بين يدي الرسول الأعظم(ص )

اشارة

‏سرشناسه : بحرالعلوم محمد، - ۱۹۲۸
‏عنوان و نام پديدآور : بين يدي الرسول الاعظم ص / محمد بحرالعلوم
‏مشخصات نشر : بيروت دار الزهراآ(ع) ، ۱۳۹۲ق = ۱۳۹۹ - ۱۳۵۱ق = ۱۳۵۷.
‏مشخصات ظاهري : ج ۳
‏فروست : (في السيره و التاريخ‌۱)
‏شابك : بها:۵۰۰ق ل (ج ۱)
‏وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
‏يادداشت : كتابنامه
‏موضوع : صحابه
‏رده بندي كنگره : BP۲۸/۶/ب‌۳ب‌۹ م
‏رده بندي ديويي : ۲۹۷/۹۴
‏شماره كتابشناسي ملي : م‌۶۳-۴۶۶

مع الكاتب

لم تكن فصول هذا الكتاب قصصاً، أحاول فيها تسلية القارئ الكريم، كما لم يكن الأساس منها التعريف بأبطالها، فهم أشهر من التعريف، خلدوا التاريخ الإسلامي، وصوروا جوانب السيرة بأحلي صوره.. إنما الواقع هي فصول من السيرة النبوية الشريفة. رأيت أن أعرضها بهذا الأسلوب بعيدة عن التعقيد والإطالة، وبطريقة - أحسب أن القارئ الذي أكتب له - يمكن أن ينشدَّ اليها، ويبقي علي اتصال معها.ونحن اليوم بحاجة لهذه الصور الحية، وتذكر هؤلاء الأبطال الذين عاشوا قضيتهم الأساسية بكل وعي، وأدركوا بعمق مفهوم الدعوة التي آمنوا بها، فأخلصوا لها، وتفانوا في سبيلها وضحوا من أجلها.. فكانوا اللبنة الأولي لصرح الإيمان والعقيدة والطليعة الفذة للمجد الإسلامي، المتسلق شاهق السنين والممتد عبر الأيام، لن تبلي خضرته، ولن تغرب شمسه.ورجائي من الحق أن يساعدني علي كتابة كل السيرة النبوية وألحقها بسيرة آل البيت، الأئمة الميامين، وأكون بذلك قد أرضيت ضميري، وأديت واجباً دينياً..ولا أُبالغ إذا قلت: إن دافعي لكتابة هذه الفصول - وإن كانت الفكرة تدور في ذهني منذ زمن - نتيجة عاملين:الأول: قناعتي الشخصية بضرورة ارتباط الفرد المسلم علي الدوام بسيرة الرسول الأعظم، والأئمة الطاهرين، والشخصيات الرائدة في الإسلام، وهذه الصلة المستمرة تحفظ عقيدته من الانزلاق.الثاني: إصرار أخي العزيز السيد مهدي - صاحب دار الزهراء - بأن أسهم في مشروعه، وخاصة هو في بداية الطريق وليس من باب الأخوة فقط أن أبادر إلي الاستجابة له، وتنفيذ طلبه، بل إيماني بأنه اختط لنفسه طريقاً - في عمله - إسلامياً واضحاً في دعم الجانب الإعلامي في معركة المصير.. وهذا ما يدعو إلي التفاؤل له بالموفقية والاستمرار.وأخيراً: أملي باللّه سبحانه أن يحقق آمال (دار الزهراء) في خدمة الفكر الإسلامي ويجند صاحبها في ميدان العقيدة، ويساعدني علي إتمام هذه السلسلة، ويشق للكتاب طريقه بما يرضي القراء وهو من وراء القصد..محمد السيد علي بحر العلوم بيروت8 / 12 / 1972

في البداية

رغم أن فترة من الزمن تمر علي مكة والمدينة بعد غزو الجيش الأموي لهما بقيادة مسلم بن عقبة المري، فإن ذكري الحوادث المريرة، وصور المآسي القاسية كانت تطغي علي كل ناد ومجلس سمر.وكانت جراج مدينة الرسول - علي الخصوص - لم تلتئم بعد. فقد غزاها الجيش الأموي بأمر من يزيد بن معاوية، وبعد أن خلعت بيعته، وأمرت عليها والياً جديداً - هو عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر - وفعل الجيش الغازي ما فعل بوحي من شعوره المجرم وحقده الطويل، ولم يقف بوجهه أي رادع ديني أو إنساني.ولم يكن نصيب مكة بأقل مما أصاب المدينة، فقد حرقت الكعبة المشرفة ولم يبقَ بيت منها - عدا بيوت الأمويين - إلا سلب ونهب.وكانت حلقات السمر، ومجالس الليل تعج بأخبار هذه الحوادث وفظاعتها بما يعصر القلوب حزناً، ويرهق العيون تأثراً.ومرة امتد السهر بإحدي الحلقات المنتثرة في فناء المسجد النبوي حتي كادت تحاذي السحر في سهرتها، أو تتجاوزه بقليل وهي تعيد ألماً علي ألم، وتجتز حزناً علي حزن.ويلتفت أحد الجالسين إلي صاحبه - وهو متضايق من الحديث الذي يجدد الذكري المؤلمة، ويعيد عليهم صورة المأساة الفظيعة - قائلاً وهو يقطع الكلمات من الأسي: أما آن لنا أن نطوي حديث الأمويين وفجائعهم، ونحاول أن نخفف عن مصائبنا بما يساعدنا علي تحمل مشاكل حياتنا.ولم يكن الزميل بأقل منه ضيقا ً وبرماً بهذه الأحاديث المروعة، وما أن سمع هذا الرأي حتي استجاب له.وتسرب الإقتراح للباقين، وكأنه أيقظهم من سبات، ونبههم إلي شيء كان قد غاب عن أذهانهم.. وقالوا: ولنا عند الشيخ أبي معاذ ما نبتغيه، فهو محدث رائع، عذب الأسلوب، حلو الكلمة، ورجل مسنّ جاوز عتبة الثمانين، رافق الأيام فكان فيها عيناً لا تغمض، وعاش الحوادث فحفظ من أخبارها الشيء الكبير.ولم يلقَ القوم من أبي معاذ أي امتناع، فقد استجاب للطلب وصادف في نفسه قبولاً.وصار يحدث أصدقاءه في لياليه بما سيمر علينا..

حمزة بن عبدالمطلب

أقبل الليل، وأخذ الشيخ أبو معاذ طريقه إلي ندوته واستقبله القوم بالترحاب، وحيّاهم ببسمته الهادئة، وأدار عينيه الذابلتين في وجوه الجالسين، كأنه يتفحصهم، ويتعرف عليهم وبدَتْ لهم من خلال نظراته العميقة رفة حب، وتصاعدت من بين أنفاسه المتعبة هزة حنان.وبقي الشيخ صامتاً شيئاً من الوقت، ولعله يستجلي ذاكرته في صور الماضي وأحداث الأمس.. ثم تكلم، وهو يصوغ حديثه بأسلوبه الجميل..ذكَّرتني جلستنا هذه بمجالسنا الماضية، يوم كانت الحلقات تنتشر في فناء الكعبة، وكنت - حينذاك - أرافق أبي في سهراته.. وكان حديث الطارق الجديد يدور فيها، وهو السائد عليها.. فقد أقضَّ مضاجع قريش، وأطار نومها من عيونها وشتت صوابها.. حديث محمد ودعوته.ولم يكن رسول اللّه ببعيد عن قريش، ومكة.. فهو: حفيد عبد المطلب، سيد بني هاشم.. وهاشم، عمرو بن عبد مناف ينتهي إلي عدنان، وهو الذي ما طعمت مكة ولا سقيت من يدين أبسط من كفيه، وأندي من راحتيه، وأجمل من خلقه..وما أن نامت عين هذا الانسان العظيم: علي هذه الجوانب الانسانية الرائعة، حتي فتحتها علي ولده عبد المطلب، شيبة الحمد..وكان هذا الرجل قد بلغ في قريش خاصة، والعرب عامة منزلة لم يكد يبلغها أحد.. وحتي قالت العرب فيها قولتها المعروفة: (لو كان نبي علي عهد عبد المطلب لكان هو نبي العرب).وهو: ابن (عبد اللّه) أحد أولاد عبد المطلب العشرة الذين إذا طافوا بالبيت أخذوا بالأبصار، وجمعوا القلوب الطيبة حولهم.وهو: ذلك اليتيم الذي لم يعرف من حنان الأبوة ما يشدُّ به عظمه، فقد مات عنه أبوه، بعد زواجه من أمه آمنة بنت وهب بفترة قصيرة، فتركه حملاً، أو رضيعاً علي اختلاف في الروايات.فتعهّده جده عبد المطلب - زعيم الهاشميين، وكبير قريش وشخصية مكة، وسيد العرب - فنشأ في ظله موفور الكرامة عزيز الجانب.. حتي كان يفرش له بفناء الكعبة، فلا يقرب من فراشه أحد من أولاده، أو كبار قريش، يهابونه ويحترمونه.أما محمد فقد كان يأتي - وهو صبي - يتخطي رقاب الكل حتي يصل إلي يده، فيزاحمه علي فراشه. ويحاول الأعمام أن يمنعوه، فيقول لهم عبد المطلب: (دعوا ابني هذا، إن له شأناً عظيماً يغبطه عليه الناس).ولم يكن هذا فحسب من الجد نحو حفيده، بل أكثر من هذا، ولماذا لا يكون كذلك، وهو يتكهن لحفيده مستقبلاً خطيراً، وشروقاً لن يغرب؟..وما أن شعر السيد الكبير بدنوِّ أجله حتي طلب ولده (عبد مناف، أبو طالب)، فخفَّ اليه مسرعاً، وعيون الأولاد، والاسرة ترقب الأب العظيم، وهو علي فراش الموت.. وبيد ملؤها المحبة والحنان، يأخذ يد محمد فيضعها بيد أبي طالب ثم يقول له، وهو يصارع الموت: (يا عبد مناف: خلفت في يدك الشرف العظيم الذي تطاول به رقاب الناس).وتجفُّ الكلمة علي ثغر زعيم الهاشميين، وابتسامة الرضا والاطمئنان تطفو مكانها لتزهر وتورق وسط جفاف الأيام.وبدأ محمد يكبر، وتكبر معه الآمال، وكلما تدرج فتي الدعوة في العمر تضخمت مسؤولية العم الحنون في الاهتمام بهوالحفاظ عليه.. حتي لم يكن له من قريب او بعيد بأكثر حناناً وأشد إشفاقاً عليه من أبي طالب.ولم يكن كل أولاد عبد المطلب مثل ما كان له أبو طالب حامياً، وناصراً، ومدافعاً، نعم كان حمزة أقرب الأعمام له بعد أخيه عبد مناف.وحمزة تربطه بابن أخيه أكثر من صلة، فقد كان أخاً له بالرضاعة، وكان له ترب الصبا، يكبره بأربع سنوات، وكان يتعهده في كثير من الأحيان، وكانت هذه بمجموعها عاملاً يقرب بين القلبين، ويؤلف بين الروحين.لقد كان يضمر له من الحب والوفاء أجمله وأحسنه، ويقدر لأخيه أبي طالب موقفه الرائع من وديعة أبيه، بما كان يبذل له من العناية والاهتمام، حتي قال محمد (صلي الله عليه وآله): (كانت فاطمة بنت أسد - زوجة عمي - تجيع أولادها وتشبعني، وتتركهم شعثاً وتدهنني، ولم يكن لدي عمي أبي طالب همّ إلا حمايتي، والاهتمام بأمري).وامتدّ الزمن، وعلي امتداده توسعت شخصية (فتي عبد المطلب)، كلّ شيء فيه يدلُّ علي أنه شخصية المستقبل ولم تغب عن ذهن حمزة كلمة أبيه - وهو علي فراش الموت -: (إن له شأناً عظيماً يغبطه عليه الناس).وكان حمزة يسرّ ويفرح عندما يلمح ابن أخيه، ويكتم سروره ولا يتظاهر بفرحه، كان هذا الميل النفسي ينمو مع نمو محمد، ولا يستطيع تفسيره ولا بد أن يعثر علي تفسير ولو بعد حين. ذلك هو الإيمان الذي تولد في أعماقه وازدهر بعد زمان.ومرت بالنبي أحداث كانت لها الأثر في رفع الستارة عن شخصيته، وكان حمزة يتابع هذه القضايا بشيء من الإهتمام..ومن أبرزها حينما اختلفت قريش فيما بينها، علي وضع الحجر الأسود في مكانه بعد بنيان الكعبة، فكانت كل قبيلة تود أن تحظي بهذا الشرف الكبير، وكاد النزاع يؤدي إلي معركة واتفق الجميع علي أن أول قادم عليهم سيكون هو الحكم في ذلك، ولم تنطو لحظات حتي كان المقبل عليهم هو محمد بن عبد اللّه واستبشرت الوجوه به، فهو المعروف عندهم ب(الصادق الأمين) وبسط الرسول رداءه، ووضع فيه الحجر في وسطه، وأمر كل زعيم قبيلة أن يحمل جانباً من الرداء، وإذا ما رفعوه، أخذه ووضعه في مكانه.ولم يهن ذلك علي طغاة قريش، فقال قائلهم: وا عجباً لقوم أهل شرف ورياسة، وشيوخ وكهول، عمدوا إلي أصغرهم سناً وأقلهم مالاً، فجعلوه عليهم رئيساً وحاكماً!! أما واللات والعزي ليفوقهم سبقاً، وليقسمن بينهم حظوظاً وجدوداً وليكونن له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم..وكان حمزة في خضم هذه الأحداث ذلك الإنسان الذي يعيشها ويعيها ويحكم نفسه فيها تحكيماً منصفاً، فيزداد إيماناً وحباً وتفانياً لابن أخيه، ويقف إلي جانب أخيه أبي طالب كافله ومحاميه..ومرت الأيام، وأعلن محمد دعوته، ولم يستجب لها في بادئ الأمر إلا خديجة وعلي بن أبي طالب، ثم استمرت الدعوة، رغم قلة الناصر، وجدّت قريش في عرقلة حركتها، وكان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب، يتحين الفرص، فإذا ما ظفر به وحيداً صب عليه جام غضبه، وسخر منه، وآذاه بأنواع الأذي.لكن ذلك كله لم يثنه عن رسالته، وإلي جانبه أبو طالب وحمزة يقفان له في كل نازلة يصدّان عنه عدوان الناقمين، ويدفعان عنه ظلم الحاقدين..ومرة جاء محمد إلي عمه أبي طالب يشكو له أذي قريش فقد ألقوا عليه سلي ناقة فقال محمد لعمه: (عم كيف تري حسبي فيكم)؟! فقال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره بالأمر فدعا أبو طالب حمزة، وقد توشح كل منهما بسيفه، وقال لحمزة: خذ السلي معك وتوجها إلي القوم، وهم في فناء الكعبة، فلما شاهد القوم المقبلين توسموا في وجوههم الشر وإذا ما وقفا علي رؤوسهم قال أبو طالب لأخيه حمزة: مرّ السلي عليهم، ومن يعارض اقتله، فامتثل حمزة حتي أتي علي آخرهم، فالتفت أبو طالب إلي ابن أخيه قائلاً:هذا حسبك فينا!.برغم هذا فلم تكف قريش عن أذي محمد كلما ساعدتها الفرصة وتقسو معه حيث أمكنتها القسوة.. وكان هو بنفسه لا يرد عليها أذاها، يحتمل منهم الألم، ويطويه بين أضلاعه، اللهم إلا أن يعلم أحد الثلاثة بما أصابه، فيكون الانتقام حامياً، وهم: أبو طالب، وحمزة، وعلي، فيردون الصاع صاعين علي المعتدي.وذات يوم يمر النبي عند الصفاة، فإذا بأبي جهل هناك ونفسه الحاقدة تغلي في صدره، فيلتفت يمنة ويسرة، فلا يري من يخشي صولته وغضبه، ليس معه أبو طالب، ولا علي مقربة منه حمزة، ولا إلي جنبه علي، وحيد يلقاه، وهي فرصة سنحت له، فليستغلها.وينهال الرجل المريض القلب علي محمد دون خشية وخوف يشتمه فيجرحه بالكلام، ويسبُّه ببذيء القول، ويفرغ كل حقده الجاهلي، ويظهر كل كوامن حسده.. ورسول اللّه لم يفتح شفتيه ليردَّ عليه، إنه لعلي خلق عظيم، ويأنف أن يقابل هذا الأحمق الجاهل، وإن امتدَّ به العمر.وينصرف بعد ان يسمع منه ما لم يسمع، ويتألم ويحزن ويطوي في نفسه أحزانه وآلامه.ويسري الخبر اإلي حلقات قريش يقطع أوصال مكة كالعاصفة، ويسبق وصول ابي جهل اليها، ويفرح من يفرح ويحزن من يحزن، ومن يرد عليه؟ والفاعل ابو جهل الشرس الفض، وكثير منهم يرغب بأذي محمد؟ ولا يرغب ان يباشره بنفسه خوفاً من نقمة ابي طالب وبطش آله.وأقبل ابو جهل علي قومه يفخر بما عمله، ويزهو بما بدر منه فقد أرقه محمد، وسلب النوم من عينه، فما باله - وقد غنم به - ان لا يسكب كل ما في نفسه من لؤم كلاماً لا هوادة فيه، إذا لم يتمكن من مهاجمته بالسيف.وكانت عادة حمزة ان لا يعود الي بيته من سفره إلا إذا طاف بالبيت سبعاً. ولا يدخل بيته إلا إذا مرَّ علي أندية قريش ومجالسها، مسلماً، ومتحدثاً، ومداعباً، وكان مهاباً مرموقاً ولماذا لا يكون كذلك، وهو من أعز فتيان قريش، وأشرفها وأقواها شكيمة، يعدّ من أبطال الهاشميين، مزهواً بقوته معتداً ببطولته.وانه لفي ذلك اليوم وقد عاد من سفر له، متوشحاً قوسه كعادته توجه إلي الكعبة ليؤدي طوافه، ويقف علي أندية قريش يشارك جلاسها أحاديثهم، فينتهي إلي حلقه امرأة، وهي مولاة لعبد اللّه بن جدعان، واستقبلته وقد بدا علي وجهها ظل من الحزن، ثم لفت خمارها، وقالت له - ولعل دموعها سبقتها إلي الحديث -:يا أبا عمارة، لو رأيت ما لاقي ابن اخيك محمد قبل قليل من أبي جهل لجزعت، فقد ظفر به، ولم يكن معه أحد، فصب عليه وابلاً من السب الفظيع، والشتم القاسي، وبلغ منه ما يكره ولم يكلمه محمد بشيء..لم يكن هذا الخبر بأقل من وقع الصاعقة علي بطل الهاشميين ومادت الأرض به.. شيء لا يطاق، وكبير جداً علي بني هاشم أن تنال مخزوم ما نالت.وغلي الغضب في قلبه، ودارت الدنيا في عينيه.. يا للعار.حفيد عبد المطلب وسيد قومه يصاب بمكروه، وعين لبني هاشم تطرف، الموت خير من الحياة..ولمحت المرأة الغضب يجول علي وجه حمزة، ويكاد يقطع أنفاسه، فأدار وجهه، ومضي نحو البيت، وهو يخسف الأرض بمشيته، وعيناه تلقف كل من يلقاه في طريقه لعله المتطاول علي كرامته فيهجم عليه.والمرأة خلفه تهرول، وفي قلبها أكثر من فرحة، فقد ضاقت ذرعاً من شر أبي جهل، إنه الرجل الشرس الفض، الذي يعتدي علي الناس، ويري انه المتفضل في اعتدائه، ويشاكس الكثير من الضعفاء، ويصيبهم بسوء، ولا رادع يردعه، ولا راد يرده.وهي بهذا التفكير لمحت حمزة قد وصل إلي المسجد، وتخطي الجالسين واحداً بعد الآخر حتي وقف علي رأس أبي جهل وانفجر بوجهه صارخاً، والغضب يتطاير من عينيه: أتشتم محمداً يا حقير، ورفع قوسه، وأنزله بعنف علي رأسه فشجه، ووقع علي الأرض، وكاد يثني بها، لولا بعض الجالسين فقد حالوا دون ذلك، ثم قال له: أتشتمه يا أبا جهل؟ وتهينه، وأنا علي دينه وأقول ما يقول، رد عليّ إن امكنك القول، وتكلم إن ملكت الكلام؟ولم يهن علي بني مخزوم ما أُصيب به زعيمهم، فتواثبوا من هنا وهناك ليأخذوا بثأرهم، ولم يتزحزح حمزة، ولم ترهبه جعجعة السيوف، وقف يتحداهم، وهو يرفع قوسه استعداداً لكل خطب، لم يهب شخصاً، ولم يطأطئ رأسه لأحد.ويخشي أبو جهل العاقبة إذا توسع الأمر، فيطلب منهم أن يخلدوا إلي الهدوء والسكينة، ويتركوا أبا عمارة، لأنه ألحَّ في سب ابن اخيه سباً قبيحاً.ووصل الخبر إلي النبي (ص) وهو في بيته، فتنكشف الغمة عنه، ويشكر لعمه حمزة موقفه.كانت هذه الحادثة سبباً لكشف إسلام بطل الهاشميين أسد اللّه، وأسد رسوله، وفي الوقت نفسه كانت بداية انطلاقة جديدة للدعوة، وقوة داعمة.. فأزداد اطمئنان أبي طالب، فقد كان يعمدإلي حماية ابن أخيه حماية مباشرة، ويخشي عليه حتي من ظله، لذا كانت فرحته كبيرة بإعلان حمزة إسلامه.. وهو، وولداه: علي وجعفر، وحمزة قوة لا يستهان بها، ويعرف قوة أخيه وبطولته أكثر من غيره، وجرّب شجاعته وإقدامه أكثر من مرة..ولم يكن هيناً علي قريش إسلام حمزة وإعلان إسلامه، فقد كانت تهابه وتخشاه، ولامت أبا جهل علي تهوُّره الذي يسبب لها الأزمات، ويدفع بأصحاب محمد إلي الصلابة والصمود.وإذا كانت الهجرة إلي المدينة، وغادر الأصحاب متخفين متسللين، فقد شدَّ حمزة ركبه دون خشية، او خوف من طغاة مكة، وهاجر إلي المدينة المنورة ليكون إلي جنب نبيه.وأخلص حمزة لقضيته، ووفي لها، وعقد له النبي أول راية رفت في الاسلام، فقد أرسله مع سرية له إلي سيف البحر ليقاتل المشركين، وقبل أن يلتحم القتال حلّت بالمعاهدة والاتفاق وكان النبي يحرص دوماً ان يتجنب القتال.وراحت الأيام تحصد الشوامخ من المواقف المشرفة لبطل الهاشميين كلها تعبر عن شرف العقيدة، والإخلاص المتناهي.وحلَّ يوم بدر..وتوقف الشيخ ابو معاذ عن الكلام، ومسح بكمه قطرات من العرق انتثرت علي جبينه، ثم غام في هدوء عارض لم يطاول أكثر من لحظات بعدها عاود الحديث، وقد أشرق وجهه: كان يوم بدر عظيماً، فقد تجلت فيه البسالة الهاشمية والبطولة الرائعة، ابو عمارة يجول ويصول، لم يرجع سيفه خائباً يغمده في صدر ذاك، ويجندل ذلك، ويصيح بأعلي صوته: أين ابن ابي طالب، أين ابن أخي؟ فيجيبه علي من وسط المعركة: ملتقانا آخر الجيش، ويفريان الحشد المتراكم أمامهما، هذا من جانب، وذاك من جانب، وهما يكبران، حتي يلتقيا في مؤخرته، وأسيافهما تقطر دماً.ويحث حمزة المسلمين علي القتال، وهو يصيح: قال رسول اللّه: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله اللّه الجنة..ثم أردف الشيخ ابو معاذ، بعد صمت قليل استرد أنفاسه في خلاله: وكنا قد اجتمعنا يوماً في مسجد الرسول نستعرض بدراً وميدانها، فكان الأصحاب يتبارون في ذكر من قتل بسيف حمزة، وعلي بن ابي طالب، وكيف جندلاً الأبطال، وهدّا العمالقة، حتي استغاثت قريشاً من بطولتي: أسد اللّه ورسوله وفتي ابي طالب، وما أوقعا فيها من خسائر فادحة.وبقي هذا الخزي يلاحق قريش وأعوانها، وكان طعم الهزيمة علقماً، وثقل الخسارة مجهداً يقض المشركين في ليلهم ونهارهم. وصمموا علي الثأر، تصميم الموتور، وإصرار المغبون وكان التجاوب فيما بينهم - وخاصة قريش - مساعداً لجمع فلولهم، وكيف لا تكون كذلك، وكل قبيلة أصابها ما أصابها من عار الخسارة الشنعاء عاراً لا يشابهه عار، وخسارة لا تضاهيها خسارة.. ولم يطفأ لهب قريش، ولم يكشف حزنها إلا قتل أحد الثلاثة: محمد، وحمزة، وعلي.ودارت رحي الحرب بين المسلمين والمشركين حامية في (أُحد) تارة علي المسلمين، وأُخري علي المشركين، كر وفر..وأبو سفيان يجول في وسط أصحابه يذكرهم بعار (بدر) وقتلاهم، فيها ومجدهم المندثر، ويصرخ ملء شدقيه: لا بدَّ من جولة تطيح فيها الرؤوس، وتزهق بها الأرواح، وتعتلي السيوف القمم، عند ذاك أما: الثأر أو الموت..وكل موتور يتصيد واتره، لعله يخفف من حزنه بما أُصيب.وكان جبير بن مطعم موتوراً من حمزة بقتله عمه طعيم بن عدي يوم بدر، وكانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان موتورة من حمزة بقتله عمها يوم بدر، وهناك البيوتات الكثيرة من قريش وغير قريش موتورة من علي، وحمزة.ويوم عزمت قريش علي الخروج لقتال المسلمين عاهد جبير بن مطعم عبده وحشي - وكان عبداً قوياً - إذا قتل حمزة فقد عتقه..ومالت اليه هند بنت عتبة تمنيه وترغبه علي ذلك، وهي لا تقل عن صاحبها جبير حقداً وغيظاً، كما لا تتضاءل عنه سخاءً وكرماً، تقول له: نفذ ما قاله لك سيدك، ولك مني ما تريد وكررتها ثلاثاً.قال العبد: سأبذل قصاري جهدي، فإن مت خلصت من حياة الرق، وإن فزت تحررت، وفي كلا الأمرين لي خلاص..ودقت طبول الحرب، المشركون بعدتهم وأبطالهم، والمسلمون بعددهم القليل، وعدتهم الضئيلة.وعين وحشي ترقب حركات البطل وتنقله بين الصفوف وهو مثل الجمل الأورق [1] ، يحصد المحاربين بسيفه، ويتمايل الأبطال عن طريقه، تخشي بطشه، وتخاف بأسه، فلم يخرج اليه مبارز إلا ولاقي مصرعه، ولم يتصدَّ له أحد إلا وعاد مهزوماً أسد اللّه، وأسد رسوله.. كرّار غير فرّار.يقول وحشي: كنت أتهيأ له، اريده، وأستتر منه بشجرة او حجر ليدنو مني، وأنتظر اللحظة التي أرميه فيها بحربتي.والفارس المغوار في غفلة عن عدوه، لا يلتفت، ولا يعرف من أمره شيئاً، حتي إذا ما قرب منه، اندفع اليه، ورماه بحربته، فأصابت منه مقتلاً، ووقع صريعاً.. ولما تأكد من موته ذهب اليه، وأخرج حربته، وجري مسرعاً لجبير يبشره ليملك حريته، ويخبر هنداً فيتمني عليها ما يريد.وسري الخبر يمض في قلوب المسلمين، ويبعث السرور في نفوس المشركين، هذا حمزة بطل الاسلام، وأسد اللّه، وساعد محمد، مجندَل في الميدان، يا لفرحة الشامتين..وخفت أوار الحرب، وطافت نساء مكة بين القتلي تسبقهن هند، وهن يرقصن فرحاً، ويجدعن أُنوف قتلي المسلمين، ويبقرن بطونهم، ويقطعن آذانهم.ولم يشفِ غليل هند كل هذا، أين حمزة؟ فقد أخبرها وحشي بأمره، وإنها لتخوض في الدماء والجثث إذ تعثر بحمزة وهو يتوسد التراب.أصحيح أن بطل الهاشميين صريع في الميدان؟ إنه بغيتها وتجلس علي صدره - وفرحتها تكاد تقضي عليها - بماذا تبدأ وكيف تعمل؟ تقطع أوصاله، لا لا يهدأ خاطرها، تسمل عينيه، لا يطفي لهب حقدها، تقطع لسانه، لم يجدها.. أكثر من هذا تريد.. لتستخرج كبده فتأكله. وفعلت، ولكن لم تتمكن من أكله، لفظته مقهورة، جازعة، ثم لتعمل قلادة من أجزائه: أنفه، اذنيه، لسانه، عينيه، ثم بقرت بطنه، وقطعت أوصاله.. ولم يبقَ لديها ما تفعله، فتركته وهي تتهادي نشوانة بفعلتها حتي قال المشاهدون عنه: ما مُثل بأحد كما مثل بحمزة..وانسابت دموع الشيخ أبي معاذ، فأمسك عن الكلام قليلاً كي يمسح ما علق في أجفانه من حبات الوفاء، فقد تذكر الشيخ المنظر المروع، فهاجت أحزانه، وضايقته عبرته، ثم عاد بعد هنيهة يواصل حديثه: واستقبل أبو سفيان زوجته وهي ترقص، وفي صدرها قلادة من أعضاء إنسان، والتفت الرجل لزوجته متسائلاً فأخبرته فضحك ضحكة طويلة، وصاح: أين تركتيه؟ قالت: علي مقربة من العين.وانطلق يعدو، ولا يدري كيف يطوي طريقه، حتي وقف عليه وشاهده مقطعاً، ولم يكتف بذلك بل أخذ يمزق شدقي الصريع برمحه وهو يضحك، فمر عليه أحد الاعراب، ورآه في موقفه المخزي، فقال لصاحبه، أنظر يا أبا عروة سيد بني عبد شمس يصنع بإبن عمه ما تري، إنه يجهز علي ميت.فالتفت اليه أبو سفيان قائلاً: ويحك اكتمها عني، ولا تفضحني عند العرب.كان منظر حمزة، وهو مقطع الأوصال، أوجع منظر أثر في قلب النبي، ثم سجاه بغطاء، وقسم من حشيش الأرض.ومع كل ما أصابه من حزن في هذا الموقف الدقيق، فقد أبّن بطل الاسلام بقوله- وهو يصارع احزانه-:)رحمك اللّه يا عم، فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، فو اللّه لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين منهم(.إنها الحميّة والثأر دفعت بالرسول الأعظم ان يتعهد بهذا الثأر لعمه المؤمن الشهيد، بعد ان هزَّه الموقف هزاً.. لكن اللّه سبحانه أراد غير ذلك، فقد نزلت الآية الكريمة:)وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، واصبر وما صبرك إلا باللّه..(.وهكذا انتهت حياة بطل الاسلام حمزة بن عبد المطلب صفحة مشرقة تنير للأجيال دروب العقيدة والكفاح، والصمود والبطولة...

