يتزوج زوجة دعيه اي ابنه بالتبني و ذاك عندهم من القوانين الاجتماعية التي لا يصح خرقها... غير ان الله عزوجل ألغي هذا العرب المعروف عندهم بقوله: «و ما جعل ادعياءكم ابناءكم» غير انه تعالي اراد ان يكون هذا الحكم ذا صفة واقعية الطبيعة. اذ امر النبي بأن يتزوج زينب زوجة زيد متبني النبي اي ولده بالتبني و كان هذا الخرق لقاعدة قائمة في التقاليد العربية منذ ايام الجاهلية الاولي يعد خرقا جسيما يتطلب اقصي ما هناك من الاقدام و الجرأة و علي هذا كان النبي قد اخذته الخشية من الناس في تطبيق هذا الحكم المناقض للعرف العربي يومذاك ولكن الله دفع النبي الي الخروج من اطار الحذر و خشية الناس الي التطبيق الواقعي العلني قائلا له علي لسان الوحي: «و تخشي الناس و الله أحق ان تخشاه» و ظل النبي هدفا للمستهدفين الذين كبر عليهم أن يقع زواج رجل من زوجة دعيه.ان النبي صلي الله عليه و سلم يتلقي الاوامر من ربه فيبادر الي تنفيذها مهما كلفه ذلك و مهما سبب له [ صفحه 70] تنفيذ هذه الاوامر من اجتراء الناس عليه لانه اطاع في ذلك أوامر ربه و ان كان للخشية مكانها من موقفه فليس في ذلك ما يجر الي لومه و تسجيل موقف مخالف للوحي عليه... لقد خشي النبي الناس و قد تمني أن لا يقع في وجوده بين قومه مثل ذلك فهذا معني قوله تعالي: «و تخفي في نفسك ما الله مبديه» الا انه صلي الله عليه و سلم حين امره الله بأن يتزوج مطلقة زيد نفذ امر الله فالموضوع الذي اعترت النبي خشية في تنفيذه اول الامر لم يكن من العبادات و لا من الاحكام العامة التي كان علي النبي المبادرة الي الصدع بها...اما قصة زيد فهي قصة شخصية تتعلق بذات النبي صلي الله عليه و سلم و ان كانت تقوم عليها قاعدة شرعية اصولية ألغي بها القرآن بعض عقائد القوم القديمة. والانبياء يقع منهم الحذر و الخوف كالذي حدث من موسي عليه‌السلام من ايجاسه الخيفة عندما ألقي سحرة فرعون حبالهم و عصيهم التي خيل اليه من سحرهم انها تسعي و ذاك امر من شأنه ان يثير الرعب في النفوس و ما وقع من يونس عليه‌السلام اذ أبق الي الفلك المشحون و ما وقع من انبياء ضعفت مقاومتهم و قل صبرهم و كذلك ما جاء في التنزيل من قوله تعالي «حتي اذا استيأس الرسل و ظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا» يوسف/110... فان بشرية الرسل يبرز بعض خصوصياتها في الساحة... و علي هذا فليس علي رسول الله من تباعة فيما كان منه من موقف شخصي في قضية زينب و زيد... اذ كان قد خشي الناس كمألوف عادة الناس في خشية الناس...و قد قطع النص القرآني بهذه القضايا في الاية الرابعة من سورة الاحزاب المدنية اذ جاء فيه «ما جعل الله لرجل قلبين في جوفه و ما جعل ازواجكم اللائي تظاهرون منهن امهاتكم و ما جعل ادعياءكم ابناءكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق و هو يهدي السبيل»...«أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فان الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ان الله عليم بما يصنعون» فاطر/8.كان النبي يتمني لأناس من المعارف و ذوي القربي أن يقبلوا علي الاسلام و يعتنقوه فيكون للاسلام بذلك انتفاع و فائدة فحين كان اولئك يأبون الانخراط في سلك المسلمين و يصرون علي الكفر و الضلالة و النبي يعلم انهم ان لم يؤمنوا فسيكونون من اصحاب النار لذا كان يتحسر علي موقفهم و الله جل شأنه هو الذي يضل و يهدي. و قد دعاه الي ان لا تذهب نفسه حسرات علي اولئك الناس، و في آية اخري «انك لا تهدي من أحببت» القصص/56.ان من حق النبي ان يأوي الي ملته اناس يحب لهم الهدي و يتمني لهم الايمان ولكن الذي عند الله غير هذا... ان الايمان من اعمال القلوب و لا يملك الحكم في القلوب الا الله فانه هو الذي يقلبها كيف يشاء و النبي ليس غير مبلغ يبلغ رسالات ربه الي العباد لا مسؤولية عليه في عدم ايمانهم...و قوله تعالي: «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» من ادق العبارات المعبرة عن فرط الهم و شدة الحسرة التي تختلج في صدر من يكون شديد الحرص عل أن تتحقق له امنياته التي يتمناها في عالم الخير و الصلاح. اي ان كثرة حسراتك ستهلك بها نفسك و لا يبقي منها شي‌ء بفرط التياعك و شديد قلقك.ان الله عزوجل هو صاحب الحق في أن يوجه انبياءه و يحول مسارهم الي ما يشاء و ليس الي ما يشاؤون. فان الرسل حين يرسلهم الله رسلا يفقدون كل ارادة كانوا يمتلكونها من قبل لتكون ارادة الله وحده هي الكل في الكل في حياتهم... و الانبياء يظلون يتلقون كلمات الله و يتأدبون بأدبه و يتعلمون من علمه فلا يلام احدهم اذا اراد شيئا فصحح الله ارادته... [ صفحه 71] «و اذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا اليها و تركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين»... الجمعة/11يشير النص القرآني الي أن قوما حين كانوا يحضرون صلاة الجمعة و خطبتها فجاءت قوافل التجار الي اسواق المدينة غادروا المسجد اليها و النبي قائم علي منبره يخطب الناس...و ما من شك في أن مثل لهذا التصرف له اثر في النفس موجع اذ كان الخطيب يهمه أن تصل كلمته الي قلوب الناس و لعل هناك ما كان من الكلام اكثر شي‌ء حاجة الي أن يتلقاه القوم اذ انهم غادروا المسجد بفعل غلبة سلطان التجارة و التكسب علي نفوسهم...و في تمام النص القرآني تعليم للناس و تهذيب اذ يأمرهم بالانصات الي خطيبهم حتي اذا انتهت الخطبة و الصلاة فان لهم أن يخرجوا الي اسواقهم و مبايعاتهم لا حرج عليهم في ذلك من بعد صلواتهم...حقا أن المعاناة هنا جد قاسية و هي ذات تصرف يرمي الي بعثرة الجماعة و تشتيت صفوف المصلين، و تشويش افكار القائم علي المنبر يعلم الناس دينهم و يهديهم الي صالحات الاعمال و محاسن الاخلاق و يعلمهم كيف يعبدون الله الخالق العظيم، فاذا خرج فريق من المصلين الي تجارة او لهو فان ذلك جدير أن يقلق له البال و يضطرب الفكر و يمسك اللسان عن مواصلة الكلام لو لا أن صاحب المنبر كان من العبقرية و الحكمة و سلامة التصرف و قوة الشخصية علي الحد الذي عرفناه لما تسني له ان يسيطر علي جو المسجد آنذاك.و لقد كان ذلك قد حدث في المدينة و للاسلام في نفوس أتباعه رسوخ تام، و من هنا عددنا هذا النص من نصوص المعاناة التي عاناها الرسول الاعظم في مسيرته العظيمة...«هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتي ينفضوا ولله خزائن السماوات والارض ولكن المنافقين لا يفقهون. يقولون لئن رجعا الي المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون» المنافقون 8/7حين يكون في بيئة المدينة قوم يثبطون الناس عن الانفاق علي ضعفاء المسلمين ممن يترددون علي الرسول الاعظم و حين يكون هناك قوم يقولون و هم يشاركون في بعض الوقائع خارج المدينة انهم اذا رجعوا الي المدينة فسيعمدون الي اخراج فئة المؤمنين منها اذ يصمونها بأنها تمثل الفريق الذليل علي حد قولهم فان مثل هذه النعرات تشير الي أن جو المدينة كان مشحونا بأكثر من مشكلة من مشاكل المعاناة...و حين تكون المعاناة عائشة بين سمع النبي و بصره في المدينة فانها حقا لامر شديد و عسير. لقد كان النبي يسمع هذا و تصل اليه انباؤه و اخباره، ولكنه كان صلي الله عليه و سلم من الخلق علي قسط عظيم و كان يكل أمر هؤلاء المذبذبين الي الله ليجري عليهم من احكامه و اقداره ما يشاء. لا سيما اذ كانوا عند الحساب و المعاتبة يلوذون بهدب الانكار و التبرؤ مما قالوا...«عبس و تولي ان جاءه الاعمي»... عبس 2/1هذا النص و تمامه «و ما يدريك لعله يزكي، او يذكر فتنفعه الذكري، أما من استغني، فانت له تصدي، و ما عليك ان لا يزكي، و أما من جاءك يسعي، و هو يخشي، فأنت عنه تلهي» عبس 10/3...يتجلي في شخصية الرسول الاعظم الحرص علي اجتلاب المشركين الي الاسلام، و ما من شك في أن ذلك يحتمل الكثير من المعاناة و المكابدة و بذل الجهد الجهيد و تغلب اليأس احيانا علي الرجاء و كل اولئك فيه الدلالات القاطعة علي هول المجاهدة و فرط المكابدة و ان حمل الرسالة يتطلب السياسة و الكياسة في عرض الامور و اداء المهمة و النهوض بعبئها و كان ذلك من اجلي خصائصه صلي الله عليه و سلم و ابرز سماته و اظهر معالم نشاطه في مجال الصدع بالامر [ صفحه 72] الا ان الله عزوجل و هو الموجه الاول لرسوله و مرسل الوحي اليه و الرقيب عليه قد يصحح بعض مواقف الدعوة هذه و ذلك مما عرف في تاريخ الرسل و النبيين اذ كان الله يصارحهم بتصحيح ذلك علي ضوء العلم الالهي الذي لم يعلم نبيه به، ان من طبيعة الدعوة الي الملة الجديدة في قوم عرفوا بالاعتداد بعنعناتهم [19] والاصرار علي شموخهم ان يلجأ الواعظ المرشد الي مداراتهم كل المداراة. للاعتبارات التي ذكرناها و لاعتبارات اجتماعية قائمة في البيئة.و كذلك كان موقف النبي من وفد متعالي متعاظم اراد الرسول ان يفرغ جهده في اخذهم الي الدين الحنيف فبالغ في ذلك دأب الدعاة ذوي الحرص علي ما يريدون الدعوة اليه.و صادف مجي‌ء اعمي الي الرسول اقبل ليعتنق الاسلام فكان من الامر الطبيعي ان يكون صاحب دعوة ما ظاهر الالتفات الي الجهة الاخري التي يجد في اعتناق دعوته من قبلها انتصارا عظيما... و المكفوف القادم لا يدري من ذلك شيئا و غالب سلوك المكفوفين ان كانوا من الطبقات الفقيرة قائم علي الالحاح و الاصرار بلا هوادة الا من كان من ذوي الفضل و الخلق و الادب...ولكن السياسة الالهية غير ذلك فقد اراد الله تعليم نبيه فصور الصورة و ذكر التفصيل و اورد الواقعة و عتب علي نبيه ان يقف هذا الموقف من ذلك الاعمي و جماعة الوفد... و عتاب الله هنا عتاب توجيه و ليس عتاب عقوبة... و بهذا نعلم ان الله جل شأنه كان وراء النبي في كل شي‌ء و لله المثل الاعلي في المساوات و الارض... كذلك نعلم الكثير من منهج النبي و سلوكيته التطبيقية من ايصال الدعوة الدينية الي الناس لا سيما في العهد المكي اذ كان في العهد المكي قليل الاعوان و الانصار و كذلك نجد في موقفه صلي الله عليه و سلم مما عاتبه الله عليه اجتهادا في الوصول الي كسب الاعوان بطريقة اعلامية تعد مألوفة و مرجحة عند كثير من الدعاة الدينيين و السياسيين والاجتماعيين.

التأييدات و البشائر الالهية

كتب الله علي نفسه أن يؤيد الدين و يثبت المسلمين و هذا ما جاء به قوله تعالي «و كان حقا علينا نصر المؤمنين» الروم/47... و عند الازمات الكبار و الهموم الثقال كان الله يتدارك نبيه بعون منه و نصر عزيز. و قد نصت آيات قرآنية كثيرة علي أن الله قوي جند المسلمين بجند من ملائكته قاتلوا معهم «اذ يوحي ربك الي الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق و اضربوا منهم كل بنان» الانفال/12... و جاء في القرآن الكريم «ان لا تنصروه فقد نصره الله اذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلي و كلمة الله هي العليا و الله عزيز حكيم» التوبة/40...فان تعهد الله بنصر نبيه في هذا النص واضح و ظاهر حتي لو لم يكن هناك من يبادر الي نصره و في القرآن الكريم «و ان يريدوا أن يخدعوك فان حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين» الانفال/62... و هذا نص من نصوص التأييدات الالهية للرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم اذ يكون الله عزوجل في عون نبيه في احرج الظروف التي ينعقد فيها موقف الكفار علي المخادعة و هي ضرب من المواجهة مغلف بالخبث و المراوغة لا يملك النبي في مواجهتها من شي‌ء الا الاتكال علي الله وحده ولكن الله تعهد لنبيه بانه هو حسبه في مواجهة اولئك القوم مهما كانت اسلحتهم و اساليب مواجهتهم... و قد ذكر [ صفحه 73] الله هنا المؤمنين الذين هم خير اعوانه صلي الله عليه و سلم و اصدقهم في لقاء و اخلصهم للنبي صلي الله عليه و سلم في غيب و شهادة...و من آيات التأييد قال تعالي «و اذكروا اذ أنتم قليل مستضعفون في الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم و ايدكم بنصره و رزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون» الانفال/26... ففي هذا النص بشائر واضحة و تذكير بما كان من عظيم عون الله للأمة اذ كانت في احرج ظروف الضعف في محيط كان شديد العداوة، و مفردات الآية لا تحتاج للتفسير... و قوله تعالي «و اذكروا اذ أنتم قليل مستضعفون في الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم و ايدكم بنصره» واضح فيه أن من صنع هذا في حين ما فهو صانعه متي شاء و ذاك غاية ما يكون من بعث الرجاء و الطمأنينة في نفوس المؤمنين...و من آيات التأييد و البشائر المطمئنة للنفوس «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الاخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء» ابراهيم/27... ففي ذلك عهد من الله علي تثبيت الايمان في المؤمنين و خذلان الله للظالمين الذين يؤذون النبي و يشاكسون المؤمنين...فمن آيات التأييد و البشائر المطمئنة في النفوس قوله تعالي «انا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما. و ينصرك الله نصرا عزيزا» الفتح 3/1... في هذا النص من بشائر النصر والتمكين و الغلبة ما هو واضح كل الوضوح بحيث امتلأت قلوب المؤمنين عند نزوله بالرجاء الوثيق والامل الوطيد و الفوز المبين... و الخطاب موجه الي النبي و فيه كل الفرج و النصر العزيز و اتمام النعمة و الهداية و التوفيق...و من آيات التأييد ايضا «هو الذي أخرج الذين كفرو من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا و ظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا و قذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين قاعتبروا يا أولي الأبصار» الحشر/2...و من آيات التأييد قوله تعالي «ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفي الله المؤمنين القتال و كان الله قويا عزيزا. و أنزل الذين ظاهروهم من اهل الكتاب من صياصيهم و قذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون و تأسرون فريقا. و أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم و أرضا لم تطأوها و كان الله علي كل شي‌ء قديرا» الاحزاب 27/26/25. و في هذا النص من ظاهر التمكين و السلطان و الغلبة ما يبرهن علي أن الله كان مع النبي في مراحل التوفيق و النصر و لولاه جل و علا لما كان ذلك قد تحقق كما اننا عند احاطتنا علما بانتصار المسلمين و اندحار الكافرين نعلم لدرجة اليقين المطلق ان رسول الله محمدا بن عبدالله كان اهلا لهذا الانتصار الذي كتبه الله له و ذاك بما كان يمتلكه من عزم و حسن قيادة و قدرة علي تصريف الامور و تدبيرها حتي تم له صلي الله عليه و سلم نصر الله...و من آيات التأييد قوله تعالي «و لقد نصركم الله بدر و أنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون. اذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلي ان تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة الاف من الملائكة مسمومين. و ما جعله الله الا بشري لكم و لتطمئن قلوبكم به و ما النصر الا من عند الله العزيز الحكيم» آل‌عمران 126/123...و من آيات التأييد و بشائر النصر و التمكين قوله تعالي «اذا جاء نصر الله و الفتح. و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك و استغفره انه كان توابا» النصر 3/1... و قد كانت هذه السورة من اواخر ما نزل من كتاب الله علي رسول الله... و قد تم للأمة الكثير من اسباب التفوق و النصر المؤزر [ صفحه 74] و علو شأن الاسلام مما انتهي بعد ذلك علي عهد خلفائه صلي الله عليه و سلم الي الخروج الي ما وراء الجزيرة العربية ابتغاء تحرير العالم كله من رجس الضلال و الوثنية و الظلم و استغلال الانسان و بذلك دخلت امم و شعوب كثيرة في دين الهل و مازالت راية الاسلام لها في كل مكان وجود و شموخ...و البشارة بالنصر و التوفيق الاعظم واضحة في هذا النص و ما يبشر الله به نبيه من نجاح و نصر في آتي ايامه انما هو نصر محقق يملأ قلب النبي و اصحابه املا و رجاءا و قوة و طمأنينة الي المستقبل.

المحتوي القرآني‌

القرآن الكريم كتاب شريعة و قانون حلال و حرام ومباحات و ممنوعات و نظام حياة و آداب سلوك و منهج حكم و قد ذكرت فيه عبادات يتعبد بها الله كما ذكرت فيه سير انبياء و رسل بعثوا الي اممهم في الدهر القديم و يعد الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم اذ أنزل ذلك كله عليه مشرفا علي التطبيق و مرشدا الي اداء ذلك علي الوجه الدقيق و من اجل معرفة المدي الذي تنهض اليه مهمة الرسول الاعظم في هذا الباب لابد ان نعرف بشي‌ء يسير من التفصيل ما تضمنه المحتوي القرآني من مضامين...فلقد نظم القرآن احكام الميراث بقوله تعالي «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فان كن نساءا فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك و ان كانت واحدة فلها النصف و لأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد فان لم يكن له ولد و ورثه أبواه فلأمه الثلث فان كان له اخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين. آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم قطعا فريضة من الله ان الله كان عليما حكيما» النساء/11...و في الجنايات كان القضاء الالهي قاضيا بقتل القاتل و قطع السارق و جلد الزناة و معاقبة المفسدين في الارض... و في الزواج و الطلاق جاءت النصوص واضحة غير غامضة. وامر الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج معروف...كذلك نظر القرآن في علاقات الشعوب و الدول و شرحت مسائل الحرب و السلم في تضاعيف التنزيل العزيز... و موضوع البيوع و التجارات يعد من مهمات المواضيع القرآنية التي يقوم عليها أمر سلامة المجتمع. و الجانب الاخلاقي الذي يتعلق بالصدق و الكذب و الوفاء و نقض الوعود و ما يتصل بتهذيب النفوس و افراغها من الجشع و الطمع و الشراهة و النهم فان ذلك استوفي نصيبه في كتاب الله...و السور المكية و المدنية كلها سواء في اداء مهام التكليف و التزهيب و الترغيب بالاسلوب البليغ المتميز الذي تبدو علي جمله و حروفه معالم الشدة و الرقة و الاقناع القائم علي الحجة... و في القرآن الكريم ألفاظ و جمل في حكم المصطلحات التي يشاربها الي مقاصد تشريعية يفهم بها ما يعنيه النص من معان و ما يقصد اليه من مقاصد و من ذلك استعمال كلمة كتب في مثل قوله تعالي «كتب عليكم الصيام...» البقرة /183... و مثل كلمة أمر و فرض و قضي و وصي و سائر ما ورد في هذه المعاني من افعال الامر و النهي...ان الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم كان قيما علي الامة في تثقيفها الثقافة الدينية الكاملة وتعليمها اصول الايمان وردها الي منابع الملة و حملها علي الاعتصام بالكتاب و السنة و الاشراف علي سائر ظروفها و احوالها في السلم و الحرب و الالتزام بالعهد و تطبيق سائر الاحكام علي كل فرد من افرادها و في الحديث النبوي «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» و ذاك هو المحتوي القرآني الذي [ صفحه 75] يعد الرسول ادري به و اعلم به صلي الله عليه و سلم و يقابل ذلك من الالفاظ لفظ حرم و كره و نهي و لفظ الاجتناب و من بعض ذلك قوله تعالي «و بعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون» الانعام 153/152...في هذا النص جماع الوصايا الاخلاقية و الانسانية و ما الي ذلك من توجيه سديد و تهذيب رشيد و تأديب حسن و هي من الآيات المكية التي جاء فيها ما جاء من تحليل و تحريم و كرر الله في اعقاب كل آية قوله الكريم «ذلكم وصاكم به» علي أن وصية الله تعني ما يساوي معني الفرض و الواجب و قد استعملت في التنزيل العزيز في مثل هذه المواقع... و اذا نظرنا الي اعمدة الايمان و ركائز السنن الاخلاقية في الملة فانا نري هذه الايات الكريمة تكاد تحتجنها جميعا...و من ملاحظة المحتوي القرآني الذي بين دفتي هذا التنزيل العظيم نعلم كثافة ما حمله الرسول الاعظم الي الناس من ربه و ندرك ما نهض بتبليغه الي الناس من دين و احكام شرعية و تهذيب خلقي و حكم عالية المستوي. لذلك عقدنا فصلا تاما في الكتاب استوفينا فيه ما نزل به الوحي علي رسول الله خلال ثلاث و عشرين سنة في كلتا فترتي النزول القرآني بمكة و المدينة مما يعد جماع هذا الدين و عمدة الملة و أس العقيدة الاسلامية العظيمة... كما ان في عرض ذلك كله او وضعه في جدول خاص ما يلفت انظار غير المسلمين و هم يتابعون سيرة الرسول في الكتاب الي مقاصد الرسالة العظمي التي بعث بها الي الخلق اجمعين و بذلك نملك ان نتم للصورة النبوية الخالدة اطارها التاريخي الكامل الذي يومي‌ء باكثر من اصبع تكريم و اعجاب و تقديس الي ذاتية هذه الشخصية القيادية الخالة التي كان الله عزوجل عالما بكفاءاتها العالية فألقي اليها امره فحقق بها لرسالته السماوية التي هي خاتمة الرسالات ما اراده سبحانه من هذه الاضاءة الشاملة للعالم بحيث نحي عنه الظلمات التي كان غائصا فيها الي الاذقان...ان الكلام علي المحتوي القرآني يتطلب اكثر من كتاب و اكثر من عنوان. و كل الذي نكتبه في هذا السفر علي ما يلاحظ فيه من تفصيل انما هو موجز غاية الايجاز و ذاك ما هو قصدنا في تأليف هذا الكتاب.

التوزيع القرآني

من البديهي ان القرآن الكريم كان ينزل علي رسول الله صلي الله عليه و سلم منذ بعثه نبيا علي راس الاربعين و هو الحيز الوحيد التي يستقر القرآن في ذاكرته الشريفة ثم ينتقل الي الناس جميعا من كان منهم مؤمنا و من كان منهم كافرا و ذاك هو امر كل دعوة دينية يدعي الناس الي اعتناقها...كان المؤمنون في اوائل العهد المكي يقبلون علي الآيات النازلة فيحفوظنها، و يقرأونها في صلواتهم و ينقلونها الي من يليهم و من حيث كان القرآن غاية في البلاغة و سمو البيان و كان يتضمن انماطا من الجدل اللاهوتي لم يكن مألوفا لديهم و لا معروفا فان جماعة الكفار و المشركين كان يعنيهم الوقوف علي اخر ما ينزل من نصوص هذا الكتاب العظيم، كما ان الكتابيين كانوا يبحثون عن الآيات التي تنزل في حقهم، و في العهد المدني اشتدت هذه الرغبة لدي المنافقين الذين صاروا يخشون ان ينزل فيهم من القرآن ما يفضح خططهم العدوانية الماكرة...و في القرآن الكريم مما يشير الي ذلك «يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا ان الله مخرج ما تحذورن» التوبة / 64.و قوله تعالي «تنزل عليهم» اي تنزل من اجلهم او في شأنهم و كيدهم و مكرهم و هكذا سعي اعداء [ صفحه 76] القرآن في نشره كما سعي المؤمنون في ذلك و قلما وقع لكتاب شريعة من سعة الانتشار ما وقع للتنزيل العزيز...و في قصيدة الاعشي جاء قولهنبي يري مالا يرون و ذكره أغار لعمري في البلاد و أنجداو بعضي آيات التنزيل كان يراد بها مخاطبة غير المسلمين مثل قوله تعالي:«يا أيها النبي قل لمن في ايديكم من الاسري ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم...» الانفال /70. و كذلك معظم آيات القول التي يراد ابلاغها الي الكفار و غيرهم من مثل «قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف» الانفال /38. مما سنعلمه علي وجه التفصيل عند شرح الآيات القولية أي التي خوطب بها النبي صلي الله عليه و سلم مبدوءة بكلمة «قل»...و كانت آيات القرآن الكريم تتلي سرا و جهرا في ركعات الصلاة فما كان منها في الجهر كان المصلون يستعمون اليها و هي تتلي في المحاريب فيساعدهم ذلك علي حفظها و استظهارها مضافا ذلك الي تدوقها و فهم معانيها و العلم باحكامها و كان حسن صياغة النص القرآني مساعدا علي حفظه بحيث كثر حفظة القرآن الكريم كما أنه كان علي كل مسلم ان يقرأ في صلاته ما تيسر منه اي مما امكن له حفظه عن ظهر قلب... و قد أمرت الامة ان تتلو القرآن في سائر مجالاتها اليومية مما يكون خارج الصلاة... و قد ساعد وجود هذا الكتاب العظيم في صدور المؤمنين عند وصول الحملة الاسلامية الي خارج الجزيرة علي سرعة عملية التعريب في الألسنة الاعجمية و قد صار القرآن الكريم مجال دراسة مسهبة ذات جوانب كثيرة متعددة بحيث ظهرت إثر هذه الدراسات علوم و فنون لم تكن معهودة من قبل كعلم النحو و الصرف و البلاغة والاحكام و التفسير ولفقه و غير ذلك... لقد قال الله في حق كتابه «انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون» الحجر / 9 و هذا ما قد كان و ما زال كائنا...

القاب النبي...

خوطب الرسول صلي الله عليه و سلم بأكثر من لقب و تسمية كان من اشهرها - يا أيها الرسول - «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك و ان لم تفعل فما بلغت رسالته» المائدة/67... و - يا ايها النبي - مثل قوله «يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين» الانفال / 64... و كان منها - يا أيها المدثر - في قوله تعالي «يا ايها المدثر. قم فأنذر» المدثر 2/1 - يا أيها المزمل - في قوله تعالي «يا أيها المزمل. قم الليل الا قليلا» المزمل 2/1 و ذكر بلفظ النذير و البشير و الشاهد و الداعي الي الله مثل «انا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا» الفتح /8... و وصف بانه سراج منير. «و داعيا الي الله باذنه و سراجا منيرا» الاحزاب /46... و وصف بأنه قد ارسله الله و قد بعثه «هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته...» الجمعة /2 و قد آتاه الكتاب و انزله عليه و نزل اليه القرآن «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي» طه /2... و انزل عليه الذكر «انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون...» الحجر / 9... و انه عزوجل اوحي اليه وحيه «فأوحي الي عبده ما أوحي» النجم / 10... و وصفه بأنه نزل عليه الروح الامين «نزل به الروح الامين. علي قلبك لتكون من المنذرين» الشعراء 194/193... و انه ارسل اليه روحا من امره «و كذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا...» الشوري/52... و انه ارسل رحمة للعالمين «و ما أرسلناك الا رحمة للعالمين» الانبياء / 107 و انا نيط به الحكم بين الناس «و ان حكمت فاحكم بينهم بالقسط...» المائدة /42... و انه وصفه الله بعبده «سبحان الذي اسري بعبده ليلا...» الاسراء [ صفحه 77] /1. و بعبد الله «و أنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا» الجن / 19...و بعبدنا «و ما أنزلنا علي عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان» الانفال/41...و انه كان يضيف ربوبيته اليه في مثل قوله تعالي «ان ربك حكيم عليم» الانعام/128... و قوله تعالي «ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل» الفيل/1... و استعملت في الخطابات القرآنية كلمة الالقاء و التلقي «و انك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم» النمل/6... الي غير ذلك من الآيات الكريمة التي كانت كلها من خطابات الله العزيز الحكيم. و قد سبقنا الي بعض هذا الكلام في مواقع اخري من الكتاب... و جاء ذكر النبي مجردا من الالقاب «و آمنوا بما نزل علي محمد و هو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم...» محمد/2... كما ذكره بلفظ رسولنا «قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب» المائدة/15... و سماه عند مخاطبة قومه بلفظ - صاحبكم - «و النجم اذا هوي. ما ضل صاحبكم و ما غوي» النجم 2/1... و يستفاد من ذلك اهمية شخصية النبي لدي ربه و عظم مقامه عنده و تفريده للمخاطبات الكريمة صلي الله عليه و سلم. و خوطب - بلفظ انك - «و انك لعلي خلق عظيم» القلم/4... و ينسب الله اليه اقرباء له من رجال و نساء «و بنات عمك و بنات عماتك و بنات خالك و بنات خالاتك...» الاحزاب/50... و ذكر ازواجه اللائي وصفهن بأنهن أمهات المؤمنين ولكنه لم يذكر اسم واحدة منهن و لا كان عزوجل قد ذكر اسماء بناته و اولاده و لا اسم ابيه و لا اعمامه و لا جده عبدالمطلب و لا ذكر نسبه و انما ترك ذلك للتاريخ...

النبي و الشوري...

يستمد النبي الختصاصاته النبوية من وحي ربه. و كثيرا ما تعقدت عليه صلي الله عليه و سلم امور فكان الوحي ينزل و هو يحمل الامر الالهي في حلها و رغم توفر هذه الدعائم الاساسية للدين و الملة فان الله عزوجل هدي النبي الي مبدأ الشوري فقال تعالي «و شاورهم في الامر...» آل‌عمران/159... و هناك نص ذو وضوح جلي في هذا الباب هو ما جاء في قوله تعالي «انما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله و اذا كانوا معه علي أمر جامع لم يذهبوا حتي يستأذنوه ان الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله و رسوله فاذا استأذنونك لبعض شأنهم فائذن لمن شئت منهم و استغفر لهم الله ان الله غفور رحيم» النور/62فلقد كان صلي الله عليه و سلم يجتمع اليه من اصحابه من ذوي الخبرة في أمور الوقت فيستمزج رأيهم في اشياء للامة خير و سداد أمر. و في مثل هذا المجلس الاستشاري كان علي المجتمعين فيه الي رسول الله ان لا يغادروا المجلس من دون استئذان و كان للنبي ان يأذن لهم أو لا يأذن، و هو نص في الشوري و الاستشارة...و كان النبي صلي الله عليه و سلم وفق التوجيه الالهي حين يستمزح آراء من يستشيرهم فانه يعمد الي اتخاذ القرار الذي يرجح اتخاذه و هذا معني قوله تعالي «و شاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل علي الله» آل‌عمران/159... ان للشوري اهمية كبيرة تنمي في دوي الرأي من الناس عند استشارتهم الشعور بالكرامة و بأن لهم حظا في تدارس الامور و معالجتها و انهم محل ثقة ولي الامر و صاحب الشأن الاول في الدولة. كما ان ذلك يعود سائر الناس علي التفكير الدقيق عندما يحزب الناس أمر او تظهر مشكلة او يقع خلاف او تكون مستجدات [ صفحه 78] و هكذا شاء الله ان تصل الأمة و علي رأسها نبيها الي ما فيه ضمان خيرها و سداد عقيدتها...و قد كان اصطحاب النبي ابابكر في هجرته الي المدينة ينم عن توقع الحاجة الي الاستشارة و ان كان من آداب الخروج الي سفر و ما اليه ان يقع الاعتماد علي رفيق مرافق و عون معاون بل ان التعليم الاسلامي يقتضي عند خروج اثنين في رحلة او شبه رحلة ان يكون احدهما هو الرئيس الذي يكون صاحب الرأي في تلك السفرة.... و كذلك من قوله تعالي «و الذين استجابوا لربهم و أقاموا الصلاة و أمرهم شوري بينهم و مما رزقناهم ينفقون» الشوري/38...بل ان الشريعة الاسلامية امرت الأبوين عند فطام طفلهما أن يتشاورا في ذلك فيتخذا قرارهما بعد التشاور «فان أرادا فصالا عن تراض منهما و تشاور فلا جناح عليهما...» البقرة/233... علي أنه لا غضاضة في اللجوء الي الاستشارة فانها من معالم سمو العقل و من أمارات الرغبة في وزن الامور وزنا دقيقا و مراجعة مقدماتها مراجعة شاملة. و ما كان أمر الله نبيه بمشاورة اصحابه قائما علي توقع الخطأ و التقصير بل انها الحكمة و هي خير هبات الله لعباده [20] ...

الرسول و المؤمنون...

كان من حصيلة جهاده صلي الله عليه و سلم في الساحتين المكية و المدنية خلال ثلاثة و عشرين عاما ان ثبت الله بالقول الثابت فريقا من المؤمنين من سائر قبائل العرب و فهيم من ذوي قرابة النبي غير قليل و فيهم الرجال والنساء و كان اهل السبق الي الايمان اظهر نصيبا من رضا الله و عظيم اجره و مغفرته. و في القرآن الكريم نجد اكثر من اشارة الي فئة المؤمنين هؤلاء محمودا دورهم و جهدهم و ايمانهم و حسن صحبتهم لرسول الله، و فيما يلي جمهرة من الآيات القرآنية مكية و مدنية في هذا الاطار...«آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و اليك المصير» البقرة/285...في النص صورة لمنطوق الايمان و مفهومه لدي المؤمنين و هو علي حد منطوقه و مفهومه لدي الرسول صلي الله عليه و سلم و انها لشهادة من الله لهؤلاء المؤمنين بصدق ايمانهم لا سيما اذ ذكرهم عند ذكر نبيه و في نفس المقام و الحيز...«ثم أنزل الله سكينته علي رسوله و علي المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها و عذاب الذين كفروا و ذلك جزاء الكافرين». التوبة/26في النص ما يشير الي ان السكينة علي الرسول و علي المؤمنين علي حال سواء مما يستدل به علي استئهالهم هذا اللطف الالهي العظيم...«لكن الرسول و الذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم و أنفسهم و أولئك لهم الخيرات و أولئك هم المفلحون». التوبة/88في هذا النص شهادة بصدق ايمان المؤمنين الذين اتبعوا رسول الله و بحسن جهادهم بأموالهم و أنفسهم و قتالهم في سبيل الله و كانوا من ادوات كسب النصر و الحصول عليه. و قوله تعالي «آمنوا معه» بتثبيت المعية حيث ذكر الايمان يستدل منه علي مواصلة الصحبة و ملازمة الرفقة مما يجعل الايمان قد بلغ في نصاعته الذورة و في رسوخه اعماق النفوس... اجل [ صفحه 79] انهم اصحاب رسول الله من رضي الله عنهم و رضوا عنه...«و قل اعملوا فسيري الله عملكم و رسوله و المؤمنون و ستردون الي عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون»... التوبة/105ان صدق المؤمنين في ايمانهم جعلهم جديرين ان تكون لهم الشهادة علي اعمال شهد الله و رسوله عليها فكانوا هم في جماعة الشاهدين...«بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون الي أهليهم أبدا و زين ذلك في قلوبكم و ظننتم ظن السوء و كنتم قوما بورا». الفتح/12كان خصوم النبي و اعداؤه يلاحظون علي اتباعه المؤمنين الذين يرافقونه و يجاهدون بين يديه صدقهم في طاعته و اخلاصهم له بما يجعلهم يعاملون هؤلاء الاتباع المؤمنين معاملتهم النبي في كرههم الشديد... و لو لم يكن اتباع رسول الله علي هذا المستوي من النصح و الاخلاص و النقاء لما كانت معاملتهم علي هذا الوجه...ان اصحاب رسول الله الذين عايشوا رسول الله اكتسبوا من هذه المعايشة و المرافقة خيرا جد كثير و اذا كان هناك من نخر النفاق في قلبه فأولئك وضح امرهم و خذلهم الله كل خذلان...«محمد رسول الله و الذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجد يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود...»الفتح/29في النص تقييم كبير لاصحاب النبي من حيث جاءت صفتهم في النص بأنهم اشداء علي الكفار و انهم رحماء و لذلك في مجال العلاقات الشخصية و الاجتماعية... اما في مجال العلاقات الخاصة بين العباد و بين خالق العباد فانهم كانوا مستمسكين بالدين يؤدون فرائضه علي أتم وجه... اما قوله تعالي «سيماهم في وجوههم من اثر السجود...» فان للايمان سحنته في وجوه المؤمنين اذ يطفح عليها البشر و الرضا باقدار الله و التفاؤل بما يتمنون ان يكتبه الله لهم في الدينا و في الاخرة...ان وجوه نبلاء الناس و كرمائهم غير وجوه اخسائهم و لؤمائهم. لقد كان هؤلاء بشدتهم علي الكفار و رسوخ الرحمة في نفوسهم تجاه المؤمنين مصدر انتصار الاسلام و وصوله الي سائر افاق العالم و ما تزال البشرية التي تؤمن بالله و رسوله و تتمسك بعري الاسلام في سائر انحاء العالم اليوم هي من آثار فضل اولئك الاتباع المؤمنين الذين تذوقوا حلاوة الايمان في رفقة رسول الله و اصابوا من الهدي و التقوي علي يده صلي الله عليه و سلم ما جعلهم من الخالدين... فصلي الله علي سيدنا محمد بن عبدالله و رضي عن آله و صحبه و من تبعهم باحسان الي يوم الدين...الخصائص الذاتية للرسول...«فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل علي الله ان الله يحب المتوكلين» آل‌عمران/159.في هذا النص تنويه بجمهرة من الخصائص الاخلاقية العالية التي اتصف بها الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم منها أنه كان هينا ولينا للناس علي اختلاف مشاربهم و سلوكياتهم و جعل الله ذلك من بعض رحمته التي اولاها الله نبيه كما اولاها الناس ايضا و منها - و قد يكون من بعض معاني اللين - أنه صلي الله عليه و سلم لم يكن فظاه و لا غليظ القلب مما لو كان فيه من ذلك شي‌ء لنفرت منه الناس و لما اقبلت عليه بالمودة و التعاطف و في ذلك دلالة واضحة علي أن الرسول صلي الله عليه و سلم كان محبوبا من غالبية ابناء الامة و افراد المجتمع... و لذلك وصي الله نبيه بالتسامح في معاملة القوم جزاء مودتهم و سلامة قلوبهم و امره بالعفو عن هنات يقعون فيها كما امره بالاستغفار [ صفحه 80] و هو فضيلة من فضائله كما أن الله وصي نبيه بمشاورتهم اذا حزبه أمر فان خير المشاورة مشاورة برءاء النفوس الذين خلت صدورهم من الحقد و النفاق فان هؤلاء يدلون بالنصيحة علي وجهها الذي تتمثل فيه النصيحة و القول السديد...و من خصائصه الذاتية فرط حيائه و قد اشار القرآن الكريم الي شي‌ء من ذلك «ان ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم» الاحزاب/53.و قد اشرنا الي حياء النبي في باب اخر من هذا الكتاب. و من مزاياه الذاتية و سماته و خصائصه سمو ذوقه و حسن تقديره لمحاسن الاشياء و لا سيما أمارات الجمال و ملامحه. و في قوله تعالي «و لا أن تبدل بهن من ازواج و لو أعجبك حسنهن» الاحزاب/52 و في ذاك اشارة الي ان الرسول الاعظم كان سوي التكوين البشري بحيث كان يتمتع بذوق متكامل و سلامة تقدير و حسن تمييز بين منازل الجمال و القبح و ذاك لا يكون الا لدي من تألق الذوق فيهم و نضجت اريحيتهم و طاب مذاق الحياة في نفوسهم... ان الاعجاب بملامح الحسن في النساء دليل اكتمال شخصية الرجل كما ان في ذلك دلالة علي سوية من يكون كذلك و علي درايته بالنهج الانساني العام في تقدير مثل هذه الامور...ان النبوة لا تحطم في الانبياء معالم الحياة و لا تبعدهم عن مصادر الذوق و لا تطفي‌ء فيهم الحس الوجداني الذي يميز اسوياء البشر عن غيرهم... فالانبياء مأذون لهم ان يتزوجوا و ان ينجبوا و ان فيهم و من كان نبيا و كان أبوه نبيا و جده. و في زواج النبي من امرأة ما يتوصل اليها به من طريق الاعجاب بحسن تلك الزواجة و بأهليتها للاقتران بذلك النبي... و حكاية الحسن منظور اليها في هذه الامور... و كان النبي معروفا بتذوق اطايب الطعام و التلذذ بذلك رغم تواضعه و اكتفائه باليسير من الطعام بحكم ما كان مجبولا عليه من القناعة و الرضا برزق الله... و من خصائصه صلي الله عليه و سلم و سماته الخلقية ما جاء في سورة المدثر من قوله تعالي:«... و ثيابك فطهر. و الرجز فاهجر [21] . و لا تمنن تستكثر. و لربك فاصبر» المدثر 7/4... فلقد نزلت هذه الآيات والرسول في اول ايام تنبيئه برسالة النبوة و قد لجأ الي الفراش و الادثار من فرط البرد يومذاك قال الفلكيون ان ايام المبعث النبوي كان في شهر شباط من ذلك العام و كانت تلك الايام قارسة البرد، و المهم ان ما جاء في النص من تطهير الثياب و عدم المن بالاستكثار و هجر الرجز و ما الي ذلك من الصفات و المآثر التي كان النبي يتصف بها قبل النبوة... يدل علي ذلك ما كانت قالته خديجة لرسول الله اذ ذكر لها نبأ الوحي الذي نزل عليه في غار حراء فانها قالت له: انك لتحمل الكل و تعين ذا الحاجة و تشيع المعروف... و ما جاء في نص السورة من اوصاف و أوامر الهية انما يقع علي الاتفاق بين خلقه صلي الله عليه و سلم بشريا من قبل النبوة و بين ما احتوت عليه تعاليم النبوة من مكارم الاخلاق و محامد الخصال و رشيد الاعمال. فتطهير الثياب و هجر الرجز و ما يومي‌ء ذلك اليه من القيم التي ثبتتها الآية الكريمة... فهي اذن من بعض صفاته صلوات الله عليه و قد اراد الله تذكيره بها و استمراره عليها لانها ان كانت قبل النبوة من شمائل الرجال فانها بعد النبوة من خصائص الانبياء... و ان مهمة النبوة مهمة غير يسيرة فهي جهد عظيم و قراع رهيب في ساحة من أشد الساحات خطرا و اوسعها جولانا. فالرسل جميعا منتدبون لاعمال عليهم أن يؤدوها مهما كان عبئها شديدا و رسول الله واحد منهم... [ صفحه 81]

امية النبي الامي

كان العرب اميين «هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم» الجمعة/2 الاميون بالمعني اللغوي هم الذين لا يقرأون و لا يكتبون «و منهم اميون لا يعلمون الكتاب» البقرة/78 بل ان العالم كله او معظمه كان اميا لا سيما عوام الناس و سائر افراد الشعوب الا الكهنة و من ماثلهم من الحكماء. و ذاك أن الامية أمر طبيعي حني لا يكون ثمة ما يكتب و يقرأ لا سيما اذ كانت الحضارات ايام بعثه صلي الله عليه و سلم قد انهارت و انقرضت بفعل انصراف الامم و الشعوب القديمة الي الحروب الطاحنة و الغزوات المدمرة ان الامية لم تكن في تلك العهود عيبا او منقصة او تتخذ منها كلمة ثلب لاحد بل كانت اذا ذكرت يراد بها ذكر واقع الناس و الامم... بل ان من لم يكن اميا و كان يقرا و يكتب لا يجد في ذلك ما يحمله علي المباهاة و المفاخرة.علي ان وجود الذكاء و النباهة لدي اولئك الاجيال كان يعوض بعض التعويض في حياتهم اليومية عن حاجتهم الي القراءة و الكتابة...ان حروف الكتابة اشبه بأرقام الحساب يعرفها من يعرفها فان كان فقيرا مملقا فان معرفة تلك الارقام لا تجد به نفعا.«و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك اذن لارتاب المبطلون»... العنكوبت/48كان للكتابة في الجاهلية وجود لا مجال لانكاره ولكنه كان من كماليات الاشياء و مزوقات الصفات و لم يكن تعلم القراءة و الكتابة بالامر الهين اذ كان يتطلب نفقات كبيرة و تفرغا و متابعة مستمدين، كما ان متعلم القراءة و الكتابة اذا لم يجد مجالا لممارستها فانه سينسي الكثير مما تعلمه منهما و لم تكن البيئة العربية يومذاك بيئة تأليف و تدوين و مكاتبات و مراسلات لذلك كان معظم رجال العرب غير عابئين بتعلم القراءة و الكتابة، كما ان الاعتماد علي الذكاء و الفطنة و قوة الحفظ لديهم كان يصرفهم عن التفكير في الكتابة و تثبيت المعلومات التي لو كتبوها لم يجدوا من يقرأها و كانت تتجلي مزية الرجل فيهم لا سيما الرواة و الخطباء و الشعراء بالذهنية التي تستوعب الكثير من اخبار التاريخ و القصائد و ما الي ذلك بل بلغ الامر بهم ان اتهموا من يكتب بفساد المعلومات التي يكتبها و من هنا جاءت كلمة التحريف الذي يعني تغيير الالفاظ عن مواضعها و تشويه مقاصدها و انما جاء اللفظ من استعمال الحرف في الكتابة و مثل ذلك كلمة التصحيف التي جاءت من استعمال الصحف و ما يزال الناس عندنا يتسخفون بمن يكتب الاشياء البسيطة في ورقة او كتاب. و لم يكن النبي صلي الله عليه و سلم و قد مات كافله الذي هو جده عبدالمطلب في سن من الصغر مبكرة بالقادر علي ان يجد فرصة للتعلم علي ان فكرة تعليم الصبيان لم تكن معروفة يومذاك و لا كان النبي صلي الله عليه و سلم متيسرا له ان يتعلم الكتابة ايام كفالة عمه ابي‌طالب اياه لا سيما بعد اضطراب الاحوال المعاشية علي عمه و قد اشتغل النبي صلي الله عليه و سلم برعي الاغنام و لم يكن مثل ذلك مما يسمح بالقراءة او الكتابة او يتطلبهما و عندما اختير للاعمال التجارية التي كانت لخديجة كان الاوان قد فات علي حكاية القراءة و الكتابة علي انه يبدو ان التجار يومذاك لم يكونوا يتخذون السجلات لضبط امورهم التجارية اذ قد يكون العمل التجاري عندهم ذا طبيعة سرية يتكتمون فيها.و كانت عادة الامانة و الثقة تمنعهم من كتابة الديون و تحديد مواعيد تسليمها لولا ان القرآن الكريم كان اول من امر بذلك «يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الي أجل مسمي فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل و لا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله...» البقرة/282... و النقطة الثابتة ان التجارة يومئذ لم تكن خاضعة لموافقات جهات رسمية بحيث تتطلب الاجازات و اتخاذ الاضابير و كتابة اسماء المنشأ التجاري كما ان العملات لم تكن يومذاك تمر بظروف الصيرفة المعروفة ليصار امرها الي التسجيل و التثبت. و معظم ما نشأ في ظل الحضارة الاسلامية فيما بعد من اعراف تجارية و ما اشبه ذلك لم يكن معهودا عند العرب ايام جاهليتهم...و خلاصة ما قلناه هو أن النبي صلي الله عليه و سلم كان أميا لا يقرأ و لا يكتب و لو كان قد عرف بالدراسة [ صفحه 82] و القراءة و الكتابة مع ادعاء الامية بعد النبوة لو وجه بذلك و في القرآن الكريم قوله تعالي «و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك اذن لارتاب المبطلون»... و كلمة المبطلين كانت تشمل جميع من دعاهم النبي صلي الله عليه و سلم لرسالته اول الامر و قد نقل القرآن اقوالهم في النبي و كان ظاهرا فيها التعسف و الافتئات و الكذب فهم حين ذكروا النبي بانه ساحر و شاعر و كاهن فان كل هذه الصفات لم تكن لها أية صورة في حياته اليومية و لم نجدهم قالوا انه كان يقرأ و يكتب ولكنهم نسبوا الي رجل اعجمي انه كان هو الذي يعلم البني، و قال القرآن في ذلك «و لقد نعلم أنهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون اليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين» النحل/103...ان النبي صلي الله عليه و سلم لو كان يقرأ و يكتب لجاهره بذلك الذين يعلمون أنه يقرأ و يكتب بل لصرح من علمه القراءة و الكتابة بأنه هو الذي علمه القراءة والكتابة...و قد اتخذ النبي كتابا للوحي و الرسائل كما انه حث نفرا من الصحابة علي تعلم بعض اللغات الشائعة في ذلك الزمان اما دعوته للامة الي تعلم القراءة والكتابة فأمر ثابت. و رغم ان الاعتماد علي تلاوة القرآن كان من طريق استظهاره فان النبي حرص علي كتابته و كان هذا معروفا في سياسته القرآنية صلي الله عليه و سلم بحيث تولي عثمان بن عفان تحقيق هذه المهمة اذ ألف لجنة من كتبة الصحابة كتبوا القرآن كله و اتخذوا منه عدة نسخ و زعت علي الآفاق الاسلامية المعروفة و قد استغرق ذلك بضع سنين... و من المعلومات البديهية في موضوع القرآن الكريم أنه مؤلف من سور عدتها مئة و اربع عشرة سورة غالبها مكي و كل أياتها كثيرة تجاوز المئتين و بعضها تكون آياتها قليلة في نحو ثلاث آيات. و كان ذلك معروفا منذ العهد المكي. و في صلب القرآن ما يشير الي هذه التسميات اي الآية و السورة.و الكلام علي القرآن الكريم في نظمه و بلاغته و تنسيقه لا يستوعبه بحث موجز و انما هو مما تؤلف فيه الكتب و المطولات. ان امية الرسول صلي الله عليه و سلم مسألة ثابتة انعقد عليها اجماع الامة في جميع ازمنة التاريخ. و لم يكن مثل ذلك ليخفي علي من عايش النبي قبل النبوة و بعدها و لا علي من كان يراقبه صلي الله عليه و سلم مراقبة دقيقة من نمثل احبار اليهود و غيرهم... و الذين يدعون أن النبي كان يقرأ و يكتب يحسبون أن ذلك مما يقدح في صدق نبوته في حين أن النبوة لا يمكن أن يحققها الالمام بالقراءة و الكتابة فما اكثر الذين يقرأون و يكتبون و لا سهم لهم من نبوة او رسالة فان الذين يحسنون القراءة و الكتابة كثيرون ولكنهم لم يظهر فيهم من يملك ما ملكه النبي من الاقتدار علي الاتيان بشريعة حكيمة رشيدة عالجت مشاكل العالم و رسمت لحياة الامم منهجا سليما و سديدا...و في القرآن احكام لم تعرف في شرائع اخري كأحكام المواريث و الزواج و الطلاق و كذلك ما يتعلق بالعبادات من صوم و صلاة و ما الي ذلك من محتوي حين قورن بالديانات القديمة كان اغزر منها عطاءا و اكثر رشادا و أسد منحي في اصلاح الامم و الشعوب... علي أن في القرآن الكريم غيبيات يعد الكلام فيها من قبل كائن بشري مجازفة لم يقدم عليها احد من بني البشر. و في تضاعيف هذا الكتاب ما يوضح كثيرا من هذه النواحي لمن يقبل علي مطالعته بانعام نظر و اهتمام...ان كثافة التعاليم القرآنية و الاحكام المتعلقة بالعبادات و المعاملات التي قام عليها امر الشريعة الاسلامية بحيث كان ذلك سند الدولة الاسلامية الكبري في سائر معاملاتها. أجل ان ذلك لم يكن موجودا في دين سلف و لا شريعة سبقت و لا كتاب مكتوب ليقال ان النبي صلي الله عليه و سلم كان قد قراءه. بل ان التوراة و الانجيل لم يكن شي‌ء منهما معربا الي العربية يو مذاك اذ عربت التوراة في نهاية [ صفحه 83] القرن الهجري لاول. لذلك لا اهمية لادعاء من يدعي أن النبي كان يقرأ و يكتب. لقد وجدنا في آيات المواجهة أن خصوم النبي كانوا يتهمونه بما يظنونه مسقطا لنبوته فلم نجدهم قالوا انه كان يقرأ و يكتب مما نستخلص منه ان امية النبي كانت حقيقة لا يعجج علي مثلها نزاع او جدل او خلاف.

الرسول و العناية الالهية...

في القرآن الكريم اشارات و عبارات يعلم منها ما كان لله عزوجل من عناية تامة برسله و انبيائه منذ كانوا علي عهد الصغر و الطفولة فلقد علمنا اللطف الالهي الذي تدارك الله به موسي عليه‌السلام في قصة كرر القرآن الكلام عليها بما يشبه التفصيل «اذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم علي من يكفله فرجعناك الي أمك كي تقر عينها و لا تحزن» طه/40...والكلام علي ابراهيم عليه‌السلام «قالوا سمعنا فتي يذكرهم يقال له ابراهيم» الانبياء/60 و كذلك كان لطف الله جل و علا قد اسبغه الله علي محمد بن عبدالله الذي ولدته امه و كان ابوه قد مات قبل ان يري ابنه فكان الله عزوجل قد عوض عن ابيه بجد جليل القدر هو عبدالمطلب و عم بار هو ابوطالب و في سورة الضحي جاءت الاشارة التي ينوه بها النص القرآني قوله تعالي:«و الضحي و الليل اذا سجي. ما ودعك ربك و ما قلي. و للاخرة خير لك من اولي. و لسوف يعطيك ربك فترضي» الضحي 5/1... القسم هنا قائم علي ظرف تتفتح الاضواء فيه بحيث يري فيه كل شي‌ء جهرة و علي نقيضه و هو الظلام الدامس الذي يلف الليل فلا يظهر فيه لعين الرائي ما كان يظهر علي ضوء النهار. و هو يدل علي عهد من الله بانه لم ينصرف عن عبده محمد و لا كان بقاليه و تاركه. و قوله تعالي «و للاخرة خير لك من الاولي» و هو و ان كان امرا خالصا برسول الله فان فيه اشارة الي ان ما يقع للعبد من بعض اقدار الله و هموم الحياة و شدائد الايام فانه معقب بما هو خير و رخاء فالفرج أبدا يأتي في اعقاب الشدة فان ذلك في عالم الحياة يكون به للفرج مذاق ملحوظ بالذوق الحسي و المعنوي فيكون لوجوده اكثر من جوده...و قوله تعالي «و لسوف يعطيك ربك فترضي». و هذا نص صريح بوعد وعده الله نبيه محمدا بن عبدالله اذ تعهد له بالعطاء الكثير الذي يرضاه. و في هذا النص معني الاسترضاء الذي لا نقول انه في معني الاعتذار و ذلك لان الله لا يعتذر لاحد. ولكنه فيه يعني الاستلطاف و حسن البشارة و قد اقترن الوعد بلام التوكيد و في ظلل هذا الوعد الالهي القاطع كان التفاؤل ابدا يسود حياة النبي اليومية في صدد ما يعطيه الله و ما يرضيه. و قوله تعالي «فترضي» جاءت الفاء و كأنها تعني معني «حتي ترضي» امعانا في رعايته تعالي لرسوله الاعظم و مبالغة في الاعتزاز به و تكريمه الذي هو حقيق به و اهل له صلي الله عليه و سلم، اما (سوف) فلأنها قرنت بلام التوكيد فقد زالت مظنة التسويف منها و صار يراد بها الوعد الحق القاطع.«ألم يجدك يتيما فآوي. و وجدك ضالا فهدي. و وجدك عائلا [22] فأغني» الضحي 8/6...ان في هذا النص استدلالا علي واقع تارخي مشهود اراد الله اقراره و لفت النظر اليه، و لقد كان النبي يتيما حقا - و يتم الايتام كثير في الناس - فكان ايواء الله اياه كائنا في ايواء جده و حسن تربيته و حدبه البالغ عليه فان عبدالمطلب جده كان قد استدعي عددا من شهيرات القوابل في بطاح مكة فأشرفن علي ولادته اشرافا يلاحظ فيه من الأبهة و المبالغة في العطف و الحنان ما فيه... و راح عبدالمطلب يبعث وراء حليمة السعدية مرضعة الاسرة فراحت تحتضن النبي فتحمله الي اهلها فترضعه في مضارب بادية بني [ صفحه 84] سعد من بوادي العرب المعروفة بالفصاحة و طيب المناخ...و كان عبدالمطلب يكثر من اكرامها و اغداق الرعايه عليها ثم كان من امر عمه ابي‌طالب ان تولي رعاية ابن اخيه بعد وفاة الجد الجليل القدر و الكبير الشأن. اما قوله تعالي «و وجدك ضالا فهدي». فانه يعني ان النبي كان حاله كحال من لا دين له فجعله الله علي رأس دين من خير اديان السماء... و هو الاسلام...و مر النبي بهذه الحالة التي اراد الله بها ترويضه علي تحمل لون من اقسي الوان الحياة هو الفقر ثم اكرمه الله بما صرف عنه ضائقة ذلك الفقر و لا يعني هذا انه صلي الله عليه و سلم صار من مشاهير الاغنياء و الموسرين فان ذلك ليس من مفاخر الرجال و لا من اسباب عظمة كرام الناس و اجلائهم و لعل زواج النبي من خديجة ملحوظ في هذا النص اذ كانت خديجة ذات غني و يسار و كان الرسول يعمل في تجارتها التي كانت رابحة غير خاسرة... و قد جاء ذلك في سورة الضحي التي بدأها الله بالقسم الظاهر الذي اقسمه علي انه لم يكن قد ودع النبي أي تركه و لا قلاه اي اهمله و جاءت تلو ذلك انه وعده ببشارة عظمي هي قوله تعالي «و للاخرة خير لك من الاولي» فكان ذلك كذلك و صار محمد رسولا منه تعالي الي خلقه بل كان خاتم انبيائه و رسله...ان عناية الله بالرسول الاعظم ظلت ابدا تتولاه صلي الله عليه و سلم في كل مرحلة من مراحل حياته و في كل فترة من فترات وجوده. و في كتابنا اكثر من نقطة و اكثر من خط علي هذه المنة العظيمة التي عاش النبي في ظلالها و تمتع بالكريم من افيائها فكان الي اخبر لحظة من لحظات حياته يعلن عبوديته التامة لله و اخلاصه و ولاءه لرب العالمين اذ اسبغ عليه ربه من نعمه ما لم يسبغه علي احد من العالمين و عند ملاحظة ما جاء من آيات «الضحي» عند ختام السورة «و أما بنعمة ربك فحدث» فلقد وصي الله نبيه بان يتحدث بما اضفاه عليه من بالغ نعمه و عظيم كرمه ما اتاه من النبوه ما ناطه به من مهمة اصلاح الامة و اخراج الناس من ظلمات الكفر الي نور الايمان.و قبل ايصائه بالتحدث بالنعمة الالهية عليه جاءت التوصية برعاية اليتيم «فأما اليتيم فلا تقهر» و باجابة السائل الملحاح الذي يسكب ماء وجهه من اجل الحصول علي لقمة العيش «و أما السائل فلا تنهر». ان التحدث بنعمة الله لا يعني اللهج بتفاصيل ذلك بالسرد التاريخي و الواقعي و انما يراد به اللهج بشكران الباري‌ء علي ما كان من ذلك من احاطة عبده بكل أسباب اللطف و التكريم.لقد كان النبي صلي الله عليه و سلم حقا محل لطف الله به بدءا و ختاما و مما يعد من بعض عناية الله لنبيه ما جاء من الايات التي تشير الي حالة النبي في معاملة قومه له بما يضجر و يؤذي. ففي القرآن الكريم «و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا» الاسراء/74... فلقد كان قومه آخذين بالتضييق عليه يريدونه ان يستجيب لامرهم و توجيههم ولكن الله كان يحيط النبي بكل حماية و رعاية و صيانة. و كان الله ابدا يتدارك انبياءه و رسله من جسيم الاخطار و الشدائد. و في القرآن من الاشارات الي ذلك ما يلاحظ في كثير من سوره و آياته...

المتابعة الالهية...

في القرآن الكريم ما ينوه بان الله يتابع حركات نبيه و سكناته متابعة لطف و رفق و يلاحظ ذلك في بعض ما ينزل علي نبيه من القرآن من مثل قوله تعالي «ان ربك يعلم أنك تقوم أدني من ثلثي الليل و نصفه و ثلثه و طائفة من الذين معك و الله يقدر الليل و النهار...» المزمل/20... و من مثل قوله تعالي «و توكل علي العزيز الرحيم، الذي يراك حين تقوم. و تقلبك في الساجدين. انه هو السميع العليم» الشعراء 220/217... [ صفحه 85] و من مثل قوله تعالي «و اذا تقول للذي انعم الله عليه أنعمت عليه أمسك عليك زوجك و اتق الله...» الاحزاب/37... النعم كلها من الله جل جلاله «صراط الذين أنعمت عليهم» الفاتحة/6... و هنا وصف النبي صلي الله عليه و سلم بالانعام علي رجل انعم الله عليه جل جلاله. و ظاهر في هذا اعطاء نصيب وافر من التكريم للنبي صلي الله عليه و سلم بحيث كان انعامه قرينا بانعام الله جل جلاله و الانعام لا يمكن ان تكون له صورة واحدة فان قوله تعالي «أنعم الله عليه» من دون ذكر شي‌ء عند النظر في ملامح هذا الانعام و مفرداته يدل علي انه انعام متكرر مستديم متفرد به...و من مثل «ان لا تنصروه فقد نصره الله اذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه...» التوبة/40... و من مثل «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي الي الله و الله يسمع تحاوركما» المجادلة/1... و من مثل «قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره» البقرة/144... يلاحظ من هذا سعة الرعاية الالهية التي يوليها الباري‌ء عزوجل نبيه الكريم و المدي العريض للمتابعة الالهية التي يحيطها الله بالرسول الكريم مما لا يعرف له مثل في الموقف الالهي من سائر الانبياء و الرسل...ان في هذا دلالة علي ان الله جعل اعزاز نبيه صلي الله عليه و سلم و اكرامه و تقريبه من ذاته العلية و حفوله الكبير مسألة منهجية مستمدة في معاملة النبي من خلال الوحي و خارجه و ان ملامح ذلك و صوره متناثرة في التنزيل العزيز و متوزعة فيه فلقد كان رسول الله من هذه الناحية يحيا في اجواء الرعاية الالهية محدوبا عليه و مشمولا من ربه العظيم بكل نعمة عظيمة... و من معالم ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالي:«قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبله ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام...» البقرة/144. فان في هذا النص ان الله كان ينظر الي تقلب وجه النبي في السماء و قد اورد ذلك بكلمة «قد» المؤكدة للامر. اذ كان النبي صلي الله عليه و سلم اذ فرضت الصلاة ايام العهد المكي ينجه الي بيت المقدس في صلاته... و من هنا قيل في صفة بيت‌المقدس انه أولي القبلتين ثم قيل فيه انه ثالث الحرمين [23] ... و كان صلي الله عليه و سلم يتمني لو كانت الكعبة هي القبلة لا سيما بعد شخوصه و صحبه الي المدينة في الهجرة المعروفة... و لقد استجاب الله لنبيه استجابة قال فيها جل شأن «فلنولينك قبلة ترضاها قول وجهك شرط المسجد الحرام و حيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره».و كان المسلون طوع هذا الامر اذ انهم عندما نبهوا الي تحويل القبلة و كان فريق منهم في حال صلاة جامعة بادروا الي الاستدارة فورا و في ذلك ما يشير الي ان الامر الالهي بتحويل القبلة من بيت‌المقدس الي الكعبة لقي هوي لدي المسلمين، فان لمكة في نفوس العرب جميعا معني لا يزاحمه من أرض الله و بقاع دنياه شي‌ء. لقد كان اقتراح النبي علي ربه في صدد تحويل القبلة. و الموضوع في ذلك موضوع عبادة و صلاة قد حاز قبولا عند الله اكرم به نبيه و نفذ له مقترحه ورد للكعبة اعتبارها القديم اذ اجمعت العرب منذ جاهليتها علي النظر اليها نظرة سامية عالية. و قد جرت تسميتها بلفظ «بكة» عدولا عن اسمها الشائع «مكة» لانها كانت ما تزال غير آئلة الي حظيرة الاسلام و كذلك من اجل عدم اثارة حنين المهاجرين الهيا. و ان تسميتها بالمسجد الحرام معروفة عند [ صفحه 86] المسلمين علي اعتبار ذلك مما ستؤول اليه هذه البلدة الكريمة العظيمة لن احتضان الاسلام و الانتماء اليه...و قوله تعالي «قد نري تقلب وجهك في السماء» يدل علي ان النبي صلي الله عليه و سلم كثر تقلب وجهه في السماء علي جهة يفهم منها فرط حرصه و تعاظم رجائه و تكرر توسلاته و وقوفه مكان اللائذ بلطف الله و عون الله في تحقيق رجائه هذا... و مما يدخل في اطار المتابعة الالهية قوله تعالي «قد نعلم انه ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون» الانعام/33... فان الله جل شأنه اذ يتابع موقف الناس من رسوله فانه شهد انهم لا يتهمونه بالكذب لانهم لم يسجلوا عليه من ذلك شيئا قل او كثير فهو الصادق الأمين منذ ايام شبابه الي ايام مبعثه رسولا الي قومه و من وراءهم من الاقوام...لقد كان النبي صلي الله عليه و سلم يعمل في تجارة خديجة قبل الزواج منها و بعده. و مجال التجارة مجال تبرز فيه المزالق و تظهر فيه سلوكيات يتنبه الناس اليها ان كانت حسنة او كانت غير حسنة. و التجارة همزة وصل بين من يعمل في حقلها و بين من يتعامل مع ذويها بغض النظر عن الديانات و المعتقدات و مراتب الناس و قد يكون فيهم الغريب و الساذج و الضعيف و الحر و الرقيق و الغافل ممن يتعرضون لتعامل فيه خروج علي المألوف و المعتاد في تعامل ذوي الغني و القوة و الشأن و القرابة و غير ذلك... فقد اجتاز النبي هذه المرحلة الحرجة و هو في رأي الناس كلهم صادق و امين و نزيه و كما قلنا لقد شهد الله علي تنزيه الناس رسوله من انه لم يكن محل تكذيب احد منهم و لا محل اتهام و لا شك في تمتعه بالفضائل و الكمالات التي يحمد عليها المتصف بها و التي لا ينساها من تعرف عليها و كان قريبا منها و هي اي فترة التجارة هذه لم تكن مما يعد بالاشهر بل كانت تعد بالاعوام الطوال...و في القرآن الكريم «... و يوم حنين ا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين» التوبة/25... و فيها تصوير لحالة الادبار و الكثرة التي وقع اعجاب القوم بها و ما الي ذلك من المشاهد التي جاء بها النص و المتابعه هنا كائنة و قائمة...و من المتابعة الالهية قوله تعالي «و اذ غدوت من أهلك تبوي‌ء المؤمنين مقاعد للقتال و الله سميع عليم» آل‌عمران/121... فان غدو النبي من بيته للقيام بمهمة التسويق العسكري اشار اليه الله و هي اشارة تعني تقدير الموقف و ان علم الله به يتبعه عونه تسديد التحرك فيه و قرن عاقبته بالنجاح و التوفيق...و من آيات المتابعة قوله تعالي «اذ تصعدون و لا تلوون علي أحد و الرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا علي ما فاتكم و لا ما أصابكم و الله خبير بما تعملون» آل‌عمران/153... فان الله ينبي‌ء الرسول بأنه كان يشهد موقفه في المعركة اذ انفضوا عنه و هو ثابت القدم يدعوهم ان يرجعوا اليه لكسب المعركة و اشعار الله نبيه بأنه كان يراه في هذه الحالة يدل علي فرط حفول الباري‌ء به صلي الله عليه و سلم...و من آيات المتابعة قوله تعالي «ان الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، و لو أنهم صبروا حتي تخرج اليهم لكان خيرا لهم و الله غفور رحيم» الحجرات 5/4... في النص وصف لما وقع من قوم كانوا يتصارخون يخبرون رسول الله بقدومهم عليه من وراء باحات البيوت. اذ ان الحجرات تعني ذلك و لا تعني الغرف في هذا المكان من النص القرآني. فلقد صور الله المشهد علي ما كان قد كان و حكم الله علي اولئك القوم بأن أكثرهم علي جهل و غياب عقل لان تصرفهم لم يكن لائقا و لا مقبولا و لا مرضيا. و قوله تعالي «و لو أنهم صبروا حتي تخرج اليهم» فيه [ صفحه 87] من معاني المتابعة ما يجعلهم لو كانوا قد صبروا لنظر اليهم الله و هم علي حال من الصبر و الانتظار و قد خرج اليهم النبي...و من آيات المتابعة الالهية لاعمال النبي قوله «عفا الله عنك لم أذنت لهم حتي يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين» التوبة/43...بدأ النص بكلمة العفو التي هي هنا كلمة الهية تسقط بها كل مسؤولية، ولكن الله تولي تعليم نبيه و متاعبة اعماله و اقواله التي يتولي تعليم نبيه و متابعة اعماله و اقواله التي يتولي تصحيحها بالوحي و التنبيه علي ما يدق منها و يجل فان ذلك مسألة طبيعية في عالم النبوات فما من نبي لم يصحح الله له تصرفا فعليا او قوليا. و آيات التنزيل صريحة في ذلك لان الحكمة كلها من الله يتابع تلقين الانبياء بها في كل حين. و في كلمة العتاب هذه تعليم للنبي كيف يعمل في مثل هذه المطالب... فقد كان التنبيه منصرفا الي تخطيط القاعدة التي يتم وفقها اجراء ما يجب علي النبي عمله عند الاذن و الاستئذان... و من بالغ لطف الله برسوله انه بدأ القول بالعفو الالهي الصريح عن النبي و لو لم يكن قد بدأه بذلك لما كان فيه من ايذاء للنبي او ما يجب التعزير فيه، ولكن اللطف الالهي المسبغ علي النبي ابدا هو الذي جعل كلمة العفو تسبق ما يشبه العتب في موضوع ذلك الاذن.و في النص تركيز علي ان النبي لا يعلم الغيب و لا تتكشف له اسرار النفوس لان علم تكنه الصدور بين اضلاعها انما هو من اختصاص الله وحده و في النص بيان بان الرسول كان يجتهد في اصدار بعض القرارات علي ضوء المقدمات التي تكون لديه... و في الحديث النبوي الشريف (لعل بعضكم يكون ألحن بحجته فأحكم له و انما احكم له بقطعة من النار...).و فيما اوردناه في هذا الباب كفاية لما اردنا اثباته من أن الله عزوجل كان يتابع تحركات رسوله متابعة عناية و تفقد و رعاية...

القرآن الكريم و قراءته...

القرآن الكريم كتاب الله الذي انزله منجما علي رسوله محمد صلي الله عليه و سلم و قد اودع فيه حقائق الدين و أحكام الشريعة و انباء الرسل و احداث الامم من آمن منها بالله و من جحده و كفر به... و قد استغرق نزول القرآن ثلاثا و عشرين سنة لو راجعها المراجع لرأي فيها مراحل الدعوة الاسلامية و خطوات النبي في مراودة الاحداث و شاهد مواقف الناس في ساحة الدعوة و لاستطاع ان يلم بسائر ما حدث للرسول و هو يدعو قومه الي الله و لرأي رأي العين تمام نصر الله عزوجل... و من اجل ذلك جعلنا القرآن مصدرنا الوحيد في تتبع سيرة الرسول الاعظم محمد صلي الله عليه و سلم... علي ان القرآن قد جاء وصفه في تضاعيف آياته و في طي كلام منزله جل شأنه فهو الذي يهدي للتي هي اقوم علي ما جاء به النص في سورة الاسراء الآية التاسعة «ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا»...و القرآن معدن شفاء الصدور «ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين الا خسارا» الاسراء/82 و هو الذي صرف الله فيه للناس الامثال و العبر و مواقع الموعظة الحسنة «و لقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل و كان الانسان اكثر شي‌ء جدلا» الكهف/54... و هو الذي انزله الله لسعادة البشر «ما انزلنا عليك القرآن لتشقي» سورة طه الآية الثانية... و كذلك جاء فيه النص القائل «و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل...» الروم/58...و لقد لقي القرآن من القوم رفضا و عنادا عن تقبله من غير ما حجة يعلمونها في رفضه علي طبحة موفقهم منه و أحقية انكارهم اياه «و قال الذين [ صفحه 88] كفروا لن نؤمن بهذا القرآن و لا بالذي بين يديه» سبأ/31...كذلك كانت اقاويل القوم في الاعتراض علي القرآن و منها قولهم «لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا» الفرقان/32 و كان من سوء مواجهة القوم للصوت القرآني الذي كان يدخل الي نفوسهم من غير ان يجدوا القدرة علي منع تسربه اليها. «و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون» فصلت/26... و من اعتراضاتهم علي الشخصية التي نزل عليها القرآن قولهم «و قالوا لو لا نزل هذا القرآن علي رجل من القريتين عظيم» الزخرف/31... و كل اولئك من الاقاويل التي لا تنهض حجة لكفار مكة في انصرافهم عنه... و كان القرآن يناقشهم النقاش المنطقي الهادي‌ء من غير أن يدخل و اياهم في مآزق جدلية فارغة من المحتوي المنطقي «أفلا يتدبرون القرآن ام علي قلوب أقفالها» محمد/24. و ما جاء من صفة القرآن في القرآن كان جديرا بترقيق القلوب و اخذها الي الهدي بكل رفق «فذكر بالقرآن من يخاف وعيد» ق/45 و كذلك قوله تعالي «و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» القمر/17... اما قوله تعالي «لو انزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله و تلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون» الحشر/21 فانه نص ذائع الوصف لهذا الكتاب الخالد العظيم و فيه ما يعطيه مكانته التي يستحقها ما بين كتب الله و صفحه و المراد بهذه العبارة البليغة أن للقرآن أثره القوي التأثير في عالم الحياة اذ انه معدن هدي و رشاد و نبع خير و اصلاح و مناط امل و رجاء... و من صفات القرآن المثبتة في آياته قوله تعالي: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس و بينات من الهدي و الفرقان» البقرة/185...ان القرآن كتاب انذار و تبليغ للناس علي اختلافه اماكنهم و ازمنتهم «و أوحي الي هذا القرآن لانذركم به و من بلغ» الانعام/19... و قد امر الله الأمة أن تستمع الي القرآن عند قراءته و ان تنصت اليه كل انصات «و اذا قري‌ء القرآن فاستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون» الاعراف/204... و لتلاوة القرآن الكريم آداب و رسوم جاءت الاشارة اليها في القرآن «فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم» النحل/98... و اذ ان النبي حين كان يقرأ القرآن فان ذلك يغيظ الكفار و المشركين غيظا وراء غيظ و كان الله يعصمه اذاهم و سخطهم و موقفهم العدائي «و اذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا» الاسراء/45. و في النص ان الله يكبتهم و يخذلهم و يروح النبي يتلو كتاب ربه من غير أن يملك خصومه اسكاته و منعه عنه رغم تضجيجهم و لغوهم و استفزازاتهم العدوانية الخائبة و هناك و كان يدلي باقتراحات فاشلة لا تدل علي غير الفهاهة في الجدل و المتاهة في النقاش و المناظرة و من ذلك «و اذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا أئت بقرآن غير هذا أو بدله...» يونس/15.ان جميع الشواهد من دخل القرآن و خارجه تؤكد ان القرآن هو قرآن الله و هو كتابه و وحيه الي رسوله محمد صلي الله عليه و سلم...«و ما كان هذا القرآن ان يفتري من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين» يونس/37 و كذلك نقرأ في القرآن قوله تعالي «افلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» النساء/82... و قد كانت للقرآن طريقة التلاوة سميت الترتيل «و رتل القرآن ترتيلا» المزمل/4... و مثل ذلك «... كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا» الفرقان/33... [ صفحه 89] لقد كان النبي يتلقي القرآن من ربه بوحي منه تعالي يفرغه في قلبه من غير ان يصل الي علم البشر سر ذلك «و انك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم» النمل/6... و التلقي لفظ يعبر به عن ثقل محتوي ما يتلقاه متلقيه... و القرآن ينص علي ان الرسول كان يستقبل الوحي القرآني بدقة تامة و توجيه الهي حكيم «لا تحرك به لسانك لتعجل به ان علينا جمعه و قرآنه فاذا قرأناه فاتبع قرآنه...» القيامة 18/16 و كذلك جاء في القرآن الكريم «و قرآنا فرقناه لتقرأه علي الناس علي مكث و نزلناه تنزيلا» الاسراء/106... اما قوله تعالي «سنقرئك فلا تنسي» الاعلي/6... فانه يعني ان الله ضمن للقرآن السلامة بحسن الاقراء و مراقبته... غير ان قوله تعالي اثر ذلك «الا ما شاء الله» فانه ليس استثناءا في وقوع النسيان عليه و انما هو استثناء مما وعد الله نبيه ان سيقرئه... فان ما يصل الي النبي من شرع الله ليس كله قرآنا متلوا فان هناك ما هو غير متلو و هذا ماعناه الاستثناء في الاية الكريمة... و علي هذا فان قوله تعالي «الا ماشاء الله» فالمراد به - و الله اعلم - انه ما يلقي علي الرسول من امور هي من غير الوحي المتلو مما يريد الله افهام نبيه به علي نحو ما ذكرنا في باب الوحي من ايصال بعض الامور الي النبي من غير القرآن و لذا جاء النص بصيغة «سنقرئك» اذ جعل حكم بعض هذه المسائل حقيقا بالرسوخ في الذهن علي حجم ما فيها من معان و معلومات اراد الله لنبيه ان يلم بها...اما ما يكون من الامور التي يطلع الله رسوله عليها مما هي خارج اطار الوحي فان فيها ما يؤدي مهمة آنية يقتضيها ظرف آني و لذا قال تعالي «سنقرئك فلا تنسي. الا ما شاء الله» ما لا نقرئكه، فما اقرأناك فانا نريد له البقاء لانه محل الانتقاع و المراجعة و ما لم نشأ قراءته عليك و هو الذي قد يكون فيه ما لا يراد له البقاء. و المشيئة الالهية هنا في الاقراء و عدمه و ليس في النسيان و عدمه...قلنا و ليس في هذا مما يدخل في حيز الآي القرآني شي‌ء... و السورة مكية و هي كذلك من قصار السور فلو كان المراد بقوله تعالي «سنقرئك» - ان يقرئه القرآن - فان التحذير من النسيان لا يكون من نسيان قصار السور كما انه صلي الله عليه و سلم غاية في النباهة و الذكاء و الفطنة و قد جاء بقرآن فيه الألوف الكثيرة من الايات فكان حافظا ذلك أدق الحفظ و قارئا اياه في المجتمعات يتحدي به اهل الارض جميعا بل ان حفظ القرآن بكل دقة و ضبط نراه علي عهدنا هذا لدي كثير من المكفوفين الذين لا يتميزون بذكاء خاص فان في حفظهم اياه دليلا علي امكانية حفظه من قبل كل ذي رغبة في حفظه و استظهاره و تلاوته من غير تقصير في شي‌ء من ذلك... و استعدادات الحفظ لدي الصبيان و غيرهم ثابتة و مشهودة... و كان علي عهده صلي الله عليه و سلم آلاف من الصحابة يستظهرون القرآن فليس في استظهاره ما يعد من المعجزات لذا لا يقبل قول من قال من تفسير قوله تعالي «فلا تنسي الا ماشاء الله» اي ان النسيان كان يعرض للنبي و قوله تعالي «انه يعلم الجهر و ما يخفي» دليل قاطع علي ان المقروء ليس قرآنا و ان ما استثناه الله مما قد ينسي هو من هذا الباب اي من باب «انه يعلم الجهر و ما يخفي» و في ذات السورة «و نيسرك لليسري. فذكر ان نفعت الذكري. سيذكر من يخشي» في النص أمر أمر به الباري‌ء رسوله قائلا له «فذكر ان نفعت الذكري». و التذكير هنا قد يكون بالقرآن و قد يكون بما وراء القرآن و بما علم الله نبيه من امور الدين كل ذلك يقوله النبي عند مخاطبة الناس خلال وعظه و ارشاده و خطبه... [ صفحه 90] و علي هذا يكون قوله تعالي «سنقرئك فلا تنسي» مما لا يعد من الآيات و السور و النصوص القرآنية المقروءة. فلو كان ذلك كذلك لما ورد في النص «فلا تنسي الا ماشاء الله» و ذاك لان الله اذ ينزل النص القرآني لا يعقبه بما يشكك فيه و يقضي برفعه و الغاء حكمه لان الله تعهد بتثبيت دينه و حفظ قرآنه و اذا كان الله يوصي النبي بقوة الحفظ فكيف يعمد الي استثناء ما ينسي من وحيه «سنقرئك فلا تنسي الا ماشاء الله...»ان قراءة القرآن الكريم من الاوامر المرجحة و العبادات الخالصة داخل الصلاة و خارجها و قد أمر المسلمون بقراءة القرآن و تلاوته. و الرسول كذلك دعي الي قراءة القرآن لتكون قراءة سبيلا لا يصاله الي الناس قصد التبليغ و الدعوة الي الدين في سائر الاوقات من غير تحديد زمن ذلك فيما يقرأ منه خارج الصلاة... و لقراءة القرآن عند القائه الي النبي توجيه الهي من اجل ضمان سلامته. و كان اول ما نزل من القرآن نزل مبدوءا بمخاطبة النبي بلفظ «اقرأ» لبيان ان أعمدة الشريعة ستقوم علي أمر القراءة و علي ان هناك قرآنا سينزل علي النبي يعمد الي قرائته و يفرض ذلك علي الامة اذ انه لا تصح الصلاة الا به... و ذاك قوله تعالي «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ و ربك الاكرم الذي علم بالقلم» العلق4/1 و انما ذكر القلم هنا لبيان ان القراءة انما تكون في امور هي من عطائه...و للقرآن اكثر من اسم و لقب اذ يقال (القرآن الكريم. القرآن المجيد. التنزيل العزيز. الذكر الحكيم. الفرقان. الكتاب. المصحف الشريف) و من القرآن و محتواه الغزير العطاء و الكثيف المادة أستخرجنا تفاصيل سيرته صلي الله عليه و سلم فبثثناها علي عناوين و فصول و ابواب جاء منها هذا الكتاب...الله و الرسول...

الله والرسول

الرسول الاعظم اذ ارسله الله نبيا و رسولا الي العالم انما هو متكلم باسم مرسله و ناطق بكلام ربه و لذلك فان طاعة الناس اياه طاعة لله. معصيته معصية لله و هذا أمر بديهي في أمر الرسالات ولكن الرسول الاعظم نال من ربه منزلة عظمي اذ جاء ذكره في القرآن الكريم تبعا لذكر الله بل ان الله اورد اسم نبيه بعد اسمه في مواقع ظاهر فيها أن الله اراد تكريم نبيه و اجلاله و رفع ذكره و اعزاز شأنه في مثل قوله تعالي «اذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه» الاحزاب/37 و مثل «الا أن أغناهم الله و رسوله من فضله» التوبة/74 و مثل ذلك «فان تنازعتم في شي‌ء فردوه الي الله و الرسول» النساء/59... و قد جعلت طاعة الرسول طاعة الله «و من يطع الرسول فقد اطاع الله» النساء/80... و اذ كانت خيانة الله كبيرة منهيا عنها فان خيانة الرسول هي كذلك «لا تخونوا الله و الرسول» الانفال/27. و جعل الله للرسول حصة في الغنائم مقرونة بحصة الله «فان لله خمسة و للرسول» الانفال/41... و جاء ذكر الايمان بالرسول مقرونا بالايمان بالله «و يقولون آمنا بالله و بالرسول» النور/47... و هددهم الله بحربه كما هددهم بحرب رسوله و هذا منتهي التكريم لشخص النبي اذ جعله ذا قوة يملك المحاربة بها «فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله» البقرة/279. كما عد حرب رسوله امرا معاقبا عليه بما يعاقب به من يحارب الله «انما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا...» المائدة/33...و كذلك جعل الله الهجرة الي رسوله كالهجرة اليه عزوجل «و من يخرج من بيته مهاجرا الي الله و رسوله» النساء/100...و جعل ولاية الرسول كحكم ولاية الله «انما وليكم الله و رسوله...» المائدة/55... و جعل مشاقة الرسول كمشاقة الله «ذلك بأنهم [ صفحه 91] شاقوا الله و رسوله و من يشاقق الله و رسوله فان الله شديد العقاب» الانفال/13...و فيما يلي سرد للايات التي جاء فيها أسم الرسول و قد ألحق باسم الله و قرن به لبيان عظمة مركز الرسول عند ربه. و انما كان للرسول عند ربه هذا المركز اذ كان الله عزوجل قد صير منه شخصية متميزة جديرة بكل ثقة و تقدير و تكريم.«فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله و ان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون لا تظلمون [24] ... البقرة/279«قل أطيعوا الله و الرسول فان تولوا فان الله لا يحب الكافرين» آل‌عمران/32.«و اتقوا النار التي اعدت للكافرين. و أطيعوا الله و الرسول لعلكم ترحمون»... آل‌عمران 132/131«الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم» آل‌عمران/172...«تلك حدود الله و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها و ذلك الفوز العظيم. و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين»... النساء 14/13«يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الامر منكم فان تنازعتم في شي‌ء فردوه الي الله و الرسول ان كنتم تؤمنون بالله و اليوم الاخر ذلك خير و أحسن تأويلا»... النساء/59«و اذا قيل لهم تعالوا الي ما أنزل الله و الي الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا»... النساء/61«و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا»... النساء/69.«من يطع الرسول فقد أطاع الله و من تولي فما ارسلناك عليهم حفيظا»... النساء/80«و من يخرج من بيته مهاجرا الي الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره علي الله و كان الله غفورا رحيما»... النساء/100«يا ايها الذين آمنوا آمنوا بالله و رسوله و الكتاب الذي نزل علي رسوله و الكتاب الذي أنزل من قبل و من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا»... النساء/136«انما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الارض فسادا أن يقتلوا او يصلبوا أو [ صفحه 92] تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض...» المائدة/33...«انما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون، و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون»... المائدة 56/55.«و اطيعوا الله و أطيعوا الرسول و احذروا فان توليتم فاعلموا أنما علي رسولنا البلاغ المبين»... المائدة/92«واذا قيل لهم تعالوا الي ما أنزل الله و الي الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون»... المائدة/104«قل يا أيها الناس اني رسول الله اليكم جميعا الذي له ملك السماوات و الارض لا اله الا هو يحيي و يميت فآمنوا بالله و رسوله النبي الامي الذي يؤمن بالله و كلماته واتبعوه لعلكم تهتدون»... الاعراف/158«يسألونك عن الانفال قل الانفال لله و الرسول فاتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم و أطيعوا الله و رسوله ان كنتم مؤمنين»... الانفال/1...«ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاقق الله و رسوله فان الله شديد العقاب»... الانفال/13«يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و رسوله و لا تولوا عنه و أنتم تسمعون»... الانفال/20«يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول اذا دعاكم لما يحييكم و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه و أنه اليه تحشرون»... الانفال/24«يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله و الرسول و تخونوا أماناتكم و انتم تعلمون»... الانفال/27«و اعلموا أن ما غنمتم من شي‌ء فان الله خمسة و للرسول ولذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل ان كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا علي عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان و الله علي كل شي‌ء قدير»...الانفال/41«و أطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا ان الله مع الصابرين»... الانفال/46«براءة من الله و رسوله الي الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الارض أربعة أشهر و اعلموا أنكم غير معجزي الله و ان الله مخزي الكافرين» [25] ... التوبة 2/1«و أذان من الله و رسوله الي الناس يوم الحج الاكبر أن الله بري‌ء من المشركين و رسوله فان تبتم فهو خير لكم و ان توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله و بشر الذين كفروا بعذاب أليم»... التوبة/3«كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله الا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ان الله يحب المتقين»... التوبة/7 [ صفحه 93] «أم حسبتم أن تتركوا و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و لم يتخذوا من دون الله و لا رسوله و لا المؤمنين وليجة و الله خبير بما تعملون»... التوبة/16«قل ان كان آباؤكم و أبناؤكم و اخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب الله اليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتي يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين»... التوبة/24«قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتي يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون»... التوبة/29...«و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم الا أنهم كفروا بالله و برسوله و لا يأتون الصلاة الا و هم كسالي و لا ينفقون الا و هم كارهون»... التوبة/54«و لو أنهم رضوا ما اتاهم الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله انا الي الله راغبون»... التوبة/59«يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه ان كانوا مؤمنين، ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم»... التوبة 63/62«و لئن سألتهم ليقولن انما كنا نخوض و نلعب قل أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون»... التوبة/65«و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و يطيعون الله و رسوله أولئك سيرحمهم الله ان الله عزيز حكيم»... التوبة/71«يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد اسلامهم و هموا بما لم ينالوا و ما نقموا الا أن أغناهم الله و رسوله من فضله فان يتوبوا يك خيرا لهم و ان يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الاخرة و ما لهم في الارض من ولي و لا نصير»... التوبة/74«استغفر لهم أو لم تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله و رسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين»... التوبة/80«و اذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله و جاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم و قالوا ذرنا نكن مع القاعدين»... التوبة/86«و جاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم و قعد الذين كذبوا الله و رسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم، ليس علي الضعفاء و لا علي المرضي و لا علي الذين لا يجدون ما ينفقون حرج اذا نصحوا لله و رسوله ما علي المحسنين من سبيل و الله غفور رحيم»... التوبة 91/90«و من الاعراب من يؤمن بالله و اليوم الاخر و يتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول ألا انها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته ان الله غفور رحيم»... التوبة/99«و قل اعملوا فسيري الله عملكم و رسوله و المؤمنون و ستردون الي عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون»... التوبة/105«و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا و كفرا و تفريقا بين المؤمنين و ارصادا لمن حارب الله و رسوله من قبل و ليحلفن إن أردنا الا الحسني و الله يشهد انهم لكاذبون»... التوبة/107«و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا ثم يتولي فريق منهم من بعد ذلك و ما اولئك بالمؤمنين، و اذا دعوا الي الله و رسوله ليحكم بينهم اذا فريق منهم معرضون»... النور 48/47«أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله بل أولئك هم الظالمون، انما [ صفحه 94] كان قول المؤمنين اذا دعوا الي الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا و أولئك هم المفلحون، و من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون»... النور 52/50«ق أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فان تولوا فانما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم و ان تطيعوه تهتدوا و ما علي الرسول الا البلاغ المبين»... النور/54«انما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله و اذا كانوا معه علي أمر جامع لم يذهبوا حتي يستأذنوه ان الذين يستأذنون أولئك الذين يؤمنون بالله و رسوله فاذا استأذنوك لبعض شأنهم فائذن لمن شئت منهم و استغفر لهم الله ان الله غفور رحيم»... النور/62«و اذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله الا غرورا»... الاحزاب/12«و لما رأي المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله و ما زادهم الا ايمانا و تسليما»... الاحزاب/22«و ان كنتن تردن الله و رسوله و الدار الاخرة فان الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما»... الاحزاب/29«و من يقنت منكن لله و رسوله و تعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين و أعتدنا لها رزقا كريما» [26] ... الاحزاب/31«و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الاولي و اقمن الصلاة و آتين الزكاة و أطعن الله و رسوله انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا»... الاحزاب/33«و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة اذا قضي الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا»... الاحزاب/36«ان الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا»... الاحزاب/57«يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله و أطعنا الرسولا»... الاحزاب/66«يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم و يغفر لكم ذنوبكم و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما»...الاحزاب71/70«يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و اطيعو الرسول و لا تبطلوا اعمالكم»... محمد/33«لتؤمنوا بالله و رسوله و تعز روه و توقروه و تسبحوه بكرة و أصيلا»... الفتح/9«و من لم يؤمن بالله و رسوله فانا أعتدنا للكافرين سعيرا»... الفتح/13«و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار و من يتول يعذبه عذاب أليما»... الفتح/17«يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله و رسوله و اتقوا الله ان الله سميع عليم»... الحجرات/1«قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الايمان في قلوبكم و ان تطيعوا الله و رسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ان الله غفور رحيم، انما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله اولئك هم الصادقون»... الحجرات 15/14 [ صفحه 95] «آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم و انفقوا لهم أجرا كبير»... الحديد/7«يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به و يغفر لكم و الله غفور رحيم»... الحديد/28«فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل ان يتماسا فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله و تلك حدود الله و للكافرين عذاب أليم، ان الذين يحادون الله و رسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم و قد أنزلنا آيات بينات و للكافرين عذاب مهين»... المجادلة 5/4«أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فاذ لم تفعلوا و تاب الله عليكم فأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و أطيعوا الله و رسوله و الله خبير بما تعملون»... المجادلة/13«ان الذين يحادون الله و رسوله اولئك في الأذلين»... المجادلة/20«لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الاخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان و ايدهم بروح منه و يدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم و رضوا عنه اولئك حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون»...المجادلة/22«و لو لا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا و لهم في الاخرة عذاب النار، ذلك بانهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله فان الله شديد العقاب». الحشر 4/3«و ما أفاء الله علي رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب ولكن الله يسلط رسله علي من يشاء و الله علي كل شي‌ء قدير، ما أفاء الله علي رسوله من اهل القري فلله و للرسول و لذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم و ما آتاكم [27] الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و اتقوا الله ان الله شديد العقاب، للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون» الحشر 8/7/6«يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم علي تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون»... الصف/11«يقولون لئن رجعنا الي المدينة ليخرجن الاعز [28] منها الأذل و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون»... المنافقون/8«فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا و الله بما تعملون خبير»... التغابن/8 [ صفحه 96] «و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فان توليتم فانما علي رسولنا البلاغ المبين»... التغابن/12«قل اني لن يجيرني من الله أحد و لن أجد من دونه ملتحدا، الا بلاغا من الله و رسالاته و من يعص الله و رسوله فان له نار جهنم خالدين فيها أبدا»... الجن23/22لقد قرن الله بين اسمه جل شأنه و بين اسم رسوله الاعظم في الزام الامة بالطاعة التامة لله و لرسوله مما يرد بشتي الصيغ و العبارات التي تحتمل أي تأويل يخرجها عن هذا الخط ففي هذا السرد ما يدل علي ان الله انما قرن اسمه رسوله باسمه اعزازا بمكانة نبيه منه و تقريبا له و تكريما.

الاعمال النبوية الخاصة...

الامور التي ناطها الله بالرسول الاعظم فكانت خاصة به لا يليها و لا تقع فيها الوكالة و النيابة الي من سواه و لا يليها خلفاؤه من بعده انما هي أمور تختلف عن أمور التبليغ و العبادات و عموميات القضايا الشرعية و الدنيوية. و من هذه الاعمال ما جاء في القرآن الكريم من الكلام علي صلاة الخوف التي ورد بها النص التالي:«و اذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك...» [29] النساء/102... هذا نمط الصلاة الجماعية التي وصفت بصلاة الخوف علمها الله رسوله العظيم تطبيقا لمبدأ القيادة الواحدة فاذا كان يجوز المسلمين يوما ما ان يؤمهم اكثر من قائد فلا مكان لصلاة الخوف عند ذلك فاذا التزمت الامة بوحدة القيادة فلعله قد يفتي عندئذ بتطبيق صلاة الخوف فيلي امامتها امام واحد...اما القيادة السياسية و العسكرية فهي له صلي الله عليه و سلم و ليست لغيره الا اذا دفع راية القتال لمن شاء من فرسان الصحابة و بعد وفاة الرسول لم يقع ان طبقت القيادة هذه الصلاة مما يدل علي احد امرين الاول ان تكون صلاة الخوف من خصوصيات اعمال النبي و الثاني ان تكون صلاة الخوف مسألة اجتهادية. و في النص ايضاح للدور القيادي لرسول الله في سائر الساحات و منها ساحات القتال...و مما يدخل في اطار الاعمال النبوية الخاصة ما كان لرسول الله من حق الزواج بأكثر من اربع نساء و كذلك ما كان من منع زواج نسائه من قبل أي من الناس. و يعد من هذا الباب أن بناته و ازواجه لم يكن لهن من ميراثه شي‌ء: و قد جاء في الحديث النبوي الشريف «نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة»...و من ذلك منع المسلمين مواصلة الصوم و لو شاء النبي ذلك فان له ذلك. فانه صلي الله عليه و سلم قال انه يبيت يطعمه ربه و يسقيه مما يستدل به علي وجود استعداد لديه صلي الله عليه و سلم يعينه علي تحمل الجوع و العطش. كما أن منع المسلمين من مواصلة الصوم انما كان من اجل حمايتهم من التعرض لما يشق عليهم مما لا ضرورة تقتضيه...و ما كان من خصوصيات اعماله صلي الله عليه و سلم انما كان ضمن عدد يسير غير كثير و ذلك ليكون النبي علي ذات الحالة التي تكون عليها الامة من العبودية الخالصة لله و التساوي في مجالات طاعة الله و التقيد بأوامر و نواهيه. فما كانت الامة قد خوطب به فهو مما كان قد خوطب به النبي ايضا و لذلك كانت صلاته صلي الله عليه و سلم من نفس صلاة [ صفحه 97] المسلمين يقرأ فيها ما يقرأون و يقرأون فيها ما يقرأ و يركعون و يسجدون علي حال واحدة. و كذلك القول علي سائر شعائر الحج... اما امتيازاته صلي الله عليه و سلم علي الناس فانما كانت بامور غير امور الناس...القصص القرآني [30] ...كلمة القصص تعني سرد الاحداث من قبل من رآها و واقعها «فلما جاءه و قص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين» القصص/25... ان ما في القصص القرآني من سير الانبياء و الرسل و اخبار الامم القديمة في صدد كفرها و ايذائها رسلها و تحمل اولئك الرسل ما كان يصيبهم من سفهاء قومهم كل اولئك يعد من الدروس التثقيفية للنبي صلي الله عليه و سلم و هي كذلك من الدروس الوعظية التي تدعو الي التصبر و التحمل و احتواء الاحداث المؤلمة المثبطة للعزائم فكان الرسول الاعظم يري كيف ان اخوانه المرسلين الاولين كانوا علي جانب عظيم من التحلم و التصبر و لين الخطاب و لطف الحديث فان قوم نوح حين قالوا له «انا لنراك فينا سفيها...» قال لهم بكل هدوء و ضبط اعصاب: «يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين. ابلغكم رسالات ربي و أنا لكم ناصح أمين» الاعراف 68/67.ان السخرية بالمصلحين و اهانة ذوي الرسالات الكريمة و ايذاء العلماء بالطعن في شخصياتهم لهو عمل لا يقترفه ذو خلق محمود و سلوك مريم و انما يقترفه من سفلت قيمته و جبنت نفسه و صغرت كل الصغار... و كان الرسل صلوات الله عليهم اذا وقف منهم اقوامهم مثل هذا الموقف اللئيم يتجاهلون ذلك بما يلجأون اليه من ضبط اعصابهم ضبطا لا يقع مثله لاكثر من ذوي الحلم في الناس حلما... و ليس يضير الكريم ان يسبه اللئام و الرعاع و الجهلة فان هؤلاء انما يصنعون ذلك تعبيرا عن جبنهم وضعة نفوسهم، اذ تنشأ في مثل هذه النفوس احقاد تنمو فيها حزازات تحملهم علي الانتقام من ظهور رجال فيهم يمتلكون الاخلاق العالية و القيم الفاضلة و قد أحسن الشاعر في وصفه مثل اخلاق الفريقين:يخاطبني السفيه بكل قبح و أكره أن اكون له مجيبايزيد سفاهة و أزيد حلما كعود زاده الاحراق طيباو اخيرا حين نصر الله نبيه و أقام به معالم دينه ادرك من كان من اشداء خصومه و عتاة اعدائه انهم فرطوا و أفراطوا. ذلك هو مثل الانبياء و الرسول الاعظم في مقدمتهم من حيث ما وهبه الله من الصبر و الحلم فان في النبوة شرفا عظيما يدفع النبي في مكافأته و مقابلته ما يدفع من اعصابه و من صبره و طاقة تحمله و لا عيب في ذلك و لا ضير... و ذاك ما ظهر به الجوهر الانساني العظيم في الرسول الكريم محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم... و ذاك ما جاء به النص «و انك لعلي خلق عظيم» القلم/4...يصرح القرآن الكريم بأنه يقص علي رسول الله احسن ما هناك من قصص «نحن نقص عليك أحسن القصص» يوسف/3... و ذاك علي وجه التعليم و الاطلاع علي سير الاقدمين من النبيين و غيرهم مما لم يكن الرسول ذا علم او دراية به «تلك من انباء الغيب توجيها اليك ما كنت تعلمها انت و لا قومك من قبل هذا» هود/49 و كان الرسول صلي الله عليه و سلم [ صفحه 98] يزداد صبرا و يزداد صمودا و حرصا علي اداء مهام الدعوة التي نيطت به كلما وجد اخوانه لمرسلين قد صمدوا في مواجهة خصومهم و صبروا علي اذاهم و قد علمنا ان معظم الامم و الاقوام الذين بعث الله اليهم انبياء منهم كانوا كثيري العدوان علي انبيائهم...و قوله تعالي «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن...» يفهم منه أن مخاطبة الرسول في هذا القصصص تعني أن الله عزوجل اراد بذلك تثقيف رسوله و تعليمه و توجيهه و تبصيره فان في سورة يوسف من احداث الحياة و غرائب الوقائع ما يتضح لدي قاري‌ء السورة. و من ينعم النظر فيها يخرج بفكرة مجملة عن قضايا لا يتوصل اليها بسهولة ولكن الله عزوجل أوصل من ذلك الكثير الي نبيه لا سيما ما كان منها في قضايا الظلم و العدوان و الغدر و ايذاء الناس و لا سيما - كذلك - مما يتعلق بمعاملات الشعوب لانبيائهم و ما يتعلق بصبر اولئك الانبياء علي ما تقلبوا فيه من المآسي و النكبات و الاحداث القاسية. و في سورة يوسف من معالم الفرج الالهي بعد استقرار اليأس في النفوس. و انا عندما نقرأ قصة أيوب في القرآن الكريم نراه عليه‌السلام قد بات مضرب المثل في الصبر و هو صبر علي قدر الله و قضائه و علي امتحانه و ابتلائه. و لم يضجر أيوب مما اصابه بل تحمله و عالج مصيبته فيه بكثرة الابتهال الي الله و الدعاء و الانابة و الاستغفار و قد كافأه الله علي ذلك اذ رد اليه عافيته و اهله...و حين نقرأ قصة نوح و ما قام به من صنع السفينة التي بذل في صنعها جهدا عظيما و كابد نصبا ثقيلا و لقي من ابن له استنكافا أن يتبعه و يركب معه في سفينته و قد علمنا من معاناة نوح عليه‌السلام في دعوة قومه الي دينه ما لا يطاق من الهم «قال رب اني دعوت قومي ليلا و نهارا. فلم يزدهم دعائي الا فرارا. و اني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا اصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم و أصروا و استكبروا استكبارا. ثم اني دعوتهم جهارا. ثم اني أعلنت لهم و أسررت لهم اسرارا» نوح 9/5... و كان قومه كثيري السخرية به. «و يصنع الفلك و كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه...» هود/38...و حين نتابع سيرة موسي عليه‌السلام في القصص القرآني نري ضروبا من الهم و الاقدار تتكدس عليه. و كثيرا ما كان الخوف يركبه و يحيط به «فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين» القصص/21 و في قصة يونس و ابراهيم و زكريا و غيرهم تفاصيل من معاناة الانبياء لا يطيق حملها البشر...ان القصص القرآني غالب ما نزل منه نزل في السور المكية لتعرف الناس شرف هذا القرآن العظيم و حسن تسلكه في نفوسهم و قوة تأثيره فيهم و كان قصص القرآن قد استحضر تاريخ اجيال قديمة تعلم العرب من الوقوف عليه الكثير... ان سياسة القرآن في سرد قصص الانبياء كانت سياسة تأتي منها تحبيب لقوم ليسوا قومهم و حملهم علي الايمان بهم ايمانا صادقا و الدفاع عنهم بكل حرارة خلافا لما جرت عليه عادة التوراة من تبشيع سيرهم و اساءة سمعتهم و غمط حقوقهم صلوات الله و سلامه عليهم.و في القرآن الكريم «و كلا نقص عليك من انباء الرسل ما نثبت به فؤادك و جاءك في هذه الحق و موعظة و ذكري للمؤمنين» هود/120... مما يفهم منه عظم اثر القصص القرآني في سيرته صلي الله عليه و سلم.و في القرآن الكريم «نحن نقص عليك نبأهم بالحق...» الكهف/13. في قصة اهل الكهف. و كما ان الله عزوجل يقص علي رسوله ما يقص تعليما و تبيينا فانه يأمره كذلك ان يقص هو بدوره ذلك علي الناس و قد جاء في القرآن الكريم قوله «و لو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الي الارض و اتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون» الاعراف/176... [ صفحه 99] و جاءت كلمة القصص في معني الاخبار و الاعلام و الانباء يستوي في ذلك ما كان من مفصل الكلام و ما كان من موجزه و من ذلك في موضوع الرسل «و رسلا قد قصصناهم عليك من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك» النساء/164... اي احصيناهم و عددناهم. و مثل ذلك ايضا «و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك...» (المؤمن) غافر/78... في نفس المعني الذي أوردناه في الاية...و من آيات القصص القرآني «و علي الذين هادوا حرمنا قصصنا عليك من قبل و ما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» النحل/118... و كذلك قوله تعالي «ذلك من أنباء القري نقصه عليك منها قائم و حصيد» هود/100... و بهذا نعلم أن استعمال كلمة القصص أدي مهمة التبليغ و التنبي‌ء و ايصال معلومات قرآنية الي النبي بهذا اللفظ و باسلوب القصص احيانا...

التثقيف القرآني...

من يقرأ القرآن الكريم يجد فيه قصصا و سيرا و احكاما و تشريعا ذا مسالك شتي من معاملات ترسم صور البيع و الشراء و تحدد صيغ العلاقات الاجتماعية من زواج و طلاق و ميراث و وصايا و ما هناك من حلال و حرام و قضايا عسكرية و اجتماعية و تحديد لحقوق ذوي الحقوق من النساء و الاطفال و الاعداء و الاصدقاء و ذوي القربي و بعض شرائح المجتمع كاليتامي و الاسري و الإماء. و كذلك الكلام علي قواعد العدل و الحكم بين الناس و كذلك ما يتعلق من نهي عن التصرفات السيئة و الاخلاق المذمومة من كذب و غش و تطفيف المكيال و الميزان و اكل اموال الناس بالباطل و شهادة الزور و الأيمان الفاجرة و ما الي ذلك ما تتكون منه ثقافة فقهية واسعة و ينشأ منه اطلاع علي كثير من مفردات الحياة علي تعدد فروعها الاجتماعية و الاخلاقية و السياسية و غيرها...و قد علمنا أن القرآن الكريم كان بما احتواه من علوم و احكام و تعاليم رشيدة قد اقام حضارة ضاهت حضارات الامم القديمة و قد نبغ في ما بعد في التخصص في سائر هذه العلوم علماء و فلاسفة و فقهاء و قضاة شهد لهم التأريخ الحضاري و المحافل العلمية بثقل الوزن و عظم الاقتدار...لقد كان ما ينزل من القرآن الكريم علي الرسول الاعظم في ما ينطوي في الاطر التي أشرنا اليها قد تأتي منه أن يكتسب الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم جماع الثقافة القرآنية لانه كان يتلقي مفردات القرآن بوعي و فهم و استيعاب يسمو علي ما يتهيأ للناس من ذلك...لم يكن النبي قد احاط علما من قبل بالمحتوي القرآني الذي كان يتلقاه من رب العالمين علي مدي ما يقرب من ربع قرن هو عمر السيرة النبوية الجليلة الشأن و العظيمة المكانة... و في القرآن الكريم «تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا فاصبر ان العاقبة للمتقين»هود/49...و كذلك نقرأ في التنزيل العزيز قوله تعالي «و ما كنت لديهم اذ يلقون اقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم اذ يختصمون» آل‌عمران/44...و في الآيات التالية اشارة جلية الي أن النبي لم يتلق قبل نزول القرآن شيئا مما جاء فيه من ثقافة و تحصيل علمي و دراية باخبار الرسل من قبله أي ان ثقافته صلي الله عليه و سلم انما تكونت مما تلقاه من آي القرآن الحكيم «و ما كنت بجانب الغربي اذ قضينا الي موسي الامر و ما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر و ما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين. و ما كنت بجانب الطور اذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون. و لولا ان [ صفحه 100] تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك و نكون من المؤمنين» القصص 47/44.و في القرآن الكريم «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن و ان كنت من قبله لمن الغافلين» يوسف/3...ان القرآن الكريم يؤكد علي توصية النبي صلي الله عليه و سلم بحسن تلقي القرآن من ربه و دقة الاصغاء الي ذلك بل ان النص الكريم يوضح انه صلي الله عليه و سلم كان يتعلم من ربه امورا يعلمه الله اياها. و ذاك واضح في قوله تعالي «لا تحرك به لسانك لتعجل به، ان علينا جمعه و قرآنه فاذا قرأناه فاتبع قرآنه... ثم ان علينا بيانه» القيامة 19/16...و في ذلك يكون الرسول الاعظم قد تعلم الكثير مما اراد له الله تعالي أن يتعلمه فكان فيه اعلم اهل زمانه و من سبقهم و من جاء بعدهم و القرآن اصدق شاهد علي هذه الجقيقة «... و أنزل الله عليك الكتاب [31] و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما» النساء/113...و من القصص القرآني التعليمي قوله تعالي «نحن نقص عليك نبأهم بالحق انهم فتية آمنوا بربهم و زدناهم هدي و ربطنا علي قلوبهم اذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الارض لن ندعو من دونه الها لقد قلنا اذن شططا» الكهف/13... فان الله عزوجل قد قص علي نبيه قصة اهل الكهف و هي قصة تاريخية فيها عبر و حكم و اخبار فتية مؤمنين فروا بدينهم من الظالمين...

الجدل القرآني...

للجدل القرآني نظام و طراز خاص و كنت عزمت في دهر سبق علي أن أؤلف في ذلك كتابا في جدل القرآن ولكن عاقني عن ذلك اكثر من عائق. ان الجدل القرآني لا يشبه ما يقع بين الناس من جدل. اذ يعتمد علي مناقشة نقاط يرجح الكلام عليها في النقاش و يصرف النظر عن نقاط اخري و قد يبدو بعض ذلك غريبا علي من يتلو النصوص القرآنية في هذا الوجه و سنشير الي آيات انتضمها الجدل القرآني و سنتكلم علي ما فيها من دقائق هذا الامر... و من ذلك قوله تعالي «و قالت اليهود و النصاري نحن أبناء الله و احباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و لله ملك السماوات و الارصض و ما بينها و اليه المصير» المائدة/18... ان الزعم اليهودي في ادعاء ان اليهود ابناء الله و احباؤه زعم ظاهر فيه الاستعلاء و البروز الي الساحة بحجم كبير من الغرور المصطنع. و لم يكن الرد عليهم متناولا تكذيبهم في زعمهم هذا لانه زعم مفضوح واضح الادعاء جسيم الكذب و الافتراء علي الله...اجل لم يقل لهم الله انكم كذبتم في ادعاء أنكم ابناء الله و احباؤه و انما قال لهم علي لسان نبيه اي ان الله أبلغ نبيه ان يرد عليهم جهارا في اكثر من ساحة «قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق» و بهذا فند دعواهم بالبنوة لله و واجههم بالواقع فهم علي ذات حال الناس ممن يسيئون فيعاقبون أو يحسنون فيكافأون... و كان اليهود يزعمون انهم شعب الله المختار و ان أهل الارض جميعا خول لهم و خدم و عبيد فكان في الرد القرآني لهم ما يفند هذا ايضا «بل انتم بشر ممن خلق»...و كانت مهمة الرسول في تكذيب اليهود ما ادعوه لانفسهم مهمة ليست بالهينة اذ ان الرد الذي ابلغهم به [ صفحه 101] أتي علي كل عرق من اعراق وجودهم و مسح كل عظمة زعموها لانفسهم بالتراب.ان شخصية الرسول الاعظم في المواقف الجدلية الخطيرة كانت تتجلي بالاقتدار الرائع في المواجهة و المصارحة و اسكات الخصوم مهما كانوا من المخاتلة و المراوغة و ادعاء المخرقات... و ظاهر في هذا ان اليهود حاولوا ان يشغلوا الرسول عن مهمته القيادية في المدينة بما كانوا يطرحونه عليه من طروحات و مخروقات و لجاجة تأخذ من وقته ما يجعلهم يظنون وقوع ذلك كسبا لهم لولا ان الرسول كان ذا صمود ملحوظ في مواجهة مثل هذه الفئة التي وصفها الله بقوله «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا...» المائدة/82...اجل ان تفنيد مقواة اليهود التي اقاموا عليها كيان وجودهم ليتطلب اقتدارا كبيرا في المواجهة و قد كان الرسول يملك هذا الاقتدار الذي هز كل سارية في الكيان الاسرائيلي المعروف بأشد أنماط اللدد في الخصومة و الشجار و الجدل العقيم...و من آيات الجدل القرآني:«قل لمن الارض و من فيها ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السماوات السبع و رب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شي‌ء و هو يجير و لا يجار عليه ان كنتم تعلمون. سيقولون لله قل فأني تسحرون»... المؤمنون 89/84.الجواب في السؤال الاول مطابق للصيغة التي ورد بها السؤال اذ كان السؤال بلفظ (لمن) فكان الجواب (لله). اما السؤال الثاني فهو سؤال عن رب السماوات و الارض و مطابقة الجواب للسؤال تكون بلفظ (الله) و السؤال الثالث و هو «من بيده ملكوت كل شي‌ء» و طبيعة الجواب تكون بلفظ (الله)... ولكن الجواب جاء بالسؤالين الاخيرين بلفظ (لله). و يفهم من هذا قوة الافحام الذي اصاب أولئك القوم فانهم اذ أجابوا بكلمة (لله) في السؤال الاول لم يعودوا يدققون في شكل السؤال الملقي اليهم فصاروا قبل أن يتبينوا ما في السؤال من محتوي يردون بلفظ واحد هو قولهم (لله) كناية عن مطلق الاذعان و الاستسلام و عدم الاستعداد لخوض معمعان الجدل و ذاك من فرط يأسهم من أن ينالوا بأساليبهم الجدلية و عنادهم الفطري شيئا من الغلبة في هذا المجال. و بذلك يعلم من وجوه الجدل القرآني ما تنسد به جميع سبل العناد الحدلي في مواجهة ما كان الرسول الاعظم يجابههم به من بينات الجدل القرآني السديد...

اتخاذ القرار...

ناط الله بنبيه اموارا يتولاها بما وهبه الله من تبصر و صدق ملاحظة و بعد نظر و من ذلك قوله تعالي للنبي في آيات التحريض علي القتال «و حرض المؤمنين علي القتال...» الانفال/65. فان التحريض علي القتال يتطلب اقتدارا بيانيا له تأثيره في نفوس المخاطبين ممن يراد منهم ان يبادروا الي اقتحام سوح القتال و مواجهة اعداء الدين و كذلك يتطلب ذلك السيطرة التامة علي نفسيات الناس بحيث يمشون الي الحرب طواعية و النبي صلي الله عليه و سلم كان يمتلك الاستعداد كله في مجال تحريض المؤمنين علي القتال ببلاغة لسانه و حسن بيانه و ثقته بسلامة قراره و رشيد رأيه و مرضي نتائجه و من ذلك قوله تعالي «فاذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم و استغفر لهم الله ان الله غفور رحيم» النور/62...المشيئة هي ارادة لاتصرف تعبيرا عن امتلاك الحرية في ذلك، مما يستدل به علي القدرة المطلقة في اصدار القرار، من غير أن تحدد لذلك شروط، اذ الشروط تكمن في مجال التقدير الخاص لموجبات الاذن و عدمه حين يريد النبي ذلك او لا يريده لان التصرف النبوي منطقي لا يقع عليه الاعتراض فان وقع عليه الاعتراض فهو من فعل التعسف لا غير او من فعل [ صفحه 102] الجهل و النعناد في المعاندين... اما النبي فسيظل قراره قائما فانه له الحق المطلق و المشيئة الحرة في اتخاذ قرار لادن و عدمه...و من ذلك «فاذا استأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا و لن تقاتلوا معي عدوا انكم رضيتم بالقعود اول مرة فاقعدوا مع الخالفين» التوبة/83... فاتخاذ القرار هنا وفق ما اذن الله لنبيه أن يتخذه يتعلق برفض خروج قوم الي معركة يخرج اليها النبي و اصحابه و مثل ذلك يتطلب موقفا حديا لا رجعة عنه في ساعة حرجة يصعب فيها اتخاذ قرار قاطع يتم تطبيقه دون لغط و ضوضاء الا ان يكون صاحب القرار علي درجة عالية من الحزم و الصلابة و كون القرار المتخذ صائبا و كان النبي اهلا للاتصاف بهذه الصفات القيادية المعترف بها من قبل اعوانه و خصومه علي حد سواء...لا سيما حين يكون في مخاطبة من رفض النبي خروجهم الي القتال معه في جيشه مما فيه القاء اكثر من تباعة خيانة و سمة هزيمة علي من طردهم النبي عن المشاركة في حرب جهاد يكون القتيل فيه شهيدا عند الله. ان قرارا مثل هذا القرار يواجه به من و وجه به علي ملأ الاشهاد لأمر جد عظيم.ان النبي صلي الله عليه و سلم كان اذا اتخذ قرارا في امر ما اعلنه اعلانا و صرح به تصريحا بفعل ما طبعت عليه نفسه من صدق كلمة و سلامة طوية و جدية موقف و حرص علي آنية لا تحتمل التأجيل و التوسيف (قلت لا اجد ما احملكم عليه تولوا و اعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون) التوبة/92. و من ملاحظة هذا القرار نري الرسول الاعظم في جلده و ضبط اعصابه و صدق موقفه رجلا ندر مثله في الرجال فلقد صرح بالحقيقة التي كان عليها اقتداره العسكري في تجهيز المقاتلين بآليات القتال فانه صلي الله عليه و سلم لم يكتم هذه الحقيقة بل جهر بها كما انه و الموقف موقف ضعف يتطلب متلاك ادوات القوة التي هي السلاح و الكراع فلم يظهر علي النبي من أمارات الجزع و اليأس شي‌ء يستعل من قبل الخصوم الدين كانوا يراقبون الوضع من كل جانب.ان ذلك ليدل علي عظمة هذه الشخصية العظيمة في سائر ظروف قوتها و ضعفها و انما يقدر الله التوفيق لقيادة قائد فانما يقدره علي هدي هذه الاوصاف و السجايا و السمات...

في دعاء ابي الانبياء...

في القرآن الكريم حين دعا ابراهيم عليه‌السلام لذريته قال: «ربنا اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم و ارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» ابراهيم/37... فقد جعل عليه‌السلام اول امر رجا الله ان يحققه لذريته هو ان تهوي اليهم افئدة الناس بالرعاية و التقدير و الالفة و الكلمة الطيبة. و جعل طلب رزقهم و مؤنة معيشتهم المسألة الثانية...ان ذاك هو الاصل في الانسجام الاجتماعي و في حياة الناس و كان ابراهيم بذلك قد رجا لاهله الخير كله... فان ابراهيم عليه‌السلام حين قدم الي مكة كانت مأهولة بالسكان و فيهم سدنة البيت العتيق الذي كان قائما يتعبد الناس الله فيه و لذلك قال «فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم» و هو يريد سكان مكة يومئذ... و وجود الناس يدل علي وجود الماء و الغذاء و لذلك قال ابراهيم عليه‌السلام «وارزقهم من الثمرات». و هو يعني ما هناك من ثمرات موجودة في تلك البيئة. و لا يمارض ذلك ما جاء في النص «ربنا اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع» فان كون المكان لا زرع فيه لا يحول دون أن تجبي اليه الثمرات من اماكن اخري. و في القرآن الكريم «... أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبي اليه ثمرات كل شي‌ء...» القصص/57...«و اذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت و اسماعيل ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم، ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا [ صفحه 103] و تب علينا انك أنت تواب الرحيم. ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم انك أنت العزيز الحكيم» البقرة 129/127... فلقد اطمئن ابراهيم الي أن مقام ابنه اسماعيل و امه هاجر في مقامها الجديد بين القبائل التي كانت تشغل تلك المنطقة و هي قبائل عربية تزوج منها اسماعيل فأنجبت له زوجته ابناءه الذين تألف منهم النسب النبوي الشريف و كان البيت قد تعرض للسقوط و الانهدام فرفع ابراهيم قواعده و اسماعيل...ان ابراهيم عليه‌السلام كان جوالا في الافاق فاذ أطمأن علي اهله غادر مكة ليعود اليها بين حين و اخر متفقدا ابنه و اهله و كما قلنا من قبل ان ام‌اسماعيل غريبة من اصل يماني و هي من بقايات ملوك الرعاة الذين قامت منهم بعض السلالات التي حكمت مصر في قديم الزمان.لقد دعا ابراهيم و ابنه اسماعيل دعاءهما الكريم و هما يطوفان بالبيت العتيق من ربهما أن يرعي ذريتهما التي ارادا أن تكون ذرية كريمة صالحة طيبة و ان يبعث الله منها رسولا كان هو الرسول الاعظم محمد صلي الله عليه و سلم. و ان الله عزوجل استجاب لدعوة ابراهيم و اسماعيل في أن يكون لامته العربية نبي يقودهم الي معارج الفلاح و قد كان الامر كذلك...«ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم اياتك و يحلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم انك انت العزيز الحكيم». تلك هي دعوة ابراهيم الخليل من ربه اذ دعا الله أن يبعث في الامة العربية النبي الذي وصفه بما وصفه به من تعليم الناس الكتاب و الحكمة و تزكيته اياهم و هي تعني تطهيرهم من ادران الشرك و تنقية نفوسهم تنقية تزول بها الشوائب و كذلك كان الرسول الاعظم معلما و مزكيا و هاديا هذه البشرية الضالة و لم يعد الامر خاصا بالعرب وحدهم و انما عم العالم كله فانتفعت البشريشة في سائر اقطارها بمآثر الاسلام و خيراته و محاسنه و مكارمه و ما فيه من تهذيب للعقول و اصلاح للنفوس و هداية للقلوب...و كذلك قوله تعالي «ان أولي الناس بابراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين» آل‌عمران/68... حاولت اليهودية أن تجعل ابراهيم عليه‌السلام من حصتها وحدها في حين لم ينل ابراهيم من القوم ادني شأن و القرآن الكريم يعلن ان ابراهيم لم يكن يهوديا و لا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما و لم يكن من المشركين. و التوراة اشارت الي ابراهيم و الي ابنه اسماعيل في سفر التكوين و تنبأت بان اسماعيل سيكون أبا لامة ذات شأن في الامم و تنبأت التوراة كذلك بظهور نبي لها من صلبه. و علاقة العرب بابراهيم معروفة في انسابهم و بذلك ضرب القرآن الكريم احتكار اليهود بنوتهم لابراهيم الاحتكار الذي ظل خاليا من كل محتوي، و باتت آيات القرآن تتكلم في أمر ابراهيم في شتي السور بما يعز من شخصيته و يعلي من مقامه و ينسب اليه جلائل الاعمال و الخدمات الناصعة من اجل التوحيد، و المعروف ان ابراهيم عليه‌السلام من ابناء عرب العراق و قد جال في بعض الاقطار المعروفة في زمانه ثم حمل ابنه اسماعيل و ام‌اسماعيل هاجر و هي جارية مصرية وفق تسمية التوراة الا انها كانت من بقايا الاسر اليمنية التي حكمت مصر في عصور سالفة و قد اشرنا الي ذلك غير مرة...فالكعبة المشرفة التي كانت قائمة في مكة قبل ابراهيم تمت اعادة بنائها من قبله و بيده و لا يخامرنا ادني شك في ان الله اوحي الي ابراهيم ان يتخذ لابنه اسماعيل مقاما عند الكعبة و ان يقوم له نسل في تلك الارجاء حتي يأتي اليوم الذي يخرج فيه نبي من العرب للعرب و لسائر ابناء البشر في العالم يختتم به الله الرسالات و ينهي عهد الانبياء المحليين و قد تحقق ذلك بالمبعث النبوي الشريف...و كان لدي العربل من بعض ادبيات شريعة ابراهيم ما تناقلوه جيلا بعد جيل و هو ما عرف لدي عارفي ذلك [ صفحه 104] و المتمسكين به باسم الحنيفية اذ كان ابراهيم عليه‌السلام قد وصف بأنه كان حنيفا مسلما و ما كان من المشركين هذا رغم ان العرب ابان جاهليتهم مالوا الي الشرك و اتخذوا آلهة من الاوثان و جنحوا عن اصول الملة الحنيفية و حين جاء الاسلام راح يردهم الي ذات الطريقة في دين شامل واسع المناحي صالح للبقاء الي أبد الدهر.و من هنا كان محمد بن عبدالله بشهادة القرآن الكريم اولي الناس بابراهيم و ان كان صلي الله عليه و سلم نبيا مستقل الشخصية و ذا شريعة لا شريعة تفوقها في الشرائع القديمة لانه لا نبي بعد رسول الله صلي الله عليه و سلم.

السور المكية و المدنية

السور المكية هي ما نزل من السور قبل الهجرة وعدتها ست و ثمانون سورة، و السور المدنية ما نزل بعد الهجرة و عدتها ثمان و عشرون سورة.ان في السور المكية سورا طوالا و قصارا و كذلك القول علي السور المدنية اذ جاءت فيها سور جد طوال و سور جد قصار...تتناول السور المكية في آياتها مسائل من التعليم و التثقيف و الجدل و التأكيد علي وحدانية الخالق و قد ازدحمت هذه السور بقصص الانبياء و ما كان من عبر و عظات و دروس اخلاقية ذات فعل حسن في المجتمعات البشرية...ان ستا و ثمانين سورة منزلة في مكة لهي امر ذو حجم كبير اذ كان الرسول لا يجد معه في الساحة الا النزر اليسير من السابقين الاولين.اجل انه لامر عجيب ان يحمل الرسول بمفرده عب‌ء المواجهة مع اناس كانوا ذوي حرص شديد علي عبادة معابيدهم الباطلة يذودون عنها من يتحرش بها بكلمة نبز مهما كانت طفيفة...و من السور المكية سورة يوسف و يونس و الرعد و الشعراء و الفرقان و الاسراء و الانبياء و طه و الانعام و الكهف و مريم و النحل و الحجر و ابراهيم والنعكبوت و يس و الزمر و غافر و الدخان و الجاثية و الاحقاف...حقا انها سور تحتجن من مطالب الاسلام و أسسه و ركائزه الحجم المتكامل الكبير و بذلك كان المهاجرون الذين عاشوا في مكة و قد خرجوا الي المدينة يحملون القرآن علي جانب عظيم ن الثقافة الدينية، فان ذلك يعد مدرسة متكاملة الدروس متعددة الفصول...و لم يجد المسلمون حاجة اذ كانوا في المدينة لتعلم شي‌ء من احكام اليهودية و سير الانبياء في الامم الخالية لذا لم يراجعوا اليهود ليسمعوا من افواههم شيئا...والاسلام منذ كان في مكة كان قد اظهر عظيم رعايته للانبياء الاقدمين و لقد عرض انباءهم و ذكر اخبارهم ورثي لحال اقوامهم الذين عاملوا رسلهم معاملة غير لائقة...و في السور المدينة كانت الآيات تستهدف امرا من التثقيف و الجدل غير الذي كانت قد جالت في مجاله ايام العهد المكي. اذ اكتظت السور المدنية باحكام الدين التفصيلية و كان من ذلك ما يتعلق بالمواريث و بنظام الزواج و الطلاق و الصوم و احكام القتال و الصلوات و احكام الحج مضافا الي ذلك نمط من الجدل الكتابي اي مجادلة اهل الكتاب و هو جدل كان اهل الكتاب يبدأونه آونة و الفئة الاسلامية تبدأ الكلام فيه آونة اخري...ان جهد النبي صلي الله عليه و سلم كان ظاهر في مكة و في المدينة علي حد سواء الا انه صلي الله عليه و سلم كان علي ضرب واحد من القوة في كلتا المدينتين غير ان نقطة الاستقرار كانت ذات ابعاد في المدينة بسبب ان الرسول كان قد حذر ظهور اعداء له في بيئتها...ان دراسة السور المكية يتلخص فيها تاريخ رائع للسيرة النبوية و كذلك القول علي دراسة السور المدنية.. و قد رجحنا اقوال بعض الرواة الثقات في [ صفحه 105] انتماءات بعض السور القرآنية و اخذنا برأي فريق منهم في أن السورة الفلانية هي مكية لا مدنية او انها مدنية لا مكية و ذلك بمقتضي مقدمات و ادلة و ثقنا بها فلا يحسبن احد ممن يقف علي ذلك أنا توهمنا الامر توهما و انما قررناه علي بينة من ذلك أنا نري أن سورة الفاتحة مدنية و أن الرعد مكية و غير ذلك من السور التي استقر في علمنا ما كان لها من انتماء الي احد العهدين المكي و المدني...

الشفاعة

ليست الشفاعة ان تاتي الي سجن مغلق فتكسر اقفاله فتخرج منه سجينا تحرره بمحض رغبتك. فان للشفاعة طرفين احدهما من يشفع اليه و الآخر من يشفع فيه اما الثالث فهو الشفيع...من شروط الشفاعة ان تحسن مخاطبة من تتشفع اليه أي ان تصفه عند مخاطبته بأطيب النعوت و تلتزم عنده بشعائر الاحلال و التوقير و ان تشير الي توفر المعاني الدالة فيه علي مكان تحقق المطلوب... الامر الثاني الخاص بالمتشفع فيه فأنه ينعقد علي ان تصفه بالضعف و الحاجة الي العون و اللطف فيه رغم ثبوت اساءته و تقصيره لانك ان اثبت تبرئته فلست شفيعا له و انما انت مطالب بحقه الذي لا يحتاج لشفاعة شفيع...ان في الشفاعة معاني انسانية ظاهرة يراد بها التخفيف من شدة البطش بمن اقترف ذنبا عن جهالة... و التوبة نمط من الشفاعة و مخاطبة الباري بما يوصف به اذا وصف بالقوة و شدة العقاب و باللطف و المغفرة انما تعني نمطا من الشفاعة و قول نبي خاطب الله بقوله «ان تعذبهم فانهم عبادك و ان تغفر لهم فانك انت الغفور الرحيم» المائدة/118... ضرب من الشفاعة...لقد ظهرت للشفاعة معالم علي عهد الرسل الاقدمين فمن ذلك قول نوح عليه‌السلام «ان ابني ممن اهلي و ان وعدك الحق و انت احكم الحاكمين» هود/45... و علي لسان ابراهيم الخليل عليه السلام «و من عصاني فانك غفور رحيم» ابراهيم/36.و ان ما جاء في الدعاء المشهور «اللهم انا لا نسألك رد القضاء ولكنا نسألك اللطف فيه» هو شفاعة... و قد قسمت الشفاعة الي شفاعة حسنة و شفاعة سيئة «و من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها» النساء/85 و بذلك يعلم الشفيع انه لن يكون مقبول الشفاعة ان تشفع في امر يتعلق بحدود اللهو الشفعاء كثيرون فيهم من هم من اهل الوجاهة في الغالب و قد يكون فيهم من وصفه النبي بقوله «رب اشعث أغبر ذي طمرين لو اقسم علي الله لابره»...و قوله تعالي «و ما كان الله ليعذبهم و نت فيهم...» الانفال/33 هو الشفاعة بعينها و قوله تعالي «و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون» هو كذلك شفاعة لان للمذنب ان يشفع لنفسه بذكر محاسن سبقت و بذكر عفو الله و سابغ رحمته...القرآن الكريم مشحون بالآيات الدالة علي ان الشفاعة مسألة من حقوق الشفعاء ما كانت شفاعتهم شفاعة حسنة. و سائر انبياء الله ممن لهم الاستحقاق العالي في ذلك و قد افضنا في الكلام في هذا الموضوع في بعض فصول الكتاب...ان الذين نفوا ان يكون النبي ذا شفاعة عند الله في امته انما قام نفيهم هذا علي ايراد بعض الاحاديث النبوية التي قالوا فيها ان في سندها من لا تقبل روايته فاذا كان الامر كذلك فكيف اباحوا لانفسهم و هم يبطلون رواية احاديث الشفاعة ان يبطلوا ما ثبت من نصوص الشفاعة في القرآن الكريم...الشفاعة نمط من السعي في استنقاذ متعرض للاذي و العقاب و أي من ضروب الضرر مما هو محل استحقاقه او عدم استحقاقه و استئهاله و عدم استئهاله. فالتشفع في صبي لدي اهله يأخذون بتأديبه. نوع من الشفاعة فان المتشفع فيه يسأل اهله ان يعفوه من العقاب و يروح يكلمهم بلغة فيها رفق كبير و استعطاف ظاهر بحيث ينشأ من ذلك ان تثفأ قدر غضب القوم علي صبيهم... و مثل هذا الموقف محمود لا يعاب عليه من ينهض به... و هكذا تكون الشفاعة في الابرياء يؤخذون بجريرة لم تثبت عليهم و قد تكون قد ثبتت عليهم الا أنهم يستأهلون العطف و الرفق و التخفيف من حجم العقاب...ان كل مأخوذ الي سيف الشريعة و القانون مهما كان بريئا و مهما كان قويا فانه يأخذ منه الخوف ماخذه و ذاك لطبيعة ما يعرض لمثله من الضعف... و قد قال أبوبكر رضي الله عنه: (اقواكم عندي الضعيف حتي آخذ الحق منه)... فالشفاعة في مثل هذه المواقف يتطوع للقيام بها ذوو القربي و الاصحاب و من تكون لهم ازاء امثالهم قلوب رقيقة و رغبة في التسامح و دعوة الي الاصلاح من غير طريق العقوبة...و القرآن الكريم يزكي الشفاعة اذا جاءت حيث يحسن أن تجي‌ء «من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب [ صفحه 106] منها و من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها» النساء/85... و في الشفاعة تهذيب و فيها اصلاح و فيها تهوين من غضب غاضب و قسوة معاقب فهي درس انساني و تربوي لذي قوة يحق حقه و لذي ضعف ينتظر أن تقام عليه التبعة و يتمني ان يحال بينه و بين ذلك. و مذهب القرآن الكريم في صدد الشفاعة انه يقر المداخلة فيها لانها أمر بالعرف و تهدئة لشبوب اوار السخط في ذوي حق مغتصب و تعرض لعدوان شديد...و الشفاعة تكون لدي الحكام و الوجهاء و ذوي الحيثيات و من هم أصحاب حق و الآباء تستندي مروءاتهم و تناشد معروفهم و ما هي بالامر يؤمرون به و لا الفرض يفرض عليهم و ليس في الشفاعة ابطال حق و احقاق باطل و ما كان كذلك فهو الشفاعة السيئة التي وصف الله شفاءها بأنهم ينالهم كفل من سوء شفاعتهم...«و لو انهم اذ ظلموا انفسهم جاؤوك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما». النساء/64...في النص القرآني ايماء الي الشفاعة التي جعلها الله من امتيازات الرسول صلي الله عليه و سلم... و الشفاعة مما ندب القرآن اليه بين الناس كسرا للفتنة و حيلولة دون ذيوع الشر و اطفاءا لنار الاحقاد و تشجيعا علي الوساطات الكريمة التي تسعي في الاصلاح بين الناس «من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها و من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها» النساء/85... و الشفاعة التي يشفع بها عند الله قال فيها «من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه» البقرة/225... و قال «و لا يشفعون الا لمن ارتضي» الانبياء/28... «فما تنفعهم شفاعة الشافعين» المدثر/48...و حين قال سواد بن قارب:فكن لي شفيعا يوم لاذو شفاعة بمغن فتيلا عن سواد بن قارب‌لم ينكر عليه النبي ذلك. و القائلون انه لاوساطة بين الله و الناس - و قد صدقوا في جزء يسير من ذلك - فاتهم ان الرسل هم وسطاء بين الله و الناس فاذا كان الله قد اختارهم لنقل رسالاته و اطمأن الي صدقهم في هذا النقل و كانوا امناء علي الوحي و الآيات المنزلة فكيف لا تكون لهم الوساطة و الشفاعة علي ان الشفاعة التي يتقدم بها نبي او رسول الله لا يعني ذلك انها تقبل مئة بالمئة و انها تفرض علي الله فرضا بحيث يستجيب للطلب المطلوب من دون ابطاء. ففي القرآن الكريم «و لا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له...» سبأ/23 و في القرآن الكريم «انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء و هو أعلم بالمهتدين» القصص/56... ولكن استحقاق النبي للمنزلة التي يشفع بها لمن يستحقها كائنة و الله قبولها ان شاء علي ان الرسول لا يورط نفسه في الشفاعة بين يدي الله لمن يعلم ان الله غاضب عليهم غضبا شديدا لا تنفع الشفاعة فيه. و لقد رد الله شفاعة ابراهيم عليه‌السلام في ابيه و كان قد رجع عنها «و كان استغفار ابراهيم لابيه الا عن موعدة وعدها اياه فلما تبين له انه عدو لله تبرأ منه» التوبة/114. و لما شفع نوح عليه‌السلام في ابنه الذي «قال سآوي الي جبل بعصمني من الماء» هود/43 قال له الله «انه ليس من اهلك انه عمل عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم اني اعظك ان تكون من الجاهلين» هود/46...والنبي صلي الله عليه و سلم و قد نال من منزلة القرب من ربه و التزكية العظمي لا يقع منه ان يشفع في احد الا بعد وثوقه باستحقاق ذلك العبد لشفاعته و من ذلك انه لا يتوقع ادبا ان يشفع رسول الله في ابي‌لهب و زوجه لانه - صلي الله عليه و سلم - يعلم ان الله حك علي ابي‌لهب و زوجه بأنهما من اهل النار.و قول أخوة يوسف «يا أبانا استغفر لنا ذنوبا انا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي انه هو الغفور الرحيم» يوسف 98/97... فيه دلالة علي ان يعقوب عليه‌السلام لبث يفكر ايستحق اولئك النفر من ابنائه ان يتشفع فيهم بعد جنايتهم المعروفة... [ صفحه 107] موضوع الشفاعة قد طرق في آيات التنزيل غير مرة و كانت شفاعة الرسول الاعظم معروفة منذ اول حياته صلي الله عليه و سلم. و من خير اقوال المؤذنين الذين يصلون علي الرسول بعد الفراغ من الاذان للصلاة قولهم - الصلاة و السلام عليك. عليك و علي آلك و اصحابك يا سيدنا يا من بالشفاعة العظمي خصك الله...

الامر الالهي...

استعملت كلمة «الامر» في القرآن الكريم في الكلام علي عدد من الرسل و الانبياء القدامي من نحو قوله تعالي «و ما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين...» البينة/5... و جاء علي لسان نوح عليه‌السلام قوله «و أمرت أن اكون من المسلمين» يونس/72... و علي هذا فان ايمان الانبياء يقوم علي الامر الالهي القاطع الذي لا مناص من طاعته اذ انهم يؤمرون به ليكونوا مؤمنين فالايمان عنده لا يقبل العصيان و التردد... و كان نصيب الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم من هذا غير قليل...ان استعمال هذه الصيغة مع الانبياء و الرسل يدل علي ان الصلة بين الله و رسله هي فوق الصلات التي بين الله و غيرهم فهم اشبه بالموظفين في تعامل الرؤساء معهم... و كذلك جاء هذا الحرف في التعبير عن علاقة الملائكة بربهم ففي القرآن الكريم «لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون» التحريم/6... «انما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها و أمرت أن اكون من المسلمين» النمل/91... «قل اني أمرت أن اعبد الله مخلصا له الدين و أمرت لأن اكون اول المسلمين» الزمر 12/11 «قل اني أمرت أن اكون اول من اسلم» الانعام/14... «قل ان صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له و بذلك أمرت و أنا اول المسلمين» الانعام/163...«قل يا أيها الناس ان كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن اعبد الله الذي يتوفاكم و أمرت أن اكون من المؤمنين» يونس/104.«قل انما أمرت أن اعبد الله و لا أشرك به اليه أدعو و اليه مآب» الرعد/36 «فلذلك فادع واستقم كما أمرت و لا تتبع اهواءهم و قل آمنت بما أنزل الي من كتاب و أمرت لاعدل بينكم الله ربنا و ربكم لنا اعمالنا و لكم اعمالكم لا حجة بيننا و بينكم الله يجمع بيننا و اليه المصير» الشوري/15... «فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا انه بما تعملون بصير» هود/112...«فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين» الحجر/94... و جاء استعمال الامر بين رب الاسرة و ذوي قرباه «و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها» [32] طه/132... مما يدل علي أن استعمال هذا الحرف في مخاطبة الانبياء قائم علي هذا الاصل...و يفهم من استعمال هذه الصيغة في مخاطبة الرسل و النبي في جمهرتهم لا يراد بها التحكم و فرض الارادة و الرغبة في مجرد الامرة لذاتها و الاستعلاء و ان كان الله عزوجل اعلي من كل شي‌ء. انما يراد باستعمال الامرة الاطمئنان الي موقف المأمور من الطاعة و الثقة بأنه اهل لعظيم رجاء الله فيه و قد قالت العرب قديما ]اذا اردت أن تطاع فأمر بما يستطاع[ و ذاك من أجل أن لا يواجه الآمر شيئا من العصيان فكانوا يوصون بأن يكون الامر غير متوقع للآمر أن يعصي فيه فلا ينفذه المأمور عجزا او عصيانا. فما كان الرسل و الملائكة يعصون الله ما أمرهم بل كانوا يفعلون ما يؤمرون... [ صفحه 107]

اللاءات القرآنية...

