النبي محمد قدوة الصديقين

اشارة

اسم الكتاب: النبي محمد قدوة الصديقين

المؤلف: آية الله السيد محمد تقي المدرسي

اللغة: عربي

قطع: رقعى

عدد الصفحات: 257

المجلدات: 1

الرسول ( صلى الل_ه عليه وآله ) اعتمد على الايمان بالل_ه ، فقد كان عارفاً بخالقه ومن خلال معرفته هذه وايمانه الكامل استطاع ان يقف كالجب_ل الاشم امام كل الانحرافات ، ويدفع بسفينة البشرية الى شاطئ النجاة ...

جوهر الشخصية النبوية

اشاره

انطلاقاً من قوله - تعالي -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الاحزاب / 21) نستلهم من سيرة الرسول (صلي الله عليه وآله) المباركة عبراً ودروساً نستضيء بها في طريقنا الشائك الذي نسلكه الآن من أجل انتصار العدالة والحرية في الارض، ومن أجل تحقيق حكم الله - عز وجل - تحقيقاً كاملاً.وفي هذا المجال نطرح السؤال المهم التالي: ماهو جوهر هذه الشخصية الرسالية التي لم يخلق الله - تعالي - لها مثيلا من قبل ولا من بعد، وما الذي جعل الرسول (صلي الله عليه وآله) وهو بشر يقف امام جبروت الطغاة، وفساد الانظمة، وانحرافات الجاهلية، ويزود البشرية بزخم قوي هائل استمرت علي اثره بالتصاعد، وستستمر حتي قيام الساعة؟وحتي الامام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) فانه سوف لا يأتي برسالة جديدة، بل انما يأتي لتطبيق رسالة جده (صلي الله عليه وآله) لان هذه الرسالة كاملة؛ وهو انما يظهر لتطبيقها لا بجهوده فحسب، ولا بانتصار الغيب له فقط، وانما ايضا بجهود النبي (صلي الله عليه وآله) ومن استلهم منه، ذلك لان المسلمين الحقيقيين يستلهمون من حياة الرسول (صلي الله عليه وآله)، وسيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الايمان الحق ويطبقون الاسلام وينشرونه ليظهر بعد ذلك الامام المهدي (عليه السلام) مطبقا جميع احكام الاسلام، ومالئا الارض قسطاً وعدلاً.

الاعتماد علي الايمان بالله

فما هو جوهر هذه الشخصية، وما الذي دفعها الي ان تقف امام كل التيارات المادية بكل مالها من عنفوان واندفاع وضغوط؟بكلمة واحدة نقول ان الرسول (صلي الله عليه وآله) اعتمد علي الايمان بالله، فقد كان عارفاً بخالقه ومن خلال معرفته هذه وايمانه الكامل استطاع ان يقف كالجبل الاشم امام كل الانحرافات، ويدفع بسفينة البشرية الي شاطئ النجاة.وفي تلك اللحظة

التي خرج فيها النبي (صلي الله عليه وآله) منمكة المكرمة فانه خرج منها مهاجراً تاركاً ارضه وبلده، واعز بقاع الارض الي قلبه ألا وهو بيت الله الحرام، فالتاريخ يروي لنا انه (صلي الله عليه وآله) عندما خرج من مكة التفت لفتة اليها وقد اغرورقت عيناه الكريمتان بالدموع، ولكن جبرائيل (عليه السلام) سرعان ما أوحي الي قلبه قائلا: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَي مَعَادٍ) (القصص / 85)، وهنا اطمأنت نفسه وخرج من مكة مهاجرا تلك الهجرة التي كانت اللبنة الاولي لبناء الامة الاسلامية في التأريخ.وفي الحروب وقف مع الرسول (صلي الله عليه وآله) اصحابه الابطال المخلصون وفيهم من امثال علي بن ابيطالب (عليه السلام) وجعفر، وأبي ذر وغيرهم من الذين كان الواحد منهم يقف امام الناس جميعاً دون خوف او وجل الي درجة ان علياً (عليه السلام) قال: " والله لو تظاهرت العرب علي قتالي لما ولّيت عنها، ولو امكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها.. " [1] ومع شجاعة علي (عليه السلام) الفائقة هذه فانه كان يقول: " كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله (صلي الله عليه وآله) فلم يكن أحد منا أقرب الي العدو منه " [2] .

نور وهاج

تري ما الذي جعل قلب الرسول (صلي الله عليه وآله) بهذه الدرجة من الشجاعة والصمود بحيث يلوذ به علي (عليه السلام) وأمثاله من الابطال؟ان الانسان عندما يدرس حياة النبي (صلي الله عليه وآله) بفكره البسيط والمحدود فانه لا يستطيع ان يستوعب ما أحدث (صلي الله عليه وآله) من تغييرات جوهرية في العالم. لقد كان مبعثه (صلي الله عليه وآله) ايذانا بحدوث امواج هائلة القوة ومتصاعدة في حياة البشرية، فما هو النور الوهاج الذي اضاء

قلبه ليضيء معه العالم برمته؟انه الايمان بالله والمعرفة به؛ ففي كل قضية تلجأ البشرية اليه وهو يلجأ الي الله - عز وجل -، وفي كل ليلة كان (صلي الله عليه وآله) يقوم ثلاث مرات ليعبد ربه، ويستلهم من عبادته الشيء الكثير من العزم والصمود؛ في بداية الليل بعد صلاة العشاء كان (صلي الله عليه وآله) يغفو غفوة، وفي بداية الثلث الثاني من الليل يقوم من النوم لينحدر الي مناسكه وعباداته ويستمر متعبدا الي الصباح.انني هنا أريد ان اوجه انظار القراء الكرام الي هذه النقطة بالذات، فلقد نسينا الله - سبحانه -، وفي طليعة الاشياء التي نسيناها بعد الله - تعالي - انفسنا كما قال - عز وجل -: (نَسُوا الله فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) (الحشر / 19)، وهذا يعني اننا اذا نسينا الله فاننا سوف ننسي قدراتنا وطاقاتنا وكرامتنا.. فنحن لم نبتل بما ابتلينا به لحد الآن من مآس وويلات، ومن تجبر المستكبرين في الارض، وضغوط الطواغيت، وفساد المفسدين إلا بعد ان نسينا خالقنا وبارئنا.

حقيقة منسية

وعلينا الآن ان نعود الي الله، والي عبادته عبادة حقيقية، والتضرع إليه تضرعاً نابعاً من القلب، فالله - عز وجل - لايمكن ان ينخدع - وحاشاه ان ينخدع - بهذه الصلوات الجوفاء، والعبادات الفارغة، والشعائر القشرية. هذه لايمكن ان تنفع امتنا شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة، والشيء الوحيد الذي ينفعنا هو الحقيقة واللب؛ فالله - تعالي - لا يطلب منا كثرة الصلاة والصيام، بل قلبا خاشعا وعينا دامعة وسلوكا مستلهما من ايماننا الحقيقي به.ولذلك فاني الفت الانظار الي هذه الحقيقة المنسية ونحن نعيش المأساة في كل مكان، فقد تظاهرت الدنيا علينا وكادت المؤامرات تخنقنا، فهناك الآن اكثر من ألف مليون

مسلم يعيشون تحت الوان من العذاب في كل مكان، ومثل هذه الظروف تدعونا الي ان نعود الي الله - تعالي -، وان نصفي قلوبنا، ونطهرها من الاحقاد والضغائن، ليكون ما بيننا وبين الله عامراً، وهو - عز وجل - بدوره سيصلح ما بيننا وبين الآخرين.

برنامج روحي لتربية النفس

اشاره

ولنضع في هذا المجال برنامجا روحيا لتربية انفسنا، فنحن لو حكمنا البلاد - مثلا - وفي قلوبنا احقاد تجاه بعضنا البعض فسوف ندمر انفسنا، فلنخرج - اذن - هذه الضغائن من قلوبنا، ونقتلع جذورها اولاً، ثم نفكر بعد ذلك في اقامة حكم الله، فان احداً لا يستطيع ان يطبق هذا الحكم إلا من كان يمثل في سيرته وسلوكه وخلقه رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فليس من المعقول ان يستطيع اقامة حكم الله من استبد به حب الرئاسة، ولذلك فاني اوصي جميع الرساليين في كل مكان بأن يبادروا الي تزكية انفسهم، والتوبة الي الله - عز وجل - والانابة اليه وذلك من خلال تطبيق فقرات المشروع التربوي التالية:

الدعاء

ان اهمية الدعاء ليست اهمية مادية فحسب، كما انها لا تقتصر علي اصلاح النفس البشرية، وتحديد نقاط الضعف فيها، بل ان اهميته تكمن في انه يربط الانسان بالقدرة الالهية التي لا تنتهي، فالدعاء يجعل قلوبنا مضاءة بنور الايمان، فلنتضرع الي الله في جوف الليل، فإن بيده الأمور وهو الذي يرفع من يشاء ويضع من يشاء ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء وبيده كل شيء.ان الدعاء الحقيقي هو الدعاء الذي يدفعنا الي العمل في ايامنا، أولم يكن اصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) الذين خرجهم من مدرسته بفضل تعاليم الوحي رهبان الليل وفرسان النهار؟ لقد كانت ضراعتهم في الليل هي التي تدفعهم الي ان يخوضوا غمار الحرب كالاسود في النهار، حتي قال (صلي الله عليه وآله): " ونصرت بالرعب من مسيرة شهر.. " [3] .فلنقف لله خاضعين خاشعين بعد صلواتنا، ونحن نري ان ائمة الثورة وقادة الرسالة وهداة الامة كانوا يحثون الناس علي الدعاء في أشد

الظروف واحلكها، فعندما تنقطع الوسائل ولا تتبقي للانسان وسيلة للدفاع عن نفسه من أجل القيام بالثورة الحقيقية، فحينئذ تبقي وسيلة اخري انما هي وسيلة انتماء الانسان الي الثورة، فعندما تشتد الظروف، ويتصاعد الارهاب ينقطع انتماء الانسان الي الثورة فلا يشعر انه جزء منها، وهنا يلعب الدعاء دوره، ليحافظ عليثورية الانسان، ويبقيه منتمياً الي مجتمع الثورة، وأمة الانطلاق.ولذلك فاننا نؤكد علي الاخوة المجاهدين العاملين في الساحة ان لاينسوا هذا السلاح الفعال الذي يقول عنه النبي (صلي الله عليه وآله): " الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض " [4] .والدعاء هنا له جانبان؛ الجانب الأول ان تدعو الله - عز وجل - ان ينصرك علي عدوك، والجانب الثاني ان تدعوه لكي يخذل عدوك.وفي يوم القيامة سوف يحاسب الله - سبحانه - الانسان علي تركه للدعاء الذي يحارب به الطواغيت، والظالمين، ويلعنهم من خلاله، ويطالب باسقاط دعائم حكمهم، وتقريب آجالهم، فكل انسان مكلف ومسؤول امام الله عن الدعاء وراء كل صلاة، وفريضة لاسقاط الطاغوت، فربما تكون هناك آهة حزينة تخرج من قلب مظلوم ومفجوع تستجاب عند الله - جلت قدرته - وتقضي علي الطاغوت.صحيح ان هناك في الكون سنناً ومصالح، وان هناك حقاً يحكمه، ولكن من سنن الله استجابة الدعاء، والصلاة التي يأمرنا الخالق بادائها قائلا: (وَاسْتَعِينُوْا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) (البقرة /45) جوهرها الدعاء، وقد روي عن الامام علي (عليه السلام) انه كان يدعو في القنوت علي اعداء الامة الاسلامية بأسمائهم، ونحن ايضاً يجب علينا ان ندعو علي اعداء الاسلام باسمائهم ومن المؤكد ان الله - تعالي - سوف يستجيب لنا لانه رحيم بعباده.