ياسر بن عامر

واجتمع القوم إلي محدثهم في ليلتهم، ولم يكن شوقهم إلي أحاديث الشيخ أبي معاذ بأقل مما مضي، إنما كان يزداد ارتباطهم بمحدثهم علي مرور الليالي.واستعد للحديث، وهدأت الأنفاس، وارهفت الآذان وانشدت العيون اليه، وقال: رحم اللّه آل ياسر، فقد كان لهم شأن كبير في الإسلام..قال صديق العمر لياسر: هل لك - يا أبا عامر - أن تعدل عن رأيك؟.قال ياسر: لا.. لا فائدة لي في البقاء هنا، فلا بد من الرحيل إلي الحجاز، علني أتمكن هناك من العيش في رخاء.ماذا دهاك! أتراك نسيت أن البلد الذي عركت خيره وشره وعرفت سراءه وضراءه، خير لك من بلد لم تعرف عنه شيئاً!!ثم ان مكة اليوم ليس من السهل أن تري فيها الظل الوارف والعيش الرغيد.ومع ذلك - يا زفر - فإن البعد عن اليمن هو وحده كافٍ لاستقرار البال.وإلي هنا انقطع الحديث بين الصديقين، وابتعد كل عن الآخر وفي نفس (زفر) شيء كثير من عدم القناعة والرضا علي سفر صديقه ياسر بن عامر، ترب الصبا، وحبيب الشباب، وكلما حاول أن يثنيه عن تحقيق فكرة الرحيل لم يتمكن، فإن ياسراً قد سأم العيش في اليمن، وضاق ذرعاً بها، فقرر الرحيل مهما كلفه الأمر.وقبل أن تسرج الشمس أضواءها شد ياسر علي راحلته ووطدها لسفر طويل وتهيأ للسير، ولم يكن في وداعه إلا خله الحميم زفر، وجار له كان يرفق به.وجدَّ السير يطوي الفيافي والقفار، حتي لاحت له مشارف مكة من بُعد، فطابت نفسه، وقرَّت عينه لتحقيق رغبته.واستراح عند تلعة من تلاع الصحراء المنتثرة قرب مكة وهومت عيناه، وطافت به سنة عابرة، أيقظته حركة قافلة صغيرة مارة، وما ان فتح عينيه، ولمح أمرها قام واستعد مقتفياً أثرها ليتمكن بواسطتها من معرفة الطريق الذي يوصله إلي البيت الحرام، فهو غريب لم يلج هذه الأرض من قبل.ووصل إلي البيت الحرام، واتخذ من فنائه ملجأ يقيه ظهيرة الحجاز المرهقة، وقبل أن تلملم الشمس أطرافها، بدأ القوم يتوافدون - كعادتهم - إلي الكعبة، ففي أرجاء هذا المكان تنتشر مجالس السمر، وتعقد حلقات الأدب.وأخذ الطارق الغريب يتفرَّس في وجوه الجالسين، فلم يجلب انتباهه أحد إلا أبو حذيفة بن المغيرة، فهو رجل بدت عليه مظاهر الكياسة والخلق والطيبة.ولمح أبو حذيفة تطلع الغريب اليه، فقام مرحباً به، وهو يسأله: أغريب أنت يا أخا العرب؟- نعم وحق هذا البيت.- إذاً فأنت ضيفي.- شكراً لك يا سيدي..وهكذا ابتدأت صلة ياسر بأبي حذيفة، ويأخذ مكانه في تلك الحلقة، حتي إذا حان وقت الإنصراف صحبه مضيفه إلي داره ليحل فيها ضيفاً مكرماً عزيزاً.وعلي مر الأيام تتوطد صلة ياسر بصاحبه، حتي بات لا يفارقه كالظل، فقد لمس أبو حذيفة في صديقه وفاء لا مثيل له، وصدقاً متناهياً، واندفاعاً قوياً للعمل والإخلاص له.واشتدت أواصر الصداقة والمحبة بينهما.. فيخلص كل منهما للآخر إخلاصاً عجيباً، بحيث بات أبو حذيفة يفكر في أمر ياسر ويهتم لزواجه.فيزوجه أمته (سمية بنت خباط)، ويعمل جاداً في مساعدته لتكوين دار له، بعد أن أصبح رب بيت له زوجة، وولدين ويبقي حليفاً لأبي حذيفة ووفياً له، فهو صاحب فضل عليه..وتدور في أندية مكة أحاديث تكاد تلتهمه عائلة آل ياسر بإيمان وعمق.. حديث دعوة محمد (صلي الله عليه وآله) إلي الإسلام.وراحت قريش تبذل الغالي والنفيس في إخماد هذه الدعوة التي تهدد مصالحها، وتقبر آمالها وأطماعها، وتضع كل ما في وسعها من عرقلة لإبعاد الناس عنها..وتسرب النبأ همساً، لكنه كوقع الصاعقة علي طغاة مكة يا لهول ما يسمعون، إنه شيء كبير جداً، وغريب جداً، ومستحيل جداً.. حتي هذه الأسرة الضعيفة صبت لهذا الدين الجديد.ثم يقول قائلهم: لنتأكد من هذا الأمر، وإذا صح فلنحسب له حساباً.. إن هؤلاء المستضعفين من هذه الديار هم يشكلونالخطر الأكبر علي ديننا، وآلهتنا، وان محمداً يسحرهم بأقواله إذ يدس لهم بأنه (لا فرق لأبيض علي أسود إلا بالتقوي) وهذا موضع الخطر.وينتفض الحانق الغاضب كأنه أصابه مَسّ من جنون: أنا لكم، سوف أكتشف أمر هؤلاء.نعم ما تصنع يا ابا جهل، ولا تكن متهوراً في بادئ الأمر.ويرسل ابو جهل عيناً خفية إلي دار الأرقم - مركز التجمع المحمدي - ليرصد أحداً من آل ياسر هل تضمه تلك الدار كما تضم العديد من أولاد الأسر وغيرهم.وإذا كان الحانقون علي هذه الدعوة لم يتمكنوا من معاقبة أولاد الأسر والذوات والمتنفذين، فليلقنوا هذه الأسر الضعيفة درساً قاسياً، ليكونوا عبرة لمن اعتبر.ويعود الرقيب إلي حلقة ابي جهل، وهو يهتز ويرعد، لقد هاله ما رأي.. وبين الغضب والحنق يقول: لا واللات والعزي لا يكون هذا، كفي سخرية وهزءاً.. عائلة دخيلة علي مكة أحسنت وفادتها بنو مخزوم، وعاشت علي فتات موائدها، تخرج علينا، فتقابل بالإساءة.. يا ويل لهم من غضبنا!.وغامت الدنيا في عين ابي جهل، وهو يسمع حديث صاحبه ويضرب كفاً بكف، ويصك علي أسنانه حقداً وغيظاً، ويصرخكالوحوش: هذا ما كسبناه من ابي حذيفة.. لا كان ذلك ابداً.. سوف أقتلهم جميعاً، وأطفئ بهم غضبنا.ويخطو عمرو بن هشام خطوات، حتي صادف ابا حذيفة مقبلاً عليه، ولم يكن بركان حقده قد خمد بعد، وقبل ان يبادره بالكلام، صرخ في وجهه ابو جهل: - يا ابا حذيفة، لا نحتمل منك هذه الإهانة، رد صاحبك اليماني عن كيده، وإلا رددناه بسيوفنا، وأنت تعلم انها مسلولة في وجه أعدائنا.وغارت عينا ابي حذيفة من الغضب، ولم يتحمل من هذا الطائش ثورته، فامتشق حسامه، وكاد يهجم عليه، وهو يقول له: أتهددني بالقتل؟ سوف لن يكون جوابي لك إلا السيف إن عدت لمثلها.وانسحب ابو جهل وهو يتلعثم في المشي، وتأزم الجو بسبب هذه الحادثة، مما اضطر المشركين ان يعقدوا اجتماعاً عاجلاً يضم رجالات قريش، وزعماء القبائل المناوئة للدعوة الجديدة وقرروا: ان كل من تصبو نفسه لدعوة محمد ويساعدها وينخرط فيها، يستحق التعذيب والتأديب، وإذا تمادي فجزاؤه القتل ودمه هدر بين القبائل.وما كاد الاجتماع ينتهي حتي نهض ابو جهل الي مضارب آل ياسر، يسومها الأذي والعذاب.. ولم ينتهِ عمر تلك الليلة حتي كانت هذه الأسرة كلها في قبضة الجلاوزة الغلاظ من قريش وممن أعمت بصائرهم الدعوة الاسلامية، كمداً وحنقاً.وسري الخبر في الحلقات ان ابا جهل ألقي القبض علي هذه الأسرة، وتقاطرت الناس علي حي بني مخزوم ليشهدوا حساب ياسر وأهل بيته.وخيّمت فترة صمت مزقتها أصوات مقبلة، فاتجهت الأنظار اليها. كان بعض أفرادها مقيَّدين بالحديد، تنهال عليهم السياط وسط مجموعة من الأشداء يتقدمهم رجل بني مخزوم: ابو جهل.وكان من بينهم رجل قد تخطي عتبة الكهولة، هدمته الأيام وخلفه امرأة لا تختلف عنه بالسن كثيراً، وإن كان الضعف والهزال قد ألمَّ بها أكثر من زوجها، وفتي يافع في ريعان الفتوة ونضارة الشباب يسير من ورائهما.أقبلت هذه الأسرة وقد بان عليها الجهد، الحديد أثقلها والعذاب أتعبها، خلفها عدد من الجلاوزة، بأيديهم الحراب والسياط، يطبعون بها أسراهم كلما تراخوا في السير، والعصي تلقف أجسادهم، كلما لذ لهم أن يتضوروا، والحجارة تنهال عليهم من الأطفال والنساء كلما أقبلوا علي جماعة.وتقف الأسرة الصامدة أمام حشد من طواغيت قريش وهالهم ان كل هذا العذاب والتعذيب لم يؤثر في معنوياتهم.وكان أبو سفيان من تلك الشلة التي قدمت لتشهد تعذيب هذه الأسرة، وقد امتقع لونه، وجثمت علي وجهه عتمة شوهت سحنته، وهو يطحن بأضراسه الكلمات التي يتفوه بها.ايه يا حليف مخزوم، هل صبوت إلي سحر محمد؟وبقلب ثابت لم يزعزعه العذاب، ولم يهدّه التنكيل يتهادي الرد عليه من هذا الرجل المثقل بالحديد، كأنه السهم يقطع أوصاله دون ما رحمة.- لا تقل يا أبا سفيان - سحر محمد - بل نوَّر اللّه قلبي بدين محمد، وهداني بهديه إلي صراطه القويم.وضج القوم، وطارت عيونهم من الهلع، وانفتحت أفواههم تعجباً، وخفقت قلوبهم رعباً، ماذا يقول هذا الرجل الدخيل علي ديارهم. إن جوابه لا يطاق، ويهتز أبو جهل، ويرتعد بحيث لا يسيطر علي السوط الذي بيده من شدة الغضب، ويحاول أن يهجم عليه فيقطعه بأسنانه، فيمسكه أُمية بن خلف، ولم يكن هو بأقل من أبي جهل غضباً وحنقاً، ولكنه يتظاهر بالهدوء والسكينة ويخاطب ياسراً: اما كفاك أن تصبو أنت لسحر محمد، حتي أخذت معك هذه المرأة وهذا الفتي تقربهم من نبيك، وتعلمهم علي دينه وتنفث فيهم من سحره وتتجاهرون بالخروج علي آلهتنا..وكأن الأسرة كانت علي موعد لجواب موحد، فقد ردوا عليه مرة واحدة غير هيابة للنتائج والعواقب المترتبة عليه: صه يا حقير، لا تتهم رسول اللّه بالشعوذة والسحر، انه لم ينطق عن الهوي، إن هو إلا وحي يوحي، علمه ربه شديد القوي، ولقد هدي قلوبنا بكتابه، وأنقذنا من عمي الجهالة بنور دينه..وعلا الضجيج من جديد، وجن جنون الطغمة الفاسدة وانهالت السياط والحراب علي أجسادهم دون شفقة.وبكل إيمان يلتفت ياسر إلي أهل بيته يصبرهم، ويشد من معنوياتهم، قوّي الإيمان عزيمتهم، وشدَّت العقيدة أطرافهم. وتتلاقي العيون بعضها ببعض، فتبتسم الشفاه ابتسامة الرضا والقبول، كل ذلك في سبيل اللّه، وكل ما كان في سبيله فهو بسيط ومقبول، وهذا ما بشرهم به نبيهم محمد.وكلما تجسدت الصلابة في هذه الاسرة، ازداد ابو جهل وجلاوزته حدة في عذابهم، وعنفاً وقسوة في معاملتهم.ويقول لقومه - في مجلس سمرهم -: شد ما يعذبني من ياسر وأهل بيته صمودهم وصبرهم، نذيقهم انواع العذاب فلا يتضورون ونصبُّ عليهم غضبنا فلا يبكون.. لقد تاقت نفسي ان أسمع بكاءهم، أو اشاهد تضورهم، فأشفي بذلك غليلي.ثم يلتفت زعيم بني مخزوم إلي احد أعوانه يأمره ان يأتي بالأسري لتنعم عيونهم ساعة بتعذيبهم.ولم يمر وقت حتي كانت الاسرة أمامهم، فطرحوهم في الرمضاء اشبه بالعراة، وبدأت مكاوي النار تصهر أجسادهم وتخمش جروحهم، والسياط تتلوّي علي أجسادهم المنهوكة فتحيلها إلي خطوط زرقاء، وتنهال الحراب بكل قسوتها تمزق ظهورهم، ولم تنبس شفاههم بكلمة، وعيونهم نحو السماء شاخصة.ورغم كل هذه الأنواع التي يلقاها آل ياسر من هذه الطغمة كانت في الوقت نفسه تتعملق فيهم روح الإيمان، وتضري في أعماقهم الصلابة والصمود، بحيث تصبح صلدة تمزق ظلم المشركين وتتحدي طغيانهم.ويقف الرسول الأعظم علي حال هذه الاسرة، ويحز في نفسه ما يعانيه ياسر وأهل بيته من طغمة الأشرار، ويرفع طرفه إلي السماء ويدعو اللّه من أعماقه: (اللهم اشدد علي آل ياسر بالصبر. إن موعدكم الجنة)... فتشرق الوجوه المعذبة، وتهلهل العيون المرهقة، إن لدعاء الرسول أثره العظيم في تقوية معنويات هؤلاء الأسري.. فلقد خفف عنهم هول العذاب، وأزاح عنهم كابوس الألم والوحشة.وماتت سمية من التعذيب أمام ياسر وعمار، وهي تلهج بذكر اللّه، ولم يزعزع هذا المنظر موقف الأسيرين.. بالعكس، إنما ازدادا إيماناً وصلابة.وفي ليلة ثقيلة الظل هومت عين ياسر، ثم انتفض، وهو يبتسم، ويزحف لولده المتظاهر بالنوم.ويلتفت اليه عمار، فيهمس بصوت أتعبه الألم: ماذا بك يا أبتاه؟ ويطبع علي شفتيه الذابلتين بسمة مضيئة، كأنها فرحة العطر، وصحوة الورد.وبين الفرحة والثناء تنساب الكلمات من فم الأب المضرج بالدماء: يا عمار، رأيت حلماً ما أجمله. كأن هذه الصحراء روضة غنّاء، في وسطها امك تلف خمارها علي رأسها تبتسم لي وتقول: إننا بانتظارك يا أبا عمار!!وقطع عليهما الحديث شبح يقترب منهما.. مَن هذا القادم في سكون هذا الليل؟ ولم يتمكنا ان يميزا الصورة لتجمد الدم علي عيونهما.ودوت ضحكة مزقت سكون المساء، عرفا منها صوت ابي جهل الوحش، فتعوّذا باللّه من شره.ووصل اليهما، وهو يتخابث، ويراوغ: لعلّي روعتكما وأقلقت عليكما نومكما، أحسب انكما كنتما في نجوة.- لا يا ابا جهل، لم تذقْ عيوننا طعم النوم.- لقد علمت بأنكما عدتما إلي رشدكما، ونبذتما سحر محمد ودينه.وتلوّي ياسر، وكأنه أُصيب بعمود علي رأسه، وصرخ - وإن كانت صرخته لم تبلغ مسامع الظالم إلا بمشقة -: - يا ابا عكرمة، والذي نفسي بيده لن اترك دين محمد مهما أوغلتم بتعذيبي وقاسيت منكم ما قاسيت، وسوف أحاسبكم بين يدي جبار السماوات والأرضين، وأقتص منك - يا لكع الرجال يا وغد، يا جبان - ساعة الحساب.وهاج ابو جهل، وهو يسمع من هذا الأسير ما لا يرضاه وجنَّ جنونه، فهجم عليه، لا يدري كيف يهدم سكون الليل علي هذا الرجل المتطاول العنيد. ولم تشرق شمس ذلك اليوم حتي كلَّت يد السفاك الأثيم مما أنزله من عقاب علي هذين الجسدين. وعاد إلي بيته، وهو يعض علي شفتيه تأثراً.. لقد كلَّت يداه ولم يشبع نفسه من تعذيب ياسر وولده. له كرّة اخري، في ظهيرة اليوم.ولم يكد يفرغ ابو جهل من عملية التعذيب، حتي يشعر ياسر بأن شيئاً غير طبيعي يجثم علي صدره، ويأخذ عليه مسارب أنفاسه، فيجهد نفسه للتحدث مع ولده، فتخرج الكلمات مجهدةمقطعة، وتغور عيناه، وتذبل شفتاه، ويجف ريقه. إنها حتماً ساعة الخلاص.في نفس ياسر ان يوصي ولده عماراً. ويزحف، ولكن المحاولة تفشل فقد ثقل جسمه، ولم يعد يمكنه الحراك.وعمار ليس ببعيد عن حال أبيه، إنه يرقب كل هذه الطوارئ عليه، ويزحف اليه، وصدي الحديد في جسم الابن يناغي حشرجات الأب المسجي، وفي عينيه دمعتان تجولان: دمعة فرح، ودمعة حزن.فراق أبيه عزيز عليه، لم يمض علي فراق أمه إلا أيام معدودة وهذا الموكب الثاني يلحق به، ما أقسي القدر.والشهادة في سبيل الحق فخر كبير، أُمه أول شهيدة في الإسلام، وأبوه ثاني شهيد من الرجال.وبين حشرجات الموت، وومضات السعادة تنبعث الكلمات من الفم الطاهر: عمار: لا تمل عن دين محمد، واقرأ رسول اللّه عني السلام وليدعُ لي، ولأمك بالرحمة..وينطفئ السراج، وتنتهي المناجاة بين الأب والإبن، ويشاهد الجلاد هذا المنظر فيطير منتشياً فرحاً، ويهرول لأصحابه، وهم في حلقة السمر يخبرهم عن نهاية ياسر.وتعلو القوم سحابة دكناء، وينتفض أبو حذيفة وقد هزَّه المصاب، ويصيح في وجه الطاغي: حسبك يا أبا عكرمة من القتل، كفاك ما أصاب سمية وياسراً، وإياك أن تعمل بعمار ما عملت، عذاب دون الموت.وفي دار الأرقم ينتشر النبأ، ورسول اللّه قد ألمَّ به التأثر وهو يردد: (صبراً يا آل ياسر، إن موعدكم الجنة، اللهم احفظ عماراً من شر الطغمة الحاقدة، وأخذ بثأره).