ما جاء من النصوص القرآنية في معني النهي بمثل «لا الناهية» في الخطابات القرآنية الموجهة الي الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم انما هي أوامر جاءت بصيغة النواهي. لان صيغة النهي تؤدي في بعض الاحيان معني الامر المؤكد وفق الاسلوب البلاغي في التنزيل العزيز و في لغة العرب فبدلا من أن تقول لشخص اصدق تقول له لا تكذب ففي قولك لا تكذب امر في الصدق و نهي عما يضاده من الكذب. فان قلت له اصدق و ان كان الامر بالصدق يتضمن النهي عن الكذب ولكن ذلك غير واضح فيه و قولك لشخص لا تكذب. لا يقع به من معاني الكلام دائما أنه كان كاذبا فمنعته من الكذب و انما أريته عاقبة من لا يصدق و ابرزت له بشاعة الاستهانة بالصدق حين نهيته عن الكذب و أطلعته علي شرف الصدق الذي تريد أن تأمره به فنهيته عن الكذب. فان النهي عن شي‌ء هو امر بما يخالفه و قد يكون المنهي عن ذلك مواقعا لما نهيته عنه و قد لا يكون فان نهيت من اقترف جناية عن جنايته فذاك هو الحقيقة. و ان نهيت عن شي‌ء لم يقترفه من نهيته عنه فذاك انما يكون للتحذير و التنبيه و هو الذي يعد من اساليب البلاغة في التعبير و ذاك هو النهج القرآني في سائر ما وقع من مخاطبات النبي وفقه.ان قوله تعالي «و لا تكونن من الممترين» البقرة/247... لا يعني نهي النبي عن الامتراء فيما هو حق ولكن صيغة النهي اذ كانت اقوي من صيغة الامر جاء استعمالها في هذا المقام. و ان استعمال صيغة الامر كثيرا ما يفهم منه أن الخطاب بهذه الصيغة معني به من تخاطبه لا تجاوزه الي غيره ولكن النهي عن شي‌ء اذا نهيت عنه من نهيت و ان كان واحدا بعينه فان في ذلك دلالة علي أن هذا النهي ينسحب علي اكثر من واحد لا سيما من يكونون علي حال واحدة او صفات متجانسة.النص مسبوق بقوله تعالي: «الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم و ان فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون. الحق من ربك...» البقرة/146...و علي هذا سنتناول النصوص اللائية اي التي جاءت فيها «لا الناهية» بشي‌ء من التفصيل ان كان في النص ما يستوجب ذلك...ان امثال هذه الخطابات التي خوطب بها النبي بالوحي الالهي تدل علي أن الله عزوجل كان يلقن النبي بما يزيد من تعليمه و يسدد من توجيهه و يكون ابدا محل رعايته و رقابته و تأديبه و عظته علي تعدد اساليب الخطاب القرآني البليغ الذي خوطب به النبي من قبل ربه في العهدين المكي و المدني و سنشير عند تفسير هذه اللاءات الي وجوه الكلام فيها و مقاصده و غاياته ان كان في ذلك ما يدعو الي ذلك.«و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون». آل‌عمران 170/169.في النص اثبات حقيقة تقرر أن الشهداء الذين يموتون في سبيل الله هم احياء يرزقون... و لم يرد ذلك بصيغة الاخبار و انما جاء بالصيغة التي جاء بها و هي صيغة النهي عن حسبان هؤلاء القوم موتي...و ظاهر في ذلك قوة التعبير و حسن لفت الانظار الي هذه الحقيقة، و كذلك كان الخطاب الي سائر الناس لانهم معنيون به و انما خوطب به النبي لبيان اهميته لأن ما يخاطب به النبي يرمز الي عظم الاهمية و هو لو خوطب به الناس لفقد من هذه الاهمية الشي‌ء الكثير...«و لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر انهم لن يضروا الله شيئا يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الاخرة و لهم عذاب عظيم»... آل‌عمران/176في سائر النصوص القرآنية نري أن الله يهون علي النبي امر الحزن و يصرف عنه هم الانشغال بالهموم [ صفحه 109] الناشئة من سوء عمل الكافرين فانه من البديهي أن يحزن المسارعة الكفار الي الكفر غير أن دواعي الهم و الحزن كثيرة العروض فليست هي بالواحدة و لا بالاثنتين و علي هذا أدب الله نبيه بأدب الصبر و التحمل و مواجهة الصعاب و المشاكل و مكايد الكائدين بالاتكال علي الله و الثقة بنصره و ترك ما يشق علي النبي حله الي الله ربه فذلك اولي من الحزن الذي نهي الله نبيه أن يجاوز حده في نفسه.و في النص تعليل لامر الله و رسوله بالصبر و التحمل في قوله سبحانه «يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة...»...و معني قوله تعالي «يسارعون في الكفر» اي يتعجلون الكفر بلا ترو و لا اقبال علي تمييز مفردات الامور و مثل هؤلاء لو آمنوا لما كان في ايمانهم شي‌ء من جدوي...«لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب و لهم عذاب أليم»... آل‌عمران/188هذا النص. نص تهذيبي اخلاقي يعيب علي من يفعل شيئا من الخير أن يتبجح به و كذلك من لم يكن قد فعل شيئا فيروح يطلب من الناس أن يحمدوه و انه لنعم الخلق هذا الذي دعا اليه كتاب الله. اذ ينعدم بالتأديب به ذيوع التبجحات الكاذبة و التطاول علي الناس بالفخر و المباهاة... و قد جعل الله امثال هؤلاء القوم عرضة للعقاب لان وجودهم في الامة مفسدة لاخلاق الامة...ان مثل هؤلاء في سلوكهم هذا قد يظن الظان أنهم لا شي‌ء عليهم من عقاب الله بالحجم الذي جاء به النص و من هنا نبه الله رسوله الكريم بعاقبة من يكون علي هذه الشاكلة من الناس فانهم لا منجاة لهم من النار و لا محيص لهم من عذاب الله.و جاءت «لا» مرتين في بدء النص و نهايته «لا تحسبن الذين يفرحون بما آتوا و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب و لهم عذاب أليم»...و بذلك نفهم أن الله عزوجل يلقن نبيه ما يجعله محيطا بكل عاهات المجتمع و مساءاته مادق منها و ما جل...«و لا تجادل عن الذين يختانون انفسهم ان الله لا يحب من كان خوانا أثيما»... النساء/107نهي الله النبي أن يكون له موقف رفق و تسامح مع الذين يصمون أنفسهم بوصمة الخيانة علي وجه الظن او الحقيقة. و الاختيان يرد في مورد سوء الظن بالنفس كالذي في قوله تعالي «علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم فتاب عليكم و عفا عنكم» البقرة/187...و في ذاك تعليم للرسول أن يكون دائما مع الحق الذي لا شبهة فيه. و الموقف التربوي الالهي أفاد رسول الله كثيرا في تكوين شخصيته المتكاملة و فيما زوده الله به من ادب و حكمة و حسن تصرف و نقي سيرة و صدق تعامل، والنص آت في هذه الموارد...«يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بافواههم و لم تؤمن قلوبهم». المائدة/41المراد في قوله تعالي بمخاطبة الرسول: «لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم» أن لا يحفل بهم و لا يحمل لهم هما و لا يتعكر صفو فكره لامثال هؤلاء الذين اوضح الله مسارعتهم للكفر منذ كانوا اعلنوا ايمانهم من قبل. انما كانت مسارعتهم هذه الي الكفر ناشئة من انهم منذ آمنوا بألسنتهم لم تكن قلوبهم قد آمنت...انه لمن المحزن أن تجد من آمن قد بات في عداد من نكل عن الايمان و صار من الكفار ولكن حين يعلم [ صفحه 110] أنه لم يكن قد آمن اصلا فان الفجيعة فيه غير جديرة به و لعل مسارعته كانت مبادرة منه الي الاعلان عن حقيقة امره و كذب ما سبق أن اعلنه من ايمانه... و عند وضوح مثل هذه الحقائق يكون في ذلك من كسب هو عدل ما هناك من الخسارة. و قد علمنا ان الله عزوجل كان يرشد الرسول الاعظم الي المصابرة و التمالك فلا يكون للجزع الي نفسه من سبيل و بذلك مرن الله نبيه علي الجلد و الثبات و قوة المقاومة و تحمل الهموم و الظهور امام جميع الاحداث بمظهر الحازم الحكيم.«و انزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله و لا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق...»المائدة/48ان بعض هذده اللاءات ترد مسبوقة بنصوص فيها اوامر محددة و بذلك يكون اثر هذه اللاءات اثرا اضافيا و ليس جذريا او اساسيا... فالنهي هنا عن اتباع اهواء القوم يعد حالة تفسير للحكم الذي امر الله نبيه أن يحكم به. ملتزما بما انزل الله و من ذلك الآية التي نحن في صدد الكلام عليها...و يفهم من هذا أن النبي كان قد ناط الله به مهام كثيرة تتعدي مهام الصوم و الصلاة و الامامة في الناس الي القضاء و الحكم و اصدار القرار في اخطر الامور و الاحداث التي كانت تواجهه و فيها ما يتعلق بكيان الامة و سلامة و المجتمع و حل المشاكل التي يثيرها خصوم الملة و اعداء الشريعة، و ما كان اكثر ما يحدث منها في عالم المدينة بحيث يبيت الرسول لها و لا مثالها في شغل شاغل و هم متفاعل و لا يكون معه من يشاطره مثل هذا العناء او يبتلي معه بمثل هذا البلاء...أجل لقد كانت شخصية رسول الله شخصية قيادة و رئاسة و ادارة مضافا هذا فيها الي أنها شخصية نبي و رسول تهدف رسالته الي اصلاح العالم كله و انقاذ البشرية من محنتها في اخلاقها و عقلها و حاضرها و مستقبلها و عللها و مشاكلها و سائر احوالها حيث ما كانت مواقعها من هذه الارض و ذاك فوق ما كان علي النبي من امر توحيد الامة العربية و تطعيمها بالقوة والخروج من قوقعتها الي سائر افاق الله الواسعة لتصنع من اجل الانسانية ما ناط الله بها أن تصنع...حقا ان مهمة الرسول كانت مهمة عظيمة و ثقيلة و شاقة... و قد تكررت هذه التوصيات و النواحي في آية تالية توكيدا لما جاء في الاية التي انتهينا من الكلام عليها و ذاك هو قوله تعالي: «و ان احكم بينهم بما انزل الله و لا تتبع اهواءهم و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم و ان كثيرا من الناس لفاسقون». المائدة/49.و في هذه الآية شي‌ء من التفصيل في الكلام علي نزعة الشر و الخصام و الفتنة و الشقاق في مواجهة الاسلام و مواجهة النبي باشرس وسائل العناد و الغدر و المكاشرة اللئيمة...«قل يا اهل الكتاب لستم علي شي‌ء حتي تقيموا التوراة و الانجيل و ما انزل اليكم من ربكم و ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا و كفرا فلا تأس علي القوم الكافرين»... المائدة/68مخاطبة النبي ب«لا تأس علي القوم الكافرين» و قد جاءت بصيغة النهي القاطع تعني قاعدة مقعدة في هذا الشأن هي أن الكافرين لا يستحق احد منهم ان يأسي عليهم احد أو يأسف أو يحزن. لان النبي صلي الله عليه و سلم لم يقع منه شي‌ء من الاسي لهؤلاء الناس و لا يتوقع أن يقع منه شي‌ء من الاسي عليهم. و ذاك لانهم ليسوا من ذوي قرباه و لا من عشيرته و قد كانوا يزدادون علي مر الايام حقدا علي النبي و عداوة له و يشتد كفرهم بملته و عقيدته و لذا لا يتصور أن يأسي النبي علي امثالهم و اشباههم و قوله تعالي «فلا تأس علي القوم الكافرين» يعد ذما للقوم و لمن نهج علي نهجهم من الضالين المكذبين...«و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شي‌ء و ما من حسابك عليهم من شي‌ء فتطردهم فتكون من الظالمين»... الانعام/52 [ صفحه 111] كان من دأب الاقوام الذي جاءتهم رسلهم بالبينات أن ذوي المكانة و الوجاهة فيهم كانوا ينكرون علي رسلهم أن يتقبلوا ايمان من يحسبونه من السوقة ودهماء الناس في حين أن الشرائع السماوية قاطبة لم تفرق بين الناس تفريقا طبقيا و انما ساوت بينهم حين يقبلون علي انبيائهم باعتناق الدين و تقبله و قد قال قوم لنبي لهم «انؤمن لك و اتبعك الارذلون» الشعراء/111 و كذلك قال قوم النبي لهم «ان نراك اتبعك الا الذين هم اراذلنا» هود/27.والاسلام تقبل من اعتنقه من العبيد و الاماء و المنتمين الي الطبقات الدنيا في المجتمع و كان يشق علي سادات قريش ان يكونوا في عرف الدين الجديد سواسية هم و عبيدهم و اماؤهم و ما يملكون من ارقاء و كان ذلك مما تعد من المشاكل الاجتماعية الكبري التي واجهت الرسول في العهد المكي اول الامر...ان النبي صلي الله عليه و سلم كان يعير هذه الطبقات الدنيا الرعاية التامة اذ كان تحرير الارقاء من بعض مهمامه، و رعاية النساء من بعض مطالب دينه، و القضاء علي معظم العنعنات الجاهلية من بعض شأنه، لذا لم يكن يعير مقولات المشركين في هذا الامر ادني اهتمام و حفول و ان كان كثير التطلع و التوقان الي ايمان الفئات القوية و ذات النفوذ في مكة.ان الرسول كان علي ما هو ثابت و معروف من شرفه الانتمائي الاسري كان يعاني من اضطهاد القوم... «و اذا رأوك ان يتخذونك الا هزوا اهذا الذي بعث الله رسولا» الفرقان/41... و كان يري اتباعه المستضعفين يعانون من الظلم و الاضطهاد الكثير اذ اقبل علي اعتناق الاسلام من الارقاء غير قليل و كان النبي صلي الله عليه و سلم يصبرهم و يوصيهم بالتحمل و لم يعرف عنه أنه خذلهم او أسلمهم بل عرف عنه انه كان يطلب من اغنياء الصحابة شراءهم من اسيادهم كالذي وقع من شراء ابي‌بكر الصديق رضي الله عنه لبلال الحبشي غير أن النص القرآني جاء بصيغة النهي عن طرد امثال هؤلاء المؤمنين للتركيز علي قسوة ذلك ان وقع و بشاعته لو حصل و وفق القاعدة التي أشرنا اليها لم يكن النهي نبيه أن يطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي قد كان من أجل أن النبي طرد احدا منهم و انما سبق هذا النهي ما كان عسي أن يقع مثل هذا الطرد لأولئك المؤمنين رغم أن احتمال وقوعه احتمال جد ضئيل لما اسلفنا من الكلام في هذا الوجه. و النص القرآني «و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شي‌ء و ما كان حسابك عليهم من شي‌ء فتطردهم فتكون من الظالمين».كان ذا ردع عظيم للمشركين و تيئيس لهم من أن يغروا النبي بشي‌ء مما يريدون من ابعاد اولئك المستضعفين عن ساحة الاسلام و عن اهتمام الرسول بهم. و ذاك هو معني هذا النص القرآني الوارد في سورة مكية اوضحت لنا آياتها أهم احداث السيرة النبوية في مكة...«و لا تتبع اهواء الذين كذبوا بآياتنا و الذين لا يؤمنون بالاخرة و هم بربهم يعدلون». الانعام/150في النص ما يشير الي وجود قوي معادية للرسول و لما بعثه الله به من الشريعة السمحة الكريمة اذ كانت اهواء المكذبين هي التي تصول و تجول في الساحة... و قد امر الله النبي أن يكون في مواجهة ذلك. و في قوله تعالي «و لا تتبع» هنا ما يشير الي فساد تلك الاهواء و ضلال اولئك الاقوام و قد وصفهم الله بقوله انهم كذبوا بآياته و أنهم لا يؤمنون بحسابه و عقابه و انهم بربهم يعدلون اي يزيغون عن عبادته من العدول و هو الميل و النكول عن الايمان به و العدول عن عهد الطاعة له...«فلا تعجبك اموالهم و لا اولادهم انما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق انفسهم و هم كافرون»... التوبة/55... [ صفحه 112] النص مسبوق بقوله تعالي «قل أنفقوا طوعا او كرها لن يتقبل منكم انكم كنتم قوما فاسقين و ما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم الا انهم كفروا بالله و برسوله و لا يأتون الصلاة الا و هم كسالي و لا ينفقون الا و هم كارهون»... من سياسة الرسول صلي الله عليه و سلم في مطالب الجهاد و مقاتلة الكفار أن لا يستعين عليهم بغير المؤمنين الصادقين في ايمانهم اذا ما وقع الاقتتال و الاقتحام بل رفض النبي العون المالي الذي يقدمه فريق من هؤلاء الذين وصفهم النص بأنهم لا يؤدون الصلاة الا عن كسل و تثاقل و لا يقدمون من مالهم شيئا الا عن كره و ليس عن تشوق الي هذا العطاء...و لم تكن في سيرة الرسول صلي الله عليه و سلم أية صورة فيها استغلال و انتهازية و لا لأخذ اموال هؤلاء الناس و صرفها فيما تعرض الحاجة الي مثلها.و تكررت الاشارة في القرآن الكريم الي ما كان من مظاهر هؤلاء الناس في كثرة الاموال و الاولاد و ما كانوا يضفونه علي انفسهم من معالم الهيبة و البروز و الفخفخة فان ذلك عند الله ليس بشي‌ء...و النهي عن الاعجاب بالاموال و الاولاد يعني اعطاءهم الكثير من اعتبار في حين انهم لا يستحقون من ذلك لا كثيرا و لا قليلا و قد يكون النبي صلي الله عليه و سلم قد لفت نظره في القوم مثل ذلك فنبأه الله الي أنهم لا يستحقون منه اي تقدير و اهتمام... و قال الله في ذلك «انما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق انفسهم و هم كافرون».ان مثل هذا النص كان يفعل فعله في نفوس المؤمنين. اذ كان اولئك الذين مر الكلام عليهم محل استخفاف المؤمنين و استغنائهم عمن يكونوا علي مثل تلك الحال و ما كان احد يلوذ بهم او يكون له رجاء في اموالهم فلقد عزلهم القرآن عن صميم البيئة و فضحهم أشد فضيحة...و موضوع الاعجاب و النهي عنه تكرر في النص الذي اوردته الآية الخامسة و الثمانون من نفس السورة «و لا تعجبك اموالهم و اولادهم انما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا و تزهق انفهسم و هم كافرون»...«و لا تصل علي أحد منهم مات أبدا و لا تقم علي قبره انهم كفروا بالله و رسوله و ماتوا و هم فاسقون». [33] التوبة/84الضمير هنا في «منهم» يرجع الي نص جاء في آية سبقت هذه الاية هي «فان رجعك الله الي طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا و لن تقاتلوا معي عدوا انكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين». لقد نهي الله عن الصلاة علي اولئك القوم ان مات منهم احد و المراد بالصلاة هذه صلاة الجنازة التي تؤدي من قبل فرد واحد او اكثر من فرد واحد اي جماعة يتقدمهم امام علي ان تكون جنازة المتوفي موجودة بين يدي من يصلي عليها و ذاك وفق مذهب الامام الاعظم ابي‌حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله و فقهاء آخرين رأوا رأيه الذين نهي النبي عن الصلاة عليهم كانوا قد تخلفوا في الخروج معه في بعض الاحوال القتالية و كان النبي قد جاهرهم بأنه يرفض خروجهم معه لمثل ذلك.و في النص ما يشير الي جواز القيام علي قبور المسلمين قصد الدعاء لهم و الترحم عليهم و الاعتبار بالموت و الاتعاظ بمشاهد القبور التي تحتوي علي فئات من البشر كانوا قد عاشوا علي هذه الارض يأمرون و ينهون و يتمتعون بتمع الحياة و يملكون الاموال الطائلة [ صفحه 113] فانه كفي بالموت واعظا و يقول الزهاوي في صفة بعض المقابر:و اذا نظرت الي القبور وجدتها كفلول جيش بالعراء مخيم‌و ما جاء في نهاية النص من وصف القوم «انهم كفروا بالله و رسوله و ماتوا و هم فاسقون» يومي‌ء بأن التخلف عن الجهاد و الفرار من الزحف و ترك الرسول وحده مع من معه و قد يكونون قليلين في مواجهة عدو غاز او عدو يجب تنحيته عن حدود ديار المسلمين ليعد كفرا بواحا و فسقا مبينا.و وجود القبور في المقابر و حيثما وقع لها أن توجد تقوم به الدلالة علي سلطان الله في خلقه [34] اذ كان قد قهرهم بالموت و في بعض الفترات التي يسيطر فيها علي الناس الطاعون و الاوبئة الاخري و فيضان الانهار و انهدام البيوت علي الناس تكثر القبور في كل مكان من البيوت و المساجد و غيرها و لا يصح الاستيحاش من ذلك أو استنكاره و الحكم علي تلك المواقع و المساجد بأنها لا تصح الصلاة فيها فان الصلاة لله و هي فرض مفروض علي الامة لا يعطل فرضيتها وجود قبر حيثما وجد و قد صلي النبي صلاة الجنازة في المقابر.ان الصلاة تؤدي مقرونة بالنية الخالصة لله رب العالمين و ما كان لمصل كائنا من كان أن ينوي أداء صلاته لميت من الموتي و لم يقع عبر التاريخ من ذلك شي‌ء و بهذا لا يكون لوجود قبر معروف الهوية او غير معروفها من دخل في ابطال صلاة مصل او قبولها لا احد يعلم ان صلاة المصلي حتي لو أداها في ساحة الكعبة الشريفة أتقبل ام لا؟ لان ذلك من علم الله وحده.«و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا و كفرا و تفريقا بين المؤمنين و ارصادا لمن حارب الله و رسوله من قبل و ليحلفن ان اردنا الا الحسني والله يشهد انهم لكاذبون، لا تقم فيه ادبا لمسجد أسس علي التقوي من اول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين»... التوبة 108/107حين أتخذ في المدينة مسجد اخر غير المسجد النبوي كان ذلك من قبل اتباع ابي‌عامر الراهب نهي الله نبيه أن يقوم فيه و كان المسجد قد اتخذ للتفريق بين المسلمين. و كان القائمون علي انشائه فئة من المنافقين و قد وصفهم الله بالكاذبين من زعمهم انهم ارادوا الحسني في بناء مسجدهم. و في النص القرآني ما نتعلم به ان قدسية الاماكن لا تنشأ من شكلها انما تنشأ من موضوعها فكون بناية ما مسجدا لا ينبغي اعظامه و تقديسه مالم يكن محققا لشرف المسجدية فيه و لذا قال تعالي في صفة المسجد الذي يستأهل أن يقام فيه «لمسجد أسس علي التقوي من اول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا».و لقد انتهي امر هذا المسجد بهدمه و ازالة معامله علي ان هناك مساجد منصوصا علي قدسيتها و هي المساجد الثلاثة التي وصفت بانها تشد الرحال اليها و هي الكعبة المشرفة و المسجد النبوي و المسجد الاقصي.«و لا يحزنك قولهم، ان العزة لله جميعا هو السميع العليم... يونس/65هذا النص منظور فيه الي قوله تعالي في آيات آتية: «ألا ان لله من في السماوات و من في الارض و ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ان يتبعون الا الظن و ان هم لا يخرصون»..ينهي الله نبيه في النص أن يحزن لمقولات المشركين في حق الله من كفر و شرك و ما الي ذلك فان الله له العزة التي لا تملك مقولات المشركين من أن تنقيها أو تتنقصها...و نهي النبي عن هذا الحزن نهي عن حال واقعة فقد كان من حق النبي أن يحزن لما يراه من موقف الكفار تجاه الخالق العظيم. فلقد جهلوه كل الجهل و انكروه كل الانكار ولكن الله عزوجل هون علي نبيه هذا الامر و جعله يواجه الاحداث بعزم و جلد مكان للحزن معه. فلقد كانت مهمة النبي أن يصحح الاوضاع و يغير الاحوال و يأخذ المشركين و المعاندين الي جانب الايمان [ صفحه 114] والاعتقاد بوحدانية الخالق العظيم في اجواء من الجد و الصبر و المثابرة فان ذلك من منابع العطاء و من مصادر النجاح و ليس في الحزن من ذلك شي‌ء و علي هذا كان النبي بعد هذه التنبيهات الالهية اشد مراسا و اكثر صبرا و اقوي عزما في سائر مواجهاته مع صناديد الكفر في قريش...«لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين. و لا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين». يونس 95/94هذا النص يشبه ما جاء في آيات البقرة/147... و هو قوله تعالي «الحق من ربك فلا تكونن من الممترين»... و قد تم شرحه آنفا... كما أن النص الذي نحن بصدده قد اتبع بقوله تعالي «و لا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين»...النص و ان كان قد خوطب به النبي فانه مراد به سائر الناس و هو نص مغموز به الذين وصفهم الله بأنهم كذبوا بآيات الله فكانوا من الخاسرين و نهي الله نبيه أن يكون كذلك انما اراد الله كما قلنا في مخاطبة النبي مخاطبة الغير لاقرار قاعدة تقرر أن الكذب علي الله مصيره الخسران المبين... و ما كان للنبي أن يكون من هؤلاء القوم انما كان المراد استبشاع حالة الكذب علي الله و سوء مصير من يصنع ذلك تحذيرا للامة أن تفي‌ء الي هؤلاء القوم و في النص ردع شديد لمن يكونون علي هذه الشاكلة...و توصية النبي بأن لا يكون من الممترين قد تكررت في القرآن الكريم و قد سلف القول علي معني الامتراء فيها. و الآيات الواردة في هذا المعني يراد بها تثبيت النبي و شد أزره في مواجهة العدد العديد من الممترين و المكذبين و الخصوم المخاصمين...«و أن أقم وجهك للدين حنيفا و لا تكونن من المشركين، و لا تدع من دون الله مالا ينفعك و لا يضرك فان فعلت فانك اذن من الظالمين»... يونس 106/105في هذا النص تصوير للايمان الحق الذي هو اقامة المؤمن وجهه للدين حنيفا و عكس ذلك هو الشرك بالله اذ فصل الله بين الشرك و بين التوحيد الخالص. و قد جاء النص في هذا لمخاطبة النبي صلي الله عليه و سلم و التعليم الالهي هنا تعليم عام يراد به سائر المخاطبين. فان النبي صلي الله عليه و سلم لم يكن مقيما وجهه لغير الدين حنيفا و لا كان ممن اشرك بالله شيئا...و بعبارة اخري ان هذا النص الذي يتألف من آيتي يونس 106/105... يعد ناموس الشريعة و قانون العقيدة والاصل الذي قامت عليه الملة و جاء به رسول الله من ربه اذ جاء فيه «و لا تدع من دون الله مالا ينفعك و لا يضرك فان فعلت فانك اذن من الظالمين»... و الغرض من مخاطبة النبي بذلك تثبيت هذا الاصل و تحديد حدود الدين به و هو كذلك من الخطابات التي يعني بها سائر افراد الامة لانها كما قلنا تتضمن جوهر العقيدة الاسلامية و خلاصة التوحيد و اللجوء الي الله وحده علي أن في توجيه ذلك الي النبي بدءا ما يدل علي شرف الموضوع و عظم موقعه في تعاليم الدين اذ وجه الي النبي قبل أن يوجه الي المسلمين.و مما يتمم الحلقات في سلسلة هذا التعليم النقي و التهذيب السليم ما جاءة لو تلك الاية و هو قوله تعالي: «و ان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو و ان يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده و هو الغفور الرحيم» يونس/107... ان هذا النص من متممات النص الاول في صرف انظار العباد الي الله و التوكل عليه و الانابة اليه يستوي في الامر بالالتزام بذلك في الانبياء و الرسل و سائر اتباعهم...«فلا تك في مرية منه انه الحق من ربك ولكن اكثر الناس لا يؤمنون»... هود/17اي لا تك في مرية من الكتاب الذي هو القرآن... مخاطبة الرسول بمثل هذه المخاطبات يراد بها كذلك مخاطبة سائر المؤمنين... و لذلك جاء في ذات النص القول علي ان اكثر الناس لا يؤمنون... و ايمان الناس [ صفحه 115] بهذه الحقيقة مما يجب أن يستمسكوا به و يطمئنوا اليه و يعلموا أنه الحق الذي لا مرية فيه فما يخاطب به النبي من مثل ذلك مراد به مخاطبة سائر الناس و البدء بالرسول في هذه المسائل من سنن النظام القرآني و منهاجه و الناس في عبادة الله يستوي رسولهم و من ارسل اليهم علي ما يلمسه من يتتبع آيات القرآن و ما جاء فيها من التعاليم و الاحكام. فان النبي صلي الله عليه و سلم مأمور بأداء شعائر الدين من صوم و صلاة و حج و زكاة و مأمور كذلك بالالتزام بما هناك من حلال و حرام و التقيد بكل شعيرة من شعائر الدين و فريضة من فرائضه و الناس هم كذلك، و لأجل هذا نري خطابات الاحكام و الاسس الدينية للعقيدة يخاطب بها النبي بدءا كما أن النواهي و المحرمات و اللاءات الالهية ترد موجهة الي الجميع في الغالب. اذ قد تكون في الخطابات القرآنية خصوصيات يكلم بها النبي وحده...«فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون الا كما يعبد آباؤهم من قبل و انا لموفوهم نصيبهم غير منقوض»... هود/109النص القرآني و ان كان مخاطبا به الرسول الاعظم انما هو نص مراد به انكار المعابيد التي يعبدها اولئك الكافرون و لم يكن النبي صلي الله عليه و سلم في مرية من ذلك و انما نهاه الله عن أن يكون في مرية مما يعبد القوم قصد الاعلان عن بطلان هاتيك العبادات. و ذاك من بليغ التعبير القرآني في استنكار امور يستنكرها...«فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ان الله عزيز ذو انتقام»... ابراهيم/47الخطاب و ان كان موجها الي النبي. فان النبي غير مقصود به و انما المقصود به من اراد الله ان يفرض عليهم عزته و أن يخيفهم نقمته...«لا تمدن عينيك الي ما متعنا به ازواجا منهم و لا تحزن عليهم و اخفض جناحك للمؤمنين»... الحجر/88في النص القرآني تهذيب و موعظة. اذ يريد الله من نبيه أن لا يجعل غني من اغناه الله محل اعتبار عنده و لا يجعل عقوق اولاء ربهم محل حزنه و تكدر خاطره و أمره بأن يصرف همه في رعاية المؤمنين فانهم عرق الامة و أرومتها و جذعها و عمودها...و مثل ذلك مما يستحق التفاؤل الحسن و قوله تعالي «و قل اني انا النذير المبين» فيه ما يشير الي أن امام هذا النذير المبين مستقبلا حافلا بالنجاح و التوفيق.«لا تجعل مع الله الها اخر فتقعد مذوما مخذولا»... الاسراء/22يتضمن هذا النص الذي خوطب به الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم قاعدة عقائدية تقرر أن مصير من يجعل مع الله الها اخر هو القعود مذموما مخذولا.فالخذلان و التعرض للذم من عواقب الشرك بالله لان المشرك بالله لا يدري اين يتجه في دعائه و رجائه و بمن يستعين و بمن يستجير و من من هؤلاء الشركاء يقصد في طلب الرزق و الشفاء و النصر علي الاعداء. و كذلك الخذلان و الخزي يلقاه من ربه يوم عرضه عليه و حسابه... و مخاطبة النبي بذلك اصل من اصول التعليم القرآني و الله عزوجل لا مجاملة تكون في خطابه لعباده في امور تخص وحدانيته و قيمومته علي مخلوقاته، و لذلك يبدون النص علي جانب من صراحة الخطاب الذي تضمن التوعد الالهي لمن يجعل مع الله الها اخر... و هو من الخطابات التي يراد بها الناس لأنهم هم المقصودون بها...و لا يعني شي‌ء من هذه الخطابات المضمخة بالشدة و القسوة انها النمط الاسلوبي في مخاطبة الله نبيه محمدا صلي الله عليه و سلم و انما يعد ذلك كما قلنا هو النهج القرآني العام في سائر البلاغات القرآنية لان الجانب المهم و المقصود فيها هو ايصال محتوي هذه الخطابات الي سائر الناس، و في الناس هؤلاء المعاندون و المستكبرون و الملاحدة و الكافرون و من كان اشباههم و نظرائهم...«و لا تجعل يدك مغلولة الي عنقك و لا تبسطها كل البسط فتعقد ملوما محسورا»... الاسراء/29 [ صفحه 116] في هذا النص درس في بعض آداب الحياة الاجتماعية الجاءت فيه التوصية بالاعتدال بالنفقة و عدم الشح و البخل علي الوجه الذي لخصه شاعر بقوله:بين اسراف و بخل رتبة و كلي هذين ان زاد قتل‌والخطاب و ان كان وجه الي النبي و خوطب به فانه مراد به جميع الناس من اسخياء و بخلاء و من مبذرين و مقترين...و النبي يعد انموذجا بشريا يصلح أن يخاطب بمثل ذلك من غير أن تكون هناك خصوصية في مخاطبته، فانه لم يعرف في شخصية النبي أنه كان مبذرا او كان مقترا. و انما كان يعرف بأنه كان جوادا ذا تصرف رشيد في منعه و عطائه. ولكن النص كما قلنا انما وجه اليه وفق السنة المسنونة في الخطابات القرآنية الرشيدة و الحكيمة... و كذلك ليعلم الكفار و غيرهم جدية الأمر الالهي في هذه المخاطبة...«و لا تقف ما ليس لك به علم ان السمع و البصر و الفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا. و لا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض و لن تبلغ الجبال طولا. كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها». الاسراء 38/36في هاتين الايتين الكريمتين عظات عالية المستوي في الاخلاق و السلوك الحميد و أن ذلك لمن بعض مكونات شخصية الرسول الاعظم، اذ كان يريد الله بهذه العظات و بنظائرها أن تمتلي‌ء شخصية النبي حكمة و سدادا و رشادا و هذا ما كان علي الوجه الذي اراده الله و علي الحالة التي شاءها الله لنبيه و صفيه و حبيبه و خليله محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم...و الخطاب هنا و ان كان مخاطبا به النبي انما هو خطاب للناس علي وجه الترغيب و الترهيب فان الرسول لم تعرف فيه هذه الخصال الممنوعة التي هي من السيئات المكروهة و لا كان عليه الصلاة و السلام متكبرا و جبارا في الارض يمشي فيها بمرح و خيلاء و لا كان خطاب الله له بأنه لن يخرق الارض و لن يبلغ الجبال طولا بمقصودة ذاته الشريفة به و انما هي السنة الاعلامية في القرآن ليتأدب كبراء القوم قبل صغرائهم بالادب العالي و السلوك المحمود...«ذلك مما اوحي اليك ربك من الحكمة و لا تجعل مع الله الها آخر فتلقي في جهنم ملوما مدحورا». الاسراء/39و هذا نص اخر قرآني علي غرار ما اوردناه من النصوص يلاحظ عليه انقمت الالهي في المخاطبة التي تتمثل فيها القواعد العامة في الترغيب و الترهيب و البلاغات الالهية. فان الناس في ذلك سواسية كأسنان المشط حين يكلمهم الله في شأن ذاته العلية و صفاته القدسية...و النبي و غيره مخاطبون بهذا الخطاب الحدي الحاسم «و لا تجعل مع الله الها آخر فتلقي في جهنم ملوما مدحورا». فان الله جل جلاله هو الله القاهر فوق عباده. غير أن من الامر البديهي أن لا خصوصية للنبي في مثل هذا الخطاب و نظائره لانه المؤتمن علي عقيدة التوحيد و الرافع لواءها علي كل صعيد. و قد لقي من اجلها ما لقي من اذي المشركين و عدوان المعتدين و سخرية الساخرين. الا أن النهج الالهي كما قلنا في حق الخالق العظيم ماض علي هذا الوجه و هذه السنة منذ عهد اول نبي بعثه الله الي اخر نبي ارسله الله و هو محمد بن عبدالله...«و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها و ابتغ بين ذلك سبيلا»... الاسراء/110في هذا النص تعليم يعلمه الله نبيه في كيفية ادائه صلاته و الخطاب في امر الصلاة. فان ذلك أليق بأداء العبادات و اجدر بمن يستقبل القبلة للصلاة و قد امره الله أن يتخذ بين الجهر و المخافتة سبيلا لاتصارخ فهي و لا تهامس و هو لعمري سبيل تبدو فيه الصلاة و لها رونق و وقار و قنوت و خشوع تطمئن الله النفوس و ترتاح الاسماع و تهش القلوب... [ صفحه 117] و قد قال النبي صلي الله عليه و سلم لرجل جهر في صلاته ]انك لا تدعو أصم[... و الخطاب في امر الصلاة خطاب لجميع المصلين الذين يجب عليهم الاهتداء بهذا الهدي و الاقتداء بهذا المقتدي... و الجهر المنهي عنه هو ما يكون فيه غلو ظاهر تفسد به الصلاة و تبدو و كأنها من بعض لغط اللاغطين و نداء الباعة في الاسواق. فما ينبغي لمصل أن يصنع ذلك.«فلا تمار فيهم الا مراءا ظاهرا. و لا تستفت فيهم منهم احدا. و لا تقولن لشي‌ء اني فاعل ذلك غدا. الا ان يشاء اله و اذكر ربك اذا نسيت...»... الكهف 24/23/22في النص ما يوصي النبي بأن يعد ما جاء في شأن اهل الكهف في كتاب الله مقصورا علي المعلومات التي جاءت فيه لان انباء اهل الكهف قد تضاربت فيها الاراء و تعارضت فيها الاقوال و الانباء...و قصة اهل الكهف قصة كان المراد من سردها الوصول الي حكمة او اكثر من حكمة. فالجانب التاريخي فيها غير ذي شأن و لا اهمية و لذا لم تورد في القصة اسماء القوم و لا مكان الكهف و لا المدينة التي بعثوا احدهم اليها ليشتري طعاما. و امثال هذه الامور لم نجد القرآن يعيرها شيئا من الاهمية.اما قوله تعالي «و لا تقولن لشي‌ء اني فاعل ذلك غدا. الا ان يشاء الله و اذكر ربك اذا نسيت. و قل عسي ان يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا» فانه من التعاليم القرآنية التي تجعل المؤمن متكلا علي الله في كل شي‌ء و أن يعلم انه لا ارادة له يتحكم فيها بيومه و غده و مستقبله...و في قوله تعالي «و لا تقولن لشي‌ء اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله و اذكر ربك اذا نسيت»...في هذا النص توصية بتعلق البعد بربه و اتكاله عليه و ثقته به فانه جل و علا هو الذي يمنح الناس الحياة و بحدد لهم الآجال و يقدر لهم الارزاق و من هنا فان في يده وحده الغد و ما بعد الغد... و حين يعرف العبد ذلكيكون تصرفه وفق هذا التعليم الرشيد الذي يسقط انانية الاناني و اعتداد المعتد بنفسه...ان هذا الخطاب و ان كان موجها الي النبي فهو خطاب تربوي القاه الله الي سمع الامة كلها. و النبي صلوات الله و سلامه عليه لقربه من الله و المامه باحكام دينه يعرف ذلك جيدا فما كان يجهل منه شيئا الا أن النص قد ورد موجها اليه لتعلم الامة اهمية ذلك و هو من بليغ اسلوب القرآن في الموعظة و الارشاد و التعليم...ان جماع هذه التوصيات القرآنية الملقاة الي رسول الله صلي الله عليه و سلم كانت هي مفردات تكوين شخصيته النبوية العظيمة النادرة المثيل في الاداب و السلوك و الايمان و العقيدة...«و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدينا و لا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان امره فرطا»... الكهف/28الكلام علي تصبير النفس مررنا به في جدول الآيات الداعية الي الصبر و الموصية به. و يبدو أن فريقا من مستضعفي المؤمنين من الموالي و غيرهم ممن اعتنقوا الاسلام اوائل العهد المكي كانوا يؤلفون من بعض افرادهم جماعة او اكثر من جماعة يتعبدون الله علي ضوء تعاليم الدين الحنيف. و قد امر الله رسوله أن يرعاهم و أن يتفقدهم. و طبيعي أن من بعض ذلك مدهم بالايات النازلة و الاحكام المقررة، ولكن صيغة هذا التوجيه جاءت بالفاظ الامر و النهي علي جاري عدة الاسلوب القرآني في امثال هذه الخطابات...و في النص اشارة ظاهرة الي وجود قوي كافرة غير مؤمنة من المشركين ما تزال تتربص بالمؤمنين الدوائر و تتعمد الاساءة الي الدين الجديد بكل ما تملك من نزعة العدوان و الاساءة اليه و من بعض ذلك قوله تعالي «و لا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان امره فرطا»... و بديهي أن النبي صلي الله عليه و سلم لم يكن بالذي يطيع امثال هؤلاء الناس ولكن النهج [ صفحه 118] التعبيري القرآني المعتاد في معظم الاوامر و النواهي كان هذا النهج... و قوله تعالي: «و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا» لا يعني أن النبي كان يريد زينة الحياة الدنيا ولكنه القياس و المقارنة بين امرين اثنين متناقضين و متعارضين...والنبي رجل حكمة و تبصر و تواضع و ادب كريم يضاف الي ذلك ما كان الله عزوجل يكثره من تلقينه و تعليمه لذا فان مفهوم المخالفة في النص لا وجود له...«... و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي اليك وحيه. و قل رب زدني علما». طه/114كان ما يقع للمسلمين امور يجعل الرسول صلي الله عليه و سلم يترقب أن ينزل في ذلك وحي يقرر الامر الذي يجب اتخاذ القرار فيه اذ لم يكن الرسول يقطع امرا في النوازل و معقد المسائل و مثل هذا الترقب يتأتي منه انشغال النفس و قلق الفكر و ثقل التربص و علي هذا أوحي الله لنبيه ما يهون عليه ذلك و قوله تعالي «و قل رب زدني علما» وصية للنبي بالاستزادة من العلم و الحكمة فانها العمود الذي تقوم عليه خيمة القيادة التي آتاها الله نبيه. فاذا عملنا ان الاية من الايات المكية علمنا أية توجيهات هذه التي يبادر الله نبيه بها و هو في اول نأنأة الاسلام و عند بزوغ الضياء الاول لفجر يومه العظيم...«و لا تمدن عينيك الي ما متعنا به ازواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فهي و رزق ربك خير و ابقي»... طه/131من التوجيهات الالهية الموجهة الي الرسول الاعظم يوصيه الله فيها بأن ينظر الي الارزاق بأنها محددة من الخالق الرازق علي الوجه الذي اراده و قرره وفق خكمة هو ادري بما يتحصل منها من خير و هذا ما يجعل كل عبد مؤمن مطمئنا الي رزقه فلا يطمع في حصة غيره من هذا الرزق و لا يحسده و لا يتمني زوال نعمته. و قوله تعالي «ازواجا» أي اناسا كثيرين و قوله تعالي «لنفتنهم فيه» اي نختبر شكرهم للنعمة و كفرهم بها و ليس توسيع الرزق علي احد من عباد الله بالذي يكون لكبير مزية فيه او عظيم فضل فان ذلك ليس مما يعد اصلا في هذا الباب...ان النبي صلي الله عليه و سلم يعلم ذلك لانه من اصول العقيدة التي تسع الاعتراض علي الله في مثل هذه الامور لذا لا يكون قوله تعالي «و لا تمدن عينيك الي ما متعنا به ازواجا منهم زهرة الحياة الدنيا» نهيا عن شي‌ء وقع للنبي اراد الله أن لا يتكرر منه و انما هو مطلق النهي اي انه نهي عن اشياء لا يراد لها أن تقع و ذاك من سنن التعبير القرآني و من ركائز الموعظة الحسنة و أسس التوجيه السديد لا سيما حين يكون الخطاب محصورا في اطار الازمنة المستقبله. و قوله تعالي: «و رزق ربك خير و ابقي» يؤيد المعني الذي شرح به النص...«لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الارض. و مأواهم النار و لبئس المصير»... النور /57الكلام علي هذا النص تم في باب - حسب، يحسب - في هذا الكتاب...«و لو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا، فلا تطع الكافرين و جاهدهم به جهادا كبيرا». الفرقان 52/51المراد بالقري هنا ما يتناثر من البلدان علي اختلاف مساحاتها اذ ان الله بعث في القري الكبيرة رسلا و انبياء... و القري هذه انما هي ما تسكنه أمم و شعوب و اقوام معروفون بالانتماء الواحد الي لغة او قومية او جنس من اجناس البشر...كما أن الله عزوجل امر نبيه بمقاطعة الكافرين و المضي في مجاهدتهم حتي يحين يوم انتصاره الذي وعده الله...«فلا تدع مع الله الها آخر فتكون من المعذبين... و أنذر عشيرتك الاقربين... و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين... فان عصوك فقل اني بري‌ء مما تعملون...»... الشعراء 216/125/214/213 [ صفحه 119] النهي الذي خوطب به النبي ليس نهيا عن أمر وقع منه و حدث له لان النبي لم يكن قد فعل ذلك او شيئا من ذلك ولكن صيغة النهي يعبر بها بالبلاغة القرآنية في معني صيغة الامر و قد كثرت اشارتنا الي ذلك عند الكلام علي آيات قرآنية جاءت بهذه الصيغة... علي أن هذا الامر مخاطب به سائر الناس، و في تخصيصه بالنبي تنويه بعظيم اهميته في مخاطبة الغير...«و لا تحزن عليهم و لا تكن في ضيق مما يمكرون»... النمل/70المراد بقوله تعالي «و لا تحزن عليهم» أن لا يحزن بسببهم و أن لا يقلق لما يتخذون من قرارات ما كرة ضده و ضد دينه فان الله مبطل مكرهم و جاعل كيدهم في نحورهم و هو الذي يتولي عنه كل شي‌ء...و يفهم من ذلك أن الهم كان يأخذ من نفس النبي موقعا عميقا و القلق يساور افكاره تجاه المواقف الشريرة التي يقفها منه جماعة المشركين. و كان الله عزوجل يهون ذلك عليه و يطيب خاطره و ينشر ألوية التفاؤل بالنصر و التوفيق امامه.«و ما كنت ترجوا أن يلقي اليك الكتاب الا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين. و لا يصدنك عن آيات الله بعد اذ انزلت اليك وادع الي ربك و لا تكونن من المشركين، و لا تدع مع الله الها آخر، لا اله الا هو كل شي‌ء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون»... القصص 88/86في هذه الآيات جماعة من التوجيهات الالهية للرسول الاعظم و فيها اوامر و نواه و خلاصات عقائدية تعد من اصول الاسلام و ركائزه الاساسية و قد جاء ذلك بأسلوب بليغ رصين العبارة واضح القصد سريع النفوذ الي النفس و قوي التأثير فيها...ان المعاناة التي كان يعانيها النبي خلال ادائه رسالته ربه و انذاره قومه و عشيرته و من وراءهم من الناس كانت معاناة قاسية نوهت بها مفردا هذا النص القرآني الذي تلاحظ فيه و عليه ملامح الجو المكي الذي كان النبي يمخر عبابه بعزم شديد و همه عالية...و كذلك نكرر هنا أن صيغ النهي التي فيه لم ترد لذاتها انما وردت لملابسات هناك و جاءت وفق نهج قرآني اعلامي خاص يراد به من صيغة كل نهي صيغة أمر أو صيغة تحذير أو صيغة خطاب لقوم آخرين...«و من كفر فلا يحزنك كفره الينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا ان الله عليم بذات الصدور»... لقمان/23أي لا يأخذ منك كفر من كفر منهم مأخذا عميقا فتغتم و تهتم. فان الله يتكفل امر هذا النمط من الناس. والايات التي ترد في مثل هذا المعني من تصوير النبي و صرف الهم عن نفسه كانت تفعل فعلها في اراحة بال النبي ليكون ابدا في جو يساعده علي اداء المهمة الرسالية العظيمة...و يفهم من ذلك أن ظروف الدعوة التي يحمل النبي لواءها و هو في مكة كانت من اقسي الظروف و اشدها عناءا و اكثرها اذي...«و لقد آتينا موسي الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه و جعلناه هدي لبني‌إسرائيل»... السجدة/23يخبر الله نبيه - و قد كثر ذلك في الايات القرآنية - باخبار من قبلهم من الرسل الذين كانت مهمتهم محصورة حصرا في الدعوة الي توحيد الله عزوجل و الحث علي عبادته و الرجوع اليه و الاستعاذة به و الاتكال عليه. و قد ذكر النص القرآني ان الله آتي موسي عليه‌السلام الكتاب اي التوراة التي هي الاسفار الخمسة مع تحفظنا في ذلك و قد صار اسم التوراة شاملا لجميع ما كتبه انبياء اليهود بعد موسي في اسفارهم...اما قوله تعالي «فلا تكن في مرية من لقائه» فالمخاطب به الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم أي [ صفحه 120] لا تكن في مرية من لقاء الله لان المقام كلام علي الرسالات السماوية و صلب موضوعها هو الله عزوجل و لقاؤه. لذا جاء هذا النص استطرادا اقتضته و دلت علي حقيقة معناه القرينة الواضحة، و لم يكن النبي في مرية من لقاء الله ولكن النهج التعبيري في القرآن الكريم يأخذ باللاءات ابتغاء تثبيت معان في تثبيتها تثبيت لعقائد من صميم الدين تأتي العبارة القرآنية عليها بأسلوب النفي أي ان قوله تعالي «فلا تكن في مرية من لقائه» مراد به امره بالاستيقان من ذلك أي كن مطمئنا الي لقائه و واثقا من لقاء الله كل الوثوق...«يا ايها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين ان الله كان عليما حكيما... و أتبع ما يوحي اليك من ربك ان الله كان بما تعملون خبيرا... و توكل علي الله و كفي بالله وكيلا»... الاحزاب 3/1في هذه الآيات المدنيات تثبيت لقدم النبي في ساحة المواجهة تجاه من كان هناك من خصوم الدين من يهود و منافقين و غيرهم و ذاك بقوله «يا ايها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين ان الله كان عليما حكيما» و لم يكن النبي قد اطاع الكافرين و لا المنافقين ولكنه التعليم الالهي يرد بصيغة النهي و التحذير لما في هذه الصيغة من قوة الاداء و شدة الحكم. و قوله تعالي «ان الله كان عليما حكيما» أي انه تعالي محيط باعمال هؤلاء الكافرين و المنافقين و عالم بما يسرون و ما يعلنون و أنه حكيم فيما يحكم به في شأنهم، و بهذا تطمين للنبي الي أن كل شي‌ء سيتم بعلم الله و حكمته.«و لا تطع الكافرين و المنافقين ودع اذاهم و توكل علي الله و كفي بالله وكيلا»... الاحزاب/48في هذا النص ما يشعر بالحاح اهل الكفر و الماردين علي النفاق من اهل المدينة في اضجار الرسول الاعظم و ايذائه اذ يوصيه الله بأن يتحمل ذلك و لا يأبه بما يعرض له من اذي اولئك الكافرين و المنافقين.فأنه أذي سيصرفه الله عنه فليتوكل علي الله فانه خير حام و خير منقذ و خير منجد.والآية كما قلنا مدينة تسجل علي خصوم النبي في المدينة من العدوان و الفساد في الارض ما سجلته علي خصومه في مكة...«لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من ازواج و لو اعجبك حسنهن الا ما ملكت يمينك و كان الله علي كل شي‌ء رقيبا»... الاحزاب/52كان الرسول قد أحل له الزواج من اكثر من امرأة و قد ظهر لنا من السيرة العائلية له صلي الله عليه و سلم أن زواجه كان ذا مغزي يبعد كثيرا عن زواج الاخرين و لسنا في صدد تفصيل ذلك الكتاب و قد كان مألوفا تعدد الزوجات في تلك الازمنة و ما قبلها و ما من أحد من الشخصيات العربية ذات المال و النفوذ الا كان متزوجا عددا عديدا من الزوجات اذ كان العرب يباهون بكثرة الابناء من الذكور خاصة...ان النص القرآني الذي نحن في صدده حدد زواج الرسول بمن كان قد تزوجهن من النساء و قوله تعالي «و لو اعجبك حسنهن» لا يعني أن النبي كان يتزوج من يتزوج من النساء بمن كان يعجبه حسنها... اذ لا نجد الامر كذلك عند استعراض اولئك النساء انما كان الامر كما اشرنا منوطا بأمور مصلحية غير خاصة...اما ملك اليمين فانه صلي الله عليه و سلم لم يستعمل من هذا الحق لا قليلا و لا كثيرا الا ما وقع من هدية صاحب مصر اليه اذا اهداه مارية القبطية التي عاملها الرسول معاملة حرائر النساء، فلقد كان النبي يرعي المرأة رعاية تامة فما كان يجعل في بيته امرأة مسترقة يشتريها من هنا و هناك لما كان يري في وجود الاماء في بيته - ان وجدن - من تسيب البيت و اقامته علي قاعدة مهزوزة و ذلك من بعض من وهبه الله من حكمة و تبصر و بعد نظر و حسن تصرف... [ صفحه 121] و هذا مالا مصلحة للنبي فيه... و كذلك يترتب علي ملك اليمين أن تباع الواحدة منهن و تشري. و لم يكن النبي قد فعل ذلك فاشتري الجواري و باعهن و ذاك لجلالة قدره و عظم مكانته في الامة و من هنا كان النص يتعلق بملك اليمين نصا آتيا علي القاعدة التي تحل ملك اليمين لسائر الناس و لا مفهوم للنص... الا هذا ان قوله تعالي «الا ما ملكت يمينك» لا يعني الاستثناء في الاباحة و انما هو الاستثناء الجاري علي أصل القاعدة التي هي أن يكون للنبي اماء يتملكهن و يقمن في بيوته و ذاك قياسا علي ان النبي لا تنكح ازواجه من بعده، و حكم الاماء كمثل ذلك الحكم و حكم اولئك اللاتي هن من بعض ملك اليمين كحكم سائر ازواجه، كما أن الاماء يتقلبن من يد الي يد تقلب امتلاك و استرقاق...و قوله تعالي «و ما ملكت يمينك» قول ورد في معني الاباحة العامةاي التي هي من حق سائر الناس و ان لم يكن لها مفهوم معين في حق الرسول... و الاباحة العامة لا يرد فيها تحجير او استناء بعض الافراد منها ولكن خصوصيات شخصية الرسول هي التي يفهم منها ما يفهم من أمر هذه الاباحة...«افمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فان الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ان الله عليه بما يصنعون»... فاطر/8في النص ما هو من قبيل تهوين جرائر الامور يقترفها اناس في خاصة انفسهم كانت تؤذي رسول الله نفسيا اذ كان يتمني أن لا يكون هذا الذي كان من القوم قد وقع منهم... و قوله تعالي «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» اي لا تحمل هم هذا النمط من الناس، و التعبير القرآني يدل علي أن النبي كان شديد الاغتمام بالامر المنوه به في الآية... و الحال التي وصفها الله يتزيين الاعمال السيئة من قبل من يعنيهم النص...ان سياسة التوجيه القرآني لبثت تنصب علي تفريغ نفس النبي من الهموم بما قد يتأتي منه تعويق المهام الكبري التي هي دعائم الدين و ركائز الدعوة...و مما جاء في القرآن الكريم من مثل تهوين الامور علي النبي قوله تعالي: «فلا يحزنك قولهم، انا نعلم ما يسرون و ما يعلنون»... يس/7«ما يجادل في آيات الله الا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد»... (المؤمن) غافر/4يبدو من النص أن ذوي الغني و السعة في الرزق كانوا اشد تعلقا بالجدل و تكذيب الدين من فقراء الناس و بسطائهم. و النص يضع قاعدة اساسية في مثل هذه الامور. فانه ليس من الضروري أن يسكت الله كل مجادل أو أن يبطش بكل متعلق بباطل و أن يفقر الله كل غني منهم و يسلب من كل ذي ماله ماله. و ما يناله هؤلاء من تقلب في البلاد و اكتساب المنافع و الارباح امر لا علاقة له بكفر أو ايمان. و قوله تعالي «فلا يغررك تقلبهم في البلاد» يعني تنبيه النبي الي أن لا يقلق باله من جدل الكافرين الذين يتمتعون بنعم الحياة رغم كفرهم...«ثم جعلناك علي شريعة من الامر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون»... الجاثية/18يلاحظ الكلام عليها في هذا النص و نظائره في باب - تبع - يتبع -«فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل و لا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك الا القوم الفاسقون»... الاحقاف/35قوله تعالي «و لا تستعجل لهم» و ان كان قائما علي النهي فان المراد به زف بشارة الي النبي لأن القوم مقبلون علي التعرض لعذاب الله... و في زف البشارة اليه صلي الله عليه و سلم شد لعزمه... و تنويه بباهر [ صفحه 122] مستقبله و آتي ايامه... و للبشائر الالهية في نفس النبي اشراق عظيم و تفاؤل بالتوفيق كبير...«يا أيها النبي اذا طلقتم السناء فطلقوهن لعدتهن و أحصوا العدة و اتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن الا أن ياتين بفاحشة مبينة و تلك حدود الله و من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدي لعل الله يحدث بعد ذلك امرا»... الطلاق/1الآية آية تشريعية فيها احكام الطلاق و العلاقات الزوجية جاء ذلك بهذه الصيغة لئلا ينصرف معني النص الي الجانب الخصوصي في حياة الرسول صلي الله عليه و سلم اذ كانت بعض الاحكام تدور علي خصوصياته صلي الله عليه و سلم والكلام علي مثل ذلك في القرآن الكريم قليل جدا في مسائل الاحكام و العبادات و الاحوال الشخصية.«فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون و لا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم»... القلم 13/12/11/10/9/8في النص شهادة و ثقي بان الرسول كان صريحا في سلوكه و تعامله في بيئته و مع سائر الناس من قومه و سائر اعدائه و مخالفي خصومه اذ نص علي أنه صلي الله عليه و سلم لم يكن مداهنا و هو لو داهن لداهنوا و لضاعت حقائق و قيم كثيرة في هذا التيار. ان المكذبين الذين عناهم النص لم يكونوا من ضعفاء الناس بل كانوا من ذوي الطول و الشأن فيهم. و قوله تعالي «و لا تطع المكذبين» يفهم منه أنهم علي حد ما وصفناهم به من الطول والقول...و قد يميل الانسان لا سيما من كان كريم الطبع سليم القلب الي تصديق من يقسم في كلامه و يحلف من اجل تأييد مقاله ولكن الله نبه النبي الي أن لا يكون مثل هذا الحلف بالأيمان آخذا في نفسه مأخذ الثقة و القناعة. بل ان النص غمز الذين يكثرون من الحلف و جعلهم ممن ينبزون بالمهانة كأنهم لا يجدون في انفسهم من خصال الصدوق و الكمال النفسي و الخلق ما يزكيهم امام الغير لذا تراهم يعمدون الي اللياذ بالأيمان يقسمون بها و يحلفون بغير حساب. فمثل هؤلاء نهي الله النبي أن يصدقهم في شي‌ء...و قد زاد النص هؤلاء الحلافين صفات اخري فضحت حقيقة شخصيتهم بأنهم همازون مشاؤون بالنميمة و انهم مناعون للخير و انهم معتدون آثمون... و معني النهي عن اطاعتهم أن لا يعيرهم النبي شيئا من الاهمية و أن يواجههم بأنهم غير جديرين بالتصديق. و الذين نزل فيهم هذا النص يعرفون ما نزل فيهم منه...ان المواجهة كانت حادة في هذا المجال بين النبي و بين القوم و بينهم و بينه و ان قوله تعالي «و لا تطع كل حلاف مهين» كشف به تعالي عما في قلوب هؤلاء الناس من الزيغ و الكفر و ابيتغاء الشقاق و الفتنة و قد كان مثل هذه الآيات الصريحة في حق كفرة القوم ما يدخل في نفوسهم الخوف و الرعب، و اليأس من ادخال النبي في كماشة محاولاتهم الفاشلة. ان في مخاطبة اناس من الكفار من ذوي الطول و الصولة بمثل هذه اللهجة العنيفة دلالة علي القوة التي يتمتع بها الجانب الاسلامي الذي هو مجموع من كان مع النبي من المؤمنين، اذ كانت القوة و الضعف يترددان بين الفئتين فئة المؤمنين و فئة القوم الكافرين.«فاصبر لحكم ربك و لا تكن كصاحب الحوت اذ نادي و هو مكظوم، لو لا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء و هو مذموم»... القلم 49/48خاطب الله رسوله له الاعظم في أن لا يكون كصاحب الحوت و هو النبي يونس عليه‌السلام اذ كان قد نفد صبره، و قد جاء هذا الوصف بعد كلمة الصبر التي أمر النبي به... و قد مر بنا الكلام علي آيات الصبر التي خوطب بها الرسول الاعظم من استدلالنا به علي ان هذه التوصيات بالصبر لا تعني ان النبي صلي الله عليه و سلم نقد صبره و انما هي التوصية الالهية التي تعد [ صفحه 123] اصلا في كل دعوة سماوية يبعث الباري عزوجل في صددها نبيا الي عباده... و في القرآن الكريم...«لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا». الاسراء/74 النص يتكلم علي التوفيقات الالهية التي حباها رسوله، و ينوه بالتداركات التي كان يحيطه بها، و ذلك لما تكون له ملازمة و ديمومة تحصن بها الرسل و ذاك لما تكون له حالات متوقعة ينتظرها الرسل من ربهم عند اللجوء اليه في الازمات و في القرآن الكريم في الكلام علي يونس عليه‌السلام «لو لا أن تداركه نعمة من به لنبذ بالعراء...»...«و لا تمن تستكثر. و لربك فاصبر»... المدثر 7/6النص آت في مخاطبة الرسول الاعظم و ان كان مرادا به سائر المخاطبين من الناس من مؤمنين و غير مؤمنين. و من النظام التوجيهي في القرآن الكريم اذ توجه هذه الاوامر الي الرسول ابتداءا ليكون مستقرا في نفوس الناس و افكارهم أهمية ذلك و عظم قيمته عند الله. اذ يدل ذلك علي استكمال خصائص النبي في المجال التهذيبي و بديهي ان الناس أولي بهذا الاستكمال لحاجتهم الي سائر مفرداته في حين يعد النبي متميزا عنهم بالرسالات والكمالات العالية...و المعني في قوله تعالي «و لا تمنن تستكثر» اي اذا اعطيت فلا تكثر من التباهي بعطائك كما أن المن يعني استرداد العطاء و الرجوع فيه. و ليس هو في الحقيقة نهيا عن خصلة في النبي يراد تصحيحها بل هو بدء لتوصية تراض النفوس عليها ابتداءا... ان النبي صلي الله عليه و سلم يتلقي التعليم العالي و التهذيب من ربه الذي تهتدي بهداه السماوات و الارض... و الانبياء و الرسل جميعا الي التهذيب الصادر من ربهم لمحتاجون و التأديب الذي يؤدب به الله عباده لمفتقرون...«لا تحرك به لسانك تعجل به. ان علينا جمعه و قرآنه. فاذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم ان علينا بيانه». القيامة 19/16في النص القرآني تعليم لطريقة تلقي القرآن و نطقه و قراءته. والنص لا يتضمن نقدا لطريقة ما كان النبي يؤدي بها التلاوة القرآنية، و انما كان ذلك ابتداءا علي جهة التعليم و التوجيه «و قرآنا فرقناه لتقرأه علي الناس علي مكث». الاسراء/106ان طريقة تلاوة القرآن الكريم كانت علي هيئة منغمة و ذاك علي ما جرت عليه عادة اصحاب الكتب السماوية في تلاوتها و قراءتها و كان الرسول قد عرف بحسن الالقاء و الحديث و كل داعية دين تعرف الأناة في كلامه و الوضوح في نطقه و لذا قال موسي عليه‌السلام في اختيار أن يكون اخوه هرون عليه‌السلام معه اذ قال «هو افصح مني لسانا». القصص/34و سأل الله أن يحل عقدة كانت في لسانه... و لذا فان النص آت علي تعليم سائر من يقرأ القرآن الكريم بالطريقة المفضلة في التلاوة و القراءة... و قوله تعالي «فاذا قرأناه فاتبع قرآنه». اراد بذلك من ينزل بالقرآن عليه صلي الله عليه و سلم...و اذ ان القرآن كانت تنزل آياته علي مدي الفترة المكية و المدنية بحيث اعتاد الناس التلقيات القرآنية من غير سابق انذار فانهم في بعض الاحيان كانوا يستعجلون ذلك. «يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم و ان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم»... المائدة/101و في تأزم الاحداث كانت الامة تنتظر نزول الوحي ليبت في ما استعصي من الامور الطارئة منها... يفهم من هذا ان الرسول صلي الله عليه و سلم كان كثير التلهف الي سماع الوحي و تلقيه و حفظ ما ينزل آياته و سوره فطمأنه الله الي أنه لن يفوته شي‌ء منه [ صفحه 124] فانه هو جامعه و حافظه و منزله و موضح بيانه... و كان يظهر علي الرسول من الحرص في استقبال الوحي و استعجاله ما عرف في اكثر من مكان، من ذلك حرصه علي مسألة القبلة و هذا ما نص عليه النص القرآني «قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها» البقرة/144... و من ذاك «و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي اليك وحيه»...«فاصبر لحكم ربك و لا تطع منهم آثما أو كفورا»... الانسان/24في النص ما يكشف عن وجود اعداء من الاثمة كثيرين يتناولون احباط دعوة النبي الي الهدي والحق والاصلاح بين الناس و لذلك نبه الله نبيه أن لا يأبه لهؤلاء و لا يعيرهم أدني اهتمام او خشية...و كذلك جاء في هذا المعني قوله تعالي «كلا لا تطعه و اسجد و اقترب» العلق/19... و قد جاء ذلك بعد آيات وردت في آخر سورة العلق. يتجلي فيها المراد بمن نهي الله عن اطاعته...

باب حسب و تحسب

تعني حسب معني الظن مقرونا بشي‌ء من التأكد... «و حسبوا ان لا تكون فتنة فعموا و صموا» النحل/88... و مثل ذلك «و تحسبهم أيقاظا و هم رقود» الكهف/18... اي انك تتحسس في شأنهم أنهم ايقاظ و ذاك لكون معالم اليقظة ظاهرة عليهم و هم رقود اي و هم نيام لا مستيقظون... فان «حسب» تعني الظن الذي هو في قوة الواقع «و يطوف عليهم ولدان مخلدون اذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا» الانسان/19... كأنما جاء النص يصفهم بالبياض و الالتماع و النظافة المكتملة... و اللؤلؤ لا حياة فيه كالحياة التي في البشر ولكن التشبيه به مألوف ابتغاء وصف أناس بالجمال و الصباحة... ان النبي صلي الله عليه و سلم اذ يخاطب بذلك انما يخاطب به لانه هو الذي يطمأن اليه لقوة الصفة الظاهرة عليه، و هو كذلك اسلوب في البلاغة العربية يرد في التعبير عن الاحاطة في المدح و الذم كالذي في قوله تعالي «تحسبهم جميعا و قلوبهم شتي» الحشر/14... و هذا مقول فيهم علي وجه الذم... اي ان ظاهرهم معجب مرضي و باطنهم شي‌ء غير مرضي... و ما جاء من هذه الالفاظ مسبوقا بلا الناهية من مثل «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا...» آل‌عمران/169 فان معني النهي هنا غير وارد و انما هو اسلوب في العربية يراد به توكيد الشي‌ء من طريق نفيه او النهي عنه و شواهد ذلك في القرآن الكريم كثيرة...«و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون». آل‌عمران/169من اساليب العربية عند الكلام علي اثبات حقيقة من الحقائق أن يتم التوصل اليها من طريق ايرادها علي وجه النفي... فالنص يقرر أن الذين قتلوا في سبيل الله انما هو احياء عند ربهم يرزقون، ولكنه جاء بمقدمة تنهي أن يكونوا قد ماتوا لأنهم في حكم الملة الحنيفية السمحة احياء غير اموات... و بذلك تكون الحقيقة التي أريد ايرادها في امر الشهداء قد أديرت في مجال النقاش حتي ظهر امرها...و لم يكن النبي قد كان قد حسب الشهداء امواتا ليصحح الله ذلك... بل أن الكلام الالهي جاء ابتداءا قطع الله به الشك في أن الشهداء الذين قتلوا في سبيله احياء... و ما قلناه من قاعدة اثبات الحقائق من طريق ايراد الكلام عليها علي وجه النفي او النهي تكرر في اكثر من مكان من هذا الكتاب...«لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب و لهم عذاب أليم»... آل‌عمران/188 [ صفحه 125] «لا تحسبن» هنا لم ترد علي وجه النهي عن امر وقع. بل جاءت ابتداءا بالحكم برفضه و نقيه ليكون ذلك قاعدة ثابتة من زجر الذين يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا لانه حسد علي لا شي‌ء فهو يعد منتهي الغش و الزور اذ لا يصح ان ينسب الي من لم يكن قد عمل عملا حسنا شي‌ء مما يستأهل الذكر الحسن و الحمد و التقدير...و علي هذا افان نهي النبي ان يحسب اولئك القوم بمفازة من العذاب لا يعد نهيا. و انما هو بدء كلام اثبت الله به القاعدة التي نصصنا عليها آنفا، فان النبي يعمل أن امثال اولئك الناس ليسوا بمنجاة من غضب الله و عظيم عذابه و نقمته...و في النص تنبيه الي أن يكون عطاء من يحسن الي الناس غير مراد به التبجح و ابتغاء الحمد، هذا ان كان هناك من اعطي و من احسن في عطائه اما اذا لم يكن ثمة عطاء و لا احسان فان هؤلاء ان طمعوا في الحمد فهم حقا من اخسر الناس اعمالا يوم القيامة...«و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون. انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد اليهم طرفهم و افئدتهم هواء»... ابراهيم 43/42ليس النهي هنا نهيا [35] بل هو بدء كلام اراد الله به اثبات حقيقة قاطعة تقرر أن الله عالم بما يعمل الظالمون. فان النبي علي علم و عقيدة راسخة في نفسه أن الله غير غافل عن اولئك الناس و انما جاء النهي في مقام توكيد الحقيقة لان اثبات شي‌ء بعد نقيه يقوي الاعتقاد بوجوده و قيامه... علي ما سبق ان اسلفنا من الاشارة الي ان ذلك نمط من انماط البلاغة العربية. و قوله تعالي «انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار...» أي ان حسابهم سيكون يوم يحشرون الي ربهم، و حالة الناس في ساحة الحشر غير حالتهم في الدنيا اذ يتملكهم الخوف و الرعب و الخجل مما اقترفوه ايام الحياة من ظلم ظلموا به انفسهم و ظلموا الناس و ذاك ما عناه النص بقوله «مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد اليهم طرفهم و افئدتهم هواء»...«فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ان الله عزيز ذو انتقام»... ابراهيم/47النبي يعلم ان الله لا يخلف رسله وعده اذا وعدهم بالنصر علي الخصوم و تحقيق امانيهم بهداية الناس. ولكن النص جاء علي قاعدة التوصل الي الاثبات باسلوب النفي و تثبيت الامر باسلوب النهي... فالنص و ان ورد بلا الناهية فان النهي فيه غير مراد لذاته. و انما المراد اثبات ان الله لا يخلف رسله وعده... و توجيه النهي الي النبي ينبه جميع الناس الي قوة المعني المراد اثباته فيه...«ام حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا اذ أوي الفتية الي الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيي‌ء لنا من امرنا رشدا. فضربنا علي آذانهم في الكهف سنين عددا. ثم بعثناهم لنعلم اي الحزبين أحصي لما لبثوا أمدا. نحن نقص عليك نبأهم بالحق انهم فتية آمنوا بربهم و زدناهم هدي. و ربطنا علي قلوبهم اذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الارض لن ندمو من دونه الها. لقد قلنا اذن شططا»... الكهف /14في النص تصديق لما كان النبي قد ظنه في اهل الكهف اي حسبه فكأن الجواب كان علي جهة التصديق اي انهم كذلك علي ما حسبتهم فانهم فتية آمنوا بربهم فكانوا مثلا صالحا لهذا الايمان بما كان منهم من التمسك بالعقيدة الصحيحة. و بما قدموه من اجلها من تضحية بالنفس و النفيس. لقد اكد النص القرآني ما حسبه النبي في اصحاب الكهف من انهم نماذج [ صفحه 126] صلاح و ايمان و انتساب الي الله اذ أووا الي الكهف فكانت لهم فيه نومة لم يصرح القرآن بطول أمدها ثم اراهم الله من لذة النصر ما اراهم بعد يقظتهم ثم اماتهم في مكانهم فاتخذ المؤمنون من اهل دينهم عليهم معبدا اي مسجدا. و قد سماه الله مسجدا تزكية منه تعالي للعقيدة التي كان يعتقدها اهل الكهف و للعبادة التي يتعبدون الله وفق شعائر و طقوسها لان كلمة المسجد اظهر دلالاتها الايمانية المعتبرة من كلمة المعبد...«و تحسبهم أيقاظ و هم رقود و نقلبهم ذات اليمين و ذات الشمال...»...الكهف/18في النص ايراد لصفتهم و هم مستغرقون في النوم و ذاك علي جهة الامتداح اذ ان النائم تظهر عليه أعراض تتحكم ف يمعالم وجهه فتغيرها ولكن جماعة اصحاب الكهف اذ كانوا نائمين كانوا و هم كالذين هم في حاله صحو و استيقاظ و ذاك من بعض لطف الله بهم و منه علهيم بالرضوان و الرحمة تقديرا لحسن ايمانهم و صدق جهادهم... و قوله تعالي في مخاطبة النبي «و تحسبهم ايقاظا» توكيد لصحة نظرة النبي اليهم و لم يكن النبي قد رآهم اذ كانوا في زمن سبق زمنه، ولكن النص جاء علي تقدير أن يكون النبي قد رآهم و بلغ مكانهم خلال وجودهم في كهفهم... و انما ذكر القرآن ذلك للاستشهاد علي الحالة التي اراد القرآن تصويرها فاستشهد عليها أن يكون رسوله العظيم موجودا ابانها.«لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الارض و مأواهم النار و لبئس المصير»... النور/57الذين كفروا لا يعجزون الله في شي‌ء و ذاك من صميم العقيدة الاسلامية التي يعتقدها المؤمنون و النبي صلي الله عليه و سلم في طليعتهم و علي رأسهم. ولكن النص «اللائي» [36] اي المقرون بحرف «لا» هو نص ايجابي آت بلفظ النفي... ارادة لتقوية المعني القرآني الرشيد...و النص مدني اي وارد في سورة مدنية و ذاك اذ كثر عدد الذين كفروا و ظهر لهم شي‌ء من الشوكة اقر الله في نفس نبيه أن القوم لا يعجزون الله مهما كثر جمعهم و قوي شأنهم حيث هم، فانه عزوجل اقوي منهم جميعا. و في ذلك ما يزيد في طمأنينة النبي و المؤمنين...«ام تحسب ان أكثرهم يسمعون او يعقلون، ان هم الا كالانعام بل هم اضل سبيلا»... الفرقان/44في النص حكم قاطع علي القوم بأنهم في غاية الغباء الذي لا تستوعب بمثله حقائق الدين و هدي الشريعة فالقوم كالانعام بل هم اضل سبيلا، و ذاك لتزكيتهم الشرك و تشبثهم بالكفر و انعدام مذاق الهدي في عقولهم و قلوبهم...و قوله تعالي «ام تحسب أن اكثرهم يسمعون او يعقلون» انما هو استبعاد أن يكون القوم جديرين بالسماع و العقل و ادراك الامور، فاذا كانوا يظهرون كذلك ظاهر الرأي فإن حقيقتهم انهم كالانعام بل هم اضل... اي اذا حسبتهم علي شي‌ء من استيعاب الامور و فهمها فهم ليسوا كذلك و النص ظاهر في أن الله في النص قد نزه نبيه أن يحسبهم كذلك اي نزهه ان يزكيهم في نظرته اليهم... و في النص شدة في الخطاب و ازدراء ظاهر بأولئك الكفار و تحد مكشوف لما كانوا يظهرونه في مواجهة الرسول من صلف و عجرفة و في استعمال هذا الاسلوب في مخاطبة الكافرين ما يشعر المؤمنين بالقوة و الانتصار و في ذاك بن رفع معنوياتهم ما هو ملحوظ...«و تري الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر الحساب صنع الله الذي أتقن كل شي‌ء انه خبير بما تفعلون». النمل/88قد لا يكون القصد المقصود في هذه الاية تصوير يوم القيامة و ان كان ذلك قد خامر ظن المفسرين لقرب [ صفحه 127] النص من قوله تعالي «و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات و من في الارض الا من شاء الله» و قد قال الشوكاني في تفسيره ]و يحتمل أن ذلك في الدنيا، و يكون اشارة الي دوران الارض يحسبها اهلها ساكنة و هي متحركة[... و الذي نراه ان الله عزوجل اراد أن يوضح أن اسراره في ملكوته لا يعرفها الناس فالجبال الشاهقة الراسية علي الارض هي في واقع امرها في عالم اسرار الله شي‌ء اخر و أن ذلك من متقن صنع الله عزوجل...و قوله تعالي «تحسبها جامدة» أعم من أن يكون ذلك فيما يحسبه الرسول صلي الله عليه و سلم اي انه من الامور التي يشترك في استحقاق لفت النظر اليها جميع الناس، و قد جعل الرسول صلي الله عليه و سلم اولي من يخاطب بذلك. و الاشارة الي الجبال و هي اعظم ما يري في الارض من معالم لا تتأثر بالرياح و لا بغيرها في حين أن الله حين يشاء يجعلها تتناثر في الجو كالسحب المتناثرة علي أن المعني القرآني في هذا التعبير غيبي لا يبلغه علم الناس و لا تدركه حواسهم مهما بلغ علمهم...و الرسول اقدر ممن سواه من البشر علي فهم النكتة الالهية في هذا الامر و ما سواه... و ذلك لفرط لماحيته و شفافية نفسه وحدة بصره و دقة تقديره و صدق تذوقة و أبعاد روحانية...«بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا و قلوبهم شتي...»... الحشر/14في الاية معني تهكمي بقوم يبدو ظاهرهم علي حال من الوفاق في حين أن باطنهم مثخن بالخلاف و الشاق... و النظرة هنا الي ظاهر وفاقهم و اكتمال جماعتهم نظرة يلاحظها كل ناظر اليهم و النبي علي مثل هذه النظرة لان للنبي ظاهر احوال الناس فما استبطنوه يعلمه الله أو تنم عليه تصرفات يتصرفونها...و من ملاحظة النص «بأسهم بينهم شديد»، يفهم أن للتكاشر و النزاع بينهم مجالا عريضا بحيث كان شي‌ء من ذلك ظاهرا علي سجية حياتهم اليومية و ان كانوا يغطون ذلك بغطاء يظنونه ساترا عاهة الفرقة بينهم. و قوله تعالي «تحسبهم جميعا و قلوبهم شتي» يراد به أن ذلك مالا يخص النبي وحده، بل هو أعم من أن يكون خاصا به اي انهم يوهمون من يراهم بأنهم علي وفاق فيما بينهم لما يبدو من قوة التحامهم و تراص صفوفهم و ان لم يكونوا كذلك. و المعني التهكمي لا يزال قائما عند ذلك للتفسير و التأويل...«و يطوف عليهم والدان مخلدون اذ رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا» الانسان/19في النص وصف لبعض اجواء الجنة التي وعد التقون اذ يغمرهم الله بالرعاية و الاكرام العظيم فالذين يطوفون علي خدمتهم هم غلمان علي أرقي حالات النظافة و حسن الخدمة و الزي الذي يلاحظ علي خدمة الملوك و القائمين علي موائدهم. و قد جاء ذلك بلفظ «اذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤ منثورا» استشهادا بالنبي فهو خير شاهد لا ترد شهادته و لا يزن تقديره للاشياء بالنقص و فقدان دقة التقدير و تلا ذلك قوله تعالي «و اذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا. عاليهم ثياب سندس خضر و استبرق و حلوا أساور من فضة و سقاهم ربهم شرابا طهورا». و بذلك اكمل الله شهادة نبيه في عظم مكافأته عزوجل لعباده المؤمنين في عالم المكافأة و الجزاء الكريم يوم القيامة... و علي هذا يظهر بوضوح أن الله جعل لشهادة نبيه علي ذلك واقعا ملموسا و مرئيا و امرا ثابتا لا يمتري فيه... و العبرة في باب - حسب - أن الله كان يخاطب نبيه آمرا و ناهيا و منبها و مستشهدا و موردا له دورا يؤديه و موقفا يقفه و ذاك لمكانة الاختصاص و أهمية الموقع اذ انه صلي الله عليه و سلم و رسوله.حقا لقد كان في استعمال كلمة - حسب - التي خوطب بها الرسول صلي الله عليه و سلم ما يمثل جوانب من مهام الرسول التي ناطها الله به و هي كثيرة ألممنا بها في مسائل هذا الكتاب و مقولاته... [ صفحه 128]

المعية النبوية...

المراد بالمعية من وصفهم الله بأنهم كانوا مع النبي في رفقته ايام الجهاد و سائر ظروف الدعوة الي الله. و من هنا حازوا شرف الصحبة فصاروا يقال لهم صحابة النبي او صحابة رسول الله. و في القرآن الكريم نزه الله نبيه ان يكون له اصحاب لا يستحقون صحبته و لا رفقته و لا السير في ركابه و لا الخروج معه لغزو و جهاد اذ ان صحبة النبي تتطلب اخلاقا يتخلق بها مصاحبوه و آدابا يتأدب بها مرافقوه... و في النصوص القرآنية ما يحوم حول ذلك و منها قوله تعالي: «فان رجعك الله الي طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي ابدا و لن تقاتلوا معي عدوا انكم رضيتم بالقعود اول مرة فاقعدوا مع الخائفين» التوبة/83...و من آيات المعية ما نورده آتيا:«اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا...» التوبة/40هذه المعية تشير الي ان العون الالهي في الملمات اذ يصيب النبي صلي الله عليه و سلم فانه يصيب اتباعه كذلك و ان من واقع ادب الخطاب النبوي ان يأتي القول هنا بلفظ «معنا» لا بلفظ «معي»...«لكن الرسول و الذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم و انفسهم و أولئك لهم الخيرات و اولئك هم المفلحون»... التوبة/88في هذا النص اشارة الي وجود اعوان و اتباع جاهدوا مع النبي صلي الله عليه و سلم و قد وصفهم الله بخير الصفات و جزاهم خير الجزاء و يفهم من ذلك انه كانت هناك قيادة دينية حكيمة تحسن الامر و يحسن اتباعها الطاعة و سلامة التنفيذ بالنفس و النفيس و الدم و المال و ينسحب ذلك علي حكمة هذه القياة و رجحان تصرفها في ما تأمر به و تنهي عنه و هي قيادته صلي الله عليه و سلم و كفي بقيادته أن تكون مناط الهدي والتوفيق و الغلبة و السبق والفوز العظيم...«فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطعوا انه بما تعملون بصير»... هود/112النص هنا يأمر بالاستقامة لانها من اوليات الاوامر الدينية التي تصحح بها العقيدة و تنقح العبادة و تتجلي بها ملامح الايمان و ذاك من بعض التهذيب الالهي لرسوله الكريم و كان الله يتولي رسوله بمثل ذلك باستمرار مرغبا و مرهبا ليكون الرسول بما يتلقاه من هذه الدروس القيمة و النصائح الثمينة مستوعبا للخلاق العالية و التعاليم المتكاملة التي يتلقاها من ربه جل جلاله. و قوله تعالي «و من تاب معك» اي ممن صح اسلامه و نصح لله و رسوله، و ليس المعية أن يكون ما وقع لهم من التوبة و الانابة الي الله قد وقع في مكان واحد و وقت واحد. و نهاهم بعد ذلك عن الطغيان أي التعسف باستعمال الحق و مجاوزة الحدود و التعالي علي الناس و التعاظم فانه مما يناقض الاستقامة و التقوي التي هي لب الايمان و معدنه الاصيل. و قوله تعالي «و من تاب معك» اشارة الي ان الجماعة التي قد احيطت بالنبي كانت ذات متاب الي الله و مثل هؤلاء اذا كانوا في رفقة احد فانهم يكونون نعم الرفقة. و الرسول في مرافقته لرفقة كريمة صادقة العقيدة محمودة النصيحة يكون بطبيعة الحال مطمئن الفكر مرتاح البال لا يقلق باله شي‌ء من داخل بيئته و لا من خارجها...«و قالوا ان نتبع الهدي معك نتخطف من ارضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبي اليه ثمرات كل شي‌ء رزقا من لدنا ولكن اكثرهم لا يعلمون». القصص/57يبدو أن الخوف من بطش طغاة اهل الكفر بالمؤمنين او بمن يستجيب لرسول الله فيؤمن بدينه كان حائلا دون اقبال اناس منهم علي الايمان و اعتناق الاسلام و قد رد الله عليهم ذلك بالتنويه بما من به عليهم من الحرم الآمن الذي يسر الله لاهله أرزاقهم. ما يفهم منه أنه هو المتكفل برد عادية المعتدين عنهم اذا هم تمسكوا بعري الاسلام و دانوا دينه... [ صفحه 129] و شبح الخوف الراعد ظاهر في قولهم «ان نتبع الهدي معك نتخطف من ارضنا». اي انهم لا يتعرضون لاذي يسير عند اتباعهم النبي بل ان الاذي الذي يخشونه ذريع و شديد و عنيف لا يرأف و لا يرحم...و يفهم من هذا أن فئات من الكفار كانت متكونة لترويع المؤمنين الجدد و ذاك باختطافهم من بيوتهم الي اماكن اخري بعيدة مقرونا ذلك بشديد الاذي و أليم الانتقام. و صيغة النص الذي نحن في صدده جاءت بلفظ «و قالوا ان نتبع الهدي معك نتخطف من ارضنا» بلفظ الجمع و ليس بلفظ الافراد. ففي ذلك تصوير دقيق لما كانوا يخشونه علي انفسهم من العدوان. [37] .«و بنات عمك و بنات عماتك و بنات خالك و بنات خالاتك اللاتي هاجرن معك». الاحزاب/50الكلام علي هذا الموضوع جاء في مكان اخر و خلاصته ان المدينة المنورة كان للنبي فيها ذوو قرابة من العصبات و الارحام حلوا فيها مهاجرين اليها في عدة فترات زمنية. و قوله تعالي: «هاجرن معك» تعني المعية فيه الاشتراك في واقع الهجرة و ليس في تحديد زمنها...«محمد رسول الله و الذين معه اشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الانجيل كزرع اخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوي علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما»... الفتح/29في هذا النص من قمة العلاقة و وثوق الصلة بين الرسول الاعظم و اتباعه و من في معيته ما كان الوصف الذي وصفهم الله به من جنس واحد فهم جميعا اشداء علي الفكار. و هم جميعا رحماء بينهم. و هم جميعا يعبدون الله عبادة مخلصة. و هم جميعا عليهم سمات الايمان الوضاءة. و هم جميعا يتمتعون بصفات زكيت في الكتب المقدسة القديمة لان سمات الاخلاق الكريمة واحدة لدي الناس قديما و حديثا...و بهذا يفهم أن رسول الله صلي الله عليه و سلم كان مرتاحا نفسيا من اصحابه الذين وصفهم الله في هذا النص وصفا محمودا. و في ارتياح ذي قيادة من مقوديه ما يمكنه من اداء سائر مهماته من دون أن يشاب شي‌ء من ذلك بالهم و القلق و يبلبل الفكر و انشغال البال... و قوله تعالي: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و اجرا عظيما» أي وعد هؤلاء الاصحاب... و كلمة «منهم» للبيان لا للتبعيض و هي تعني أن صفة الايمان التي وصفوا بها صدر هذه الآية صفة ثابتة لا يتصور فهيا التغير و النكول...«يا أيها الذين آمنوا توبوا الي الله توبة نصوحا عسي ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه نورهم يسعي بين ايديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا انك علي كل شي‌ء قدير»... التحريم/8في هذا النص معان كثيرة متعانقة و متماسكة يعنينا منها في موضوعنا هذا المعية التي بين النبي و اصحابه اذ جاء في النص «يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه». فقد عصم الله المؤمنين من خزي يوم القيامة اي الافتضاح بجناية تسجل عليهم او عمل غير محمود يؤاخذون به او سيئة من السيئات تدون في صحيفة اعمالهم لقد كانوا حقا جديرين بصحبة النبي و برفقته و باتباعه و التعلم منه و الاقتداء بهديه ثم وصف الله اولئك الاتباع المؤمنين بقوله «نورهم يسعي بين [ صفحه 130] ابديهم و بأيمانهم» و انها لحقا وثيقة تزكية من الباري العظيم للفئة التي آمنت بالله و رسوله و جاهدت في سبيل الله مخلصة في عقيدتها و ناصحة لله و لرسوله فاستحقت بذلك رضا الله و غفرانه و كريم جزائه. و في ذلك دلالة واضحة علي أن الرسول صلي الله عليه و سلم احسن اصطفاء اصحابه و أحسن تأديبهم و تربيتهم و توجيههم و تزكيتهم فكانوا محل رضاه و رضا الله...ان خزي يوم القيامة شي‌ء كانت الرسل تستعيذ منه بالله و قد قال ابراهيم عليه‌السلام في بعض دعائه و قنوته «و لا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال و لا بنون، الا من اتي الله بقلب سليم...» الشعراء/الآيات 89-88-87...«ان ربك يعلم انك تقوم ادني من ثلثي الليل و نصفه و ثلثه و طائفة من الذين معك و الله يقدر الليل و النهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم»... المزمل/20هذه (المعية) لا تعني وجودهم جميعا مع النبي في مكان واحد و انما تعني انهم يؤدون نافلة الليل حيث ما كانوا. و انما جاء النص بذكر هذه المعية لبيان انه كان هناك اي في العهد المكي اتباع للنبي يتهجدون تهجده و يصلون صلاته و في ذلك تثبيت لبعض مراحل لعبادة المهمة اذ كان اصحاب النبي يؤدونها في جنح الليل لا بفعل الحذر و الاستخفاء من المشركين ولكن فعل ما علموه من ان لصلاة الليل عند الله من قبول و جزاء كريم. و هي صلاة لا يشغل فيها بال المصلي بشي‌ء من اشياء الحياة من بيع و شراء و تعلقات اخري و غير ذلك.

الحكم و القضاء النبوي...

من مهمات اعمال الانبياء الحكم بين الناس عند اشتداد مشاكلهم و تأزم اوضاعهم و خصوماتهم «كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و انزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس بالحق» البقرة/213. و كان الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم قد نيط به مثل ذلك بل انه كان يراجع في مثل هذه القضايا من قبل غير المؤمنين من اتباعه و ذاك لفرط عدله و حسن قضائه [38] و كان اهل الكتاب رغم ادعائهم أن في التوراة من حكم الله ما يحتكم اليه فانهم كانوا يراجعون النبي يسألونه الحكم بينهم. و اشار النص الي ذلك في غير مكان من [ صفحه 131] كتاب الله منه قوله تعالي «و كيف يحكمونك و عندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك و ما اولئك بالمؤمنين» المائدة/43...والاستفهام القرآني مراد به العجب لاهل الكتاب ينصرفون عن كتابهم الدي يؤمنون به ايمانا تاما في ما يزعمون ليقبلوا علي النبي صلي الله عليه و سلم في امر الاحتكام اليه... و من الآيات القرآنية الدالة علي ان من وظائف النبي الحكم بين الناس اذ ان ذلك من بعض اعماله اليومية و وظائفه القيادية و القضائية... و اتحد الاسلام قواعد للحكم و قوانين لادارة الجمتمعات حقوقيا و جزائيا فكانت هناك للعدل في البيئة الاسلامية موازين دقيقة ذات قدرة عالية علي تحقيق النهج السديد في ادارة الامة... و هكذا تم لهذه الموازين و القواعد و الاصول و التطبيق الصحيح في سائر ارجاء العالم حيث وصل الاسلام و طبقت قوانينه.ان القواعد القانونية التي تتخذها الدول في حكمها الامم انما تقوم علي ضوابط ترتئيها هاتيك الدول و تنهض محاكمها و دور قضائها بطبيعتها و تنفيذها... و عند وصول الاسلام الي آفاق شتي من العالم كانت قواعده العامة هي التي يجري القضاء في الناس بمقتضاها... اما العقوبات في الاسلام فقد تناولت جريمة القتل و ما كان منه عمدا و ما كان خطأ و السرقة التي عاقبت عليها بالقطع و عاقبت علي جرائم اخري بعضها جاء وفق ما ذهبت اليه الاديان القديمة...و الحكم في الاسلام من الناحية التطبيقية انما نهض علي اكتمال شخصية المة و رسوخ وقع الكيان الدولي فيها اذ لم يكن هناك ما يحصل لتطبيق القطع في السرقة مجالا ايام العهد المكي و ذاك لعدم وجود السلطة القادرة علي التنفيذ [39] ... ان الحكم في الاسلام حقوقيا و جزائيا طبقت بغاية الاحكام و الدقة و قد قام عليه القضاء الاسلامي الذي يعد أتقن قضاء و اعدله في العالم...و كان الحياد في القضاء من المزايا التي عرفت في ابان الدولة الاسلامية بحيث صارت سيرة قضاة الامة محل الاشتهار و التقدير... و اذ كان الحكم الاسلامي يحمل معه حيثياته الواقعية فلقد كان محل ارتياح المتقاضين من سائر الملل و الديانات.و في ما يلي سرد هذه الايات:«فلا و ربك لا يؤمنون حتي يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما»... النساء/65في النص توثيق لقوة قضاء النبي بسبب ما يقوم عليه قضاؤه صلي الله عليه و سلم من التزام بالعدل و الحكمة و الهدي الالهي...«انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله و لا تكن للخائنين خصيما». النسا/105و هو اقرار الهي بأن ما يترآي للنبي صلي الله عليه و سلم من رأي في مسائل الاحكام و ذاك مما يريه الله عزوجل انما هو في حكم الشهادة لوقوع ما يراه النبي صلي الله عليه و سلم موقع الصحة في الحكم بين الناس و هذا نمط من الالهام الالهي غير النمط الذي نؤمن به في الهام القرآن. و هناك نص قرآني يشبه هذا قوله تعالي «و داود و سليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نقشت فيه غنم القوم و كنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان...». الانبياء 79-78 و تلك حادثة واحدة او انها صورة واحدة ذكرت لنبي من الانبياء الاقدمين اما الذي جاء في خطاب الرسول صلي الله عليه و سلم من الحكم بما اراه الله جل جلاله فانه متكرر و مستديم...في النص ما يجعل قضاء الرسول الاعظم قضاءا نافذا لا مجال للتهرب منه او الالتفاف عليه لانه واجب التنفيذ لا يزيد منه شي‌ء و لا يمسك فيه عن شي‌ء...«سماعون للكذب أكالون للسحت فان جاءوك فاحكم بينهم او أعرض عنهم و ان تعرض عنهم فلن [ صفحه 132] يضروك شيئا و ان حكمت فاحكم بينهم بالقسط ان الله يحب المقسطين».المائدة/42«و أنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات الي الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون» المائدة/48«و أن احكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم و ان كثيرا من الناس لفاسقون»... المائدة/49«و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة اذا قضي الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا»... الاحزاب/36«قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي الي الله و الله يسمع تحاوركما». المجادلة/1في هذا النص اشارة الي ان المسلمين علي عهده صلي الله عليه و سلم قد اعتمدوا عليه في مهمات امورهم و كبريات مشاكلهم. فهذه المرأة راحت شاكية الي الرسول امرا بينها و بين زوجها و كان الرسول حسن الاستقبال و التعامل مع تلك المرأة و كذلك سمي الله كلامها و كلامه تحاورا و قال انه جل شأنه كان يسمعه، و كلمة الجدال هنا تدل علي فرط هم المرأة و شدة كربها الذي قدمت الي النبي من أجله شكواها...و في النص ما يدل علي حسن تفهم النبي شكاوي الناس و اخذه ذلك بهدوء نفسي تام فلقد كان صلوات الله عليه محايدا كل الحياد في الاصغاء لشكوي تلك الشاكية و ذاك ان الزوج كان غائبا عن ساحة التحاور فلابد ان تكون القيادة التي تقع الشكوي عندها متأنية في اصدار اي قرار، و غير ماخوذة ببعض الظواهر الظاهرة علي سحنة القضية المعروفة و كانت المرأة الشاكية تري الحق كله في جنبها و هي نفس المرأة التي لقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه و هو خليفة فأوصته بان يرعي امر الامة و قال (عمر) فيها انها هي التي سمع الله كلامها من فوق سبع سماوات.

باب ذر

الاوامر الالهية التبليغية الموجهة الي النبي صلي الله عليه و سلم في كتاب الله ترد بألفاظ متنوعة علي مقتضي ما تتسم به ألفاظها من ملامح بلاغية تتلاءم و مواقع الكلام القرآني البليغ فمن ذلك ما جاء بلفظ «ذر» فانا لا حظنا أنه من الاستعمالات المخصوصة بآيات العهد المكي اذ كان سلوك من استعمل هذا الحرف في شأنهم يستوجب استعماله حقا و لم يكن الامر كذلك في العهد المدني لذلك لا نري في نصوص هذا العهد شيئا من الكلام الالهي مقرونا به. و في ما يلي ما جاء من ذلك في التنزيل العزيز في السور المكية...«و ذر الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا و غرتهم الحياة الدنيا و ذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي و لا شفيع و ان تعدل كل عدل لا يؤخذ منها، أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم و عذاب أليم بما كانوا يكفرون»... الانعام/70ترد كلمة «ذر» في مخاطبة الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم في معني تجاهل شأن اناس جاءت اوصافهم في ذات النص موجبة لهذا التجاهل و النص الذي في صدد الكلام عليه يصف القوم بأنهم اتخذوا الدين ألعوبة و ملهاة كشأن ما يلهون به من وسائل اللهو المتعادة لديهم. كما أنهم وصفوا بالاغترار بما اصابوه من مال و جاه. و قد اسقط الله حيثيتهم الشخصية فما [ صفحه 133] تقبل منهم شفاعة و لا عدل. و قد حكم الله عليهم بأنهم من أهل النار...ان مثل هؤلاء جديرون بأن لا يشغل النبي باله بهم و أن لا يقيم لهم وزنا و لا يمنحهم ثقة و لا يطمئن اليهم في شي‌ء... و في كلمة «ذر» هنا ما يدل علي الاحتقار و الازدراء و الاهمال مقرونا ذلك بالاسباب الموجبة و معللا بالعلل التي تزكي القرار الصادر بحق اولئك القوم...«ثم ذرهم في خوضهم يلعبون»... الانعام/91معني «ذر» هنا النهي عن اعارة القوم أدني أهمية... فان الظاهر في سلوكهم أنهم اهل لعب و هزل و عبث. و يفهم من هذا أن النبي صلي الله عليه و سلم اذ كان يبلغ الناس تفاصيل الوحي الالهي و يدعوهم الي التوحيد و نبذ عبادة الاوثان. لم يكن يقترب من بعض أنماط الناس ممن هم علي هذه الشاكلة و علي هذه الصفة صيانة لكلمة الله أن تكون محل الاهانة و المهازلة... لان كلمة الله و ان كانت واجبة التبليغ فان ذلك حري أن يقع في الموقع الكريم الذي لا تعلق به خساسة و لا وضاعة...و ليس في قوله تعالي «ذرهم في خوضهم يلعبون...» شي‌ء من اقرار هذا الخوض و اللعب و انما هو نمط من التهكم و الازدراء و انكار هذا الخوض و اللعب...«و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس و الجن يوحي بعضهم الي بعض زخرف القول غرورا و لو شاء ربك ما فعلوه فذرهم و ما يفترون»... الانعام/112كلمة «ذرهم» هنا تعني رفض افتراءاتهم و النهي عن جعلها موضع نقاش و محاجة و انشغال بال. و من اجل أن لا يشق علي رسول الله امر هذا النمط من الاعداء اشار النص الي أن سائر الانبياء أبتلوا بمثلهم...و تكرر قوله تعالي: «فذرهم و ما يفترون» في آية اخري من الانعام هي الآية الثالثة و الثلاثون بعد المئة و قد جاءت هذه العبارة القرآنية في التعقيب علي اناس وصفوا بأنهم زين لهم شركاؤهم قتل اولادهم...«ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الامل فسوف يعلمون»... الحجر/3ان اناسا هذا دأبهم و مثل هذا سلوكهم لا يعلمون من الحياة الا انهم في الاكل و الشراهة فيه بحيث يحسبون أنهم خلقوا لذلك لا غير فهو مناط تكليفهم و تشريفهم. أجل ان أناسا علي هذا الخلق الفاشل و النهج الخائب لجديرون أن لا يلتفت اليهم و أن يذرهم«فذرهم في غمرتهم حتي حين...». المؤمنون/54في هذا النص مقدمة و لا حقة أما المقدمة فهي «فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون» و اما اللاحقة فهي قوله تعالي: «أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون»...من استيعاب معاني مفردات النص الوارد في الايات الثلاث يعلم أن امثال هؤلاء الناس لجديرون بأن لا يحسب لهم حساب في ميزان التقييم و الحفول و لذلك أمر الله نبيه أن يذرهم في الغمرة التي هم فيها و لا يجعل لهم حظا من انشغال باله بهم و تكدر خاطره بصدد سلوكهم... فلقد كان الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم من فرط حد به علي قومه و محبته لأمته يشتد قلقه عليهم و اغتمامه لحالهم فكانت الآيات القرآنية تنزل في تهدئته و تطبيب خاطره و تهوين ما يشتد من الامر عليه...«فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتي يلاقوا يومهم الذي يوعدون»... الزخرف/83كلمة «ذرهم» هنا تعني لا تشغل بالك بهم و لا تحمل همهم... فلقد كان الرسول صلي الله عليه و سلم يحمل هما شديدا حين يري بعض افراد الناس [ صفحه 134] و أبناء الامة في شغل عن تعاليمه و ارشاداته و في هذا المكان يخاطبه الله في ان لا يتكدر خاطره لانصراف امثال هذا النمط من الناس عن ساحة الدين لاعتناقه و الاستمساك بقيمه و تعاليمه...و لا يعني هذا ان يكف النبي عن ملاحقتهم بالدعوة الي اعتناق الدين و الاخذ من العقيدة بهدب اليقين...«فذرهم حتي يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون»... الطور/45لهذه الآية لاحقة هي قوله تعالي «يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا و لا هم ينصرون». و في هذه اللاحقة توضيح للعلة الكامنة وراء امر الله لرسوله بأن يذر امثال هؤلاء الناس أي أن لا يشق عليه قولهم الذي يقولونه و زعمهم الذي يزعمونه...«فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتي يلاقوا يومهم الذي يوعدون»... المعارج/44جاء الكلام علي مثل هذا النص في الآية الواردة في سورة الطور الآية الخامسة و الاربعين...

الذرنيات

كلمة «ذرني» المضافة الي ياء المتكلم و هو الله عزوجل. ذات منحي غير الذي استعملت فيه كلمة «ذر» و «ذرهم» مما اسلفنا الكلام عليه ففي «ذرني» خطاب للنبي صلي الله عليه و سلم تكون فيه كلمة ضمير الجلالة في محل المفعولية وفق قاعدة الاعراب و هي تعني أن الله يجعل في هذا الخطاب لرسوله دورا في ايقاع شي‌ء ما من العذاب و نحوه علي الجهة التي يريد الله ايقاعه بها و في ذلك دلالة علي عظم مكانة الرسول لدي مرسله الذي هو الله جل جلاله اذ يمنحه سبحانه و تعالي حظا من الحق في تقرير مصير من يحوم حولهم الوعد و الوعيد و من ذلك ما جاء في الايات ذات العلاقة بالموضوع.«ذرني و من خلقت وحيدا، و جعلت له مالا ممدودا، و بنين شهودا، و مهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد، كلا انه كان لآياتنا عنيدا، سأرهقة صعودا»... المدثر17/11معني «ذرني» هنا اي دع لي وحدي أن اتولي معاقبة هذا الكافر الشرس بما يستحقه من أليم العقاب...و هذا من كريم خطاب الله النبي صلي الله عليه و سلم الذي شاء الله به اعلاء منزلة النبي لمخاطبته و ليس هو استئذانا يستأذنه الله من النبي لان الله لا يستأذن احدا مهما علا مقامه في امر قضائه و قدره...«فذرني و من يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، و أملي لهم ان كيدي متين»... القلم 45/44ففي هذا النص في المكذبين بكتاب الله و شريعته السمحة المبينة يعلم الله به نبيه بأنه سيكون عقابه لهؤلاء الناس عقابا شديدا كأن الله لا يريد أن يعاقب قومه صلي الله عليه و سلم الا وفق ما يرضاه النبي من شكل هذا العقاب و موضوعه... و السمة البلاغية في هذا التعبير واضحة...و منطق التهديد لاولئك المكذبين واضح في النص و فيه كذلك بيان بأن لا شفاعة هناك تشفع فهيم. فلقد جعلوا في منطقة التيئيس و امام قنوط كبير.«و ذرني و المكذبين أولي النعمة و مهلهم قليلا». المزمل/11استعمال «ذرني» في هذا المكان يفهم منه أن الله يمسك النبي أن يشفع في القوم المبطوش بهم لاستحقاقهم ذلك البطش الشديد الذي لا تخفف منه او تحول دونه شفاعة الشافعين...أما قوله تعالي «و مهلهم قليلا...» فكأن فهي تمكينا للنبي في شأن القوم و شيئا من اطلاق يده فيهم و ان كان التمهيل من شأن الله عزوجل و من حقه في خلقه. ولكن الله لم يشأ أن يصرف النبي عن التدخل في هذا الامر بالمرة و انما جعل له مقابلة ذلك بعض الوجود اليسير و ذلك في قوله تعالي «و مهلهم قليلا». [ صفحه 135]

باب عسي

ترد كلمة «عسي» في معني الترجي و التوقع و قد يكون هذا الترجي و التوقع بحجم من القوة كبير او بحجم منها صغير فالشاعر القائل:عسي سائل ذو حاجة ان منعته من اليوم سؤلا أن ييسر في غديتمني لهذا السائل ان يكون موسرا بعد املاقه و خصاصته و قد يتحقق ذلك و قد لا يتحقق و الشاعر القائل:عسي الايام أن يرجعن قوما كالذي كانوافانه عبر عن امنية يتمني من الايام أن تحققها له و قد يكون قائل ذلك مستبعدا هذه الامنية او مستقر بها ولكن «عسي» اذا جاءت في القرآن في موعدة يعدها الله عباده فانها غير الذي يرد في كلام الناس أي «عسي» تدل علي التحقيق اي انها لا تحتمل التردد بين الوقوع و عدمه. و من المواقع التي جاءت فيها «عسي» من آيات الذكر الحكيم ما سنورده و نتكلم عليه...«و من الليل فتهجد به نافلة لك عسي أن يبعثك ربك مقاما محمودا». الاسراء/79في النص أمر من الله لرسوله بأن يشغل بعض ليله - و هو وعاء النوم و محل الراحة - بالصلاة التي يختلي فيها بربه اذ التهجد هو الصلاة من جوف الليل و تكون اكثر خشوعا و قنوتا من صلاة النهار و ذاك لفرط سكون في الليل و فرط الضجيج في النهار و التفرغ التام من الاعمال في الليل و هو مالا يحصل مثله في النهار. و تكون صلاة الليل اطول زمنا و اعرض مساحة لعدم تعرض المصلي المتهجد لطارق او زائر او حاجة بعض أهله اليه... و مثل هذا الامر عند الاستجابة له يستحق الجزاء الوفاق و النصيب الاوفي من ثواب الله و بذلك تكون «عسي» في مقام التحقيق أي ان الله باعثك مقاما محمودا لقاء عبادتك الخالصة له هذه... و المقام المحمود هو ما يكون للنبي عند الله و عند سائر الخلائق من رفيع المكان و جليل القدر و عظيم الشأن...«و لا تقولن لشي‌ء اني فاعل ذلك غدا. الا ان يشاء الله و اذكر ربك اذ نسيت و قل عسي أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا»... الكهف 24/23يجول النص القرآني هنا في مجال الدعاء و التوصية ببعض الاداب التي دعي الله اليها النبي و الله هو مؤدب النبي و مهذبه و مدربه و قد نوه له بأن الغيب كله لله فلا يطمئن الي شي‌ء يريده في غده الي ذلك الغد لانه غيب لا يملك معرفة كنهه غير الله و كان من بعض هذا الدعاء الذي القاه الله الي نبيه أن يتمني علي الله أن ييسر له سبل الرشاد للوصول الي ما يبتغيه في آتي ايامه. و لعظم ثقة النبي بربه و هو كذلك موصا منه تعالي أن يقول في دعائه هذا. فان «عسي» هنا للتحقيق اذ جاء في النص «عسي أن يهدين ربي» و الهداية من شأن الله لا يمنعها من يسألها لا سيما حين يكون سائلها نبيا هو الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم.«عسي ربه أن طلقكن أن يبد له ازواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات و أبكارا»... التحريم/5وردت «عسي» هنا في موقع معلق علي شرط مشروط هو قوله تعالي «ان طلقكن» - اي اذا طلقكن النبي -... فاذا تحقق هذا الشرط فان «عسي» تكون فيه علي درجة من التحقيق لان النساء الموصوفات بما ورد صفاتهن في النص موجودات في البيئة بأوسع حجم و اكبر مقدار لا سيما اذ جاء النص في موقع تحذير نساء النبي من أن يقع منهن ما يؤذيه فظاهر فيه اخافتهن مما يجر الي طلاقهن... [ صفحه 136]

باب ادع...

الخطابات القرآنية التبليغية التي تحدد مهمة النبي و واجباته جاءت بصيغ شتي منها صيغة الانذار و الابلاغ و الفاظ القول و السؤال و الاستفتاء و ضرب الامثال و الجدال و منها الامر بالدعوة الي الدين و الي الله. و من ذلك الآيات التالية...«أدع الي سبيل ربك بالحكمة و الوعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين». النحل/125«لكل امة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا يناز عنك في الامر وادع الي ربك انك لعلي هدي مستقيم»... الحج/67«و لا يصدنك عن آيات الله بعد اذ أنزلت اليك وادع الي ربك و لا تكونن من المشركين، و لا تدع مع الله الها اخر لا اله الا هو، كل شي‌ء هالك إلا وجهه له الحكم و اليه ترجعون»... القصص 88/87«فلذلك فادع و أستقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم و قل آمنت بما أنزل الله من كتاب و أمرت لاعدل بينكم، الله ربنا و ربكم لنا اعمالنا و لكم اعمالكم لا حجة بيننا و بينكم الله يجمع بيننا و اليه المصير»... الشوري/15يلاحظ أن اسلوب الدعوة التي امر النبي بمواجهة الناس بها قد ترك اسلوبها و طريقة الصدع بها النبي صلي الله عليه و سلم في اطار الحكمة و الموعظة الحسنة مما يفهم منه عظم اقتدار النبي علي اداء هذه المهمة في اوساط الكافرين و المشركين و المعاندين و الخصوم الكثيرين و قد اظهرت النتائج توفيق النبي في هذا الصدد و نجاحه الباهر في عالم الدعوة الي الله و الملة الحنيفية السمحة...و هناك آيات تصور مواقف الرسول في مجالات هذه الدعوة نشير الي فريق منها...«قل هذه سبيلي أدعو الي الله علي بصيرة انا و من اتبعني و سبحان الله و ما انا من المشركين»... يوسف/108«قل انما أمرت ان اعبد الله و لا أشرك به. اليه ادعو و اليه مآب» [40] ... الرعد/36«قل انما ادعو ربي و لا أشرك به احدا»... الجن/20

الاكراه...

اعتناق اي دين من الاديان انما يكون عن قناعة و تقبل. لان الاديان تحتوي علي اوامر و نواهي و احكام و عبادات يجب أن تمارس من قبل معتنقي تلك الاديان فاذا لم يكن اعتناقها عن رضي و قناعة فان جانب الطاعة والالتزام في ذلك يكون مهزوزا و غير ذي وجود و عن ذلك تكون هناك مقدمات لسلوك سبيل النفاق اي أن يصلي معتنق الدين الذي اكره علي اعتناقه صلاته مع المصلين فاذا انفرد و خلا في ارضه فانه يمسك عن اداء هذه الصلاة. و ليس من مصلحة دين من الاديان أن يكون اتباعه علي مثل هذه الحال و لذا لم تكن الدعوة الاسلامية التي جاء بها النبي صلي الله عليه و سلم قائمة علي اكراه الناس أن يكونوا مؤمنين.ان اعتناق اي دين من الاديان قد يحمل في بعض الاحيان معتنق هذا الدين علي الاستشهاد من اجله. فان لم لكن مقتنعا بمفرداته و تفاصيل امره فمن غير الممكن أن يقدم نفسه قربانا لهذا الدين و قد رأينا سبيل الدعوة الي الاسلام هو القول المقنع، و كان القرآن هو الاداة التي استعملت لجلب الناس الي الدين وحثهم علي اعتناقه. و كان النبي يتولي هذا الامر كله اي مهمة التبليغ وحده و كان معظمهم من المستضعفين و كانت هجرتهم الي الحبشة خير دليل علي هذا الاستضعاف، و عندما انتقل النبي الي [ صفحه 137] المدينة و أذن الله للمسلمين ان يستعملوا السلاح فانما كان ذلك بغية الدفاع عن انفسهم. لذلك لم يكن الاكراه سبيلا الي حمل الناس علي اعتناق الاسلام و كان الخط الاسلامي ابان الفتح قائما علي ثلاثة اركان هي: اعتناق الاسلام من قبل من واجهوا الجيوش الاسلامية او القتال او دفع شي‌ء يسير من المال سنويا [41] للدولة المسلمة لا قيمة له في مجال الانتفاع المادي فانه مبلغ يسير او جد يسير... فلا يمكن أن يرجح انسان من ابناء الشعوب التي استولي الفاتحون المسلمون عليها أن يرجح الاحتفاظ بالدرهم و الدرهمين فيعتنق الاسلام من غير قناعة مع العلم أن هذا الذي اعتنق الاسلام بخلا بالدرهم و الدرهمين سنويا راح يدفع اضعاف ذلك للدولة بأسم الصدقات و الزكاة و غير ذلك. اذن لم يكن هناك استهداف للمسلمين الي اكراه الناس علي اعتناق الاسلام.والاسلام دين رشيد المحتوي سديد الغاية حكيم القرارات محمود السلوك يأخذ بهدب التقوي و الصلاح و التصرف الحميد و لذلك اعتنقه من اعتنقه مطمئنا اليه و راضيا به. و اذا كانت هناك اديان جري اعتناقها بالسيف المسلول فليس الاسلام من هذه الاديان...و قد كان قوله تعالي: «لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» البقرة/256... واضحا في معناه و محتواه. فمن أين جاء اكراه الناس علي اعتناق الاسلام بالحجم الكبير الذي ملأ فجاج الارض و أقيمت له المساجد في كل مكان و صار اتباعه يعدون بالملايين يتفانون بالدفاع و قوله تعالي: «و لو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفانت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين»يونس/99...هو مما نزل في السور المكية و قد أسلفنا أن المسلمين في مكة لم يكونوا يملكون حماية انفهسم من خصومهم فمن اين لهم و للنبي صلي الله عليه و سلم اكراه الناس علي الدخول في الاسلام... اما المعني الذي تضمنه النص القرآني «افأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين» فانه يعبر عن شدة رغبة النبي اعتناق الناس دينه و الدخول في اطار ملته. و قوله «تكره الناس» أي تأخذهم الي الاسلام و هم كارهون. و هذا يشبه قوله تعالي: «قال يا قوم ارأيتم ان كنت علي بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها و انتم لها كارهون» هود/28...علي أن السلوك الخفي الذي كان يمتاز به الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم كان سلوك رفق و تسامح و لين و كان ذلك من اوائل المغريات التي اضافت الي جماعة المسلمين عددا ممن اقبلوا علي هذا الدين من الكفار و المشركين. و الصفة التي اشرنا اليها في هذا الباب قد جاء النص عليها «فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك فأعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل علي الله ان الله يحب المتوكلين» آل‌عمران/159... فمن كان علي مثل هذا الخلق الكريم لا يكره الناس علي اعتناق دينه ليجمع من حوله اناسا من الخصوم و ليس من الاعوان... [ صفحه 138]

البلاغ و الابلاغ

مهمة الانبياء و المرسلين هي ابلاغ رسالات الله الي من أرسلوا اليهم من الاقوام و الامم. ينقلون ذلك بكل امانة و من دون ادني تصرف الي الناس، فمن آمن فقد اهتدي و من لم يؤمن فانه ليس علي الرسول من تباعة بسبب عدم ايمانه. و الرسل موصون من ربهم بضبط الاعصاب و الاخذ بهدب التحمل و الصبر مهما كلفهم الامر...في القرآن الكريم اكثر من آية جاءت فيها كلمة «البلاغ» مخاطبا بها رسول الله صلي الله عليه و سلم و في ذاك ما يسقط عنه لوم الناس و شدة تعنيفهم. اذ يريدون من الرسول أن لا يلح عليهم بالدعوة الي اعتناق الدين الذي جاء به من ربه. والانبياء و ان كانوا يشق عليهم امر الدعوة و الارشاد و الموعظة فان الناس يشق عليهم كذلك تقبل ذلك. و من هنا وجدنا الصراع و المقاومة الشديدة و ما الي ذلك من الامور التي تقعد في طريق الرسل الي هداية شعوبهم... و من ذلك تكذيب الرسل و اتهامهم بالجنون و السفاهة و السحر و قد كان في الرسل من تعرض للقتل و البطش الشديد.و حماية لرسل الملوك الي نظرائهم صار هناك عرف دولي يحمي حاملي رسائل هؤلاء الملوك و الرؤساء من التعرض للبطش والايذاء و العقوبة مهما كانت محتويات الرسائل التي يحملونها. فكأنما كان مانوه به القرآن من امر المهمة الابلاغية للرسل تستوجب ان لا يتعرضوا للاذي ولكن الشعوب كانت تؤذي رسلها المرسلين اليها بشرائع الله و لا تكتفي بتكذيبهم و رفض شريعتهم و تعاليم دينهم... و كما ان رسل الملوك يفرض فيهم عند حمل رسالات ملوكهم التحلي بالتصرف المحمود و التجرد مما يعد من الاعمال الاستفزازية التي تجر عليهم الاذي و المهانة فان رسل الله كانوا مأمورين بان يتحلوا بكثير من اللين و التلطف عند الصدع بأوامر الله و ابلاغ محتويات وحيه الي الناس و هم و ان كانوا كذلك فانهم لم ينجوا من اساءات شعوبهم و أممهم اليهم... و في ما يلي النصوص (البلاغية) [42] للقرآن الكريم نسردها سردا دون تفسير او شرح و ذلك لوضوح القصد في هذه الايات:«و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و احذروا فان توليتم فاعلموا أنما علي رسولنا البلاغ المبين». المائدة/93«ما علي الرسول الا البلاغ و الله يعلم ما تبدون و ما تكتمون»... المائدة/92«و ان ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك [43] فانما عليك البلاغ و علينا الحساب»... الرعد/40«هذا بلاغ للناس و لينذورا به و ليعلموا أنما هو اله واحد و ليذكر أولو الالباب»... ابراهيم/52«و قال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شي‌ء نحن و لا آباؤنا و لا حرمنا من دونه من شي‌ء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل علي الرسل الا البلاغ المبين»... النحل/35«فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين»... النحل/82«ان في هذا لبلاغا لقوم عابدين. و ما ارسلناك إلا رحمة للعالمين»...النحل/82«ان في هذا لبلاغا لقوم عابدين. و ما ارسلناك الا رحمة للعالمين» [44] الانبياء 107/106«قل أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فان تولوا فانما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم و ان تطيعوه تهتدوا و ما علي الرسول إلا البلاغ المبين»... النور/54 [ صفحه 139] «و ان تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم و ما علي الرسول إلا البلاغ المبين»... العنكبوت/18«فان أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا ان عليك إلا البلاغ...»... الشوري/48«و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فان توليتم فلانما علي رسولنا البلاغ المبين»... التغابن/12

باب ربك...

حين يتحدث الله عن نفسه الي نبيه في اكثر من امر من الامور التي يكشف عنها لنبيه او يصفها او يشرحها او يخبر عنها فانه سبحانه و تعالي بدلا من أن يذكر اسمه بلفظ «الله» يورد كلمة «ربك» و في بعض ذلك تري مناسبة هذا الاستعمال واضحة من مثل قوله تعالي «ألم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل» الفيل/1... فان واقعة اصحاب الفيل وقعت في العام الذي ولد فيه النبي. فكأنما يمن الله علي نبيه بما فعله من البطش باصحاب الفيل الذين غزوا مكة للاستيلاء علي الكعبة ليكون بذلك بعض الربط بين مولد النبي و هلاك اصحاب الفيل اذ كان ذلك من يمن المولد النبوي علي الامة... و من ذلك قوله تعالي: «و اذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة...» البقرة/30... و هناك آيات اخري تساوق هذا المعني في اللفظ و قد جاءت لبيان أن شخصية الرسول كان منظورا اليها منذ خلق آدم عند الله [45] ... و قوله تعالي «و ربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب...» الكهف/58... فكأنما كان هذا الرفق بالقوم من بعض ما يجعل الله به للرسول ضلع شفاعة او اعزاز مكانة...لقد وردت كلمة «ربك» بمختلف وجوه الاعراب في معاني كثيرة جدا اشارة الي أن الله يريد لنبيه أن يكون مذكورا ابدا في كل خطاب بلفظ تصاف به كلمة الرب الي (كاف) الخطاب التي تعني النبي امعانا في اكرام النبي و تبجيله في كل خطاب و لو جاءت كلمة الجلالة بدلا من كلمة الرب المقرونة ب«كاف» الخطاب لكان هناك غياب للاشارة الي النبي في هذه الخطابات اي «و اذ قال ربك للملائكة» و قد جعل بدلا منها - و اذ قال الله للملائكة - فان التعبير مستقيم الا أن استحضار شخصية النبي لا يكون تصور لدي سامع ذلك او قارئه...حقا ان كثرة ماورد في التنزيل من ايراد كلمة «ربك» ليدل علي القصد الالهي في ان يكون لنبيه حضور في سائر المناسبات و المواقع و هي مناسبات كثيرة و مواقع عديدة فيها من معاني البر و الرحمة و معاني الغضب و النقمة علي من يستحقون كلا الامرين من المؤمنين و الكافرين... علي أن بعض ألفاظ الرب المقرونة الي (كاف) الخطاب - اي كاف الخطاب الذي خوطب به النبي - قد جاء بلفظ القسم و ذاك هو قوله تعالي: «فلا و ربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فلي أنفسهم خرجا مما قضيت و يسلموا تسليما» النساء/65... فان الله أقسم هنا بذاته العلية قسما مقرونا باسم نبيه من طريق الاضافة اعزازا لنبيه و رفعا لمكانته و توفيقا للتثمين بذكره... و كذلك قوله تعالي «فو ربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا» مريم/68... فان في هذا القسم توكيدا و تقوية لما جري القسم في شأنه و صرفا لظن المشركين أن يكون به رجاء لهم في الحنث فيه و لا يتصور مثل ذلك في صيغ الأيمان الاخري حتي ما كان من قبيل فو رب السماء و الارض. و ذلك لعظم منزلة الرسول الاعظم محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم ربه... علي أن استعمال «ربك» قد ورد في مخاطبة النبي: «اذ يوحي ربك الي الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين [ صفحه 140] كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق و اضربوا منهم كل بنان» الانفال/12...فان ذلك يعبر عن أن الله يريد تصبير نبيه و شد أزر اتباعه و خذلان الكافرين بأمره تعالي للملائكة أن يؤدوا هذه المهمة القتالية العظيمة في ساحة حرب يعد النبي أحد طرفيها. و من ذلك قوله تعالي «ذلك مما أوحي اليك ربك من الحكمة...» الاسراء/39... فان في كلمة «ربك» من التحبيب و الادناء و التقريب اذ جاء النص في معني المن بالحكمة علي النبي و ذاك كله يجول في فلك الرعاية و اللطف الالهي المسبغ علي نبيه العظيم...و فيما يلي الآيات القرآنية التي ورد فيها هذا التعبير الذي شاء الله ان يجعله بديلا عن اسمه العظيم الذي هو «الله». اما البدائل الاخري فانها علي وجود شي‌ء منها فهي خارجة عن مجال الخطاب الذي اختص به النبي بكثرة كاثرة و في ما يلي نصوص ذلك.«و اذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال اني اعلم مالا تعلمون»... البقرة/30«الحق من ربك فلا تكونن من الممترين»... البقرة/147«فلا و ربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حربا مما قضيت و يسلموا تسليما»... النساء/65«و هذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الايات لقوم يذكرون». الانعام/126«ذلك أن لم يكن ربك مهلك القري بظلم و أهلها غافلون». الانعام/131«و لكل درجات مما عملوا و ما ربك بغافل عما يعملون» الانعام/132«و ربك الغني ذو الرحمة ان يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين»... الانعام/133«فان ربك غفور رحيم»... الانعام/145«ان ربك سريع العقاب و انه لغفور رحيم». الانعام/165«و الذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها و آمنوا ان ربك من بعدها لغفور رحيم»... الاعراف/153«و اذ تأذن ربك ليبعثن عليهم الي يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ان ربك لسريع العقاب و انه لغفور رحيم»... الاعراف/167«و اذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و اشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين»... الاعراف/172«ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون»... الاعراف/206«كما أخرجك ربك من بيتك بالحق و ان فريقا من المؤمنين لكارهون». الانفال/5«اذ يوحي يربك الي الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق و اضربوا منهم كل بنان». الانفال/12«و ما كان الناس الا امة واحدة فاختلفوا و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون»... يونس/19«كذلك حقت كلمة ربك علي الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون»... يونس/33«و منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و ربك أعلم بالمفسدين» يونس/40 [ صفحه 141] «و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض و لا في السماء و لا أصغر من ذلك و لا اكبر إلا في كتاب مبين». يونس/61«ان ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»... يونس/93«و لو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين»... يونس/99«فلما جاء أمرنا نجينا صالحا و الذين آمنوا معه برحمة منا و من خزي يومئذ ان ربك هو القوي العزيز». هود/66«فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسمومة عند ربك و ما هي من الظالمين ببعيد»... هود 83/82«و ما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شي‌ء لما جاء أمر ربك و ما زادوهم غير تتبيب»... هود/101«و كذلك أخذ ربك اذا أخذ القري و هي ظالمة ان أخذه أليم الشديد»... هود/102«فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق، خالدين فيها مادامت السماوات و الارض إلا ما شاء ربك ان ربك فعال لما يريد»... هود/107«و أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات و الارض الا ما شاء ربك عطاءا غير مجذوذ»... هود/108«و لقد آتينا موسي الكتاب فاختلف فيه و لولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم و انهم لفي شك منه مريب»... هود/110«و ان كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم انه بما يعملون خبير»... هود/111«و ما كان ربك ليهلك القري بظلم و أهلها مصلحون»... هود/117«و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين»... هود/118«الا من رحم ربك و لذلك خلقهم و تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين»... هود/119«و لله غيب السماوات و الارض و اليه يرجع الامر كله فاعبده و توكل عليه و ما ربك بغافل عما تعملون»... هود/123«المر تلك آيات الكتاب و الذي أنزل اليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون»... الرعد/1«و يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة و قد خلت من قبلهم المثلات و ان ربك لذو مغفرة للناس علي ظلمهم و ان ربك لشديد العقاب»... الرعد/6«أفمن يعلم أنما أنزل اليك من ربك الحق كمن هو أعمي انما يتذكر أولو الالباب»... الرعد/19«و ان ربك هو يحشرهم انه حكيم عليم». الحجر/25«و اذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون»... الحجر/28«و ما خلقنا السماوات و الارض و ما بينهما الا بالحق و ان الساعة لاتية فاصفح الصفح الجميل، ان ربك هو الخلاق العليم»... الحجر 86/85«فسبح بحمد ربك و كن من الساجدين»... الحجر/98«و اعبد ربك حتي يأتيك اليقين»... الحجر/99«هل ينظرون الا أن تأتيهم الملائكة او يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم و ما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون»... النحل/33«و أوحي ربك الي النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا و من الشجر و مما يعرشون»... النحل/68 [ صفحه 142] «ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم»... النحل/110«ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا ان ربك من بعدها لغفور رحيم»... النحل/119«انما جعل السبت علي الذين اختلفوا فيه و ان ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»... النحل/124«ادع الي سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين»... النحل/125«و كم أهلكنا من القرون من بعد نوح و كفي بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا»... الاسراء/17«كلا نمد هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا»... الاسراء/20«و قضي ربك أن لا تعبدوا الا اياه و بالوالدين احسانا اما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما»... الاسراء/23«و إما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا»... الاسراء/28«ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر انه كان بعباده خبيرا بصيرا»... الاسراء/30«كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها»... الاسراء/38«ذلك مما أوحي اليك ربك من الحكمة و لا تجعل مع الله الها اخر فتلقي في جهنم ملوما مدحورا»... الاسراء/39«و جلعنا علي قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم و قرا و اذا ذكرت ربك في القرآن وحده و لوا علي أدبارهم نفورا»... الاسراء/46«و ربك أعلم بمن في السماوات و الارض و لقد فضلنا بعض النبيين علي بعض و آتينا داود زبورا»... الاسراء/55«أولئك الذين يدعون يبتغون الي ربهم الوسيلة أيهم أقرب و يرجون رحمته و يخافون عذابه ان عذاب ربك كان محذورا»... الاسراء/57«و اذ قلنا لك ان ربك أحاط بالناس و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس...»... الاسراء/60«و من الليل فتهجد به نافلة لك عسي أن يبعثك ربك مقاما محمودا»...الاسراء/79«و ان ربك لهو العزيز الرحيم» [46] . الشعراء/104«و ان ربك لذو فضل علي الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون»... النمل/73«و ان ربك ليعلم ما تكن صدورهم و ما يعلنون»... النمل/74«ان ربك يقضي بينهم بحكمه و هو العزيز العليم»... النمل/78«و قل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها و ما ربك بغافل عما تعملون»... النمل/93«و ما كنت بجانب الطور اذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون»... القصص/46«و ما كان ربك مهلك القري حتي يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا و ما كنا مهلكي القري إلا و أهلها ظالمون»... القصص/59«و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله و تعالي عما يشركون»... القصص/68«و ربك يعلم ما تكن صدورهم و ما يعلنون»... القصص/69 [ صفحه 143] «و ما كنت ترجو أن يلقي اليك الكتاب الا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين»... القصص/86«و لا يصدنك عن آيات الله بعد اذ أنزلت اليك وادع الي ربك و لا تكونن من المشركين»... القصص/87«و لئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين»... العنكبوت/10«أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون»... السجدة/3«ان ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»... السجدة/25«و اتبع ما يوحي اليك من ربك ان الله كان بما تعملون خبيرا»... الاحزاب/2«و يري الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق و يهدي الي صراط العزيز الحميد»... سبأ/6«و ما كان له عليهم من سلطان الا لنعلم من يؤمن بالاخرة ممن منها في شك و ربك علي كل شي‌ء حفيظ»... سبأ/21«فاستفتهم ألربك البنات و لهم البنون»... الصافات/149«سبحان ربك رب العزة عما يصفون»... الصافات/180«اذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من طين»... ص/71«و كذلك حقت كلمة ربك علي الذين كفروا أنهم أصحاب النار»... المؤمن/6«فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون»... فصلت/38«ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك ان ربك لذو مغفرة و ذو عقاب أليم»... فصلت/43«و لقد آتينا موسي الكتاب فاختلف فيه و لولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم و انهم لفي شك منه مريب». فصلت/45«من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها و ما ربك بظلام للعبيد»... فصلت/46«سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه علي كل شي‌ء شهيد»... فصلت/53«و ما تفرقوا الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم و لو لا كلمة سبقت من ربك الي أجل مسمي لقضي بينهم و ان الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب»... الشوري/14«أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا و رحمة ربك خير مما يجمعون»... الزخرف/32«و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون و لبيوتهم ابوابا و سررا عليها يتكئون، و زخرفا و ان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا و الاخرة عند ربك للمتقين»...الزخرف 35/33«حم، و الكتاب المبين، انا أنزلناه في ليلة مباركة انا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم، أمرا من عندنا انا كنا مرسلين، رحمة من ربك انه هو السميع العليم»... الدخان 6/1«لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولي و وقاهم عذاب الجحيم، فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم»... الدخان 57/56«ان عذاب ربك لواقع»... الطور/7«فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن و لا مجنون»... الطور/29 [ صفحه 144] «و اصبر لحكم ربك فانك بأعيننا و سبح بحمد ربك حين تقوم»... الطور/48«ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بمن اهتدي»... النجم/30«ان ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم اذ أنشأكم من الارض و اذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقي»... النجم/32«و أن الي ربك المنتهي»... النجم/42«و يبقي وجه ربك ذو الجلال و الاكرام»... الرحمن/27«تبارك اسم ربك ذي الجلال و الاكرام»... الرحمن/78«فسبح باسم ربك العظيم» [47] ... الواقعة/74«ن و القلم و ما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون»... القلم 2/1«ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين»... القلم/7«فطاف عليها طائف من ربك و هم نائمون»... القلم/19«فاصبر لحكم ربك و لا تكن كصاحب الحوت اذ نادي و هو مكظوم»... القلم/48«و الملك علي أرجائها و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية»... الحاقة/17«و اذكر اسم ربك و تبتل اليه تبتيلا»... المزمل/8«ان ربك يعلم أنك تقوم أدني من ثلثي الليل و نصفه و ثلثه و طائفة من الدين معك...»... المزمل/20«و ربك فكبر»... المدثر/3«و لربك فاصبر»... المدثر/7«و ما يعلم جنود ربك الا هو و ما هي الا ذكري للبشر»... المدثر/31«يقول الانسان يومئذ أين المفر، كلا لا وزر، الي ربك يومئذ المستقر»... القيامة 12/10«و قيل من راق، و ظن أنه الفراق، و التفت الساق بالساق، الي ربك يومئذ المساق»... القيامة 30/27«فاصبر لحكم ربك و لا تطع منهم آثما أو كفورا، و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلا»... الدهر«الانسان» 25/24«ان للمتقين مفازا، حدائق و أعنابا، و كواعب أترابا و كأسا دهاقا، لا يسمعون فيها لغوا و لا كذابا، جزاءا من ربك عطاءا حسابا»... النبأ 36/31«و يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، الي ربك منتهاها»... النازعات 44/42«ان بطش ربك لشديد»... البروج/12«سبح اسم ربك الاعلي، الذي خلق فسوي، والذي قدر فهدي، و الذي أخرج المرعي، فجعله غثاءا أحوي». الاعلي 5/1«الم تر كيف فعل ربك بعاد»... الفجر/6«فصب عليهم ربك سوط عذاب»... الفجر/13«و جاء ربك و الملك صفا صفا»... الفجر/22«ما ودعك ربك و ما قلي»... الضحي/3 [ صفحه 145] «و لسوف يعطيك ربك فترضي»... الضحي/5«و أما بنعمة ربك فحدث»... الضحي/11«و الي ربك فارغب»... الانشراح/8«أقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ و ربك الاكرم»... العلق 3/1«ان الي ربك الرجعي»... العلق/8«يومئذ تحدث اخبارها، بأن ربك أوحي لها»... الزلزلة 5/4«ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل»... الفيل/1«فصل لربك وانحر»... الكوثر/2«فسبح بحمد ربك و استغفره...»... النصر/3يلاحظ من الآيات الآنفة الذكر أن كلمة «ربك» فيها اكثر من موقع ذي عطاء بياني مقصود و في كتب البلاغة توضيح في موارد هذه الكلمة و ما تعنيه من معان... و من زاوية نظرنا في هذا الكتاب نري ان الله عزوجل جعل هذا الحرف بديلا عن اسمه لتكون لرسوله الاعظم المكانة التي لا تنفك عن هذه الصلة ابتغاء التنويه بعظمة شخصيته صلي الله عليه و سلم...

النبي...

النبي صفة وظائفية شاءها الله لبعض عباده و هي كصفة الرسالة لا تختلف عنها في قليل و لا كثير... فما من فرق بين النبي و الرسول علي حد علمنا بالمصادر التي تحدد معاني هذه المفردات. و قد جاءت الاشارة الي نبوة النبي في القرآن الكريم ايجازا و تفصيلا، و لما في هذا الحرف من مطالب تتصل بمهمة النبي بوصفه نبيا فانا ساردون بهذا الجدول ما جاء من آيات التنزيل في هذا الشأن...«ان أولي الناس بابراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين»... آل‌عمران/68«و ما كان النبي أن يغل و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون».. آل‌عمران/161«و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس و الجن يوحي بعضهم الي بعض زخرف القول غرورا و لو شاء ربك ما فعلوه فذرهم و ما يفترون»... الانعام/112«الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الانجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم اصرهم و الاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به و عز روه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون»...الاعراف/157«فآمنوا بالله و رسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله و كلماته و اتبعوه لعلكم تهتدون»... الاعراف/158«و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة للذين آمنوا منكم و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»... التوبة/61«ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم»... التوبة/113«لقد تاب الله علي النبي و المهاجرين و الانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رؤوف رحيم»... التوبة/117«و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا اذا تمني ألقي الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته و الله عليم حكيم»... الحج/52 [ صفحه 146] «النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم و أولو الارحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله من المؤمنين و المهاجرين الا أن تفعلوا الي أوليائكم معروفا، كان ذلك في الكتاب مسطورا»... الاحزاب/6«و اذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا و يستأذن فريق منهم النبي يقولون ان بيوتنا عورة و ما هي بعورة ان يريدون الا فرارا»... الاحزاب/13«يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك علي الله يسيرا»... الاحزاب/30«يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض و قلن قولا معروفا»... الاحزاب/32«ما كان علي النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل و كان أمر الله قدرا مقدورا»... الاحزاب/38«يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم الي طعام غير ناظرين إناه ولكن اذا دعيتم فادخلوا فاذا طعمتم فانتشروا و لا مستأنسين لحديث ان ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم و الله لا يستحيي من الحق و اذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا تنكحوا ازواجه من بعده أبدا ان ذلكم كان عند الله عظيما»... الاحزاب/53«ان الله و ملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما»... الاحزاب/56«يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون»... الحجرات/2«و اذ اسر النبي الي بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به و أظهره الله عليه عرف بعضه و أعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من انبأك هذا قال نبأني العليم الخبير»... التحريم/3«يا أيها الذين آمنوا توبوا الي الله توبة نصوحا عس ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه نورهم يسعي بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا انك علي كل شي‌ء قدير»... التحريم/8و لعله مما يلاحظ في هذا الباب ان يراد ذكر النبي في القرآن الكريم نتعلق به مطالب عامة و خاصة و امور تشريعية و تهذيبية، و قد تكون بعض هذه الآيات عرض لها شي‌ء و من الشرح و التفصيل في بعض فصول الكتاب و لقد توخينا هنا الايجاز و عدلنا عن الاسهاب و ان كان الكثير من الكلام في حق الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم هو جد قليل.

باب يبايعونك...

تعني كلمة البيعة. الاعلان بالثقة التامة و الولاء المطلق للجهة التي يقصد اليها المبايعون و كان النبي صلي الله عليه و سلم هو الجهة الاولي و الاخيرة التي رأت الامة يومذاك أن تقبل عليها باخلاصها و طاعتها و ولائها... و قد اشارت آيات البيعة الي ذلك باسلوب فيه وضوح و تفصيل و فيه كذلك دلالة علي أن رسول الله كان من المهابة و ثقل الوزن الشخصي و استحقاق الاجلال والتكريم بحيث كانت تقبل عليه الجموع التي تمثل علية القوم و فضليات نسائهم ليسجلوا امامه بيعتهم و اقرارهم بالطاعة بوصفهم الرعية التي انصهر في نفسها الايمان كله و التعلق كله و العهد بالولاء كله... و فيما يلي نصوص آيات البيعة مقرونة بشي‌ء من الشرح يسير... [ صفحه 147] «ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فانما ينكث علي نفسه و من أوفي بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما»... الفتح/10هذا النص يبرز مقام الرسول صلي الله عليه و سلم عند الله اذ جاء فيه «ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله» و تلك مزية عظمي لم يتهيا مثلها لنبي من انبياء الله و لا لرسول من رسله و تأكيدا لكون الذين يبايعون النبي يبايعون الله ان النص جاء قائلا «يد الله فوق أيديهم» و المراد بذلك كما قلنا تأكيد ان مبايعتهم للنبي هي عين مبايعتهم لله ولكن موضوع اليد هنا هو موضوع معنوي اي الله عزوجل يؤيد هؤلاء الذين بايعوا رسوله بوضع أيديهم بعضها فوق بعض وفق قاعدة البيعة التي كانت مألوفة في تعاملهم يومذاك بل في تعامل كثير من الامم و الشعوب حتي اليوم.و في النص جاء قوله تعالي «عليه الله» بضم الهاء و ذاك لان لفظ الجلالة هنا يجب ان يكون محل التفخيم و لذلك نطقت الهاء في «عليه» مضمومة ليقع التفخيم في لفظ الجلالة وفق النظام الصوتي في اللغة العربية. و هنا كان العهد خاصا بالله عزوجل اذ لم يقرن به اسم الرسول لان الله هو المتفرد بكل سلطان و المتفرد بكل احسان و هو الذي ارسل رسوله بالرسالة العظيمة الي العالم كله. و البيعة المشار اليها هي ان اصحابه رضوان الله عليهم اعلنوا للنبي شدة تعلقهم به و بدينه و انهم سيلبثون وراءه و تحت قيادته في الدفاع عن الدين و مواجهة الخصوم المعتدين.و قد جاء النص بلفظ «انما يبايعون الله» لان «انما» للحصر اذ أحل الله عزوجل ذاته الكريمة في هذا المقام و كأنها هي التي بويعت بالذات امعانا في ان شخصية الرسول الاعظم قد أدت مهمة هي مهمة الله عزوجل...«لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا»... الفتح/18في هذا النص ما يشير الي قوة موقف النبي صلي الله عليه و سلم اذ هيأ له الله اعوانا مخلصين و صادقين و ناصحين و دوي قوة و اقتدار علي تقديم المشورة و حسب كل قيادة توفيقا ان يكون هيكل من يكون في معيتها هيكلا علي مثل هذه الصفة. و قد شهد النص لتلك الرفقة المرافقة للنبي بأنهم مرضي عنهم عند الله و ان الله علم ما في قلوبهم و انه عزوجل انزل السكينة عليهم و انه رعاهم رعايه خاصة و اثابهم الفتح القريب. و المهم هنا ان ما جاء به النص اوضح سلامه البيئة القيادية التي يقوم علي رأسها الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم.«يا أيها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك علي أن لا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن و لا يزنين و لا يقتلن أولادهن و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن و لا يعصينك في معروف فبايعهن و استغفر لهن الله ان الله غفور رحيم»... الممتحنة/12في النص تعداد لجمهرة من العاهات الاجتماعية التي كانت سائدة في بيئات الجزيرة و قد جاء جماعة النساء يعلن امام النبي عهدهن بان يكن عند حسن ظنه من طاعة الله و تجنب مالا يرضاه و لا يرضاه رسوله من تلك العاهات و ما اليها و النقطة الثانية و قد تكون هي الاولي ان الاسلام اقام للمرأة شأنا معترفا به بحيث امر الله نبيه ان يبايعن حين يأتينه مبايعات و يفهم من ذلك ان طي هذا الامر الالهي ان يحسن النبي استقبالهن و ان يكون لطيفا بهن و ان يستغفر لهن الله و يعني الاستغفار هنا الرجاء من الله عزوجل ان يسبغ عليهن رضاه و رحمته... و كان النبي صلي الله عليه و سلم معروفا بالرفق بالنساء و الرأفة بهن و اعزاز مكانتهن و يفهم من ذلك كذلك ان المؤمنات يوم ذاك كن يتدارسن امورهن و يقررن في ما ينبغي ان يعملن و يفهم من ذلك [ صفحه 148] كذلك ان النساء المعنيات في هذا النص كن يجدن لقيادة النبي في الامة ما يعترفن عن قناعة بكون ذلك جديرا بالطاعة و التأييد و التعلق الشديد و ان ذلك مما يعني النساء كما يعني الرجال. حقا ان احصاء مشغوليات الرسول في حياته اليومية التي كان اطارها واسعا بسعة عموميات الاختصاص و قلة خصوصياته.

ما يتعلق باتباع الرسول و الانقلاب عليه

الكلام علي هذا العنوان ينصرف الي الكلام علي تحويل القبلة من بيت‌المقدس الي الكعبة المشرفة و ذاك علي هدي ما جاء في النص الكريم...«سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق و المغرب يهدي من يشاء الي صراط مستقيم، و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا و ما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب علي عقبيه و ان كانت لكبيرة الا علي الذين هدي الله و ما كان الله ليضيع ايمانكم ان الله بالناس لرؤوف رحيم، قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فوق وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره و ان الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم و ما الله بغافل عما يعملون، و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك و ما تبعوا قبلتك و ما أنت بتابع قبلتهم و ما بعضهم بتابع قبلة بعض و لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم انك اذن لمن الظالمين»... البقرة 145/142حين كان النبي صلي الله عليه و سلم يدعو الناس الي الصلاة في العهد المكي كان الاتجاه القبلي فيها الي بيت‌المقدس و ذاك لان الصلاة الي الكعبة في تلك الايام يستغلها الكفار و المشركون و عبدة الاوثان بأن فيها اعترافا بالاصنام التي هناك و حين بدلت القبلة في العهد المدني و صارت الي الكعبة كانت الاصنام ما تزال فيها الا ان قدم الاسلام اذ رسخت و عموده قد قام و موضوع التوحيد قد استقر في العقول و القلوب فلم يعد هناك من مجال للادعاء نفسه.و في اوائل ايام النبي في العهد المدني كان صلي الله عليه و سلم يرفع رأسه الي السماء يتمني أن يستجيب الله لرغبته في تحويل القبلة الي الكعبة التي هي اول بيت وضع للناس في الارض و التي هي مما كان لابراهيم عليه‌السلام ببنائه من يد ظاهرة و معه ابنه اسماعيل و ظلت الكعبة محل عبادة المتعبدين من ذلك العهد [48] الي عهد الاسلام علي ما في بعض تلك الانماط من العبادات من اوضاع عولجت في الاسلام بالتصحيح و التعديل و قوله تعالي «قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره». يعد مبدأ التحرك نحو اقرار القبلة الجديدة... و قد شعر اليهود بان هذا التعديل للقبلة ضرب قدسية بيت‌المقدس عرض الحائط. غير أن قدسية بيت‌المقدس ظللت قائمة في نفوس المسلمين و صاروا يشيرون اليها بأنها أولي القبلتين و ثالث الحرمين. و الموضوع ليس موضوع اختيار جهة محددة فان لله المشرق و المغرب. ولكن مسألة القبلة لا شأن لها بالجهوية و انما هي رمز لبيئة الاسلام الاولي و اتجاه الي مقام ابراهيم الذي قدسته العرب كل تقديس من قديم الزمان. و في الاتجاه اليه ما يعد من اوائل مراحل الحج اليه و قد استجاب الله لرغبة النبي بهذا الشأن و خاطبه بهذه الاستجابة «فلنولينك قبلة ترضاها» فصارت القبلة الي الكعبة علي ما وقع عليه رضا النبي صلي الله عليه و سلم، و قد أمر المسلمون بالاتجاه الي البيت الحرام في سائر الصلوات حيثما كانوا من العالم «و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره»... [ صفحه 148] و يبدو ان هناك من لم يستجب لهذا التحول و قال السفهاء من الناس و هم الذين يصرفون حياتهم العملية و الفكرية بعيدا عن الاتزان المنطقي اذ يشوب تصرفهم هذا شي‌ء من البلاهة و الغباء و قد رد الله عليهم مقولتهم التي انكروا بها تحويل القبلة الي الكعبة و يبدو ان الحسن القومي لدي ابناء الامة العربية يومذاك كان ضعيفا ان لم يكن معدوما و ذلك بسبب الميل الي القبائلية التي كانت تعد مرجحة علي القومية الكبري التي هي الاصل و الاساس في كيان الامة العربية... و لم ينشط فيهم الحس القومي الا بعد أن اثبت الاسلام شخصيتهم بما حملهم من مسؤوليات عظيمة في مجالات السياسة و الحضارة و الوجود الكياني... اذ كانوا قبل ذلك عرضة لعوامل تفتيت الشمل و تطيع أوصال الخارطة و اصرار دول من خارج الجزيرة علي إلتهام كل منها الحصة الممكنة.و قد صارت القبلة رمزا للملة فكأنها اذا ذكرت ذكر بذكرها الدين كله و هذا معني قوله تعالي «و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك»... اي ما تبعوا جوهر دينك و الاصول التي قامت عليها شريعتك و هكذا صار يقال في صفة المسلمين انهم اهل القبلة...ان الكعبة المشرفة و ان كانت تجمع قبائل العرب عند باحتها فانها لم تكن قد خلقت فيهم الحس القومي الجامع لسائر شعوبهم و قبائلهم فلما جاء الاسلام كان لها ان تحقق ذلك [49] ... و هنا نري ان من اركان تحويل القبلة الاستجابة الالهية التكريمة لرغبة الرسول الاعظم في هذا التحويل. و الركن الثاني هو الكشف عن من يتبع الرسول و عن من لا يتبعه. و الركن الثالث هو ضضخ الحس القومي المتنامي الي هذه الامة التي كان لما بعد ان عرفت نفسها ان تعرف ربها فتصنع جلائل الاعمال في اطار ايمانها الخالص فتكون حقا خير أمة أخرجت للناس»...

باب العجب و الاعجاب...

العجب هو التحير و الاندهاش و إعمال الفكر في امر حدث. علي غير الوجه المألوف في حدوث نظائره... فعندنا ما أخبرت زوجة نبي طعن في السن انها مستلد ضحكت و عجبت لذلك. مما يفهم منه أن بعض العجب يجر الي الضحك و بعضه يكون مدعاة تفكير طويل كم يحاول حل لغز او الخروج من مأزق وقع فيه... و قوله تعالي «بل عجبت و يسخرون» اي انك في حال جد و أخذ الامور اخذ من يزنها بالعقل و التبصر و هم يسخرون و يهزلون فالفرق اذن فرق جسيم...لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكي‌اي لا تستغربي من بكاء رجل هو علي هذه الصفة فانه يحق له البكاء... ان وقوع امر ما علي غير المألوف يثير العجب اي الحيرة في تفسير السبب المادي لوقوع ذلك و حدوثه. و قول القائل في مثل ذلك: هذا شي‌ء عجيب او عجاب او غريب هو التعبير عن العجب. قد يكون العجب من عظمة الشي‌ء او ندرته او غرابته او من استحالة وقوعه يوم يخبر احد بوقوعه و من ذاك «أتعجبين من أمر الله» هود/73. لامرأة نبي طاعنة في السن قيل لها انها ستلد...اما الاعجاب فهو ابداء منتهي التقبل و الارتياح لشي‌ء يقع علي حال متكاملة بحيث يكون لتقديم التهنئة فيه مجال و للاطراء سبب... الاعجاب يكون بما يقع من الاشياء مقرونا بالابداع و الجمال و النبوغ و ما [ صفحه 150] يستأهل التقدير و الاستحسان. و في ما يلي بعض الآيات في هذا المعني...«و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله علي ما في قلبه و هو ألد الخصام»... البقرة/204الاقوال التي يعبر بها اناس عن حب و تعلق و اخلاص و وعود كانت مصوغة باجمل الالفاظ و افصح الكلمات. و كثيرا ما غلفت اقوال بعض الناس بالخداع و المداهنة و الكدب و الغش ممن اذا اطمان اليه سامعه و نال اعجابه تعرض بذلك لا كثر من ضرر جسيم. و من هنا نقم الله من الشعراء انهم يقولون ما لا يفعلون و لا يؤمنون بما يقولونه و انهم يبالغون في مدح الناس و ذمهم فيجعلون الجبان شجاعا و البخيل جوادا و الكاذب صادقا و العيي منطقيا و ذلك هو الخط الاسلامي الذي نبه الله اليه النبي محذرا اياه أن يفتن بالذين يعجب الناس قولهم و في الحديث «احثوا في وجوه المادحين التراب»... و قد يكون مما يغري القاضي باصدار قرار لصالح احد الخصمين ذلاقة لسانه و فصاحة كلامه و انه ألحن في حجته... و النص القرآني فيه من ظاهر التوجيه و حسن التعليم من قبل الله عزوجل لرسوله العظيم. فلقد اراد الله لنبيه ان لا يحكم لاحد بحكم ما بناءا علي ظواهر تستدعي الاعجاب به...«فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم انما يريد الله ليعذبهم بها في اليحاة الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون»... التوبة/55في الاية الكريمة اشارة الي انه ليس من الضروري ان يكون غني الغني دالا علي انه في موقع من رضوان الله و تزكيته فان رضوان الله و تزكيته من اسرار الله عزوجل فقد يكون في من اغناهم الله من فضله من هم من اخيار الناس و قد يكونون من شرار الناس. و النص القرآني نص توجيهي و تعليمي للرسول صلي الله عليه و سلم... و المراد بالاولاد هنا ما يكون من كثرتهم و تعدد مجالات نفوذهم و بسطة عيشهم فقد يكون ذلك امتحانا من الله لهم لينظر كيف يعملون...«و لا تعجبك أموالهم و لا اولادهم انما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون»... التوبة/85هذا النص علي هدي النص الذي سبقه...«أكان للناس عجبا أن أوحينا الي رجل منهم أن أنذر الناس و بشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون ان هذا لساحر مبين»... يونس/2كانت عبادات الناس في الجاهلية منصرفة الي الاصنام و الاوثان و كان لكل قبيلة صنم يعبدونه. كما ان هذا الصنم كان شعارا سياسيا لتلك القبيلة و لذلك عجبت القبائل ان يظهر فيهم من يعلن بطلان هذه المعابيد و يدعو كذلك الي انكار تعدد الآلهة و يدعو الي اله واحد فاذ ان النبي صلي الله عليه و سلم و يدعو الي الله الذي بعثه لهداية الناس و ابطال الوثنية الضاربة اطنابها في الجزيرة فانه صلي الله عليه و سلم واجه من يصر علي وثنيته و علي شركه و كفره غير مقتنع بان هناك الها واحدا لا شريك له و ان هناك نبيا بعثه الله اليهم بل جاوزوا ذلك الي ادعاء انه ساحر مبين... و قد وجدوا أن الايمان باله واحد هو غير ما اتخذوه لكل قبيلة من اله من الاوثان وجدوا أن ذلك يلغي آلهتهم بل يلغي ذاتيتهم و يفرض أن يكون الوجود كله للمجموعة الكبري و ليس للوجود القبائلي المتعدد [50] ... [ صفحه 151] «و ان تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم و أولئك الاغلال في أعناقهم و أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»... الرعد/5الخطاب للرسول الاعظم و قد جاء فيه ان مما يستدعي العجب في مواقف المشركين انهم انكروا الحشر و النشر و زعموا و ظنوا أن من مات و آل جسده الي التراب فانه لن يعود الي الحياة من جديد و هو قول يخالف العقيدة القائمة في الاسلام علي عالم الاخرة و علي الثواب و العقاب و الجنة و النار. و مثل هؤلاء كانوا كثيرين في زمن الدعوة الاسلامية في العهد المكي و قد رد الله عليهم بما أكد به وجود الحشر و النشر و الثواب و العقاب و ذاك بقوله «و أولئك الاغلال في أعناقهم و أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون». و قد ووجهوا بالعقاب و الجزاء في نفس العالم الذي انكروه بعد اعادة الحياة اليهم ليحاسبوا علي كفرهم و يعاقبوا عليه في عالم الاخرة الذي انكروه و انكروا انهم ستعاد اليهم الحياة فيه ليواجهوه علي أن النصوص القرآنية استفاضت في الكلام علي اعادة الخلائق الي عالم الحياة بعد هلاكهم و فنائهم و قد كان ذلك من مهمات المقاصد العقائدية...«لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج و لو أعبجك حسنهن الا ما ملك يمينك و كان الله علي كل شي‌ء رقيبا»... الاحزاب/52ورد الكلام علي هذا النص في موقع اخر من الكتاب اما قوله تعالي «و لو أعجبك حسنهن» اي بهرك حسنهن، و قد نزيد علي ما ذكرناه من قبل ان مستوي الجمال و الحسن كان عاليا في العرب و كان مشهودا. و من هنا كثر شعراء الغزل في العهد الجاهلي و الاسلامي في سائر انحاء الجزيرة...«بل عجبت و يسخرون، و اذا ذكروا لا يذكرون، و اذا رأوا أية يستسخرون»...الصافات 14/12هذا النص مسبوق بنص آخر او آية اخري هي «فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب»... المراد من العجب في هذا النص هو ما يستوجب اطالة النظر و دقة التفكير و تمحيص القضية المعروضة أما قوله تعالي اثر ذلك «و يسخرون» فانه اشار به الي ان القوم كانوا يأخذون بهدب السخرية في مقام الجد، و الهزل في مقام الحكمة، و تلك حجة من فقد الحجة و ذاك منحي من نحا في مواجهة الحق نحو الباطل علي جاري عادة المشركين في تعاملهم مع رسل الله، و الرسول الاعظم احد هؤلاء الرسل. ان العجب لا يعني الاستغراب الانكاري دائما و هو في قولا تعالي «بل عجبت» اي شغل بالك و أخذ نصيبا من تفكيرك مما عليه القوم من ضلال و شتاب رأي و متاهة تسيب...«و عجبوا أن جاءهم منذر منهم و قال الكافرون هذا ساحر كذاب»... ص/4العجب هنا عجب انكار و استغراب و استبعاد و تكذيب...«بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شي‌ء عجيب»... ق/2اي هذا امر لا يصدق و هو عجب لا شأن له باعمال الفكر و انما هو محض انكار و تكذيب علي نحو مامر في آيات مماثلة.«و اذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أني يؤفكون»... المنافقون/4هنا جاء النص بلفظ الاعجاب و ليس العجب و يقع الاعجاب في الاشكال و الالوان و الزينة و متع الحياة و غير ذلك. فلقد كان المنافقون الذين أقبلوا علي رسول الله في غاية البهرجة و الزينة و الهندام يظنون ان ذلك مما يقوم به لهم وزن بين الناس، اما قوله تعالي «و اذا رأيتهم تعجبك أجسامهم» فانه يبدو انهم كانوا علي جانب من القبول او الكمال الجسماني و ما الي ذلك [ صفحه 152] مما استأثر بلفت نظر النبي صلي الله عليه و سلم و قد كان في القوم من يجعل مثل ذلك اصلا في رفع مكانة الناس و قد عرف شعراء العرب ذلك فقال قائلهم:تري الرجل النحيف فتزدريه و في اثوابه اسد هصورو يعجبك الطرير فتشتهيه فيخلف ظنك الرجل الطريرو كان المنافقون علي مثل هذا الحال، و قد سخر بهم النص وفضحهم اسوأ فضيحة...