الصوم

علينا بالصوم فان الله - عز وجل - يقول: (وَاسْتَعِينُوْا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) فقدم

الصبر الذي هو الصوم علي الصلاة، وعلي المجاهدين في سبيل الله ان يمارسوا الصيام كل اسبوع علي الأقل، لان الصوم من شأنه ان يزيد من ايمانهم، وصلابتهم، ويجعل نفوسهم شفافة، كما يجعل ارادتهم صلبة وقوية، ويذكرهم دوما بالمأساة التي تعيشها شعوبهم، وهنا أوكد علي المجاهدين البعيدين عن اوطانهم والذين من الممكن ان يفقدوا شيئا فشيئا انتماءهم الي شعوبهم الرازحة تحت نير الطغاة، ويفقدوا احساسهم بمآسي شعوبهم هذه، فمن خلال الصوم، هذه العبادة المهمة سيتذكرون دوماً الآلام والمحن التي يعيشها اخوتهم في السجون والمعتقلات.

تصفية القلوب والنوايا

علينا ان نصفي قلوبنا ونوايانا تجاه اخوتنا المؤمنين، فإذا قَستقلوبنا تجاه بعضنا البعض، واذا لم نشعر بالمسؤولية، وابعدنا انفسنا عن المعركة فان الله - تعالي - سوف ينزل غضبه علينا، وعندما تكون نياتنا صافية، واعمالنا خالصة لوجه الله فان اعمالنا سوف تؤتي ثمارها، فالعمل يصطبغ بالنية الصالحة. وهذه هي وصيتي للمجاهدين الرساليين العاملين في الساحة، فعلي كل واحد منا عندما ينهض من نومه صباحا أن يتفكر في الاعمال التي قام بها؛ هل كانت لله - تعالي - أم للشهرة، ولذاته؟ ولنحذر من ان ندخل النار - لا سمح الله - بالاعمال التي هي صالحة في الظاهر، فهناك البعض من الناس سيعذبون بالنار بسبب صلاتهم، وصومهم، وحجهم وغيرها من العبادات التي ادوها رياءا وسمعة.

حسن التعامل

من الأمور المهمة التي يجب ان نلتزم بها ونحن نخوض الجهاد، ان نحسن تعاملنا مع بعضنا البعض، فالتُهم، والافتراءات، وسوء الظن، والغيبة كلها امور من شأنها ان تؤخر انتصار الثورة حتي وإن قدمنا التضحيات الجسيمة، وسالت منا الدماء الغزيرة، لان كلمة السوء تؤثر في القلب والنفس، وتعتبر من الآثام الكبيرة كما قال - عز وجل - (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ). (الحجرات / 12)وقد نهانا القرآن الكريم عن ان نقول مالا علم لنا به، وان نتريث قبل اصدار الاحكام كما اشار الي ذلك - تعالي - في قوله: (إن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَي مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات / 6)، ففي كثير من الاحيان نسمع اشاعة ضد اخواننا المؤمنين فنبادر الي تصديقها دون علم وتثبت، ونتخذ علي أثر ذلك مواقف

ارتجالية نندم بعدها حيث لا ينفع الندم، ان علينا ان نأخذ بنظر الاعتبار في هذا المجال ان للسان دوره في الحياة، واننا يجب ان ننزه السنتنا عن التهمة، والافتراء، والغيبة، وان يكون هدفنا توحيد الصفوف، ولم الشمل.

نشر الوعي القرآني

يجب ان لايكون همنا ان نحدث الناس عن الثورة دون ان نقوم بدورنا في نشر الوعي الديني والقرآني، فلو لم نستطع احياء دور القرآن الكريم في مجتمعاتنا، واعادة الناس الي تلاوة القرآن، والتدبر في آياته، والاستلهام من نوره فان الثورة سوف لا تنمو، ولا تنتصر.ان الجماهير قد ادركت الآن ان الاسلام حق من خلال ما يجري في الساحة، لقد جربت الشرق والغرب وعرفت ماذا يجران عليها من ويلات ومآسي، واكتشفت ان هذه الافكار المادية خاطئة، وبدأت الآن تتوجه نحو الاسلام، فعلينا ان نستغل هذه الفرصةلتزويدها بغذاء ثقافي لكي نستطيع الاعتماد عليها.ان تلاوة القرآن ودراسته يجب ان تكونا في طليعة اعمال الثوار؛ فكل انسان ثوري يجب ان يقرأ يوميا صفحات من القرآن الكريم يتدبر فيها ليعرف طبيعة ثورته، فالانسان المجاهد عندما يستشهد وهو يتلو القرآن فان درجته ستكون ارفع من سائر الشهداء فقد جاء في الحديث الصحيح عن الامام الصادق (عليه السلام): " وعليكم بتلاوة القرآن فان درجات الجنة علي عدد آيات القرآن، فاذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق فكلما قرأ آية رقا درجة.. " [5] ؛ اي اقرأ القرآن وارق الدرجات عند الله - عز وجل -، فالشهيد عندما يكون قارئا للقرآن الكريم فان درجته ستكون مع الصديقين.

العمل علي تحقيق الوحدة

علينا ان نعلم ان تحقيق الوحدة عملية صعبة جدا، فعلي الانسان ان يبني كيان هذه الوحدة لبنة لبنة من القاعدة، وهذه الوحدة تبدأ من العائلة، ثم الاصدقاء، ورفاق الجهاد لتسود المجتمع الصغير ثم الكبير، ولذلك فان علي الامة الاسلامية ان توحد نفسها من القاعدة من خلال تشكيل اللجان الثورية في كل مكان، وهذه اللجان يجب ان لا تقتصر في نشاطها علي الحدود والاطارات التي

ينخرط فيها الشباب فقط، بل يجب ان تشمل الوحدة جميع شرائح الأمة وفئاتها.وقد أثر عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) انه عندما كان يبعث مجموعة صغيرة لاداء مهمة معينة فانه كان يختار لهذه المجموعة قائداً، وعلينا نحن ايضا ان نوحد انفسنا، ونستجمع قوانا، ونخرج من ذاتياتنا، ونصلح ما بيننا.ان هذه المرحلة تقتضي ان نخطو خطوات متدرجة لتحقيق اهدافنا، اما اذا اردنا ان نحقق هذه الاهداف مرة واحدة، وعلي مستوي واسع فان الفشل سيكون مصير هذه الأهداف.

ابداء ردود فعل مناسبة تجاه الأحداث

علي كل واحد منا ان يبدي رد فعل مناسب تجاه الأحداث؛ فاذا سمع الواحد منا ان اخا له في الايمان قد استشهد، وان آخر قد اعتقل، وان مؤامرة قد نفذت ضد اخوان لنا في الدين في هذا البلد الاسلامي أو ذاك، فان علينا ان نتخذ موقفا ازاء هذه الاحداث كأن نشترك في تظاهرة، او نكتب كلمة، او نلقي خطابا.... اما إذا مرت تلك الحوادث دون ان نحرك ساكنا فان هذا الموقف يسبب قسوة قلوبنا.و في هذا المجال يروي عن الامام علي (عليه السلام) انه تألمكثيراً عندما سمع ان امرأة مسلمة قد أخذت منها زينتها غصبا في احدي الغارات حتي انه قال: " لو ان رجلا مات من ذلك كمدا لما كان عندي ملوماً "، في حين اننا نري الآن الكثير من المسلمين يقرأون الأخبار ثم يمرون عليها مر الكرام!

بماذا نجيب الشهداء

تري بماذا سنجيب الشهداء غدا عندما يواجهونا ملطخين بدمائهم، فلا يدعونا نخترق الصفوف للدخول في الجنة ويحتجون علينا قائلين: ان دماءنا في ذمتكم، وعلي عواتقكم! تري بماذا سنجيبهم؟ ان دماءهم في اعناقنا، والراضي بالظلم كفاعله، والساكت عن الحق شيطان اخرس، والله - سبحانه وتعالي - يشمل الناس بالبلاء عندما يعينون الظلمة والمجرمين بالرضا.ان كل انسان قادر علي ان يبدي رد فعل وإن ادعي انه لايستطيع ذلك، فاذا سمعت - مثلاً - ان الثوار قاموا بعملية ما واستشهدوا فبإمكاني ان ادفع قدراً من المال الي هذه الحركة، او تلك الجماعة التي قامت بتلك العملية إذا لم استطع الذهاب الي ساحة المواجهة، والاشتراك الفعلي في القتال، فعلينا ان نقسم الادوار بيننا، فالذين لايستطيعون الاشتراك في الجهاد عليهم ان يدعموا الحركة الجهادية بالاموال والامكانيات، ليقوم القادرون علي حمل السلاح

بدعمالحركة الجهادية بدمائهم وتضحياتهم.ان الشعوب الاسلامية لو قامت بابداء ردود الفعل المناسبة تجاه الظروف والاحداث العصيبة والمأساوية التي تمر بها لاستطاعت ان تزيل حكم الطغاة، وتقاوم الظلم والفساد والانحراف، فالحكام المتجبرون لم يستطيعوا التحكم بنا، والسيطرة علي مقدراتنا، و ابعادنا عن ديننا وعقيدتنا إلا بعد ان خيم الصمت والسكوت علينا، واصبحنا لا نبدي اي حراك ازاء ما يجري حولنا، ولا نشارك في الأحداث مشاركة ايجابية فعالة من شأنها ان تحقق لنا الحياة الحرة الكريمة حيث لا ظلم، ولا طغيان.

المعرفة المثلي لشخصية النبي

اشاره

في العديد من النصوص الاسلامية نلاحظ التأكيد علي الفكرة القائلة بأن الله - عز وجل - اول ما خلق من الانوار القدسية نور نبينا وحبيب قلوبنا محمد بن عبد الله (صلي الله عليه وآله)، وانه خلق السماوات والأرض والجنان والكائنات جميعا بهذا النور النبوي.فلنتعرف ولو بمقدار قليل علي حياة نبينا (صلي الله عليه وآله) وعلي شخصيته الفذة ذلك لأن معرفتنا به هي التي تقربنا اليه، وكلما اقتربنا من معرفتنا له (صلي الله عليه وآله) اقتربنا من ربنا، فدرجات الناس في الآخرة انما هي بقدر عقولهم ومعارفهم، والاعمال هي بالنيات، لأن عظمة العمل وعظمة الانسان العامل له تتجليان في الأهداف الكبيرة التي يقوم الانسان بذلك العمل من اجلها، ومن هنا فكلما كانت معرفة الانسان بربه اسمي، كانت اعماله اكثر سمواً وعظمة.

العمر ليس مقياساً للايمان

ان المسافة الزمنية التي يقطعها الانسان من حين ولادته وحتي وفاته ليست ميزانا ومقياسا في ارتفاع درجاته او تسافلها، ففي لحظة واحدة قد يقطع الانسان عشرات الملايين من الدرجات الي ربه، وهذه اللحظة هي لحظة المعرفة.ان البعض يعرف رسول الله (صلي الله عليه وآله) كقائد، وكرجل عربي انقذ العرب من الجهل والضلالة والتمزق والتجزئة والتخلف، وبعث فيهم نهضة حضارية متسامية، والبعض الآخر يسمو علي ذلك فيقول انه كان رسول الله، وانه كان يحمل رسالة من الغيب، وكان الوحي يتنزل عليه، ولكنه كان في بعض الاحيان يرتكب بعض الأخطاء والهفوات، وتصورهم هذا ليس بالتصور الذي يليق بشخصية الرسول (صلي الله عليه وآله).

معرفة كافية

وهناك من يعرفه (صلي الله عليه وآله) باعتباره اماماً للرحمة، وقائداً للهدي، وسراجاً منيراً، ولكن هؤلاء يقتصرون علي الكلمات وظواهرها التي جاءت في الذكر الحكيم، او وردت في الروايات والنصوص، او في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وما أجلها واعظمها من كلمات تصف شخصية الرسول (صلي اللهعليه وآله) بأعظم الوصف واجله.ومثل هؤلاء علي خير لأنهم عرفوا النبي (صلي الله عليه وآله) بأدني ما يمكن ان يعرف به؛ لقد عرفوه بالتجلي الظاهر له، وبالبشرية التي جعله الله - تعالي - فيها، وهذه المعرفة كافية، وصاحبها يكون من اصحاب الايمان.ولكن السؤال المهم المطروح هنا هو: هل بذلك فحسب تتم معرفة شخصية الرسول (صلي الله عليه وآله)؟كلا بالطبع، فنحن لو ادركنا بعمق معني ان الله - عز وجل - خلق نور نبينا محمد (صلي الله عليه وآله) قبل ان يخلق سماءاً أو أرضاً او ملائكة، ثم اضفنا هذه الفكرة الي الرواية التي وردت عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) فيقول: " يا علي ان أول خلق

خلقه الله عز جل العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر، وقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، بك آخذ وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب ". [6] لو عرفنا هذه الرواية وقارناها بتلك الفكرة، وعرفنا ان الله - تبارك وتعالي - خلق الكائنات خلال لحظة واحدة، وان هذه الكائنات بما فيها من شموس ومجرات ماهي إلا جانب من خلق الله، وان البشرية ليس باستطاعتها ان تبلغ آماد وابعاد الكائنات التي يخلقها الله في كل لحظة... لو عرفنا كل ذلك فلعلنا حينئذ نعرف شيئا من عظمة نبينا (صلي الله عليه وآله). ولكن هيهات، فهو (صلي الله عليه وآله) عندما يقول لعلي (عليه السلام):" يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا " فان هذا القول ليس مجرد مبالغات، ولكن عقولنا هي التي تقصر عن بلوغ وادراك هذه الابعاد.