سلمان الفَارسي

وأقبل الشيخ أبو معاذ في ليلته مشرق الوجه، واستقبل مستمعيه برحابة وتكريم وانعقد المجلس، وكل من الحاضرين في شوق لحديثه.. وقال:إن سلمان الفارسي - يا قوم - ما سجد لمطلع الشمس - كما يفعل المجوس وإنما كان يسجد للّه عز وجل، وكان أبواه يظنان أنه يسجد كهيئتهم.. وممن ضرب في الأرض يطلب الحجة، فلم يزل يتنقل من بلد إلي آخر، ومن كنيسة إلي مثلها، ويبحث عن الأسرار، ويستطلع الأخبار، ينتظر أن يحظي بالنبي الذي أخبر عنه فهو ضالته، وأخيراً عثر علي ما يريد، وأتم حياته كأحسن مسلم تفهماً للدين، وتفانياً في سبيله.لقد كان سلمان في السابق من أهل أصبهان، وأبوه دهقان قريته، يحبه بشكل يعجز عنه الوصف، ومن جراء هذا كان يخشي عليه، فيحبسه في بيته تماماً، كما يفعل بالجواري.. وكان أهله مجوساً يعبدون الشمس، ويوقدون لها النار، وصادف أن مر سلمان علي كنيسة فدخل بها، ولمح أهلها يصلون، ويتضرعون إلي اللّه، فأعجب بهذا اللون من العبارة، وفضلها علي طريقة أهله، لأنه في أعماقه لم يؤمن بالصلاة للشمس..وكانت هذه الانطلاقة منه - في التحقيق عن الدين - قد جرّته لأن يجول في البلدان، يطلب دين اللّه، فقيل له بالشام فقصدها، وعاش في كنيستها برهة من الزمن ثم انتقل إلي الموصل يخدم ويتعبد في كنيستها، ومنها إلي نصيبين، وأخيراً قيل له: إن في كنيسة عمورية من بلاد الروم رجلاً صالحاً يدله علي الحقيقة فشدّ اليه الرحال وبقي ملازماً لكاهنها مدة طويلة، يتلمس فيه الإيمان، والطيب، والوفاء ولما دنت من الرجل الوفاة - وكان يحفظ لسلمان اخلاصه - دنا منه، وطلب أن يرشده علي الحقيقة وإلي أين ينتقل من بعده؟ - وبين لحظات الموت والحياة - قال الكاهن: أي بني، والله ما أعلم أنه بقي أحد يستحق أن آمرك بالذهاب له، ولكن سيبعث نبي في هذا الزمان، يأتي بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلي أرض بين حرتين [2] بينهما نخل، به علامات لا تخفي: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة.. فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.. وانقطع نفس الكاهن، وذبل النور في عينيه.وهز الحديث سلماناً، وأخذ منه مآخذاً، وبقي ينتظر اللحظة التي تساعده علي السفر إلي تلك الديار ساعة بعد ساعة، يتحين الفرصة، ويتطلب القافلة.وانتشر الخبر في عمورية أن قافلة من العرب تعمل بالتجارة وصلت البلد وهرع اليها سلمان يتعرف علي حالها.. إنها من قبيلة (كلب) احدي قبائل العرب ومرت أيام ولملمت القافلة أمرها وأعلنت عن سفرها، فاتفق معها علي أن يعطيها كل ما يملك من بقرات، وأغنام، مقابل وصوله إلي (مكة). وتم الاتفاق وسافرت القافلة تطوي القفار، ولم تبلغ أطراف مكة، حتي عمد أصحاب القافلة عليه، وأسروه، وباعوه الي يهودي، فأخذه الي قريته يخدمه..ومرَّ علي سلمان عهد في خدمة هذا اليهودي، ولكنه لم يقطع الأمل في نفسه، فقد رأي القرية يكثر فيها النخل، فرجا أن تكون هو المكان الذي يطلبه من وصف الكاهن وبينما هو عند صاحبه إذ أقبل ابن عم له من بني قريظة يسكن المدينة فأعجب به فابتاعه واحتمله اليها.. وسرَّ سلمان بهذا العمل، وكتم في نفسه فرحة عظيمة، عندما عرف المدينة، وانها التي وصفها له صاحبه، والمكان الذي سيلتقي فيه بالنبي.وكانت الأيام تدور في مسيرتها، لكنها ثقيلة الظل علي هذا المتلهف لمعرفة الحقيقة.. وفي صباح ترهق الشمس ساعاته، أخذ سلمان عدته، وذهب لإصلاح بعض النخيل، وجاء صاحبه واستقر تحتها، وهو يرقب عمله، وأقبل عليه أحد أقربائه وجلس الي جنبه، وأخذ يحدثه، وهو لا يعلم ان هذا الحديث يهم سلمان قبل كل أحد، قال اليهودي لقريبه: قاتل اللّه «بني قيلة»، إنهم الآن مجتمعون بقباء [3] علي رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون انه نبي..وتهادي النبأ الي أسماع سلمان، فتأخذه الرعدة، ويكاد يسقط من أعلي النخلة، ويشدّ علي نفسه من الانزلاق، وينزل وهو مضطرب، ويهرع الرجل فيلح عليه بالأسئلة، يستطلع منه جلية الخبر، فيغضب صاحبه منه، ويلكمه لكمة قوية يكاد يسقط من شدتها، فيتمالك، ويصمت، ويبقي واقفاً أمامه فيصرخ في وجهه مالكه: إذهب الي عملك، ما لك والدخول في مثل هذا الحديث.ويطوي سلمان أسئلته وشوقه، ويتجه لعمله، فيتشاغل به ريثما ينفذ أمراً كان قد قرره لحظة تصميمه علي إجلاء الحقيقة.وأقبل المساء، وانتشر الظلام في المدينة، وحمل سلمان أكلاً معه، وتسلل الي رسول اللّه في قباء.. ودخل عليه، وتطلع فيه ثم قال له: بلغني انك رجل صالح، ومعك أصحاب غرباء وهذه صدقة عندي، أنتم أحق بها من غيركم، ويقدمها للرسول فيقبلها منه ويدعو أصحابه لأكلها، ويمتنع هو عن الأكل.ويقول سلمان في نفسه، ان هذه إحدي العلامات،فقد أخبره صاحبه الكاهن انه لا يأكل الصدقة.. وينصرف ويعود بعد ليال، ومعه حاجات اخري، ويدخل علي النبي، ويقول له: هذه هدية أرجو قبولها، فيأخذها، ويشكره علي ذلك.. وتطفو علي سلمان إشراقة الفرحة، انها العلامة الثانية، لا يقبل الصدقة، ويأخذ الهدية.ولم يدر سلمان كيف تنقضي الأيام انه يحسبها دقائق وثواني لكي تسنح له الفرصة، وتشاء الصدف ان تواتيه، فيتبع النبي ببقيع الغرقد - وهي مقبرة المدينة - ويدخل عليه، ولم يستقر به المكان حتي يستدير بنظره الي خلف الرسول، فيلتفت ماذا يريد، ويلقي الرداء عن متنه، ويظهر خاتم النبوة. فشهق سلمان، وسقط علي كفي النبي يقبلهما، ويبكي فرحاً، وقص عليه قصته..وبقي ملازماً له، يتفاني في إخلاصه، وإن كان لم يخرج معه لمعركة بدر واحد، لأنه رقّ، ثم لم يمكث ان قال له الرسول كاتب صاحبك، واتفق معه علي تحريره من العبودية، وطلب منه صاحبه أن يغرس له ثلاثمائة نخلة، وهذا المطلب كبيراً بالنسبة لسلمان الذي لا يملك قيمة هذا النخل ليؤديها له، وعرف الرسول ذلك، فالتفت الي أصحابه طالباً منهم أن يعينوا أخاهم سلمان علي فكاك رقبته، فجمع له المقدار المطلوب، وشريت النخيل وغرست، وأصبح حراً بعدها.ولازم سلمان النبي في المدينة، وآخي بينه وبين أبي الدرداء وكان بعد ذلك إذا نزل الشام حلّ عند أبي الدرداء.وأطلَّت السنة الخامسة، وقد مرَّ علي «أُحد» سنتان واقتضت مصلحة الرسول أن يُجلي بني النضير الي خيبر لنقضهم العهد. ولم يهن ذلك عليهم، وبيَّتوا علي النبي أمراً خطيراً فقد عمدوا الي القبائل من قريش وغيرها يحرضونها علي قتال محمد.. وصادف ذلك قبولاً في نفوس قريش وغيرها.. فلم تكن ثارات بدر قد أخمدتها أُحد، ولم تكن أُحد نصراً ضد النبي لتخمد أحقاد الجاهلية.وإذا كانت المعركتان «بدر وأُحد» قد أدارتها قريش ومن تبعها من أعوانها، فان في هذه المرة قد شدَّت سواعدها اليهود، وصارت تثير اللهب وتجمع الناس، ولم يمر زمان حتي صار عدد الجيش المحارب يقدر بعشرة آلاف يقودهم (ابو سفيان).ولم تكن قريش، وغطفان، وجيوش اليهود، إلا حركة موحدة تجمعت من هنا وهناك لترفع راية القتال علي رسول اللّه وتهدم الدعوة الجديدة في مهدها وقد وصلت أخبارها الي مسامع المسلمين، فدبَّ فيهم الذعر والرهبة، وخاصة في النفوس الضعيفة، مما اضطر النبي أن يجمع أهل الرأي من أصحابه ليتشاور معهم في الرأي.كان سلمان أحد اولئك الأشخاص الذين جمعهم الرسول للمشورة والرأي، وطال الحديث في ذلك، وسلمان ساكت لم يتكلم، فيلتفت اليه النبي قائلاً: - ولماذا لم تتكلم يا سلمان؟- يا رسول اللّه: أفكر في أمر يمنع الأعداء من الوصول الينا.- وكيف ذلك؟.- يا رسول اللّه: نحفر خندقاً حول المدينة، فلا يستطيع العدو الوصول اليها.- وكم تقدر المدة التي تستغرق لحفر هذا الخندق؟- لا يزيد علي الأسبوع.. ومسير الجيش بهذا العدد الذي نسمعه يحتاج إلي مسير عشرة أيام يقطعها بين مكة والمدينة. هذا إذا لم يصادف تأخر الركب، أو بعض القبائل، فيتأخر مسير الجيش يوماً أو أكثر عن موعده.واستصوب الجميع رأي سلمان.. وأمر النبي بالعمل.. ولم يبق أحد من المسلمين إلا واشترك في الحفر.وكانت المدينة حينذاك مشبكة بالبنيان والنخيل من سائر جوانبها إلا جانباً واحداً مفتوحاً، وهو الذي حفر فيه الخندق وما ان تم حتي خرج النبي بعسكره، وهو لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وتمركز في سفح جبل المدينة وصار الخندق بينه وبين القوم.وعندما وقف علي الخندق أبو سفيان ومعه عدد من أصحابه قال: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها من قبل، وهي من عمل الفارسي - ويعني به سلمان -.ثم سكت قليلاً الشيخ أبو معاذ، وقد ندت عنه آهة كادت تمزق هدوء الليل.. وقال: لقد ابتلي محمد باليهود.. وان خطرهم كان أشد عليه من خطر قريش وأتباعها وما كانت القبائل اليهودية تهدأ من نسج المؤامرات واثارة الحروب علي المسلمين فالدعوة الإسلامية كانت في مرحلة خطر من كيد اليهود، ولولا لطف اللّه لكان ما كان.. فلقد كانت القبائل اليهودية - حينذاك - ثلاثة، وقد دخلت مع النبي في عهد، وهي: بنو قينقاع، وبنو النضير، وقريظة.. وكانت المدينة تضم من المسلمين: المهاجرين، والأنصار، وبها من المشركين من الأوس والخزرج ممن لم يسلم، ومن اليهود بنو قينقاع في داخلها، وبنو قريظة في فدك، وبنو النضير علي مقربة منها، ويهود خيبر في شمالها..وظن اليهود أول هجرة الرسول إلي المدينة انهم يستطيعون التحالف مع الإسلام علي النصرانية، والتي كانوا يضمرون لها حقداً دفيناً، فلما لم يستطيعوا ذلك جهروا بعدائهم للإسلام ونقضوا عهودهم، وانتهي عندما احتدم الصراع بجلاء يهود بني النضير عن المدينة في السنة الرابعة من الهجرة. وكان بنو قينقاع قد نقضوا العهد أيضاً، ولم يبق إلا بنو قريظة. ثم عندما تألبت الأحزاب علي رسول اللّه في السنة الخامسة، وقاد أبو سفيان جيشاً لحرب محمد كان يهتم لاستمالة بني قريظة له، طالما وأن قبيلتين من اليهود انضمت إلي الجيش المحارب.وفكر أبو سفيان بادئ الأمر بمن يقوم بهذه المهمة، فلم يرَ أليق من يحيي بن أخطب فهو رجل معروف بالدس والدهاء والمكر. وفعلاً توجه الرجل إلي كعب بن أسيد - زعيم بني قريظة- ولم يعد لأبي سفيان، حتي حمل معه رضاه بنقض العهد.وعرف المسلمون الخبر، فعظم الأمر عليهم، واشتد فيهم الخوف والهلع، وأمعن الغزاة بالحصار علي المدينة حتي وصل قرابة الشهر، مما أثر علي معنوية قسم من المسلمين ودب الجزع في نفوس المنافقين، والضعفاء من المسلمين، ويقول أحدهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب لحاجته..وآخر يستأذن الرسول بالسماح له ليذهب فيحفظ بيته، إذ يقول: - يا رسول اللّه، إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا ان نخرج فنرجع الي دورنا فليس فيها من يحرسها.وعلي هذا اللون بدأ الانجراد النفسي يتحكم في نفوس البعض مما اضطر النبي ان يراسل قبيلة غطفان - وهي القوة الرئيسية الثانية، العربية، والتي تقابل قريشاً - علي اتفاق ومصالحة يتم بينهما فيعطيهم ثلث ثمار المدينة مقابل عودتهم بدون حرب فوافقوا مبدئياً علي الأمر، وقبل ان يبرم العهد أرسل النبي الي سيدي الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة يعرض عليهما فكرة الاتفاق، ويأخذ رأيهما في ذلك..وأجاب الزعيمان، بما يعبر عن واقع الإنسان المسلم الذي يعيش قضيته في أحرج ظروفها: يا رسول اللّه، أمراً تحبه فتصنعه، أم شيئاً أمرك اللّه به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟.ويقول الرسول: (بل شيء أصنعه لكم.. واللّه ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد، وكالبوكم (أي اشتدوا عليكم) من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم الي أمر ما).فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّه، قد كنا نحن وهؤلاء القوم علي الشرك باللّه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللّه، ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قري (ما يصنع للضيف من الطعام)، او بيعاً. أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! واللّه ما لنا بهذا من حاجة واللّه لا نعطيهم إلا السيف، حتي يحكم اللّه بيننا وبينهم.قال رسول اللّه: فأنتم وذاك..هذان الموقفان المتناقضان لدي أصحاب الرسول كانا يتعاظمان يوماً بعد يوم.. فالذين آمنوا وأخلصوا لدينهم - كما رأينا من حديث شيخي الأوس والخزرج - لم يهمهم إن طال الحصار أو قصر، وكثر عدد المحاربين أو قل، وهم يؤكدون لنبيهم وقوفهم الي جانبه مهما ضاقت السبل وتطورت الأحوال، ولم يمدوا للعدو يداً ذليلة.. أما الذين دخلوا الإسلام كرهاً ومصلحة، أخذوا يتذرعون بشتي الطرق للهرب من القتال..مرّت حالة لا حرب ولا سلم علي الطرفين طويلاً. المدة تصل قرابة الشهر، ولم يكن بينهما غير الحصار والترامي بالنبل والحصي، مما أثار الجزع في نفوس الطرفين، وخاصة لدي المشركين، فإن أبا سفيان أخذ يخشي هبوب العاصفة، وتفرق القبائل من حوله، فالسأم والضجر بدا علي جيشه.. أما المسلمون، فإنهم وإن ضاقوا ذرعاً بالحصار لكنهم علي مقربة من عوائلهم وبيوتهم، وهذا ما يساعد علي التمنع والصمود..وصمم ابو سفيان علي التحرك ضد المسلمين، فحرّض عدداً من فرسان قريش، علي الاصطدام المباشر بالمسلمين، واختار لهذه الغاية: عمرو بن عبد ود بطل بني عامر - وهو من مشاهير العرب - وعكرمة بن ابي جهل، وهبيرة بن ابي وهب بطلي بني مخزوم، وضرار بن الخطاب، أخا بني محارب، وأمثالهم ممن لهم دويّ وسمعة، ودفع هؤلاء ان يمروا علي خيام أصحابهم ليدفعوهم علي الاستعداد للقتال.. ثم أقبلوا تسرع بهم خيولهم وجالوا حول الخندق، حتي تلمسوا فيه ثغرة فاقتحموا..وكانت هذه المبادرة قد أرعبت المسلمين. ووقف عمرو بن عبد ود وحوله جماعته يصرخ في المسلمين: هل من مبارز؟وقف قبالته عدد من المسلمين، ولكن الوجوم خيم عليهم فلم يجبه أحد، وقام علي يطلب من النبي أن يأذن له في مبارزته فيمنعه، وكرر عمرو النداء ثلاثاً، وصار يقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها أفلا يبرز إلي رجل؟.فأذن النبي إلي علي ليخرج له، وما ان برز اليه، وعينه الكريمة مشدودة إلي ابن عمه، وهو يقول: (برز الإيمان كله إلي الشرك كله).وتقابل البطلان، علي بن أبي طالب بكل بساطته، يقف في وسط الميدان، وعمرو بن عبد ود لم يترك شيئاً من لباس الحرب إلا وارتداه، وبرز كأنه جبل معلم.وبادر بطل المشركين علياً بالسؤال: مَن المبارز؟- فتي عبد مناف علي بن أبي طالب.ويهز الفارس المغوار ويرد بصوته الأجش: ولم يا ابن أخي تقتل نفسك ألم يكن لابن عمك غيرك يخرجه لمبارزتي، فواللّه ما أحب أن تكون طعمه لسيفي.وبكل بطولة وإصرار يقول علي: ولكني واللّه أحب أن أقتلك.ويشتد الغضب بعمرو، ويهم بالانقضاض علي (فتي أبي طالب) فتصدي له أبو الحسن قائلا: يا عمرو إنك كنت تقول لا يدعوني أحد إلي واحدة من ثلاث إلا أخذت واحدة منها.. قال عمرو: أجل. قال علي: فإني أدعوك إلي الإسلام، قال عمرو: لا أريد هذا، فقال علي: أو ترجع إلي بلادك فإن يك محمد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذباً كان الذي تريد، قال عمرو: لا اريد هذا أيضاً، فما هي الثالثة؟ قال علي: أدعوك الي النزال راجلاً، فأنت فارس وأنا راجل.. فما كان من عمرو إلا أن عقر فرسه، وضرب وجهه، وأقبل عليه شاهراً سيفه وتقابلا في صراع حامي الوطيس..وعلي مقربة من المعركة تقف كتلتان: من جهة جماعة عمرو بن عبد ود، وهم ينتظرون انكشاف الغبار، ولا يشكون ان النصر لصاحبهم.. وقبالتهم وقف آخرون، فيهم الخلَّص من أصحاب النبي يتوسطهم سلمان، وأبصارهم شاخصة الي ميدان المعركة، وكلمة الرسول الخالدة ترنُّ في آذانهم، وتملأ آفاقهم (برز الإيمان كله إلي الشرك كله)..وانكشفت المعركة، وإذا بعلي فوق صدر عمرو يحز رأسه.. روّع المنظر الطرفين ولم يتمالك عكرمة بن ابي جهل إلا أن ألقي رمحه وهرب خائفاً، وتبعه بقيه أصحابه. وكان لهذا الموقف الخاسر أثره الكبير في تضعضع معنويات المهاجمين، وتحطم قوتهم ودب الذعر والخوف مما اضطر أن يفكر أبو سفيان - خوفاً من فرار أصحابه - في المبادرة بالتراجع، أو القتال، فأرسل إلي بني قريظة يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر (الإبل والخيل) فاغدوا للقتال، حتي نناجز محمداً ونفرغ ما بيننا وبينه.. ولكن بني قريظة لم ترغب في إثارة الحرب، بعد أن تحسست تضعضع الجيش المحارب. ولما شعر أبو سفيان بذلك وقف وسط جيشه قائلاً: يا معشر قريش إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، لا يطمئن منها قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل.. ثم قام إلي جمله، وهو معقول، فجلس عليه، وضربه فوثب به علي ثلاث، فواللّه ما أطلق عقاله إلا وهو قائم.ولم يكد يبصر به الجيش الغازي حتي تفكك، وأخذ كل يركب دابته ويعود، ولا يلتفت لصاحبه، ولم يمس المساء حتي بدت الصحراء خالية منهم..وعاد رسول اللّه وأصحابه إلي المدينة، ويلتفت بعض الصحابة لسلمان قائلاً: جزاك اللّه خيراً يا سلمان، لقد حفظت المدينة وجيشنا بالخندق.وتنازع المهاجرون والأنصار، كل يقول سلمان منا، شخصية فذة (بحر لا ينزف) كما قال عنه علي بن أبي طالب.. لكن الرسول الأعظم ينهي النزاع عن هذا الأمر فيقول: (لا تقولوا سلمان الفارسي، بل سلمان المحمدي.. وهو منا أهل البيت).وسام رفيع يناله سلمان من رسول اللّه، ذلك يقول عنه النبي مرة: (أمرني ربي بحب أربعة، وأخبرني أنه سبحانه يحبهم: علي، وأبو ذر، وسلمان والمقداد).ويقول النبي: (لو كان الدين في الثريا لناله سلمان).واستمرت هذه الشخصية الكريمة في ظل رسولها العظيم تستمد من أخلاقه، ما يرفع مجدها، وتعبّ من غيرها بما يبني شخصيتها الإسلامية علي أساس متين وصارت لها مكانة في قلب النبي يغبطها عليها الكثير من الصحابة.. تقول عائشة: (كان لسلمان مجلس من رسول اللّه يتفرد به بالليل، حتي كاد يغلبنا علي رسول اللّه).لقد دخل عليه قوم، وهو أمير علي المدائن، وكان يعمل الخوص، فقيل له: لم تعمل هذا، وأنت أمير يجري عليك رزق يبلغ خمسة آلاف دينار، فتتصدق به، فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي..ثم توقف الشيخ أبو معاذ قليلاً، وكفكف دمعة حزن، واستأنف حديثه قائلاً: رحمك اللّه يا أبا عبد اللّه، فقد قيل له مرة ابن من أنت؟ قال: أنا سلمان ابن الإسلام من بني آدم: كان قوياً في إسلامه، صامداً لعقيدته، مخلصاً لنبيه وآله، وكان واقعياً زهد في الدنيا، يعمل الخوص، ويبيعه فيأكله، ويفترش عباءته لينام، ويباهي بأخلاقه.وفي العقد الرابع من الهجرة يلبي نداء ربه. وخلف بعده ذكراً خالداً ما دام الزمان.