باب فاستفتهم

من الخطابات القرآنية الموجهة الي النبي صلي الله عليه و سلم بلفظ الاستفتاء و يكون تارة باستفتائه صلي الله عليه و سلم القوم و تارة اخري باستفتائهم اياه و ذاك مما لم يكثر في القرآن و انما ورد فيه بقلة و ها نحن اولاء شارحون ذلك و عارضوه...«فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا انا خلقناهم من طين لازب»... الصافات/11امر النبي بالاستفسار منهم عما اذا كانوا أشد خلقا من السماوات و الارض و غيرهما. و ما من شك في أن احدا منهم لن يقول ذلك. لانه ان قاله فقد ثبت كذبه و ظهر بهتانه وبان من غروره ما يسقط من حيثيته... و استعملت كلمة الاستفتاء هنا لان الاجابة علي الاستفتاء تتطلب الصدق و الاعتماد علي العلم - خلافا كلمة السؤال - فان من يرد عليه رد من يجد في الرد اذ انه جعل محل ثقة و اعطي مكانة استأهل بها ان يستفتي. و التعبير بالاستفتاء كما قلنا قليل الورود في التنزيل...«فاستفتهم ألربك البنات و لهم البنون، أم خلقنا الملائكة إناثا و هم شاهدون»... الصافات 50/49الاستفتاء هو نوع من السؤال و الاستفهام يكاد يكون مصحوبا بالاستحلاف. و بهذا يكون الاستفتاء اقوي انواع الاسئلة لأن السائل المستفتي يمنح المسؤول المستفتي شيئا من الثقة بصدق جوابه «فاستفتهم ألربك البنات و لهم البنون، أم خلقنا الملائكة اناثا و هم شاهدون»... و طبيعة السؤال لا يقع لها من الجواب الا امر واحد هو نفي ما اعتقدوه في الملائكة من أنها اناث فان لم يجيبوا علي ذلك بنعم ام لا فانهم سيجيبون عليه بالصمت المطبق. يفهم من مثل هذه الصيغ الاستفهامية التي امر الله النبي باستعمالها في مخاطبة القوم ان الله كان يعهد اليه مواجهة المشركين بتكذيب معتقداتهم و تسفيه ارائهم ولكن باسلوب يتميز بالحكمة و التعقل و الاستدراج الي جواب يفحم المجاوبين انفسهم.و قد يكون استعمال كلمة الاستفتاء هنا قد أريد به التهكم بالقوم لانه نسب اليهم فهم الحقائق و الدقائق حين استفتاهم فيما استفتاهم فيه. اذ اوهمهم أنهم يعلمون و هم لا يعلمون...

باب يستفتونك

كان النبي صلي الله عليه و سلم محل استفتاء اتباعه المؤمنين فيما يعن علي بالهم من مسائل الشريعة مما لم يكن قد نزل منها او كان قد نزل و لم يفهموه. فكان النبي يستمد الجواب من وحي الله اليه لان الله هو منزل الشريعة و باعث الرسول بتعاليمها و احكامها و مفردات العقيدة فيها... و مراجعة المسلمين النبي في مثل هذه الامور و المطالب كثيرة ولكن ما جاء منها بلفظ الاستفتاء قليل اذ كان يغلب علي تلك المراجعات أن يرد الكلام عليها بالقرآن الكريم بلفظ السؤال. و فيما يلي ما جاء بهذا الحرف في التنزيل العزيز...«و يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن و ما يتلي عليكم في الكتاب في يتامي النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن و ترغبون أن تنكحوهن [ صفحه 153] و المستضعفين من الولدان و أن تقوموا لليتامي بالقسط و ما تفعلوا من خير فان الله كان به عليما»... النساء/127«و يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن أمرؤ هلك ليس له ولد و له أخت فلها نصف ما ترك و هو يرثها ان لم يكن لها ولد فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك و ان كانوا اخوة رجالا و نساءا فللذكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا و الله بكل شي‌ء عليم»... النساء/176فيبدو من هذين الاستفتاءين و من غالب ما يوجه الي الرسول من اسئلة مدنية. أن الغاية منها الحصول علي معلومات فقهية ينتفع منها المستفتون السائلون و ذاك خلافا للاسئلة المكية التي تغلب عليها من الرغبة في التعجيز و الاضجار و الاستفزاز و المماحكة و اشغال النبي بما لا حصيلة فيه لاولئك السائلين من نفع و فائدة... و كان مثل ذلك كثيرا ما يقع في الاسئلة المدنية من قبل اليهود في معظم الاحيان و من ذلك. «يسألك اهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء...» النساء/153...فان اليهود لا يعنيهم نزول الكتاب الذي يريدون نزوله من السماء او عدم نزوله ولكن الذي كان يجرهم الي مثل ذلك هو الميل الي المشاكسة لا غير...

الرسول الاعظم و السكينة الالهية

السكينة التي جاءت في القرآن الكريم مشار الي أن الله عزوجل انزلها علي النبي و المؤمنين و قد تكرر ذلك - غير مرة - يراد بها الاطمئنان النفسي الي عروض الفرج بعد الشدة و قوة الرجاء و اليقين بلطف الله و تداركه نبيه و المؤمنين من عباده... و فيما يلي ما هناك من آيات وردت فيها كلمة السكينة في القرآن الكريم...«ثم انزل الله سكينته علي رسوله و علي المؤمنين و انزل جنودا لم تروها و عذاب الذين كفروا و ذلك جزاء الكافرين»... التوبة/26النص مسبوق بآية ذكرت فيها الموقعة الحربية التي هي في «حنين» و ذاك في قوله تعالي «و يوم حنين اذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم و ليتم مدبرين»... فان الجيش الاسلامي علي كثرته تعرض في وقعة حنين للفشل اول الامر و عظم القلق في النفوس و استولت الخشية علي القوم من عدم كسب النصر في هذه المعركة فأنزل الله سكينة علي المسلمين اي قوي رجاءهم بالنصر و شد من عزائمهم في المواجهة و طمأنهم علي العاقبة فذاك هو معني السكينة في هذا النص...«فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها»... التوبة/40اول النص هو قوله تعالي «ان لا تنصروه فقد نصره الله اذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلي و كلمة الله هي العليا و الله عزيز الحكيم»... السكينة المنزلة علي رسول الله هنا كانت في الغار و هي نعني جعل النبي مستيقنا من الفرج و مطمئنا الي النصر بما ألقاه الله عليه من الاستقرار النفسي و لم يرد في النص أن السكينة نزلت علي النبي و صاحبه لان النبي هو رأس الامر الموحي اليه بالرسالة و لا يتسع المجال لشمول احد سواه بالسكينة في هذا المقام و قد جاء النص بقول النبي لابي‌بكر «لا تحزن ان الله معنا» و لم يرد بلفظ «ان الله معي»... و القلق الذي يصيبه هو اضعاف القلق الذي يصيب من يكون معه و في النص القرآني ايماء الي أن النصر انما هو من الله فاذا نصرت الناس النبي أم لم تنصره فان نصر الله هو الذي يضع كل شي‌ء في نصابه فقوله تعالي «اذ أخرجه الذين كفروا» لا يعني انهم اقتادوه و معه صاحبه ابوبكر الصديق رضي الله عنه الي خارج الحدود و انما كان [ صفحه 154] يعني أن خطة اعدائه في مكة قامت علي اخراجه [51] و أصرت علي احد الامور الثلاثة منها التخلص منه بالقتل او اخراجه او رده او حمله علي اعتناق ملتهم... و قد جاء في شعر لحسان بن ثابت يقول فيه واصفا هذه اللحظات من ايام الهجرة:الثاني اثنين في الغار المنيف و قد طاف العدو به اذ صعدا الجبلاو من هنا كان حزن ابي‌بكر و طمأنة النبي له. اذ كان جماعة الكفار يمشطون المنطقة...«هو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا»... الفتح/4يشير النص القرآني الي أن هذه السكينة نزلت في قلوب المؤمنين... و القلوب في المنهج العقائدي الاسلامي - و في كلام العرب - المعبر عن طبيعة المعقولات التي يعقلونها هي مصدر الفكر و الوعي و مسؤولية اتخاذ القرار و كذلك هي مركز حمل الهوم و مواجهة المشاكل و تباعة الكفر و الايمان فحين نزلت السكينة في هذه القلوب فقد استقر كل شي‌ء في مكانه من الطمأنينة و الراحة فلم يبق ما تقلق له النفس او يشغل البال... اما زيادة الايمان فالمراد به تثبيته و تقويته لان الايمان مسألة معنوية لا حجم لها فهو - اي الايمان - اشبه بانتماء الانسان الي وطن معلوم مما يسمي في لغة العصر بالجنسية... فان العراقي مثلا لا تزداد عراقيته و لا تنقص بالقياس الي حسن عمله او سوئه و بتعبير اخر ان زيادة الايمان هي بروزه بوضوح و رسوخه في اعماق النفس و لا علاقة للحجم و الكمية بذلك... و قوله تعالي «ليزدادوا ايمانا»... يراد به التنويه بهذه السكينة التي جعلت من طمأنينة النفس ما يؤدي الي التحسس بالايمان و القناعة به و الانتماء اليه...«لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا»... الفتح/18قوله تعالي «فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا» اي ان الله علم ما في قلوب المؤمنين من قوة رجائهم في رحمته و تطلعهم الي نصره فأنزل السكينة عليهم اي آمنهم من الخوف و قوي رجاءهم بالنصر... و قد كانوا رضي الله عنهم و هم المنوه به في النص من بعض اسباب انزال السكينة الالهية عليهم... و تكاد السكينة هنا تعبر عن معني اللطف و الرعاية و اسباغ الطمأنينة و راحة البال علي القوم اذ انزل الله سكينته عليهم...ان نزول هذه السكينة كان جزاءا للقوم و مكافأة لهم علي حسن موقفهم من رسول الله و صدق بيعته و صدق ايمانهم الذي وجده الله مكتنزا في اوعية قلوبهم و هي شهادة من الله بحق من كانوا مع الرسول في تلك البيعة التي سميت ببيعة الرضوان أخذا بما ورد في النص بقوله تعالي «لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة»... و هذا يدل علي مامنحه الله نبيه من التوفيق في حسن اختيار الاصحاب و الاعوان الذين كانوا سند هذا الدين و حماة الملة و ورثة الدعوة الاسلامية...«فأنزل الله سكينته علي رسوله و علي المؤمنين و ألزمهم كلمة التقوي و كانوا أحق بها و اهلها و كان الله بكل شي‌ء عليما»... الفتح/26اول هذا النص في الآية هو قوله تعالي «اذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية»... و هو بقية كلام قرآني ذكر بشي‌ء من التفصيل بخروج المسلمين الي مكة و قد منعهم الكفار عن دخولها و لم يأذن الله للمسلمين بقتال القوم اذ كان في مكة خلق من المسلمين فيهم الرجال و النساء و هم محتفظون بانتمائهم الاسلامي و لم تكن شخصياتهم و عناوينهم [ صفحه 155] معروفة للمسلمين فلو وقعت الحرب بين الفريقين فلعل هؤلاء المسلمين سيصيبهم من الاذي ما هم غير مقصودين به فيشق ذلك علي النبي و اصحابه حين يعلمون أن فريقا من المسلمين قد تعرضوا لأذاهم و هذا ما سماه القرآن «معرة» اي شيئا يستعير منه من يصنعه... و في الآية حكم شرعي يقرر عدم الهجوم علي قوم من الاعداء اذا كان فيهم فريق من المؤمنين لئلا ينال هؤلاء المؤمنين ما ينال الكافرين من تقتيل و ايداء و أسر و ما الي ذلك...ان نزول السكينة هنا كان علي الرسول و علي المؤمنين الذين معه و قد يكون المؤمنون الذين في مكة مشمولين بهذه السكينة التي تعني انهاء المشكلة المحتدمة بين القوم - اي كفار مكة و الفئة التي يقودها الرسول صلي الله عليه و سلم - بما كان لهم به من منجاة من اللجوء الي الشدة في المواجهة...ان ورود «السكينة» في النصوص التي وردت بها انما كانت مقرونة بكلمة الانزال و ان كان يعني مطلق التفضل و المنة فانه كذلك يعبر عن نزول شي‌ء من السماء علي الامة تنشرح له صدورها و تطمئن به الي لطف ربها و تعلم انها أبدا محل الرعاية ممن ارسل اليها و رسولها و بعث اليها نبيها نبي الخير و الرحمة محمد بن عبدالله عليه افضل الصلاة و التسليم. و النزول من السماء يعني ظهور العطاء الالهي و تفشيه و وضوحه و عمومية الانتفاع منه...اما قوله تعالي: «فصل عليهم ان صلاتك سكن لهم» التوبة/103... فان كلمة «السكن» هنا في معني السكينة و معني الاستقرار و الطمأنينة و الفأل الحسن و ترقب بشائر الخير و الرجاء كل اولئك مما يتحقق عند نزول السكينة...

باب الجدل‌

الجدل هو النقاش في امور يقع الخلاف عليها بين الناس و يكون في كثير من شؤونهم و اهوائهم كما يكون في معتقداتهم. و بعض الجدل يكون علي جانب من المحاسنة و اللين و هذا ما جاء النص فيه بقوله تعالي «و لا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي أحسن». العنكبوت/46. فالتي هي أحسن من بعض اوصاف الجدل المقبول و المرضي ولكنه غلب علي الجدل في عرف الناس انه نوع من الشقاق و ابتغاء الفتنة و الرغبة في ايقاع الحجة علي الخصم و افحامه بالحق و بالباطل و هذا ما جاء في فحواه و محتواه قوله تعالي «ما ضربوه لك الا جدلا بل هم قوم خصمون» الزخرف/58 اي ارادوا بجدالهم ذلك أن يجروك الي الشقاق و ما الي لا طائل فيه من امر ذي فائدة او ذي بال...و الجدل بين ذوي الديانات و المذاهب العلمية كائن في سائر المجتمعات اذ يبدي كل شبهاته و وجهات نظره و يبسط ادلته و براهينه و من أستمزاج الاراء مرادا بذلك الوصول الي الحقيقة... و الاصل في الجدال يقع بين طرفين علي حال من التكافؤ تام او غير تام... و بعض انواع الجدال يعني النقاش و الاستيضاح عن امور وقعت و امور لم تقع فهو من نمط ما يكون في مناقشة الناس من اصحاب الخبرة في شأن امر يراد الاقبال علي اعداده و التشاور في ادارته مما لا يصل الي مستوي الشقاق و المماراة و يقع الجدال من قبل صاحب رأي يريد فرضه علي الناس و من ذلك قوله تعالي «قالوا يا نوح لقد جادلتنا فاكثرت جدالنا» هود/32... و من الجدال ما يكون من باب التظلم كالذي في النص القرآني «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي الي الله...» المجادلة/1. و قد سمي الله هذا الجدال بالتحاور و قد يكون بعض الجدال من باب الشفاعة كقوله تعالي «يجادلنا في قوم لوط» هود/74. و فيما سنورد من الكلام علي آيات [ صفحه 156] الجدل في القرآن الكريم انماط من الجدل تدل علي اختلاف مناحي هذا الامور و تعدد وجوهه الكثيرة...«و لا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ان الله لا يحب من كان خوانا أثيما». السناء/107في النص نهي عن التحيز لمن يقف موقفا خيانيا و ذاك لئلا يكون هناك من يدافع عن الخائنين فتقوي بذلك شوكتهم. و ليس المراد مخاطبة الرسول بهذا النهي ولكنه اريد به تقرير قاعدة يوضع فيها كل امر في نصابه...«حتي اذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا الا أساطير الاولين»... الانعام/25هذا النمط الجدال هو جدال عناد يقوم به المشركون لاحباط العقيدة التي جاء بها النبي صلي الله عليه و سلم من غير استدلال بحجة عندهم او لياذ بشبهة لان البحث في الموضوع قائم علي مجرد العناد و الانكار و لذلك اكتفوا بقولهم «ان هذا الا اساطير الاولين» و ليس في شي‌ء في هذه المقولة ما يدل علي حجة مقبولة تصلح للنقاش و المحاجة و كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يواجه في كل حين بمثل هذا النمط من الجدال العقيم فكان يحسن الرد علي المتعلقين بحباله...«يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون الي الموت و هم ينظرون»... الانفال/6هذا نمط من جدال المحقوقين و هو جدال من يجادل من غير أن يكون في يده و لو جزء ضئيل من حجة معقولة مقبولة بحيث لا يقوي علي التمسك برأيه اذ يضطر الي الانصياع للحجة القائمة عليه... و قد نزل النص في قوم لم يكونوا يريدون الخروج مع النبي في امر قتالي ولكنهم اضطروا الي الخروج مع النبي عندما تقطعت بهم الاسباب فكانوا كمن يساق الي الموت و هو ينظر اجله و قد حان. و مثل هذا الجدال يمكن أن يوصف بأنه جدل الخائبين...يفهم من هذا أن مركز النبي القيادي كان جد قوي بحيث لم يستطع هؤلاء المجادلون ان يفلتوا من قبضة القيادة التي كانت قوية التحكم و الاقناع و ذات سلطة مقتدرة...«و جادلهم بالتي هي أحسن ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين»... النحل/125اول هذا النص هو قوله تعالي «ادع الي سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة...» المراد بذلك ان التوصل الي بث الدعوة الدينية اليت يحملها النبي صلي الله عليه و سلم الي الناس انما يكون في اطار الحكمة و الموعظة الحسنة و اذا جر الامر الي الجدل فليكن بالتي هي احسن. و الخطاب الموجه الي النبي صلي الله عليه و سلم ينسحب علي سائر من يأخذ علي عاتقه الدعوة الي الملة اذ يكون عليه أن يلتزم بهذا الاصل السديد في دعوة الناس الي الدين و اشاردهم الي الهدي...ان تغيير معتقدات الناس و الزامهم بمعتقدات جديدة ليس بالامر الهين مهما كانت المعتقدات القائمة ظاهرة البطلان و المعتقدات البديلة ظاهرة الحجة فلابد وفق هذا الاصل أن يؤخذ الناس بالرفق و الحسني للوصول الي الغاية المبتغاة في هذا الوجه. و هذا اما جاء به النبي صلي الله عليه و سلم هذا ايضا نري ايضا أن الله اكثر من توصية نبيه العظيم بالصبر علي ما يتعرض من اذي قومه الذين كانوا شديدي الحرص علي كفرهم و شركهم حتي امكن له أن يقيم عمود الدين و يتوصل الي إيلاف القلوب التي اقتنعت بعد حين بأحقية دعوته صلي الله عليه و سلم و آمنت و انصاعت و أذعنت بل راحت تستميت في الدفاع عن مفردات ايمانها الذي رسخ في قلبها كل رسوخ...«و ان جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون»... الحج/68النص له ما يشبه المقدمة في قوله تعالي «و ادع الي ربك انك لعلي هدي مستقيم». كان النبي عرضة للمجادلين من سائر اصناف الناس من اهل الديانات و غيرهم. و قد وصاه الله في الرد علي جدال المجادلين [ صفحه 157] ممن همهم المنازعة و خطتهم المعاندة أن يرد ردا جميلا يضع به حدا لما لا طائل فيه و هذا ما عناه النص...«و قالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك الا جدلا بل هم قوم خصمون»... الزخرف/58هذا النوع من الجدل عقيم لانه اراد به القوم المفاضلة بين آلهتهم التي هي معابيد من الاصنام و الاوثان «و قالوا أآلهتنا خير ام هو...» و بين ما جاء به النبي من عبادة رشيدة. اذ ارادوا بذلك الترجيح بين ما تفرضه عليهم آلهتهم بمقتضي عقيدتهم الوثنية و بين ما يفرضه عليهم النبي من عبادة اله واحدا... و قوله تعالي «ما ضربوه لك الا جدلا» اي ما جاءوا بهذا القول الا رغبة في مطلق الجدل الذي لا موضوعية له... و وصفهم الله بأنهم خصمون أي يحبون الشقاق و الخصومة و لا يريدون الوصول الي ما يحق الحق و يبطل الباطل...«قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي الي الله و الله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير»... المجادلة/1يشير النص الي امرأة جلست الي النبي تحاوره و تجادله في زوجها الذي وجهت اليه مسؤولية معينة و كان يتردد بينها و بين الرسول ما سماه الله تحاورا و لا يفهم من ذلك أن تلك المرأة كانت تجهر للنبي بقولها وصوتها لان كلمة التحاور تدل علي التساوي في طريقة الكلام و الحديث و كانت في مقام الشاكي اللائذ بالنبي و لم يكن صلي الله عليه و سلم يفتيها بشي‌ء لانه ليس مؤسس الشريعة و لا هو صانعها و انما هو رسول من رب العالمين و علي ذلك انزل الله سورة في هذا و الشأن حل بها عقدة تلك الزوجة و صرف عنها سبب الشكوي بتشريع صار يطبق علي الامة كلها في مثل تلك الحالة التي عرضت لخولة بنت ثعلبة...ان الغالب علي امر الجدل و المجادلين في مسائل الدين و العقيدة و الرسل هو اللجاجة و قد وصف الله الذين يولعون بذلك بعدة آيات وصفا قام علي الذم و من ذلك قوله تعالي «ما يجادل في آيات الله الا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد» غافر/4... «و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدي و لا كتاب منير» لقمان/20... «و من الناس من يجادل في الله بغير علم و يتبع كل شيطان مريد» الحج/3... «و يجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق» الكهف/56...بل ان القرآن الكريم حذر الامة عند ادائها شعائر الحج أن تلجأ الي شي‌ء من الجدال «فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج...» البقرة/197... و قد قرن الجدال في هذا النص بالرفث و الفسوق تبشيعا له و توكيدا لصرف الناس عنه... و ما من شك أن مواجهة الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم بجدل المجادلين و مماحكة المماحكين امر فيه من تلبس ظروف الجدال بكثير من دواعي الاضجار و العناء. و هذا امر يطرد في ما يقوم من جدال بين الناس لا سيما ان كان جدالا بين جاهل و بين حكيم و بين ذي جهل و بين عليم...و يفهم من آيات الجدل هذه ان النبي صلي الله عليه و سلم كان يؤخذ الي الجدل أخذا يراد به اضاعة الوقت في الاخذ و الرد و النقاش غير الموضوعي و ذاك من اجل ان يصل الامر بالنبي الي حال من الاضطراب و التشنج غير أن النبي لم يكن كذلك. و في بعض الاحيان يأمره الله أن يبادي‌ء القوم بالجدل الذي هو منطقي وجد سليم... و الجدل في عرض قرارات دينية جديدة علي قوم يراد اصلاح احوالهم و تصحيح معتقداتهم ليس بالامر الهين. علي أنا نفهم من فحوي آيات الجدل أن الرسول صلي الله عليه و سلم كان موفقا فيه بسبب أخذه بأهداب المنطق السديد و الصبر علي لغط المجادلين فكان له صلي الله عليه و سلم موقف الغلبة و الرجحان و افحام الخصم في سائر ما جادلهم فيه و خالفهم عليه... [ صفحه 158]

باب تري

يرد هذا الحرف في الخطابات القرآنية في مواقع و مشاهد حاضرة و غير حاضرة. و من ذلك ما كان قد وقع في دهر غابر و منه ما سوف يقع في دهر آت و قد يكون ذلك يوم الاخرة و في الجنة او في النار. اذ المراد بالتنويه بهذه الرؤية التي ترد في النصوص القرآنية من مثل «تري» و من مثل «و لو تري» و ما الي ذلك استحضار شخصية الرسول للاستشهاد بها علي حقيقة تلك الحقائق المتحدث في شأنها، و في هذا ما يدل علي عظم قدر النبي و انه يستشهد به علي امور و احداث لم يكن قد شهدها بالعين الباصرة و انما كان قد شهدها بعين غير تلك العين لانه شاء الله له ان يكون ذا حضور في سائر ازمنة الحضور... و ذاك في عالم التمثيل و عرض احداث غيبية لشخوص اراد الله حضورهم عند حدوث تلك الاحداث و وقوع تلك الوقائع لتكون لهم الشهادة المصدقة علي ذلك...و النبي و ان كان بشرا من هذا البشر فان الله اصطفاه ليكون ذا شيئية ليست من اشياء البشر والله خواص في الازمنة و الامكنة و الاشخاص... و في ما يلي نأخذ بشرح المقولات القرآنية التي جاء فيها استعمال كلمة «تري» و مشتقاتها...«فتري الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشي أن تصيبنا دائرة فعسي الله أن يأتي بالفتح او امر من عنده فيصبحوا علي ما أسروا في انفسهم نادمين»... المائدة/52في النص استحضار صورة المتجمهرة المتجمهرة من المنافقين و اليهود ممن وصفهم الله بان في قلوبهم مرضا اذ كانوا يسارعون ان يتعجلوا وقوع الاحداث و بذلك يزداد الخوف في نفوسهم و القلق علي مصيرهم، و قوله تعالي «فعسي الله أن يأتي بالفتح او امر من عنده» ليس من بعض كلامهم و انما هو من الكلام القرآني، و لذا جاء في اثره قوله تعالي «فيصبحوا علي ما أسروا في أنفسهم نادمين»...«و تري كثيرا منهم يسارعون في الاثم و العدوان و اكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون». المائدة/62ما جاء في النص من الكلام علي القوم الذين كانوا يأكلون السحت و يرتكبون ضروب الاثم و العدوان صوره القرآن بصورة الواقع المشهود و الحقيقة الملموسة و ذاك باستعمال الرؤية في كلمة «و تري كثيرا منهم يسارعون في الاثم و العدوان»... و جعلت الرؤية لراء خاطبه النص القرآني بها...«تري كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئسما قدمت لهم انفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون»... المائدة/80النص مسبوق بقوله تعالي: «كانوا يتناهون عن منكر فعلوه لبئسما كانوا يفعلون» المائدة/79... في النص وصف فريق من المتظاهرين بالاسلام و قد جعلوا انتماءهم الي قوم من الكافرين، والانتماء الي الكافرين يتأتي منه اطاعتهم اطاعة تامة و افشاء اسرار المسلمين اليهم...و الآيات القرآنية تحذر من مثل هذه الانتماءات التي لا تجعل للمسلم لونا متميزا في الناس... و مثل ذلك ما يستوجب سخط الله عزوجل و شديد نقمته لان مسخ وجه الهوية مسخ لكل كيان الذين يحملون هوية يريدون بها ابراز عناوينهم لان هناك من ذوي العناوين التي تنم عن واقع انتمائهم الذي يفترض فيه ان يكون محل التباهي و التبجح بين الناس...«و اذا سمعوا ما أنزل الي الرسول تري اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين»... المائدة/83هذه الرؤية رؤية واقعية اذ شوهد قسس نجران يبكون عند سماعهم القرآن و قد كان قد تلي عند الصلاة به او خارج الصلاة به... و الخشوع كثيرا ما يعرض لمستمعي القرآن من قبل من هم غير منتمين الي ملته و لا مؤمنين به... [ صفحه 159] و قسس نجران ضرب لهم النبي خيمة في المسجد فكان صوت القرآن يصل الي اسماعهم فتفعل آياته فعلها في نفوسهم... و مسألة معرفة الحق الذي تلتمع معالمه في اجواء القرآن مسألة لا يملك مكذبوها ان يسارعوا الي تكذيب الحقائق... اما اعلان القسس بايمانهم اذ جاء في النص «يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين» فان ذلك لا يعني اعتناقهم الاسلام و لا اعترافهم بنبوة النبي بالضرورة، و انما يعني انهم وجدوا لحلاوة الايمان مذاقا في نفوسهم بحيث لو هداهم الله الي الايمان لآمنوا... ان مبادي‌ء الايمان تنزع اليها النفوس ولكنها لا تصل الي الواقع الايماني الذي ينشده المؤمنون...«و لو تري اذ وقفوا علي النار فقالوا يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا و نكون من المؤمنين»... الانعام/27كلمة «تري» هنا تعد من الكلام علي ازمان الآخرة، و مخاطبة الرسول الاعظم بمثل ذلك يدل علي ان شخصية الرسول كانت ذات حضور و اشراف اذ خاطب النص النبي بلفظ «تري» في امر لم يكن الرسول من افراد ناسه يومذاك ولكن الله جعل له صلي الله عليه و سلم حضورا قد جاء بلفظ افتراض التصور و ذاك شي‌ء واقعي يقرر امكان ان تكون للنبي هناك حالة من الحضور و المشاهدة. لان الذاكرة تري ما سبق لها ان رأته، بل انها تري ما لم تكن قد رأته مدفوعة الي ذلك بفعل احضار الشاهد قصد اثبات انها من الحقائق التي لا تواجه بالتكذيب و الابطال...ان استحضار الاحداث و الصور في ايضاح ما يراد له ان يقع امر لا يستغرب وقوعه في عالم الاذهان. لان في امكان الاذهان استحضار ما تشاء من الصور علي الهيئة التي تتخيلها و تتصورها و تنشي‌ء لها واقعا مشهودا...«و لو تري اذ وقفوا علي ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلي و ربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون»... الانعام/30فلقد اري الله النبي القوم موقوفين عند ربهم بالصورة التي خلقها الله في عين النبي فكانت معبرة عن الواقع الذي كان القوم في اطاره و رهن مداره... و استعمال «لو» هنا لا يغير من الحقيقة التي يحتجنها النص القرآني، فكأن النص يعني ان يقال: - ليتك تري ذاك يومذاك اذن لرأيت الامر علي الهيئة التي جاء تفصيلها في النص...اذن ان الله يخاطب الرسول بأمر لا يتحقق الا لمن جعل له الله امكانيات خارقة يتأتي بها تحقيقه...«و لو تري اذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون علي الله غير الحق و كنتم عن اياته تستكبرون»... الانعام/93في التعبير بالكلمة القرآنية «و لو تري» امكانية وقوع شي‌ء غير واقع، و انما كان لما هو غير واقع ان يقع في الخطابات القرآنية للرسول الاعظم من اجل ان الرسول ذو اهلية أهله الله بها في مثل هذه الامور... علي أن هذا الاسلوب في الكلام الذي يجري بين الناس في شعر و نثر و خطاب و جدال لا يقع فيه ورود الاحتمالات غير المحتملة في ظاهر العقل و مألوف التعامل الجدلي و البياني الا أن الله جعل ذلك مما خوطب به النبي من غير ان يقع مثله لسواه من الرسل... ان الله جعل لرسوله الاعظم امتيازا في الحضور في سائر احداث الزمان ليتعلم من ذلك الكثير و ليكون شاهدا علي سائر اعمال الناس في كل عصر و جيل... فالظالمون الذين هم في غمرات الموت و الملائكة باسطوا ايديهم ينتزعون ارواحهم و يأمرونهم باخراجها و يضعونهم موضع [ صفحه 160] المذعنين لذلك فانه مما لا يري بالعين المجردة. ولكن الباري‌ء الكريم جعل لنبيه اقتدارا خاصا أمكن له به ان يري هذه المشاهد و يطلع علي ما وراءها من وقائع لا تملك الناس الوقوف عليها والالمام بها...ان الخطابات الالهية للرسول لا يمكن ان تجري في عالم التصورات الموهومة ما لم تكن وراءها حقائق يريد الله بها لنبيه الدراية التامة و الا كان ذلك الخطاب لا مفهوم له و لا غاية وراءه، في حين يريد الله لنبيه أن يري مالا يراه الناس في العادة. لا سيما مالا يناقض قانونا من قوانين الشريعة و أصلا من اصولها...«و لو تري اذ يتوفي الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم و ادبارهم و ذوقوا عذاب الحريق»... الانفال/50في هذا النص ما يدل علي امكانية رؤية الرسول الاعظم للوضع الذي جاء في النص من كون الملائكة كانوا يضربون وجوه الكفار و ادبارهم - اي ظهورهم - و حين يذكر الله الملائكة و ما كان من ضربهم وجوه الكفار و ادبارهم انما هو خبر الهي يحتجن الحقيقة التي لا يعلق بها الكذب لان الخبر القرآني يعد من اصدق الاخبار التي يخبر بها الناس...«و تري المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد، سرابيلهم من قطران و تغشي وجوههم النار، ليجزي الله كل نفس ما كسبت ان الله سريع الحساب»... ابراهيم 51/49سبق هذا النص بالآية التي جاء فيها قوله تعالي «يوم تبدل الارض غير الارض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار»... و علي هذا يكون المراد برؤية المجرمين العصاة مقرنين في الاصفاد. اي مصفدين و مسلسلين بالسلاسل و النار تلفحهم من كل جانب و لتوكيد حقيقة ذلك جاء النص القرآني مشيرا الي أنه كان يراه النبي توكيدا لوقوع ذلك و تنويها بأن النبي صلي الله عليه و سلم كان يراه بالعين المجردة التي يري بها الاشياء... و يفهم من هذا أن الله امكن للنبي أن يحيط علما باوضاع النار و المعاقبين فيها بأنماط من العقاب الالهي الذي كان جزاءا وفاقا لما اقترفوه في الحياة الدنيا من الجرائم التي حذروا منها و انذورا لانهم سوف يعاقبون يوم القيامة عليها...«و تري الفلك مواخر فيه و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون»... النحل/14أول النص هو قوله تعالي: «و هو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا و تستخرجوا منه حلية تلبسونها...» هذه الرؤيا رؤيا بصرية في عالم الحياة المألوفة لدي الاحياء و قد جاءت الاشارة اليها في معرض فضل الله علي الناس بما أودعه في البحار التي تثير الرهبة في النفوس من الحصول علي المنافع العظيمة التي منها ما يعد من الغذاء و منها ما يعد من اسباب الزينة و ما هناك من الفلك التي تجري في البحر حاملة البضائع و انواع التجارات و الناس. اذ يعد جريان الفلك في البحر بثقيل وزن ما فيها من الناس و البضائع من آيات الله القائمة علي دقيق ما أودع في الطبيعة من قوانين و نظم يتم وفقها أن يكون سهلا و هو صعب و يسيرا و هو عسير...و ذكرت الرؤية هنا و هي في المرئيات البديهية التي يراها الناس جميعا ليكون معني الرؤية فيها و في ما سواها من الغيبيات بخوارق الاشياء مما تشير اليه الايات القرآنية المبدوءة بالكلمة التي هي عنوان هذا الفصل و هي كلمة «تري» و مشتقاتها...و الغاية من إيراد ذلك تنبيه الناس الي وجوب شكر الله علي كبير مننه، و عبادته لعظيم سلطانه، و الايمان بوحدانيته و حكمته، و تفضله علي خلقه بالافضال التي لا تعد و لا تحصي... و في جملة النص و تفصيله ما يحقر الذين يعبدون الاوثان التي لا تملك أن تصنع من ذلك شيئا...«و تري الشمس اذ طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و اذا غربت تقرضهم ذات الشمال و هم [ صفحه 161] في فجوة منه ذلك من آيات الله. من يهد الله فهو المهتد [52] و من يضلل فلن تجد له وليا مرشدا»... الكهف/17الكلام هنا علي اهل الكهف الذين قصص القرآن قصتهم التي تعبر عن احتمال الاذي و الفرار بالايمان و عدم الانصياع للكفر و سلطان اهله و كان زمنهم قد سبق عهد الرسالة ولكن الله أشار الي حضور النبي في بعض ما كان لاهل الكهف من احداث و وقائع فجعل النبي رائيا للشمس التي كانت تطلع عليهم و تغيب و كان القصد من ايراد ذلك التنويه بأن الله أراد أن تكون لنبيه العظيم احاطة بهذه القصص التي تصور صدق الجهد في سبيل الله و الطاعة العظمي له.كان النبي في مقام الشهادة علي صدق ايمان اولئك الفتية الذين لجأوا الي الكهف فرارا بعقيدتهم من البغاة الظالمين...و في النص ما يومي‌ء الي الجو الذي يلاحظ علي الكهف فهو قديم و رهيب كشأن معظم الكهوف. و يبدو ان طبيعة الكهف طبيعة مخوفة فما ان يصل اليه احد و لذلك أوي الفتية الهاربون اليه و من طبيعة الخائف ان يلوذ من اجل النجاة بنفسه بما هو مخوف و غير مخوف...ان فتية الكهف ضرب الله عليهم من المهابة و الحال التي ترعب المشاهد من اجل ان لا يتعرضوا للاذي من أية جهة آتية من الخارج... فهم يبدون ايقاظا رغم أنهم في حال سبات و نوم عميق... و لابد أن يكون الكهف عميقا و ليس ظاهر العمق و ذلك لا مكان الاحتماء فيه من الضواري و سباع البهائم... اما ان المطلع عليهم يولي منهم فرارا و يمتلي‌ء رعبا... فكأن ذلك مما جعله الله لهم امام من يدخل عليهم الكهف حماية لهم فعساهم يصل اليهم رجال السلطة فلا يتهيأ لهم ايذاؤهم لمكان رهبتهم في النفوس...و للمبالغة في اضفاء هذه الصفة عليهم جاء النص موجها الي النبي بأنه سيكون مشهده لهم ذات مشهد سائر من يراهم. و النص انشائي لا اخباري اذ لم يأت بلفظ انه اطلع عليهم فولي فرارا و ملي‌ء رعبا و انما جاء بلفظ «لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و للمئت منهم رعبا» امعانا في ابراز الصورة و تعميقها في النفوس... ان اهل الكهف و ان لم ينص القرآن علي فترة مكثهم في الكهف لنعلم من طولها ما يجب ان نعلم فانها علي أي حال فترة غير فترة غير اعتيادية و لا مألوفة في حياة الناس... و يعني امر انهم طالت شعورهم و لحي من كانت لهم لحي و هذا امر بطبعه يخيف و لا ترتاح له النفوس فكأن النص القرآني جاء لتصوير ذلك و الايماء اليه [53] ...«و يوم نسير الجبال و تري الارض بارزة و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا، و عرضوا علي ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا»... الكهف 48/47تسيير الارض و بروز جبالها من خلال هذا التسيير و حشد الناس الي القاء الله عند الحشر الاكبر شي‌ء لم يقع بعد ولكنه واقع يوم تقوم الساعة و اتخذ الله من نبيه شاهدا علي وقوع ذلك برؤيته صلي الله عليه و سلم الارض بارزة بكل ما فيها من خفي و منكتم و هي رؤية اثبتها الله للنبي ليجعله شاهدا علي ذلك و كفي النبي عظمة و جلالة قدر و علو مقام عند ربه ان يشهده الله مثل هذه الاسرار العظيمة...«و وضع الكتاب فتري المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة الا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك احدا»... الكهف/49يذكر النص أن النبي صلي الله عليه و سلم كان يري جموع المجرمين المكذبين قد أحضروا اذ يرون [ صفحه 162] عاقبة كفرهم و جحودهم يوم كفروا بالله و جحدوا بآياته... و هذه المشاهد كثر عرضها في السور المكية اذ كانت و طأة العقاب الالهي تهز الكفار و المشركين هزا عنيفا... و يلاحظ كذلك ما في العبارات القرآنية من جبروت بياني جد بليغ كان يفعل فعله في نفوس القوم فلا يجد من لم يكن منهم مقبلا علي الايمان غير الصمت المطبق و النكوص بعيدا عن مواقع التلاوة التي كان النبي يصدع سمعهم بها...«لا تري فيها عوجا و لا أمتا» طه/107و قد سبق هذا النص بقوله تعالي «و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعا صفصفا»... و في هذه الرؤية للجبال المنسوفة التي ازال منها كل ارتفاع و شموخ و طول و عرض و هيبة و رهبة أشهد الله نبيه علي أنه رأي من تمت اليه مما تناوله الوصف القرآني بالواقع الذي آل اليه... فان الله أراد ان لا يكون النبي بعيدا عن مثل هذه الاحداث التي ينتهي اليها عالم الارض و الجبال.«و تري الناس سكاري و ما هم بسكاري ولكن عذاب الله شديد»... الحج/2صدر هذه الآية هو قوله تعالي: «يا أيها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شي‌ء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت و تضع كل ذات حمل حملها...»... لم تكن الساعة تقوم علي عهد الرسول و كانت سائر المعلومات في شأنها مشيرة الي ان وقتها مجهول غير معلوم و قوله تعالي: «و تري الناس سكاري و ما هم بسكاري ولكن عذاب الله شديد» يقرر أن الرسول صلي الله عليه و سلم سيري ذلك المشهد بنفسه حين تقوم الساعة و كان قد رآه اذ قرب الله له ما بعد و ادني اليه ما نأي عنه. و مثل ذلك نعلمه يقينا و ان كنا لا نعلم تفاصيله في الزمان و المكان و الغيب و الشهادة. اما قوله تعالي في مخاطبة الناس «يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت و تضع كل ذات حمل حملها» فهو خطاب لمن سيدركون الساعة و يكونون ممن اذا وقعت كانوا من شهودها. فالامر مختلف بين مخاطبة الناس بذلك و بين مخاطبة الرسول الاعظم به...«و تري الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت و ربت وانبتت من كل زوج بهيج»... الحج/5و هذا من بعض مشاهد الطبيعة في عالم الحياة اذ ينزل الله من السماء المطر الذي تنبت به الارض ما تنبت من الخيرات التي ينتفع منها الناس. فالرؤية هنا رؤية واقعية لطرفين كل منهما نقيض الاخر اذ كان احدهما هامدا لا نبات فيه و لا خضرة فاذا به بعد نزول الماء عليه تنبت فيه الناباتات التي يأكل منها الانسان و ترعاها الحيوانات... و ايراد هذا النص فيه ما يوحي الي الناس بوجوب شكر الله علي عظيم فضله و جزيل نعمه...«و تري الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شي‌ء انه خبير بما تفعلون»... النمل/88هذه الرؤية للجبال انما هي رؤية لها بعد انهيار عالم الدنيا اذ ذكر الله فيها أن النبي يري هذه الجبال و هي بين السكون المطلق و الحركة المطلقة و كأن النبي صلوات الله عليه يري ذلك عن كثب من موقف يطل اخر عهد حياة بها و قد جاء قبل هذا النص قوله تعالي: أن يري النبي مفردات هذا الكون تتفتت و هي في اخر عهد حياة بها و قد جاء قبل هذا النص قوله تعالي: «و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات و من في الارض الا من شاء الله و كل أتوه داخرين»...«... فتري الودق يخرج خلاله فاذا اصاب به من يشاء من عباده اذا هم يستبشرون»... الروم/48بدء هذا النص قوله تعالي «الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء و يجعله كسفا»... [ صفحه 163] الاشارة الي رؤية النبي الودق يخرج من خلال السحاب يراد بها وضوح النعمة الالهية علي الناس بالغيث الذي يغيثهم به لتعلم الناس من كفرة اهل مكة خاصة عظيم فضل الله عليهم و في ذاك تعريض لعباد الاوثان التي يعبدونها من دون الله و هي لم تنزل عليهم قطرة واحدة من السماء و لا أنبتت نبتة واحدة من الارض لان الامطار و الانبات من خلق الله و متقن صنعه و كريم منته و رحمته...«و لو تري اذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا انا موقنون»... السجدة/12في هذا النص بعض مشاهد الناس يوم الحشر الاكبر اذ يشتد خجلهم امام ربهم فينكسون رؤوسهم من فرطه و يروحون يتمنون الرجوع الي الدنيا و الي عالم الحياة فيها ليكونوا من اكثر الناس ايمانا و اشدهم تقوي و صلاحا و ليصححوا سوء عملهم عند وجودهم علي ظهر الارض اذ كفروا بربهم و جحدوا رسالة رسوله. و كان الرسول و هو يراهم علي مثل هذه الحالة الزرية المثخنة بالذل و المهانة قد كان قد رآهم في عالم الحياة علي أشد ما يكون المغرورون غرورا و صلفا و جحودا و استخفافا بمعايير الخير و الايمان و الفضيلة و ذاك لما كان يدعوهم الي الله و يحذرهم عاقبة كفرهم و ضلالهم...«و لو تري إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم الي بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لو لا أنتم لكنا مؤمنين»... سبأ/31النص مسبوق بقوله تعالي «و قال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن و لا بالذي بين يديه...»مشهد الظالمين و هم موقوفون عند ربهم من مشاهد الاخرة و قد جاء النص في معرض التنويه بان يري الرسول ذلك المشهد من سائر جهاته فانه مشهد يناقض ما كانوا عليه في مكة من بطر و كبرياء و عجرفة...«و تري الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون»... فاطر/12في هذا النص بعض مظاهر عظمة الخالق فيما خلق من مفردات هذا الكون مما ينفع الناس و يصلح امر معاشهم. فان الناظر الي ذلك يذهله حسن صنع الله فيما صنع من هذا الكون الشاسع الكبير... و جاءت الاشارة الي رؤية النبي «الفلك» و هي تمخر عباب البحر متهادية علي صفحة مائه... و بعض هذه المعاني نوهت بها نصوص قرآنية أخري...«و تري الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم و قضي بينهم بالحق و قيل الحمد لله رب العالمين»... الزمر/75الكلام هنا علي بعض مشاهد الاخرة و قوله تعالي: «و تري الملائكة حافين من حول العرش» بيان بأن النبي رأي الملائكة و كانت رؤيته اياهم كثيرة التنوع و منها هذا الذي ينوه به النص اذ رآهم النبي حافين من حول عرش الله العظيم...و في الاية تعريض بالمشركين الذين ظنوا أن لاصنامهم من العظمة و الخلود مثل الذي لله رب العالمين...«و من آياته أنك تري الارض خاشعة فاذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت ان الذي احياها لمحيي الموتي انه علي كل شي‌ء قدير»... فصلت/39الكلام علي نزول الغيث و سقوط المطر و اخضرار الارض و حصول الخلائق منها موارد المعيشة تكرر في القرآن الكريم لما تحمله هذه المعاني من الدلالة علي وجود الخالق العظيم و علي رائع حكمته اذ خلق الخلائق و خلق أرزاقها و اقواتها من ماء ينزل من السماء فتصبح الارض به مخضرة تنتج للناس ما يأكلون منه و ما ترعاه انعامهم...و قوله تعالي: «و تري الارض خاشعة» يبدو منه أن رؤية النبي للارض موصوفة بالخشوع هي رؤية نبي حكيم تنفذ نظراته الي مدي بعيد من عالم التبصر و النظر السليم... [ صفحه 164] «أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله و لولا كلمة الفصل لقضي بينهم و ان الظالمين لهم عذاب أليم... تري الظالمين مشفقين مما كسبوا و هو واقع بهم و الذين امنوا و عملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير»... الشوري/22الرؤيا هنا تنصرف الي جهتين مختلفتين احداهما جهة الظالمين و هم يلقون الهوان و العذاب الشديد. و جهة المتقين الذين يلقون اللطف الالهي و الجزاء الكريم... و انها حقا لرؤية يستمتع فيها الرائي بصدق وعد الله و صدق وعيده و وجود فئتين تمثل في وجودهما الحقيقتان المختلفتان...«و تري كل أمة جاثية كل أمة تدعي الي كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون»... الجاثية/28رؤية النبي هنا تبدو ممتدة الي ابعاد بعيدة اذ شملت امما كثيرة من ذوي الديانات والكتب السماوية فانها يراها النبي في ساحة العرض بين يدي الله جاثية جثو من ينتظر صدور القرار الالهي بحقه... و في هذا اشارة الي مقام رسول الله في هذه الساحة ان يكون له الاشراف و الشهادة علي هذه الخلائق المتعددة الديانات و الاهواء...«يوم تري المؤمنين و المؤمنات يسعي نورهم بين ايديهم و بأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم»... الحديد/12ان المشاهد الاخروية التي رآها الرسول رأي فيها ما ينعش القلب و يسر النفس من عظيم فضل الله الي امته التي رزقها مغفرته و أثابها فضله فكان لها في دنياها و أخراها الفوز العظيم... و كأن الله عزوجل يبشر نبيه بهذه البشارة التي لا تعدلها بشارة.«ما تري في خلق الرحمن من تفاوت»... الملك/3ان النص مشار فيه الي ما جاء في صدر النض قوله تعالي «الذي خلق سبع سماوات طباقا». و في هذا استشهاد صريح بأن ما خلق الله من هذه الالوان بسماواتها و أروضها ليس فيه من اختلال و تفاوت... ان رؤية النبي في هذه الحقيقة لرؤية شاء الله أن يقيم منها دليلا و برهانا علي عظم خلقه و دقة نظام ملكوته...«فتري القوم فيها صرعي كأنهم اعجاز نخل خاوية، فهل تري لهم من باقية»... الحاقة 8/7الكلام هنا علي ما جري لقوم ثمود من العقاب الالهي العادل اذ سخر العواصف الشديدة التي كانت تفزع الناس فلا يملك احدهم ان يثبت قدميه في مكانه حتي كانت النتيجة المشهودة أنهم باتوا علي الارض صرعي كانهم اعجاز نخل خاوية. و الحادث كان قد وقع منذ زمن بعيد... ولكن الله امكن لنبيه رؤية اولئك القوم و هم صرعي يستثير منظرهم العبرة و يستدل به المستدل علي ان الله اقوي من كل قوي و أقدر من كل قدير و اعظم من كل عظيم...

باب انظر

ورد في الخطابات القرآنية ما بدأ الكلام فيه بكلمة «أنظر» و ذلك في معني الاعتبار و لفت النظر و وضع كل امر في نصابه لان من طبيعة هذا الحرف التركيز علي المرئيات يستوي في ذلك ان تكون مادية او ان تكون معنوية... ان في استعمال كلمة «أنظر» ما يشخص الاحداث و الوقائع و يخرجها من الظنيات الي الحقائق المرئية فلا يعرض لها بهذه النظرة شي‌ء من الشك و الارتياب. و قد وجدنا ان القرآن الكريم استعمل كلمات الرؤية بأساليب متعددة و متنوعة و قد شرحنا ذلك في مواقعه من الكتاب قصد التوكيد و ابتغاء الكلام علي ما هو وارد من العبر و سائر القصص أن يجي‌ء جليا ظاهرا لا يعترضه الشك و الارتياب... [ صفحه 165] «انظر كيف يفترون علي الله الكذب و كفي به اثما مبينا»... النساء/50هذا نص جعل الله النبي شاهدا فيه علي الذين وصفهم بأنهم يفترون علي الله الكذب الذي هو اثم مبين اي اثم كبير ضخم غير ضئيل. و الدعوة الي هذا النظر الذي اراد الله من نبيه ان ينظر في محتواه اضافة الي الاشهاد فيها ما يعرض في معني الاستغراب و الانكار و التهكم لان كل واحد يمكن ان يفتري عليه الكذب الا الله الذي يعلم خائنة الاعين و ما تخفي الصدور. لقد كان القوم قد اتخذوا لله شريكا فكان كفرهم بذلك كفرا بواحا الا انهم رغم ذلك زكوا أنفسهم «الم تر الي الذين يزكون انفهسم بل الله يزكي من يشاء و لا يظلمون فتيلا». النساء/49«انظر كيف كذبوا علي انفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون»... الانعام/24النص مسبوق بكلام جاءت فيه كلمة «انظر» التي هي هنا موضحة له و مسببة لوروده و ذاك في الآيتين «و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين اشركوا اين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون، ثم لم تكن فتنتهم الا أن قالوا و الله ربنا ما كنا مشركين»... يتحدث النص في امر فريق من المشركين لقوا الله يوم القيامة بشركهم و قد خوطبوا في ساحة الحشر في صدد شركائهم الذين اشركوهم بالله عزوجل اذ طولبوا باستحضار اولئك الشركاء الذين لم يكونوا الا اصناما أو اوثانا أ معاييد اخري باطلة من مثل الشمس والقمر و بعض الاشجار و النار و غير ذلك و قد كان جواب هؤلاء المشركين لفرط غفلتهم و جهلهم انهم راحوا يقسمون الايمان علي انهم لم يشركوا بربهم شيئا في حين انهم امضوا حياتهم علي وجه الارض يعاقرون اصنام الشرك و لا يؤمنون بوحدانية الله. و قوله تعالي «ثم لم تكن فتنتهم» المراد بالفتنة انهم كانوا مفتونين غلبت عليهم فتنة الشيطان التي يفتنهم بها اي يستولي علي عقولهم و قلوبهم. و في هذا الموقف يأتي النص القرآني لافتا لنظر الرسول صلي الله عليه و سلم الي امر هؤلاء المشركين المخدوعين الذين يظنون انهم اذ لجأوا الي القسم بنفي الشرك عنهم فسيكون لهم في عالم الحشر من يصدقهم و في كلمة «انظر» التي هي معقد العلاقة بين ما جاء في نهاية هذه الآية و بين ما كان قد سبقها من النص القرآني الذي اوردناه فانه في كلمة «انظر» لفت لنظر النبي الي ما يقع من اناس يكذبون علي الله باقترافهم الشرك و ادعائهم التوحيد فهم نمط من ذوي العقول العارية عن التبصر والاستضاءة لهدي الايمان فانهم يشركون و ينفون انهم اشركوا و يعمدون الي توثيق كذبهم باللجوء الي اليمين الكاذبة و بذلك نبه الله نبيه الي ان يكون علي علم بهؤلاء الكذابين الذين كذبوا علي انفسهم و ليس علي غير انفهسم جاهلين أن ابشع انواع الكذب هو الكذب علي النفس و بذلك لم يقع في يدهم شي‌ء مما ادعوه و تمت فضيحتهم بالكذب الذي كذبوه علي انفسهم و علي ربهم و أخذوا يوم القيامة بجناية شركهم...في كلمة «انظر» التي خوطب بها الرسول الاعظم اشهاد فيه ما يدعو الي التعجب من فعل اولئك المشركين المكيين و كأنما جاء النص ليوصل الي النبي قدرا كبيرا من العجب و الاستغراب من تصرفات بعض الكفار الذين كانوا قد واجهوه ابان دعوته الي توحيد الله بمثل ما جابهوه به...«أنظر كيف نصرف الايات ثم هم يصدفون»... الانعام/46النص المنقول جزء من الاية التي اثبتنا رقمها في السورة و بدؤها «قل أرأيتم ان أخذ الله سمعكم و ابصاركم و ختم علي قلوبكم من اله غير الله يأتيكم به»... النص القرآني يتضمن محاجة في سلطان الله عزوجل القوم - في العهد المكي - قال الله فيها ان أخذ بسمعهم و ابصارهم و ختم علي قلوبهم اي اغلقها فلم تعد تفكر في شي‌ء أو تعقل شيئا او تحيط [ صفحه 166] به علما فمن الذي يستطيع ان يرجع اليها هذه الحواس الاساسية في كل جسم بشري... ان القصد من هذه المحاجة افهام هؤلاء القوم ان اصنامهم و اوثانهم لا تملك ان تصنع شيئا اذا تعرضت اجسامهم الي هذا الفراغ من ادوات السمع و البصر و العقل و الحياة... و هنا جاء النص القائل «أنظر كيف نصرف الايات» اي كيف نضعها في مواضعها آخذين بالجدية و صرمة المواجهة بما يكون به الامر واضحا للمخاطبين...والامر بالنظر هنا مراد به النظر الاعتباري و ليس النظر البصري ثم تختم الاية بقوله تعالي «ثم هم يصدفون» اي يميلون و يزيغون عن موقع الاعتبار بهذه الحكمة الالهية العظيمة اذ كان عليهم ان يستوعبوها و يجدوا فيها اضاءة تهديهم الي الايمان. و كلمة «أنظر» هي للعجب من السلوك الذي لجأ اليه القوم بعد وضوح الخطاب الالهي و صمتهم المطبق الذي لم يجيبوا فيه علي اصل السؤال و لا بحرف واحد. و هكذا كانت كلمة «أنظر» دعوة للرسول الاعظم الي ان يعجب لهؤلاء الذين تغلب الكفر علي كل شي‌ء فيهم. و لم يرعووا و لم ينصاعوا. و في الآية الكريمة اشهاد للنبي علي ما كان من امر هؤلاء المشركين المعاندين مما يستدل به علي عظم ثقة الله في هذا الموقع لرسوله صلي الله عليه و سلم.«انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون»... الانعام/65النص جزء من الاية التي هي «قل هو القادر علي ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم او من تحت ارجلكم او يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف نصرف الايات لعلهم يفقهون»... تصريف الايات يراد به ما يوقعه الله بمن يعاقبهم و ينتقم منهم و ليست هي الايات بالايات المتلوة التي هي مفردات سور القرآن الكريم و انما هي العبر التي يعتبر بها أولو الالباب...و في النص دعوة الي الاعتبار بالعواقب التي تصيب العصاة من الكافرين و غيرهم و في ما يتعلق بالرسول الاظعم في هذا الباب انه احاطه علما بالعقوبات التي اوقعها بأولئك القوم. و في باب «قل» ذكرنا بعض ذلك...«فانظر كيف كان عاقبة المجرمين»... الاعراف/84لازال المعني الذي تستوعبه كلمة «انظر» يدور في اطاره الواحد الذي هو الاعتبار بالعقوبة النازلة باولئك القوم و كذلك ما يعني افتضاحهم بحيث صارت لهم صورة منظورة يراها رسول الله بعد دهر من وقوعها ليستقر بذلك في علمه عظم سلطان الله في كونه و شدة غيرته علي حرماته.«فانظر كيف كان عاقبة الظالمين»... يونس/39هذا النص جزء من الاية التالية التي أولها «بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم». التكذيب هنا معلل بأن القوم لم يحيطوا علما بما أنزل الله علي الرسل من شرائع و قوله تعالي «و لما يأتهم تأويله» معناه انهم لم يصل اليهم ادراكه و فهمه و في ذاك وصف لهم بالغباء و البلادة بحيث لم يستوعبوا ما قاله لهم الرسل و قد عاقبهم الله علي هذا الموقف السلبي الذي وقفوه من رسالة الرسل الاعظم محمد صلي الله عليه و سلم و قد سماهم الله «الظالمين». و ظلمهم ناشي‌ء من انهم تجاهلوا عمدا حقائق الملة التي جاء بها النبي و قد كانت بلسان عربي مبين هو لسانهم الذي لا يملكون ادعاء جهله و غموض معانيه... و جعل الله المصير الذي صاروا اليه من العقوبة الاليمة منظورا اليه من قبل الرسول الاعظم لبيان ما تعرض له اولئك الكافرون من مفضوح العقاب فان مفضوح العقاب يكون اقسي علي المعاقبين من خفائه و انكتامه... [ صفحه 167] «فانظر كيف كان عاقبة المنذرين»... يونس/73النص جزء من الاية التي هي «فكذبوه فنجيناه و من معه في الفلك و جعلناهم خلائف و اغرقنا الذين كذبوا باياتنا». الكلام في هذا النص علي نوح عليه‌السلام و ما لقي من عدوان قومه و ما كان الله قد اصاب به قومه و عاقبهم باغراقهم و قد وقع ذلك منذ عهد نوح و هو عهد يرجع الي زمن بعيد ولكن الله كشف الصورة كلها امام نظر نبيه العظيم محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم ليزداد يقينا بأنه تعالي قادر ان يصنع مثل ذلك أو ما هو اشد منه في سائر الذين ينكرون رسالة الله و يوذون رسله...«انظر كيف فضلنا بعضهم علي بعض و للاخرة اكبر درجات و اكبر تفضيلا»... الاسراء/21التفاضل بين الناس في معايشهم و في مداركهم و في رتبهم و مراكزهم في الحياة الدنيا يعد مسألة طبيعية ليكون للحياة بهذا التفاوت المعني الذي يدل علي التوسع و التنوع في عالم الخلق و التكوين و جعل ذلك مما دعي النبي الي النظر اليه ليستقر في ذهنه أن ذلك هو النظام الحكيم في هذا الوجود و الناس في الاخرة بمقتضي تفاوت مكافآتهم التي تجي‌ء وفق اعمالهم و حسناتهم هم ايضا متفاضلون في الحياة الآخرة...«انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا»... الاسراء/48ضرب القوم الامثال للنبي صلي الله عليه و سلم هو أنهم اظهروه آونة بمظهر الساحر و آونة بمظهر الشاعر و عاملوه بمقتضي هذه التصورات و قد ضلوا حقا و الضلال هنا يعني المتاهة التي لا يدرون اي جهاتها توصلهم الي الرأي النهائي لفهم شخصية الرسول اذ انهم كانوا يترددون بين تلك التصورات ما عسي ان يكون النبي فيها اهو شاعر ام ساحر ام كاهن ام مجنون...ان الله عزوجل يطلع نبيه علي مقولات خصومه فيه و هي مقولات متهافتة و كاذبة تستوجب العجب العجاب لأولئك الخصوم الذين عوقبوا بشتات الرأي الذي هو اصلح عقاب لامثالهم، اما رسول الله صلي الله عليه و سلم فلم يحمل لمثل ذلك من هم لان مقولات القوم هذه تبطل نفسا بنفسها و كان الرسول كما قلنا مشرفا علي مثل هذه المواقف التي لم تكن تربكه و تقلق باله.«انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا»... الفرقان/9النص في هذا المقام غيره في مقام سلف فانه هنا جاء اثر تحديات ساذجة تتضمن شروطا تعجيزية لم تكن لتتحقق و هي ان تحققت لما تبدل من موقف القوم شي‌ء لانهم بنوا مقولاتهم علي المكابرة و المغالطة و العناد...«فانظر كيف كان عاقبة المفسدين»... النمل/14هذا النص جزء من اية جاء فيها قوله تعالي «و جحدوا بها و استيقنتها انفهسم ظلما و علوا». في النص الذي جاءت فيه كلمة (فانظر) في موضع لفت النظر الي عناد القوم في مكة و اصرارهم علي الكفر يتعلقون به بمختلف الحجج الواهنة نري أن الله عزوجل يتابع ايراد الصفات التي يصف بها اولئك المعنادين بحيث تتنوع لا لغرض التنوع و انما لغرض التعدد فآونة يجري وصفهم بالمكذبين و آونة بالمنذرين و آونة بالمفسدين و المجرمين و الظالمين و هم حقا جدراء بمثل هذا التلقيب الحقيقي العادل...«فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم و قومهم أجمعين»... النمل/57الكلام علي قوم صالح الذين ناصبوه العداء و تنكروا له و صمموا علي تصفيته جسديا و ذاك هو [ صفحه 168] معني المكر انه يعني التدبير الخفي للقيام بعمل يحيط به الكتمان من كل جانب و علي هذا فان قوله تعالي «و مكروا مكرا و مكرنا مكرا»... اي اتخدوا خطة خفية للايقاع بصالح عليه‌السلام و اهله و اتخذ الله أمره في مواجهة امرهم فخابوا و فشلوا و كان أمر الله مفعولا.«فانظر كيف كان عاقبة الظالمين»... القصص/40عاقبة الظالمين غرق فرعون باليم و هو ذو ملك و جند و بطش و سلطان ولكن الله اراد القضاء عليه فقضي عليه. و قد كان النص جزاء من اية جاء فيها «فأخذناه و جنوده فنبذناهم في اليم». و ظاهر في النص انه يجعل الاعتبار بالعقوبات المنزلة علي الطغاة اصلا في اسباب ورود الاية الكريمة و قوله تعالي «فانظر كيف كان عاقبة الظالمين». مؤداه و محتواه اطلاع النبي علي تلك الاحداث التي انتهت بغرق فرعون و جنده [54] ...«فانظر الي آثار رحمة الله كيف يحيي الارض بعد موتها ان ذلك لمحيي الموتي و هو علي كل شي‌ء قدير»... الروم/50في هذا النص بيان عظمة الخالق فيما ابدع في كونه من بدائع و بث من خير و نشر من نعم تستأهل ان ينظر اليها الناظر بتسبيح الخالق علي ذلك و الموضوع يتطلب التفكير في العظمة الالهية و ذلك لمتابعة آثار رحمته تعالي بعباده اذ جعل غالب اقواتهم مما زرعه لهم في ارضه فحماهم من المجاعة. و في النص كذلك تحد قوي لاولئك الاصنام اذ انها ابطلت المقولات القرآنية ما عسي ان يتسرب الي اذهان الوثنيين المغفلين من ان هذده الاصنام هي التي زرعت و حصدت و افاضت الخير علي الناس...«فانظر كيف كان عاقبة المكذبين»... الزخرف/25النص مسبوق بما يلي «فانتقمنا منهم» و الكلام علي امم قديمة كذبت أنبياءها فعاقبهم الله بسوء اعمالهم و تفصيل ذلك مذكور قبل النص الذي نحن في صدده...بهذا النص ينتهي ما أوردناه في باب «انظر» من آيات كان الخطاب فيها موجها الي رسول الله صلي الله عليه و سلم لاكثر من عبرة لها فعلها في حثه علي الصبر و الجلد و الاعتبار و افهام الناس ما في هذه الايات من مطالب تعليمية و وعظية و قد تكون فيها دوافع اغرائية للمكيين بتقبل عقيدة التوحيد و ما جاء به نبيهم العظيم من هدي و رشاد و طاعة و توبة و انابة الي الله رب العالمين...

باب اعراض

في التوصيات القرآنية الموجهة الي الرسول الاعظم و فيها بعض معاني النهي عن ما جاء بلفظ الامر بالاعراض اي عدم الحفول بما يدعي الرسول الي الاعراض عنه لاسباب قد تكون واضحة و ظاهرة و قد تكون معللة في النص و مشارا اليها فلقد كان الله يلاحظ نبيه فيأمره بأمر و ينهاه عن امر... و في ما يلي بعض النصوص القرآنية الكريمة الواردة في هذا الباب...«اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم و عظمهم و قل لهم في أنفسهم قولا بليغا»... النساء/63ان المراد بالاعراض هنا عدم التشديد في العقاب و المحاسبة و ذاك لما يتطلبه الامر من الاخذ بالرفق و حسن التوصية و الموعظة... و لقد كان من الادب النبوي الذي هدي اليه الرسول الاعظم ان يأخذ [ صفحه 169] بهدب الرفق في معاملة من يزيغ عن غير فساد في الارض و اساءة للغير و كفر بالدين و انشقاق عن محجة المسلمين... اذ ان في الاخذ باللين في مثل هذه المواطن ما يفيد في التهذيب و التعليم و تصحيح اخطاء المخطئين...«و يقولون طاعة فاذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم و توكل علي الله و كفي بالله وكيلا»...النساء/81اي فدعهم و شأنهم حتي يقع منهم من صلاح الحال و اسقامة السلوك والارعواء الذي يتوقع من كل زائغ غير مقيمعلي الزيغ... ان معني الاعراض هنا هو الامر بالرفق و اللين لا سيما اذ كان ذلك من بوادر الخلاف و الخروج عن الطاعة التامة في ايام العهد المدني... و في النص تهوين للاحداث علي النبي ليخف عن كاهله عبئها فلا يأخذ منه الضجر الشديد مأخذه فان اساءات الناس منازل لابد للحكيم الحازم أن يصنفها عند الحكم عليها فيجعلها مراتب و درجات يتولي كلا منها بما يستحق من المعاملة فقد يستقيم المنحرف و يعتدل المعوج و ينصاع الزائغ و يتوب المسي‌ء...«سماعون للكذب اكالون للسحت فان جاءوك فالحكم بينهم او أعرض عنهم و ان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا و ان حكمت فاحكم بينهم بالقسط ان الله يحب المقسطين»... المائدة/42النص مقول في فريق من اهل الكتاب موصوفين بما وصفوا به من التذبذب في السلوك العقائدي. فهم أكالون للسحت و سماعون للكذب و قد شاءوا القدوم علي النبي للاختصام لديه فيما وقع بين اطراف منهم اذ كان من دأب اناس منهم أن يجدوا لدي النبي فرجا في الحكم بينهم اذ لا يجدون مثل ذلك لدي رؤسائهم و هذا نمط من الثقة الموقنة و القبول المبدئي بأحكام النبي و قد جعل الله للرسول صلي الله عليه و سلم حق النظر في مثل هذه الدعاوي و المراجعات لما في ذلك من لفت النظر الاعلامي الي عدل الرسول في الحكم و لو بين اهل أديان غير دين الاسلام فان شاء حكم بينهم و ان شاء صرفهم عن مجلسه من غير أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه و ذاك حسب جدية الموضوع و لا جديته علي ما يتبين للرسول من الرأي يومذاك...و يفهم من هذا ان الرسول صلي الله عليه و سلم كان ينظر اليه من لا يعترف برسالته السماوية من اهل الكتاب و غيرهم نظرة ثقة بأنه اهل للصدق و العدل و الارشاد و النصيحة و الحكم الذي لا ظلم فيه... و قد جاء في القرآن في هذا المعني قوله تعالي «فلا و ربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما» النساء/65... و في هذا ما يؤكد أن النبي كان اهلا لثقة المحكمين من سائر الناس...«و اذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتي يخوضوا في حديث غيره و اما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد بعد الذكري مع القوم الظالمين»...الانعام/68يقع في مجالس الناس و كان النبي يحضرها ما فيها من كلام يساء فيه الي العقيدة التي جاء بها الرسول و ذلك في معرض المواجهة، و قد اوصي الله نبيه ان يعرض عن مثل هذه المجالس فيغادرها من دون ضجة و صخب و جدال و ذاك حين لا يتهيأ تغيير مسار الحديث و الخوض في غيره مما لا يساء فيه الي الاسلام و العقيدة... لقد كان النبي طويل الصبر و كثير الحلم في مواجهة قومه حين في مواجهة قومه حين يواجهون دعوته بذلك الانكار و الرفض فكان لا يحفل بما يصنعون لانه لا يري في مجادلتهم من جدوي و انما امره الله ان يعرض عن هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله سدا لمنافذ الجدل الذي لا يهدي الي نتيجة و قد أوصي الله النبي ان يغادر المجلس اذا حصل فيه مثل ذلك الا اذا غير القوم حديثهم الي مالا ضير فيه... [ صفحه 170] ان النبي صلي الله عليه و سلم كان يقرع اسماع اقوم بمبادي‌ء الدين ثم ينصرف الي غيرهم لانه اذا لازمهم فان ذلك يأخذ من وقته الكثير بل انه يفقد من وزنه الشخصي ما يفقد و هو متميز الشخصية بالوقار و السجايا التي تستحق الاحترام، و قوله تعالي «و اما ينسينك الشيطان» فانه يشير الي ان بعض ما كان يدور في تلك المجالس يعد مما تنشغل به الاسماع عادة من الاحاديث التي تختلط فيها المقولات ما بين جد و غير جد... و يفهم من هذا ان النبي لم يكن ينقطع عن مجالس قومه و تجمعاتهم و الالتقاء بهم في سائر مجالات الحياة اليومية و في ذلك دلالة ظاهرة علي راسخ حكمته و ثابت حنكته و ان حياته اليومية مع قومه تجمع بين المعايشة الاجتماعية و بين اداء المهمة الالهية المنوطة به و هي الدعوة الي الاسلام و محاربة المعتقدات الباطلة لدي القوم فانه صلي الله عليه و سلم صاحب رسالة جاء بها لتغيير الكثير من عنعنات القوم ضلالاتهم التي كانوا لا يرضون عنها بديلا... فكلمة الاعراض عنهم وصية بأن لا يجعل ذلك مدعاة خصام لا ينتهي الي خير و لا يصل الي المطلوب من الدعوة الي الله... و قوله تعالي «فلا تقعد بعد الذكري مع القوم الظالمين» فان فيه نمطا من الاحتجاج علي سلوك الكافرين و هو كذلك اي مغادرة المجلس مما يحمي المعاني التي كان النبي يدعو اليها و يحرص عليها و لا يتساهل فيها و يظهر عليه الغضب لتجاوزها و الاساءة اليها...«اتبع ما أوحي اليك من ربك لا اله الا هو و أعرض عن المشركين»... الانعام/106الامر بالاعراض عن المشكرين يعني عدم اطالة الجدال معهم في سائر ما يقولونه و ذلك تحلما و اتقاء الدخول في دائرة شقاق عريض...«خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين»... الاعراف/199في هذا النص المكي دعوة الي التعامل وفق متطلبات الخلق السمح الكريم و قوله تعالي «و أعرض عن الجاهلين» اي أمسك عن محاسبتهم علي جهلهم و ما يصدر منهم من هنات و سيئات... و في ذلك يتجلي في شخصية الرسول ما كان يتمسك به من حلم و لطف تعامل و حسن تصرف... ان اولئك الجاهلين سيتعلمون يوما ان كان المراد من وصفهم بالجهل العقلي، و سيحسنون التصرف ان كان المراد بالجهل الذي وصفوا به الجهل النفسي و سيلينون و ينصاعون...«فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين» الحجر/94يوصي النص النبي صلي الله عليه و سلم بالأخذ برأس الأمر و عموده مما تكون له النتائج الناجحة في مجال الدعوة الدينية و هذا يتطلب عدم التشاغل بلغط المشركين الذين كان غالب جدالهم فارغا من محتوي الرغبة في الوصول الي الحقيقة المنشودة...«فأعرض عنهم و انتظر انهم منتظرون»... السجدة/30سبق هذا النص نص جاد فيه «و يقولون متي هذا الفتح ان كنتم صادقين. قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا ايمانهم و لا هم ينظرون»... و من هنا كان معني الاعراض الذي امر النبي به عن القوم يعني عدم التشاغل بما يلغطون به من اقوال لا طائل فيها... و بذلك علم الله النبي الحكمة في اختيار المواقف التي يصح قبول التحدي فيها و التي لا يصح فيها ذلك...«فأعرض عن من تولي عن ذكرنا و لم يرد الا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بمن اهتدي»... النجم 30/29السورة من أواخر ما نزل علي الرسول في العهد المكي و قبل الخروج الي الهجرة التي هاجر بها النبي الي المدينة... و الامر بالاعراض هنا ينصرف الي من [ صفحه 171] تولي عن تقبل الدين و ما جاءت به العقيدة الرشيدة من التوحيد و الايمان بالله رب العالمين ممن شغلته شهوات الحياة الدنيا عن مثل هذه المعاني العالية... فان انشغال البال به لا طائل فيه و قد جاء في وصفهم ان مبلغهم من العلم محدود لا يبشر بخير. و قد ختم النص بقوله تعالي «ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بمن اهتدي»...بهذا ينتهي الكلام علي مفردات هذا الباب الذي هو باب «أعرض» الذي أحصينا به بعض ما كان يتلقاه النبي من ربه من تنبيهات و توجيهات و كان غالب آيات الاعراض من سمات العهد المكي...

باب اتل

في الخطابات القرآنية ما جاء بلفظ «واتل» امرا للرسول بتلاوة نصوص القرآن في غير مسألة واحدة أو أمر واحد... و في اللفظة جهر و اسماع لمن يكون في الساحة التي يتلي فيها ما يؤمر النبي بتلاوته علي القوم من المؤمنين و من كفرة و مشركين... و في التلاوة ابلاغ للقوم بما شرعه الله من الاحكام و الفرائض و انما نشير الي ذلك لبيان ما كا يقع علي الرسول من تكليف و قد كان الامر الالهي للرسول بالتلاوة ضمن جمهرة الاوامر الالهية التي تلقي الي الرسول لأبلاغ الشريعة التي الناس و كان منها لفظ «قل» و لفظ «أنذر» «واستفتهم»... «و أسألهم» و غير ذلك... و في ما يلي ما جاء في القرآن من الخطابات الالهية المبدوءة بلفظ «واتل»...«واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق اذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي اليك لأقتلك اني أخاف الله رب العالمين، اني أريد أن تبؤأ باثمي و اثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين»... المائدة 30/27للاية تتمة فليراجعها من شاء للوصول الي نهاية الكلام القرآني أمر الله عزوجل رسوله بأن يتلو علي الناس قصة ابني آدم اللذين هما قابيل و هابيل و قد قتل قابيل هابيل و كانا قد قدما قربانا تقبل من هابيل و لم يتقبل من قابيل. و حين جاهر قابيل اخاه بانه سيقتله رد عليه بانه لن يعتمد الي قتل اخيه لانه يخاف الله رب العالمين. ولكن قابيل لم يرتدع لهذا الموقف الاخوي الكريم بل اصر علي قتل اخيه فقتله... النص القرآني فيه تهذيب و ارشاد للناس بان يكون موقفهم مع الاقربين خاصة موقف تراحم و لطف و تسامح و النص القرآني هنا آت لتهذيب النفوس التي تتعطش الي الثارات و الانتقام و ما الي ذلك مما يهدم الامة و يضعف من أمر القومية الواحدة التي كانوا ينتمون اليها في حملهم علي التعاون و علي التغاضي عن هنات الامور و قد عرف العرب بانهم كانوا يستمرؤن الغزو و سبي النساء و ما الي ذلك حتي لو وقع منهم هذا في معاملة جيرانهم و ذوي قرابتهم...و آونة علي بكر اخينا اذا ما لم نجد الا أخاناو قد اراد النص القرآني الذي أمر به النبي علنا و جهرا علي الناس من اجل تصوير صورة البر في تعامل احد الاخوين مع اخيه و في زجر القسوة و الضراوة من قبل احد الاخوين مع الاخر. و الحقيقة ان تلاوة هذه الأيات علي الناس بصوت الرسول صلي الله عليه و سلم و باسلوب التلاوة المنغمة عادة له عظيم التأثير علي الاسماع التي تأنس للصوت و تستوعب المحتوي و تتأثر بالمعني الذي يعنيه مضمون تلك الآيات و هو اسلوب يشبه ما يسمي بوسائل الايضاح التي تقرب المنطوق و المفهوم ممن يراد ايصال ذلك اليهم... و انا لنري في القرآن الكريم استخداما للقصص لما فيه من تقريب الصورة الموضحة لتفاصيل القضية المعروضة بحيث يكون للنص القرآني فعله الفاعل للناس. و بهذا تؤدي القصة مهمة الارشاد و الموعظة و التلقين التربوي [ صفحه 172] بأحسن اسلوب و اوضح عبارة و اجلي بيان و ألذ ما يطرق السمع من كلام و هذا تحقق في قوله تعالي «واتل عليهم نبأ ابني آدم...» بما قد لا يتحقق في مثله بلفظ آخر...«واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين و لو شئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد الي الارض و اتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتذكرون. ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا و انفسهم كانوا يظلمون». الاعراف/157في بعض الاحيان يكون النص المكي ذا اسلوب فيه شي‌ء من الصرامة و عند تأمل ذلك نري تلك الصرامة هي اقل مما يستحق من عوملوا بها و خوطبوا بها و ذاك لفرط عداونهم و كثرة مساءاتهم و شدة غدرهم و خروجهم علي المألوف في خصومة ما يخاصمون من اجله، و من يخاصمون. ان كثيرا من كفار مكة لم يرد في حقهم مثل هذا القول القاطع و ذاك لان كثيرا من كفار مكة انتهي امرهم الي الطاعة و الاذعان و اعتناق الاسلام اما من هو في صدد كلامنا عليه فانه لم يسلم و لم ينتفع بما وصل اليه من الدلائل علي قبح الشرك و حسن التوحيد و ما الي ذلك مما كان القرآن الكريم ينزل به الي الناس.ان الامر بالتلاوة لا يتطلب بالضرورة ان يكون ما يتلي شيئا ينتمي الي ازمنة قديمة بل قد يكون كذلك و قد لا يكون كذلك... و من هنا يكون الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها هو من اهل مكة و ما اكثر من كان منهم جديرا بان يقال فيه القول القرآني من تبشيع عمله و اعلان اساءته و الكلام علي فرط ظلمه و عتوه من اولئك الذين حار الرسول في أمر اصلاحهم و ارشادهم و قد ذهب بعض اهل التفسير الي ان المعني بذلك هو أمية ابن ابي‌الصلت الذي قال النبي فيه انه آمن لسانه و كفر قلبه و نستبعد ان يكون أمية هو المعني بالنص القرآني لانه في رأينا لا يوصف بانه مثله كمثل الكلب و لابد انه رجل آخر من كفرة اهل مكة او من الكفرة الاخرين الذين هم من خارج مكة و لا نري هذا الرجل الي آخر عهده بالحياة قد اعتنق الاسلام. و من عادة القرآن ان لا يصرح باسماء الناس من اخيارهم و لا من اشرارهم فان القرآن لم يصرح باسم ابي‌بكر و هو صاحب رسول الله في الغار و لا صرح باسم التي جادلته في زوجها و لا ذكر من اسامي القبائل العربية احدا و لا ذكر من اسامي ملوك ذلك الزمان اسما و لا من قوميات الناس قومية و لا من معالم الارضين معلما و لا ذكر اسماء زوجات النبي و لا ذكر نسب النبي و لا غرابة في ذلك فالقرآن ليس كتاب تأريخ و قد يكون اولاد بعض الكفار من خيرة المؤمنين من امثال عكرمة ابن ابي‌جهل فان عكرمة صحابي جليل...«واتل عليهم نبأ نوح اذ قال لقومه يا قوم ان كان كبر عليكم مقامي و تذكيري بآيات الله فعلي الله توكلت فأجمعوا امركم و شركاءكم ثم لا يكن امركم عليكم غمة ثم اقضوا الي و لا تنظرون فان توليتم فما سألكتكم من أجر ان اجري الا علي الله و أمرت ان اكون من المسلمين»... يونس/71في قصة نوح التي امر النبي بتلاوتها علي الناس عبر تقرب من العبر التي تقع للنبي من قومه. فلقد كان قوم نوح يؤذون نوحا و يعاملونه بكثير من السخرية حتي عندما كان يبني السفينة مما يدل علي شراسة هؤلاء القوم و انعدام الحياء في معاملة نبيهم نوح عليه‌السلام. و ليس الامر الذي نستهجنه من قوم نوح خاصا بهم في معاملة نوح ان سائر الانبياء اصابوا من سوء معاملة قومهم ما اصابوا فلقد قال قوم عاد لنبيهم هود «انا لنراك في سفاهة و انا لنظنك من الكاذبين»... الاعراف/66... فرد عليهم قائلا «يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العامين» الاعراف/67... و هكذا نجد [ صفحه 173] الرسل يعانون من بغي قومهم و عدوانهم مالا يصبر عليه الا الرسل المرسلون...والقرآن الكريم في ما يقصه من قصص الانبياء يثبت به قلب النبي فيجعله يتأسي بسير اخوانه الانبياء الاولين و حين يسمع سكان مكة بمثل ذلك يعلمون أنهم قد حذوا حذو الامم الغابرة في معاملة نبيهم و لعل في ذلك ما يخجلهم و يجعل للحياء سبيلا الي نفوسهم و الا فان سلوكهم مع نبيهم كسلوك من سبقهم من الامم مما يجعل الرسول غير مستغرب للذي يقع له من قومه من سوء الخطاب وصلف المواجهة و الاستهزاء و السخرية و انكار الحقائق الالهية التي جاء يدعوهم الي اعتناقها...«واتل ما أوحي اليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته و لن تجد من دون ملتحدا»... الكهف/27المراد في ذلك هو أن يجاهر النبي المشركين و الكفار من اهل مكة بتلاوة القرآن الكريم لما في ذلك من ابلاغ الرسالة الي الناس باسلوب فيه ما يغري القوم بالاصغاء و الاستماع... و للنبي أن يتخير الزمان و المكان لمثل هذه التلاوة بحيث يتحقق بذلك معني التبليغ و الدعوة و الصدع بما أنزل الله خاصة ان ذلك كان من مهام النبي و من صميم عمله الذي بعث الي الناس لادائه و الجهر به...«واتل عليهم نبأ ابراهيم اذ قال لابيه و قومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم اذ تدعون. او ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا اباءنا كذلك يفعلون. قال افرأيتم ما كنتم تعبدون. انتم و آباؤكم الاقدمون. فانهم عدو لي الا رب العالمين. الذي خلقني فهو يهدين. و الذي هو يطعمني و يسقين. و اذ مرضت فهو يشقين. و الذي يميتني ثم يحيين»... الشعراء 81/69في النص القرآني الذي امر الله نبيه أن يتلوه علي قومه نقاش في صدد عبادة الاصنام لو وعاه من يعبد الاصنام لعدل عن عبادتها فذاك لانه نقاش منطقي سليم تبرز فيه حجة التوحيد علي حجة الاشراك في الخالق العظيم. فلقد ذكر ابراهيم عليه‌السلام من صفات الله مالا تملكه كلا و لا جزءا اصنامهم التي كانوا يعبدون. علي أنهم لم يكونوا قد استعملوا العقل و المنطق لعبادة تلك الاصنام و انما ورثوا عبادتها من آبائهم. و في النص ابطال لكل ذلك و تفنيد له...و في قصة ابراهيم ما يدفع مشركي مكة و كفارها الي استعمال عقولهم في مناقشة معتقداتهم الوثنية الباطلة و بذلك يعلمون أن الله لم يبعث محمدا وحده بهذا الامر الرشيد و انما بعث من قبله رسلا كثيرين في ذات الشأن و المهمة و ذاك الفساد الشرك و ضلال عبادة الاصنام و للهدي الناصع الذي يصل اليه من يعبدون الله و لا يشركون به شيئا...«اتل ما أوحي اليك من الكتاب و أقم الصلاة ان الصلاة تنهي عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله اكبر و الله يعلم ما تصنعون»... العنكبوت/45يتميز القرآن الكريم بخصيصة التلاوة العلنية و من هنا جاء النص القرآني «و اذكرن ما يتلي في بيوتكن من آيات الله و الحكمة ان الله كان لطيفا خبيرا» الاحزاب/34... فان ما كان يتلي كان يتلي جهرا لا سرا و رغم ان عباد الاصنام كانوا يجهرون بالالفاظ التي يعبرون بها عن عباداتهم الوثنية و طقوسهم التي يؤدونها عند الطواف بتلك الاصنام و كانت منغمة فان ذلك لم يكن علي النمط الذي جاء به الاسلام من حسن الاداء و الترتيل و النطق القرآني الفصيح الذي علم الله اياه نبيه لتكون تلاوته في اعلي منازل التصلاوة. ففي القرآن الكريم اوضح الله كيف تكون تلاوة القرآن «لا تحرك به لسانك لتعجل به. ان علينا جمعه و قرآنه. فاذا قرأناه فاتبع قرآنه» القيامة 19/18/17... و في القرآن الكريم كذلك «و قرآنا فرقناه لتقرأه علي الناس علي مكث و نزلناه تنزيلا» [ صفحه 174] الاسراء/106... و في القرآن ايضا «و رتل القرآن ترتيلا» المزمل/4... في هذه النصوص جعلت التلاوة نظاما و نهجا و اسلوبا اذ تكون بها التلاوة القرآنية متميزة علي سائر ما يتلي و ينشد و يتغني به...لم تكن في المؤمنين تجمعات في مكة علي نحو ما صار لهم من التجمعات في المدينة. اذ كانت الصلاة تؤدي في المسجد النبوي جهرا في الفجر و العشاء الاخرة و المغرب. و قوله تعالي «ان قرآن الفجر كان مشهودا» الاسراء/78. يراد به وصف صلاة النبي في بيته حين يصلي الفجر فيه... اما ما أمر النبي بتلاوته في مكة فانه كان يقع بالمجامع و المحافل و في ساحة الكعبة و حيث ما وجد النبي بهذه التلاوة من المناسبات ما يجعله يقوم بادائها علنا... و قوله تعالي «و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون» فصلت/26... دلالة علي أن هناك من كان يجتمع الي رسول الله من القوم ليسمعوا القرآن و كان هناك من يريد ابعادهم عن سماعه... ان المهمة النبوية الملقاة علي عاتق النبي في هذه التلاوة مهمة ظاهر فيها عظم معاناة النبي للغط قومه و خصومتهم و شجارهم الذي لا ينقطع...

باب الاستغفار

في آيات الاستغفار ملامح واضحة التعبير عن معان خاصة في شخصية الرسول الاعظم موزعة علي اكثر من مناسبة مما سنحيط به علما عند مراجعتنا تلك الايات علي الوجه التالي... ان دعوة النبي الي الاستغفار ينض منها أن علي الامة أن تكون اكثر استغفار و اكثر لياذا بأذيال التوبة و تشبثا برضوان الله عزوجل...«انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله و لا تكن للخائنين خصيما، و استغفر الله ان الله كان غفورا رحيما»... النساء 106/105اعتياد النفوس استغفار الله دليل رسوخ التقوي فيها و تألق الايمان في أرجائها و ان لم يكن العبد مشيرا في استغفاره الي خطايا و آثام يسجلها علي نفسه فان مطلق الاستغفار بعد عبادة استمرارية يتعبد بها الله علي مدي ما يمر عليه من دقائق الوقت و ساعاته... حقا أنها عبادة تكاد تشبه الصلاة من غير اذان و لا اقامة...«استغفر لهم أولا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله و رسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين»... التوبة/80في هذه الآية نهي عن الشفاعة لقوم كفروا بالله و رسوله و ذاك أن للشفاعة حدودا مرسومة لا يتحقق بتجاوزها شي‌ء مما ينفع من تأتي الشفاعة من اجل الرأفة به او اعطائه حقا حرم منه او التغاضي عن ما بدر منه من اخطاء و مساءات... في النص بيان في جماع ذلك. والاستغفار سبعين مرة لا يعني سبعين بصفتها عقدا عدديا من نحو الثمانين و التسعين و ما الي ذلك و انما كانت العرب تجعل هذا العدد اقصي الاعداد و تأتي به في موضع المبالغة و لذا قال علماء الاصول ان الاعداد لا مفهوم لها... و قوله تعالي «سبعين مرة» لا يعني سبعين استغفارا بل يعني سبعين حالة استغفار لتوضيح صورة التكرار الزمني و تعاقبه كأن يستغفر في الصباح و الضحي و عند غروب الشمس و في منتصف الليل و عند الفجر و هكذا لأن المرة لا تعني العدد المعدود و انما تعني السقف الزمني الذي تقع فيه حالة ما كالطلاق مثلا. فان قوله تعالي «الطلاق مرتان» لا يعني العدد الحسابي و انما يعني العدد الزمني و قوله تعالي «الطلاق مرتان» هو أن يطلقها في شعبان مثلا ثم يطلقها في رمضان... و المرتان و الثلاث مرات لا تجتمع في مرة واحدة «أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين...» التوبة/126... فالمرة هي مرة و المرتان هما اثنتان لا واحدة. و علي هذا يكون [ صفحه 175] جمع المرتين و الثلاث مرات في الطلاق غير متصور... و في القرآن الكريم «و قضينا الي بني‌اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين.» الاسراء/4... و هما مرتان متباعدتان...ان الشفاعة حق للنبي صلي الله عليه و سلم والاستغفار نمط من انماطها و باب من ابوابها و قد جعل الله للناس حق الشفاعة «من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها و من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها» النساء/85... و المراد بالشفاعة السيئة هنا ما يتأتي منه جعل الحرام حلالا والاثم ثوابا و الكفر ايمانا و نحو ذلك... علي ان المهم في الشفاعة قبولها من قبل الله و من ذلك قوله تعالي «سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين» المنافقون/6...و بعبارة اخري ان الاستغفار هو الرجوع الي الله بالانابة و التذلل و المتاب اليه و التبرؤ من العودة الي تقصير وقع منه أو سهو أو خطأ أو تسرع أو عدم تورع...«فأذن لمن شئت منهم و استغفر لهم الله ان الله غفور رحيم»... النور/62اي اسأل الله لهم المسامحة و تمحل لهم المعاذير التي تخفف عنم نفوسهم ثقل اللوم النفسي و النقد الذاتي... و يفهم من مواقفه صلي الله عليه و سلم في هذه الاستغفارات انه كان كثير الرفق و التلطف في معاملة من يعايشهم و يعايشونه من المؤمنين و بعض غير المؤمنين و هذا ما كان قد حببه الي الناس و الي بعض ذلك يرجع ارتياح الناس الي الاقبال علي اعتناق الدين لأن سلوك الداعية اذا كان رقيقا و سمحا يعجل بذلك الاستجابة و يجد رد الفعل الحسن من سائر الاوساط...«فاصبر ان وعد الله حق و استغفر لذنبك و سبح بحمد ربك بالعشي و الابكار»... غافر/55المراد بهذه الاوامر انها لم ترد علي وجه الابتداء و انما وردت بعد الوقوع قصد الاستمرارية و المثابرة لأن الاوامر الالهية لا تأتي مكدسة تكديسا بحيث يأمر الله نبيه بالصبر ثم بالتسبيح ثم بالاستغفار و الي اخره... ولكن الرسول كان يمارس هذه الامور فجاء النص لتزكية ذلك و الحث عليه و ملازمته... و استغفار العبد كائنا ما كان ذنبه - من ندرة و كثرة - حق الله عليه و ان لم يكن متهما بشي‌ء من التقصير في حق الله و التفريط في جنب الله...«فاعلم أنه لا اله الا الله و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات و الله يعلم متقلبكم و مثواكم»... محمد/19الاستغفار من بعض ما ينبغي للنفوس ان تتعاطاه اثر معرفة الله فانه من متممات الايمان و من آدابه. و معرفة الله تعني الالمام بصفاته عزوجل من رحمة و نقمة و قدرة و حكمة مما يهدي العبد الي التقرب من ربه بالتسبيح و الاستغفار و الطاعات المقبولة و ان لم يكن المستغفر مسجلا علي نفسه شيئا من الآثام و الاوزار...و اتهام الانسان نفسه بالتقصير في خدمة ضيف أو زائر كريم أو في طاعة الوالدين أو التعامل مع ذوي الفضل و المآثر المحمودة انما هو من الآداب التي تدخل في اطار التواضع و حسن المعاملة... و اذ كان الاستغفار من هنات الامور و لممها مطهرا للنفوس و ما حيا عنها ما يستوجب اللوم و التثريب فانه تعالي اذ يدعو في كل مناسبة الي الاستغفار انما يريد ان يجعل ذلك طهرة تتطهر بها الذات النبوية - علي ثبوت قدسيتها - في جميع الاوقات...«سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا اموالنا و اهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا ان اراد بكم ضرا او اراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا». الفتح/11 [ صفحه 176] في هذا النص ما يوضح أن النبي صلي الله عليه و سلم امتنع عن الاستغفار لهؤلاء الذين فروا من الزحف و لم يقاتلوا مع مقاتلة المسلمين. و الاستغفار لقوم انما يقع عن قناعة المستغفر لهم. و لم يكن النبي هنا قانعا او مقتنعا لاستحقاق القوم أن يستغفر لهم ربه او أن يدعوه لهم بالرأفة و الرحمة لان جريرة هؤلاء الناس كانت من نمط الفرار من الزحف و عصيان القيادة النبوية في امر فيه الذود عن حرمات الامة و صيانة كيانها السياسي و الدفاع عن ذاتيتها التي في الدفاع عن ذاتيتها دفاع عن ذاتية الاسلام. و المعذرون الذين ادعوا المعاذير لتخلفهم عن اللحاق بجيش المسلمين كانت اساءتهم ثقيلة و باهضة لذلك لم يشفع لهم النبي و لم يقبل معذرتهم.و مما يفهم من ذلك أن الشفاعة موقف منطقي لا يتورط الشفيع فيه الا عن بينة و من هنا جاء في التنزيل العزيز من قوله تعالي: «فما تنفعهم شفاعة الشافعين» المدثر/48... و مثل قوله تعالي: «ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع...» غافر/18. و في باب التهكم «و لا يقبل منها شفاعة و لا يؤخذ منها عدل و لا هم ينصرون» البقرة/48...«يا أيها النبي اذ جاءك المؤمنات يبايعنك علي أن لا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن و لا يزنين و لا يقتلن اولادهن و لا يأتين ببهتان يفترينه بين ايديهن و ارجلهن و لا يعصينك في معروف فبايعهن و استغفر لهن الله ان الله غفور رحيم»... الممتحنة/12الاستغفار هنا في معني الدعاء لهؤلاء المؤمنات برعاية الله لهن و رضوانه عليهن و تسديد خطاهن و تحقيق ما جرت عليه بيعتهن و قوله تعالي: «فبايعهن» أي واثقهن علي ذلك قوم عزمهن فيما مضين فيه. و في النص اشارة واضحة لحقوق النبي في قيادته للامة. اذ جاء فيه «و لا يعصينك في معروف» اي في أي امر تأمر فئات النساء به و ذاك كذلك حق النبي علي الرجال في قيادته أي فئة منهم فما يحق لاحد منهم أن يعصي النبي في معروف. و المعروف و العصيان فيه قيد اتفاقي لا احترازي أي ان المعروف سمة ثابتة في كل اوامره صلي الله عليه و سلم فما يقع منه أن يأمر بغير المعروف. و البيعة هذه هي بيعة عهد علي نمط من الايمان مستوف لشرائط الايمان كلها. و في النص كذلك ايماء الي أن لعالم المرأة في الاسلام وجودا معترفا به في مجالات الحقوق و الواجبات...«اذا جاء نصرالله و الفتح و رأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا فسبح بحمد ربك و استغفره انه كان توابا»... النصر 3/1جري الكلام في تفسير هذا النص في باب التسبيح اما الاستغفار فانه جاء تبعا لذلك لتقوية ركن العبودية لله عزوجل فان من سماتها التذلل الي الله و افتراض التقصير في عبادته تعبيرا عن التواضع له و اللياذ به و اعظامه و الأعتراف بربوبيته و في اختتام النص بقوله تعالي «انه كان توابا» بيان بأن الله لا يضيع لعباده ثواب حالات التوجه اليه و الخشوع لديه و الاخلاص في طاعته و الانابة اليه...ان نصر الله هو الغلبة التي يقدرها الله للمسلمين علي الكافرين في كل غزوة و ما كان من نحوها... والفتح لفظ يعني النصر الا انه في هذا النص يعني فتح مكة الذي يعد اكتسابا لمعقل عظيم من معاقل الكفر يومذاك و ليس مجرد بلد فيه قوم لا يزالون في يوم الفتح غير مستجيبين للاسلام بل انه البلدة التي تقوم فيها الكعبة المشرفة بيت الله الحرام الذي وقع الاسراء منه الي بيت‌المقدس...لقد كان في فتح مكة وردها الي سلطان المسلمين اكمال للحكام الشرعية و اتمام لعقائد الامة اذ يقوم عندها امر الحج و شعائره و مناسكه و قد اقترن بفتح مكة اقبال الناس بحجم كبير علي الدخول في دين الله [ صفحه 177] لما كان في ذلك من اشتداد قوة الفئة المسلمة و خذلان القوي المعادية رغم ان المدينة بقيت هي المقر الرسمي للقيادة الاسلامية الي ما بعد وفاة النبي و قيام ثلاثة خلفاء [55] بعده علي امر الدولة التي راحت تفتح سائر الانحاء في مشرق العالم و مغربه...التسبيح هنا يعبر عن تعظيم الله و الثناء عليه في تحقيقه النصر العظيم الذي لم يكن ليتحقق لولا انه جل جلاله كان يريد تحقيقه... و الامر بالاستغفار ليس مكانه بكائن عند التقصير ابدا و انما هو امر مستديم يراد به شدة التعلق بعبادة الخالق و الانابة اليه.غير ان اعباء النبوة الملقاة علي عاتق اي نبي قد يعلق بها في بعض الحالات نمط مما يشبه اليأس و استبطاء العون الالهي و شي‌ء من الضجر النفسي من مواجهات الاعداء فان مثل هذه المضجرات لابد من عروض شي‌ء منها في حياة الرسل و قد جرت اشارات في النصوص الي بعض ذلك فكان الاستغفار من أمثالها استغفارا طبيعيا علي وجه التواضع لله و التصاغر امامه عزوجل و بالعصر الحديث حين تنتهي اعمال عسكرية كبيرة تكون عاقبتها النصر و التوفيق فان المجالس التشريعية في تلك الدول تصدر قانونا بالعفو عن القائمين بتلك الحركات من غير تحديد او تعيين و قد يكون فيهم الكثير من القادة الذين لم يقع منهم ما يخالف القوانين أو ما يسي‌ء الي أحد من الناس...لقد أوجزنا الكلام علي الشفاعة، و موضوعها موضوع يستأهل الكلام الطويل و في ما مر منه الكفاية...

باب ارايت

في هذا الباب يجري الكلام علي ما جاء من كلمة «رأيت» في خطاب النبي مرفقة بهمزة الاستفهام اذ ان ذلك يكون في الغالب محل نقاش و استفسار و عروض امور جديرة بالملاحظة و الاهتمام. و لكل منها في موردها شأن سيتم شرحه في ما يلي من النصوص القرآنية الكريمة الاتية...«أفرأيت الذي كفر بآياتنا و قال لأوتين مالا و ولدا، أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا، كلا سنكتب ما يقول و نمد له من العذاب مدا، و نرثه ما يقول و يأتينا فردا»... مريم 80/77النص من نصوص العهد المكي و فيه تذكير للرسول بأحد دهاقنة الكفر من المعتدين بأنفسهم و اموالهم و اولادهم والمتباهين بكفرهم و ضلالهم و حين يرد النص بلفظ «أرأيت، أفرأيت... فانه يقترن بتتمة يقع بها التعليق علي اصل السؤال. و التتمة هنا هي قوله تعالي «كلا سنكتب ما يقول و نمد له من العذاب مدا و نرثه ما يقول و يأتينا فردا». و انما يرد الكلام بلفظ الاستفهام بصيغة «أرأيت» او «أفرأيت» تمهيدا للتعقيب علي ذلك بالامر الذي يريده الله...«أرأيت من اتخذ الهه هواء أفأنت تكون عليه وكيلا»... الفرقان/43في النص لفت لنظر الرسول الي انماط من الناس ركبوا رؤوسهم و أصروا علي ضلالهم و أصموا سمعهم عن كل صوت يدعو الي الهدي والايمان جاعلين هواهم مصدر توجيههم و تحركهم و التصرف في حياتهم و هذا ما عبر عنه النص بقوله تعالي «اتخذ الهه هواه». و كان التعقيب علي هذا الاستفهام هو قوله تعالي «افأنت تكون عليه وكيلا»... أي ان مثل هؤلاء لا تنجح فيهم النصيحة و لا ينجح فيهم وعظ و ارشاد و توجيه... [ صفحه 178] «أفرأيت ان متعنا هم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما اغني عنهم ما كانوا يمتعون»... الشعراء 207/205في النص اشارة الي أن ما يمد به للكافر من مال و نعيم لا يغنيه شيئا اذا جاءت ساعة البطش الالهي وحان حين النقمة و العقاب العادل... و في هذا زجر ظاهر و تحذير واضح للذين تغر هم الحياة الدنيا فلا ينصاعون الي سماع كلمة الحق و الدعوة الي عبادة الي الله و الأخذ بأهداب طاعته و ابتغاء رضاه و عفوه...«أفرأيت من اتخذ الهه هواه و اضله الله علي علم و ختم علي سمعه و قلبه و جعل علي بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون»... الجاثية/23في النص القرآني اعلام للنبي صلي الله عليه و سلم بلفظ فيه استحضار للحالة المتكلم فيها اذ يراد بها شخص موصوف بكل صفات الضلال الذي تكدس لديه بسبب حرمانه من ادوات العلم و الاعتبار و التبصر و هو لا يري و لا يسمع و لا يعقل فان من كان كذلك لا جدوي في افراغ النصيحة في اذنه لانه اتخذ الهه هواه و اضله الله علي علم... و مثل هذه الآيات المكية ترسم للرسول الاعظم خطط الدعوة الناجحة التي يهديه الله اليها و يدعوه الي اتباعها. و كان الرسول صلي الله عليه و سلم يتمني أن يؤمن الناس جميعا بما جاءهم به من رسالة الاسلام السمحة الكريمة... و في آيات اخري خوطب بها الرسول جاء فيها «و ما اكثر الناس و لو حرصت بمؤمنين» يوسف /103...و يفهم من هذا ان في كفار مكة من مرد علي عناد في الجهل لا عناد يضاهيه و علي اصرار علي الكفر لا اصرار يوازيه. و من لم تجد حقائق الايمان الناصعة الي قلبه سبيلا فلا ينفع فيه نصح و لا تؤثر فيه موعظة...«افرأيت الذي تولي، و اعطي قليلا و أكدي، أعنده علم الغيب فهو يري، أم لم ينبأ بما في صحف موسي، و ابراهيم الذي وفي، أن لا تزر وازرة وزر اخري، و أن ليس للانسان الا ما سعي، و أن سعيه سوف يري، ثم يجزاه الجزاء الأوفي»... النجم 41/33الصيغة الواردة بلفظ الاستفهام واردة في معني الشرط الذي سيأتي جوابه و ذاك فيما لا حظناه علي ما جاء من مثل «أرأيت» من استعمالات بيانية و اسلوبية و الذي تولي هو من انصرف عن الاصغاء الي الدعوة الايمانية فقوله تعالي: «واعطي قليلا و اكدي» أي كان تجاو به مع الخير نزرا جد نزر و قوله تعالي: «واكدي» تصوير للتوقف عن المضي في امر يجد الماضي فيه كل جد ثم يتوقف عنه كل التوقف و كلمة «واكدي» تعني التعرض لكدية تكون في طريقه... و الكدية هي الحجر الضخم الذي لا يملك حافر الارض أن يزيحه من امامه فيتوقف عن الاستمرار في الحفر و ذاك هو معني الاكداء في العطاء...و كان التعليق علي ذلك هو قوله تعالي: «أعنده علم الغيب فهو يري». أي ان هذا الذي تولي أهو مطمئن الي عاقبة امره و مستقبل ايامه اذ يتصور أنه سيكون في منجاة من عقاب الله عزوجل و مما يسلطه الله عليه من نكال في الحياة الدنيا والاخرة.«أرأيت الذي ينهي، عبدا اذا صلي، أرأيت ان كان علي الهدي، أو امر بالتقوي، أرأيت ان كذب و تولي، ألم يعلم بأن الله يري، كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة، فليدع ناديه، سندعو الزبانية»... العلق 18/9لانزال عند قولنا في أن عبارة - أرأيت - و مثلها - أفرأيت - تحمل معني الشرط الذي ينتظر جزاءه و قد تكررت ارأيت هنا ثلاث مرات لتثبيت الصورة المرئية المنقوم منها مع ايراد الجواب عليها فان هذا الذي راح ينهي متعبدا يعبد الله عن صلاته فانه مقترف بذلك اقصي درجات الاثم و هو كذلك ينهي من كان علي [ صفحه 179] الهدي ان يستمر علي هداه و كذلك ينهي من كان قد امر بالتقوي أن لا يأمر بالتقوي. انه حقا لنمط من الايغال في الاثم و الجريمة أن يتطوع رجل فينهي عن كل شعيرة من شعائر الخير من غير تأثم او تحرج و كان التعليق الذي جاء وراء ذلك هو قوله تعالي: «ألم يعلم بأن الله يري». جاء بعد ذلك التهديد بالعقوبة الرادعة اذ قال الله تعالي: «كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة، فليدع ناديه، سندعو الزبانية». و يبدو من النص أن صانع ذلك و مقترف وزره و عاره كان يعتمد علي نادي القوم في افاعيله الشريرة و مواقفه اللئيمة و غروره الذي جاوز فيه حد الاسراف و المبالغة و تحداه الله بأنه اذا دعا ناديه يستعين به فان الله سيدعو زبانية جهنم للبطش به و بمن وراءه...الموقف المصور في هذا النص هو احد المواقف التي واجهها النبي صلي الله عليه و سلم في مكة مما يفهم منه و النبي يوم ذاك وحيد يواجه قوة الكفر و الشرك. أن الامر لعظيم و أن المهمة عسيرة و أن امام النبي طريقا غير معبد و هو جد طويل و هكذا كان النبي يؤدي رسالته العظيمة في مثل تلك الاجواء الدامسة العداء و البغضاء فصلي الله عليه و سلم من نبي كريم و رسول عظيم...«ارأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، و لا يحض علي طعام المسكين». الماعون 3/1الظاهر في غالب من يكذبون بالدين و ينكرون رسالة الله التي يحملها الي الناس نبي منهم أنهم لا يعادون الرسل وحدهم و لا يتنكرون لفحوي العقيدة التي يدعون الي اعتناقها والاخذ بقيم المفردات التي فيها بل انهم يتميزون اضافة الي ذلك بالبراءة من المروءة والانسانية علي ما وصفتهم الاية الكريمة بأنهم يدعون اليتيم و يغمطونه حقه و يعاملونه معاملة من لا كرامة له. كما أنهم لا يرعون لمسكين و لا جائع و لا حائر حقا يعملون علي رده اليه و حفظه له...و سورة الماعون سورة مدنية و ذاك ما اخذنا به من الاقوال التي قيلت في عائدية السورة علي ما اورده غير واحد من المفسريبن منهم النيسابوري...

باب رايت

الخطابات التي يخاطب بها النبي بمثل لفظ «رأيت او تري» يرد ذلك في احداث لم تقع بعد و في احداث وقعت في قديم الزمان يراد بها مخاطبته بصفته موجودا حينئذ بحيث تصح مخاطبته و من ذلك مثلا قوله تعالي عند قيام الساعة «و تري الناس سكاري و ما هم بسكاري ولكن عذاب الله شديد» الحج/2...و هو خطاب للرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم نستدل به علي ان الرسول معني بهذا الخطاب و قد خاطبه الله به اذ جعله موجودا يري قيام الساعة و يري الناس سكاري من هول ذلك و ما هم بسكاري... و من ذلك قوله تعالي في قصة اهل الكهف التي وقعت قبل مولد النبي بزمن بعيد اذ جاء فيها قوله تعالي «و تري الشمس اذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و اذا غربت تقرضهم ذات الشمال...» الكهف/17... فلقد حكم الله لنبيه برؤية ذلك اذ اعتبره موجودا يري الشمس اذا طلعت علي القوم و يراها اذا غربت كذلك... و ما نشير اليه من آيات الرؤيا في الجدول التالي نذهب فيه الي هذا المعني من غير شك... الا اذا كان الخطاب بالرؤيا قد وقع علي عهده صلي الله عليه و سلم في مكة او في المدينة ابان الصدع بما امره الله ان يصدع به من الصدع بهذا الدين العظيم...«و اذا قيل لهم تعالوا الي ما أنزل الله و الي الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا»... النساء/61 [ صفحه 180] الخطاب هنا موجه الي الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم و قد أخبر بان المنافقين كانوا يصدون عن النبي كل الصدود حين كانوا يدعون الي الاستماع الي ما انزل الله... و كان في هذا التصرف الذي عرف في القوم اول المشاهد دلاله علي النفاق اذ لم يكن المنافقون يملكون من الحذق ما يخفون به امارات نفاقهم، و قد قيل في الحكم انه (ما أضمر أحد شيئا الا ظهر علي فلتات لسانه)...«فاذا أنزلت سورة محكمة و ذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون اليك نظر المغشي عليه من الموت فأولي لهم»... محمد/20رغم أن العرب كانوا في ايام جاهليتهم اهل سيف و غزو و قتال فان هذا لا ينطبق عليهم جميعا و لذا وجدنا فيهم من لا يشارك في القتال و يفر من ساحته و يفزع منه علي ما تقصه آيات الذكر الحكيم في مثل هده المواطن في حين أن قتيل الحرب في الاسلام شهيد و لم يكن قتيلها قبل الاسلام بشهيد... و الشهيد في الاسلام حي يرزق ولكن هذا لم يكن كافيا في تشجيع جبناء الناس علي خوض غمرات الحرب و الجهاد في سبيل الله...والآية التي نحن في صدد الكلام عليها تشير الي أن قوما ممن كانوا قد اعتنقوا الاسلام من العرب عندما نزلت سورة ذكر فيها القتال شخصت ابصارهم الي السماء دليل الرعب و الخوف الشديد و قد راحوا ينظرون الي النبي نظر المغشي عليه من الموت و قد تهكم بهم الباري عزوجل بقوله (فأولي لهم) و هو لفظ يعني ما يعنيه الويل من التوجع المصحوب بالازدراء.«و يطوف عليهم ولدان مخلدن اذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا، و اذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا، عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق و حلوا أساور من فضة و سقاهم ربهم شرابا طهورا، ان هذا كان لكم جزاءا و كان سعيكم مشكورا».. هذه احدي صور النعيم في الآخرة جاءت فيها مخاطبة النبي بأنه يري ذلك...«و رأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا»... النصر/2هذه رؤيا رآها النبي صلي الله عليه و سلم بعد الفتح المكي اذ صارت الناس تعتنق الاسلام بكثرة كاثرة و تقبل عليه جمهورا بعد جمهور، بعد أن كان الذين يعتنقون الاسلام يقبلون علي النبي باعتناق الدين فرادي و بأعداد قليلة جدا...باب)

و اضرب

بعض الخطابات القرآنية التي خاطب الله بها الرسول و الاملاءات التي املاها عليه ما يسبق بكلمة (اضرب) و المراد بذلك ضرب الامثال التي تحتجن العبر و المطالب التهذيبية و التشريعية و من ذلك قوله تعالي «و اضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب و حففناهما بنخل و جعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها و لم تظلم منه شيئا و فجرنا خلالهما نهرا و كان له ثمر فقال لصاحبه و هو يحاوره انا اكثر منك مالا و اعز نفرا و دخل جنته و هو ظالم لنفسه قال ما اظن ان تبيد هذه ابدا و ما اظن الساعة قائمة و لئن رددت الي ربي لاجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه و هو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم نطفة ثم سواك رجلا لكن - هو الله ربي و لا اشرك بربي احدا و لو لا اذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة الا بالله ان ترن انا اقل منك مالا و ولدا فعسي ربي ان يؤتين خيرا من جنتك و يرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا او يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا و أحيط بثمره فاصبح يقلب كفيه علي ما انفق فيها و هي خاوية علي عروشها و يقول يا ليتني لم اشرك بربي احدا و لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله و ما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا و خير عقبا». الكهف 44/32 [ صفحه 181] في هذا النص حوار بين الكفر و الايمان و بين العقوق و الوفاء و فيه اشعار بنعم الله الكثيرة علي الناس و فيه تهذيب و تأديب و تعليم و دروس في الاخلاق و السيرة الذاتية لكل انسان والايات المقتبسة هنا كثيرة ناط الله بالرسول ان يشرحها للقوم ليوعظوا بها و ينتهوا الي اتخاذ العبرة منها و ذاك من بعض المهام التي ينهض بها في قومه.«و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله علي كل شي‌ء مقتدرا، المال والبنون زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير املا». الكهف 46/45يلي هذا النص ما سبق ايراده و التعليق عليه و كانه تلخيص لقصة الحور السالف العرض فان الحياة في حقيقة امرها ليست الا مسألة زمن مهما طال فهو قصير و مهما زها و نضر فانه يبيت امام عين الناظر و المشاهد شيئا لا شيئية له و في ذلك تصوير لقدرة الله في ملكوته. ان اعظم العبر التي يوردها القرآن الكريم هي ما يعتمد علي الحواس التي تري و تلمس و تسمع و تبصر... و كان صلي الله عليه و سلم يأخذ بايضاح هذه الحقائق و استعراض ما تنطوي عليه ما عظات و عبر و ذاك هو القصد من تكليف الله اياه أن يضرب الامثال...حقا ان مشغولية النبي و هو في بيئة قومه مشغولية دائمة مستمرة كثيرة السبل و الوسائل و هذا يعني ان اتصال النبي بالجماهير من جاءه منهم و من ذهب هو اليه، انما هو اتصال غير منقطع ابان مسيرة الدعوة علي ان السورة مكية و يعني ذلك ان الاتين الي النبي قليلون و معظم جهده في الدعوة الي الدين وحث الناس علي تقبله و اعتناقه انما يقع ذلك اذ يقصدهم النبي قصدا لا سيما ان كانوا مجتمعين في الكعبة او في مجالسهم او في القري التي يشخص اليها و هم هناك، و ذاك من صميم عمل الرسل منذ ظهور الرسالات فلله هذا النبي في مواصلته دعوة قومه الي الايمان لا يفتر عن ذلك الليل و النهار.«و اضرب لهم مثلا اصحاب القرية اذ جاءها المرسلون، اذ ارسلنا اليهم اثنين فكذبو هما فعززنا بثالث فقالوا انا اليكم مرسلون، قالوا ما انتم الا بشر مثلنا و ما انزل الرحمن من شي‌ء ان انتم الا تكذبون قالوا ربنا يعلم انا اليكم لمرسلون، و ما علينا الا البلاغ المبين، قالوا انا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم و ليمسنكم منا عذاب اليم قالوا طائركم معكم أان ذكرتم بل انتم قوم مسرفون». سورة يس 19/13في هذا النص اشارة الي بعض معاناة الانبياء الاقدمين في مواجهة اقوامهم فقد كانوا يتحملون اللسان السليط و المجابهة العارية من الرفق و المثخنة بالزجر و قبيح القول و قد امر الله نبيه ان يذكر ذلك في المثل الذي يضربه لقومه بحيث كان بعض الانبياء يبعثون الي اقوامهم بالجملة (اذ ارسلنا اليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) علي ان رسول الله صلي الله عليه و سلم كان وحده في الساحة يتلقي من قومه من ضروب الاذي ما يتلقي مما كان يوصيه الله بالصبر عليه...في هذه الامثال التي امر الله نبيه ان يضربها للناس دروس و احكام و عظات و عبر و لم يرد في موضوع المثال التي امر الله نبيه بضربها غير هذه المواقع الثلاثة و لا يعني ضرب المثل ان يقرأ النبي عليهم الايات دون شرح و تأويل و عرض للشريعة بالكلام الذي يتطلبه الموقف لا سيما في البيئة المكية.

باب آيات الاتباع

فريق كبير مما نزل من آيات الذكر الحكيم جاء علي هيئة خطابات و اوامر الهية وجهت الي الرسول الاعظم محمد بن عبد الله صلي الله عليه و سلم من مثل (قل) و من مثل «واتل» «و بشر» «و سبح» «واصبر» «وادع» و بعض هذه الاوامر جاءت مسبوقة ب «لا الناهية» و من هذه الصيغ. الصيغة التي استعمل فيها فعل الامر «واتبع» مما نحن شارحوا [ صفحه 182] آيات قرآنية وردت علي هذا الوجه و هذه الهيئة مما يعلم به ان الاسلوب القرآني اسلوب تحكم فيه الجانب البلاغي فكان علي مستوي بياني عال و كان ذلك من بعض معالم الاعجاز في كلام الله رب العالمين...«الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون»... الاعراف/157في عرض ما قصه الله في القصص القرآني ايام العهد المكي جاءت الاشارة عند الكلام علي موسي عليه‌السلام الي أن الله خاطب موسي في شي‌ء مما يتعلق بنبينا محمد صلي الله عليه و سلم و قد جاء وصف القرآن المنزل عليه بأنه النور الذي انزل معه... و نوه بالذين يتبعون هذا الرسول النبي الامي. و الاتباع هو مطلق الانقياد و الالتزام بالسمع و الطاعة... و في النص بعض سمات العقيدة التي يحمل النبي رسالتها الي الناس و منها أنه يحرم الخبائث و يحل الطيبات و يضع الاغلال عن الناس. و امتدح الله الذين يؤمنون به و الذين يعظمونه و يجلونه و وصفهم بأنهم المفلحون...«نحن اعلم بما يستمعون به اذ يستمعون اليك و اذ هم نجوي اذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا»... الاسراء/47المراد بالظالمين من اسرف في مواجهة الرسول بالعداوة اذ كانوا يلاحقون المؤمنين مستهجنين أنهم اتبعوا رجلا مسحورا... و كان القوم يتهمون النبي آونة بأنه ساحر و أونة بأنه مسحور و ذاك من فرط تخليطهم و ابتغائهم الحجة التي يحتجون بها لانكار نبوة النبي انكارا من غير علم و لا تبصر و انما هو انكار قائم علي البغي و التعسف و العدوان و الجهل...و قد تكررت هذه المقولة التي لا محتوي فيها من الجدل السديد في مواقع اخري من التنزيل اذ جاءت في سورة الفرقان الاية الثامنة «و قال الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا» مما يفهم منه أنهم استطابوا مقولتهم هذه ولكن الله في مواجهة ذلك ألقي عليهم صفة الظالمين اي الباغين و المعتدين الناشزين عن العدل و الانصاف و الراكبين متن الجهل و الضلال.و قد كان القوم علي اصرار شديد باتباع آبائهم و التمسك بأهوائهم و رفض دعوة من يدعوهم الي الهدي و الرشاد و هذا في قوله تعالي: «و اذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم الي عذاب السعير» لقمان/21... و مثل ذلك الاية السبعون بعد المئة من سورة البقرة «و اذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون»...«اتبع ما أوحي اليك من ربك لا اله الا هو و أعرض عن المشركين»... الانعام/106 الامر الالهي الذي يوجهه الله الي نبيه يحتوي دعوة النبي الي اتباع ما انزل الله عليه و ما اوحاه اليه، و لم يكن النبي منصرفا الي اتباع شي‌ء غير هذا ولكن النص القرآني جاء بلفظ الاتباع لبيان اهمية القرار الالهي المنزل علي النبي و وجوب الالتزام بوحيه تعالي فان ذلك يظهر النبي امام القوم بأنه لا يتلوا النص القرآني علي ما جاء من آيات الامر بالتلاوة فحسب بل انه يوجب عليه ان يتبعه و يستمسك به... [ صفحه 183] و في النص مما يقوي الامر بالاتباع قوله تعالي في نهاية الاية «و أعرض عن المشركين» فان الاعراض عن المشركين يعني الانصراف عن اقوالهم التي يقولونها في مواجهاتهم النبي و في اخذهم باللغط و الجدل الفارغ في رد دعوة التوحيد...و قد ظهر أن النص القرآني يرد في توكيد رسالة الرسول و في دعوته عليه‌السلام الي التمسك بالوحي الموحي اليه من ربه كلما حاول الكفار و المشركون اغراء النبي بالعدول عن دعوة القوم الي توحيد الله و رفض عبادة الاوثان و لم يكن ذلك ناشئا عن ميل النبي الي شي‌ء من هذا، ولكن في امر الله النبي بالتمسك بالوحي و اتباعه ما يروع المشركين و يخيب رجاءهم الذي يسعون اليه في معركة الشرك و الايمان و كأن ما تكون هذه النصوص الواردة باتباع الوحي والاستمساك به معلنة أن الله عزوجل هو مع نبيه في صميم المعركة لذلك يظل يؤازر نبيه و يشد عزمه و يقوي رجاءه و يضمن له التوفيق كله في مسعاه...و مثل ذلك النص الذي في سورة يونس الآية التاسعة بعد المئة و هو قوله تعالي «واتبع ما يوحي اليك واصبر حتي يحكم الله و هو خير الحاكمين» يونس/109...«ثم اوحينا اليك ان‌اتبع ملة ابراهيم حنيفا و ما كان من المشركين»...النحل/123جاء الامر باتباع النبي ملة ابراهيم مقرونا بكلمة الوحي التي هي «ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا و ما كان من المشركين»... ان اتباع النبي ملة ابراهيم لم يكن علي جاري عادة الحنفاء في الاخذ بما كان عندهم من سنن ابراهيم و بقية وصاياه و تعاليمه و انما كان الله عزوجل قد اوحي الي نبيه باتباع ذلك و كان هناك من يظن أن النبي تابع الحنفاء علي مألوف عباداتهم تلك الايام...ان في اتباع النبي ملة ابراهيم و تكرر اسم اب الانبياء ابراهيم عليه‌السلام في القرآن ما ينوه بقوة آصرة النسب بين الامة العربية و بين ابراهيم عليه‌السلام «ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل» الحج/78... و في ذلك اي في هذا النهج القرآني المتعلق بتثبيت سيرة ابراهيم في الثقافة العربية ما يخرس ألسنة اليهود و غيرهم من اللهج بأنهم ابناء ابراهيم دون يعترفوا للاخرين بهذه النبوة و كان اليهود يزعمون يهودية ابراهيم فرد القرآن عليهم قائلا: «ما كان ابراهيم يهوديا و لا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما و ما كان من المشركين» آل‌عمران/67... و في المصادر العربية و اشعار القوم ما يؤكد هذه الصلة توكيدا تاما. و في النسب النبوي ما يدل علي ذلك دلالة قاطعة و في التوراة ما ينم عن ذلك و يومي‌ء اليه...«واتبع ما يوحي اليك من ربك ان الله كان بما تعملون خبيرا»... الاحزاب/2الامر الالهي موجه الي الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم و هو يأمره بأن يتبع ما يوحي اليه ليس فيه ما يومي‌ء الي أن النبي لم يكن ملتزما باتباع ما يوحي اليه ولكن النص جاء بقصد التركيز علي هذا الاتباع و ان كان النبي آخذا بهدب هذه الوصية و متمسكا بما يوحي اليه... و لما كانت الشريعة هي شريعة الامة و أن الامة هي التي تتلقي احكام الوحي من الرسول و هي محل الطاعة و العصيان و القبول و الرفض و لذلك انتقل الكلام من مخاطبة شخصية مفردة هي شخصية الرسول صلي الله عليه و سلم الي جهة اخري هي جهة الاتباع و الاقوام الذين [ صفحه 184] جاءهم النبي بالشريعة. لانهم يكون فيهم المحقون المحقوقون.من ابواب البلاغة القرآنية الانتقال او الالتفات بحيث يكون الخطاب لجهة ثم ينتقل الي جهة اخري و من ذلك هذه الاية: «واتبع ما يوحي اليك من ربك ان الله كان بما تعملون خبيرا»... الاحزاب/2 أن الالتفات في هذا النص من مخاطبة الرسول الي مخاطبة من ارسل اليهم تستوجبه القرائن البيانية. فان ما اوحاه الله الي نبيه انما اوحاه ليبلغه الي هؤلاء الناس الذين خاطبهم قائلا «ان الله كان بما تعملون خبيرا»...و لم يكن من طبيعة الخطاب القرآني أن يرد النص بما يجعل الخطاب هنا موجها الي النبي و ان كان النص قد بدأ بمخاطبة النبي...«ثم جعلناك علي شريعة من الامر فاتبعها و لا تتبع اهواء الذين لا يعلمون»... الجاثية/18يشير النص القرآني هنا الي أن النبي محمدا صلي الله عليه و سلم تلقي من ربه شريعة متكاملة و قد أمر باتباعها و نهي عن اتباع ما سواها «و لا تتبع اهواء الذين لا يعلمون»... نفهم من هذا أن الله عزوجل احكم آيات كتابه احكاما تاما و كان يتولي هذا القرآن الكريم بحفظه و رعايته و صيانته و حمايته بما كان يلقيه علي رسوله من التنبيهات و التحذيرات و بذلك كان هذا القرآن المعجز للعالم...ان كلمة «ثم» جاءت في اول النص لبيان أنها جاءت لحل اكثر من مشكلة كانت قائمة هناك و في الايات التي سبقت هذه الاية ما يدل علي ذلك «و اتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ان ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»...«لا تحرك به لسانك لتعجل به، ان علينا جمعه و قرآنه، فاذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم ان علينا بيانه»... القيامة 19/16علم الله نبيه كيف يتلقي القرآن الكريم حين يوحي اليه و كيف يتلوه عندما يتلوه في صلاة و غير صلاة. و النص و ان كان مخاطبا به النبي وحده فان في ذلك ما يومي‌ء الي تعليم الامة كيف تقرأ قرآنها و كيف تتلوه: «لا تحرك به لسانك لتعجل به، ان علينا جمعه و قرآنه» والجمع و القرآنية مما تكفل به الباري عزوجل. و يؤيد ذلك قوله تعالي «انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون» الحجر/9... و قوله تعالي «فاذا قرأناه فاتبع قرآنه» بيان بأن النبي صلي الله عليه و سلم يتلقي القرآن بقلبه و بسمعه. يجد آياته تطبع في صدره و يراها تتموج في ذهنه و بذلك تكون رواية النص القرآني من اصدق من روي نصا و نقل قولا... فالوحي القرآني وصل الي الامة عن طريق رسولها و هو في حرز حريز من كل تعديل و تغيير... «ثم ان علينا بيانه» و المراد بالبيان تنوير بصر النبي و قلبه بما وراء هذه النصوص من احكام الهية مفصلة تنقل الي النبي من غير طريق النص المتلو...ان ورود هذا النص في السور المكية دليل علي أن التوعية الالهية للرسول الاعظم كانت منذ بدء الوحي في العهد المكي مما يدل علي أن الرسول الاعظم لم يقع منه شي‌ء من التقصير في التلاوة و ذاك لان الله تداركه منذ الهزيع الاول. و لو جاء هذا النص في سورة مدنية لربما قال قوم من خصوم الدعوة الاسلامية. ان النبي وقع منه أن نقل القرآن غير متثبت منه نصا و منطوقا و ما اكثر ما يزعم الخصوم و ما اكثر ما يفترون علي الله الكذب و هم يعلمون... لا سيما فريق من المستشرقين... [ صفحه 185]

في باب الاوامر

«خذ العفو [56] و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين»... الاعراف/199يتضمن هذا النص حثا علي آداب اخلاقية محمودة هي الاخذ بالعفو و التسامح واللين و خفض الجناح للناس من اعتذر و من لم يعتذر... و التعامل بالحسني مع مستحقيها و غير مستحقيها و الاعراض عن الجاهلين أي ان الله يوصي نبيه بأن لا يجسم زلات الجاهلين و يحملهم مسؤولياتها فان كثيرا من هؤلاء قد يدركون اخطاءهم فيلوذون بالاستغفار و التوبة و تصحيح الاعمال. و النص و ان كان مخاطبا به الرسول صلي الله عليه و سلم فهو مما يقع الخطاب به ايضا لسائر افراد الامة لان التخلق بهذه الاخلاق يفيد الجميع... و قوله تعالي «خذ» اي تمسك...«خذ من اموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم و الله سميع عليم»... التوبة/103كلمة «خذ» هنا تدل علي أن الرسول صلي الله عليه و سلم كان يومذاك في مركز القوة و النفوذ لان اخذ الاموال قلت او كثرت أمر يتطلب القدرة علي اخذها و انتزاعها من ايدي اصحابها و هذا الاخذ أخذ تقضي به الشريعة مع أن أخذ هذه الاموال انما يتم من اجل تطهيرهم و تزكيتهم لانها - أي الاموال - انما تؤخذ منهم لتوزع علي ذوي الاستحقاق من الفقراء و المملقين و اليتامي و المساكين و غيرهم... و قوله عز من قائل «وصل عليهم»... اي ادع لهم و تشفع فيهم فان لهم في ذلك الخير الكثير...

باب حرض المؤمنين

التحريض هو الحث بقوة و شدة و اقناع و اغراء فاذا حرضت رجلا علي قوم فان عليك أن تعرف كيف تغري هذا الرجل باولئك القوم و كيف تقر في نفسه الامر الذي تريد تحقيقه. فلابد اذن من بذل جهد و اطالة كلام و معاودة و مراجعة لكي يثمر ذلك ثمرة في الذين تدعوهم الي ما تريد و حين يأمر الله نبيه بتحريض قوم علي القتال فان ذلك يتطلب من النبي أن يعتمد علي طاقة الاقناع التي لديه في جر القوم الي القتال و حين يأمر الله نبيه بتحريض المؤمنين علي قتال المشركين فانه لا يلزمه باتخاذ خطة معينة أو يلقنه استعمال اسلوب محدد في هذا الوجه لذا تبقي المهمة يعتمد النبي [ صفحه 186] في تحقيقها علي اقتداره الشخصي و بذلك نعلم أن النبي كان محل ثقة الله لينهض بأخطر المهام التي يأمره بها ولدينا من آيات التحريض ما ندونه في هذا الباب.«فقاتل في سبيل الله لا تكلف الا نفسك و حرض المؤمنين عسي الله ان يكف بأس الذين كفروا و الله أشد بأسا و أشد تنكيلا»... النساء/84من استيعاب معاني هذا النص نري ان الامر غير هين اذ جاء فيه ما يصور شدة البأس لدي المشركين و انهم كانوا يتوخون ببأسهم هذا ايذاء المؤمنين و من اجل كف بأسهم عن المؤمنين فانه يجب علي المؤمنين الوقوف في وجه اولئك الخصوم الذين يتميزون علي ما يبدو بشراسة الية و مثل ذلك يتطلب أن تتجه قيادة الامة الي تجميع جمع يحسن اللقاء و يجيد القتال و يصبر في ساحة المواجهة و مثل ذلك يتطلب ما سماه الله بتحريض المؤمنين فكانت مهمته صلي الله عليه و سلم ان يخاطب القوم بكلام من شأنه في مثل هذه الملمات ان يكون طويلا و مؤثرا و باعثا للهمم الراكدة و كان ذلك كذلك. و انما كان ذلك كذلك لما كان عليه الرسول صلي الله عليه و سلم من اقتدار في الاقناع و الخطابة و كذلك ما كانت عليه شخصيته من اتصاف بالهيبة و قوة التأثير و فصاحة اللسان و بذلك كان قوله تعالي «و حرض المؤمنين» كائنا في مكانه الطبيعي و واقعا في موقعه الحقيقي و لو لا ذلك لكان التحريض آتيا من عند الله بصيغة خاصة... النبي اذن هو الذي علقت به مسؤولية التحريض بدءا و ختاما... و بدأ النص كما يلاحظ بصدور الامر الي النبي بالقتال و بديهي أن النبي انما يقاتل بجيش يجيشه و يسلحه و ينظم تحركه و توقفه فكان في ذلك التحريض علي ذلك و هو امر كان علي النبي ان يتدبره بنفسه و يواجهه ببيانه و اقتداره الخطابي و هو صلي الله عليه و سلم ذو قدرة علي ذلك و اهل له...«يا أيها النبي حرض المؤمنين علي القتال ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين و ان يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون»... الانفال/65بدأ النص بتسمية النبي و مخاطبته بهذه التسمية و نيط به أن يحرض المؤمنين علي القتال. و قد يعد من مطالب التحريض و مفرداته أن يكون علي مستوي المعركة و أن تستثار فيه عزائم المحاربين و هكذا كان الامر في تلك المعركة اذ جعل علي كل مقاتل أن يكون كفأ لعدد من جند الاعداء حدد بالنص ثم أعيد تحديد هذا العدد الي اقل من ذلك بما تبقي به كفة المؤمنين راجحة و قد ذكرنا ذلك و فصلنا الكلام عليه في مكان آخر من الكتاب غير هذا المكان...لقد ترك الله امر التحريض علي القتال الي النبي يتولاه بما عنده من اقتدار قيادي و مهارة عسكرية ثقة منه تعالي بما يملكه نبيه من هذه الاقتدارات و لو لا ذلك لفصل الكلام في مفردات هذا الموضوع كل تفصيل...

باب و ما يدريك

ما جاء من هذا الحرف في القرآن الكريم لم ترد الاجابة عليه بشي‌ء واضح و ظل منكتما و كأنه من الاسرار التي لم يحن الوقت لافشائها و توضيح مقاصدها و معانيها، فان قوله تعالي في الجمل القرآنية التي وردت فيها كلمة «و ما يدريك» و في هذه النصوص ظل بعيدا عن الشرح و التأويل. و الجواب لان في ذلك من بعض مالا يحسن افشاؤه الي يوم يحين امر الله لا فشاء ذلك و كان من اسباب نزول هذه النصوص في شأن الساعة أن القوم اكثروا من الاستفسار عنها و ذلك في قوله تعالي «يسألك الناس عن الساعة قل انما علمها عند الله و ما يدريك لعل الساعة تكون قريبا» الاحزاب/63... «الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان و ما يدريك لعل الساعة قريب» الشوري/17و قد نزل نص قرآني آخر و فيه هذا الحرف اي «و ما يدريك» في الاعمي الذي اشارت اليه سورة [ صفحه 187] عبس و تولي و هو قوله تعالي «و ما يدريك لعله يزكي أو يذكر فتنفعه الذكري» عبس 4/3... فانه رغم ظهور ايمانه و اعلان اسلامه فانه لم يتكشف لاحد ما يدل علي تزكيته او انتفاعه من التذكر و علي هذا ظلت صيغة «و ما يدريك» تجول في مجال واحد. علي أن النبي صلي الله عليه و سلم لم يكن يدري من امر ايمان الرجل شيئا... و في استعمال صيغة «و ما يدريك» في هذه النصوص ما يومي‌ء الي نوع من التحاور شاء الله أن يجعله بينه و بين رسوله تعبيرا عن التبسط في مخاطبته صلي الله عليه و سلم و لم يقع مثل هذا التبسط في مخاطبة أحد من الانبياء سواه...

باب و ما أدراك

ما جاء في التنزيل بلفظ «و ما ادراك» يكون له جوابه في ذات النص «و ما ادراك ماهية، نار حامية» القارعة 11/10... و مثل ذلك «و ما ادراك ما يوم الدين ثم ما ادراك ما يوم الدين» الانفطار 18/17. فلفد جاء بعد ذلك جواب للتفسير «يوم لا تملك نفس لنفس شيئا... الانفطار/19... و جميع ما جاء من هذه الصيغ في القرآن كان متبعا للتفسير و الرد علي السؤال... و في ما يلي الايات المنزلة في هذا المعني...«الحاقة، ماالحاقة، و ما ادراك ما الحاقة، كذبت ثمود و عاد بالقارعة، فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، و أما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية ايام حسوما فتري القوم فيها صرعي كانهم اعجاز نخل خاوية، فهل تري لهم من باقية»... الحاقة 8/1.«ان هذا الا قول البشر، سأصليه سقر، و ما ادراك ما سقر، لا تبقي و لا تذر، لواحة للبشر، عليها تسعة عشر»... المدثر 30/25«لأي يوم أجلت، ليوم الفصل، و ما أدراك ما يوم الفصل، ويل يومئذ للمكذبين»... المرسلات 15/12«يصلونها يوم الدين، و ما هم عنها بعاتبين، و ما ادراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله»... الانفطار 19/15«كلا ان كتاب الفجار لفي سجين، و ما أدراك ما سجين، كتاب مرقوم، ويل يومئذ للمكذبين»... المطففين 10/7«كلا ان كتاب الابرار لفي عليين، و ما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون، ان الابرار لفي نعيم، علي الارائك ينظرون»... المطففين 23/18«و السماء و الطارق، و ما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب»... الطارق 3/1«فلا اقتحم العقبة، و ما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو اطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة»... البلد 16/11«انا أنزلناه في ليلة القدر، و ما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر»... القدر 3/1«فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية و أما من خفت موازينه، فأمه هاوية، و ما أدراك ماهية، نار حامية»... القارعة 11/6«كلا لينبذن في الحطمة، و ما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلع علي الافئدة، انها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة»... الهمزة 9/4ان صيغة «و ما ادراك» تعني زيادة معلومات النبي في مثل هذه القضايا التي تبدأ بالاستفهام عن معني الحرف و الرد عليه بجواب يأتي بايضاح شاف... و من تمام اهمية الموضوع أن يأخذ الله بيد نبيه اليه ليوقفه علي ما هناك من تقديرات عظيمة و اسرار الهية كبري... [ صفحه 188]

باب صاحبكم

وردت في القران الكريم كلمة «صاحبكم» غير مرة في معاني يرد بها علي كفار مكة فان وصف النبي بصاحبهم يومي‌ء الي انه صلي الله عليه و سلم كان قائما بينهم و ظاهرا فيهم فاذا نبزوه بالسحر أو الجنة و ما الي ذلك فان الكذب و الاختلاق في ذلك ظاهر كل الظهور. و اتهامات الامم لرسلها انما تعتمد علي عقائدها المتوارثة من آبائها و أسلافها اذ جاءت الرسل لابطالها و نقضها في اقوامهم و بذلك يري الكفار ان الغاية تبرر الوسيلة... و كلمات السب و الشتم بين الناس يكثر فيها الافتئات و القاء الكلام علي عواهنه و الشعر يعتمد في الهجو علي افتعال التهم و اختلاق المساوي‌ء لتحطيم شخصيات الخصوم.و مما جاء في القرآن الكريم مما وردت فيه كلمة «صاحبكم» ما نسرده هنا:«ما ضل صاحبكم و ما غوي، و ما ينطق عن الهوي».والنجم 3/2ايراد كلمة «صاحبكم» هنا يومأ بها الي أن النبي عرف في قومه بالصدق و لم يكن قد ظهر علي لسانه من الكذب شي‌ء في سائر تعامله مع الناس...و علي هذا لا يصح اتهامه بانه ادعي ما ليس بحقيقة لان من عرف بأنه ألف الصدق و اطمأن الناس الي صحة كلامه و ائتمنوه علي مهمات حياتهم من مال و غيره فانه حري ان لا ينسب الي الكذب و الزور في سائر ما يقول...«و ما صاحبكم بمجنون». التكوير/22ورد الجنون عن النبي في هذا المقام جاء ردا علي القوم اذ زعموه مجنونا حين جاءهم بالدين الذي يدعوهم الي التوحيد و ما اليه... و قد عرف في تاريخ كثير من الشعوب اتهامهم المصلحين من رجالهم بالجنون فبات ذلك في حكم ما أتفقت الامم الجاهلة عليه في مواجهة المصلحين و الرسل و غيرهم...«أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ان هو الا نذير مبين». الاعراف/184ادعاء الجنة في شخص ما يتطلب ان تكون هناك مقدمات و شواهد و أدلة علي الحالة الجنونية التي يتهم بها من يقال فيه ذلك...وعاب النص القرآني علي القوم من مدعي ذلك انهم قالوا قالتهم في النبي من غير تفكير و مراجعة فلو فكروا في الامر و راجعوا مزاعمهم تلك لما قالوا ما قالوه في نبز النبي بالجنة... و انما امرهم الله بالتفكير في مقولتهم هذه من اجل ما يترتب علي اتهام احد بالجنة من اضرار جسيمة كثيرة منها اسقاط شخصيته و هدر انسانية و منع الناس من الوثوق به و الاعتماد عليه و العمل علي اضاعة جهده و الحط من كرامته و في ذلك من الظلم ما فيه. و كانت الشعوب القديمة تقسو بحق المجانين و تسلط عليهم صبيانها و تعاملهم معاملة الحيوانات و تخرجهم من دائرة بني الانسان و هذا كله من بعض ما كان يريده من يتهم الانبياء بالجننون الا أن وضوح الحكمة في مقولات الانبياء و حسن تبصرهم و رعاية الله لشخصياتهم كانت في مقدمة ما احبط الله به كيد خصومهم و ها نحن أولاء نري بعد اربعة عشر قرنا كتاب الله الذي جاء به محمد بن عبدالله لا شي‌ء فيه مما يظهر عليه أثر من الجنة أو يستدل بها علي حالة من حالاتها او لون من ألوانها... و يبدو ان الناس بعد حين أمسكوا عن تكرار مثل هذا الزعم. اذ وجدوه لا يفيدهم شيئا في تبشيع الرسالة التي جاء بها النبي و لا في صرف الناس عنه صلي الله عليه و سلم فان هذه التهمة و ما من قبيلها إنما هي من الباطل الذي تكون له جولة واحدة ثم يضمحل كل الاضمحلال...ان ادعاءات الجنة في النبي لم ترد الا في السور المكية، اما السور المدنية فالامر هناك خرج من التعامل بالمهاترة الي التعامل بمواجهة الجد و الواقع، و لكل قبيل من اهل مكة و المدينة نهج في الجدل و الخصومة... [ صفحه 189] «قل انما اعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثني و فرادي ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ان هو الا نذير لكم بين يدي عذاب شديد»... سبأ/46في رد ما زعموه من جنة النبي جاء وعظهم في النص بان يبتعدوا عن مجلس الاتهام ليكونوا احرارا في التفكير في الموضوع بعيدا عن التاثر و الالتزام بمبدأ التضامن العشوائي بما سبق من وقوع اتفاقهم علي ادعائهم ما بالرسول من جنة... اي ان يخرجوا عن دائرة الارتباط الجماعي التعسفي للفئة التي ارادت نبز النبي بالجنة بالحق و بالباطل... و هذا ما عناه النص القرآني من دعوتهم الي التفرق الي اكثر من مجموعة و النظر بعيدا عن المؤثرات المؤثرة فيهم ليظهر الحق بذلك بعيدا عن سلطان القرار الجماعي المتعسف و قد أشرنا الي مثل ذلك في مكان اخر...في قوله تعالي «ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا» التوبة/40 و الكلام وارد في حق ابي‌بكر الصديق رضي الله عنه فلقد كان ابوبكر حقا ذا صحبة للنبي منذ أيام الشباب الاول... فهي صحبة كائنة و ليست مفترضة و قد جاءت تحكي الواقع التأريخي لعلاقة الصداقة بين النبي و ابي‌بكر... و ما سبق من الاشارة الي امر الصحبة في قوله تعالي «و ما صاحبكم» انما هو للتقريع...

باب سبح

ان التوصية الالهية الموجهة الي الرسول الاعظم بالتسبيح تكررت في القرآن الكريم و قد حدد النص القرآني مواقع ذلك في بعض الاحيان فانه أشبه بالورد اليومي الذي يؤدي او يراد تأديته في الليل عند الاختلاء و عند الفراغ من هموم النهار و مطالب الحياة و بالتسبيح ملامح و معالم من الاقرار بوحدانية الله و عظم سلطانه و كبير مغفرته و حسن اللياذ به و الاعتماد عليه في الرزق والصحة والامان و انجاح المطالب و الوصول الي الغايات والنجاة من محن الزمان و غدرات الايام. و في التسبيح كذلك صدق التعلق بالله و نشدان رحمته و مغفرته مع خلو ذلك من ظنون الرياء لانه غالبا ما يكون في الليل و الناس نيام او يكون بلسان القلب الذي لا تسمعه الناس انما يسمعه الله و لو سمعته الناس فهو في موضع التعليم و التلقين و الهداية و الارشاد... ان التسبيح نوع من التوبة المستمرة و للتوبة المستمرة عند الله شأن عظيم. ان الامر بالتسبيح اذ يطالب النبي به في كل حين انما هو نوع من اشغال الزمان بما يعد من غذاء الروح و مستلذ الطاعات. و تفهم من هذا أن النبي كان كثير اللهج بتسبيح الباري و تنزيهه و حسن الظن به. و فيما يلي ما نشير اليه من آيات التسبيح: -«واذكر ربك كثيرا و سبح بالعشي والابكار». آل‌عمران/41في هذا التسبيح جاءت الاشارة الي أنه ورد يؤديه النبي من أول يومه الي نهايته و هو من الاعمال التي تؤدي في الصلاة و خارج الصلاة... و النص مدني...«و لقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك و كن من الساجدين». الحجر 98/97في هذا الامر بالتسبيح تصبير للنبي علي ما يسبب له من ضيق الصدر بفعل مواقف المشركين منه و تحدياتهم اياه. و المراد بالسجود في هذه الآية مطلق الرضا باقدار الله و الاطمئنان الي لطفه و رحمته.«و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و من اناء الليل فسبح و أطراف النهار لعلك ترضي»... طه/130في هذا النص امر للنبي للتسبيح بما يكاد يستغرق اليوم كله من غير انقطاع عنه مما يتأتي منه ديمومة الابتهال الي الخالق و اللجوء اليه و الاستمداد من عونه و لطفه و سلطانه...«و توكل علي الحي الذي لا يموت و سبح بحمده و كي به بذنوب عباده خبيرا». الفرقان/58 [ صفحه 190] جاء الامر بالتسبيح مقرونا بكلمة الحمد مما يعني أن يكون التسبيح في معني الشكر و الثناء علي الله لان الحمد غالبا ما يكون تجاه ما يستحق الحمد.«فاصبر ان وعد الله حق و استغفر لذنبك و سبح بحمد ربك بالعشي و الابكار»... المؤمن/غافر/55جاء الامر بالتسبيح بحمد الله مقرونا بالدعوة الي الاستغفار و الي الصبر و مع التنبيه الي الزمن الذي يقع فيه هذا التسبيح و هو العشي و الابكار. و ما جاء من كلمة الاستغفار يراد به الاشارة الي ما كان يقع من النبي ابان العهد المكي من التضجر و التشكي من سوء مواجهات قومه له...«و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل الغروب و من الليل فسبحه و ادبار السجود». ق 40/39تعني كلمة التسبيح هنا شكر الله علي رعايته نبيه. و اذ لم تكن الصلاة جماعة في العصر المكي بالحجم الذي عرف في المدنية، فان النبي كان يسبح لله بعد السجود لما مكنه الله من ادائه علي نحو ما امره الله أن يؤديه... و في الاشارة الي طلوع الشمس و الغروب تنويه بسلامة النظام الكوني الذي هو من صنع الله. اذ انه متصل منذ بدء الخليقة الي نهايتها و فيه دلالة علي حسن خلق الله و دقة تصرفه في ملكوت السماء و الارض. و ان الانسان ليري من جميل الشكر للخالق العظيم أن يسبحه قبل طلوع الشمس حين يأخذ الكون بالاضاءة و الابيضاض بعد ظلمته فتبدو معالم الحياة زاهية و جميلة شيئا فشيئا في انظار الناس و التسبيح قبل الغروب اذ ينتهي اليه النهار و تنتهي اليه شمسه اي الي عالم جديد يختلف كل الاختلاف و عالم النهار و ان سلطان الله في التصرف في كونه يبرز في مثل هذه اللحظات الدقيقة و ذاك مما يحسن فيه التسبيح و تمجيد الله و اعظام شأنه.و في ذلك من تربية النبي و ترويض لسانه علي تسبيح الخالق و صرفه الي التذوق بجمال الكون و الحياة في كل لحظة من لحظات هذا الكون و الحياة...«و اصبر لحكم ربك فانك بأعيننا و سبح بحمد ربك حين تقوم، و من الليل فسبحه و ادبار النجوم». الطور/ 49  48ما يكون للنبي صلي الله عليه و سلم من فراغ زمني في ليله او نهاره فانه كان يشغله بالتسبيح لله تعبيرا عن مصيره لما يلقي من اذي قومه رغم اطمئنانه الي أنه محل رعاية ربه. و قوله تعالي: «حين تقوم» أي تقوم الي صلاتك او بعض عملك فان في هذا التسبيح عونا علي ذلك و هذا من تسبيحات النهار و قد اضيف اليه الامر بتسبيحات الليل: «و من الليل فسبحه»... و يفهم من هذا ان النبي صلي الله عليه و سلم كان يألف صلاة التهجد و يؤديها منذ العهد المكي...«فسبح باسم ربك العظيم». الواقعة/74 [57] .الامر بالتسبيح هنا انما هو تسبيح باعلان الشكر لله ازاء ما صنعه في الخلق من تدبير الامر و حسن تخليق الخلق و ما جعل في الارض من ضوابط انتظم بها عقد الكائن البشري لهذا العالم و ذاك أن هذا الامر بالتسبيح قد سبق بقوله تعالي في ذات السورة: «أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه ام نحن الخالقون، نحن قدرنا بينكم الموت و ما نحن بمسبوقين، علي أن نبدل امثالكم و ننشئكم في مالا تعلمون، و لقد علمتم النشأة الاولي فلولا تذكرون، أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه ام نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون، انا لمغرمون، بل نحن محرومون، أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجا فلو لا تشركون، أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم انشاتم [ صفحه 191] شجرتها ام نحن المنشئون، نحن جعلناها تذكرة و متاعا للمقوين، فسبح باسم ربك العظيم».الواقعة 58 / و ما بعدها حتي 74التسبيح هنا تسبيح شكر علي الطاف الله بعباده و علي سابغ رزقه الذي رزقهم به و علي ما اودع في حياة الاحياء من خير...«ان هذا لهو حق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم». الواقعة 96/95هذا التسبيح فيه معني اعظام العدل في وضع كل شي‌ء في نصابه من حق و باطل و قد جاء ذلك بعد قوله تعالي «فأما ان كان من المقربين، فروح و ريحان و جنة نعيم، و أما ان كان من اصحاب اليمين، فسلام لك من اصحاب اليمين، و أما ان كان من المكذبين الضالين، فنزل من حميم، و تصلية جحيم، ان هذا لهو حق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم» الواقعة / 969594939291908988.«و انه لحق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم». الحاقة / 5251الضمير في - انه - يرجع الي القرآن الكريم...و التسبيح باسم الله العظيم تسبيح اعظام و اجلال للخالق علي ما كان من نزول القرآن و اعزاز امر المؤمنين و اذلال الكافرين... و قد يكون التسبيح ابتداء و اغراءا و قد يكون انتهاءا و جزاءا أي نتيجة أمر من الامر يستوجب شكران النعمة و تمجيد المنعم و اللهج بما يرضي الله من خالص الطاعات. و كريم الثناء عليه بله ثناءه...«سبح اسم ربك الأعلي، الذي خلق فسوي، و الذي قدر فهدي، و الذي اخرج المرعي فجعله غثاءا أحوي». الاعلي 5/1هذا التسبيح و ان جاء ابتداءا فانما هو في شكر الله و تمجيده علي ما من به علي خلقه من كبير نعمه و كثيرها...و هي نعم تستوجب التسبيح و من عادة النص القرآني عند الامر بالتسبيح و التوصية به أن تذكر موجبات ذلك و هذا ما وجدناه في سورة الاعلي...«فسبح بحمد ربك و استغفره انه كان توابا»... النصر/3الامر بالتسبيح هنا يأخذ صفة الجزاء و الشكران علي ما حققه الله للنبي و للأمة من الانتصار علي الشرك و اهله و دخول الناس في دين الله افواجا في حين كانوا يدخلون فيه فرادي مع الخوف من تربص الاعداء و اذي الخصوم...ان كلمة التسبيح لا تعني ان يقع ذلك مرة او مرتين و لا تعني أن يقع ذلك غب الفتح الذي تحقق و انما ينبغي ان يظل هذا التسبيح مستمرا ابد الاحابين و جاء التسبيح مقرونا بالاستغفار تطمينا الي مرضاة الله عن نبيه في فترة الدعوة الي الدين و حمل رسالته الي العالمين عبر العهد المكي و المدني...لقد علمنا أن الرسول كان يتلقي علي مدي ساعات ليلة و نهاره الاوامر الالهية لاداء المهام التي يلزمه الله بادائها و قد كان بعضها يرد بلفظ غير الذي يرد ما سواه حتي احصينا عدة الفاظ في هذا الامر منها امر التسبيح و أمر الابلاغ و أمر البشارة و الانذار و السؤال و الاستفتاء و الذكر و النظر و ضرب الامثال و غير ذلك.