معارض مترابطة

تري ماذا يعني ان الله - تعالي - خلق الكون بنور الرسول (صلي الله عليه وآله)، وخلق الجنة بنور أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)؟ وهل هي مبالغات وأوهام؟ اننا لم نعهد في كلامهم (عليهم السلام) اوهاماً ومبالغات، حيث جاء عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول في ذلك: خلقنا الله نحن حيث لا سماء مبنية ولا أرض مدحية و عرش ولا جنة ولا نار. كنا نسبحه حين لا تسبيح ونقدسه حين لا تقديس، فلما أراد الله بدء الصنعة فتق نوري فخلق منه العرش فنور العرش من نوري، ونوري من نور الله وأنا أفضل من العرش.ثم فتق نور ابن أبي طالب فخلق منه الملائكة، فنور الملائكة مننور ابن أبي طالب

ونور ابن أبي طالب من نور الله ونور ابن أبي طالب أفضل من الملائكة، وفتق نور ابنتي فاطمة منه فخلق السماوات والأرض فنور السماوت والارض من نور ابنتي فاطمة ونور فاطمة من نور الله، وفاطمة أفضل من السماوات والأرض، ثم فتق نور الحسن فخلق منه الشمس والقمر فنور الشمس والقمر من نور الحسن ونور الحسن من نور الله، والحسن أفضل من الشمس والقمر، ثم فتق نور الحسين فخلق منه الجنة والحور العين فنور الجنة والحور العين من نور الحسين، ونور الحسين من نور الله، والحسين أفضل من الجنة والحور العين ". [7] .ان ذلك الخلق الأعظم الذي خلقه الله - تعالي - مجردا من كل شائبة وتغيير، والذي بقاؤه مستمد من بقاء الذات الالهية، هذا الخلق وهبه الله للانسان وجعل نوره في قلب محمد (صلي الله عليه وآله) الذي هو حبيب الله - عز وجل -، وهذا اللقب يعني ان الله يحبه، ويكرمه، ويعظمه، وانه قد جعله اقرب الناس إليه. انها كلمة لا يمكن ان نعرف ولو جزءاً بسيطاً من أبعادها، إلاّ بعد ان نعرف شيئاً ما عن عظمة ربنا - سبحانه وتعالي -.تري لماذا سقطت في يوم مولده الاعظم شرفات المدائن، ولماذاغاضت بحيرة ساوة، وفاضت بحيرة السماوة، ولماذا اطفئت نيران فارس في معابدها، ولماذا ضربت نجوم السماء بعضها بعضا، ولماذا حدثت تغيرات هائلة في الكون؟ كيف ولماذا انبعث النور من بيت آمنة بنت وهب الي عنان السماء، هذا النور الذي اضيئت به جنبات مكة، ولماذا جعل الله - تعالي - امته افضل امة، وخير امة أخرجت للناس؟اننا إن لم نعرف هذه الحقائق ولم نأخذها بعين الاعتبار فان علاقتنا بالنبي (صلي الله عليه وآله) ستكون

علاقة طفيفة هشة وغير كافية لكي تحملنا الي الدرجات السامية، وبالاضافة الي ذلك فان معرفتنا بالرسول (صلي الله عليه وآله) إن لم تتم فان معرفتنا بالأئمة (عليهم السلام) لايمكن ان تتم، ومن لم تتم معرفته بهم (عليهم السلام) فان دينه سيكون ناقصا كما يشير الي ذلك بصراحة الدعاء المعروف:" اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني " [8] .

المعرفة حب و سلوك

فلنكمل معارفنا التي هي درجاتنا الي الله - تعالي -، ولابد ان تتحول هذه المعرفة الي حب، والحب الي سلوك، والسلوك الي برنامج، والبرنامج الي خط نستقيم عليه حتي الممات، والمعرفة إذا كانت متكاملة، وكانت معرفة العقل والعاطفة، ومعرفة اتصال القلب بمن يعرف، فان هذه المعرفة هي التي ستتحول الي حالة حب، وفي هذه الحالة سنحب الرسول (صلي الله عليه وآله)، والحبيب لمن يحب مطيع - كما يقال -، فالانسان يتبع ويطيع من يحبه شاء أم أبي، لان القسم الأكبر من سلوكيات الانسان يمثل الجزء غير الواعي منه.وعلي هذا فان مجموعة كبيرة من سلوكيات الانسان تتبع اللاوعي، فالحب والبغض يدخلان في اللاوعي وهما اللذان يقودانه، فعندما يجعل الانسان شخصا ما قدوته، واسوته، وامامه، وقائده، ويضمر له الحب الكبير فان سلوكيات هذا الشخص سوف تنعكس عليه بشكل لا إرادي.فإن أحب الانسان شخصا كالنبي (صلي الله عليه وآله) الذي هو حبيب الله ورسوله، وصاحب الخلق العظيم، والآداب الرفيعة، والسلوك السامي، فانه - بالطبع - سوف يبرمج فكره، وسلوكه، ولاوعيه طبقاً لحياته (صلي الله عليه وآله).يخطئ من يزعم ان اكثر اعمال الانسان تصدر

منه قسريا، بل انها علي العكس من ذلك تأتي بصورة عفوية وبدون تكلف، ولكن هناك حاجزاً لابد من التذكير به عسي ان يكون هذا التذكير مفيداً، وهذا الحاجز يتمثل في اننا نحب الرسول (صلي الله عليه وآله)، واننا نحرص علي ان نربي اطفالنا علي حبه وحب الأئمة (عليهم السلام) ولكن المشكلة اننا لا نعرف سلوكه، فعندما نري ان حياتنا مختلفة عن حياته (صلي الله عليه وآله) فالسبب في ذلك يعود الي قلة معرفتنا بسيرته.ان علينا ان ننظر الي حياة الرسول (صلي الله عليه وآله)؛ كيف كان يمشي، وكيف يصافح، ويبتسم، ويبكي، ويقوم، ويجلس... فهذه كلها آداب وبرامج نحن بعيدون عنها ولو عرفناها معرفة كاملة لاستطعنا التكيف معها.

لا للمعرفة المجزأة

وهناك ملاحظة اخري وهي ان معرفتنا بالرسول (صلي الله عليه وآله) يجب ان لا تكون معرفة مجزأة فعلينا ان لا نعرفه (صلي الله عليه وآله) كقائد، ثم نجهله كمعلم ومرب، ثم نجزئ هذه المعارف عن بعضها لتكون مجموعة نقاط غير مترابطة مع بعضها، فمثل هذه المعرفة الناقصة والمشوهة لاتدفعنا الي اتباع النبي (صلي الله عليه وآله)، بل لابد ان نجعل معرفتنا بحياته وسيرته معرفة متكاملة؟ أي ان ننظر اليه (صلي الله عليه وآله) من خلال معرفتنا بسيرته، وكأننا ننظر الي شخص حاضر امامنا، وحينئذ سيصبح النبي (صلي الله عليه وآله) امامنا حقاً، ومن اصبح الرسول امامه اهتدي حتي في بعض السلوكيات التي لم نجد الحديث عنها في التأريخ بشكل مباشر، فنحن في هذا المجال نستطيع ان نتصور ان الرسول (صلي الله عليه وآله) لو كان موجوداً فماذا كان سيفعل؟ وذلك من خلال معرفتنا بسائر أبعاد شخصيته.

غبن و خسارة

ان من الغبن والخسارة والحرمان ان يعيش الانسان المسلم سنوات طويلة من عمره وهو لايعرف ائمته، ولا يعتقد بهم إلاّ اعتقاداً سطحياً وعابراً.وعلي سبيل المثال فاننا نذكر الامام علي (عليه السلام) دون ان نتعمق في شخصيته وهكذا الحال بالنسبة الي سائر الائمة (عليهم السلام) فنحن لانعرف عنهم إلا مقتطفات نسمعها من بعض الخطباء الذين لايذكرونا إلا بجانب بسيط من حياتهم، أفليس من المؤسف ان نكون مقصرين في معرفتهم في حين ان معرفتهم هذه من شأنها أن تنجينا في الدنيا والآخرة كما تؤكد علي ذلك الروايات.فلنحاول - اذن - ان ندرس حياة النبي (صلي الله عليه وآله) وحياة الأئمة (عليهم السلام) دراسة من منظار جديد يعيننا علي ان نعيش وفقا لبصائرهم وسلوكياتهم، ولنعلم ان هذا هو السبيل الوحيد لاحياء الاسلام،

ونشره في ارجاء المعمورة.

النبي محمد وسيلة الرحمة

حقيقة وجود الانسان ونسبته الي هذا الكون لاتحدّد من خلال نظرة محدودة الي حياته وحياة هذا الكون العظيم من حوله، لكن نظرة واقعية تنطلق من أفق علمي ربما تكشف للانسان أنه لايتفاعل إلا مع جزئيات محدودة من هذا الوجود وأن حياته ليست إلا لحظة من عمر الزمن إذ الزمن يمتد ويمتد الي مالا نهاية له في علمنا وكذلك الي المسافة التي لا نهاية لها في علمنا، فقبل عالمنا هذا ألف ألف عالم وقبل أبينا آدم علي نبينا وعليه السلام ألف الف آدم.ولعل مقارنة نسبية تكشف جانباً من واقع حياة الانسان ووجوده بالنسبة الي الكون والوجود كله. فحين يُسائل الانسان نفسه عن نسبته إلي هذه الارض التي يعيش عليها، بمعني أنه لو جعل نفسه في كفّة والارض في كفة أخري سيقف علي حقيقة أنه ليس إلاّ كنسبة حصاة صغيرة الي صحراء مترامية الأطراف وليس إلا كقطرة في بحر قمقام، ولن يجد نفسه إلا حلقة صغيرة في سلسلة بني آدم بل هو بالنسبة الي عمر الدهور والازمان لمحة أو لحظة لا تكاد تذكر.هذه نسبة الانسان الي الارض وذات النسبة هي نسبة الارض الي العناقيد والمجرات المحيطة بها، وحين يريد أحد العلماء ان يقرّب لنا هذا المفهوم ويصور لنا هذه الحقيقة يقول: تصور أنك تدخل مكتبة عظيمة تضمّ مليون كتابٍ وأنت تبحث فيها عن اصغر الكتب حجماً ومن ثمَّ تبحث عن أصغر صفحة وعن أصغر سطر في تلك الصحفة وعن اصغر كلمة في ذلك السطر ثمَّ عن أصغر حرف في تلك الكلمة، فالارض ذلك الحرف بالنسبة الي محتوياتها من الكتب والصفحات والاسطر والحروف. وهذا عالم فلكي آخر حينما يريد أن يحدد لنا العلاقة ويبين