الحباب بن عبدالله بن أبي

وانتشر الظلام في سماء المدينة، وتوافد رواد مجلس الشيخ أبي معاذ الي مجلسهم كالعادة، وهم في شوق لما سيحدثهم في ليلتهم هذه.وفي تلك اللحظات أقبل الرجل، يحييهم بأحسن السلام والبسمة الهادئة، وبعد استراحة قصيرة بدأ حديثه..دعا داعي الاسلام في مكة المكرمة، واستقبل الناس - خصوصاً في الجزيرة العربية - هذه الدعوة بكثير من التعصب فقد شقَّ عليهم أن يدعو صبي يتيم لنظام يطيح بكيان آلهتم وينفي جميع مبررات وجودها، فكان من جراء ذلك أن بقي قسم كبير من هذه الزمرة معلنين الحرب الشعواء علي المسلمين يسومونهم سوء العذاب، وينكلون بهم أشد التنكيل بدافع من روح عدائية حاقدة، ولاقي المسلمون المخلصون في إسلامهم كل الأذي من هذه الطغمة القاسية التي صهرتها دوافع الضغينة وقسوة المصير.ولكن رغم هذه الصعوبات فالدعوة أخذت بالازدهار وأخذت الجموع تلتف حولها، تؤمن برسالة الاسلام تلك الرسالة التي جاءت لإنقاذ البشرية، مما اضطر البعض من تلك الشراذم أن يسلموا في ظاهرهم، وهم يكتمون في سرهم غير ما يعلنون.ومن هؤلاء النفر الذين نافقوا في الدين، هو عبد اللّه بن أبيّ بن سلول الانصاري، ذلك الرجل الذي كان سيد الخزرج وكبيرها وشريفها- طبعاً في قاموس الجاهلية - وقد اجتمعت قبيلته علي أن يكون زعيمهم ويسندوا اليه أمرهم، ويكون عليهم ملكاً - وذلك قبل بعثة الرسول الأعظم-.وعندما صرح الرسول بالدعوة، والتف الناس حوله، تهدمت آمال عبد اللّه بن أبي، لقد كانت آمال هذا الرجل واسعة، فقد كان يأمل أن ينال ملك (يثرب) بعد أن دانت له قبيلته وأمرته عليها.والخزرج: قبيلة يعتد بها، فاذا ما دانت له، واقتنعت بإمرته فلا بد أن يخضع له مما حولها كرهاً أو رضا.ويشرق نور الاسلام، وتزحف الخزرج الي رسول اللّه، تمد يدها مسلمة لدعوة الحق، ويحسن إسلامها، ويتفرق العدد المرصود من حول هذا الرجل الطامع، فلم يبق له إلا أنفار يستنشق بواسطتهم ريح ملكه المنهار، وسطوته المتداعية علي عتبة الاسلام، ويضطر أن يمد يده طائعاً ضامراً الكره الي محمد (صلي الله عليه وآله)، يبايعه علي الاسلام، ولكنه يكتم في قلبه أكثر من موجدة علي (فتي هاشم) ودعوته، ولا بد أن ينتقم لمجده السليب.وعبد اللّه بن أبي - كما تقدم - شريف الخزرج، وكان معروفاً لدي الجميع، وكانوا يعلمون موقفه من الاسلام، لهذا لا نستغرب إذا رأينا داره تصبح بعد زمان قصير موئلاً للمنافقين، والحاقدين علي الاسلام، يجتمعون فيها آناء الليل، وأطراف النهار يتهامسون في أمر الدعوة الجديدة، ووضع الحواجز والأشواك في طريقها.وتجمعت أجهزة السوء يوماً تتداول أمرها وتستعرض الموقف وإذا بابن أبي يطلّ عليها. طلع عبد اللّه بن أبي علي جماعته، وهو يأكله الحسد، ويجلجله النفاق، يطوي نفسه علي صرخة مكبوتة ولوعة كامنة في أعماقه، ويتحرق ألماً وغيظاً، ويعود الي داره ملتاع الجانب فتستقبله زمرته تخفف منه المأساة.- أهلاً بأبي الحباب، ماذا وراءك؟وُيحتقن وجه الرجل، فتغور نظراته، ويتصبب عرقاً وتعلوه صفرة، ويجاهد كتمان صرخة تحاول ان تنطلق من بين أسنانه فيشد عليها بقوة.وزمرته تلحظ عليه كل هذا، فتتهامس فيما بينها، وتبحث عن السبب، ولكن محاولتهم تذهب سدي، ويلتفت اليه بعضهم يخاطبه: - ما حلّ بك يا أبا الحباب؟فيمتعض الرجل، ويزداد ضيقاً، ثم يلتفت اليهم، وصفرة وجهه قد مالت الي الكدرة: - لا تدعوني بهذا الإسم بعد هذا، لقد هدم شموخي الحباب وخابت آمالي فيه، فلا أرغب به.وتعلو علي الوجه مسحة من تساؤل، لماذا يا ابن أبي؟- لقد صبا الحباب لدين محمد، وخلص له، وأبدل اسمه بعبد اللّه.أتريدون أن أعتز بهذا الولد بعد هذه المصيبة؟وخرست الألسن، وكفوا عن الحديث.وامتد الزمن، والولد يحظي بالعطف عند الرسول، ويزداد كرهاً لأبيه، الذي ما فتأ يحارب رسول اللّه، ويعلن المعصية عليه في كل مناسبة، وعجز الولد في محاولاته المتكررة لتوجيه والده إلي طريق الصواب، ولم يترك طريقة توصله إلي مرماه إلا وسلكها، ولكن مع الأسف كانت النتيجة الفراق مما اضطر الابن أن يهجر أباه، ويترك داره.والأب متمادي في غيه لا يرتدع عن عقد الاجتماعات المشبوهة - في داره، ضد الإسلام، ولم يرض لنفسه أن يخضع للحقيقة لحظة دون أن يثير المشاكل في طريق المسلمين.وهاجر رسول اللّه من مكة إلي المدينة، وكان الحباب (عبد اللّه) من جملة الذين لازموا النبي في هجرته، فقد ثقل عليه موقف أبيه، فتركه ولزم نبيه، وكأنه لم يعرف هذا الأب المنكِر والمتنكر للاسلام مما زاد كره عبد اللّه لولده، وأخذ ينتظر الساعة التي يفرغ فيها حقده.وتبقي في نفس كل من الأب والولد لوعة، ومرارة علي الآخر. لقد عز علي الولد الذي.سلم فأحسن إسلامه أن يكون أبوه من أشد الحاقدين علي الإسلام، وأن يكون مصدراً للأذي والشغب، وسبباً قوياً في عذاب النبي. وكانت هذه الأزرار تثير في نفسه خواطر فتدفعه علي الإقدام علي قتله وإراحة الاسلام والمسلمين منه، غير أن رسول اللّه - وهو ممثل الانسانية - كان يخفف من برم الحباب إزاء والده، ويطلب منه أن يعامله بالحسني، وأمر رسول اللّه مطاع ممتثل علي كل حال، ويسكت المؤمن علي مضض.ويشرق الاسلام، ويبسط جناحيه علي المدينة ويضطر الرجل الحاقد ان يمد يداً غير مخلصة لمحمد، فيسلم ظاهراً، ويعود بعدها لزمرته، فيقول لبعض أصحابه: - مادت الأرض بي، وأنا أمد يداً لمحمد فأبايعه مكرهاً.ويرد الرجل عليه: وما يضرك منها، ومصلحتك الشخصية اقتضتها.ويعرف الكل أن ابن أبي مسلم في لسانه، كافر في قلبه.. يتربص الفرصة ليوقع بالاسلام وأتباعه ما يروي حقده الجاهلي.حتي كانت وقعة بدر فخرج المسلمون، وتخلف (عبد اللّه بن أبي) عن مساندة جيش المسلمين متمارضاً، لقد كان - كما يقولون - مسلماً في لسانه، أما في عمله فهو علي الاسلام، ولكن موقف الولد المعتز بالاسلام كان الامثولة الحية، فقد أبلي بلاءً حسناً في ذلك اليوم، وانتهت بدر، وزادت هذه الوقعة والمسلمون منتصرون، من غلواء (عبد اللّه الأب)، وبقي مستمراً في غيِّه وتعنته ضد الاسلام.وبعد أيام خرج المسلمون لأحُد، والموقف صارم، والحرب علي الأبواب، ولاحظ (ابن أبي) الظرف فرآه مناسباً لأحد الثأر من رسول اللّه، فأخد يجول علي المسلمين يخذلهم، وتمكن بخبثه من إرجاع الكثير من المسلمين القريبي العهد بالاسلام عن نصرة رسول اللّه حتي حددها البعض بالثلث.ولوي الحباب - ذلك الرجل المؤمن - رأسه حياءً من هذه الحادثة أمام رسول اللّه، و شهر سيفه في وجه الخزرج، وقاتلهم قتالاً شديداً، مما جلب انتباه النبي فرعاه، وأحسن رعايته وإن كانت صورة أبيه، وموقفه المخزي لم تفارق مخيلته أبداً.وأعلن الرسول (صلي الله عليه وآله) سنة ست، أو خمس - علي اختلاف في التاريخ- عزمه علي غزو بني المصطلق، وهم من خزاعة بعد أن وصلت الأخبار، بأنهم عقدوا العزم علي قتاله بقيادة الحارث بن ابي ضرار: سيد هذه القبيلة، وكبيرهم.وبادرهم الرسول، وهم يتوجهون اليه، وكان (المريسيع) - وهو موضع فيه ماء - مركزاً لتقابلهم، وقتالهم.ولم تمضِ ليلة علي العسكرين، حتي أمر الرسول علياً أن يزحف بالراية عليهم، واشتبك الجيشان، ولم تقع خسائر بالأرواح فيها كثيرة، فقد شعر بنو المصطلق بضعفهم فاستسلموا ونقل رسول اللّه أبناءهم وأموالهم، فأفاءهم عليهم.وكان ابن أبي مع المسلمين الذين خرجوا في هذه الغزوة خرج لا ليدافع، بل ليغنم شيئاً.ووضعت الحرب أوزارها، وتفرق المسلمون يخففون عن أنفسهم ثياب الحرب وعدّتها، بينما البعض منهم ذهب الي بئر ماء تجمع عليها نفر من المسلمين ليملأوا جرارهم وقرَبهم بما يحتاجون اليه من الماء.وفي هذه الأثناء يحدث بين شخصين من المسلمين نزاع علي الماء وكان أحدهم من المهاجرين، والآخر من الأنصار، وإذا ما اشتد النزاع بينهما، نادي كل منهما أصحابه، وكادت تقع الواقعة بين المسلمين.وسمع ابن أبي بهذا النبأ فيضطرب ويولول، ثم يصرخ في وجوه الجالسين حوله من الخزرج: (أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلانا، واللّه ما أعدنا وجلابيب [4] قريش هذه إلا كما قال القائل: (سمن كلبك يأكلك) أما واللّه لئن رجعنا الي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل علي من حضر مجلسه من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم، لتحوَّلوا الي غير بلادكم، لقد قلت لكم لا تنفقوا عليهم، لو تركتموهم ما وجدوا ما يأكلون ويخرجوا أو يهربوا).ثم سكت والحقد يغلي في صدره كأنه المرجل، وانتشر الخبر حتي بلغ مسمع رسول اللّه فتأثر منه غاية التأثر، وطلب البعض من رسول اللّه أن يسمح بقتله، ولكن الوفاء الاسلامي المتجسد في رسول اللّه أبي أن يفعل ذلك بل أراد أن يضرب مثلاً أعلي للإنسانية جمعاء فأجابهم: (إني أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).واضطر نبي الرحمة وهو بعد لم ينفض يديه من غبار الحرب وفي تلك الظهيرة القاسية، أن يعلن الرحيل، ولم يثنه عن أمره توسل المسلمين بأن يتأخر عن أمره. فإنه (ص) حاول بأن يسير ليطوي هذا الحديث عن اسماع الناس، ويشغلهم عن التحدث به، والحيلولة دون التمهيد للنتائج الوخيمة المرتبة عليه ان انتشر.ولملم المسلمون أمتعتهم امتثالاً لأمر رسول اللّه بالسفر، وتقدم اليه شيخ من المسلمين هو أسيد بن خضير يلتمس من النبي أن يؤخر سفره في هذه الساعة التي يصعب بها المشي، وشمس الظهيرة تلفح وجوههم.ولكن رسول اللّه التفت اليه وقال: أوَ ما بلغك ما قاله صاحبكم؟- وأي صاحب يا رسول اللّه؟- عبد اللّه بن أُبيّ.- وما قال؟- زعم أنه إن رجع إلي المدينة أخرج الأعز منها الأذل.- يا رسول اللّه أرفق به. فواللّه: لقد جاء اللّه بك، وأن صحبه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، وانه ليري أنك قد سلبته ملكاً.ولكن رسول اللّه أصرّ علي المسير، ليشغل الناس عن حديث ابن أُبيّ، وأمر الرسول المسلمين بالتوجه إلي المدينة عائدين.ويتألم الحباب لهذا النبأ، وكاد يصعق لهول ما سمع، ويهرع إلي الرسول، ودموعه تتقاطر علي خديه، ويقف قبالته، والألم يعصره عصراً ويقول: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي، أنت واللّه الاعز وهو الأذل، أما واللّه لقد قدمت المدينة يا رسول اللّه وأهل يثرب ليعلمون: ما بها أحد أبر مني، ولئن كان يرضي اللّه ورسوله أن آتيهما برأسه لأتيتهما به، وإني أخشي أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلي قاتل أبي فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار.فقال رسول اللّه: بل نرفق به ونحسن صحبته معنا.ولكن عبد اللّه الابن لم يقتنع بهذا، وبقيت كلمة أبيه القاسية تصرخ في أعماقه، وشق عليه هذا الأمر، ولا بد أن يثأر لنبيه وللّه، فكتم في نفسه أمراً، وصمم علي تنفيذه.وفي صباح مشرق كانت فلول المتخلفين تدخل المدينة، وكان شيخ المنافقين ابن أبيّ معهم، وشاهد الناس الحباب بن عبد اللّه ممتشقاً حسامه يقف علي عتبة المدينة، والناس لا تعرف من أمره شيئاً، غير أن مظاهر الغضب كانت تثير في المشاهدين أن شيئاً يكتمه الحباب، وسوف ينفجر.وأقبل ركب المتخلفين تتقدمهم ناقة شيخ المنافقين، فوصل باب المدينة يحاول أن يلجها.فتقدم الحباب وضرب وجه ناقة أبيه بالسيف، فأثناها عن سيرها، وتعجب الناس من هذا الفعل، وصدوره من الابن البار، وصاح به أبوه، ولكن الولد الذي دفعه اخلاصه لدينه لم يأبه لصراخ أبيه، وإنما وقف أمامه وقد شهر سيفه وقال له: ألست القائل: لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟أما واللّه لسوف تعرفن العزة لك، أم لرسول اللّه، واللّه لا يأويك سقف إلا بإذن من رسول اللّه.واصفرَّ وجه الأب، وكاد يغشي عليه، ماذا يري، إن ولده يمنعه من دخول المدينة بدافع من إيمانه وعقيدته، وأدار عينيه فيمن حوله فوجد القوم في حيرة وذهول، فصاح مشدوهاً: يا للخزرج ابني يمنعني من بيتي.وكرر النداء، وصدي النداء يكر راجعاً اليه.فقد شده الناس هول المنظر، فقال الحباب لأبيه: واللّه لا تأويه أبداً إلا بإذن من رسول اللّه.وزحف المشاهدون إلي الحباب يلتمسون منه أن يسمح لأبيه بالدخول، فأبي وقال: واللّه لا يدخله إلا بإذن من اللّه ورسوله.وفشلت جميع المحاولات والتوسلات، فقد أصر الحباب أن يضرب أباه بسيفه لو حاول أن يخطو خطوة واحدة باتجاه المدينة.والأب المنكسر يقف علي عتبة البلد، والذل قد كساه خزياً وعاراً، كل شيء كان ينتظره شيخ المنافقين، إلا هذا الموقف لم يحسب له حساباً.وطال به المقام، كما طال بالمشاهدين الوقوف، ولما أعيتهم الحيلة ولم تنفع التوسلات مع الحباب ركض نفر إلي رسول اللّه ونقلوا له موقف الحباب من أبيه - رأس المنافقين - ذلك الذي نزلت في حقه سورة المنافقين كلها وانزاحت غمامة حزن، كانت قد ألمت بمحيا رسول اللّه، وقال: اذهبوا اليه، فقولوا له: إن رسول اللّه يأمرك بأن تترك أباك ليذهب إلي بيته.وأخبروه بأمر الرسول. فقال بفخر واعتزاز: - أما إذا جاء أمر النبي فنعم..وأرجع حسامه إلي غمده، ورمق أباه بنظرة طويلة فيها كل معاني التحدي والصرامة، وقال له: - لولا أمر رسول اللّه لما تركتك تدخل بيتك، ولو اجتمعت عليَّ الخزرج برمتها، إلا أن يفل صارمي ويسكت نفسي.وغض الأب عينيه علي حديث ولده، وأرخي عنان ناقته، وسار مخذول الجانب إلي بيته ليتقي فيه عيون الناس التي لاحقته من باب المدينة حتي بيته، وهي كسهام المنية توغر صدره وتذكره بموقفه المخزي، وبطولة ولده في الدفاع عن عقيدته ودينه تلك التي سيمجدها التاريخ مهما طال وامتد.واستقبل الرسول الحباب مبتسماً، ثم يلتفت الي أصحابه الملتفين حوله فيقول: (لقد وقف الحباب موقفاً من الاسلام تجلي فيه صدق العقيدة والإيمان. وفق اللّه الحباب، وجزاه عن الاسلام خيراً).