باب ألم تعلم

في بعض الخطابات القرآنية التي خوطب بها الرسول الاعظم ما يرد بلفظ «ألم تعلم» و من ذلك قوله تعالي: «ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها ألم تعلم أن الله علي كل شي‌ء قدير، ألم تعلم أن الله له ملك السماوات و الارض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير» البقرة 107/406.«ألم تعلم» هنا تعني الاستدلال بقدرة الله علي ما يستعبد وقوعه منكروا ذلك. فان آية النسخ هنا تعني الشرائع اذا ان الاسلام نسخ اليهودية [ صفحه 192] و النصرانية - و نسخ كذلك ما كان هناك من اديان قديمة - و أمر نسخهما يتطلب القدرة العالية علي مثل ذلك و لا شك في قدرة الله عليه. و من هنا جاء قوله تعالي «ألم تعلم أن الله علي كل شي‌ء قدير» ثم قال بعد ذلك «ألم تعلم أن الله له ملك السماوات و الارض...»... لذا كانت قدرة الله قادرة علي التحكم في الاديان و غيرها وفق الحكمة الالهية الحكيمة و بذلك كان استعمال «ألم تعلم» في موقع التأكيد و الجزم علي حدوث النسخ في عالم الديانات... و من قال ان هذا النسخ وقع عالم الديانات... و من قال ان هذا النسخ وقع في الآيات القرآنية قلنا ان ذلك لو كان مرادا هنا لما جري الاستدلال علي امكان وقوعه بمثل هذا النص المفصل الدال علي عظيم قدرة الله، و ليس لما قالوه مكان في هذا المكان... «ألم تعلم» استشهاد بالرسول لصحة علمه و قوة شهادته علي ماتم استشهاده عليه صلي الله عليه و سلم فكان ذلك من عظيم ثقة الله به و هو اهل لثقة الله به و من ذلك ايضا قوله تعالي: -«ألم تعلم أن الله له ملك السماوات و الارض يعذب من يشاء و يغفر لمن يشاء و الله علي كل شي‌ء قدير»... المائدة/40ان ملك الله السماوات و الارض و سلطانه علي الكون أمر من بديهيات الامور و قوله تعالي «ألم تعلم» اي ألست متيقنا من علم ذلك و من حقيقته و من أن الله اذ يسلك امر السماوات و الارض فان له فيهما التصرف المطلق. و لذلك جاء في النص «يعذب من يشاء و يغفر لمن يشاء» و التعذيب و المغفرة يتمثل فيهما من صفات الله العنف و اللطف و العقاب و المسامحة والاخذ بالشدة و اللين و هو شأن من يملك شيئا و الله خير المالكين... ان استعمال صيغة «ألم تعلم» استعمال ينوه بقيام امره و وجود شي‌ء معلوم و لا يقع مثل هذا المعني في ان يقال «اعلم» لان هذه الصيغة تنشي‌ء علما جديدا قد لا يكون معلوما من قبل. و قوله تعالي من مخاطبة النبي «ألم تعلم» ما يعد من قبيل الاعتراف بأن ما يخاطب في هذا المعني بهذه الصيغة هو كائن و ثابت و معلوم لديه صلي الله عليه و سلم...«ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء و الارض ان ذلك في كتاب ان ذلك علي الله يسير»... الحج/70في هذا الخطاب الذي هو استفهام تقريري ما يعد تقريعا للناس يومذاك ممن طال عليهم ان يعلموا ان الله يعلم كل شي‌ء. لأن الله عزوجل اراد بمخاطبة النبي بهذه الصيغة ان الامر جدير ان يكون واضحا و معلوما لأرباب العقوب و الالباب. اذ ان ألوهية الاله من شأنها أن تكون محيطة بكل شي‌ء علما. علي ان في النص ابرازا لجانب مما يتصف به النبي من العلم و المعرفة لا سيما في ما يختص بذات الباري‌ء عزوجل و صفاته...

باب فاعلم

من التوجيهات الالهية التي ترد فيما يحمله الوحي الي رسول الله صلي الله عليه و سلم من جديد الامور و الحقائق و ما ينبغي أن يصل الي علم النبي في جمهرة مفردات العقيدة التي يحمل لواءها الي الناس ما يكون مسبوقا او مبدوءا بلفظ «فاعلم» و من ذلك قوله تعالي:«فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم و ان كثيرا من الناس لفاسقون»... المائدة/49«فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدي من الله ان الله لا يهدي القوم الظالمين»... القصص/50ان كلمة «فاعلم» تعني توثيق المعلومات المبلغة للنبي في شأن من تولي و عصي و اساء و كفر فان الله اذ قال لرسوله عند الكلام علي مصير هؤلاء «فاعلم» فان في ذلك اشهادا للنبي علي أن الله صانع بهم ما يستحقون [ صفحه 193] «فاعلم أنه لا آله الا الله و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات والله يعلم متقلبكم و مثواكم»... محمد/19في هذا النص الذي يشير الي وجوب العلم بوجود الله عزوجل نري ملامح التحدي ظاهرد في ذلك اذ انه ورد في أعقاب الكلام علي الذين قال الله فيهم انه طبع علي قلوبهم... ففي كلمة «فاعلم» بيان بقوة هذا المعني و أهمية ايراده اما امره تعالي للنبي بالاستغفار فذاك في مجال التوصية بديمومة الاستغفار في كل حين لما فيه من التقرب المستديم من لطف الله و رحمته...

باب بشر

من الخطابات الالهية الموجهة الي الرسول الاعظم في القرآن المكي و المدني النص الامري الذي هو - بشر -... و للبشارة اثر عظيم في النفوس التي توعد بالخير او المغفرة او النصر و قد تكون كلمة «بشر» مكافأة للمبشرين و جزاءا علي اعمال من الطاعات قاموا بها و قد تكون كلمة «بشر» حاملة معني الاغراء و الاستحثات علي اداء اعمال يرضاها الله... و في بعض الاحيان تأتي كلمة البشارة هذه علي عكس معناها قصد التهكم بمن يبشرون بعقاب او عذاب. و ذاك من بعض الاساليب البلاغية في القرآن الكريم و مما جاء في باب «بشر» ما نسرده في هذا المجال...«و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل و أتوا به متشابها و لهم فيها ازواج مطهرة و هم فيها خالدون». البقرة/25«بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا»... النساء 139/138في هذا النص ما يشير الي المواجهة التي تثقل علي من بشروا بالعذاب الاليم و امعانا في وصف سوء عملهم جاء النص يتكلم علي ذلك ببعض التفصيل... و التهكم هنا و الاستخفاف بالقوم ظاهران بوضوح...«و بشر الذين كفروا بعذاب أليم»... التوبة/3و المعنيون بذلك هم من سبقت الاشارة اليهم في اول النص اذ جاء فيه: «و أذان من الله و رسوله الي الناس يوم الحج الاكبر أن الله بري‌ء من المشركين و رسوله فان تبتم فهو خير لكم و ان توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله و بشر الذين كفروا بعذاب أليم»... علي أن المعنيين ببشارة العذاب الاليم أعم من المذكورين لان جميع الكافرين في سائر الظروف معنيون بهذا التهديد الالهي...«و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين. و اذا تتلي عليه آياتنا ولي مستكبرا كأن لهم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم»... لقمان 7/6في هذه البشارة و هي لا تتضمن من معاني البشارة شيئا لطمة علي وجه من بشروا بها ممن يستحقون هذه اللطمة و في تفاصيل النص حيثيات هذا الجزاء العادل و العقاب الذي هو وفاق الاستحقاق و كان علي النبي أن يواجه هؤلاء بما انزله الله عليه في شأنه في الحكم و ذاك ليس بالامر الهين في مكة لقلة انصار النبي و نذرة اعوانه...«و بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا»... الاحزاب /47هذا النص جاء مسبوقا بقوله تعالي: «يا أيها النبي انا ارسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا. و داعيا الي الله بأذنه و سراجا منيرا»... مما يفهم منه ان الرسول كان يوصل الي المؤمنين دائما بشائر رحمة الله و ما اعده لهم من أجر عظيم و ثواب كبير. فالنبي بهذه الحاله علي اتصال دائم غير منقطع بمن لحق به من المؤمنين [ صفحه 194] يفر في نفوسهم تقبل الله ايمانهم و مثوبته لهم علي ذلك...«انما تنذر من اتبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة و أجر كريم»... يس/11البشارة هنا مرشحة لمن يستحق المغفرة والاجر الكريم لأنه اتبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب... و هي بشارة تدخل السرور الي النفوس و تشجع الغير الي ان يتمناها لنفسه بعبادة الله و حسن طاعته لأن الامر ينعقد علي قاعدة اصولية عامة و كل من كان من الناس علي ذلك استحق هذه البشارة. و كان النبي صلي الله عليه و سلم يخاطب من يتوسم فيهم انطباق تلك الصفات و السماوات بحسن موقفه و رفعة مكانته عند الله...«ويل لكل أفاك أثيم. يسمع آيات الله تتلي عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذب أليم»... الجاثية 8/7بهذه ننتهي من باب البشائر الالهية الواردة بلفظ «بشر» علي أن جمهرة ذلك ما يعد من البشائر الواردة في التعذيب و الزجر وفقا لجاري عادة الناطقين بالعربية من استعمال الفاظ في غير ظاهر معناها...

باب الفضل الالهي علي النبي

تتضمن كلمة الفضل صنوفا كثيرة من البر و الخير و النعم معنويها و ماديها لا سيما اذا كانت منسوبة الي الله عزوجل «و أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم» الحديد/29... و يكون الفضل في المقامات و المنازل و الدرجات و الرتب و قد اشارت النصوص القرآنية الي عظم فضل الله علي النبي في اكثر من موقع قرآني و ها نحن اولاء موردون هذه النصوص مقرونة بشرح يسير...«و لولا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك و ما يضلون الا أنفسهم و ما يضرونك من شي‌ء و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك مالم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما»... النساء/113في هذا النص تنويه ببعض مفردات الفضل الالهي علي النبي و كان في ذلك العلم الذي علمه اياه. اذ لم يكن يعلمه من قبل و كذلك الحكمة والكتاب... و من فضل الله كذلك انه عز شأنه احاط النبي بالامانة و الحصانة فلم يستطع اهل الضلالة و الفتنة ان يضروه شيئا و جاء في نهاية النص «و علمك مالم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما»... و في ذلك دلالة علي اتساع نطاق الحدب الالهي علي النبي... و في النص تصريح ظاهر بعظم فضل الله علي رسوله اذ وقاه مكايد مكثفة كان اعداؤه يسعون الي ايقاعه في فخها، و من ظاهر النص نعلم عظم المكر الذي كانوا يمكرونه و المكيدة التي كانوا يكيدونها و تهكم الله بهم اذ رد ضلالتهم اليهم... و قرن الله فضله برحمته و هما أمر ان عظيمان غاية العظم اذ كان الرسول الاعظم ينعم من ربه بالفضل و الرحمة و ناهيك بذلك رعاية و حماية و عصمة... و نفي الله اقتدار القوم علي ايقاع الضرر برسوله محمد بن عبدالله. «و ما يضرونك من شي‌ء» و بذلك خاب فأل الخصوم كل خيبة ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا...و تلا ذلك من بعض فضل الله و رحمته علي رسوله ما جاء التنويه به من أنه تعالي انزل الكتاب عليه و الحكمة و كلاهما من أهم لطف الله السابغ علي الرسول الذي جعله الله معدن الحكمة «و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا»...و علم الله النبي مالم يكن يعلم فكان بذلك اعظم الرسل شأنا و أعلاهم قدرا و أقربهم الي ربه مكانة. و ختم النص بالتنويه باللطف الالهي العظيم «و كان فضل الله عليك عظيما»... و في هذا الاطراء السابغ ما يدل دلالة واضحة علي جلالة قدر الشخصية المحمدية عند الله، و علي نصاعة صفحات سيرتها الكريمة و تاريخها الحافل باللطف العظيم مما كان قد علمه الله نبيه فعلمه النبي أمته و مما كان قد ألقاه اليه من الحكمة فالقاه النبي الي امته [ صفحه 195] و مثل ذلك لا يقال فيه انه زائل غير ثابت و منقطع غير متصل. فالعلم و الحكمة و بصائر الشريعة منتفع بها من قبل سائر البشر الي يوم القيامة. و لو لا أن يكون كذلك لما جاء النص في ذلك بلفظ الفضل الذي تكرر في النص مرتين موصوفا في احداهما بأنه عظيم.«و ان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو و ان يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده و هو الغفور رحيم»... يونس/107في النص ما يثبت ان فضل الله اذا من به الله علي احد فانه لا تملك قوة في الدنيا الحيلولة دون ذلك اذ ان فضل الله الذي يسبغه علي من يسبغه عليه قائم و واسع و ثابت و مستفيض...«الا رحمة من ربك ان فضله كان عليك كبيرا»... الاسراء/87و ما من شك في ما يملكه النبي من حسن تصرف وجد في اداء المهام النبوية و عظم طاعته للاوامر الالهية. و النص الذي تحقق للنبي صلي الله عليه و سلم كل ذلك مرده الي فضل العظيم علي النبي صلي الله عليه و سلم...

باب لا يحزنك، و لا تحزن

من اجل أن لا يتعرض النبي من جراء اساءات قومه الكثيرة الي انشغال نفسه بالحزن و ما يكدر الخاطركانت هناك آيات قرآنية تنزل في صرف النبي عن الحزن و الهموم فهي أولاه كثيرة و ثانيا يكون تأثيرها علي النبي ثقيلا. و لاجل ان يتحرر النبي من ذلك ليمضي في وجهته الاصلاحية العظيمة كان الله يوصيه بأن لا يجزع و أن لا يحزن و من كان منوطا به ما نيط بالنبي من مهمة اصلاح البشرية و انقاذها و اخراجها من الظلمات الي النور جدير ان يكون فوق الهم و الحزن و التأثر و بالهموم... و فيما يلي من آيات الكتاب المبين ما هو من بعض هذا الحديث...«و لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر انهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ان لا يجعل لهم حظا في الاخرة و لهم عذاب عظيم»... آل‌عمران/176من الامر البديهي ان الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم كان يحزنه انصراف امته الي الكفر و قد اراده الله منقدا لها منه و مخرجا اياها الي نور الهدي من ظلماته... و علي هذا كان الله يصبره علي تحمل ذلك و يدعوه الي أن يطول حزنه علي مواقف قومه من الكفر و الضلال. و قد اكد النص علي ان هؤلاء مطبوع علي قلوبهم فلا يتأتي من الحزن عليهم بسبب كفرهم شي‌ء من جدوي أو فائدة...«يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا امنا بافواههم و لم تؤمن قلوبهم و من الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه...»... المائدة/41.من آيات التصبير علي ثقال الهموم و المعاناة الشاقة ما جاء في هذا النص من دعوة النبي الي عدم الحزن لما يقع من مساءات قومه و من اهل الكتاب و قد استقصي النص القرآني مساءاتهم هذه و جرائرهم مما جعلنا للكلام عليه مجالا في آيات المعاناة من هذا الكتاب. و في آية الانعام الثالثة و الثلاثين و هي سورد مكية جاء قوله تعالي «قد نعلم انه ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون»...النهي الذي يرد الي النبي عن الحزن في مثل هذه الامور لا يعني أنها لا تستأهل الحزن فهي في الحقيقة جديرة به ولكن الله يهون علي نبيه الامور لئلا تأخذ منه مأخذا عميقا فان الهموم اذا جرت من النفوس في مجار عميقة ادت الي امساكها قليلا او كثيرا عن المضي في وجهتها الجدية الصائبة... و قد جاء النص مشيرا الي تزكية النبي من أن يكون محل تكذيب القوم الذين يجحدون آيات الله. فانهم لا يتهمون النبي بالكذب شخصيا و فيما يقوي قصد التهوين علي النبي فلا يذهب بعيدا في الحزن... [ صفحه 196] «و لا يحزنك قولهم. ان الغزة لله جمعيا هو السميع العليم»... يونس/65القول الذي كان يحزن النبي صلي الله عليه و سلم هو من انماط اقوال الكفار و المشركين لا سيما ما كان منها في ذات الله ما يصل الي هذه العزة بخدش او اساءة... و من هنا كان النهي الالهي للنبي أن يأخذ منه الحزن أي مأخذ. و في الاية السادسة و السبعين من سورة يس جاء قوله تعالي «فلا يحزنك قولهم انا نعلم ما يسرون و ما يعلنون»... فان النص اذ يوصي النبي بأن لا يحزن علي مقولات المشركين ينوه للنبي بأن ما يحزنه من قولهم انما هو ما يعلنونه و يجاهرون به في حين أن الله يعلم انهم يكتمون في صدورهم ما هو شر من ذلك...«لا تمدن عينيك الي ما متعنا به أزواجا منهم و لا تحزن عليهم و اخفض جناحك للمؤمنين، و قل اني أنا النذير المبين»... الحجر 89/88في هذا النص و هو توجيهي تربوي و وعظي يقول الله لنبيه فيه أن لا يستكثر ما آتاهم الله من خير نعيم لم يحسنوا مكافأنه فيحزن لذلك... و أمره في نفس الوقت بمعاملة المؤمنين و هم الذين اخلصوا في عبادتهم و رضوا ما قسمه الله لهم في حياتهم من رزق يسير وليكن موقفك دائما علي مستوي كونك النذير المبين من الله لسائر عباد الله.«و اصبر و ما صبرك الا بالله و لا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون»... النحل/127من الايات التي خوطب بها النبي في شأن ما يدعو الي الحزن و احتمال الهم. و قد نهي عن الحزن لتكون وجهته الي اداء مهمته الرسالية وجهة في غاية الجد و الحزم و الصبر و قوله تعالي «و لا تحزن عليهم» اي لا تحزن بسبب ما يقفونه من مواقف تجر الي الحزن و الاكتئاب. كما نهاه الله عن أن يكون في ضيق. و الضيق هو الحزن نفسه و الضجر و القلق مما يبلغك من محاولاتهم التي يدبرونها ضدك...«و من كفر فلا يحزنك كفره الينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا ان الله عليم بذات الصدور»... لقمان/23يشير النص الي ان كفر هؤلاء الكفرة سيكون محل حسابهم و جزائهم و اذ ان الامر كذلك فليس للحزن من فائدة او جدوي لانهم قد أحاط الله بكفرهم علما فتوعدهم بالعقاب الاليم يوم يحاسبهم الله علي كفرهم و سوء عملهم...في هذه الآيات التي دعي الرسول فيها الي عدم الحزن ما يشير الي أن الرسول صلي الله عليه و سلم كان كثير الحزن لما يراه من سيي‌ء مقولات المشركين فيه و في الخالق العظيم و ما يلاحظه كذلك من خبيث تصرفاتهم فان اخلاصه لربه و حرصه علي دينه و مهمته في دعوة الظالمين من قومه الي هدي الله و تقواه بعمله علي أن يلوذ بالحزن الذي كان علي ما يبدو في هذه النصوص ثقيل الوطأة عليه و شديد التأثير و لذلك كان الله يتداركه بآيات التهوين و وصايا التخفيف مما يجعل النبي يفي‌ء الي الصبر و يأخذ بهدبه و انها حقا من الغم الذي يكون له معتركه في الصدور المترعة ايمانا و هدي و مخافة من الله عزوجل...

باب اقم الصلاة

الصلاة في الاسلام عمود هذا الدين العظيم لا سيما اذ انها تجعل العبد قريبا من ربه و هي كذلك حين تؤدي مع الجماعة فانها تشعر كل فرد من المصلين بانه جزء من المجموعة و هذا معني حرصت الشريعة علي اظهاره و ابرازه و تثبيته في احكامها و اهدافها و أوامرها و نواهيها... و هاهنا آيات في هذا الصدد نسردها مقرونة بشي‌ء من الشرح و التأويل...«و أن أقم وجهك للدين حنيفا و لا تكونن من المشركين، و لا تدع من دون الله مالا ينفك و لا يضرك فان فعلت فانك اذن من الظالمين»... يونس 106/105 [ صفحه 197] هذا أمر ينتمي الي ما هو من الامر الواقع. فقد جاء لتثبيت استمرارية ما كان الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم قد اعتاده و ألفه من الطاعات... فكان الله يدعو الي ملازمة ذلك. و الخطاب موجه الي النبي اقرار لما هو عليه و تثبيتا و هو كذلك موجه الي الامة تعليما واستحثاثا علي الصدق في العبادة و تجنب نزغات الشرك...و من بارع ما يرد من الاوامر الالهية الموجهة الي الرسول انها يراد بهاد في كثير من الاحيان مخاطبة افراد الامة علي التأويل الذي اشرنا اليه آنفا... و قد حدد النص كذلك في سورة الروم الآية الموفية علي الثلاثين بالصيغة التالية «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون» كما ورد ذلك في سورة الروم ايضا الاية الثالثة و الاربعين بلفظ «فأقم وجهك للدين القيم قبل ان يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون»...«و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكري للذاكرين، و اصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين»... هود 115/114من مظاهر الاعجاز البلاغي في القرآن الكريم انه دقيق الاوامر و التوجيهات و ذو عبارات و اساليب من شأنها علي تباين حروفها و كلماتها أن تؤدي نفس المؤدي و تعني نفس المعني. فقوله تعالي: «و اقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكري للذاكرين» و قد ختم بقوله تعالي: «و اصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين» اذ تتطلب العبادات الصبر الذي يعد من اهم اشراطها و ملامحها و في القرآن الكريم: «و أمر اهلك بالصلاة و اصطبر عليها»...«أقم الصلاة لدلوك الشمس الي غسق الليل و قرآن الفجر ان قرآن الفجر كان مشهودا، و من الليل فتهجد به نافلة لك عسي أن يبعثك ربك مقاما محمودا، و قل رب أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، و قل جاء الحق و زهق الباطل ان الباطل كان زهوقا»... الاسراء 81/78من الاوامر الالهية الوجيهية التي تلقاها النبي صلي الله عليه و سلم من ربه و فيها دعوة الي الصلاة في مواقيت محددة مقررة... اما قوله تعالي: «و قرآن الفجر» فهذه الصلاة تؤدي في هذا الوقت تبعا للصلوات التي جري الامر باقامتها عند دلوك الشمس و غسق الليل و ربما أعربت كلمة «قرآن الفجر» منصوبة بنزع الخافض علي تقدير و تمسك بقرآن الفجر... و التقديرات هنا كثيرة تشير كلها الي هذا الوجه و كون قرآن الفجر مشهودا اي يشهده الله و الملائكة المقربون علي ان الله يشهد كل شي‌ء ولكن قصد الاطراء و تخصيص الفجر به ظاهر في النص اضافة الي ان الفجر هنا ما توضح من الضوء المنتشر في الافق بين يدي طلوع الشمس و في هذا النص تنويه بديمومة الصلاة في كل يوم اذا ان دلوك الشمس و غسق الليل و بزوغ الفجر ظواهر طبيعية تتكرر كل يوم علي مدي أيام الزمان. والامر هنا مشمولة به الامة كلها لأن الرسول هو اقوي المؤمنين ايمانا و اشدهم تمسكا بطاعة الله اذا كان أمر بأداء هذه الصلوات فان الامة مأمورة بها من باب أولي... و هذا الخطاب ليس من الخصوصيات الخاصة بالنبي و انما هو مما يدخل في عموميات الخطابات الالهية...«اتل ما أوحي اليك من الكتاب و أقم الصلاة ان الصلاة تنهي عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله اكبر و الله يعلم ما تصنعون»... العنكبوت/45جاء الامر بالصلاة هنا في مخاطبة الرسول صلي الله عليه و سلم مقرونا بالتنويه ببعض عطائها و آثارها و مزاياها اذ جاء القول بانها تنهي عن الفحشاء و المنكر بما تتركه في نفوس المصلين القانتين من آثار تربوية عالية... [ صفحه 198]

باب واصبر

كان النبي صلي الله عليه و سلم طاقة عظمي ذات اقتدار اقتحامي و صمود نادر في الصامدين و صبر لا بوازيه صبر في الصابرين و كان ذا جلد و تحمل و تحل بضبط النفس و بعد نظر و رجحان رأي و صلابة موقف حين تجب الصلابة و تسامح حيث يحسن التسامح و بذلك صمد في مكة ثلاثة عشر عاما و في المدينة عشرة اعوام. و لا شك ان بعض ذلك كان استجابة لاوامر الله المنزلة عليه بوجوب التدرع بدرع الصبر اذ كانت النصوص في هذا المعني تكرر علي سمعه صلي الله عليه و سلم. بل ان المؤمنين كانوا يوصون بالصبر و التحمل و الحلم و ضبط النفس... و فيما يلي آيات في هذا المعني نشرحها شرحا يسيرا لنعلم ان الله كان يوصي رسوله به ابدا...«و اتبع ما يوحي اليك و اصبر حتي يحكم الله و هو خير الحاكمين»... يونس/109النص يقضي بالالتزام التام بوحي الله المنزل علي رسوله و الصبر علي ذلك اذ ان وحي الله الموحي الي للرسول فيه الاحكام والاوامر والوعد و الوعيد و مجاهرة الكفار بما اعده الله لعقابهم من نار. و في التصريح بذلك للمشركين ما فيه من معاناة جهد كبير، لذا أعقب الله كلمة الاتباع بالصبر، و في النص ما يدل علي أن وراء الصبر الذي أمر به النبي فرجا مهما بعد فهو قريب و ذاك معني قوله تعالي مما جاء في نهاية النص «حتي يحكم الله و هو خير الحاكمين»... فهو اذن صبر لا يأس معه لأن اله سيحكم امر دينه و يحقق لرسوله النصر و يعزه و يذل خصومه مالم يسلموا او يؤمنوا...«تلك من انباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا فاصبر ان العاقبة للمتقين»... هود/49ما قصه الله علي رسوله في التنزيل مراد به الاعتبار و التأسي اذ كان الرسل قد عانوا من اقوامهم كثيرا من الاذي و التكذيب و علي ذلك امر الله نبيه بالصبر كما كان حال اولئك الرسل صلوات الله عليهم اجمعين اذ كانوا قد أمروا بالصبر كذلك. فيكون للصبر مكانه و موقعه في نفس النبي اذ انه توجيه الهي ألف الانبياء من قبل تلقيه من ربهم و لم يكن النبي صلي الله عليه و سلم وحده قد جرت توصيته به و ذاك ان الصبر علي الخطوب و المصابرة علي المعاناة الشديدة امر غير يسير علي الصابرين و من هنا كان من تهوين امر الصبر علي النبي ما كان من الاشارة الي ان الرسل الاقدمين عرفوا بالصبر و كتبوا في الصابرين فلقد كانت مهمة الانبياء ذات مهمة النبي صلي الله عليه و سلم لذا كانت الوصية بالصبر موجهة الي الجميع... و الناس هم الناس. و ذوو العقائد الباطلة لا يستطاع تصحيح عقائدهم بين عشية و ضحاها انما يتطلب ذلك ما يتطلب من مجاهدة و صبر و تحمل الهم الثقيل...«و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكري للذاكرين، و اصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين»... هود 115/114وصف الصابرون بالمحسنين في النص الانف الذكر، و قد دعا الله نبيه الي الصبر بعد أن دعاه الي اقامة الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل و في النص تشجيع للذين يؤدون الصلوات لما فيها من زيادة في البركة و تطهير للنفوس و انها حسنات تمحي بها السيئات... و تضمن النص الاشارة الي أن للصابر اجرا يؤاجره الله عليه اذ جاء في النص «فان الله لا يضيع اجر المحسنين»... و الوصية بالصبر في معرض الامر باقامة الصلاة وصية ذات موقع طبيعي فان اداء الصلاة استمرارية مطردة او متعاقبة امر تحتاج النفوس فيه الي اغراء وحث مستديم... و قد جاء في القرآن الكريم في هذا المعني «و أمر اهلك بالصلاة و اصطبر عليها». [ صفحه 199] «و اصبر و ما صبرك الا بالله و لا تحزن عليهم و لا تك في ضيق مما يمكرون»... النحل/127في النص ايماء الي بعض منافع الصبر و محاسنه و عطائه و موجباته فانه يعين علي تأطير دواعي الحزن و تحمل المضايقة من الناس من فرط عدوان الكافرين و قد جاء في ختام النص «ان الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون»... فبان بذلك ان الصبر من معالم التقوي والاحسان.و في النص كذلك تعبير علي احتمال الهموم و دواعي الاضجار و سوء معاملة من يدعون الي الدين فيصدون عنه أسوأ صدود... و قد يظن ظان أن أمر الله نبيه بالصبر علي المكارم يستوجب طول النظر اذ يحسب أن علي الله مادام قد ارسل رسله الي الناس ان يدرأ عنهم هذه الهموم و أن يطوع لهم نفوس الناس لكي يستجيبوا لهم بدون تعريض الرسل لما يتعرضون له من معاناة الصبر و ثقل و طأته. و الجواب علي ذلك ان الله لو شاء ان يحمل الناس علي الايمان به حملا بالسهولة المقترحة لهداهم من غير أن يجشم الرسل عناء القيام بهذه المهمة...«و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا و لا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا»... الكهف/28في النص تعليمات في مسائل العبادة اذ يوصي الله نبيه بالصبر مع جمهرة من هناك من المؤمنين. و النهي عن اطاعة من اتخذ الهه هواه انما يعني أن هناك من هم علي هذه الشاكلة من العناد و المشاكسة، و لم يكن النبي مطيعهم في شي‌ء الا أن النص اراد و صم القوم بما وصمهم به من غفلة القلب و التفريط في السلوك السديد...«فاصبر ان وعد الله حق و لا يستخفنك الذين لا يوقنون»... الروم/60يتضمن النص دعوة النبي الي الصبر في موقف يعد من اشد المواقف التي يقع الجزع فيها و يكاد ينعدم الصبر و ذاك ان الذين وصفهم الله بأنهم لا يؤمنون و هم فئة المشركين الذين كان سلاحهم الاستخفاف بصاحب الرسالة. فالتوصية الالهية هذه بالصبر تعني أن لا يستهين الرسول بسلوك الكفار يومذاك مهما كان سلوكا يغلب عليه سلوكهم من الطيش و الحماقة و الجهر بما يؤذي النفوس الكريمة... و هي توصية فيها درس تربوي كريم لضبط النفس و التحلم في مواجهة مساءات الجاهلين...«فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل و لا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك الا القوم الفاسقين»... الاحقاف/35في النص ايراد لصبر أولي العزم من الرسل ممن ظهروا علي مسرح الاصلاح علي مماحكات اقوامهم الزائغة عن محجة الدين و الهدي... و في دعوة النبي الي الصبر في هذا المقام تشجيع له علي تحمل مرارة الصبر و ثقل عبئه. فلقد كان اولوالعزم من الرسل قد سموا هذه التسمية - اي اولي‌العزم - بسبب صبرهم في تحملهم عناء مواجهة اممهم برسالات ربهمو قد يكون أولواالعزم من الرسل اكثر عددا مما يحصي في هذا الباب... و بهذا يكون القصد اتفاقيا لا احترازيا...«فاصبر علي ما يقولون...»... ق/39بعض الصبر الذي أمر النبي به انما هو الصبر علي مقولات يقولها اهل الشرك و هي مما يستثير الغضب و يتطلب الرد و الزجر الشديد... فان في اقوال الالسنة ما هو أشد ايذاءا من جراحات الأسنة... ولكن الله وصي نبيه بالصبر في مثل هذه الحالات التي كانت تتكرر من جهلة قومه و ضلال الناس هناك...«و اصبر لحكم ربك فانك باعيننا...»... الطور/48 [ صفحه 200] الدعوة الي الصبر و الامر به قد يكون لاجتياز مساحات من الزمن شديدة القسوة و عظيمة الوطأة و لا يجد الصابر عليها من قوة الرجاء و عظم الامل ما يهون عليه مشقة الصبر الذي قد يكون في غالب الاحيان اكثر مرارة مما يراد الصبر عليه و بهذا كان الصبر الوسيلة التي لابد منها في مواجهة الخطوب و الهموم و ما اليهما ولكن النص القرآني ألحق بالصبر الكلمة التالية «فانك باعيننا» فان الدعوة الي الصبر مع هذا التعهد و هذه الموعدة يجعل الصبر علي جانب كبير من الاستمراء فيخف بذلك العناء به والتثاقل منه و اللارجاء في عواقبه، حقا ان قوله تعالي «فانك باعيننا» لتطييب الخاطر و يقع معه من عظم الثقة باللطف الالهي و رعاية الباري عزوجل ما هو ذو قدر كبير و حجم عظيم. ان الله عزوجل اذ امر نبيه محمدا بالصبر علي قضائه و بلائه و ما يقدره في عرض مسيرة السيرة النبوية من اقدار تبدو قاسية يعدها من لا يعلم حكمة الباري في مثل هذه الامور مما يجر الي الاخفاق و اليأس لذا جرد الله ذهن النبي من ان يظن ان الصبر علي ما امر بالصبر عليه سيدخل الي نفسه الرعب من الاحداث التي تجد في ساحة الدعوة الدينية حقا ان كلمة «فانك باعيننا» قربت النبي تقريبا جد قريب من الثقة بالنتائج المرضية وحببت اليه الصبر الذي تعده الناس من ثقال التكاليف فان قوله تعالي «فانك باعيننا» قد ملأت اجواء نفس النبي بالامان و الطمأنينة و الفأل الحسن بما سيجد وراء ذلك من احداث و اقدار. و قد طمأن ذلك النبي الي ان ما دعي الي الصبر عليه من حكم ربه لن يكون اقسي مما رأي و تحمل...«فاصبر لحكم ربك و لا تكن كصاحب الحوت اذ نادي و هو مكظوم، لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء و هو مذموم، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين»... القلم 50/48قد يكون الصبر ثقيلا في مواجهة بعض الامور كالذي وقع ليونس عليه‌السلام و قد اراد الله ان يقوي القدرة علي الصبر لدي نبيه محمد بن عبدالله فلا تجره موجة العدوان و شطط معاملة الكفار الي الجزع. فليصبر ما استطاع الي ذلك سبيلا.هذا النمط من التوصيات الالهية بالصبر فيه جانب عظيم من التربية و التوجيه بضبط النفس و تحمل عب‌ء الدعوة العظمي المرسل بها الرسول الي قومه و انها تستاهل كل الصبر لما وراء ذلك من فوز جد عظيم...«فاصبر صبرا جميلا».. المعارج/5وصف الصبر الذي دعي الرسول الي الاتصاف به بأنه جميل و قد صارت ادبيات العربية تنعت الصبر ابدا بأنه جميل و ذاك نظرا لما يتحقق في عواقبه من معالم التوفيق و اسباب الخير و النجاح و التيسير...«و لربك فاصبر»... المدثر/7كان الامر بالصبر و التوصية به مما جاء في اول ايام المبعث النبوي و ذاك في سورة المدثر «و لربك فاصبر»... سورة المدثر من اوائل السور التي نزلت علي النبي في مكة بعد وقت قريب من ابلاغه بالنبوة و الوحي السماوي...«فاصبر لحكم ربك و لا تطع منهم آثما او كفورا» (الدهر) الانسان/24قبل هذا النص جاء قوله تعالي «انا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا»... و كان حريا ان يكون وراء النص الآمر بالصبر علي تحمل ما يواجه به النبي من الاثمة و الغامطين فضل الله عليهم و المنكرين عظيم سلطانه.و يبدو- و هو امر طبيعي - ان الساعين في هدم الدعوة الاسلامية كانوا يريدون النبي يقلع عن دعوته و ينسحب من المجال الذي فتحه لنفسه في مواجهة الشرك السائد لدي القوم.والآثم و الكفور صفتان تدلان علي وجود رهط من المعاندين الذين لا يتوقع ارعواؤهم و انصياعهم الي الهدي... و الآثم و الكفور انما سميا هذه التسمية بما يتقمصانه من قميص الشر و اللدد في الخصومة و قد [ صفحه 201] يكون في الناس من ينكر الدين الجديد و لا يرضي ان يبدل من اجل التوحيد ما هو عليه من عبادة الاوثان ولكنه لا يوصف أبدا بالأثم و الكفر و مثل هؤلاء يكون اذاهم غير ذي شأن ولكن من يروح بغلالة العناد و الاعتداد بعقيدة الوثنية التي لا يرضي الا بالجهر بها فأولئك يكون شرهم شديدا و عدوانهم كبيرا و لذا قال الله «و لا تطع منهم اثما او كفورا» فمن هنا نعلم جسامة الصبر الذي امر الرسول به فقد كان يملأ آفاق حياته صلي الله عليه و سلم...ان هذا النص يرينا ان النبي كان علي جانب من الصمود و القوة في مواجهة انماط من الخصوم الذين وصفوا في النص القرآني بانهم أولو إثم و عناد و كفر بواح و تجاهل لكل الدلائل التي توثق الوثائق و تؤيد الحقائق.بهذا يتم الكلام علي آيات الصبر و التصبير التي يلاحظ أنها من الايات المكية اذ كانت المواجهات يومذاك جد قاسية و عنيفة مما يتطلب الصبر و ضبط النفس و التحلم في حين أن مواجهات الخصوم في العهد المدني كانت تتطلب التبصر و أخذ كل حالة بما يلائمها من الحكمة و دقة التصرف...

باب الم تر

من الخطابات القرآنية التي خوطب بها الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم ما بدأ الخطاب بلفظ (ألم تر) لفتا لأنظار النبي الي أحداث و أمور وقعت في أزمنة شتي و كذلك كان منها ما حدث في زمنه و كان علي شي‌ء من العلم بها و في استعمال هذا الحرف ما يدل علي أن الله أراد أن يوصل الي نبيه تلك المعلومات والانباء والاحداث علي وجه اشهاده عليها و اشراكه في وقوع عليه بها ليكون ما يرد من ذلك في القرآن الكريم حجة علي من سبق من الامم و الرسل و ما وقع لقومه و لغيرهم من ذلك اذ كان النص يستحضر الصورة بكامل اطارها لتكون في متناول استيعاب النبي صلي الله عليه و سلم.و فيما يلي مما جاء في التنزيل العزيز من الايات التي تدخل في هذا الباب قوله تعالي:«ألم تر الي الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ان الله لذو فضل علي الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون»... البقرة/243قال الشوكاني في تفسير هذه الاية ]و الغرض من ايراد هذه القصة تشجيع المسلمين علي الجهاد (والمعني ان الحذر من الموت و ترك الجهاد لاجل ذلك لا ينجي من الموت ان اراده الله)[.«ألم تر الي الملأ من بني‌اسرائيل من بعد موسي اذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم ان كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا و مالنا أن لا نقاتل في سبيل الله و قد أخرجنا من ديارنا و أبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا الا قليلا منهم و الله عليم بالظالمين، و قال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أني يكون له الملك علينا و نحن أحق الملك منه و لم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء و الله واسع عليم». البقرة/247  246في قوله تعالي هنا «ألم تر» ما يستحق الاستغراب لسوء عمل القوم و قد جاء النص القراني و كأنه الصورة المصورة التي تكاد تري بالعين المجردة. و أخبار بني‌إسرائيل ذات الصيت السي‌ء متكلم عليها في القرآن بكثرة.و في النص أشارة اي أصول الملك و شروط الملك اذ كان القوم يريدونه من ذوي الثروات الطائلة ولكن نبيهم صحح رأيهم في ذلك فأفهمهم أن هناك معايير لتولي الملك و ذكر منها أن الله اصطفي ذلك الملك [ صفحه 202] عليهم و زاده بسطة في العلم و الجسم و يفهم من ذلك ان الله اذ يملك الملوك يمنحهم طاقات عالية لم يكونوا يملكونها من قبل فاذا كان ذلك هو أمر الملوك فان امر الانبياء يكون اكثر استئهالا لبسطة العلم و الجسم و القدرات الاخري بحجم اكبر من ذلك.«ألم تر الي الذي حاج ابراهيم في ربه أن آتاه الله الملك اذ قال ابراهيم ربي الذي يحيي و يميت قال أنا أحي و أميت قال ابراهيم فان الله يأتي بالشمس من الشمرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين»... البقرة/258في (ألم تر) هذه صورة صورها الله لنبيه و قد ظهر فيها ابراهيم عليه‌السلام و هو يعلن رسالة الله الي ملك زمانه الذي ادعي ردا علي ابراهيم انه يحيي و يميت و لم يناقشه ابراهيم في كيفية هذا الاحياء و الاماتة لان قاعدة الجدل في هذا المقام تقتضي جر من يجادل فيه الي الاعتراف بالعجز ليكون ذلك ابطالا لربوبيته لذلك انتقل ابراهيم الي موضوع اخر أفحم به مدعي الالوهية اذ قال له (فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) و بذلك بهت الذي كفر. ان مدعي الالوهية هذا لو كان قد طالب ابراهيم بأن يدعو ربه بالاتيان بالشمس من المغرب لا من المشرق لكان ذلك كذلك مشيرا الي بطلان ألوهيته لان أي عجز يصدر ممن يدعي الالوهية عن تنفيذ شي‌ء مما هو من أختصاص الربوبية فانه لدليل قاطع علي فقدان ربوبيته و حسب قوم ان هذا الذي حاج ابراهيم في ربه لو قال ذلم لجعل ابراهيم في حيرة من أمره ولكن ابراهيم كان قد أعد لذلك الملك المنكر لألوهية الله و الزاعم صلفا و جهلا أنه هو الاله: سيلا من الحجج التي تبطل ألوهيته من طريق اعلانه العجز الكلي عن الاستجابة بما يراد منه و يقترح عليه... أما الوهية الله رب العالمين فأنها الوهية ثابتة له سبحانه و تعالي أأجاب الناس الي ما أرادوه أم لم يجبهم الي ذلك اذ ان موضوع المناقشة قائم بين بشر و أله. و لله عزوجل قوانينه الطبيعية لا يخرقها نزولا علي رغبات و مسائل جدلية كائنة ما كانت أما مدعي الالوهية من البشر فان عليه أن يثبت استئهاله للقبها مهما كلفه الامر من غير أن يلوذ بالعجز والصمت بما يجعله مفتضحا بين الذين يدعوهم الي عبادته.«الم تر الي الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون الي كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولي فريق منهم و هم معرضون» آل‌عمران/23في هذه الاية ما يستثير العجب من فعل قوم من اهل الكتاب دعاهم النبي صلي الله عليه و سلم الي الاحتكام الي كتابهم فتملص فريق منهم من ذلك... و قد وصفهم القرآن - و هم من احبار اليهود - بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب أي أنهم لم يكونوا ذوي علم بالكتاب كله.و الحادث ليس من اخبار التاريخ القديمة و انما هو من الحوادث المعاصرة التي وقعت في العصر المدني مما يفهم به أن (ألم تر) ترد في الكلام علي المشاهد القديمة والحديثة.«ألم تر الي الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة و يريدون أن تضلوا السبيل». النساء/44في (ألم تر) هذه و ما بعدها استخفاف بأهل الكتاب الذين يرتقب منهم و يتوقع ان يكونوا دعاة هدي و خير لا دعاة كفر و ضلالة و في (الم تر) هذه مما يدعو الي القاء نظرة احتقار لهؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب لجهلهم و فساد تصرفهم و خروجهم علي ما يزعمون من قيم دينهم.«ألم تر الي الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء و لا يظلمون قتيلا». النساء/49.في (ألم تر) هذه اشهاد للنبي فيما يقع من أناس كانوا يومذاك يزعمون في انفسهم المزاعم و يدعون الدعاوي الكبار و هم علي غير ما يعرف الله فيهم، و الله هو الذي يزكي من يشاء من عباده. [ صفحه 203] أن من آداب الاسلام أن لا يزكي الانسان نفسه فيجعلها في مقام العصمة التي لا يصل اليها أثم و لا معصية فان ظهور ذلك في الناس يسقط حقائق الاشياء و يغري الناس بتصديق الكاذبين و الادعياء و في ذلك ما يجر عليهم من الضرر الجسيم ما يجر.و في (ألم تر) هذه تعبير صريح عن الازدراء بمثل هؤلاء الناس و قد جعل النبي محل الاستشهاد علي أمثال هذه الزمر الضالة.«ألم تر الي الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلا»... النساء/51في (ألم تر) هذه يدعو الله نبيه الي العجب من موقف أناس ممن أوتوا الكتاب اذ يخرجون عن عهدة دينهم الذي هو دين التوحيد ليروحوا يزكون عبدة الاوثان والاصنام... ان في (ألم تر) هذه فضحا لموقف شنيع يفضل فيه اهل الكتاب فئة المشركين و عبدة الاوثان علي عبدة الله المسلمين فكان النص يلفت نظر النبي الي غريب ما يقع من اهل الكتاب في المدينة ليعلن الله بذلك خيانة هؤلاء الناس لدينهم و لكتابهم و لذلك جاء النص مشيرا الي وصفهم بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب تهكما بهم و تقبيحا بعملهم.«ألم تر الي الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل اليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الي الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان ان يضلهم ضلالا بعيدا». النساء/60في هذا النص كلام علي المنافقين و فضح لهم و تشهير بهم اذ زعموا الايمان بما انزل الله الي النبي و ما انزل الي الانبياء من قبله ولكنهم يفضلون الاحتكام الي الباطل و يفيئون الي ما لا يؤمن بالله و رسوله.«ألم تر الي الذين قيل لهم كفوا ايديكم و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال اذ فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية». النساء/77الكلام علي أناس من المنافقين كانوا يتصفون بالشراسة و أدعاء القوة فجاء الامر بالطلب منهم ان يمسكوا عن ذلك و أن يكون حالهم كحال المسلمين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة.لكنهم لما كتب عليهم القتال اذا انهم في غاية الجبن والخوف...ان مثل هؤلاء جديرر أن يدعو الله نبيه الي الازدراء بهم و احتقارهم و عدم ائتمانهم و الاطمئنان اليهم...و في كلمة «الم تر» ما يعني معني قول القائل: فاعجب لقوم هم علي مثل هذه الحال من سوء الطباع و الخصال...و رغم ان المنافقين لم يكونوا يعرفون بأعيانهم فان مشاهد اعمالهم و سوء خطابهم و لؤم نفوسهم كان يظهر منها للناس ما يحكم عليهم به أنهم من المنافقين...«ألم تر أن الله خلق السماوات و الارض بالحق ان يشأ يذهبكم و يات بخلق جديد، و ما ذلك علي الله بعزيز». ابراهيم 20/19جاءت «الم تر» هنا في مجال فلسفي يشار فيه الي قدرة الخالق العظيم اذ خلق السماوات و الارض و هو اذا افني الناس ان شاء كان قادرا علي ان يأتي بخلق آخر سواهم...ان النص يثبت في النفوس قدرة الله علي الخلق و أهلاكه و أعادته فهو صاحب هذا الملك و رب كل شي‌ء...و كلمة (الم تر) تحمل معني الاستشهاد بالنبي علي ان ذلك كائن لا مرية فيه. و في مثل هذه الخطابات الواردة بكلمة الرؤية بصيغة الاستفهام دليل علي عظمة الرسول بحيث يتخذ الله من رؤيته للأمور ما يقرر واقعيتها و وضوحها و ظهور معالمها... [ صفحه 204] «الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين باذن ربها و يضرب اله الامثال للناس لعلهم يتذكرون، و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض مالها من قرار، يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الاخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء». ابراهيم 27/24في النص المبدوء بكلمة (الم تر) ما يومي‌ء الي استعراض حقيقة عقائدية و اخلاقية هي ان الكلمة الطيبة جديرة بالحمد و جديرة بالاكبار و أن الله شبه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ذات الثمار و الظلال ينتفع الناس منها في مواسم عطائها فما تخطي‌ء حدس أحد فيها... و يعد ذلك بما ضربه من مثل الكلمة الطيبة مثل الكلمة الخبيثة التي شبهها بالشجرة الخبيثة التي لا خير فيها و لا رجاء. و قديما قال الشاعر في شجرات وصفهن:اذا لم يكن فيكن ظلل و لا جنا فأبعد كن الله من شجرات‌لقد صارت كلمة (الم تر) عنوانا علي ثبوت ما يرد في مجالها من امور اعلامية او عقائدية أو مما يدخل في اطار الاعتبار و الذكري و الموعظة التي تصحح اخطاء الناس...«الم تر الي الذين بدلوا نعمة الله كفروا و أحلوا قومهم دار البوار... جهنم يصلونها و بئس القرار». ابراهيم 29/28في كلمة «الم تر» هنا ما يشار الي تعامل قوم بالاثم الذي جرهم الي ان يكونوا من اصحاب النار... و يلاحظ ان التعبير بهذه الكلمة مقطوع بحقيقة ما يرد في النص بعد تلك الكلمة من حقائق و وقائع... و من هنا أستعملت الرؤية في هذه المعاني لانها أوضح الادلة علي يراد ابانته و اظهاره و الاعلان به...«ألم تر أنا أرسلنا الشياطين علي الكافرين تؤزهم أزا، فلا تعجل عليهم انما نعد لهم عدا، يوم نحشر المتقين الي الرحمن وفدا و نسوق المجرمين الي جهنم وردا»... مريم 83 و ثلاث آيات بعدهاالرؤية هنا غير بصرية و انما هي ذهنية و عقلية تستند علي العقيدة القائلة بأن الله يملك أن يفعل ذلك.ان الشياطين ابدا رمز شر ذريع لذك إذ يبعثهم الله الي الكافرين فانهم يأخذون هؤلاء الكافرين بالشر و يسدون عيلهم جميع آفاق التملص و النجاة...و تبدو الرؤية في ارسال الله الشياطين علي الكافرين من النظر الي افاعيل الكافرين الشنيعة و خبث مكرهم و لئيم تعاملهم و صلف مواجهاتهم...و قوله تعالي: «فلا تعجل عليهم» يراد به أن عاقبة أمرهم تظهر لأن من كان كذلك فلابد ان يكون له من العاقبة ما يكافي‌ء ذلك...«ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات و من في الارض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدوآب و كثير من الناس و كثير حق عليه العذاب و من يهن الله فماله من مكرم ان الله يفعل ما يشاء». الحج/18الرؤية هنا في «الم تر» رؤية تؤكد وضوح الحقيقة الثابتة التي تقرر أن كل شي‌ء في الكون مما خلقه الله يقر بوجود الله و عظيم سلطانه، و معني السجود المنسوب الي السماوات و الارض و الشمس و القمر و الجبال و غيرها انما هو الاعتراف بأن لا أحد يستحق العبادة سوي الله...و جاء ذكر الشمس و القمر و النجوم و ما الي ذلك لانها كانت من بعض ما عبده الناس من دون الله...و النبي صلي الله عليه و سلم أقدر من غيره بتذوق هذا المعني في النص القرآني لانه صلي الله عليه و سلم يفهم من أمره هذه المفردات الكونية مالا يفهمه الاخرون من غير الانبياء و الرسل الذين يرون في كل ذرة من ذرات الكون اكثر من دليل علي وجود خالق [ صفحه 205] الكون الذي هو مسبب الاسباب و رب الارباب سبحانه و تعالي عما يشركون...«ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءا فتصبح الارض مخضرة ان الله لطيف خبير، له ما في السماوات و ما في الارض و ان الله لهو الغني الحميد»... الحج 64/63في هذه الرؤية ما يعد من الامور البصرية النبي يراها الجميع و التي يرون آثارها و آثار عطائها اذ جاء فيها ذكر المطر و ماتم به من اخضرار الارض و بديهي ان اخضرار الارض يعني الانبات و الاثمار و توفير الرزق للعباد...ان في الاشهاد علي ذلك بكلمة «ألم تر» من معاني الاستمتاع بجمال الطبيعة و أنتظام أدائها مهمتها الزاخرة بالخير و النعم الالهية العظيمة لعبرة من اكبر العبر علي سلطان الله في ملكوته الواسع العريض... و قد وجدنا القرآن الكريم يثبت وجود الله بمثل هذه الادلة التي تقع عليها عيون الناس من مؤمنين و غير مؤمنين و لا تري الادلة التي جاء بها الفلاسفة علي وجوده من مثل الدور و التسلسل و ما الي ذلك من الكلام السوفسطائي مغنية شيئا في هذا المجال...«ألم تر أن الله سخر لكم ما في الارض و الفلك تجري في البحر بأمره و يمسك السماء أن تقع علي الارض الا باذنه ان الله بالناس لرؤوف رحيم»... الحج/65الخطاب هنا موجه الي النبي صلي الله عليه و سلم بلفظ (لكم) للدلالة علي عمومية القصد في مخاطبة الناس جميعا...و في النص ما يقوم حجة علي وجود الله و باهر قدرته. و بالغ تصرفه في ملكوت السماوات و الارض...«ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الارض و الطير صافات كل قد علم صلاته و تسبيحه والله عليم بما يفعلون»... النور/41بعض ما جاء من الخطابات الالهية للنبي مقرونا بكلمة «الم تر» ينتمي الي السور المكية و بعض ذلك ينتمي الي السور المدنية، لان في «الم تر» ما يوافق الخطابات التي خوطب بها الرسول في العهدين المكي و المدني، و ان كان لكل مقام مقال.المراد من تسبيح من نسب اليهم النص التسبيح من الكائنات المختلفة أنما هو من وسائل الايضاح الموصلة الي الحقيقة الكونية الظاهرة الدالة علي أن الله هو الذي خلق هذه الخلائق جميعا.و لا غرابة في نسبة التسبيح اليها فلعلها تملك التسبيح لخالقها و بارئها بلسان عندها هو غير لسان الادميين و الحيوانات الاخري...«الم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فتري الودق يخرج من خلاله و ينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء و يصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار، يقلب الله الليل و النهار ان في ذلك لعبرة لأولي الابصار». النور 44/43الرؤية هنا في قوله تعالي «الم تر» تتردد بين النظر بالعين الباصرة و النظر بعين الاعتبار و أستيعاب ماوراء الاشكال من صور و معان. و الجانب البصري في هذا النص كثير المعالم و المفردات اذ جاء فيه من الفاظ السحاب و البرق و ما الي ذلك ما هو مرئي و ملاحظ أما الجانب الاخر الذي هو الجانب المعنوي فانه يرمز الي حسن تصرف الله عزوجل في آفاق هذا الملكوت ليظل جاريا علي نظام دقيق ذي ديمومة مستمرة.في كلمة (الم تر) حث للنبي صلي الله عليه و سلم علي ادامة التفكير في مفردات الكون و في ما يعرض لها من التصريف الالهي الدال علي عظمة الخالق و ما أودعه من حكمة بالغة في سائر مفردات كونه.بل ان الله عزوجل حث سائر أبناء البشر علي التفكر في ملكوت السماوات و الارض و السير في [ صفحه 206] الارض و تتبع ما فيها من معالم الخلق و الابداع و اذا كان ذلك مما أراد الناس ان يفعلوه فانه عزوجل قد أمر به نبيه أمرا يبلغ حد الفرض و الالزام.«ألم تر الي ربك كيف مد الظل و لو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا». الفرقان 46/45في هذا النص جاءت كلمة (الم تر) في أمر منظور و مشهود و أمر الظل يمتد و يقصر و يخفي وراء ذلك أسرارا تتحدد بها الازمنة و المواقيت و تتبين بها أجزاء النهار. و ما زال الفقهاء يقيسون أوقات الصلاة النهارية بالظل الذي يكون علي الارض حين تكون الشمس مشرقة... ان الظل - و لم يكن الناس يعرفون ذلك من قبل - هو رمز النظام الفلكي الكوني اضافة الي ما فيه للناس من منافع ينتفعون بها في حياتهم اليومية.في النص ما يستدعي تسبيح الخالق اذ جاءت فيه كلمة (ألم تر) مصروفة الي الله بلفظ (الي ربك) لأن ما جاء من ذلك مراد به اثبات ربوبية هذا الرب العظيم و في النص تعليم للنبي ببعض أدلة الاثبات الدالة علي أن ربه قادر علي أن يصنع كل شي‌ء في هذا الكون العظيم و قوله تعالي (و لو شاء لجعله ساكنا) بيان بأن الله اذا صنع شيئا فانه يستطيع أن يصنع ما يخالفه و يناقضه ولكن الله عزوجل رسم خارطة هذا الملكوت العريض علي الهيئة التي اقتضتها حكمته فبات الكون لابد من وجوده لضرورة وجوده و انعدام ضرورة وجود ما سواه.«ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، و أنهم يقولون مالا يفعلون» الشعراء 226/225هذه الرؤية من الرؤي التي تعرف بالمشاهدة و الملاحظة و الكلام هنا آت في حق الشعراء الذين جاء في شأنهم قبل هذه الاية قوله تعالي (والشعراء يتعهم الغاوون) و جاء بعد النص المبحوث في شرحه قوله تعالي (انهم يقولون مالا يفعلون الا الذين امنوا و عملوا الصالحات و ذكروا الله كثيرا و انتصروا من بعد ما ظلموا و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.ان قوله تعالي ]الم تر انهم في كل واد يهيمون[ اشارة الي ما يستدعي العجب من أمر الشعراء في تقلبهم و تناقض مذاهبهم في الوقت الواحد و أستثني منهم الذين امنوا و انتصروا من بعد ما ظلموا و في النص اشارة لطيفة الي أن الشعراء لا يبصرون علي شي‌ء من الظلم يصيبهم... و قد أستعان النبي بالشعراء في ردع المشركين وكيل صاعهم بأكثر من صاع بالهجو و ما اليه من كلام مما هو مألوف في عالم الشعر من قديم الزمان.«ألم تر أن الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و سخر الشمس و القمر كل يجري الي اجل مسمي و أن الله بما تعملون خبير، ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه الباطل و أن الله هو العلي الكبير».لقمان 30/29في (ألم تر) هذه ما ينبه النبي صلي الله عليه و سلم الي بعض المعاني الفلكية التي تعد من اقوي الادلة علي وجود صانع حكيم صنع هذا الكيان الكوني الرحيب. بعض هذه الرؤيا بصري يراه الرائي في طلوع الشمس و غروبها فتحول الليل الي النهار و النهار الي ليل و بعضها نظري عقلي لا يدرك بالعين المجردة هو سر هذا الكون الذي لا يعلم أحد سر تكوينه و المراد من (ألم تر) هذه في هذا المكان اقرار هذه المعاني في نفس الرسول و افحام للكفار و المشركين الذين لا يملكون أن يزعموا أن أيلاج الليل في النهار و النهار في الليل و تسخير الشمس و القمر و ما الي ذلك من صنع الاصنام التي يعبدونها.«ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من اياته ان في ذلك لايات لكل صبار شكور». لقمان/31ما جاء بعد (الم تر) في هذا النص مما تدركه الابصار فيراه الناس و يعيشون في اطاره أن الفلك التي [ صفحه 207] تجري في البحر و هي السفن التي تنقل الركاب و السلع التجارية لتعد من نعم الله علي الناس.و عقلاء النسا و ذوو البصائر فيهم لا يخفاهم أن ما يجري في الكون من مثل حركة الفلك في البحر انما يجري وفق ارادة الله. و في عرف العلم الحديث أن كل ما يجري في الكون يتم بمقتضي قوانين مادية ثابتة غير متبدلة... و ما يريه الله للناس من آياته انما يريد به ردهم اليه والايمان به و الاعتراف بعظمته.«الم تر أن الله أنزل من السماء ماءا فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانا و من الجبال جدد بيض و حمر مختلف ألوانا و غرابيب سود و من الناس و الدواب و الانعام مختلف ألوانه كذلك انما يخشي الله من عباده العلماء ان الله عزيز غفور». فاطر 28/27كل ما يرد من النصوص بعد كلمة (ألم تر) معبر به عن حقائق ثابتة بفعل المعرفة البصرية أو المعرفة الجدلية و في هذا النص مشاهد من الطبيعة تقع تحت أنظار الناس جميعا و قد سردت في النص سردا دقيقا من شأنه إيقاع الحجة علي الذين يساق اليهم الكلام الالهي من الذين لم يؤمنوا بعد لان كل شي‌ء في هذا الكون ينبه عقول ذوي العقول أنه من صنع الله و ليس من صنع الاصنام و المعابيد الباطلة المتخذة من الاحجار و غيرها و لذلك جاء في أخر الاية قوله تعالي (انما يخشي الله من عباده العلماء) أي ان العلماء يخشون الله خشية تامة لانهم يرون آثار وجوده في كل شي‌ء كائن في كونه.أن مثل هذه الايات المبدوءة بكلمة (الم تر) فيها تثقيف شامل لاطراف العقيدة و مفرداتها يثقف بها الله نبيه ليتولي إبلاغ الامة بها.«ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءا فسلكه ينابيع في الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما ان في ذلك لذكري لأولي الالباب». الزمر/21من الايات المكية المستدل بها من طريق الامور المحسوسة علي وجود الله ما جاء في هذا النص أنه اليه و الي نظائر من النصوص القرآنية يرجع الفضل الاكبر في القضاء علي الشرك و اثبات عقيدة التوحيد لدي كفرة اهل مكة لان ما كان دليلا مشهودا متكررا يراه الرائي صباح يومه و مساءه فانه يعطي عطاءه الكامل للناس من كان منهم من أولي العقول و ذوي الالباب و في النص بيان لمهمات أسباب الايجاد و الافناء اذ ينشأ النبات و يترعرع بفعل ما ينزل من السماء من ماء ثم يصوح بعد أن تكون الناس قد أفادت منه فوائد كثيرة و ذلك أمر لا يختلف و القانون الالهي في خلق الناس و الحيوانات و ما هو مادي من المخلوقات. فالاية اذن من الدلائل علي وجود الله و قد أستحضر الله صورتها المرئية في عاملها الواقع ليراها النبي بعين التبصر و الحكمة و التقدير السليم. ان كثيرا من الناس يمرون علي ذلك أو أن هذه الامور و المشاهد تمر بهم في كل حين من غير أن يعتبروا بها أو يتنهبوا اليها و لعلنا نلاحظ أن عالم الزرع و الفلك و المطر و ما الي ذلك يتكرر في القرآن الكريم في معرض الاستدلال علي وجود الله لانه حقا من خيرة الادلة علي وجوده عز شأنه.أن الادلة العقلية هي كذلك تعين الداعي الي الله في اثبات ربوبيته و وحدانية و عظم سلطانه في ملكوته إذ كانت ناصعة الحجة و قوية البرهان و منطقية الدليل فلقد رأينا بعض حجج الفلاسفة في هذا الباب متهافتة يمجها العقل السليم من مثل اللجوء الي الادعاء بالدور و التسلسل فان الاستدلال بذلك علي وجود الخالق لا يستقيم دليلا علي وجود شي‌ء يراد أثبات وجوده: أن الادلة العقلية المنوط بها اثبات وجود الله لتنهض سندا للادلة السمعية القرآنية حيثما وردت و ذكرت لان الحقيقة أبدا واحدة لا تعدد.«ألم تر الي الذين يجادلون في آيات الله أني يصرفون». المؤمن (غافر) /69 [ صفحه 208] كان كفار مكة يهبون في وجه النبي يجادلونه في أبسط الحقائق التي لا يماري فيها عاقل من عقلاء الناس و ذوي العلم فيهم. و جدل الكفار من اهل مكة يشوبه من اصرار المشركين علي شركهم و كفر الكافرين بكفرهم يضاف الي ذلك ما كان مألوفا لدي كفرة القوم من اللجوء الي السخرية و اتهام النبي صلي الله عليه و سلم بالاتهامات الباطلة من نحو السحر و الكهانة و غير ذلك.«ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات و ما في الارض، ما يكون من نجوي ثلاثة الا هو رابعهم و لا خمسة الا هو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا اكثر الا هو معهم اين ماكانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ان الله بكل شي‌ء عليم».المجادلة/7في هذا النص مسائل من الغيبيات التي تتعلق بصفات الله تعالي عزوجل و بأسراره في خلقه و قد نزل ذلك منزلة الحقائق المرئية و هي فعلا حقائق مرئية و إن لم تكن مرئية و ذاك لان الله تعالي مما يملك الرسل تصوره حين تنهض المخاطبات الالهية به عند الحديث بذلك الي الرسل فان ما يرد بعد الكلمة القرآنية (الم تر) يعد مما يمكن أن يراه النبي بأقتدار يكون لديه علي رؤيته و لذلك أستعملت صيغة الرؤيا في هذا المقام.«ألم تر الي الذين نهوا عن النجوي ثم يعودون لما نهوا عنه و يتناجون بالاثم و العدوان و معصية الرسول و اذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله و يقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير». المجادلة/8في هذا النص لفت نظر النبي الي قوم من المنافقين كانوا يجتمعون للخوض في أمور لا منفعة للاسلام منها و لا للمسلمين و قد نهوا عن ذلك و حذروا مما يفعلون فلم ينتهوا و لم يبالوا التحذير و كان يظهر علي سلوكهم عند قدومهم علي الرسول ما ينم عما في بواطنهم من ابطان الاثم و المعصية و شعائر الكفر و الضلال و قد جاء في النص ما صرح بان هؤلاء القوم هم من أهل النار و في النص القائل (الم تر الي الذين نهوا عن النجوي ثم يعودون لما نهوا عنه) فضح لهم و تشنيع عليهم و اعلان لفاسد تصرفهم و باطل أعمالهم اذ شاء الله ان يستعرض ذلك كله في صورة قربها من أنظار نبيه ابان حياته صلي الله عليه و سلم في المدينة و قد كشف الله لنبيه عما كان يقوله المنافقون في انفسهم من قول كتموه و فضحه الله.«الم تر الي الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم و لا منهم و يحلفون علي الكذب و هم يعلمون»... المجادلة/14في هذا النص ابراز لحالة قوم من المنتمين الي الاسلام يوادون قوما غير مسلمين و يتولونهم رغم أنهم من أشد اعداء المسلمين بحيث وصفوا بانهم غضب الله عليهم و في كلمة (الم تر) استحضار لصورة القوم أمام النبي و كان كأنه يشهد أفاعيلهم كلها كلها و ما جاء في كلمة (الم تر) في اكلام علي المنافقين يراد به اشهار مكايدهم و مفاسدهم و كفرهم و ضلالهم و افكهم و نفاقهم و خبيث مواقفهم ليكونوا عبرة للناس. ان تولي المنافقين قوما من غير المؤمنين يعني انشدادهم اليهم و استنصارهم بهم علي المؤمنين و ذاك من اشد الجنايات و الجرائم التي يلجأ اليها من ينشقون عن قومهم و أمتهم و رسولهم و من هنا اعلن القرآن الكريم تهديدهم باشد العقاب يوم القيامة.و في مثل هذه المواقف يري النبي و هو يعاني من أفراد يعيش بينهم و يعيشون قريبا منه ما يعانيه من سوء ايذائه و التظاهر عليه والاساءة الي المخلصين من أتباعه أجل انها لمعاناة قاسية تشغل البال و تؤذي المسلمين في حين كان النصر يدب الي الفئة المسلمة و يتعالي شأن الاسلام في الجزيرة خارج المدينة و قد وصل خبره الي خارجها فما أعظم قيادة هذا القائد العظيم صلي الله عليه و سلم و ما أجمل صبره و أشده [ صفحه 209] حزمه و ما أقوي يقينه بالله ربه الذي حقق له النصر علي جميع خصومه لا سيما من أظهر الايمان و أبطن الكفر و الانسلاخ من الايمان.«ألم تر الي الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم و لا نطيع فيكم أحدا أبدا و ان قوتلتم لننصرنكم و الله يشهد انهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم و لئن قوتلوا لا ينصرونهم و لئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون». الحشر 12/11المنافقون فئة من مدعي الايمان يخفون في صدورهم الكفر القديم و يبدون لمن حولهم بعض معالم الايمان ولكن رقة الدين و فساد العقيدة ظاهرة فيهم و ما يلبسونه من ثوب الرياء يكشف عن كل ما في بواطنهم لذلك صارت اصابع الاتهام تومي‌ء اليهم و صار الشك فيهم ينعقد في نفوس سائر المؤمنين و راحت الايات القرآنية تكشف عوارهم و تنم عن فاسد عقيدتهم و عن سوء نياتهم لما يجعلهم يشعرون بالمقت الذي يحاطون به من كل جانب و هم في الصورة التي أوضحها الله لنبيه علي ما جاء به النص القرآني الاتي بعد كلمة (الم تر) و راحوا يعربون لخصوم النبي و هم هنا اليهود عما قرره النبي بشأنهم من اخراجهم من الجزيرة اذ يقولون لهم ان النبي اذا اخرجكم من الجزيرة فانا سنتضامن معكم و نخرج معكم كما انهم يقولون لهم اذا قاتلكم المسلمون فسننضم الي جهتكم و قال الله في ذلك ان تضامنهم هذا كذب في كذب... و لم يتم الاجلاء النهائي لليهود في عهد النبي اذ وافته المنية قبل ذلك و انما تم اجلاؤهم منها علي عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) و بذلك ارتاحت الجزيرة و ارتاح عربها و ارتاح المسلمون فيها من مكايد اليهود.«ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد». الفجر 7/6قصة عاد التي كانت تعد من عجائب الدنيا القديمة حيكت حولها الاساطير و قيلت فيها الاقاويل و كان القرآن الكريم قد اشار الي تاريخ هذه القبائل ايام قوتهم و بطشهم و أشار الي أن الله بعث اليهم هودا (عليه‌السلام) نبيا لهم كما أشار القرآن الي سوء معاملتهم نبيهم (عليه‌السلام) و في النص الذي نحن في صدده استحضر الله صورة عاد يوم هلاكهم و ضياع ملكهم فقال (ألم تر كيف فعل ربك بعاد، ارم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد) كما أشار الي ثمود التي هي عاد الثانية و قال فيهم (و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد) و أشار الله كذلك الي فرعون بقوله (و فرعون ذي الاوتاد) و المراد بالاوتاد الاهرام التي ما تزال كائنة في مصر و وصف الله هؤلاء الاقوام (الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد) ثم ذكر عقابه لهم (فصب عليهم ربك سوط عذاب، ان ربك لبالمرصاد).«ألم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، و أرسل عليهم طيرا أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول». الفيل/1 و ما بعدهاكان مولد الرسول صلي الله عليه و سلم في عام الفيل، ذلك العام الذي هاجمت فيه جيوش الحبشة مكة قصد الاستيلاء علي كعبتها المقدسة عند العرب...و قد لقي الجيش الحبشي في غزوته تلك عاقبة مروعة قضت عليه و أفقدته صوابه و اعادت فلوله هاربة من حيث أقبلت.و قوله تعالي (الم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل) يتم فيه استحضار الصورة بكامل هيئتها في ذهن الرسول الاعظم لما يفهم منه ان اهل مكة و من حولها ظلوا يتناقلون سيرة تلك المسيرة الطائشة الضالة التي لبثت سيئة الي وقت بعيد.و كيفية ما فعله الله بالغزاة كيفية لها هيئتها المعلومة في ذاكرة القوم من كلا الطرفين الغازي و المغزو فتسمية القوم باصحاب الفيل ظاهر فيها التهكم بهم [ صفحه 210] و بجحافلهم العسكرية التي ظنوا ان تهويلها باستصحاب الفيل سيترك أثرا عميقا من الرعب لدي أهل مكة و ذاك لفخامة الفيل و لما كان عليه من عدد و عدة قتالية قادرة علي التدمير دون أن يصل اليها حملة السيوف والرماح والرجالة...والتضليل الذي أشار اليه النص... (الم يجعل كيدهم في تضليل) يومي‌ء الي دقة المحاولة العسكرية و التدبير المعقود عليها و التضليل هو التبديد و الهدر و جعل جميع الطموحات في المغنم قد باتت هواءا في شبك و كانت كلمة الختام في هذا الصدد ان الله جعل الجيش الغازي كالعصف المأكول و هي صورة يبرز فيها الاخفاق و الانهيار العسكري و الخسارة القادمة باجلي الاوضاع المشهودة ان كل ذلك مما جعل الله الرسول يراه بالعين الباصرة و ان كان يعلم منه ما علم بعين الذاكرة و المهم في هذا التعبير أن يضيف الله نفسه الي رسوله (الم تر كيف فعل ربك) للتنويه بان ذلك ذو علاقة عضوية بمولد نبيه محمد بن عبدالله فلقد كان من بركات يوم مولده و يمنه علي الامة ان انجاها الله و أنجي الكعبة مما اراده بها الخصم القوي المتغطرس الذي كانت جريمته شديدة الخطر و جسمية الضرر.فلمولد النبي في هذه السورة مكان عليه من حجول اليمن و غرر البركة الكثير. و في غالب ما يرد في النص القرآني من اضافة الرب الي النبي ما يشير الي غاية متغياه يراد بها التنويه بوجود خيط من الصلة الادبية بين النبي و بين ذلك.و في فصل اخر من هذا الكتاب كلام ذو شي‌ء من التفصيل علي ما كان من ايراد كلمة (ربك) و الحديث عليها أشرنا اليه في عدة نصوص جاء بها ايراد هذه الصيغة.كانت ولادة النبي صلي الله عليه و سلم في عام الفيل و قد نزلت هذه السورة و النبي موف علي الاربعين من عمره الشريف و كأن السورة ترمز الي أن ميلاده صلي الله عليه و سلم كان في عام الفيل اي العام الذي هجم به القائد الحبشي ابرهة أبن الاشرم علي مكة ليستولي عليها الا أن الله أبتلي جيشه بالجدري - علي ما قال بعض المفسرين - و هم في طريقهم الي مكة فبادوا جميعا و وصف الله هلاكهم بقوله (و ارسل عليهم طيرا ابابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول) ولكن المسلمين عندما هاجروا الي الحبشة انما وقعت هجرتهم إليها بعد أن تغير اللون السياسي لحكام الحبشة اذ حدث هناك انقلاب عقائدي سيطرت به علي الحبشة فئة كان معتقدها الديني و هي فئة مسيحية مشابها للعقيدة الاسلامية في المسيح و من هنا كان هذا التقارب عونا للفئة التي هاجرت من المسلمين الي الحبشة فلقيت من حاكمها النجاشي الطمأنينة و الامان علي أن الحبشة كانت يومذاك من الاسواق التجارية للتجار العرب في بيوتات كثيرة تتعاطي التجارة و الاستيراد و التصدير بين الحبشة و بين الجزيرة العربية و قوله تعالي (الم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل) فيها كامل الصورة بكل اطارها و هي تري النبي عبرها ما حدث لغزاة الحبشة عندما غزوا مكة و وصلوا الي مشارف الكعبة و كانت صورة ذلك و كأن النبي صلي الله عليه و سلم يشهدها من جميع آفاقها.ان ما ورد في النصوص المستعرضة في هذا الباب و قد افتتح الكلام فيها بكلمة (الم تر) يكاد من يراجع هذه النصوص اكثر من مرة يفهم منها أن الله يخاطب نبيه في أمر كان ملما به و واقفا عليه فيروح عز شأنه يذكره به و هذا منتهي ما يكون من كريم الخطاب بين قائل و سامع و بين متحدث و متحدث اليه و بين آمر بأمر و مأمور به وسائل بسؤال و مسؤول عنه فما يقع في مثل ذلك من تجهيل من يخاطب في موضوع من اجل تلقينه و تعليمه... [ صفحه 211] و قد علمنا أن «لم» حين تدخل علي الفعل المضارع و هو فعل زمنه المستقبل فانها تقلبه الي فعل زمنه الماضي و لذلك قيل في «لم» هذه انها حرف نفي و جزم و قلب فالكلام الوارد بمثل هذه الصيغ يراد به الاستفسار عن احداث الماضي فكأنك اذا قلت «ألم تر» قلت أما رأيت متحدثا عن الماضي و ليس عن المستقبل كما أن الباري عزوجل كان يري محمدا بن عبدالله جديرا أن يكون له وجود علي مدي السقف الزمني من زمن آدم الي يوم خوطب به. و يستتبع هذا أن يكون النبي جديرا أن يكون موجودا حتي قيام الساعة...فما أعظيم رسول الله اذ تكون مخاطبات الله له علي هذا المستوي العالي من التوقير و التقدير و المقدمات التي تحمل شريف الخطاب و كريم الاسلوب و جميل الحديث كيف لا و من كان مخاطبا بذلك هو النبي العظيم محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم.

العصيان للنبي عصيان لله

في عصيان الله اثم كبير و ضلال مبين و كذلك يعد عصيان النبي صلي الله عليه و سلم. فان عصيانه عصيان الله الذي ارسله بالهدي و دين الحق ليظهره علي الدين كله. و لذلك جاء اسم النبي مقرونا باسمه تعالي في المقولات التي يقع فيها عصيان الله و ذاك اشعارا بعظيم معصية النبي و انه عدل معصية الله اذ لا وجود للنبي الا من وجود الله الذي اختاره رسولا منه الي عباده و لا يتهم الله في اختيار يختاره لانه عزوجل أعلم حيث يجعل رسالته... و في الايات التالية ما جاء من هذا الاقتران في ذكر المعصية...«يومئذ يود الذين كفروا و عصوا الرسول لو تسوي بهم الارض و لا يكتمون الله حديثا»... النساء/42عصيان القوم رسول الله لم يرد القول فيه مقرونا بعصيان الله انما جاء بلفظ «الذين كفروا». و في الاكتفاء بذكر عصيان القوم رسول الله زيادة واضحة في التعبير عن أهمية الرسول في مقام الايمان و عدمه... فان الذين عصوا الرسول كانت جنايتهم جسيمة و كبيرة بحيث واجهوا من العقبات ما تمنوا أن تسوي بهم الارض. اي أن يمسحوا بها فلا يبقي لهم وجود و بروز لعلهم بذلك يتسترون علي انفهسم و علي ما اقترفوه من عصيان الرسول في ايام حياتهم... و يفهم من هذا عظم شأن الرسول عند الله و أن عصيانه كعصيان الله و أن العقوبة واحدة فيهما. و قد كان من وضوح التصريح بذلك أن عصيان الرسول جاء بعد وصف القوم بأنهم كفروا و عصوا الرسل. اشارة الي أن عصيان الرسول انما ينشأ من انصراف النفوس الي الكفر...«و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا»... الاحزاب/36الضلال المبين حكم حكمه الله علي من عصاه و عصي رسوله... و عصيان الرسول انما هو عصيان الله لان الرسول لا يعد متصرفا في ايصال الاحكام الالهية الي الناس من تلقاء نفسه و انما هو مرسل من ربه. و قد أمره أن يقول للناس ما أمره به...«يا أيها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك علي أن لا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن و لا يزنين و لا يقتلن أولادهن و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن و لا يعصينك في معروف فبايعهن و استغفر لهن الله ان الله غفور رحيم»... الممتحنة/12جاءت الاشارة الي مبايعة النساء رسول الله في أن لا يعصينه في معروف و فيها اكتفاء عن الاشارة الي عصيان الله لما في ذلك من دلالة علي ذلك. و فيها ايضا [ صفحه 212] اشارة الي أن اوامر النبي واجبة الطاعة و في عصيانها ما يستوجب المؤاخذة... و لقد وجدنا ان بيعة النساء قد التمت علي مطالب هي لباب الايمان و ركائز العقيدة. و كان من متممات ذلك أن لا يعصي النبي في أمر بالمعروف يأمر به و نهي عن المنكر ينهي عنه...و كلمة - المعروف - هنا من القيود الاتفاقية [58] لا الاحترازية اي ان كل امر يأمر به النبي دون النص هو امر بالمعروف...«و من يعص الله و رسوله فان له نار جهنم خالدين فيها ابدا»... الجن/23يوضح النص بان عصيان الرسول و قد قرن بعصيان الله يستوجب الخلود في النار...«يا ايها الذين آمنوا اذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم و العدوان و معصية الرسول و تناجوا بالبر و التقوي و اتقوا الله الذي اليه تحشرون»... المجادلة/9جاءت الاشارة الي معصية الرسول تلو كلمة الاثم و العدوان في تناجي القوم اشعارا بأن معصية الرسول ضرب من الاثم و العدوان و هي حقا كذلك و مجال المعصية هنا مجال واسع يتناول العبادات و المعاملات و السلوك الخلقي و شؤون الحرب و القتال و اخراج الزكاة و سائر التصرفات مما يفهم منه أن الرسول كان هو القيم الاول علي الامة فما يصح من عاص ان يعصيه و لا سامع امر يأمره النبي به أن يسد اذنيه عنه فلا يطيعه و لا ينفذه ما كان ذلك في مستطاعه...في هذه الاية توكيد للمضمون الذي ورد في الاية التي سبقتها. و ما جاء فيها واضح لا يحتاج لطويل شرح و لا قصيره. و كان النص الاول اذ سجل عليهم التناجي السي‌ء في خلواتهم و اجتماعاتهم. جاء النص الذي يليه يهديهم الي التناجي الصحيح كما هو ظاهر.

آيات البعث

المراد بايات (البعث) ما جاء من النص القرآني مشارا به الي بعثة النبي بالدين الحنيف و كلمة البعث تساوق كلمة الارسال اي ان ارسل و بعث شي‌ء واحد. و قد استعمل هذا المصطلح في السور المكية و المدنية. و في ما يلي الايات التي تتناول ذلك...«ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم انك أنت العزيز الحليم»... البقرة/129هذه دعوة ابي الانبياء ابراهيم عليه‌السلام دعاها ربه و هو يرفع القواعد من البيت في مكة يوم حل فيها و قد استجاب الله لدعائه فبعث في الامة النبي المعني لينهض بالرسالة المنشودة...«كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه و الله يهدي من يشاء الي صراط مستقيم»... البقرة/213النص دلالة قاطعة علي ان مهمة الانبياء عدل مهمة الرسل لا فرق بين هؤلاء و هؤلاء و ان كان هناك من يظن ان الانبياء غير الرسل حتي ان بعضهم يعتقدون ان النبي ليس معه كتاب و لا يبعث الي الامم انما يبعث الي زوجته او الي نفسه و هو قول متهافت و قد جاء [ صفحه 213] النص القرآني ينقضه و يقرر ان الانبياء كالرسل يبعثهم الله مبشرين و منذرين و ينزل معهم رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس علي الله حجة بعد الرسل و كان الله عزيزا حكيما.«لقد من الله علي المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و ان كانوا من قبل لفي ضلال مبين.» آل‌عمران/164جاء النص مقرونا بلفظ المنة و التفضل عليهم «رسولا من انفسهم يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهمم الكتاب و الحكمة» فقد كانوا من قبل ذلك في ضلال مبين و في كلمة الامتنان هذه بيان بكبير نعمة الله علي الامة و في هذا ما ينبي‌ء بان الله احسن اختيار النبي الذي تفضل ببعثه الي هذه الامة و في المن من معاني اعظام النبي و اعظام رسالته ما هو ظاهر و ملحوظ.ان الله يبعث الرسل الي الامم لهدايتهم رضوا بذلك ام لم يرضوا اما الرسول الاعظم محمد صلي الله عليه و سلم فانه صار محل منة الله عليهم اذ ارسله اليهم لهدايتهم.«و يوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم و جئنا بك شهيدا علي هؤلاء و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‌ء و هدي و رحمة و بشري للمسلمين». النحل/89يصور النص القرآني هنا صورة في اجتماع الرسل بين يدي الله يوم القيامة. و الكلام علي انزال الكتاب يراد به التنويه بما كان من نزول الكتاب ايام حياة الرسول في قومه و قد احضرت صورة ذلك للربط بين الحالتين، حالة النبوة في الدنيا و حالة الشهادة يوم القيامة اذ كان للنبي في الاولي دور عطاء و في الاخري دور جزاء.«من اهتدي فانما يهتدي لنفسه و من ضل فانما يضل عليها و لا تزر وازرة وزر اخري و ماكنا معذبين حتي نبعث رسولا». الاسراء/15من عادل قانون الله في ثوابه و عقابه ان لا يعذب الا بعد ارسال الرسل و تشريع الشرائع و ثبوت عصيان العصاة و هذا ما نص عليه النص القرآني الكريم.«و ما منع الناس أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدي الا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا». الاسراء/94المراد بالبشر الرسول هو النبي محمد صلي الله عليه و سلم و قد تكرر في التنزيل مثل هذا الاعتراض علي رسالة الرسول فوقع الرد عليهم بما كان وراءه من القبول و الاقتناع.«و ما كان ربك مهلك القري حتي يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم اياتنا و ما كنا مهلكي القري الا و أهلها ظالمون». القصص/59ام القري هي مكة و قد بعث الله في ام القري هذه الرسول الذي جاء الناس بكتاب الله العزيز و ذاك لاقامة الحجة علي من يستأهل العقوبة الالهية وفق عدالة الله.«هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلوا عليهم أياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و ان كانوا من قبل لفي ضلال مبين». الجمعة/2المراد بالاميين الامة العربية التي عرفت بهذه التسمية و ان كان سائر امم الارض أميين بالفعل و الواقع التأريخي... و المراد بالرسول هو الرسول الاعظم محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم و قوله تعالي «و يزكيهم» اي يأخذهم بالترويض و التربية و التزكية لتزكو نفوسهم و تسمو أخلاقهم بعد أن كانوا في تسيب و ضلال كبير.«و أنهم ظنوا كما ظننتهم أن لن يبعث الله احدا»... الجن/7رغم ان العرب يعلمون علم اليقين ان سائر الشعوب قد بعث الله فيهم الانبياء و ارسل الرسل فانهم كانوا لا يتصورون هذا المعني ادني تصور فلما طافت رسالة الرسول الاعظم اليهم استعظموا الامر و لم يصدقوا و اشتراك في هذه الجهالة و الظن المظنون جهنم و انسهم... و هذا ما عناه النص القرآني الكريم. [ صفحه 214]

يا أيها النبي

«يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين». الانفال/64في هذا النص اشارة جاءت في توثيق علاقة المؤمنين بالرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم من انهم يصلحون ان يكونوا حسب النبي و معتمده. و قوله تعالي «و من اتبعك من المؤمنين» و هو تصريح قاطع بان للنبي اتباعا من المؤمنين يقفون في وجه الفئات المعادية للدين الحنيف... و في النص تطمين للنبي بتحقق النصر و حسن العاقبة لان الله هو قائل ذلك و هو معلنه و مذيعه. اذ كانت فيه الدلالة علي انه تعالي وراء النبي و هو كاف رسوله هم خصومه «فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم». البقرة/137«يا أيها النبي حرض المؤمنين علي القتال ان يكن منكم صابرون يغلبوا مئتين و ان يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون... الآن خفف الله عنكم و علم ان فيكم ضعفا فان يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين و ان يكن منكم ألف يغلبوا ألفين باذن الله و الله مع الصابرين»... الانفال 66/65في النص القرآني امر من الله للنبي أن يحرض المؤمنين علي القتال اذ كان وطيسه و ساحته ساخنة و كان الامر القتالي صادرا بالزام كل نفر من المسلمين بأن يكون عدل عشرة من الاعداء و قد أمر المسلمون بالصبر علي احتمال هموم القتال و شدته... و قد جاء في النص ان الله جعل الامر القتالي ملزما لافراد الجيش الاسلامي بأن يكون كل فرد من افراده عدل اثين من الذين كفروا اذ خفف الله عن الامة هذا التكليف، علي أن الامر القتالي أوجب علي المقاتلين المؤمنين أن تكون طاقتهم القتالية مضاعفة لطاقة المقاتلين الكفار و كذلك كان الحال... و بذلك غلبت الفئة المؤمنة الفئة الكافرة...ان النص ورد بلفظ الانشاء و لم يرد بلفظ الاخبار اذ ان الانشاء يقع فيه نصريف التكاليف التي تناط للمكلفين خلافا للخبر الذي لا يقع فيه شي‌ء من التكثير و التقليل... و اخبار القرآن من حيث يوصف الخبر فيه لدي الاصوليين بأنه يحتمل الصدق و الكذب نستثنيها - أي اخبار القرآن - من أن تنسحب عليها القواعد التي وضعها علماء الاصول فان الخبر القرآني لا يحتمل الا الصدق ألبتة. و من هنا لم يكن النص الذي تكلمنا عليه مخبرا بل كان منشئا. و قد ذهب غير واحد من المفسرين الي ما ذهبنا اليه في هذا الوجه...ان تكليف المؤمنين بان تكون طاقتهم القتالية عدل اكثر من واحد من المشركين و غيرهم ينبني علي ان من يقاتل في سبيل عقيدة يعتقدها غير من يقاتل في فراغ عقائدي او من اجل الحصول علي منافع محددة... كما ان تحديد هذه الطاقة في المقاتلين تحول دون تراخيهم في ساحة القتال عند الاخذ بالجد و الحزم و قاعدة الحسم السريع...«يا أيها النبي قال لمن في أيديكم من الاسري ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم... و يغفر لكم و الله غفور رحيم»... الانفال/70الخطابات الالهية التي توجه الي الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم منها ما يختص بالرسول شخصيا و منها ما يوكل اليه ابلاغ محتوياتها الي المؤمنين، و منها ما يراد به ان ينقله النبي الي المشركين و غيرهم...والنص الذي نحن في صدده هو خطاب اراد الله ابلاغه الي من وقع من محاربي قريش في - وقعة بدر - اسري في يد المسلمين... و القرآن يأمر هنا بمخاطبة الاسري برفق تام و ادخال التفاؤل الي نفوسهم و فيه كذلك ما يغريهم باعتناق الاسلام من غير تصريح بذلك لئلا يكون هناك ما يظن من استغلال المواقف الضعيفة لدي بعض الناس من غير المسلمين في جرهم الي الاسلام و حملهم علي اعتناقه [ صفحه 215] اجل لئلا يكون جر الناس الي الاسلام آتيا من مثل هذه المداخل و انما قال عزوجل «ان يعلم الله في قلوبكم خيرا» اي ان اقبلتم علي الاسلام و قوله تعالي «يؤتكم خيرا مما اخذ منكم» اي مما دفعتموه من الفدية و قوله تعالي «و يغفر لكم» انما ينصب علي حالة تلبسهم بالايمان و اعتناقهم الاسلام و الا فان غير المؤمنين لا يخاطبون بمثل ذلك، و قوله تعالي «و الله غفور رحيم» من الصفات الدائمة للباري عزوجل حسن بها خطاب النص.فلقد كان النبي هنا وسيطا مكلفا باستدعاء الاسري و نقل الموعدة الالهية اليهم، و قوله تعالي «في ايديكم من الاسري» اي الذين هم مطوقون بطوق الاسر و مقيدون بقيده. و هم كذلك يفتقدون الحرية و قد بات قدرهم بأيدي الجهة الآسرة و هم اذن في غاية الضعف و ضياع العز و فقدان الرجاء اذ كانت الجهة التي خرجوا في جيشها محاربين للمسلمين قد كانت مهزومة علي فرط غرورها و شدة كبريائها و بذلك يكون الاسير المنتمي الي الجهة المغلوبة اسيرا في غاية المذلة و الانصياع.فاذا كان الله عزوجل قد امر نبيه بان يخاطب اولئك الاسري باسلوب من الرفق جميل و لطيف و النبي قائد تلك الامة الغالبة فان في هذا معني من معاني البر و الانسانية و الرحمة.ان من شأن الخطابات الالهية التي توجه الي النبي ان فيها ضروبا من التعليم و التوجيه و التنشئة الرشيدة مما يخرج النبي من مثلها من التوجيهات و قد تعلم من ربه الكثير الذي يجعله يقتحم ساحة الجهاد و مواجهة سائر الناس من عدو و من صديق و قد افرغ النص في نفوس الاسري المشركين معني يفقهه المؤمنون قبل غيرهم و هو ان الله عزوجل يقيم احكامه علي ما يعلم في قلوب الناس فلقد لمح للمشركين ان اي خاطرة من الايمان تنقدح في قلوبهم يعلمها الله و ان اي مراوغة او محاولة خداع تتلجلج في صدورهم يعلمها الله و لذلك كان في مراجعة النبي لهم ما يغني عن النقاش و المفاوضة الجدل و الاستدراج.«يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأوالهم جهنم و بئس المصير». التوبة/73السورة مدنية و في المدينة كانت المواجهة المسلحه التي صارت الفئتان فيها متكافئة أو شبه متكافئة و كانت الحرب سجالا بينهما... ان الله يأمر نبيه بالوقوف في وجه اهل الكفر و المنافقين و اليهود و من جال في صفوفهم... و النص لم يرد صريحا في القتال ولكنه كان صريحا في استعمال الشدة و عدم اللين في المواقف التي تستعرض فيها القوي...فالامر الموجه الي الرسول الاعظم بهذا النص هو مجاهدة الكفار و اخذهم بما يستحقون من شدة و غلظة... و قد عطف في العبارة القرآنية المنافقون علي الكفار لبيان استحقاقهم لما يستحقه الكافرون من زجر و استقباح و انهم مثلهم في الشكل و الموضوع و ان كان المنافقون مبرقعين ببراقع الاسلام بحيث لا يظهرون ظهور الكافرين و انما كان الكلام عليهم معطوفا علي الكفار لاثبات انهم في مصاف الكافرين و علي خطهم...«يا أيها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين ان الله كان عليما حكيما». الاحزاب/1الكافرون و المنافقون الي شر و فساد و فتنة و عدوان فما يقترح مقترحهم الا ما يؤذي المسلمين و يضر بمصلحة المؤمنين لذا كان لابد من اخذ الحذر الشديد في مخالطتهم... و التحذير الالهي من اطاعة هذه الفئات المخاصمة كائن عن علم يعلمه الباري العظيم و حكمة يحيط بها عزوجل... و لا نعلم النبي اطاع الكافرين و المنافقين ولكن النص علي ذلك فيه تنبيه للأمة الي ما يجب أن يكون موقفهم عنده في مجال العلاقات [ صفحه 216] و المواجهات في مجتمع ملتم علي انماط متخالفة في الناس...«يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين أمتعكن و أسرحكن سراحا جميلا»... الاحزاب/28يوضح هذا النص نظام الحياة البيتية للرسول صلي الله عليه و سلم مع اسرته المؤلفة من عدة زوجات... و كان تعدد زوجاته صلي الله عليه و سلم مثار ادعاء المغرضين من المستشرقين اذ جعلوا زواج النبي من عدة زوجات ناشئا عن شديد الرغبة في النساء في حين ليس في الامر مثل ذلك. فان الرغبة في النساء ان كان لها ما ينظر به للموضوع نظرة قابلة للتصديق فان ذلك يتطلب أن يكون لهؤلاء الازواج قسط كبير من الرفاهية و بلهنية العيش داخل البيت و خارجه لان ذلك هو الذي يثبت للنساء استمرارهن في بيت الزوجية و تعلقهن بأزواجهن. و ما كان من الزوج قائما علي هذا الاساس فان تلبية مطالب الزوجات أمر لابد منه مهما كانت التكاليف ضخمة و باهضة...فاذا رجعنا الي النص القرآني الوارد في هذا الصدد فانا نري النبي قد طلب اليه أن يكاشف زوجاته بالواقع المشهود فيقول لهن انه لا يملك لهن شيئا من الرفاه و الرفاء بل لا يملك لهن الحد الادني للمستوي المعيشي المألوف في بيوت الناس و قد خاطب زوجاته «ان كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين أمتعكن و أسرحكن سراحا جميلا»...اي تعالين اطلقكن لتذهبن حيث تجدن ما ترغبن فيه و تتشوقن اليه من اسباب المعيشة المترفة...و ان كنتن تردن الله و رسوله راضيات بأي حال من حالات المعيشة البسيطة فان ذلك هو الذي يقيم الكيان الزوجي بيني و بينكن و ان الله أعد للمحسنات منكن اجرا عظيما.يفهم من هذا بوضوح ان غالب حياة النبي البيتية كان في غاية البساطة و التقشف و كان نساء النبي علي حال من الرضي بهذا النمط من المعيشة...حقا أن الحياة الزوجية التي كان يحياها النبي مع سائر زوجاته لم تكن الا حياة قناعة بما ييسر الله له صلي الله عليه و سلم و لزوجاته من المعاش خلافا لما عليه رؤساء الامم و شيوخ القائل و القادات و سائر الناس من الرفاه و بحبوحة العيش و السعادة و الانبساط...انا لا نبالغ في القول فنقول ان بيت النبي كان يعيش علي البؤس و الفاقه ابد الايام ولكنا نقول ان بيت النبي كان يجوع و يشبع و يغني و يفتقر و لم يكن طابعه العام البذخ و السعة في النفقة علي خط مستديم مستمر كبيوت الاغنياء و الموسرين... اجل انه بيت كسائر بيوت الطبقة المتوسطة في كل قوم و أمة...فلقد علم ان بيوت النبي كانت تقام فيها المآدب و يدعي اليها من يدعي علي ما جاء في النص التالي «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم الي طعام غير ناظرين إناه ولكن اذا دعيتم فادلخوا فاذا طمعتم فانتشروا...» الاحزاب/53 علي أنه كان صلي الله عليه و سلم من اجود الناس و اكرمهم و قد عرف ذلك فيه. و ما يستدل به علي بساطة بيوت النبي أنه صلي الله عليه و سلم وجد يوما علي باب بيته قراما [59] فيه نقوش و تصاوير فأمر بنزعه عن باب بيته قائلا «ما كان لنبي ان يدخل بيتا مزوقا» او كما قال و الغرض من ذلك أن لا يظهر الترف علي بيت نبي يحسن ان تكون حالته حالة بسيطة.«يا ايها النبي انا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا، و داعيا الي الله باذنه و سراجا منيرا». الاحزاب 46/45في النص الذي جاء بلفظ «يا أيها النبي» وردت الاشارة الي ان الله ارسله بمهمات كبيرة في هداية العالم [ صفحه 217] و تقويم ما اعوج من امور الناس و نشر التوحيد الذي اراد الله به ابطال الشرك بالمرة... (يا أيها النبي انا ارسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا و داعيا الي الله». و مفردات النص التي هي كون النبي شاهدا و مبشرا و نذيرا و داعيا الي الله باذنه و هي حقا مهمات جليلة في التكليف و فيها التشريف مما تبرز به عظمة رسول الله صلي الله عليه و سلم في عين امته و عيون الامم الاخري... و هي اعمال وظائفية مما يلبه الانبياء والرسل... اما قوله تعالي «و سراجا منيرا» فان ذلك هو عقد القلادة في تكريم النبي و اعزازه و اعلاء مكانته فهو السراج المنير وفق ما وصفه الله به و انه لوصف فيه من فخامة القدسية و عظمة الاعزاز و الاعلاء لشخصية النبي ما هو واضح كل الوضوح. لأن وصف النبي بالسراج المنير ليس وصفا لجوانبه الوظائفية يخص الرسالة و النبوة من نحو الانذار و الابلاغ و التبشير و الدعوة و ما الي ذلك من الكلمات ذات المعني المعجمي المألوف ولكن هذه الصفة «و سراجا منيرا» انما هي كلمة اراد بها الله أن يسبغ علي رسوله سوابغ التقديس و الاطراء العظيم و الاكبار و التفخيم و الصيت العالي و السمعة المباركة...«يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن و ما ملكت يمينك مما أفاء [60] الله عليك و بنات عمك و بنات عماتك و بنات خالك و بنات خالاتك اللاتي هاجرن معك و امرأة مؤمنة ان وهبت نفسا للنبي ان اراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم و ما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج و كان الله غفورا رحيما». الاحزاب/50مفردات النص واضحة المعاني و قد وقع القول علي بعضها اذ جري ايرادها حيث أوردت. و يعنينا من النص ما جاء من الايماء الي ملك اليمين و موقف الاسلام من الرق و الاسترقاق و ذاك أن هناك من يري في اعتراف الاسلام بالرق مطعنا فيه و مغمزا لمكانته الانسانية و اتهاما لهذا الدين الحنيف بالانصراف عن معالجة ما يصفونه بمشكلة الرق المأساوية في حين ان الاسلام ظهر و كانت للرق سوق في سائر ارجاء العالم، اذ كان تعاطي الرق مسألة معترفا بها. و كان ذلك من بقية ما تركته الحضارات القديمة من النظم الاجتماعية و الاقتصادية و الحربية السائدة.و كل ما فعلته هذه الحضارات اذ شاءت ان تفعل شيئا في هذا الشأن انها وضعت نظما و قواعد في تنظيم الاسترقاق و اجواء مشروعية...و كذلك كان موقف سائر الاديان من الرق... و ذاك لان وجوده كان جزءا مهما في حياة المجتمعات البشرية فالارقاء و فيهم الفلاحون و العالمون في الشؤون التجارية و المصانع و سائر اسواق الناس... فقد كان الانسان بضاعة و كان اداة عمل و مادة احتراف.ان موقف الاسلام من الرق و الارقاء اعتمد في شأنه الموقف الانساني و المنطقي و وضع خطة دقيقة في معالجة المشكلة التي لم تفكر البشرية في جعلها مشكلة عصر او مشكلة امة... فالعبد ينتقل من يد الي يد بيعا و شراءا ليعيش حيث ينتقل لا يعنيه تغير الوجوه و تبدل المالكين فقد الف ذلك فما كان يستوحش من حالة جديدة او يحن الي حالة قديمة. اذ ان انتماءاته تعددت و تناقضت فلم يعد فيها ما يلفت النظر الي أمر غريب مادام القانون الدولي العام يقر التعامل بجسده و احاسيسه علي مثل حالة التعمل بالبضائع، بل ان التعامل بالبضاعة البشرية تسوطه العصا و الرعاية، و التعامل بالبضاعة البشرية تسوطه العصا و تتحكم فيه قواعد النخاسة و اصولها المرعية يومذاك و منذ دهر بعيد... فانك لتري من يمسك بدجاجة يريد ذبحها في عرض السوق و هي تصرخ الصراخ الشديد فلا احد من الغادين و الرائحين يعنية أن الدجاجة ستذبح او لا تذبح [ صفحه 218] اذ كان من في السوق منصرف عن صراخ الدجاجة التي تناشد القوم انقاذها من سكين الذبح الحادة، ذلك لان العرف العام اقر ذبح الدجاجة التي شاء ذابحها ذلك.كانت للمروءة في الاسلام تجاه الارقاء سحنة ظاهرة عرفها الارقاء انفسهم، ففي البدء جاءت الشريعة الاسلامية لتجعل كلا من الحر و العبد عنصرا يهدف الدين الي جره الي محرابه يبني به كيانه و يتمد به ازره اذ ساوي هذا بهذا مساواة منظورة ملحوظة فهما من بعض خلق الله يقفان معا علي خط مستقيم عند عبادة الله في الصلاة.هذا المعني ارتاح له العديد و انكره الاسياد المالكون اشد الانكار... و بديهي ان ازالة الفرق بين الحرية و العبودية كان الحديث المعلن عنه في اللحظات الاولي التي اتسع فيها ضياء الاسلام الاول. فكان العبيد محل انتقام مالكيهم بكل قسوة منذ ذلك الهزيع... و بديهي ان هذا ادي الي تململ عظيم في حياتهم الطبيعية باتت لهم به شوكة و هم لم يكونوا يوم ما بذوي شوكة...البيان الاول في الثورة علي الرق كان هذا البيان و الاعلان الاول في ابطال الرق هو هذا الاعلان.اجل ان قدح هذه الفكرة الثورية في الاذهان صنع صنعه و فعل فعله في التحرك البشري نحو تحرير العبيد و اطلاق سراح الارقاء من حبالة الرق و فخ الاستعباد...لم يكن الامر في بدء الامر ليصيب اكثر من هذه الحصيلة المتحصلة في عالم الاسترقاق الشاسع العريض الذي كان اقتحامه مجازفة كبري و خرقا عظيما لحجاب اشتركت البشرية كلها في نسجه منذ دهر موغل في القدم حتي كان موقف الديانات السماوية منه موقف الساكت الحذر المتوجس كل الخيفة من مقارفة اية تجربة فيها من ملامح تحدي الرق العالمي يومذاك...لقد رأت الشريعة الاسلامية ان الارقاء هم دعامة الاعمال التجارية و هم مركز الثقل في كل صناعة و زراعة و انتاج و استغلال وصفق في الاسواق. فاذا الغي الرق بجرة قلم ان كان الغاؤه مما يدخل في نطاق الامكان فان الكيان الاقتصادي العالمي سينهار بالمرة...و يعني هذا ان مذاق هذا التحرير سيكون مشوبا بمرارة قاطعة لانه سيتبدل به عنوان الكارثة لا غير.والنقطة الاخري هي ان تنامي الحركة الاستعبادية في العالم التجاري للرقيق يعزز مشروعية الرق دوليا. و بهذا يفشل اعلان عتق الارقاء من دون دفع تعويض لاسيادهم عن كل رأس من رؤوس عبدانهم. و بديهي ان ذلك تصرف غير عادل اذ سيؤدي الي افلاس جميع تجار العالم و فقدان ثروات في فقدانها ما تخفي فيه القيمة الانسانية لالغاء الرق المراد الغاؤه...والنقطة الثالثة ان حياة الاسترقاق التقليدية التي سادت المجتمات البشرية احرارا و عبيدا قد صيرت عالم العبودية عالما متفسخا و محطما يفتقد القيم الانسانية كلا و ليس جزءا... لان اسلوب الاذلال كان هو الآخذ بهدب الحياة اليومية للارقاء. اذ كان العبد يباع بيعا علي بيع و ينقل من يد الي يد و يرحل من مكان الي مكان و يحمل ما فوق طاقته و قد يموت رازحا تحت العب‌ء الثقيل والاجحاف القاسي والاهانة المتعمدة التي تخلع فيها علي الانسان كل ثياب الكرامة فلا يكون فيها الانسان انسانا بحال من الاحوال...و بهذا فان اعلان حرية الارقاء لن تتحصل به حصيلة ما لانهم لن يستفيدوا من حريتهم المعلنة ادني استفادة اذ سيعيشون عيشة غوغائية سائبة عاجزة عن العيش في ظل اتفاق اجتماعي سوي...فان من فقد حريته و كرامته و انسانية اذا سلمته هذه الاقانيم بعد فقده اياها فانه لا يعرف لها من مذاق فهو كالطفل تسلمه كل شي‌ء فيروح يجهل كيف يصنع به. [ صفحه 219] ففي مثل هذا الموقف الدراسي الذي وقفته الشريعة الاسلامية من مسألة الحرية و العبودية تسني لهذه الشريعة العظيمة ان ترسم ادق الرسوم التوجيهية في معالجة الرق العالمي حتي زالت جميع اخطاره و انمحت سائر اثاره.كان الجانب الادبي و الخلقي في توصية السادة من مالكي العبيد بالاحسان اليهم ذات اثر حميد في تصيحح الوضع الاجتماعي العام فهذا التململ الرهيب في بيئات العبيد ان كان قد حدث من ذلك شي‌ء في حقبة من حقب التاريخ...بديهي ان الشريعة الاسلامية لم تكن ذات تمويل تنفقه علي شراء العبيد و عتقهم ولكنها نبهت الي فضيلة عتق العبيد في حالات كثيرة يمكن ان توصف بانها شبه يومية اذ اتخذت الشريعة من عتق الرقاب عقوبة علي ما كان يقع من صائم افطر عمدا، و حالف حلفة يريد التحلل منها و مبتغ اجرا و ثوابا من ربه...بل لقد اوجدت الشريعة علي اي من السادة اذا طالبه عبد من عبيده بالمكاتبة ان يبادر الي مكاتبته و المكاتبة هي ان يأذن السيد لعبده بالخروج من فلك التقيد بتلك العبودية زمنا ما يذهب خلاله العبد ليعمل منفردا فيجمع من المال ما يكفي لدفع ثمن رأسه لسيده علي نحو ما كان قد دفعه سيده من ثمن راسه عند شرائه...و في نظام العقاب كانت للشيعة لفتة رفق ملحوظة في معاملة الاماء اذ جعل عليهن من العقاب نصف ما علي المحصنات من حرائر النساء...ذلك بعض ما سنح لنا من موجز الكلام علي الرق و نظرة الاسلام اليه و طريقته الصائبة في معالجة مشكلته باسلوبه السمح الرشيد.و لا جدال في أن الرسول الاعظم كان له اتباعه الكثيرون المخلصون للدين و الملة في المدينة التي هي مهجرهم الجديد و قد هاجر اليها منهم من هاجر من قبله و من هاجر من بعده و ما زالت المدينة مفتوحة لكل من يدخلها او يخرج منها...الا ان الذي يشير اليه النص القرآني صدر هذا الفصل انه كانت للنبي هناك اي في المدينة اسير من ذوي قرابته من اعمام و اخوال و بنات عم و عمه و بنات خال و خالة...«يا أيها النبي قل لازواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدني أن مرفن فلا يؤذين و كان الله غفورا رحيما»... الاحزاب/59في النص القرآني حكم شرعي بالحجاب الذي فرضه الله علي نساء المؤمنين و فيهم ازواج النبي و بناته و كان للنبي غير واحدة من البنات متزوجات يسكن بالمدينة و قد أمرن و أمر جميع المؤمنات من نساء الامة متزوجات و غير متزوجات بالحجاب وفق ما تكلمنا عليه في الاوامر القولية. لاحظ الاية الحادية و الثلاثين من سورة النور المدنية. [61] .«يا أيها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك علي أن لا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن و لا يزنين و لا يقتلن أولادهن و لا يأتينك ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن و لا يعصينك في معروف فيابعن و استغفر لهن الله ان الله غفور رحيم»... الممتحنة/12النص يتضمن خطابا للنبي خوطب به بعد فتح مكة و فحواه أن من في مكة من المؤمنات اذ جئن النبي بوفد للسلام عليه و تهنئته بالفتح المبين و اعلان [ صفحه 220] اسلامهن و التزامهن بتنفيذ مفردات الشريعة الاسلامية والاقلاع عما كانت عليه المرأة في الجاهلية من تعلق باعمال و معتقدات نقضها الاسلام و رفضها فان علي النبي أن يبايعهن علي ذلك... و النص يكاد يكون ملخصا و مجملا لمفردات الشريعة الاسلامية السمحة التي لا تخص النساء وحدهن و انما تعم جميع المسلمين و كان من هذه النقاط القتل و السرقة و الزنا و الشرك بالله... لقد كان للمرأة قسط مهم في الكيان الاسلامي الذي بوأها مكانة عالية و شأنا عظيما. و لم يكن لها قبل ذلك مثل ذلك... «و لا يأتين ببهتان يفترينه بين ايديهن و ارجلهن» اي لا يأتين بذلك و هن جالسات و لا ماشيات فهو معني للبهتان يستغرق النهي عنه في جميع الاوقات و الحالات...«يا أيها النبي اذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن و أحصوا العدة و اتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة مبينة و تلك حدود الله و من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا». الطلاق/1الخطاب و ان كان موجها الي النبي بحجم كبير فهو كذلك موجه الي الامة لانه يتضمن حكما شرعيا هو محل العروض و الوقوع في حياة كثير من الازواج و ذلك أن الطلاق مسألة كائنة في سائر المجتمعات علي ما يخالطه في بعض الاحيان من خروج علي قواعد العدل و الانصاف و اصول الدين...«يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم»... التحريم/1يفهم من هذا النص ان الرسول صلي الله عليه و سلم كان كثير الرعاية لزوجاته و عظيم الحدب عليهم، فابتغاء مرضاة الازواج فيها دلالة علي حسن المعاشرة و التسامح في المآخذ الهينة، و الرغبة في ادامة الالفة و رفع الكلفة و اشعار الزوجات بأنهن غير اسيرات عند الزوج، كما ان في ابتغاء المرضاة من التواضع و تنحية ما هناك من فرق الاستعلاء الزوجي و قيمومته فلا تعود الزوجه تشعر بثقل كون الازواج قوامين علي النساء للطف المقابلة و حسن المخاطبة و أني كانت اسباب نزول هذه الآية فان النقطة التي نقف عندها في هذا الصدد الخاص لشخصية الرسول الاعظم قرآنيا يقرر ان النبي كان عظيم الشفقة بازواجه و رفيقا بهن كل الرفق صلي الله عليه و سلم...و في النص جاء قوله تعالي «تبتغي مرضاة ازواجك»... و انتزعنا من هذا النص أن سلوك الرسول في حياته الزوجية كان سلوكا عالي المستوي بشأن رعاية زوجاته و حسن معاملتهن و لا يؤذيهن في شي‌ء لان ابتغاء مرضاة الازواج يعني الحرص علي تحسين معاملتهن و المبالغة في استرضائهن و تلك خلة محمودة في الرجال و ان كان هناك من يظن أن توخي الرجل مرضاة اهله فيه أمارة علي الضعف في حين أن ذلك و ان كان يظن فيه الضعف فهو من اللين و خفض الجناح فما يعاب الرجل عليه حتي لو كان عظيم المنزلة و عالي الرتبة في قومه...بل كان صلي الله عليه و سلم يمنحهن فوق ما يستحققن من التحيز الودي و الميل الانساني بما يجاوز حدود الرعاية و موضوع حسن المعاشرة و كان صلي الله عليه و سلم يوصي الازواج بذلك واصفا النساء بانهن عوان عند الرجال.

باب و اذكر

من الخطابات التي خاطب الله بها الرسول الاعظم ما يدخل في اطار الامر بذكر احداث و اشخاص و في طي ذلك اكثر من تكليف للرسول اراد الله امضاءه و تنفيذه و ايصاءه بتذكره و مراجعته. و هناك نوع من الذكر يراد به ذكر الله عزوجل و هو و ان كان قد خوطب به النبي فانه من حيث العقيدة الدينية موجه بعضه الي النبي و رعيته و يحسن ان يلاحظ في معني (و اذكر) معني القصص و شرح التفاصيل لمن يواجههم بذلك. و فيما يلي تفصيل ذلك... [ صفحه 221] «و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو و الآصال و لا تكن من الغافلين». الاعراف/205في النص توصية الهية الرسول الله بادامة تسبيح الله و ذكره في قراره نفسه علي وجه التضرع اليه تعالي او الانابة و ابراز أحاسيس الخوف و الخشوع و بصوت غير مرتفع اذ قد ينقلب ذلك الي صراخ علي مدي استمرارية التسبيح و ذلك في سائر اوقات الليل و النهار... و هو ورد يومي للرسول يؤديه بالتزام تام ان يذكر اسم ربه و اوصاه ان يلهج كل اللهج بذكر الله... و أكد أهل التفسير ان الصراخ في ذلك ممنوع و غير محمود...«الا أن يشاء الله و اذكر ربك اذا نسيت و قل عسي ان يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا». الكهف/24في النص تهذيب و توصية للرسول من ربه بأن يعلم ان الغيب لله فلا يقرر علي وجه الجزم فعل عمل من الاعمال في يوم غد... لان غدا ليس له، ثم دعاه ان يذكر اسم ربه و اوصاه ان يلهج كل اللهج بذكر الله عن النسيان اذا عرض له او خشية ان يتعرض له و دعاه ان يتضرع الي ربه ليكون قريبا من الله ابدا... و هي دروس او اشبه بالدروس التي يعلم الله بها رسوله في كل حين ليكون ذلك من عوامل تكامل حسن سلوكه و اخلاقه و سائر مواقفه...«و اذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا»... مريم/16النبي هنا مكلف ان يتحدث علي قصة مريم و ما جري لها اذ إنتبذت مكانا أوت اليه، و من دأب القرآن الكريم ان يوصي النبي بالتحدث الي الناس عن أشخاص من الانبياء و غيرهم قصد التعليم و الاعتبار...«و اذكر في الكتاب إبراهيم انه كان صديقا نبيا»... مريم/41واللهج بقصة ابراهيم عليه‌السلام و اخبارة و مواقفه التوحيدية من مثل ما جاء في الآيات التالية «اذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع نو لا يصبر و لا يغني عنك شيئا يا أبت اني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان ان الشيطان كان للرحمن عصيا... يا أبت اني اخاف ان يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال اراغب انت عن آلهتي يا ابراهيم لئن لم تنته لأرجمنك و اهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي انه كان بي حفيا و اعتزلكم و ما تدعون من دون الله و أدعو ربي عسي أن لا اكون بدعاء ربي شقيا»... فانه مما كان الله قد أوصي نبيه ان يذكره و يتعبر به و يتحدث فيه الي الناس... و ذلك لاعاء الشخصية العربية لابراهيم عليه‌السلام ما تستحق الابراز للنسب العربي المتصل بابراهيم عليه‌السلام و هذا ما كبت اليهود كبتا ذريعا.«و اذكر في الكتاب موسي انه كان مخلصا و كان رسولا نبيا». مريم/51ما ينزله الله علي رسوله من اخبار الرسل و النبيين يوصي الله نبيه ان يجعل من ذلك تذكرة و يتكلم في شأنها الي قومه ليزدادوا بذلك علما و يكسبوا بذلك ادبا و يصيبوا عبرة...«و اذكر في الكتاب إسماعيل انه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا، و كان يأمر أهله بالصلاة و الزكاة و كان عند ربه مرضيا»... مريم/55والكلام علي اسماعيل و قد أمر الله نبيه ان يذكره و يتذكره و في النص اشارات اخلاقية عالية المستوي تتعلق بكون اسماعيل كان يتميز بصدق الوعد و انه كان مرضيا عند ربه و كذلك قص الله من خصاله الكريمة انه كان يأمر اهله بالصلاة و الزكاة... و المراد باهله سائر من يضمهم سقف بيته و سلطانه من نساء و بنين و بنات و ذوي قربي... و في تذكار ذلك ما فيه من حسن التوجيه و مواصلة التهذيب و التأديب. و ابراز الاسماء الكريمة ذات المآثر الممحودة. و الخطاب الموجه الي [ صفحه 222] الرسول في هذه المعاني هو خطاب لسائر الاتباع و ابناء الامة.«و اذكر في الكتاب ادريس انه كان صديقا نبيا»... مريم/56ان في ذكر هؤلاء النبيين و ما كان منهم من طاعة للخالق العظيم و جهاد في سبيل اصلاح شعوبهم و اقوامهم ما هو جدير بالذكر و الاعلان و التعريف و التأديب. لقد كان علي الرسول الاعظم ان يكرر ايراد الكلام في شأن أولئك الرسل لما في ذلك من تربية النفوس علي اكرام رسل الله و اعظامه تعالي و اجلاله و تسبيحه و تقديسه بما كان قد رسمه من اجل اصلاح عباده من ارسال الرسل اليهم صلوات الله عليهم...«اصبر علي ما يقولون و اذكر عبدنا داود ذا الايد انه أواب». ص/17في ذكر شخصية داود عليه‌السلام عبر جديرة بالاعتبار فانه علي ما وهبه الله من هبات الخير و التكريم و فضائل الاعمال و الملك و الشأن فانه تعرض من قومه لكثير من الاذي مما يستأهل أن يكون من العبر التي يعتبر بها النبي و سائر من يقفون علي الحقائق التي يعرضها الله في التنزيل بحق انبيائه و رسله الذين اراد الله ان ينقذ بهر عباده من الضلال و الكفر و الفساد...«و اذكر عبدنا أيوب اذ نادي ربه أني مسني الشيطان بنصب و عذاب». ص/41في قصة ايوب عليه‌السلام و عظيم صبره ما يستأهل الذكر و الحديث و الاعتبار فقد تحمل من اذي الاعتلال ما يشق احتماله حتي كافأه الله علي صبره بما كافأه به. و الباري عزوجل يوصي الرسول الاعظم بأن لا يغيب عن باله مواقف اولئك الانبياء العظام فلقد سبقوه في الابتلاء بعظيم الاذي و أليم عدوان الناس و كان أيوب علي فرط ما عرض له من العلة المنفرة. كثير التسبيح لله و اللجوء الي استغفاره و الانابة اليه...«و اذكر عبدنا ابراهيم و اسحاق و يعقوب أولي الايدي و الابصار». ص/45و هذه مجموعة اخري من رسل الله مجدهم الله و اطراهم بذكر ما اتصفوا به من الصفات الكريمة المحمودة و في ادكارهم و ادكار صفاتهم الجليلة التي حمدها الله لهم ما فيه من التهذيب و التوجيه السديد و الاعتبار...«و اذكر اسماعيل و اليسع و ذا الكفل و كل من الاخيار». ص/48تكرر ذكر اسماعيل عليه‌السلام و قد ذكرت معه عدة معدودة من الانبياء ممن اصطفاهم الله بالنبوة و جعل لهم الذكر الحسن و الصيت الكريم في تنزيله العزيز و كل اولئك مما اوجب الله علي رسوله الاعظم ذكره الدائم لان قوله تعالي «و اذكر» يعني كثرة ايراد هذه الاسماء بلسان الحمد والتبجيل و الحث علي تقبل مآثرهم و تقدير جهودهم و حمد مواقفهم.«و اذكر أخا عاد أنذر قومه بالاحقاف و قد خلت النذر من بين يديه و من خلفه أن لا تعبدوا الا الله أني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم». الاحقاف/21فلك هي قصة هود عليه‌السلام و قد ارسله الله الي قوم عاد. و في ذكر ذلك ما فيه من العبرة من الاتعاظ و الاعتبار و مقارنة ظروف الانبياء...«و اذكر اسم ربك و تبتل اليه تبتيلا». المزمل/8في النص توصية يوصي الله بها رسوله ان يذكر اسمه و التبتل اليه و هو خلوص العبادة. و هناك توصيات للنبي توصيه بالصبر علي ما يقع له من اذي قومه له و اصرارهم علي كفرهم و عصيانهم ربهم...«و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلا». الانسان (الدهر)/25في هذا النص ما يدل علي ان النبي كان مشغولا صباح يومه و مساءه بذكر الله والاخذ بهدب الخضوع [ صفحه 223] لدته العظيمة و يلي ذلك ان الله امره بالعبادة الليلية المتصلة. و هو ما يقال له التهجد «و من الليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا». و هذا ما يجعلنا نري النبي صلي الله عليه و سلم يقضي حياته اليومية بحالة الذكر و القنوت و التعلق بعبادة الباري‌ء العظيم. لا يقعد ن ذلك و لا ينصرف عنه. فاذا قال القائل ان النبي كان ذا لسان رطب بذكر الله و اللهج بتسبيحه و القنوت له و اللياذ به. فان قوله جد صحيح. و مطابق للواقع...كان النبي صلي الله عليه و سلم كثير اللهج بذكر الله و تسبيحه في كل حين من ليل و نهار و بكرة و اصيل و لم تكن تسبيحاته لربه عابرة و صارئة و لا كانت تسنح له حين يعن ذلك علي باله بل كانت لها ديمومة دائمة مما يفهم منه فرط انشغال النبي بعبادة بارئه العظيم و كان ذلك كله يقع في وسط كان فيه حيثما اتجه المتجه آثم او كفور «انا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك و لا تطع منهم آثما او كفورا» الانسان/24... و قد وصف الله من كان من الناس يومذاك يقوله «ان هؤلاء يحبون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا» الانسان/27... و بذلك نعلم عظم جهد النبي و ثقل مهمته في مثل تلك البيئة التي كان من طبيعتها ان تستعصي علي دعوة التوحيد و ان لا تستجيب لنبي بعثه الله اليها من خير ابنائها واشرف رجالها و اكرم أنسابها. و من التوصيات الالهية الموجهة للنبي صلي الله عليه و سلم اذ جاء الامر فيها بلزوم ذكر الله في النهار و في اعماق الليل. و لقد كان النبي صلي الله عليه و سلم يؤدي من ضروب العبادة لله ما لا يؤديه الاخرون من اتباعه المؤمنين...«و جعلنا علي قلوبهم اكنة ان يفقهوه و في آذانهم وقرا و اذا ذكرت ربك في القرآن وحده و لوا علي ادبار هم نفورا»... الاسراء/46كان اهل مكة من كفرتها و مشركيها يصرفون اسماعهم عن الاصغاء الي النبي و هو يتلو القرآن خوف ان يتسل الي قلوبهم فيؤمنوا به و هم لا يريدون ذلك... و النص يوضح هذا المعني و يجعل لذلك مقدمة هي كون القوم مجعولا علي قلوبهم من الله اقفال و اكنة و في آذانهم اثقال و احمال تقعد في طريقها عن الاصغاء والاهتداء... و جاء تلو ذلك من النص القرآني: «نحن أعلم بما يستمعون به اذ يستمعون اليك و اذ هم نجوي اذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا» الاسراء/47...إن معاناة النبي لجاجة قومه و عنادهم و نفورهم و تباعدهم عنه و فرط خصومتهم لأمر لم يكن ابن ساعة من نهار بل كان مما لا تعد فيه الايام و لليالي الطوال... و مثل ذلك يحز في نفس من يقبل علي قوم يدعوهم الي الهدي و هم في ضلال مبين... اجل انه يشق علي ينقذ اناسا لا يدركون اهمية هذا الانقاذ لفقدان التمييز لديهم بين الهوي و الهدي و بين الحق و الباطل و بين الصلاح و الفساد...«و من اظلم ممن ذكر بآيات ربم فأعرض عنها و نسي ما قدمت يداه»... الكهف/57التذكير جاء صيغة الفعل المجهول و المراد به الرسول في تذكيره و كذلك من عسي ان ينهض بمهمة التذكير في زمنه او بعد زمنه... و قد وصف الله القلوب التي لا تصغي لصوت الخير و الموعظة بقوله: «انا جعلنا علي قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا»...و مما يستدل به علي ما ذكرناه صدر هذا الفصل قوله تعالي الآتي في ذات السياق: «و ان تدعهم الي الهدي فلن يهتدوا اذن ابدا» الكهف/57...

باب تجد و لا تجد

وجود الشي‌ء أحد المحسوسات التي تدل علي الحقائق الثابتة و لا وجوده نفي له ان يعد من المحسوسات و استعمال الوجود في القرآن الكريم في مخاطبة النبي يحمل معني التوثيق الذي لا يحوم حوله شي‌ء من النفي و ما اليه و في الذكر الحكيم استعمالات بيانية لهذا الحرف و بمعني ذلك يرد بلفظ التشديد و التوكيد من مثل «لتجدن» و قد اراد الله عزوجل [ صفحه 224] في مخاطبة الرسول بهذا الحرف باستشهاد الرسول علي جمهرة من القضايا الساخنة و من وقوف الرسول عليها و احاطته علما بها يجعلها من ادق الحقائق القرآنية اليت تمتنع أن تكون مادة جدل و نقاش و جحد و انكار... فالرسول اذن - و هو مرسل من الله الي عباده - قد جعله الله و سيلة ايضاح و شاهد اثبات تقوم شهادته مقام شهادة الارض و السماء و من فيهن من اخلائق و الاقوام...و فيما يأتي نصوص جاء فيها هذا الحرف مشارا فيها الي مواقع السور و ارقام الايات. مع شرح ما يقتضي الشرح منها و تأويل ما يقتضي التأويل... و الدليل علي و ثائقية هذا الحرف اي (وجد. يجد) و ما اشتق منه قوله تعالي «ألم يجدك يتيما فآوي» فلقد كان اليتم حقيقة لا مرية فيها لأن الله اخبر عنه بأنه وجد النبي قد ابتلي به اي باليتم و لا تتحمل كلمة الوجود اي معني مجازي خارج علي دائرة الحقيقة و اطار الواقع. و قوله تعالي «و وجدك ضالا» كذلك «و وجدك عائلا»... اما قوله تعالي «فوجد الله عنده»... فان ذلك الواجد قد وجد آثار سلطان الله. لان سلطان الله دال علي الله و ليس في مجاز القول هنا ما يعارض الحقيقة او يخالفها...«و لتجدنهم أحرص الناس علي حياة. و من الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة و ما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر و الله بصير بما يعملون»... البقرة/96جاءت عبارة الوجود في النص مؤكدة ب(لام التوكيد) لتوثيق الحقيقة التي جري الكلام عليها في وصف اليهود بأنهم اكثر عباد الله حرصا عليها. و ذلك اشعارا بأن اليهود لم تنفعهم عقيدة التوحيد في هذا الامر اذ شاركوا المشركين في الحرص علي الحياة... و لتصوير صورة هذا الحرص لدي القوم جاء في النص ذكر الالف سنة التي يودون أن يعمروها مع عبارة التهكم بهم و السخرية التي جاءت بأنهم لو تحقق لهم أن يعمروا ألف سنة فان الالف سنة منصرمة و زائلة علي طولها فما إن يعصمهم من العذاب و العقاب الالهي الشديد. أن يعيشوا هذا العمر الطويل لان الالف سنة و الالفين و ما جاوز ذلك كلها من الزمن المتحرك الذي يجب علي من يعلم من الناس أن يعلم انه منته و في الاشارة الي ذلك نبز لهم بالغباء و السذاجة و غفلة العقل عن ادراك حقائق الاشياء... و قوله تعالي في ختام ذلك «و الله بصير بما يعملون» قرع لاسماعهم بأنه عزوجل محيط بكل اشايئهم احاطة لا يعزب منها عن علمه شي‌ء...«أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا». النساء/52في النص نفي صريح لوجود من ينتصر للذين لعنهم الله... و المراد بنفي النصير هنا من يملك نصرتهم من الله يوم القيامة و كذلك من يحاول نصرتهم في الدينا فانه مكتوب عليه الخذلان ابدا و ذاك لان جريرة هؤلاء الملعونين كانت في أنهم جعلوا عبادة الاوثان افضل من عبادة الله. و الكلام في النص مصروف الي اليهود الذين رجحوا شرك المشركين علي توحيد المسلمين رغم أن اصل ملتهم و هي اليهودية قائم علي التوحيد...ان نفي كون النبي و اجد لهؤلاء القوم نصيرا فيه من النفي حجم كبير جدا لان عدم وجود النبي لهؤلاء القوم من نصير يقوم مقام التوكيد القاطع بنفي هذا الامر المتوهم و بذلك يعرض الخذلان و اليأس كل العروض لمن نفي الله أن يكون لهم نصيرا او عونا معينا. و بذلك تكون شهادة النفي التي نسبها الله للنبي بقوله «لن تجد» اقوي شهادة نفسي في هذا الباب. لان الرسول ليس كأحد من الناس.«فما لكم في المنافقين فئتين و الله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من اضل الله و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا»... النساء/88كان رأي القوم من المنافقين يتردد بين تقديرين مختلفين. و أكد النص القرآني هلاك هذه الفئة و ضلال [ صفحه 225] سعيها و من اجل أن لا يكون لها رجاء في رضا الله و غفرانه نسب الاضلال اليه عز شأنه في قوله «و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا»... و من هذا النص قوله تعالي «ان المنافقين يخادعون الله و هو خادعهم و اذا قاموا الي الصلاة قاموا كسالي يراؤون الناس و لا يذكرون الله الا قليلا، مذبذبين بين ذلك لا الي هؤلاء و لا الي هؤلاء و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا» النساء/143... و قد ذكر السبيل هنا لبيان انهم لا مجال لهم للافلات مما قدره الله عليهم من العقوبة التي يستحقونها. و قد نفي وجود السبيل للمنافقين في ما خاطب به النبي «و لن تجد لهم سبيلا» اي ان السبل التي يقدرون علي الافلات منها الي النجاة غير موجودة اصلا لانهم لفرط ضلال عقولهم و قلوبهم لا يجدون من السبل المحيطة بهم ما ينفذون منه الي خارج الهوة التي هم فيها و لنفي وجوده هذه السبل نفيا باتا نسب الله الي رسوله صلي الله عليه و سلم انه هو كذلك لا يجد لهذه السبيل وجودا رغم انه يراقب الامور و يشهد الاحداث و هو في صفاء ذهن و طمأنينة فكر بحيث لو كانت السبل موجودة لوجودها و ان لم يجدها المنافقون... فالنص هنا جاء بصيغة تعد غاية في بلاغة التعبير عن نفي شي‌ء و عن احاطة القوم اي المنافقين بكل ما هناك من مغاليق الرجاء و حواجز التيئيس...«ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار و لن تجد لهم نصيرا»... النساء/145نفي وجود النصير هنا اي الذي ينصر المنافقين انما هو ادوات النصر التي تصل اليهم و هم في اعماق جهنم و كذلك لعجز هذا النصير أن يبرز للقيام بما يرجوه المنافقون لعجز هذا النصير أن يبرز للقيام بما يرجوه المنافقون منه من عون و اسعاف و قد جاء النص بنفي نصرة نصير ما لان النصير في العادة يكون ذا قوة و جرأة و تخطيط سديد لخطة العمل المطلوبة و في مواجهة قضاء الله لا نصير هناك... و لذا فان في الاية من صيغ التيئيس و اغلاق باب الفرج ما يعد من ابلغ التعابير صياغة و تعبيرا. و لم يقل عونا لان العون يملك أن يعين من يريد اعانة بالكلمة و الشفاعة و ما الي ذلك.ولكن النصير هو من يقتحم ساحة المواجهة بكل سلاح عنده و في نفي وجوده نفي لجميع الوسائل و الاساليب و المحاولات...«لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون»... المائدة/82ذكر الوجود في الخطاب الذي يخاطب به النبي هنا مقرونا (بنون التوكيد و بلام التوكيد ايضا) حكم بواقعية ما يجري الكلام عليه. اذ الوجود هو الاحاطة بالشي‌ء علي وجه تشترك فيه جميع الحواس المدركة مما يعد بذلك حقيقة ثابتة حاضرة غير غائبة و قائمة غير زائلة فان اليهود حقا هم اشد الناس عداوة للذين آمنوا في كل دار و في كل زمن و في كل جيل و ذاك لانهم يزعمون انهم شعب الله المختار. و الاسلام الذي يبغضون اهله اسقط هذا في عقيدته التي آمن بها الذين آمنوا فجعل اليهود كسائر خلق الله «و قالت اليهود نحن ابناء الله و احباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق» المائدة/18...و كان اليهود يجدون لهم في منطقة المدينة هوية و تجمعا و قلاعا محصنة فلما وصل الاسلام الي المدينة و استقر فيها و وجهت اليهم الدعوة باعتناقه زاد ذلك من غيظهم و حقدهم و عدائهم اذ وجدوا أنهم فقدوا كل شي‌ء و خسروا كل شي‌ء... و من هنا لم يكن نبزهم بشدة العداوة للذين آمنوا مبالغا فيه بل هو الواقع القائم الذي جعله الله في حكم المرئي المشهود اذ استعمل في التعبير عنه صيغة «لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود».ان اليهودية دين عرقي و شريعة اسروية لا تدعو احدا من غير ابناء اسرائيل الي اعتقاد عقيدتها و اعتناق شريعتها لذلك لم يكن الاسلام [ صفحه 226] قد نافسها في دعوة الناس الي اعتناقه و علي هذا فان منشأ العداوة نابع مما أشرنا اليه صدر هذا الحديث و كان من الضروري اعلاميا و واقعيا أن تنزل آيات كثيرة من القرآن لتضع مجموعة كبيرة من عيوب اليهود في ايديهم مما لفت انظار العرب من مسلمين و غير المسلين الي جبلة هؤلاء الناس و فرط كرههم لمن هو من غير ملتهم...و في مقابلة ذلك جاء ذكر قوم اخرين وصفهم الله بمودة المؤمنين اذ قال «و لتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و انهم لا يستكبرون» و قد عني النص بذلك من كان من النصاري الموجودين في الجزيرة و المترددين عليها من الحبشة و غيرهم و كان يومذاك شي‌ء من التقارب في بعض الاسس الدينية و الاسلامية ساعد علي بروز هذا الخلق الودي بين الفئتين مما كان له اثر ظاهر عند فتح المسلمين للعراق اذ ذكر مؤرخوا المسيحية أن نصاري العراق ارتاحوا كثيرا لهذا الفتح الودي بين الفئتين بفعل ما هناك من تقارب بينهم و بين الفاتحين في اللغة و حسن التعامل و بعض وجوه الالتقاء العقائدي. و اذا رجعنا الي العلاقات الاسلامية الحبشية فانا نجد ذلك في ايام هجرة المسلمين الي الحبشة دالا علي أن حكام الحبشة في تلك الفترة غيرهم في فترة الغزو الاول لمكة عام الفيل اذ دان حكام الحبشة فيما بعد بعقيدة في المسيحية استخلصت من قرارات المجامع النيقية يوم ذاك. و من هنا ارتاح النجاشي و جماعته من نصاري الحبشة الي ما سمعوه من موقف القرآن الكريم من مريم ام‌المسيح عليهم‌السلام.و كان القسس و الرهبان يومذلاك علي جانب من الحس الانساني و السواك الهادي‌ء الذي يأخذ بهدب التعاون...«و لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا. اذن لاذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا»... الاسراء 75/74ما من شك في أن مهمة الرسالة التي ناطها الله بالرسول الاعظم انما هي مهمة شاقة كل المشقة اذ كان علي الرسول أن يعمل علي قطع صلة العرب باصنامهم و اوثانهم و بكثير مما هم عليه من عادات و تقاليد و قيم توارثوها من زمن بعيد... و هم قوم عرفوا بشدة الاصرار علي ما ألفوه و اعتادوه من عنعناتهم و مثل جاهليتهم... لذلك كان من الامر الطبيعي ان يواجهوا رسالة الرسول اليهم بالانكار و المقاومة الشديدة و اللجوء الي شتي الوسائل التي يحسبون أنهم يجتثون بها عرق هذه الدعوة الطارئة عليهم و التي جاءهم بها رجل منهم بمفرده و لا عون معه الا ما يستعين به من عون ربه الذي لم يكونوا يؤمنون به. و من كان يؤمن به انما كان يجعله شريكا لبعض معابيده. و لذلك نبه الله الرسول الي ان يكون شديد الحذر من مكايد القوم و من دقيق مكرهم «و احذرهم ان يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك» المائدة/49... و لبيان عظم المحنة فيما لو استطاع كفار مكة و مشركوها أن يجروا الرسول الي ساحتهم فيبيت مقصرا باداء المهمة...جاء النص بعبارات فيها مكان من قوله تعالي: «اذن لاذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا» علي ان الفضل في ذلك كله اي استمساك الرسول بالوحي كله و التنبه للتحذيرات الالهية المنزلة اليه انما كان من فضل الله عليه بالتثبيت الذي لولاه لما استطاع الرسول أن يقف في وجه قوم أولي عناد و جاهلية ذريعة فيتغلب عليهم و ينتصر الانصار العظيم. و قوله تعالي: «و لو لا ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا» ينفي الركون اليهم بفعل قوة التثبيت الالهية. ولكنه يدل علي ثقل المواجهة اي مواجهة الكفار للدعوة و يدل علي أن الله [ صفحه 227] عزوجل كان وراء رسوله امدادا بالقوة و الصبر و العزم و المطاولة و يعني هذا ان الرسول كان ابدا يتلقي من الله الدعم و التأييد منه عزوجل في محل الرعاية و الملاحظة في كل لحظة من لحظات وجود النبي في ساحة المعركة الطاحنة بينه و بين القوم...«سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا و لا تجد لسنتنا تحويلا»... الاسراء/77.نفي أن يجد الرسول لسنة الله تحويلا هو نفي قاطع لوقوع التحول في سنة الله أي ما جعله الله امرا ثابتا و قانونا قائما لا سيما ما جري عليه الامر في التعامل مع جميع الرسل. و ليس المراد هنا بالسنة ما يعد من قبل النوافل و ما اليها من ما هو دون الفرائض و انما السنة هنا ما كان من نواميس القضاء الالهي... و في المصطلحات الحديثة يرد قولهم سنن الطبيعة اي ركائزها و ثوابتها التي لا تتحول و لا تتبدل و نواميسها...و قد تكرر هذا النص بالاية الثانية و الستين من سورة الاحزاب التي نصها: «سنة الله في الذين خلوا من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلا» كما تكرر النص في الاية الثالثة و الاربعين من سورة فاطر قوله تعالي: «استكبارا في الارض و مكر السي‌ء و لا يحيق المكر السيي‌ء الا بأهله فهل ينظرون الا سنة الاولين فلن تجد لسنة تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا» و كذلك تكرر ايضا قوله تعالي: «سنة الله التي قد خلت من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلا» الفتح/43...و يقع مثل هذا التكرار في الجمل القرآنية الحكيمة لتماثل اسباب النزول و تشابه موارد القوم...«و لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا. الا رحمة من ربك ان فضله كان عليك كبيرا»... الاسراء 87/86في هذا النص ما يشير الي أن اصطفاء الله لرسوله الاعظم محمد بن عبدالله بالرسالة ليس في مقام التكليف وحده بل هو في مقام التشريف ايضا و قد يكون التشريف اسبق من التكليف و من ذلك ما نحن مواجهوه. و في هذا النص ما يومي‌ء ايماءا دقيقا الي أن فيه تنبيها للنبي ينبهه أن لا يشتد همه لمواقف المشركين المثخنة بالعداوة و الحقد و فرط الكيد فان شرف الرسالة التي يحملها من رب العالمين الي العباد شرف عظيم و هذا هو معني قوله تعالي: «و لئن شئنا لنذهبن بالذي اوحينا اليك» فمن هنا كذلك يثبت الله لذاته العظيمة الفضل الاكبر علي رسوله «ان فضله كان عليك كبيرا»...و لو أن الله حبس وحيه عن نبيه. فصرف رسالته عنه لكان الهم في ذلك أعظم من معاناة اذي المشركين و علي هذا جاء قوله تعالي: «ثم لا تجد لك به علينا وكيلا»... فليس في النص انتقاص لما كان الله قد وهبه للنبي من مكانة عنده و شأن و قدر و اعزاز و تعظيم...«و من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم اولياء من دونه و نحشرهم يوم القيامة علي وجوههم عميا و بكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا»... الاسراء/97في هذا النص اسقاط لما يظنه الظانون من مسؤولية الرسول أن لا يتحقق له ايمان جميع الناس اذ ان الهدي هو هدي الله و الذين لا يؤمنون لا يؤخذ النبي علي جريرة كفرهم فهم وحدهم ينالون العقاب الاليم...و قوله تعالي «فلن تجد لهم اولياء من دونه» يدل علي أن اولئك الكفار لا اعوان لهم و لا انصار من عقاب الله و شديد بطشه و في «لن تجد» ما ينوه بعض التنويه بأن النبي صلي الله عليه و سلم في هذا المقام لا يملك الشفاعة لا مثال هؤلاء الناس لو شاء أن يتشفع فيهم لدي ربه.«ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد و من يظلل فلن تجد له وليا مرشدا»... الكهف/17 [ صفحه 228] جاء هذا الكلام الالهي في تضاعيف الكلام علي فتية اهل الكهف و الامر في هذا قديم و قد نقل الله نبيه الي ذلك العهد ليكون في صميم الموقع و في بحبوحة الحالة. و امر الضلال و الهدي أمر مستديم في حياة البشر فما جاء من قوله تعالي «من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد له وليا مرشدا» ينطبق علي السلف و الخلف... و نفي ان يجد النبي لمن يضلل الله من ولي مرشد تعبير عن قاعدة ثابتة لا تتبدل في عهد موسي عليه‌السلام و عهد نوح و عهده صلي الله عليه و سلم.«و اتل ما أوحي اليك من كتاب ربك، لا مبدل لكلماته و لن تجد من دونه ملتحدا»... الكهف/27جاء الكلام علي هذا النص في باب «واتل» و قوله تعالي «و لن تجد من دونه ملتحدا» تثبت للنبي علي اداء مهمة الرسالة لا سيما في ما يكون منها خاصا بالتلاوة أي بمجاهرة القوم بالنصوص المنزلة اليه مهما أدت هذه النصوص الي اغضابهم و ازعاجهم واقلاق راحتهم فانها مهمة علي النبي أن يؤديها و هو واجد من الله ما يلوذ به من ملتحد اي ركن حماية لا يجده في غيره... و في ذلك كذلك تنبيه للناس و تحذير صريح بأنهم ان لم يؤمنوا بالله فلا احد يجيرهم من الله...«لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الاخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو ابناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم»... المجادلة/22في النص القرآني اثبات لقاعدة ايمانية تقرر أن المؤمن الصادق الايمان لا يوالي كافرا و لا يواده و لو كان ذا قربي لان من رسخ الكفر في قلبه فانه يظل يحمل العداوة و البغضاء و الكره لمن آمن و ان كان من ذوي قرباه...فالمعادلة واحدة. و لا يصح القول ان الايمان سبب للتفريق بين ذوي الارحام فان قيل ذلك فان الكفر هو كذلك سبب للتفريق بينهم...