لنا النسبة بين حجم الارض وحجم هذا الكون الرحيب يقول: أرضنا هذه وما حولها من كواكب وحتي المنظومة الشمسية هذه جميعها ليست إلا كسمكة من هذه الاسماك الصغيرة التي ترتاد شواطئ البحار وسواحل المحيطات والي الحيتان الموجودة في هذه البحار، ولكي تتكامل الصورة ويتضح هذا التشبيه وهذه النسبة نقول: إن هذه الشمس العملاقة الكبيرة بدرجة أن الارض لو القيت فيها لكانت ككرة صغيرة ترمي في ملعب كبير أو كحجارة في صحراء، شمسنا هذه لها في هذا الكون مقبرة تدفن فيها، فالله جلّت قدرته جعل في هذا الفضاء الوسيع مقبرة للشموس، مقبرةً تستوعب كل الشموس حين ينتهي مفعولها، بل حين يشاء الله سبحانه ذلك، حيث تؤخذ وترمي في هذه المقبرة التي يطلق عليها الحفرة السوداء أو المظلمة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ - وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ) (التكوير / 1-2) مقبرة لا تمتلئ بالشموس التي ترمي فيها.هذا الخلق العظيم حين يتضح للانسان لابد وأنه سيتصور الجانب الآخر ألا وهي الجنة التي وعد الله عباده المتقين في الدار الآخرة حيث أن هذا الكون بعظمته ليس بالنسبة للجنة إلا شيئا يسيراً بسيطاً (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَاْلأَرْضُ) (آل عمران / 133) وهذا انما يعني أن الجنة أوسع من كل هذه السماوات وهذه المجرات وكل الاجرام السماوية التي يعجز الانسان عن تصورها إلا أن يشاء الله تعالي بما يهبه للانسان من سلطان العلم (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوْا مِن أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوْا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ) (الرحمن / 33)هذا خلق الله جلّت قدرته، ولكن الذي ينبغي لنا هو أن نسأل أنفسنا عن دلالة هذا الخلق العظيم؛ وعلام خلق الله تعالي هذه الكائنات والمخلوقات، إذ لاشك أن لها دلالة علي

أمر أساسي حساس، ووعينا وادراكنا لهذا الامر هو الذي يشكل حجر الزاوية ويضع لبنة الاساس في بناء معارفنا وتطوير أفكارنا وكياننا الثقافي، وليس ذلك إلاّ رحمة الله تبارك وتعالي التي بها خلق الشمس والقمر والنجوم وكل المخلوقات فانه سبحانه وتعالي يقول: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الاعراف / 156).وهذا يعني أول ما يعنيه أن رحمته تبارك وتعالي واسعة، فكما أن علم الله سبحانه وتعالي نافذ في كل شيء كذلك هي رحمته أحاطت ووسعت كل شيء، ولعل الواقع المنظور والحقيقة المعلومة بالتفكر العلمي العميق لا تسمح أن نمثل سعة الرحمة الالهية بمثل البحار وأمواج الانوار وما إلي ذلك من المحسوسات المرئية والمتصوّرة في حدود تفكر الانسان إذ هي أمثلة بسيطة ضعيفة في المقام إذا ما قورنت بما وسعت رحمة الله تبارك وتعالي، وبتعبير آخر يمكن أن نقول أن هذه الآيات والدلالات كخلق الشمس والقمر والكواكب إن هي إلا رحمة منه تعالي، لكن الرحمة الربانية أوسع وأكبر وأعظم من هذه الآيات كلّها. فالتعبير القرآني الدقيق يقول: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) (غافر / 7) ومنه يتجلي محتوي أبعد وأعمق وتبدو فكرة أدق إذ كل شيء لم يكن مخلوقاً أو موجوداً لولا رحمة الله تعالي، لان الله سبحانه هو الرحمن الرحيم، خلق الاشياء برحمته، وهنا لابد من الاشارة إلي فكرة أو بصيرة معينة، وهي أن هذه الرحمة الإلهية لها وسيلتها، فالله عزّ وجلّ عندما أراد أن يبعث النور الي الأرض خلق الشمس وخلق القمر، وجعل الشمس ضياءً والقمر سراجاً منيراً، وحين أراد أن يروي هذه الارض من عطشها بعث بالسحب من أقاصي البحار والمحيطات تحمل المياه، ثم أمر بالرياح المبشرات أن تحمل هذه الملايين من الاطنان من الماء الي

أعالي الجو تلك السحب التي قد تبدوا لأوّل وهلة أنها ليست إلاّ قطرات من الماء حملت عبر زجر هذه الرياح لتقطع المسافات الشاسعة وآلاف الكيلو مترات ثم لتهطل علي القمم السامقة الشامخة من الجبال وعلي الصحاري والوديان رواءً (وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِن رَّحْمَتِهِ) (الروم / 46)، هذه وما لا يعدّ ولا يحصي مثلها هي وسائل الرحمة الالهية، فحين أراد الله أن يخلق الانسان في هذه الارض جعل لخلقه الوسيلة اذ جعل له أباً وأمّاً وسيلتين لخلقه ولو شاءت الارادة الالهية أن ينبت الانسان من الارض كما ينبت النبات لكان قد جعل في الارض الوسيلة لتحقق ذلك، وهو جلّت قدرته حين اراد أن يرزق الانسان من الخيرات جعل في الارض وسيلة لنمو الاشجار والنباتات بما هيّأه تعالي من ماء وتربة ومزارعين.اذن فلله في خلقه وسائل ورحمته لها وسائل، فماهي الوسيلة الاساسية المثلي التي خلق الله بها هذا الكون؟ ونحن حين نطرح تساؤلاً عن كيفية حدوث الشمس وتكونها علي ماهي عليه الآن، علي واحد من علماء الفضاء فانه سيجيب بأدلته الخاصّة بان الشمس كانت مجموعة من غازات مثل الهليوم وغيره ونتيجة جاذبية هذا الكوكب تكثفت هذه الغازات وتكونت الشمس، بل لعل تصور العلماء عن مستقبل المشتري، هذا الكوكب العملاق الذي يدور حوله ستة عشر قمراً او سبعة عشر قمراً؛ بأنه بعد عشرة ملايين أو عشرين مليون سنة أو أكثر أو أقل سيصبح شمساً لما تحدث فيه من التفاعلات والتحولات الذرية التي هي بدورها وسيلة لصيرورته شمساً في المستقبل، وهذا هو أحد الاحتمالات الهامة التي يطرحها علماء الفضاء، فهم بتعليلاتهم يطرحون الادلة والوسائل والاسباب التي جعل الله تعالي الشمس شمساً والقمر قمراً والأرض أرضاً،

بل ويؤكدون بان كل شيء يخلق بوسيلة، ومنه يتبادر الي الذهن التساؤل عن وسيلة أصل الخلقة، وأن الله تعالي لما أراد أن يكون هذا الكون وأن يخلق بوسيلة فماهي تلك الوسيلة إذن؟إرادة الله تبارك وتعالي هي أن يرحمنا، ومشيئته ان يفيض برحمته علي هذا الكون وأن يتجلي بأسمائه الحسني علي هذه المخلوقات، فقد شاءت ارادته أن يجعل هذا الخلق وسيلة فخلق نوراً لكنه ربّاه وحسّنه وبلوره ونمّاه فكان وسيلة لخلقة الكائنات، وذلك النور هو نور نبينا محمد صلي الله عليه وآله وسلم، نور الرحمة. وحين نقول خلقة الكائنات فلا نعني خلقة هذه الارض فحسب إذ هي - كما سبق لنا القول - ليست إلا ذلك الحرف الصغير في المكتبة العظيمة او تلك السمكة الصغيرة علي شاطئ البحر، بل تلك الحصاة في الصحراء المترامية الأطراف، وانما نعني مئات الملياردات من العناقيد والمجرات التي تضم بدورها الملياردات من الاجرام السماوية، ولعل كلمة المليارد تبدو للوهلة الأولي بسيطة لن تعدو عن كونها لفظة لسان فحسب لكن الحقيقة أن المليارد الواحد ربما يستغرق المئات من السنين عدّاً، هذه هي الدنيا، فما بال الانسان بالآخرة والجنة التي هي أعظم وأوسع، كل هذه المخلوقات خلقت بأسماء الله الحسني. فكيف إذن خلق الله تعالي هذا النور حتي صار رحمة الله الواسعة.هنا لابد وأن يكون الذهن مهيّأً مستعداً لادراك فحوي الرواية عن الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إذ هكذا روايات يصعب عادة فهمها، لكننا وبما تقدم من التمهيد لعلنا نكون وفقنا لتهيئة المناخ الذهني لاستيعاب بعضاً من جوانب هذه الرواية عن الخصال والمعاني باسنادٍ الي جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جدّه علي بن أبي طالب صلوات الله

عليهم قال: " ان الله خلق نور محمد صلي الله عليه وآله قبل خلق السموات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار... " أما ماهو اللوح وماهو الكرسي والعرش فهذا بحث آخر لعلنا نأتي عليه مستقبلاً إن شاء الله، ".. وقبل أن خلق آدم ونوحاً وابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب وموسي وعيسي وداود وسليمان، وكل من قال الله عزّ وجلّ: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَي وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَي وَعِيسَي وإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ - وإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَي الْعَالَمِينَ - وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الانعام / 84 - 87) فكان خلق نور محمد (صلي الله عليه وآله) قبل ذلك باربعمئة ألف واربع وعشرين سنة قبل خلق الانبياء كلهم وقبل الجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم، " وخلق الله معه اثني عشر حجابا " ولعل هذه الحجب - والله أعلم - هي درجات يرتقي النبي (صلي الله عليه وآله) عبرها " حجاب القدرة وحجاب العظمة وحجاب المنّة وحجاب الرحمة وحجاب السعادة وحجاب الكرامة وحجاب المنزلة وحجاب الهداية وحجاب النبوّة وحجاب الرفقة وحجاب الهيبة وحجاب الشفاعة، ثم حبس نور محمد (صلي الله عليه وآله) في حجاب القدرة اثنتي عشر ألف سنة " كان النبي (صلي الله عليه وآله) نوراً في هذه السنين المتطاولة" يقول: سبحان ربي الأعلي " أي النور في حجاب القدر كان يسبح طول هذه السنين يقترب في كل مرة من رب العزّة " وفي حجاب العظمة أحد عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان عالم السرّ، وفي حجاب المنّة عشرة آلاف سنة

وهو يقول: سبحان من هو قائم لا يلهو وفي حجاب الرحمة تسعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان الرفيع الأعلي، وفي حجاب السعادة ثمانية آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو دائم لا يسهو، وفي حجاب الكرامة سبعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو غني لا يفتقر، وفي حجاب المنزلة ستة آلاف سنة وهو يقول: سبحان ربي العلي الكريم، وفي حجاب الهداية خمسة آلاف سنة وهو يقول: سبحان ذي العرش العظيم، وفي حجاب النبوّة أربعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان ربّ العزة عما يصفون، وفي حجاب الرقعة ثلاثة آلاف سنة وهو يقول: سبحان ذي الملك والملكوت، وفي حجاب الهيبة ألفي سنة وهو يقول: سبحان الله وبحمده، وفي حجاب الشفاعة ألف سنة وهو يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، ثم أظهره عز وجل فكان علي ساقي العرش سبعة آلاف سنة الي أن وضعه الله سبحانه في صلب آدم " فكل حجاب من هذه الحجب هو اسم من اسماء الله تبارك وتعالي وكل حجاب من هذه الحجب درجة من درجات القرب الي الله سبحانه وتعالي، والنبي (صلي الله عليه وآله) في كل حجاب من هذه الحجب وفي كل درجة من هذه الدرجات يسبح الله وحده، يوحّد الله عزّ وجلّ يسبح الله وينزهه، فكان النبي (صلي الله عليه وآله) أول العابدين في ذلك الكون. فاذا كان هناك سماء مبنية وأرض مدحية أو كان فلك يدور وبحر يموج ويمور ومياه تجري في هذا العالم كالنيل والفرات وسيحون وجيحون والدانوب والمسبّي وكل البحار والمحيطات كلها عبر قناة نبي الرحمة إذ هو الوسيلة للرحمة الإلهية، الوسيلة الي كل الكائنات، الي الحور العين، الي الجنة والملائكة جبرئيل وميكائيل وعزرائيل واسرافيل (عليهم السلام)، بل