سعد بن الربيع

جزاك اللّه يا سعد، فقد أخلصت لدينك، ووفيت لنبيك.هكذا افتتح حديثه الشيخ أبو معاذ في ليلته هذه.. وسكت قليلاً، وبدأت أنامله تلعب بلحيته، وكأنه يستعرض ذكريات الماضي بشيء من التفكير.. ثم قال: كان سعد بن الربيع من كبار الخزرج، وزعمائها. وقد سمع - كما سمع غيره - حديث الدعوة، وما يحيطها من أحداث في مكة، وكان يشعر في أعماقه برغبة خاصة لسماع أحاديث وأنباء الدعوة. ولكنه لم يجرأ أن يحدث بذلك أحداً.وتشاء المقادير أن يخرج عدد من الخزرج الي موسم الحج وكان رسول اللّه من عادته أن يذهب لزيارة الحجاج والقادمين كلما طرق مكة حاج أو قادم، يعرض عليه الاسلام، ويقرأ له آيات من القرآن، وهكذا كان يبلغ رسالته المقدسة.وعرف النبي أن عدداً من الخزرج وصلوا مكة، فاستقبلهم وأحسن بهم الترحاب، وتحدث لهم ما جلب نفوسهم اليه، ثم أخبرهم عن رسالته ودعوته.. فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا واللّه إنه النبي الذي توعدكم به اليهود، فلا تسبقنكم اليه.. فأجابوه إلي ما دعاهم. وأخبروه بأن لهم قوماً كثيراً سوف يخبرونهم بذلك، وعسي أن يستجيبوا له.وعاد الركب الي المدينة، واجتمعوا بقبائلهم وتحدثوا لهم عن دعوة محمد، وأهدافها القويمة، ولم يمرّ وقت طويل حتي كانت غالبية الخزرج قد دخلت الاسلام. كما استجابت لها وجوه من الأوس..وحلَّ الموسم الجديد للحج، وقصد مكة (اثنا عشر رجلاً) من الخزرج والأوس، والتقوا بالنبي ب(العقبة) فبايعوه علي كل شيء عدا القتال.. وسميت (العقبة الاولي).قال الراوي: (وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) علي بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، علي أن لا نشرك باللّه شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف...).وعادت القافلة الي المدينة، ومعها رسول محمد (مصعب بن عمير) أمره أن يُقرئهم القرآن، ويعلمهم الاسلام، ويفقههم في الدين.. عادت القافلة، وهي تحمل من مسؤولية العقيدة ما يخفف عنها وحشة الطريق، ويحدوها شوق متناهي علي الحفاظ والوفاء لهذه الدعوة الجديدة.وطوي العام أوراقه الخضراء والصفراء، وأجدبت أرض وأمرعت أرض، وقرب الموسم الذي يقصد الناس فيه مكة.. وعاد مصعب الي مسقط رأسه ليجدد عهداً برسول اللّه، وكان معه عدد كبير من المسلمين.. وتم الإتفاق علي أن يكون الموعد هو: (العقبة).وفي ليلة مشرقة، وبعد أن مضي منها جذوتها الأولي، وهدأت الأنفاس، وهوّمت العيون تسلل عدد من الأوس والخزرج ممن صحبوا مصعباً إلي مكان التلاقي، واجتمعوا في الشعب عند العقبة وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً، وامرأتان هما: نسيبة بنت كعب، أم عمارة، وأسماء بنت عمرو، أم منيع..ولم ينتصف الليل حتي أقبل محمد، ومعه العباس بن عبد المطلب - وهو يومئذ لم يدخل الإسلام -، لكنه أراد أن يستوثق من أمر ابن أخيه، فلما تكامل المجلس، قام العباس خطيباً: يا معشر الخزرج [5] إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه أبي إلا الإنحياز اليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه اليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به اليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه ومن بلده.فقام أحد الزعماء، وقال للعباس: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول اللّه، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت..واستعد رسول اللّه للحديث، وسكت الكل، فكأن علي رؤوسهم الطير، وعيونهم تعبُّ من نور النبوة ما يقوي عزيمتهم ويشد إيمانهم.وتكلم رسول اللّه (صلي الله عليه وآله)، وتلا القرآن، ودعا إلي اللّه ورغب في الإسلام.. ثم قال: أبايعكم علي أن تمنعوني مما تمنعون منه عوائلكم وأبنائكم.فأخذ البراء بن معرور - وهو من كبار الشخصيات - بيده وقال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا [6] فبايعنا يا رسول اللهّ، فنحن واللّه ابناء الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر..وتكلم أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول اللّه، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك اللّه أن ترجع إلي قومك وتدعنا؟فتبسم رسول اللّه، وقال: (بل الدم بالدم، والهدم بالهدم [7] أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم) وانتهت بيعة (العقبة الثانية).ثم قال الرسول: اخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس..ثم ان رسول اللّه (ص) قال للنقباء: أنتم علي قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسي بن مريم، وأنا كفيل علي قومي - يقصد المسلمين - قالوا: نعم..وقبل أن تمد الأيدي للبيعة، وقف أحد الأصحاب، وهو يخاطب اخوانه قائلاً: يا معشر الخزرج، هل تدرون علامَ تبايعون محمداً؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه علي حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن اتركوه، فهو واللّه إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه، علي نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه، فهو واللّه خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه علي مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا يا رسول اللّه إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا: أبسط يدك، فبسط يده فبايعوه..وتسرَّب النبأ لقريش، وحاولت ان تستقصي الحقيقة لكنها فشلت، ولم تتحقق منه إلا بعد فوات الأوان، وعاد الركب الي المدينة.ثم سكت ابو معاذ قليلاً ريثما يستريح، وبعدها عاد للحديث قائلاً: وكان سعد بن الربيع أحد النقباء الاثني عشر، الذين اختارهم الأنصار ليكونوا فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسي بن مريم.. ولا أنساه وقد خرج مع من خرج لاستقبال رسول اللّه، وقد أطلَّ ركبه الكريم علي المدينة كل يود أن يحل محمد ضيفاً عليه يُشرّف بيوتهم. ويقول سعد له: يا رسول اللّه، هلم الينا، الي العدد والمنعة.. ولكن النبي الكريم، يقول له ولأصحابه: خلوا سبيل ناقتي، فانها مأمورة.. وبعد لحظات تقف علي باب دار ابي أيوب الانصاري.. وكان سعد أحد اولئك الأشخاص الذين لازموا الرسول، واعتنوا بأمره، واهتموا بدعوته.وقويت شوكة المسلمين، وأعلن الرسول عن عزمه علي غزو قافلة المشركين العائدة من الشام بقيادة ابي سفيان.. وعلمت قريش بهذا النبأ، فزحفت بقوتها وعدتها متجهة نحو المدينة.. ولم يقف الجيش الزاحف إلا ببدر، وبين عشية وضحاها دارت الحرب قوية عنيفة بين الحق والباطل، وكان نصيب سعد بن الربيع نصيب الأبطال في هذه المعركة، وعاد الي المدينة يرفل بالنصر والمجد.ثم كانت أُحد، وهرعت قريش بكل إمكاناتها لعلها تنال ثأرها.. وبلغت الأخبار رسول اللّه، وعرضها علي أصحابه ليقطعوا برأي فيها، واحتدم الجدال، وطال النقاش، بين مصرّ علي مجابهة الأعداء بالعنف، ومقارعتهم بالسيف، وبين من يختار العافية، ويفضل السلم، إلا إذا غزوا في عقر بيوتهم..وكان سعد بن الربيع حريصاً علي مواجهة الموقف بالحزم والشجاعة، طالما وانهم علي الحق، ولا يهم البطل القتال، خاصة وانهم عاهدوا رسول اللّه في العقبة ان يكونوا سيوفاً مسلولة علي أعدائه، لم تغمد إلا في صدورهم، ولم ترد عن نحورهم..ولاحظ الرسول ان الوقت امتد في الجدل والنقاش، ولا بد أن يضع حداً لذلك، فقام ودخل داره ولبس لامته، وتعمم بعمامته، وخرج علي قومه معلناً «ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتي يقاتل». وكان هذا التصميم من النبي انذاراً لأن يضع حداً للقيل والقال، وما ان يشاهد الأصحاب نبيهم علي هذا اللون من العزم والتصميم، حتي تراكضوا لبيوتهم استعداداً للرحيل..وزحف محمد (صلي الله عليه وآله) بجيشه الذي ناهز الألف بين راجل وفارس، وقد علمتهم بدر ان النصر لم يكن مقروناً بالكثرة والعدد الوافر، وإنما هو من اللّه يمنحه من يشاء، ولمصلحة ما..وتقابل الطرفان، وقد حمي الوطيس بينهما، ودارت المعركة ضارية، وقد اتسمت بالبطولة والوفاء من جهة، والحقد والعصبية من جهة أخري.. وتساقط الأبطال من كل فريق، وألحت سيوف المسلمين المغاوير تحصد من حشود الكفار ما شاءت، يلفها ابن أبي طالب، ويفريها أسد اللّه حمزة بن عبد المطلب، ويشتت شملها مصعب بن عمير، ويصول عليها سعد بن الربيع، وكاد النصر يرف علي المسلمين، لولا طمع الطامعين وأصحاب النفوس الضعيفة يتركون مؤخرة الجيش، فيوقع فيهم خالد بن الوليد - قائد الجيش المعادي حينذاك - يقول الراوي: واللّه لقد رأيتني أنظر إلي خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل أو كثير. إذ مالت الرماة إلي العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للجبل فأتونا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا أن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء..كان يوم أُحد يوم بلاء وتمحيص، أكرم اللّه فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة، وكان أصل البلاء علي المسلمين خالد بن الوليد فقد تربص الفرصة لينقضّ علي المسلمين. وفعلاً كان ما أراد وخلص هو وكتيبته إلي النبي، ورمي بالحجارة، فأصيبت رباعيته وشج عتبة بن وقاص وجهه، وأخذ الدم يسيل عليه، وصار يمسح الدم، وهو يقول: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلي ربه).والتفّ عدد من خلص الصحابة بالنبي فطوقوه من كل جانب ومنهم سعد بن الربيع، ولم يكن علي بن أبي طالب الا ذلك الفارس الذي ينقضّ علي الأعداء بجراءة وبطولة لم يشاهد مثلهما في تلك الحرب، يكشف الحشد عن ابن عمه، ويخفف الضغط عنه.وخط الظلام، ويأس أبو سفيان من النصر، وانه لا سبيل له علي قتل محمد، وما دام علي وأمثاله يدافعون عنه ببسالة وموت.. وإن الحرب أكلت السواعد القوية من أبطاله.. وإن أصحابه يفضلون إنهائها، فلا أمل عندهم للغلبة، وكفاهم ما أنزلوه بمحمد من خسائر.. وقتل حمزة خسارة لا تعوض.ووضعت الحرب أوزارها، وأغمدت السيوف، وغادرأبو سفيان وصحبه أرض المعركة. بعد ان جمعوا فلولهم، وتركوا قتلاهم.. عند ذاك أمر النبي أصحابه أن يفرغوا لقتلاهم ومداواة المجروحين.ثم التفت عليه الصلاة والسلام إلي أصحابه قائلاً: (من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع، أفي الأحياء هو، أم في الأموات)؟.وقام أصحاب الرسول بالبحث بين القتلي والجرحي عن سعد فوُجد جريحاً، وهو بين الموت والحياة، فوقف عليه أحد المسلمين وقال له: إن رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟.وتعثرت الكلمات علي شفتي الجريح، وهو يصارع الموت وبكل جهد ردّ علي صاحبه قائلاً: أنا في الأموات، وأبلغ رسول اللّه عني السلام، وقل له ان سعد بن الربيع يقول لك جزاك اللّه عنا خير ما جزي نبياً عن أُمته.. وسكت الجريح لحظة ريثما يسترد أنفاسه المتقطعة، وهو يشير الي الرجل أن ينتظر قليلاً.. ثم تكلم، وخرجت الكلمات هادئة من فم أثلجه الموت..وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: إن سعداً يقول لكم: انه لا عُذر لكم عند اللّه ان خُلص الي نبيكم، ومنكم عين تطرف..وتثاقلت حالة سعد، وجحظت عيناه، وشهق، ومات.وأخبر الأنصاري النبي ما قاله سعد، كما بلَّغ الأنصار مقالته.. ورفع النبي (صلي الله عليه وآله) يديه الي السماء، وهو يقول: (اللهم ان سعد بن الربيع في ضيافتك، وقد جاهد من أجل دينك، فنوّر قبره، واقبل منه فداءه).رحمك اللّه يا سعد وجزاك عن نبيه خير جزاء، فقد ختمت حياتك الشامخة بالتضحية والفداء.