باب الرسول

هذه جمهرة من الايات القرآنية التي جري فيها الكلام علي الرسول مقرونا اسمه بصفة الرسالة و قد اوردناها في هذا الركن مشروحة بعض الشرح...«و لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون». البقرة/101القرآن الكريم في محتواه الذي هو محتوي التوحيد المطلق للخالق الباري‌ء العظيم لا يخرج في ذلك عما استوعبته التوراة من التوحيد ولكن اهل التوراة حين نزل القرآن الكريم و هو علي ذات النهج من الدعوة الي التوحيد حاربوه و نبذوه و هذا ما سجله الله عليهم في سجل الجنايات المقترفة من قبلهم و وصفهم الله بأنهم في فعلتهم هذه تصرفوا تصرف من يجهل الحقائق و لا يعلم منها شيئا. و قوله تعالي «و لما جاءهم رسول» يوضح أن رسالة النبي ليست خاصة بالعرب وحدهم و انما هي لسائر ابناء آدم عليه‌السلام من ذوي الديانات المعروفة و غير ذوي الديانات المعروفة لذا كانت مهمة النبي صلي الله عليه و سلم شاقة جدا اذ كان يواجه اكثر من قوم و يخاطب اكثر من امة و يدعو الي الاسلام فئات متضاربة الاراء مختلقة المعتقدات متباعدة الاهواء و من هنا برزت شخصية الرسول في مجالها الوظيفي شخصية نادرة النظير...«و اذا اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال أأقررتم و اخذتم علي ذلكم اصري قالوا اقررنا قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين»... آل‌عمران/81يشير النص القرآني الي أن الله اعلم النبيين من ذوي الكتب المنزلة بأنه باعث رسولا يختم برسالته الرسالات و بنبوته النبوات و هو مصدق لما معهم من حقائق الدين و اصول العقيدة. و قد دعاهم و المراد [ صفحه 229] بدعوتهم هنا دعوة اتباعهم و ان بعد الزمن الي الايمان بذلك الرسول ولكنهم اذ جاءهم الرسول المعني رفضوا الاعتراف له بالرسالة و حاربوه و كفروا بشريعته. و المراد بالرسول هنا رسول الله صلي الله عليه و سلم اي محد بن عبدالله... ان اخذ ميثاقا من النبيين و غيرهم ينطوي في مجال يعلمه الله فهو مما لا يدركه علم عالم و لا بصيرد ذي بصيرة و مثل ذلك في القرآن الكريم «و اذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين» الاعراف/172.«كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم و شهدوا ان الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين»... آل‌عمران/86الكلام هنا يدور حول فريق من المنافقين عرفوا باعتناق الدين اول الامر ثم انقلبوا الي الكفر من جديد. و من الامر البديهي ان من ذاق حلاوة الايمان ثم كفر فانه غير من لم يذق من حلاوة الايمان شيئا و مثل هؤلاء لا يستحقون أن يؤتمنوا علي حق و هداية و ايمن لانهم عرفوا ذلك و تذوقوه ثم نبذوه...فها هنا نتوقف لحظات لنري ثقل و طأة هذا الموقف علي شخصية الرسول صلي الله عليه و سلم اذ كان قد انفق من الجهد ما انفق حتي هدي الي الدين اولئك الذين عادوا الي الكفر من جديد. لا ريب أن نصية من يبعثه الله مصلحا لامته و هاديا لقومه الي سبل الخير و الرشاد فانه ليشق عيه ضياع جهده و اشتداد معاناته في مثل هذه الساحات التي تنهك فيها القوي و الطاقات. فلله هذا النبي العظيم الذي تقصر كلمات الاطراء عن اطرائه و الفاظ الاعجاب عن الاعجاب بشخصيته العظيمة المتفردة في طاقاتها و استعداداتها و صبرها و جلدها و متواصل مثابرتها و مستصعب ممارساتها...«اذ تصعدون ولا تلوون علي احد والرسول يدعوكم في اخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا علي مافاتكم و لا ما اصابكم و الله خير بما تعملون»... آل‌عمران/153هذا النص سبق بنص سابق هو قوله تعالي «و لقد صدقكم الله وعده اذ تحسونهم باذنه حتي اذا فشلتم و تنازعتم في الامر و عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الاخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم و لقد عفا عنكم والله ذو فضل علي المؤمنين» آل‌عمران/152... في النصين المتتابعين عرض لظرف من ظروف الاقتتال بين المسلمين و المشركين و هو علي وجه التحديد قد كان وقعة (أحد) التي كادت الغلبة تتم للمسلمين فلما فرطوا في التمسك بالخارطة القتالية التي رسمتها القيادة و علي رأسها الرسول الاعظم انعكست الاية و احيط بجيش المسلمين و كادا الغلبة تكتب للكفار اي الجهة الاخري و كان الرسول في صميم المعركة يري القوم قد انهزموا فكان يدعوهم الي العودة الي الساحة والالتمام فيها و اخذ المبادرة من جيش العدو...هذه الصورة تمثل جانبا مهما من عظمة شخصية النبي التي تتصل برباطة جأشه و صلابة عزمه و عدم خوفه و رعبه و شدة بأسه في ساعة مثل تلك الساعة و في ساحة مثل تلك الساحة و قد استطاع النبي أن يرد القوة الي الدين ضعفوا و الرجاء في الذين يئسوا و العزم في الذين انهاروا حتي تم نصر الله... و لم نجد النص قاسيا في مفرداته التي وصف بها المسلمين و انما كان هادئا لينا نالت به فئة المسلمين من لطف الله و سابغ رحمته ما جعلها تطمئن الي ايمانها و تثق بنصر ربها تلتم حول نبيها و رسولها... و قد جاء في ذات المجال القرآني استجابوا الله و الرسول من بعد ما اصابهم القرح للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم» آل‌عمران/173... [ صفحه 230] «و اذا قيل لهم تعالوا الي ما أنزل الله و الي الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا»... النساء/61في هذا النص جاء اسم الرسول مقرونا باسم الله و بما أنزل الله اشعارا بمكانة الرسول من ربه و عظم الوظيفة التي و كلها الله اليه و الدعوة الموجه الي القوم بالاقبال الي ما انزل الله علي رسوله من هدي و رشاد انما هي دعوة ذات مستوي عال من التهذيب و الموعظة الحسنة مما هو حري بالقبول و المبادرة الي الاستجابة ولكن المنافقين كانوا يبذعرون من هذه الدعوة. و في قوله تعالي «و اذا قيل لهم تعالوا» رفق في الخطاب و لطف في الحديث لا يخدش كبرياء من كان من القوم أخا كبرياء و ذا مخاشنة ولكن المنافقين و قد ملئوا حقدا و جبنا و ذلا و تقلبا لا يحمد مثله في الرجال... و المنافقون و ان كانوا غير مكشوفي الحال مئة بالمئة فان بشاعة تصرفاتهم كانت كثيرا ماتنم عن حقيقة امرهم و خفي حالهم و بذلك تنصب عليهم علامات التعجب و الاستفهام و الارتياب من قبل كثير من المسلمين.«و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي و نصله جهنم و ساءت مصيرا»... النساء/115مشاقة الرسول تعني عصيانه بلجاجة و اساءة تعامل لا سيما اذا كان هذا الذي يشاقق الرسول يشاقه بعد دراية و علم بما جاء به الرسول من هدي و حسن نصيحة. و قوله تعالي «و يتبع غير سبيل المؤمنين» هو تعبير آت لتفسير معني المشاقة أو هو متمم لذلك المعني... و بديهي أن من يقف مثل هذا الموقف تجاه الرسول صلي الله عليه و سلم فان له من الله العقاب العادل و الجزاء الذي يستأهله و هو النار يصلاها مذموها مدحورا. ان من يشاقق الرسول فانه يشاقق الله و من يعص الرسول فانه عاص لله...«يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم و ان تكفروا فان لله ما في السموات و الارض و كان الله عليما حكيما»... النساء/170الخطاب بلفظ «يا ايها الناس» يغلب فيه أن يكون من الخطابات المكية لان حجم الذين آمنوا في مكة كان حجما ضئيلا و الخطاب هناك - أي في مكة - موجه الي عامة الناس و لذا كانت كلمة «يا أيها الناس» سمة للخطابات القرآنية في مكة. ولكن حين كان سكان المدينة و من حولها متوزعين علي اناس كثيرين فيهم المشرك و فيهم الكتابي و فيهم اهل الحضر و فيهم اهل الوبر في اول ايام الهجرة فقد عوملوا في الخطاب معاملة اهل مكة لذا كان يصلح في مخاطبتهم استعمال «يا أيها الناس» في هذه السورة المدنية. علي أن في مخاطبة الناس بلفظ «الناس» فيه اشارة الي من لم يدب دبيب الايمان الي قلبه و لذلك حين جاء قوله تعالي «و ان تكفروا» غير معني فيه انهم علي شي‌ء من الايمان و كفروا بل انهم لم يكونوا علي شي‌ء من الايمان اصلا و معني قوله تعالي «و ان تكفروا» أي ان تستمروا علي كفركم و ترضوه لكم نهجا و عقيدة. و الرد علي كفرهم بقوله تعالي فان لله ما في السماوات و الارض» يعني ان الله عظيم و ان كل ما في السماوات و الارض له، و طوع امره، فهو في غني عنهم و عن امثالهم من الكفرة المارقين...«و اذا سمعوا ما أنزل الي الرسول تري اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين»... المائدة/13النص وارد في قسس نجران الذين زاروا لانبي فاتخذ لهم مستقرا في ساحة مسجده بالمدينة. فانه صلي الله عليه و سلم اذ قرأ القرآن و استمعوا له و اصغوا اليه انبجست من اعينهم دموع ساخنة تعبر عن فعل القرآن في عواطفهم و نفوسهم مما يفهم منه كذلك ان الرسول صلي الله عليه و سلم كان عذب التلاوة و ذا [ صفحه 231] جرس في قراءة القرآن شديد التأثير. و في الاصوات البشرية ما يكون له التأثير العظيم علي الاسماع العواطف و قد عرف الرسول بهذه الخصيصة فكان اذا تلا القرآن منذ اوائل نزوله عليه في العهد المكي فسمعه من سمعه أو شك أن يحتل القرآن مكانا من قلبه. و لذلك كانوا يتواصون - اي الكفار - بالابتعاد عن الاصغاء الي النبي و هو يتلو القرآن «و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون» فصلت/26... و لم يكن يومذاك من يقرأ القرآن جهرا علي الناس في الصلاة و خارجها غير النبي خوف البطش بهم و خوف اعلان من اسلم منهم اسلامه إن أراد أن لا يعلن اسلامه. علي ان الدموع المترقرقة في محاجر العيون عند سماع القرآن الكريم انما كان يقع لها ذلك اضافة الي رقة الصوت و عذوبته. اذ كان القرآن يتلي باللسان العربي المبين. و كانت لغة معروفة لسائر سكان الجزيرة فان لفهمه و ادراك فحوي عباراته و جمله و تذوقه و التلذذ بلاغته ما يجعله مفهوم الفحوي و لذا يكون بكاء من يبكي عند سماعه ناشئا من استيعاب ذلك و ليس مجرد ما يستعمل في ادائه من الانغام و عذوبة الصوت فقط رغم أن لذلك شأنا طبيعيا في ترثقيق القلوب.ان القرآن الكريم نزل بلغة قريش التي هي لغة الشعر و الادب لدي العرب، و القسس النجرانيون هم من اهل اليمن. واليمن كانت تنهج بالشعر نهج اهل الحجاز و اليمامة و غيرهم. و من اجل ذلك كان القرآن الكريم مفهوما لسائر قبائل العرب و عشائرهم و بطونهم و افخاذهم و سائر اصحاب الديانات فيهم...«و اذا قيل لهم تعالوا الي ما انزل الله و الي الرسول قالوا حسنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون»... المائدة/104المراد بهؤلاء الذين خوطبوا ب«قيل لهم» - علي ما في النص - هم عرب الجاهلية. و قد جاءت الآية التي سبقت هذا النص تتحدث في امرهم و في بعض معتقداتهم التي الغاها القرآن بالمرة و ذاك علي نحو ما جاء في قوله تعالي «ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام ولكن الذين كفروا يفترون علي الله الكذب و اكثرهم لا يعقلون» المائدة/103... لقد كانت للعرب ايام جاهليتهم احكام دينية لا يدري لها اصل ديني و لا صلة لها بشرع من شرائع الله فهذه الالفاظ هي ألقاب لبعض انواع النياق و الابل كان العرب يصلون في معاملتها الي درجة التقديس بحيث تطلق سائبة لا يعترضها احد مهما نفشت في المزارع و البساتين و الحقول و قد أبطل الاسلام ذلك و اباح اكل هذه الحيوانات التي اراد العرب تقديسها لدرجة وقع لهم بها ما وقع لعبدة البقر في بعض انحاء العالم. ولكنهم استعظموا الحكم القرآني في الغاء معتقدهم في هذه النياق. و قد ابطل الله عبادة العجل الذي كان اليهود عبدوه او اوشكوا ان يعبدوه تقليدا لما كان عليه الوثنيون القدماء في مصر و هذا ما توضحه قصة البقرة التي امرهم الله بذبحها فظلوا يماطلون في ذلك من فرط تعلقهم بها و لعبادتها «و أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به ايمانكم ان كنتم مؤمنين» البقرة/93...ان قوله تعالي - و اذا قيل لهم تعالوا الي قوله حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا - ان قولهم في هذا المقام يعنون به اصرارهم علي رأيهم في البحيرة و الوصيلة [62] و غيرهما مما كانوا قد [ صفحه 232] وجدوا عليه آباءهم «أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون»...«الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم اصرهم و الاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون»... الاعراف/157هذا النص مرتبط بجزء من آية سابقة ذلك الجزء قوله تعالي «قال عذابي اصيب به من اشاء و رحمتي وسعت كل شي‌ء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون»... القول الالهي لا نراه قاله الله لموسي عليه‌السلام و انما هو مما علمه الله و قدره في اقداره و كتبه في لوح غيبه...ان النص الذي نحن بصدده يشير الي أن الرسول الاعظم محمدا بن عبدالله مشار اليه في التوراة والانجيل و موصوف فيهما ببعض مهمات الرسالة الالهية من نحو احلال الطيبات و تحريم الخبائث و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و وضع الاصر و الاغلال.و جاء النص «فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه اولئك هم المفلحون»...المراد بهؤلاء القوم من كانوا انزلت اليهم كتب سماوية من توراة و انجيل كذالك من كانوا من اهل ديانات اخري و من لم يكن منهم علي دين و قوله تعالي «و عزروه» اي عظموه و اكبروه و احترموه و المفلحون الذين قال الله فيهم «اولئك هم المفلحون» هم سائر من اشرنا اليهم من الامم التي تقبل علي اعتناق الاسلام و تقبل برسالة الرسول الامي. و المراد بالامي من كان لا يعلم القراءة و الكتابة و كان غالب العرب هم كذلك... ان القراءة و الكتابة لو كانتا مما يعرفه النبي و مما يتعامل به في حياته اليومية فانها لن يغنياه شيئا لانهما ليسا مصدر نبوته فان الذين يقرأون و يكتبون من انبياء البشر لم يكن مصدر نبوتهم ما يعرفون من القراءة و الكتابة و ان ما جاءوا به من رب العالمين لم يكن مكتوبا في كتب درسوها... و الشريعة الاسلامية التي جاء بها سيدنا محمد صلي الله عليه و سلم لم ترد احكامها في شرائع مكتوبة و قواعد الميراث الاسلامي لم تعرف بالكتب من قبل و احكام الزواج و الطلاق في القرآن الكريم لم تعرف في كتب من قبل و احكام الصيام علي ما في الملة الاسلامية لم تعرف في كتب سبقت الاسلام و ان كان الصيام قد عرف لدي الاقدمين ولكن علي غير ما عرف لدي المسلمين... و قصص الانبياء في الكتب القديمة جاء القرآن بها مصححة و منقحة. و العبر المستخلصة مما جاء في التوراة و اعاد القرآن ذكرها و التنويه بها.لم تكن هذه العبر قد عرفت في كتب سالفة و القرآن لم تردد سوره و آياته علي نسق ما جاء في التوراة والانجيل اذ جاء القرآن صارفا النظر عن اسماء المدن و الاراضي و القبائل و الملوك و التواريخ والانساب و تخوم الارضين و اخبار تنصيب الملوك و غير ذلك فلو كان النبي يقرأ و يكتب و كان قد قرأ التوراة و الانجيل علي زعم من شاء ان يزعم ذلك فما جدوي هذه القراءة اذا كان القرآن الكريم لم يذكر من الانبياء غير عدد يسير و لم يشير الي الامم و الاقوام و تفاصيل الحروب. و يفهم من هذا ان الثقافة القرآنية لم تكن تستمد كيانها الثقافي من غير طريق الوحي الالهي الذي اقره القرآن الكريم و من هنا نعلم ان النبي كان اميا غير عارف بالكتابة او بالقراءة و لا ملم بالكتابة، فذاك هو شأن سكان الجزيرة العربية الا من ندر منهم اذ كان العرب كما اشرنا في غير مكان من هذه الفصول - تغلب عليهم الامية بفعل اعتدادهم بذكائهم و قوة ذاكرتهم و مثل ذلك غالبا ما يغني علي اللجوء الي القلم و الحرف لا سيما حين لا يجد الكاتب من يكتب اليه شيئا يريد ابلاغه به... ولكن الشريعة الاسلامية التي جاء بها محمد بن عبدالله سيد رسل الله الي عباد الله قد نظرت الي [ صفحه 233] العالم البشري نظرة ارادته أن يكون متحضرا و متعلما اذ شاء النبي و هو امي للعالم البشري أن لا يكون اميا و تلك من اسرار عظمة هذا الرسول العظيم صلي الله عليه و سلم.«يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول اذا دعاكم لما يحييكم و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه و انه اليه تحشرون»... الانفال/24الخطالب ب«يا أيها الذين آمنوا» ليس كالخطاب ب«يا أيها الناس». فان المراد بيا أيها الذين آمنوا فئة المسلمين فهؤلاء يخاطبون بالامور الاصلية والفرعية اما الناس فالمراد بهم سائر افراد المجتمع فانهم قد يخاطبون بالاصوليات و العموميات في غالب ما يخاطبون به. و في النص الذي نتكلم في اطاره أن الله يأمر الامة المؤمنة بأن يستجيبوا الله و لرسوله اذا دعاهم ما يحييهم. و قد الاحياء هنا قصد اتفاقي و ليس هو القصد الاحترازي لانه ليس فيما يدعو النبي الناس اليه ما هو في غير سبيل الاحياء و الافادة.و النص يوجب متابعة الاستجابة الله و للرسول لان في الغفلة عن هذه الاستجابة ما عسي أن ينسي المؤمن بعض واجباته نحو ربه و نبيه و انهم سيحشرون الي الله يوما ما فيسألهم عن فحوي ايمانهم و محتوي عقيدتهم. عليهم اذن مواصلة التشبث بأسباب الايمان و موجبات اليقين و أن لا يبتعدوا عن مسالك الهدي و الطاعة و العبادة الخالصة لله...«يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله و الرسول و تخونوا أماناتكم و انتم تعلمون»... الانفال/27يثبت النص هنا أن خيانة الامة الرسول كخيانتها الله و لذلك نهي الله الذين آمنوا ان يخونوا الله و الرسول و قرن ذلك بخيانة الامانات التي هي في عهدة الضمائر النظيفة و قوله تعالي: «و انتم تعلمون» يراد به ان لا يقع منكم شي‌ء من ذلك علي وجه القصد فان وقوع شي‌ء من المنهيات علي وجه الغفلة و اللاقصد غير ما يقع من ذلك علي وجه الاصرار والقصد... فلكل من هاتين الحالتين موقف يتخذ تجاهه القرار الملائم او المناسب...«و اعلموا أن ما غنمتم من شي‌ء فان الله خمسه و للرسول و لذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل ان كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا علي عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان و الله علي كل شي‌ء قدير»...الانفال/41كان الرؤساء و القادة عند توزيع الغنائم يكون لهم اكثر من سهم و حصة مما لا يقع لاحد من المقاتلين سواهم و في ذلك يخاطب قائد حملة عند توزيع غنائمهالك المرباع منها و الصفايا و حكمك و النشيطة و الفضول [63] .و لم يكن للنبي عند توزيع الغنائم سوي الخمس الذي يكون الله اي ما هو في سبيل الله نصيب و للنبي و لفئات اخري من ذوي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل يشركونه صلي الله عليه و سلم في هذا الخمس... اذ ان هؤلاء كلهم تكون اعطياتهم من الخمس الواحد. و يفهم من هذا ان انتفاع الرسول بهذه الاخماس انتفاع غير واسع القدر. اما ذوي القربي فالمراد بهم من يحضر القسمة من افراد المؤمنين. و ذهب قوم الي تحديد انتماءاتهم القبائلية و الاسرية اما ذو و قرابة النبي فان النبي ينفق عليهم من سهمه و حصته و اما اليتامي والمساكين و ابناء السبيل فان الدولة تنفقدهم و تبحث عنهم و تعطيهم اعطياتهم من [ صفحه 234] ذات الخمس... و يبدو أن موضوع الخمس يعالج أو كان يعالج وفق نظام حسابي دقيق. و بديهي أن الغنائم تحصي و تحمي من أي تصل اليها يد غير ذات حق في الاستحقاق و من هنا شدد النص في تحريم الغلول و هو اخذ شي‌ء من الغنائم من دون علم القيادة التي تتولي فسمة و توزيع هذا السهم «و ما كان لنبي أن يغل و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة» آل‌عمران/16... و بذلك كان النبي في انتفاعه من الغنائم افل نصيبا من القادات و امراء الجيوش علي ما ذكرنا... ان مهمة توزيع الغنائم و هي في العادة ملقاة علي القيادة المتمثلة بالرسول صلي الله عليه و سلم هي مهمة شاقة و حرجة و قد تواجه القسمة باعتراضات البعض من لا يتهيأ لهم حسن التقدير و دقة التصرف...حقا ان مهمة توزيع الغنائم علي المقاتلين عب‌ء ثقيل و كان جعل ذلك الي الرسول مما يزيد التكاليف و الاعباء الملقاة علي عاتقه صلي الله عليه و سلم... ان استحقاق ذوي القربي للخمس منوط بثبوت حاجتهم للنفقة. فمن كان منهم غنيا فليس له في الخمس نصيب لان ذوي القربي كثيرون و لا يسعهم الخمس الواحد.«ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا باخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله احق أن تخشوه ان كنتم مؤمنين». التوبة/13هذا النص في الكلام علي المشركين الذين عاهدوا الا أنهم نكثوا العهد و لم يلتزموا به و حق عليهم أن يعاقبوا و أن يقاتلوا فلا يحميهم من ذلك الا التوبة فلقد أسرفوا في الغدر و نكث العهود و ايذاء المسلمين. و النص الذي نحن في صدد الخوض فيه مسبوق بنص اخر بل بأكثر من نص اذ ان الموضوع القرآني الذي جاء في هذا الصدد قد احتواه فصل من الايات طويل.ان قوله تعالي (و ان نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون» التوبة 12 يوضح بعض الجوانب من سوء تصرف المشركين الذين كان همهم الطعن في الدين و نقض المواثيق و اثارة اسباب القتال و الفتنة و أوضح القرآن أن أيمان القوم التي كانوا يقسمونها لم تكن محل الاحترام من قبلهم هم بالذات. ان معايشة النبي بمثل هذه الظروف و الا حول المتكررة لهي معايشة غير سهلة الاحتمال علي حين كان النبي منوطا به من ادارة شؤون الامة في مجاليها الديني و الدنيوي ما هو كثير لا يكاد يحصيه من يريد أحصاءه.«والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»... التوبة/61نهي الله عن ايذاء رسوله و توعد من يفعل ذلك بالعذاب الاليم لان في ايذاء النبي ما يشغله عن مواصلة أعماله في رعاية أمر المسلمين و تحقيق مطالب الدين و الوقوف في وجه خصومه الكثيرين من اهل الكتاب والمشركين. ان توعد الله الذين يؤذون النبي بالعذاب و العقوبة مسألة طبيعية في مجال نهوض الانبياء بمهام الدعوة الي الله، علي انه تعالي قد تكفل حماية أنبيائه و رسله من مكايد اعدائهم و خصوم دينهم...«فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله و كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم و انفسهم في سبيل الله و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم اشد حرا لو كانوا يفقهون». التوبة/81المخلفون هم الذين لم يخرجوا مع المقاتلين المؤمنين للذود عن المدينة عند تعرضها لغزو كان مرادا به القضاء علي الاسلام في عقر داره و في مقر سلطانه ان المخلفين هؤلاء كانوا قد سرهم موقفهم العدائي من الرسول بل أنهم فوق انكماشهم عن المشاركة في القتال كانوا يغرون الناس بعدم الخروج مع النبي بدعوي شدة الحر يومذاك. و بخهم الله علي ذاك و لفت أنظارهم الي أن الحر الذي يحتمون منه فلا يحاربون بسببه سيواجههم حر أشد منه هو الحر الذي سيلفح وجوههم في نار جهنم. [ صفحه 235] «لكن الرسول و الذين امنوا معه جاهدوا بأموالهم و انفسهم و اولئك لهم الخيرات و أولئك هم المفلحون». التوبة/88في هذا النص شهادة للنبي بالجهاد في سبيل الله بماله و نفسه فما كان يقع في يده من مال ينفقة في هذا الوجه، و جهاده بنفسه هو أنه كان يغشي الوغي و يقود المعركة و يرسم الخطط العسكرية و القتالية و يصدر أوامر القتال و كان أصحابه يجاهدون كذلك بأموالهم و انفسهم و هي كذلك شهادة لصحابة النبي بصدق تعلقهم برسول الله و صدق طاعتهم له و صدق ايمانهم بالدين فان الجهاد بالنفس و النفيس في سبيل أمر ما يعد وثيقة في الاعتقاد بذلك الامر و كل قيادة يعد نجاحها مضمونا لما يتجمع من اخلاص الاتباع و النصراء و قد أعلن الله جزاء الصادقين من أتباع النبي و الذين كانوا في معيته عند كل قتال و عند كل شدة و عند كل ساعة عسرة. أجل وعدهم النبي بحسن الجزاء و المكافأة.«و من الاعراب من يؤمن بالله و اليوم الاخر و يتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول الا انها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته ان الله غفور رحيم». التوبة/99كان الاعراب ينبزون بالمواقف غير الناصحة و لا النافعة للامة و للدين و الملة ولكن النص الذي نقوم علي تفسيره أو علي الكلام عليه هنا أوضح ان في الاعراب من كانوا مخلصين للدين صادقين في الانتماء الهي ينهجون نهج الاحسان و الخدمة الخالصة لله و للرسول و هو نص فيه للاعراب تزكية صريحة و فيه عهد من الله بأن يثيبهم و يحسن اليهم.فالاعراب اذن ليسوا كافة محل النبز بالتقصير أو الكفر أبدا و في جميع الاحوال، و قوله تعالي «و صلوات الرسول» أي استغفاره لهم و دعاؤه الدال علي رضاه عنهم و الشافعة لهم عند الله فان شفاعة الرسول لامته ثابتة بأكثر من نص قرآني. من ذلك النص الذي بن يدينا. و يفهم من ذلك أن الاعراب كانوا يجدون هم و غيرهم في شخصية الرسول من القدسية العظمي ما يحملهم علي اعظامه و أكبار شخصيته و أعزازه و أجلاله و تهيب مقامه.«لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم»... التوبة/128في هذا النص الكريم اكثر من صورة رائعة كريمة لشخصيته صلي الله عليه و سلم فهو رسول الي العرب من العرب و جاءت العبارة القرآنية بلفظ «من انفسكم» للايماء الي العلاقة النسيبة الوطيدة و الصلة العرقية الوثقي بين النبي و بين بني قومه، و كان النبي يستعظم ان يعصيه قومه خوفا عليهم من الوقوع في هوة الكفر، و قوله تعالي «حريص عليكم» و في وصف ذي قيادة بالحرص علي من معه دلالة ظاهرة علي فرط انشغال البال و القلب براحة تلك الامة و مصلحتها و بتوفيق مسعاها نحو ما يسعدها و يكرمها و يريح بالها. و ختم النص بالشهادة للنبي بانه «بالمؤمنين رؤوف رحيم». و الشهادة الالهية برأفة النبي بالمؤمنين و رحمته و كريم تعامله شهادة غاية في العظمة و الجلال.ان القيادة النبوية للامة كانت مضمخة بالرأفة و الرحمة و طيب الرجاء و صادق التمنيات لها بالخير و السعادة... و مثل هذه الخلال تظهر جليا في سائر وجوه العلاقات الرعوية و علي قدم المساواة بين الجميع...«و لقد أرسلنا رسلا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية و ما كان لرسول أن يأتي بآية الا باذن الله لكل أجل كتاب»... الرعد/38في هذا النص المكي توكيد علي بشرية الرسل و من اوضح ما يدل علي ذلك تعاملهم البشري في اتخاذ الازواج و تكوين الاسر... و ما جري عليه من بعض شؤونهم الخاصة التي لم تنزل بها الديانات علي وجه الفرض و القسر. و يبدو أن هناك في جمهرة كفار مكة [ صفحه 236] من ذهبوا يستغربون ان يكون من يبعثه الله نبيا الي قومه ذا زوجة متزوجة به. فكان النص قد جاء ليوضح أن زواج الانبياء و الرسل لزوجات لهم هو امر طبيعي. اما الآية او الايات التي يطلبون من الانبياء اتيانها فما اكثر ما كان لهم من مثل هذه الطلبات و اذ ان الآيات من الله فليس علي النبي من حرج او تباعة حين لا يحقق للقوم ما يريدون من هذه الايات. و في النص بيان واضح علي أن قدرة الانبياء قدرة محدودة لا يتجاوزونها لان الله عزوجل لم يجعلهم و كلاء في سلطانه و علي ملكوته...«و ما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء و يهدي من يشاء و هو العزيز الحكيم»... ابراهيم/4كان الانبياء يرسلون الي اقوامهم أي ان كل نبي يختص به قومه. و بديهي أن ذلك يستوجب أن تكون اللغة بين الداعي و من يدعو و الرسول و من ارسل اليهم لغة واحدة. اذ لا ينفع في ذلك تراجمة أو وسطاء يشرحون معاني الالفاظ للناس. و اذ كان الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم هو النبي العربي لقومه و عشيرته اول الامر ثم لابناء البشر عامة في ذات الوقت فلقد كان لسانه لسان قومه فلا غرابة في ذلك و التعليل القرآني واضح في أن لغة النبي اذا كانت من لغة قومه فانه يبين لهم الشريعة بذات لسانهم، فاذا ضل من ضل فانما يضل علي مسؤوليته. و اذا اهتدي منهم من اهتدي فان سبيل الهداية سبيل واضح و معبد بسبب وحدة اللة...و عندما سلكت الدعوة الاسلامية سبيلها الي العالم ثبت بالدليل الثابت أن الامم الاعجمية ارتاحت للغة العربية و لم تتنكر لها اذ كان مستوي هذه اللغة في الجرس البياني مستوي عاليا هش له عقلاء ابناء الاعاجم و كان حفظ القرآن الكريم ميسورا و بذلك ظهر في الامم الاعجمية التي دعيت الي الاسلام فأسلمت من نبه فيها من فحول العلماء و التفسير و الفقه و البلاغة و قد كان لهم دور في الاسهام في ابتداع علوم لسانية كثيرة و غير لسانية ايضا توصلوا اليها ابتغاء خدمة القرآن الكريم و الملة الحنيفية السمحة...ان اشتراط أن تكون لغة الانبياء من جنس لغات الناس لم يعد قائما في تعامل رسالة الاسلام مع جميع الشعوب اذ يقتضي ذلك أن يكون للنبي اكثر من لسان و هذا يناقض مبدأ توحيد امم العالم في ساحة واحدة هي ساحة الاسلام و هكذا كان القرآن بلسانه العربي المبين قد جمع الناس جميعا في خيمته العظيمة...«و ما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه أنه لا اله الا أنا فاعبدون»... الانبياء/25في هذا النص ايماء الي وحدة الشرائع السماوية التي بعث الله الي سائر الاقوام و الامم انبياءه و رسله فان الغاية لبثت واحدة في جميع الرسالات السماوية لم تتغير و لم تتبدل اذ كان هدفها التوحيد قبل كل شي‌ء.و يفهم من ذلك ان الغرض من النص الذي نحن في صدده أن الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم لم يكن بدعا من اولئك الانبياء و لا كان امر التوحيد الذي جاء به بالامر الذي يقع موقع الاستغراب علي النحو الذي عرف لدي عرب الجاهلية من تحدي دعوة التوحيد و انكارها كل الانكار...«و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا ثم يتولي فريق منهم من بعد ذلك و ما اولئك بالمؤمنين». النور/47الايمان في المدينة غير الايمان في مكة اذا لم تكن في مكة شعائر و عبادات و احكام بحجم ما كان من ذلك في المدينة يرتبط بها المؤمن فيها ارتباطا وثيقا بحيث يسأل عن أي تقصير يقع له في ادائها كلا او جزءا و لذا فان (اي في المدينة) هناك كان يؤمن بالدين و يعلن انتماءه اليه ثم لا يلتزم باداء مفرداته و شروطه و اركانه فكان هؤلاء ينكلون عن التمسك [ صفحه 237] بالدين الذي اعلنوا انتماءهم اليه و مثل هؤلاء لا يعدون مؤمنين و الحكم عليهم ببطلان ايمانهم حكم صحيح... و هم من جرت تسميتهم بالمنافقين علي أن النفاق لم يكن موجودا في مكة...في هذه الذي اورده النص من نكول بعض المؤمنين عن الايمان تبدو به شدة معاناة النبي في مجاله الوظيفي الذي انتدبه الله اليه في هذه البيئة الكثيرة الزوغان و التقلب...«و أقيموا الصلاة و اتوا الزكاة و اطيعوا الرسول لعلكم ترحمون»... النور/56الامر باقامة الصلاة و ايتاء الزكاة هو امر عظيم لان الصلاة ذات شروط و اركان و سقف زمني مقسم علي اقسام و الالتزام باداء الصلاة ليس بالهين «و انها لكبيرة الا علي الخاشعين» البقرة/45... و كذلك القول علي الزكاة التي لها شروطها في اخراج اموالها الي مستحقيها و المال ابدا عزيز علي اهله و في توزيعه علي مستحقيه و هم ابدا غرباء نسبا و علاقة بدافعي الزكاة فيه بعض ما يشق من التكليف. لذلك جاء النص بوجوب اطاعة الرسول ليتذكر من يصلي و من يزكي معالم هاتين الشعيرتين فيظل ملتزما بها بحيث يستحق بذلك رحمة الله و حسن مكافأته...«لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو اذا فليحذر الذين يخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب أليم»... النور/63الكلام هنا في امر الاستجابة للرسول اذا دعا القوم الي اجتماع يدعوهم اليه. و في مثل ذلك تنكشف امور و يجري التشاور في مهمات من مصالح المسلمين. فاذا لم يحضر الي مثل هذه الاجتماعات من يدعوهم الرسول اليها اختل امر الامة و عصي الرسول في ما يريد اقراره و بديهي أن الاستجابة لدعوة النبي قومه الي الاجتماع بهم ما يؤدي الي تركيز مبدأ الشوري بين الراعي و الرعية لان النبي انما يدعوهم الي لقاء تعرض فيه مسائل لم ينزل في شأنها قرآن اذ لو نزل في شأنها قرآن لكان مغنيا عن دعوة الناس الي الالتقاء بالنبي و ابداء المشورة في الامر لمعروض.و التحذير القرآني هنا شديد و جدي لان التسامح في التنصل من دعاء الرسول للقوم الي ما يحزب من الامور دليل تشتت و تسيب و لا مبالاة بطاعة القيادة التي هي هنا قيادة دينية و دنيوية و التسلل لو اذا يعني التذرع ببعض المعاذير و التهرب من الوجود حول النبي و بين يديه في مسائل يجري النظر فيها لصالح المسلمين. و قد يكون من هذه المسائل ما يتعلق بأمور غزو يرتأي اعلانه بعد الاجتماع او عدم اعلانه...يفهم من هذا أن الله جعل لا يصدر من رسول الله من امر كهذا الامر ما تجب طاعته بلا اعتذار...«و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الاسواق لو لا أنزل اليه ملك فيكون معه نذيرا»... الفرقان/7يفهم من النص أن القوم يجهلون الكثير عن حياة الانبياء الاقدمين لبعدهم عن دراسة اخبار الانبياء و المرسلين اذ كانوا يظنون ان الانبياء لا يليق بهم أن يأكلوا و يشربوا و يخرجوا الي الاسواق بحثا عن الطعام الذي يعرض فيها... و هم يرون أن الرسول اذا كان يأكل و يشرب فانه يحسن أن يكون معه ملك يرافقه لينذر الناس بما جاءتهم الشريعة به و كأن هذا الملك لا يأكل و لا يشرب سيكون شاهدا علي صدق رسالة رجل من البشر اليهم. و هم بذلك يجعلون اوثانهم و اصنامهم - و هي لا تأكل و لا تشرب - اصلا للقياس في هذا الوجه...«و يوم يعض الظالم علي يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلانا خليلا... لقد اضلني عن الذكر بعد اذ جاءني و كان الشيطان للانسان خذولا»... الفرقان 29/27 [ صفحه 238] الظالم هنا من ظلم نفسه و ظلم الحق الذي جاءت به رسالة الرسول. و عض اليد تعبير عن الندم الشديد و قوله تعالي: «و يوم يعض الظالم علي يديه»... يعني عروض الندم الشديد له سواء أعض يديه أم لم يعضها... و المراد بذلك اليوم يوم القيامة و يروح هذا النادم الي القاء اللوم علي خليل له في عالم الحياة الدنيا نسب اليه أنه هو الذي اضله عن الذكر بعد اذ جاءه و ذاك بفعل نزغ الشيطان الذي كان هو الخاذل عن الاخذ بعري العقيدة و الايمان...و في النص تحذير للقوم يومذاك من اللامبالاة بالدين الذي جاء به النبي صلي الله عليه و سلم. و تحذير آخر من نبز الاخرين بجريرة التقصير في الاستجابة للرسول القادم اليهم بدين الله و شريعة السماء... و لغة النواح بالهم الثقيل ظاهرة في قوله «يا ويلتي»...«ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي الا اذا تمني القي الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته و الله عليم حيكم»... الحج/52في النص ذكر لا حوال من بعث الي الامم القديمة من انبياء و رسل و لا علاقة للنص بالنبي صلي الله عليه و سلم و ما قيل في سبب نزول هذه الاية من أن النبي عرض له ما كان قد عرض لبعض الانبياء القدامي من تحريف وحي الله اليه... لا يصح منه شي‌ء و ذلك لان حديث الغرانيق ذكروا فيه انه وقع عند تلاوة سورة النجم المكية... و ان قوله تعالي «و ما ارسلنا من قبلك من رسول و لا نبي» فلا يمكن البتة أن يخرج عليها بحال من الاحوال... و أن علماء الامة نصوا علي أن حكاية الغرانيق من صنع الزنادقة و قد وضعوها وضعها مصحوبا بغباء و سذاجة و ما اكثر ما وضعوا و لفقوا علي الرسل الاقدمين فخفي امرهم علي اهل تلك الازمنة. اما في صدد رسول الله صلي الله عليه و سلم فان شيئا من وضعهم لم يتسرب الي العقل الاسلامي و العقيدة الاسلامية اذ واجهه العلماء بالنقد و التمحيص و خسر هنالك المبطلون...ان الرسول صلي الله عليه و سلم كان عظيم النباهة و الحذق و الاخلاص والامانة في نقل النصوص المنزلة عليها من القرآن كما ان الآيات القرآنية كانت تتداعي عليه تنبئه الي اداء مهمته بكل دقة و تثبت ثم ان السجود لم يكن من مطالب النص المقروء في الآية التاسعة عشرة من سورة النجم «أفرايتم اللات و العزي» اذ قالوا ان النبي سجد عندها و سجد القوم ايضا فان السجدة الواجبة انما جاءت في الاية الثانية و الستين اي بعد جمهرة كثيرة من الآيات فالسبق الي السجدة حيث لا سبب لسجود احد ما يكذب القصة المسموعة ثم ان التعابير القرآنية في الكلام علي معابير القوم ظاهر فيها التهكم. فمن اين كان التهكم مصدرا للسجود. و ان الصلاة عند المسلمين لم يكن السجود جزءا منها اول الامر و انما كانت مجرد قيام و تلاوة للقرآن و استقبال للقبلة التي كان النبي عليها... ان حكاية الغرانيق «العلي» كلام لا ينطبق اصلا علي اوثان القوم و لا علي اصنامهم فالكذب و التلفيق ظاهر ان هنا في اطار من الغباء و البلاهة اللذين لا يعقلهما عاقل و لا جاهل...و انه ما من شك أن النبي كان معروفا بذكائه الخارق و نسبة تصرف خال من الذكاء و الفطنة اليه غير كائن و لا متصور كما ان غالب التقائه برجال قومه من المشركين لم يكن التقاءا وديا فمن اين جاء الانسجام بينه و بينهم في ناديهم الذي كانوا مجتمعين فيه... و النادي معد للهو و المفسدة في الغالب دأب عادة كثير من النوادي... و النوادي كذلك تغلب عليها التجمعات الحزبية و الاسرية و التمام الناس فيها علي وحدة الانتماء الي رأي او معتقد فمن اين وقع الاجماع علي السجود للاوثان عند ذكر الغرانيق. و العرب كان طوافهم بالاصنام هو تعبيرهم الكلي عن عبادتها. فمن [ صفحه 239] اين جاءهم السجود و كيف تابعوا النبي عليه و هو من صور العبادة الاسلامية؟!.«لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الاخر و ذكر الله كثيرا»... الاحزاب/21وصف الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم بأنه الاسوة الحسنة لامته لا سيما من كان من مؤمني هذه الامة و صالحي منتسبيها و اخيار ابنائها ممن يذكرون الله كثيرا. و في ذكر الله ما يلتم من معاني التقوي و الصلاح و ما يرقي بالنفوس الي معارج السمو و الرشاد...«و لما رأي المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله و مازادهم الا ايمانا و تسليما»... الاحزاب/22جاء اقتران اسم الرسيول باسم الله في الكلام مرتين احدهما علي لسان الناس و الاخر علي لسان القرآن الكريم لبيان صدق مقولة الناس عند ايراد هذا الاقتران... و قوله تعالي «و ما زادهم الا ايمانا و تسليما» اشارة الي عظم ثقتهم بالله و رسوله و كذلك عظم ايمانهم بهذا الاقتران الذي بات يعد اصلا قرآنيا في ذكر الله و رسوله...«و ما كان لكم ان تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا ازواجه من بعده ابدا ان ذلكم كان عند الله عظيما»... الاحزاب/53مس النبي بأي نوع من الاذي كان قل أو كثر محرم علي المؤمنين أن يفعلوا منه شيئا لان شخصيته صلي الله عليه و سلم تعد شخصية مقدسة فوق ان عطاءها الاصلاحي و الانساني في سائر مجالات الاصلاح والانسانية أمر جد عظيم وجد كبير...و اذ كان أزواج النبي قد جعلهن الله أمهات المؤمنين لذا جري النهي أن يتزوجهن أحد بعد الرسول و بذلك كان مجرد الرغبة و التمني في ان يتزوج احدهم احدي زوجاته صلي الله عليه و سلم يعد من المساءات التي لا تليق.ان تحريم الزواج من زوجات النبي يعد تشريعا من الله مضافا الي من حرمت الشريعة الزواج من النساء في نصوص معلومة.كان من تقاليد العرب أن يقع الاختلاط و الالتقاء بين رجالهم و نسائهم لا حاجة في ذلك للاستئذان عند استقبال الضيوف و ضيافتهم... و في حدود التعامل مع النبي و نسائه جعلت الشريعة لذلك معابير لا تشبه معايير القوم و ذاك ليكون لنسائه صلي الله عليه و سلم حرز حريز و حشمة و كرامة فان قيادة اي امة أنما هي جديرة باتخاذ مثل هذا الموقف الرشيد الرصين.و عند الدعوة الي طعام فأن الضيوف يكونون عادة محل الخدمة و استجابة الطلبات و في بيوت النبي حدد ذلك تماما اذ لا يجوز للضيوف دخول بيت النبي قبل اكتمال نضج الطعام منعا للتشاغل بغير ما وقعت الدعوة له و كذلك كان منع الضيوف من المكث بعد الطعام من اجل ان لا يخوضوا و هم في دار النبي [64] في مطالب و مسائل قد تجاوز حدود ما يكون للضيوف من حظوة و رعاية و تكريم و في هذا بناء للشخصية القيادية التي يجب ان تنال النصيب الاوفي من الصيانة و الحماية فلا يقع للتبذل و ارتفاع الكلفة ان يتسرب الي بيوت من هم في مركز القيادة. كما ان الرسول صلي الله عليه و سلم يعد وقته ثمينا اذ قد يرتاح فيه او قد ينزل فيه وحي اوقد تعرض فيه امور و لا يصح ان يظل الرسول متشاغلا في خدمة ضيوفه وقتا اطول مما يقدر لخدمتهم في مثل هذه الحالات... [ صفحه 240] و ما تضعضعت الخلافة العباسية و تعرضت للاستهانة و الاستخفاف الا يوم ارتفعت الكلفة بين الخليفة و بين زواره في عقر داره...«و لقد ارسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك و ما كان لرسول أن يأتي بآية الا باذن الله فاذا جاء أمر الله قضي بالحق و خسر هنالك المبطلون»... المؤمن/غافر/78الرسل الذين بعثهم الله الي عباده لهدايتهم كثيرون قص الله سير بعضهم بايجاز و تفصيل وفق مقتضي السياق الاعلامي و لم يقصص قصص الاخرين. و لم يكن أي من اولئك الرسل و الانبياء بصانعين شيئا من الايات الا اذا شاء الله ذلك لانهم يتكلمون عن لسان الله و يصدرون عن أمر الله و لا يجاوزون ذلك الي مالم يأذن لهم به الله.بل ان الله يجعل لرسله سلطانه يتمكنون به أن يصنعوا الخوارق التي هي من أعمال الله أني شاءوا و ميت أرادوا. و غير خاف علي دارسي سير الانبياء ان فريقا منهم قتلوا و أوذوا أشد الاذي فلو كانت لشخصياتهم الاقتدارات الالهية لما وقع لهم ذلك. و الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم علي مثل حال من سبقه من المرسلين بمثل هذه الاختصاصات و غيرها.«ان الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدي لن يضروا الله شيئا و سيحبط اعمالهم»... محمد/32ما يصنعه الذين يكفرون بالله و رسالاته من عدوان علي الرسل - و المعني بالنص بذلك هو الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم - لا يملكون احباط ما يريد الله تحقيقه من أرسال الرسل الي عباده لان قانون الله نافذ لهذا الوجه و من يقف في وجه هذا القانون هالك و خاسر... و في هذا ما هو واضح من طمأنينة الرسول الي أن رسالته قائمة بما يحيطها الله به من صيانة و رعاية.«بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون الي اهليهم أبدا و زين ذلك في قلوبكم و ظننتم ظن السوء و كنتم قوما بورا»... الفتح/12كان بعض المحسوبين علي الجماعة المؤمنة و هم ممن رق دينهم و ركت عقيدتهم كانوا حين خرج النبي الي الحديبية ليؤدي شعائر العمرة في بيت الله قد تخلفوا عن اللحاق به ظانين أن رحلته هذه ستكون آخر رحلة له اذ انه في تقديرهم الفاسد قد حسبوه و من معه سيهلكهم اهل مكة و لا يرجعون الي اهليهم في المدينة و لما عاد النبي الي المدينة و معه من كان في رافقه من المؤمنين الصادقين و بخهم الله علي فعلتهم و فساد ظنهم و كان الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم كثير المعاناة لما يواجهه من هؤلاء الاعراب من مشاق و لدد الخصومة و عصيان مغلف بالمعاذير الباطلة.«ان الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله اولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوي لهم مغفرة و أجر عظيم»... الحجرات/3يعد من حسن أدب التعامل مع رسول الله صلي الله عليه و سلم أن لا ترفع الاصوات في حضرته اجلالا له و تعظيما و تهيبا و ذاك ما هو حري أن يعد من آداب مخاطبة الرؤساء و الخلفاء و الملوك و القادات لما فيه من ترجيح الاصغاء الي التوصيات و الاوامر الصادرة من جهات ترجع اليها ولاية الامة و قد زكي الله موقف المؤمنين الذين غضوا أصواتهم عند رسول الله و جزاهم خيرا و غفر لهم و زكي التقوي التي في قلوبهم بل ان الله جعل غص الاصوات عند النبي فرضا فرضه علي الامة (يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون) الحجرات/22...«و اعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب اليكم الايمان و زينه في قلوبكم و كره اليكم الفكر و الفسوق و العصيان اولئك هم الراشدون»... الحجرات/7 [ صفحه 241] المعروف في سلوك التعامل مع الرعية أنه قائم علي الشوري ]و شاورهم في الامر[ آل‌عمران/159 ولكن مناط هذه الشوري أن يكون الرأي النهائي فيها لقيادتها. و قيادتها متمثلة في شخصية الرسول صلي الله عليه و سلم لذلك لا تكون دعوة الشوري ملزمة للنبي ان يطيع قومه في ما يبدونه من أراء و مقترحات و ذاك لان بعض مقترحاتهم لا تتحقق لهم فيها مصلحة و منفعة و النبي بصفته صاحب القيادة العليا يدرك ذلك إدراكا تاما لدقة استيعابه ظروف الامة و واقع حالها فلو مال الي بعض أرائهم لجر ذلك عليهم العنت و الضرر الجسيم و يعلم من هذا أن قيادة الامة لا تعني الميل الي سائر رغبات الامة لان القيادة مسؤولية تتعلق بها جميع التبعات و قد زكي الله الامة في انها كانت تستجيب لاوامر النبي و ترتضي قراراته بما طبعها الله عليه من رسوخ الايمان و صدق العقيدة...«و ما أفاه الله علي رسوله من اهل القري فلله و للرسول و لذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و اتقوا الله ان الله شديد العقاب»... الحشر/7الفي‌ء هو ما يكون للمسلمين من غير قتال من الاموال التي لا توصف بأنها غنائم فلقد جعل لها نظام حسابي خاص يجري في غير مجال الخمس المعروف. و الآية واضحة في قسمة ذلك و توزيعه. و قد ذكرنا ان رؤساء القبائل وقادة الفئات المقاتلة كانوا يتفردون في مثل هذه الاموال عند الوقوع عليها. اما النبي فكان امره غير هذا الامر و كان اتباعه الذين سمتهم الآية باسمائهم ينالون من الفي‌ء حصصا ينتفعون بها. اما قوله تعالي «ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا». فهو امر بطاعة الرسول في سائر الاحكام و مواقف الشريعة و لا نراه خاصا بتوزيع الفي‌ء الذي تم توزيعه بقرار الهي واضح و لو أريد بالنص ما يتعلق بالاعطاء و المنع لذكرت كلمة المنع بدلا من كلمة النهي فان المنع يخاطب بها المحروم الضعيف و النهي يخاطب من هو ذو قوة و حول يحتال به... و في القرآن الكريم «و امر قومك ياخذوا بأحسنها»... أي يستمسكوا بما في الشريعة من تعاليم. فليست كلمة الاخذ قاصرة علي تناول الاموال...«يا ايها الذين آمنوا اذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم و اطهر فان لم تجدوا فان الله غفور رحيم. أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فاذ لم تفعلوا و تاب الله عليكم فأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اطيعوا الله و رسوله و الله خبير بما تعملون»... المجادلة 13/12 يبدو - و الله اعلم - أن طارئة من القحط و الخصاصة مرت بالمدينة جعلت اناسا من المملقين و ذوي الحاجات يتجمعون بالعدد القليل او العدد الكثير حيث يجتمع الرسول بالقادمين اليه في بعض شأنهم فكان الامر الالهي قاضيا بأن يقدم هؤلاء معونات لاولئك المملقين تطيب بها خواطرهم و يجد الرسول صلي الله عليه و سلم في ذلك شيئا من الارتياح، و ظهر أن تقديم الصدقات ابان ذاك كان غير ميسور بالحجم الكافي و ذلك لعموم البلوي في المدينة فأعفي الله القوم من هذه التوصية...«يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم اولياء تلقون اليهم بالمودة و قد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول و اياكم ان تؤمنوا بالله و ربكم ان كنتم خرجتم جهادا في سبيلي و ابتغاء مرضاتي تسرون اليهم بالمودة و انا اعلم بما اخفيتم وما اعلنتم و من يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل»... الممتحنة/1الانص جاء في مجري طبيعي في تحذير الامة ان تتعامل مع اعدائها بأطمئنان كأطمئنان الاصحاب و المتصافين. ان التحذير من العدو امر لجأت البشرية [ صفحه 242] اليه من قديم الزمان لان العدو لا يألو ايذاءا لمن يعاديه. والميل الي العدو بالتلطف و المودة قبل تغيير احواله و تصحيح طباعه هو ما نهي عنه النص...والتحذير القرآني الانف الذكر قد جاء مستوعبا لكثير من التفاصيل مما يصح ان يقال فيه بلغة العصر الحديث انه وضع النقاط علي الحروف. فاذا كان من المسلمين من كان يصنع ذلك لاي سبب من اسباب الجيرة او القرابة او الانتفاع فان مثل ذلك ليعد من دواعي معاناة النبي لمشاكل جانبية تقع من بعض افراد الجماعة علي أن الله يوم يقع من ذلك شي‌ء فانه يبلغ به النبي و يظهره عليه فيتوقاه و يتحصن منه بالخطة التي يري ان يتخذها في مواجهة ذلك.«و اذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم و رأيتهم يصدون و هم مستكبرون»... المنافقون/5يتميز المنافقون من اهل المدينة بصلف كبير حين يرون الجانب الاسلامي يعاني من الضعف، و حين يرونه ظاهر القوة متمتعا بالانتصارات المتتابعة فانهم يعمدون الي التذلل و التبصبص. و كانت حكايتهم من اشد اسباب المعاناة للنبي صلي الله عليه و سلم و لفئة المسلمين هناك الا أن الرسول كان شديد التنبه الي ما يقع من فئاتهم في سائر الاوقات و الاحوال من المزعجات... و في النص القرآني استعراض لبعض تلك الظروف التي كان لصلفهم فيها سعار اذ حاول بعض الاخيار من المؤمنين أن يلطف لهم الجو بقدومهم الي النبي و اعتذارهم اليه من بعض ما وقع منهم من المساءات. ولكنهم ابدوا من العجرفة بسوء المقابلة و الاستكبار ما اوضحه النص القرآني...يبدو حقا أن جو المدينة و فيه مثل هؤلاء المشاكسين انما هو جو يشق الصبر فيه علي مثل ذلك لو لا أن النبي كان من الحكمة و حسن التبصر بحيث كانت تمر مثل هذه الظروف الشاذة بسلام... علي ان للانتصارات العظيمة التي كانت تحرزها الدعوة القول الاسلامية منذ وضع النبي قدمه في المدينة كان لها اثرها في اطمئنان الامة علي دينها و مستقبل ايامها...«هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتي ينفضوا و لله خزائن السماوات و الارض ولكن المنافقين لا يفقهون»... المنافقون/7وجد المنافقون ان مما يشرد فريقا من اتباع النبي عن اتباعه ان يمسك النفقة عليهم اذ قد يكون فيهم من هو من شركائهم او العاملين معهم في زراعة و تجارة او غير ذلك. و كان المنافقون يرون ان هذ الخطة تجر الي انفضاض القوم عن النبي ولكن الله رد عليهم بأن خزائن المال و النعمة كلها هي ملكه و في قبضة يده فليفعل المنافقون ما شاءوا أن يفعلوه... و يفهم من هذا ان مساعي المنافقين في ايذاء الرسول و صرف المؤمنين به عن الوصول اليه و خدمة دينه و الجهاد في سبيله كانت متنوعة الابتكارات و النبي كان يحيطه الله علما بذلك و كان لطف الله به عظيما...«فلا اقسم بما تبصرون. و ما لا تبصرون. انه لقول رسول كريم. و ما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون. و لا بقول كاهن قليلا ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين» الحاقة 43/38النص المصحوب بقسم يراد به التوثيق و التوكيد. و محتوي ذلك أن القرآن و ما تضمنه من احكام الشريعة الاسلامية ليس قول شاعر و لا قول كاهن و لم يكن الشعراء و لا الكهنة محل الحفول و التقدير و لا كانت مقولاتهم مصدر علم و حكمة و تبصر. و انما القرآن قول رسول كريم ارسله الله الي العالم بشيرا و نذيرا و ألهمه الشريعة و انزل عليه القرآن بوحي من عنده... و كما يسر للرسول فان ما ينسب اليه انما هو مما يكون صادرا من مرسله الذي هو اعلم حيث يجعل رسالته. فالرسول الكريم هنا محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم لان النص نفي أن يكون قول شاعر او كاهن و انما بمقابلة الشاعر [ صفحه 243] والكاهن نبي من انبياء الله و رسول من رسله يوحي اليه الله ما يوحي ليكون ذلك الوحي عمود الدين و نقطة ارتكاز الرسالة...و نسبة القول اليه صلي الله عليه و سلم تعني أنه يقول ذلك تبليغا عن ربه يؤكد ذلك ما جاء في نص آخر هو قوله تعالي «و ما ينطق عن الهوي. ان هو الا وحي يوحي» النجم 4/3... اذن ان نسبة القول الي النبي انما يراد بها نسبته الي الله و لفرط قوة المهمة التي يؤديها النبي في مجال رسالته جاءت نسبة القول اليه...«الا من ارتضي من رسول فانه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا»... الجن/27الكلام هنا يعم اكثر من رسول و فيهم خاتمهم محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم. و بقية الصفات الواردة في النص منطبقة عله صلي الله عليه و سلم... و ما يتعلق باظهار الغيب لا يعني كشف جميع الحجب للانبياء و انما يعني انه تعالي اصطفاهم و جعلهم محل شي‌ء من اسراره في خلقه يدل علي هذا أنه ائتمنهم علي وحيه و وثق بهم في نقل كتبه و صحفه و آيات قرآنه الي الناس...«فلا أقسم بالخنس الجوار [65] الكنس و الليل اذا عسعس و الصبح اذا تنفس انه لقول رسول كرمي ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين و ما صاحبكم بمجنون». التكوير 22/15الرسول الكريم هو النبي محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم فمن كان يوحي اليه بالنبوة و الرسالة فان نسبة القول اليه انما يراد بها نسبة القول الي مرسله اي الله عزوجل فهو ناقل من ربه ما اوحي اليه و الذين يقولون ان الرسول الكريم - هنا - هو جبريل لا يقولون ان القرآن من قول جبريل بل يقولون ان جبريل نقله فاذا كان النقل هو المطلوب في نسبة القول الي جبرئيل فإنه كذلك هو المطلوب في نسبة القول الي الرسول محمد صلي الله عليه و سلم.و وصف النبي بأنه ذو مكانة عند ذي العرش و قوة و أنه حقيق بأن يطاع لصدقه و عصمته و امانته. و قوله تعالي هذا في مواجهة ما ادعاه خصومه من انه مجنون فقد نزهه الله من وصمة الجنون و قد وصفه بأنه صاحبكم امعانا في تكذيب ما ادعوه من جنونه.«لم يكن الذين كفروا من اهل الكتاب و المشركين منفكين حتي تأتيهم البينة. رسول من الله يتلو صحفا مطهرة. فيها كتب قيمة»... البينة 3/1الرسول الذي يتلو صحفا مطهرة هو محمد بن عبدالله النبي العربي العظيم المرسل الي سائر ابناء البشر و قوله تعالي «يتلوا صحفا مطهرة» لا يعني انه يقرأ ذلك في الصحف و انما يقرأ ذلك من حفظه. اي انما كان يتلوه من حفظه دون النظر في المصحف لان المصحف لم يكن موجودا ايام حياته صلوات الله عليه... و قد ثبت أن النبي كان يتلوا القرآن علي ظهر قلب كالذي يكون منه في الصلاة... و لم يواجه الناس بصحيفة فيها قرآن مكتوب و بذلك يكون تفسير الصحف المطهرة منوها بأن القرآن الكريم قد تقررت كتابته في الصحف التي يقرأ فيها القرآن الكريم قد تقررت كتابته في الصحف التي يقرأ فيها القرآن من قبل قارئيه... و قوله تعالي «فيها كتب قيمة» اي ابواب و فصول تحتوي امورا جد ثمينة بل انها لعظم فضلها و كبيرا شانها في عالم الاصلاح و التهذيب و اخراج الناس من الظلمات الي النور لتعد من جليل قدرها اكبر و اغلي من أن تثمن بثمن... [ صفحه 244]