والي اللوح والقلم واكثر من ذلك الي الروح وهو أعظم الملائكة. ونحن ايضاً إذا ما أردنا نعمة أو رحمة، إذا أردنا فضيلة أو تقوي حب او ود، إذا أردنا كرامة وتقدم أو قدرة وهيبة انما ذلك بوسيلة الرحمة بنبي الرحمة صلوات الله عليه وعلي آله. وهذه كلها حجب النور أو بحار النور كما في رواية أخري، إذ كلها أنوار، فالكرامة نور والهيبة نور والقدرة نور والعزة نور والرحمة نور والشفاعة نور بدورها أيضاً وتلك هي اسماء الله الحسني التي كوّنت النبي (صلي الله عليه وآله)، فليس لطالب واحد من هذه الانوار إلا أن يلتمسه عن طريق النبي محمد (صلي الله عليه وآله) نبي الرحمة ووسيلتها وعن طريق أهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.هذا النور الالهي قسّمه الله تعالي الي ثلاثة أقسام، قسم هو نور النبي (صلي الله عليه وآله) وقسم نور الصديقة الكبري سلام الله عليها والقسم الثالث نور الامام علي (عليه السلام) والأئمة عليهم السلام، ولاريب أن قبساً وومضة من هذا النور كان نصيب المؤمنين فانتشر عليهم، ودليله الايمان وحب النبي (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين وأيضاً هذا الالتزام من المؤمنين بولايتهم بحضور المجالس المعقودة لذكرهم، إذ هذه المجالس روضة من رياض الجنة ومنهلاً بين يدي الانسان يروي منه ضمأه وعطشه وليس الغرض منها مجرد الحضور البدني والشرود الذهني عن نورها بمغريات الحياة ومشاكلها والخروج منها صفر اليدين، فالمجالس المعقودة لذكر فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) ولذكر الحسين والأئمة (عليهم السلام) انما هي البساتين التي يجني منها الانسان ما يلذ له من الثمار وما تصفو به نفسه وتكتمل شخصيّته بتكامل معارفه وبالتالي تغدو سلّماً يرتقي به الي

المراتب العليا، لذا فالحق أن يقال أن المؤمن لايجب أن يكتفي بهذه القطرات من الدموع، وإن كانت هذه الدموع تطفئ ودياناً من نار جهنم إلا أن الدموع المصحوبة بالمعرفة والبصيرة المستنيرة بالنور النبوي العظيم هي التي تأخذ بيد المؤمن وستكون وسيلة يجتاز بها الحجب وبالتالي الحصول علي وسيلة الرحمة، ومن هنا لابد للانسان المؤمن أن يكمل نوره بنور ولايته فبها تقبل الطاعات والعبادات، فكم من صلاة مرفوعة وكم من صلاة مدفوعة وكم منها مقبول وكم منها غير مقبول، ذلك مرتبط ارتباطاً وثيقاً لاينفصم بمقدار النور وبمقدار الولاية وبمقدار التسليم لله تعالي. فصلاة ركعتين يؤديها الانسان لاتستغرق من الزمن إلاّ دقائق هي نفسها الدقائق التي تستغرقها صلاة امام المتقين علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، لكن الصلاتين في ميزان الاعمال تختلفا للاختلاف الشاسع في مدي المعرفة ومستوي التسليم لله الواحد الأحد، بل وهذه المعرفة وهذا التسليم لا يتمّ إلا بآيات الله تبارك وتعالي وبأسمائه ومن أسمائه بنوره، وقد تبيّن لكل ذي لب أن الاسماء الحسني هم أهل البيت الطاهرين صلوات الله عليهم والولاء لهم، والتمسك بنورهم الذي يزيدنا نوراً ومعرفة بهم وتسليماً لهم وايماناً وتصديقاً بكلماتهم.وصلي الله علي سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

النبي الشاهد

اشاره

قال تعالي - في وصف النبي (صلي الله عليه وآله) والثناء عليه: -(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً اِلاَّ الله وَكَفَي بِالله حَسِيباً - مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً - يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلآَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ اِلَي النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً - تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ

سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً - يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً - وَدَاعِياً اِلَي الله بِاِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِاَنَّ لَهُم مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً). (الاحزاب / 39 - 47)يصف القرآن الكريم النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله) سيدنا وشفيعنا وقائد مسرتنا محمد بن عبد الله (صلي الله عليه وآله) بصفات كريمة شتي؛ فهو رحمة للعالمين، وهو مبشر ونذير، وسراج منير، ورسول الي البشرية كافة.

الشهادة في الطليعة

والصفة التي اريد ان اتحدث عنها في هذا الفصل هي صفة " الشهادة "، ففي اكثر من موضع يؤكد القرآن الكريم علي ان النبي (صلي الله عليه وآله) شاهد: (يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً) (الاحزاب / 45).بل ان هذه الصفة تأتي في بعض الاحيان في طليعة الصفات الذي يثبتها الخالق - تعالي - للنبي (صلي الله عليه وآله) كما لاحظنا في الآية السابقة.ولقد اخترت هذه الصفة لكونها صفة مشتركة بين الرسول وبين من يتبعه من المؤمنين؛ فالنبي (صلي الله عليه وآله) شاهد علي الأمة، والأمة الاسلامية المؤمنة - بدورها - شاهدة علي الامم الاخري.وعلي هذا فان (الشهادة) تمثل كلمة ينبغي ان نقف عندها طويلا نتدبر فيها لانها الجسر الممتد بيننا وبين رسولنا، وبيننا وبين قائدنا، فماذا يعني هذا المصطلح، وماهي ابعاده؟قبل ان نبين معني هذه الصفة الكريمة في حياة الرسول (صليالله عليه وآله) - أري - من الضروري ان امهد لذلك بمقدمة تسهل عملية فهم مغزي هذا المصطلح:من المعلوم ان الانسان يمثل وجوداً ليس كسائر الوجودات؛ فآفاقه لاتحد، وحياته ممتدة من الناحيتين؛ الزمانية والمكانية، وعلي الواحد منا ان يعلم في هذا المجال انه كان قبل ان يهبط علي هذه الأرض في صلب ابيه آدم

في الجنة، والذي كان هو وزوجه حواء ضيفين كريمين علي ربهما في مضيف الله - سبحانه وتعالي - المتمثل في الجنة واكرم بها من مضيف...وقبل ان يكونا كذلك كانت البشرية في عالم الذر، وقبل عالم الذر كانت في عالم الاشباح حيث خلق الله - تعالي - الارواح قبل الابدان بألفي عام لا يدري هل هي من اعوام الدنيا ام الآخرة.ومن جهة أخري فبعد حياتنا القصيرة هذه في الدنيا ستكون لنا حياة ممتدة في عالم البرزخ الذي يشير اليه - تعالي - في قوله: (وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون / 100).وبعد هذا العالم سنمثل للحساب في يوم القيامة لمدة خمسين الف عام، ونحن لانعلم هل سنبقي في القبر لعشرات السنين ام لمئات ام لآلاف او ملايين السنين لان التاريخ الدقيق لقيام الساعة لايعلمه إلاّ الله - عز وجل - لقوله: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ اَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماوَاتِ وَالاَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَاَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) (الاعراف/187).فالله هو وحده الذي يمتلك علم الساعة، فلا يجليها لوقتها إلا هو..

خلود لا متناه

وبعد ان تمر الخمسون الف عام في يوم القيامة يأتي الخلود اللامتناهي حيث الزمن المطلق، وحيث يقف التفكير عاجزاً كليلاً عن اكتناه معني الخلود، فهل يستطيع الواحد منا ان يعرف الخلود وان يقيسه حتي لو كانت لديه اضخم الكومبيوترات وأكثرها دقة؟!واما عن العمق المكاني فيكفيك ان تعرف انك جزء من ارض هي جزء من منظومة، والمنظومة بدورها هي جزء من ملايين المجرات التي لا يعرف الانسان عنها شيئا!تري ماذا يعني قول الله - عز وجل - في القرآن الكريم عندما يقول عن رسوله الكريم: (وَمَآ

أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء / 107).فماهو العالمون؟ انه عالم الوجود بما فيه من ملايين المنظومات والمجرات، ورسول الله (صلي الله عليه وآله) جاء رحمة لهذه العوالم كلها، فحدود الانسان - اذن - لا تنتهي.

مخزن طاقات هائل

وإذا ما غضضنا النظر عن هذا الحساب التجريدي الفلسفي، وقسنا الأمور بمقاييس مادية محدودة كما تعودت علي ذلك اذهاننا، رأينا ان الانسان يمتلك من الطاقات والقدرات مالا يمتلكه أي كائن آخر؛ فهو يستطيع ان يصبر علي الحر والبرد اكثر من أي حيوان آخر، ويستطيع ان يعدو اسرع من الغزلان والفهود، كما ان هذا الانسان الذي يبدو بسيطا استطاع الآن ان يصنع اسلحة تعمل بأشعة الليزر وبامكانها ان تفني الكرة الأرضية، كما وبعث مركباته الي الكواكب الأخري ومن جملتها القمر، وهكذا فقد دخل في أعماق الفضاء، وهزم حاجز المسافات...

الشيطان آفة الانسان

ومع كل ذلك، ومع وجود هذه القدرات الخارقة فقد سلط علي هذا الانسان الشيطان الذي يقيم من حوله جدرانا قد لا يستطيع ان يخترقها، تري ماهو هذا الجدار؟ وماهي تلك الزنزانة التي يعتقل الشيطان الانسان فيها فيوحي له باليأس، وضعف الارادة وعدم الثقة بالنفس؟ فالشيطان يوحي للانسان بأنه كائن حقير، فيمنعه بذلك من التقدم، والانطلاق، ومن ان يجعل من نفسه انساناً كاملاً.هل فكر الواحد منا ولو للحظات لماذا لا يصلي صلاة الليل، ولايكون كأبي ذر، وسلمان، وعمار وغيرهم من القمم الشاهقة في البطولة والانسانية، ولماذا لا يتبع سيرة رسول الله (صلي الله عليه وآله)؟ان هذه تساؤلات يستطيع كل واحد منا ان يوجهها الي نفسه، فلنفكر ولنتدبر في نفوسنا لكي نعرف نقاط الضعف فيها، والثغرات التي ينفذ من خلالها الشيطان اليها، فالشيطان يخيفك، وعندما تريد علي سبيل المثال ان تقوم الليل لتبتهل الي الله - سبحانه وتعالي - فانه يوحي اليك بانك بحاجة الي الراحة والنوم لان امامك في الغد مشاكل، واعمالاً، ودراسة...، وهكذا الحال عندما تريد ان تقوم بعمل جبار كأن تتحدي الطغاة وضغوطهم، فانه يثبط من

عزيمتك من خلال اخافتك...وعندما تريد ان تصبح انسانا تقيا طاهرا فان الشيطان يقف لك بالمرصاد ايضا، فيوحي لك بان الناس جميعهم يكذبون ويحتالون، فلماذا لاتكون مثلهم لكي لاتأكلك الذئاب؟

اليأس سلاح شيطاني

ان السلاح الفاعل للشيطان هو ان يبعث اليأس في نفسك، ويسجنك في زنزانة استصغار واحتقار قدراتك وطاقاتك، فيوحي لك بانك لاتستطيع ان تتبع الشخصيات المثالية العظيمة... تريكيف نستطيع ان نقاوم هذا السلاح ونبطل مفعوله؟ان البشرية - مذ ظهرت - كانت تكرم الابطال، وتقدس البطولات، لان الابطال هم الذين يخترقون حاجز اليأس، ويثبتون للناس ان باستطاعتهم ان يبلغوا ما يريدونه، وهذا هو السبب الذي دفع البشرية الي ان تكرم وتقدر النوابغ، والعلماء الذين قدموا خدمات جليلة لها وذلك لانهم استطاعوا اختراق الحواجز الشيطانية.ان الله - جلت قدرته - اراد ان يمنح للبشرية القدرة علي تحطيم حواجز اليأس والضعف والمسكنة والحقارة، فبعث رسوله محمد بن عبد الله (صلي الله عليه وآله)، فاذا به يصبح شاهدا بشهادة قوله - تعالي -: (يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً). (الاحزاب / 45)

ماهي شهادة النبي؟

تري ماهي شهادة النبي (صلي الله عليه وآله)؟ ان شهادته هذه تتمثل في انه نهض لوحده ضد الجاهلية التي اطبقت علي الارض، فالاصنام كانت تعبد حتي في بيت الله الحرام، فكان الناس يعيشون في الظلم. الامبراطورية الفارسية من جهة، واليونانية الرومانية من جهة أخري، والجهل والمرض والفقر مخيم في كل مكان... وفي هذه الفترة بالذات بعث الله - عز وجل - النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله) لا لكي يحطم الاصنام في الجزيرة العربية فحسب، وانما لكي يؤسس دولة اسلامية تكون القدوة للدول الاسلامية الاخري في سائر العصور، وليكون رحمة للعالمين، ويحرك البشرية باتجاه الحضارة والرقي والتكامل، لكي يكون دين الله هو السائد علي الدين كله ولو كره المشركون.وهكذا قدم رسول الله (صلي الله عليه وآله) وكل جزء من اجزاء حياته شاهد علي البشرية، وكل لحظة

من لحظات عمره الشريف المبارك كانت سراجا منيرا للبشرية، ورحمة لها، وعندما يعود الي مكة بعد هجرته الي المدينة وتأسيسه للمجتمع الاسلامي فيها يقول لأهلها وقلبه مفعم بالرحمة، والحب، والتسامح: " اذهبوا فأنتم الطلقاء " [9] رغم انهم قاوموه، واخرجوه من بلده، وفرضوا عليه ذلك الحصار الجائر الذي اودي بحياة اثنين من حماته، ومن اعز الناس عليه ألا وهما؛ زوجته خديجة الكبري، وعمه ابو طالب...