مصعب بن عمير

وأقبل الليل، وأقبل معه عشاق حديث الشيخ أبي معاذ الي مجلسهم، وشوقهم اليه لا ينقطع.. وكان في حديثه الليلة متفتحاً يصوغ الكلمات جميلة، وينمق أسلوبه الحلو، بما يجلب به أنظار السامعين.. قال: لفَّ مكة وشعابها حديث المتسللين في آناء الليل، وأطراف النهار الي دار الأرقم يستمعون الي حديث محمد، وقد تجمع عنده عدد فيهم الكبير والصغير، وفيهم السيد والعبد، وفيهم الذكر والأنثي، وكل يوم آخذ بالتكاثر.وفكرت قبائل العرب في مكة بأمر هؤلاء، وخطرهم علي آلهتهم، وانعقدت الندوات، وازدحمت المجالس للتداول بشأن هذه الدعوة الجديدة، وقد توسع أمرها حتي لم يبد غريباً علي الأسماع أن يقال: فلان تبع محمداً، وفلان أصبح من أعضاء بيت الأرقم، ويلوي القوم جباههم متألمين، يكتمون في صدورهم زفرة الخسران، وحسرة الفرقة.وذات يوم يقبل أبو سفيان علي البيت، وقد بدا عليه الغضب ونزَّ الحقد من عينيه، فالتفت القوم اليه، وشيء من الاهتمام قد ظهر عليهم، انهم جميعاً يعرفون أن وراء أبي سفيان حدثاً جديداً وصاح به عتبة: - ماذا وراءك يا أبا معاوية؟واجتاز أبو سفيان هذه الحلقة دون أن يلتفت الي السؤال وهو يتعثر في مشيته، فلا يكاد يبصر طريقه من ظلام الحقد.وأحس شيبة بخواطر صاحبه، فاستقبله وقد افتعل موجة من الحزن، وبدا كأنه يواسيه في بليته: يا أبا معاوية، لو تجلس معنا قليلاً نتراشد أمر هذه الجماعة التي انداحت لسحر محمد.وتكشفت أسارير الرجل، ورضي من شيبة هذا الاستقبال وتوسط القوم وأخذ يضحك حتي انقلب علي قفاه من الضحك ولم يستغرب الجالسون منه هذا الحال، فقد تعودوا ان يروا منه هذه النوبة كلما طرأ عليه جديد، أو ألح عليه حدث، يدور حول محمد ودعوته.وأفاق قليلاً قليلاً من حالته، فالتفت الي الجالسين قائلاً: أتعلمون ما حدث اليوم؟ لقد أخبرني عثمان بن طلحة، بأن فتيعبد الدار (مصعب بن عمير) قد صبا لدين محمد منذ مدة قصيرة وصار يتردد علي دار الأرقم كلما جن عليه الليل، ينفث فيه يتيم بني هاشم سحره.وتعلو الدهشة الجميع، ويصرخ ابو جهل: وحتي هذا الفتي الوسيم الذي يقطر رقة ودلالاً ينحاز الي محمد، ويصبح في عداد أصحابه؟ يا لخسران آلهة قريش.. لا واللات والعزي، لا بد ان نضع لهذه المهزلة حداً.. وتفرق الجمع، وفي تفكير كل واحد منهم مخطط يضعه للوقيعة بمحمد ودعوته.كانت مكة تعرف مصعب بن عمير شاباً وسيماً، عليه من هيبة الجمال ما يحببه عند أهل مكة.. يرتدي أغلي الثياب ويتعطر بأحسن العطور، وكانت تشخص اليه العيون كلما مر في شعاب البلد وطرقاتها. تعب من جماله ما تمتلئ به عيون الناظرين، وتستنشق من عبيره ما يبهر الانوف، وكان أكثر من هذا وذاك.وانتشر حديث مصعب وإسلامه كالبرق بين الناس، وكلهم يتساءل: ما الذي حدا بمصعب ان يصبو الي دين محمد الجديد؟وهرع الجميع الي بيت عمير يشكون اليه أمر ولده، وفي الطريق يهمس ابو جهل في أذن عتبة: ما رأيك لو قتلنا مصعباً وأرحنا آلهتنا منه؟.. لقد صبا الرقيق والمستضعفون فسكتنا وقلنا ليس لهم أثر في كياننا، أما الآن فقد انجر الأمر الي بطون العرب، وهذا ما كنا نخشاه، فما تري لو قتلناه واسترحنا منه؟فردَّ عليه عتبة وهو يحملق في وجهه: لا سبيل لك علي قتله، إن لمصعب محبة في قلوب الناس، فلا يتركوه وحيداً في الميدان.. مضافاً ان لعمير مكانة بين أهله وصحبه، وليس من السهل عليهم ان يتركوك سالماً بعد ان يقتل فتاهم.وزمَّ ابو جهل شفتيه، وكأنه قنع بما قاله عتبة، فهو علي صواب. إن لمصعب محبة في قلوب الناس. وهما بهذا الحديث إذ أشرفا علي حي عمير بن هاشم بن عبد مناف سيد قومه، وكبير سراته، فاستقبلهم هاشاً مرحباً.ولكن أبا جهل لم يطق السكوت ريثما يهدأ الجميع، بل انتفض في وجه عمير، وقد شهر حسامه، والشرر يتطاير من عينيه، وصاح: أعلمت يا أبا زرارة ما كان من أمر ولدك مصعب إنه صبا إلي دين محمد، وخرج علي آلهتنا، فإذا لم تردعه عن غيه فإن سيوف قريش أولي بتأديبه من غيرنا.ولوَّح بسيفه أمام عمير ثم كر راجعاً.وطافت علي وجوه القوم سحابة من تأثر واشمئزاز من تسرع أبي جهل وتهوره، فلم تكن إهانة عمير بالأمر الهين. فاستشاط غاضباً، وحاول أن يرد عليه بالمثل، ولكن عميراً سمح لأبي جهل إهانته لأنه في بيته، غير أن هذا لم يخفف من غضبه.وبكل رفق ولين التفت اليه أبو سفيان وقال: رفقاً بابن عمك يا أبا مصعب إن أبا الحكم لم يقصد بك، ولا بولدك سوءاً إنما هي شنشنة هدرت، وحرقة طغت، فاغفر له زلته.وتفرق القوم إلي مضاربهم، وهم يأخذون علي أبي جهل موقفه من عمير.ويعود عمير إلي الدار ليحدث زوجته عن أمر ولده.ومع أفول الشمس ينسل الشاب الوسيم من جماعته ليأخذ طريقه تحت جنح الظلام إلي دار الأرقم، ليجتمع بمحمد ويعب من حديثه أنداه وأعذبه.ويلتفت الفتي يمنة ويسرة، ودقات قلبه تتعالي كلما اقترب من دار الأرقم، وتغوص في أعماقه أفكار وأفكار، وتجتاح ذهنه أكثر من خاطرة، فيدور معها، وكأنما مشدود بها شداً وثيقاً لا يمكن أن يتحرر منها، ومهما حاول أن يقطع سلسلة خواطره، فإن محاولاته تبوء بالفشل.وعلي عتبة دار الأرقم تجسمت خواطر مصعب، وتصارعت أمامه صور وذكريات، كل منها تأخذ لنفسها إطاراً صاخباً.طارق جديد علي أفكاره يلح عليه بالولوج، وقد أخذ بمجامع قلبه، يدفعه دفعاً حيث يريد.. صوت محمد يرن في أُذنيه، كالنغم الهادي يداعب عقله وحسه، فيعيش في عذوبته طويلاً طويلاً ووجوه مشرقة بالإيمان تنفث إلي أعماقه روحيتها، كخفة الهواء وانسياب العطر.ثم صورة مكة وسكانها، وصورة أبيه وأُمه، وقومه وموقفهم منه لو عرفوا أمره ماذا يكون مصيره معهم، ويخطر في نفسه خاطر يلتاع له، ويهتز جسمه هزاً خفيفاً. ذلك منظر أبي جهل وحربته يطارد أصحاب محمد يذيقهم ألواناً من عذابه، ويسيمهم أنواع البلاء.. يتصور كل هذا، ويفكر بعواقب كل هذا. وتوشوش له بعض الخواطر بالعودة من حيث أتي ليسهر، ويمرح مع فتيان الحي، اولئك الذين خلفهم في رحبة بيته.ولكن صدي الإيمان من أعماقه يتعالي، ويدفعه دفعاً رقيقاً الي دنياه الجديدة، وليذيقه أبو جهل وزمرته ما شاؤوا من عذاب وليصنع أبوه به ما يحب، فإن إيمانه ماض به الي حيث دار الأرقم، الي نداء الضمير، الي موعد محمد.ويلج الدار، ويستقبله الصفوة من الأصحاب مبتسمين يشرق عليهم إيمان الدعوة وتصهرهم عواطف العقيدة، وينساب اليهم الصوت الرزين، يتلو عليهم من آيات اللّه ما شغف بها قلبه وتغور الي أعماقه قوة تلك الكلمات، فتتهلل أساريره إشراقاً وابتهاجاً، وهكذا كان نصيب مصعب من دعوة محمد في بدء تكوينها.وفي مساء ليل داكن يعود فتي عمير الي بيته يقطر رقة وعذوبة - كعادته - من مجلسه، وفي عتمة الظلام يلمح ظلاً خفيفاً علي باب بيته يقترب منه رويداً كلما اقترب الي داره.وعن مقربة من بيته، سمع صوت أمه الحنون يزحف اليه بشيء من الحنان والحزن. وهي التي كانت شديدة الولوع به، كما كان والده شديد المحبة اليه، حتي لا يمكنهما مفارقته. ويجمد الدم في عروق مصعب، ما الذي حدا بأمه أن تقف منه هذا الموقف، والليل قد نزع عنه ظله الكبير، ولم يبق منه إلا طرف خفي؟.ويا لهول ما سمع منها أن أباه علي وشك الانفجار من الغضب فقد عرف بكل شيء، واكتشف ما كان يخفيه عنه، وقد أصبح عالة علي والده، ومصدراً لأقاويل المتشمتين، كأبي جهل وأبي سفيان وأضرابهما.ودارت في رأسه أفكار وخواطر هل سيصارح أباه بالحقيقة أو يكذب عليه، هل يعطيه المواثيق بعدم العودة لدار الأرقم أم يصرّ علي المضي بأمره، وهكذا دارت في رأسه هذه الأفكار والخواطر وهو يجتاز عتبة الدار، وحاولت أمه أن تثنيه عن الدخول في هذه الساعة الهوجاء التي فيها أبوه كالبركان من شدة الغضب.ولكن إيمان الفتي بدعوة محمد دفعه إلي مصارحة والده بالواقع الذي يتبناه.. انه لن يسمح لنفسه بالتراجع، والعودة الي الوراء، فالصراحة هو الحل الوحيد، وليتحمل مواجهة الحقيقة بجنان ثابت ومهما كلف الأمر.واصطدم بأبيه فلمح موجة من الغضب تطفو علي ملامح هذا الشيخ، وارتسمت علي قسماته صورة مشوهة للرجل الذي ضاق بدنياه، واسودت أيامه.ووقف بين يديه، وقد أشاح بنظراته عنه، وحاول عمير أن يتكلم فخانه التعبير، ثم نطق، وفي طيات حديثه شيء ينم عن حزن دفين، ولم يطل التساؤل والاستفسار بينهما، بل انقض عليه أبوه، وأوثقه كتافاً، وصاح بأهله المجتمعين حوله ان يحملوا مصعباً الي البيت الذي أفرده له ليسجن فيه، حتي يعود الي صوابه.وتمر الأيام، والفتي الوسيم رهين السجن قد طال شعره وذبل ضوءه، وبهت شروقه ويتركه جميع متعلقيه، فلم يتردد عليه سوي والدته، وهي تكاد تموت شفقة علي ولدها الذي سرق نوره ثقل السجن وامتص جماله كابوس الهم، وكلما حاولت ان تثنيه عن عزيمته للدعوة الجديدة لينعم بالحياة السعيدة التي يفرشها له أبوه، كان يزداد صلابة وإيماناً بعقيدته.وهكذا ديدن أصحاب محمد بين تعذيب وتشريد، وسجن وتبعيد، مما اضطر الرسول الأعظم أن يدعو أصحابه الي الهجرة هرباً من أذي قريش الي مكان بعيد عن عيون الحاقدين ويختار لهم الحبشة.وتزحف الصفوة الطيبة الي تلك الديار النائية لتتقي بهذا السفر المضني مشقة الأذي، والعذاب من هؤلاء القساة.ويترامي النبأ الي أسماع مصعب، وهو في سجنه الانفرادي ويفكر في اللحاق بهم، وطال به التفكير. وفي زحمة الخواطر المرة تدخل أمه عليه، وترثي لحاله، ويؤلمها ان تري حبيب قلبها وهو رهين آلامه.ويفيق علي آهات امه وزفراتها التي نفرت منها دون إرادة وقصد، ويلتفت اليها، وقد طبع علي ثغره ابتسامة هادئة وقسماته تنمُّ عن توسل عميق: - يا أماه، هل لك ان تسدين لولدك خدمة فأنا بحاجة اليها؟وتهش الأم المنكوبة لطلب ولدها - وإن كانت لا تعرف بعد ماهيته -.- يا أماه اريد ان تساعديني علي الهروب لألتحق بركب محمد الي الحبشة.وترتسم علي وجه الأم كآبة وحزن. إن سجنه بهذه الحالة أهون عليها ان يبعد عنها الي أرض النجاشي.ولكن مصعباً لم يهدأ من تكرار الطلب عليها. ويوضح لها بأن في هذا العمل سلامته. وأخيراً تخضع الأم لطلب عزيزها وتساعده علي الهرب، والتخلص من سجن أبيه، ويلحق بقومه وتضم الصفوة الطاهرة أرض النجاشي عهداً ليس بالطويل.وتشرق شمس، وتغرب شمس، ونور الاسلام يمتد مع الأيام حتي يقوي ويشتد، وتنهار أمامه حشرجات الظلام.. وعلي ضوء الصباح تعود القافلة المسلمة، توشح طريق الإيمان بالأمل.ويعود مصعب مع من يعود، وهو في عودته أقوي جناناً من قبل، لا يهاب سطوة قريش، ولا سخط أبيه.وعلي قارعة الطريق تقف أُم مصعب مع الواقفات يشاهدن موكب المسلمين، وهم يعودون سالمين إلي أوطانهم.. وتحاول الأم الشفيقة أن تتشبث بولدها، ولكن المسلم الجريء يدفع أُمه برفق، ثم يرمقها بنظرات عاطفية، ويتفوه والدمعات تنتثر علي وجناته، وهو يخاطب أُمه: يعز عليّ واللّه أن أمتنع من استقبال أبي وأمي، فليس لمسلم أن يطرق باب المشركين، ولو كانت دار أبيه وأمه.وتكتم الأم زفرة بين طيات صدرها وتنثني عائدة إلي الدار فتلمح عميراً، وهو علي عتبة الباب وقد تسمرت عيناه إلي وضح الطريق، ودمعة تترقرق في مآقيه.وبين صدي النشيج المنساب، تقول الأم المحزونة: يا أبا زرارة: إن مصعباً عاد مع القافلة، ومسحة من إشراق تظلله. وهالة من إيمان تحيطه.فيقاطعها عمير، والثورة تؤز في كيانه: اسكتي، وكأنك ملت إلي هذا الدين الجديد، أخشي أن يسمعك أحد فيصيبنا بسوء..وتلملم الوالدة الحزينة دمعة نافرة في مآقيها ثم تنثرها مدراراً.ولا يمسي المساء حتي يزهد مصعب بأمره، ويترك مظاهر الرقة والدلال، ويبعد عن عينيه مظاهر النعيم والترف، فالإسلام يحارب هذه المظاهر الزائفة، ولا بد من أن يواسي اخوانه الفقراء.ويرمقه الرسول الأعظم، وقد نزع عنه ابراد الحياة الناعمة فيتأثر لذلك، ويدعو له بالخير.كان مصعب لا يلبس إلا أرق حلة، ولا يتطيب إلا بأحسن طيب، ويمر الزمن وإذا به يرتدي فروة قد رفعها عن كاهله قليلاً لخشونتها، فيبكي محمد رقة عليه.وفي ضحوة النهار طلق مصعب دنياه الجملية الضاحكة وأخلص لدينه، وكان بهذه الصفات العالية نال المكانة المرمومة عند النبي (صلي الله عليه وآله).ويقصد النبي مكة في موسم الحج ليبلغ رسالته، ويقدم عليه وفد المدينة من الخزرج والأوس - وهم يشهدون بالتوحيد ورسالته - ويطلبون منه أن يرسل معهم معلماً وموجهاً.. ويري الرسول أن مصعباً خير من يقوم بهذه المهمة، فيقول له: - يا مصعب: أترغب في خدمة تؤديها للمسلمين؟.- لبيك يا رسول اللّه.- إرحل الي المدينة - وكان ذلك قبل الهجرة بقليل - وعلم المسلمين القرآن، وفقههم في الدين.- سمعاً وطاعة يا رسول اللّه.ويرحل مصعب مع الوفد المدني، ليؤدي رسالته المقدسة ويبلغ ويرشد.. ويتخذ من دار أبي أمامة، أسعد بن زرارة مركزاً له.. وتجمع حوله عدد من الذين نوَّر اللّه قلوبهم بالإيمان يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين حتي صار معروفاً في المدينة ب(المقرئ).وذات ليلة قمراء يحدث أبو أمامة ضيفه مصعباً، فيقول له: لو تري أن نخرج غداً لسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير وهما سيدا الأوس، وتعرض عليهما الاسلام، فعسي أن يستجيبا للدعوة وفي ذلك إيمان الأوس.وفي الصباح قصد الرجلان زعيمي الأوس، ولم يبلغا مضارب الأوس، حتي بلغ خبرهما سماع سعد وأسيد، فضاقا بهما ذرعاً والتفت سعد الي أسيد طالباً منه أن يذهب الي الرجلين، ويطلب منهما أن يعودا من حيث أتيا، فهما لم يقصدا هذه الديار إلا ليسفها ضعفاءنا، ويضعضعا شبابنا، ما لنا ولهم، ولولا أن سعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، فهو ابن خالتي ومصعب صاحب محمد ضيفه، ولا أرغب أن أكون قاسياً معه.وتوجه أسيد اليهما، وما أن وقعت عين أسعد عليه، حتي قال لمصعب: هذا سيد قومه قد أقبل عليك، فاصدق اللّه فيه.قال مصعب: أرجو أن أوفق في ذلك.ووقف أسيد عليهما، وهو شاهر حربته، وقال لهما: ما جاء بكما الينا، نحن لا نرغب في قولكما.وبكل هدوء قال له مصعب: لو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته ذهبنا عنك.قال: أنصفت.. ثم ركز حربته، وجلس معهما، فكلمه مصعب بالاسلام، وقرأ عليه القرآن.يسمع أسيد هذا الكلام، ويأخذ لبه، ويسيطر علي مشاعره.. وتمر به ساعة، وهو لا يعرف عن نفسه شيئاً، لقد انصهر بالحديث، وأعجب بالآيات الكريمة، ولم يلتفت إلا وهو يميل إلي مصعب قائلاً: وكيف أدخل في الاسلام.. ما أحسن هذا الكلام وأجمله، وما أعظم هذه المثل التي يتبناها دينكم.. أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسوله وعبده..ووثب دفعة وعاد راجعاً الي صاحبه سعد بن معاذ.. ويدخل عليه، وهو بين قومه في مجلسهم فلما نظر اليه سعد بن معاذ مقبلاً، قال: أحلف باللّه لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم..فلما وصل أسيد الي المجلس، قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فواللّه ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما، فقال: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن لهما معك حاجة، فلو أجبتهما.. فقام سعد لهما، ولما أقبل قال أبو أمامة لمصعب: جاءك واللّه سيد من وراءه قومه، إن تبعك لم يتخلف عنك منهم اثنان.وما أن وقف عليهما حتي بادرهما بقوله: وماذا تريدان مني.. فقال له مصعب: اجلس واسمع، فإن رغبت بما قلنا وإلا تركناك.. فجلس معهما. فتحدث له مصعب عن الاسلام وقرأ عليه القرآن.. وهما في هذه يقول أسعد: عرفت واللّه في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم.. ولم ينته مصعب من حديثه حتي نوَّر اللّه قلب سعد بن معاذ، وأسلم.وعاد الي قومه، ووقف بينهم، وهو يقول: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتي تؤمنوا باللّه وبرسوله..ولم يمسِ المساء علي أحياء الأوس إلا وأسلموا، ولم تتخلف منهم إلا بيوت بقيت ولم تشمل بالهداية..وعاد مصعب مع مضيفه أسعد الي مقامهما، وهما سعيدان في هذه الخطوة.ومرة اخري يخاطب الرسول مصعباً: كيف تكون لو وقع أحد من أهل بيتك أسيراً في يديك، فهل تأخذك الرقة والعاطفة؟- يا رسول اللّه لا تأخذني في سبيل اللّه رقة وعاطفة، حتي ولو كان أبي أو أخي.ويعلن النبي النفير العام بين المسلمين استعداداً لغزوة (بدر) وتزحف جيوش المسلمين لتقابل جيشاً سدَّ الخافقين، ومصعب يحمل لواء المسلمين.ويلتحم الجيشان، ولم تنحسر المعركة إلا وزرارة بن عمير أسير بيد أخيه مصعب، والرجل كان يحمل لواء المشركين في بدر.ونادي منادي المشركين أن زرارة أسير لدي المسلمين.وتهرع الجموع الي مصعب لتطلب منه صاحب لواء المشركين: إنه أخوك يا مصعب فارفق به، ولا تعامله بالقسوة. كرامة لأمك اطلق سراح اخيك، ولكن هيهات فلم يسمع الحشد من مصعب إلا السخرية والاستهزاء.. ولما لم ترَ أمه تزعزعاً عن موقفه تضطر هي لتفتدي زرارة بأربعة آلاف درهم فيضيفها لخزانة المسلمين.ويسمع الرسول بهذا الأمر فيطبع علي جبين مصعب قبلة الرضا، ويدعو اللّه له بالموفقية.وانطوت أحاديث بدر، وتحدث الناس عن غزوة (أُحد) وقد أصدر الرسول أمره بالتأهب لها، ويستعد المسلمون للزحف، وفي صباح اليوم المشهود انتظر القوم موقف النبي لمن يسلّم رايته، ولم يطل التفكير بهم فقد أعطي لواء المسلمين الي مصعب.وفي ساحة الميدان، وقبل أن تنجلي المعركة يخرّ مصعب صريعاً في رهج الحرب، ويحمله الرسول الأعظم الي حيث ترك أصفيائه، يودعه بدمعة حارة، فيها الكثير من الحزن، وفيها الكثير من الألم.وفي غنوة الضحي يسكن أريج العطر، وتخمد أضواء الفتوة في ساحة الحرب قضي مصعب شبابه، ومسحة من جمال لم تغادر وجهه المشرق.. ورحل ولا يملك من دنياه إلا ثوباً، فكان إذا غطوا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا رجليه، برز رأسه فقال رسول الله: «اجعلوا علي رجليه شيئاً من الاذفر»، وانتهت صفحة هذا الصحابي عن عمر ناهز الأربعين.

الخباب بن الأرت

ودارت الأيام، وأعقبتها أيام، وفي خلالها أحداث تطل وأحداث تطوي، ولكن مدينة الرسول لا تنسي موقفين، لهما في أضلاعها أكثر من صرقة وعلي عينيها من أجلهما سيل من دموع تلك هما: واقعة المدينة وما رافقها من مآسي يجزع القلم من وصفها ومأساة كربلاء التي أكلت الأفكار حزناً، وأدمت القلوب تأثراً.وكان الشيخ أبو معاذ يتجنب إعادة هذين الموضوعين علي أصحابه، ومستمعيه ويحاول أن يكرِّس أحاديثه عن ذكريات الماضين في عهد الرسالة الأولي.. ومهما يكن فإن السلسلة واحدة رغم تبدل أصحابها..فأبو سفيان هو الذي أجج النار، وأشعل الحرب، وأثارها معركة ضارية علي النبي محمد، وإذا دفنه الموت، ولم يكمل مخططه فإن معاوية بعده هو البطل الأول لتنفيذ ما رسمه أبوه من مخطط فظيع لهدم الإسلام، وتشتيت المسلمين، وكان أكثر من أبيه قوة ونفوذاً.. وإذا كانت ذرة ضرورة اقتضت - وإن كنت لا أحسب - ومنعت أبا سفيان صخر بن حرب من التوغل وراء اللاإنسانية، وازدراء الدين، فأسلم متظاهراً وإن كان في قلبه يضمر خلاف ذلك، فهو يقول في موقف حاسم بين الحق والباطل تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا من نار، إنما هي الدنيا نتكالب عليها..إذا كان هذا هو موقف الأب، ففي الولد هذا وزيادة، فإن معاوية جاء باسم الإسلام ليقتص من الإسلام والمسلمين، ثارات بدر وحنين - كما يقول المثل -، وهو يصرح دون خشية، وإن كان في مركز الخلافة - يا قوم: ما حاربتكم لتصوموا، ولا لتصلوا، ولا لتحجوا، ولا لتزكوا، وإنما حاربتكم لأتأمر عليكم.. وفعلاً نفَّذ ما أراد، وما أملاه عليه حقده الجاهلي.. ثم كان من بعده الحفيد يزيد، وهو مثال الباطل والسوء، فيضرب الدين عرض الحائط، وهو يصور تماماً الحقيقة عن واقعية هذا البيت نحو الدعوة الإسلامية، وموقفه العدائي من دعائم هذه الدعوة، إذ يقول: لعبت هاشم بالملك فلا

بلال بن رباح الحبشي

ونشر الليل أبراده، وانعقد مجلس الشيخ أبي معاذ، وافتتح حديثه قائلاً: ولنا مع بلال في هذه الأمسية، ما نقطع به وحشة الليل، ووجومه.فلقد انتشر النبأ في أطراف مكة أن بلال بن رباح الحبشي مولي أمية بن خلف قد أسلم، وعلم مولاه بهذا الخبر، وعظم عليه، وفكر في أمره، وكيف يؤدبه؟ ولقد ثقل عليه أن تلوك العرب بيته، وترميه بتحدي آلهتها.وفي حمة الغضب أرسل علي بلال. ومثل بلال بين يديه.ماذا يريد مني مولاي؟لقد هالني ما يتحدث به العرب في مكة من أن بلالاً صبا لدين يتيم قريش أهذا حقاً؟.ووجم بلال، وطافت علي سحنته سحابة حزن ماذا يقول؟أينكر الحقيقة، أم يجابه مولاه بالصراحة، وعسي اللّه أن يفتح عليه بالفرج.فصمت بلال دقائق معدودات، وكان سكوته بمثابة جواب صريح لأمية، إنه - جواب العقيدة - واضح في معالمه وقسماته لقد ارتسم الجواب علي وجهه جلياً.واستشاط أمية غضباً فصرخ بوجه بلال أتسكت وفي عينيك الجواب الصريح؟وشهر السيف في وجهه يلوح له بالقتل، والشر يتطاير من كل جارحة فيه.ونطق بلال، وفي نطقه رنة إيمان، وصدق عزيمة وتجمل بالصبر.يا أمية لا ترهقن نفسك آمنت برب محمد، وانخرطت في دعوته وأنا متحمل كل ما يترتب علي ذلك.وكان هذا الجواب بمثابة قنبلة فجرها بلال في كيان مولاه فما أن سمع منه هذه الصراحة المتناهية حتي أخذ يزبد ويرعد ويصرخ ويتوعد، ثم نهض وهجم علي عبده ومسكه من شعر رأسه وجلد به الأرض، وهو يجره جراً.- لا بد يا بلال أن ترجع عن دعوة الاسلام، يا للعار والشنار.وبلال يقابل هذا العقاب، وقلبه كزبر الحديد، لا يهاب قسوة الوحش، ولا يلين لبطشه، ولا ينهار أمام وعيده.وبكل هدوء يخاطبه الانسان العبد المضرج بدمه: - يا أمية لا ترهق نفسك وأنت شيخ كبير، إن كل هذا أتحمله منك ولا أعود عما أنا قادم عليه إن دين اللّه هو الحق وان اللّه وحده لا شريك له وهو للظالمين بالمرصاد.ويغشي علي بلال من شدة التعذيب، فيتركه مولاه جثة تشخب الدماء منها، ونفَسه يكاد يجمد علي منخريه فلا يتحرك أي جزء منه إلا نبضات قلب بطيئة الدق سريعة الإيمان.وفي مجلس من مجالس قريش، وقد ضم الكثير من سراة القوم، يقبل علي أمية بن خلف، شيخ قد هدمته السنون ليعانقه ويطبع علي جبينه قبلة، ثم يلتفت إلي الجالسين وكأنه شعر بأن الجمع قد أكبر منه هذا الفعل.يا قوم: إن أمية قد انتصر لآلهتنا اليوم، وردَّ كيد محمد وسحره.وطافت علي وجوه الجالسين علائم الدهشة والاستغراب وتعالت الأسئلة من كل جانب عن موقف هذا الرجل الذي انتصر للات، والعزي.فسرد عليهم أمية بطولته مع بلال، وكيف تركه جثة أثقلتها الجراح، ويصعب عليه الحراك.وشق علي بعضهم أن يموت بلال، وهو لم يرَ من التعذيب إلا أقله، إن هذه الصفوة التي صبَت لدين محمد تشكل خطراً كلياً علي هذه الجموع، وكان المشركون يتفننون في تعذيب هؤلاء المستضعفين ويصبُّون عليهم أقسي التنكيل، ومختلف العذاب. ولكن الأمر صار علي العكس، فإن هذه المظاهر العدائية الحاقدة من المشركين كانت تبعث المسلمين الأولين إلي التفاني في مبدئهم وتحمل أنواع التعذيب دون التراجع عن عقيدتهم.فالإيمان بالمبدأ إذا ما تركز في نفس الانسان تحمل في سبيله أي شيء، فلا يخيفه التعذيب، ولا يرهبه التنكيل، إنما العكس كل العكس في ذلك، فقد يزداد المرء صلابة، وثباتاً، ورسوخاً في عقيدته أمام كل هذه المظاهر العذابية.وهذا ما نراه جلياً في أبطالنا الاسلاميين، أمثال بلال، فقد كان إيمانهم يزداد، وتفانيهم يتوقد كلما تحالفت قوي المشركين علي تعذيبهم وإرهابهم، وكلما ساموهم أنواع الألم والأذي.والتفت أحد الجالسين الي أمية بن خلف، مخاطباً: لو نرسل أحداً الي بلال فيستقصي لنا خبره هل مات، أم لا زال علي قيد الحياة؟وذهب الرسول بحمل آمال القوم في مصير بلال او خيبتهم ويري الرسول بلالاً بعد حياً، فيسرع يزف البشري الي أسياده وينفحهم بالخبر كأنه كل آمالهم، ويحفزهم عليه بكل ما يستطيع من لباقة.لقد رأيته وهو مقوس الظهر في جذوة الشمس، وشفتاه تتمتمان بشيء لم أفهمه، وتقربت منه، وأدنيت أذني اليه، وعيناه لا تبصران من حوله فقد تجمد عليهما الدم. وسمعته يقول ويا لهول ما سمعت!!..وتصاعدت الوجوه اليه، وحملقت العيون فيه، وامتدت الألسن كأنها تلوكه، ووجم عنترة من هذا المنظر، وماتت الكلمات في فمه.وصاح به سيده وهو يكاد يتقطع من الغيظ: ماذا بك يا عنترة ولماذا لا تتكلم؟وانطلق لسانه بعد صمت: لقد سمعته ويا لهول ما سمعت.سمعته يرتل: يا اللّه يا رب محمد، يا رب الأرضين والسموات، وحدك وحدك لا شريك لك، ساعد محمداً علي دعوته، وانجه من عذاب الظالمين، وقوِّنا علي تحمُّل غضب أعدائك.. وما أن سمع عنترة ذلك حتي انعقد لسانه، وامتد الذهول الي الجالسين، ومرّت بهم لحظات كأنها السنين العجاف في ثقلها.وأخرج أمية القوم من ذهولهم قائلاً: - يا إخوان ما رأيكم في هذا الحبشي أأقتله وأستريح؟؟- لا يا أمية لا تتعجل بقتله. إن في تأديبه لفائدة. تفنن في تعذيبه.- دونكم الرجل فاعملوا به ما تشاؤون.- لا نريد ان نتدخل بين العبد وسيده إنما نشير عليك.فصاح أحدهم: ولماذا لا نتولي نحن مجتمعين تعذيبه بدلاً من أمية؟.. فالتفت اليه أحد الجالسين وهمس في أذنه: دعه يموت علي يد صاحبه، كي لا نخسر قيمته.وامتد بالجالسين الوقت حتي حانت الظهيرة، وقبل أن يتفرقوا اقترح البعض منهم ان يذهبوا مع أمية لمشاهدة بلال فلاقي هذا الطلب من نفس أمية كل الارتياح، ورافق الرجل بعض من القوم حتي إذا أشرفوا علي بيوت أمية، ألفوا بلالاً ممدوداً في ظل جدار، مقوس الظهر من الألم.. وأشار أمية اليه. إنه بلال.وتضاحك المشاهدون، وأكبروا بطولة أمية وحرصه علي حفظ مجد آلهتهم.ودارت الأيام خفافاً وتعقبها أيام، وإذا بأمية بن خلف تكون مهمته أن يخرج بلالاً كل يوم إذا حميت الشمس في الظهيرة ليطرحه علي ظهره في رمضاء مكة، ثم يأمر بأن تحمل صخرة كبيرة عنده فتوضع علي صدره، ثم يصرخ في جلاوزته: لا ترفعوها عنه حتي يموت او يكفر بمحمد، ويحيد عن دعوة الاسلام.ويطول الانتظار بالمعذِّبين فلم يسمعوا من بلال الذي ملأ الإيمان قلبه ثقة واطمئناناً إلا هذه الآيات: (قل هو اللّه أحد، اللّه الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد).ويزاد غيظ أمية ويتضايق من عبده، وكلما حاول أن يقتحم إيمانه وصموده فيقتله، يطلب منه أصحابه أن لا يعمد علي فعلته، إنما يزيد في تعذيبه ليجعله عبرة للباقين.وهيهات فالمسلمون أخذوا بالازدياد، وأصبح لا يرهبهم العذاب، ولا يخيفهم التنكيل، وأمر الرسول (صلي الله عليه وآله) بأن يفاتح أمية بن خلف في شرائه.وتقدم بعض الصحابة المتمكنين الي أمية، واستوهبوه من مولاه إزاء مال وفير.وأشرقت شمس الحرية علي بلال، والرسول الأعظم يتعهده بعطفه وحنانه، وماذا بعد هذا فإذا هو بعد أيام مؤذن رسول اللّه، لا يفارق النبي الكريم في حله وترحاله.وتزحف جيوش مكة علي المدينة، ولم يمر علي الهجرة عام ونصف عام فقد سمعت قريش أن محمداً قطع الطريق علي قافلة لها عائدة من الشام بقيادة أبي سفيان، وروعهم أن يكون الغازي لمالهم وتجارتهم محمد.وعلي بئر (بدر) - وهي علي مقربة من المدينة - تقابل الجيشان لم تكن النسبة متقابلة بين الطرفين، لا في العدة، ولا في العدد.. فقد كانت قريش بجمعها ما يعد بألف أو يزيد عليه والمسلمون لم يتجاوزوا الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ويتقدم جيش المسلمين علي بن أبي طالب، وسعد بن معاذ، يحمل الأول راية المهاجرين والثاني راية الأنصار.والتقي الجمعان في معركة ضارية، تساقط فيها الأبطال من قريش، وتناثرت قوتهم، ودب الذعر فيهم، بحيث لم يبصروا طريقهم من الخوف والهلع. وانتصر المسلمون في المعركة..وتوزع المسلمون في الميدان يتعرفون علي القتلي، وينقذون الجرحي ويمر عبد الرحمن بن عوف يحمل ما سلبه من القوم في طريقه إلي مضارب المسلمين إذ برجلين يلوذان بالقتلي، كي لا يبصر بهما أحد. ويرتفع نداء متقطع أثقله الهم، وأتعبه الجزع. يا عبد الرحمن، ويلتفت الرجل إلي مصدر الصوت فيلمح الرجلين ويقصدهما، ولما دنا منهما عرفهما: أمية بن خلف، وولده علي بن أمية - وكانت بينهما صداقة في الجاهلية - قال له أمية: هل لك فيَّ، فأنا خير لك من هذه الأنواع التي معك - وكانت بيده أدرع سلبها - قال: نعم، قال: نحن في حمايتك. فطرح ابن العوف الأدرع وأخذ بيد أمية وابنه، ومشينا، وأمية يقول: ما رأيت كاليوم قط.واسترد أنفاسه، ومسح عينيه من الغبار الذي علق بهما وجال بنظراته الشاردة الي المعركة، ثم التفت إليّ وقال: من الرجل منكم المُعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.وهما بهذا الحديث، ووجهتهما مضارب المسلمين، إذ لمحوا بلالاً مقبلاً فاضطرب امية بن خلف، وبانت الصفرة علي وجهه. هذا بلال الذي كان بالأمس يعذبه، فيلح في تعذيبه، ويقسو عليه فيتمادي في قسوته. وماذا سيكون مصيره معه الآن، ويعود فيُطَمئن نفسه أنه مع عبد الرحمن بن عوف شخصية له مكانة بين المسلمين فسيدفع عنه الموت.ويقترب بلال من المقبلين، ويعرف أمية بن حلف وابنه فيصيح في وجهه: رأس الكفر امية بن خلف، لا نجوتُ إن نجوتَ، فيقول له ابن عوف: يا بلال انه أسيري، وحميته، قال بلال: لا نجوتُ ان نجوتَ. فاحتد عبد الرحمن، وصاح ببلال: أتسمع يا ابن السوداء أنهما في حمايتي، فلم يهتم لحديثه بلال بل صاح: يا أنصار اللّه، هذا رأس الكفر امية بن خلف. أنسيت أيها الظالم ما كنت تعمله بنا. كنت الي الرمضاء اذا حميت، فتضجعني علي ظهري، ثم تأمر أن توضع الصخرة العظيمة علي صدري، ثم تقول: هكذا تبقي، حتي تفارق دين محمد.. نسيت هذا يا ظالم، ولذت بابن عوف لينجيك من الموت. لا نجوتُ ان نجوتَ، وأحاط وجماعته بالأسيرين، يقول ابن عوف: وجعلونا في حلقة كالسوار، وأحدقوا بنا وأنا أذب عنهما، وأدفع وأصيح بهم احفظوا من حميتهم، ولكن دون جدوي.فقد ضرب أحدهم بالسيف علياً فوقعت علي رجله، فوقع مضرجاً، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، قال ابن عوف فالتفتُ إلي أمية وقلت له: أنج بنفسك، فواللّه ما أغني عنك شيئاً، ولكن الرجل ما كان يود مفارقة ابنه وهو يصارع الموت ولم تمض لحظة، حتي رأيت بلالاً يتهوي عليهما بالسيف، ويتناوبه اخوان من كل جانب، حتي قطعوهما، وأنا لا أملك شيئاً، وأمام النبي (صلي الله عليه وآله) وقف ابن عوف يقول: يرحم اللّه بلالاً ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري.ويرمق النبي بلالاً، وهو يرفع يديه إلي السماء ويقول: (الحمد اللّه الذي ساعد بلالاً علي أخذ الثار ممن عذبه).وبقي بلال مجاهداً مع النبي في حروبه وغزواته.. وبعد أن لبي الرسول نداء ربه، انتقل بلال الي الشام، وبقي فيها حتي فارقت روحه الطيبة بدنه.وهكذا سجل التاريخ صفحة عن بلال تزهو بالمجد والبطولة الإنسان الذي تحمل في سبيل عقيدته أنواع العذاب والأذي، حتي ازدهر الإسلام، وقويت كلمته، واندحر أعداء اللّه.