باب قل

ما ورد من آيات المشتملة علي «قل» اذا كانت مسبوقة بلفظ يسألونك و ما الي ذلك فأن الكلام يرد عنها هناك - اي في باب يسألونك - ان لم نشأ ايرادها في باب (قل)في باب «قل» من التنزيل العزيز فصول كثيرة بدأت بها آيات الكتاب التي تكلمت في امور كثيرة منها ما يقع في اطار التبليغ و منها ما يقع في الرد علي اسئلة موجهه الي الرسول و منها ما جاء مفتاحا للصدع بتعاليم و احكام دينية امر الله بها رسوله العظيم ان يواجه بها القوم ابتداءا... «يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس و الحج» و مثل «يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلاله» و مثل «قل لا اجد في ما اوحي الي محرما علي طاعم يطعمه الا ان يكون ميته او دما مسفوحا او لحم خنزير»... و من مثل «قل يا ايها الكافرون لا اعبد ما تعبدون» و من مثل «قل اني نهيت ان اعبد الذين تدعون من دون الله»... و ذاك لان الاسلام دين حوار و مخاطبة و نقاش منطقي، و عند استعراض آيات القول فسيتضح لمتابع ذلك من حقيقة الامر الكثير... و كذلك نعلم بذلك ان الله عزوجل حين ارسل رسوله بالهدي و دين الحق و اصل تكليفه بالحوار و لفت الانظار و عرض مهمات المسائل العقائدية علي الساحة المكشوفة، ليكون لكل ذي قول ان يقول قوله و يبسط رأيه و يعلن حججه و شبهاته و أدلته... حقا لقد كان رسول الله في شغل شاغل لا ينقطع و لا يتوقف في هذا الباب العريض لا سيما ايام العهد المكي...ان وراء «قل» هذه تعليمات و ايعازات و احكاما و مواقف ذات شأن عظيم. و قد كانت «قل» حاملة للنبي من الوحي ما يكون احيانا جوابا لسؤال يسأله النبي من سألتهم بقصد او تحرش و قد لا يكونون من المؤمنين. و من ذلك «و يسألونك عن الروح قل الروح من ربي و ما أوتيتم من العلم الا قليلا»... «و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا تري فيها عوجا و لا أمتا»... ففي بعض ما يؤمن النبي بقوله للقوم عظات و رسائل عقائدية و صور للحشر و النشر و الحساب و اعمال الناس...و في بعض هذه الاوامر القولية تكاليف كبيرة الحجم ثقيلة الوزن منها «قل يا اهل الكتاب تعالوا الي كلمة سواء بيننا و بينكم ان لا نعبد الا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله». و عدد ما جاء من هذه الصيغة في التنزيل - اي صيغة قل - ثلاثمئة و ستون مرة او نحو ذلك تعرضنا منها لأكثر من ثلاث مئة نص.ان الاوامر الالهية و التكاليف التي و وجه بها النبي من رب العزة مصوغة بشتي الصيغ و منها صيغة «قل» هذه توقفنا علي انماط من الجهود التي كان علي النبي ان يبذلها تحقيقا للرسالة التي ناطها الله به. و في «قل» سنري من ذلك الكثير...يرد في التنزيل العزيز لفظ «قل» مرارا متعدة إد يكون طي ذلك شي‌ء من التشريع و الاحكام و التأديب و اعلان بعض الحقائق الدينية. و المخاطب بذلك هو الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم و المراد من هذه المخاطبة ابراز مهمة النبي في اعلان المقاصد الشرعية ليكون له دور فيها و انتماء اليها فلا يكون بعيدا عن شي‌ء منها... و احيانا ترد «قل» علي حالة لا تكون اجابة لسؤال و من ذلك «قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد و لم يولد. و لم يكن له كفوا أحد». و هي سورة قرآنية اثبتت للتوحيد قواعد راسخة و ابطلت ما سوي ذلك حينما كان هناك من يعتقد سوي ذلك... و المراد من الامر الالهي للرسول صلي الله عليه و سلم بهذه القولية ليس اللهج بها فحسب بل اعلانها الي الامة من معتقد بها و غير معتقد لانها الحقيقة الالهية التي ناطها الله بالنبي فليقلها اذن لا مرة واحدة و لا مرتين اثنتين بل الي نهاية الاعداد المعروفة عند اهل الحساب... و الاسلام دين رائع تتجلي روعته في المجال الاعلامي النادر اذ يقرأ المصلون هذه السورة في [ صفحه 245] صلواتهم اليومية التي تكرر في اليوم خمس مرات سرا و جهرا و ليس شي‌ء في الدنيا يقرع الاسماع و يتسلل الي القلوب و الافئدة كالذي يتلي من القرآن في الصلاة و ما وراءها من هذه التلاوات التي يثيب الله الذين يتلونها آناء الليل و آناء النهار...و في كلمة «قل» تركيز علي مسؤولية الصدع بالامر الالهي و الالتزام به و اذاعته و ايصاله الي سمع كل سامع، و في ذلك كذك نمط من الاصرار علي ما ينزل من الشريعة علي وجه التحدي و الجهر بالحقيقة التي لا يصح كتمانها و اخفاؤها عن مجال الدعوة الي العقيدة التي انتدب الله لها نبيا من صفوة انبيائه و رسولا من خيرة رسله... و ظاهر في القول انه مسألة ذات جهارة و ذيوع و تصريح يذيع في الناس و يستقر في النفوس يوم يجد الاذن المصغية و من ذلك «قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون»... «قل ان الموت الذي تفرون منه فانه ملاقيكم ثم تردون الي عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون»... «قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»... «قل ان كان للرحمن ولد فأنا اول العابدين»...ان هذا العدد الكبير مما جاء في باب «قل» كان الله يأمر نبيه بالخروج الي الناس في كلا العهدين المكي و المدني ليعلن علي اسماعهم و علي رؤوس الاشهاد منهم قرارا الهيا امره الله بالجهر به في اوساطهم، و بديهي أن الناس كان فيهم من يعقب علي هذا الوحي و من يعارض و من يجادل و من يضع أصبعيه في أذنيه و كان النبي في مثل هذه الاحوال يعالج كل حالة بما يلائمها... ففي آيات «قل» اكثر من صورة لمواقف النبي ابان الصدع بالاوامر الالهية المنزلة و يظهر من ذلك بوضوح معني دعوة المشركين و غيرهم الي الاسلام و خوض غمرات التبليغ الديني للامة. و من هنا كان باب «قل» كبير الاهمية في ابواب هذا الكتاب و فصوله و كذلك ما يتعلق بالدلالة علي عظمة شخصية الرسول الاعظم في مجالات جهده الشخصي الذي تتابغ فيه الوقائع والاحداث. فلقد يكون النبي ف بيته و بين نسائه فاذا بالامر الالهي ينزل عليه يدعوه الي مواجهة الناس بواحدة من آيات «قل» اي ان آيات «قل» كانت تنزل عليه تباعا لتلزمه بمخاطبة الناس بالامر الالهي الذي كان النبي يصدع به في الحال من غير تاجيل...و سنري من استعراضنا لآيات «قل» ما وراء ذلك من معالم تبرز فيها شخصية النبي داعيا و هاديا و مجادلا و مقارعا و بشيرا و نذيرا علي مدي سني الدعوة الاسلامية... و في ما يأتي سرد ذلك و عرضه و تفصيل القول فيه...«قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون علي الله ما لا تعلمون»... البقرة/80جاء هذا النص تعقيبا علي ما سبق من قوله تعالي «و قالوا لن تمسنا النار الا اياما معدودة» في ذات الاية و في مقدمتها لقد زعم القوم من غير علم و لا بينة انهم لن تمسسهم النار الا اياما معدودة و في ذلك اعتراف بكبير جنايتهم و بليغ عدوانهم و لولا هذا الاعتراف الاضطراري منهم لنفوا ان يعذبهم الله و لا يوما واحدا ولكن الله تهكم بهم قائلا «أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده» و النكتة البلاغية الرائعة هي ان الله امر نبيه ان يواجههم بالمقولة الالهية هذه و ذاك في تمام النص القرآني «قل أتخذتم عند الله عهدا...» و كان النبي علي ما نلاحظ في هذه النصوص علي خط المواجهة و المجابهة لا سيما تجاه قوم عرفوا باللدد في العناد و الشطط و اللجاجة...«قل فلم تقتلون انبياء الله من قبل ان كنتم مؤمنين»... البقرة/91هذا الخطاب جاءت به مواجهة لليهود من سكان المدينة و ما وراءها و فيه من لغة التحدي ما هو صريح. والمجاهرة بالاتهام ما هو ظاهر في ايقاع المسؤولية علي [ صفحه 246] القوم و قد أوقعها النبي عليهم في نقاش منطقي حاسم اذ كان ذلك ردا علي اليهود و تكذيبا لهم و ابرازا لعجزهم عن الاتيان بحجة مقبولة في رد دعوي رسول الله الي الاسلام و قبل هذا النص جاء النص الاتي «و اذا قيل لهم آمنوا بما انزل الله قالوا نؤمن بما أنزل و يكفرون بما وراءه و هو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تتقون انبياء الله...»...كان النبي صلي الله عليه و سلم يواجه اليهود بدعوتهم الي الانخراط في سلك الاسلام و معني «و اذا قيل لهم» اي اذا قال لهم النبي نفسه او دعاته الذين كان صلي الله عليه و سلم يبعثهم الي سائر الانحاء يدعون الناس الي الايمان بما انزل الله من شريعة و قرآن لقد كان اليهود يلعنون براءتهم من الاستجابة لنبي من غير ملتهم فكان من بعض الرد عليهم ان رسلا من صميم ملتهم جاءوهم بالبينات فقتلوهم و بهذا بطلت حجتهم بالانكماش القومي في اطاعة الرسل و في مثل هذا النص نري شدة الصراع بين رسول الله و بين اليهود الذين كان اليهود وجود في الساحة و كانوا ذوي وقاحة في الخطاب و المراجعة.«قل بئسما يأمركم به ايمانكم ان كنتم مؤمنين»... البقرة/93في هذا النص استخفاف بايمان يزعم اليهود انهم كانوا يتلبسون به و هو تعبير فيه صرامة المواجهة و جهارة التكذيب والحجة القاطعة التي امسك النبي برايتها مرتفعة علي ملأ الاشهاد بالاستخفاف بايمانهم الكاذب هو انهم اتخذوا العجل و انهم واجهوا رسل الله بوقاحة تامة اذ يقولون لهم «سمعنا و عصينا».يفهم من هذا ان نمط الجدال الذي كان بين النبي صلي الله عليه و سلم و بين اليهود كان نمطا يختلف كثيرا عن نمط الجدال بينه و بين مشركي قريش في مكة و الامر هنا يحتاج لاقتدار جدلي عال اذ كان يتمتع به النبي حقا في مواجهة اليهود. ان هذه اللقاءات الجدلية بين النبي و اليهود مما تنتطمه آيات «قل» كان العرب من آمن و من لم يؤمن يلاحظونها بمنتهي الدقة و المتابعة و كانت تفعل في نفوسهم و عقولهم فعلها المؤثر اذ عرف العرب من وراء هذه المراجعات الكثير من خفايا عالم اليهود. اذ كشف ذلك النقاب عن حقائق في الدين لم يكن يعرفها العرب قديما و هذا ما عجل بانهيار اليهودية في الجزيرة و بطلان ما كانت تتمتع به من مكر عظيم و خبث دفين و كيد للنبي كبير...«قل ان كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين»... البقرة/94عرف اليهود بالخوف من الموت. و المناقشة القرآنية تناولتهم من جانب منطقي فانهم اذا كانوا يزعمون انهم أو يظنون انهم مقربون عند الله ففيم يخافون من الموت الذي ينقلهم الي الله و هم علي وفق ظنهم احباؤه المقربون اليه و انما كان سبب خوفهم من الموت خوفهم من ملاقاة الله بسيئات اعمالهم و جسامة خبائثهم... و لم يكن العرب من سكان المدينة يعرفون في اليهود من هذه الخصائص شيئا حتي ازاحت ايات البقرة النقاب عنها...«قل من كان عدوا لجبرئيل فانه نزله علي قلبك باذن الله مصدقا لما بين يديه و هدي و بشري للمؤمنين». البقرة/97كان من لؤم اليهود في معاداتهم الاسلام انهم راحوا ينقمون علي جبرئيل عليه‌السلام انه حامل وحي الله الي النبي العربي محمد بن عبدالله و في هذا اشارة الي ان اليهود لم يكونوا يجرؤون علي تكذيب النبي في وصول جبريل اليه و قد جعل الله معاداة اليهود لجبريل معاداة لا عرق لها من الصحة لان الله هو الذي نزل جبريل علي رسوله و هو الذي حمله وحيه الذي هو هدي و خير و اصلاح للناس و غسل للقلوب من الادران و الجهل و الكفر و الضلال. [ صفحه 247] «قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين»... البقرة/111في مقدمة هذا النص جاءت العبارة القرآنية «تلك امانيهم قل هاتوا برهانكم» تعبيرا عن اكاذيبهم و اخيلتهم الباطلة ثم ترك لهم حق الاتيان بالدليل و البرهان علي وجه التحدي و التكذيب «قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين» ان تسلسل هذه النصوص القرآنية و تتابعها في مجال موضوعي واحد يدل علي اقتدار لدي النبي عظيم في المصاولة و المطاولة و القام هذا النمط من الخصوم الالداء باكثر من حجر. و الشي‌ء الذي يلفت النظر كله هو ان اليهود يقيمون حيث يقيم الرسول فان لم يصل اليهم و صلوا اليه فالجدل و النقاش محتدمان دائما و كان اليهود لفرط بلادتهم يجهلون ان موقفهم التقليدي مثخن بالعناد و التهافت الجدلي في حين ان جماعة المسلمين لم يكونوا يوما ما قد محصوا ما كان عليه اليهود من سلوك شائن و خلال متهافتة و جبن و غدر و خصال اخري سيئة و لقد كانت من سورة البقرة مقدمة مسهبة فضحت سلوكيات اليهود فضحا ذريعا بما اوردت عنهم من خبث معاملاتهم لانبياء اقدمين و حبهم المال و تهالكهم في الحصول عليه و كره الموت و لقاء الله و فرط حقدهم علي الناس و انكماشهم علي أنفسهم في قري محصنة و عمق الجبن الذي في قلوبهم «لا يقاتلونكم جميعا الا في قري محصنة او من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا و قلوبهم شتي ذلك بانهم قوم لا يعقلون» الحشر/14.«قل ان هدي الله هو الهدي و لئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي و لا نصير»... البقرة/120في هذا النص معادلة بين امرين هما هدي الله و اهواء اهل الكفر المنكرين لشريعة الله و لذلك فان الله عزوجل يحذر نبيه من ان يكون في الشق الثاني من المعادلة ما يستأهل الحفول و الملاحظة و المراد يالشق الثاني اهواء القوم التي فندها ما انزله الله علي نبيه من العلم الذي لا يسلك الجهل ان يقف في وجهه و يتحدي سلطانه و ثوابت حقائقه...و الغرض من هذا التحذير الموجه الي النبي بقوله «و لئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جدك من العلم مالك من الله من ولي و لا نصير» انما هو تحذير سائر الناس فاذا كان النبي اذا اتبع اهواء القوم محقوقا عند الله و متبرءا من ولايته و نصرته و هو اعز الناس عند ربه فكيف يكون حال من سواه من الناس. و مثل هذا الاسلوب في تحذير الله لنبيه تكرر في القرآن لذات الغاية التي هي تجسيم جناية الخروج عن الدين الحق و تهويل عواقبه عند محاسبة الله عباده.«قل اتحاجوننا في الله و هو ربنا و ربكم و لنا اعمالنا و لكم اعمالكم و نحن له مخلصون»... البقرة/139يظهر من هذا النص ان الخصوم كانوا يمارسون صناعة المحاجة و الجدل ابتداءا منهم قصد التحرش و الازعاج و الاستفزاز و توهم الغلبة و لذلك امر الله نبيه ان يواجههم بالتساؤل الذي يحتوي علي ضرب من التحدي و التجاهل تجهيلا لهم في محاجتهم. و لو لا ان النص يحسن فيه اعلان ربوبية الله لهم لجاء بلفظ «اتحاجوننا في الله و هو ربنا» لئلا يظنوا انهم ابعدوا عن ربوبية الله لهم و هو ما يسرهم سرورا عظيما لانهم لا يعتقدون عقيدة الامم في ان الههم و اله الامم واحد...و موضوع المجادلة و المحاجة و ما يعلق بهما من استفزاز و سوء نقاش كان اليهود يتعمدون ذلك ليوهموا من يقف علي هذه الامور بانهم اهل علم و دراية لا يعرفها العرب المسلمون. و الاستفهام في قوله تعالي «اتحاجوننا» استفهام يحمل في طياته من التحدي الشي‌ء الكثير و الاستغراب و الاستخفاف بما اراد اليهود ان ينزلوا انفهسم بمنزلته والامر بمواجهة ذلك كله بكلمة «قل» ظاهر فيه الانكار الالهي لذلك... و بديهي ان هذه المناقشات من شأنها ان تشغل الرسول الاعظم عن ما هو في صدده من مطالب الدعوة و شؤون القيادة... [ صفحه 248] و انتهي النص بعبارة هادئة لطيفة واضحة المعني لا تخلو من التحدي و من الزجر الخفي «و لنا اعمالنا و لكم اعمالكم و نحن له مخلصون» اشعارا بان الاسلام دين عمل و دين طاعة لله و اخلاص له بالعبادة و ان مقاييس المفاضلة بين الناس تعتمد علي الاعمال الصالحة و في النص الذي هو «و لنا اعمالنا و لكم اعمالكم» اسكات لهم من التشبث بالجدل غير السديد و اللغط الذي لا فائدة فيه و في الاية الكريمة ملاحظة تومي‌ء الي ان الله عزوجل حمي رسوله الاعظم من ان تشغله اليهود بمجادلته في الله و غير ذلك...«قل أأنتم أعلم أم الله»... البقرة/140هذا النص مسبوق بقوله تعالي «أم تقولون ان ابراهيم و اسماعيل و اسحق و يعقوب و الاسباط كانوا هودا أو نصاري...» و يبدو أن اليهود كانوا لفرط غرورهم يتكلمون اذا تكلموا بوصفهم وكلاء عن الله، و قديما كانوا قد قالوا انهم ابناء الله و احباؤه و علي هذا و بخهم الله توبيخا ظاهرا و قرعهم تقريعا اذ قال لهم علي لسان رسوله «قل أأنتم أعلم أم الله».«قل ما انفقتم من خير فللوالدين و الاقربين»... البقرة/215هذا النص جاء جوابا علي ما ورد في اول الاية من قوله تعالي «يسألونك ماذا ينفقون»... و المعني واضح. و في باب «يسألونك» شي ء من تفصيل الكلام في هذا الامر...و هناك من آيات «قل» ما احلنا الكلام عليه الي ابواب أخر و في ما يلي هذه الايات 222/220/219/217/189/142...«قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون الي جهنم و بئس المهاد»... آل‌عمران/12في هذه الاية تكليف للرسول الاعظم بان يصارح الكفار من خصوم الدين و اعدائه مصارحة مكشوفة بانهم من اهل النار و هي مصارحة تعتمد علي قدرة الجهر بالبلاغ الذي ابلغه الله الي نبيه ليبلغه هو بدوره الي الكفار و معني ذلك ان رسول الله صلي الله عليه و سلم كان علي مستوي هذه المواجهة. و ما من شك في أن مواجهة الكفار بمثل هذا الخطاب المصيري سيلهب مشاعرهم و يجرح كبرياءهم و يحملهم علي ابداء احقادهم و سوء موقفهم من الاسلام و داعيته العظيم... و النص القرآني لم يصور لنا ما كان بعد ذلك لانه شبه معلوم بالضرورة و لم يكن النبي لينسحب بعد هذه المقولة الالهية من امام القوم بل لبث صامدا امامهم راسخة قدمه مواجهتهم علي دأب عادته و المعروف من عظمة شخصيته صلي الله عليه و سلم.«قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فهيا و أزواج مطهرة و رضوان من الله و الله بصير بالعباد». آل‌عمران/15و هذا النص يحمل البشائر الطيبة للمؤمنين المتقين و طي ذلك ادخال السرور علي قلوبهم بانهم خالدون في جنات تجري من تحتها الانهار... و قد جاء هذا النص تلو قوله تعالي...«فان حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن و قل للذين أوتوا الكتاب و الاميين أأسلمتم فان أسلموا فقد اهتدوا و ان تولوا فانما عليك البلاغ و الله بصير بالعباد»... آل‌عمران/20النص مسبوق بقوله تعالي «ان الدين عند الله الاسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم و من يكفر بآيات الله فان الله سريع الحساب». و في الآية التي نحن في صدد شرحها يبدو لنا أن الجدل كان مشتدا بين القوم و بين جهة الدعوة الي الاسلام و كان موقف الاسلام موقفا ذا تمسك بالحقيقة و اصرار عليها و هذا ما عرف في موقفه صلي الله عليه و سلم من خصومه فانه لا تراجع فيه. و كان اقتحام النبي علي الكفار من اليهود و مشركي [ صفحه 249] العرب معاقلهم من طبيعة الدعوة العظيمة «و قل للذين أوتوا الكتاب و الاميين أأسلمتم»...«قل اللهم ما لك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء بيدك الخير انك علي كل شي‌ء قدير»... آل‌عمران/26هذه آيات تضرع الي الله و تسبيح لحمده و تلخيص للعقيدة الاسلامية في ذات الله و في طي ذلك بر وعظات و هدي و بيان للناس بأنهم لا رجاء لهم الا في الله و لا ملجأ لهم الا الي الله. و الآية تتناول اعلي الهيئات و أدناها أي من يكونون ذوي ملك و من يكونون منزوعي الملك و من يكونون اعزاء و من يكونون اذلاء ممن تتقلب بهم الحياة الدنيا علي دأب هذه الحياة من التقلب و هي كذلك تسبيحات كان النبي قد أمر بتكرارها علي لسانه الشريف كما انه يجب تكرارها من قبل كل مؤمن صادق العقيدة خالص الايمان...«قل ان تخفوا ما في صدوركم او تبدوه يعلمه الله و يعلم ما في السماوات و ما في الارض و الله علي كل شي‌ء قدير»... آل‌عمران/29هذه آية تحذير و تنبيه و مزيد تعليم و تثقيف ببعض حقائق الدين و أدبياته أمر الله نبيه ان يقولها لاتباعه للاعتبار بها و الاتعاظ...«قل ن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم».. آل‌عمران/31ان حب الله يستوجب طاعة الله و الذين قالوا انهم يحبون الله طلب منهم ان يتبعوا الرسول المرسل اليهم من الله فاذا صنعوا ذلك أحبهم الله فكان الحب متبادلا بينهم و بين الخالق العظيم الذي جاء في النص أنه وعد بمغفرتهم و ايراد بعض صفات الله من نحو المغفرة و الرحمة «و الله غفور رحيم»... فانه من بعض الاساليب التي كان الرسول يكررها علي القوم بتلاوة الصلاة خاصة و في ايام الالتقاء بالقوم في اي مكان كون ذلك الالتقاء...والخطاب لجمهور المؤمنين لاعلامهم بأن متابعتهم لما هناك من الاحكام حتي يتكامل الدين و يتم امر الله مسألة هي من صميم الدين، لذا جاء في النص «ان كنتم تحبون الله فاتبعوني» اي واصلوا الاخذ عني بما آتيكم به من وحي الله و مكتمل احكامه. و قوله تعالي «يحببكم الله» اي يقابل حبكم اياه بحب منه يغمركم به و اذا احبكم غفر لكم و ذاك غاية ما يتمناه المؤمن الذي آمن بالله مخلصا له الدين.«قل أطيعوا الله و الرسول فان تولوا فان الله لا يحب الكافرين»... آل‌عمران/32و هذه آية فيها حث القوم علي طاعة الله المقرون بها حثهم علي طاعة رسوله و تحذيرهم من مخالفة ذلك... ان معظم الآي القرآني يقرن في الطاعة بين طاعة الله و طاعة الرسول لان طاعة الرسول من طاعة الله لان الرسول لم يأت بشي‌ء من عنده... و يلاحظ ان هذه الاوامر الالهية التي يؤمر النبي فيها بقول اشياء يريدها الله و يوجهها اليه ليلقيها في سمع الناس علي اختلاف منازلهم و تعدد هيئاتهم. ان النبي صلي الله عليه و سلم من هذه الناحية في شغل جد شاغل... «فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا و ابناءكم و نساءنا و نساءكم و انفسنا و انفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين»... آل‌عمران/61في آية المباهلة دليل ثقة قاطع لدي النبي بربه فهو واثق انه لو استجابت الجهة المعادية لهذا التحدي فاجتمع من الفريقين خلق من ابنائهم و رجالهم و نسائهم و تباهلوا امام السماء لنزل القدر بقضه و قضيضه علي الكاذبين و المراد من النص «ابناءنا و ابناءكم» من هناك من شباب القوم و صغارهم من مسلمين يمثلون جهة النبي و من غير مسلمين يمثلون الجهة الاخري و كذلك القول علي «نساءنا و نساءكم». و المراد [ صفحه 250] «بانفسنا و انفسكم» رجال القوم اذ اراد النص ان تكون المباهلة شاملة مختلف الاعمار من المتباهلين من صغار و شباب و رجال و نساء و فيهم النبي و من الجهة الثانية رأس الخصوم و هو أحد احبار القوم ايامذاك.و النص نزل بالدعوة الي المباهلة من قبل الخالق العظيم ولكن الذي استقر عليه علم النبي و ارتاضت له نفسه انه لو فعل ذلك لكانت الغلبة له و ذلك لصدق ايمانه بربه و عظم رجائه فيه و قوة يقينه.الا ان المباهلة لم تتم لذعر الفئة المخاصمة و فرط خوفها علي نفسها و لاقتناعها بان الجهة التي تخاصمها هي علي حق لا مرية فيه...«قل يا أيها الكتاب تعالوا الي كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد الا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون»... آل‌عمران/64في هذا النص دعوة لاهل الكتاب صريحة أمر النبي ان يواجههم بها في أمور هي من أساسيات الدين و أهل الكتاب هم أكثر من أهل دين واحد، و الخطاب هنا لرؤساء القوم و من يليهم و هو علي ما يبدو مما كان النبي يؤديه في ساحة الدعوة الاسلامية غير منفرد فيه بالكفار من الكتابيين، اذ كان يقوم معه بعض اصحابه و اعوانه و قد يكون فيهم بعض مؤمني الكتابيين، و لذا جاء النص قائلا «فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون» أي أن فئة المسلمين هي التي خوطبت الان باعلان اسلامها أمام كفرة اهل الكتاب بعد ان كان أصل الخطاب لرسول الله، لانهم كانوا يعلنون كفرهم فيعلن المسلمون اسلامهم تبجحا بالاسلام و اعتداد به و عكوفا عليه لئلا يظن أهل الكتاب انهم في جدالهم و حوارهم ثم توليهم عن قبول العرض الاسلامي قد وصلوا الي درجة من تشكيك المسلمين بدينهم و كان قول المسلمين انهم «مسلمون» و نقطة التحدي هنا هي أن الفئة المسلمة اشهدت المتولين من أهل الكتاب علي اسلامها.«و لا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم قل ان الهدي هدي الله أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم قل ان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء الله واسع عليم»... آل‌عمران/73يبدو أن حكاية النفاق التي شاعت في اوساط المدينة انما مدبروها هم اليهود الذين كانوا يلقنون المنافقين مبادي‌ء النفاق و اساليبه و قد كشف النص القرآني ذلك... و اذ ان خطة المنافقين كانت خطة مكتومة ليس من السهل اكتشافها و اتخاذ الطريقة التي تقضي عليها لا سيما عند قصر الزمن وضيق الوقت لذا جاء الخطاب الالهي بما جاء به من قوله تعالي «قل ان الهدي هدي الله أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم» و بذلك نهج النبي في مقاومة المنافقين منهجا دقيقا حتي خضد الله شوكتهم و تمت كلمته تعالي و ارتفعت راية الاسلام...«قل آمنا بالله و ما أنزل علينا و ما أنزل علي ابراهيم و اسماعيل و اسحاق و يعقوب والاسباط و ما اوتي موسي و عيسي و النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم و نحن له مسلمون»... آل‌عمران/84في هذا النص كلام اجمالي للعقيدة الاسلامية في الانبياء و شرائع الاولين و فيه ما يطمئن اتباع اولئك الانبياء الي سلامة موقف الاسلام و انبيائهم و بيان ما في العقيدة الاسلامية من المشاركة في المعقتدات المنزلة علي اولئك الرسل و ليس في مستطاع اهل الكتاب ان يجدوا في هذا الكلام ثغرة ينفذون منها الي تكذيب شي‌ء من ذلك...«قل فأتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين»... آل‌عمران/93في هذا النص تكذيب صريح لليهود في بعض مزاعمهم و مقولاتهم اذ امر الله نبيه أن يطالبهم بالاتيان بالتوراة و تلاوتها علنا. و في فئة المسلمين من أصحاب النبي من كان من مسلمة اليهود الذين يقرأون التوراة بالعبرية اذ لم تكن التوراة قد ترجمت الي العربية [ صفحه 251] يومذاك لان اليهود لا مصلحة لهم في ترجمتها الي العربيه لانهم لا يدعون الي دينهم من هم خارج قوميتهم من العبرانيين و ان كانت سياسة التهويد قد وقع منها ما وقع في تاريخ اليهود [66] ...«قل صدق الله فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفا و ما كان من المشركين»... آل‌عمران/95في تكرار الدعوة الي التشبث بملة ابراهيم هدم للكيان اليهودي الذي اقاموه لانفسهم في الجزيرة، و النص يقوي عقيدة الامة بما يدعوها اليه من الاطمئنان الي صدق الله عزوجل فيما ينزل من شريعة محمد صلي الله عليه و سلم...«قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله و الله شهيد علي ما تعملون، قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل اله من آمن تبغونها عوجا و أنتم شهداء و ما الله يغافل عما تعملون»... آل‌عمران 99/98في هذا النص كانت المواجهة بين النبي و بين احبار اليهود مواجهة مكشوفة ذكرت فيها مكايد القوم و تصرفاتهم العدائية التي كان منها تثبيط من يريد اعتناق الاسلام اذ كان اليهود لا ينفكون يسعون في صرف الناس عن اعتناق الاسلام بما كانوا يضعونه من الاشواك في طريقهم مما يستدل به علي اشتداد الصراع بين الفريقين في اكثر من ساحة علي بعد الشقة بين الاسلوب الاسلامي الرشيد و بين الاساليب اليهودية الخبيثة الماكرة...«قل موتوا بغيظكم ان لله عليم بذات الصدور»... آل‌عمران/119هذا خطاب فيه زجر و اهانة و تحد ظاهر لقوم غلب عليهم الحقد لما يسره الله للنبي من توفيق و نصر عزيز.و هو تعبير فيه قوة ردع و شدة صدع يحسن ان يخاطبوا بمثل ذلك من الرد بالعنف اذ ان لكل مقام مقالا و لكل حديث اسوب و لكل جدال نهجا. و الآية هذه مسبوقة بقوله تعالي: (و اذا لقوكم قالوا آمنا و اذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ). و لذلك جاء الرد مكافئا لسوء عملهم و قبح نياتهم. و منطق القوة في جانب النبي ظاهر كل الظهور و واضح كل الوضوح. كما أن في النص فضحا لتصرفات اولئك الناس حين يكونون في جو بعيد عن جو المسلمين. فان هؤلاء الذين يعضون الانامل علي المسلمين من الغيظ انما يعبرون عن عجزهم ان يصنعوا شيئا يؤذون به الفئة المنتصرة. مع انهم لجبنهم و لما ركبهم من الذل و الهوان يتظاهرون بحب المسلمين بحيث لم يتصور المسلمون ان الحب يكون غشا و كذبا و رياءا. فكانوا يبادلونهم الحب ايضا حتي يوضح الله لهم الحقيقة... «و اذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم» ان الحقد ليأكل الاكباد لاسيما ما كان منه في المسائل الاعتقادية فان سائر القيم النبيلة تتساقط و تنهافت امام الذرة الواحدة من حقد الحاقدين... ان شيئا من الحقد ظهر في مصنفات خصوم لا يرعون للانصاف الا و لا ذمة و لا يعيرون الحقائق شيئا من رعاية و حفول... و الحاقد المستخف بالقيم النبيلة و العقائد الكريمة لا يصدر في حقده عن فكر و ثقافة انما يصدر عن نفس خبيثة...«ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشي طائفة منكم و طائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شي‌ء قل ان الامر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شي‌ء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل الي [ صفحه 252] مضاجعهم و ليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم و الله عليم بذات الصدور»... آل‌عمران/154ان بعض المناقشات القرآنية للمتشككين و ذوي العقيدة المهزوزة تقوم علي المنطق الواقعي الذي يقرر أن الموت حقيقة لا مجال للشك فيها و انه قانون موضوعي لا يد لاحد فيه. و الخروج من فلك الاسلام لا يعصم احدا من أن تصيبه مصيبة الموت و بهذا الاسلوب وقع افحام المنافقين و غيرهم...و قوله تعالي «و طائفة قد أهمتهم أنفسهم» اي رجحوا مطالبهم الذاتية علي كل شي‌ء هم لا ينظرون الا من زاوية الانتفاع الشخصي و التشبث بالمكاسب الخاصة و هؤلاء عالج النص نهجهم الجدلي معالجة حكيمة و موفقة...أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم ان الله علي كل شي‌ء قدير».. آل‌عمران/165في النص تصحيح لما يراود بعض الافكار التي تري أن انتماءها الي الاسلام يجب أن يجعلها بمنجي من الخسارة لانه دين الله الذي يجب أن يظهر و تكون له الغلبة ابدا. و ينبههم الله الي أن الربح و الخسارة انما هما امران مرتبطان بالتصرف الصحيح للفئة المؤمنة المقاتلة فاذا لم تكن تحسن الكر و الفر و اللقاء فانها لابد أن تتعرض لشي‌ء من الضرر الذي تكون هي المسؤولة عنه من جراء الخطأ في بعض تصرفاتها [67] ...«الذين قالوا لاخوانهم و قعدوا لو اطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن انفسكم الموت ان كنتم صادقين»... آل‌عمران/168في هذا النص نقاش منطقي فيه من قوة الاقناع ما يسكت الجهة المجادلة و ذلك بتقدير ان الموت لا ينجو منه ناج و ان يبتعد عن الحرب و اسبابها بعد المشرقين. ذلك لان الموت حق فقد ركزت النصوص القرآنية علي هذه العقيدة في آيات و سور قرآنية كثيرةلان في ايراد الموت و سلطانه علي الناس ايرادا لقدرة الله و سلطانه علي سائر من في ملكوته من الاحياء...«الذين قالوا ان الله عهد الينا أن لا نؤمن لرسول حتي يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات و بالذي قلتم فلم قتلتموهم ان كنتم صادقين». آل‌عمران/183في هذا النص اسلوب في الجدل من نمط اسلوب الفئة المجادلة التي كانت تظن انها تتكلم بلغة لا يحيط النص القرآني بمفرداتها ولكن الامر كان علي غير هذا النص الخائب فلقد ذكروا بأمور من نمط ما طالبوا به ولكنهم لا يصدقوا الالتزام به في العقيدة و طاعة الله «قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات و بالذي قلتم فلم قتلتموهم ان كنتم صادقين»... كان اليهود في عرض مقولات لهم يحسبون فيها ما يثبت قدمهم في الجدال فاذا بقدمهم تزل من غير أن يكون لها ثبوت و بذلك يكثر افتضاحهم في البيئة العربية و هو افتضاح يعز به الاسلام و يسمو و يذل به خصومه اليهود و يخزون...«و اذا قيل لهم تعالوا الي ما أنزل الله و الي الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا، فكيف اذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله ان أردنا الا احسانا و توفيقا اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم و قل لهم في انفسهم قولا بليغا». النساء 63/61 [ صفحه 253] في هذه الايات ايماء الي جانب من معاناة الرسول صلي الله عليه و سلم في مهجرة بالمدينة فانه وجد فيها عدل ما كان قد وجد من اهل مكة قبل الهجرة.و في النص القرآني اشارة الي عقوبات الهية عاجلة كانت تعرض لبعض خصوم النبي فكانوا يدركون انها من بعض نقم الله عليهم جراء اساءتهم لرسوله العظيم. لذلك كانوا يقبلون عليه صلي الله عليه و سلم معتذرين من موقفهم السي‌ء الذي يروحون يفسرونه بما يظنون فيه تصحيح عملهم ذاك «ثم جاؤك يحلفون بالله ان اردنا الا احسانا و توفيقا».و قد وصي الله نبيه ان لا يأبه لما وقع منهم و ان يعرض عن ذلك اي لا يجعل منه ما يثير شديد الهم في نفسه و ذاك معني قوله تعالي «فأعرض عنهم» و مثل ذلك قوله تعالي «يوسف اعرض عن هذا» اي لا تشغل بالك به و لا تحمل من أجله هما.ثم اوصي الله نبيه ان يعظ القوم بقوله تعالي «وعظهم و قل لهم في انفسهم قولا بليغا» و في هذا النص دلالة علي ان النبي صلي الله عليه و سلم كان قوي الحجة متين الاسلوب يحسن النقاش و يقنع الجهة التي يخاطب و يأخذ بتقريعها وردها الي الصواب... و في هذا النص كذلك اشارة الي انه صلي الله عليه و سلم كان محل ثقة الله باقتدار نبيه علي تنفيذ اوامره و نواهيه. ما اسهل الاعتذار و اكثر كلماته لدي معتادي الاساءة و ممتهني الغدر و من كان من قبيلهم...«قل متاع الدنيا قليل و الاخرة خير لمن اتقي و لا تظلمون فتيلا»... النساء/77قبل هذا النص قوله تعالي علي اناس «و قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا اخرتنا الي اجل قريب.» قائلوا ذلك ممن اعترضوا علي ان يكتب الله عليهم القتال و الخروج الي الجهاد و طالبوا بان يؤجلهم الله الي وقت اخر لينجزوا علي زعمهم اعمالا لهم فيها منافع في حين ان المنافع المتأتية من الجهاد اعم و اهم... ولكن الله نبههم الي ان ما يريدون انجازه من اعمالهم هو بالنسبة الي ما يصيبهم من اجر الجهاد ضئيل جدا...«قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا»... النساء/78قبل هذا النص جاء قوله تعالي «و ان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله و ان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك». الامر هنا يتعلق في دعوي يدعيها قوم وصفهم الله بانهم لا يفقهون حديثا و ذاك انهم كانوا يتهمون النبي بان ما يصيبهم من اذي انما ترجع مسؤوليته الي النبي فكذب الله مقولتهم هذه و بين ان كل شي‌ء هو من عند الله...«و يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن و ما يتلي عليكم في الكتاب في يتامي النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن و ترغبون ان تنكحوهن و المستضعفين من الولدان و أن تقوموا لليتامي بالقسط و ما تفعلوا من خير فان الله كان به عليما»... النساء/127في هذا النص شي‌ء من التحاور و الاستفسار الذي وجه الي النبي و قد امره الله بأن يرد علي القوم بما يفيدهم به من امور الدين الخاصة بالنساء.«يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له ولد و له اخت فلها نصف ما ترك و هو يرثها ان لم يكن لها ولد فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك...»... النساء/176.في هذا النص شرح مستفيض ببعض انماط الميراث الذي وقع السؤال عنه.«و قالت اليهود و النصاري نحن أبناء الله و أحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و الله ملك السموات و الارض و ما بينهما و اليه المصير»... المائدة/18النص مسبوق بقوله تعالي «و قالت اليهود و النصاري نحن ابناء الله و احباؤه...». و لم يكن النص القرآني في رد مقولة القوم هذه مصرحا بتكذيبهم [ صفحه 254] فيها لان امثال هذه الادعاءات يبطلها تهافتها و جسامة الكذب فيها فان الله لم يقل لهم ]كذبتم لستم ابناء الله و لا احباءه[. و انما تخطي ذلك الي بيان الواقع الذي هم مواقعوه اذ قال انهم بشر كسائر البشر و انهم مؤاخذون علي ذنوبهم و معاقبون علي معاصيهم. و يعد هذا النص ابتداء نص جدلي في اخطر المواقف العقائدية. والاصل في الجدل ان يحو حول نقطة ارتكاز تتعلق بها المقولات العقائدية و لا يتباعد عن ذلك الي امور هي خارج صدد الموضوع...«قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا الا أن آمنا بالله و ما أنزل الينا و ما أنزل من قبل و إن اكثركم فاسقون»... المائدة/59المفروض في اهل الكتاب ان لا ينقموا ممن يدعو الي وحدانية الله و ينكر ألوهية الاوثان، ولكنهم كانوا يبدون كل الالفة لعبدة الاوثان في حين يواجهون عبدة الله بالخصومة... و من هنا جاء الامر الالهي الي رسول الله يأمره بمصارحة اهل الكتاب و لومهم و تقريعهم علي الوجهة الخاطئة التي يتجهون اليها... و كان النبي مكلفا ان يتولي هذه المواجهة بنفسه و مثل ذلك يتطلب صبرا جميلا و عقلا حصيفا و تهيؤا مكتمل الادوات لمثل هذه الجولات الرهيبة التي يكون الطرف الاخر فيها راكبا مركب عناد و خارجا عن صدد الخلق الذي يمليه عليه دينه و صميم عقيدته ولكنه يزيغ عن ذلك كل الزوغان... و العتاب هذا تمتزج فيه رقة المخاطبة و لين المحادثة بصريح المحاسبة الا ان الكتابيين. و هم هنا اليهود خاصة لم يكونوا يندي لهم جبين من الخجل علي قبح موقفهم و سوء تصرفهم...ان في هذا النمط من الاشارات القرآنية ما يسجل لاهل الكتاب في المدينة أخبث المواقف و ألأم الانماط من الفتن التي يحوكونها امام النبي صلي الله عليه و سلم... ان اليهود و غيرهم كانوا يدعون الي اعتناق الاسلام لانه جاء مبطلا لديانتهم ابطالا قائما علي الحجة و الدليل... ولكن اليهود كانوا يتذرعون في رد دعوة الاسلام بانهم فوق مستوي الاسلام اذ تتغلب عليهم و اخيلة و اوهام يحسبون انهم بمقتضاها ابناء الله و شعبه المختار و من عداهم من ابناء البشر ليسوا بشي‌ء...يتلخص من هذا. ان النبي كان من هؤلاء القوم علي خطة مواجهة غليظة و ساحة مناظرة عريضة، و مثل ذلك مما يعيق مسيرة الركب الاسلامي كل اعاقة الا ان حسن قيادة الركب الاسلامي. و عظم الاقتدار القيادي لدي رسول الله كان فوق ذلك كله...«قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله و غضب عليه و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت اولئك شر مكانا و أضل عن سواء السبيل»... المائدة/60النص يدور في دائرة زجر يستأهله اولئك المماحكون الذين جابهوا النبي صلي الله عليه و سلم بما للؤم من ثقل في صدره...«قل يا أهل الكتاب لستم علي شي‌ء حتي تقيموا التوراة والانجيل و ما أنزل اليكم من ربكم و ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا و كفرا فلا تأس علي القوم الكافرين»... المائدة/68في النص كشف عن الواقع العقائدي التطبيقي عند اهل الكتاب يومذاك في تعاملهم الذاتي اذ ان القيم الخلقية العالية التي في كتب الله القديمة لم تكن محل تمسك اتباع اولئك الديانات التي يتظاهرون بأنهم شديدوا التمسك بها. لذلك قال لهم «حتي تقيموا التوراة و الانجيل» غمزا لهم بالصد عنها. و من هنا كان موقفهم ضد الاسلام موقف غدر و لؤم لا يحسن أن يقع مثلهما من قوم يدينون بديانتين قديمتين و كتابين معروفين بالحكمة و حسن التوجيه...ان سلوك الكتابيين تجاه الاسلام و المسلمين كان اكثر انحطاطا من سلوك الوثنيين و عبدة الاصنام فانهم لفرط مثابرتهم علي تحطيم الاسلام و هدم صرحه و ابتداعهم سائر الوسائل الغادرة لتحقيق ما يريدون... [ صفحه 255] لقد كان الاسلام مهددا منهم بأن لا يقوم لا عمود ولكن لان الاسلام دين الله و قد اراد ان يظهر دين و تسود شريعته و ينصر نبيه، و هذا ما كان...«قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا و لا نفعا و الله هو السميع العليم»... المائدة/76في هذا النص نقاش لبعض الكتابيين يقرر به بطلان معتقداتهم و ما سبق هذا النص من الآي القرآني يوضح تفاصيل الموضوع. و لغة النص القرآني في هذا المقام جاءت بالترتيب المطلق بين كتابيين و بين عبدة الاوثان امعانا في التهكم و التبكيت و ابطال ما اراد النص ابطاله من معتقدات الفوم.«قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل»... المائدة/77في هذا النص نصيحة أمر الله نبيه باصدارها لاهل الكتاب و فيها ما يدعوهم الي ان لا يخرجوا بفعل الغلو عن اصول ديانتهم... و فيها تحذير من اتباع من ضل من الامم عن سبيل الحق و انما تفسد الاديان من اقحام أمور خارجية في صلبها فيتبدل وجهها الناصع و يصل اليها التحريف... و هي لعمري نصيحة خالصة لحماية الاصول الدينية من ان تقتحم عليها ابوابها آراء و افكار و معتقدات من هنا و هناك و في النص تقريع لاهل الكتاب بما صنعوه من التساهل في الغلو في الدين و اتباع أهواء من ضل من الناس و لقد كان القوم في حوارهم مع النبي صلي الله عليه و سلم، يخرجون عن الصول الدين الي اشياء ليست منه في شي‌ء و هذا ما كان من بعض ما يعقد الموقف بين فئة المسلمين و فئة اهل الكتاب.«قل لا يستوي الخبيث و الطيب و لو اعجبك كثرة الخبيث، فاتقوا الله يا أولي الالباب لعلكم تفلحون»... المائدة/100هذا نص فيه حكمة عالية المستوي موجهة الي الجميع، فان الخبيث شي‌ء و الطيب شي‌ء اخر و من تمام رسالة النبي أن يوصل الحكمة الي سائر الاطراف لاسيما من خوطب في النص بأنهم من ذوي الالباب... أجل ان من مهام الرسالة الارشاد و النصح و التهذيب... و الآية اتية علي هذا الوجه.«قل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين»... الانعام/11في هذا النص دعوة أمر الله نبيه ان يدعو بها المعاندين و غيرهم الي الوقوف علي أحداث التاريخ وجها لوجه لكي يعلموا سلطان الله في خلقه و ما صنعه في الامم التي جحدت رسالات رسله ففي الارض كثير من العلامات الدالة علي وجود امم كانت هناك ثم زالت و علي قوي كانت متحكمة في العالم ثم ضعفت و ذلك ليكون المعاندون و المذبون امام الامر الواقع الذي يرد اليه النص دائما بالتكرار و تحذيره من السير علي الخط الذي ادي الي ما ادي اليه من العقوبات التي انزلها الله بالكافرين. و التحدي ظاهر في هذا النص لانه يدعو جهلة القوم الي الخروج الي العالم و رؤية الاحداث كما هي. و هذا من منطق القول الذي اجراه الله سبحانه و تعالي علي لسان نبيه صلي الله عليه و سلم في أن يسيروا في الارض... «قل سيروا...»«قل اغير الله اتخذ وليا فاطر السماوات و الارض و هو يطعم و لا يطعم قل اني امرت ان اكون اول من اسلم و لا تكونن من المشركين»... الانعام/14في هذا النص تبكيت لكفار مكة و من وراءهم من المشركين يراد به ما يشبه القياس بين عبادة الله و عبادة الاوثان التي لا تعقل شيئا و لا جدوي لاحد في عبادتها و قد جاء في النص من صفات الله عزوجل المثبتة لألوهيته ما كان ايراده طبيعيا في هذا الموقف لاقامة الحجة و اثبات الدليل.و قد جاء تلو ذلك الخطاب بكلمة (قل) لوضع النتيجة علي مقربة من المقدمة تبيانا للحقيقة الالهية الناصعة اذ أراد الله للنبي ان يبرز ذلك علانية «قل اني [ صفحه 256] أمرت ان أكون أول من أسلم و لا تكونن من المشركين» و قد جاءت هذه الصيغة بلفظ «أمرت أن أكون أول من أسلم» لبيان فضل الآمر و لا يصال عبده في الهداية و الآمر هنا هو الله الذي يستأهل كل تسبيح.«قل اني اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم»... الانعام/15بعد ان نسب الي الباري عزوجل امره نبيه بالاسلام فكان اول من اسلم حسن ان تجي‌ء الاشارة الي وجوب طاعة الله و عدم عصيانه و الاشارة كذلك الي ان في خوف الله اثرا في ذلك.و النبي حين ينقل هذه الوقائع الذاتية الي اناس يقر في نفوسهم مذاق الخوف من الله اذ كان و هو رسول الله و المقرب من رعايته يخاف الله و يطيعه و لا يعصيه و من سواه من عباد الله اولي بالمخافة من الله «قل اني اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم» لما في عصيان الله من التعرض للعذاب الاليم الذي خشي النبي صلي الله عليه و سلم ان يتعرض له اذا عصي ربه.«قل اي شي‌ء اكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم و اوحي الي هذا القرآن لانذركم به و من بلغ أإنكم لتشهدون ان مع الله الهة اخري قل لا اشهد قل انما هو اله واحد و انني بري‌ء مما تشركون»... الانعام/19في هذا النص نقاش فكري و منطقي جد دقيق كان علي النبي ان يواجه به الاطراف المعنية من أهل مكة اذ ان السورة مكية و اخبارها تدور حول جهود النبي المبذولة لدعوة المشركين الي الدين و ظاهر في النص استعمال كلمة الشهادة امر عظيم لانها لا تكون الا عن بينة و عن ثقة تامة بما يؤدي الشاهد فيه شهادته و كان النبي يتحدي القوم بانهم اذا شهدوا ان مع الله الهة اخر فانه لن يشهد بمثل شهادتهم لما تيقن عنده من وحدانية الله التي لولا ثبوتها لذاته العلية لما كان هناك شي‌ء في الكون قد خلق احسن خلق و قوم احسن تقويم.«و قالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل ان الله قادر علي أن ينزل آية ولكن اكثرهم لا يعلمون»... الانعام/37طلب نزول الآيات و الدلائل الغيبية و الاعجازية كان كثيرا في اوساط القوم بمكة. ولكن الله لم يقم دينه علي الاستجابة لمثل ذلك...«قل أرأيتكم أن أتاكم عذاب الله او اتتكم الساعة اغير الله تدعون ان كنتم صادقين»... الانعام/40تجول آيات الموعظة في القرآن الكريم بين الترغيب و الترهيب و في النص يأمر الله نبيه ان يجعل لبعض وقائع العقاب الالهي صورا مستحضرة تكون علي مدي رؤية القوم حذيرا لهم و ترهيبا و في طي ذلك استبيان لطبيعة موقفهم من ذلك و هو موقف المذعن لله و المستغيث به لينقذه من خطب ذلك اليوم العظيم.«قل ارأيتم ان اخذ الله سمعكم و ابصاركم و ختم علي قلوبكم من اله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الايات ثم هم يصدفون»... الانعام/46في هذا النص يأمر الله نبيه ان يواجه القوم بما عسي ان يعرض لهم من اقدار الله الشديدة الوطاة عليهم من نحو اخذ الابصار و الاسماع و ما الي ذلك من شديد نقمه. جلت قدرته و هو مما يلاحظونه من احداث الحياة في عالم البشر و قال لهم ماذا عساكم ستفعلون و من سيرد اليكم ما اخذه الله منكم و في ذلك ايماء الي عجر الاصنام و الاوثان التي يلوذون بها ان تصنع شيئا... و في النص القرآني ما يلوح بقوة الجدل فيه رغم انصراف القوم عن الاقتناع و في ذاك دلالة واضحة علي المكابرة التي تركب نفوسهم و تمنعهم من الانصياع و المجاهرة بمثل هذا التهديد الالهي في اوساط معاندة ينشأ منها فرط حقد علي المجاهر بها و هو النبي صلي الله عليه و سلم ولكن قانون الرسالة يقتضي [ صفحه 257] ابلاغ الاوامر الالهية الي من توجه اليهم من دون استثناء احد و لابد من ان ينهض الرسول بذلك دون ملاحظة لما يضره او ينفعه لانه مرسل من الله في مهمة عليه ان يؤديها.«قل ارأيتكم ان اتاكم عذاب الله بغتة او جهرة هل يهلك الا القوم الظالمون»... الانعام/47و في هذا النص عدل ما جاء في النصوص السابقة من الاخذ باسلوب الترهيب و عرض العقوبات الالهية التي اصاب بها الظالمين من عباده و كان علي النبي ان يواجه الناس في مكة بما يأمره الله ان يواجههم به و كان صلي الله عليه و سلم من الرصانة و الحصافة و حسن التصرف قادرا علي مواجهة كل قوم بما يأمره الله ان يقوله لهم من غير ان يأبه بكل عجاجة جدل و انكار من القوم تثار عليه...«قل لا اقول لكم عندي خزائن الله و لا اعلم الغيب و لا اقول لكم اني ملك ان اتبع الا ما يوحي الي. قل هي يستوي الاعمي و البصير أفلا تتفكرون»... الانعام/50كان الر سول صلي الله عليه و سلم لا يقول للناس شيئا غير الذي يعلمه في نفسه و يعرفه من صفته و كان ذلك واضحا لدي من آمن به و من لم يؤمن فانه لم يسلك الي نفوس قومه من طريق المغريات و لا سلك الي نفوسهم عن طريق الشعوذة و لا عرف الدجل له طريقا الي شخصية هذا النبي العظيم [68] فمن آمن برسالته آمن عن قناعة لم يستغل اليها استغلالا و لا اغري بها اغراءا و تلك من مزاياه صلي الله عليه و سلم في بيئة قد تكون استجابتها له سريعة و عاجلة و مكثفة و انه لجأ في دعوته الي الدين الي وسائل من الشعوذة و الدجل و المغريات فها هو ذا صلي الله عليه و سلم يقول لهم وفق ما امر الله ان يقوله لهم (قل لا اقول لكم عندي خزائن الله و لا اعلم الغيب و لا اقول لكم اني ملك).في هذا التصريح الصادق المعبر عن حقيقة شخصية الرسول يتباعد عنه ذوو الاطماع علي اختلافها و لا يلتحق به الا من يكون مقتنعا بسلامة سلوكه الذي لا يمس بسوء ثم تلا ذلك قوله تعالي «ان أتبع الا ما يوحي الي» و في ذاك دلالا علي ان النبي لم يكن مستقل الشخصية فيما جاء به لان اعلان كونه متبعا لما اوحي الله اليه و ليس آتيا من عنده بشي‌ء يسقط كل ادعاء للغرور فيظل النبي عبدا لله و رسولا منه الي الناس فلا تجد الناس له شخصية مستقلة الا بما امده الله به من عون و قوة و توفيق.«قل اني نهيت ان اعبد الذين تدعون من دون الله، قل لا اتبع اهواءكم قد ضللت اذن و ما انا من المهتدين»... الانعام/56في هذا النص صراع و تشابك جدلي بين الرسول و قومه في مكة فهو صلي الله عليه و سلم قد أمر ان يصارحهم ان لا يتبع اهواءهم التي كانوا يصرون عليها و يريدون جره اليها و واجههم صلي الله عليه و سلم بتسمية اهوائهم اهواء بجرأته التي كان يواجه بها المعاندين من القوم و المهم في هذا النص القرآني انه يصور التكاليف الالهية التي يحملها الله نبيه لمخاطبة الكفار و المشركين و هم يومذاك في مكة بما يرد عليهم اهواءهم و يعلن علي ملأ الاشهاد بطلان ذلك... و بديهي ان مثل ذلك انما يكون علي خط مواجهة مكشوف لا يحذر النبي فيه من شي‌ء... و كان ذلك مما يبدد الكثير من عناد المشركين و يضعف تجمعاتهم المتواطئة علي الباطل... فان النبي رغم هجرة كثير من اصحابه و اعوانه الي الحبشة فانه كان ما يبرح قوي الشخصية صريح المخاطبة بما لا يرضي كفار قريش. [ صفحه 258] «قل اني علي بينة من ربي و كذبتم به ما عندي ما تسعجلون به ان الحكم الا الله يقص الحق و هو خير الفاصلين»... الانعام/57في هذا النص يعلن النبي لخصومه انه واثق من سلامة عقيدته و صحة ما عنده من الدين بما لا يعلق به شك و لا يحوم حوله ارتياب ثم يقول لهم انكم تكذبون ذلك و لا تؤمنون به و تطالبون بأن ينزل الله عليكم نقمته و عذابه تقولون ذلك علي وجه التحدي و الانكار و ليس في ذلك من شأن و لا مهمة «ما عندي ما تستعجلون به ان الحكم الا لله يقص الحق و هو خير الفاصلين» فانه بيده كل شي‌ء و بذلك لم يدخل النبي من مجادلة القوم في مأزق من التحدي و المراهنة و في قدرة الله أن يصنع بهم ما يريد...«قل لا أن عندي ما تستعجلون به لقضي الامر بيني و بينكم و الله أعلم بالظالمين»... الانعام/58هذا النص جاء معقبا علي النص السابق و فيه ان الامر لو كان الي رسول الله لما مد لهم من حبل الصبر ما مده الله لهم فأن النبي يقول لهم ان الله عظيم الصبر علي عباده... فمجال الصبر عنده سبحانه و تعالي عريض و فسيح مهما كانوا من شدة العدوان و شراسة التعامل...و في هذا نمط للحديث الي الناس في شأن سمات الله و اسمائه الحسني. فان الكفار سيجدون في هذه المعاني ما يجعلهم يقتربون من معرفة الله علي أن هذه النصوص و اشباهها هي من بعض تعليم الله لنبيه علي مدي فترات نزول القرآن الكريم في مكة و في المدينة... و في الآيات المارة الذكر ما يشير الي أن النبي لا يدخل في اقدار الله و خاصة أعماله في خلقه...«قل من ينجيكم من ظلمات البر و البحر تدعونه تضرعا و خفية لئن أنجانا من هذه النكونن من الشاكرين، قل الله ينجيكم منا و من كل كرب ثم أنتم تشركون»... الانعام 64/63في هذا النص محاكمة حظورية لاولئك الخصوم جاء فيها ما يذكرهم بأنهم كثيرا ما تعرضوا للمخاوف «من ظلمات البر و البحر» حين كانوا يسلكن البر و يركبون البحر. البر و البحر مواقع تكثر فيها دواعي الخوف... و كنتم تلوذون بالله ليحميكم من بأسه فاذا ما حماكم رجعتم الي شرككم القديم... و في هذا ما يؤكد عظيم صبر الله علي القوم لعلهم يقلعون عن كفرهم و يقبلون علي الايمان بربهم... و هذه الآيات المتتابعة كلها الي وجه واحد من التقريع و الوعظ و شرح الامر الواقع. و ما من شك في أن موقف النبي ازاء هذه الفئة موقف فيه من المعاناة ما فيه المتاعب و الهموم ما فيه...«قل هو القادر علي أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون»... الانعام/65يعد هذا النص من النصوص المجاهرة بالتهديد و التقريع التي كان علي النبي أن يتلوها جهرة علي قومه في مكة. و قد كان لها أثر هائل في انفسهم بحيث لا يملك ذو جرأة منهم أن يقول و اين هذا العذاب و متي و ذاك لقوة العبارة القرآنية و نفاذها الي اعماق النفس لا سيما لدي من يكون من فصحائهم و بلغائهم و متكلميهم اضافة الي وضوح الصورة في عقولهم و ابصارهم... و يستفاد من ذلك ايضا ان الشخصية الرسول الاعظم اثرا لا يقل عن هذا الاثر في نفوسهم اذ ان شخصيته كانت تتميز علي تواضعه صلي الله عليه و سلم بالشموخ و الحضور بما كان يتكامل فيها من ادوات الهيبة و الوقار... هذا و ان النص القرآني الذي نحن في صدد الكلام عليه و ما يناظره من النصوص انما كان يقع الخطاب لقوم يؤمنون بالله و كان العرب يؤمنون بالله حتي ما كان من مشركيهم.«قل اندعو من دون الله مالا ينفعنا و لا يضرنا و نرد علي اعقابنا بعد اذ هدانا الله كالذي استهوته [ صفحه 259] الشياطين في الارض حيران له اصحاب يدعونه الي الهدي ائتنا قل ان هدي الله هو الهدي و أمرنا لنسلم لرب العالمين»... الانعام/71في هذا النص ضرب من ضروب الامثال و مناقشة المشركين في البيئة المكية مما يستدل به علي شدة انكفاء القوم علي معتقداتهم التي كانت الآيات المكية تقبل عليهم يتبديد ما في اذهانهم من تلك المعتقدات علي وجه مستمر متصل و كانت مهمة الرسول آنذاك يغلب عليها هذا الاسلوب من النقاش و الجدل و المناظرة بحيث لم يترك القرآن الكريم للقوم متنفسا يلجأون فيه الي الراحة فمازال الامر الالهي يرد علي الرسول قائلا له «قل» للصدع بكثير من وجهات النظر الاسلامية ضد النظريات الوثنية التي لم تلبث حتي جاء امر الله و علت راية الاسلام...«قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسي نورا و هدي للناس»... الانعام/91كانت السور القرآنية النازلة في مكة - قبل الهجرة - قد تناولت بكثير من التفصيل سير الانبياء و المرسلين و ذاك لاشعار العرب بان سائر الامم قد ظهر فيها مصلحون من بين ابنائها و رسل بعثهم الله اليها ليخرجهم من الظلمات الي النور... و كذلك ليتعلم النبي من سير اسلافه النبيين الذين لقوا من شعوبهم و اممهم مالقوا من العدوان و الاذي. و قد صار للنص القرآني بعد ان اصاب المشركون من الثقافة التاريخية الدينية و العلم باخبار الرسل ان يخاطبهم القران علي ضوء تلك الثقافة خطاب نقاش و مراجعة... و الكلام علي موسي عليه‌السلام منذ العهد المكي يوم لم يكن لليهود فيه شأن جدلي كبير انما كانت الغاية منه ما قلناه حتي اذا بلغ الاسلام تخوم المدينة و لليهود هناك وجود و بروز كان المسلمون علي قدر حسن من الدراية بامر أنبياء الله ممن بعثوا قبل رسول الله صلي الله عليه و سلم الي اقوامهم هنا و هناك... و لما جاءت السور المدنية بالكلام علي الرسل كان ذلك قائما علي تأسيس سابق بحيث لم يحتج المسلمون الي القيام باستبيان من اليهود عن شي‌ء من ذلك... و يبدو ان مشركي قريش و غيرهم لم يكن لديهم تعقيب او تعليق علي ما انباهم به القرآن الكريم من ظهور رسالات الهية الي غيرهم من الاقوام و الامم... بل صدقوا ذلك و هم يرون في الارض و في اكثر من مكان يهودا و نصاري و اصحاب ديانات اخري... و اهل مكة عروا من امر المسيحية القليل او الكثير من سفراتهم الي الشام و من احداث الغزو الحبشي الي مكة و من خروجهم الي الحبشة في اغراض شتي من تجارة و نحوها... و علي هذا جاء قوله تعالي «قل من نزل الكتاب الذي جاء به موسي» في مخاطبة مشركي قريش و هو يقدح زناد افكار القوم بان الله انزل الكتب علي الرسل المرسلين الي اممهم ففيم يتعجبون تعجب المنكر الجاحد ان يكون الله قد انزل علي رسول من العرب بعثه اليهم كتابا يهدي الي الرشد و يدعو الي عبادة الله و نبذ عبادة الاحجار التي اتخذت منها الهة كاذبة لا تسمع و لا تبصر و لا تجيب علي سؤال و لا تفعل شيئا و لا ترد عن نفسها عادية لمن يهوي عليها بفاس...و في النص تعليم للرسول صلي الله عليه و سلم ان يتوكل علي الله توكلا مطلقا فاذا فعل كفاه الله شر اولئك القوم الذين أمر النبي ان يذرهم في طغيانهم يعمهون فان الله اعلم كيف يصنع بهم.فالآية اذن تنص ان الله هو الذي يتولي امر تلك الفئة التي كانت لاهية لاعبة و خائضة في جدلها و لغطها و مكايدها كل الخوض... و الكلام هنا علي نحو قوله تعالي «فسيكفيكهم الله» و في النص اشارة ظاهرة الي عمق ما تركوه في نفس الرسول من اذي شديد بحيث امره الله ان ينقلب اليه و يتوكل عليه و يذر القوم علي ما هم فيه اذ كان الذي كانوا فيه خوضا في لعب يلعبونه وجهلا يجهلونه و ضلالا عكفوا عليه... و كلمة اللعب هنا يراد بها وصف مستوي تلك الجماعة فانه مستوي غوغائي ليس للعقل في خطوطه كلها نقطة واحدة... [ صفحه 260] و الباري عزوجل يكل الي انبيائه و رسله امر شعوبهم حين لا يكون هناك من طول لدي اولئك الانبياء علي اممهم الا طول الله و عظيم سلطانه... و تهديد اولئك الناس ظاهر في النص«قل انما الايات عند الله و ما يشعركم أنها اذ جاءت لا يؤمنون...»... الانعام/109هذا النص بقية من آية قرآنية اولها «و أقسموا بالله جهد ايمانهم لئن جاءتهم اية ليؤمنن بها»... كان القوم في مكة يتملصون م الانصياع للحقيقة التي يجاهرهم بها النبي و من ذلك انهم كانوا يقسمون بانهم اذا جاءتهم عبرة من عبر الله في خلقه ليؤمنن و تأتي هذه العبر ولكنهم يتنصلون من الايمان التي اقسموها و المراوغة هنا ظاهرة واضحة كان الرسول الاعظم يصبر عليها و يبادرهم بنص اخر جديد يجعلهم في حيرة متراكبة و ذهول مكثف... و في النص اللاحق ما ينوه بموقف الرسول تجاه مراوغة الكافرين و المشركين و تقلبهم الذي كان يقع علي اكثر من ست جهات...«قل آلذكرين حرم ام الانثيين ام ما اشتملت عليه أرحام الانثيين نبؤني بعلم ان كنتم صادقين»... الانعام/143في النص نقاش امر الرسول ان يناقش به مشركي مكة اذ كانت احكام بمقتضي شرائعهم في الحلال و الحرام من المآكل و المذابح. و تكرر ذلك في نص ألا و هو «قل آلذكرين حرم ام الانثيين ام ما اشتملت عليه ارحام الانثيين ام كنتم شهداء اذ وصاكم الله بهذا فمن اظلم ممن افتري علي الله كذبا ليضل الناس بغير علم ان الله لا يهدي القوم الظالمين»...«لا أجد في ما اوحي الي محرما علي طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا او لحم خنزير فانه رجس، ام فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ و لا عاد فان ربك غفور رحيم»... الانعام/145في هذا النص تحريم لبعض المآكل التي لم يكن اهل الجاهلية يعزفون عنها لذا صارت مميزة لاهل الايمان عن اهل الشرك... و نحن علي حد قولنا في المحرمات المكية اذ قلنا ان عددها يسير. و غالب ما جاء منها كان من اعمال الناس اليومية... و المراد بالدم المسفوح ما كانوا يلجأون اليه من قصد الابل و التغذي بدمائها و ضيافة الضيف بشي‌ء من ذلك... فمنع الله سفك هذا الدم و سماه مسفوحا صفة له بالعدوان و هو عدوان حقا، و لا شأن لهذا الدم بما يخرج من الدبائح من دماء عند ذبحها...و تحريم لحم الخنزير في السور المكية يوضح انه لا علاقة بهذا التحريم بما عليه اليهود من تحريم لحم الخنزير و انما و هو حكم الله و قد كان واحد في الشريعتين... و جاء في النص ما يعد حالة استثنائية عند الاضطرار و يفهم من هذا علي وجه الايماء ان بعض القوم كانوا يأكلون الخنزير و الميتة فان لم يكن ذلك عن مخمصة و درء مجاعة فانه حرام... و التزم المسلمون بهذه التعاليم فصارت بعض سمات المفارقة بينهم و بين سائر سكان مكة من غير المؤمنين و في النص اشارة الي ان الرسول كان قد اذن الله له بالاجتهاد و النظر في فهم النصوص و ما تنطوي عليه من دقائق الاحكام فان عبارة (لا اجد في ما اوحي الي محرما علي طاعم يطعمه) بيان بان الرسول نظر في ما عده من النصوص المنزلة عليه و استوعبها فلم يجد فيها من المحرمات في ذلك الوقت غير الذي ذكره و اشار اليه...«سيقول الذين اشركوا لو شاء الله ما اشركنا و لا اباؤنا و لا حرمنا من شي‌ء كذلك كذب الذين من قبلهم حتي ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ان تتبعون الا الظن و ان أنتم الا تخرصون». الانعام/148في هذه الاية نمط من الجدل الدقيق فان القرآن الكريم اورد مزاعم المشركين الذين ارادوا ان يردوا سبب شركهم الي الله فكانت الكلمة الموجهة اليهم غاية في الحكمة (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) و قد ورد ذلك علي وجه التحدي و التنوية باهمية العلم ان [ صفحه 261] كان هناك علم فانه خير ما يحتكم اليه و كان نهاية ما قيل لهم في رد مزاعمهم انهم يتبعون الظن و يخرصون خرصا من غير تثبت و لا استيقان...«قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم اجمعين»... الانعام/149في هذا النص تحد جدلي للقوم بمطالبتهم باحضار من عندهم من الشهداء ليشهدوا علي صحة ما يدعون و هو مما يومي‌ء الي قوة الطرف الاسلامي المجادل و ضعف الجهة المخاطبة... و في النص اشارة الي أن الفئة الاسلامية لا تخشي تجمع المبطلين و لا كثرتهم و لا اجماعهم علي الباطل... ان مثل هذا النمط من الالتقاء بالكفار و اهل الاهواء و الضلال كان كثيرا و ما من شك في أن حومة الجدال بين الفئة التي تدعو الي الله و الفئة الكافرة كانت تترك آثارا عميقة في البيئة تنشأ عنها مراجعات الكفار لنفوسهم في شأن حقائق الدين و احكام ملة المسلمين...«قل انني هداني ربي الي صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا و ما كان من المشركين»... الانعام/161.النسب النبوي يتصل بابراهيم ابي الانبياء و صاحب رسالة الحنيفية التي حررت العقل البشري من عبادة الاصنام ودعت الي التوحيد الخالص.و كان آباء النبي علي ذات الهدي كما كانت لهم سدانة الكعبة رغم أنها كانت محفرفة بالاوثان و لم يشهد النبي اباه الذي توفي شابا و لا شهد جده اذ مات جده و هو صبي...و لا عرف في اعمامه عبادة الاصنام، و لذا نشأ النبي بعيدا عن ممارسة شي‌ء من عبادة الجاهلية و هو قد عاش ايام شبابه في مكة حيث الكعبة قائمة و الاصنام منها في كل مكان... ان قدسية الكعبة ناشئة من كونها اقدم مواقع العبادة في الجزيرة و لا يقلل من قدسيتها وجود الاصنام فيها. و المتحنفون لم يكونوا يأبهون لهذه الاصنام و انما كان الطواف بالكعبة اصل العبادة المشتركة بين الحنفاء و بين الوثنيين و لكل شعائره...و النص القرآني الذي نحن في صدده يثبت ان النبي كان علي ملة ابراهيم عن طريق الوراثة و ليس عن طريق التعليم... و أبوة ابراهيم معروفد لدي العرب و لبثت الايات القرآنية النازلة تعلن ذلك و توكده (ملة ابيكم ابراهيم) و انه عليه‌السلام منذ رفع قواعد الكعبة كان منصرفا الي دعاء الله ان يجعل العرب امة ذات نبي «ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم اياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم...»...و سنن ابراهيم باتت من تراثيات العرب يعرفونها و يتواصون بها و صارت من بعض ادبيات المسلمين بعد الاسلام. و في النص الذي في صدر هذا الموضوع نعلم أن الله اراد تبرئة نبيه من ان يكون له عرق في الوثنية في اي يوم من ايام حياته صلي الله عليه و سلم بل ان الله امر نبيه ان يتبجح بفضل الله عليه بهدايته الي دين التوحيد و ان يعلن ذلك علي ملأ الاشهاد في بيئة مكية متبجحة بعبادة الاصنام.«قل ان صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين، لا شريك له و بذلك أمرت و أنا اول المسلمين»... الانعام 163/162في هذا النص يأمر الله نبيه أن يعلن التوحيد الخالص في عبادة الله فلا يكون فيها شي‌ء لغيره...«قل أغير الله أبغي ربا و هو رب كل شي‌ء و لا تكسب كل نفس الا عليها و لا تزر وازرة وزر اخري ثم الي ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنم فيه تختلفون»... الانعام/164في هذا النص نقاش في شأن ربوبية الباري عزوجل التي لا تنازعها ربوبية «قل أغير الله أبغي ربا»... و لم يعد كفار مكة بعد هذا الذي قيل لهم علي لسان النبي يملكون الجرأة ليقولوا له نعم، فانك تستطيع أن نبغي غير الله ربا، فان كثرة الترداد و المراجعة بالارشاد و النصيحة و الموعظة الحسنة و الجدل الصريح لها أثرها في النفوس الا اذا كانت قد عميت بالمرة... [ صفحه 262] و في تضاعيف النص عظات و نصائح و مسائل من الثقافة الدينية و دقائق الشريعة الكريمة السمحة...«قل ان الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون علي الله مالا تعلمون»... الاعراف/28في هذا النص يأمر الله نبيه ان يزجر قوما جديرين بالزجر و الرد و هي مهمة من مهام النبي في الوسط المكي اذ يجب رد مقولات الكفار و تخرصاتهم من الزور و البهتان بحق الله في اقوالهم و معتقداتهم و قد جاء في صدر الاية التي هي موضوع البحث ما نصه «و اذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا و الله امرنا بها». ان القوم فيما قالوه و زعموه من ان الله امرهم بالفاحشة لا سند له في ادعاء انه امرهم و هم ليسوا محلا للوحي و لا رسالة عندهم قبل ذلك و انما اعتمدوا علي المجازفة في الكذب و الترجيم في الاقوال لذلك كانوا جديرين بالزجر الذي أمر الله رسوله ان يزجرهم به معلنا «ان الله لا يأمر بالفحشاء» و كان من بعض رد القرآن الكريم انه نسب اليهم بانهم يقولون علي الله ما لا يعلمون... يلاحظ ان الموقف بين النبي و بين القوم موقف ظاهر التوتر و جدية المواجهة و يبدو كذلك ان النبي صلي الله عليه و سلم لم يكن يظهر عليه شي‌ء من اتقاء شر الخصوم اذ كان يجاهرهم بكلمة التقريع غير هياب منهم و لا وجل و ذاك برغم ان الظروف كانت ظروفا يتمتع فيها اهل مكة من المشركين بالقوة و الجرأة و التطاول. و بهذا نعلم ان شخصية النبي يوذاك كانت شخصية أهلها الله للمهمة التي كانت شخصية النبي قادرة عل ادائها...«قل أمر ربي بالقسط و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد و ادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون»... الاعراف/29في النص شي‌ء من التثقيف و الارشاد الديني. و القسط هنا هو العدل و المراد بالمسجد في النص «و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد» اي عند كل صلاة تؤدونها حيثما اتيتموها و الخطاب هنا لمن اسلم من القوم و لمن لم يسلم بعد...«قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدينا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون»... الاعراف/32الدعوة الي اعتناق الاسلام منذ العهد المكي موجهة الي سائر اصناف الناس من اغنياء و فقراء و متنعمين و غير متنعمين. و يبدو ان هناك من كان يظن و يشيع هذا الظن في المجتمع المكي اذ يوهم المقبلين علي اعتناق الاسلام من الاغنياء و سروات الناس بأن الاسلام يمنع عليهم التنعم و الزينة و التوسع في النفقة و الاستمتاع بخيرات الدنيا. فلقد بات واضحا من النص القرآني «قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده و الطيبات من الرزق» إن الاسلام لا يدعو الي الفقر و الخصاصة و الزهد الذي يبعد المسلم عن تذوق نعم الله في دنياه. و هذا هو معني النص و الغاية المبتغاة منه... و قد جاء في تفسير الشوكاني لهذه الآية ]الزينة ما يتزين به الانسان من ملبوس أو غيره من الاشياء المباحة كالمعادن و الجواهر و نحوها. فلا حرج علي من لبس الثياب الجيدة الغالية القيمة اذا لم يدخل في حد الاسراف و لم يكن مما حرمه الله و لا حرج علي من تزين بشي‌ء من الاشياء التي لها مدخل في الزينة و لم يمنع منها مانع شرعي و من زعم ان ذلك يخالف الزهد فقد غلط[.«قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الاثم و البغي بغير الحق و أن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا و أن تقولوا علي الله ما لا تعلمون»... الاعراف/33في هذا النص تأكيد واضح علي أن الله لم يحرم الطيبات من الرزق و لا منع الناس بالانتفاع بما يسره الله لهم من اسباب الخير من طعام و شراب و كساء و بلهنية عيش. فان الله لم يرد للمسلمين أن يكونوا [ صفحه 263] علي حال من البؤس و الشقاء المعاشي و الظهور بالمظهر الزري و التقشف المفتعل الذي لا دلالة يه علي صمود عندما يجب الصمود و علي صبر عندما يجب الصبر و علي التحمل عندما يجب التحمل...و هذا معني تطرقت اليه الآيات القرآنية في اكثر من سورة بحيث فهم المسلمون ذلك فهما دقيقا و تاما. ان الحياة لتجمع ضدين و يجري تداولها بين الناس من غني الي فقر و ن فقر الي غني و من شبع الي جوع و من جوع الي شبع، أما ادعاء أن الاسلام يمنع المسلمين من أن تظهر عليهم آثار نعم الله فذلك ما عالجه النص القرآني الذي نحن في صدده بالعبارة الصريحة و الاسلوب الواضح.و في هذا النص المكي بعض التعليمات العقائدية الاساسية التي تعد من اصول الشريعة الاسلامية و فيها نهي عن القول علي الله غير الذي يقوله عزوجل...«قل يا أيها الناس اني رسول الله اليكم جميعا الذي له ملك السماوات و الارض لا اله الا هو يحيي و يميت فآمنوا بالله و رسوله النبي الامي الذي يؤمن بالله و كلماته و اتبعوه لعلكم تهتدون»... الاعراف/158هذه احدي ايات التبليغ التي كان الرسول يواجه بها المشركين و كفار مكة ليقرع سمعهم بانه رسول الله اليهم و في بعض النص ذكر لصفات الباري عزوجل و دعوة القوم الي الايمان به و في ذلك بيان بان النبي هو مثلهم في الايمان بالله و كلماته...«قل لا املك لنفسي نفعا و لا ضرا الا ما شاء الله و لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسني السوء ان انا الا نذير و بشير لقوم يؤمنون». الاعراف/188 في هذا النص يبلغ الله رسوله ان يقول للناس انه ليس الا بشرا اختاره الله لهداية البشر و انه لا يعلم الغيب و لو كان يعلمه لاستكثر من الخير و لتحامي ان يصل اليه شي‌ء من اذي الناس، ان هذه الصفات الواقعية معروفة لدي الناس و ان نفي علم النبي بالغيب ليس فيه ادعاء ما هو غير حقيقي فانما هو من خيرة الاعترافات التي علمت الناس بها ان النبي لم يزغ عن محجة الصدق و النصح السديد...«قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون»... الاعراف/195في النص القرآني تحد لمعابيد المشركين الذين هم مجرد احجار لا تعقل و لا تبصر و لا تملك البطش و التصرف و لا تدرأ عن نفسها الاذي... و التهكم بأولئك الاصنام و بعبادها عنيف في النص لاسيما اذ يتحداهم النبي و يسخر من آلهتهم و يدعوهم الي الاستعجال في اثبات قدرة آلهتهم علي أن يؤذوا النبي و يقفوا في وجهه بما يملكون من كيد ان كان لهم من كيد...«و اذا لم تأنهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل انما أتبع ما يوحي الي من ربي هذا بصائر من ربكم و هدي و رحمة لقوم يؤمنون»... الاعراف/203يشير النص الي أن كفرة المكيين كانوا يطالبون النبي بابراز بعض الاعمال الخارقة و غير المألوفة يزعمون انها ستكون برهانا له علي صدق رسالته. فجاء النص يرد عليهم ذلك «قل انما اتبع ما يوحي الي من ربي هذا بصائر من ربكم و هدي و رحمة لقوم يؤمنون»... اما قولهم في مخاطبة النبي «لولا اجتبيتها» فانهم يريدون حمل النبي علي تحقيق ما يقترحون من الايات بأي وسيلة. غير أن النبي لم تكن وجهته في دعوته العظمي الي مثل ما يريدون و يقترحون...«قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف»... الانفال/38في هذا النص عهد من الله الي النبي ان ينقله الي الناس ليطمئنوا ان انتهوا من غيهم و فاسد اعتقادهم فان الله عزوجل سيمحو عنهم ما سبق [ صفحه 264] من سيئاتهم و هي قاعدة في الملة تقرر ان الاسلام يجب ما قبله...«قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا و علي الله فليتوكل المؤمنون»./.. التوبة/51هذا النص من الادب الاسلامي العالي الذي تطمئن به النفوس و تهدأ به الخواطر عند عروض المصائب و المحن و الغوائل و كان النبي صلي الله عليه و سلم يلوذ بمثل هذه الكلمات التامات فلا يغالبه الهم و ان الايمان الحق هو ان يؤمن المرء باقدار الله كيف ما كانت و في الحديث النبوي ]لن يبلغ عبد حقيقة الايمان حتي يعلم ان ما اصابه لم يكن ليخطئه و ان ما اخطاه لم يكن ليصيبه[ و هذا التوجيه الالهي توجيه مشترك للنبي و لسائر المؤمنين و جاء النص بلفظ «لنا» و ليس بلفظ - علينا - لانه يبعد به التشاؤم علي الناس «قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا» قول فيه من التفاؤل ما تطمئن اليه النفوس الصابرة المؤمنة...«قل هل تربصون بنا الا احدي الحسنيين و نحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا انا معكم متربصون». التوبة/52في هذا النص احتدام لجدل هو في صالح الفئة المسلمة و قد امر الله نبيه ان يخاطب اعداءه بانهم انما يتربصون بالمؤمنين احدي الحسنيين النصر او الشهادة و كلتاهما فيهما من الخير و الرجاء ما يتمناه المؤمنون و المعادلة هنا ان المؤمنين يتربصون بالكافرين ان يصيبهم الله بعذاب من عنده علي نحو ما يشاء الله ان يوقعه بهم و قد يكون هذا العذاب بايدي المؤمنين في اي ساحة قتال يقوم بين الفئتين.و كلمة «أو بأيدينا» فيها التفاؤل المهذب و التوقع الذي لا اغترار فيه. كذلك ايماء الي حال من القوة كان عليها المسلمون يومذاك.«قل أنفقوا طوعا او كرها لن بتقبل منكم انكم كنتم قوما فاسقين»... التوبة/53الخطاب الذي امر الله نبيه ان يواجه به قوما قد يكونون من الكارهين للانفاق علي امور الدفاع عن الاسلام و قد جاء في صميم النص مجاهرة اولئك القوم بالحكم عليهم بانهم كانوا فاسقين...و ظاهر في هذا النص مستوي الصراحة في مواجهة الفئة التي كانت تتردد في الانفاق فخاطبها النبي بان ما تقدمه تلك الفئة من عون مادي بالسلاح و الخيل و ما الي ذلك اكان كرها ام كان طوعا فان ذلك لن يتقبل منهم... و انما كان ذلك كذلك لما سبق من سوء موقف تلك الفئة التي قد تكون منافقة و غير مخلصة للدين... لقد كان في هذا القول من منطق الشجاعة و القوة ما هو واضح اذ امر النبي ان يستغني عن عون يصل اليه من فئة غير موثوقة العقيدة...لقد كان الرسول هنا ذا قيادة حاسمة غير مترددة برفض عون قوم لا يعرف الاسلام فيهم شيئا من الصدق و سلامة العقيدة... و لقد استوت النفقة هنا في ميزان التقييم فصار ما يقدم منها طوعا كالذي يقدم منها كرها و هي نفقة مرفوضة و علي ملأ الاشهاد.بحيث يرجع راجعوها مخذولين كل الخذلان و مطرودين اسوأ طردة و مفضوحين اشنع فضيحة.«قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة للذين آمنوا منكم و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»... التوبة/61جاء هذا النص مسبوقا بكلمات قرآنية قبله تكتمل بها الاية و هو: «و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو اذن» اشار النص القرآني الي ان هناك فئة من الذين ينتمون الي الاسلام الا انهم كانوا يؤذون النبي صلي الله عليه و سلم بما يزعمون من انه علي حد وصفهم «أذن» اذ يستمع الي من ينهون اليه بعض أخبار الخصوم فيأخذ بها لثقته بناقلي اخبار اولئك القوم... ولكن الرد جاء بأن النبي اذن خير [ صفحه 265] للامة أذ يميز بين المقولات التي تصل اليه و يعرف ما يصح من ذلك و مالا يصح و قد جاء النص بلفظ «أذن خير لكم» اذ لم يقع فيه التمييز و التحيز في هذه الاذنية للمخاطبين و غيرهم و هدد النص القرآني: «و الذين يؤذون رسول لله لهم عذاب أليم»... و ايذاء رسول الله يكون في الغيب و الشهادة و الحياة و الموت...و هنا نلاحظ ان موقف المعاداة للنبي من اناس في زماننا يتظاهرون بانهم من صميم المسلمين يشبه الي حد كبير موقف خصومه صلي الله عليه و سلم من كفار مكة ايام العهد المكي بل انه يزيد علي ذل و يجاوزه.و هنا كان الله قد جاهر اعداء النبي بان لهم عذابا أليما «و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»... و يلاحظ ان النص جاء بالتعميم و المطلقية التي لا ترتبط يزمن محدد و لا حالة خاصة فهي اذن قاعدة أصولية من قواعد العقيدة الاسلامية الثابتة.«قل استهزئوا ان الله مخرج ما تحذرون». التوبة/64اول الاية قوله تعالي: «يحذر المنافقون ان تنزل عليهم [69] سورة تنبئهم بما في قلوبهم»... كان لجماعة المنافقين نشاط خفي و ظاهر في سائر مواقفهم من الرسالة و قيادتها رغم انهم كانوا يحذرون ان تكشف خبائثهم و تظهر مكايدهم و تتناولهم الفضيحة الشاملة و قد كان الامر كذلك اذ فضحهم الله فنمت عنهم آياته و سور قرآنه رغم شدة حذرهم و فرط لياذهم بالتستر و الكتمان.و لقد نسب اليهم القرآن الاستهزاء بما تتخذه القيادة النبوية من قرارات. و غاية كل مستهزي‌ء اذا استهزأ بأمر ما هي ان ينقل صورة الجد التي يسخر منها و يستهزي‌ء بها الي صورد هشة لا قيمة لها و لا جدوي فيها علي ما يتصوره من ان ذلك يثبط القوي العاملة عن الجد في عملها و يضعها أمام الاعين علي غير حقيقتها الجادة المتكاملة...و كان الاستهزاء و السخرية من دأب كفار مكة ولكنه أنتقل الي منافقي القوم في المدينة غير أن كفار مكة كانوا يجاهرون بذلك اما المنافقون في المدينة فقد كانوا يتسترون في ذلك.و قد صبر الله نبيه علي ذلك خير تصبير اذ أمره ان يقول لهم برصانة و جلد عظيمين «استهزءوا ان الله مخرج ما تحذرون» و في هذا استخفاف واضح بموافقهم الاستهزائية و تهديد لهم بأن ما يبيتونه من مكر و خسارة موقف سيفضحه الله، و ذاك غاية ما كان يخيفهم فان الله حقا كان يمكن لنبيه الوقوف علي نوايا اولئك المنافقين المتظاهرين بالاسلام امام الناس و الساعين لنقض كل حجارة قائمة في كيانه و هدمها و تحطيمها لانهم لم يريحوا رائحته و لم يتذوقوا مذاقه و انما غلبت علي سلوكهم تجاهه الرعونة و الحقد والانتماء الي الكفر...«قل نار جهنم اشد حرا لو كانوا يفقهون»... التوبة/81صدر هذا النص: «فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله و كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم و انفسهم في سبيل ال له و قالوا لا تنفروا في الحر»...حين وجب علي الامة ان تقتحم ساحات الحرب صدا للمعتدين و حماية لبيضة الاسلام و حقنا لدماء من هاك من ابناء المؤمنين صار موقف المنافقين ظاهرا كل ظهور اذ كانوا يثبطون المؤمنين عن الرد قائلين بصريح العبارة و قبيح الوقاحة «لا تنفروا في الحر» فنزل النص التالي: «قل نار جهنم اشد حرا لو كانوا يفقهون» و ذاك ان الفرار من الزحف و التخلف عن القتال من الكبائر التي يعاقب عليها مجترحوها بالخزي في الدنيا و النار يوم القيامة...و قد فضح الله جمهور المنافقين الذين كرهوا ان يجاهدوا باموالهم و انفسهم في سبيل الله فجمعوا [ صفحه 266] بين صفتي البخل و الجبن في موقف كان عليهم بفعل انتمائهم الي الاسلام ان يكون لهم فيه حضور و مبادرة... و انما فعل المنافقون ذلك لاطمئنانهم الي ان النصر لن يكون حليف النبي.لقد كان الرد علي هذه الفئة الحاقدة المارقة من ربقة الاسلام ردا مسكتا قوي الحجة «قل نار جهنم اشد حرا لو كانوا يفقهون» اذ ان القوم لم يكونوا يفقهون، و لو فقهوا لادركوا ان الجهة المهاجمة لا تنتظر و لا تتهادون و انها اقبلت لتحطيم الرسالة الاسلامية و قد خرج جندها و محاربوها في ذات الحر من غير ان يمنعهم الحر من الخروج لذا فان اشاعة دعوي عدم النفر في اوساط المسلمين هي اشاعة قائمة علي الجهل الذريع الذي حسب المنافقون انهم يتوصلون به الي تثبيط المقاتلين من صادقي اهل الدين و الايمان.و جاءت كلمة «فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله»... فيه تصوير واضح لصغر عقلية اولئك الذين تخلفوا عن رسول الله في تلك الموقعة لان الامر ليس امر فرح و سرور مما تعبر عنه السجايا البشرية لدي السذج من الناس خاصة...و كان خير عقاب لهؤلاء ان الله امر نبيه بان لا يأذن لهم بالخروج لقتال معه فيما بعد و ذلك هو معني قوله: «فان رجعك الله الي طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي ابدا و لن تقاتلوا مع عدوا انكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع القاعدين» التوبة/13...«قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من اخباركم و سيري الله عملكم و رسوله ثم تردون الي عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون»... التوبة/94صدر هذه الآية التي ورد فيها النص هو: «يعتذرون اليكم اذا رجعتم اليهم»... في مواقف المنافقين من أمارات الخسارة انهم حين لا يلتحقون بالمقاتلين من المؤمنين، فان عادوا منتصرين راحوا يعتذرون اليهم... فكان الرد عليهم ان الله خاطب نبيه فيهم: «قل تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من اخباركم» و في هذا الجواب اكثر من فضيحة لموقف المتخلفين عن رسول الله...ان مثل هذه المواقف و المعالم و وجود انماط من الناس علي مثل ضلال المنافقين و فساد بواطنهم لاعظم دليل علي عمظة موقف القيادة النبوية و قوة سيطرة الرسول علي الموقف و حسن ادارته رحي الحرب.ثم الرد علي المتخلفين و قد جاءوا يتعذرون العذر البارد و كانت خطة الاسلام و هي خطة جد حكيمة في الامر انها منعت تجنيدهم لمهام آتية و قد جاء في النص ان القوم سيكونون موقوفين بين يدي الله في عالم الحساب لينالوا هناك جزاءهم العادل... «ثم تردون الي عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون»...«و قل اعملوا فسيري الله عملكم و رسوله و المؤمنين و ستردون الي عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون»... التوبة/105في هذا النص توجيه وعظي و تأديبي و فيه مبدأ اصولي من مبادي‌ء الملة السمحة أو فيه حث ظاهر علي العمل في مجالات الخير و الصالحات مما سيراه الله و يراه رسوله و يراه المؤمنين.و هذا مبدأ رائع في الاسلام جدير ان يعد من ثوابت قوانينه و دقائق تعاليمه و احكامه و مطالبه الاصولية الثابتة...«فان تولوا فقل حسبي الله لا الا الا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم»... التوبة/129في هذا النص تعليم للرسول صلي الله عليه و سلم أن يتصبر علي ما يقع من الامر علي غير ما يرجو و يتمني... و قد كان النص من الادعية التعبيرية التي يكون الرجاء فيها معلقا بألطاف الله عزوجل. و هناك من معني اللياذ بالله و حسن التعلق برجائه و الاستعانة به و الاتكال عليه ما هو ظاهر كل الظهور... [ صفحه 267] «قل ما يكون لي ان ابدله من تلقاء نفسي»... يونس/15و قد جاء في صدر الآية قوله تعالي: «و اذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا او بدله». الآية من الايات المكية و من غريب المماحكات التي كان يلجأ اليها قوم في مكة حين يدعوهم الرسول الي الاسلام انهم يطلبون تبديل القرآن و الاتيان بقرآن غيره و هو اشتراط عجيب ظهرت عليه السذاجة المبرقعة بالصلف ولؤم القالة والاقتراح الارتجالي غير المدروس... و قد كان الجواب علي هذا في الجدل القائم بين القوم و بين الرسول ان يقول لهم صلي الله عليه و سلم علي ما أوحي الله اليه «قل ما يكون لي ان ابدله من تلقاء نفسي ان اتبع الا ما يوحي الي».و تلا ذلك توا: «اني اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم» لم تكن الشريعة قد جاءت علي هوي كفار مكة و مشركيها ليكون لهم أن يبدوا الرضا ببعض الكتاب و عدم الرضا من البعض الاخر و انما هي شريعة الله يؤمر النبي بنقلها الي الناس و عرضها علي من يكونون هناك أو من تصل اليهم النصوص و لو في مكان بعيد. و لذا فان النبي كان يؤمر ان يقول لامثال هؤلاء المسيئين الي شرف الجدل العقلي بانه لا يملك عصيان ربه لان ذلك يغضب الله و يتأتي منه انزال العقاب علي مبغضيه و عصاته...و في النص ما يقرر ان النبي لا شأن له و لا دخل في امر الوحي و انما هو مرسل من الله الي الناس و ما علي الرسول الا البلاغ المبين.و لم يكن من طبيعة الجدل القرآني ان يناقش مفردات الموضوع الذي يحوم حوله النص لانهم حين قالوا «ائت بقرآن غير هذا أو بدله» لم يقل لهم لم هذا التبديل و ما الحرف الذي ينكرون في النص، و انما أمال سهم المناقشة الي اثبات حقيقة لا تقبل الحوار و الرد و التعليل، اذ جاء القول الذي امر النبي ان يقوله بلفظ «قل ما يكون لي ان ابدله من تلقاء نفسي، ان اتبع الا ما يوحي الي اني اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم» و في هذا من الحجة الدامغة و الجواب المسكت ما يمسك افواه الخصوم و المعاندين ان تنبس بعده بحرف واحد و جاء بعد ذلك تعليما لما أمر النبي ان يقوله للمعاندين.«قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا ادراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله افلا تعقلون». يونس/16و في هذا النص توكيد علي أن القرآن ليس من عند النبي و لا هو من كلامه و صناعته و استشهدهم و هم اهل بلده في انه لبث فيهم عمرا من قبله و لم يكن قد صدر منه من كلام مثل ذلك ليطالبوه بتعبير تلقائي أو تبديل ليعمد الي استرضائهم بالموافقة علي طلباتهم و انما هو مرسل من ربه بالقرآن الذي لا يملك احد ان يتصرف فيه أو يقترح فيه من تغيير و تبديل.ان الرسول في الجواب الذي امر ان يجيب به القوم لجأ الي ما هو قاعدة اصولية ثابتة هي انه لا حوار في امر القرآن البتة من جهة تغيير أو تبديل او جري وراء اهواء قوم لا يرعوون و لا يريدون ان يرعووا.ان مثل هذه المنازلات الكلامية بين صاحب الرسالة و بين قومه ليحتاج هضمها الي اعصاب حديدية بل الي اعصاب هي اقوي من الحديد و قد كان النبي جديرا أن يمتلك مثل هذه الاعصاب.«قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات و لا في الارض سبحانه و تعالي عما يشركون»... يونس/18اول النص هو «و يعبدون من دون الله مالا يضرهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله»...و في الرد علي القوم و هم مازالوا عبدة اوثان يعبدونها جهارا معتقدين ان اولئك الالهة شفعاء لهم عند الله و في ذلك كله أمر النبي بمخاطبتهم قائلا [ صفحه 268] أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات و لا في الارض» اي بما لا وجود له أصلا فان الله يعلم كل شي‌ء في السماوات والارض فما يخفي عليه من شي‌ء ينتظر أن بنبئه به احد...و من طبيعة الجدل القرآني انه حيثما ورد كان لابد ان يثبت لله من صفات الوحدانية و القدرة و السلطان ما يقرع سمع الخصوم و يزيد من تعريفهم بربهم. و في المناقشة التي مررنا بها عرض لخلة الشرك لدي القوم «و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم» فلقد سلب من معابيدهم كل نفع و ضرر علي انهم و هم في حال شرك مبين يزعمون تغظية لشكرهم ان اولئك الاصنام ستشفع لهم عند الله و التخليط ذظاهر علي لسانه ظهورا جليا واضحا.«فقل انما الغيب لله فانتظروا اني معكم من المنتظرين»... يونس/20قبل هذا النص و اول الاية التي ورد فيها «و يقولون لولا أنزل عليه آية من ربه»... كان النبي صلي الله عليه و سلم يتابع ما يقوله كفار مكة و مشركوها من اقوال مثخنة بالمزاعم منتظرا ان يكون لله امر فيها... فهم اذ قالوا «لولا انزل عليه آية من ربه» اي انهم يعلقون ايمانهم و تصديقهم بظهور الايات و المعجزات علي يده من الله فان النبي كان يرد عليهم بان مثل ذلك هو من غيب الله الذي يعلمه الله و لا يذره لرغبات الناس و لا سيما الكفارين منهم بربوبية الله.ان الاسلام دين اصلاح للنفس البشرية و دين تصحيح لاوضاع الناس في العالم و في مقدمتهم العرب القابعون في جزيرتهم.و علي هذا قام أمره بالحكمة السديدة و التشريع الرشيد والحث علي وحدة الامة و نبذ خلافاتها و تطهير عقلها من المطالب الاسطورية الفارغة من المحتوي العلمي و الحضاري... و بذلك شأن للخوارق في ساحة خلق الامم و رفع مستواها الاجتماعي و الفكري و العقائدي و السياسي...و ظاهر هنا تأزم الجو الجدلي بين الرسول الاعظم و بين أناس من قومه في مكة و ما تزال النبوة حدية القول و ليس للنبي من اعوان يقفون الي جنبه و النص كذلك واضح في هذا الامر القول الذي يوجه الي النبي وحده في سائر الاوقات و الظروف و الاحوال فاذا به صلي الله عليه و سلم يبادر الي الصدع به فورا. لقد كان تألق عقل النبي و بروز الحكمة في تصرفه و مواجهته كفار قومه من اسباب تفوقه عليهم جميعا فصلي الله عليه اكرم صلاة و سلم اجمل تسليم.«قل الله اسرع مكرا ان رسلنا يكتبون ما تمكرون»... يونس/21يبرز النص في ذات الاية «و اذا اذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم اذا لهم مكر في آياتنا» المكر هو التدبير الخفي و معالجة الامور بطريقة يدبرها من يتعهد هذه المعالجة و المراد بالمكر الذي يكون من الناس بعد ان يذيقهم النعماء بعد الضرار انهم ينسبون تلك النعماء الي غير الله علي وفق اهوائهم و يقول الله انه اسرع مكرا و ادق تدبيرا و احكم امرا و ان مكر القوم تكتبه الرسل الي الله و الرسل هنا هم الملائكة الذين وصفهم الله بالكرام الكاتبين فلا يخفي علي الله من شي‌ء.«قل من يرزقكم من السماء والارض أم من يملك السمع و الابصار و من يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي و من يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون»... يونس/31في هذا النص نقاش بدأه النبي مع القوم في أظهر أموره الحياة و الوجود الكوني فقد سألهم عن من يملك السمع و الابصار و من له سلطانه في عالم الحياة و الموت و التكوين، و كانوا يبادرون الي الجواب الفوري بانه الله لأنهم لا يملكون أن يقولوا ان الاصنام هي التي تصنع هذا و تديره و هي أحجاره مركونة علي الارض اتخذها أناس معابيد لهم عن جهل فاضح و غفلة ذريعة... [ صفحه 269] و اذا كان جوابهم هو هذا الجواب فان التعقيب عليه يكون بكلمة تكذيب و زجر خفيف «قل أفلا تتقون»...ان هذه الانماط و الصور الجدلية قائمة و مستمرة بين النبي و القوم في سائر الاوقات من ليل و نهار لا يعرف للنبي فيها راحة و لا صمت و لا مهادنة... فلله هذا الرسول العظيم فما أثقل ما احتمل من قومه و أبناء عشيرته و ذوي قرباه و الأباعد من الناس من عنف و ضراوة من المعاندين.«قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأني تؤفكون، قل هل من شركائكم من يهدي الي الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي الي الحق أحق أن يتبع أن لا يهدي الا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون»... يونس 35/34في هذا النص مجاهرة جاهر بها النبي الكافرين في شأن شركائهم أي آلهتهم التي اشركوا بها الخالق العظيم. فلقد أبطل شركهم بالحجة و المنطق و الجدل العقلي السديد و قارن بين اقتدار الباري عزوجل و قوة سلطانه في ملكوته و عجز اولئك الشركاء عن تقديم أو تأخير أو صنع شي‌ء مما يجعل لهم شأنا في عالم الخلق و التكوين... و مفردات هذا النص شديدة الجرح لكبرياء اولئك المشركين الذين كان كل حرف في النص القرآني صادعا بالاستخفاف بهم والازدراء باصنامهم و اسكاتهم كل اسكات و هم اهل كلام طويل و جدل عريض الا انهم سكتوا علي مضض و لم يقدروا علي الدفاع عن آلهتهم التي ألبستها الآية القرآنية كل خزي و منقصة و اهانة و ازدراء... مما يفهم منه أن النبي صلي الله عليه و سلم كان ذا طول و تمكين في مخاطبة كبار مشركي قومه بما امره الله أن يخاطبهم به...«أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين». يونس/38في هذا النص مجاهرة صريحة بتحدي القوم في ابرز ما كانوا يتميزون به من اختصاص هو اختصاصهم بالبلاغة و الفصاحة و ذلاقة اللسان و إحكام التعبير شعرا و نثرا و جدلا و معارضة اذ امر الله نبيه باقتحام هذه المرحلة بما يشعرهم بالعجز و النكوص و التخلف عن اللحاق بالموكب...و هم يزعمون ان النبي افتري القرآن و لفقه تلفيقاه و جاء به من هنا و هناك و شحنه بالاساطير وليكن الامر كذلك جدلا فليأتوا اذن بسورة مثله و لهم ان يستعينوا علي ذلك بمن شاءوا من غير الله و انهم لعاجزون عن قبول هذا التحدي و الاستجابة له بالاتيان بسورة من مثل سور القرآن و قد سلب منهم الصدق الذي هو ميزة الرجال و حلية ذوي العقول و الالباب فقال «ان كنتم صادقين» و ليس بمثل هذا الطلب خروج علي قوانين الجدل و التحدي و هم اهل بيان و طلاقة لسان لا يعييهم ان يأتوا بقرآن كهذا القرآن فيما يزعمون «و اذا تتلي عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ان هذا الا اساطير الاولين» الانفال/31... علي ان مشيئتهم حبسها التحدي القرآني ان تنطلق الي ما زعموا انهم قادرون عليه... لقد علم المؤمنون و الكافرون من العرب و غير العرب ان القوم رغم وقوع التحدي عليهم غير مرة لم ينبسوا ببنت شفة في هذا الصدد رغم صرامة التحدي و ما يترتب عليه من الوقوع في ورطة الخجل الذي يندي له الجبين و بذلك رجحت اعلاميا كفة الجهة التي كان النبي علي رأس قيادتها و انتكس بيرق الجهة المعاندة و صار عنادها فارغا من كل محتوي...«قل لا أملك لنفسي ضرا و لا نفعا الا ما شاء الله لكل أمة أجل اذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون»... يونس/49في هذا النص بيان بان قوة النبي و صموده امام الخصوم انما هو من قوة الله التي اضفاها عليه مما يفهم منه انه كان صلي‌الله عليه و سلم صارما في مخاطبة [ صفحه 270] المشركين و عنيفا فيما يوجهه اليهم من لطمات التوبيخ و التقريع و تسفيه احلامهم التي ساقتهم الي شركهم برب العالمين. و في النص اضافة الي معاني التواضع الذي يتواضعه النبي لربه شموخ في الانتماء الي قدرة الله القدير الذي يمنح نبيه طاقة عظمي في مثل تلك المواجهات التي كان يخرج منها منتصرا و يروح الكفار مخذولين يجرون أذيال الخيبة و الهزيمة الذريعة...«قل أرأيتم ان أتاكم عذابه بياتا او نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون»... يونس/50انه نص يجتمع فيه التهديد و التوبيخ و التقريع و الانذار و قد كان ذلك جديرا أن يرد النص فيه بعد ما سبق من المناقشات الرصينة و الصريحة الواردة في ابطال شرك اولئك المشركين...«و يستنبئونك أحق هو قل اي و ربي انه لحق و ما انتم بمعجزين»... يونس/53في النص ما يشير الي وقوع الاستنباء و الاستبيان من اهل مكة من الرسول عن امور قد يكون غالب غرضهم من ذلك المشاغلة و التضجير و لذلك جاء الجواب واردا فيه النص «و ما انتم بمعجزين». فالنبي و ان لم يواجههم بشي‌ء فانهم كانوا هم الذين يبادرونه بما يشغلونه من استنباءاتهم في اوقات يتخيرونها ابتغاء المشاغلة والتضجير و ليس ابتغاء العلم و الوصول الي حقائق معينة... و يتجاهل القوم الحقيقة التي تلتمع امام اعينهم في كل نص قرآني ينزل علي الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم و يروحون ببساطة تعلق بها غفلة صلعاء يسألون النبي احق هو اي احق ما تقول في حين ترفرف راية الحق فوق جميع الرؤوس معلنة علو هذه الشريعة و شموخ دعوتها و صدق نبيها و عظم جهاده و طول صبره و قوة محاجته و ظهوره ابدا في الساحة لا ينكص عنها خطوة واحدة.«قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا قل آلله أذن لكم أم علي الله تقترون»... يونس/59في هذا النص يأمر الله نبيه ان يهز سارية القوم هزا عنيفا مقرعا اياهم علي ما اتخذوه من احكام تحلل و تحرم... والمراد بهذا النص ابطال ما يدعونه لانفسهم من حق في التحليل و التحريم و قد عزلهم بهذا عن ان تكون تحليلاتهم و تحريماتهم ذات عرق شرعي الهي.«قل ان الذين يفترون علي الله الكذب لا يفلحون»... يونس/69امر الله نبيه بان يقول ذلك علنا في وجه القوم و ان يصدع به فيما بينهم و يدل علي ان القوم الذين امر الله بمخاطبتهم بذلك هم من بعض من تقع عليهم هذه الصفات.«قل انظروا ماذا في السماوات و الارض و ما تغني الايات و النذر عن قوم لا يؤمنون». يونس/101«فهل ينتظرون الا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا اني معكم من المنتظرين»... يونس/102في هذين النصين انذار باقدار الله المتوقعة التي يجب علي المشركين ان يحذروها كل الحذر. و ظاهر من ذلك ان القوم تكونت لديهم ثقافة تاريخية باخبار من كفر من الامم القديمة و عوقب العقاب الذي يستحقه و ذلك من طريق الايات القرآنية و القصص القرآني يقصه الله علي رسوله في معظم السور مما نزل في العهد المكي اذ لم يكن لعرب الجزيرة المام باخبار تلك الامم قبل نزول القرآن...«قل يا ايها الناس ان كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم و أمرت ان اكون من المؤمنين»... يونس/104في الخطاب الذي امر الله نبيه ان يخاطب به قومه ما يدل علي انه لا مجاملة في شرع الله و لا ممالأة لاعداء الله في دين الله. فاذا اجمعت الامة علي الشك في الدين الذي يدعوها رسول الله اليه فان علي رسول الله ان [ صفحه 271] لا يعير ذلك شيئا من اهمية لانه يأخذ الدين من رب العالمين، و قبول الامم ما يأتيهم به المرسلون من الله و عدم قبولهم ذلك لا يقدم و لا يؤخر في صحة شرائع الله التي يشرعها لعباده.ان النبي الاتي بشريعة من الله الي قومه لا تهتز عقيدته بها مهما اجمع الناس علي رفضها و تكذيبها و هكذا كان موقف الرسول الاعظم من رسالة الله و هو يواجه قومه في عقر الالحاد و الشرك. و في مخاطبة النبي للقوم تلميح الي عظمة الخالق بذكر احدي صفاته العظمي الثابتة له و هي امانة الخلائق و قوله «و أمرت ان اكون من المؤمنين» كلام يومي‌ء لاستمرارية التحدي و اللامبالاة بكل تلك الجموع المجاهرة برفض الانصياع الي دعوة النبي و قبول دين الوحدانية الخالص من شوائب الشرك و الضلال.«قل يا ايها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدي فانما يهتدي لنفسه و من ضل فانما يضل عليها و ما انا عليكم بوكيل». يونس/108هذه مواجهة جديدة امر الله نبيه ان يخرج بها علي الناس قائلا ما امره الله ان يقوله مما احصينا وروده في القرآن بما يتردد علي الثلاثمئة نص و كل ما جاء من آيات القول مراد به ان تعلن في الساحات و المحافل (يا ايها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدي فانما يهتدي لنفسه و من ضل فانما يضل عليها). و في هذا النص من الشموخ و الكبرياء ما هو ملحوظ في مخاطبة المشركين يتعالي الله به علي المتعالين عليه...و دور النبي فيه انه غير منتفع بشي‌ء من ايمانهم و هو كذلك غير متضرر بشي‌ء من اعراضهم و ضلالهم، لكي يستقر في نفوس القوم أن نبيهم لا مصلحة له شخصية في الامر و انما هو صادع بالكلمة التي يأمره الله ان يقولها للناس. و الرائع في هذه الاوامر القولية البدوءة بكلمة (قل) انها تتكرر بأساليب شتي فهي تنزل علي النبي متتابعة لينقلها الي الناس متتابعة في ذات وقت نزولها من دون الاكتفاء بعدد يسير من هذه الاوامر القولية مما كان قد نزل منها من قبل مما يري في ظاهر الرأي انها كافية في مجالات التبليغ لان النصوص القرآنية يظل يكررها النبي في التلاوة و في الصلاة الا ان الذي حصل من ظهور عدد كبير من هذه القوليات ان المشركين صارت تقرع اسماعهم كل يوم بالجديد من ظهور النبي في ساحتهم بنص جديد علي تعدد المعاني او توافقها... و يتميز اعجاز القرآن بنمط من التكرار الذي لا يضعف تأثيره في النفوس و لا يقل سلطانه عليها و هو ما حير بلغاء القوم و فصحاءهم فجرهم الي اليقين جرا و حملهم علي الايمان حملا و اخذ بتلابيبهم الي الارعواء اخذا كما ان النص القرآني كان لا يتوقف عن النزول عند كل حالة من سؤال او اعتراض او تصرف يقع في البيئة المكية... و المألوف في جدل الاقوام و الفلاسفة و غيرهم ان ما يتكرر من سؤال وقعت الاجابة عليه فانه لا يؤبه به و لا يرد عليه اكتفاءا بما كان من الرود السابقة.ولكن الجدل القرآني علي خلاف ذلك فان القوم كلما سألوا عن شي‌ء فكرروا السؤال عليه اجابهم القرآن بجواب جديد و لم يحلهم الي ما سبقت الاجابة عليه. و قد دل هذا علي طول صبر و قوة تحمل و عظم اناة توفرت في الشريعة الاسلامية بحيث حير ذلك ألباب المشركين و المعاندين و المجادلين.«قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين»... هود/13والنص مسبوق بقوله تعالي في صدر الاية و هو «أم يقولون افتراه»... و جاء تعداد السور التي طلب اليهم الاتيان بها عشر سور و قد وصفت بأنها مفتريات للمبالغة في التحدي اذ زعموا ان القرآن مفتري و لذا قيل لهم ائتوا بعشر سور مثله مفتريات و أذن لهم [ صفحه 272] ان يستعينوا بمن شاءوا للتوصل الي الاتيان بهذه السور والامر في هذا الباب عسير ليس باليسير لان بلغاء مكة عاجزون عن الاتيان بسورة واحدة و يزداد عجزهم حين يطلب منهم الاتيان بعشر سور و حين جري الكلام علي الاتيان بمثل القرآن وجه التحدي الي الانس و معهم الجن و ذاك في السور المدنية اذا بات الامر أشد و أشق.لم يعرف عن العرب انهم حاولوا معارضة القرآن والاتيان بسور مثله و لا يعقل ان يكونوا قد فعلوا ذلك و خفي الامر علي المؤرخين... و ما ينسب الي مسيلمة و غيره من الفاظ و عبارات زعموها قرآنا جاءوا به لتثبيت نبوتهم فأن ذلك يغلب عليه الافتعال قصد الاستخفاف بالكذبة من هؤلاء المتنبئة مثل ما نسب الي مسيلمة ]يا ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين نصفك في الماء و نصفك في الطين[ و مثل ]لقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون[...«أم يقولون افتراه قل ان افتريته فعلي اجرامي و أنا بري‌ء مما تجرمون»... هود/35النقاش هنا منطقي اذ ان من يقترف سيئة فانه يكون مسؤولا عنها. و قوله «و انا بري‌ء مما تجرمون» هو كذلك نقاش منطقي طبيعي.«قل هذه سبيلي أدعو الي الله علي بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين»... يوسف/108الدعوة الي الله مهمة النبي و عرق رسالته الي الناس فاذا صار له اصحاب و اتباع عارفون بامر الدين و احكام الشريعة انشأهم علي يده فانه يكون عليهم واجب الدعوة الي الله. و هكذا يظل الامر يتصل و المهمة تستمر جيلا بعد جيل. لان العقائد تنتقل ابدا من سلف الي خلف و بذلك يظل عمود الدين قائما و احكام الملة السمحة ذات ديمومة في الامة و من وراءها من الامم التي تعتنق الدين و لو بعد حين... ان محتوي الاطار الاسلامي العام ما يحكم بان المؤمنين في سائر عصور التاريخ هم وحدة متوحدة و فئة متقاربة غير متباعدة و لذلك نرانا و نحن في هذا العصر حين نقرأ قوله تعالي «ربنا اغفر لنا و لأخواننا الذين سبقونا بالايمان» انما نعني سائر المؤمنين السابقين و لو كان ذلك قبل عصور و دهور...ان الدين لا تتوقف الدعوة اليه بوفاة صاحب الدين الذي هو الرسول المرسل من الله به الي من يرسله الله اليهم من الشعوب. لانه قانون سماوي مطلوب اقراره في العباد امة فأمة و قوما فقوما... و من فحوي النص يعلم ان واجب الدعوة الي الدين و ابلاغ العباد به مسألة من ضروريات المسائل العالقة باعناق المسلمين مهما بعد الزمن و عظمت الكلفة فذاك هو أحد الجهادين باللسان و السيف... و يفهم ذلك وفق ما توارثته الامة من سنن الدعوة الدينية و ما عرفته من صبر رسول الله علي العناء فيه...«قل من رب السموات و الارض قل الله قل أفأتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا قل هل يستوي الاعمي و البصير أم هل تستوي الظلمات و النور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شي‌ء و هو الواحد القهار»... الرعد/16في هذا النص نقاش ذو نقاط متعددة تحوم كلها في حومة الكلام علي التوحيد و هو أس الشريعة و عرق العقيدة و غاية الرسالة و قد جاء الكلام بصيغة حوارية كما أنه تناول نواحي فيها توجيه و تثقيف و تقريع و تنديد و مثل هذا النمط الحواري ذو أثر ظاهر فيه السلوك المكي ولكنه قد يرد كذلك نقاشات مدنية و ذاك لوضوح التهمة و تحديد مواطن العلة و لا يجاز المقدمة و النتيجة.«و يقول الذين كفروا لو لا أنزل عليه آية من ربه قل ان الله يضل من يشاء و يهدي اليه من أناب»... الرعد/27 [ صفحه 273] جل اعتماد مشركي القوم في مكة - والآية مكية - في مواجهتهم رسالة الرسول الاعظم بالانكار و عدم الاقتناع هو انهم يريدون أن يأتيهم النبي من ربه بالخوارق و قد امره الله ان يرد عليهم قائلا «قل ان الله يضل من يشاء و يهدي اليه من أناب» و يعني ذلك أن عدم تصديق منكري الرسالة لا اهمية له عند الله لانه هو الذي يهدي الي الايمان من شاء و لذلك فان اشتراط القوم ما يشترطون من شروط من اجل الايمان انما هي شروط مرفوضة و غير مقبولة...ان الشريعة الاسلامية ظهرت الي الوجود بعد أن سبقت بعشرات الديانات بل بمئاتها و كانت سائر تلك الديانات خاصة بأمم تدين كل امة بدين و تتبع رسولا خاصا بها. و الاسلام دين البشرية جمعاء فاذا كانت الديانات القديمة قد قامت علي ظهور آيات و معجزات فان معجزات الاسلام هي قرآنه العظيم و تفاصيل ما جاء في هذا الكتاب المبين من احكام و قواعد و تشريعات و انظمة ثبت نجاحها لدي التطبيق. فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.ان مجي‌ء الآيات وفق اهواء من يقترحها ستخرج الاسلام من الحكمة الي ما يبعد عنها كثيرا و سيجعل ذلك مهمة النبي خارجة عن صدد اصلاح العالم البشري و اعادة بنائه. و منكروا الرسالة من اهل مكة كانوا يصفون الرسول بالساحر و هو لم يقم بشي‌ء من الاعمال التي تنسب الي السحر فلو استجاب لهم في تحقيق مقترحاتهم الناشئة من تهافت اخيلتهم و مضمحل اوهامهم لكانوا يجدون في اتهامهم الرسول بالسحر من صدقهم علي ذلك... و قد جاءت اثر هذه الآية آيات تزكي المؤمنين و تصفهم بصفات التكريم و هم لم يكونوا ممن طالبوا بالآيات التي لم يكن المطالبون بها بالجادين في ذلك. و انما كانوا معابثين لا غير. ثم جاءت الاية الموفية علي الثلاثين بجماع ذلك.«كذلك ارسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا اليك و هم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا اله الا هو عليه توكلت و اليه متاب [70] »... الرعد/30ما تكلمنا عليه من مفردات الاية السابقة السابعة و العشرين ينطبق علي هذه الاية كذلك. فان الدين الحنيف الذي جاء به رسول الله صلي الله عليه و سلم انما هو دين حكمة و رشاد و اصلاح للعالم و هداية للامم و تهذيب للاخلاق و اقامة معالم العدل و توحيد المجتمع البشري في ظل راية الاسلام دين الوحدانية و مكارم الاخلاق و الهدي و الخير و فضائل الاعمال... و هذا ما كان النبي صلي الله عليه و سلم من ربه بتبليغه و التوكيد عليه...و أمر الله نبيه ان يصرح بايمانه بالله الذي لا اله الا هو و الذي يتوب اليه التائب و يلجأ اليه اللاجي‌ء في أمة ألفت في حياتها اليومية و العقائدية الكفر بالرحمن و يعني ذلك ان خروج النبي الي القوم و هو يعلن الايمان بالله انما هو خروج تحد و تسفيه لعقيدة الكفر الغالبة علي القوم... و نمط هذا الكلام كان مألوفا كثيرا في العهد المكي...«و الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل اليك و من الاحزاب من ينكر بعضه قل انما أمرت أن أعبد الله و لا أشرك به اليه أدعو و اليه مآب»... الرعد/36الكلام علي من كان من الكتابيين في مكة فان فيهم من كان يرعي للقرآن قيمته العالية و يحمد منهجه في التهذيب و التثقيف و في مكة كان كذلك اهل الاهواء من المتألبين علي الاسلام و المتمنين له الاخفاق و هذا [ صفحه 274] ما جاء في النص بلفظ «و من الاحزاب من ينكر بعضه» و لا نزال نري الاية مكية [71] .«و يقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفي بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب»... الرعد/43هذا النمط من الكلام يمثل ما كان منه في العهد المكي اما في العهد المدني فلقد استقام عمود الاسلام و كثر اتباع النبي و اعوانه غير ان من عادة القوم المجازفة بالتكذيب من غير بينة و لا حجة مقبولة و بهذا تكون مهمة الرسل شاقة في اقناع الذين يبادرون الي التكذيب و رفض الاصغاء الي رسلهم و انبيائهم، و كان الامر كذلك في تعاون الشعوب مع انبيائهم و لم يتغير من خلق المكابرين و المنكرين عبر الدهور شي‌ء قل او كثر. و الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم و وجه بمثل ذلك باكثر من موقف لا سيما ابان العهد المكي، و غالب كلام النبيين لمثل هذه الجماعات يعتمد علي اشهاد الله عزوجل علي صحة رسالاتهم و صدق مقالاتهم... و في ذكر الله و الاكثار من ذلك ما يكون في كثير من الاحيان ذا تأثير نفسي و وجداني في نفوس المخاطبين و ان كانوا لم ترح قلوبهم رائحة الايمان...«قل تعتموا فان مصيركم فان مصيركم الي النار»... ابراهيم/30و صدر النص هو «و جعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله»...الانداد هم الشركاء الذين يشركهم بالله اناس ضلوا السبيل الي الله و بديهي ان الذين يشركون بالله ما يشركون لم يتوبوا فانهم من اهل النار و هذا ما عرف في الملة بالضرورة و المهم في ذلك هو مجاهرة الرسول الاعظم لهم بهذه الحقيقة و يبدو ان المخاطبين هنا هم من ذوي الغني و اليسار لانه قال لهم تمتعوا.«قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة و ينفقوا مما رزقناهم سرا و علانية من قبل ان يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلال»... ابراهيم/31في هذا النص امر شرعي لمعتنقي الاسلام ان يقيموا الصلاة و يحسنوا الي الناس فان الايمان يتطلب العمل و العبادة و ليس الايمان مقولة تقال فان هناك يوما يحاسب الله فيه العباد علي اعمالهم و هو غير ايام الناس في هذه الحياة اذ تنقطع فيه جميع أسباب الانتفاع من علاقات تجارية و غير ذلك. و مثل هذه التوصية القرآنية كان محل حاجة المجتمع المكي و ان كان محل حاجة سائر المجتمعات.«قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا و هدي و بشري للمسلمين»... النحل/102في هذا النص توكيد علي صحة الوحي الذي انزله الله علي نبيه و ما كان لهذا الوحي من اثبات العقيدة في النفوس، و هي مقولة كلما تكررت انشقت لها مرائر [ صفحه 275] الكافرين لما فيها من التركيز علي نبوة الرسول الاعظم و هم في سبيل انكارها انكارا ابديا... و من البديهي ان المؤمنين يزدادون بذلك ايمانا و استيقانا فيقوي جمعهم و يشتد عزمهم.«و لا تقل لهما أف و لا تنه رهما و قل لهما قولا كريما»... الاسراء/23يخاطب النبي بخطاب يراد به في الحقيقة غيره من سائر افراد الامة، و من ذلك قوله تعالي «و قضي ربك ان لا تعبدوا الا اياه و بالوادين احسانا اما يبلغن عندك الكبر احدهما او كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا»...ان النبي لم يكن والداه علي قيد الحياة يوم خوطب بهذه التوصية التي اراد الله بها مخاطبة سائر افراد الامة. و مثل ذلك مما يخاطب به الله نبيه و هو يريد سائر الناس قوله تعالي «و لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقي في جهنم ملوما مدحورا» الاسراء/39... مما يفهم منه ان القواعد الدينية عامة تنطبق علي الجميع...«قل لو كان معه آلهة كما يقولون اذن لابتغوا الي ذي العرش سبيلا»... لاسراء/42مسألة واحدنية الله مسألة لا تحتمل الجدل لان جميع بصمات هذا الكون واحدة تشير بكل قوة الي ان الخالق واحد و الادلة القرآنية علي ذلك غير قليلة و ما جاء في النص الذي نحن في صدد سرده و شرحه يومي‌ء الي انه لو كان مع الله آلهة اخري اذن لارتقي كل بمكانه من هذه الالوهية بل لدب دبيبا الي موقع من ذلك اعلي و ذاك ان التنازع طبيعي في سائر ما يشارك فيه المشاركون لا سيما في عالم السلطة و الحيازة علي المكسب الواسع... فالنص اذن ينفي من الاصل حكاية الشرك و يأخذ بمناقشة عقول الناس بالمقدار الذي يهديها الي تصحيح عقيدتها في الله...و كان الشرك الذي عليه اهل الجاهلية شركا له اكثر من اطار و كانت مهمة الشريعة التي جاء بها الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم تنهد الي اكثر من علة اعتل بها القوم تبتغي معالجتها و تسعي الي نقضها نقضا بالعقل و الحكمة و ضرب الامثال للناس. و اخيرا زال الشرك من الجزيرة و قام عمود التوحيد مرتفعا في كل مكان علي ان كل مناقشة للشرك لا سيما ايام العهد المكي تستنفر سائر قواهم الجدلية في مواجهة الرسول الاعظم لان العقيدة اذا استفحلت في النفوس كان استئصالها غير يسير:و اذا العقيدة في النفوس استفحلت فمن المحال بحجة ابطالهاولكن شخصية الرسول بما طبعها الله عليه من اقتدار و حكمة و ثبات فعلت الاعاجيب في عالم الدعوة الي الاسلام و تصحيح سائر الاوضاع...«قل كونوا حجارة أو حديدا، أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغصون اليك رؤسهم و يقولون متي هو قل عسي أن يكون قريبا»... الاسراء 51/50في هذا النص كلام علي القدرة الالهية في اعادة الخلق. فان ذلك في منطق العقل و القياس الامر بديهي فمن انشأ شيئا بدأ انشاءه بعد ذلك بأقل كلفة فانه اذا تلف امكن له ان يعيده كما كان... لان العملية الاولي انشاء انما كان علي غير قاعدة مقعدة ولا خارطة مدونة و لذا كان اعادة تكوين ما يصنع لاول مرة بعد تلفه مسألة من الممكنات لان هذه الاعادة لا تتطلب تصميما جديدا اذ سيعتمد فيها علي التصميم الاول و من زعم ان مثل هذه الاقيسة هي قياس مع الفارق فقد وهم وادعي الفارقية في القياس حين لا وجود لها.ان قواعد المنطق و ان كانت قائمة علي النقاش العقلي فانها في الحقيقة قائمة علي الاف الوقائع و التجارب التي يشهدها الناس في كل حين و ذاك ان [ صفحه 276] الصنعة الاولي و الاختراع الاول يتحقق بعد طول تأمل فاذا تم ذلك فان الاعادة لما يتلف من ذلك و يفسد لا تتطلب من طول التأمل شيئا من زمن... و ظاهر في النص ان الجدل فيه قائم علي نباهة جدلية من احد طرفيه و علي سذاجة ظاهرة من الطرف الثاني...لقد كانت مهمة النبي في مثل هذه المواقف الجدلية و ان كان الله يعلمه كثيرا من دقائقها و حقائقها كانت مهمة غير هينة و لا يسيرة لا سيما حيث يتجمهر المنكرون المماحكون والمكذبون و يعين بعضهم بعضا علي ان يحققوا لانفسهم انتصارا في ذلك الجدل و هزيمة الجهة التي كانت تقض مضاجعهم بكثرة معاودتها الحديث في تلك المواضيع...«و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ان الشيطان ينزغ بينهم ان الشيطان كان للانسان عدوا مبينا»... الاسراء/53في هذا الحوار كلام علي الشيطان و افاعيله في النفوس، و كان العرب يرون للشيطان عليهم الاستطاعة الكبري، و قد حثهم الرسول بنصائحه الرشيدة الي حسن التصرف و التثبت مما يقولون لئلا ينزغ الشيطان نزغه فيهم. و النص مخاطب به اتباع الملة الذين كان النبي يتولاهم بالموعظة و يتفقدهم بالمراجعة بين كل حين و حين ليكون لايمانهم بذلك ثبات و رسوخ. و الجهد النبوي في هذه الساحة جهد متكرر لا ينفك يؤدي مهمته و يصدع بحجته فاذا كان النبي ينصرف الي المشركين و كفار مكة بالحث علي تقبل الاسلام كان كذلك يروح الي المؤمنين بالحدب و معاودة النصيحة فان ساحة المعركة جد رهيبة خلال العهد المكي بين الرسول و سائر الجهات...«قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم و لا تحويلا»... الاسراء/56في هذا النص خطاب صريح لكفار القوم بأن يدعوا معابيدهم الي أن يصنعوا لهم شيئا يفيدونهم به او ينقذونهم مما يصيبهم من الاحداث و المصائب و تهوين الاضرار النازلة عليهم ان كان لمعابيدهم قدرة علي شي‌ء من ذلك، كما أن من حق العابد علي معبوده أن يسأله مثل ذلك. و النص قد تكررت نظائره في الذكر الحكيم و كان ابدا من التحديات القرآنية المسكتة لعبدة الاصنام بل التي كانت تحملهم علي ان يخجلوا من عبادة اصنام لا تملك لعابديها ضرا و لا نفعا... و كان النبي صلي الله عليه و سلم ينفذ الامر الالهي علي الفور في دعوة القوم الي أن يردوا علي هذا التحدي بشي‌ء. و بديهي أن مواجهة النبي هؤلاء بذلك تتطلب الاقتدار الاقتحامي و ذاك ما كان يملكه النبي و ظل يملكه في كلا العهدين المكي و المدني...«و قل رب أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا»... الاسراء/80ان الله عزوجل علي ما يبدو ف يهذا النص كان يعلم النبي ما يسأله و كيف يسأله... و تلقين الملقن يدل علي شدة الحرص و قوة الرغبة في افادة من يوجه اليه ذلك التلقين، كأنما يكون الكائن الانساني غافلا عن استعمال الالفاظ ذات العطاء الكبير لذلك يكون تنبيهه الي مثل تلك الالفاظ ناما عن فرط الحفول به و شدة الحدب عليه... و في ذلك وضوح لما عند الله من استجابة ثابتة لتلك الادعية التي لقن بها نبيه صلي الله عليه و سلم...في هذا النص خطاب الهي تربوي اخلاقي موجه الي سائر الجهات التي تصلح للمخاطبة و كان النبي اول جهة فيهم لهذا الامر... حقا انها عبارات تهذيبية في غاية الروعة و البيان فيها بناء النفس و الروح و الدعوة الي سلوكية جد نقية في التعامل مع الباري عزوجل. و في النص اعلان لسائر من سمع هذا الدعاء الجميل الي ان الحق أحق ان يستقر في الارض و يجد الاعوان و الانصار و ان الباطل كان زهوقا ابدا و مخذولا. علي ان النبي كان ابدا محل تكريم الله و عظيم رعايته و اخذه بالتعليم [ صفحه 277] والارشاد و الدعاء القرآني المنصوص عليه في هذا النص مستوعبا جميع ادوات التوفيق في سائر مواقف الانسان و تصرفاته و ما كان مما يغيب عنه و ما كان مما يحضره و السؤال من الله عن التمكين و السلطان النصير غاية ما يتمناه عبد من خالقه و رازقه و محييه و حامية... و لا سيما النبي الذي كان أحوج الي عون الله من سائر من هناك فانه يحمل عب‌ء رسالة عظيمة الي امة لم يكن الوصول الي قلبها و عقلها بالامر اليسير...«قل لئن اجتمعت الانس و الجن علي ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا»... الاسراء/88ما يزال القرآن الكريم في عهده المكي علي ما تمثله هذه الآية من احداث الدعوة الاسلامية التي جاء بها الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم... فالنبي هنا يأمره الله ان يتحدي القوم مرة اخري بان يأتوا بمثل هذا القرآن شكلا و موضوعا و هم اهل لسان بليغ و نطق فصيح و جدل عريض و مطاولة و منازلة. و لم يكن الاسلام يومئذ ذا مركز من القوة و السلطة تخاف الناس الوقوف في وجهه بل كان الذين كفروا هم اهل الصولة و الصولجان. و مازال مشركوا مكة و كفارها و للموم المعاندين و المكابرين فيها يمسعون هذا التحدي و يستخفون ان يظهروا في وجه المتحدي بشي‌ء يمكنهم ان يطاولوه به مرة بعد الاخري... و قد قرن النص بين الانس و الجن في هذه المنازلة و كان كل من الانس و الجن قد اغمض عينيه و أصم اذنيه عن قول شي‌ء يرد به هذا التحدي الذي تكرر في السور المكية - ثم تكرر بعد ذلك في السور المدنية -... و قوله تعالي «و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا» غاية التحدي و الاستخفاف بالتجمع المقترح... و نص التحدي هنا جاء علي وجه الاخبار «قل لئن اجتمعت الانس و الجن علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله» والذي يستخلصه مما يتعلق بشخصية الرسول الاعظم في مثل هذا الموقف انه صلي الله عليه و سلم كان قائما في الساحة كالطواد الشامخ يعلن الكلمة الالهية بكل ثقة و اعتداد و جرأة علي اقبال القوم بما كان يذل كبرياءهم اذلالا و يحط من كرامتهم حطا فما يملكون عليه من رد و لا ببعض حرف او بعض كلمة...التحدي القرآني للعرب بأن يأتوا بمثله كان لاستحالته و قوة الجدية فيه قد تناول الانس و الجن ولكن بلغاء العرب و قد استهوتم العبارة القرآنية و البلاغة التي هي عرق القول فيه لم يورطوا انفسهم في صنع قرآن او بعض قرآن... و لو انهم كانوا قد فعلوا ذلك لاشار اليه القرآن و لاحتقره و ازدري به و في القرآن اشارة الي من يدعي النوبة و يزعمها «... او قال اوحي الي و لم يوح اليه شي‌ء...» الانعام/93... و هذا ينقض زعم من زعم ان اناسا من العرب ضارعوا القرآن و جاءوا بمثله و ان المؤرخين اخفوا ذلك علي التاريخ.لقد علمنا ان القرآن لم يكتم في اسلوبه الاعلامي شيئا مما قاله المشركون و غيرهم في الله «و قالت اليهود يد الله مغلولة» المائدة/64.و كذلك ما كان من قولهم في النبي اذ رموه بالجنون و ادعاء الشاعرية و السحر و الكهانة فلو كان ثمة ما يخفي اعلاميا لاخفيت هذه الاتهامات... ان واقع التحرك الاعلامي ظاهر في القرآن لحظة فلحظة و شبرا فشبرا فليس في الاسلام و لا في شخصية نبيه العظيم ما خفي من شي‌ء... ففيم اخفيت القرائين التي صنعها المشركون ان كانوا صنعوا شيئا من ذلك. و خصوم الاسلام كثيرون و جرءاء و ذوو حد عريض... و ان ما نسب الي مسيلمة الكذب و طليحة و غيرها من المتنبئين في صدر الاسلام من مقولات سخيفة و ركيكة بدعوي أن ذلك مما اوحاه الله اليهم كل اولئك لا صحه للروايات التي روته و قد كررنا القول علي ذلك في مواقع اخري من الكتاب...«و قالوا لن نؤمن لك حتي تفجر لنا من الارض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا او تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من [ صفحه 278] زخرف أو ترقي في السماء و لن نؤمن لرقيك حتي تنزل علينا كتابا نقرأه قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا».. الاسراء 93/90من غريب تحديات الخصوم انهم عرضوا علي النبي مطالب و شروطا قالوا انهم سيعترفون عند تحقيقها بالاسلام و نبوة نبيه الحامل لبنود هذا الدين و رايته العظمي... هذه المطالب التصاعدية ظاهر عليها التعسف و العناد و ابتغاء المشاقة و التعجيز... و كان جواب النبي علي ذلك كما أملاه الله عليه «قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا...» فان النبوة ليست خرقا للنواميس الثابتة و لا تطاولا علي الحقائق و لا مشاركة للخالق في خلقه و تكوين مكوناتها... و السذاجة و اللجاجة واضحتان في هاتيك المطالب التي يبدو ان الذين تقدموا بعرضها علي النبي لم يكونوا من مفكري القوم و لا من كبرائهه فان سمة الضحالة في هذه المطالب تدل علي ان نزعة التهريج في الاوساط المكية كانت تسود بعض الفئات فتعبر عن مكنون صدرها بمثل ما عبرت به.والانبياء كانوا قديما يواجهون اممهم بالمعجزات الخارقة التي تسكت تلك الامم عن اللجاجة في مطالبها غير المنطقية. و النبي صلي الله عليه و سلم وقف تجاه منكري نبوته موقفا صلبا لم يتزحزح فيه عن التصرف المنطقي الصحيح قيد شعرة فكان اقوي من كل القوي التي تظاهرت عليه و تظاهرت علي احباط دعوته التي لم تظهر عليها يوما ما قبل الهجرة و بعدها أشارة من شعوذة و اعمال يراد بها اقناع السذج و الجهلة و استرضاؤهم و ان الذي جاء به صلي الله عليه و سلم خلال مسيرة الدعوة الي الدين الجديد هو القرآن وحده.و يبدو ان الذين وجهوا مقالتهم تلك الي النبي لم يكونوا فريقا واحدا بل كانوا اكثر من فريق واحد... و هم كذلك حين راحوا يلعنون عن شروطهم لم يكن المتكلم فيهم واحدا بل كان كل منهم يقولون كلمته و يقترح اقتراحه وفق عقليته و مزاجه و اسلوبه في الجدل و المماحكة و كان يطغي علي هذا الجو الهرج و المرج و الصخب الشديد... غير ان الجواب كان من الهدوء والاناة و قوة التمالك و ضبط الاعصاب علي اعلي درجة «سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا...» و بذلك فهم غالب من حضر ان رسالة الاسلام ليست ضربا من الشعوذة و المخرقات والاعمال الغريبة التي ألقت الناس قديما فيها الحجة علي صدق دعوي من يدعي دعوي ما...لقد كان رسول الله في مواجهة مثل هذه المواقف المثخنة بالعناد و الصلف واثقا القوم سينصاعون يوما ما الي دعوته و يروحون يذودون عنها و يفتدونها بكل غال و رخيص و نفس و نفيس و ما زال عليه الصلاة و السلام يدعو ربه قائلا «اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون».و قد رأينا أن الصحابة قالوا عند كسوف الشمس يوم وفاة ابراهيم ابن النبي ان السماء كسفت حزنا لوفاة ابراهيم الذي توفي عن ثلاث سنوات -. و لما سمع النبي ذلك خرج اليهم قائلا ]أيها الناس ان الشمس و القمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت أحد[ في حين أن في مقولة القوم مكسبا أعلاميا لصالح النبي ولكنه رده و أنكره و لم يستغله و ذلك من آيات صدقه و نصحه و مواجهته الاحداث علي وجههه الصحيح...«قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا،قل كفي بالله شهيدا بيني و بينكم انه كان بعباده خبيرا بصيرا»... الاسراء96/95كان مجادلوا القوم يطلبون ان يزنل الله عليهم ملكا يكونه اليه امرا انذارهم و دعوتهم الي الدين... و قد رد الله عليهم طلباتهم هذه بانه لو كان في الارض ملائكة أي لو كان أهل الارض من الملائكة لنزل الله عليهم ملكا يأتيهم بالدين و الشريعة، و هو نص ظاهر الوضوح فان الرسل انما تكون من اجناس من نرسل اليهم ليكون بين الجهتين لسان واحد و عرف واحد. و النص القرآني الذي نحن في صدده افتراضي اراد الله به مجابهة القوم علي قدر عقولهم و الا فإن الملائكة لا تبعث اليهم الرسل لهدايتهم. و في ذلك [ صفحه 279] الرد المقنع و الجواب المسكت فان الملك لو أرسل رسولا الي هؤلاء الناس لا نعدم التفاهم بين القبيلين و لا نقطع الرجاء في الوصول الي حل العقد المستعصية في معتقدات القوم.ان الدين قيادة و التحام و حضور و تفاهم و سؤال و جواب و استفتاء و افتاء و إمامة و اقتداء و مواصلة الالتقاء و الاستشارة و خصومة و عداء او مصالحة و ولاء و لا تتحقق هذه المطالب بكون الرسول المرسل الي البشر ملكا فان ذلك مما يصعب ان يعيش معهم و يكون معهم و يكون بينهم و يؤمهم في صلاة و يقودهم في زحف و في مثل ذلك يجب ان ينقلب الملك الي بشر و هذا ما صرح به القرآن الكريم في الرد عليهم اذ جاء فيه «و لو جعلناه ملكا لجعناه رجلا».ان قصة الاقتراح بأن يكون النبي ملكا من الملائكة لا تعني الا التعجيز و سد باب النبوة كل سد و قائلوا ذلك لا حجة لهم في هذا القول فان الامم القديمة عرف فيها ان المرسلين اليها كانوا بشرا من بين افرادها. علي ان الملائكة ليست لهم اشكال بشرية و لا ما يواجهون به الناس من ادوات الرؤية و الاستماع و المخاطبة... اما الوحي الذي يحملونه الي الرسل فذلك امر اخر...والنص الذي نحن في صدده مسبوق بالاية الرابعة و التسعين «و ما منع الناس أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدي الا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا». و كان مشركوا مكة يكثرون من ادعاء ان الرسل يجب ان يكونوا من الملائكة لا من البشر... و علي هذا جاء قوله تعالي في أن الارض لو كانت مساكن للملائكة لكانت الرسل المرسلة اليها من الملائكة، ولكن الارض يسكنها البشر و علي ذلك فان من يرسل الي الامم التي فيها يجب ان يكون من البشر و من الرجال خاصة...و جاء بعد ذلك نص يثبت هذه الحقيقة و يغلق باب الكلام عليها و ذلك في قوله تعالي «قل كفي بالله شهيدا بيني و بينكم انه كان بعباده خبيرا بصيرا» الاسراء/96... ان قوله تعالي «لو كان في الارض ملائكة يمشون لبعث الله ملكا رسولا» لا يعني ان الله بعث الي الملائكة رسولا منهم فان الملائكة لا يعاملون في هذا الوجه معاملة البشر و انما جاء النص علي هوي المجادلين. و في الجدل يقع الكثير من ذلك...«قل لو انتم تملكون خزائن رحمة ربي اذن لأمسكتم خشية الانفاق و كان الانسان قتورا»... الاسراء/100في هذا النص نبز للقوم بالبخل والشح حتي و كانت في يدهم خزائن الله. و البخل و الشح خصلتان كانت العرب تستنكف ان تتصف بهما رغم ما يكون عليه احدهم من الفاقة... و القرآن وصمهم بهما علي رؤوس الاشهاد علي عرض الملك وسعة الغني و فرط الاقتدار المالي وقد واجههم الرسول الاعظم بذلك علانية و هم ينصتون اليه يخاطبهم بذلك جهارا...«قل آمنوا به أولا تؤمنوا ان الذين أوتوا العلم من قبله اذا يتلي عليهم يخرون للأذقان سجدا»... الاسراء/107الكلام هنا علي القرآن الكريم و قد جاءت الآية السابقة تشير الي ذلك «و قرآنا فرقناه لتقرأه علي الناس علي مكث و نزلناه تنزيلا» و يفهم من ذلك انه كان في مكة من احبار اليهود و غيرهم من كان موقفهم لينا تجاه ما كان ينزل من القرآن في العهد المكي اذ كانوا لا يكتمون اعجابهم به و ارتياحهم له. و النص ظاهر الدلالة علي ذلك. و قوله تعالي «يخرون للاذقان سجدا» تعبير عن فرط الاعجاب بالقرآن الكريم...و انما اشتد سعار اليهود ضد الاسلام بعد اتخاذ النبي المدينة مقرا له اذ صار الاسلام قريبا من منازلهم و مراكز ثقلهم علي ما صرنا نري ذلك في السور المدنية...«سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم و يقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب و يقولون سبعة و ثامنهم كلبهم قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم الا قليل فقلا تمار [ صفحه 280] فيهم الا مراءا ظاهرا و لا تستفت فيهم منهم احدا، و لا تقولن لشي‌ء اني فاعل ذلك غدا، الا ان يشاء الله و اذكر ربك اذا نسيت و قل عسي أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا»... الكهف 24/22قصة اهل الكهف من جهة عددهم - أي عدد الفتية - الذين أوو الي الكهف و من جهة الزمن الذي قضوه فيه يعد ذلك مما لا يعلمه الا الله. و ما قاله النقلة من اخبار اهل الكهف في تعداد عددهم و تحديد زمن مكثهم انما هو من الرجم بالغيب و هذا ما جاء به النص بصريح اللفظ و العبارة... و قوله تعالي «قل ربي اعلم بعدتهم» اي قل ذلك للذين يتحدثون في امر اهل الكهف بغير علم... و قوله تعالي «و قل عسي ان يهدين ربي» ليس من الاقوال التي امر الله نبيه أن يقولها للناس او ليفشيها في المجتمعات و انما اراد ان يقولها النبي في نفسه تعليما و هداية و ذاك من بعض ما تولي الله نبيه فيه بالتربية و التوجيه و الموعظة الخاصة...«و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر انا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها و ان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقا»... الكهف/29في هذت النص قول خوطب به الكافرون ليعلموا ان الايمان و ان كان يرضي الله فانه لا يعد المؤمن به منفصلا عن ربه و ذاك ان الايمان من خاصة عمله الذي يحمد عليه. و كذلك القول علي الكفر فانه لا يضر الله شيئا، و ان الله يدعو العباد الي الايمان فانه عزوجل يدعوهم الي ما يفيدهم. و حين ينهاهم عن الكفر فانه ينهاهم عن الوقوع في ما يضرهم. و الكفر معصية المعاصي و جريرة الجرائر... و تلك حقيقة منطقية تتعلق بسلوكيات الناس ان شاؤا ان تكون سلوكياتهم محمودة و ان شاؤا صيروها سيئة مذمومة...و جاء بعد ذلك تهويل شديد لعذاب النار يوم القيامة... و هو امر طبيعي في قانون الترغيب و الترهيب جذبا للناس الي مشارع الخير و صرفه لهم عن مهاوي الشر...و الكهف سورة مكية فيها من العبر و العظات الكثير و قد جاء فريق منها علي اسلوب القصة و ذكر بطولات فريق من مؤمني الزمن القديم ممن تحملوا في سبيل ايمانهم الاضطهاد. علي ان النمط التاريخي في سرد السير قد استبعد من كتاب الله اذ لم تقع الاشارة في ذلك الي زمان او مكان او انتماءات نسبية أو عرقية للذين جري الكلام عليهم...«قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، اولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت اعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا»... الكهف 105/104/103في هذا النص مطالب تعليمية و وعظية و شرح مفصل لسلوك اقوام اساءوا الي انفسهم في علاقاتهم بربهم فكانوا بذلك كفارا لا بصيص للايمان في قلوبهم... و العجيب ان قوما علي هذه الشاكلة من الضلال المبين و الكفر البواح الكثيف يحسبون انهم يحسنون صعنا، و انما كان ذلك كذلك فيهم بفعل الاغترار و العناد، ثم عقب النص علي هذا بان القوم ليس لهم في الاخرة الا النار اذ لا تدركهم شفاعة الشافعين لأنهم لا شي‌ء لديهم من حسنات المحسنين و اعمال المتقين.و جاء العرض القرآني بلفظ «ننبئكم» و لم يرد بلفظ الافراد و ذلك لبيان ان القضية معروفة للكثيرين لا للقليلين و لان في ذلك معني التوكيد و الجزم و قوة الثقة... و في هذا الاسلوب تعال بارز و شموخ بين... ان هؤلاء القوم حقا من فصيلة الذين لا يدرون و لا يدرون انهم لا يدرون...و قد يكون قوله تعالي «الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا» جزءا من صفة الاخسرين أعمالا و عند ذاك يكون الجواب المعلن بالنبأ هو قوله تعالي «اولئك [ صفحه 281] الذين ليس لهم في الاخرة الا النار» و كلتا الآيتين تكشفان عن الواقع السي‌ء الذي ينغمر فيه اولئك الضالون المضلون... و النص و ان كان آتيا بصيغة الخبر فانه مراد به توجيه تلك الضلالات الي من خوطبوا بها.«قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا»... الكهف/109الاية من سورة مكية و قد جاء فيها افهام المشركين و غيرهم ان الله لا يعجز عن الكلام الذي يوحيه الي نبيه و ان ما سمعتموه من القرآن الكريم و تسمعونه ليس هو كل ما هناك من كتاب الدعوة و مهما كان الامر فان القرآن الكريم نزل في سقف زمني في مكة مقداره ثلاثة عشر عاما و في المدينة لبث ينزل علي رسول الله عشرة اعوام.ان المنطق الجدلي في مواجهة قوم يظنون انهم اقدر الناس علي الكلام والجدل و المحاجة و ابعد الناس غورا في النقاش و المطاولة الكلامية و ما الي ذلك من الاقتدارات البلاغية انما يتم بمثل هذا الكلام الالهي في مواجهة تلك التحديات.بل إن الاعجاز البلاغي في القرآن الكريم تخطي جميع مالدي القوم من شعر و نثر و كلام بليغ و اقتدارات خطابية و ما الي ذلك علي ان الله عزوجل لا تنفد كلماته و لا يعجزه احد في شي‌ء من كلامه و عظيم اقتداره.«قل انما أنا بشر مثلكم يوحي الي أنما الهكم اله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا»... الكهف/110في هذا النص تلخيص لجوانب كثيرة مما يتصل بشخصية النبي منها اعلان النبي لبشريته في مجموعة اولئك البشر فهو واحد منهم بشريا ثم جاء الكلام علي ان الله ميزه بشرف الوحي الذي ليس فيه ما يريب او يخرج علي المنطق و الحقيقة و اصلاح شأن العباد فان رب العباد واحد و هو اله حي سيلقاه من آمن به و من كفر به «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا» فالعمل الصالح هنا من ضمن ما جاء النبي يدعو اليه و يحث عليه. و في النص اثبات لمبدأ التوحيد و رفض صريح لعقيدة الشرك التي قام امر العرب و كثير من الناس عليه.والمنطق الوعظي والجدلي هنا في غاية الهدوء و الرقة و اللطف و السلاسة و ذاك مما كان الله عزوجل يعلمه نبيه و يهديه اليه و يدله عليه. و قيد الاختيار يعني اللاعنف في الدعوة «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه احدا».و في هذا النص كذلك يأمر الله نبيه محمدا ان يؤكد للناس بشريته ليطمئنوا الي ان نبيهم واحد منهم بكامل بشريته، و ليزول استيحاشهم من ان يكون وراء ذلك شي‌ء لا يريدونه و لا يرتضونه و لا يعقلونه...و اخبار القوم بان النبي الذي يخاطبهم يوحي اليه من ربه ان الله اله واحد هو فوق الآلهة التي لا تستأهل التأليه و لا تستحق العبادة ثم يذكر لهم ان من خاف الفشل عند لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه احدا... يلاحظ في هذا النص نمط من تلخيص الدعوة الي الدين الحق باسلوب هادي‌ء ذي معان تعد اصول العقيدة الاسلامية، و كذلك كان الادب الالهي للنبي ادبا هادئا يتعلم به حسن مخاطبة عباد الاصنام المصنوعة من الاحجار و ليس في شي‌ء من هذه المقولة من كبرياء و تعال علي احد من العالمين...«قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا...»... مريم/75اي ان من شاء الضلالة لنفسه و ارتاض لها و رضي كينونته فيها فانه حري ان يتركه الله في ضلالته، و المعني الاجمالي للنص ان الضال المطمئن الي ما هو فيه منها لن يجد من ربه عونا علي تنحيته علي ضلالته لانها من بعض ما ارتفع اليها بذاته و انشدت اليه نفسه فليكن له ذلك [ صفحه 282] و ليذق و بال امره اذ لم ينفعه عقله و لاهدته كلمة الله الي منجاته...و تلا هذا النص نص جاء في آية اخري «حتي اذا رأوا ما يوعدون اما العذاب و اما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا و أضعف جدا»... و كلام هنا جاء بصيغة الجمع. و هو الاصل في ذلك ان الاشرار و الضالين ليسوا انفارا بل هم كثيرون، فاذا وقعت الواعقة و جاء امر الله علموا يومئذ ان غرورهم و عنادهم ساقهم الي شر المصائر و علموا من قوة الله و عظم سلطانه ما اخفاه عنهم عمي الضلالة و عجرفة الكفر و فساد التقدير.و واضح هنا ان الخطابات المكية وراء هذه القوليات هي خطابات عنيفة فيها مجاهرة صريحة باستحقاق المخاطبين من دهاقنة الكفر لمثل تلك اللغة التي كان النبي يفرغها في اصمخة اذانهم و في وضح النهار و في كل جهة من جهات مكة و وسط من اوساطها...«و لا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضي اليك وحيه، و قل رب زدني علما»...طه/114بعض ما ينزل من القرآن ينزل ابتداءا و بعضه استجابة لاحداث و امور ليس من اختصاص الرسول صلي الله عليه و سلم و قد سكت عنها ينتظر نزول الآي القرآني لتوضيح الامر للامة و لمن سأل و استفسر او اعترض او جادل او عاند او ماحك.و هنا أدب الله رسوله بادب الانتظار حتي يحين مجي‌ء الوحي من الله، و ان لا يأخذ منه القلق مأخذا بعيدا...لقد كان النبي يجد نفسه مطالبا من الناس علي اختلاف مشاربهم و انتماءاتهم بان يقضي في كل ما يعرضونه عليه من دقيق شؤونهم و معقد قضاياهم و كان يتمني ان يكون نزول الوحي علي حد ذلك و حرفه.و الوحي مسألة ترجع الي الله و ليس الي احد غيره... و علي هذا كان تفسير قوله تعالي «قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام» البقرة 144 اذ كان الرسول يترقب ان يصل اليه من ربه وحي يحل عقدة القبلة التي يتجه اليها في الصلاة فكان يقلب وجهه في السماء يتلهف و حرض عظيمين و رجاء يغلب عليه التشبث الشديد و في هذا ما يومي‌ء الي قوة الحرص علي وصول الوحي، و الناس علي مثل ذلك الحرص.في النص و هو زبدته «و قل رب زدني علما» و ان الدعاء الي الله بزيادة العلم من خير ما يستحق الدعاء الي الله و الابتهال اليه فان العلم من اغلي حاجات اولي العقول و النهي فهو الطريق الذي لا تزل قدم سالكه الي شي‌ء من الحضيض او تهوي به قدمه في منزلق من الضلال و المتاهة مادام يجد في الاستزادة من العلم و لا يقصر عن السعي اليه.و في النص تنبيه تعليمي من الله بحسن التلقي بدقة الملاحظة... و الله وراء نبيه في ذلك كله.«قل كل متربص فتربصوا فستعملون من أصحاب الصراط السوي و من اهتدي»... طه/135في هذا النص معادلة بين جهة الدعوة والاخري المقابلة اي ان كلا من الجهتين تنتظر النتيجة و تتوقع العاقبة ولكن ذلك سيعلم بعد حين و يري القوم ان اصحاب الصراط السوي و من اتقي هم الجهة المؤمنة الداعية الي الله انها جهة الرسول صلي الله عليه و سلم فهي من جهة الصراط السوي و هي المهتدية بهدي الله.والتحدي ظاهر هنا بوضوح بل ان النتائج المعلنة سلفا لتومي‌ء الي خسارة الجهة المتصلة بالعناد و الجهل و سوء التلقي و بديهي ان مثل هذا الاسلوب في الخطاب يشبه اللطمة التي تغطي الوجه كله حين لا يكوء هناك ارعواء للحقائق الالهية التي يبعث الله بها رسله لاذاعتها في الناس. [ صفحه 283] «أم اتخدوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي اكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون»... الانبياء/24في هذا النص صورة واضحة من الحوار الذي تعتمد فيه الجهة المؤمنة علي البرهان «قل هاتوا برهانكم» و جاء في البرهان الذي يمتلكه الرسول الاعظم ان معه الذكر الذي هو القرآن و معه كذلك الذكر الذي هو كتاب الله الي الامم السابقة فانها كلها تجمع علي التوحد و عبادة الواحد الاحد...غير أن النزغ الشيطاني راسخ في نفوس اولئك المعرضين عن الحق الناكصين عن هدي الله و شرعه العزيز. و التحدي بمطالبة البرهان واضح في كل حرف من حروف هذا الخطاب الذي كانت فرائص كفار مكة ترتعد له كل ارتعاد.ان في ظهور الرسول الاعظم امامهم بين حين و حين اخر يصدع اسماعهم بنصوص قرآنية علي الاسلوب من الترقيع والتحدي و التبكيت و الوعيد بالنار و أليم العقاب. ليدل علي ما كان يلازم القوم من ضعف و ارتعاب اذ يقوم الرسول فيهم واعظا و محذرا و مرشدا و مؤنبا و مبشرا و نذيرا.«قل انما أنذركم بالوحي و لا يسمع الصم الدعاء اذا ما ينذرون»... الانبياء/45في هذا النص يأمر الله نبيه ان يؤكد للقوم انه انما ينذرهم بالوحي الذي يوحي اليه فهو ملزم بابلاغهم ما يوحيه الله اليه لا يتأخر عن ذلك... و تلا هذه الحقيقة التي يتكرر بها علي سمع القوم ان هناك وحيا يوحيه الله الي رسوله لابلاغه الي كفار مكة و مشركيها. هذا و تلا ذلك تقريعهم بتقريع شديد و توبيخهم بتوبيخ عنيف «و لا يسمع الصم الدعاء اذا ما ينذرون» فان الصم الذين لا يسمعون في العادة فانهم اذا ما انذروا لا يسمعون.و قد انزلهم القرآن منزلة المصابين بالصمم ممن اذا ناديتهم لا يسمعونك و لا يلتفتون اليك و هو تعبير رهيب بذعر اولئك القوم و هم يزعمون انهم ذوو ألسنة ناطقة و اسماع سامعة و بصائر مبصرة الا ان الرسول الاعظم اعلن في ساحتهم انهم من الصم الذين لا يسمعون. و في العبارة القرآنية ما يثير الاسف لقوم ينذرون بالاخطار المداهمة فلا يسمعون ذلك الانذار و بهذا يكونون نهبا منهوبا للغوائل و سوء العواقب.ان هذا التعبير كسائر التعابير القولية ظاهر الدلالة علي سلامة موقف النبي في مواجهة القوم و ضعف موقفهم تجاهه ضعفا ملحوظا مزريا بهم كل ازراء.«قل انما يوحي الي أنما الهكم اله واحد فهل انتم مسلمون [72] ». الانبياء/108في النص تركيز علي الوحدانية الالهية و توكيد علي ان ذلك من وحي الله الي رسوله، و امر الوحدانية امر عظيم اذ لقيت الدعوة اليها مقاومة شديدة لدي المشركين الذين كان الشرك اصل عقيدتهم بفعل ماجني عليهم التفرق الاجتماعي و التفكك السياسي و الكبرياء الشخصي و التكاثر و التفاضل و استمراء الغزو القبائلي و كانت كل قبيلة تتخذ لنفسها و ثنا تتميز به شخصيتها لذا كانت دعوة التوحيد غريبة و ثقيلة الوطأة علي معتقداتهم و عنعناتهم الراسخة في قرارة نفوسهم من دهر بعيد...و مثل هذا المعني تكرر ايراده في الايات القرآنية بسيغ متقاربة و اساليب مبسطة غير معقدة، ثم وجه اليهم السؤال الذي كان يتكرر كذلك «فهل انتم مسلمون» و هو يحملهم في طيات حروفه علي معني الاستحثاث علي اعتناق الاسلام و الايمان بدعوته الاصلاحية الشاملة... [ صفحه 284] و صيغة انما و أنما من الصيغ المحددة للمعاني المعروضة فهي تقصد معني القصر الذي يكاد لا يشركه قصد اخر في المسألة الاسلامية و هذا الامر القولي موجه الي جماعة المشركين و كانوا من القوة و فرط الاصرار علي الشرك بحيث تشتد مقاومتهم لمن يدعوهم الي تركه تو اللياذ بالتوحيد بدلا منه... و بذلك يعد موضوع وحدانية الله موضوعا سياسيا ذا اهمية كبري في هذا الباب و ان كان الأصل مسألة اعتقادية قام عليها عمود الاسلام.«فان تولوا فقل أذنتكم علي سواء و ان أدري أقريب أم بعيد ما توعدون»... أنبياء/109في النص و هو يعقب علي ما امر الرسول ان يقوله لقومه من ابلاغهم بدعوة التوحيد و نبذ الشرك و هو ما كان قد حدد الغاية من الوحي علي وجه يشبه القصر لبيان ان ذلك هو الاصل الاصيل في الملة التي بعث النبي الي قومه بها.والنص الذي نحن في صدده يقرر النتيجة المتوقعة من قوم ذوي اصرار علي الشرك و أهل جاهلية شديدة العناد في اسلوب الحديث علي المعتقدات.و بهذا كان جواب توليهم اذ تولوا انذارهم بما سيقدره الله عليهم من العقاب الالهي الذي يكون توقيته بيد الله. و كلمة الانذار هنا و الابلاغ بعقوبة الله تدل علي شراسة التولي الذي كان منهم وصلف المقابلة في مواجهة كلمة النبي في دعوة التوحيد، و في الايذان بالعقوبة و ترك توقيتها مجال جديد يراجع فيه المشركون انفسهم فيه فلعلهم يرعوون و ينصاعون و يهتدون، و بذلك يتضح ان الدعوة الي التوحيد ليست من هينات الامور التي تمر بلا ضجة و لا مقاومة و لا مجابهة عنيفة يواجهها النبي من ملحدي قومه و مشركيهم ابان كل امر قولي يلقيه الله علي رسوله...«قل يا أيها الناس انما أنا لكم نذير مبين، فالذين آمنوا و عملوا الصاحات لهم مغفرة و رزق كريم»... الحج 50/49الخطاب بلفظ (الناس) هنا هو خطاب للمشركين و غيرهم و هو غالب الخطابات القرآنية في العهد المكي و قد جاء بوصف الرسول بانه نذير مبين و لهذا الوصف اثر ظاهر علي نفسيات القوم، فالنذير عندهم في سائر الحالات محل الاصغاء و المتابعة لانه في العادة يبلغهم باشياء تستوجب لفت انظارهم الي احداث و اخطار قادمة مقبلة.و من السلوك الاعلامي في القرآن الكريم انه يقلب وسائل المخاطبة تقليبا و يروح يأتيهم بما هناك من مترادفات الالفاظ و متنوع الاساليب ما يضيق مجال التملص من الاستجابة لا سيما و هم اهل بلاغة و اقتدار كلامي و خطابي عرف فيهم. فان للكلمة البليغة تأثيرا عليهم قويا و شعورا بالتلذذ و الارتياح رغم عنادهم و كفرهم و قول الشاعر:«كما لذ علي كره كتاب الله للمشرك»و لذلك لم يتقيد القرآن بكلمة رسول او نبي و انما استعمل كذلك كلمة النذير و البشير و غير ذلك...ثم جاء النص يصور مجالات الانتفاع لدي الذين اقبلوا علي الدين بطاعة تامة و استجابة واضحة اذ وعد المؤمنون بالرزق و النجاة و كريم الاجر و عظيم المثوبة و المغفرة السابغة و رضا الله عنهم، و ما من شك في ان حوارا كهذا يتطلب جهدا جهيدا و استعدادا نفسيا و عقليا للمواجهة و الالتقاء بذوي عقيدة يراد تغييرها و تصحيحها و تفريغها في نفوس معتقديها لا حلال بديل جديد متناقض لها يحل محلها...«و ان جادلوك فقل الله اعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون». الحج 69/68يشير النص الي ان هناك من كفرة القوم من كان يجادل النبي في امور قد يكون هذا المجادل محقوقا فيها و ضعيف الحجة و الاستدلال لذا كان من جميل الرد و سديد الجواب ان يشعروا بان امرهم متروك الي الله يوم القيامة. [ صفحه 285] و في الاشارة الي يوم القيامة اخافة و ابراز لصورة ساعة العقاب الالهي التي تعد عنصر موعظة و تربية للضمائر و الايمان ينتظر الناس يوما يسألون فيه عن جرائرهم و جناياتهم، و اقرار مثل هذا المعني في النفوس يمسكها عن السعي في الشر و التعامل بمفردات الفساد و الحذر من يوم الحساب، و من نظام الجدل القرآني ان يشار في كل فرجة من فرج الجدل بذكر مهمات العقيدة الاسلامية و التبشير بها و الدعوة اليها.«و اذا تتلي عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا و بئس المصير»... الحج/72الاسلوب القرآني في هذا النص علي هدي الاسلوب المكي و يبدو فيه للجدل وجه كالح و للعناد و للخصومة لدي المشركين و غيرهم ما كان يخيف الداعي الي الدين و التالي للقرآن المبين، اذ اشار النص الي ان هناك من كان يهم بالبطش به... و يفهم من ذلك ان بعض الاجواء قد تتشابه في البيئة المكيه و البيئة المدنية فالكفر علي ما قيل ملة واحدة...«قل لمن الارض و من فيها ان كنتم تعلمون... سيقولون لله قل أفلا تذكرون... قل من رب السماوات السبع و رب العرش العظيم سيقولون لله. قل أفلا تتقون... قل من بيده ملكوت كل شي‌ء و هو يجير و لا يجار عليه ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأني تسخرون»... المؤمنون 89/84في النص نقاش مع فئة من كفرة القوم في مكة وجهت اليهم أسئلة كانت محرجة لهم و ذاك بالسؤال منهم عن رب الارض و من فيها فلم يكن منهم الا الاعتراف بأن الله هو رب هذا الملك. و ذاك أنهم لم يملكوا أن يقولوا ان الارض ملك للأصنام لان هذا الجواب لا يقبله العقل مهما كان هذا العقل ضحلا ساذجا...ثم جاء السؤال الثاني «قل من رب السماوات السبع و رب العرش العظيم سيقولون لله» في حين أن طبيعة الجواب تقتضي ان يكون بلفظ «الله» و ليس بلفظ «لله» و يبدو أن القوم اتخذوا سلفا صيغة جوابية واحدة للاجابة علي اسئلة توهموها تقيد فيها تلك الاجابة و قد افادت فعلا عند الاجابة علي السؤال الاول اما الاسئلة الاخري فان استعجالهم بالاجابة عليها بذات الصيغة التي اجابوا بها علي السؤال الاول فانها علي صحتها معنويا ظهر عليها التفاوت بين اسلوبي السؤال و الجواب لما ذكرناه آنفا و ذاك مما يدل علي ان الفئة التي قرع سمعها بالسؤال راحت تتعجل الجواب علي هذه الاسئلة بسبب انصياعها القسري و وقوعها في فخ الامر الواقع فان المحقوق الذي لا يجد مجالا للتملص من الاعتراف المطلق بما يجب الاعتراف به من الحقائق الواضحة...و لذا جاءت كلمة «لله» في الجواب علي الاسئلة التالية... السؤال الاول و هو حول ربوبية الرب العظيم للسماوات و الارض و كذلك ماتلاه من قوله تعالي:«قل من بيده ملكوت كل شي‌ء و هو يجير و لا يجار عليه ان كنتم تعلمون» و قد جاء جواب ذلك بلفظ «سيقولون لله».في هذا النمط من الاجوبة التي راحت تجري تباعا علي ألسنة كفرة القوم و فيها إلتزام بجواب واحد لم يتغير و هو ان كان مطابقا لواقع السؤال الاول فانه صار خارجا عن واقع الاجابة علي الاسئلة الاخري التالية... و انما كان ذلك كما قلنا تعبيرا عن انحباس الذهن علي صيغة واحدة من الجوانب المنبعث من ذهول كبير غرق فيه الذهن فلم يعد يستبين طبيعة الواقع... فالكفرة هنا آخذون بهدب الاستسلام دون قيد و لا شرط اذ غلبتهم حالة نفسية شرد فيها الحاكم العقلي عن النطق السليم فهم علي حد قول الشاعر: - «فما يكاد يبين القول ان نطقا»... [ صفحه 286] و ذلك طبيعي في الاحوال المماثلة يوم تكون الذاكرة مهزوزة لدرجة لا تملك عندها التركيز بفعل سيطرة اليأس و فرط الاستسلام و الخوف و الذعر من وضوح الحقيقة القاطعة في موضوع وجود الله و ثبوت سلطانه في هذا الملكوت العظيم فهي مستعدة للمبادرة الي ان تجيب علي الاسئلة كلها بلفظ واحد دون ان تدخل في التفاصيل... و كان التعقيب علي ذلك بقوله تعالي: «بل أتيناهم بالحق و انهم لكاذبون»...«قل رب اما تريني ما يوعدون. رب فلا تجعلني في القوم الظالمين»... المؤمنون 94/93في هذا النص دعاء يدعو النبي به ربه ان لا يمسه الاذي الذي يصيب به الكفار...«و انا علي أن نريك ما نعدهم لقادرون ادفع بالتي هي احسن السيئة نحن اعلم بما يصفون... و قل رب اعوذ بك من همزات الشياطين و اعوذ بك رب ان يحضرون»... المؤمنون 98/97/96/95في النص ما يثبت فؤاد النبي و يقوي عزمه بما اخبره الله به من قدرته تعالي علي ان يوقع بالخصوم ما يشاء... و أو عز اليه ان يستعين به تعالي علي همزات الشياطين. فالاستعاذة منهم بالله دليل ايمان بالله و لجوء اليه و احتماء... و هو تعليم يعم عامة المؤمنين و ذاك لئلا يعلق بهم الغرور في انهم بلغوا القمة في الايمان و اليقين و لم يعودوا يجدون ما يحملهم علي الاستنجاد بالباري العظيم...ان دراسة منطق الكافرين و المنافقين لتوضح اجواء الصراع الجدلي بين فريق المؤمنين و بين الفريق الاخر الذي هو فريق الكافرين و المنافقين فلقد كان يستقر في ذهن هؤلاء خطأ ان ميدان الجدل يبيح الخروج علي الاعراف المنطقية المتفق عليها الي آفاق شرسة المخاطبة و خبيثة الكلمة و فضة الحديث... و هذا ما اردنا التوصل اليه لنقول ان الرسول الاعظم فوق مستوي التهافت و اللا التزام و بذلك كان هو الغالب المحاسب و المفاوض الناصح، و النبي الذي علمت الناس انه رسول الله اليهم جميعا و اضل الله الظالمين.«و قل رب اغفر و ارحم و انت خير الراحمين»... المؤمنون/118في النص دعاء و ابتهال الي الله بأن يلطف بالعباد و يرد عقول الناس و قلوبهم الي الهداية فان ذلك مما لا يملكه الا الله. و قد جاء هذا النص تلو قوله تعالي «و من يدع مع الله الها أخر لا برهان له به فانما حسابه عند ربه انه لا يفلح الكافرون»... ان الهداية الشاملة التي تحققت علي يد رسول الله فبات بها الكفار مؤمنين و المشركون موحدين و الخارجون عن محجة الصراط السوي مهتدين انما كان ذلك كله بفضل هداية الله. و علي هذا كان هذا الدعاء الذي تنقدح في نفس قارئه و تاليه لوعة علي احوال اولئك الزائغين عن العقيدة السليمة... و قوله تعالي «الها آخر لا برهان له به.» يفهم منه ان شرك اولئك المشركين غير ناشي‌ء عن فكر و قناعة مبنية علي دليل. و مثل هؤلاء تكون لهم عند الله معاملة غير التي تكون لمن يلحد بالله و يشرك به شريكا عن بينة يدعيها و حجة يحتجها علي فساد الادعاء و ضلال الاحتجاج و من كان كذلك فان اصراره علي الشرك و الكفر يكون أشد من اصرار من يدعو مع الله إلها آخر بلا برهان، فالقيد في «لا برهان له به» قيد احترازي فان المشركين لا يعدمون البراهين الزائفة علي ما يدعون...«قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكي لهم ان الله خبير بما يصنعون، و قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن و يحفظن فروجهن و لا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها و ليضربن بخمرهن علي جيوبهن و لا يبدين زينتهن الا لبعولتهن أو آبائهن او آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو اخوانهن أو بني اخوانهن أو بني اخواتهن او نسائهن أو ما ملكت ايمانهن أو التابعين غير أولي [ صفحه 287] الاربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا علي عورات السناء و لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن و توبوا الي الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون»... النور 31/30في هذا النص المثبت في آيتين مدنيتين تثقيف للمجموعة الاسلامية من رجال و نساء و ذاك بامرهم بالغض من ابصارهم و حفظ فروجهم و حرماتهم... و في الذي كذلك تعداد لذوي القرابة الذين لا يمنع السناء من الظهور امامهن و التحجب عنهن... و كلمات النص واضحة كل الوضوح فما تحتاج المزيد من الشرح و التفصيل. و الآيات هي في عداد المواعظ والاداب و ما يلزم به افراد الامة الفضيلة و الحشمة... و الآيتان كذلك تصوران هدي الاسلام و معالم التربية الفاضلة التي يجب التمسك بها في بيئة المؤمنين...ان هذه التعليمات مما جد في الملة الحنيفية السمحة علي اسلوب الحياة في البيوت مما لم يكن معروفا مثله لذي القوم ايام الجاهلية بهذا الحجم و التحديد...«و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن امرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة ان الله خبير بما تعملون»... النور/53هذا قسم منهم في غير مكانه فهو يشبه ان يقول قائل مقسما انه سيلبس ملابسه و يخرج الي عمله غدا في الصباح... و العبارة القرآنية تحتجن التوبيح لقوم يقسمون علي امر هو مفروض عليهم، كما ان مظاهر التملق علي وجه النفاق واضحة في قسمهم الذي اقسموه بان يخرجوا مع النبي للقتال ان امرهم بالخروج اليه... و مثل هذه المواقف تصور لنا ما كان يواجهه الرسول صلي الله عليه و سلم من اناس محسوبين ظاهرا علي فئة المسلمين و هم علي جانب من التقلب و التردد يكثرون من الأيمان في غير طائل... ان مثل ذلك يرينا كيف كان النبي يعرف عواقب الامور في مواجهة مثل هذه الاحداث المزعجة المؤذية...«قل اطيعوا الله و اطيعوا الرسول فان تولوا فانما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم و ان تطيعوه تهتدوا و ما علي الرسول الا البلاغ المبين»... النور/54يبدو ان من وجه اليهم هذا الخطاب القرآني في وجوب اطاعة الله و اطاعة الرسول انهم كانوايتملصون من الاستجابة للامر بانهم يريدون ما يقنعهم بان اوامر النبي اليهم مما يجب ان يقبلوه و ينفدوه و جاءهم الخطاب الالهي بان ذلك لا يتصل برغباتهم فالجندي ينفذ امر رئيسه و قائده دون ان يعرف فحوي ذلك الامر أو يدخل في تفاصيل فحواه او يناقش فيه. و قوله تعالي «فعليه ما حمل و عليكم ما حملتم» قانون من قوانين الرئاسة و القيادة لا يسمح تجاهه للجند و سائر افراد الرعية بمناقشته و التلكؤ في تنفيذه و لو وقع ذلك لمر الوقت بلا طائل و لتعرضت مصالح الامة لما يفسد امرها و يؤذيها في اهم مصالحها...«قل انزله الذي يعلم السر في السماوات و الارض انه كان غفورا رحيما»... الفرقان/6قبل هذا النص «و قالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة و اصيلا» و قد جاء الرد علي مقولتهم بان الذي انزل القرآن يعلم السر في سائر ارجاء ملكوته من سماء و ارض، فاذا كانت هناك اخبار و احداث اشار اليها التنزيل المنزل فانما هي من بعض علم الله نزلها في الكتاب...«قل اذلك خير ام جنة الخلد التي وعد المتقون، كانت لهم جزاءا و مصيرا». الفرقان/15الخطاب للقوم و هم نزلاء النار التي كانت عاقبة امرهم يوم القيامة «و اذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليونم تبورا واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا» اذ لفت نظرهم الي المقارنة بين حال من هو في الجحيم و حال من هو في الجنة، فان الفرق بين المكانين و العقبيين ظاهر و واضح، و كان الرسول الاعظم [ صفحه 288] يقف عند خط المواجهة في استعراض الموقف و التنويه بالمعادلة العادلة بين الفريقين من اهل النار و من اهل الجنة...«قل ما اسألكم عليه من اجر الا من شاء ان يتخذ الي ربه سبيلا»... الفرقان/57ليس في النص شي‌ء من مطالبة باجر ينتفع منه طالبه و انما كان في مثابة الاجر الذي يسر من يؤتاه ان يقبل القوم الي ربهم بالطاعة و عمل الصالحات...و لكلمة المشيئة هنا معني فيه امتداح للذين يسلكون سبيل التقوي و رضا الله. فان مشيئتهم تومي‌ء الي صدق الايمان و الاستجابة بتعاليم الدين بمحض الرغبة و صميم الارادة التي لا ضغوط عليها من احد...«قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما...»... الفرقان/77المعني الذي يحتجنه النص ان الله لا يعبأ بما ينصرف اليه القوم من ضلال و عدم طاعة لولا ان دعوتهم مسألة من مهمات اعمال الرسول المرسل اليهم و يعني ذلك ان علي الرسول مواصلة دعوة الناس الي الايمان وحثهم علي الانتساب للملة التي جاءهم بها... و هناك قاعدة قرآنية تقول «و اذ قالت امة منهم لم تعظون قوما الله مهلكم او معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة الي ربكم و لعلهم يتقون» الاعراف/164...«فان عصوك فقل اني بري‌ء مما تعملون»... الشعراء / 216النص مسبوق بقوله تعالي... «و أنذر عشيرتك الاقربين و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين»... العصيان في النص مصروف الي من أمر النبي بانذارهم من عشيرته الاقربين فاذا كان قوم النبي قد عصوه في الاستجابة بما جاءهم به من عقائد تصحيحية و تعاليم في توحيد الله عزوجل و ما كان قد نهاهم عنه من اعمال و تصرفات فلم ينصاعوا الي نصائحه و عظاته و لبثوا مكبين علي تلك التصرفات والاعمال المنهي عنها فانها مما يتبرأ النبي منه و لذا جاء النص بلفظ «فان عصوك فقل اني بري‌ء مما تعملون» ايذانا بقبح تلك الاعمال و اشعارا بان كل عامل عمل مجزي علي عمله ان كان خيرا فخير و ان كان شرا فشر.«قل الحمد لله و سلام علي عباده الذين اصطفي الله خير ام ما يشركون»... النمل/59في هذا النص امر بحمد الله و التسليم علي عباده الذين اصطفاهم بعظيم فضله فجعلهم رسلا مرسلين الي أممهم و كانت مهمتهم العظمي الدعوة الي توحيد الله... و بديهي ان التوحيد خير من الشرك بكثير و انما كان التوحيد قد تحقق بفضل اولئك الرسل الذين اعلي الله مقامهم برسالته. و النبي صلي الله عليه و سلم احد تلك الدعائم التي اقام الله عليها صرح العقيدة الصحيحة...«ام من يبدأ الخلق ثم يعيده و من يرزقكم من السماء و الارض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين. قل لا يعلم من في السماوات و الارض الغيب الا الله و ما يشعرون ايان يبعثون»... النمل 65/64تناول النص الكلام علي بدء الخلق و اعادته اشارة الي الحشر و النشر كما تناول رزق العباد و ذاك من حاجات الناس ان ينزل من السماء الماء و يخرج من الارض انواع النبات و الثمرات...و تكلم النص علي غيب الله الذي يجهله غير الله و قال في امر البعث الذي يبعث الناس فيه بعد الموت. و هذه امور كانت تعني القوم يومذاك و تشغل بالهم و قد اراد الله ان يراجعهم النبي صلي الله عليه و سلم في حوار ينتهي الامر به الي التسليم و الاعتراف بهذه الحقائق الاساسية في الدين الحنيف الذي جاءهم به نبيهم محمد بن عبدالله...«قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين»... النمل/69 [ صفحه 289] في هذا النص ايعاز الي الرسول الاعظم ان يقرع سمع القوم بالخروج الي ظاهر الارض ليروا مما فيها من الاثار كيف ان الله قصم ظهور العتاة و الطغاة و الكفرة المتجبرين... و في هذا نجد مظاهر يواجههم الرسول بها و يحاورهم فيها و لم تسمع لهم كلمة تعقب علي ذلك او ترد عليه... و وصف اولئك بالمجرمين دليل قوة في الخطاب و شدة في التقريع مما يتجلي فيه الموقف الجدلي يتولاه النبي في مواجهة الكافرين... و السورة مكية و الجدل يومذاك يتكرر و يطول و يعرض... و في القرآن اشارة بل اكثر من اشارة الي ان القوم كانوا في اسفارهم التجارية و غيرها يمرون علي مثل تلك المواقع فيرون صورة الاعتبار فيها ظاهرة...«قل عسي ان يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون...»... النمل/72في النص تذكير او تهديد بقرب ما كانوا قد وعدوا به من نقم الله. و كلمة «عسي» للاحتمال المتحقق او المتوقع... و اذ يبلغهم النبي بذلك فانه يعني ان اصل البلاغ من الله و هو العالم بكل شي‌ء و لم يكن النبي الا آخذا بهدب الامر و ناهضا بصريح القول في مخاطبة كفار القوم.«و ان اتلو القرآن فمن اهتدي فانما يهتدي لنفسه و من ضل فقل انما انا من المنذرين... و قل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها و ما ربك بغافل عما تعملون...»... النمل 93/92يصارح الرسول قومه بانه مأمور من ربه بتلاوة ما ينزله الله عليه من قرآن و وحي سماوي فيه ما هو بشارة و فيه ما هو انذار...و كانت تحركات القوم و مواقفهم في مصاولة الاسلام و مقاومة الدعوة اليه ذات افانين من الشر والفتنة و لذلك قال الله «و ما ربك بغافل عما تعملون»...و يفهم من هذا النص ان الرسول الاعظم كان بلاحق القوم بالتلاوة الجهرية التي يقرع بها اسماعهم فلا يجدون مفردا من اخذها بكثير من التفكير و المدارسة و لعل مثل ذلك كان يقع لهم في مجالسهم و سائر تجمعاتهم علي ان النبي اذ يتلو القرآن علي اولئك الكفرة كان يعمل ان هناك من سيهتدي فيكون من المفلحين و ان هناك من يرفض الاهتداء كل رفض غير ان النبي ما يزال موكولا اليه أمر الدعوة الي الانذار المستمر لانه ليس الا من المنذرين اما قوله تعالي في الآية التي تلت ذلك «و قل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها» فان المراد باياته هنا ما يكون من دلائل التوفيق و براهين النصر و اقبال من يقبل من القوم علي اعتناق الدين. اما قوله تعالي «و ما ربك بغافل عما تعملون» فانه شبه استحقاق بما تنطوي عليه اكبادهم من احقاد و ضغائن فان ذلك لن يصنع شيئا تتعطل به عجلة الدعوة عن السير...«قل فأتوا بكتاب من عند الله هو اهدي منهما اتبعه ان كنتم صادقين»... القصص/49النص مكي و كان في مكة من اهل الكتاب من كانوا يعملون في اسواقها و تجاراتها و قد كان أناس منهم يترددون عليها لاغراض شتي، و كان فيهم من هم من سكنتها... و التوراة و الانجيل معروفان باطارهما العام لدي اهلها اذ كانت الامية متفشية لدي الجميع... و في الكتابين من الحقائق العامة لاسيما ما يتعلق بامر التوحيد ما يؤيد الدعوة القرآنية تأييدا ظاهرا... و في النص تحد لمنكري ذلك من اهل الكتاب فجاء الخطاب مفحما لهم... و الايمان بالكتب السماوية و برسل الله الاقدمين مسألة مندرجة في مطالب الايمان في الملة الاسلامية الجديدة...«قل ارأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الي يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بضياء افلا تسمعون... قل ارأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا الي يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون». القصص 72/71 [ صفحه 290] في النص ايضاح لسطان الله في ملكوته و انه يتصرف فيه تصرفا هو أدري بما يتأتي منه من منافع للناس...و جاء النص ليشعر القوم بعظيم فضل الله عليهم في تنظيم اوقات اعمالهم و راحتهم و نومهم و يقظتهم ليتبينوا بذلك عظيم فضل الله عليهم و واسع نعمته و ان ما يقع خلاف ذلك مما يعرضهم للاذي العظيم لن تستطيع اوثانهم و معابيدهم الحيلولة دون حدوثه و وقوعه...فان الآله الباطلة التي يعبدونها من دون الله لا تملك ان تصنع شيئا... و هو موقف حواري منطقي في امور تتعلق بنظام العالم الفلكي أمر الرسول الاعظم ان يحاور به القوم الذين امسكوا عن القول فيه بادني قالة... و حين تواجه الحورات القرآنية بمثل هذا الصمت تكون كفة الكفر هي المرجوحة و هي الخاسرة في وضح النهار...«قل ربي اعلم من جاء بالهدي و من هو في ضلال مبين»... القصص/85في هذا النص يواجه الرسول الاعظم قومه بتنزيه الباري عزوجل ان يكون غير عالم بالمهتدين من عباده فانه جل شأنه يميز بين الفريقين فلا يخفي عليه من امرهما او من امر احدهما شي‌ء. و في هذا الحوار مواجهة للقوم بان فيهم من الضالين غير الذين فيهم من المهتدين...«قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشي‌ء النشأة الاخرة ان الله علي كل شي‌ء قدير»... العنكبوت/20في النص توجيه عقائدي واسع المنهجية فهو يطلب من المشركين ان يتجولوا حيثما يملكون ان يتجولوا في الارض ليروا ما فيها بعين البصيرة والاعتبار من عجائب خلق الله. و قياسا علي ذلك يروح العقل البشري الي التفكير في القرارات القرآنية لعقيدة الحشر و النشر و ذاك هو عرق الايمان في الملة الحنيفية السمحة.و علي هذا يتكرر الكلام في البعث و النشور و بدء الخلق و النشأة الاولي و الاخرة لان العظمة الالهية تتجلي بالخلق بدءا و اعادة...«قل انما الآيات عند الله و انما أنا نذير مبين»... العنكبوت/50قبل هذا النص مما يدخل في ضمن الاية الكريمة... «و قالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل انما الآيات عند الله»... ما زال المشركون و غيرهم من اهل مكة يطالبون النبي بالايات مدعين انها هي التي تقنعهم بصحة رسالته و صدق نبوته في حين ان طلباتهم هذه انما هي تعجيزية لا غير و لكي يخادعوا الرسول فينقلبوا بعد اشتراط الايات الي انكار كل شي‌ء... و قد أمر الله رسوله صلي الله عليه و سلم بالرد عليهم بانه نذير ارسله الله اليهم من غير ان تكون له يد تقدم في امر تؤخره، و هو رد هادي‌ء مفحم لا يجدون فيه ما يضاعف من لجاجتهم الجدلية الفارغة. و لقد ثبت بسائر ما قرأناه من كتاب الله ان القرآن الكريم كان يخاطب العقل العربي و غيره من عقول البشر من غير ان يستعين بوسائل اقناعية إلا هدي العقل.«قل كفي بالله بيني و بينكم شهيدا، يعلم ما في السموات و الارض و الذين آمنوا بالباطل و كفروا بالله اولئك هم الخاسرون»... العنكبوت/52في هذا النص كلام مسكت نهي النبي به عن هدر الوقت في النقاش و المجادلة مع قوم لا يلتزمون في مثل ذلك بنظام و لا قاعدة... و يتبع ذلك قول في الله عزوجل يشير الي انه تعالي يعلم كل شي‌ء في السماوات و الارض. و في النص حكم علي الذين مالوا الي الباطل فآمنوا به و زاغوا عن محجة ربهم فلم يؤمنوا به و هو ظاهر للكفرة الذين كانوا محل هذا الخطاب و المحاورة...«قل الحمد لله بل اكثرهم لا يعقلون»... العنكبوت/63 [ صفحه 291] اول النص «و لئن سألتهم من نزل من السماء ماءا فاحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل اكثرهم لا يعقلون».في مثل هذا النمط من الحوار ما يمسك القوم ان يقولوا فيه شيئا اذ لا يجدون غير الاعتراف بالحقيقة المسؤول عنها... فمن نزل من السماء ماءا فاحيا به الارض من بعد موتها و هم ملزمون أن يعترفوا بان الذي نزل من السماء ماءا فأحيا به الارض من بعد موتها انما هو الله و ليس الاصنام و الاوثان التي صنعت لهم بايدي تجار الاصنام و كان التعقيب علي ذلك... «قل الحمد لله بل اكثرهم لا يعقلون» و الحمد هنا ناشي‌ء من رجحان كفة الايمان علي كفة الكفر، و التوحيد علي الشرك و ان قوما يعلمون علم اليقين ان الله هو الذي نزل الماء من السماء فاحيا به الارض ثم يروحون يعبدون الاوثان، انهم حتما لا يعقلون...«قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل، كان اكثرهم مشركين»... الروم/42في هذا النص توكيد لضرورة التجول في الارض و الاطلاع علي ما فيها من معالم دالة علي ما تركه البطش الالهي فيها لقاء زيغ تلك الامم التي ضلت السبيل و خرجت علي القيم و كفرت بأنعم الله و طردت دعاة الفضيلة و افسدت في الارض...ان التنبيه الي مثل ذلك يحتجن العبرة و يلفت نظر القوم من مشركي العرب في مكة ليحذروا ان يوقع الله عليهم غضبه الذي لا يرد عن القوم الظالمين...و الرسول الاعظم ما زال يواجه قومه بهذا المعني الذي بعد من معاني العبرة و الاتعاظ...«قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم الي ربكم ترجعون»... السجدة/11في هذا النص تذكير بموقف ملك الموت الذي ينقل الاحياء من عالم الحياة الي عالم الموت و ذاك مما تشهده الناس في كل ساعات الليل و النهار و حين يتوفي ملك الموت الناس من الذين تجري مخاطبتهم من قبل الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم فانهم سيرجعون الي الله رب الخلائق و الممالك... و في رجوعهم الي ربهم يكون الحساب. و قد جاء هذا الجواب في مواجهة ما نصت عليه الاية من رعم القوم الذين فصل الكلام عليهم بالنص التالي الذي سبق الامر القولي... «و قالوا أإذا ضللنا في الارض أانا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون» السجدة/10 و لذا جاءت كلمة «قل» في الايعاز الالهي القولي لرسوله لمواجهة احاديث القوم و مزاعمهم...«قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم و لا هم ينظرون»... السجدة/29جاء هذا النص جوابا لما ورد في الاية السابقة الثامنة و العشرين و هو: «و يقولون متي هذا الفتح ان كنتم صادقين». و الجواب ظاهر فيه ان يوم الفتح حين يتحقق لا تكون فيه مصلحة للذين يسألون عن يوم الفتح لانه يوم لا ينفع الذين كفروا ايمانهم و لا يفسح لهم مجال الانظار... و يعد هذا الجواب مسكتا لاولئك الذين يبنون علي سؤال يسألونه رجاءا لا يدخل في كيسهم منه شي‌ء لانه يوم النقمة العظمي التي تنصب علي امثالهم... ان بعض استفسارات القوم تعد استفسارات فيها تطفل كبير علي امور هي خارج الصدد التي هم فيه...و كانوا اذ وجهوا الي الرسول الاعظم سؤالا علي هذا النحو يستفسرون فيه عن يوم الفتح و كأنهم يترقبون يوما يجي‌ء الفرج و التفاؤل اليهم في غاية الاكتظاظ علي حين ليس الامر كذلك... لقد كان الجواب الذي أمر النبي بالرد به علي مرتقبيه جوابا يحكي اللطمة التي تملأ الوجه كله...«قل لن ينفعكم الفرار ان فررتم من الموت او القتل و اذن لا تمنعون الا قليلا»... الاحزاب/16 [ صفحه 292] في النص تعقيب و جواب علي ما سبق ايراده في آية سالفة هي «و لقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار و كان عهد الله مسؤولا» الاحزاب/15... و ذاك ان القوم... - والآية مدنية - كانوا قد قدموا من وقت سابق عهدا بان لا يفروا من زحف... و لم يكونوا ممن يوثق لهم عهد و لذا جاء النص بلغة يفهم منها تهكم بهم و اخراج لمكنون صدرهم اذ صورحوا بان الفرار ليس بنافعهم شيئا ان فروا من الموت او القتل... هذه الآيات نزلت في زحمة الاعمال القتالية و مواجهة الاحزاب المتجمعة في الغزوة المسماة بغزوة الخندق و كانت قد احاطت بالمدينة ضد فئة المسلمين و كان هناك من يزعم الولاء و الصدق في الذود عن بيضة الاسلام و كيان الدين. و لذا لم يرد الجواب في التعقيب علي عهدهم ذاك و انما صرف الكلام علي نبزهم بالفرار الذي لا يفيدهم شيئا... و يفهم من ذلك تأزم الحوار الجدلي بين فئة المنافقين و فئة المسلمين و علي رأسهم قائد جبهتهم النبي العظيم صلي الله عليه و سلم...«قل من ذا الذي يعصمكم من الله ان اراد بكم سوءا او اراد بكم رحمة و لا يجدون لهم من دون الله وليا و لا نصيرا»... الاحزاب/17والنص هنا عام شامل للموقف اذ تناوله من جميع اطرافه ليبين لهم ان الله هو ذو السلطة العليا التي تحكم امر الجميع... و النص من ضمن نصوص واقعة الاحزاب التي تسمي واقعة الخندق...«يا ايها النبي قل لازواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين امتعكن و اسرحكن سراحا جميلا... و ان كنتن تردن الله و رسوله و الدار الاخرة فان الله اعد للمحسنات منكن أجرا عظيما»... الاحزاب 29/28في هذا النص وضوح بارز لاسلوب الحياة اليومية التي كان النبي يحياها و معه نساؤه امهات المؤمنين اذ كانت حياتهم غير ذات اطار من السعة و البذخ علي النحو الذي يعرف في حياة الرؤساء و الملوك و قادة الامم من الرفاه و البلهنية و التمكين... فانا نجد الباري عزوجل قد شرح الكلام شرحا مفصلا في امره للنبي بأن يخاطب زوجاته بانهن ان كن يردن الحياة الدنيا و زينتها و الموائد الفخمة و الاسراف و الترف فان ذلك غير كائن في الحياة مع النبي... «فتعالين امتعكن و اسرحكن سراحا جميلا» اي ازودكن بكسوة الطلاق و ارجعكن الي اهليكن... «و ان كنتن تردن الله و رسوله و الدار الاخرة فان الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما» اي ان كنتن تصبرن علي واقع العيش البسيط ف يبيت النبي راضيات بنعمة الايمان و القناعة بما ييسره الله لكن من رزق بسيط و حظ من العيش يسير فان ذلك هو الذي يجلب لكن رضوان الله و واسع رحمته و كبير اجره و ثوابه...يفهم من هذا ان تعدد ازواج النبي لم يقم علي قوائم من المغريات المعاشية و ما اليها من وسائل اجتلاب النساء الي عش الزوجية. و هكذا كانت حياة الرسول قريبة الي الفقر الذي تستره القناعة و يغطيه الرضا بما يقسم الله لعباده من الرزق ضيقا أو واسعا، و ليس في حكاية تعدد زوجاته صلي الله عليه و سلم مغريات أو مشوقات من عالم المادة و ما اليها و انما كانت وراء تعدد أزواجه أمور من غير هذا العالم المادي الذي تتداعي عليه النساء. ان سيرة زوجات النبي واضحة لمتابعي امرها فمعظم زوجاته ثيبات و بعضهن طعن في السن و منهن من كن من ذوات قرابته و منهن من وقع زواج الرسول بها لاغراض تشريعية كزينب بنت جحش، أبطل النبي بهذا الزواج حكاية الادعياء المتبنين و كانت حكاية من صميم العنعنات الجاهلية... و قد جاءت الاشارة الي ذلك في مكان اخر من الكتاب. و من زوجاته ام‌حبيبة بنت ابي‌سفيان فانها احدي المهاجرات الي الحبشة و قد فارقها زوجها الذي هاجر معها ملتحقا بدين الاحباش في مهجره... فتزوجها النبي ردا لاعتبار أسرتها و تم له صلي الله عليه و سلم بذلك الاصهار الي ابي‌سفيان. [ صفحه 293] و لم يكن ابوسفيان يومذاك قد اسلم الا انه اطمأن لوصول بنته ام‌حبيبة الي مكان من الشرف لا يملك احد مسه بالقالة الجارحة و لا همزه بالكلمة الشائنة.و منهن صفية بنت حيي بن اخطب كبير اليهود و قد تزوجها النبي من السبي اليهودي و بذلك اكرم مقامها و لم يذلها بتزويجها من الاخرين، و قد اسلمت و حسن اسلامها و صارت في عداد امهات المؤمنين.و لم يكن النبي قد تزوج من الابكار الا عائشة بنت ابي‌بكر رضي الله عنها... و تعدد الزوجات عادة كانت شائعة لدي العرب ايام جاهليتهم في كبرائهم اذ كانوا قد تزوجوا العشرات و هي عادة اقتضتها ظروف القوم في عصرهم ذاك... و من قبلهم عرف الرجال من بني‌اسرائيل النزوح العدد الكبير من النساء...«يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدني أن يعرفن فلا يؤذين و كان الله غفورا رحيما»... الاحزاب/59النص من بعض التوجيهات التربوية التي رسمتها الشريعة الاسلامية لنساء الامة و في مقدمتهن ازواجه صلي الله عليه و سلم. و لم يكن الناس في الجاهلية يلتزمون بذلك الا من ألف التحشم و اتخذ لأسرته و ذلك خطا تمشي عليه و تلتزم به و مثل هذه الاحكام لم يكن ثمة مجال لالقائها في سمع الناس ابان العهد المكي اذ لم تكن يوم ذاك أسر اسلامية متكاملة و لا كانت هذه المعاني جديرة بالترجيح علي مطالب التوحيد و بناء الشخصية الايمانية لدي ذلك الجيل... و النبي هنا هو و سائر المؤمنين علي حال واحدة تجاه الامر الالهي القاضي بتحجب نسائه و نساء سائر الناس...«يسألك الناس عن الساعة قل انما علمها عند الله و ما يدريك لعل الساعة تكون قريبا»... الاحزاب/63سؤال الناس عن الساعة في ايام العهد المكي و ايام العهد المدني يتكرر كثيرا و اذ ان الساعة من اسرار الله لا يجليها لوقتها الا هو فان الجواب علي ذلك كان باعلان مجهولية كينونتها... و السؤال عن الساعة له عند القوم مقاصد متنوعة علي وفق اهوائهم ولكن الرد علي الجميع كان واحدا... و كان الله يعلم بهذه الاسئلة فور وقوعها الي النبي فيلهمه الجواب عليها و يأمره بابلاغ ذلك الي السألة السائلين...«قل بلي و ربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات و لا في الارض و لا أصغر من ذلك و لا اكبر الا في كتاب مبين». سبأ/3النص في الآية مسبوق ببداية هي «و قال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلي و ربي لتأتينكم...» و في النص ما ينسب الي الكفرة من اهل مكة بانهم نفوا ان تأتيهم الساعة و قد امر الله رسوله الاعظم ان يخرج الي القوم ينقل اليهم قول الله في ان الساعة آتية لا ريب فيها و جاء التحدي الالهي بلفظ «قل بلي و ربي لتأتينكم» و يتصل بذلك من كلام الله ما يذكر عظيم صفاته عزوجل من نحو انه عالم الغيب و انه لا يعزب عن علمه من الغيب شي‌ء مهما قل في السماوات و الارض فان امره عزوجل ثابت و مثبت في كتاب و ذكر الكتاب اذا ذكر يعني ثبوت الامر و انه حقيقة ثابتة لا تلغي و لا تنسي.و هكذا كان الرسول الاعظم في نقاش دائم مع مشركي قومه بمكة يناقشهم و ينقل اليهم الرد الالهي القاطع...«قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات و لا في الارض و ما لهم فيهما من شرك و ماله منهم من ظهير»... سبأ/22في النص الذي امر الرسول بمخاطبة القوم به تحد لهم بدعوة من يشركون بهم الله عزوجل و هم لا يملكون من سلطان في السماء و لا في الارض و هي [ صفحه 294] حقائق يدمغ الله بها المشركين و يرد اليهم عقولهم التي لا تلبث ان تعلم ان الكلمة الالهية صحيحة كل الصحة و ان آلهتهم من الاحجار ليست بمالكة من القوة شيئا و لا صانعة من التأثير شيئا...و حين نشهد النبي ينجول في جمهرة اولئك الكفرة ذوي الاصرار علي كفرهم و شركهم نري جهد هذا النبي صلي الله عليه و سلم لا يحد بحد و لا يقاس بمقياس فهو حجم كبير لا ينتهي من مواجهة فريق منهم الا لينتهي الي مواجهة فريق اخر اشد عنادا و أعتي خصومة...«قل من يرزقكم من السماوات و الارض قل الله و انا أو أياكم لعلي هدي او في ضلال مبين»... سبأ/24المعادلة طبيعية بين الفريقين فهما اما ان يكون احدهما علي حق والاخر علي باطل و ان يكون أي منهما في احدي الجهتين علي هدي و الاخر علي ضلال مبين... و هو اسلوب في الخطاب كبير الرقفق و الادب و التلطف و ان لم يكن الشك فيه متصورا بينهما فالكفر هو الكفر و الهدي هو الهدي... و ناقش النص القوم في الرزق الذي يقوم عليه أمر حياتهم و هو ما لا يملك احد ان يرده الي وثن او صنم فهم جميعا يعلمون أنه من الله.«قل لا تسألون عما أجرمنا و لا نسأل عما تعملون»... سبأ/25في النص تفسير للذي سبق و هو قوله تعالي «و ان أو اياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين»... اذ تقتضي المعادلة بين الفريقين في صواب منهج من هو صائب منهم و من هو غير صائب ان يكوء للصائب اجره و لغير الصائب جزاؤه، و ذاك ان لا يسأل مجرم فئة عن مجرم فئة اخري...و مثل هذا الحوار المتصل الحلقات و المستديم التحركات كان هو السمة السائدة في اوساط مشركي مكة بينهم و بين الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم ايام العهد المكي...«قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق و الفتاح العليم»... سبأ/26في النص اظهار للنتيجة التي سينتهي اليها أمر ذلك الجدل بين الفريقين و هو يوم يجمعها الله و يضع امام عين كل منهما الواقع الذي ارتضاه لنفسه و الخيار الذي اختاره... و يلاحظ ان الآيات المتتابعة التي جاء الخطاب فيها لكملة «قل» هي من باب واحد يعقب علي الاخر متمما و موضحا و مفسرا...«قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم»... سبأ/27في النص يواجه النبي القوم بنقاش صريح واضح يطالبهم به ان يروه ما جعلوا لله من شركاء لا مكان لهم في شرك و لا في غيره... و انما الله هو العزيز اي القوي، و الحكيم اي من تكون اعماله كلها رشيدة سديدة... ان هذا الامر القولي الذي أمر النبي ان يصدع به سمع قومه لشديد المجابهة و صريح المجادلة و للنبي فيه القوة النابعة من قوة مرسله في سائر افاق الجدل العنيف بينه و بين عناة المشركين من قومه و هو ما يزال في مكة عرق الشرك يومذاك...«قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة و لا تسقدمون»... سبأ/30في هذا النص مجاهرة بالتوعد الالهي الذي يصدع به الرسول لينبئهم بانهم الي يوم غير بعيد لا يتقدم و لا يتأخر و يعني به ساعة حلول الاجل الذي لا يتقد و لا يتأخر و يومذاك لا تجديهم عصبة و لا ينفعهم مال و لا يقف دونهم ما ادخروه لانفسهم من وسائل المواجهة.و بديهي ان مثل هذا الكلام اذ يخيفهم بعض الخوف او كله فانه يجعلهم يشتاطون غضبا و عتوا في مواجهة رجل جاءهم يغير كل شي‌ء من معتقداتهم و يفند كل ما اتخذوه لانفسهم دينا و عبادة. هما عند الله من ابطل الاديان و العبادات... فالي ساعة الموت اذن...«قل ان ربي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر ولكن اكثر الناس لا يعلمون»...سبأ/36 [ صفحه 295] في النص ذكر لما يمن به من نعم الله علي الناس و قد نسب الله الي نفسه انه يبسط الرزق لقوم و يقتره لاخرين بيانا بانه سبحانه و تعالي هو المتحكم في ملكوته الشاسع العريض، و لان الجهد بذلك هو الواقع الذي يشهده الناس من غني متسع الرزق و فقير شح عليه رزقه.و قد وصف اكثر الناس بانهم لا يعلمون. و المراد بذلك غمز اولئك القوم بالجهل المطبق في هذا الشأن و هو ما دفعهم الي الشرك و الالحاد بالله رب العالمين الذي هو الرزاق ذو القوة المتين...و في مثل هذا النص الذي يجاهر به النبي القوم بعض معاني التوحيد و ما اليه من عرض صفاته جل شأنه علي القوم لكي تتسلل الي قلوبهم فيروا ان الله حقا و المغني المفقر و ليست اصنامهم بقادرة علي ان تفعل من ذلك شيئا او بعض شي‌ء...«قل ان ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر له، و ما أنفقتم من شي‌ء فهو يخلقه و هو خير الرازقين»... سبأ/39و جاء هذا النص شبه مكرر اثر آيتين هما «و ما اموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفي الا من آمن و عمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعيف بما عملوا و هم في الغرفات آمنون... و الذي يسفون في آياتنا معاجزين اولئك في العذاب محضرون» سبأ 38/37 و في النص المتخذ عنوانا لهذا الفصل بيان بأن ما يرزق الله به العباد ان شاء التوسعة عليهم هو كثير بحيث ينفقون فلا ينفد ما ينفقون و انما يخلفه الله لهم... و في هذه المعاني المعكررة تذكير للقوم بان الرزق الذي هو مصدر رخائهم و حياتهم انما هو من الله يقرب بذلك اذهانهم الي مصدر الخير و الرخاء و النعمة و ليس من ذلك شي‌ء يصح ان ينسب الي المعابيد الاخري التي يعبدونها من دون الله رب العالمين...«قل انما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثني و فرادي ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ان هو الا نذير لكم بين يدي عذاب شديد»... سبأ/46الخطاب هنا للقوم و هم مجتمعون يتواطأون علي اتهام النبي بالجنة ليصرفوا عن انفسهم سلطان الدعوة و قوة الحجة و يتخلصوا من النبي اذ يلاحقهم بقرع حجتهم باكثر من حجة... و في النص دعوة للقوم الي التفرق الي مثني و فرادي ليكون التفكير في الموضوع بعيدا عن التواطؤ و ليكون كل منهم كالفئة صغيرة مسؤولة عن تفكيرها و حرة في ابداء رأيها...و كلمة «اعظكم» اي انصحكم و اقترح عليكم... و قوله «ان تقوموا لله مثني و فرادي» اي تخلصوا لله القول و تصدقوه بعد تفرق للمتكم الملتمة علي ضلال و اصرار علي باطل.فاذا فعلتم ذلك ففكروا في اتهاماتكم التي اتهمتم بها النبي بان فيه جنة و انظروا في امر هذا النبي اصحيح ان فيه جنة... ام انه نذير لكم من الله بين يدي عذاب شديد يريد دفعه عنكم... و قد يكون المراد من قوله تعالي «ان تقوموا لله مثني و فرداي» اي ان تنفضوا عن مجلسكم القائم علي الحقد و الساعي في الشر و الآخذ بهدب الباطل.«قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ان أجري إلا علي الله و هو كل شي‌ء شهيد»... سبأ/47طلب الانبياء من اقوامهم اجرا علي ما يدعونهم اليه من الايمان بالله امر مستبعد لان الانبياء كلفوا القيام بهذه الدعوة من ربهم الذي لا يعصي في ذلك... و جاء النص باسلوب يقول فيه علي الافتراض ان كنت سألتكم عن اجر هذا الواجب فهو لكم، فانما اجري علي الله الذي هو شاهد علي كل شي‌ء... و قوله تعالي «قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة في القربي» هو من هذا الباب لا يخرج عنه شيئا و قد فصلنا الكلام عليه في مجاله... [ صفحه 296] «قل ان ربي يقذف بالحق علام الغيوب»... سبأ/48في النص افهام للمشركين و من اليهم بان الله هو ولي الحق الذي يفحم به مبطلي عباده. و هو علام الغيوب التي لا يصل منها الي علم عباده شي‌ء... و تلا هذا النص قوله تعالي بيانا بعظمة الخالق وسعة سلطانه و بالغ حكمته «قل جاء الحق و ما يبدي الباطل و ما يعيد»...«قل ان ضللت فانما أضل علي نفسي و ان اهتديت فبما يوحي الي ربي انه سميع قريب»... سبأ/50و في النص ما يشير الي ان القوم كانوا يتهمون النبي بالضلال عما يحسبون انفسهم منه علي هدي و صواب... و مكان المعادلة هنا مكان طبيعي فهو قد أمر ان يقول لهم ان كنت ضللت فلا عليكم من ذلك و ان كنت اهتديت فان ذلك من فضل التوجيه الالهي في بناء نفسي و تكوين شخصيتي... و اما انتم فانكم علي طرف واحد لا يتردد بين خير و شر بل هو الشر كله... و هذا ما يفهم من غير تردد لان المعادلة تقضي بذلك...«قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم علي بينة منه بل أن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا»... فاطر/40في هذا النص امر الله نبيه ان يواجه الكفار بصريح القول في مناقشة ادعاءات يدعونها كذبا و جهلا اذ استعرض النبي امر شركائهم و طالب المشركين بأن يذكروا له ماذا خلق اولئك الشركاء من الارض و ما حصتهم التي يمتلكونها في السماوات و قد جاءهم بما وصفهم بالغرور الذي يقوم اصلا فيهم لدي كل قالة او وعد يعده بعضهم لبعض. و قوله علي لسان النبي (اروني ماذا خلقوا من الارض) كلام آت بلغة من التحدي و الاستخفاف و الردع في مخاطبة جمهرة اهل الكفر حيث ما كانوا مجتمعين او متفرقين.ان في هذا النص ما يندد به رسول الله - و هو ما يزال في مكة - حماة الاصنام و سدنتها و دعاة الشرك، اجل ان ذلك يدل علي قوة شخصية النبي صلي الله عليه و سلم فهو حقا شخصية فطرها الله علي قوة التصدي لا تنهزم و لا تخشي و لا تردد فلله انت يا رسول الله من مصلح و قائد و رسول...ان الخطاب الذي يخاطب به النبي الناس ظاهر فيه الجرأة في التصريح و القوة في المواجهة فان رسول الله صلي الله عليه و سلم كان علي هذه الحال في مجادلة قومه و لم يقع منه التذلل اليهم كالذي كان من موسي عليه‌السلام اذ قال لقومه «لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله اليكم» الصف/5... و كالذي وقع من نوح «ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين» الاعراف/67 مما يفهم منه أن النبي صلي الله عليه و سلم كان قد زوده الله بشخصية ذات سلطان و تمكين عظيمين لا يطاولهما مطاول.«قل يحييها الذي انشأها اول مرة و هو بكل خلق عظيم»... يس/79النص جاء جوابا علي قولهم «أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فاذا هو خصيم مبين، و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم»... الرد واقعي و منطقي فان من يصنع شيئا ابتداءا علي هيئة كان قد ارتآها و ارتضاها فان ذلك اذ تلف او عطب فان رده الي ما كان عليه امر جهد سهل و ذلك لوضوح صورته و استقرار القاعدة في نظام تكوينه... و انه من بديهيات المسائل ان النظام الصناعي للاليات الكبيرة و الدقيقة في أيامنا نجد من يصلحها و يرد اليها شبابها و لا عجب في ذلك. اما من زعم ان قياس النشأة الاخرة علي النشأة الاولي قياس مع الفارق بعيد جدا فما ابعده عن فهم بديهيات الامور لا سيما ما كان من [ صفحه 297] ذلك آئلا الي الله تعالي لا يقال له مثل هذه القالة المتهافتة... و سبحان الله و ما كان الكفر مما يعتمد فيه علي حقيقة واقعة او جدل مستبين...انما يقوم علي الاصل الذي تم وفقه انشاؤه... فمن اين قال مارق القوم ان ذلك قياس مع الفارق بعيد جدا و من اين جاء هذا الفارق فصار بعيدا بعدا موصوفا بالجدية المطلقة... اننا مادمنا نعتقد ان الله هو خالق الخلائق و صانع هذا الكون الشاسع و ما فيه فكيف نمنع علي هذا الخالق ان يملك القدرة علي اعادة تكوين ما هلك من خلقه و هو اعلم بسر تكوينه...اجل ان الذين ادعوا استحالة اعادة المخلوقات قياسا علي قوله تعالي «قل يحييها الذي انشأها اول مرة» زاعمين ان هذا القياس مع الفارق بعيد جدا انما هو السذاجة و غياب الذاكرة بمكان...ان مصلحي الساعات و السيارات و الهواتف و التلفزيونات يعلمون ان مثل هذه المقولة انما هي مقولة ساذجة لانهم يصلحون في اليوم الواحد عشرات من تلك الاجهزة و ذاك لانهم يعرفون اسلوب تكوينها و طريقة تأليف مفرداتها و خارطة خلقها و ايجادها و علي هذا فان اعادة التكوين لما فسد و عطب مسألة ممكنة لمن يعرف اوليات الموضوع.والخالق العظيم الذي خلق الانسان علي هيئة ارادها عزوجل و كان ذلك علي صورة ابتدعها الباري بحكمته فاذا عرض لهذا التكوين الالهي عارض من عطب فان اصلاحه هين جد هين، حتي لو كان اصلاحه قائما علي تطويره و تحسين خلقه فانه كما قلنا امر هين...«قل نعم و انتم داخرون»... الصافات/18الكلام هنا وارد في التعقيب علي قولهم «و قالوا ان هذا الا سحر مبين أئذا متنا و كنا ترابا و عظاما أئنا لمبعوثون أو اباؤنا الاولون»... جاء الجواب علي مقولتهم تلك بلفظ «قل نعم و انتم داخرون» اي و انتم صاغرون ذليلون. و اسلوب التهكم ظاهر في الجواب الذي ابلغهم به الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم...و قول الكفار في صفة اجسادهم بعد الموت بأنهم كانوا ترابا و عظاما يستبعدون به العودة الي عالم الحياة في حين ان كونهم ترابا و عظاما مما يعد من الامور الظاهرة التي يعرفها الناس في كل ارض تقوم عليها مقابر موتي الناس... ولكن ذلك من طبيعة الجدل عند المعاندين الذين يلوذون عند ارادتهم اقامة الحجة علي الغير بمثل تلك المقولات الضئيلة...«قل انما أنا منذر و ما من اله الا الله الواحد القهار»... ص/65يرد مثل هذا القول في مواجهة الكفار توثيقا لمهمة الرسول الاعظم في قومه... و جاء القول بحرف الحصر و التوكيد «انما أنا منذر» و تلا ذلك معني ان لا يكون هناك اله سوي الله الذي جاءت صفته سبحانه و تعالي في النص بانه واحد و انه قهار أي له الغلبة في ملكوته و في كل حيز من السماء و الارض و كان النبي يؤمر ان يكرر في سمع قومه بانه رسول و انه نبي و انه نذير و منذر لينطبع هذا المعني ف ياذهانهم و يتأكدوا ان رجلا جاءهم من ربهم بدين و وحي و قرآن مبين فكذبوه و خاصموه لو لم يكن صادقا لترك الأمر و لجأ الي شي‌ء آخر. و انهم رغم قسوتهم في معاملته و ادعاءاتهم ما كذبوا به علي انفسهم من انه ساحر او كاهن او مجنون كل اولئك لم يكن ليجعله يفرط في مهمته الالهية ادني تفريط... فهو النذير المبين رضوا أم أبوا...«قل هو نبأ عظيم، انتم عنه معرضون، ما كان لي من علم بالملأ الاعلي اذ يختصمون، إن يوحي الي إلا أنما أنا نذير مبين»... ص 70/67يصارح النبي الناس علي جاري عادته و موقفه انه لا علم له بالملأ الاعلي الا ما ينقل اليه من هذا الملأ علي لسان الوحي... [ صفحه 298] «قل ما اسألكم عليه من أجر و ما أنا من المتكلفين. إن هو الا ذكر للعالمين، و لتعلمن نبأه بعد حين»... ص 88/87/86جاء النفي في النص علي المطالبة بشي‌ء من اجر لقاء ما يؤديه النبي من مهام التبليغ ليكون عملا من اعماله التي يتكسب بها...«قل تمتع بكفرك قليلا انك من اصحاب النار»...النص جزء من الآية الثامنة في سورة الزمر و هي «و اذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا اليه ثم اذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو اليه من قبل و جعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا انك من أصحاب النار»... الخطاب موجه الي النبي في شأن احد كفرة منكري نعمة الله و جاحدي عظيم فضله فانه اذ كان يعاني الاعتلال و المرض كان يكثر اللياذ بالله بان يشفيه فلما عافاه الله و خوله ما خوله من نعمه نسي ربه وراح يجعل له أندادا و علي هذا جاء النص في مخاطبته «قل تمتع بكفرك قليلا انك من اصحاب النار»... و مواجهة شخص في وجهه بانه من اصحاب النار يعبر عن صراحة التبليغ النبوي الذي يحتوي مثل هذه المعاني الصارمة الموجهة الي مستحقيها في وجوههم و علي ملأ الأشهاد...«قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون انما يتذكر أولو الالباب»... الزمر/9المعادلة هنا طبيعية بين الذين يعلمون و الذين لا يعلمون او بين الذين لا يعلمون و الذين يعلمون فان في العلم هدي و نورا و رشيد تصرف و سديد سبيل... و قد سبق اصل النص بقوله تعالي «أم من هو قانت آناء الليل ساجدا او قائما يحذر الآخرة و يرجو رحمة ربه» و علي هذا كان العلم هنا العلم بالله و ما يتبع ذلك من طاعة و انابة... و في مثل ذلك من خير عميم يظهر فيه تصرف من يتصف بتلك الصفة... اما الذين لا يعلمون فان سلوكهم يكون سلوكا بعيدا عن ذلك السلوك الرشيد... علي ان النص بات من الحكم العلمية الرشيدة التي تميز بها الناس بين العالم و الجاهل في ما تضربه من امثالها... و القاعدة الاصولية تؤيد هذا اذ تقول ]ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب[ و ان كان خصوص السبب هو الاصل في التأويل و التفسير...و في النص إسلاء لمنزلة الذين يعلمون و خفض لمنزلة الذين لا يعلمون و هو دعوة ضمنية الي طلب العلم والاستزادة منه... و تهكم بالجاهلين و توبيخ للذين يحسبون الوصول الي ان فهم الاشياء ناتج من غير طريق العلم...«قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم. للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و ارض الله واسعة انما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب»... الزمر/10في النص توجيهات رشيدة يؤدب الله بها عباده المؤمنين و قد جاء ذلك بموعظة من الله أوحاها الي نبيه العظيم يصدع بها اسماع الناس و ما تزال الناس في ابان العهد المكي الذي يري الشرك مزدرعا خلاله في كل مكان... و قوله تعالي «و ارض الله واسعة» تنويه بأهمية الهجرة و لفت الانظار اليها و ذاك قبل هجرته صلوات الله عليه الي المدينة... يفهم هذا في قوله تعالي «و ارض الله واسعة»... و قوله تعالي «انما يوفي الصابرون اجرهم بغير حساب»... فيه بيان ظاهر علي ان المؤمنين في مكة كانوا يلاقون شديد الاذي و البطش من كفرة القوم و هم علي جانب من الصبر العظيم يثيبهم الله تعالي عليه...«قل اني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، و أمرت لأن اكون المسلمين، قل اني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم، قل الله أعبد مخلصا له ديني، فاعبدوا ما شئتم من دونه، قل ان الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين»... الزمر 15/11في النص كلام القاه الله علي لسان رسوله ليعبر به عن فرط طاعته لله و صدق اخلاصه في عبادته و ان الرسول يري انه الرابح العظيم الحصة في ربحه و ان الذين [ صفحه 299] خسروا انفسهم و اهليهم يوم القيامة هم الخاسرون حقا...«و لئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله، قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله ان ارادني الله بضر هل هن كاشفات ضره او ارادني برحمة هل هن ممسكات رحمته، قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون»... الزمر/38الخطاب موجه الي الكفار في مكة عمن خلق السماوات والارض و قد اجابوا بأنه الله. فواجههم الرسول الاعظم في أنهم يدعون من دونه غيره... و بذلك اوضح لهم عمق هوة التناقض في الاعتقاد بأن الله هو خالق السماوات و الارض... و ان كونهم يشركون به غيره من المعابيد الباطلة التي لا تملك ان تصنع شيئا...ثم ناقش القوم جاعلا من نفسه مثالا علي سلطان الله عليه و لا سلطان لتلك المعابيد علي أحد... فهن أعجز ما يكون العجز فيهن حين يريد الله النبي بضر فما يملكن أن يدفعن عنه ضره و ان اراده الله برحمته فانهن أعجز من أن يمسكن عنه رحمة ربه... ثم لهج النبي بقوله الذي املاه عليه وحي ربه «قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون» و هي كلمة تسبيح للخالق و لجوء اليه و توكل عليه و لياذ به وفق امر الله له بأن يكون ذلك ورده و مستديم دعائه و تسبيحه...«قل يا قوم اعملوا علي مكانتكم اني عامل فسوف تعلمون، من يأتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم»... الزمر 40/39في النص تنبيه و تحذير ظاهران وجههما الرسول الاعظم الي قومه بمقتضي الامر الالهي اليه... و جاء في التحذير انهم ان لم يحسنوا العمل فسيتعرضون للنكال من الله و غضبه الشديد...«أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا و لا يعقلون، قل لله الشفاعة جيعا له ملك السماوات و الارض ثم اليه ترجعون»... الزمر44/43جري الكلام في هذا النص علي الشفاعة و الشفعاء الذين كان عبدة الاوثان يتخذونهم من اوثانهم و سخر الله منهم اذ ناط الشفاعة لا غير... و كان الرسول الاعظم يوضح للقوم ما اوضحه الله من ان اولئك الشفعاء لا يملكون شيئا و لا يعقلون... و هم حتما لا يملكون شيئا و لا يعقلون علي ان مجاهرة النبي للمشركين بمثل ذلك في شأن آلهتهم يغيظهم و يثير سخطهم عليه ولكن النبي كان يتحمل ذلك بكل صبر...«قل اللهم فاطر السماوات و الارض عالم الغيب و الشهادة انت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون»... الزمر/46من آيات التسبيح التي امر الله نبيه ان يلهج بها و هي من بعض مالقنه الله النبي من أوراد العبادة و الدعاء اليه عز شأنه... و في النص قنوت و لياذ بالله و أنابة اليه و احتكام و هي من الادعية الدينية...«قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم»... الزمر/53في هذا النص يأمر الله نبيه ان يخاطب الناس علي لسان ربه ناسبا اياهم اليه مبالغة في تطمين نفسوهم بعظيم لطف الله بهم «يا عبادي الذين اسرفوا علي انفسهم» و قد تلا هذا النص نص ثان و ثالث يتضمن كريم وعد الله لاولئك القوم بالمغفرة و ذاك بعد دعائهم الي الانابة و الاستسلام لله «و أنيبوا الي ربكم و أسلموا له من قبل ان يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون»... و جاء بعد ذلك امر صريح بوجوب اتباع الملة التي جاء بها الرسول «و اتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم من قبل ان يأتيكم العذاب بغتة و انتم لا تشعرون»...ثم قال عزوجل في مجال ابطال معاذيرهم «أن تقول نفس يا حسرتي علي ما فطرت في جنب الله و ان كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين تري العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين»... [ صفحه 300] بلي قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت و كنت من الكافرين وراح الخطاب الالهي يتدرج في اسلوبه حتي بدأ فيه التصريح بما يهدد المذنبين من عقوبة... «و يوم القيامة تري الذين كذبوا علي الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوي للمتكبرين، و ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء و لا هم يحزنون»... هذا الفصل الخطابي الوعظي اذ يتلوه النبي للقوم ما اجتمعوا و ما انفردوا فيفعل فعله في نفوسهم. و النساء و الرجال معنيون بكل حرف من من حروفه و مخاطبون بكل كلمة من كلماته في سلب و ايجاب لقد كان النبي هو الذي يتلقي ذلك من الله فيروح يواجه قومه بما عرف فيه من حسن مواجهة و لين خطاب و خفض جناح لا يعلق به ذل و لا تكون فيه مصانعة و استرضاء...حقا انها مهمة ليست هينة و لا يسيرة بل انها شاقة ألا انها عند مستوي الاقتدار النبوي الذي زود الله نبيه به يوم بعثه نبيا الي قومه...«قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون، و لقد أوحي اليك و الي الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين... بل الله فاعبد و كن من الشاكرين»... الزمر 66/65/64يوجه الرسول الاعظم الي المشركين ممن حوله في مكة التنديد الشديد لالحاههم عليه بالخروج من فلك الايمان بالله الي عبادة معابيدهم، مما يستدل منه علي ان المشركين كانوا يردون دعوة النبي اياهم الي التوحيد بدعوتهم اياه الي الشرك... و تلك معادلة ضالة بين الحق و الباطل ترينا عظم هم الرسول في الساحة التي يقوم فيها مبلغا بالدين و داعيا الي عبادة الله رب العالمين في مثل ذلك الوسط الذي مرد علي الكفر...هذه مصارحة فيها من الزجر قسط كبير لمن سماهم الله بالجاهلين و امر بمخاطبتهم بهذه الصفة المكشوفة... و في النص توبيخ ظاهر اذ نسب اليهم امرهم النبي بعبادة غير الله و هم دون مستوي هذا الامر... و لقد كان ضغط الكفار علي الرسول الاعظم بترك ما يدعوهم اليه و الكف عن ذلك و اللحاق بهم في عبادة معابيدهم الباطلة و ذاك ما جاء الكلام عليه في نص آخر «بلفظ - و يثبتونك».«قل نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي و أمرت ان أسلم لرب العالمين»... المؤمن (غافر)/66أمر النبي أن يصارح الكفار بعظم تعلقه بربه و صدق ولائه لدينه يواجه بذلك ضغوط جهلتهم و سفهاء كفرتهم فهو يقول «اني نهيت ان أعبد الذين تدعون من دون الله» و يعلل النبي ايمانه بهذا بانه ايمان المستدل علي الحقيقة بنصوص جاءته من ربه مضافا الي ذلك انه أمر بان يسلم لرب العالمين و ذاك علي خلاف ايمان المشركين باصنامهم فانهم لم يتلقوا ذلك من وحي سماوي و لا حكمة اهتدوا اليها... ثم تلا ذلك نص يؤكد استحقاق الباري عزوجل لعبادة عباده اياه «هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغو أشدكم ثم لتكونوا شيوخا و منكم من يتوفي من قبل و لتبلغوا اجلا مسمي و لعلكم تعقلون»...«قل انما أنا بشر مثلكم يوحي الي أنما الهكم اله واحد فاستقيموا اليه و استغفروه و ويل للمشركين»... فصلت/6في الآية اكثر من ركيزة قام عليها امر الموعظة القرآنية اولها ان النبي يؤكد لهم بشريته و لم يكن في حين من الاحيان قد قال لهم غير ذلك. و الركيزة انه اكد لهم ان الله عزوجل اوحي اليه بالنبوة و هم قد سمعوا باسماء انبياء كثيرين من قبل فليس في ايحاء الله لبعض من سيصطفي من عباده من عجب. و الركيزة الثالثة هي اعلامهم بان الله واحد و هو اعلام كبير الاهمية في وسط مشرك يعبد الاحجار و يطوف حول الاصنام. و الركيزة الرابعة انه امرهم بالاستقامة اليه و الاستغفار [ صفحه 301] منه عن الكفر العالق بنفوسهم و الحقد الرابض في صدورهم و اختتم النص باعلان الويل من المشركين. ان الحوارات القرآنية للمشركين في عقر مواقع الشرك لديهم لأمر غير يسير و لا هين الوطأة... و من هنا نعلم ان جهد النبي في كل حوار يحاور به قومه انما هو جهد له اثره في سائر أوساطهم يستوي عنده في اعلي درجات الهم و السخط و القلق والتشنج شاعرا بانه لبي امر الله و نهض بعب‌ء الرسالة و واجه خصوم التوحيد بكل جرأة و صلابة موقف.«فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود، اذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم و من خلفهم أن تعبدوا الا الله قالوا لو شاء ربنا لانزل ملائكة فانا بما أرسلتم به كافرون»... فصلت 14/13في النص انذار و تخويف و ابراز لعظمة الله و قوة سلطانه اذ أمر النبي ان ينذرهم بما اصاب الكفرة الاولين من وقوع الصواعق عليهم كمثل صاعقة عاد و ثمود و قد سبق الي علم القوم من طريق الآيات و السور القرآنية ما كان قد اصاب الامم القديمة من بطش الله يوم انكروا رسله...و لم تكن العرب قبل نزول القرآن بالتي تعرف الكثير من هذه الاخبار... و جاء النص بلفظ «انذرتكم» و لم يرد بلفظ ينسب فيه الانذار الي الله أي ان الله ينذركم و ذاك لاجل ابراز شخصية النبي للدور الفعال في المواجهة و النبي كان يصدع بذلك لانه يتلقي من ربه ما يجب عليه أن يقوله لاولئك الناس... لقد كان الله قد بعث الي عاد نبيهم هودا. و الي ثمود نبيهم صالا و كلتا القبيلتين نالت من عقاب الله علي عصيانها ما نالته في سالف الازمان. و هما من قبائل العرب و سكان جزيرتها.«قل أرايتم ان كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد»... فصلت/52في هذا النقاش مسايرة للقوم بعض الشي‌ء قصد جرهم الي الارعواء و اخذهم الي نمط من النقاش سليم. و المعني ان القرآن ان ظهر لكم انه من عند الله كفرتم به فسيظهر بذلك من خلافكم و شقاقكم مالا يكون احد اضل منكم في ذلك ضلالا و أبعد منكم فيه شقاقا...«قل لا أسألاكم عليه اجرا الا المودة في القربي و من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ان الله غفور شكور»... الشوري/23من بديهات طبيعة السيرة النبوية ان الرسول كان شديد الحدب علي قومه و الحرص علي استنقاذهم من ضلالتهم و كان ذاك معروفا لسائر الناس من المحيطين به و الملمين بأخباره و جاء النص معلنا ان هذا الحرص الشديد من رسول الله علي هداية قومه لا يبتغي به شيئا من اجر او مكافأة و انما هو بفعل ما يشعر به تجاه قومه من حنو و رفق و مودة و لا شي‌ء وراء ذاك من كسب و رغبة في مغنم و اجر.اما قوله تعالي (الا المودة في القربي) فليس مما يدخل في الاجر لانه اذا دخل في الاجر صار اجرا مسؤولا عنه و مرغوبا فيه و هذا ما نقاه الله بالنص المبدوء بقوله «قل لا اسألكم عليه اجرا» انه استثناء بلاغي يراد به القول بتأكيد نفي سؤال الاجر «قل لا أسألكم عليه اجرا» و حين يكون الرسول مرسلا من ربه فليس من الامر الطبيعي ان يطلب له الله من قومه اجرا او مكافأة اما قوله «الا المودة في القربي» فالمراد منه التأكيد علي ان الحافز الذي يحفز النبي الي هذا الحرص الشديد في خدمة المبدأ الذي جاء به و تحمل اذي قومه و مرارة تعاملهم قومه و اهله و عشيرته و ليس ذلك مما يترقب من اجله مكافأة او شيئا اخر فالمودة في القربي هي صلة الرحم و حسن التغاضي عن جرائر القوم بحقه و ما الي ذلك و في الحديث النبوي «و انا آخذ بحجزكم» و في القرآن الكريم علي لسان «هود» [ صفحه 302] «اذا قال لهم اخوهم هود الا تتقون، اني لكم رسول امين، فاتقوا الله و اطيعون، و ما اسألكم عليه من اجر ان اجري الا علي رب العالمين» الشعراء 127/124و كذلك قال نوح مثل ذلك و مثلها نبي الله (صالح) و غيرهم في لوط و شعيب و في القرآن الكريم «قل ما سألتكم مه اجر فهو لكم إن اجري الا علي الله و هو علي كل شي‌ء شهيد» سبأ/47.و فيه «قل ما اسألكم عليه من اجر و ما انا من المتكلفين ص/86... و ايضا: «قل لا اسألكم عليه اجرا إن هو الا ذكري للعالمين» الانعام/90 و قال نوح: «و يا قوم لا أسألكم عليه مالا ان اجري الا علي الله...» هود/29. و كذلك قال: «يا قوم لا اسألكم عليه اجرا ان اجري الا علي الذي فطرني أفلا تعقلون» هود/51. و ايضا جاء: «قل ما اسألكم عليه من اجر الا من شاء أن يتخذ الي ربه سبيلا»... الفرقان/57.«قل إن كان للرحمن ولد فأنا اول العابدين»... الزخرف/81اول العابدين هنا من الفعل «عبد» الذي يعني الغضب و الاستنكاف اي ان كان للرحمن ولد فان مثله غير جدير أن يعبد... لقد علم الله نبيه ان يرفض قبول ما يخرج عن العقل و الحقائق الثابتة. و من ذاك ان الله لا ولد له و انه كما وصف نفسه عز شأنه «لم يلد و لم يولد» فاذا لم يكن الامر كذلك و قيل ان له ولدا فان ذلك مما يتناقض و العقيدة المعتقدة فهو جدير ان يرفض في الملة الحنيفية السمحة، فان كلمة «العابدين» تعني الحانقين الغاضبين الرافضين فان رفض ما ليس بحق يعد حقا لا مرية فيه...«قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم الي يوم القيامة لا ريب فيه ولكن اكثر الناس لا يعلمون»... الجاثية/26في النص كلام علي الاماتة و الاحياء و الحشر و حضور الحساب يوم القيامة و ذاك ما يجهله كثير من الناس من غير المؤمنين خاصة و قد امر الله نبيه أن يجعل ذلك في اسماع القوم ليتبينوا به حقائق الشريعة و دقائق عقيدة الملة و ليضع في قلوبهم ما يرعبهم من الاماتة و الاحياء و الحساب و العقاب فان لرقائق الالفاظ و الموعظة القرآنية شأنا عميق التأثير في النفوس...«قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا او أثارة من علم ان كنتم صادقين»... الاحقاف/4في النص حوار مكشوف فيه تحد و محاسبة لمن خوطبوا بذلك اذ أمر الله نبيه ان يواجه فئة الكفر في مكة يقول لهم اروني ماذا خلقوا في الارض أذ نفي عن معابيدهم ان يكونوا قد صنعوا من ذلك شيئا كما نفي عنهم ان يكون لهم شرك في السماوات و طالبهم ان يأعتوه بكتاب من كتب السماء جاءت فيه ادعاءات كهذه الادعاءات الكاذبة فان لم يكن لديهم كتاب مثل ذلك فلا اقل من ان يكون لهم أثارة من علم و مقالات يقبلها العقل و المنطق ان كانوا صادقين... و هم لم يكونوا يملكون من الصدق ادني شي‌ء...و الحوار ظاهر الوضوح و المصارحة و هو كأي من الحوارات القرآنية التي يواجه بها الرسول الاعظم الكفرة و المشركين من قومه... و بديهي ان مواجهات كهذه المواجهات تكون مصحوبة بتشنج فئات و صخب فئات و اجواء مثخنة بالشراسة لاتطاق... و كان علي النبي ان يلج هذه المجالات بحلمه و عقله و صبره و حسن جداله و جده و حزمه...و لا دلالة في مخاطبة النص اياهم بأن يأتوا بكتاب او أثارة من علم علي قناعة بانهم لديهم مثل ذلك. و انما هو نمط من التحدي الذي يراد به فضح عجز اولئك المخاطبين بما خوطبوا به و هذا مثل قوله تعالي «فأتوا بسورة من مثله...» البقرة/23... فان انيانهم بسورة من مثله امر غير متوقع بل هو مستحيل الوقوع... و القرآن الكريم اذ يعدد المعابيد الباطلة [ صفحه 303] التي اتخذها الكافر معابيد لهم من شمس و قمر و غيوم و دواب و شجر و اوثان و اصنام فانه نفي بالمرة ان يكون لعباد هذه المعابيد كتاب يزكي عبادتهم او ينوه بها او يدعو اليها. فليس ثمة في عالم الديانات كتاب يقر الشرك كائنا ما كان مصدره...«أم يقولون افتراه قل ان افترتيته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفي به شهيدا بيني و بينكم و هو الغفور الرحيم»... الاحقاف/8يشير النص الي بعض اتهامات القوم للرسول الكاذبة فقد امسكوا عن ادعاء الجنون فيه و الشعر و السحر و الكهانة و راحوا يزعمون أنه يفتري الكذب علي الله بادعاء النبوة و أوحي الله اليه ان يرد عليهم بانه ان افتراه فان الله لا يسامح في مثل ذلك عبدا من عباده و ذاك ان الله لا يخفي عليه مثل تلك التصرفات فما كان ذلك ليجعله ساكتا علي من يفعل ذلك...ان ادعاء الافتراء في الناس انما يكون من ظاهر علي غائب بحيث لا يصل اليه من امر ذلك الافتراء شي‌ء... ولكن الامر اذا كان يرجع الي الله فما من مفتر يفتري علي الله في اوسع الجنايات و اخطر الكبائر بالذي يتسامح به الباري عزوجل... و القرآن الكريم يقول «و لو تقول علينا بعض الاقاويل، لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين» الحاقة 46/44... والغريب في امر القوم و هم لا يؤمنون بالله انهم يظهرون هنا بمظهر من يدافع عن الله باتهامهم النبي بأنه كان مفتريا علي الله و النبي أولي أن يتكلم عن لسان الله من قوم ينكرون ألوهية الله... و علي هذا كان قد دافع النبي عن نفسه وفق ما علمه الله و اوحاه اليه. اجل كان رد النبي عليهم محكما غاية الاحكام و مفصلا كل التفصيل... والعجيب الذي يلاحظ علي جدل القوم المتصل الحلقات انه لا يتناول من مفردات الشريعة و مصالحها الاساسية قليلا و لا كثيرا اذ يظل يحوم حول جوانب لا تحتك بشي‌ء من اصول الدين و دقائقه و حقائقه...«قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم ان أتبع الا ما يوحي الي و ما أنا الا نذير مبين»... الاحقاف/9و يكرر النبي في هذا النص انه لم يكن اول رجل من البشر اعلن رسالته الي قومه بالدين و الشريعة... و جري التأكيد علي معني ان النبي نذير مبين يتبع ما يوحيه الله اليه علي ما كان مثل ذلك معلوما لدي سائر الامم التي جاءتها رسلها بالبينات...لقد كان المشركون يولعون بالانكار علي النبي ان يكون نبيا عجرفة منهم و جهلا و استطالة علي الحق، و ما من شك ان ضعفاء الناس كانوا يخشون هؤلاء الطغاة المتجبرين في تلك السيئات و هم اذا استوعبوا الدين و مالوا الي تقبله و اعلان اعتناقه و جدوا من سفه اولئك العتاة و شنيع مواقفهم ما يخيفهم ان يتظاهروا بالايمان و مساندة الرسول... اذ كان كفرة اهل مكة شديدي البطش بضعفاء المؤمنين لا سيما من كان من الارقاء... اذ كان الرسول صلي الله عليه و سلم ظاهر الحدب عليهم و الرأفة بهم و الرعاية لهم...«قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن اراد بكم ضرا أو اراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا». الفتح/11في النص اشارة واضحة الي ان القوم علي فرط قوتهم و اعتدادهم بأنفسهم انما هم تحت تصرف الله ان شاء نفعهم و ان شاء ضرهم... و هو عليم بسرائرهم و خفي اعمالهم و خبير بمكنونات صدورهم لا يعزب عنه منها شي‌ء.«سيقول المخلفون اذا انطلقتم الي مغانم لتأخذوها ذرونا تتبعكم يريدون ان يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون الا قليلا»... الفتح/15كان الذين تخلفوا عن اللحاق بنصرة المؤمنين بحيث قد راحوا يحاولون الوصول الي تلك المواقع [ صفحه 304] للانتفاع من المغانم فأمر الله النبي ان يرد عليهم بالمنع من اتباع المقاتلة المسلمين الذين تم الفتح علي أيديهم...و يروح هؤلاء يتذرعون بالكلام الذي لا مزعة فيه من معني اذ يدعون ان المؤمنين يحسدونهم اي انهم يحسدون المخلفين من حيث لم يتعرضوا لجرح او اذي او عناء عند عدم مشاركتهم المسلمين في غزوة خيبر و مثل هذه القالة هي التي عقب عليها النص الكريم «بل كانوا لا يفقهون الا قليلا» و صدق الله بالحكم علي امثال هؤلاء بانهم لا يفقهون الا قليلا...و قد أسلفنا الكلام علي هذا النص في آيات المعاناة. و هو نص فيه كثير من الجدل و المراجعة كما أنه يومي‌ء الي و حالة عقليات أقوام من اهل المدينة كانت ادعي الي الاضجار و أقرب صلة باللجاجة...و يلاحظ بعض ذلك في قولهم «بل تحسدوننا» مما يستدل منه علي طول صبر النبي و رسوخ الحكمة في ذاته الشريفة صلي الله عليه و سلم...ان قوله تعالي «يريدون أن يبدلوا كلام الله» أي أن يخرقوا بالقاعدة العسكرية التي اتخذها النبي في رفض الاستعانة بالفارين المتخلفين الذين نهي النبي عن تجنيدهم في جند المسلمين و هي قاعدة لعمري بمثلها تنتصر الدول و لا تخذل الامم...«قل للمخلفين من الاعراب ستدعون الي قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم او يسلمون فان تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا و ان تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما»... الفتح/16القوم اولو البأس الشديد في احدي الروايات و هم اهل العراق علي ما ذكر بعض المفسرين... و المخلفون لقب اطلق علي قوم كانوا قد تخلفوا عن الغزو مع المؤمنين... و قد اراد الله اعادة امتحانهم في الخروج لغزوة أبعد و اكبر كانت هي التي وقعت علي عهد ابي‌بكر رضي الله عنه اذ بعث جنده الي العراق و قد سماهم النص القرآني «ستدعون الي قوم اولي بأس شديد تقاتلونهم او يسلمون»...«قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الايمان في قلوبكم و ان تطيعوا الله و رسوله لا يلتكم من اعمالكم شيئا ان الله غفور رحيم»... الحجرات/14مصطلح الايمان جاء بلفظه الاصطلاحي... اما الاسلام فقد جاء بلفظه المعجمي اي الاستسلام و هو نمط بلاغي يقال له ايهام التناسب... اي انكم استسلمتم و لم تؤمنوا فلم صدقتم الايمان لما نقص الله من اجركم و حسناتكم شيئا و يغفر لكم فانه غفور رحيم و كان الله قد كشف عن هذا الامر و اعلم به رسوله اذا اعترف الاعراب بذلك قائلين ان الحاجة و كثرة العيال و الخوف من القتل و السبي قد حملنا علي ادعاء الايمان. و هذا ما نصت عليه الآية السادسة عشرة من ذات السورة «قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات و ما في الارض والله بكل شي‌ء عليم»... و قد جابههم الرسول صلي الله عليه و سلم بهذه الحقيقة التي قلنا انهم لم يجدوا بدا من الاعتراف بها...و في ذات السورة جاء قوله تعالي موضحا معني الايمان و الاسلام اذ قال «يمنون عليك ان أسلموا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان ان كنتم صادقين» الحجرات/17... الاسلام هنا علي معناه المعجمي ايضا و ليس المراد منه هنا الملة فان الله لا يريد منكم ان تمنوا عليه بأستسلامكم الذي يكفون به المسلمين أذاهم و عدوانهم، ولكنهم لو آمنوا حقا لكان لهم ان يمنوا علي الامة بذلك الايمان...«قل تربصوا فاني معكم من المتربصين»... الطور/31النص مسبوق بقوله تعالي «أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون»... جاء الرد علي هذه المقولة باسلوب هادي‌ء فيه حجم من التهكم غير قليل... اما حكاية التربص هذه فهي ان القوم كانوا يتهمون الشعراء بالتعرض للقتل من جراء ما يقع منهم من تحرشات بهجو [ صفحه 305] القبائل و ما الي ذلك و ليس النبي صلي الله عليه و سلم بشاعر يتعاطي ذلك او يفعله فليتربصوا ما شاء لهم التربص.«قل ان الاولين و الاخرين، لمجموعون الي ميقات يوم معلوم»... الواقعة 50/49في النص اشارة الي يوم الحشر الاكبر اذ يجتمع الناس جميعا امام باري‌ء الخلائق ليكون هناك الحساب الذي تتبين به اعمال الناس ممن آمن و ممن لم يؤمن...و في ذلك لفت لانظار القوم الي تعرضهم للحساب الالهي العظيم و قد قرب الله اليهم ذلك اليوم علي بعده موعظة و حثا علي اللحاق بركب الايمان...«قل يا أيها الذين هادوا ان زعمتم أنكم اولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين، و لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين»... الجمعة 7/6الثابت من خصائص اليهود فرط خوفهم من الموت و ذلك لعظم انكبابهم علي الحياة، و كان القرآن الكريم قد لمح الي ذلك «و لتجدنهم احرص الناس علي حياة» البقرة/96 و يناقض ذلك ما يدعون من انهم اولياء لله من دون الناس و انهم شعب الله المختار و انهم ابناء الله و احباؤه، اجل يناقض هذا ما هم عليه من فرط الخوف من الموت اذ لا يخاف الموت و لا يخشي لقاء الله من كان صادق الايمان لانه لن يلقي لدي الله الا الرحمة و المغفرة و الثواب العظيم...«قل ان الموت الذي تفرون منه فانه ملاقيكم...»... الجمعة/8لم يقل ملاحقكم. لان في الملاحقة عناءا ظاهرا و لانها قد يقع فيها التقصير، كما يقع فيها الانقطاع و المتاهة و التفاوت في الوجهة... اما الملاقاة فلا شي‌ء فيها من ذلك بل فيها اليسر المتحقق للموت في اصابة ضحاياه الذين يأتونه سعيا لان الفرار يعتمد اقصي درجات السعي. و يسلك الي النجاة بالخطي الواسعة...اما ارتباط النص بالفاء «فانه ملاقيكم» فهو متصور فيه وصف حالة الفرار بصفة فيها بعض الشرطية... مهما فررتم. اي مهما بذلتم من محاولات الفرار و التملص و الاستخفاء و التمويه لان الفار من خطب او خطر يلوذ بأكثر من وسيلة...و في كلمة... «ملاقيكم» معني المباغتة و المفاجأة و القدرة علي المواجهة، فلا سبيل للنكوص و الانسحاب و الاستدارة لان الوقوع في كماشة الموت صار امرا محتوما... كما ان الملاقاة تنشي‌ء الذهول في الفارين الذين انفقوا الوقت الطويل و بذلوا الجهد الثقيل للابتعاد عن الخطر، فاذا انهم قد اضاعوا كل ذلك و وقعت عليهم واقعة الموت حيث حدد الموت لهم الوقت الملائم منذ تخطم لهم و ترصدهم و جلس علي طريقهم الذي ظنوه ابتعادا فكان اقترابا و حسبوه ادبارا فاذا هو مواجهة...«قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين»... الجمعة/11رأس الاية «و اذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا اليها و تركوك قائما»... و قد أمر الله النبي أن يرد عليهم رد عتاب فيه شي‌ء من القسوة لسوء ما وقع منهم من ترك الاصغاء الي الخطابة و الرسول قائم علي منبره... ان امر الطاعة امر عظيم فقد كان القوم لا يرون فيها اكتمال شخصية الرجل و تلك هي خصال الاعراب اذ لم تحكمهم النظم التي تجب اطاعتها الا بمقدار ما كانوا قد ألفوه و هم علي خرق ذلك لمعتادون... و ان كان سبب خروج الجماعة الي السوق قبل ان يتم الرسول خطبته ناشئا بفعل التجارة التي اقبلت بها الابل تقرع اجراسها لذلك رد الضمير اليها دون ان يرد الي اللهو الذي ورد ذكره مقترنا بها... و من طريق القياس يفهم انهم كانوا سيفعلون مثل ذلك عند عروض حالة لهو عرضت لهم... [ صفحه 306] و في النص احتواء و انتماء الي ركن المعاناة من هذا الباب فانه ليشق علي الخطب و هو علي منبره أن تنفض عنه جموع مستمعيه و هو كذلك اي هذا الانفضاض يدل علي فقدان اللياقة و حسن الاصغاء. و خطبة الجمعة ركن مهم في العبادات و في الصلاة خاصة اذ لا يجوز فيها التحرك و التململ و الكلام فضلا عن مغادرة المسجد و الخروج الي اعمال ليست من بعض العبادة و لا من صورها و اشكالها... كما ان الامر مكشوف و مفضوح و مشهود «انفضوا اليها و تركوك قائما» علي ان الذين صنعوا هذا صنعوه امام جمهور من اتقياء المصلين و فضلاء المؤمنين... و قوله تعالي «قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين» تقريع و توبيخ لهؤلاء الذين رجحوا حطام الدنيا علي ثواب العبادة و اجر الصلاة و أهمية التعليم الديني الذي كان الرسول يمليه عليهم و هو فوق منبره...ان بعض ما لقيه النبي من الناس في المدينة لم يكن أقل اذي مما لقيه منهم في مكة رغم أن هذا الاذي يعرض له صلي الله عليه و سلم من فريق من اتباعه الذين يحصون في جماعة المسلمين... أجل لقد كان انتصار النبي و قيام عمود دينه و توحيد ما تفرق من كلمة أمته و التمام ما تشتت من جموعهم و تبعثر من نظامهم لقد كان ذلك ثمرة معاناة كبيرة عاناها النبي و جهود متتالية انفقها و صبر كبير صبر لم يصبره نبي من قبله و مكابدة كابدها خلال عهدي جهاده و دعوته في مكة و المدينة و صلي الله عليك أيها النبي العظيم و أيها الرسول الكريم و ايها البشير النذير و أيها المصلح الكبير...«زعم الذين كفروا ان لن يبعثوا قل بلي و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما علمتم و ذلك علي الله يسير»... التغابن/7الذين كفروا و هم في العادة ينكرون وجود الله كما ينكرون سلطانه تعالي في ملكوته لا يستغرب منهم انكار البعث و النشور. و قد فند الله مقولتهم و سمي ذلك منهم زعما... و هو علي الله حقا يسير جد يسير...«قل هو الذي انشأكم و جعل لكم السمع والابصار و الافئدة قليلا ما تشكرون»... الملك/23يعد هذا النص من بعض المفردات القصيرة و هي تتكلم في ذات الله و في ما كان قد خلق من خلقه ذارئا فيهم السمع و الابصار والافئدة التي تعد عماد وجودهم علي هذه الارض الا انهم قل ان يشكروا الباري‌ء الكريم علي ما يراه فيهم من هذه الملكات و الجوارح و مقومات الوجود...«قل هو الذي ذرأكم في الارض و اليه تحشرون»... الملك/24أمر النبي ان يعلم الناس ان الله هو الذي ذرأهم اي خلقهم و جعلهم اهل الارض يتمتعون فيها بما يتمتع الاحياء من خير و رفاه و سعادة ثم انهم سيحشرون الي الله بعد موتهم يوم تحشر الخلائق الي رب العالمين.«قل انما العلم عند الله و انما انا نذير مبين»... الملك/26في النص تركيز علي ان العلم عند الله و المراد بالعلم هنا ما كان من الغيوب التي لا يصل اليها الانسان و كان النبي صلي الله عليه و سلم نذيرا للامة. و كلمة النذير تعني ما تعنيه كلمة النبي و الرسول... و هذا ما كان يتكرر في معظم السور لكي يكون بمثابة اعلام مستديم لسائر الناس ممنه يبعث الله نبيه اليهم.«قل ارأيتم اهلكني الله و من معي او رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم»... الملك/28و في جواب علي ذلك جاء النص القولي «قل هو الرحمن آمنا به و عليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين» الملك/29...«قل أرأيتم ان اصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين»... الملك/30 [ صفحه 307] هذه الآية و ما قبلها من آيات السورة كلها تؤكد علي معني واحد هو ابراز عظمة الله... و ان عبادة الاصنام لدي عابديها من كفار القوم لا ينشأ منها ان يكون لتلك الاصنام دور في خلق العباد و رزق الاحياء و تدبير معايش الناس و لم يفكر احد من عابديها بتحميلها مثل هذا التكليف. و كانت الحجة الكبري المقامة علي عبدة الاوثان هي ان هذه الاصنام لا وجود لها في عالم الحياة و انما ترد الامور في هذا المجال الي الله الذي هو خالق كل شي‌ء و هو الضار النافع و المعطي المانع و المحيي المميت... اجل كان لهذا التعليم و التوجيه في عقول الناس أثره الفعال و عطاؤه العظيم... فان الرسول الاعظم يوم لحق بالرفيق الاعلي لم يترك بعده من عابدي وثن واحد في جزيرة العرب وء هكذا ختم الله جهاد رسوله الاعظم بالتوفيق التام و الفوز العظيم. و بذلك تحققت المعجزة العظمي في شخصية محمد بن عبدالله رسول الله صلي الله عليه و سلم...«قل أوحي الي أنه استمع نفر من لجن فقالوا إنا سمعنا قرانا عجبا، يهدي الي الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا احدا»... الجن/1النص يشير الي ان النبي قد أخبر من قبل الوحي بان نفرا من الجن قد استمعوا الي النبي و هو يتلو القرآن الكريم و في آية اخري من سورة الاحقاف هي التاسعة و العشرون «و اذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضي ولوا الي قومهم منذرين»... و ليس في النص هنا اشارة الي ان النبي صلي الله عليه و سلم لقي الجن او واجههم فكلمهم و كلموه.ان الله اوضح في كتابه العزيز ان الناس لا تري الجن و ان كانت الجن تراهم «انه يراكم هو و قبيلة من حيث لا ترونهم» الاعراف/27... كما ان ادعاء رؤية النبي للجن ستكون مستغلا للخصوم يزعمون عنده ان للجن دورا و وجودا في قرآنيات القرآن فالرسول لم ير الجن و ما كان له ان يري من قال فيهم الله انهم لا يراهم الانسان بحال من الاحوال و ما ورد من الاقاويل في ان الرسول قد رأي الجن و استقبلهم و تحدث اليهم لا صحة له... اما حديث من قال ان النبي لقي ابليس فأراد ربطه بسارية المسجد يكون محل سخرية صبيان المدينة فان الكلام الآتي علي ذلك رمزي و تمثيلي قصد الاعتبار و التوعية الدينية...و قول النبي ]ان الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم[ فانه لا يدل علي تلبسه في جسد الانسان و انما هو لقوة سلطان الشيطان علي البشر من جهة الاغواء و الوسوسة و ذلك شي‌ء نفسي لا عضوي...و اما قوله تعالي في آكلي الربا «الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس» البقرة/275... فذاك قد جاء علي مذهب العرب ايام جاهليتهم في تصور الشيطان و تعامله مع الناس و هو استعمال لغوي بلاغي لادخل للعقائدية فيه و انما جاء ذلك لتهويل امر الربا و تبشيعه و استعظام إثمه...و من ذلك في باب التهويل قوله تعالي «انها شجرة تخرج في اصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين» الصافات 65/64 فانه لمن يريد ان يصل الي هذا الطلع اذ يسمع انه كرؤوس الشياطين فانه ينكمش عن الرغية في ما يريد الوصول اليه.ان النبي لم يكن قد رأي الجن و قد مر بنا ان نفرا منهم استمعوا اليه يتلو القرآن فكان ذلك باعثا فيهم نشوة الاعجاب «و اذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضي ولوا الي قومهم منذرين». الاحقاف/29...والكلام في الموقعين واحد و قد تكون السورة الحاضرة مشيرة الي آية الاحقاف و متحدثة علي ما تحدثت به تلك الاية... و في النص ما يدل بوضوح علي ان الرسول اخبر بوصول الجن اليه و استماعهم لقرآنه عن طريق الوحي الذي اخبره بذلك... و السورة كلها في موضوع واحد فيه بعض الاسهاب و التفصيل... و معاني السورة ظاهرة واضحة في هذا الصدد... [ صفحه 308] «قل اني لن يجيرني من الله احد و لن اجد من دونه ملتحدا، الا بلاغا من الله و رسالاته و من يعص الله و رسوله فان له نار جهنم خالدين فيها ابدا»... الجن23/22في النص بيان بان ملاذ النبي هو الله و انه لن يجيره منه احد اذا طلبه... و مثل هذه المعاني افتراضية لابد من بيانها لاثبات عمومية السلطة الالهية في سائر ارجاء ملوت الله... ان الانبياء اكثر معرفة بعظمة الله و هم اكثر الناس استغفارا و انابة اليه تعالي ليكونوا محل اعتبار المؤمنين و غيرهم...«قل ان ادري اقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا، عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا، الا من ارتضي من رسول فانه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا، ليعلم أنقد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصي كل شي‌ء عددا»... الجن 28/27/26/25والكلام الذي يخاطب به النبي القوم يجول في مجال غيبي يعلمه الله و لا يعلمه البشر، لذلك فهو يعلن للقوم انه لا يدري أقريب ما يعدهم الله به ام انه بعيد يعلم الله أمده وحده... و في ذلك تعبير عن ايمان النبي المطلق بربه و عدم تجاوزه حدوده و حقوقه في مثل هذه المواقف... و هي كذلك سورة عالجت اخطر العقائد الشائعة لدي المشركين و الكتابيين فوضعت كل نقطة عند الحرف الذي هي نقطته بايجاز تام فصارت سورة تستعصي علي النسيان لسهولة حفظها و التمامها في الذهن ن غير ان تتناثر في ارجائه...ان موضوع التوحيد شغل الرقعة الزمنية في مكة ثلاث عشرة سنة و شغل من الرقعة الزمنيه المدنية ما شغل ايضا لان عرق العقيدة الاسلامية هو توحيد الخالق فانه تعالي لا يغفر به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء...«قل يا ايها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، و لا أنتم عابدون ما أعبد، و لا أنا عابد ما عبدتم، و لا انتم عابدون ما أعبد،لكم دينكم ولي دين». الكافرون6/1ففي هذا القول مجاهرة أمر النبي ان يواجه بها الكفار بما ينقض عباداتهم و يقضي بابطالها و التبرؤ مما يعبدون و الباسهم لباس الكفر «و لا انتم عابدون ما اعبد» و قد تم تحميلهم مسؤولية ما اختاروه من دين الكفر اذ امر الله نبيه ان يتنصل من دينهم و ان يستمسك بدينه و الخطاب صريح في مجابهة الكفار بلفظ «يا أيها الكافرون» و كان ذلك يغيظهم كل الغيظ لا سيما اذ كان النبي في اول عهده بابلاغ رسالته في مكة اذ كان ما يزال ضعيف العصبة لا اعوان له. و في السورة اسلوب بلاغي قائم علي التكرار التوكيدي الممتلي‌ء تحديا لاولئك الكفار و استقباحا بكفرهم و مقدمات النصوص في الدعوة الدينية التي جاء بها الرسول مما سبق ايراد الكلام علي نوعية هذا الكفر الذي هو عبادة الاصنام و الذي جاءت الشريعة من اجل صرف الناس عن مثل هذه العبادات الي عبادة الله الواحد الاحد الذي لا شريك له.و ظاهر كل الظهور ان القوم كانوا اذا واجههم الرسول صلي الله عليه و سلم بمثل هذا التحدي تشتد خصومتهم له و سوء مقابلتهم التي يفرغون فيها نقمتهم و حقدهم عليه و علي من يقع بايديهم من اتباعه المؤمنين بدينه... و مما يلاحظ في مثل هذه المواجهات ان الرسول صلي الله عليه و سلم كان في غاية القوة و الاعتداد بعقيدة التوحيد و مبادرة الكفار بجرأة منقطعة النظير و لابد ان يكون من بعض هذه المواجهة انه يفاجئهم و هم امام اصنامهم في الكعبة يتحداهم و يتحدي اصنامهم و يسفه احلامهم التي لم تكن لتعصمهم عن عبادة احجار لا تضر و لا تنفع و لا تستجيب لطالب يطلب منها شيئا.«قل هو الله احد. الله الصمد. لم يلد و لم يولد. و لم يكن له كفوا احد»... الاخلاص 4/1 [ صفحه 309] سورة الاخلاص من قصار السور ولكنها تتضمن خلاصة العقيدة الاسلامية المتعلقة بذات الله تعالي فهو واحد احد و هو قصد الخلائق و ملاذهم و مرجعهم في كل رجاء و طلب و انه تفرد في ذاته فلا صاحبة له و لا ولد و انه لا احد يشبهه علي الاطلاق او يماثله... فهي سورة تنزيه يسبح بها الله و يعظم و اما صفته بالصمد فانها تعني. انه محل رجاء الخلائق كلها في ادق حاجاتهم و أجلها...«قل اعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، و من شر غاسق اذا وقب، و من شر النفاثات في العقد، و من شر حاسد اذا حسد». الفلق 6/1هذا النص يتضمن احدي المعوذتين اللتين امر الله نبيه أن يتعوذ بهما من جمهرة شرور كانت سائدة لدي الناس، كما ان هذا التعوذ موصي به سائر المسلمين فانه تعوذ بالله و قد جاءت صفته سبحانه و تعالي بربوبية الفلق الذي هو الصبح فانه تزول به المخاوف و تظهر الاشياء علي حقيقتها و تزول الاشباح و يري كل بعينه سبيله و طريقه...و يتصرف هذا التعوذ الي شرور بعض المخلوقات التي تتعشق الشر و تهوي الفتنة و تألف العدوان لا سيما و النهار آت بساعاته الطوال و تزاحم الناس علي الاعمال... و جاء في مفردات ما يتعوذ منه «الغاسق» و هو الليل (اذا وقب) اي اشتد و صار دامس الظلمة و من تلك المفردات «النفاثات في العقد» و المراد بهن السواحر. ذكرهن ببعض ما يلازمهن من صفات ابرزها صفة النفث في الوجوه او الاشياء فهن يفرقن بين المرء و زوجه... و اللفظ يشمل السحرة و الساحرات... و السحر لا اصل له و انما هو محرقات و خفة يد و استدراج ولكنه اذ كان يكثر الشر فيه و المقاصد غير الشريفة فانه نظرت اليه الشريعة نظرة ارتياب. و اخر مفردات التعويذة هو الحاسد يستعاذ من شر حسده فان الحساد يتمني زوال نعمة المحسود و هو من الأم خصال اللؤماء و الغادرين الذين لا يستحون من الله والناس... ان الله عزوجل وصي نبيه ان يستعيذ من هذه الاصناف ذات الاذي الشديد فانهم ممن لا حيلة فيهم و لا منجاة منهم.«قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، اله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس». الناس 6/1و هذه معوذة ثانية سميت و معها المعوذة الاولي بالمعوذتين و قد صارتا في مكان ما كان الرقاة يرقون به المرضي و الهلعين و المرتعبين و الملسوعين تصبيرا لهم حتي يصنع لهم العلاج العضوي المادي فان للعلاج النفسي في بدء عروض العلة و ظهور بوادر المحنة الاثر النافع بفعل تقوية المعنويات التي تعين علي الصبر و تدفع آفة اليأس عن الانسان من لديغ او خائف او عليل...و نص التعويذة في السورة الكريمة يبدأ بالامر بالاستعاذة بالله رب الناس و خالق العباد الذي هو ملك الناس و الحاكم المطلق فيهم و الذي هو اله الناس و معبودهم الذي يتعبدون له... و تنصرف الاستعاذة هنا الي شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس و المراد به من كان يفعل ذلك من جن و من إنس و جري التساوي بين الجن و الانس في مجالات الشر و الخبائث الا ان الفريقين يتكتمان في ذلك واكد الله هنا و في مواقع اخري من الذكر الحكيم إن الانس لا يقلون شرا في هذه المسائل عن الجن و ذاك ليقلل من اهمية الجن الذين كانت الناس تخافهم كل الخوف و ترتعد من ذكرهم و في الانس من هو اكثر شرا من الجن و ابلغ خبثا و مكرا و دهاءا منهم. و في هاتين المعوذتين ما يوحي بأن الباري الكريم و هو يعصم الرسول من اعدائه ايا كانوا و كيف كانوا ولكن رسله بشر معرضون لخصومة كثير من انماط الناس و اصنافهم و في المعوذتين تحذير من بغاة الشر و مقترفي الجنايات... و التعوذ من شرورهم يجعل المتعوذ في موقع من الحذر و التحوط و التربص و الدفاع عن النفس. [ صفحه 310]