اخلاق استوعبت البشرية

هذا الخلق العظيم، وهذه الرحمة التي استوعبت البشرية كلها،كانت تجمع الي جانبها الشجاعة الفائقة، والبطولة العديمة النظير الي درجة ان الامام علياً (عليه السلام) الذي يضرب به المثل في الشجاعة كان يقول: " كنا اذا احمر البأس اتقينا برسول الله (صلي الله عليه وآله) فلم يكن أحد منا أقرب الي العدو منه ". [10] .وعندما يفقد رسول الله (صلي الله عليه وآله) حاميه المؤمن أبا طالب (عليه السلام)، يخرج (صلي الله عليه وآله) باسلامه من مكة الي الطائف لعله يجد في هذه المنطقة من يحميه، ويصطحب ابنه المتبني زيد بن حارثه، وإذا بأهالي هذه المدينة يستقبلونه أسوأ استقبال، فيغرون الاطفال والصبيان به.ومع كل ذلك فقد "... قام (عليه السلام) عشر سنين علي أطراف اصابعه حتي تورمت قدماه واصفر وجهه يقوم الليل أجمع حتي عوتب في ذلك فقال الله عز وجل (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي) بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتي يغشي عليه فقيل له يا رسول الله أليس الله عز وجل قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال بلي أفلا أكون عبداً شكوراً... " [11] فيضرب بذلك المثل الأعلي في الخلق العظيم الي درجة ان رجلا يأخذ بتلابيبه في احدي المرات، ويحاول خنقه، الا

ان الرسول (صلي الله عليه وآله)يضحك في وجهه، ويصلحه.وفي مرة أخري يشهر رجل آخر من المشركين السيف في وجهه الكريم (صلي الله عليه وآله) قائلا له: من ينقذك مني؟ ويحاول ان يضربه فاذا بقدمه تزل، فيقع علي الأرض، فيأخذ رسول الله (صلي الله عليه وآله) السيف، ويقف عليه، ويقول للرجل المشرك: والآن من ينقذك مني؟ فيقول الرجل: حلمك يا محمد، فيعفو عنه، رغم ان هذا الرجل كان قائدا للجيش المحارب للرسول (صلي الله عليه وآله)، وببركة هذا العفو يدخل هذا القائد هو وجيشه الاسلام من دون ان تراق أي قطرة دم.ومن خلقه العظيم ايضاً انه كان يكرم ابنة حاتم الطائي لان اباها كان كريما، وكان يقول لها: " لو ان اباك كان مسلماً لاستغفرنا له، وترحمنا عليه ".ومن عظيم سجاياه ايضاً انه كان يدعو لقومه قائلاً: " اللهم اهد قومي فانهم لايعلمون " [12] رغم انهم كانوا يؤذونه، ويصبون عليه وعلي اصحابه الويلات، والعذاب.كل ذلك لكي يصبح الرسول (صلي الله عليه وآله) شاهداً علينا، ويكون قدوة لنا كما يقول - تعالي -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا الله وَالْيَوْمَ الأَخِرَ) (الاحزاب / 21).وهذه الشخصية العظيمة انما تكون قدوة لنا إذا سرنا علي خطها، وكنا في مستوي التأسي والاقتداء بها.

قدوة المؤمنين

اشاره

لقد خلق الله سبحانه وتعالي الانسان ليكون اشرف واكمل واسمي خليقته علي هذه البسيطة، بل من اجل ان يستضيفه الي دار الخلد والنعيم.. الي الجنة.. كما سخر له كافة الكائنات والمخلوقات الأخري في خدمته ومن اجله، حتي جعل الملائكة التي نزهت من كافة الفواحش والذنوب في خدمة هذا الانسان، بل فوض تعالي الانسان قيادة وخلافة الارض مالم يفوض اي من

مخلوقاته.. (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة / 30).. لماذا؟ هل لان هذا الانسان اضخم واكبر حجما وطولا من هذه الجبال والكواكب والمعادن و..؟ كلا..ان الله سبحانه فعل ذلك بعد ما زود الانسان بنور العقل وقوة الارادة، ومنحه قدرة الاختبار والانتخاب؛ ان شاء اختار سبيل الهدي، وان شاء اختار طريق الضلال.. (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الانسان / 3).لذا حينما يتجاوز هذا الانسان بارادته العقبة ويقتحمها ويتسامي، فانه يستحق العظمة، ومن يباهي ربنا ملائكته به.. وما ادراك ما الملائكة؟

الانسان اسمي من الملائكة

انهم بزمام ايديهم ادارة حركة الرياح و الشمس و الارض و السحاب بتوكيل وبقدرة الباري عز وجل، بالرغم من ذلك فان الله يجل شأن عبده الانسان ويفضله علي ملائكته.بلي.. ان ذلك العبد الذي ارتخت جوارحه في جوف الليل، وفي تلك الليلة الباردة التي سكنت فيها الانفاس وهام ظلام الليل علي اهله، وهو يرقد علي فراشه الوثير، ثم تدغدغه ساعة اللقاء والوصل بمقام العزة والربوبية فينتزع نفسه قبل اذان الفجر من فراشه ليتوضأ، ثم ليستقبل القبلة مناجياً المولي القوي العزيز يطلب منه العون والقرب والكمال.. انه يركع ويسجد ويخشع قلبه خوفاً من غضب الله، ورجاءاً في ثوابه وجزيل آلاءه.. هذا الانسان لايحق للملائكة ان تشكو الله تفضيله عليها، وذلك لان هذا الانسان المؤمن قد استجمع كافة عوامل الضعف في وجوده المادي وجسده النحيف، الا انه قوي بارادته. فلهذا يقتحم كافة عقبات الضعف والهوان المادي بتوكله علي الله القوي العزيز ليدخل في حصن الرب، ورياض الرحمة الربانية.

سباق التكامل

ان الملائكة لم تعان من عوامل الضعف والهوي، حتي تتسلق مدارج الكمال والرقي والقرب الالهي خطوة.. خطوة، غير ان الانسان يصارع بارادته كل يوم بل كل لحظة كافة عوامل الضعف الموضوعة امام مسيرته في هذه الحياة كيما يحرز علي قصب السبق رجاءاً وطمعاً في رحمة الله اللامتناهية.اذن؛ ان قصة مسيرة الانسان علي وجه هذا الكوكب الارضي، هي قصة صراع الارادة وسباق التكامل والرقي البشري.. ففي هذه المسيرة ينبغي وجود بعض القدوات والنماذج الطيبة التي تستدعي الاقتداء بها والوصول الي سلالم الكمالات الانسانية، وذلك لما تتمتع به هذه القدوات من صفات انسانية عالية تستحق التأمل والاعتبار.ومن هنا تتجلي احدي جوانب مهام الانبياء والرسل والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، كيما يكونوا قدوات واقعية

وميدانية ونماذج متحركة وحية، وترجمان لفحوي التعاليم والقيم الالهية امام انظار الناس.

القدوة.. ضرورة

ان هؤلاء الانبياء العظام والقدوات المباركة عرفوا قدر حياتهم ووجودهم فتسابقوا صوب نعيم الباري عز وجل، فكانوا ينظرون الي الحياة باعتبارها جسرا وطريقا للوصول الي الجنة، بل كانوا يستشعرون الجنة في الدنيا، وكذلك عذاب النار وهم يعيشون حياة الدنيا.من هنا يتساءل المرء ماالذي حدي بهؤلاء القدوات العظام الي ان يقضوا كل لحظة من لحظات حياتهم في طاعة وذكر الله سواء في نهارهم او ليلهم؟ لقد كان نهارهم مجالا لهداية الناس ووعظهم وادارتهم، والدفاع عن حريم القيم الالهية والوقوف امام الاعداء، وليلهم كان فسحة طيبة لمراجعة الذات والنفس والتهجد لله سبحانه.. انهم استشعروا لذيد نعيم الجنة ومدارج الآخرة، فأصبحت حياتهم كلها اخروية.لقد كانوا علي يقين؛ انما ثمن هذا الجسد وهذه الروح هو الجنة، لقد عرفوا عظمة الجنة وبيوتها المنيفة التي اعدت للمؤمنين والصالحين.. تلك البيوت التي يمكن لابسط الناس ايمانا ان يقري ويستضيف جميع الخلائق في بيته الذي حباها الله جزاءاً علي عمله الصالح في الدنيا.ان بيتاً واحداً من بيوت الجنة تحوي علي بساتين خضراء وموائدمفروشة وجواري وغلمان مالم يحصي عددهم الا الله، فمن يرغب ان يطلق هذا النعيم الخالد في قبالة لذائذ زائلة في الدنيا يتبعها نار جهنم؟.. نار جهنم وبيوتها الضيقة التي لا تتسع الا علي قدر مساحة اكوام من لحوم وعظام البشر المتراكمة، وهي تستغيث وتختنق من شدة العذاب!لذا يفترض علينا ان نجعل من حياة كافة انبياء الله والأئمة المعصومين (عليهم السلام) وخاصة نبينا الاكرم محمد (صلي الله عليه وآله) قدوة في حياتنا، ونجعل مسيرته خريطة متكاملة امامنا ونسعي من اجل ان نحذو حذوه ونعمل بهداه، كما فعل الامام علي أمير

المؤمنين (عليه السلام) في اتباعه الكامل لحياة الرسول (صلي الله عليه وآله)، فكان يتبعه كما يتبع الفصيل لأمه.