المقداد بن الأسود

وأقبل الشيخ أبو معاذ في هذه الليلة، وهو يحمل لأصحابه حديث (بدر)، وبدأ حديثه بصوته الهادئ الرزين، وأسلوبه الجميل الجذاب، يشدّ المستمعين اليه، قال: أيها المسلمون: (هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا اليها لعل اللّه ينفلكموها).وبهذه الفقرة القصيرة، استنفر رسول اللّه الناس علي أبي سفيان - زعيم المشركين - وهو عائد بتجارته من الشام.فقد كفي ما عاناه المسلمون من قريش، وعنتها وبغيها وظلمها. ولماذا يبقي المسلمون في تلكؤ، وقد أصبحت من القوة بما يمكنها من مقابلة المشركين، بعد أن ذاقوا منهم الويلات واضطروا الي هجر مكة، والإقامة بالمدينة.والرسول الأعظم لم يقم بعمل سلبي تجاه قريش وأحقادها - طيلة هذه المدة - إلا لأنه لم يلمس في أصحابه العدة والعددلمقابلة القوم فكان موقفه الدفاع. أما وقد رأي فيهم بعض الإمكانية، فلماذا لا يحرك النفوس، ويمرنهم للهجوم.وكانت خير مناسبة هي اعتراض قافلة أبي سفيان، وهي بتجارة قريش تؤوب من الشام، اشترك فيها أهل مكة جميعهم بحيث لم يبق رجل ولا امرأة استطاعوا أن يسهموا في هذه القافلة إلا فعلوا، حتي قدرت بخمسين ألف دينار.ولهذا فقد خف الكثير من المسلمين عند أمر النبي لهم بنهب القافلة كما تثاقل جماعة عن الخروج تحسباً للمشاكل التي تستتبعها.يا أبا الحارث: أسمعت نداء الرسول، وهل أنت ملبيه؟.نعم يا أبا معبد.جزاك اللّه خيراً يا أبا الحارث.وكان المقداد بن عمرو البهراني، والمقداد بن الأسود، أبو عبد اللّه، يهمه كثيراً أمر صاحبه أبي الحارث عتبة غزوان، فقد كانا مسلمين يتكتمان بإسلامهما في مكة، ولم يتمكنا من التظاهر في الهجرة مع المهاجرين، وبقيا ينتظران الفرصة المناسبة..وأعلن المشركون أن جيشاً بقيادة (عكرمة بن أبي جهل) يتوجه لغزو محمد، وفي عشية اليوم يزحف القوم.. وقصد عتبة صاحبه المقداد.يا أبا معبد، مناسبة رائعة لو نخرج معهم، وعندما نصل إلي جيش المسلمين ننحاز لهم.نعم الرأي ما تقول.. وانضما إلي الجيش الزاحف. وبلغ الرسول الأعظم نبأ هذا الزحف، فأرسل سرية من المسلمين يتراوح عددها بين الستين، والثمانين نفراً وكلهم من المهاجرين وليس فيهم من الأنصار أحد، وأمر عليهم عبيد بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف.وسار المسلمون حتي بلغوا ماء في (أسفل ثنية المرة)، ولم تقع بينهما حرب إذ انتهت باتفاق، وانصرف المشركون عائدين إلي مكة..وكانت اللحظة الحاسمة بالنسبة للمقداد وعتبة، فلم يكد ينشغل جيش العدو بأمر عودته، حتي فرَّ المقداد وصاحبه إلي المسلمين.واستقبلهما المسلمون بكل ترحاب، وعند عودتهم إلي المدينة رحب الرسول بالمقداد فقد كان من أصحابه الأوائل.واستمر المقداد بصلته، فلم يكن جديد عهد بالإسلام فهو سابع رجل آمن بالدعوة، وكان يروي الرسول أن اللّه أمر بحب أربعة: علي وسلمان وأبي ذر والمقداد، ولهذا عندما وصل إلي المدينة، كان أحد المقربين إلي رسول اللّه، والملازمين له.وكان المقداد متحمساً - بعد أن وصل الي المدينة - لنهب قافلة قريش، وخاصة أن الرسول (صلي الله عليه وآله) يريد ذلك.. ولم يخف علي أبي سفيان، وهو في طريقه الي مكة، أن رسول اللّه استنصر أصحابه علي قافلته، فأرسل رسولاً عاجلاً الي قريش يوقفهم علي النبأ، وعلمه كيف يثيرهم.ودخل الرسول مكة، وقد قطع أذني بعيره، وجدع أنفه وحول رحله، ووقف هو عليه، وقد شق قميصه من قُبل ودُبر وهو يصيح: يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان وقد عرض لها محمد في أصحابه، لا أري أن تدركوها. الغوث الغوث.وهزّ هذا الصياح أرجاء مكة، ووقف الناس كلهم علي أهبة الاستعداد، لا بغضاً بمحمد، ولا حباً لأبي سفيان، إنما لكل منهم نصيب في هذه العير.وهذا لم يمنع أبا جهل، وعقبة بن أبي معيط أن يأتيا الي المسجد وبيد عقبة مجمرة فيها بخور، وبيد أبي جهل مكحلة ومرود، وهما يتنقلان بين المتقاعسين من الخروج لنصرة عير ابي سفيان، يقولان له: استجمر فإنما انت من النساء، او اكتحل فإنما انت امرأة..وتحشدت قريش استعداداً للزحف، ودار في كل بيت حديث لهم. انها المرة الاولي، فلو تم لمحمد ما اراد لم تبق لقريش مهابة بعدها.ان قريشاً وغير قريش من الذين ضاقوا ذرعاً بهذه الدعوة الفتية، كانوا يخشون هذا اليوم، الذي كانوا يحسبون له كل الحساب.فهذا محمد الذي تحدثوا عن دعوته كلما جال علي لسانهم من بذيء القول وخشن الكلام، وصبّوا علي أتباعه وأصحابه كلما في طاقتهم من التعذيب، والتعسف، وإذا بالأيام تدور، وتصبح له القابلية علي مقابلتها، فيعتزم مهاجمة عيرها.وتصل اخبار قريش الي الرسول تباعاً، وهو بالمدينة يتأهب للخروج، ويجمع اصحابه في رحبة المسجد، ليخبرهم بتصميمه علي الغزو، ويطلب رأي المهاجرين، وإذ ضعُفت نفوس وتخوفت اخري بعد ان بلغهم ان قريشاً زحفت بصناديدها وقف المقداد وسط الجمع بكل جرأة يقول: يا رسول اللّه، إمض لما امرك اللّه فنحن معك، واللّه لا نقول لك، كما قالت بنو اسرائيل لموسي: (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، ولكن اذهب انت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا الي برك الغماد [8] لجالدنا معك، وقاتلنا من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك.فقال له رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) خيراً ودعا له، وأشرق وجهه وسرَّه، وأعجبه.قال ابن مسعود: تمنيت هذا الموقف من المقداد أن يكون لي هو أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس.ثم التفت النبي للأنصار، وقال: أشيروا عليَّ أيها الناس.قال له سعد بن معاذ: واللّه لكأنك تريدنا يا رسول اللّه.قال النبي: أجل.قال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك علي ذلك عهودنا ومواثيقنا علي السمع والطاعة، فامضِ يا رسول اللّه لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً إنا لصُبر في الحرب، صُدق في اللقاء، لعل اللّه يريك منا ما تقرَّ به عينك، فسِرْ بنا علي بركة اللّه.وما أن أتمّ سعد كلامه حتي هلهلت امرأة من الطرف الآخر وهي تقول: مرحباً بك يا سيدنا لا فضَّ اللّه فاك.والتفت القوم كلهم اليها، وبدت عليهم الفرحة، هذه هي النساء والرجال تشدُّ أزر رسولها في عزيمته، والبشري تطفح علي وجوههم، والإيمان يقوي نفوسهم، ويدور همس بين القوم من المستبشرة؟ إنها (ام عمارة) يا رسول اللّه، ومعها لمة من نساء الأنصار يعرضن أنفسهن للنصرة.جزاهن اللّه خيراً فليرجعن الي أخبيتهن، ففي الرجال الكفاية.لقد اندفع أصحاب النبي الي الاستعداد، فقد بلغ الأمر أن يتنازع الأب والابن علي الخروج، يقول القائلون: تنازع سعد بن خيثمة مع أبيه أيهما يبقي مع النساء، فقال سعد لأبيه: إنه لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا، فقال خيثمة: آثرني وقرّ مع نسائك، فأبي سعد، فقال خيثمة: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فاسهما، فخرج سهم سعد، فقتل ببدر.ويتحدث المتحدثون - أيضاً -: ان عمير بن ابي وقاص كان صغيراً، فأخذ يتواري عندما استعرض رسول اللّه أصحابه فقيل له لماذا تعمل هكذا يا عمير؟ فقال: أخاف أن يراني رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) فيستصغرني، فيردني، وأنا احب الخروج، لعل اللّه يرزقني الشهادة. فعرض علي رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) فاستصغره فقال له: ارجع، فبكي عمير، فأجازه. وكان يقصر له حمائل سيفه لصغره، فقتل ببدر وهو ابن ست عشرة سنة.وأعلن الرسول ساعة الرحيل في صباح لم تشرق فيه الشمس بعد من أيام رمضان في السنة الثانية للهجرة، وعددهم لم يتجاوز الثلاثمائة وخمسة أشخاص.قد ملكوا من الإبل سبعين بعيراً، وكانوا يتعاقبونها، حتي رسول اللّه، فقد أردف خلفه علي بن ابي طالب، وزيد بن حارثة وذكر ان المقداد كان فارساً.وكانت راية المهاجرين بيد علي بن ابي طالب، وراية الأنصار - من الأوس والخزرج - مع سعد بن معاذ.وبعد قليل صاح رسول اللّه بأعلي صوته: (سيروا وأبشروا فإن اللّه تعالي قد وعدني إحدي الطائفتين واللّه لكأني الآن أنظر الي مصارع القوم).وعلي جانبي الطريق وقفت نساء المهاجرين والأنصار يودعن الركب الراحل بقلوب مفعمة بالإيمان والإجلال، وزغردات تبشر بالنصر والمجد.ولم تمضِ أيام حتي تقابل الطرفان يستقبلان الحرب ورفع رسول اللّه يديه إلي السماء قائلاً: (اللهم إنك أنزلت عليَّ الكتاب، وأمرتني بالقتال، ووعدتني إحدي الطائفتين وأنت لا تخلف الميعاد، اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تخاذل وتكذب رسولك. اللهم نصرك الذي وعدتني به).ودارت رحي الحرب سجالاً يجول إمام المسلمين علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب وغيرهما من أبطال المسلمين الأشاوس يكشفون الغبرة عن وجه المسلمين، ويجندلون الأبطال من المشركين، وكانوا يكرون علي الأعداء وعلي يصيح، وهو يضرب بطلاً من أبطالهم، خذها وأنا ابن أبي طالب، فيجيبه حمزة، وهو يشد علي الفارس منهم ويجندله، ويصيح: خذها وأنا ابن عبد المطلب، وهكذا بقية المغاوير.وما هي إلا فترة من الزمن حتي وضعت الحرب أوزارها وانتصر المسلمون ولاقي من المشركين حتفه كل من أبي جهل وأمية بن حلف، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة، وغيرهم من قادة المشركين.وانهزمت قريش شر هزيمة، حتي نقل عن عبد اللّه بن عمرو بن أمية قال: أخبرني من انكشف من قريش يومئذ منهزماً وإنه ليقول في نفسه: ما رأيت مثل هذا فر منه إلا النساء.وقال آخر: شهدت مع المشركين بدراً، واني لأنظر إلي قلة أصحاب محمد في عيني، وكثرة من معنا من الخيل والرّجل فانهزمت فيمن انهزم فلقد رأيتني، وإني لأنظر إلي المشركين في كل وجه، واني لأقول في نفسي ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء..وطوت المعركة أنفاس عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة وأبي جهل، وأمية بن خلف وأمثال هؤلاء الطواغيت، ولكن أبا سفيان لم يخمد، وهو رأس الفتنة، وزعيمهم.وجنَّ الليل، وقد هدأت الأنفاس المتعبة من ثقل الحرب وهوَّمت العيون، التي أرهقت من يوم عسير الحركة، دامي الوجه.. فخرج رسول اللّه، ومن خلفه من اصحابه يحرسونه منهم علي، والمقداد، ووقف علي البئر - الذي أمر فطرح به جثث المشركين - وقال: (يا اهل القليب، يا عُتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة ويا امية بن خلف، ويا ابا جهل، - ثم أتي بأسماء بعض من كان منهم في القليب -: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً.. يا اهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني، وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً؟).فقال المسلمون: يا رسول اللّه، أتنادي قوماً قد أجيفوا قال: (ما أنتم بأسمع لما اقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون ان يجيبوني).وعاد المسلمون الي المدينة والنصر يرفرف عليهم، ولكن الأيام لم تدع المسلمين في راحة. فقريش لم تنم علي ضيم، وبقيت تلاحق النبي كلما ساعدتها ظروفها من غزوة الي اخري، والمقداد الذي اخلص لنبيه، وآمن بدعوته، كان لساناً صادقاً له، وسيفاً مخلصاً في وجه أعدائه، لم تمنعه مانعة عن مصاحبة نبيه في غزواته ولا تقاعس عن نصرته لحظة ما.وآخي الرسول (صلي الله عليه و آله) بين المقداد، وبين عبد اللّه بن رواحة وقيل بينه وبين ابي ذر الغفاري..وكان موقفه المشرف يتجلي مع علي بن ابي طالب بعد وفاة الرسول، فقد وفي له، يخوض غمار الموت دونه، ويدفع عنه الأخطار ما استطاع، وشهد فتح مصر ولم يتخلف عن واجبه الديني، فهو جندي في ساحة الميدان، وموجّه في مضمار الدعوة وأمين علي الدعوة يوم تزعزع الناس.رحم اللّه المقداد، فقد كان من الفضلاء النجباء، الكبار الأخيار من اصحاب النبي (صلي الله عليه و آله) وممن رعاهم بعنايته، حتي روي عنه انه قال أكثر من مرة: (أمرني ربي يحب اربعة، وأخبرني انه سبحانه يحبهم وهم: علي، وابو ذر، والمقداد، وسلمان).وفي عام 33 لبي نداء ربه في ارضه بالجرف، وحمل الي المدينة فدفن بها وكان ابن سبعين.وإذا مرَّت هذه السنين الطوال علي وفاة المقداد، فله في أفكار المسلمين ذكري عطرة، وصفحة مشرقة تمتد مع الأيام وشروق الاسلام.