تعقيب علي الايات القولية

لقد تابعنا الآيات القولية التي أوحي الي النبي ان يقولها لقومه ابان العهد المكي و العهد المدني... و لقد لاحظنا كثرة عددها و تفاوت احجامها و تنوع مقاصدها و من بعض ذلك غلبة الجانب الجدلي عليها و مصارحة من خوطبوا بها من الكفار في صفة عظم كفرهم و شدة ضلالهم... و كان النبي يخرج من بيته كلما أو عز اليه ان يصارح القوم ببعض جرائرهم و كفرهم و افكهم فكان يبادر الي ذلك علانية حيثما وجد قومه و أني التقي بهم من غير ان يخشي منهم بطشا و اساءة خطاب و قسوة كلام...ان الاوامر القولية جاوزت الثلاثمئة آية في كتاب الله و كان النبي يصدع بها واحدة فواحدة و لم لكن يكتفي بتلاوة النص القرآني الموحي به اليه و انما كان يناقش المجادلين من الكفار و المشركين نقاشا ينفق له من الوقت ما ينفق و يفرغ له من الجهد ما يفرغ لا سيما اذ تكون الجهة المجادلة ذات عناد و تشغيب و عدم التزام بآداب الجدل و المناظرة سؤالا و جوابا...ان مهمة الرسول الاعظم محمد بن عبدالله لتتجلي خلال ثلاث و عشرين سنة في صورة صراع... و هذا الذي نجده في آيات القول قد يكون مصورا القليل من هم الرسول بقومه في مرحلته النبوية العظيمة.

آيات التبيين‌

مما و كله الله الي رسوله صلي الله عليه و سلم من مهام الرسالة و وظائفها ان يبين للناس امورا جاء بها القرآن لتعلمها الناس و تقف علي فحواها و محتواها... و بديهي أن مسألة التبيين هذه تتطلب في كثير من الاحيان جهدا جهيدا لا سيما حين يكون المخاطبون من ذوي العناد و بطء الفهم و اللدد في الخصومة. و فيما يلي ما هناك من آيات تضمنت ذلك...«يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين»... المائدة/15الخطاب هنا لاهل الكتاب والرسول المرسل هو محمد صلي الله عليه و سلم و لاعزاز موقف الرسول اضافة الله الي نفسه. و كانت مهمة الرسول هنا ليست بالمهمة اليسيرة لانه اقبل علي اهل الكتاب مصححا و مرشدا و هاديا و لم يكن اهل الكتاب بالدين يهشون لرسول يأتيهم من غير ملتهم و قد كان ما يصل اليهم من الرسل كلهم من ملتهم و من المتكلمين بلسانهم و من هنا نعلم ان مهمة النبي هذه تتطلب في شخصية الرسول ان يكون كبير الجلد و عظيم الصبر و ذا حلم و رفق و لين و تلك كلها كائنة فيه صلي الله عليه و سلم.«يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم علي فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير و لا نذير فقد جاءكم بشير و نذير والله علي كل شي‌ء قدير»... المائدة/19البشير النذير هنا هو محمد بن عبدالله النبي العربي الذي بعثه الله للعرب و العجم و لسائر اصحاب الديانات القديمة و لعبدة الاوثان و سائر ابناء البشر حيثما كانت مساكنهم. و امر كهذا الامر جد ثقيل علي اهل الكتاب و لا سيما اليهود الذين لا يؤمنون الا الانبياء منهم، علي أن فريقا من هؤلاء الانبياء - الذين هم منهم - أوذوا و قتلوا فكيف اذا كان النبي الذي بعث اليهم علي فترة من الرسل ليس منهم...«و ما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء و يهدي من يشاء و هو العزيز الحكيم»... ابراهيم/4النص عام يشمل من سبق من بعثهم الله رسلا الي اقوامهم. و رسول الله صلي الله عليه و سلم هو أحدهم ينطبق علي رسالته الميثاق الذي اخذ الله اقوامهم علي سائر النبيين من قبل... و بديهي ان الرسل حين يأتون اقوامهم بالعقيدة التي يصححون بها فاسد [ صفحه 311] المعقتدات القديمة. فان اممهم تواجههم بالشدة و التكذيب حتي يحقق الله لنبيه شيئا من النصر بالتحاق طائفة من المؤمنين به... و في عيسي اذ ارسله الله الي بني‌اسرائيل قال الله: «فآمنت طائفة من بني‌اسرائيل و كفرت طائفة»... و كون لسان النبي من لسان قومه فان ذلك اخري ان يقيم جسرا من التفاهم بين النبي و بين قومه.كما ان النبي اضافة الي وحدة اللسان بينه و بين قومه فانه لابد ان يكون عائشا في اوساطهم ليكون ملما كل الالمام بعللهم و عاهاتهم و سائر حاجاتهم ليطمئنوا هم ايضا الي شخصيته و شخصية بيته و نسبه و شي‌ء من تاريخه. و لابد أن تكون للنبي المرسل الي قومه صلات قرابة بأسر اولئك القوم ليجد منهم العون اذا استعان بهم.ان كلمة «ليبين لهم» تتضمن مطالب كثيرة وفق وضع كل امة من تلك الامم و الا كان هناك تفاوت بين تصور النبي و واقع قومه...«... و أنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم و لعلهم يتفكرون»... النحل/44الذكر هو القرآن المبين، و كان علي الرسول الاعظم و قد ارسله الله بالذكر الحكيم أن يبين ما انزل الله فيه من شريعة و احكام في العبادات و المعاملات و شؤون الحياة لقوم ما انذر آباؤهم من قبل و هذا التبيين ليس بالامر اليسير كما أنه ليس له سقف زمني محدد ينتهي عنده دور الرسول و انما هو متصل مترابط الحركات يستغرق وجود النبي في قومه من يوم ابلاغه برسالة من ربه الي اليوم الذي ينسخ الله فيه شريعته بشريعة تالية و هذا ما عرف من امر الديانات القديمة التي نسخت بالاسلام... اما رسالة محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم فهي باقية حتي قيام الساعة لانها خاتمة الديانات و النبي الذي جاء بها خاتم الانبياء و المرسلين...«و ما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه و هدي و رحمة لقوم يؤمنون»... النحل/64النص واضح يلزم به النبي بأن يتولي تبيان شريعته للناس هاديا و مصححا و مرشدا و مقوما للاوضاع المتباينة في امته. و النص آت في رسول الله صلي الله عليه و سلم و قد كان وفق حسن ثقة الله فيه، اذ بين الدين و اقام صرح الايمان في المؤمنين و وحد الامة و نشر العقيدة الصحيحة في سائر ارجاء العالم...و من ملاحظة كلمة «التبيين» نعلم عظم المهمة التي و كلها الله الي انبيائه علي مختلف العصور و قد اختارهم وفق حكمته الحكيمة و تقديره السديد و حرصه المتميز و تفانيه في اداء الواجب... مما تعد مشغولية النبي فيه مشغولية لا يحدها زمان و لا مكان...

باب الاستماع

هذا باب واسع يمكن ان يحصي في المواجهة و يمكن ان يحصي في المعاناة و فيه ما يثبت به الالتقاء بين الرسول الاعظم و بين الناس و فيه ما يدل علي صدق الاصغاء و علي كذبه و يتمثل فيه جهد الرسول الاعظم في مهمة الابلاغ والجدل و المخاطبة و ما الي ذلك مما لا يقع عادة الا في حيز واحد...ان الاستماع هو بريد القبول و الاقتناع و الوقوف علي مكنون الامر ولكن طبيعة العناد في الفئات التي تدعي الي الاسلام من المشركين رغم انها تتلذذ بالاصغاء الي كلام الله لبلاغة ادائه و حسن تفصيله و رائع حججه و بيناته فانها كانت في الغالب بطيئة الاستجابة و ان كانت كفة الايمان قد رجحت لديها في النهاية...ان الذين سلكوا سبيل العناد اول الامر استجاب الكثير منهم الي الرسول و كان هذا هو الدافع الذي جعل من اسلم متأخرا يستميت في الدفاع عن الدين تصحيحا للموقف القديم و تعبيرا عن فرط القناعة لهذا [ صفحه 312] الملة ذات العقيدة الصحيحة التي تقبلها الناس بعد القناعة التامة و من دون مغريات اغري بها المؤمنون [73] ...فيما يلي آيات الاستماع مقرونة بما يكفيها شرحا و ايضاحا و من الله العون و الهداية.«و منهم من يستمع اليك و جعلنا علي قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرأ و ان يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتي اذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا ان هذا الا اساطير الاولين»... الانعام/25الآية مسبوقة بقوله تعالي «انظر كيف كذبوا علي أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون»... و المراد بهم جماعة المشركين في مكة. ان هؤلاء اذ يستمعون الي الرسول و هو يتلو القرآن او يشرح الاحكام او يخاطبهم بما يجعلهم يقبلون علي الدين و يصغون الي ندائه فانهم كانوا و كأنهم يسمعون و مثل هؤلاء ممن لا تصل الكلمة الي قلوبهم لا جدوي فيهم... لقد شاء الله ان يسلب هؤلاء الناس القدرة و الارادة في قبول شي‌ء أو رده فحكم عليهم بانه سلبهم السمع و الفهم و استيعاب ما يدور في حلقتهم من الرشاد و القول الحكيم بل ان القوم اذ عطل الله مداركهم عن الفهم والاستيعاب بلغوا من جهلهم و فرط بغيهم انهم اذا جاءوك فجادلوك و امكنتهم من ان يقولوا ما يشاءون فانهم يروحون يزعمون ان ما تقوله هو من اساطير الاولين...ان ذلك يعني اللجوء الي الاشي‌ء في حين ان ما ادعوه من اساطير الاولين جدير ان تكون له قيمة مقومة ولكن المبطلين لا يملكون سندا و لا شبهة و لا حجة من الحجج علي رفض ما يرفضون و انكار ما ينكرون...«و منهم من يستمعون اليك أفأنت تسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون»... يونس/42الكلام هنا علي مشركي اهل مكة الذين كانوا يحضرون ساحة الدعوة الي الدين اذ كان النبي يكلمهم في مسائله و مفرداته ولكنهم كانوا قد طبع الله علي سمعهم فلم يكونوا يستوعبون ما يستمعون. فجاء بعد هذا النص قوله تعالي «و منهم من ينظر اليك أفأنت تهدي العمي و لو كانوا لا يبصرون». فاذا ان العبرة بالسمع فقد ذكرهم فيه مجتمعين اما في حالة الكلام علي النظر فانه تعالي أورد الفعل فيهم مفردا ولكنه حكم عليهم جميعا بالعمي ثم حكم الله عليهم لأنهم كانوا اشد الظالمين ظلما... «ان الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون»... و كيف لا يكون الظلم ظلما مبينا حين يجتمع اولئك المشركون و الرسول بينهم يستمعون اليه و ينظرون فلا يقع من قوله السديد و موعظته البليغة و هدية الحكيم في نفوسهم شي‌ء...«نحن أعلم بما يستمعون به اذ يستمعون اليك و اذ هم نجوي اذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا»... الاسراء/47يبدو من النص ان كفار مكة كانوا يعقدون في ما بينهم حلقات يتدارسون فيها الامر الذي جاء به رسول الله صلي الله عليه و سلم ليتخدوا في صدده القرار الذي برتؤنه. ولكنهم لم يكونوا يخرجون الا بادعاء ان النبي ليس الا رجلا مسحورا و ان هذه ليست الا مقولة كانوا يقولونها منذ الهزيع الاول وفاتهم ان مقولتهم هذه لم تكن الا فراغا لا محتوي فيه... و يبدو أن القوم كانوا يواصلون الاصغاء و الاستماع الي ما كان النبي يتلوه من القرآن و هو - اي القرآن - كان واضح القصد ظاهر المعاني و الغاية المتغياة فيه تحوم حول مطلب معلوم هو توحيد الله و رفض الاوثان و الاصنام و ليس في شي‌ء من ذلك ما يشق فهمه و يعسر ادراكه و ادعاء كون النبي مسحورا ليس الا كلاما ملقي علي عواهنه و لا يصح ان يكون بعضه او كله نتيجة لما استمعوه من الرسول... و قوله تعالي «اذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا [ صفحه 313] مسحورا»... انما هو قول عامة القوم يومذاك... يقولونه علي جهة القدح و ليس علي جهة الوصف...«قل الله اعلم بما لبثوا له غيب السماوات و الارض أبصر به و أسمع مالهم من دونه من ولي و لا يشرك في حكمه أحدا»... الكهف/26موضوع اهل الكهف لم يرد في القرآن علي وجه السرد التأريخي انما ورد للاعتبار بحدث يستحق الاعتبار لذا لم تكن هناك من اهمية لعدد من كانوا في الكهف و لا لما مر عليهم فيه من زمن و اذ ان الله عزوجل له غيب السماوات و الارض فما ان يغيب عنه من حال اصحاب الكهف شي‌ء... و قوله تعالي «أبصر بهم و اسمع [74] » خطاب للرسول الاعظم يدعوه الي أن يعظم العلم الالهي سمعا و بصرا توكيدا للعقيدة القائلة بان الله لا يخفي عليه شي‌ء في الارض و لا في السماء و هو يري و يسمع و يعلم ما تخفي الصدور... و هذا مما اراد الله ان يستقر في فهم النبي ربه...«أسمع بهم و أبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين»... مريم/38قوله تعالي «اسمع بهم و ابصر يوم يأتوننا» هو خطاب للنبي بان يحكم لهم بقوة السمع و البصر يوم الحساب الاكبر فما يملكون بذلك التملص من سؤال يراد منهم الاجابة عليه و كانوا في الحياة الدنيا يتعامون عن رؤية الحقائق و يتصامون عن سماع كلمات الله استكبارا و أنفة و غرورا...«و كم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا»...مريم/98قوله تعالي «هل تحس منهم من أحد او تسمع لهم ركزا»... اي انهم انقرضوا كل انقراض و زالوا كل زوال بيانا بعظم بطش الله بهم. علي انه لا احد من الناس يومئذ يشعر بوجودهم ولكن الله اراد ان تكون شهادة النفي هذه شاهدا بها النبي وحده لصدق شهادته و صحة قراره...«نحن أعلم بما يقولون اذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم الا يوما، و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعا صمصفا، لا تري فيها عوجا و لا أمتا، يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له و خشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا»... طه 108/104في هذا النص استشهاد بالرسول الاعظم علي ما يكون ساعة قيام الساعة من نسف الله الجبال بحيث لا يبقي بعد نسفها شي‌ء مرتفع او منخفض و جعل النبي شاهدا علي ذلك و جاء بعد هذا النص قوله تعالي «و خشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا». و هو كذلك يتضمن استشهادا للنبي علي انه لا يسمع لهول الحشر الا الهمس الخفيف لان الناس يومذاك تفقد طاقة التصارخ و التضجيج...«انك لا تسمع الموتي و لا تسمع الصم الدعاء اذا ولوا مدبرين، و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع الا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون»... النمل 81/80شبه الله مشركي مكة ممن لا يصل القرآن الي نفوسهم بأنهم موتي لا يسمعون. و للمبالغة في هدر سماعهم اذ و سمهم بالصم نفي ان يستطيع الرسول اسماع الصم اذا ولوا مدبرين علي ان الصم لا يسمعون و ان لم يولوا مدبرين هذا و الدعاء لا يكون في العادة الا لمن هو بعيد و الاشارة الي ان القوم ولوا مدبرين تعني انهم رجحوا الابتعاد عن مجال الحديث و المخاطبة بغيا منهم و عنادا، فكيف اذا ابتعدوا عن مصدر الصوت [ صفحه 314] و غادروا المكان الذي يجري فيه الحديث و ينطق فيه داعي الهدي بالكلمة الواضحة المسموعة... و اكدت الاية التالية هذا المعني و أوضحت ان عمي القلوب لا ينظرون و لا يهتدون و انما يهتدي الذين يؤمنون بآيات الله و يقبلون عليها بالرضا و القناعة و القبول...«فانك لا تسمع الموتي و لا تسمع الصم الدعاء، اذا ولوا مدبرين، و ما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم ان تسمع الا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون»... الروم 53/52اسماع الموتي لاجدوي فيه لانهم لا يملكون صنع شي‌ء و تشبيه من لا يستجيب لدعوة الاسلام بانه من الموتي او الصم البكم تشبيه دقيق وجه الشبه فيه قائم علي عدم الانتفاع بالقول يقال و الحكمة التي تعرف و الحقائق التي تكشف و الامر الذي يدعو اليه النبي قومه... و بقية النص واضح المعني و ما من شك في ان ما يلقاه النبي من العناء الشديد في حمل قوم هم في عداد الموتي لفرط صممهم المفتعل انما هو من ثقيل المعاناة و قاسي الاحتمال... [75] «و ما يستوي الاحياء و لا الاموات ان الله يسمع من يشاء و ما أنت بمسمع من في القبور»... فاطر/22في النص تمييز بين الاحياء و الاموات لا من ناحية التكريم و الاستحقاق بل من ناحية الاصغاء و الانتفاع بما يجري الخطاب في صدده... و جري تشبيه المعاندين ممن ينصرفون عن سماع سديد الكلام و رشيده بمن في القبور من الموتي تيئيسا من اهتدائهم و استجابتهم لكثافة الحجاب الذي يحجبهم عن تبين ذلك و استيعابه... و انما عرض النص لمسلمة ثابتة فأقامها شاهدا علي ذلك.«أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي و من كان في ضلال مبين»... الزخرف/40لفرط صمم الغافلين عن سماع صوت الهدي و المنصرفين عن رؤية الحق الواضح بحيث لا علاج لهم و لأمثالهم من الكفرة و المشركين فان الله اوضح لنبيه انه لن يكون له علي ارشاد هؤلاء الناس من سلطان...«و منهم من يستمع اليك حتي اذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله علي قلوبهم و اتبعوا أهواءهم»... محمد/16الكلام يدور هنا علي طريق من اغبياء المنافقين كانوا يحضرون مواعظ النبي و توجيهاته و ما نزل من الشريعة فاذا خرجوا من عنده مالوا الي من كان هناك من ذوي النباهة و حسن الفهم ممن كانوا حضروا مجلس النبي يسألونهم قائلين. ماذا قال النبي آنفا و كأنهم يرون ان هؤلاء كانوا علي مثل ما كانوا هم عليه من بلادة الذهن فلم يفقهوا شيئا كأنهم يشككون في ان تكون لكلمات الرسول جدوي لدي مستمعيه. و قد عقب الله علي موقف هؤلاء المنافقين بانهم طبع الله علي قلوبهم و تركهم الي اهوائهم و ضلالات اوهامهم... و يفهم من فحوي هذا النص ان المنافقين كانوا يؤدون دورا في المشاكسة و التشكيك و انهم لم يكن لديهم عزم علي ان يتعلموا من رسول الله ما يصححون به موقفهم و ما يزدادون به من فهم اسرار الشريعة و احكام الدين فهم العدو الخفي الذي دأبه احباط مسعي الامة الي الاستقرار و النجاح و التوفيق...«قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي الي الله و الله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير»... المجادلة/1كانت المرأة التي راحت تجادل رسول الله في زوجها أي تكلمه في امر شكته من زوجها، و كان الله [ صفحه 315] يسمع ما تقول هذه المرأة و ما يقوله الرسول صلي الله عليه و سلم... ان الله عزوجل كان يتابع ما يقول الناس للنبي و ما يقول النبي للناس فاذا وجب ان ينزل في ذلك وحي نزل فيه وحي...و يفهم من ذلك كذلك ان رسول الله صلي الله عليه و سلم كان ذا صدر رحب بحيث كان يمكن افراد امته بأن يفضوا بما عندهم من كلام الي النبي... و قد اطال صلي الله عليه و سلم الصبر في الانصات الي تلك المرأة المتظلمة من زوجها... و ذلك هو من معالم القيادة الرائعة حين يصغي قائد الامة الي شكاوي نساء او رجال من امته مثل هذا الاصغاء. و ما جاء في النص من أن تلك المرأة كانت تشتكي الي الله فيه دلالة ظاهرة علي ان المرأة كانت واثقة عند اقبالها علي النبي، انه سيعرض شكواها الي ربه فهو رسوله المرسل من لدنه الي سائر عباده. و جاءت الايات التالية بحل المشكلة التي كانت محل شكواها الي الرسول...

باب سل و اسأل

من الاوامر الالهية التبيلغية التي وجهها الله الي رسوله صلي الله عليه و سلم مما يأطره اطار الرسالة التي بعثه الله بها الي قومه و الي سائر عباده ما يكون من التكليف في السؤال من المشركين و اهل الكتاب و غيرهم عن مسائل و امور يلزم المسؤولون بالاجابة عليها ابتغاء اقامة الحجة عليهم... و انها لمن المهام الصعبة التي يدعو الله بها نبيه ان يواجه القوم مواجهة صريحة آخذا فيها بهدب الجدل المنطقي... و باب «سل و اسأل» من نمط باب «و اذكر و ذكر»... «و استفتهم»... «و أنذرهم» و ما الي ذلك... و فيما يلي ما جاء في القرآن من مفردات هذا الباب مقرونا بشي‌ء من الشرح و التفصيل...«سل بني‌اسرائيل كم آتيناهم من آية بينة و من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فان الله شديد العقاب»... البقرة/211في هذا السؤال تحد لبني‌اسرائيل و استعراض لما كان قد حدث لهم و ما اتاهم الله اياه من آيات بينات... حين يأمر الله نبيه ان يسأل من هناك من اليهود عن امور من صميم تأريخهم الديني فانما هود امتحان و فتح لباب جدل ينتهي الي افحام اليهود و انزالهم منزلة العاقين لرب العالمين... في هذا النص امر للنبي بنمط من المواجهة لاحبار اليهود و تلك من بعض مهام النبي الملقاة علي عاتقه اضافة الي كبائر المهام و صغائرها التي قام عليها امر نبوته صلي الله عليه و سلم...«و اسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر اذ يعدون في السبت اذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا و يوم يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون»... الاعراف/163كان من دأب اليهود حيثما كانوا أن يظهروا الحرص علي التمسك بالسبت الذي يعتقدون ان العمل فيه ممنوع و اذ كان من اوضاع احدي القري البحرية التي جاء الكلام عليها في النص القرآني أن يتداعي عليها السمك بكثافة ايام السبت و لا يكون كذلك سائر الايام لسر مجهول و سبب غير معلوم فان اليهود خرقوا قاعدة الالتزام بالسبت و راحوا يصيدون السمك يوم السبت بطريقة من طرق الاحتيال و هذا ما نبزهم الله به و عاقبهم عليه و كان لابد من ان يعرف القوم في مكة من بعض تصرفات اليهود الذين لم يكن عددهم في مكة كثيرا و ان كان لهم شأن و خطر كالذي كان لهم في المدينة الا ان التعرض لهم بالاشارة الي شي‌ء من طباعهم و غشهم لدينهم يعد موضوعا اعلاميا مهما. و لم يكن في طوق اليهود اذ سئلوا عن قصة هذه القرية أن ينكروا ما كانوا قد صنعوا... [ صفحه 316] «فان كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين»... يونس/94لا يتصور وقوع الشك لذي الرسول في ما نزل اليه و ذلك لوضوح الدلائل الدالة علي صحة ذلك فان النبي يتصل به الوحي كل حين و يبلغه كلام ربه و في سائر لحظات حياته اليومية من هذه الدلائل الكثيرة المتكررة، و تعد السور و الايات القرآنيه من اقوي هذه الادلة و البراهين فما يقع لنبي تقوي صلته بالله يوما بعد يوم ان يصل الشك اليه و يتسلط عليه و انما جاء النص القائل «فان كنت في شك مما انزلنا اليك» علي جهة الافتراض و اسماع الناس الحقيقة بشكلها و موضوعها... و في صنع - ان - الشرطية دليل علي هذا الافتراض... اما قوله تعالي «فاسأل الذين يقرأون الكتاب» فان فيه ايقاع الحجة علي اهل الكتاب ان كان سألهم النبي شيئا أم لم يسألهم و كذلك يستوي الامر في ان يكونوا اجابوه أم لم يكونوا اجابوه... و قوله تعالي «فلا تكونن من الممترين» فانه نهي للنبي ان يمتري في ذلك و ان لم يكن قد امتري فيه و انما هو الوحي الذي ينزل علي النبي هاديا و معلما و موجها و مسددا في خطاه في طريق التبليغ الي الدين الحنيف...«و لقد آتينا موسي تسع آيات بينات فاسأل بني‌إسرائيل اذ جاءهم فقال له فرعون اني لأظنك يا موسي مسحورا»... الاسراء/101يبدو ان الرسول الاعظم كان يلتقي بأحبار اهل الكتاب فيطارحهم الحديث و يسألهم سؤال احراج و تبكيت و تحد و ذلك لان اهل الكتاب مدعوون تلقائيا الي الاسلام و النبي مرسل اليهم و الي غيرهم من الامم من ذوي الديانات القديمة ومن غير ذويها و في مثل هذا النص ما يسكت اليهود خاصة عن تكذيب النصوص القرآنية النازلة في صدد احداث وقعت لليهود قديما و جاءت بها التوراة احيانا.«الذي خلق السماوات و الارض و ما بينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش الرحمن فاسأل به خبيرا»... الفرقان/59قوله تعالي «فاسال به خبيرا» اي انه خبير فاسأله. و استعمال (الباء) بعد السؤال حرفا شبه زائد مألوف في لغة التنزيل و ليس المراد فاسأل عنه انما اراد النص ان الله هو الذي يسأل عن كل شي‌ء لانه الخبير بكل شي‌ء... و معني السؤال هنا هو الطلب من ذي خبرة بالحاجات و ليس معناه ان تسأل عن ما تجهل فيجيبك و لو أخذ بهذا المعني هنا فلقد يكون له وجه من القول... و ليس المراد فاسأل عن الله من هو خبير بالله...«و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون»... الزخرف/45السؤال الذي يسأله النبي من الرسل السابقين الذين مضي بهم الزمن. انما هو سؤال عن الحقائق التي كانت محتوي رسالاتهم فهو سؤال افتراضي يراد به نفي ان يكون الله قد رضي ان يعبد غيره في الارض و سؤال الرسل بعضهم بعضا امر يعرفه الرسل اذ انهم جهة واحدة ليس بينهم فواصل زمانية و مكانية...اجل انهم لا يفصل بينهم فاصل من زمان او مكان أي من حياة و ممات و قرب او بعد... اذ كان الانبياء رغم انهم بشر كونا مستقل الشخصية، و علي هذا تكون المساءلة بينهم علي غير ما يعرف من المساءلة بين الناس. و في حديث المعراج ما يقرب هذا المعني الي التصور الذهني و الحسي اذ جاء الكلام فيه علي اتصال الينبي صلي الله عليه و سلم بكثير من الانبياء و الرسل. و لابد ان نعلم ان الله حين يأمر رسوله بالسؤال عن امر من جماعة الرسل الاقدمين فانه عزوجل ييسر له ذلك. و الله ادري بأحوال رسله و اسرار رسالاته...ان الله عزوجل جعل للنبي ملكة الاتصال بأسلافه من النبيين يسألهم عن مسائل من الدين و حقائق [ صفحه 317] من الايمان و انه صلي الله عليه و سلم سيجد منهم الجواب المطلوب و ذاك وفق علم الله الذي يعلم كل شي‌ء في السموات و الارض...و هناك آيات في مادة السؤال جاءت بلفظ (و لئن سألتهم) و هي اسئلة سألها النبي القوم تلبية لامر الله اياه بالسؤال و ما اليه و انا موردوا ذلك فيما يلي:«و لئن سألتهم ليقولن انما كنا نخوض و نلعب قل أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزؤن»... التوبة/65والآية التي تسبق هذه الاية هي: «يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا ان الله مخرج ما تحذرون»... في هذا النص نمط من الحوار الذي يظهر فيه بوضوح ما طبع عليه القوم من لجاجة في سوء الموقف و لؤم التصرف، و قد نبه الله رسوله الي أن يواجههم بانكشاف خبثهم و سوء تصرفهم و لبثهم علي استهزاءاتهم التي تنم عن صلف فيهم قبيح و شراسة مكثفة شنيعة...«و لئن سألتهم من خلق السماوات و الارض و سخر الشمس و القمر ليقولن الله فأني يؤفكوا» العنكوبت/61يبدو من النص أن النبي صلي الله عليه و سلم يسألهم الاسئلة المحرجة فلا يجدون بدا من الاجابة عليها بما يتضمن الاعتراف بالله و كونه هو خالق هذا الكون بسماواته و أرضه و غاية النبي من توجيه السؤال هذا اليهم أن يلفت نظرهم الي بطلان عبادة الاصنام التي لم يعد لها وجود معي وجود الله و كذلك يبطل الشرك كله بهذا الاعتراف لانه ليس من المنطق و لا مما يقره العقل أن تشارك الاصنام الله في خلق السماوات و الارض و الشمس و القمر و ما الي ذلك من مفردات هذا الكون العظيم و هي مجرد احجار من احجار الارض.«و لئن سألتهم من نزل من السماء ماءا فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون». العنكبوت/63بعض خصوم الرسالة حين يمتحنون في قدرة الله و عظم سلطانه في ملكوته يكون في اجاباتهم ما يدل علي علم لديهم بالله حسن...«و لئن سألتهم من خلق المساوات و الارض ليقولون الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله ان ارادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو ارادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون»... الزمر/38يتضمن النص مطلبا جدليا يبدأ بسؤال القوم عن الخالق الذي خلق السماوات و الارض. كان التعقيب علي ذلك بمناقشتهم في شركهم و الكلام يحوم حول المشركين الذين يشركون بالله غير الله من معابيد باطلة. أي انهم يؤمنون بالله ولكنهم لا يؤمنون بوحدانيته بل يشركون به آلهة اخري و هؤلاء يتحصل من مناقشتهم ما يتم التوصل به الي ايمانهم خلافا للذين لا يؤمنون بالله اصلا... و النقاش هنا ينصب علي اثبات عجز من يتخذون أندادا لله و شركاء عن أن يقدموا او يؤخروا في مجال الاقدار الالهية علي النحو الذي جاء في النص...و يفهم من هذا أن الرسول الاعظم كان كثيرا ما يحتك بالقو يراجعهم الحديث في امر الشرك و فساده... يحاورهم و يسألهم و ذاك من طبيعة مهمته الكبري. و قد تكرر مثل ذلك في اكثر من نص قرآني و من ذلك «و لئن سألتهم من خلق السماوات و الارض ليقولن خلقهن العزيز العليم» الزخرف/9... و من ذلك كذلك «و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأني يؤفكون» الزخرف/87... و يفهم من هذا مال كان يتحكم في عقولهم من البلبلة العقائدية و عدم الاستقرار مما ينسحب أثره علي موقف النبي صلي الله عليه و سلم في مواجهة ذلك... [ صفحه 318]

باب و ما تسألهم... أم تسألهم... لا نسألك

«أم تسألهم» و كذلك «و ما نسألهم» مما جاء في نفي توجيه سؤال ما الي القوم مقرونا ذلك ببعض اسباب النفي اما علي وجه الحقيقة و اما علي وجه التهكم و فيما يلي سرد هذه الآيات و تفصيل حالها:«و ما تسألهم عليه من أجر إن هو الا ذكر للعالمين»... يوسف/104أي ان ما تتعلق به مصالح الناس جميعا فهو من الخدمات ذات الصفة الانسانية العامة مما لا يتقاضي عليه شيئا من الاجر من يؤديه اذ لا أجر من أجور الدنيا لعامل خير او متبرع بعمل محمود. و اذ كان الله عزوجل قد ارسل رسوله الي الناس فهو الذي يتولي اجره...«أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير و هو خير الرازقين»... المؤمنون/72قال الشوكاني: أم هل الامر الذي يصدهم عن الايمان بك أنهم يزعمون أنك تسألهم أجرا تأخذه علي الرسالة. فتركوا الايمان بك و بما جئت به لاجل ذلك. مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك و لا طلبته منهم ]حتي الصدقة حرمها الله تعالي علي رسوله لئلا يقول القائل: انه ادعي الرسالة لتحصيل المال[... «فخراج ربك خير» اي: فرزق ربك الذي يرزقك في الدنيا، و اجره الذي يعطيكه في الاخرة، خير لك مما ذكر...«أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون»... الطور/40النص وارد مورد النفي عن سؤال الاجر الذي لو وقع السؤال في صدده لوجب أن يكون هذا الاجر عظيما و جسيما لعظم الجهد الذي تنفقه في سبيل هدايتهم و هذا ما يجعلهم يواجهون مغرما ثقيلا لا قبل لهم به... و في النص تثمين و تقييم لما ينهض به الرسول من عب‌ء اصلاح القوم و من طول العناء في هذا الوجه لذا لم يطالب رسل الله جميعا اقوامهم بشي‌ء من أجر و مكافأة و فيهم رسول الله صلي الله عليه و سلم...و قد تكرر النص في سورة القلم في الآية السادسة و الاربعين و هو قوله تعالي «ام تسألهم اجرا فهم من مغرم مثقلون»... و المعني نفس المعني...«و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك و العاقبة للتقوي»... طه/132النص من النصوص العقائدية التي تعلم الناس أنهم انما يقع رزقهم علي الله الذي لا يسألهم رزقا و هذا معني قد تكرر في التنزيل لانه عرق من اعراق العقيدة و من ذلك قوله تعالي «و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق و ما أريد ان يطعمون، ان الله هو الرزاق ذو القوة المتين» الذاريات 58/56...

باب يسألونك

في القرآن الكريم وردت نصوص تشير الي ان النبي صلي الله عليه و سلم كان محل مراجعة الناس و استفساراتهم في سائر امور الدين و الحياة فكان يجيبهم او يترك الامر الي الله لينزل في ذلك من آياته ما يحل العقدة و يحز المفصل... و من ذلك «و يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس و الحج»... و منها «يسألونك ماذا ينفقون» و منها «يسألك الناس عن الساعة و ما يدريك لعل الساعة تكون قريبا»... و منها «و يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي و ما اوتيتم من العلم الا قليلا»... «و يسألونك عن الساعة ايان مرساها»... و بعض سؤالات القوم من خصوم الرسالة يقصد بها ابتغاء الجدل و المكابرة. «يسألك [ صفحه 319] اهل الكتاب ان تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسي اكبر من ذلك فقالوا ارنا الله جهرة»... النساء/153كان الناس يترددون علي الرسول الاعظم ليأخذوا منه العلم، و يفرون من مشاكلهم اليه ليحل عقدها لهم و ليس كل من يفعل ذلك كان من المعاندين المنكرين الرسالة الالهية فان فيهم من آمن و حسن ايمانه... و قد جر التنبيه الي التثبت من هذه الاسئلة قبل اتصالها الي سمع الرسول «لا تسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم»...من هذه الاسئلة يتجلي لنا ان النبي كان في شغل شاغل من مواجهات الناس علي اختلاف مشاربهم و منازعهم و ذلك امر يتطلب الجهد الفكري المتحفز دائما للنظر في غرائب الاسئلة و المراجعات...«أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسي من قبل و من يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل»... البقرة/108الاسئلة التي تتوارد علي الرسول الاعظم من قبل اصحابه كثيرة و دائمة. و في النص تنبيه الي القوم بان لا تكون اسئلتهم ذات محتوي من الاجحاف والاحراج الذي لا طائل وراءه... و قد عقب النص علي ذلك بان بعض الاسئلة التي يراد طرحها علي الرسول نمط مما ينتمي الي الضلال و الكفر، و ذلك ان اليهود كانوا قد اعتادوا توجيه اسئلة و طلبات ذات مستوي عقلي منخفض و غير متوازن الي انبيائهم فقد قالوا لنبيهم موسي عليه‌السلام «أرنا الله جهرة» و غير ذلك من المطالب و قد حذر الله المسلمين ان يعاملوا نبيهم مثل معاملة اليهود نبيهم «يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسي»...«و اذ سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يرشدون»... البقرة/186في النص ما يشير الي ان هناك من كان يتردد علي الرسول الاعظم يسأله عن امور من الشريعة يريد أن يحيط بها علما و قد اوصي الله رسوله بالرد علي تلك الاسئلة و الاستفسارات و من ذلك ما ورد في هذا النص من ان قوما سألوا الرسول عن الله أو أن اسئلة مقدرة من عادة الناس الاستفسار عنها و هذا ما نوهت به الآية الكريمة اذ جاء فيها «و اذا سألك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة الداع اذا دعان»... و تلا ذلك توجيه الهي عقائدي للناس «فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يرشدون»...و يفهم من ذلك ان رسول الله كان في شأن متكرر من مراجعات القوم يسألونه عن اخطر الامور و هو يجيبهم علي ذلك. و يفهم من صيغة النص الوارد بقوله تعالي «و اذا سألك عبادي عني...» ما يدل علي أن الناس كانت تجد الرسول ذا دراية بشأن الله و اطلاع علي كمالاته و سننه في مخلوقاته... و أقر الله هذه الخصيصة في النبي من الدراية بذات الله و صفاته و لذا قال «و اذا سألك عبادي عني» و ليس هذا النوع من الاسئلة افتراضيا و ظنيا و انما هو كائن و واقع و ان من حق الناس أن يسألوا عن اشياء من صفات الله ممن هو علي علم بها... و هم واجدون في رسول الله صلي الله عليه و سلم هذا المبتغي و يعني ذلك ثقة الناس به صلي الله عليه و سلم من هذه الناحية و غيرها و هذا ما يعظم مكانة النبي عند الله و جلالة قدره لديه...«يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس و الحج و ليس البر بان تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقي و أتوا البيوت من أبوابها و اتقوا الله لعلكم تعلمون»... البقرة/189من اسئلة القوم و هم علي ما يبدو من اتباع النبي صلي الله عليه و سلم في المدينة و ذاك ان الجواب انبأ عن ان الاهلة هي مواقيت للحج و لسائر شؤون الناس في حياتهم اليومية التي يعنيهم منها الارتباط بالاحداث و أزمنتها... لقد كان النبي صلي الله عليه و سلم مهيأ للاجابة علي شتي اسئلة الناس معتمدا في كثير من ذالك علي وحي السماء و ما جاء من النصوص [ صفحه 320] القرآنية المسبوقة بلفظ «قل» معظمها مما اجاب الله عنه بوحيه الموحي به الي رسوله صلي الله عليه و سلم.و يفهم من ذلك ان الشريعة بتفاصيلها و مجمل و قائعها انما هي من الله و ليس للرسول الاعظم الا نقلها من لدن ربه الي الجهات التي يقضي الله بايصال الامور اليها...«يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللو الدين و الاقربين و اليتامي والمساكين و ابن السبيل و ما تفعلوا من خير فان الله به عليم».البقرة/215تعد الاسئلة التي يوجهها الناس الي الرسول الاعظم من بعض موارد التشريع و اسبابه التي يسميها الباحثون باسباب النزول. علي ان العبرة في هذه المسائل كما قال قال الاصوليون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب... و ذاك هو الغالب في هذا الباب [76] ...والنص وارد في مسائل من الانفاق و الصدقات مما يعد من صلب العقيدة الدينية التي قام عليها امر الملة و الشريعة... و قد جاء الجواب الالهي الموحي به الي الرسول صلي الله عليه و سلم بفصل الكلام علي القصد المقصود في اسئلة القوم و هو مما يقضي به الله و يحدده و يعلمه الرسول ليعلمه الرسول للسألة الذين تقدموا بسؤالهم ذلك الي النبي صلي الله عليه و سلم...«يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير و صد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام و اخراج أهله منه أكبر عند الله و الفتنة أكبر من القتل»... البقرة/217المسجد الحرام مصون عن ان يقع فيه قتال لانه بيت الله و حرمه هناك حالات شبه شاذة و نادرة جري السؤال عليها من قبل السائلين في صدد حدوث القتال في المسجد الحرام و قد أوحي الله الي نبيه بالجواب الصريح في هذه المسألة ذات الخطر الكبير...فلقد كان الجواب بان القتال في المسجد الحرام ممكن أن يباح في حالات دفاعية حددها النص. و أفتت بها الكلمة القرآنية و ذلك عند الكفر به و اخراج اهله منه والعدوان عليه... و بذلك كانت المصلحة الظاهرة هي الميزان الذي توزن به اعمال الناس و ذاك بتقدير الضرورات فيها بقدرها...«يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و اثمهما اكبر من نفعهما و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون»... البقرة/219تحريم الخمر و الميسر من الامور الاساسية في الشريعة الاسلامية و قد جاء الكلام علي ذلك اثر سؤال وجه الي صاحب الرسالة صلي الله عليه و سلم... علي انه لو لم يكن هناك سؤال في هذا الصدد لافترض السؤال افتراضا و أجيب عليه بما يقرر الحقيقة الشرعية في هذا الشأن.و أوحي الله الي رسوله ما كان فيه الجواب التام للمسألة من حيث ان الخمر و الميسر يحتجنان الاثم الكبير الذي جعلته الشريعة اصلا للتحريم رغم ان للناس منافع تجارية و وقتية من وراء هذين المنكرين و الاعلام القرآني يتميز بعرض المسائل علي وجهها فلا ينكتم في الاعلام القرآني شي‌ء عن الناس... و كلمة الاثم الكبير في الخمر و الميسر تعلن الحرمة القاطعة لهما...«... و يسألونك عن اليتامي قل اصلاح لهم خير وان تخالطوهم فاخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح و لو شاء الله لأعنتكم ان الله عزيز حكيم». البقرة/220لليتامي في الاسلام حظ كبير من الرعاية و قد كثرت الآيات الباحثة في امرهم و حقوقهم كثرة ملحوظة... و كان الجواب الذي أوحي به الله الي النبي [ صفحه 321] في شأن السؤال عن اليتامي متضمنا توصيات كريمة في صدد اصلاح اليتامي و حسن معاملتهم... و المهم في مثل هذا السؤال و نظائره ان الهيئة الاسلامية التي اهتدت بهدي الاسلام صارت تبحث في امور جد مهمة في حياة المجتمع الاسلامي و مشاكله الاجتماعية...يفهم منه قوة التعليم النبوي لذلك الجيل بحيث تفتحت بصائرهم علي التنقيب عن امور يقوم عليها امر صيانة المجتمع و قوة بنائه الاجتماعي...«و يسألونك عن المحيض قل هو أذي فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن حتي يطهرن فاذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ان الله يحب التوابين و يحب المتطهرين»... البقرة/222السؤال عن المحيض و قد كان للشريعة اليهودية فيه رأي ظاهر القسوة في معاملة النساء و اذ جري السؤال عن المحيض علم الله نبيه الجواب الذي كان في صفة المحيض بانه اذي منع الازواج من الوصول الي نسائهم بسببه و ليس في الاسلام ان تكون المرأة نجسة بسبب المحيض تمنع من الاعمال البيتية و يتنجس منها اهل ذلك البيت علي ما هو معهود عند اليهود.«يسألك اهل الكتاب ان تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسي اكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة»... النساء/153هذا السؤال لا يخرج عن دائرة اللؤم و الحقد المعروفين لدي اليهود الذين وجدوا في ظهور الاسلام ما سوف يقضي علي وجودهم و هم في نعيم مقيم... و الكتاب الذي يريدون من النبي ان ينزله عليهم لا يعني الا اللغط الذي لا طائل فيه فهم أهل كتاب هو التوراة لا يؤمنون بما سواه فماذا يريدون من الكتاب الذي سألوا رسول الله صلي الله عليه و سلم ان ينزله من السماء و هم يعلمون علي جهة القطع و اليقين ان كتابا من الله لن ينزل عليهم و لم يرد الله عليهم بنفي وقوع ذلك و ذاك علي نحو ما ألفناه في الآيات القولية التي ترد جوابا علي مثل تلك الاسئلة. و انما وبخهم الله علي سؤالهم الذي اعتادوا نظائره و منها أنهم سألوا موسي ان يريهم الله جهرة... و كان الله قد عاقبهم علي ذلك. و سائر اسئلة اليهود الذين اطلق الله عليهم في النص اسم اهل الكتاب لكي تعلم الناس أنهم لم يتأدبوا بأدب الكتاب و لم يتعلموا منه ما يحسنون السؤال عنه و كانوا و قد سلف القول علي ذلك يضاهون كفار مكة و مشركيها في المزعجات من الاسئلة و التحرشات...«يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات و ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم و اذكروا اسم الله عليه و اتقوا الله ان الله سريع الحساب»... المائدة/4في النص كلام علي احكام الصيد جوابا علي سؤال القوم رسول الله عما أحلت لهم الشريعة من الطيبات. و في كتب الفقه و الاحكام تفاصيل حول ذلك... و يفهم من استعمال صيغة «يسألونك ماذا أحل لهم» ان المسلمين كانوا يتحرجون أن يأكلوا ما كانوا يأكلون قبل الاسلام من مآكل فصاروا يسألون النبي عن ذلك و ليس النبي هو الذي يحلل و يحرم في هذا الوجه من تلقاء نفسه انما يكل ذلك الي منزل الشريعة و هو الله عزوجل و هكذا جاء قوله تعالي «قل أحل لكم الطيبات» و هي المآكل التي تستمرئها النفس مما يعرف في حياة الناس و ما ألفوه من طعام يتخذونه لموائدهم...و في القرآن الكريم «فابعثوا احدكم بورقكم هذه الي المدينة فلينظر أيها ازكي طعاما فليأتكم برزق منه...» فهنا يبرز دور الذوق في تخير الطيبات من الاطعمة...«يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل انما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها الا هو ثقلت في المساوات و الارض لا تأتيكم الا بغتة يسألونك كأنك [ صفحه 322] حفي عنها قل انما علمها عند الله ولكن اكثر الناس لا يعلمون». الاعراف/187بعض الاسئلة التي تلقي علي الرسول صلي الله عليه و سلم تكون في غاية التعقيد و الغيبيات و يبدو أن سائلي ذلك يأملون ان يجدوا لدي الرسول جوابا يوضح لهم غموض الموضوع... و ذاك بما يعلمونه من قوة قرب النبي من ربه و إطلاعه علي اشاء من غيبه... و قد لقن الله نبيه نبأ الساعة بأنها من اسراره في ملكوته لا يطلع علي امرها احدا و انما تأتي الناس علي وجه المباغتة...«يسألونك عن الانفال قل الانفال لله و الرسول...». الانفال/1الانفال هي غنائم الحرب و قد كانت مكان كلام و مراجعة بين القوم فراحوا يسألون الرسول عن ذلك فأنبأه الله في صدد الانفال ما وجدوا فيه الجواب الكافي لسؤالهم... لوضع الامور في نصابها و عدم اطالة الجدل حول ذلك.«و يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي و ما أوتيتم من العلم الا قليلا»... الاسراء/85السؤال عن الروح ليس المراد به ما هو عرق الحياة في الاحياء لان ذلك ليس من الامور الدينية التي يسأل عنها نبي او رسول لا سيما اذ كان الذين وجهوا الي النبي هذا السؤال هم من بعض احبار اليهود الذين لا يريدون بطبيعة عقيدتهم و نظرتهم الي النبي ان يجعلوه محل الاعتماد في الاستفسار عن مسائل في مستوي عال و خطير كأمر الروح التي في ابدان الكائنات الحية... و انما كان السؤال عما تكرر ايراده في القرآن من ايراد كلمة الروح التي وردت اكثر من مرة في الذكر الحكيم «نزل به الروح الامين، علي قلبك لتكون من المنذرين» الشعراء/193... و من ذلك «و نفخت فيه من روحي» الحجر/29... «و كذلك أوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء» الشوري/52... «فارسلنا اليها روحنا فتمثل بها لها بشرا سويا» مريم/17 «و كلمته القاها الي مريم و روح منه» النساء/171... فانهم سألوا عن معني هذا الحرف و مؤداه فكان الجواب ما ذكره القرآن الكريم «قل الروح من امر ربي و ما أوتيتم من العلم الا قليلا» الاسراء/85... اي ان الله يعلم من اسرار مكنوناته مالا يبلغ اليه علمهم و بذلك لا يكون من المتيسر لهم فهم الجواب لو أجيبوا به مفصلا و ذاك لافتقادهم ادوات المعرفة و فقدان المشاركة البيانية في استيعاب الاشياء، و كثيرا ما رد القرآن علي السائلين فريقا من اسئلتهم «لا تسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم» المائدة/101... و كأن النص الذي جاء جوابا علي سؤالهم ظاهر فيه ما يشبه الاسكات عن الخوض في هذه المسائل لانها من صميم خصوصيات الخالق. اذ ان ما يعد من خصوصيات الذات الالهية و ان عرض ذلك في الخطابات القرآنية فانه لا يكشف للناس اذ لو كشف ذلك للناس لتهتكت الاسرار الالهية فصارت مما يلهج به العوام...والاسرار الالهية لا يحيط بشي‌ء منها الا رسول او ملك مقرب من الملائكة المقربين... و ثابت في الاساليب العلمية و الادبية و التشريعية انها تتفاوت في الافصاح عن محتواها فان الاستنباط سيضعف والاجتهاد سينقطع والراسخون في العلم سيطوون كتبهم و يلقون اقلامهم... و في النص مما يتعلق بشخصية الرسول الاعظم انه كان يجد في الناس من يهوي التحرش و يتعشق المماحكة و يعمل علي احراج النبي باستفساراته التي لا يريد بها الحصول علي المعرفة بل اثارة اللغط في البيئة. و ابتغاء الفتنة في ما لا طائل فيه. و كان ذلك دأب اليهود و ديدنهم...«و يسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا»... الكهف/83 [ صفحه 323] اخبار ذي القرنين علي ما يبدو كانت مما يتناقله الناس في مجالسهم تناقلا تضارب الكلام و تناقضه و كان السؤال عنه من الرسول دالا علي اعتقاد القوم ان الله يجيب علي سؤالهم علي ما صار معتادا لديهم من أن الاسئلة التي تلقي الي الرسول يجيب عليها... و قد شرح الله امر ذي القرنين شرحا كافيا اذ لقن نبيه بشي‌ء من سيرة ذي القرنين و ذكر الاحداث المتصلة بحياته. و يبدو أن سبب السؤال هو الظن الذي يجول في اذهان اناس منهم في أن لذي القرنين سهما في النبوة و يومي‌ء الي ذلك الاستجابة القرآنية لهذا السؤال إذ لو كان ذو القرنين مجرد ملك لكان غير ذلك. [77] .«و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا»... طه /105وقع السؤال الي النبي عن الجبال التي تقوم علي انحاء من الارض ما مصيرها اذا قامت الساعة و هو من الاسئلة التي تدل علي متابعة حسنة من قبل جماعة المؤمنين لمفردات العقيدة و قد أوحي الله الي رسوله بالجواب الذي هو «فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا، لا تري فيها عوجا و لا أمتا، يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له، و خشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا»... فكان السؤال مفضيا الي شرح احداث الساعة و احوال يوم القيامة مما يعد من صلب المعتقد الديني في الاسلام و مما ازداد به المؤمنون علما بأحداث الاخرة التي تبدأ بعد نهاية هذا العالم...«يسألك الناس عن الساعة قل انما علمها عند الله و ما يدريك لعل الساعة تكون ريبا»... الاحزاب/63هذا السؤال احد الاسئلة المتكررة و قد جاء الجواب عليه يتضمن المعني الوحيد علي مثل هذه الامثلة المتكررة و بمقتضي البلاغة القرآنية ترد ألفاظ الجواب و عباراته ذات نمط بلاغي جميل لا يخرج في عموم معناه عن الاجابات القرآنية في مثل هذه المسائل. و لم يكن الرسول الاعظم في الرد علي هذه الاسئلة يقرأ عليهم ما سبق مما هو مماثل لاسئلة الناس عن الساعة لان تعدد الصيغ القرآنية هو جوهر البلاغة القرآنية...«يسألونك عن الساعة ايان مرساها. فيم انت من ذكراها. الي ربك منتهاها انما انت منذر من يخشاها. كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية او ضحاها». النازعات 46/42يتكرر سؤال الناس عن الساعة و يتكرر الجواب علي هذا اللون من الاسئلة بأساليب بلاغية رهيبة التعبير و كلها تنتهي بالاشارة الي أن امر الساعة امر يختص بعلم الله وحده...و يبدو أن الذين يوجهون الي النبي مثل هذا السؤال هم من قبائل شتي و من انماط من الناس كثيرين من سكان مكة و المدينة و غيرهما... و الساعة موضوع لم يقع الطروق اليه في الكتب القديمة بالشكل الذي وقع الكلام عليه في النصوص القرآنية و صيغة السؤال عن الساعة ليس فيها مما يحدد نوعية السائلين. فقد يكونون من ذوي الشأن في القوم و قد تؤيد نصوص الآيات هذا المعني الي حد ما.

باب قلت و تقول

من فعاليات النبي و مهمات تحركاته في مجال الدعوة الي الاسلام ما تعقبه النص فاشار اليه في مثل كلمة «و قلت» و كذلك ما جاء من ذلك من كلمة «و تقول» و هنا نصوص و آيات في هذا الباب نأتي عليها بشي‌ء من الشرح اليسير...«و لا علي الذين اذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد أحملكم عليه تولوا و أعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون»... التوبة/92 [ صفحه 324] النص مسبوق بقوله تعالي «ليس علي الضعفاء و لا علي المرضي و لا علي الذين لا يجدون ما ينفقون حرج. اذا نصحوا لله و رسوله ما علي المحسنين من سبيل و الله غفور رحيم»... كان الراغبون في الجهاد في سبيل الله قد راجع فريق منهم النبي ليعد لهم عدة القتال و لم يكن لدي النبي ابان ذلك من عدة القتال شي‌ء لذا واجههم بقوله «لا أجد ما أحملكم عليه». و قد رجعوا تذرف عيونهم الدمع الغزير لعدم استطاعتهم اداء مهمة الجهاد. علي أنهم بمقتضي النص مرفوع عنهم الحرج والامر الذي يريدونه واقع لهم عندالله بسبب صدق نيتهم في الجهاد...«و لئن قلت انكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا ان هذا الا سحر مبين»... هود/7قوله تعالي «و لئن قلت» - هنا - لا يعني القولة الواحدة بل يعني ان ذلك مما يتكرر من قوله في تذكير القوم بأنهم سيبعثون بعد موتهم لان مثل هذا التذكير يعد من الاسس الاعتقادية التي جاء التأكيد عليها في القرآن الكريم اكثر من مرة و كانت من بعض ما ينكره المشركون و غيرهم... و قد اوردنا هذا النص في ايات المواجهة التي كان المشركون يواجهون النبي خلال جدالهم بالادعاء بما يحلوا لهم الادعاء به من ان النبي ساحر أو شاعر...«اذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة الاف من الملائكة منزلين». آل‌عمران/124في النص متابعة لبعض المواقف النبوية التي كان النبي يخاطب خلالها من يخاطب من الناس... و هنا خطابه صلي الله عليه و سلم للمؤمنين اذ كان في خطابه ما يشير الي العون الالهي الذي اعانهم الله به بما أمدهم به من ملائكة كانوا معهم في ساحة القتال. و كان ذلك في موقعة بدر... و الرسول اذ يقول ذلك انما يقوله من موقع قيادي عسكري اذ كانت قيادته صلي الله عليه و سلم متوزعة علي اكثر من امر وعظي و قضائي و عسكري و غير ذلك...«و يقولون طاعة فاذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول و الله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم و توكل علي الله و كفي بالله وكيلا»... النساء/81في النص ما يصف القول الذي يقوله النبي بأنه واجب الطاعة لا يجوز التفريط فيه و لا التقصير في أداء ما يترتب عليه من الاوامر و النواهي. و الموضوع هنا وارد في قوم كانوا لا يتأثمون من عصيان ما يقوله النبي و قد امره الله أن لا يعبأ بهم فان مثل ذلك من مشهود ما يقع للرسل من بعض اتباعهم. و الاتكال علي الله أجدي من الاتكال علي هؤلاء الناس...«و اذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله و تخفي في نفسك ما الله مبديه و تخشي الناس و الله أحق أن تخشاه»...الاحزاب/37في هذا النص متابعة لاحداث وقعت لرسول الله في المدينة تتعلق بالغاء احكام كانت تترتب علي التبني وفق عادة الجاهلية و قد تم شرح ذلك في هذا الكتاب في مكانه. و كان الله قد امر النبي بأن يتزوج زينب بنت جحش زوجة متبناه زيد و يعد ذلك في العرف الجاهلي تحركا غير مألوف بسبب مخالفته لعرف قديم متأصل في تقاليد البيئة العربية...لقد كان النبي صلي الله عليه و سلم يخاطب زيدا برفق كبير وفق ما هناك من ادب المواساة و التلطف في القول... و يفهم من ذلك ان رسول الله صلي الله عليه و سلم كان علي جانب من الالتزام بهذا النمط من السلوك المهذب في مخاطبة الناس. و كذلك قوله تعالي «و تخشي الناس و الله أحق أن تخشاه» فيه ما يدل علي أن النبي لم يكن يواجه المجتمع بما يخالف العنعنات الاجتماعية المتوارثة و هو مما يدل علي أن النبي لم يكن [ صفحه 325] يستخف بالناس في ما كانوا رسموه لانفسهم من سلوك اجتماعي متفق عليه... و انما كان يراودهم علي تغييره او تصحيحه بلطف و حسن مخاطبة.«قل لا اقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم اني ملك...» الانعام/50لم يكن للنبي صلي الله عليه و سلم ادعاء بالملك و لا ادعاء بانه ذو اموال طائلة و خزائن هائلة و لا كان قد واجه الناس يزعم لهم انه يعلم الغيب و لا نفي البشرية عن نفسه بادعاء أنه ملك و قد أمره الله ان يصارح الناس بهذه الحقائق فكان هذا النص آتيا بهذه المصارحة. و في تلك الأزمنة كان اغراء الناس بالاقبال علي ذي دعوة يدعيها أن يتبعوه اذا لمح لهم بانه ذو مال و ذو قوة و ذو اقتدار. ولكن النبي لبث متمسكا بدعوته النقية بانه رسول للناس من رب العالمين من غير ادعاء ملك و عصبة و إمرة.

باب قومك

وردت في القرآن الكريم نصوص مما خاطب الله به نبيه مقرونا هذا الخطاب بذكر النبي منسوبا اليه قومه. و في تضاعيف هذه النصوص مطالب في غاية الاهمية القرآنية التي تبرز من خلالها شخصيته صلي الله عليه و سلم مما نحن في صدد الكشف عنه و الوصول اليه. و فيما يلي هذه الآيات و النصوص...«و كذب به قومك و هو الحق قل لست عليكم بوكيل»... الانعام/66رسالة الرسول الاعظم رسالة عامة الي سائر عباد الله ولكنه من الامر الطبيعي أن تكون هناك فئة تنقل هذه الرسالة الي سائر آفاق العالم. اذ لا يتسني للنبي أن يواجه الناس جميعا في شتي انحاء الارض و علي ذلك امره الله في البدء أن ينذر عشيرته الاقربين فلما تم للدين أن يجد أعوانا من العرب صار نقله الي سائر الامم مسألة منوطة بمسلمة العرب...و في باحة اللقاء بين النبي و قومه من اجل دعوتهم الي الدين الحنيف كانت هناك ظروف من اللقاء و المواجهة أشار اليها القرآن الكريم و هي ظروف مثخنة بالتكذيب و الانكار و المقاومة الشديدة و الرفض القاطع... و بديهي أن سياسة الدعوة التي التزم بها النبي في أخذ قومه الي الاسلام انما كانت سياسة لين و اخذ بهدب الاناة و النقاش الهادي‌ء، و الآية تشير الي أن قوم النبي المراد بهم العرب هنا و المكيون منهم بوجه أخص...«تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا فاصبر ان العاقبة للمتقين»... هود/49نشأ النبي في بيئة لا دراية لها تامة برسالات الرسل و لا المام عندها بفحوي ما جاءوا به من شرائع و ذاك لان القوم كانوا و ثنيين يعبدون الاوثان و لم يكن كهنتهم يوصلون اليهم شيئا من المعلومات التي يلم بها اهل الكتب السماوية. بل ان اولئك الكهنة انفسهم كانوا علي جهل بذلك...و انما تكونت لدي النبي صلي الله عليه و سلم ثقافة مكتملة بهذه الامور من طريق الوحي بعد نزوله. و كذلك كان الامر الذي يتعلق بثقافة العرب المسلمين... و مسألة أمية النبي لم تكن قاصرة علي كونه لا يقرأ و لا يكتب بل كانت كذلك تتناول فراغ ساحته الثقافية مما امتلأت به بمثل هذه الانباء بعد المبعث النبوي...«و انه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون»... الزخرف/44قوله تعالي «ذكر لك و لقومك» أي مجد و شرف و مجال مباهاة و اعتزاز... قال في صفوة البيان لمعاني القرآن ]«و انه لذكر لك و قومك» أي ان ما أوحي اليك و هو القرآن لشرف عظيم لك و لقومك أي للعرب عامة و فيهم قريش «و سوف تسألون» يوم القيامة عنه. و عن القيام بحقه[... [ صفحه 326] أجل لقد كان النبي و هو يحمل ثقل مهمة الدعوة الدينية يشعر بأن ذلك و ان كان تكليفا شاقا انما هو محل ثقة الله به اذ ناط اليه الامر العظيم. و كون القرآن ذكرا لقومه العرب انما يعني ان هذه الامة ستتولي بكل حرص و اخلاص وجد حمل الدين الي سائر سكان الارض... حقا انه لشرف جد عظيم... و قوله تعالي «و سوف تسألون» اي سوف تسالون عن موقفكم من تقبل هذا الشرف الذي شرفكم الله به و هذه المنزلة التي أنزلكم الله في اعلي منازلها... لقد كان العرب الدين حملوا رساله الاسلام الي العالم اول الفتح جديرين بالتقدير و الاعجاب من سائر كتبة التاريخ المنصفين... اذ كانت سيرتهم في البلاد المفتوحة سيرة شريفة و قبيلة اذ لم يتعرضوا لاموال الناس و لا سحروا بجمال النساء في البلاد المفتوحة و لا لجأوا الي التعسف و الاضطهاد و اكتناز الاموال و البغي علي الناس بغير الحق.«و لما ضرب ابن مريم مثلا اذا قومك منه يصدون»... الزخرف/57يظهر من النص المكي ان القوم في مكة تكلموا علي المسيح فكان ذلك مثيرا في وسط متكلميهم انكار ان يكون المسيح الها ذاك ان العرب عبدوا الاوثان و ما اليها ولكنهم لم يعبدوا البشر و هذا ما حال دون استطاعة الروم تنصير الجزيرة العربية... و رغم محاولاتهم المتكررة ببعث البعوث و نشر الاديرة باستعمال المغريات... و ما جاء في النص من قوله تعالي «و قالوا أآلهتنا خير أم هو» يريدون به تفضيل معابيدهم علي عبادة كائن بشري اني كان... اي انهم لم يتطرقوا الي ذلك ابتغاء ان يجدوا من يقنعهم بذلك او يخوض معهم في حديث تلك الالوهية البشرية و انما هم قوم ألفوا الجدل و النقاش و علي ضوء ذلك يتكلمون في الامر الذي يوقنون به اولا يوقنون. و انما ولج القوم في هذا المأزق من حديث المعتقدات لغرض نفي ميلهم الي الاعتقاد بالوهية أحد من البشر. و ذاك اذ وجدوا الاسلام يتكلم علي سيرة المسيح بما ظنوه يفيد التزكية و اعلاء المكانة... اي ان قومك عندما جري الحديث علي المسيح وقفوا موقفا حديا في معارضة له اذ كانت الحركة التنصرية ما تزال تتحرك في سائر الجهات... و صحح الله اذهان القوم في المسيح اذ قال فيه «إن هو الا عبد أنعمنا عليه و جعلناه مثلا لبني‌اسرائيل» فحدد بذلك مهمة المسيح و أنه ليس الا من انبياء بني‌اسرائيل الذين ارسلهم الله اليهم [78] ليصحح المعتقدات اليهودية و هذا ما يعد اكمالا للناموس و من هذه الناحية جعلت النصرانية دينا ذا شخصية مستقلة رغم ارتباط المسيحية بالعهد القديم و كونها تعتمد علي هذا الأصل...ان الرومان اعتنقوا المسيحية ليتخذوا منها خيمه يخيمون بها علي العالم و هكذا تم لهم الكثير مما ارادوا حتي جاء الاسلام فطوي صفحتهم الي حين...

باب هل أتاك

تعني كلمة «أتي» في نصوص هذا الباب معني بلغ. و قوله تعالي «هل أتاك حديث موسي. اذ ناداه ربه بالواد المقدس طوي» أي هل بلغك... و مفردات هذا الباب تعد من المسائل التي ثقف الله بها نبيه. و قوله تعالي «و هل أتاك» يعني ان مثل هذه المعلومات تعد ذات اهمية في مجموعة المعلومات التي توفر للنبي قدرا ثقافيا في سيرة الاقدمين من الرسل و غيرهم... و في النص كذلك ما يومي‌ء الي مكانة الحقيقة في مثل هذه الانباء الجديرة بأن تلتفت اليها الانظار و الافكار لما فيها من دواعي العجب في سيرة الرسل و الانبياء و سنسرد ما جاء من النصوص مبدوءا بهذه الصيغة... [ صفحه 327] «و هل أتاك حديث موسي. اذ رأي نارا فقال لاهله امكثوا اني أنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد علي النار هدي»... طه 12/9اذ كان موسي عليه‌السلام قد قتل - و هو في مصر - رجلا من القوم فترك مصر علي اثر ذلك و جاء الي مدين حيث يقيم شعيب عليه‌السلام و هو نبي عربي و قبائل مدين قبائل عربية فآواه شعيب و زوجه بنته و اثر ذلك ابلغ الله موسي برسالته فعاد الي مصر ليصدع بالامر الالهي سمع فرعون...في هذه السيرة معلومات تتعلق بظروف ابتلي بها الله احد انبيائه و هو موسي عليه‌السلام. والامر جدير بان يكون في اطار معرفة النبي اذ تناول حقائق كمبيرة الاهمية يلم بها من يتابع قراءة الآي القرآني الذي سرده بكل تفصيل و دقة...«و هل أتاك نبأ الخصم اذ تسوروا المحراب، اذ دخلوا علي داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغي بعضنا علي بعض فاحكم بيننا بالحق و لا تشطط و اهدنا الي سواء الصراط»... ص 22/21في النص ما يتعرض لحادث وقع لداود عليه‌السلام من قوم ارادوا الاساءة اليه ولكنهم خيب الله سعيهم في ذاك و افشل خطتهم الاثمة فلقد تسور علي داود قصره رجلان زعما انهما جاءا ليتقاضيا عند داود في خصومة وقعت بينهما، والاصل في التقاضي ان يكون من طرق مشروعة و مألوفة و ليس من الصعود الي اسوار القصور و اذ أنجي الله داود من مكيدة دبرت له فانه سجد لله شاكرا حمايته و نجاته «و ظن داود انما فتناه فاستغفر ربه و خر راكعا و أناب» ص/24...في القصة لفت لانظار النبي صلي الله عليه و سلم الي ان داود و هو نبي ذو قوة و حجابة كان غرضا لخصوم كانوا يبيتون له الغدر و المكايد... و في ذلك ايضاح للنبي بأن الانبياء جميعا هم عرضة لمثل ذلك و ليس النبي وحده هو المهدد بخصومة الخصوم و عداوة الاعداء و كيد الكائدين... و لما في قصة داود من غرابة فقد جاء النص بعبارة «و هل أتاك نبأ الخصم» اي ان ذلك مما يحسن ان يصل الي علمه صلي الله عليه و سلم.«هل أتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين، اذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ الي أهله فجاء بعجل سمين، فقر به اليهم قال ألا تأكلون، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف و بشروه بغلام عليم، فاقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها و قالت عجوز عقيم، قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم»... الذاريات 30/24في النص كلام علي جانب سيرة ابراهيم عليه‌السلام و هو يستقبل ضيفا و كان علي جاري اشتهاره باكرام الضيوف قد جلب لهم مائدة كاملة امعانا في حسن استقابلهم ولكن ظهر ان في الامر سرا انكشف لابراهيم خلال ذلك و المعلومات الواردة في حديث ضيف ابراهيم حري ان تكون من بعض معارف النبي اذ جاء في ذات القصة ان امرأة ابراهيم و قد اقبلت و هي محفوفة بنساء لهن ضجة و عجيج علي ظهر الطريق و هذا معني قوله تعالي «و أقبلت امرأته في صرة»، اما قوله تعالي «فصكت وجهها و قالت عجوز عقيم» انها عندما سمعت بالبشري التي بشر بها ابراهيم بانه سيولد له ولد لطمت وجهها لطمة خفيفة علي جاري عادة النساء عند الشعوب عندما يسمعن قالة مثل هذه القالة تعبيرا عن الانكار و فرط التعجب أي كيف يكون هذا و انا عجوز طاعنة في السن...«هل أتاك حديث موسي. اذ ناداه ربه بالواد المقدس طوي، اذهب الي فرعون طغي». النازعات 17/15في النص كلام علي بدء رسالة موسي الي فرعون. فان موسي عليه‌السلام و ان كان قد نشأ في قصر فرعون و في حجر اهله و ذاك معروف تأريخيا فانه لم يكن يملك الجرأة التي تمكنه من مواجهة فرعون و هو في دست [ صفحه 328] حكمه بالكلمة التي تفعل فعلها في نفس فرعون، غير ان موسي عليه‌السلام حين قضي نحوا من عشر سنين في مضارب مدين العربية اكتسب اقتدارا و جرأة جريئة علي الوقوف مثل هذا الموقف من فرعون و غيره... فان الله عزوجل اذا اراد امرا هيأ اسبابه. هكذا زود الله نبيه موسي من خلال الواقعية في الحياة بما أهله المواجهة ملك مصر دون خوف او وجل... و مثل هذه المعلومات من الجدير ان يكون لرسول الله صلي الله عليه و سلم اطلاع عليها...«هل أتاك حديث الجنود، فرعون و ثمود». البروج 18/17ذكر الجنود هنا مشار فيه الي قوة الجهة المتحدث في شأنها فان الله كبت هؤلاء القوم كبتا و خذلهم خذلانا و لم يكن منكروا نبوة رسول الله صلي الله عليه و سلم اقوي من اولئك الذين لم تنفعهم قوتهم الظاهرة في مواجهة اقدار الله...لقد كان الفراعنة مشهورين ببناء الاهرام كما كانت ثمود مشهورة بنحت البيوت في الجبال و قد قرن الله بين فرعون و ثمود من هذه الناحية بقوله تعالي «و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد و فرعون ذي الاوتاد» اشارة الي هذا النمط من الاقتدار و كان ذلك هو الجامع بينهم...«هل أتاك حديث الغاشية، وجوه يومئذ خاشعة، عاملة ناصبة، تصلي نارا حامية، تسقي من عين آنية، ليس لهم طعام الا من ضريع، لا يسمن و لا يغني من جوع»... الغاشية 7/1قال في صفوة البيان [79] في تأويل ذلك انه ]هل اتاك استفهام أريد به التعجب من حديث القيامة و التشويق الي استماعه[...و يبدو أن شيئا من اهوال يوم القيامة ماصح منها و ما لم يصح كان يدور في اذهان الناس يومذاك لذا سماه الله حديثا... و حديث الغاشية حديث مكتظ بالاهوال و ما ترتعد له الفرائص من اخبار العقوبات التي انزلها الله بالعصاة. ان الترغيب و الترهيب امران لهما اثرهما الاعلامي الفعال في نفوس الناس و ليست الشرائع السماوية وحدها هي التي تلجأ الي ذلك بل ان قوانين التربية اعتمدت من قديم الزمان علي الحوافز و العقوبات في اصلاح الامم و درء الفساد... و حديث الغاشية قائم علي هذا الاصل...النصوص القرآنية التي أوردنا ما اوردنا عليها من الكلام آنفا يتعلق بعضها بالمعنويات و بعضها بمسائل من سير الانبياء اشعارا بان ذلك مما تتم به معارف النبي صلي الله عليه و سلم و يشتد بها عزمه غير ان آية قرآنية واحدة وردت بذات الاسلوب اوردت موضوع التقاء بين النبي و بين فئة ذكرها الله باسمها مما يعد من بعض وقائع السيرة النبوية في العهد المدني و ذاك في قوله تعالي «و لا علي الذين اذا ما أتوك لتحملهم» التوبة/92... الالتقاء هنا التقاء واقعي اذ جاء قوم يريدون السلاح ليشاركوا في الجهاد فبين لهم النبي انه ليس بين يديه من ذلك شي‌ء فعادوا يبكون لحرمانهم من الاشتراك في الجهاد في سبيل الله [80] ... [ صفحه 329]

باب استعذ بالله

وصي الله عزوجل نبيه بالاستعاذة به من الشيطان اشعارا بان الشيطان عظيم الخبث و دقيق المكيدة و ان الله هو الملاذ الذي يلوذ به عباده المؤمنون من همزات الشياطين و ان الله عزوجل هو الملاذ الحصين للائذين به من المؤمنين و ان الشيطان لما طبع عليه من اشاعة الشر و نشر الفساد و ايغار صدور الناس بالعداوة و البغضاء و لانه - اي الشيطان - شر مطلق لا تفسر همزاته بارادة الخير بحال من الاحوال فلذلك وصي الله نبيه ان يتسعيذ من الشيطان به و في ذلك توجيه لسائر المؤمنين بان يستعيذوا بالله من الشيطان فاذا خطر في بال احدهم خاطر مما يمت الي ذلك تذكروا فاذا هم مبصرون... و فيما يلي بعض نصوص الاستعاذة...«و إما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله انه سميع عليم»... الاعراف/200وصف الله نفسه بهذا النص بانه سميع عليم لتركيز الثقة و اقرار الاطمئنان في النفوس التي تريد لتقوي بسلاح يعصمها من الشيطان. و في النص توصية بوجوب المبادرة الي الاستعاذة بالله عند عروض اي بادرة من بوادر النزغ الشيطاني... و بديهي ان الشيطان لا يدعو الي الخير فلذلك لا مجال الي الاطمئنان لشي‌ء من نزغاته و همزاته و بذلك لا يملك الفرصة لاقرار ما يريد في نفوس المؤمنين الذين يبادرون علي الاستعاذة بالله من شره...«فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم»... النحل/98قراءة القرآن مصدر اهتداء بهدي القرآن و مبعث استنارة بنور القرآن و اذا رأي الشيطان من يقبل علي قراءة القرآن فانه سيعمد الي تثبيطه و صرفه عن ذلك بمشاغلته بالخواطر و الوساوس و سائر ما يشغل الانسان عن المضي في عمل يريد عمله و بذلك فالاستعاذة من الشيطان الرجيم قد وقعت في موقعها الذي يفوت عنده الفرصة علي الشيطان فلا يملك ان يصنع شيئا يشوش به المتنسك و يثبط به المتعبد...«ان الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم الاكبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله انه هو السميع البصير»... المؤمن/56كذلك تكون الاستعاذة من شرار الناس و طغاتهم و من طبع منهم علي العدوان و اقتراف الشر فانهم لا يعدون من جنود ابليس و من رهط الشيطان...«و اما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه هو السميع العليم»... فصلت/36ان تولي الله رسوله بالرعاية و الحماية كان منها الاكثار من تحذيره من نزغ الشيطان ليكون شديد التنبه الي دور هذا الكائن الجهنمي في افساد الناس و اضلال العباد. ان مثل هذه التحذيرات القرآنية تهدي الي ان تكون كفة الخير في الناس هي الراجحة. و في نصوص الاستعاذة ما يدل علي ما كان يتمتع به رسول الله صلي الله عليه و سلم من مقاومة عالية لسائر المغريات مادق منها و ما جل فكان بذلك رسول الله دعامة هذا الدين و عمود التوفيق للنصر الذي أتمه الله لهذا النبي العظيم...

باب الشاهد و الشهيد

الشاهد و الشهيد في معني واحد هو أن يكون مطلعا علي امر وقع علي علم منه كأن يكون رآه أو سمعه. و منه قوله تعالي «و لا يضار كاتب و لا شهيد...» البقرة/282. و الشهادة في هذا المعني واردة في القرآن الكريم في مثله قوله تعالي «و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فانه آثم قلبه» البقرة/283...و ترد كلمة الشهيد في معني الاشراف و شدة النفوذ و قوة التأثير و من ذلك «و جئنا بك علي هؤلاء شهيدا» النساء/41... و من معانيها الاقرار [ صفحه 330] و الاعتراف و من هنا كانت الشهادة عند الفقهاء و القضاء، بمقام اليمين فمن قال اشهد فكانما اقسم يمينا... و قوله تعالي «ائنكم لتشهدون أن مع الله الهة اخري قل لا أشهد قل انما هو اله واحد و انني بري‌ء مما تشركون» الانعام/16. اي ارفض الاعتراف بهذه العقيدة... و الشهادة بمعني الحضور و الرؤية في مثل «اشهدوا خلقهم» الزخرف/19... و في مثل «ما اشهدتهم خلق السماوات و الارض» الكهف/51... و الشهادة كذلك بمعني القيمومه و الرقابة و منه قوله تعالي «انا ارسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا» الفتح/8 اي فيما و ذا حضور و رقابة. و فيما يلي ما اخترناه من الايات القرآنية في هذا الباب...«و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا...» البقرة/143والنص هنا يزكي الامة الاسلامية التي وصفها بانها امة وسط لكي تفيض علي سائر الامم و الشعوب مما اصابها من الهدي و الصلاح و يكون التوجيه في ذلك كله لرسول الله صلي الله عليه و سلم بما يعلمهم به و يهديهم اليه و قد ثبت تأريخيا ان هذه الامة المراد بها الامة العربية كانت علي هذا الحد من الوصف اذ هدت شعوب العالم الي دين الله الحنيف الذي مازال قائما و راسخا في نفوس المؤمنين...ان قيمومة الامة هذه لا تنقطع و انما هي مستمرة الي قيام الساعة... و كذلك جاء في آية الحج الثامنة و السبعين و هي سورة مدنية قوله تعالي «و جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة ابيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل و في هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء علي الناس فأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولي و نعم النصير»... و النص هنا يوضح قصد الشهادة التي جعلها الله للامة علي الناس و هي مهمة هداية و اصلاح و ارشاد مستديم الي ابد الزمان...«ان الله لا يظلم مثقال ذرة و ان تلك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه اجرا عظيما، فكيف اذا جئنا من كل امة بشهيد و جئنا بك علي هؤلاء شهيدا، يومئذ يود الذين كفروا و عصوا الرسول لو تسوي بهم الارض و لا يكتمون الله حديثا... النساء 42/41/40المراد بهذا الاشهاد و الشهادة هو ما يكون لكل امة يوم القيامة من شأن في الشهادة علي وصول الدين اليها و التزامها به اذ يحضر الله انبياءها و رسلها ليدلوا بشهادتهم في انهم اعلموا الناس طاعة الله و نهوهم عن معصيته و لان الرسول الاعظم كان خاتم الانبياء فانه كان صاحب الشهادة العظمي في هذا الامر، اذ اراد الله ان يزكي شهادة الرسل و يكون للنبي في ذلك ما يكون من حضور و انما جاء النص بهذا توكيدا لدور الرسول صلي الله عليه و سلم يوم القيامة و في هذا كذلك دلالة علي ما خص الله به نبيه من ديمومة وجوده في امته حيا و ميتا و في عالم الدنيا و الاخرة... و النص مدني و قد جاء في معناه نص اخر مكي هو قوله تعالي «و يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم و جئنا بك شهيدا علي هؤلاء و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‌ء و هدي و رحمة و بشري للمسلمين» النحل/89... فهما نصان الي معني واحد.«قل أي شي‌ء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم و أوحي الي هذا القرآن لانذركم به و من بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة اخري قل لا أشهد قل انما هو اله واحد و انني بري‌ء مما تشركون»... الانعام/19يشير هذا النص الي مجابهة جدلية عنيفة كانت بين النبي و بين كفار قومه و كان موقف النبي جديا غاية الجدية و صريحا كل الصراحة في انه يرفض الشرك مهما كان من اصرار المشركين عليه و لا تسامح و لا لين و لا [ صفحه 331] مهادنة صغرت او كبرت من النبي لقومه في هذا الامر و كان هذا مما ادي الي تقديم موقف القوم لشدة تمسك النبي بالعقيدة التي صدع بها في اوساطهم فكان ذلك من اسباب دخولهم في دين الله افواجا اذ كان صبر النبي علي ما لقيه منهم من اذي و عدوان مضرب المثل في الصمود و الحرص علي امانة نبليغ بما بعثه الله به و ما اوحاه الله اليه صلي الله عليه و سلم...«و ما كنت بجانب الغربي اذ قضينا الي موسي الامر و ما كنت من الشاهدين»... القصص/44نفي ان يكون النبي صلي الله عليه و سلم شاهدا الاحداث التي عاشها موسي عليه‌السلام و انما كان وصولها الي رسول الله بوحي الله و مثل هذا النص في القصد و المعني قوله تعالي «و ما كنت ثاويا في اهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين» القصص/45... اي ما كنت تتنقل بين هذه الانحاء تنقلا جسديا لتأتي باخبارها و تتحدث باحداثها ولكن الله اطلعك علي ذلك و علمك منه مالم تكن تعلم...«يا أيها النبي انا إرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا، و داعيا الي الله باذنه و سراجا منيرا»... الاحزاب 46/45في النص تعداد لجمهرة من واجبات الرسالة و مهماتها و قد ذكرها الله عزوجل مجتمعة في مقدمتها انه سمي النبي شاهدا و اتبع ذلك بان سماه مبشرا و نذيرا و داعيا الي الله. انها هي مهام التبليغ الالهي للشريعة و ختم النص بقوله «و سراجا منيرا» هو لقب تكريمي جعل الله به للنبي قدرا عاليا ملازما لذاته الشريفة الي اخر ايام الدهر و لحظات الزمان...و تكرر القول علي ان الله أرسل محمدا شاهدا و مبشرا و نذيرا في سورة الفتح الاية الثامنة «انا ارسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا»... و جاء تلو النص «لتؤمنوا بالله و رسوله و تعزروه و توفروه و تسبحوه بكرة و اصيلا» في التنويه بما كان من اكثر ذلك في الامة.مما استوجب ان تلهج الامة في جميع ادهارها بذكر الرسول مقرونا بالتوقير و التكريم و الاجلال و الاكبار...«إنا أرسلنا اليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا الي فرعون رسولا»... المزمل/15المراد بكون الرسول شاهدا عليهم انه يتولي الاشراف الكلي عليهم لبيان قوة الاحاطة و شمولية الاشراف و الرقابة. و في الآية تحذير للقوم من معصية الله و الرسول... فان فرعون بمعصيته للرسول عرض نفسه لبطش الله به و تنكيله الشديد...ان آيات الشهادة و نصوصها تعد من الثواب المتممة لآيات الوحي في التنزيل...باب (المن الالهي برسالة الرسول)تعني كلمة (المن) غاية التفضل علي منعم عليه بنعم تستحق الشكران و اللهج بتقدير الجميل و قد تحتوي كلمة (المن) علي سرد لحسنات و مكارم و أعطيات و خير كثير و عون كبير يراد بسردها بيان عظمة المنعم و بالغ رعايته علي من أنعم عليه و كذلك لبيان موقع من اصابته هذه النعم و جلالة قدره و رفعة مقامه بحيث استأهل تلك النعم التي جعلها الله محل المنة و ايراد الذكر لتكون محل الاعتبار و الثناء و الاعتراف بما لها من عظيم الاهمية و جليل الشأن...و الغالب في هذا المقام ان تكون المنن الالهية التي يمن الله بها علي عباده مننا لا تثمن لغلائها بثمن و لا توزن لثقلها بميزان و قوله تعالي «لقد من الله علي المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم...» آل‌عمران/164... بأن ذلك كان من الله عزوجل عطاءا لا يكافأ بشكر و نعمة لا توازي بثناء و لو كان ذلك الشكر و هذا الثناء مل‌ء اقطار الارض و مل‌ء ما احاطها او احاط بها من سمائها... لم يقع أن من الله علي أمم سلفت بما ارسله اليها من نبي و رسول ولكن ذلك كان خاصا برسول الله محمد [ صفحه 332] بن عبدالله وحده و الامر جدير أن يعد من أمارات قدسية النبي المعلنة اكثر من مرة بأكثر من نص قرآني كريم... و فيما يلي بعض آيات «المن» نوجز الكلام عليها. اذ ان الاطالة في الكلام عليها لا حد لها و هي حقا جديرة أن لا يكون لها حد...«لقد من الله علي المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب والحكمة و ان كانوا من قبل لفي ضلال مبين»... آل‌عمران /164الرسالات السماوية اذ يختار الله لها من يختار من الرسول ليتولوا نقلها الي أممهم و لكي يبلغوا فحواها و محتواها اممهم و اقوامهم انما هي مما يمن الله به علي الرسل و علي من يرسلون اليهم و انما يكون ذلك منا علي الرسل لانهم يكونون بذلك محل ثقة الله و موضع اعتماده و مناط التكليف الالهي و ليس مثل ذلك بالامر الهين اليسير «قالت لهم رسلهم ان نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن علي من يشاء من عباده و ما كان لنا أن نأتيكم بسلطان الا باذن الله و علي الله فليتوكل المؤمنون» ابراهيم/11... اما من يمن الله عليهم من الناس بارسال الرسل اليهم فانما يكون المن كائنا بفعل ما يصيبهم من صلاح الاحوال و الاهتداء الي الدين القيم و العبادة الحقة التي لا شرك فيها و لا زيغ عن محجة التوحيد و في القرآن الكريم «لقد من الله علي المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و ان كانوا من قبل لفي ضلال مبين». فهذا المن من علي الامة اذ الامة كلها ممنون عليها بمبعث رسول الله صلي الله عليه و سلم ولكن الله خص فئة المؤمنين بهذا المن لانها فئة كسبت الكثير من الخير و اصابت من حقائق الشريعة ما اصابت و نالت من نور الهداية ما نالت فكان في مخاطبتها باعلان المن عليها ما يعد من المنن التي يتصل بها الواقع من جميع أطرافه...و في المن علي المؤمنين برسالة الرسول الاعظم ما يعد تكريما لشخصية الرسول و بيانا بأنه يصلح ان يكون محلا للمن علي الامة فانه صلي الله عليه و سلم لو لم يكن ذا مكانة عظيمة عند ربه بحيث اختاره لرسالته لما ذكر اسمه في النص في مقام المنة علي الناس لا سيما مؤمنيهم و كان حجم هذه المنة كبيرا جدا علي المؤمنين لانهم و صلوا الي الايمان بعد أن كانوا علي ما جاء في النص «في ضلال مبين»... لقد وصف النبي هنا بأنه بعث يعلم الناس الكتاب و الحكمة و يأخذ بهم الي عالم من التزكية نقي طاهر... و نسبة التزكية الي الرسول يأخذ الناس اليها او يأخذها اليهم امر يدل علي عظم مكانة هذا النبي و عظم المهمة التي و كلها الله اليه. و لقد كان صلي الله عليه و سلم حقيقا بهذه السمات و الصفات و ما وراءها من تشريف و تكليف...ان معني المن بهذا النص انما هو المباهاة و اعلان التفضل بما يستوجب ذلك و يستأهله، و ما يباهي الله بالامر البسيط انما يباهي بالامر الجليل و كذلك كانت هذه المباهاة التي جاءت بلفظ المن، و قد جاء طرف من هذا النص في سورة الجمعة الآية الثانية اذ قال عز من قائل «هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و ان كانوا من قبل لفي ضلال مبين»... اذ جاء فيه تعليم الكتاب و الحكمة و التزكية في مقابلة وضع يعد تصحيحه غير سهل و لاهين و ذاك هو كون القوم أميين.«يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان ان كنتم صادقين»... الحجرات/17الذين يمنون علي النبي بأنهم اسلموا كانوا يريدون جعل النبي في موضع المنة و هم في موضع التفضل في [ صفحه 333] حين أن اعتناق احد الاسلام انما يعني انه اكتب شيئا خرج به من الظلمات الي النور فالكسب هو كسبه فان لم يحمد من سعي في هدايته فليس له أن يمن عليه بها. و قوله تعالي: «بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان ان كنتم صادقين» يعني عدم القطع بصحة ايمانهم و بذلك يكون معني الاسلام في اول هذا الكلام متضمنا الاستسلام و الخنوع و التظاهر بالطاعة و قوله تعالي: «بل الله يمن عليكم» يعني ان المن في وصول الايمان الي قلب الكافر انما هو لله الذي يهدي الي دينه من يشاء... فقد بات من حقائق الدين أن الاهتداء اليه انما هو من توفيق الله و من تسديده و هدايته...«و ان لك لأجرا غير ممنون»... القلم/3كان من اوائل ما اشترك فيه الرسل في اسلوب مخاطبة اممهم أنهم قالوا لهم بلسان واحد انهم لا يطالبون احدا بأجر و انما يكون اجرهم علي ربهم... و في هذا النص بيان خوطب به الرسول لان له عند ربه اجرا لا يمن به عليه اي لا يقل و لا يسترجع منه شي‌ء و لا يذكر به دائما علي وجه التفضل تنويها بأن هذا الاجر حق ثابت له لعظم ماأداه من خدمات جليلة فيها من طاعة الله ما فيها و من اصلاح امر الامة و اخراجها من الظلمات الي النور و بذل الجهد الجهيد في هذا الوجه ما هو ثابت و جدير بالاجر و التقييم [81] .و قد جاء هذا النص ضمن كلمات قرآنية كريمة أحيط النبي منها بكل تعظيم و تكريم و ذاك هو قوله تعالي: «ن و القلم و ما يسطرون. ما انت بنعمة ربك بمجنون. و ان لك لاجرا غير ممنون. و انك لعلي خلق عظيم»

في باب جاءك... جاءوك

في مجي‌ء اناس الي رسول الله لامر ما اشغال للرسول و استخدام لبعض وقته في امور تعنيهم بالدرجة الاولي و يكثر الذين يراجعون النبي في مسائل متعددة و قضايا كثيرة تشغل من وقته صلي الله عليه و سلم ما قد يكون طويلا. و يعد تردد هؤلاء عليه عاملا مستوجبا أن يتخذ الرسول في شأن ذلك موقفا محددا...ان هذه المراجعات و المجيئات هي من بعض ما يدخل ضمن الوظائف النبوية التي ناطها الله برسوله صلي الله عليه و سلم و قد يكون فريق منها حاصلا ابان وجودالنبي في بيته نائما و خلال وقت من اوقات راحته أو عند استقباله بعض ضيوفه و الوفود القادمين عليه او كان مشغولا بتدبير أموره البيتية او كان عاكفا علي صلاته و تلاوته و في احاديث له مع نسائه و كذلك يقع هذا في طريقه الي [82] غزوة ما او سفرة من سفراته. و قد يكون النبي صلي الله عليه و سلم في احدي حالات استقباله الوحي و هو في بيته [83] ...و فيما يلي تنويه بهذه المجيئات نسردها تباعا مع شرح ما يستوجب شرحه...«فكيف اذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله ان أردنا الا احسانا و توفيقا، أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم و قل لهم في انفسهم قولا بليغا». النساء/62... [ صفحه 334] في النص اشارة الي بعض اللقاءات ذات الاحراج و المواقف الساخنة. مما يفهم منه ان النبي كان يتعرض لمواقف تتطلب التصرف الحكيم الذي كان الرسول يملك منه الكثير...و من المواقف ذات الاحراج و الطبيعة الخاصة ما جاء في قوله تعالي «و من الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم اخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون ان أوتيتم هذا فخذوه و ان لم تؤتوه فاحذروا و من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا اولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي و لهم في الاخرة عذاب عظيم، سماعون للكذب أكالون للسحت فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم و ان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا و ان حكمت فاحكم بينهم بالقسط ان الله يحب المقسطين» المائدة 42/41... ففي النص تفاصيل يتضح بها ما لهذا اللقاء بين الرسول و بين القوم من شأن خطير و قد جعل الله لرسوله - هنا - حق الاختيار و التصرف في هذه المقابلة و انها حقا يشتد فيها الهم و تتكثف فيها الحيرة و ينبغي فيها من الصبر و التحلم مالا يتهيأ لسائر الناس ولكن الرسول صلي الله عليه و سلم كان علي قسط عظيم من التوفيق و التمكين في مثل هذه المواقف... لقد كان رسول الله صلي الله عليه و سلم قمة في الحكمة و الرشاد و ضبط النفس و السيطرة علي الساحة و إلجام الخصوم بالكلمة. المقنعة يستوي في ذلك كلتا حالتي الحكم بينهم و الاعراض عنهم...«و ما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله و لو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما»... النساء/64الكلام هنا في امر معلوم وقع للقوم علي عهد رسول الله، فكان في ايراده بعض العتاب و اللوم و الوعظ و التوجيه، و لا يقاس امر آخرين من الناس عليه. لا في ذات الزمن و لا بعده. و من اجل ذلك لا ينسحب النص علي مجي‌ء قوم الي رسول الله في مثل هذا المعني بعد وفاته صلي الله عليه و سلم. و ذاك لانعدام المطابقة التامة علي اركان الكلام شكلا و موضوعا...«و منهم من يستمع اليك و جعلنا علي قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا و ان يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتي اذ جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا ان هذا الا اساطير الاولين»... الانعام/25ان مجي‌ء امثال هؤلاء الي الرسول لمجادلته انما هو مجي‌ء من يحمل الازعاج و التنغيص و اسباب الفتنة. و كان الرسول صلي الله عليه و سلم ابدا عرضة لاستقبال من هم علي هذه الشاكلة من ذوي اللدد في الخصومة و الشراسة في الخطاب و الزوغان عن محجة الانصاف في المناقشة... و النص يعد كذلك من نصوص المعاناة...«و اذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم علي نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده و أصلح فأنه غفور رحيم»... الانعام/54هذه الآية من بعض آيات الالتقاء بين الرسول و بين رجال من ابناء الامة - و هم هنا - ممن ظهرت عليهم أمارات التوبة و اللياذ بطاعة الله و قد علم الله نبيه في هذا المقام كيف يستقبل اولئك التائبين بما يقر في نفوسهم الطمأنينة الي لطف الله بهم و عظيم رعايته اياهم... و جاء في النص شي‌ء من مبادي‌ء التوبة في الملة فان للتوبة ضوابط اذا لم يقع الالتزام بها فلا توبة هناك...«يا ايها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك علي أن لا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن و لا يزنين و لا يقتلن اولادهن و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن [ صفحه 335] و لا يعصينك في معروف فبايعهن و استغفر لهن الله ان الله غفور رحيم»... الممتحنة/12مجي‌ء المؤمنات الي الرسول صلي الله عليه و سلم لمبايعته بما يبايعنه عليه من التمسك بشعائر الاسلام و تسجيل العهد علي انفسهن بأن لا يخالفن اوامر الله و لا يقترفن شيئا من معاصيه... ان قدوم هذا الفريق من نساء المؤمنات الي النبي فيه موقف ولاء و فيه صورة ايمان و فيه حضور لنساء الامة بين يدي الرسول و ذاك مما يعبر عن ان الشريعة لم تغفل المرأة في مسؤوليتها تجاه بناء الكيان الاسلامي... و قد قال الله في مخاطبته في هذا الامر «فبايعهن و استغفر لهن الله»...«ألم تر الي الذين نهوا عن النجوي ثم يعودون لما نهو عنه و يتناجون بالاثم و العدوان و معصية الرسول و اذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله و يقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير»... المجادلة/8في النص بيان لغاية ما يكون عليه القبح في تعامل بعض الناس ممن كانوا يجيئون النبي اذ لا يحسنون التحية التي هي من بعض محاسن الاداب. ان الالقتاء بأمثال هؤلاء الناس هو من بعض ما تتوخاه مهام الرسالة و مطالب النبوة و في احتمال الرسول الاعظم الصبر علي مثل هذه المزعجات دليل الاقتدار العظيم الذي يمتلكه رسول الله صلي الله عليه و سلم في سائر المجالات...«اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبون»... المنافقون/1المنافقون فئة ظاهرها في ما تتظاهر به هو الاسلام الا انها اخفت نفاقها و واقع عقيدتها فلم تكن معروفة لاحد... «لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين» التوبة/101... غير ان الامر في معاملتهم و عند وجودهم مع المسلمين كان يعتمد علي كثير من الحذر و التثبت و لذلك وصي الله نبيه ان يحذرهم «هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله اني يؤفكون» المنافقون/4...و قد تصل انباء فريق منهم الي النبي اذ يكتشفهم من يراهم مع العدو «و اذا خلوا الي شياطينهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزئون» البقرة/14...و بوجود هذه الفئة في بيئة المسلمين فان النبي قد وهبه الله ملكة الحذر العظيم و النباهة الخارقة في حال اجتماعه بالناس اذ لا ينكشف ثمة سر و لا يعلن خفي امر لا يراد ايصاله الي عدو الا بالتحوط التام. والنص القرآني جعل للمنافقين اكثر من سمة في هيئاتهم و في حديثهم بحيث كان القرآن يفضحهم و يكشف عن هوياتهم و يبدو أن المنافقين كانوا كثيرين و كانت كثرتهم من بعض اسباب لفت الانظار اليهم والارتياب منهم.

باب العجل الالهي

«و ما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب علي عقبيه و ان كانت لكبيرة الا علي الذين هدي الله و ما كان الله ليضيع ايمانكم ان الله بالناس لرؤوف رحيم». البقرة/143لقد كان في امر القبلة و ما كان من تحويلها شي‌ء من اختبار المؤمنين فهي في الحقيقة من اخطر المهام التي نهض النبي بها اول مجيئه الي المدينة و قد اوردنا في هذا الموضوع ما يصح به الاكتفاء...«و لو شاء الله ما اشركوا و ما جعلناك عليهم حفيظا و ما انت عليهم بوكيل»... الانعام/107نفي جعل النبي علي القوم حفيظا بعد النص علي ان الله لو شاء لما اشرك المشركون يفهم منه تحديد اختصاصات النبي و أنه صلي الله عليه و سلم لا تنعقد عليه مسؤوليات لم يشأ الله مساءلته في شأنها... و يقوي هذا المعني ما جاء في اخر النص «و ما أنت عليهم بوكيل»... [ صفحه 336] «تبارك الذي ان شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار و يجعل لك قصورا»... الفرقان/10يفهم من هذا النص و هو صريح الدلالة علي ما جاء فيه. ان النبي صلي الله عليه و سلم يكن ذا ممتلكات و اموال و اطيان و قصور ينعم منها بالحياة الرغيدة و ينفق منها علي الاعوان و المريدين شأن من يفعل ذلك من ذوي الغني و اليسار و الطول و هذا يعني ان النبي لو كان كذلك و آمن له الناس لقال قائلون انه اشتري ضمائر الناس و عقولهم بامواله و لقال قوم انه نشر الاسلام بسيفه. و لا موقع للسيف في ايصال الاسلام الي قلوب من اسلم من الناس...«ثم جعلناك علي شريعة من الامر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون»... الجاثية/18الشريعة التي جاءت الاشارة اليها في هذا النص انما هي شريعة مجعولة من الله لرسوله ينشرها في الناس و هو أمور من الله بالالتزام بها و اتباعها و الحرص علي ما فيها و الذياد عنها و الوقوف في وجه خصومها و تقع عليه مسؤولية حمايتها بكل ما يملك من اقتدار علي ذلك.والتعبير القرآني هنا بأن الله جعل نبيه علي شريعة من الامور هو ذات التعابير القرآنية الاخري التي تشير الي أن الله اوحي الي عبده ما أوحي و انه ارسله الي عباده كما ارسل النبيين من قبل و انه جعله بشيرا و نذيرا و داعيا الي الله باذنه... ان تعدد هذه العبارات التي يخبر بها الله عن نبوة نبيه يعد من بعض اساليب البلاغة في التنزيل العزيز...في استعمال «جعل» كقوله تعالي «ثم جعلناك علي شريعة من الامر» ما يومي‌ء الي ان جعل النبي في هذا الموقع النبوي انما هو جعل الهي لا يد النبي فيه فكأن ذلك من بعض الامر الواقع الذي لا محيد عنه و لا مناص والله أعلم حيث يجعل رسالته...

الكلام علي كلمة حفيظ

نفت الشريعة أن تكون علي النبي تباعة قائمة تلزمه بتحمل مسؤوليات كفر الناس و عنادهم و عدم ايمانهم... و فيما يلي الآيات التي تشير الي ذلك...«من يطع الرسول فقد أطاع الله و من تولي فما أرسلناك عليهم حفيظا»... النساء/80ان اطاعة الرسول انما كانت من رغبة من شاء اطاعة الله اما من تولي فقد تولي بوزره و لا مسؤولية نعلق برسول الله في هذا التولي اي ان الله عزوجل لم يسجل علي نبيه مثل هذه الامور في سجل الفشل و عدم التوفيق و يفهم من ذلك ان ايمان من آمن لم يكن بفعل استعمال القوة و جر الناس الي الايمان جرا...«و لو شاء الله ما أشركوا و ما جعلناك عليهم حفيظا...»... الانعام/107النص ينفي وقوع أنه مسؤولية علي النبي في شرك قوم او ايمانهم و في رفضهم الايمان و امتناعهم عن اعتناق الاسلام. «و ما جعلناك عليهم حفيظا» لان النبي لم يجعله الله حفيظا علي الناس و انما هو رسول يدعو الي الله فمن آمن فقد اهتدي...«قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه و من عمي فعليها و ما أنا عليكم بحفيظ»... الانعام/104النص واضح في بيان مسؤولية من يؤمن و من يكفر فقد وصف المؤمن بانه مبصر و وصف من لم يؤمن بانه اعمي والبصر والعمي يجعلان تصرف كل من البصير والاعمي قائما علي مسؤولية ذاتية لا يحمل عليها احد و لا يكره و جاء نفي ان يكون النبي حفيظا علي اولئك الناس او رقيبا او وكيلا او مهيمنا من طريق ان النبي هو الذي يقول ذلك «و ما انا عليكم بحفيظ» و ما مر من الآيات في هذا المعني كان نفي ان يكون النبي حفيظا علي الناس قد جاء منسوبا الي أن الله هو الذي لم يجعله حفيظا علي الناس... [ صفحه 337] «فان أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا»... الشوري/48اعراض الناس عن الاستجابة لدعوة الله اياهم الي الايمان هو من شأن الناس و لا تنسب الي النبي أية تبعة تقصير في هذا الاعراض. لان الله لم يجعل النبي حفيظا علي العباد و يفهم من هذا ان النبي كان آخذا ببذل كل جهد ممكن لحث الناس علي الايمان و التعلق بالشريعة التي جاء بها من الله. و اذ كان ذلك معلوما عند الله فلا تباعة علي النبي في إعراض الناس عن الاستجابة له... و قد علمنا من جهد النبي الذي بذله في دعوة الناس الي الله مادل علي فرط حرص النبي علي هذه الدعوة و علي ما عاناه من عناء يشيب لهوله الولدان...

باب انك ميت و انهم ميتون

الموت حالة تعقب حياة الاحياء يستوي بالاذعان له سائر الكائنات التي تتمتع بالحياة من بشر و حيوانات و نباتات علي تفاوت في اعمار الحياة التي تحياها تلك الكائنات... و لذلك لا مجال لاستثناء احد من بني البشر و غيرهم من الموت... و في الموت الذي تصيب مصيبته الانسان يعرف بوضوح ان الانسان ليس الها... و النبي صلي الله عليه و سلم و سائر الرسل المقربين من ربهم مر بهم ملك الموت فغادروا هذه الدنيا تاركين للبشرية ما جاءوها به من الشرائع و القيم و التعاليم الرشيدة و تاركين وراءهم من اتباعهم من يستمسكون بتعاليم اولئك الرسل لان موت نبي او رسول لا يعني انتهاء حكم شريعته و هذا ما اشار اليه النص القرآني «و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم علي اعقابكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا و سيجزي الله الشاكرين» آل‌عمران/144... فانا نري في هذا النص ما يؤيد ان الشرائع لا تموت بموت الرسل و النبيين و من ظن ذلك فهو فاسد الظن لان الشرائع من الخير الذي لا يزول و مما ينفع الناس فيمكث في الارض... و أن رسل الله حري ان تكون لهم مكانة عالية في التأريخ و في نفوس من آمن بهم و من تلقي هذا الايمان و ورثه من ابنائهم و ذرياتهم...علي ان الموت ليس عقابا و لا انتقاما و لا هدرا للحياة و لا الغاءا لوجود الانسان و انما هو انتقال من عالم الي عالم اذ ستعود الحياة الي موتي الاحياء و سيلقي اخيار الناس و صلحاؤهم الجزاء الاوفي من لطف الله و احسانه، و يلقي الظالمون ما يستحقون من عادل العقاب علي ظلمهم و عدوانهم و عصيانهم و مساوئهم و علي هذا قام امر هذا الوجود الكوني و لا يعلم الساعة الا رب الساعة «و يسألونك عن الساعة ايان مرساها. فيم انت من ذكراها. الي ربك منتهاها» النازعات 44/43...و هناك آيات قرآنية في هذا المعني منها قوله تعالي:«انك ميت و انهم ميتون». الزمر/30أي انك و سائر عباد الله مقدر عليهم الموت. و أعظم الادلة علي الوهية الاله و ربوبية الرب هو أمر الاماتة والاحياء و ان كان كل شي‌ء في هذا الملكوت الواسع الارجاء له دلالة علي وجود الله عزوجل و قوة سلطانه [84] ...«و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون»... الانبياء/34و هذا نص فيه تعميم لسريان الموت علي الجميع...ان رسالات الرسل ليست من الحاجات الآنية لان فيها امر بناء الامم و اصلاح الناس. و كان قوم يظنون رسالة السماء وضعا موضوعا لا يقوم علي دستور الهي [ صفحه 338] مرسوم. و في القرآن الكريم في الكلام علي يوسف عليه‌السلام «حتي اذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا»... المؤمن/غافر/34و انما قطعت رسالات السماء الي رسل من البشر بعد مجي‌ء رسول الله محمد بن عبدالله صلي الله عليه و سلم اذ وحدت رسالته سائر شعوب العالم كما انها كانت شريعة شاملة لجميع حاجات الناس في حياتهم الدنيا و الاخري...

باب توكل علي الله

التوكل هو الاعتماد و عقد الرجاء علي العون المعين عند ارادة المضي في أمر يتطلب هذا العون. و كان النبي صلي الله عليه و سلم مؤهلا بكل الاقتدارات الشخصية التي زوده الله بها يوم بعثه نبيا و رسولا الي الناس... و كانت آيات في التوكل علي الله قد وردت في القرآن الكريم مخاطبا بها رسول الله سنأتي علي ذكرها و شرحها في هذا الفصل...«... و شاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل علي الله ان الله يحب المتوكلين»... آل‌عمران/159في النص توكيد لاهمية المشاورة التي من طبيعتها في الغالب أن تتداعي عليها عقول و افكار كثيرة فلقد أمر النبي بأن يستشير من معه من المؤمنين فاذا اخذ النبي بالرأي الذي يراه صائبا و وجد انه جدير بالتحقيق فعزم علي ذلك فليتوكل علي الله و ليمض في وجهته تلك...و يفهم من ذلك ان التوكل علي الله في امر يراد حسمه ان يكون مسبوقا بالتبصر و حسن الاعداد و معقولية القصد... ففي قوله تعالي «ان الله يحب المتوكلين» تشجيع علي التوكل علي الله وحث عليه فهو مظهر من مظاهر الايمان الصحيح و صرف لذوي القدرة عن الاغترار بهذه القدرة و مثل هذا النص يعد من التعاليم الاخلاقية العالية...«و يقولون طاعة فاذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول و الله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم و توكل علي الله و كفي بالله وكيلا»... النساء/81الموقف هنا موقف تكاد تتعرض فيه الجبهة النبوية هنا لخصومة ذريعة يفيد مواجهتها التوكل علي الله كل الفائدة. و قوله تعالي «فأعرض عنهم» اي لا تورط نفسك بالاعتماد علي اقتداراتك بل توكل علي الله فانه خير من تتوكل عليه في احباط كيد الكائدين و مكر الماكرين لانه يعلم بكل ما يكيدون و بكل ما يمكرون...«و ان جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل علي الله انه هو السميع العليم»... الانفال/61حين يجنح الخصوم الي السلم و قد يخفي سبب هذا الجنوح فان علي النبي ان لا يشكك فيه بل عليه ان يقره و يرتضيه و في هذه الحالة عليه ان يتوكل علي الله لان الله عزوجل اعلم بخفايا الامور. فالتوكل هنا مبعث للاطمئنان الي النتائج و مصدر من مصادر الثقة بالقرار المتخذ في ذلك. ان التوكل هنا يمنح النبي قوة ثقة بسلامة الموقف المتخذ من قبله...«و لله غيب السماوات و الارض و اليه يرجع الامر كله فاعبده و توكل عليه و ما ربك بغافل عما تعملون»... هود/123التنويه بأن لله غيب السماوات و الارض في بدء النص و الاشارة في خاتمته الي أن الله غير غافل عن اعمال الناس يدل علي ان المقام هو مقام التوكل و ان الموقف هو موقف العبادة و التعلق بالخالق العظيم فان الجو ملبد بين النبي و قومه بفتن رهيبة كثيرة... و قد سبق هذا النص بما يوضح بعض ظروفه و ذاك في قوله تعالي «و قل للذين لا يؤمنون اعملوا علي مكانتكم انا عاملون... و انتظروا انا منتظرون». [ صفحه 339] «و توكل علي الحي الذي لا يموت و سبح بحمده و كفي به بذنوب عباده خبيرا»... الفرقان/58فكان التوكل علي الله في هذا المكان فيه من معني الانابة الي الله و اللجوء اليه و الميل الي كنف الرحمة الالهية هو المراد في هذا النص. و لم يكن النبي غافلا عن ذلك ولكن التوجيهات الالهية تظل تتكرر علي سمعه صلي الله عليه و سلم لتعلم الامة أن ذلك هو هدي الدين و منهج التقوي و صلاح أحوال الناس... «و توكل علي العزيز الرحيم»... الشعراء/217هذا النص مسبوق بقوله تعالي «فان عصوك فقل اني بري‌ء مما تعملون» و بذلك كانت الدعوة الي التوكل علي الله مما يتطلبه الموقف... و ما جاء في تضاعيف النص من أن الله يري النبي يتقلب في الساجدين و انه يراه حين يقوم الي الصلاة يرسم للتوكل علي الله صورة رجاء واضح المعالم يتبينه النبي في الاتكال علي الله. فان الله اذ يكون محيطا كل الاحاطة باحوال عبده ثم اذا دعاه الي التوكل عليه فان ذلك لهو مبعث ثقة تامة في جدوي هذا التوكل و قوة الاطمئنان اليه...«فتوكل علي الله انك علي الحق المبين»... النمل/79النص يسبقه قوله تعالي «ان ربك يقضي بينهم بحكمه و هو العزيز العليم»... ان خير ضروب التوكل علي الله ما يقترن بالقناعة بسلامة الموقف و رشاد الخطة و قصد السبيل و هذا ما هو كائن في هذه الكلمة القرآنية الحكيمة...«و اتبع ما يوحي اليك من ربك ان الله كان بما تعملون خبيرا، و توكل علي الله و كفي بالله وكيلا»... الاحزاب 3/2ان تكرار الامر الالهي الموجه الي رسول الله صلي الله عليه و سلم في موضوع التوكل علي الله فيه من تطمين النبي الي انه ما توكل علي الله كائن الا كان في كنف الله يرعاه و يحميه و يصرف عنه السوء. و يفهم من ذلك ان رسول الله كان لا يتحرك حركة و لا ينبس ببنت شفة الا كان في ذلك كله متوكلا علي ربه...«و لا تطع الكافرين و المنافقين ودع أذاهم و توكل علي الله و كفي بالله وكيلا»... الاحزاب/48الوقوف في وجه الكافرين و المنافقين و رفض طاعتهم مع فرط اذاهم امر ليس بالهين. و في مثله يكون التوكل علي الله الذي يتولي عن النبي التصرف في شأن امثال هؤلاء الناس. و قوله تعالي «ودع اذاهم» اي و لا تقصده للانتقام منهم و اخذهم بما تملك من معاقبتهم بل دع ذلك لله...ان التوكل علي الله خلق ايماني لجأ اليه الانبياء و الرسل و المؤمنون من قديم الزمان لانهم يعلمون انه لا وزر من هموم الدنيا و بغي الاشرار و ظلم الظالمين الا في الفرار الي الله و الاحتماء بكنفه والاتكال عليه و يفهم من الآيات القرآنية الواردة في الحث علي الاتكال علي الله أن ما يحيط بالنبي و ما يحشده خصومه ضده يعد من الخطوب التي لا تطاق و كان عليه صلي الله عليه و سلم ان يتحمل ذلك...

باب آية الميثاق

وردت كلمة الميثاق في القرآن الكريم عند التنويه بما اخذه الله علي الانبياء من عهد ألزمهم بمقتضاه بنشر الدين و الحث علي وحدانية الله و الدعوة الي طاعته و عبادته لان في كلمة الميثاق من قوة الالزام و الالتزام ما قد لا يقع في غيرها و ورد اخذ الميثاق من الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم في الاية السابعة من سورة الاحزاب اذ جاء النص قائلا «و اذ اخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و ابراهيم و موسي و عيسي ابن مريم [ صفحه 340] و أخذنا منهم ميثاقا غليظا، ليسأل الصادقين عن صدقهم و اعد للكافرين عذابا أليما»...فالنص هنا واضح علي ان جميع الانبياء مشمولون بهذا الميثاق و جاء في النص لا علي وجه الحصر بل علي وجه التمثيل ذكر عدد من رسل الله ممن اخذ ميثاقهم و ذكر اسم النبي مقدما عليهم في قوله تعالي «و منك و من نوح و ابراهيم»... قال الشوكاني [85] و تقديم ذكر نبينا صلي الله عليه و سلم مع تأخر زمانه فيه من التشريف له و التعظيم ما لا يخفي...ان النبي صلي الله عليه و سلم لم يكن بدعا من الانبياء و الرسل و انما كان له مالهم و عليه ما عليهم و لذلك عدد الله في موضوع الميثاق عددا سماهم بأسمائهم وكان صلي الله عليه و سلم فيهم كما أن النص ذكر ان الميثاق أخذ من نبيين اخرين لم تذكر اسماؤهم و في ذكر الميثاق دلالة علي قوة الوحي و ان اي نبي يبعثه الله الي امة من الامم لا خيرة له من امره و انما عليه ان يلبي امر الله و يصدع بالتبليغ بما اراده الله في الرسالات السماوية لا خيار للرسل فيها فهم علي حد ما جاء في النص القرآني «ما كان لمؤمن و لا مؤمنة اذا قضي الله و رسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم»...

باب فصاحة اللسان و عروبته

هذه الجارحة الرائعة التي كانت من خير ما من به الله علي الانسان اذ يعبر بها عن مكونات نفسه و يقول ما يريد... لقد كان اللسان اصلا اصيلا و سلاحا عظيما لدي سائر رسل الله الي عباده و حين شعر موسي عليه‌السلام ان اخاه هرون هو افصح منه لسانا رجا من ربه ان يكون مع موسي في مواجهة فرعون... و قوله تعالي «و ما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم...» ابراهيم/4... دليل علي هذه الحقيقة فان الانبياء كانوا يبعثون الي اقوامهم بلغات اقوامهم فلا يكون بين انبيائهم و بينهم من حاجر اذا ما عصوهم و كذبوهم و كانت فصاحة لسان نبيه محمد صلي الله عليه و سلم فصاحة متميزة في امة عرفت بطلاقة اللسان و بلاغة المقال. و لما زعم قوم ان رجلا اعجميا من الذين يرطنون بالعجمة كان يعلم النبي رد الله عليهم بأن لسان هذا الرجل لسان أعجمي و ان القرآن لسان عربي مبين اشعارا بان فصاحة الكتاب و بلاغته هي الاصل في حكم الاعجاز الذي كان للقرآن علي الناس...و تكرر ذكر اللسان العربي في التنزيل في موضع الاطراء و الاشادة غير مرة علي ما سنعرضه من النصوص...«فانما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين و تنذر به قوما لدا»... مريم/97المراد بلسانه لسان قومه و قد كان هذا اللسان صالحا لبشارة قوم و انذار اخرين و جاءت الصفة التي وصف به المنذرون بانهم لد اي ذوو لدد في الخصومة و الجدل و القدرة علي التعبير فلو لم يكن النبي قد يسر الله له القرآن بلسانه لما كان قوي الحجة علي قوم لهم مثل هذا اللدد في الخصومة و اللجاجة في الجدال و لما بهرتهم لغة قرآنه. فأذعنوا كل اذعان لاعجازه العظيم...«نزل به الروح الامين، علي قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين»... الشعراء 195/194/193لما جعل الله به للسان العربي من قدسية و علو شأن و منزلة. إذ وصفه بالابانة و قال انه نزل به الروح الامين علي قلب النبي... ان عملية الانذار عملية اقتحامية من شأنها أن تجد امامها مقاومة عنيفة و خصوما كثيرين ولكن عروبة لسان الدعوة مكن لها أن تكون ذات قدم راسخة في سائر الاوساط المعادية و المسالمة.لقد كان النبي قد ألهمه الله هذه الفصاحة النادرة و ذلاقة لسان و منطق راجح فعل فعله في سائر النفوس [ صفحه 341] حين كان الرسول صلي الله عليه و سلم يواجههم بما بعث به من الدين و الشريعة نعلم ذلك حين نري ان رسول الله صلي الله عليه و سلم توفي و الجزيرة كلها مطمئن قلبها بالايمان...«فانما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون»... الدخان/58في النص اشارة الي اهمية اللسان الذي هو لسان النبي و هو كذلك لسان قومه يفهمون به ما يقوله لهم و يحيط هو كذلك علما بما يقولون له مما يفهم منه ان رسول الله كان قد بلغ القمة في فصاحة الكلام و وضوح الخطاب و قوة الحجة [86] ...«لا تحرك به لسانك لتعجل به، ان علينا جمعه و قرآنه، فاذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم ان علينا بيانه»... القيامة 19/18/17/16في الآية تعليم للنبي يتعلم به كيف يتلقي القرآن اشعارا بأنه تسلم ما نزل اليه من ربه بكل دقة و امانة و انه صلي الله عليه و سلم لقن القرآن حرفا حرفا و مقطعا مقطعا و كلمة كلمة باشراف الله و حسن تلقينه و املائه و القائه و عرضه و بيانه...ان اللغة العربية لم تكن قبل ظهور الاسلام لغة عالمية بل انها كانت و هي عقر دارها - الجزيرة العربية - ذات لهجات متخالفة. فلما نزل القرآن اقام لها صوتا و احدا و معجما واحدا و باتت العربية الفصحي بعد ذلك لغة عالمية ينطق بها ملايين المسلمين و يخطب بها خطباؤهم علي منابرهم بحيث ظهر في الاعاجم من هم عباقرة في هذا اللسان الكريم...

باب و ما ملكت

الملك كله لله الا ما كان من ملك زائل يمتلكه احياء في الحياة الدنيا الي اجل محدود ثم يخرج من أيديهم هلاكا او بيعا او شراءا أو ارثا... فقد اكد الله علي أن ملكية كل شي‌ء هي في يده و انه هو الذي يغني و يفقر و يعطي و يمنع و ذاك للتركيز علي ان الله هو كل شي‌ء و أن له كل شي‌ء. بل ان الله سلب من البشر ان يملك احدهم ضرا للاخرين إلا بإذنه كما ان الله نفي ان تكون المعابيد التي يعبدها الوثنيون صانعة لهم شيئا من خير او شر او رزق او احياء او اماتة و هذا ما يؤيده منطق العقل...و باب من اخلاق الرسل و منهم الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم ان يعترف علي ملا الاشهاد انه لا يملك شيئا و كان ذلك من صدق الوصف الذي يصف به نفسه للناس اذ لم تقم شريعته علي شي‌ء من المغريات و وسائل الاقناع المادية... و اذا كان في الرسل من بلغ مكانة عالية في الغني فان رسول الله محمدا لم يكن كذلك... و فيما يلي بعض النصوص في هذا المعني...«و من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي و لهم في الاخرة عذاب عظيم»... المائدة/41نفي الله ان يكون لنبيه شي‌ء من التدخل في ارادته سبحانه و تعالي و هو نفي نفاه الله عن جميع البشر. و جاء ذلك بنفي الملكية، لان مالك الشي‌ء ذو حظ ثابت من الانتفاع به و تصريفه حيث يشاء فاذ نفي الله ذلك فان مثل هذا النفي يعد من القرارات و الاحكام الباتة و بذلك نزه الله نفسه من أن يكون له شريك في ملكوته و ملكه و أمره و نهيه [87] . [ صفحه 342] «قل لا املك لنفسي نفعا و لا ضرا الا ما شاء الله...»... الاعراف/188لقد اختار الله نبيه بشيرا و نذيرا لعباده و لم يجعل له سلطانا علي الناس ليكونوا مؤمنين و نفي الله أن يكون نبيه المقرب اليه قادرا علي تقديم او تأخير او منع او اعطاء ليكون كل شي‌ء لله و ليس لعبد من عبيده شي‌ء منه إلا بأمره. بل ان الله نفي عن نبيه ان يملك لنفسه ضرا او نفعا اي انه لا يملك للغير ذلك كذلك... و في النص ما يشير الي ان النبي قد كان يتعرض للاذي فلا يقدر أن يرده عن نفسه. و في النص نفي ان يكون النبي علي شي‌ء من العلم بالغيب فان الغيب كله لله و قال انه لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير فلقد يتعرض النبي في غده للجوع فلو كان يتوقع ذلك او يعلمه لخبأ لغده طعاما يأكله...ان النبوة علي عظم منزلتها و سمو رتبتها يظل النبي فيها عبدا لله يتحكم به ربه كما يشاء. ان النص ظاهر فيه من تواضع النبي و امانة النبوة ما يعلمنا ان النبي لم يكن ذا كبرياء في الارض و لا غرور و لا تعال علي الناس...و قد تكرر مثل هذا المعني في التنزيل العزيز في سورة يونس الآية التاسعة والاربعين «قل لا أملك لنفسي ضرا و لا نفعا الا ما شاء الله لكل أمة أجل اذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون» و جاءت ايضا في سورة الجن الآية الواحدة و العشرين «قل اني لا أملك لكم ضرا و لا رشدا».«يا أيها النبي إنا أحللنا لك ازواجك اللاتي آتيت أجورهن و ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك...»... الاحزاب/50فالاشارة الي ملك اليمين هنا اشارة قاعدية اي انها ليست مما يجب حدوثه و وجوده، و النبي لم يكن يشتري الاماء و لا كانت له اليهن حاجة و احلال الاماء اللائي هن من ملك اليمين عام في سائر المالكين و ليس ذلك خاصا به صلي الله عليه و سلم ولكن النص كما قلنا علي ذلك قاعدي اي لنثبيت القاعدة الفقهية العامة في الموضوع... و مثل ذلك في القاعدية قوله تعالي «لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج و لو أعجبك حسنهن الا ما ملكت يمينك و كان الله علي كل شي‌ء رقيبا»... الاحزاب/52... علي ان الاستثناء هنا في مارية القبطية رضي الله عنها و قد اهديت اليه صلي الله عليه و سلم من المقوقس حاكم مصر و استولدها النبي ولده ابراهيم الذي توفي في سن الطفولة...

باب المراء و المماراة

المراء و الممارة لفظ في العربية يعني الجدل بغرض الجدل و ليس لغرض الحصول علي حقيقة خفية. و في القرآن اكثر من حرف في هذا المعني يعنينا من ذلك ما جاء خطابا للرسول صلي الله عليه و سلم في آيات سنتكلم فيها: -«الحق من ربك فلا تكونن من الممترين»... البقرة/147جاء هذا النص مسبوقا بحديث القبلة و تبديلها و تحويلها من بيت‌المقدس الي الكعبة المشرفة و هو اجراء اقض مضاجع اهل الكتاب اذ صارت للأمة قبلة هي الكعبة و يعني ذلك أن الامة سنتتجه حيثما كانت الي مركز يشتد تعظيمه لديها في احكام و مطالب ذات اهمية كبيرة في مجال التوجيه الاسلامي الصحيح. و يعلم الله نبيه ان الحق الذي أحقه الله هو الحق الذي لا مرية فيه... و قوله تعالي «فلا تكونن من الممترين» تعليم من الله لنبيه بأن يكون ابدا قوي الوثوق بما يجريه الله من اجراء في ساحة هذا الدين الحنيف و هو دينه و شرعه الذي يعلم سبحانه و تعالي أبعادا ما فيه من خير و رشاد و سداد.«الحق من ربك فلا تكن من الممترين»... آل‌عمران/60 [ صفحه 343] جاء هذا النص اثر كلام قرآني في خلق عيسي عليه‌السلام و هو ما اراد الباري عزوجل صرف النبي عن الجدل فيه و المراء اذ ان الجدل كثر في المسيح عليه‌السلام و كانت لليهود فيه اقوال و مطاعن و كان موقف القرآن موقفا رشيدا و سديدا فيه غير انه موقف لم يرض اليهود و لا ارضي المسيحيين... الا أن الله عزوجل أوضح حقيقة القول في المسيح بما اراد مر نبيه أن يتمسك به و أن لا يكون ممن يجادلون فيه اعدا او ممن يعرض لهم الشك في المعتقد القرآني الذي اثبته الله في تنزيله العزيز...و لا يعني قوله تعالي «فلا تكن من الممترين» ان النبي كان من الممترين في ذلك و انما هو تعليم الهي اراد الله أن يتعلمه نبيه وفق سائر ما علمه من علم و ما اوحي اليه من وحي و ما هداه اليه من هدي...«... و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين»... الانعام/114في النص تثبيت لما كان الله قد القاه علي نبيه من مهمة النبوة و قد جاء في طي ذلك التنويه بأن اهل الكتاب يعرفون في قرارة نفوسهم صدق نبوة النبي لانهم يعلمون - و هم اهل نبوات قديمة - ان الله لن يدع العالم من غير نبي لا سيما بعد ان ادركه الفساد و احاط به الاختلال و ظهرت فيه العبادات الوثنية و عظم شأن الاصنام فمما يتوقعه العقلاء - و كانت الرسل تأتي اقوامها و اممها تباعا - ان يتلطف الله علي البشرية في النبي و لذلك قال الله «فلا تكن من الممترين» اي ان ذلك كان امرا في غاية الصحة فلا تكن في شك منه و جدال فيه...«فان كنت من شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين»... يونس/94المراد بسؤال الذين يقرأون الكتاب من قبلك هو أن يسأل اهل الديانات عن الحكمة في ارسال الرسل و انزال الكتب اذ ان ذلك عند الكتابيين مألوف في التعامل الالهي مع البشر و ليس مألوفا عند الوثنيين الدين ينكرون هذا الامر لانهم يعبدون اصناما و احجارا و لا يؤمنون بخالق رفع السماء و بسط الارض و أحيا و أمات...و اهل الكتاب من هذه الناحية يستشهد بهم علي امكان ان تكون لله رسالات سماوية الي خلقه... و ان كان فريق من اليهود قد حالفوا عبدة الاصنام و المشركين ضد المسلمين الذين اعلنوا بطلان الوثنية و دعوا الي التوحيد الخالص لله رب العالمين...«أفمن كان علي بينة من ربه و يتلوه شاهد منه و من قبله كتاب موسي إماما و رحمة أولئك يؤمنون به و من يكفر به من الاحزاب فالنار موعده فلاتك في مرية منه انه الحق من ربك ولكن اكثر الناس لا يؤمنون»... هود/17الكلام في هذا النص علي المؤمنين لما جاء به النبي من الكتاب، فان الله يزكي اصحاب النبي و اتباعه الذين بادروا الي الايمان بهذا الكتاب العظيم و تصديق النبي لما جاء من الشريعة خلافا للذين انكروه و جاهروا بكفره...ان هذا الدين الحنيف يزكيه ما فيه من قيم عالية كلها هدي و رشاد كما تزكيه الكتب القديمة اذ انها جميعا علي هدي و احد فلذلك انبأ الله نبيه محمدا صلي الله عليه و سلم أن يكون قوي الاسنيقان بذلك غير عابي‌ء بكفر اهل الاحزاب و البقية الباقية من المشركين فان الله ناصر دينه و خاذل الكافرين.«فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون الا كما يعبد آباؤهم من قبل و انا لموفوهم نصيبهم غير منقوص»... هود/109في النص تأكيد علي كفر الكافرين مما يتضح فيه كفرهم كل اتضاح و يلفت الله نظر نبيه الي بطلان هذا النمط من التقليد لما كان يصنعه الآباء... فان العبادات يجب ان تكون قائمة علي المنقولات الصحيحة و المعقولات التي يسندها المنطق السليم و كان غالب حجة المشركين أن ذلك مما وجدوا عليه آباءهم و لذلك [ صفحه 344] أشدد القرآن الكريم النكير علي ما اورثه الآباء ابناءهم من باطل العقيدة و زيف العبادات القائمة علي ذلك...و نبه الله رسوله الي أن لا تكون هذه القاعدة مرضية عنده أو مشكوكا فيها من قبله «فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء» اي لا تشك في بطلانها و لا تجادل فيها فان سندها واه و حجة الاخذين بها حجة داحضة. و ان اعتماد القوم فيها علي آبائهم مرفوض من زاوية نظر الملة التي جاء بها النبي قومه...«سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم و يقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب و يقولون سبعة و ثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم الا قليل فلا تمار فيهم الا مراءا ظاهرا و لا تستفت فيهم منهم احدا». الكهف/22لم يكن في قصة اهل الكهف تحديد لعددهم المختلف فيه و لا تحديد لفترة بقائهم في كهفهم و القرآن الكريم ليس كتاب تأريخ يفصل في الخلافات القائمة بين رواة احداثه و هذا ما جاء في النص بوضوح... اما قوله تعالي «فلا تمار فيهم الامراءا ظاهرا و لا تستفت فيهم منهم احدا» فانه سدل الستار نهائيا علي اللغط الجاري بين القوم في هذا الموضوع. اما ما جاء في العبارة القرآنية «الا مراءا ظاهرا» فانه يعني ما كان يشيع حول الموضوع من اقوال الناس. أي ليس ذاك مما بعنيه، و لذلك وصفه بالمراء الظاهر و هو نمط من صيغ لاستثناء الذي يشبه الاستثناء المنقطع... و خلاصة المعني في النص القرآني لا تمار فيهم و لا تستفت احدا في ذلك. اما ظاهر مقولات الناس فهذا شي‌ء يعني شريحة في الناس خاصة و انه لا أهمية له...