النبي الأكرم خير قدوة

ان هذا الرسول الاكرم (صلي الله عليه وآله) الذي جعله الباري افضل خلقه وخاتم انبيائه، واعز خلق من مخلوقاته حتي قال تعالي في حديثه القدسي " لولاك لما خلقت الأفلاك " [13] .نراه يتعب ويرهق نفسه في جوف الليل رجاءا في الثواب والتقرب اليه. فقد كان (صلي الله عليه وآله) يقف متهجداً في الليل حتي تتورم قدماه، وكان (صلي الله عليه وآله) له حبل يتعلق به حتي لايقع من شدة التعب، وإذا جاع (صلي الله عليه وآله) يشد حجر المجاعة علي بطنه , وهو مالك للمال ولكن ينفقه في سبيل الله.. هذا ناهيك عن عظيم خلقه وشدة حلمه وصبره علي اذي قومه له.حقا نتساءل: اذا كان الرسول العظيم يفعل هكذا مع جسده طاعة لله، فماذا سوف يكون حالي وحالك انت ايها المؤمن؟!ان المؤمن الذي تشغله كل ليلة برامج التلفزيون والبث الفضائي، ثم يهوي بعدها الي فراشه، حتي يتحول - حسب تعبير الأئمة (عليهم السلام) - الي " جيفة "، فهذا حاله حال الغافلين.كثيراً من الناس يشكون من الاحلام المزعجة التي تتعقبهم بالليل.. فهذا يري الشرطة تطارده، وذاك يحلم بالبيع والشراء والخسارة، وذاك يري الدائنين يهجمون عليه ليخنقوه.. فالسبب لذلك يرجع الي ان هؤلاء يعيشون علي مدار اليوم هموم المعيشة والدنيا فقط.لابد ان نجعل للقرآن وتلاوته والصلاة وذكر الله مساحة تتسع لها اوقاتنا التي تذهب كل يوم دون رجعة.. لابد ان نروح انفسنا بتلاوة ذكر الله قبل ان ننام، ولابد ان نعيش الآخرة والموت كل يوم.. ان نزور المقابر ونترقب مصيرنا الذي سوف نؤوب اليه.. اليس من الاعمال

المستحبة ان يعد ويحفر الانسان قبره قبل موته ثم ينام فيه مستعداً لساعة الأجل الحاسمة؟لقد كان الامام زين العابدين ذلك الامام الزاهد العابد كما يقول هو (عليه السلام) يدرس حياة الرسول (صلي الله عليه وآله)، بل يحفظ مغازيه (صلي الله عليه وآله) وسيرته. فاذا كانت حياة الرسول عامة هي جملة دروس لامامنا السجاد (عليه السلام)، فكيف لاتكون منهجاً وخريطة عمل لنا جميعاً؟لقد قرأت في كتاب (بحار الانوار) رواية حول كيفية شرب الماء عند النبي (صلي الله عليه وآله) فلقد كان (صلي الله عليه وآله) يطبق ثلاثين ادبا لدي شربه للماء.. وما هذه الامراض التي تصيب المعدة والكبد والكلية والاثني عشري و.. الا بسبب عدم مراعاتنا لاداب الاسلام في الأكل والشرب والنوم و.. ان انحرافاتنا الحياتية تكمن في حدوث الفجوة والفاصلة بيننا وبين رسولنا الاكرم والائمة المعصومين (عليهم السلام) فانقطعنا عن فيض نورهم وهداهم، كما ينطفأ المصباح عندما ينقطع التيار الكهربائي عنه.لماذا الغاء دور القدوة؟ان جملة من الناس عندما تسألهم لماذا لا تقتدوا بالرسول الاكرم والأئمة (عليهم السلام) يجيبك قائلا: لايمكن لنا ان نكون مثلهم متناسين قوله تعالي: (قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الكهف / 110).ثم كيف لايمكن لنا اتباعهم والاقتداء بسيرتهم وقد جعلهم الله لنا اسوة حسنة، وكيف يقول الامام علي (عليه السلام): " الا وان لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه "؟ [14] .واذا كان لنا عذر او حجة (معصومية) هؤلاء الرسل والائمة (عليهم السلام) فما بالنا بالصديقة زينب وسيدنا العباس وعلي الأكبر والقاسم بن الحسن، وكذلك اصحاب الرسول والأئمة (عليهم السلام) كأبي ذر والمقداد وسلمان وحبيب ابن مظاهر الاسدي.. وماذا نقول في علماء الدين العظام الذين ينتهجون سيرة الحق والتقوي؟ لماذا

يصرّ البعض علي الغاء دور القدوة في الحياة؟! وفيما اذا رأينا قائداً حياً ينفع الأمة (قد لا نؤمن به شخصياً مثلا).. نضع امامه شتي العراقيل ونتفرق عنه.. وقس علي ذلك الشهداء الابرار الذين ضحوا بأنفسهم الغالية في هذا الطريق المبارك.

شروط الاقتداء

انظروا الي الطريقة الجميلة التي يتحدث عنها ربنا في سورة الاحزاب حيث يبدأ بذكر النبي (صلي الله عليه وآله) اولا ثم ينتهي بذكر المجاهدين والشهداء.. يقول ربنا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب / 21).اي ان هناك ثلاثة شروط للاقتداء بالرسول حسبما يضعها القرآن الكريم في هذه الآية المباركة:الاول والثاني: ان نرجو الله واليوم الآخر ونعتقد بأنها حق وليست بكذب، وان هذه الدنيا ليست نهاية حياتنا ومصيرنا، بل هي بداية مسيرتنا الي دار الخلد.الثالث: " وذكر الله كثيراً "؛ يعني ان لن نغفل عن ذكر الله سواء في السوق والتجارة او في ساحة الحرب. ويضرب القرآن مثلا في هذا الصدد فيقول: (وَلَمَّا رَأَي الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ اِلآَّ اِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الاحزاب / 22) اي الايمان بالله والتسليم للقيادة الربانية.ان المؤمنين لا يلومون الرسول علي شدة الوطيس وزحمة المشاكل، بل يسارعون الي مساندة القيادة ودعمها. فالذي يريد ان يتقدم يجب ان يعطي ويستقيم. ثم يقول ربنا: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَي نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) (الاحزاب / 23).فالرجل الذي يرزق الشهادة او الذي يترقب وينتظر الشهادة هما علي حد سواء.. (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ اِنَّ اللَّه كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً)

(الاحزاب / 24).

الصلاة علي النبي و آله المعاني والدلالات

اشاره

من أعظم التحف والهدايا والكرامات التي فضّل بها ربنا - سبحانه وتعالي - المسلمين كرامة الصلاة علي محمد (صلي الله عليه وآله) وآله الأطهار.فما هي حقيقة هذه الصلاة، ولماذا أمرنا أن نصلّي علي نبيّنا (صلي الله عليه وآله) كلّما ذكر اسمه وخصوصاً في المواسم والمناسبات المباركة؟

المعاني المختلفة للصلاة

للاجابة علي هذا السؤال نقول: ان الصلاة - لغةً - هي التعطّف، والترؤّف، والتعبير عن الحب، والحنان، والعطف لدي الانسان.. وعندما تكون الصلاة من الرب للعبد، فان هذا يعني ان الله - عز وجل - يعطف، ويترحّم، ويتحنّن علي عبده. وعندما تكون الصلاة من الملائكة علي العباد المؤمنين، فانّ هذا يعني ان الملائكة تستغفر، وتدعو لهم، و تسدّدهم، وتزكيهم، وتعصمهم من الاخطاء. وعندما تكون الصلاة من العبد لربّه، فان هذه الصلاة تعني الدعاء، والتضرّع والتبتّل.ان كلمة الصلاة تعني في ذاتها معنيً واحداً، إلا انّ هذه التطبيقات والتأويلات المختلفة تطرأ عليها بحسب موقع الانسان الفاعل لها. وعلي سبيل المثال فان كلمة (افعل) تمثّل صيغة الامر، وعندما تكون من العالي الي الداني فانها تكون امراً، وعندما تصدر من الشخص الي نظيره تكون رجاءً، وعندما تصدر من الانسان لمن فوقه تكون دعاءً وطلباً.وهكذا الحال بالنسبة الي الصلاة فعندما تكون من الانسان لله كهذه الصلاة التي نصلّيها فانها تعني حالة من الدعاء، ولذلك قال بعض علماء اللغة ان معني الصلاة الدعاء، وهنا وقفوا حائرين؛ فاذا كانت الصلاة تعني الدعاء، فما معني صلاة الله علي عباده، وما معني صلاة الملائكة عليهم، ولماذا نجد نفس هذه الكلمة تتكرّر من ان استخدام المشترك اللفظي لايجوز في آن واحد في معنيين مختلفين كما يقول علماء الاصول؟؟ولحل هذا الاشكال نقول: ان الصلاة لاتعني الدعاء فحسب، بل ان معناها

ايضاً التعطف، أي تعطّف الانسان امام ربه، والعلاقة التي توصلنا الي الله - تعالي -، او طبيعة الرابطة والصلة بين العبدوبين ربّه، فمن جانب العبد تعني الدعاء.تري هل بامكان الانسان ان يطالب الله - جل جلاله - بشيء، وهل له علي ربه حق فيطالبه به، وهل له حجة فيحتجّ بها علي ربّه؟؟كلا بالطبع، فحتي الشكر الذي نقدّمه للخالق لايمكننا ان نقدمّه إلاّ باعتباره يتطلّب منا مزيداً من الشكر. أوليس الشكر باللسان، فمّمن هذا اللسان، أوليس من الله؟ أوليس الشكر بجوارح الجسم، وجوانح القلب وقدرات الانسان التي هي كلّها مملوكة لله - تبارك وتعالي -، أوليس الشكر بتوفيق منه - عز وجل -؟ اذن فحتي لو حمدنا الله وشكرناه وسبّحناه، فان له علينا حجة، وله علينا منّة، لانّه وفقنا الي شكره.

الصلاة علي النبي و آله

اما الصلاة التي ندعو بها لرسول الله (صلي الله عليه وآله) فقد أمرنا ربنا بها في سورة الاحزاب، وهي السورة التي خصّصت لبيان مكرمات النبي (صلي الله عليه وآله). وفي هذه السورة نجد ايضاً الميزات التي تميّز بها رسول الله (صلي الله عليه وآله)، والاحكام التي اختصّ بها، ونجد فيها - بالاضافة الي ذلك - قول الباري - سبحانه وتعالي - في أهل بيت رسول الله، واصحابه،وذريته الذين ساروا علي دربه:(اِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الاحزاب/33)وبناء علي ذلك فقد خصّصت هذه السورة المباركة لبيان علاقة الامة بالقيادة الرسالية، وخصوصاً بقيادة أهل البيت (عليهم السلام) فهي سورة أئمة الهدي حيث يقول - عز من قائل -:(اِنَّ الله وَمَلآَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الاحزاب / 56)فما هي هذه الصلاة، وماهو معناها؟قبل كل شيء لابد من

تصحيح مسار الثقافة الانسانية عبر القرون والي الابد، فكلّما تورط الانسان في انحراف اخلاقي جاء القرآن ليصلحه، وليكون شفاءً وعلاجاً ونجاةً له من تلك الضلالة وذلك الانحراف. ومن هنا لابد ان نقول انّ هذه المكرمة - مكرمة الصلاة علي النبي وآله - هي التي خصّ بها المسلمون دون غيرهم، لانها وحدها تحمل في طياتها كل معاني العقيدة الايمانية السليمة، ورفض الافكار الباطلة.

الضلالات الشيطانية للبشر

اشاره

ومن ابرز الضلالات التي وقع فيها البشر بوحي من الشيطانوتابعيه ضلالتان هما:

الاعتقاد بالغلو

وبانّ الانسان يمكنه ان يبلغ درجة الالولهية بمجرد انتمائه الي شخص مقرب من الله - جل وعلا - فاليهود انّما قالوا: نحن ابناء الله، لانّهم زعموا انّ انتمائهم الي موسي بن عمران (عليه السلام) والي بني اسرائيل، ولكونهم ينتمون ال هذا العنصر فان ذلك يعطيهم الحق بأن يفعلوا ما يشاؤون.وهذا الغلو مرفوض في الاسلام، فنحن عندما نكنّ الحب لرسول الله (صلي الله عليه وآله) ونكرمه، فانما نفعل ذلك عبر الدعاء الي الله - تعالي - بان يصلّي علي نبيّه. ومعني الدعاء الي الله - سبحانه - انك - أيها الانسان المسلم - عندما تريد ان توجد وتكوّن علاقة بينك وبين رسول الله (صلي الله عليه وآله) فلابد ان تكوّن هذه العلاقة في اطار توحيد الخالق؛ أي ان الرسول (صلي الله عليه وآله) لايمكن ان يكون الاّ عبداً لله - تعالي - فلا تغلُ في دينك كما غلا قبلك اليهود، والنصاري، ولذلك نجد في هذه السورة (الاحزاب) قوله - سبحانه -:(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الاحزاب / 40)أي لا تنسبوا الي رسول الله (صلي الله عليه وآله) صفوة الابوة تغلوا في دينكم كما فعلت اليهود، والنصاري من قبل.