ابورافع

أسمعت أحاديث مكة وشعابها، يجتاح شيوخها، ويمرّ بكهولها، ذلك حديث فتي عبد المطلب، ودعوته الجديدة.حديث شيق يا أبا مناف، ينساب إلي قلبي انسياب العطر.- كفي. كفي يا وليد. أفيك قوي لتحمل سوط قريش ومكاويهم الحديدية. اسكت بحق صاحب هذا البيت. هذا الشيخ أقبل علينا، وأخشي أن يكون أحد من القوم فيصيبنا بسوء.وأقبل الشيخ يقترب رويداً رويداً حتي إذا وضح لهما فإذا به (أبو رافع مولي العباس بن عبد المطلب) وقد عَلَت ثغره الأسود ابتسامة مشرقة، وانضم إلي صاحبيه.كيف أنت يا أبا رافع اليوم، أذهبتَ إلي دار الأرقم، أسمعت من حديث الرسول محمد (صلي الله عليه و آله) أعذبه وأنداه.لو أتيت هذه الليلة معنا يا أبا مناف لرأيت من عطف نبي الرحمة الشيء الكثير.وظهر علي القوم دفعة أمية بن خلف، وقد علته موجة من السخط والكراهية، ومر بهذه الحلقة، ويكاد لا يلتفت لها، وخيم الوجوم علي الجالسين، ولكن ما ان اجتاز الثلاثة بخطوات حتي عاد وألقي نظرة عليهم، وما إن وقعت علي أبي رافع، حتي هجم عليه والشرر يتطاير من عينيه، وأخذ يلعب بسوطه علي جسمه دون رحمة وشفقة، وأبو رافع يتلوي بين يديه، وإذا ما كلت يداه من الضرب، وقف وهو يسحب أنفاساً مهترئة، وهي تكاد تلفح وجهه بلهيبها.والتفت اليه وهو يهذر بصخب: لو عدت لدار الأرقم لكويتك بالحديد.وزحف ابو رافع وهو يجمع قواه يئن من آلامه ليذهب تواً الي بيته، وعيناه قد شدت الي الكعبة، وهو يتمتم كلمات تكاد تموت علي شفتيه لانهيار قواه.كان ابو رافع يجتمع في بادئ امره بإخوان له من موالي العرب، وكانت احاديث دعوة محمد تلهج بها أندية مكة وحلقات سمرها. وابو رافع يستمع لها بشيء من الاهتمام، وكلما تعرف علي جديد من تلك الأخبار، خفق لها قلبه، ونبض صدره، غير انه لا يعرف سر هذا الخفقان، وتلك النبضات المتوالية، وبمرور الزمن انحاز الي اخبار الدعوة الجديدة، وتتبع احاديثها، بكل شوق ولهفة وحتي اصبح يوماً ما من جملة أعضائها.ولكن ابا رافع ما كان في امكانه - وفي وقته المبكر - ان يجهر بأمره، وان كان في الواقع في منعة من ظلم قريش، لأنه مولي العباس بن عبد المطلب، وللعباس حرمة ومكانة.وبطبيعة الحال كانت قريش تستأثر بحديث الرسول بالقسط الأوفر، من يومها، لأن الأمر كان يتعلق بهم قبل كل قبيلة فهو ان جلس الي فتيان اسياده، كان يلتهم احاديثهم عن الدعوة وان كان بعضهم لم يمل اليها، أو لم يعلن إسلامه بعد.حتي كان يوم تحدثت مكة بصراحة عن إسلام العباس نفسه فطار ابو رافع فرحاً بهذه البشارة، وأزاح عن كاهله ثقلاً كبيراً ثقل الكتمان والتستر.وعرف الناس بعدئذ ان ابا رافع من جملة الذين انضموا الي دعوة محمد رسول اللّه، ودخل يومها ابو جهل الي البيت وهو يحرق الارم، والتقي بزمرته وصاح بغضب متناهي حتي أبي رافع ذلك المولي القبطي صبا لدين فتي عبد اللّه، وحق اللات والعزي ان ظفرت به لأتركه طعمة للوحوش، وأشفي بدمه غليلي. ولكن رجلاً من القوم التفت اليه وقال: مهلاً يا أبا الحكم لا تظهر قواك علي الموالي والضعفاء، أما علمت أن العباس نفسه قد تبع محمداً، فلو كنت شجاعاً لذهبت اليه، وتركت جسمه طعمة للوحوش، كما نويت أن تعمله مع ابي رافع؟.وسكت ابو جهل علي مضض، وفي قلبه شعلة من حقد، لقد ضاق ذرعاً بما يطوي عليه نفسه، وقد أخذ امر المسلمين يشيع وينتشر، ويتلقاه الناس بكل مسرة واستبشار، ويستقبلون كل يوم اسماً جديداً ينداح لحوزة النبي كما ينداح العطر في الروضة الغناء، فتلهج أندية مكة بحديثه، حتي اذا ما أطل اسم جديد لهجت بذكره، ولاكت حديثه، والناس تواقة لكل جديد وهكذا دواليك.وتحدث العرب عن اسم أبي رافع كشخص جديد لمع اسمه ثم حرره الرسول بشارة لإسلام العباس، واستطال الحديث الي ان هذه الدعوة تحاول تحرير الرق وترك هذه العادة السقيمة وهذا ما يثير الرعب في قلوب الكثيرين، وتكون لأبي رافع مكانة لدي الصفوة الطيبة من المسلمين، وكيف لا تكون كذلك والرسول الأعظم يعطف عليه لأنه من هذه المجموعة المستضعفَة التي اكتوت بعذاب قريش وهي تزداد صلابة كلما تفنن الكافر الأرعن في أساليب التعذيب والإبادة معهم.فأمس تحدثت مكة عن اسلوب الطغاة في معاقبة ياسر وعمار وأمه، وبعد برهة تحدثت عن تعذيب بلال والخباب، ولقد كانت مكاوي الحديد المجمرة تلمع في أيدي ابي جهل وجلاوزته وهي تترنح علي أجسام هؤلاء المستضعفين الذين صبوا الي دعوة الرسول، فلم ترقّ لهم قلوب ولم تلِنْ لهم نفوس.وهاجر النبي الي المدينة، تاركاً مكة وقريش وحقدها وضغنها، ولم تمر الأشهر علي الطغاة بالشروق والأمل، فقد عزَّ عليهم، أن يسلم محمد وأصحابه، ويتوطد أمر دعوته في يثرب وكانت تتحين المناسبة للهجوم عليه، حتي كانت (بدر).وكان اجتماعهم في دار الندوة عاجلاً للبتّ في طلب ابي سفيان وقرروا الاستجابة للطلب وكان من بدر ما كان.وبقي في مكة من بقي يتصيد الأخبار، ويتعرف علي المسافرين، علَّهم يحملون من أخبار قريش ما يسعد يومهم وينير ليلهم.. وعاشت مكة ردحاً من الزمن علي أعصابها لم يبلغها قدوم أحد، إلا وهرعت اليه.. وانقطعت الأخبار وكادت القلوب المتلهفة لسماع نبأ جيشها تتقطع.. طال الانتظار ودبَّ القلق، وانسابت الوساوس الي الأذهان تحرك المشاعر وتثير العواطف، ولحظة الانتظار أشد ما يعانيها الانسان.يحدثنا أبو رافع مولي رسول اللّه، فيقول: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد فشي فينا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أمُّ الفضل زوجته وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم فكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان عدو اللّه أبو لهب قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته (ذله) اللّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.قال: وكنت رجلاً ضعيفاً، وكنت أعمل القدَاح، أنحتها في حُجرة زمزم، فواللّه إني لجالس أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب بجر رجليه بشرّ، حتي جلس إلي طنب الحجرة، فكان ظهره إلي ظهري فبينا هو جالس إذ قال للناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم - وكان شهد مع المشركين بدراً -، فقال أبو لهب: هلم يا ابن أخي فعندك واللّه الخبر قال: فجلس اليه، والناس قيام حوله، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء، واللّه ان هو إلا لقيناهم فمنحناهم أكتافنا، فقتلونا كيف شاؤوا، وأسرونا كيف شاؤوا وأيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس7 لقينا رجالا بيضاً علي خيل بلق بين السماء والأرض، لا واللّه ما تبقي شيئاً، ولا يقوم لها شيء.قال ابو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: تلك واللّه الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، ثم احتملني فضرب بي الارض، ثم برك عليَّ يضربني وكنت رجلاً ضعيفاً. فقامت ام الفضل الي عمود من عُمد الحجرة فأخذته فضربته علي رأسه، فشجته شجة منكرة، وقالت: استضعفته إذ غاب سيده، فقام مولياً ذليلاً، فواللّه ما عاش إلا سبع ليالي، حتي رماه اللّه بالعدسة [9] فقتله.هكذا تلقي القرشيون خبر الهزيمة وخسران المعركة.ويقف ابو سفيان وهو مشدوه بما أصيب من نكبة، يصيح والحقد يغلي في صدره: يا معشر قريش، لا تبكوا علي قتلاكم ولا تنح عليهم نائحة، ولا يندبهم شاعر، وأظهروا الجلد والعزاء فإنكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلّكم ذلك من عداوة محمد وأصحابه، مع أن محمداً إن بلغه وأصحابه ذلك شمتوا بكم فتكون أعظم المصيبتين ولعلكم تدركون ثأركم، فالدهن، والنساء عليّ حرام حتي أغزو محمداً.وإذ كان ابو سفيان يتنقل في بيوتات قريش، وهو مخذول مهزوم يطلب منهم الجلد والصبر، كانت زوجته هند بنت عتبة من جانب آخر تقول لنساء قريش ذهبن لتعزيتها فقلن لها، ألا تبكين علي أبيك وأخيك، وعمك، وأهل بيتك، فقالت: حلأني (منعني) أن أبكيهم، فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بنا وبنساء بني الخزرج، لا واللّه حتي أثأر محمداً وأصحابه. والدهن عليّ حرام ان دخل رأسي حتي نغزو محمداً، واللّه لو أعلم الحزن يذهب عن قلبي لبكيت، ولكن بما لا يذهبه إلا أن أري ثأري بعيني من قتلة الأحبة، تقول الرواية: فمكثت علي حالها لا تقرب الدهن، ولا قربت فراش ابي سفيان من يوم حلفت حتي كانت وقعة أُحد.لقد أخلص ابو رافع للنبي الأكرم، حتي أصبح جزءاً من صفوته، في ركابه بغزواته، وموكلاً علي ثقله، وأميناً علي ماله فقد قال رسول اللّه يوماً، وهو في جموع حاشدة بين يديه: (يا أيها الناس، من أحبَّ أن ينظر الي أميني علي نفسي وأهلي، فهذا ابو رافع أميني علي نفسي).وكان هذا أرفع وسام يقلده رسول اللّه، وأعظم فخر يناله بشرف الاسلام.ودخل ذات مرة ابو رافع دار النبي، فوجد رسول اللّه نائماً، وعلي مقربة منه ثعبان عظيم يزحف باتجاه الرسول، وذهل الرجل الشيخ من هذا الأمر، وحاول ان يوقظ النبي (صلي الله عليه وآله) ولكنه عز عليه ان يقلق علي الرسول نومه، وصمم علي التضحية وتقدم فاضطجع الي جنب النبي باتجاه الثعبان بحيث فصل بينهما ليكون هو ضحية إذا قدم علي الزحف، وكان هذا أعذب ما يدور في خاطره.واستيقظ الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله)، فألفي أبا رافع الي جانبه مستلقياً، وعلي بضعة أمتار يقف ثعبان، وعرف جلية الأمر ورفع الرسول طرفاً خاشعاً الي السماء ليدعو اللّه ان يوفق أبا رافع.وتمر الأيام ثقيلة السير، مليئة بالأحداث، قد لبي الرسول الأعظم نداء ربه، والزمن يطوي خطواته، وأبو رافع قد استقر في خيبر يزرع أرضاً له هناك.وأعلن الإمام علي (ع) حربه - علي معاوية، وفي الشدة تعرف الرجال - وأخذ يجمع أصحابه من حوله ما يقتضيه لتلك الحرب.وانتشر النبأ يسري كالبرق في أرجاء الجزيرة العربية أن علياً عزم علي قتال معاوية، وعلم ابو رافع بجلية الأمر كما سمع غيره.وعندما أصبح الصباح أعلن ابو رافع بأنه عازم علي السفر الي علي (ع).- يا أبا رافع أنت شيخ طاعن في السن أخذت من العقد التاسع نصفه، وقد سقط التكليف عن الشيوخ، فالجهاد لغيرك.- لا تتحدث بمثل هذا أبداً، إن القتال مع علي عبادة، لقد أصبحت لا احد بمنزلتي، بايعت البيعتين: بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، وصليت القبلتين وهاجرت الهجرات الثلاث: مع جعفر بن أبي طالب إلي الحبشة، ومع رسول اللّه (ص) إلي المدينة ومع علي بن أبي طالب سأهاجر إلي الكوفة.يا أبا رافع: وأرضك ودارك.- غداً سأبيعها.وكان ما أراد، وقف إلي جانب علي في حروبه مجاهداً صابراً ومعاوية لم يتوان عن إغراء أبي رافع بالمال، والمكانة، والسلطان ولكن صلابة هذا الصحابي الجليل، وصموده الحديدي العجيب في خدمة الإسلام، كانا أقوي من أن تنهار أمام أموال معاوية ومواعيده المعسولة.

جعفر بن ابيطالب

كان الشيخ ابو معاذ مرهقاً في ليلته هذه، أثقله يوم متعب هدَّ من جسمه وأوغل في إيلامه، ورغم هذا فقد جاء الي مجلسه كعادته.. ولمس الجميع عليه بوادر العاصفة الثقيلة علي وجه محدثهم.وقال الشيخ ابو معاذ، وهو يجاهد نفسه مجاهدة علي الكلام: كانت ليلة قاسية جداً علي أبي طالب، وهو يرقب عودة ابن أخيه، وقد مرَّ شطر كبير من الليل ولم يعد. نصف الليل انقضي، ومحمد لم يظهر له أي أثر، ومعه علي، ولكن أبا طالب وزوجته لم يهمهما أمر ولدهما علي بقدر ما يهمهما أمر محمد.. وكيف لا يفكر في أمره، وقريش تتحين له الفرص لتُنزلِ به السوء، فقد توسمت فيه خطراً مقبلاً عليها.ومرّ الثلث الثاني من الليل، ولم يعد محمد، وأقلق الشيخ الوقور هذا الغياب ولا يريد أن يعلن الخبر، وأخذ يسأل عنه هنا وهناك كالملهوف، لم يتمكن من الهدوء أمر ولده جعفر أن يأخذ سلاحه، ويخرج معه، وبدآ البحث. وطلع عليهما الفجر وهما في بعض جيال مكة، وإذا بمحمد في أعلاه، واقف وعلي يمينه علي يصليان، يركعان ويسجدان.ودبّت الطمأنينة إلي قلب الرجل الحنون، وهدأت أعصابه واستردّ أنفاسه، وجلس وهو يشد نظراته إلي هذا المنظر، ثم لم يلبث أن أخذ يد ولده جعفر وجعله إلي يسار النبي، وقال له: «صل جناح ابن عمك»، وانساب الفتي اليافع مع ابن عمه وأخيه يركع ويسجد، حتي أكملوا جميعاً صلاتهم، وعادوا إلي شيخ الهاشميين، والسرور يطفح علي وجوههم، وهزَّ السرور والاعتزاز الرجل الوقور، فأخذ ينشد:إن علــــــــــياً وجعفراً ثقــتي عند ملم الزمـــان والـنوبلا تخذلا، وانصرا ابن عمكما أخي لأمي من بينهم وأبيواللّه لا أخـــــذل النـــبي ولا يخذله من بنــي ذو حـسـبثم التفت محمد إلي جعفر وهو يقول:(يا جعفر وصلت جناح ابن عمك، إن اللّه يعوضك من ذلك بجناحين تطير بهما في الجنة).وبقيت هذه الكلمة الكريمة ترنُّ في أعماق فتي أبي طالب وهو لا يحب أن يفارقها في خواطره، عزيزة عليه كفجر ساحريمتد في قلب السماء فيزيح عنه الظلام ويشتت منه طيوف المساء القاتم.ويعيش جعفر في ظل هذه الاشراقة الإيمانية، ويغمض عينيه في كل ليلة علي خواطر عذبة تحمل من أماني ابن عمه رسول الإنسانية ما تفعم قلبه بالأمل والخير والازدهار..وتتوثق الصلة بين الفتي المؤمن، وبين ابن عمه الداعي إلي الحق وكلما امتد الزمن ازدادت العلاقة، حتي يصبح جعفر عضواً في الأسرة المؤمنة، وتعرف قريش بذلك وتثور علي هذا النبأ، إن عدد المؤمنين بهذه الرسالة الجديدة بدأ يتضخم شيئاً فشيئاً، ولم يقف في وجهها البطش والعنف، تزداد علي مر الأيام.وجعفر وإن كان في مأمن من عقاب، وأذي الطغمة الحاقدة لأنه محفوظ بقوة أبيه، ولكنه لم يسلم من بقية المشاكل التي لحقت بالصفوة الطيبة من صحابة النبي (صلي الله عليه وآله)..وقررت قريش مقاطعة بني هاشم، كما قاطعت كل أصحاب محمد، وأمعنت في إيذاء من تستطيع إيذاءه، وبكل صورة وكل أسلوب، وتعملق الاضطهاد قاسياً علي هذه الطبقة، فقابلوه بصمود عجيب، وكلما تكاترت المجن، وتواترت الخطوب، تقوت العزائم، وتضخم الصبر وتجلي الثبات.. فتحملت الصفوة الطيبة كل أنواع القسوة، فلم يشكو أحدهم إلي النبي ما يعانوه من الظلم كما لم يظهروا السأم أمامه. فكل شيء في ذات اللّه يهون.وطرق الخبر أسماع قريش. وهالهم النبأ، فقد هاجر الكثير من صحابة محمد حاملين لواء الدين الجديد. وطاش عقلهم فقد ذهلوا من ترويع ما أُصيبوا به.. فلت المستضعفون، والعبيد من بين أيديهم، وبقي الأقوياء الذين لا سبيل لهم علي تعذيبهم وسيكون لهم شأن في الخارج، فأخبار الدعوة تنتشر في الخارج بعد ان كانت محصورة بمكة، وسيعطي المهاجرون عنها صورة رائعة المعالم شأن أي مخلص لقضيته.وانعقد المجلس في دار الندوة يضم زعماء المعارضة، وكلهم أعصاب متفجرة من توسع هذه الدعوة، ويصرخ فيهم ابو جهل: أرأيتم كيف نجا أصحاب محمد، ولو قتلناهم لما امتد شرهم الي الخارج، لما انتشر خطرهم في تلك الأرجاء، وما ندري ما وراء الأكمة لنا.وغصّ بكلامه، فقد مضَّ به التأثر بحيث انتفخت أوداجه وجحظت عيناه، ثم انبري له أمية بن خلف، وجبل من الهم يجثم علي ملامحه، وهو يعالج الكلام، وماذا نعمل يا أبا الحكم وقد أُخذنا علي حين غرة؟.. أخبرني ولا تلح بالتعزير، وارفق بقومك من اللوم، ما العمل الآن؟ لم نقصر في تعذيب المستضعفين ولم نتهاون في شأن من نتمكن عليه بإنزال أقصي العقوبات، حتي مات من مات، ونجا من نجا.خيم وجوم علي الجالسين، وكلهم لاذوا في تفكير عميق..وكان جل تفكيرهم بالطريقة التي يمكن استرداد هؤلاء المهاجرين من النجاشي.. وأخيراً انتهي بهم التفكير الي حل.. وصاح بهم ابو سفيان: ما هو الحل يا قوم؟ قالوا: نطلبهم من النجاشي فإن لم يجبنا قاتلناه ونأخذهم بالجبر والقوة.. وضحك عالياً صخر بن حرب من هذا الرأي، وقال لهم: وكيف تفكرون بمثل هذا، وهل اننا نستطيع ان نقاوم ملك الحبشة؟ دعونا من الحرب، وفكروا في طريقة اخري.ومضت برهة من الزمن والقوم سكوت، وهم يبحثون عن وسيلة يجتثون بها الخطر الذي ربض لهم في الحبشة، يهدد مصالحهم وأمجادهم البالية.وأدار صخر بن حرب عينيه المشبعتين بالحقد والشرر في وجوه القوم، فلم ير منهم توصلاً الي حل، وتحدث وهو يدحرج الكلمات الملفعة بالألم والحزن، وكأنه يقتطعها من قلبه، قال: الرأي أن نرسل الي النجاشي وفداً يحمل له الهدايا والتحف ويقنعه علي ان هؤلاء المهاجرين بغيتنا، ولنا معهم ثأر، فنطلبهم منه.. ثم سكت قليلاً، وعاود الحديث: وطبعاً هذا الأمر يتوقف - الي حد كبير - علي قابلية الوفد، ولباقته، وحسن تصرفه..وكأن هذا الاقتراح أصاب قبولاً من الجالسين، فصاحوا كلهم: هو الرأي، لا عدمناك يا أبا سفيان، فأنت من يستشار ومن هو أولي منك بالعطف علي آلهتنا.(ما أدري بأيهما أنا أشد سروراً: بفتح خيبر، أم بقدم جعفر)؟.كانت ساعة رائعة عند النبي، وهو يستقبل الصفوة المؤمنة من صحابته الكرام الذين فارقوه منذ زمان حفاظاً علي دينهم وأنفسهم.ثم مع آل أبي طالب فقبل قليل فتح اللّه خيبراً علي يد علي بن أبي طالب بعد ما ارتد عن فتحها أبطال وأبطال، ثم لقاء جعفر بن أبي طالب من هجرته منتصراً علي الباطل، وهو يحمل مشعل الإسلام، وفي هذا كله ما يبعث علي الاعتزاز.ولم يكن جعفر بعد عودته من الحبشة، قد اعتزل دنياه البطولية، فقد بدأ دوراً جديداً بعد عودته.. دور القائد الذي يكلف بمهام عسكرية لها أثرها البعيد علي امتداد الإسلام، وتوسع آفاقه الرحبة.فلم تطُل السنة الثامنة من الهجرة - ولم يمر علي عودته إلا عام واحد - حتي انتدبه الرسول القائد لمحاربة هرقل ملك الروم في بلاد الشام.. واستعد المسلمون وحان يوم الوداع، وتأهب الجيش، وأعلن النبي عن قادة هذا الجيش: جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة، وعبد اللّه بن رواحة، يتناوبون علي امارة الجيش..وفي مؤتة من أرض الشام، دارت الحرب حامية تهز الرجال عنيفة تثير الشهامة، وراية محمد ترف بيد الأبطال الثلاثة، لا يهابون الموت، ولا يخافون القتال. وجعفر من القادة الثلاث بطلاً عرفته البطولة كيف تنحاز اليه خاضعة، وشجاعاً مغواراً تمرَّن علي تمثيلها خير تمثيل..وكلما استمر زمن الحرب، حمي وطيسها، وجعفر يحمل راية الإسلام، ويزحف بجيشه، ويغوص في أعماقه، فيجندل هذا، ويهزم ذاك، حتي ضاقت الفرسان منه وصعب عيها أن تشق طريقها بين جثث القتلي، واضطر هو نفسه أن ينزل عن فرسه ليجول بين القوم - فلم تملك الخيل طريقاً تسلكه في ساحة الميدان - غير هياب، ولا متزعزع.. بطل ولا كالأبطال ومحارب ولا كالمحاربين، ورث البطولة من أب وجد، وتمرَّس علي الحروب وهو بعد لم يبلغ سن المحاربين، وفوق هذا وذاك انه محارب من أجل عقيدة، ومجاهد في سبيل دعوة عاش أبعادها ووعي حقيقتها.وقطعت يده اليمني في ساحة القتال، ولم يشغله أمرها مهما كان الألم الذي هجم عليه، بل همه أن لا تنكس الراية التي يجول بها، وعيون المسلمين مشدودة اليها. وأخذها بشماله، وخاض غمار الحرب، وطاف في خضمها، ولم يأبه بما أصيب، هكذا شأن الأبطال القادة، إنما جلُّ همه أن لا تسقط الراية فاحتضنها.

في النهاية

وأخيراً، وليس آخراً..نصل بالقارئ الكريم الي الحلقة الأخيرة من القسم الأول من هذا الكتاب، ويسكت محدثنا الشيخ ابو معاذ - ونرجو أن لا يطول سكوته - وهو ينقلنا في آفاق السيرة المباركة..نستنير بنورها، ونهتدي بهداها، ونحن في خضم الأيام الصعبة من مسيرتنا التأريخية.. ونستجلي الروعة النضالية من حياة أبطالها الأفذاذ ليكونوا لنا خير قدوة في الشوط الذي نقطعه في مضمار الحياة.والروعة في هؤلاء المجاهدين إخلاصهم لعقيدتهم.. وأروع منه أنهم يتهافتون علي الموت عشاقاً من أجل رسالتهم دون ضجة وتهويل.

پاورقي

[1] هكذا وصفه وحشي: ويريد بالجمل الأورق، الذي لونه بين الغبرة والسواد، سماه كذلك لما عليه من الغبار.
[2] الحرة: كل أرض ذات حجارة سوداء.
[3] قباء: قرية علي ميلين من المدينة.
[4] كان المنافقون يسمون المهاجرين: بالجلابيب.
[5] يشير ابن هشام الي هذا المصطلح كان يقصد من الخزرج: الخزرج والأوس
[6] الازر: النساء. والمرأة قد يكني عنها بالازار، كما يكني أيضاً بالازار عن النفس.
[7] كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار: دمي دمك، وهدمي هدمك، أي ما هدمت من الدماء هدمته أنا.
[8] برك الغماد: موضع بناحية اليمن، ويقال: هو أقصي هجر.
[9] العدسة: قرحة كالطاعون قاتلة، شرح النهج: 14 - 182 هجري 1.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.