باب كنت و ما كنت

نجد من سنة القرآن الكريم في التعامل و شخصية الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم انه يكون ذا حضور في احداث كونية مما حدث في قديم الزمان و مما سيحدث في الازمنة القادمة و قد اشرنا الي ذلك بمثل قوله تعالي «و تري الشمس اذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و اذا غربت تقرضهم ذات الشمال» و مثل قوله تعالي «و تري الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب» ولكن سنة القرآن كانت تنفي ان يكون للرسول وجود او حضور عند عروض بعض الاحداث و الوقائع و هذا يختلف عن ذاك لأن نفي وجود النبي عند القاء القوم افلامهم ايهم يكفل مريم و نفي ان يكون صلي الله عليه و سلم ثاويا في اهل مدين عندما لجا موسي عليه‌السلام اليهم فان المراد بهذا النفي اثبات أن مثل هذه المعلومات قد وصلت الي النبي من وحي الله و ليس من المعلومات الشخصية و فيما يلي كلام علي الآيات التي تناولت هذه المادة...«ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك و ما كنت لديهم اذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم اذ يختصمون»... آل‌عمران/44«و ما كنت بجانب الغربي اذ قضينا الي موسي الامر و ما كنت من الشاهدين»... القصص/44«ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر و ما كنت ثاويا في اهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين [88] ... القصص/45 [ صفحه 345] «و ما كنت بجانب الطور اذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون»... القصص/46و مما يدخل في باب «كنت و ما كنت» ما ينصرف الكلام فيه الي امر آخر. اذ يتكلم علي سجايا و مناسبات و توجيهات نبوية خاصة و من ذلك...«فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك...»... آل‌عمران/159في النص بيان بخلق النبي المتميز اذ لم يكن فظا غليظ القلب و لو كان كذلك لأنفض عنه من تعلق به و أحبه و وقره و هي شهادة من الله بدماثة طبع النبي و لطف تعامله و رقة قلبه و هذه من خيرة معالم الشخصية القيادية التي ترتاح لها الجماهير...«و اذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك و ليأخذوا أسلحتهم...»... النساء/102يتكلم النص علي الصلاة الموصوفة بصلاة الخوف. و يبين الله لنبيه أنه اذا كان موجودا مع اصحابه و اتباعه في ساحة الحرب فان هناك نظاما خاصا باداء الصلاة بامامته و في ذلك ايماء الي قوة علاقة الامة بنبيها و فيه كذلك اشعار بوحدة القيادة و قدسية وظيفتها...«فان كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك...»... يونس/94لم يكن النبي في شك مما انزل الله اليه فلقد استقر في نفسه انه رسول الله الي الناس ولكن النص جاء علي وجه الافتراض. و الافتراض غير الواقع، و المراد بالسؤال من الذين يقرأون الكتاب من قبل ما يتعلق بالنبوات و انها مما شاءه الله في عالم البشر من اصطفاء من يبعثهم الي اممهم برسالاته...«و قالوا لن نؤمن لك حتي تفجر لنا من الارض ينبوعا، او تكون لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و اللمائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء و لن نؤمن لرقيك حتي تنزل علينا كتابا نقرأه قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا»... الاسراء/93في النص تعليم للنبي صلي الله عليه و سلم أن يواجه الناس بواقع أمره و صميم مهمته و هو ليس الا بشرا ارسله الله الي الناس ليخرجهم من الظلمات الي النور و ليس من اختصاصه أن يحول الاحوال او يحرك السواكن او يغير النظام او يكون له بيت من زخرف كما انه ليس مما وهبه الله من الاقتدارات المتميزة ان يخرج الي ما ارادوه من الاتيان بالله و الملائكة قبيلا و غير ذلك من المطالب التعجيزية التي سرودها عليه يريدون منه تحقيقها ليتعهدوا له آنذاك بالايمان برسالته...ان الايمان بالرسالات انما هو ايمان باحكام و تعاليم و قواعد و قوانين و توجيهات اخلاقية و اجتماعية للذين يؤمنون بها منافع كثيرة و فوائد جمة. و ليست الرسالات السماوية بالتي يتعاطي بها الرسل افعال السحر و الخوارق و ما الي ذلك من التحكم في الطبيعة و في ملكوت الله...

في باب عبده و رسوله

يرد في الشهادتين النص علي أن محمدا عبده و رسوله اي عبدالله. و كلمة «عبد» هذه تطلق علي سائر خلق الله «ان كل من السماوات و الارض الا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم و عدهم عدا، و كلهم آتيه يوم القيامة فردا» مريم 95/93... بل ان الملائكة المقربين هم كذلك يقع عليهم التلقيب بالعبودية «لن [ صفحه 346] يستنكف المسيح ان يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون» النساء/172... والعباد و العبيد شي‌ء واحد...و ما من نبي الا وصفه الله بانه عبد له لا علي جهة الاذلال بل علي جهة التصريح بحقيقة العبودية التي يرتبط بها كل كائن من خلق الله بربه و من ذلك «و اذكر عبدنا ايوب اذ نادي ربه...» ص/41... «و اذكر عبدنا داود...» ص/17... «ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا» الاسراء/3... «و اذكر عبادنا ابراهيم و اسحق و يعقوب...» ص/45... و كذلك قال تعالي «ان في ذلك لآية لكل عبد منيب» سبأ/9... و في المسيح قال الله «ان هو الا عبد أنعمنا عليه» الزخرف/59...و في القرآن الكريم في حق الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم «سبحان الذي اسري بعبده ليلا من المسجد الحرام الي المسجد الاقصي...» الاسراء/1... و فيه «فأوحي الي عبده ما أوحي» النجم/10...««و ما انزلنا علي عبدنا يوم الفرقان» الانفال/41... «الحمد لله الذي أنزل علي عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا» الكهف/1... «و ان كنتم في ريب مما نزلنا علي عبدنا فاتوا بسورة من مثله...» البقرة/23... و في هذه الآية جاءت اضافة العبد الي الله مقرونة بضمير الجمع، و في نوح جاء قوله تعالي «كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا و قالوا مجنون وازدجر» القمر/9... والعبادة من العبودية...و اذ يرد هذا الحرف في الخطابات القرآنية فانه كثيرا يرد في مواقع رعاية الله هؤلاء العباد و من ذلك «قل يا عبادي الذين اسرفوا علي انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله» الزمر/53... و من ذلك «ان عبادي ليس لك عليهم سلطان» الاسراء/95... و من ذلك «و عباد الرحمن يمشون علي الارض هونا و اذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما» الفرقان/63... و قوله تعالي «ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله...» آل‌عمران/79... اي كونوا عبيدا لي...و ما جاء من الاوامر الالهية بايجاب العبادة علي الرسل و علي سائر الناس يعني تعظيم الله و الخضوع لذاته المقدسة و عبادته و الاعتراف بالعبودية له... و ما جاء في القرآن الكريم في مخاطبة الرسول صلي الله عليه و سلم يعد من هذا المعني و من ذلك... «و اعبد ربك حتي يأتيك اليقين» الحجر/99... «فاعبد الله مخلصا له الدين» الزمر/2... «بل الله فاعبدو كن من الشاكرين» الزمر/66... و اليه يرجع الامر كله فاعبده و توكل عليه» هود/123... «رب السماوات و الارض و ما بينهما فاعبده و اصطبر لعبادته» مريم/65...ان هذه النصوص اذ تأمر النبي بعبادة الله والاصطبار، لذلك كان النبي صلي الله عليه و سلم يفهم دقائق القصد منها فكان يكثر من عبادة الله بحيث كان ذلك معروفا لسائر من يتصلون به و يعرفون تفاصيل سيرته الشريفة. و قد كان صلي الله عليه و سلم اذا سئل في ذلك قال ]أفلا اكون عبدا شكورا[...ان النبي كان في عبادته ربه لا يجاري و لا يصل الي درجاته العليا في العبادة احد من الناس و كان اصحابه رضوان الله عليهم اذ يرون نبيهم عظيم التعلق بربه و كثير الصلاة و التسبيح و العبادة له فانهم كانوا يحاولون ان يصنعوا صنيعه و يقنتوا قنوته و يصوموا صومه و يسبحوا تسبيحه و علي هذا وصفهم الله بقوله «و الذين معه اشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوهم من أثر السجود...» الفتح/29... [ صفحه 347]

باب الكلام علي كلمة رجل

جاءت كلمة «رجل» في القرآن الكريم عند الكلام علي المشركين عند رفضهم قبول رسالة النبي صلي الله عليه و سلم. و القرآن في التركيز علي كلمة «رجل» في مطالب الرسالة و المرؤة ينوه بأن الرجولة في ذلك شرط للنبوة... اذ لم يبعث الله امرأة الي قوم من الاقوام بمهمة النبوة و ذلك لعظم الامر و ثقله... فلقد لقي الانبياء و هم جميعا من الرجال ما لقوا من الايذاء و المعاملة القاسية من قومهم لذا أبعد الله النساء من تولي عن مثل هذا المطلب العظيم...و انا لنري في دراسة سيرة الرسول الاعظم من ثقال الهموم و قسوة المعاناة مالا نحسب امرأة تملك تحمله لو بعثت الي قومها لمثل هذه المهمة [89] ... و مهما كان الامر فان المرأة لم تكن محل انصاف الناس لها و تقديرهم لشخصيتها و في ارسالها نبيه الي امة من اولئك الامم - والله أعلم حيث يجعل رسالته - القاء بها في هوة عميقة لا تملك التخلص منها... و مما جاء من نصوص التنزيل العزيز و فيه كلمة «الرجل» في المعني الذي نحن في صدده ما نسرده فيما يلي:«أكان للناس عجبا أن أوحينا الي رجل منهم أن أنذر الناس و بشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون ان هذا لساحر مبين»... يونس/2في النص اشارة الي ان الرجل هنا قد وصف بانه منهم أي من قومه لبيان ان الرسل كانت ترسل الي اقوامها الا رسول الله صلي الله عليه و سلم انه ارسل الي قومه و غير قومه...«نحن أعلم بما يستمعون به اذ يستمعون اليك و اذ هم نجوي اذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا»... الاسراء/47في النص اعتراف بأن من ارسل اليهم انما هو رجل متكامل الرجولة. الا انهم نبزوه بانه مسحور بغيا و ظلما. و جاء هذا النص كذلك من سورة الفرقان الآية الثامنة في قوله تعالي «و قال الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا» و في كلا النصين وصف القوم بالظلم لانهم كانوا ظالمين حقا...«و اذا تتلي عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا الا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم و قالوا ما هذا الا إفك مفتري و قال الذين كفروا للحق لما جاءهم ان هذا الا سحر مبين»... سبأ/43تتجلي حكمة الله في ارسال محمد صلي الله عليه و سلم الي قومه نبيا علي سن الاربعين. فلو كان النبي قد بعث قبل ذلك اي في عصر الشباب الاول لقالوا انه لا يصلح للنبوة لانه لم يبلغ مبلغ الرجال و مقولة القوم بان النبي صدهم عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم هي مقولة صدقوا فيها الا انهم كذبوا حين قالوا قالتهم «ما هذا الا إفك مفتري» و هم يعلمون انه ليس افكا مفتري و انه ليس سحرا و لا شي‌ء فيه ينتمي الي السحر...و القرآن الكريم لهم يعتم علي مقولات كفار القوم في مكة و لا من كان علي مثل صلاتهم في المدينة و انما ذكر اقوالهم التي قالوا في ذاته العلية و التي قالوها في نبيه و رسوله. فما يملك قوم حرفا من الصدق ان زعم زاعمهم ان القرآن اخفي مقولات قالها المشركون [ صفحه 348] و الكتابيون و غيرهم في تجريح صاحب الرسالة الاعظم فهاهو ذا القرآن و قد قال كل شي‌ء قالوه ورد عليه بما شاهت به وجوه الكاذبين [90] ...

باب القرية

تطلق القرية و القري علي ما كان من البلدان صغيرا او كبيرا و قد اطلقت القرية علي مكة رغم انها كانت كثيرة السكان يتردد عليها التجار و الحجاج في المواسم. و لأهميتها الدينية و الادبية و التجارية سميت «ام القري»... و اهل مكة رغم انهم يساكنهم غرباء غير قليلين فان اهلها عرق واحد لا يملك الغريب فيهم أن يستفحل بينهم في شي‌ء او يعظم له امر و لم تكن هناك في الجزيرة قرية او مدينة لها مثل ما كان لمكة من حرمة و من شرف انتساب. اما قول فئة منهم اذ قالوا «لولا نزل هذا القرآن علي رجل من القريتين عظيم» الزخرف/31... فهو قول ناس معاندين و ان مكة لا تضاهيها قرية و لا مدينة و ذاك بوجود الكعبة فيها و بفعل اصالة قوميتها و لسانها... و ما جاء في القرآن من قوله تعالي «لسان الذي يلحدون اليه اعجمي و هذا لسان عربي مبين» النحل/103... فان فيه اعزاز للسان العربي و اعلاء شأن و فيه اضفاء كثير من القدسية علي هذا اللسان العظيم كما أن في النص استخفافا بعجمة لسان ذلك الاعجمي و يفهم من هذا أن اهل مكة لم يكونوا يمكنون الاجانب من أن يسود لهم لسان في البيئة المكية و قد علمنا أن اللغة المكية و الادب المكي هما العرق الذي قام عليه ما يسمي بلغة قريش التي نزل بها القرآن و كان اهل مكة اهل غني و مدنية و حياة مترفة و نواد و مجتمعات و كانوا يعيشون في بلهنية و رخاء. و من هنا فان مكة هي مدينة حضارية ذات مناخ حضاري ملحوظ و لذا لم يكن في اطلاق كلمة القرية عليها استصغار لها و اضعاف لمركزها... اما قوله تعالي «و كأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك اهلكناهم فلا ناصر لهم» محمد/13... فانه اذ ينوه بوجود قري تتمتع بقوة تضاهي قوة مكة فانه ليس في ذلك شي‌ء من استصغار مكة. و مما جري عليه امر الدعوة في مكة أن الله عزوجل لوح لأهلها و سكنتها بانه اهلك كثيرا من القري التي جحدت ربها و اخرجت رسله من ارضها و ذاك تأديبها تخويفا لأهل مكة من ان يكون موقفهم من نبيهم مشوبا بالبغي و العدوان و الاصرار علي الكفر... و من هذه الآيات قوله تعالي «و كم من قرية اهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون...» الاعراف/4... و المراد ب«أو هم قائلون» اي نائمون نوم القيلولة...و من آيات الخويف و التحذير اللذين يراد بهما صرف اذهان القوم الي اطاعة الله و رسوله و الكف عن لدد الخصومة و اللجاجة في ايذاء رسول الله و الضعفاء من المؤمنين... و منها قوله تعالي «و ما اهلكنا من قرية الا و لها كتاب معلوم...» الحجر/4... اي اجل معلوم اوقع الله بها فيه بطشه و نكاله بسبب كفرها و عصيانها... و في القرآن الكريم من مثل هذا التحذير قوله تعالي «أفأمن اهل القري أن يأتيهم بأسنا بياتا و هم نائمون، أو أمن اهل القري ان يأتيهم بأسنا ضحي و هم يلعبون، أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون» الاعراف 99/97...و كثر في التنزيل العزيز ايراد مثل ذلك ليعتبر القوم من اهل مكة بما اصاب من قبلهم من عقاب الله بسبب معصيتهم رسله... ان القرآن الكريم لفت انظار اهل مكة الي امم عاقبها الله بما عاملت رسله بالمعاملة القاسية فقال «و انكم لتمرون عليهم مصبحين» الصافات/137... اي ان بعض تلك الامم علي طريق القوافل. [ صفحه 349] ان اسلوب القرآن الكريم في ذكر ما هلك من القري و الامم الخالية كان عونا للنبي في اقناع كثير من اهل العناد من قومه، «و تلك القري اهلكناهم لما ظلموا و جعلنا لمهلكهم موعدا» الكهف/59... و ايضا قوله تعالي «فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهمم الا قليلا...» القصص/58... و ايضا «فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا...» النمل/52...

باب ذكر

«و ذر الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا و غرتهم الحياة الدنيا و ذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي و لا شفيع. و ان تعدل كل عدل لا يؤخذ منها اولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم و عذاب أليم بما كانوا يكفرون»... الانعام/70من بعض التعليمات الالهية التي يوجهها الله الي نبيه يأمره و ينهاه و يحدد له مجالات عمله... و قوله تعالي: «و ذكر به أن تبسل نفس بما كسبت»... اي فعظهم بعظات القرآن و زواجره من السقوط في هوة الخسارة لاسيما من يجاوز حدود الفساد و يتهرب عن طاعة الله والاصغاء الي اوامره فان هؤلاء اذا جاوزوا ذلك آل أمرهم الي أن تنسد عليهم ابواب الشفاعة فيكونوا من اصحاب النار...و من هذا النص نري بعض صور التكليف الذي يلقيه الله علي الرسول الاعظم في مجالات الدعوة الي الدين. و يلاحظ أن الامر ليس بالامر اليسير في مثل تلك البيئة لا سيما اول اظهار الاسلام و اشهاره و اعلان دعوته...«نحن أعلم بما يقولون و ما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [91] ... ق/45في النص مسألة تتصل بصفة الرسول الاعظم البشرية هي أنه صلي الله عليه و سلم ليس جبارا ممن عرفوا بالجبروت و الطغيان و الامرة الصارمة و انما هو رجل حكمة و هدايد و لين و تواضع و صبر و تحمل و أناة و رفق...و في النص وجوب أوجبه الله علي نبيه يقوم علي التذكير بالقرآن لمن يخشون ربهم و يخافون و عيده...«فذكر بالقرآن من يخاف وعيد»... خوف الوعيد يدل علي رطوبة القلب و حسن تقبله لما يلقي اليه من الهدي و شعائر الايمان و علي هذا يقع تذكير من يملك مثل هذا القلب في خير موقع من نفسه.اما القلوب الجافة القاسية فما ان يمسها من ريح الخير و المعروف و شذا التقوي و اليقين شي‌ء. فمن اجل أن لا يذهب جهد الواعظ من موعظته ضائعا كان هذا التوجيه الالهي الرشيد...«و ذكر فان الذكري تنفع المؤمنين»... الذاريات/55حقا أن القلوب التي يأرز اليها نور الايمان تتأثر بالتذكير و التوعية و الكلمة الناصحة... و النص يأمر النبي أن يواصل التذكير فانه سيجد حتما النفوس التي يبرق فيها بريق الايمان فتنتفع من ذلك التذكير و تلك الذكري...و قد سبق النص بنص جاء فيه «فتول عنهم فما أنت بملوم» أي انك ان صرفت اليهم بالغ اهتمامك فانك لن تلام علي ذلك من جراء انسداد النوافذ في نفوسهم فما يتسرب منها اليها ما تريد من التأديب و الموعظة الحسنة...علي ان النص آت بالاشارة الي بشاعة موقف القوم و انغلاق آفاق نفوسهم عن فهم نصيحة او تقبلها او الاخذ بطرف من النصح و التوصيات الفاضلة... و ليس آتيا بالكف عن الدعوة و التوقف عن التعليم و الارشاد... فالمهمة الموكولة الي النبي هي بكل ثقلها و واسع اجوائها... مما كان النبي مكلفا بحمله و الصبر علي ثقله و تحمل كلفه... [ صفحه 350] «فذكر فما انت بنعمة ربك بكاهن و لا مجنون»... الطور/29الامر الالهي الوجه الي النبي بالتذكير ما يبرح نافذا ملتزما به النبي و ان كان خصومه يجعلون ذلك من دواعي اتهامهم اياه بالكهانة والجنون... فما يزال التذكير بأصول الدين و طاعة الله و تبيان آفاق الفضيلة مما نقرأه في القرآن الكريم لا شي‌ء فيه مما يصرف احدا او يحمله علي ادعاء الجنون و الكهانة في الرسول اذ لا تزال الآيات الناطقة بذلك ناطقة بالحكم و العظات الغالية و النصائح القيمة و التوصيات العظيمة التأثير في السلوك و الطبائع والاخلاق... فأين الجنون من ذلك و اين الكهانة؟!و قوله تعالي «بنعمة ربك» اي انك قد احاطك الله منه بنعمة سابغة فما كنت بالمحروم منها لتكون مجنونا او كاهنا. و كانت الكهانة مذمومة في الاسلام لما كانت تحتوي عليه من المخرقات والشعوذة و خدمة الاوثان بأقاويل لو نظر اليها بمنظار العقل الرشيد لرفضها كل رفض و نبذها كل نبذ.«فذكر ان نفعت الذكري»... الاعلي/9الامر هنا في التذكير يتطلب تبين الاستعداد الذي يكون في الموعوظين من الناس ممن يتوقع تقبلهم لذلك و انتفاعهم به... و قد جاء تلو النص: «سيذكر من يخشي، و يتجنبها الاشقي الذي يصلي النار الكبري ثم لا يموت فيها و لا يحيا»...و في هذه الآيات نوابض من الحكمة و دقيق التوجيه و التوعية و التذكير... علي ان الامر الالهي للنبي بالتذكير في سائر الحالات قائم نافذ لا يتوقف لأن الرسالة السماوية جاءت به و قامت علي اعمدته...«فذكر انما انت مذكر، لست عليهم بمسيطر، الا من تولي و كفر، فيعذبه الله العذاب الاكبر»... الغاشية 24/21في النص امر يأمر به الله عزوجل رسوله بالتبليغ و الانذار و التذكير و جاء في طي النص أن ذلك هو من شأنه و مهمته فلقد بعثه الله مذكرا. علي أن هذا التذكير لا سيطرة فيه و لا عقوبة تقع من الرسول علي العصاة الذين يتولي الله امرهم... و قوله تعالي «الا من تولي و كفر» فانه ليس استثناءا انما هو بدء كلام جديد بمعني اما من تولي و كفر... لأن الله نفي سيطرة النبي علي القوم بقوله «لست عليهم بمسيطر»... و قوله تعالي «الا من تولي و كفر» فانه كذلك خارج دائرة السيطرة الا سيطرة الله عزوجل...والنص يقرر أن النبي يتصف بصفة المذكر الذي لا يألو جهدا في اداء مهمة التذكير و سواء أراح القوم يتقبلون هذا التذكير أم لم يروحوا يتقبلونه... فان النبي غير موكول اليه أن يسيطر عليهم ليلزمهم بالظهور بمظهر الطاعة و القبول القسري... و قد جاء في اعقاب ذلك النص: «لست عليهم بمسيطر»... اما قوله تعالي بعد ذلك: «الا من تولي و كفر فيعذبه الله العذب الاكبر»... فانه ليس استثناءا من السيطرة و لا يزال الرسول علي حد النص: «لست عليهم بمسيطر»...

باب الانذار

كلمة الانذار الواردة بلفظ (انذر و انذرهم و انذر الناس) هي من كلمات التبليغ الرسمية في الرسالة التي ارسل الله بها محمدا بن عبدالله الي امته العربية و من بعدها الي سائر امم العالم... و انا محصون هنا الآيات التي كانت فيها هذه الكلمات اصولا في التعبير و ركائز في التبليغ و اعباءا في التكيف ليكون في ذلك الدلالة الواضحة علي ما حمله الرسول الاعظم من جهد جهيد في دعوة الامة الي الحق و الرشاد و الصراط المستقيم علي وجه الاستمرار و المواصلة بدءا من العهد المكي الي العهد المدني...ان مهمة الانذار غير مهمة البشارة... ففي الانذار صراحة و صرامة لا تسامح و لا لين في شي‌ء منهما و هذا [ صفحه 351] يتطلب اقتدارا علي مواجهة انماط من الناس شتي و الالتقاء بصنوف من البشر تتفاوت عقولهم و أمزجتهم و مداركهم و انظمة حياتهم... فالانذار الذي ناط الله امره برسوله يتضمن من الصدع بالحق ما ليس بالامر الهين اليسير الا علي من كان مؤهلا أهله ربه للتوفيق في مهمته هذه... و مما جاء في كتاب الله من هذه الصيغة ما نسرده هنا سردا قد لا يحتاج الي شرح و تفصيل...«و أنذر به الذين يخافون أن يحشروا الي ربهم ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع لعلهم يتقون»... الانعام/51«أكان للناس عجبا أن أوحينا الي رجل منهم ان أنذر الناس و بشر الذين آمنوا ان لهم قدم صدق عند ربهم»... يونس/2«و أنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا اخرنا الي اجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل»... ابراهيم/44«و انذرهم يوم الحسرة اذ قضي الامر و هم في غفلة و هم لا يؤمنون»... مريم/39«و انذرهم يوم الآزفة اذ القلوب لدي الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع». غافر/18ان مصطلح النذير هو عدل مصطلح النبي و الرسول و في القرآن الكريم...«قد جاءكم رسولنا يبين لكم علي فترة من الرسل ان تقولوا ما جاءنا من بشير و لا نذير فقد جاءكم بشير و نذير والله علي كل شي‌ء قدير»... المائدة/19«او لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ان هو الا نذير مبين»... الاعراف/184«قل لا املك لنفسي نفعا و لا ضرا الا ما شاء الله و لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسني السوء ان انا الا نذير و بشير لقوم يؤمنون»...الاعراف/118«أن لا تعبدوا الا الله اني لكم منه نذير و بشير»... هود/2«فلعلك تارك بعض ما يوحي اليك و ضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز او جاء معه ملك انما انت نذير و الله علي كل شي‌ء وكيل»... هود/12«واخفض جناحك للمؤمنين و قل اني أنا النذير المبين»... الحجر/89«قل يا ايها الناس انما أنا لكم نذير مبين»... الحج/50«و ما أنا بطارد المؤمنين. ان أنا الا نذير مبين»... الشعراء/115«لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون»... القصص/4«و قالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل انما الآيات عند الله و انما أنا نذير مبين»... العنكبوت/50«لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون»... السجدة/3«قل انما اعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثني و فرادي ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ان هو الا نذير لكم بين يدي عذاب شديد»... سبأ/46«و ما يستوي الاحياء و لا الاموات ان الله يسمع من يشاء و ما انت بمسمع من في القبور ان انت الا نذير، انا ارسلناك بالحق بشيرا و نذيرا و ان من امة الا خلا فيها نذير»... فاطر/24«و هم يصطرخون فيها ربنا اخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل او لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير...»... فاطر/37 [ صفحه 352] «و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدي من احدي الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفورا»... فاطر/42«ان يوحي الي الا أنما أنا نذير مبين»... ص/70«قل ما كنت بدعا من الرسل و ما ادري ما يفعل بي و لا بكم ان اتبع الا ما يوحي الي و ما أنا الا نذير مبين»... الاحقاف/9«ففروا الي الله اني لكم منه نذير مبين، و لا تجعلوا مع الله الها آخر اني لكم منه نذير مبين»... الذاريات 53/52«فبأي آلاء ربك تتماري، هذا نذير من النذر الاولي»... النجم 56/55«تكاد تميز من الغيظ، كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلي قد جاءنا نذير فكذبنا و قلنا ما انزل الله من شي‌ء ان انتم الا في ضلال كبير»... الملك/9«و يقولون متي هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل انما العلم عند الله و انما أنا نذير مبين»... الملك/26و جاءت ايضا كلمة (نذير) في القرآن الكريم بقوله تعالي:«انا ارسلناك بالحق بشيرا و نذيرا و لا تسئل عن اصحاب الجحيم» [92] ... البقرة/119«و بالحق انزلناه و بالحق نزل و ما ارسلناك الا مبشرا و نذيرا»... الاسراء/105«تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا»... الفرقان/1«لولا أنزل اليه ملك فيكون معه نذيرا»... الفرقان/7«و ما ارسلناك الا مبشرا و نذيرا»... الفرقان/56«و ما ارسلناك الا كافة للناس بشيرا و نذيرا»... سبأ/28«كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون. بشيرا و نذيرا فأعرض اكثرهم فهم لا يسمعون»... فصلت 4/3«انا ارسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا. لتؤمنوا بالله و رسوله و تعزروه و توقره و تسبحوه بكرة و اصيلا»... الفتح/8«والصبح اذا أسفر، انها لأحدي الكبر نذيرا للبشر»... المدثر 36/34ان هذه المجموعة من الآيات الكريمة التي تظهر في اسلوبها الفصاحة و في سبكها البلاغة و علي متنها ما هو جد واضح من التعبير القرآني بالرونق و الجمال و الروعة. فذلك امر هذا النذير العظيم الذي اصطفاه الله برسالته العظيمة فهدي بها الضلال و اقام بها لمكارم الاخلاق عمودا و اضاء بها ما كان يغطي ارجاء الدنيا من ظلام الكفر الدامس... حقا ان محمدا صلي الله عليه و سلم لنعم النذير و لنعم البشير و لنعم النبي و لنعم الرسول...

في باب الذكر

الذكر من اسماء القرآن الكريم و تعني كلمة (الذكر) بعض صفات الفضل و العلاء و بعد الصيت و في النص الكريم «انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون» الحجر/9... و فيه «ص و القرآن ذي الذكر» ص/1 و هنا جاءت كلمة الذكر صفة للقرآن لا اسما... و فيه «أأنزل عليه الذكر من بيننا» ص/8... مما يبدو به أن كلمة الذكر في جمهرة اسماء القرآن كانت معروفة و شائعة لدي المؤمنين و غيرهم منذ العهد المكي... و في القرآن الكريم «و انه لذكر لك و لقومك [ صفحه 353] و سوف تسألون» الزخرف/44 و قد جاءت كلمة الذكر في معني التمجيد و التكريمو هنا جمهرة من النصوص القرآنية التي جاءت فيها كلمة «الذكر» في سائر المعاني و المقاصد القرآنية الظاهرة المعني:«ذلك تتلوه عليك من الآيات و الذكر لحكيم...»... آل‌عمران/58«أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم علي رجل منكم لينذركم و لتتقوا...»... الاعراف/63«و قالوا يا ايها الذي نزل عليه الذكر انك لمجبون»... الحجر/9«و انزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم و لعلهم يتفكرون»... النحل/44«أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون»... الانبياء/24«قل من يكلأكم بالليل و النهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون»... الانبياء/42«و انه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون»... الزخرف/44

باب الوثنية

لم تكن اليهودية صراعا مع الوثنية العربية و غيرها لان اليهودية عقيدة داخلية يعتقدها اليهود عرقيا فما كان منهم من شرك و وثنية في بعض عهود التاريخ فانه عولج محليا كعبادتهم العجل و ما اليه... اي داخل اطار التوحيد اليهودي...والمسيحية و هي طرف في اليهودية اتخذت موقفا في الالهيات خاصا بها كانت فيها الثلاثة واحدا و الواحد ثلاثة، لذا لم تخض في غمرات اللادينية و الشرك المعروف لدي الوثنيين في العالم...اما الاسلام فانه واجه عبادة الاصنام والاوثان والشمس و القمر والحيوانات و الاشجار و ما الي ذلك... فراح يصارع هذه المعتقدات بكل ما عنده من اقتدار جدلي و نقاش عقلي و واجه أمة كانت شديدة الحرص علي اوثانها و اصنامها و قد كانت في ذات الوقت رموزا لكياناتها السياسية... و لم يكن هناك نموذج في التوراة والانجيل لأمة وثنية كالامة العربية استقي منه الاسلام ما عل به و نهل في هذا المجال الحرج الضيقو الذين يزعمون ان الاسلام اخذ من هنا و هناك تعاليمه لم يخبرونا من اين اخذ الاسلام نظامه الجدلي الدقيق في مواجهة عبدة الاصنام من اهل الجاهلية في ابطال جميع دعاوي الوثنية. و لم يخبرونا من اين اخذ الاسلام نظام الوضوء والاغتسال والصلاة و الصيام و صوم رمضان و تفاصيل احكام الزكاة و الزواج و الطلاق و الميراث و ما عالج به امور الرق من جعل عتق الارقاء من بعض العقوبات والكفارات و من اين اخذ الاسلام في العلاقات الخارجية قوله تعالي «و اما تخافن من قوم خيانة فانبد اليهم علي سواء ان الله لا يحب الخائنين» الانفال/58... و من اين اخذ قوله تعالي «و ان جنحوا للسلم فاجنح لها» الانفال/61... و من اين اخذ قوله تعالي «و لا تقولوا لمن القي اليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا» النساء/94... و من اين اخذ قوله تعالي «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين، انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا علي اخراجكم أن تولوهم و من يتولهم فاولئك هم الظالمون» الممتحنة 9/8... [ صفحه 354]

باب كلمات قرآنية

هذه آيات و نصوص قرآنية اتخذنا لها عنوان «كلمات قرآنية» و انا آخذون بشرحها شرحا يسيرا و جاعلوها من خواتيم هذا الجزء من الكتاب...«و لولا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك و ما يضلون الا انفسهم و ما يضرونك من شي‌ء و انزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك مالم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما. النساء/113من الامر البديهي أن فضل الله علي نبيه محمد بن عبدالله فضل عظيم اذ بعثه رسولا الي العالم و أنزل عليه كتابا يتلي آناء الليل و آناء النهار و حماه و حفظه و جعله آخر رسله و خاتمة أنبيائه.و كان صلي الله عليه و سلم كثير التعرض للاعداء و الخصوم في مكة و في المدينة و خارجهما و كانوا لا يبرحون يمكرون به و ينفرون عنه المقبلين عليه و القرآن الكريم صريح في الكلام علي مكايد هؤلاء الخصوم و فرط رغبتهم في البطش برسول الله و كذلك بمن معه من المؤمنين. و قتل الانبياء من قديم كان غاية يتغياها الذين لا يؤمنون بالرسل و الانبياء.و القرآن الكريم يعصم النبي في هذا النص ان يقع له من خصومه أذي بل ان الآيات القرآنية تصرح بان اولئك الخصوم انما يضرون أنفسهم وحدهم بمحاولاتهم تلك و هي محاولات فاشلة كتب الله لها الفشل و الخيبة و الهزيمة النكراء.في النص جاءت العبارة القرآنية التالية (و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم ان يضلوك) ففي التعبير بالهم بهذا النص دلالة علي سوء قصد القوم و فرط شراستهم و فساد نيتهم و هي أي كلمة الهم في العربية تعني ارادة البطش و الايذاء و الفتك علي ما اختصت به هذه الكلمة من معني الشر و العدوان و قد جاءت في القرآن الكريم غير مرة في ذات هذا المعني و من ذلك قوله تعالي ]يا ايها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ هم قوم ان يبسطوا اليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم و اتقوا الله و علي الله فليتوكل المؤمنون[ المائدة/11.و من ذلك أيضا ]و لقد همت به و هم بها[ يوسف/24... أي أرادت البطش به و أراد البطش بها.]و همت كل امة برسولهم ليأخذوه و جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب[ غافر/5...و في شواهد الكلام العربي من غير القرآن الكريم ما يدل علي ذلك بوضوح و من ذلك ]و إن هو لم يذبح فتاه فقد هما[.و يفهم من أصل النص المبحوث فيه هنا شدة لجاجة المشركين و غيرهم من خصوم الدين و يبدو أنهم كانت لهم في المدينة سطوة و قوة و كانت لجاجتهم ما تنفك تبتغي التوصل الي هدفهم من تثبيط النبي و صرفه عن مقاومتهم و التهوين من شدة حرصه علي دعوتهم الي الهدي و الايمان و التخفيف من عظم إقتداره علي مجادلتهم و افحامهم و تسفيه آرائهم و الوقوف بثبات و صمود أمام تيار جهلهم و كفرهم... ان النزعة التي تغلب علي نفوس اولئك الخصوم الضالين في اضلال الرسول قد نجا الله رسوله منها لعظيم فضله و سابغ رحمته فما ضل و لا ركن الي ضلالة و بقي يحمي قلعة الايمان بكل قوة و اقتدار.«... لو انفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف منهم انه عزيز حكيم»... الانفال/63في قوله تعالي «لو أنفقت ما في الارض جميعا» ايماء الي أن ما في الارض جميعا قد كان النبي يقدر علي انفاقه بحيث لو أنفقه في قصد التأليف بين القوم فانه لا يحقق ذلك. والاستحالة ناشئة من بعد عمق الخلاف و فرط التباعد و فقدان اسباب الائتلاف ولكن الله كان [ صفحه 355] هو الذي ألف بينهم و جمع قلوبهم بقوته و حكمته و يعني ذلك اي تأليف بينهم أنه تعالي يسر لنبيه هذا الامر العسير و انه اعانه عليه و اذا اراد الله امرا هيأ أسبابه...و ليس في النص ما يقلل من جهاد النبي في هذا الصدد، فان جهاده صلي الله عليه و سلم ملحوظ لحظة فلحظة و مشهود خطوة فخطوة و انما يعني النص عظم المهمة و ثقل العب‌ء و بيان طبيعة هذه الامة التي لم يكن في أمم الارض من يحاكيها في خصوصيات حياتها. انها امة يكاد الفرد الواحد من افرادها يقول بمل‌ء فيه انه هو وحده الامة...اجل لقد وحد الله امة العرب فالتفوا حول راية نبيهم و تذوقوا مذاق الوحدة الشاملة و راحوا يفتحون العالم شرقا و غربا من غير أن يعتمدوا علي قوة من الخارج رغم ان العالم الذي فتحوه كان ذا قوة ليس من اليسير تحطيمها و مثل هذا التوفيق و التمكين نادر في احداث السياسة العالمية قديما و حديثا و انسكب العالم بفعل الحملة الايمانية العربية الكبري انسكابا متجانسا في بودقة الاسلام الذي قال الله فيه «ان الدين عند الله الاسلام» آل‌عمران/19.«و اذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ اصناما آلهة اني أراك و قومك في ضلال مبين». الانعام/74ان القرآن الكريم طعن في صحة تسميات النسب الذي اوردته التوراة لابراهيم عليه‌السلام اذ قالت انه ابن‌تارخ بن ناخور... و حين قال القرآن انه «آزر» فانه لم ينسب «آزر» الي اسم اب معلوم و بذلك قطع نسب ابراهيم عن الاسماء التي حددتها التوراة و في ذلك نبز للتوراة بانها تجهل النسب الابراهيمي... ان القرآن الكريم عندما أورد اسم ابي‌ابراهيم لم يكن ثمة ما يستوجب ذكر اسم ابي‌ابراهيم الا القصد الظاهر في تصحيح نسب ابراهيم عليه‌السلام و لم نجد في القرآن اشارة الي اسماء انبياء و غيرهم قرنت اسماؤهم بذكر آبائهم الا عيسي عليه‌السلام ابن مريم و كذلك جاءت نسبة مريم الي ابيها عمران و بذلك نعلم ان اطلاق اسم آزر علي أبي‌ابراهيم لم يكن لمجرد رد ابراهيم لأب له اسم معلوم انما كان ذلك لتصحيح ما اوردته التوراة و اله عزوجل أعلم باسامي اباء الناس و تعلقاتهم النسبية من الذين كتبوا التوراة...ان القرآن ناقش اليهود في ادعاء ان ابراهيم كان يهوديا لان التوراة نزلت بعد ابراهيم. و التوراة هي عرق اليهودية و النصرانية... و بنواسرائيل هم ابناء يعقوب فلا تنسحب التسمية علي ابراهيم. و ابراهيم عراقي لم يكن في زمانه في العراق من اليهود أحد لأن اليهود لم يظهروا في ذلك العهد. و لم يكن لهم وجود اصلا علي مسرح الامم و القوميات.و قد اشار القرآن الي علاقة العرب بابراهيم «يا اهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم و ما أنزلت التوراة والانجيل الا من بعده...» آل‌عمران/65. فالامر اذن من الوجهة التأريخية منعقد علي ان ابراهيم ليس يهوديا و لا نصرانيا...«و كذلك نصرف الآيات و ليقولوا درست و لنبينه لقوم يعلمون»... الانعام/105من الاتهامات الملقاة علي عواهنها ما كان يرجم به المشركون و كفرة القوم ترجيما في ادعاء امور يلحقونها بالنبي و يصفونه بها... و قد مر بنا ان سمعناهم بتهمونه بالكهانة و السحر و الشعر و الجنة مما لو طولبوا عليه بالدليل لما كان في يدهم في دليل... و كان الاستهزاء و السخرية من بعض ما لجأوا اليه في معاملة الرسول الاعظم و هما مما لا يكون مع المتشبث بشي‌ء منهما حجة يقبلها المنطق في النزاعات العقائدية و الفكرية و العلمية وغير ذلك... و قول القوم من خصوم النبي انه درس قول ملقي علي عواهنه و قد حددوا في بعض مقولاتهم هذه جهة التدريس و التعليم [ صفحه 356] ان قولهم «درست» من الاقوال الفارغة من المحتوي فالذين درسوا كثيرون و ما كانت الدراسة لدارسي العلوم سبيلا الي اقامة ديانات و اخلاقيات تصل الي كل رجأ من ارجاء الارض و مكان من أماكن العالم... و قد وجد النص القرآني ينصرف الي الذين يعلمون مبينا لهم حقيقة هذه الآيات المبينة لهم من غير أن يأبه لتلك الالصاقات المزعومة التي مرت في الحيز الجدلي كالفقاعات الفارغة و لو مكان وراء مثل ذلك من ممسك و حجة و صحة في الادعاء للجوا فيها و اطالوا القول و لضايقوا الرسول بمقالات مماثلة لو صحت لكان عليها اكثر من شاهد ولكن شيئا من ذلك لم يكن اصلا... و قد تحداهم النبي بقوله «فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون»... يونس/16«و ان احد من المشركين استجارك فأجره حتي تسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون»... التوبة/6النص من الخطابات الموجهة الي النبي وحده و ذاك انه رأس القيادة التي تدرك مصلحة الامة في هذه المواقف... و لا يقع مثل هذا التكليف لسائر افراد الامة فان ذلك تكليف شاق لا يملك الفرد العادي الالتزام به و تحقيقه... و هو ان وقع افسد علي الدولة اجراءاتها و أوجد فجوة كبيرة بين الامة و بين قيادتها كما ان تكليف اي فرد من المسلمين بايواء مشرك ما ثم ابلاغ مأمنه فيه مالا يملك ان يؤديه ذلك الفرد... علي ان الفرد العادي اذا آوي مشركا مستجيرا فانما يؤويه ليخبأه عن السلطة التي تطارده و ان ذلك ان وقع من الافراد العاديين تضعضع امر الدولة فهو اذن من الاوامر الالهية الخاصة برسول الله... و قوله تعالي «ثم ابلغه مأمنه» يعني ان يرسل معه من يوصلونه الي مأمنه و في هذا يتأيد فهمنا للأمر لأنه من خصوصيات القيادة المتمثلة في شخصية رسول الله صلي الله عليه و سلم في وصفه رأي الامة و القائم علي امرها و القائد الموجه لها و علي هذا تنتقل هذه الخوصية الي من يكون صاحب الإمرة للمسلمين من بعده صلي الله عليه و سلم لان الموضوع المتكلم عليه هو مما يتوقع حدوثه او حدوث ما هو من قبيله في سائر ايام الزمان.ممن ملاحظة هذا النص الكريم نري أن الله خول نبيه صلي الله عليه و سلم ان يعامل اناسا من ذوي المساءة والعدوان بشي‌ء من العفو و التعامل الانساني و هذا ما كان قد غلب علي معظم مواقفه صلي الله عليه و سلم مع خصومه و علي هذا نستعبد ان يكون مارواه الرواة في قصة يهود قريظة اذ ذكروا ان النبي نفذ فيهم حكم سعد بن معاذ بالاستئصال والابادة و قد ناقشنا ذلك في باب (الحكم و القضاء النبوي) فاستبعدنا صحة ما قيل في هذا الامر و نزيد علي ذلك ان قتل جمهرة كبيرة من الناس تعد بالمئات ليس مما يتم في ساعات من نهار، و انما يحتاج مثل ذلك في حالة قتل القوم صبرا لأيام و ليال و الاقبال علي قتل هذا الجمهور من الناس يواجه في العادة بتوسلات و تشفعات و ما يشبه الاستجارة مما لا نحسب ان احدا يتخطاه بلا اعارة اهتمام و نحن نعرف النبي من ارق الناس عاطفة واشدهم رغبة في التسامح و العفو لا سيما حين يكون لاية عقوبة من العقوبات اكثر من بديل يدخل في اطار العدل و الانصاف هذا مع العلم ان عصيان بني‌قريظة احد حوادث كثيرة وقعت في فترة وجود الاسلام في المدينة و قد اورد ابن‌هشام ابياتا شعرية تشير الي ان الحادث وقع في ساحة حرب و قتال و ليس في ازقة و اماكن ضيقة بين البيوت.و حكاية من رووا ذلك ظاهرة الاضطراب... و القياس في الجنايات امر معتاد و علي هذا ننفي المقولات التي لهجت بها ألسنة رواة الحادث بشكله و موضوعه الذي لا يصح عندنا منه حرف واحد.و يبدو ان مؤرخي هذا الحادث يتوقفوا عند النقاط التي تستعبد وقوعه و ذاك لفرط ما عظم في نفوسهم من مكر اليهود و فرط عدوانهم فكأنهم رأوا [ صفحه 357] ما اصابهم امرأ استحقوه في حين ان التاريخ لا يدخل في الاماني و الرغبات انما هو وقائع متيقنة و لا نجد في قصة قريظة هذه ما هو متيقن تأريخيا الا ما حققناه و الله اعلم.«فان تولوا فقل حسبي الله لا إله الا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم»... التوبة/129يعلم الله نبيه كيف يستعين به و يلجأ اليه حين تشتد عليه الشدائد... و ذاك ان يتكل علي الله اتكالا مطلقا فلا يخاف اية قوة تهدده او يعبأ بأي عقبة تقف في طريقه...و «حسبي الله» لفظ يعني انتعلق بحماية الله لنبيه و رعايته له و انه كافية و حافظه و حاميه و عاصمه...«لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الالباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل كل شي‌ء و هدي و رحمة لقوم يؤمنون»... يوسف/111في ما قصه الله من قصص الرسل و الانبياء عبر للمعتبرين و دروس تربوية للدارسين ممن هم ذوو ألباب و عقول و استيعاب لما سرده القرآن عليهم من سير اولئك المرسلين...ان الرسول الاعظم محمد بن عبدالله أحد اولئك الذين قص الله علينا قصصهم في تنزيله العزيز و كتابه المبين... و علي هذا ففي دراسة هذه السيرة الطاهرة من العبر ما في سير المرسلين الذين تقدمت رسالاتهم علي رسالته صلي الله عليه و سلم في الدهر القديم... و في هذا حث علي متابعة ذلك و دعوة الي الاعتبار بما وقع للرسول من وقائع و احداث عبر ادائه رسالته التي امتدت فترة عرضها و الصدع بها ثلاثا و عشرين سنة.و لا يجوز التغاضي عن هذه الدراسة لان التغاضي عنها امساك لاسباب اعتبارية لابد ان يكون لها وجود و انطلاق في الساحة كما ان هذا التغاضي يجعل قوله تعالي «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الالباب»قولا لا مفهوم له و لا مجا لبروز مفهومه في التاريخ و في مجالات الاتعاظ والعبر...«و لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون اليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين»... النحل/103فالنص الآتي بلفظ «انما يعلمه بشر» يراد به ابعاد موضوع الرسالة الاسلامية عن السماء و قد رد الله عليهم هذا الزعم...اذ أو مأت الاصابع المريبة الي اعجمي في مكة معروف بالرطانة ولكنة الحديث... و الكلمة القرآنية كلمة هدي و اصلاح فيها الاشراقة التي تلتمع في القلوب فأني يكون لهذا الرهط ان يكون مصدر هذا الدين و منبع هذه الملة العالية العقيدة و الزاخرة بالاحكام و التعاليم و الشرائع و العبر ذات التأثير العظيم في النفوس... ان النبي صلي الله عليه و سلم علي ما هو ثابت تأريخيا و معلوم للجميع كان يعمل في المجال التجاري و العاملون في المجال التجاري و البيع و الشراء لا يحجر عليهم الالتقاء بهذا و ذاك فالاعجمي المذكور هو من آحاد اولئك الناس و لم يكن اتصال الناس بعضهم ببعض في الاسواق و المتاجر منشئا مجالا للتعليم لأن للتعليم و التدريس مكانا و زمانا واسعين فسيحين غير الاسواق و الالتقاء التجاري... و قد رد الله علي مدعي هذه الدعوة الموغلة في الغفلة بان ذلك الاعجمي لا يصلح ان يكون معلما لرجل هو من اصح العرب لسانا. و القوم عمموا ذلك ليوهموا من يسمعهم ان لاتهامهم نصيبا من الصحة فانهم قالوا انما يعلمه بشر و لم يجرأوا ان يقولوا ان الذي يعلمه كان اعجميا إلا ان الله فضح افتراءهم لما ذكره من كون هذا البشر من الاعاجم... [ صفحه 358] «و لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا»... الاسراء/74ما زال النبي محل رعاية الله له و تفقده و ملاحظته من حيث ما يتحرك و يتجه، فكان حارسه و حافظه و موجهه و مسدد خطاه.والنص المكتوب يوضح نتائج هذه المتابعة و الملاحقة و العناية الالهية بحيث لو لم يثبت الله نبيه في مواجهة كيد الخصوم و فتن المخالفين و مكر الذين وقفوا في وجه الدعوة لفعلوا الافاعيل في طريق الشريعة و حفروا الاحافير. ولكن الله كان مع نبيه في بدء كل امر و في نهايته و ختامه... و في القرآن الكريم «و لا يأتونك بمثل الا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا» الفرقان/33...ان النص صريح في انه تعالي انقذ نبيه مما كان القوم يكيدون له اذ كانت مقولاتهم تأخذ من تفكيره الكثير، و هو امر طبيعي عند مواجهة ذي رسالة قومه اذا ما لجوا في طغيانهم و كفرهم و باطل احتجاجاتهم... اجل كان الله يعين نبيه علي ما يضعونه امامه من حجج باطلة فكان عزوجل يلقنه ان يرد عليهم بالجواب المسكت و الكلمة الفاصلة «قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا» الاسراء/93...«فو ربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا، ثم لننزعن من كل شيعة ايهم اشد علي الرحمن عتيا»... مريم 69/68في النص صورة عقابية يعاقب بها الذين كفروا ممن يتناولهم الحديث... و هذا كلام لا يحفظ نصه بألفاظه حسب و انما يروح يجري علي شاشة الذهن و كأنه مشهد يشهده الناس اذ كان اتباع اولئك القوم و قرناؤهم يأخذ التصور الذهني في افكارهم كل مأخذ فهاهم اولئك يرون الطغاة البغاة والاثمة الكافرين العتاة يحشرون قرناء للشياطين و تصور الشياطين يجول في المجالات الراعبة التي ترتعد لها الفرائص وهاهم أولاء يسلط الله عليهم الشياطين و قد احضروا الي جهنم جثيا اي جروا وراحوا حولها يجثون جثيا اي علي حال من القعود منعب لهم لم يكونوا ألفوه و لا كانوا قد جثوه انما كانوا يجلسون علي الارائك والطنافس... ان هذه الصورة تضع لهم وضعا يشمت له من يشمت من خصومهم و يحزن له من يحزن من ذويهم و اهليهم... فالعقوبة ليست من العقوبات العاجلة المتوقع عروضها لهم بل هي من العقوبات الآجلة التي تظل تأكل نفوسهم و تشمت بهم الناس... و قوله تعالي «فو ربك» في هذا المقام توكيد للامر الذي عناه الله في هذا التهديد...«انك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء...»... القصص/56اعمال القلوب لا يملك التحكم فيها الا خالق القلوب، لذا لم يجعل الله من ذلك شيئا لرسول و لا لنبي فللنبي كل شي الا اقتحام القلوب و ايصال الايمان اليها من غير عون من الله فذاك كما قلنا من سلطان الله وحده و لذلك نعني من خطابه المباشرة لنبيه «انك لا تهدي من احببت» ان الهداية له جل شأنه وفق ارادة يريدها هو وحده... ان النبي صلي الله عليه و سلم علي عظمة شخصيته لدي ربه و كبير فضل الله عليه بالنبوة و التكريم و المقام الرفيع قد يتمني لأناس من الناس ان يعتنقوا الاسلام ليكونوا في منجاة من النار فلا يتهيأ ذلك له مالم يكن لله سلطان علي ذلك يبت فيه ان شاء...ان اعمال القلوب ليست كسائر اعمال العباد مما هو من فصيلة الانعام و الغوث والاعانة يملكها من يملك القدرة علي ذلك من البشر و قد قال الله في ذلك في مخاطبة النبي «أنعم الله عليه و أنعمت عليه»... لقد كانت جهود النبي في اجتلاب الناس الي الاسلام جهودا جد عظيمة، و ذاك لفرط ما عناه النبي في هذا [ صفحه 359] الوجه من عناء و قد اثبت الله لنبيه الدور الظاهر في اخراج الناس من الظلمات الي النور الا ان امر القلوب و العلم بما تكنه و الالمام بما تحتجنه من ايمان حتي يستقر فيها انما هو من امر الله و خالص شأنه و صميم علمه لا غير... و النبي يعلم ذلك و يؤمن به و لا يتخطاه و لذلك كان كثيرا ما يصف ربه بانه مقلب القلوب و تلك هي العظيمة الالهية التي لا يطاولها احد من العالمين.ان الله آتي رسوله ما آتاه من المواقع العالية و الفضائل الكبيرة السامية ولكنه جل شأنه احتفظ لنفسه بدقيق اسراره في خلقه و علي ذلك قام امر الكون بما فيه من كائنات لا يعلمها الا هو... و لا يتحكم فيها الا هو، و النبي اول من آمن بالله علي هذا الهدي التام و كان اذ يسبح الله في سجوده يسبحه قائلا - سبحانك لا احصي ثناءا عليك، انت كما اثنيت علي نفسك -...«لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الاخر و ذكر الله كثيرا»... الاحزاب/21كان نهج النبي صلي الله عليه و سلم في سائر مواقفه العامة موقفا يحسن التأسي به و متابعته و تقيل سائر مراحله و سمي الله ذلك أسوة حسنة بيانا للمتأسين بأنهم مقبلون من تأسيهم علي خير كثير... و مثل هذا التأسي انما يقع لذوي الفطنة الذين يميزون بين منازل الاعمال و درجاتها... «لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر» و من يحرصون علي ذكر الله و يخلصون في عبادتهم له و ممن يجدون في اعماله صلي الله عليه و سلم الأسوة الحسنة حقا.«و بنات عمك و بنات عماتك و بنات خالك و بنات خالاتك اللاتي هاجرن معك...»... الاحزاب/50في هذا النص ايماء ظاهر الي انه كانت لرسول الله لحمة قرابة متشعبة في نساء العصبة و الارحام و ان تلك النساء علي كثرة في عددهن كن من المؤمنات بالذي جاء به النبي و انهن أصبن من شرف الهجرة و لقين من حمل عب‌ء العمل الاسلامي ما لقين و ما اصبن... و ما جاء في النص من ان اولئك هاجرن مع النبي لا يعني وحدة الزمان و المكان في هذه الهجرة و انما المراد بذلك وقوعها في عالم الواقع التأريخية و ثبوت ذلك علي مدي الايام التي لم يعلن فيها بعد ايقاف حكم الهجرة (لا هجرة بعد الفتح)... و يستدل بهذا علي ان النبي كان و هو في المدينة تساكنه فيها غير واحدة من ذوي قرابته.«انك لمن المرسلين»... يس/3في القرآن الكريم في سورة يس «والقرآن الحكيم... انك لمن المرسلين» و هذا نص يقسم الله فيه بقرآنه المنزل علي رسوله انه لمن المرسلين مقولا ذلك بلام التوكيد... و تلا ذلك قوله تعالي «علي صراط مستقيم» ثم جري الالتفات الي القرآن موصوفا بانه «تنزيل العزيز الرحيم»... و السورة مكية و قد وردت الاشارة الي ان اهل مكة و من وراءهم من العرب لم تكن لهم دراية بالشرائع و الديانات اذ قال عز من قائل «لتنذر قوما ما أنذر اباؤهم فهم غافلون» يس/6. والحقيقة ان العرب في بطن الجزيرة منذ عهد ابراهيم عليه‌السلام لم يصل اليهم نذير من النذر و لا رسول من الرسل... و ذاك علي غير ما عرف من تداعي الانبياء علي بني‌اسرائيل. و قد كان بعض الانبياء محسوبين علي العرب من مثل صالح و شعيب و هود الدين كان بعضهم قد بعث الي قومه في دهر بعيد... و السبب في جهل العرب بمسائل الالهيات ان اليهود لم يكونوا يدعون الي ديانتهم من كان من غير اليهود و ان وقع في صلب التاريخ انهم هودوا بعض القبائل من غير اليهود...و المسيحية لم تكن قد استقرت في اصولها العقائدية الا قبل ظهور الاسلام بوقت قريب لذا لم يظهر لها أثر عقائدي في البيئة العربية.في النص القرآني قسم يقسمه الله عزوجل بقرآنه علي ان محمدا بن عبدالله من المرسلين... والامر [ صفحه 360] قد يراه من شاء ان يري لا يحتاج لقسم، ولكن اعتزاز الله بنبيه جاء معبرا عنه بهذا القسم الرائع العظيم...«أأنزل عليه الذكر من بيننا»... ص/8رغم ان القوم - و المراد بالقوم يومذاك اهل مكة - كانوا يصمون النبي بوصمة الكذب و السحر و الجنة فيما يواجههم به من النبوة و الرسالة و يرفضون المبادي‌ء التي جاء بهم اليهم فانهم كانوا يتمنون ان تكون النبوة فيهم والانبياء منهم. و لذلك قالوا «أأنزل عليه الذكر من بيننا» و ذاك عجيب في سلوكهم الجدلي اذ كيف يصح لمنكر وجود شي‌ء ان يريده لنفسه... و تكرر منهم هذا النمط من الانار لاصل الموضوع و ادعائهم بعد ذلك من مثل قوله تعالي «و قالوا لولا نزل هذا القرآن علي رجل من القريتين عظيم» الزخرف/31... و هم هنا صاروا يختارون اسماء الانبياء الذين بصفونهم بانهم من اعاظم اهل القريتين لينزل عليهم القرآن الذي كانوا قد كذبوه جملة و تفصيلا و هو تناقض دل علي الحيرة الدامسة التي استقرت في نفوسهم مما يعد اعترافا بالقنوط و اليأس و العجز عن مواجهة رسول الله بما يحقق لم أو ييسر لهم الغلبة عليه و كذلك كان الجهل و كانت الجاهلية...«أم يقولون افتري علي الله كذبا فان يشأ الله يختم علي قلبك. و يمحو الله الباطل و يحق الحق بكلماته، انه عليم بذات الصدور»... الشوري/24في النص ملامح تعجب من سلوك القوم و ظهور الغباء علي جدلهم و اتهاماتهم فكأن النص يكتشف ما في اعماقهم من محاولة الزعم بان النبي افتري علي الله في ادعاء انه رسوله... و قد عقب الله علي ذلك بانه لا يفتري عليه و من يفتري عليه فانه تعالي ذو مقدرة علي ان يوقع به اشد العقوبات و ذاك ان مثل هذه الجريمة لا تسامح فيها عند الله و لذا قال «فان يشاء الله يختم علي قلبك» فاذا كان الله يفعل هذا ان شاء في معاملة اكرم الناس عليه و خير الرسل عنده فماذا تري تكون عاقبة المفترين من الناس.واعلن الله انه «يمحو الباطل و يحق الحق بكلماته انه عليم بذات الصدور»...و في هذا دفاع عن الحقيقة التي جاء بها النبي من ربه فلو لم تكن علي ذات ما جاء بهال من عنده فان الله يمحقها لانه جل شأنه لا يقر الباطل.و قوله تعالي: «انه عليم بذات الصدور»... فيه تنزيه للنبي من أن تصح فيه نسبة شي‌ء من مقولات خصومه اليه... و في النص اشعار قائلي ذلك بان الله يعلم ما تنكه صدورهم من بغي و حقد و عدوان.والاسلوب القرآني في الكلام علي النبي في مثل هذه الحالات انما يكون ذا صراحة ملحوظة يراد بها مواجهة الكفار بالقسوة و شديد الرد و يظل اطار الصورة النبوية دالا علي صدق النبي و مبتغي به الدفاع عنه ابدا.«و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما نزل علي محمد و هو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم و أصلح بالهم»... محمد/2يقرن اسم الرسول الاعظم هنا بصفة من صفات النبوة و الرسالة و الانذار و البشارة و ذلك لان اسمه صلي الله عليه و سلم صار علما علي هذه الصفات و المعاني وراح الفقهاء و العلماء اذا ذكروا النبي ذكروه ببعض ألقابه اذ صاروا يقولون قال صلي الله عليه و سلم و قال عليه الصلاة و السلام فيفهم السامع المراد بذلك... بل اذا قلنا قال النبي بات معلوما لدينا انه محمد بن عبدالله و من هنا كان عنوان كتابنا الذي هو (شخصية الرسول الاعظم قرآنيا) من غير ان نورد اسمه الصريح صلوات الله عليه لان الساحة كلها مغلقة له فان ذكرت صفته اغنت عن ذكر اسمه فالامر ان سيان. [ صفحه 361] و مثل ذلك انا نقول: قال تعالي و نعني به الله عز شأنه لان المصطلح من الوضوح بما لا يحتاج معه الا تصريح باسمه عز شأنه... بل ان في هذا الاطلاق القرآني لاسمه عليه الصلاة و السلام ما يعد تنويها باسمه و تصريحا بصفته و اعلانا بعلو مقامه و كانت العرب تري العناوين القصيرة ابلغ من العناوين الطويلة و أظهر دلالة علي مضامينها و كذلك قالوا في الانساب... و في موضوع الاسراء جاء قوله تعالي: «سبحان الذي اسري بعبده ليلا من المسجد الحرام الي المسجد الاقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا» الاسراء/1... فما من احد لا يفهم من هذا النص أن المراد بذلك هو النبي و ان لم ينص علي اسمه بصراحة. و ذاك لانه صار من البديهي أن محمدا هو رسول الله و هو نبيه و هو من بعث الله بشيرا و نذيرا الي العالم، و في هذا ما فيه من وقوع الاشتهار في كل مكان بأن النبي لم يعد بحاجة الي أن يذكر اسمه كلما ذكر مقرونا باللقب النبوي فان ذلك بات من البديهيات الواضحة...و سائر الخطابات القرآنية التي جاءت بها الاشارة الي شخصيته صلي الله عليه و سلم نبيا او رسولا او بشيرا أو نذيرا كانت غير مقرونة باسمه صلي الله عليه و سلم و من ذلك «النبي اولي بالمؤمنين من انفسهم» الاحزاب/6... و كذلك «ان الله و ملائكته يصلون علي النبي يا ايها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما» الاحزاب/56... فانه من الواضح البين أن المراد به محمد صلي الله عليه و سلم. و قد عرف المخاطبون الذين أمروا بالصلاة عليه و ايضا قوله تعالي: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل» الاعراف/157.لم يعلق بذهن من يسمع هذا النص أنه يعني غير رسول الله محمد. و بذلك نعلم أن اطلاق كلمة النبي أو الرسول من غير ذكر اسمه. انما هو لتبوت شهرته و للمبالغة في اعزاز مكانته...و من ذلك قوله تعالي «و قال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا» الفرقان/30... فان المراد به هو الرسول الاعظم محمد صلي الله عليه و سلم. لم يقل احد في ذلك غير ذلك. و منه ايضا قوله تعالي «حتي بقول الرسول و الذين آمنوا معه متي نصر الله» البقرة/214... فان المراد به هو محمد صلي الله عليه و سلم و كذلك «الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما اصابهم القرح» آل‌عمران/172... و كل ما ورد من اسم الرسول مقرونا باسم الله كان معناه محمد صلي الله عليه و سلم.هذا و في النص تصريح بأولية شخصية الرسول في كل مكان و مجال و كونه ذا أحقية بكل ترجيح و تفضيل علي كل غال و رخيص و جليل من الامور و غير جليل و أن حقوقه صلي الله عليه و سلم مقدمة علي سائر حقوق الناس لأن علاقته بالامة فوق سائر انواع العلاقات و أن امره فوق كل امر و نهيه فوق كل نهي... و لا تملك التعابير العربية المتيسرة لدينا أن تأتي من الكلام بشي‌ء يفي هذا النص حقه من التفسير و البيان و التعريف بالمعني الذي عناه النص في ذات رسول الله العظيم...و اننا إذكر نكرر في هذا الكتاب ايراد معان ببعض صيغها في هذا الصدد فان مثل ذلك لا يرد عن غفلة و انما هو من طبيعة الكلام علي شخصيته صلي الله عليه و سلم، اذ ان البحث فيه اذا تكرر ففي كل مرة يتكرر فيها يرد الكلام و فيه من مفردات الحقيقة التي تستوعبها سيرة الرسول ما يتمم القول علي هذه السيرة ان وردت في مكان آخر... و الكتاب اعلامي النهج فلا يستغربن قارئه أن يجد في تضاعيفه من مكررات الامور ما يحسبنا لا عنيه او أنا نقوله عن غير دراية فانما نحن آخذون بالمنهج القرآني في ذكر المعلومات و السير التي يتعدد ذكرها في آياته و سوره مفصلة آونة و موجزة آونة اخري... [ صفحه 362] و تفاصيل الكلام علي شخصية الرسول الاعظم انما يقع فيها التكرار وفقا لتنوع العناوين في سيرة شخصية الرسول صلي الله عليه و سلم. فان العناوين هي التي تتحكم في تحديد جماعة كلام علي هذه الذات العظيمة اذ يتطلب الامر الايجاز عند بعض العناوين و الاسهاب عند البعض الاخر. و كذلك يقال في تكرار الاستشهاد بالآيات القرآنية وفق مقتضي الحاجة الي ذلك.و كذلك نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالي «أفمن يعلم أنما أنزل اليك من ربك الحق كمن هو اعمي انما يتذكر أولو الالباب» الرعد/19...في هذا النص ذم صريح و ازدراء ظاهر بالذين لا يستقر في نفوسهم ان ما انزله الله علي رسوله محمد هو الحق. اذ وصمهم بالعمي و أنهم من غير ذوي الألباب و في هذا من تزكية الرسول صلي الله عليه و سلم و اعزاز مكانته و الرفع من ذكره مالا يحتاج لأيضاح و هو مما يصل الي درجة القداسة العظمي في شخصية رسول الله حين يقال في من لا يعلم ذلك او ينكره انه اعمي و هو حتما عمي القلب الذي لم يترك فيه الضلال بصيص نور يميز بين الحق و الباطل...و انما وصفه بالعمي لأن الحقائق التي انزلها الله علي رسوله كانت علي مستوي هو اشبه شي‌ء بالمرئيات المكشوفة لذوي الابصار و البصائر فمن لم يرها علي نصوعها فانه جدير أن يقال فيه انه اعمي.«و لو تقول علينا بعض الاقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين»... الحاقة 47/44صدق ايمان الرسول بربه و حسن موقعه الذي كفله الله له و كريم المنزلة التي انزل الله نبيه فيها كل اولئك اثبتته الآيات القرآنية فكان عليه الصلاة و السلام اعز مخلوق لدي خالقه و اقرب كائن بشري من بارئه و الله اعلم حيث يجعل رسالته و اذا جعلها حيث يشاء افرغ فيها جل شأنه بركاته كلها و أنعمه كبيرها و صغيرها.و من اجل ان يكون الله هو الله لا يشركه احد في شي‌ء مما اختص به نفسه لئلا يتوهم قوم أن لأحد من رسله ما يجاوز قدره فيكون له مقام الشريك. في ذلك نري الباري عزوجل يورد علي وجه الافتراض ما يصرح بهذه الحقيقة بكامل مواصفاتها... و كان من بعض ذلك قوله عز من قائل «و لو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين»... اي ان رسوله اذا وقع منه من التصرف ما يصل الي درجة التقول علي الله و التدخل في امره و نهيه لكان موقف الله منه موقف المؤدب الزاجر و المعاقب الشديد في عقابه.و في النص تزكية حسنة للرسول من ان يقع منه ذلك او بعض ذلك فهو اذن بري‌ء من الاتهام بالتقول علي الله وحاشي له ان يتقول علي الله و قد ادبه الله فأحسن تأديبه.كان النبي صلي الله عليه و سلم بارا بربه صادق الاخلاص له و عظيم التعلق به و كثير المخافة منه، و ذاك دأب الانبياء جميعا فانهم يستصغرون انفسهم امام عظمته جل شأنه فهذا ابو الانبياء ابراهيم عليه‌السلام يقول في بعض دعائه «و لا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال و لا بنون، الا من اتي الله بقلب سليم» الشعراء 89/87... و يقول نوح عليه‌السلام «قال رب اني اعوذ بك ان اسألك ما ليس لي به علم و ان لا تغفر لي و ترحمني اكن من الخاسرين» هود/47... و يقول موسي عليه‌السلام «... سبحانك تبت اليك و انا أول المؤمنين» الاعراف/143...و قوله تعالي «فما منكم من احد عنه حاجزين»...يشير النص الي ان النبي صلي الله عليه و سلم كان له احباء يفتدونه و اعوان يحجزون عنه من يعمد الي اصابته بأذي، و يكون ذلك عند قيام جهة ذات قوة و بأس شديد بمهاجمته و ايذائه و بذلك يكون الدفاع [ صفحه 363] عنه معرضا المدافعين للاذي و بطش الخصوم كالذي كان من حماية اصحابه له في وقعة احد اذ تداعوا عليه يحمونه من السهام التي اطلقها عليه الاعداء...و أصل النص يدخل في التحذيرات الالهية كما ان في ذلك ما يومي‌ء الي حرص الله علي دينه و تفصيل شرائعه... والكلام و ان كان يدور هنا علي الرسول فانه يتناول كل جهة تهم بدينه هذا الهم.و اول النص «و لو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من احد عنه حاجزين» و الكلام قائم علي الافتراض الذي يعلم الله انه غير كائن و لا متوقع لانه احسن اختيار نبيه و هو اعلم حيث يجعل رسالته ولكن القانون الالهي حين يقرر القاعدة يقررها علي وجه التعميم أي لبادر من معه الي دفاع عنه و صد العادية عنه من غير ان يقفوا متفرجين علي ما يقع له... و في النص تبري‌ء للنبي ان يكون صنع ذلك او هم بصنعه لانه توهم بذلك او صنعه لاخذه عقاب الله اخذا ظاهرا يتكشف لكل راء من الناس فهو اذن صلي الله عليه و سلم علي ثابت عصمته و التزامه بأوامر الله و النصح للامة و للملة و تحاشي التقول علي الله في شي‌ء. [93] .ان النص يزكي الشريعة و يكاد القسم ينعقد به ان النبي لم يقع منه في ائتمانه علي الشريعة شي‌ء زاد منها او نقص، فكان النص يعني مخاطبة الناس بالاطمئنان الي ما جاءهم النبي به من احكام و عبادات و اصول اساسية في الدين و الشريعة انما هو علي نقاوته و صحته و سلامته و صحة النقل فيه عن الله الذي هو حام دين و صائن ملته و الرقيب علي ذلك ادق رقابة...و ليس للنبي في التقول علي الله من مصلحة او فائدة فهو رسول امين ارتضاه الله لرسالته فلقد كان ذلك من عظيم سعادته لتشريف مقامه و اكبار منزلته...«ألهاكم التكاثر حتي زرتم المقابر». التكاثر 2/1المخاطبون بهذا النص القرآني هم العرب، و قد جاء النص موضحا اجلي خصائصهم فلقد كانت المكاثرة دأبهم و المكاشرة في الخصومة همهم اذ كان كل فرد منهم بري في نفسه التفرد في كل شي‌ء فهو الرئيس لا الرؤوس و الكبير لا الصغير و الكريم لا البخيل. و الغالب لا المغلوب و الامير لا المأمور و هي نزعة لبثت فيهم الي دهر بعيد... و التكاثر في النص يعني المباهاة بالكثرة و ادعاء الغلبة و الاقتدار علي كل شي‌ء و ما قصيدة عمرو بن كلثوم الشاعر الجاهلي الا من الشواهد القاطعة بهذا المعني...«الهاكم التكاثر حتي زرتم المقابر» اي ان تكاثركم و تفاخركم بأمجادكم جركم الي التقاتل الذي انتهي بكم الي المقابر اي تقديم الضحايا البشرية الكثيرة... و من هنا فان كثرة قبائل القوم و افخاذهم و عشائرهم و بطونهم قد زادت من المكاثرة بينهم و لم [ صفحه 364] تكن القربي لتعوق دون ان يعزو بعضهم بعضا. و كانت الترات و الثارات تفعل فعلها في التقاتل و كان من حذق القوم في هذا الباب ان يهتدوا الي اتخاذ الاشهر الحرم الاربعة لاحلال السلام بعض الوقت في ربوع جزيرتهم و بذلك استطاعوا التوصل الي طريقة تحقن دماءهم لأيا من الوقت، و رغم ذلك فلقد كان هناك من ينسا شهور الحرمة الي شهور الحل فيمنع علي نفسه معرة المسؤولية في القتال خلال هذه الاشهر الحرم... و لقد و بخ القرآن الكريم الذين كانوا يصنعون ذلك توبيخا شديدا «انما النسي‌ء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله...» التوبة/37...و كان من مبادي‌ء الاسلام المعلنة الغاء الثأر و النهي عنه و ترك القصاص الي السلطة تتولاه بنفسها لان الثأر عملية متكررة علي مدي الازمان لا تنتهي و لا تنوقف بحيث كان الاحفاد يقتصون للاجداد و كان لآل عبدالمطلب ثأر لدي قوم من العرب قتلوا قتيلا منهم و قد اعلن النبي اسقاط ذلك الثأر في خطبته الكبري عام حجة الوداع... و لم يكن من الشرف القبائلي التخلي عن اخذ الثأر الا بالدية التي تتم الموافقة عليها بين الاطراف المتنازعة... الا أن الرسول الاعظم اعلن اسقاط حق اسرته في الثأر الذي لها علي الجهة القاتلة و انها حقا لجرأة عرفت في الرسول في كثير من المواقف التي تحدي بها عادات القوم و عنعناتهم ايام جاهليتهم مما تعد به شخصية الرسول الاعظم شخصية متفردة في القوة و الحزم و الاقتدار العالي في اخطر مواقف المواجهة و ذاك ان الله جمع له بين الجرأة و الحكمة و الاقدام و التريث و القدرة علي التعجيل في الضربة والاناة. و عند كل نص قرآني تبرز للرسول صلي الله عليه و سلم شخصية مميزة رائعة عظيمة...

كلمة قبل النهاية

اذ يتم الجزء من الكتاب تمامه و تعرف من مراجعة فصوله سماته و أحكامه و ما هناك من فرائض و سنن مسنونة و آداب و قيم و تعاليم و حقائق جاءت بها شريعة سيد المرسلين فبات بها الاسلام دينا متميزا بالمزايا الرفيعة التي اثرت حياة الامم المسلمة بثروات العلم و الحضارة والاخلاق حتي يوم الناس هذا و بذلك ستزداد شخية الرسول الاعظم في مجال عطائها التاريخي خلال ثلاث و عشرين سنة هي عمر الرسالة البلاغي الاول... اي ستزداد عظمة هذه الشخصية العظيمة عظمة علي مدي الاجيال و الي يوم التقاء العالم البشري بين يدي الله...لقد كتب في سيرة الرسول العربي محمد بن عبدالله كثيرون من كتاب السير من قدامي و محدثين و من منصفين و مغرضين و من مستشرقين و غير مستشرقين و وجدنا في افراد هذه المجموعة من لجأ الي الثلب المحض بغير تورع و لا حياء من التأريخ فقد علمنا ان ذلك مما لا يحسن فيه شي‌ء من الجدل لان الجدل انما يقع في مجال منالعلم و الرواية و التجريح و التعديل و ليس في الثلب و السباب ما يصلح ان يجادل فيه مجادل. و انما يحصي ذلك علي الضمائر الآثمة علها تستيقظ يوما ما فتتحسس مواقع الاثم في ما كان شائنا من مواقفها... و هناك من الحاقدين علي التحرك العربي الذي حمل راية الاسلام الي العالم فقضي علي دول كانت ذات سلطان و شموخ و بغي في الارض بغير الحق مما نشأ بمقتضاه من الحقد ما نشأ...و في الذين كتبوا في سيرة الرسول الاعظم ما كتبوا مدفوعين الي ذلك بدافع الحقد فريق من أقسة المستشرقين فكان في كلامهم الاسفاف و التحامل و اللهجة التي لامساك فيها من ادب و لا حياء و لا انصاف... [ صفحه 365] و هناك من كتب في السيرة النبوية اشياء اساء بها الي الحقيقة و ذاك من طريق الاخذ بكل رواية هزيلة و ضعيفة والاعتماد علي ما جاء من النقول الملفقة و الموضوعة... و قد ساعد هؤلاء علي المضي في خطهم هذا ما هناك من تهافت المصادر المكتوبة رغم تعارضها و تساقطها... ان قليلا من غير المسلمين من اعترف لشخصية رسول الله بالوصول الي قمة الكمال و الي التفرد في عالم الاصلاح و الي سمو الشخصية المحمدية خلقا و خلقا. اجل انهم قليلون كل القلة... و ظهر في بعض فئات الامة من ادعي انه ادري بالاسلام من سائر الفئات والاقوام ولكن هؤلاء اغمضوا عيونهم عن جلائل من المزايا التي ماز الله بها نبيه العظيم محمدا صلي الله عليه و سلم يحسبون انهم بانكار ذلك يصلون الي تنقيح عقيدة التوحيد من معالم الاشراك بالله و هم واهمون... و قد جاء جانب من كتابنا هذا في مناقشة ما تهافت من مقولات هؤلاء ابتغاء تصحيح ما علق باذهان من تأثر منهم بمعلومات لا ظل لعمودها ما بقي قائما في الشمس عند كل شروق و عند كل غروب و ليطمئن كل مسلم ان دينه دين رصين لا تملك المزاعم الباطلة هز ساريته و أن نبيه فوق الظنون الظالمة و انه السماء التي ما طاولتها سماء...هذا الكتاب الذي يحوم حول شخصية الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم استغرق تأليفه عدة سنوات و استخدمت في املائه و تدوين فصوله فريق عمل تم انشاؤه في وزارة الثقافة و الاعلام بأمر الاستناذ الوزير حامد يوسف حمادي... و كنت حاولت ان يكون لي مثل هذا الفريق لدي مراكز ثقافية أخري معروفة في البلد ولكن الذي يسره الله هو هذا الفريق. و كان في جمهرتهم ابني (واعية) الطالب في كلية الفنون الجميلة الصف الثالث و اليه يرجع امر الاخراج و المتابعة و هناك فصول في مباحث السيرة قد يتهيأ لها الظهور في جزء آخر ان شاء الله و الذي ينعقد عليه رجاء الكثيرين ان يترجم هذا الكتاب الي اكثر من لغة اجنبية لما هو معروف من رغبة اهل تلك اللغات في قراءة ما يكتب في السيرة النبوية.الشيخ جلال الحنفي البغدادي1418 ه - 1997 م [ صفحه 366]

التعريف بالمؤلف و التأليف‌

الشيخ جلال الحنفي من مواليد بغداد عام 1914...اكمل الابتدائية عام 1930 والتحق بكلية الامام الاعظم و كانت كلية يقبل فيها خريجوا الابتدائيات و بعد سنتين غير اسمها الي «دار العلوم العربية و الدينية» كما أزيلت عنها صفة الكلية فصارت مدرسة ثانوية علي مستوي دور المعلمين.و في سنة 1939 كان التحاقة بالازهر الشريف بالقاهرة و اذ كانت الحرب العالمية الثانية تهلك الحرث و النسل اغلقت الجامعات المصرية ابوابها فعاد الي العراق 1940...في سنة 1936 تم التحاقه بالوضائف الدينية في مساجد الاوقاف...مارس التعليم و الصحافة و الخدمة في المساجد... في عام 1947 صدر قرار من لجنة الحكام و القضاة بتعيينه قاضيا في محاكم العراق الشرعية...و للمؤلف جمهرة من الفتاوي في قضايا الطلاق نهج بها نهج التيسير و التطبيق الشرعي الصحيح في معاملة قضايا الطلاق، و ذاك للذين يراجعونه مستفتين عنده في هذا الامر...اذاع كثيرا من الاحاديث الدينية و الادبية من اذاعة بغداد منذ اول نشوئها...اتصل حين وجوده في مصر 1940-1939 بجمهرة من كبار علمائها و مفكريها منهم الشيخ محمد الخضر حسين و محمد فريد و جدي و محمد زاهد الكوثري و آخرون من اقطاب الفكر هناك.و في العراق اتصل منذ ايام شبابه الاول بثلة كبيرة من رجال العلم و الادب و اللغة كان منهم امام العربية الاكبر الأدب أنستاس ماري الكرملي و الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي و من اساتيذه في الجامعة الاستاذ طه الراوي و اتصل بالشيخ محمد القزلجي و تعلم منه الكثير. و الشيخ عبدالقادر عبدالرزاق الذي كانت له امامة الاقراء في بغداد و اتصل بغير واحد من كبار المراجع المعروفين في النجف و بمشاهير رؤساء الاديان في بغداد.سافر الي الصين عام 1966 لتدريس العربية في جامعاتها و مكث حتي عام 1970 و خلال ذلك كان زواجه من أمرأة عراقية و ولد له في الصين ولده البكر (لبيد) و اثنان آخران من الابناء... و أعيد الي الجامعات الصينية بقرار من مجلس قيادة الثورة عام 1975 و لبث نحو سنتين عاد بعد هما الي بغداد، و من الصين كتب مئات المقلات للصحف العراقية و غيرها... [ صفحه 367] الشعر...نظم المؤلف الشعر منذ عهد صباه الاول و كان يكثر منه و يقل و قد تم له من ذلك طبع بضعة دواوين و مجاميع و ما تزال نسبة عالية من شعره لم تطبع بعد في ديوان و ان كان معظمها قد نشر و ما زال ينشر في الصحف و المجلات...الصحافة...تهيأ له أن يطالع الصحف الصادرة في بغداد منذ وقت مبكر جدا اذ كان في الخامسة عشرة من عمره قد التحق بخدمة مجلات جمعية الهداية الاسلامية متدرجا من مستخدم بسيط الي مصحح الي كاتب و محرر فيها كان يطالع ما يصل الي المجلة من صسحف خارجية بطريق المبادلة...و في العشرين من عمره كان رئيسا لتحرير مجلة الناشئة الاسلامية الاسبوعية. و كان سكرتيرا لجمعيتها... و في عام 1939 اصدر مجلة الفتح الاسبوعية في بغداد التي كانت تبحث في الدين والادب و الموسيقي... و توقفت بعد سفره الي مصر فلما عاد و اصل اصدارها بعد حين من عودته... و لبث ينشر في الصحف الأدبية و السياسة مقالات لم ينقطع عنها و صارت له في الصحف اعمدة دائمة حتي يوم الناس هذا. و كان ايام صباه يكتب مجلة و رقية لا يزال يحتفظ بمجموعة اعدادها منذ عام 1350 هجرية اذ كان يقتصر في تاريخها علي التقويم الهجري القمري...التأليف...اشتغل في التأليف منذ اوائل الثلاثينات و قد نشر اول كتاب له عام 1940 في القاهرة - اذ كان طالبا ازهريا فيها - و هو بعنوان «التشريع الاسلامي تاريخه و فلسفته» و في عام 1941 نشر له في بغداد الجزء الاول من كتابه «معاني القرآن» و هو في التفسير. و اشتغل في ادبيات التراث البغدادي فألف معجما في العامية البغدادية من عدة اجزاء طبعت منها ثلاثة و ألف كتابا في «الامثال البغدادية» من جزءين و قدم له الاستاذ الشيخ محمد رضا الشبيبي و هناك جزء ثالث في الامثال ذات اللغة البذيئة لا يزال مخطوطا و توجد منه نسخة في ألمانيا و ألف كتابا عنوانه «المغنون البغداديون و المقام العراقي» اثبت فيه تراجم عدد منهم كان قد تتبع مسيرتهم الثقافية و الفنية كما كتب كتابا عنوانه «مقدمة في الموسيقي العربية»... و ألف «الامثال اليمنية» و «الامثال التونسية». و في الصين عكف علي وضع معجم صيني عربي و قد قطع به مرحلة طويلة ولكن ما داهم بصره من الضعف عطل عليه انجاز هذه المحاولة التي كان يهدف من روائها التوصل الي كتابة الصوت الصيني بالحرف العربي. و كتب في «الأيمان البغدادية» و في «شمائل بغداد وحياتها اليومية في عشرينات القرن العشرين»، قدم له الدكتور حسين علي محفوظ... و ألف كتابا في الصناعات و الحرف البغدادية و في اللغة ألف كتابه «كلام علي الاملاء العربي» قدم له الدكتور ابراهيم السامرائي. و «الادب العربي في الجاهلية و الاسلام» و مثله «العلم و الايمان» من المناهج التي كانت مقررة في كلية الامام الاعظم... و عني بدراسة العروض و وضع فيه كتابا صحح فيه منهج التدريس العروضي عنوانه «العروض تهذيبه و اعادة تدوينه» و قدم له الدكتور عبدالرزاق محي‌الدين... و عني بالاصوات الادائية في التلاوة القرآنية فألف في ذلك كتابه «قواعد التجويد و الالقاء الصوتي» و الذي قدم له السفير التونسي الاستاذ الحيبي عباس، و جرد منه «التجريد من قواعد التجويد»... و زاول الكتابة في مسائل النقد الاقرائي و بذلك يعد مؤسس الطريقة البغدادية في العروض و الاقراء و ذاك بفعل ما أخذهما به من التطوير و تنقيح المصطلحات...يعد كذلك مؤسس المدرسة البغدادية في السيرة النبوية. و ألف في «الصحة الاجتماعية علي ضوء الدين» و من ذلك الكراس المسمي «الفلسفة الصحية في الاسلام» قدم له الدكتور عبدالحميد الطوخي مدير [ صفحه 268] الصحة العالم و كذلك كتاب «صحة المجتمع»... و ألف في المرأة كتابا عنوانه «المرأة في الاسلام» و ألف في نقد الشعر... و مما طبع له من الكتب الثقافية ]رسالتان و اطروحة و طالبة متشككة و فلسفة الاحسان في الاسلام[ و كتب دراسة في القماط حارب بها استعمال القماط في شد وثاق الاطفال الرضع. اما احاديثه الاذاعية فقد فقد معظمها الا كراسا واحدا جمع شيئا يسيرا منها عنوانه «من وراء المايكروفون» و في مباحث اللغة ألف كراسا عنوانه «في التصحيح اللغوي»... و في مسائل الاعراب والنحو و علم التصريف نشرت له آراء في الصحف يصلح أن تكون منها كتب كثيرة... و من كتبه الوعظية كراريس كان يؤلف منها في كل شهر رمضان شيئا منها...ناقش مشاهير المؤرخين و الباحثين الاسلاميين و غيرهم و من ذلك ما كتبه في نقد الدكتور جواد علي المؤرخ العربي و الدكتور بديع شريف و الدكتور عبدالعزيز الدوري و الدكتور عبدالكريم زيدان و الدكتور علي الوردي و في مباحث الصوتيات اللغوية ناقش الدكتور حسام‌الدين النعيمي و ناقش شخصيات من مشاهير المفكرين في العالم العربي و غير ذلك مما هو غير قليل... و كتب مئات المقالات في سائر ابواب المعرفة الانسانية، و كتب في مطالب البحوث السياسية و الوطنية و المعارك الادبية و الفقهية الكثير... و خاض في مواطن الجدل العقائدي و اقتحم في السياسة مجالات شائكة سجن علي اثرها غير مرة في العهد الملكي.الجمعيات...اولع بالعمل في الجمعيات و كان يترأسها منذ ايام التلمذة الابتدائية. و أسس جمعية الناشئة الاسلامية اوائل الثلاثينات و شاركه فيها الشيخ عبدالباقي العاني فكان لها نشاط ذائع. و في سنة 1948 اسس جمعية الخدمات الدينية و الاجتماعية في العراق و قد شاركه في تأسيسها الشيخ محمد فؤاد الآلوسي و الشيخ عبدالحق حامد المصطوني.فكانت من الجمعيات العاملة في حقل الاصلاح الاجتماعي... الي أن ألغيت سنة 1958 و كانت للجمعية مجلة و منشورات و كتب توزع بالمجان عالجت بها الجمعية مشاكل البغاء و تشرد الاحداث... و امور الزكاة و هموم الفقر...سفراته...سافر الي مصر عام 1939 ملتحقا بالازهر الشريف و سافر غير مرة الي سورية و لبنان و فلسطين و اليمن و الصومال و جيبوتي و تونس و الجزائر و المغرب و باكستان و الهند و افغانستان و الصين و اليابان و هونك كونك و سافر الي طوكيو و سيئول في كوريا الجنوبية و خطب في مسجدها الجامع. و سافر الي الكويت و ألف فيها معجم الالفاظ الكويتية، و في صنعاء حاضر في جامعتها. و حج بيت الحرام ضمن اعضاء هيئة الحج العراقية العليا...قراءاته...اولع بقراءة السير و الاقاصيص العربية منذ عهد الصغر و مما قرأ سيرة عنترة بن شداد العبسي و سيرة حمزة البهلوان و الظاهر بيبرس و ألف ليلة و ليلة و سيف ابن ذي يزن و ذاك منذ العاشرة من عمره... و قرأ ماهية النفس ترجمة ميخائيل تيسي و الادب الجاهلي ل«طه حسين» من طبعته الاولي و هو دون العاشرة. وفرأ جمهرة كبيرة من كتب الديانات و اطلع علي ما كتبه المغرضون من المستشرقين و غيرهم في الشخصية المحمدية... و ناقش ذلك نقاشا علميا علي أتم ما تكون المنطقية في الجدل من اجل الحقيقة...مارس مهام الامامة و الخطابة و الوعظ في معظم مساجد بغداد و هو اليوم امام و خطيب جامع الخلفاء وفق قانون خاص... و قد تحلي صدره باربعة من اوسمة الاستحقاق العالي كان اثنان مهما قد تم تعليقهما علي صدره بيد الرئيس القائد صدام حسين فبات بذلك من اصدقاء الرئيس حفظه الله ورعاه...كتبه بتلخيص لفيف من طلاب المؤلف... [ صفحه 369]

ملحقان...

الملحق الاول...«ألم نشرح لك صدرك، و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك، و رفعنا لك ذكرك، فان مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، فاذا فرغت فانصب، و الي ربك فارغب». الانشراح 8/1في هذا النص الكريم تلخيص لعظم العب‌ء الذي كان النبي يحمله و ثقل و طأة العناء الذي كان يعانيه خلال فترة النهوض بالدعوة الي الله و ارشاد القوم الذين بعث فيهم نبيا... فلقد رأينا النص يصف ذلك بأنه منقض للظهر اي انه حمل جد باهض و في ذلك صورة تراها الذاكرة التي يقع اليها هذا المعني حين تلاحظ الظهر الذي انقضه الوزر فهو لا يكاد يدب علي الارض إلا معني مكدودا محدودبا بفعل الجهد الذي يؤديه فهو جهد اي جهد...و في وضع الوزر عمن انقض ظهره الوزر صورة للاراحة التامة بعد مرهقات الاثقال و الاوزار... ان النص الكريم يكلم النبي في الاشارة الي عهد مر به كان شديد المعاناة من الامر العسير نسيانه او اخراجه من الذهن و الذاكرة و الواقع التاريخي، ولكن الله فرج علي نبيه عظم الكرب و شدة الخطب اذ ختم تلك الايام بالتوفيق و النجاح بحيث كان ذلك قد حقق له انشراح الصدر و الحصول علي ارتفاع الذكر و علو الشأن و اخذ المجد من جميع اطرافه و بكل كيانه و ممتد ساحته...و في السورة معادلة لأمرين متباينين هما شدة الجهد و ثقل الوزر الذي كان منقضا للظهر و ما كان بعد ذلك من شرح الصدر بالوصول الي النصر و رفع الذكر بعد عهد الضياع و المتاهة في غياهب الايام الحسوم و غمرات الصراع الرهيب و القراع المرير اذ لم تكن الامة فيها قد احسنت الظن بنبيها و منشي‌ء كيانها و باعث نهضتها...و في قوله تعالي «فان مع العسر يسرا، ان مع العسر يسرا» ايماء الي الواقع الذي انتهي اليه جهاد الرسول الاعظم بحيث حل محل العسر يسر ان تجليا للنبي ساعة نزول هذه السورة الكريمة في اخريات ايام حياته الشريفة بعد ذلك الجهاد المرير و الصبر الجميل و المعاناة القاسية و الهم الثقيل. و ظاهر في قوله تعالي «فان مع العسر يسرا، ان مع العسر يسرا» التوكيد التام علي تحول الاحوال و تبدل الظروف و الوصول الي قمة النجاح... و ذلك لأن الله عزوجل لم بجعل العسر الذي اصاب النبي بغير يسر بل انه جعله مقرونا ابدا بيسيرين. و الحق أن عاقبة ذلك الجهاد المرير المتصل الخطوات و المترابط الحلقات قد كانت نصرا لا يشبهه نصر. اجل انه نصر عظيم...ان صيغة المعادلة في آيات سورة الانشراح آخذة بالنبي الي استحضار ايام المحن الطوال تقرن بينها و بين ايام الفوز العظيم لتكون الحالتان علي مدي الرؤية. فلقد كان الرجل الذي ناط الله به امر الرسالة الي قومه قد ناط به امرا تنقض به الظهور فاحتمله و صبر عليه و خرج من تحت وزره بقامته الشامخة منتصرا اعظم انتصار... انك لجد عظيم سيدي الرسول العظيم صلي الله عليك اكرم صلاة و سلم عليك اكرم تسليم...و السورة علي ما رواه بعض الرواة مما نزل بعد الهجرة و قد خذنا بذلك و قلنا به [94] ...الملحق الثاني: -«انا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، ان شانئك هو الابتر»... الكوثر 3/1في هذه السورة معادلة اخري بين ايام و ايام اذ كانت الايام الاولي أيام احتمال لثقل الحياة و قاسيات أحداثها فذاك مبغض و هذا مكذب و آخر شاني‌ء و رابع ساخر و مستهزي‌ء و مزدر بفعل ما يملك من جرأة علي [ صفحه 370] الاستخفاف بالقيم الكريمة التي جاء النبي يدعو العراة منها الي الاكتساء بها و التحلي بحليها.ان كلمة الكوثر هنا تعني كل شي‌ء دون استثناء شي‌ء لانها صيغة للكثير من العطاء الذي لا اكثر منه و قد كان ذلك كذلك فراح الرجل الذي لم يكن سفهاء قومه يخجلون أن يقولوا فيه اذا رأوه «اهذا الذي بعث الله رسولا»؟! الفرقان/41 أجل راح و هو الرسول حقا تتهيبه الرجال و تغض عنده الاصوات و تطاطي‌ء الابصار.و أمر الله نبيه أن يجزي ذلك بالصلاة الي ربه صلاة لا تنقطع لأن فضل الله عليه كان عظيما و أن يتبع ذلك باغداق الاحسان و طيبات العطاء و ذاك ما جاء التعبير عنه بالنحر...حقا ان الشاني‌ء الذي ملأ الحقد قلبه و سود الغيظ ضميره و لبث بعد كل ما تحقق للنبي من نصر و فوز و ظهور ظل الشاني‌ء شانئا و الحاقد حاقدا، اجل انه لابتر اي لا ظل له من سداد الرأي و لا حميد الخصال و لا رشيد الامر و لا جميل الخطاب.فهو في حاضر دامس و في مستقبل فارغ من كل صيت حسن و سمعة محمودة و ذكر بالخير حيث يذكر الفضل و أهله... و كون شاني‌ء النبي أبتر انما يعني شاني‌ء كل محمدة و فضيلة و عمل صالح رشيد، لان الرسول يمثل طاقة خير عظيمة الحجم فوق مستوي سائر الجهود و الطاقات و من كان كذلك كان خصومه و حاسدوه جديرين بما وصفهم الله تعالي به من الهلاك و البوار و التبار... و ما تكلم به اناس من ان احدهم علي ماروي بعضهم حين سئل اين كنت قال كنت عند الابتر. فهي رواية فاسدة و من رواها و يرويها انما هو من نفلة الافك و زور القول.ان كلمة الابتر في النص القرآني تعد من جذر كلمة التبار و التتبير و ما هي علي زعم بعض السطحيين الذين يفسرون الأبتر بانقطاع الذرية [95] .والحمد لله الذي تتم به الصالحات.الشيخ جلال الحنفي البغدادي.

پاورقي

[1] «نزل به الروح الامين علي قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين، الشعراء 195/194/193
[2] صالح المؤمنين اي صالحوا المؤمنين.
[3] الرسالة الاسلامية رسالة عالمية فلقد كان الانبياء يبعث كل نبي منهم الي قومه. و بعث صلي الله عليه و سلم الي الابيض و الاسود و الاحمر فكان رسول البشرية جمعاء و ليس من منطق الدعوات الدينية و غيرها ان تخرج اعرافها خارج بيئاتها التي ينشأ فيها دعاتها فان النبي انما يطاع لمعرفة الناس به و بسلوكياته و بما يكون بينهم من اتحاد اللغة و الثقافة و بما يكون النبي في حاجة له من الاعوان و الانصار. و علي ذلك وجه الله نبيه الي البدء بانذار عشيرته الاقربين ثم راح ينذر بقية العشائر و القبائل ذوي الانتماء الي العرق العربي... علي ان دعوة غير العرب الي الاسلام كانت ملحوظة منذ الايام الاولي للمبعث النبوي فلقد وقع في غضون ايام الدعوة الاولي ان أقبل علي اعتناق الاسلام غير واحد من غير العرب و قبل اسلامه. ان امر النبي بالسبق الي انذار عشيرته و ذوي قرابته بالدين الجديد لم يكن من هينات الامور فان ذوي القرابة من الناس فلما يتعاطفون فيما بينهم في مثل هذه المطالب العقائدية و الفكرية التي لا يدركون من منافعها شيئا اول الامر، كما ان الثقة بين ذوي القربي في هذا الوجه بين العرب خاصة شبه منعدمة خلافا للأعاجم الذين يتهارعون للانضمام الي من يظهر فيهم من الناعرين بكل نعرة ينعرون بها و ليس المراد بالعشيرة هنا الاعمام و ابناء الاعمام و بقية العصبات و الارحام و انما يراد بذلك من وراءهم من قريش و فروعها و قد قلنا ان هذا النص لا يمنع دعوة غير هذه الفئات الي اعتناق الدين وقد جري الامر علي ذلك منذ بدأ النبي الصدع بمهام هذه الرسالة العظمي.
[4] قال الشوكاني في تفسيره: اتفق اهل التفسير في هذا انه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلي الله عليه و سلم. ص 343 - زبدة التفسير من فتح القدير - ط الاولي 1985م - 1406 ه.
[5] كان من عادات ايام جاهليتهم ان يجعلوا قبورهم تحت السماء تتساقط عليها الامطار. و قد دفن النبي صلي الله عليه و سلم وفق هذه العادة اذ كان دفنه في ساحة بيته و ليس في غرفة نومه... و بناء قبة علي قبرة اذا كان علي غير سنة العرب فانه لا يخاف اصول الاسلام و قواعد الملة...
[6] و من آيات القدسية قوله تعالي: «ألم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل. الم يجعل كيدهم في تضليل. و أرسل عيلهم طيرا أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل. فجعلهم كعصف مأكول»...الفيل5/1 كان مولد الرسول الاعظم في عام الفيل، و في ذلك العام حدث غزو الحبشة لمكة يتقدمهم فيل لهم لم تعهد العرب مثله في حروبها و كان جيش الحبشة عرموما جرارا انكمش القوم عن محارشته و ذلك لثقة العرب ان الكعبة لا تقتحم لمكانتها عند الله، ولكن الله دفع عن الكعبة و عن اهل مكة اذي الاعداء الغزاة... و الاشارة الي ذلك في النص القرآني بلفظ «الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل» اشارة الي ان النبي صلي الله عليه و سلم قد كان له عند ربه شأن فعل فعله في أبادة الغزاة... ان في اضافة ربوبية الرب الي النبي صلي الله عليه و سلم معني يتضمن لفت النظر الي كرامته و قدسيته و اعزازه لامر آت علم فيما بعد في اختيار الله اياه للرسالة العظمي التي ارسل بها الي البشرية جمعاء...
[7] يطلق الوحي كذلك علي ما ينقدح في الذهن من امور يهتدي اليها عند عروض ازمات مارق تتطلب الحل و العلاج الناجح. و يقع هذا لغير الانبياء من مثل ما جاء في النص «و اوحينا الي ام‌موسي ان ارضعيه فاذا خفت عليه فالقيه في اليم». القصص/7... و مثل قوله تعالي «و اوحينا اليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون» سورة يوسف/15 و قد جاء ذلك في الكلام علي يوسف عليه‌السلام و هو صبي صغير يوم القي في الجب و بعض الوحي يعبر به عن العرائز و النظام العبيعي في الحياة من نحو قوله تعالي «و اوحي ربك الي النحل» علي ان لكلمه الوحي في اللغة مسالك اخري غير هذا الذي ننوه به و من ذلك «يوحي بعضهم الي بعض زخرف القول غرورا» الانعام/112 و كذلك القول «و ان الشياطين ليوحون الي اوليائهم ليجادلوكم...» الانعام /121... و علي هذا فكلمة الوحي لا تعد مصطلحا دنيا موقوفا علي هذا المعني.
[8] بعض الفاظ الوحي تعني نفس هذا المعني اي انه وحي لا يحمله ملك الي المعني به و من ذلك قوله تعالي في مخاطبة موسي عليه‌السلام «اذ اوحينا الي امك ما يوحي...» طه/39...
[9] هناك من يمنع الصلاة علي النبي بعد الفراغ من الاذان منعا باتا لا تسامح فيه بغير حجة او دليل اذ ان الصلاة علي النبي مما امر به المسلمون من غير تحديد وقت لاداء ذلك او وقت لمنعه و بذلك يكون منع المؤذنين من الصلاة علي النبي بالعبارات اللائقة منعا متعسفا فيه و غير قائم علي بينة...
[10] لقد شهد للعرب عظماء قادة العالم و فلافسته انهم كانوا ارحم فاتح فتحت له البلاد و ذلك لان العرب حملوا في هذه الفتوحات عقيدة الاسلام التي كانوا متشبعين بها و قد حملوها الي الافاق. (والاسلام مثخن) بمعالم البر و الخير و الرفق و الرأفه و العدل و الخطط الصائبة في حياة الناس. ان شهادة الله عزوجل بانه لم يرسل محمدا الا رحمة للعالين شهادة صادقة ناصعة (وقد) جاء التعبير بها من النصوع و الفصاحة بما لا يعلق به ادني ارتياب في الامر المراد. و ما كان مثل هذا التعبير بالبليغ الموجز محلا للخلاف في تفسير و تأويل و استبانة المحتوي و المضمون فصلي الله عليك ايها النبي العظيم و الرحمة المهداة الي البشرية حتي تنفض الارض كل كائن علي ظهرها من بني البشر فلا يبقي هناك من نفس منفوسة و كذلك شاء الله لهذه البشرية حيثما كانت ان تنعم برسول هو الرحمة العظمي من الله لكل فرد من افرادها و جيل من اجيالها و نطفة من نطفها من ذكر و انثي و حر و عبد و مقيم و نازح و قريب و بعيد... ان الذين زعموا ان النبي اذ مات انتهي كل شي‌ء ينسب الي شخصيته النبوية قد جهلوا ان الذي قاله الله في حقه من وصفه بالرحمه المرسله انما هو قول ماض الي قيام الساعة فما يزال صلوات الله عليه الرحمة نفسها بكل حروفها و اطرها وحقيقتها و مجازها و بكامل حجمها و شكلها و موضوعها. بل ان الامة الاسلامية منذ عهد الرسول صلي الله عليه و سلم الي عصور شتي تلت ذلك العهد تعد كلها امة واحدة تشملها اخوة الاسلام فأي مسلم من مسلمي زماننا هو أخ لأي مسلم من مسلمي العصر الاسلامي الاول ففي القرآن الكريم «ربنا اغفر لنا و لاخواننا الذين سبقونا بالايمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا» الحشر/10 تدل علي ان الزمن طال ام قصر لا يقطع صلة مؤمن لاحق بمؤمن سابق. و في ديمومة ايمان الامة ديمومة لرسالة رسولها. لان الرسالات تنتقل من طريق اتباعها...
[11] نزلت هذه الاية الكريمة منوهة باكتمال الشريعة المطهره التي هي شريعة الاسلام و قد تمت بها اسباب النعم الالهيه العظمي علي لامه و كان يوم نزولها في حجة الوداع التي توفي رسول الله صلي الله عليه و سلم بعدها بنحو ثلاثه اشهر لم ينزل فيها وحي متلو من القرآن الكريم لان القرآن الكريم كان قد تم تمامه و عرف ذلك سائر المؤمنين. ما من ذهب الي ان اخر ما نزل من القرآن هو قوله تعالي «و اتقوا يوما ترجعون فيه الي الله...» البقرة/281... و مثل هذا النص في كتاب الله الكثير، فلا دلالة توقيتية لها. فانها آيه وعظية لانبأ فيها ينبي‌ء عن مسأله تاريخية او حادثه معينه في دعوة الناس الي اتقاء لله و الحدر من يوم رجوعهم اليه فان الملة الاسلاميه قام امرها علي هذا المعني المتكرر في التنزيل دون ان يكون في شي‌ء منه ايماء الي ان ذلك هو احر عهد القرآن بالنزول. فان يكن هناك من روي ذلك فان الروايات تناقش و ما تعارضت فيؤخذ بما يكون منها ألحن بالحجة و اخري بالاستدلال و اجدر بالاحتجاج و اهدي الي المآل... ففي قوله تعالي «اليوم اكملت لكم دينكم» ايراد للظرف الزمني الذي كان محل علي المؤمنين يومذاك و هو ما قال تاريخ الشريعة انه يوم حجة الوداع علي ان اكمال الدين يوم يعلن عن اكماله لا يصلح ايراد حكم شرعي جديد بعده يثير الظن بان الدين لم يكتمل حقا، و تلا ذلك اتمام النعمة و الرضا بالاسلام دينا، و في تكرر كلمة الدين توكيد ذلك كما ان ايراد الضمائر «لكم و عليكم» يفهم منه مخاطبة قوم سمعوا ذلك و عملوه و ادركوا فحواه و محتواه و ما وراءه من شي‌ء... ان في ذكر الدين والاسلام ما ينزل علي قصد ظاهر يشف عن الشريعة و عن امر له كيانه المعلوم و حدوده فيه الي الله». اما اكتمال الدين و هو صادر من الله فانه في حكم القرارات القاطعة ذات المعاني المفهومة كل الفهم. و ليقل لنا الذين ظنوا ان النص لقرآني «اليوم اكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا» لم ينزل في اعلان ختام الشريعة و انقطاع الوحي، اذن فيم نزل؟ و ما معناه و ما حدود اكتمال الدين ان لم يكن قد اكتمل حقا...
[12] اذا عرض لاحد الناس عارض انفعال شديد طاري‌ء لا افتعال فيه فغلبه التواجد و الهيام بحب الله و الرسول فانه لا يؤخذ عليه لانه يدخل في مجال الغيبوبة التي يرفع القلم عنها و ان لم تكن تمثل التعبير الايماني المسنون.
[13] اما ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالي «له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من امر الله» الرعد/11... فقد قالوا ان المعقبات هم الملائكه و ان الذي يحفظونه من امر الله هو النبي صلي الله عليه و سلم و الامر ليس كذلك فان الملائكة هي التي و كل الله اليها تنفيذ اوامره و تحقيق احكامه فهم لا يحفظون احدا من اقداره في خلقه... و انما الصحيح في تفسير هذا النص ان المراد بالمعقبات هم الحشم و الخدم و الاعوان و الحراس و الجند و الشرطه اما الضمير في يحفظونه فالمراد به من وصفه الله بانه سارب بالنهار لمن هو ذو قوة و سلطان و شخصية متمكنه مقتدره في زمانه و مكانه و ذاك ظاهر في كامل النص و تمامه و هو ماستشير اليه و نشرحه فيما يلي من اصل النص الذي «سواء منكم من اسر القول و من جهر به و من هو مستخف بالليل و سارب بالنهار له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من امر الله» الرعد/11 الاية الكريمة تتضمن معادلة بين فئتين من الناس الفئة الاولي تشير الي من هو في غاية الخوف و الدعر من ان يقول شيئا يجر عليه المتاعب فيما يتصور من فرط خوفه و هو من اشارت اليه الاية بكلمة «من اسر القول» و الاخر هو من جهر به جهرا يدل علي قوته واعتداده بكلمته و انه لا يخاف من احد... هذه المعادلة في المجال القولي. اما في المجال الفعلي فقد جاءت المعادلة بين اثنين احدهما مستخف بالليل تعبيرا عن شدة ذعره و جبنه لان المراد من الليل اذا ذكر ان يكون دامس الظلام و الخائف في لليل الدامس الظلام يختبي‌ء هنا و هناك من فرط ما يعتريه من الارتعاش من عدو او من سلطة او من جهة ما فهو في غاية الخوف لا يكاد يتماسك و اذا عرض له من يريد سلبه ماله او قتله و ما كان من هذا القبيل فانه لا يملك الدفاع عن نفسه... ان هذا الرجل الخائف المرتاع هو عند الله في هذه المعادلة لا يختلف شيئا عن القوي المسلح بالاعوان و القدرة و هو من جاءت الاشارة االيه انه «سارب بالنهار» اي يمشي في عرض الطريق علانية يضاف الي ذلك ان هذا السارب بالنهار معه اعوانه و رجاله الذين وصفهم النص بانهم المعقبات «له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من امر الله»... و حفظ هؤلاء صاحبكم من امر الله انما كان علي ما يظنه هو و يظنونه هم و هو ظن من فصيلة الوهم الذي لا اصل له و بذلك تكون المعادلة مرادا بها ان الضعيف و لقوي قولا و عملا هما عند الله شي‌ء واحد في اقداره و احكامه و سلطانه و ما الي ذلك... فالنص اذن لا علاقة له بشخصية الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم و انما اقحمناه في هذا المجال لتصحيح الظن و اخراج الرسول من هذه المعادلة و التنبيه علي صحيح التفسير و دقيق التأويل لهذا النص القرآني الكريم.
[14] لقد رأيت خلال وجودي في الصين 1970-1966 ان السياسة الحربية في الصين علي ما كان يري الرئيس (ماو) هي حرب استئصال لئلا ينشغل المحاربون بامور ثانوية تخص مشاكل الاسري منها اطعامهم و ما الي ذلك...
[15] معاملة الاسري في الاسلام معاملة انسانية عالية، ففي القرآن الكريم «و يطعمون الطعام علي حبه مسكينا و يتيما و اسيرا» الانسان/8. اذ جعل اطعام الاسير من القربات و اعمال البر التي يحمد عليها من يعملها.
[16] ولد الرسول الاعظم في مكة وعاش سنوات خارجها اذ كان مرضعا لدي حليمة السعدية في مضارب عشيرتها... جي‌ء به الي امه بعد ذلك و قد تولي امره جده عبدالمطلب ثم تولي امره عمه ابوطالب بعد وفاة جده و كانت امه قد توفيت قبل حين و علي هذا لبث النبي في مكة حتي عصر الشباب اذ اشتغل في رعي الاغنام لعمه ثم اشتغل في تجارة خديجة بنت خويلد و قد تزوج منها و استولدها عدة ابناء من الذكور و الاناث مات ذكورهم قبل مبعثه صلي الله عليه و سلم. و كان ذلك في الاربعين من عمره... لقد كان للنبي منذ ايام طفولته حتي بلوغه الاربعين لدات و اصحاب و اصدقاء و معارف يؤلفون العدد الكبير من اهل مكة خاصة. فأين كان السحر خلال الاربعين سنة التي عاشها النبي في مكة قبل مبعثه النبوي الشريف... و اين كانت ادعاءات كفار مكة في ما ادعوه من الاكاذيب و ضروب البهتان اذ وصفوا النبي بالشاعر و الساحر و الكاهن و هو عن ذلك جميعا جد بعيد؟!. و يلاحظ من آيات المواجهة و غيرها ان النساء لم يكن مصدر اذي للرسول و لا طرفا في جدال ونزاع خلال العهد المكي و لا المدني بل ان النفاق و ان كان قد وجد في العهد المدني فان النساء لم يخصصن في ذلك بشي‌ء نزل فيهن... و هذا يدل علي ان المراة لم تجاهر الرسول الاعظم بخصومة و لم تجعل من نفسها حجر عثرة في سبيل الشريعة التي جاء بها الرسول... و مما يفهم منه ان شخصية النبي كانت من العظمة و المهابة حائلا دون تورط النساء في الوقوف في مواجهته و الرد علي رسالته.
[17] و يراد بالخوالف اعمدة الخيم و النساء المقيمات في البيوت اذ لم يكن مفروضا علي هؤلاء النساء الخروج للغزو.
[18] القول علي ما ذكر به الرسول صلي الله عليه و سلم موصوفا بانه كان منعما علي زيد. و الانعام كذلك انما يكون فيما يقع في اطار التبرع الذي لا يلزم به المتبرع و ما كان من هذا النوع من النعم يعد من مراتب الفضل الاوفي. و خلاصة ما نعنيه من هذا القول او بهذا القول ان الله جل جلاله قرن اسم نبيه صلي الله عليه و سلم بذاته الكريمة في موضوع الانعام و المن علي الناس بما لا يلزمون بالمن به علي احد و لا نجد في القرآن الكريم اشارة الي ما يشبه هذا من قرن اسم نبي بالله في مثل هذا الامر، فهو اذن امتياز من الامتيازات الجلية التي ماز الله بها نبيه العظيم صلي الله عليه و سلم.
[19] كان الرسل الاقدمون يواجهون استنكارا شديدا من قومهم حين يقربون اليهم بعض الفئات المستضعفة او الشعبية (انؤمن لك و اتبعك الارذلون) الشعراء/111. (و ما نراك اتبعك الا الذين هم اراذلنا بادي الرأي) هود/27.
[20] قد تكون الحاجة الي الشوري حاجة يقضي بها ظرف طاري‌ء عاجل يضيق الوقت به عن كل تدبير فيكون للشوري مذاق فرج عظيم و في القرآن الكريم «فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا» يوسف/80 اي انصرف بعضهم الي بعض يتشاورون في الخروج من مازق وقعوا فيه...
[21] لم يكن هناك رجز امر النبي بهجره لكنه تأديب لعدم الاقبال علي الاتصاف بذلك و هو اسلوب في الموعظة و التهذيب معروف...
[22] العيلة هي الفقرة و الخاصة. «و ان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ان شاء...» التوبة/28
[23] لقدسية بيت‌المقدس جاء في الحديث النبوي (لا تشد الرحال الا الي ثلاث) و ذكره في النص القرآني مقرونا اي انه قرن بالمسجد الحرام و المسجد النبوي و هو حقيق بهذه المنزلة و جدير بهذا المقام. و هو اي بيت‌المقدس الشريف زيادة علي انه اولي القبلتين و ثالث الحرمين مسري النبي و منطلق عروجه
[24] نزلت الاية في تهديد آكلي الربا بالعقبي السيئة «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله و ان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون و لا تظلمون». فالحرب التي أنذر الله بها أكلة الربا و كانوا من شرار الناس و كبار اصحاب الاموال فيهم. قرن الله اسمه فيها باسم رسوله اشعارا بالاقتدار الذي يملكه الرسول في مواجهة القوم رغم عتوهم و عنف خصومتهم و كثرة ما يملكون من مال. فالرسول الاعظم يصلح وفق هذا النص ان يكون جهة قتالية في حرب المرابين مساوقة للجهة القتالية التي نسبها الله لنفسه... و بديهي جدا ان ذلك اذ يكون كائنا انما يكون كذلك بما يمنحه الله رسوله من القوة و الاقتدار القتالي الغالب و الظاهر في النص ان الخطاب الذي اتخذ اسلوب العنف قد مخاطبة المخاطبين انما هو موجه لي فئة من المؤمنين الذين اعتنقوا الاسلام في المدينة و صاروا يعرفون بالمؤمنين و يخاطبون بلقب (الذين آمنوا) و لا غرابة في ذلك أي في أن تكون مخاطبتهم مشحونة بالعنف و الشدة. و ذلك من طبيعة القرآن الكريم عند التحذير و عند اعلان الاحكام الشرعية التي تتضمن تحريم محرمات لم تكن قبل محرمة...
[25] نص البراءة التي يتبرأ بها الله و رسوله من المشركين يعد نصا مستديما الي يوم القيامة من كل مشرك و ليس هو نصا قاصرا علي ما جري اعلانه يومذاك و يفهم من ذلك ان براءة الله من المشركين و براءة رسوله منهم سيان و الشرك باطل ابدا و هو أي الشرك قائم مادام في الدنيا قوم ضالون عن نهج الهدي و الايمان و لذلك قال الله تعالي «ان الله لا يغفر ان يشرك به و يغفر مادون ذلك لمن يشاء» النساء/48... و يتبين من هذا ان كل مشرك يظهر في الدنيا حتي اليوم الذي ينتهي فيه العالم هو داخل كماشة هذه البراءة التي يبرأ فيها الله و رسوله من مثله... ان معني الديمومة التي تلازم رسول الله بعد مماته صلي الله عليه و سلم بصفته رسول الله المشهود له بالرسالة علي مدي الزمان هو معني ثابت و مطرد. و انها لحقيقة خفيت كل الخفاء علي من زعم ان النبي اذ مات فقد انقطعت علاقته بما كانت متصلة به من امور الناس.
[26] قرن في النص القرآني القنوت لله بالقنوت لرسوله اعزازا لشأنه و اعلاءا لمقامه و تنصيصا علي قدسية شخصيته بحيث جعل له في القنوت نصيب.
[27] في القرآن الكريم «و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا...» و بديهي ان ما آتي الرسول قومه انما هو من ما اوحاه الله اليه و امره بتبليغه امته خلافا لما قاله بعض المفسرين من ان هذا الايتاء ايتاء للاموال و الاعطيات و كذلك القول علي ما نهاكم الرسول عنه و اذا لا يمكن ان يتخلف الامر الالهي باطاعة الله فانه كذلك لا يتخلف الامر القاضي باطاعة رسول الله لعدم امكان التجزئة بين الطاعتين. و اطاعة النبي الواجبة علي المؤمنين انما هي اطاعة ما نقلته الاحاديث النبوية الموثوق بها من مصادر الشريعة من تعاليمه الخاصة باالعبادات كالصيام و الزكاة و الصلاة و ما هناك من حلال و حرام و كذلك المعاملات و السلوكيات و العلاقات بين الناس كل اولئك لا يتخلف منه شي‌ء بعد وفاة الرسول الاعظم صلي الله عليه و سلم.
[28] المراد بالاعز و الاذل في عرف الكفار هم جماعة المشركين و جماعة المؤمنين و لا يراد بالاذل و الاعز شخص معين... و المراد بالاذل الضعيف و مثل ذلك «و لقد نصركم الله ببدر و انتم اذلة» آل‌عمران/123...
[29] تمام الاية. «... و ليأخذوا استلحتهم فاذا سجدوا فليكونوا من ورائكم و لتأت طائفة اخري لم يصلوا فليصلوا معك و لياخذوا حذرهم و اسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن اسلحتكم و امتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة و لا جناح عليكم ان كان بكم اذي من مطر أو كنتم مرضي أن تضعوا اسلحتكم و خذوا حذركم ان الله اعد للكافرين عذابا مهينا» النساء/102...
[30] يعتمد القصص القرآني علي مطالب يعد التاريخ فيها امرا غير مقصود و لذلك لم نجد القرآن الكريم سمي الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا. في قوله تعالي «و كان وراءهم ملك ياخذ كل سفينة غصبا» الكهف/79... كما ان القرآن الكريم لم يسم ابني آدم في قوله تعالي «واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق اذ قربا قربانا فتقبل من احدهما و لم يتقبل من الاخر» المائدة/27... و حين ذكر الغلبة علي الروم في قوله تعالي «غلبت الروم في ادني الارض» لروم/2... لم يذكر الجهة الاخري التي كانت الحرب بينها و بين الروم سجالا و ذاك لان القرآن لا تعنيه الاماكن و الازمان و اسماء الشخوص فهو يشير الي مواقع العبرة و لا يعنيه ما يعني التأريخ من التدوين و سرد الاخبار.
[31] قالت عائشة في صفة رسول الله ان خلقه كان القرآن و هي تعني بذلك انه صلي الله عليه و سلم كان متلبسا بالقرآن و ما في القرآن من حكمة و هدي و علم و نور و قيم عالية تهدي الي البر و تتجسم فيها لتقوي... و انا لنقول ايضا علي هدي ذلك ان ثقافة النبي كانت ثقافة القرآن و معارف النبي علت بمعارف القرآن و ان كمالاته كملت بكمالات القرآن...
[32] كانت الصلاة اول امرها في العهد المكي تؤدي بحالة قيام قد يطول كثيرا يقرأ خلاله المصلي آيات و سورا مما يحفظ، السر في ذاك ان يتم للمسلمين حفظ اكبر قدر من القرآن و كان عدد ما نزل من سور القرآن في مكة ست و ثمانون سورة... و قد تسني للمسلمين حفظ قسط عظيم من القرآن قبل الهجرة الي المدينة اذ لم تكن الفاتحة قد عرفت في الصلاة الاولي.
[33] في هذا النص نهي عن الصلاة علي اناس وصفهم الله بصفة حدد بها شخصياتهم و في النص منع من القيام علي قبر احد منهم أي الوقوف و الزيارة و الدعاء... مما يفهم من ذلك وفق مفهوم المخالفة و هو قاعدة اصولية ان الصلاة علي اي مسلم من المسلمين مات علي الاسلام غير ممنوعة ان لم تكن مفروضة. و الوقوف علي قبر ميت من افراد هذه الامة حق يستحقه ذلك الميت ابتغاء الترحم عليه و الاستغفار له و ذكر ما كان من محاسنه في حياته. فاذا كان ذلك كذلك فان رسول الله صلي الله عليه و سلم اولي ان يصلي عليه و ان يقام علي قبره... فالذين يزعمون ان زيارة القبور ممنوعة لا حجة لهم في ذلك بعد وضوح النص القرآني...
[34] قوله تعالي «ثم أماته فأقبره» عبس/21 يعد من بعض ما من الله به علي عبده فهي أي القبور ليست مما يستقبح و تكرهه النفوس بحيث تمنع الصلاة في مكان اذا كان فيه قبر. و في الحديث النبوي عند صفة القبور انها تذكركم بالاخرة...
[35] ترد مفردات النهي في العربية احيانا للتوكيد و ليس لقصد النهي و من ذلك ما جاء من قوله تعالي «لا اقسم بيوم لقيامة» القيامة/1... و مثل ذلك كلا انها تذكرة» عبس/11... و من ذلك «ما منعك ان لا تسجد» الاعراف/12. فليس في هذه المفردات من معني النفي او النهي شي‌ء...
[36] اللائي: اي مقرونة بلفظة (لا) انناهية...
[37] يبدو ان اجماع القوم علي باب بيت النبي في مكة قبل الهجرة كان مرادا به اختطافه علي جاري عادتهم القديمة... ولكن الرسول صلي الله عليه و سلم كان دقيق التصرف و عظيم التحوط من ذلك اذ لم يبت ليلة هجرته في بيته انما بات في بيت ابي‌بكر و قبل بزوغ الضياء الاول كان النبي قد خرج الي الغار...
[38] ان ابن‌هشام كان ذا هواية في تعداد الاسامي فهو يورد اسماء عن آمن و من كفر و من اشترك في الحرب و مات فيها من الطرفين و اسماء خيل المسلمين علي اختلاف الروايات و غير ذلك. ولكنه لم يذكر لنا اسماء الذين قتلوا المئات من يهود قريظة في وقت واحد يستغرق عدة ايام لو صح ذلك... و كان ابن‌هشام قد جعل حال بني‌قريظة و بني‌النظير حالة واحدة مما يفهم منه ان القبيلتين عوقبتا بعقوبة واحدة هي الاجلاء لا القتل الجماعي لاحدا هما دون الاخري و ان لم يجر التصريح بذلك... و في ابيات رواها ابن‌هشام يفهم منها ان قتلي قريظة قتلوا في معركة و لم يقتلوا صبرا بايدي أناس و كل االيهم امر قتلهم و دفنهم في حفائر محفورة في الارض و يدل علي ذلك قول الشاعر حسان بن ثابت (ابن‌هشام ج 32/4( لقد لقيت قريظة من أساها و ما وجدت لذل من نصير اصابهم بلاء كان فيه سوي ما قد اصاب بني‌النضير تركناهم و ما ظفروا بشي‌ء دماؤهم عليهم كالغدير فهم صرعي تحوم الطير فيها كذاك يدان ذو العند الفجور ان النبي صلي الله عليه و سلم و قد جعل اليه الله امر الحكم في الدماء و غيرها و ذاك مما لا تقع الوكالة فهي لغيره و لذا نشك في انه صلي الله عليه و سلم ترك امر الحكم في قريظة الي سعد بن معاذ الذي حكم علي مئات من رجالهم بالقتل و كان معاذ علي حال من الاعياء و شدة الاعتدال بحيث لا يؤتي به من فراشه ليحكم في الامر الذي حكم فيه... و ما قيل من ان النبي قال لسعد أن ذلك هو حكم الله مسألة تتطلب الاستيثاق التام... لان اتخاذ القرار في مثل هذه المطالب لا يتولاه الا النبي وحده... و ما رواه الرواة من الاطناب في مكانة سعد بن معاذ يجعلنا نتجه الي دراسة سيرة سعد... فيم نال هذه المكانة العظيمة... و قضية قريظة كانت في السنة الخامسة للهجرة مما نفهم منه ان ظروف الدعوة لم تكن تتطلب مثل هذا الموقف من صاحب الرسالة في الاحتكام الي رجل من الانصار في مثل هذا الامر الخطير... و لذا ننفي حادثة القتل الجماعي لبني‌قريظة علي الوجه الذي ذكره اهل السير...
[39] لا تري في المسيحية احكام ممكنة التطبيق اذ كانت الدولة يوم نشوء المسيحية دولة الروم و لم يتهيأ للمسيح عليه‌السلام رجم الزناة و لا القصاص من القتلة...
[40] مآب مآبي اي مرجعي
[41] دفع اهذا الشي‌ء اليسير من المال للدولة و هو ما سمي بالجزية يعد اقل مئات المرات مما كان يدفعه هؤلاء لدولتهم من ضرائب جد كثيرة و هو كذلك اي ما يدفعه غير المسلمين من الجزية اقل بكثير مما يدفعه المسلمون من صدقات و كفارت و غير ذلك... كما ان من وصل الاسلام الي بلادهم لم يكونوا يشاركون في الانتساب الي الجيش الاسلامي علي نحو ما كانوا ملزمين بالمشاركة بالالتحاق بجيوش دولهم و هم كذلك اباح لهم الاسلام تطبيق احكام دياناتهم بكل حرية... و بذلك لا يصح في الاذهان ان يكون هؤلاء قد اكرهوا علي اعتناق الاسلام علي ما يدعيه بعض المستشرقين من الذين يلقون الكلام علي عواهنه و ما هم بمستيقنين...
[42] النسبة هنا للبلاغ الا للبلاغة...
[43] او نتوفينك: حتي نتوفينك...
[44] ذكر وصف الرسالة النبي بانه رحمة للعالمين تؤكد ان مهمة البلاغ لا تخول الرسل ان يعاملوا الناس بالقسوة و العنف و الشدة...
[45] من ذلك قوله تعالي «و اذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و اشهدهم علي انفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا...» الاعراف/172...
[46] الشعراء 191/175/159/140/122.
[47] ورود النص في تسبيح الله بلفظ باسم «ربك» لبيان موقع هذا التسبيح من الاستجابة لمكان اضافة الرب الي عبده و قوة العلاقة الظاهرة بين اللفظين... كذلك جاءت هذه الآية في سورة الواقعة/96 و سورة الحاقة/52... و في القرآن الكريم «يا ايها النفس المطمئنة، ارجعي الي ربك راضية مرضية» الفجر 28/27... فان هذا التعبير ذو مذاق يختلف عما لو كان بلفظ «ارجعي الي الله» لان ذكر الرب مضافا الي كاف الخطاب يطمئن النفس الي ان للرجع الذي ترجع اليه هو محل الخير و مناط الرجاء و هذا ما تدل عليه الصيغة التعبيرية الناشئة من اضافة الرب الي كاف الخطاب «ارجعي الي ربك»...
[48] الكعبة معروفة بانها متخذة محلا للعبادة من قبل عهد ابراهيم عليه‌السلام...
[49] في القرآن الكريم «لقد انزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم افلا تعقلون» الانبياء/10... في هذا النص اشارة الي الحس القومي العام... فان كلمة «فيه ذكركم» في مخاطبة العرب ما يومي‌ء الي ان الله اعلي من شأن العرب و منحهم بعد الصيت و المكانة العالية. والاسلام اعتمد الامة العربية في حركة الاصلاح العالمي من طريق هذا الذين الحنيف و نقله الي سائر ارجاء العالم و ان لم يكن الاسلام دينا خاصا بالعرب و ان كانوا تحملوا كل ثقله و تحمل كل ثقلهم الا انهم كانوا حقا خير امة اخرجت للناس.
[50] و هذا ما يؤيد ان العرب في تلك الفترة لم يكونوا يدركون قيمة الوحدة القومية، و كان من يفاخر منهم بالامجاد انما يفاخر بامجاد عشيرته و قومه و لذلك كان غزو بعضهم بعضا لا يطعن في انتمائهم الي ارض واحدة و محيط واحد لان هذه الارض و هذا المحيط لا يؤلفان اطارا يستاهل التقديس... و لقد كان من عظيم فضل الاسلام علي الامة العربية ان خلق فيهم شعور الانتماء الي قومية واحدة و نهي النبي عن الانتماءات الضيقة...
[51] ليس المراد من اخراجه ان يترك و شأنه يذهب الي أي مكان يريد و الا لسرتهم هجرته من مكة. انما يراد من الاخراج الاخذ الي مكان يحجرون فيه من يريدون ذلك و قد عرفت العرب هذا النوع من التصرف...
[52] المهتد: المهتدي
[53] جاء النص القرآني باختلاف الاقوال في عدد فتية الكهف و مدة مكثهم فيه ثم جعل الله ذلك من بعض علمه «قل الله اعلم بما لبثوا»... الكهف/26...
[54] الذي حدث بعد غرق فرعون ان خرج الي ظاهر الماء فدفعته الريح الي الساحل. فجاء من كان هناك فنقلوه الي ناووسه في الهرم الخاص به بعد تحنيطه. اكتشف ذلك قبل عهد قريب فكان هذا الاكتشاف مصداقا لقومه تعالي «فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية» يونس/92.
[55] نقل الامام علي رضي الله عنه مقر الخلافة الي الكوفة بالعراق ليكون قريبا من البلاد المفتوحة بحيث يتسلم بريدها و تصل اليه اخبارها و لا تتعب جيوشه في الوصول الي تلك البلاد... و كان ذلك عين الصواب...
[56] ما خوطب به النبي في القرآن تكون عليه دلالات تقرر انه خطاب له صلي الله عليه و سلم ذو خصوصية تختص به شخصيا فلا ينتقل مثل ذلك الي غيره فهو مما لا يقع فيه التوكيل و الانابة والاحالة... و هناك مما يخاطب به النبي صلي الله عليه و سلم ما يتعلق بصفة القيادة فيه، فاذا وكلت القيادة في حياته انتقلت اليه تلك القيادة... لان الامر امر تعليم و ادارة و سياسة... و قد يلتقي الامر ان في النص القرآني في مثل قوله تعالي «خذ من اموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم...» التوبة/103 الاية. فان الامر بأخذ الزكاة من القوم امر يتصل بالجانب التطبيقي من الشريعة اذ تقع فيه الوكالة و الانابة. و اما الصلاة عليهم من حيث تكون سكنا لهم فانها لا تتجاوز شخصية الرسول فقد منحه الله هذا التأثير في النفوس و الله اعلم حيث يجعل رسالته... ان أخذ اموال الصدقات من الناس، و توزيعها علي الناس. مسألة تتطلب الاقتدار الاداري و السلطان ذا القوة و الامر النافذ... و علي هذا قام كيان الامة بعد وفاة الرسول اذ اتخذت نظام دولة ينضبط بها العدل و تطبق الاحكام و تقام الحدود و تحمي الثغور و يرهب الاعداء و يكون للامة من يمثلها في مواجهة الامم و بهذا تتحقق لها الوحدة و الاستقلال و السيادة... و الزكاة و ما اليها من الاموال المجباة و الضرائب المضروبة لا تترك لذمم الناس و محض اختيارهم فليس كل الناس يستجيبون لداعية الاوامر الشرعية من دون استحثاث و ملاحقة... و وجوه الزكاة المتعددة تومي‌ء الي ان من بعض مصارفها مالا صلة له باطعام جائع و اكساء عابر اذ ان من وجوهها ما تسد به نفقات ذات شأن في اقامة معالم العلم و ترسيخ كيان الدولة و ما هو من نحو ذلك...
[57] مكررة في آية)96(.
[58] وصف الاشياء بالاتفاق يعني بديهية تلك الصفات و عموميتها و كأننا نريد بذلك ان الامر متفق عليه و من ذلك «ان تتبعون الا رجلا مسحورا» فاستعمال كلمة (رجل) هنا قيد اتفاقي اما الاحترازي فهو ما يكون من الصفات ابتغاء ازالة الشك في امر يعلق به الغموض و هذا في الاصل من مصطلحات علماء الكلام و المناطق. و قوله تعالي «و لا يعصينك في معروف» لا يعني ان لهن أن يعصينه في غير المعروف لانه لا يصدر منه الا المعروف.
[59] و القرام هو ستارة من قماش توضع علي باب الدار.
[60] امتلاك النبي للجواري و الاماء لم يكن عن شراء بل كان عن طريق الهبة و الاهداء و الميراث و الفي‌ء وفق النظام الدولي العام يومذاك. كالذي وقع من هبة المقوقس للنبي اذ وهبه مارية القبطية...
[61] «و قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن و يحفظن فروجهن و لا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها و ليضربن بخمرهن علي جيوبهن و لا يبدين زينتهن الا لبعولتهن او ابائهن او اباء بعلوتهن او ابنائهن او ابناء بعولتهن او اخوانهن او بني اخواتهن او نسائهن او ما ملكت ايمانهن او التابعين غير أولي الاربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا علي عورات النساء و لا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن و توبوا الي الله جميعا ايها المؤمنين لعلكم تفلحون».
[62] البحيرة: هي الناقة تشق اذانها علامة علي انها لا تذبح و لا تطرد من مرعي تكون فيه و لا يشرب لبنها و ذاك عندما تلد لهم الناقة عدة بطون... السائبة: و هي الناقة و البعير يتخذ منهما الرجل نذرا ينذره بتركهما سائبين دون احتلاب و ذاك اذا تحقق له نذره... الوصيلة: هي الناقة التي تلد اناثا علي وجه التتابع... الحامي: هو الفحل الذي يلد له اكثر من عشرة فيكون كذلك طليقا لا يذبح و لا يمنع من ماء او مرعي و في تأويل هذه الالفاظ اكثر من خلاف...
[63] المرباع: ربع الغنيمة يأخذها القائد سلفا اي في بدء التوزيع. اما الصفايا: فهي ما يصطفيه القائد من نفائس الغنائم و عيونها و قوله «حكمك» اي أنه ياخذ اجر التوزيع علي افراد جيشه... اما النشيطة: فهو ما يصل من النياق و غيرها الي مكان استحقاق القيادة مما يعد خارج نطاق الغنيمة... اما الفصضول: فهو ما يبقي من الغنيمة خارج القسمة فانه له من خيل و سلاح و غير ذلك...
[64] من عادة اهل البيت عند اقامة الولائم ان يبدأوا الاكل بعد مغادرة الضيوف بيتهم كما انهم يجدون بعد مغادرة الضيوف مجالا لغسل الصحون ورد ما استعاروه منها من الجيران... ان مغادرة الضيوف بعد انتهائم من طعامهم يعد اصلا في آداب الضيافة. و النص و ان كان خصوص السبب فيه عائدا الي ضيوف النبي فانه يعد من التعاليم المفروضة علي الامة لانه يؤخذ فيه بعموم اللفظ.
[65] اي الجواري. الجاريات في السماء.
[66] لم تكن التوراة مكشوفة و معروفة لغير احبار اليهود و هي لم تعرف للعرب الا في نهاية القرن الهجري الاول اذ ظهرت لشي‌ء منها ترجمة باللغة العربية، و لذلك كان لهذا النقاش القرآني لمقولات التوراة في المعتقد اليهودي اثر كبير الاهمية في الثقافة العربية الاسلامية من طريق نصوص القرآن الكريم التي استعرض بها مفردات العقيدة اليهودية المحرفة...
[67] في النص اشارة الي وقعة (احد) التي اوشكت الجهة المسلمة ان تخسر فيها الحرب بعد ان كان انتصارها مضمونا و ذلك لمخالفة القوم ما خططه لهم النبي من الموقف العسكري الرشيد
[68] عندما توفي ابراهيم ابن النبي من ماريد القبطية و كان طفلا في الثالثة من عمره و قد حزن النبي عله حزنا بليغا و قد صادف ان كسفت الشمس يوم ذاك فقال نفر من الصحابة ان الشمس كسفت حزنا علي وفاة ابراهيم فخرج النبي الهيم قائلا (ايها الناس ان الشمس و القمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت احد).
[69] اي في شأنهم...
[70] اي متابي...
[71] كلمة الحزب و الاحزاب كانت معروفة في العهد المكي يوما الي ذلك في اكثر من سورة مكية منها. 1-«فتقطعوا امرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون»... المؤمنون/53 2- «من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون»... الروم/32 3- «ان الشيطان لكم عدو فاتخدوه عدوا انما يدعو حزبه ليكونوا من اصحاب السعير»... فاطر/6 4- «ثم بعثناهم لنعلم اي الحزبين احصي بما لبثوا امدا»... الكهف/12 5- «فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم»... مريم/37 6- «جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب»... ص/11 7- «و ثمود و قوم لوط و اصحاب الايكة اولئك الاحزاب»... ص/13 8- «كذبت قبلهم قوم نوح و الاحزاب من بعدهم...» غافر (المؤمن)/5 9- «و قال الذي آمن يا قوم اني اخاف عليكم مثل يوم الاحزاب»... غافر (المؤمن)/30 10- «فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم اليم»... الزخرف/65
[72] «فهل انتم مسلمون» أي: اسلموا و مثل ذلك «فهل انتم منتهون» اي انتهوا في موضوع الخمر و المسير.
[73] الجانب التاريخي في السيرة النبوية يسرد اخبار الوفود التي اقبلت علي النبي صلي الله عليه و سلم اواخر العهد المدني و هي تعلن اسلامها فلقد ظهر ان هذا الاقبال علي الدخول في دين الله كان اقبالا عظيما جدا... و في القرآن الكريم اشارة الي ذلك بقوله تعالي «و رأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا...»
[74] نحن نعرب قوله تعالي «ابصر به و اسمع» بانهما فعلا امر جاء للتعجب و الفاعل هو من خوطب بهما خلافا للنجاة الذين يقولون ان ابصر و اسمع فعلان ما ضويان جاءا علي صيغة الامرية... و مثل ذلك اعراب «اسمع به و أبصر...» مما جاء في سورة مريم «أسمع بهم و ابصر يوم ياتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين».
[75] قول النبي صلي الله عليه و سلم لعمر بن الخطاب (ما أنت بأسمع منهم يوم خاطب النبي قتلي بدر و هم في القليب انما هو تعبير رمزي و مقال بلاغي لا ينبني عليه الايمان بان الموتي يسمعون... لانه قول لم يرد في مجال توضيح المعتقدات الدينية و احصاه ما يجب الايمان به و ما لا يجب...
[76] ما جاء في القرآن الكريم «فعليهن نصف ما علي المحصنات من العذاب «... النساء/25... فان العبرة هنا كانت بخصوص السبب...
[77] جاء في القرآن الكريم علي لسان ذي القرنين «قال اما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الي ربه فيعذبه عذابا نكرا» الكهف/87...
[78] في الانجيل انما بعثت الي خراف بيت اسرائيل الضالة.
[79] مؤلف التفسير الشيخ حسنين محمد مخلوف...
[80] جاءت كلمة «اتيت» في النص القرآني «و لئن اتيت الذين اوتوا الكتاب اوتوا الكتاب بكل آية». البقرة/415... الاتيان بالآيات اي الدلائل الدالة علي صدق النبي القاطع بنبوته فان القوم لفرط عنادهم يركبون رؤوسهم و لا تطاوعهم نفوسهم علي الايمان و التصديق و الاقتناع. و الآيات كذلك ما يكون مقنعا من الظنون التي تنقدح في الذهن في القرآن الكريم في هذا المعني «ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتي حين» يوسف/35 و ليست الآيات هنا كائنة ما كانت بذات دلالة علي استحقاق يوسف عليه‌السلام للزج به في السجن.
[81] التقييم في معناه هنا اصح في لغة العصر من التقويم...
[82] في الحديث النبوي عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلي الله عليه و سلم في سفر فاصبحت يوما قريبا منه و نحن نسير فقلت يا رسول الله اخبرني بعمل يدخلني الجنة و يباعدني من النار فقال لقد سألت عن عظم. و انه ليسير علي من يسره الله عليه... الحديث...
[83] حالات استقبال الوحي يكون للنبي فيها وضع خاص اشارت اليه كتب علوم القرآن...
[84] عندما نعي رسول الله صلي الله عليه و سلم الي الناس كان فيهم من كاد ينكر ذلك حتي ذكرهم من ذكرهم بالنصوص القرآنية الي ان «كل شي‌ء هالك الا وجهه»... مما يدل علي استعظام عروض الموت لبعض الشخصيات ذات الشأن و المكانة... غير ان الموت حق لامرية فيه...
[85] كتاب زبدة التفسير من فتح القدير. ص 550.
[86] في قصيدة كعب بن زهير و التي القاها في حضرة الرسول صلي الله عليه و سلم وردت عشرات الالفاظ العربية علينا اليوم ولكن النبي كان يعرفها. و يعرفها كذلك من كان قد استمع الي تلك القصيدة و هي مشهورة اولها (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول).
[87] لا يمنع هذا النص الشفاعة لان الشفاعة ليست تدخلا في اقدار الله و انما هي دعاء و رجاء ان شاء الله قبله و ان شاء لم يقبله.
[88] اي لم تكن مقيما في اهل مدين اقامة استيطان طويل الامد لكي تعلم من اخبارهم ما اخبرناك به. و قوله تعالي «تتلو عليهم آياتنا» اي لم تكن يومذاك مرسلا اليهم. و انما قص الله عليك اخبارهم و اخبار غيرهم فبلغك ذلك من طريق الوحي... ان موسي عليه‌السلام عاش في اهل مدين نحوا من عشر سنين و اصهر اليهم فتزوج بنت شعيب احد انبياء العرب فتعلم من اهل مدين الجرأة والاقدام و تلقي هناك من تعاليم الدين ما كان اصلا في شريعته. اذ ان الله اصطفاه نبيا بعد مغادرته مدين فلما عاد الي مصر عاد بسلطان و تمكين لم يكن له منهما من قبل ما كان له منهما من بعد. و ان كان موسي عندما لجأ الي مدين و قص قصته علي شعيب قال له «لا تخف نجوت من القوم الظالمين»... مما يفهم منه ان شعيبا عليه‌السلام كان ذا اقتدار علي حماية من يحتمي به و اجارة من يستجير به كشأن سائر رؤساء القبائل العربية قديما و حديثا... و كان موسي يعيش في القوم كأي واحد من ابنائهم و هذا ما جعل له شخصية متميزة في استعداداتها بمزايا لم تكن معروفة في اليهود...
[89] قوله تعالي «و ما اورسلنا من قبلك الا رجالا نوحي الهيم..» يوسف/109... فان النبوة تكليف شاق و قد تعرض انبياء للقتل والاذي و في ارسال النساء نبيات ما يجعلهن عرضة للعناء الشديد و المتاعب و المشاق و هن دون ذلك اقتدارا و اصطبارا... كما ان النبوة قيادة وادارة و غشيان ساحات القتال. و نوط هذه الامور بالنساء نوط بمن لا يملك تحقيق ذلك... ان النساء ضعيفات مهما كن قويات و من اجل ذلك يعجزن عنم مهام النبوة... و ما جاء في بعض الكتب القديمة من وجود اسام لنساء قيل انهن نبيات يعد لا اصل له في الاسلام...
[90] ان ادعاء فريق من المستشرقين لا سيما غلاة الصليبيين منهم ان العذرب عارضوا القرآن و كتم المؤرخون ذلك ظاهر فيه الافتراء و الاختلاق من جميع الجهات...
[91] المراد بها (وعيدي)...
[92] اي لن تكون مسؤولا عن من كفر من الناس فكان مأواه الجحيم...
[93] لو كان النبي قد شاء لنفسه النبوة لشاءها و هو في ايام الشباب الاول و لما ارجأها الي يوم بلوغه الاربعين و لو كان هو مبتدع الشريعة لما لبث يبديها شيئا فشيئا حتي جاوز الستين من عمره اذ كان الامر المنطقي في هذا الوجه ان يكشفها كلها مرة واحدة لتكون شريعته متكاملة وفق رغباته و موازينه... اذ ان من يصنع شيئا من تلقاء نفسه بدافع من طموحه الشخصي لابد ان يفكر في عروض الموت له لذا يروح يتعجل انجاز ذلك... و كان لو كان يقرأ و يكتب قد اعلن ذلك للقي الارتياح من الناس لان الثقافة في نظر غير قليل من الناس ترفع من مكانة النبي لا سيما في بيئة قل فيها الذين يكتبون و يقرأون... و لو كان النبي هو صانع وحيه و مبتدع ملته لوجدناه تسامح في كثير من الامور التي تري ثانوية في سبيل الفوز بالغايات الاساسية المرجحة غير ان رسول الله صلي الله عليه و سلم لم يأت بهذا الدين الحنيف من عندياته انما هو رسول رب العالمين.
[94] ظاهر النص يومي‌ء الي انه نزل بعد استتباب الامر بالنبي في اخر عهده بعد الهجرة و ذهب قوم الي ان السورة نزلت بعد الهجرة و ذلك ما اخذنا به اعتمادا علي صريح ما جاء فيها من معان صريحة...
[95] في القرآن الكريم من ذات المادة «ان هؤلاء متبر ما هم فيه و باطل ما كانوا يعملون» الاعراف/139. «و لا تزد الظالمين الا تبارا» نوح/28. تلاحظ الكلمات المماثلة و التيار و التبال والوبال كل لي جذر واحد والأبتر من فصيلة ذلك... ان العربية اطلقت علي من لا نسل له و لا عقب اسم العقيم و في القرآن الكريم «و يجعل من يشاء عقيما» الشوري/50 و ما يكون من الامر لمنطقي ان يعيب الله من لا عقب له و هو الذي جعله عقيما. و علي هذا فما تعد كلمة الابتر بمعني من لا عقب له لان المقام الذي وصف به هذا الابتر هو أضخم و اكبر من ان يكون عقيما مرادا بسبه و لعنه أن لا يكون له عقب... لقد ذكر الله بعض الكفار بأنهم ذوو مال و بنين مما يفهم منه أن عقم الناس من أن يكونوا ذوي أبناء ليس سبة لأحد و ليس في ذلك عقوبة لاحد. و في القرآن الكريم «ما كان محمد ابا احد من رجالكم» الاحزاب/40 و هذا يعني انه ليس في الموجودين من المخاطبين يوم ذاك من هم من أبناء النبي و في ذلك ما رواه الرواة من ان النبي ليس له ابناء في تلك الحقبة اذ كانوا قد ماتوا قبل ان يكون نبيا و لذا فان قوله تعالي «ان شانئك هو الابتر» ليس فيه سب أحد و لا ثلبه بوصفه لا عقب له. و انما هو سب و ثلب في غير هذا المعني. و السورة علي ما رواه بعض الرواة انما هي مما نزل بعد الهجرة و قد اخذنا بذلك و قلنا به.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.