عدم الحاجة الي الوسيلة

وهناك ضلالة اخري تقول: لماذا نحتاج من اجل الاتصال بربّنا الي باب ووسيلة، أوليس الدين علاقة بين القلب والرب؟ فتكفينا - اذن - هذه العلاقة، ولسنا بحاجة الي رسول أو امام وقائد وملهم ديني، بل يكفينا ان نعقد علاقة بيننا وبين ربّنا فنركع ونسجد ونتعبد له ثم ينتهي الأمر.وقد جاء القرآن الكريم لينسف هذه الضلالة ايضاً وليقول: كلا؛ اذا أردت التقرب والعروج الي الله، فلابد من

ان تتقرّب اليه عبر رسوله، وان تصلّي علي محمد (صلي الله عليه وآله) حتي تتقرّب إليه. فرسول الله هو وسيلتك الي ربّك، ومعراجك إليه. ولذلك جاء في الأحاديث ان العبد اذا اراد ان تقبل دعوته ويستجاب نداؤه، فلابد ان يقدّم قبل الدعاء الصلاة علي محمد (صلي الله عليه وآله) وآله الكرام.ولكن عليك ان لا تزعم عبر هذه الوسيلة انّ بامكانك ان تتخطّي المراحل، وتتجاوز الوسائل، فالله اولاً، ثم رسوله، ثم أهل بيته، ثم الذين يمثلون خط رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وخط أهل البيت (عليهم السلام)، فهؤلاء هم وسائلك الي الله - عزّ وجل - كما يقول القرآن الكريم:(وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (المائدة / 35)

الحب دافع الانسان الي الطاعة

وثمة حكمة تتجلي لنا عندما نعرف ان علماء النفس بحثوا كثيراً في طبيعة ظاهرة الطاعة لدي الانسان، والدوافع والنوازع التي تدعوه الي طاعة شخص من الاشخاص، وحينئذ اكتشفوا ان الانسان انّما يطيع من يحبّه، ولذلك قالوا انّ الطفل الرضيع انما يتّبع امه لحبه لها، وحبّها له، وليس لجبرها ايّاه، وخوفه منها، ولذلك ادركوا ان اعظم وسيلة تدفعك الي الطاعة هي الحب، ونحن - بدورنا - لابد ان نطيع رسول الله، ورسالته، وسيرته، وسنّته من خلال حبّنا له.

كيف نتبع رسول الله؟

تري كيف نتّبع رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وكيف نتّبع آل بيته الذين هم ضمير الدين، وقدوات المؤمنين، وأئمة المتقين؟ان بامكاننا ان نفعل ذلك عبر حبّهم، والحبّ - كأيّ شيء آخر - بحاجة إلي تنمية ورعاية. ونحن نستطيع ان ننمّيه من خلال الصلاة عليهم؛ فعندما نصلّي علي النبي وآله، وعندما نكرّر هذه الكلمة في صلواتنا وبعدها وقبلها وفي مختلف الحالات فاننا نزداد حبّاً لهم؛ وعندما نزداد حبّاً لهم فانّنا سنزداد حبّاً لبرامجهم، ومناهجهم، وسنّتهم، وبالتالي فاننا سنحظي بتوفيق الخالق - جل وعلا -.

احاديث في فضل الصلاة

وفي نهاية هذا الفصل اري من الضروري ان انقل جملة احاديث في أهمية وفضل الصلاة من كتاب الكافي:- عن الامام الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا:" ما في الميزان شيء اثقل من الصلاة علي محمد وآل محمد، وان الرجل لتوضع اعماله في الميزان فتميل به فيخرج (صلي الله عليه وآله) الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيرجّح (به) ". [15] .- وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:" سمعته يقول: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): ارفعوا اصواتكم بالصلاة عليّ فانّها تذهب بالنفاق ". [16] .- وفي كتاب الكافي ايضاً باسناده عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال:" اذا ذكر النبي فاكثروا الصلاة عليه فانّ من صلّي علي النبي صلاة واحدة صلّي الله عليه ألف صلاة في ألف صف من الملائكة، ولم يبق شيء ممّا خلقه الله الاّ صلي علي العبد لصلاة الله عليه، وصلاة ملائكته، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برئ الله منه ورسوله وأهل بيته ". [17] .- وروي ابن قداح عن أبي عبد الله (عليه السلام)

عن الرسول (صلي الله عليه وآله):" من صلّي عليّ صلّي الله عليه وملائكته ". [18] .- وعن الحسن ابن فضال عن الرضا (عليه السلام):" من لم يقدر علي ما يكفّر به ذنوبه فليكثر من الصلاة علي محمد وآله فانّها تهدم الذنوب هدماً ". [19] .- وروي عن مرازم قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): ان رجلاً أتي رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله إني جعلت ثلث صلواتي لك. فقال له خيراً. فقال له: يا رسول الله اني جعلت نصف صلواتي لك. فقال له: ذلك أفضل. فقال: اني جعلت كل صلواتي لك. فقال: اذاً يكفيك الله عز وجل ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك. فقال له رجل: أصلحك الله كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسأل الله عز وجل شيئاً إلاّ بدأ بالصلاة علي محمد وآله ". [20] .وعن النبي (صلي الله عليه وآله) قال:" اكثروا الصلاة عليّ فانّ الصلاة عليّ نور في القبر، ونور علي الصراط، ونور في الجنة ". [21] .- وفي رواية اخري عنه (صلي الله عليه وآله):" من صلّي عليّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في ذلك الكتاب ". [22] .وعلينا ان نحذر من ان نصلّي علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) الصلاة البتراء، فقد نهي (صلي الله عليه وآله) بشدّة عن مثل هذه الصلاة، وهي ان نصلّي عليه ولا نصلّي علي أهل بيته، كما وعلينا ان نعلم ان حبنا لرسول الله (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته (عليه السلام) هو اعظم زاد لنا في مواجهة مصاعب الحياة، وعقباتها.

لكي نقتدي برسول الله

اشاره

بعد اربعة عشر قرناً من هجرة النبي

(صلي الله عليه وآله) لايزال هذا السؤال حائرا بيننا؛ لماذا لم ننتفع بشخصية الرسول (صلي الله عليه وآله)، من هذه الرحمة الالهية التي اسبغها الله - تعالي - علي البشرية جمعاء، ومن هذه المنة التي تفضل الله بها علي عباده؟تري لماذا لم نستفد من حياته الشريفة بالشكل بالمطلوب بالرغم من ان عواطفنا واحاسيسنا مليئة بالحب تجاهه؟ ولكن اين نحن من سيرته وهديه ومن خلقه العظيم وتوجيهاته والرسالات الالهية التي انزلت عليه؟ان امامنا طريقاً واحداً يسلك بنا الي الحق، والي رضوان الله في الآخرة، والخير والرفاه في الدنيا، هذا الطريق هو ان نعيش في حياتنا؛ قائدنا وامامنا رسول الله (صلي الله عليه وآله).

حبل بين السماء والأرض

والسؤال المطروح هنا هو: كيف نعيش هذه الشخصية العظيمة في حياتنا؟ان النبي (صلي الله عليه وآله) الذي يعتبر الحبل الممتد بين الارض والسماء، انما يعاش اذا اعتصمنا بهذا الحبل الذي يمثله، ووحدنا صفوفنا، واتبعنا من يمثله عبر التأريخ. (فهو (صلي الله عليه و اله - اصطفاهم الله - سبحانه وتعالي -، وذلك من خلال اتباعهم، والتمسك بهديهم)، وبذلك نكون قد شكرنا رسول الله (صلي الله عليه وآله) علي جهده وسعيه.والخلفاء بدورهم امرونا باتباع قيادته، واتباع هذه القيادة، والاعتصام بحبلها، والالتفاف حولها هو في الحقيقة احياء لذكري رسول الله (صلي الله عليه وآله)، و احياء لنهجه، واستمداد من الرحمة الالهية التي انزلت معه.

هدف البعثة طاعة الرسول

وفي هذا المجال يقول - عز من قائل -: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ) (النساء / 64)، فطاعة الرسول (صلي الله عليه وآله) هي الهدف من بعثته، لا ان نكتفي بالايمان القلبي به من دون طاعة وعمل، فهل يمكن ان يكون هناك ايمان مفرغ من العمل؟ان طاعة الله - عز وجل - في طاعة رسوله، وطاعة رسوله هي التي تذهب عنا الرجس، وتطهرنا من الذنوب كما يقول تعالي:(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء / 64).ان الله - تعالي - انما يتوب علينا، وتعود الينا رحمته، وترجع الينا وحدتنا في ظل " لا إله إلا الله "، وعزتنا الايمانية، وحضارتنا التي هي حضارة الخير والرفاه للبشرية، انما يعود الينا كل ذلك اذا استغفرنا الله - عز وجل - من خلال العودة الي رسوله.

الغفران باستكمال التوبة

ان الله يغفر الذنوب، وهو تواب رحيم، ولكن بشرط ان تستكمل التوبة شروطها، وشرط تحقيق اسم (التواب الرحيم) في واقع الانسان ان يكون طريقنا الي الله - جلت قدرته - سليماً، وصراطاً مستقيماً، وهذا الصراط يتمثل في رسول الله (صلي الله عليه وآله) الذي ما يزال موجودا فينا عبر من أمر بطاعته. أولم يقل النبي (صلي الله عليه وآله) في حديثه المشهور المتفق عليه من قبل جميع المذاهب الاسلامية: " اللهم ارحم خلفائي ثلاثاً، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال الذين يتبعون حديثي وسنتي ثم يعلمونها أمتي ". [23] .أفليس العلماء بالله، الامناء علي حلاله وحرامه، المتصفون بصفة الربانية، أوليس هؤلاء بين ظهرانينا، أولا نستطيع ان نجعلهم شفعاءنا عند الله - جل وعلا - من خلال اتباعهم؟ان استغفار الرسول

(صلي الله عليه وآله) للامة هو شرط لعودة الرحمة الالهية اليها، والرسول (صلي الله عليه وآله) لا يستغفر للامة إلا عندما تعود الي سيرته.

الرسول الحاكم

ثم يؤكد - تعالي - علي فكرة مهمة من خلال قوله:(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (النساء / 65)، أي حتي يجعلوك حاكما بينهم في اشد القضايا واكثرها خلافا؛ الا وهي قضايا الخلاف التي يشير اليها - تعالي - ب (الشجار)؛ أي فيما يبرز بيننا من خلافات.فإن كنا نؤمن جميعاً بالله والرسول فلماذا الاختلاف، ولماذا التفرقة، ولماذا التنابز بالالقاب، والعنصرية، والطائفية، والحدود،والمسافات الفاصلة، ولماذا لانوحد صفوفنا؟ان قولنا ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) هو قائدنا لايكفي، فالقائد يوحد جماعته، فلماذا - اذن - لا نتوحد تحت رايته؟فبعد اتباع القيادة لابد من الاهتمام بالوحدة علي اساس هذه القيادة، وتأكيداً علي هذه الفكرة يقول - تعالي - بعد ذلك القسم من الآية:(... ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء / 65).وهكذا فان الرسول (صلي الله عليه وآله) يوحد صفوف المسلمين، وهو القاضي بينهم، والحاكم عليهم دون ان يكون لهم الحق في الاعتراض علي هذا الحكم حتي بهواجس قلوبهم. فالحاكم لا يحكم دائما في مصلحتك، فقد تكون مخطئا فيحكم عليك، وإذا حكم عليك فان هوي نفسك س?I??? C?? معارضته علنا، او علي الأقل فانك ستضمر المعارضة له في قلبك، في حين ان الله - عز وجل - يشير بصريح العبارة الي ان مجرد اضمارك لهذه المعارضة، ووجدانك الحرج في نفسك مما قضي به رسول الله (صلي الله عليه وآله) سوف يكونان سببا لاختلال ايمانك وضعفه:(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا

فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(النساء / 65).والحرج هو الضيق والمخالفة النفسية، والتسليم يعني الاذعان الكامل لما يأمر به.وكل ذلك لا يمكن ان يحدث إلا من خلال الاستغفار، ومن ثم الخضوع للقيادة، وتوحيد الكلمة، وبذلك تعود الينا عزتنا وحضارتنا.

مولد النور

اشاره

كان الظلام سائداً علي العالم، وكانت الاصنام تعبد جهراً بفعل الانحرافات الجاهلية، وكانت البشرية غارقة في الضلالة، وقوي الاستكبار هي سيدة الموقف في كافة انحاء الارض، و المستضعفون يرزحون تحت نير السلطات الطاغية، و الاقوياء والاغنياء يفرضون منطق القوة، وشريعة الغاب في كل مكان.الامبراطورية الرومانية كانت تعتنق المسيحية ظاهراً، والطبقية كانت قد بلغت اوجها.اما الامبراطورية الفارسية فقد كانت تعج هي الاخري بالعنصرية والطبقية، وجماهير الفلاحين والمهنيين ترزح تحت نير الضرائب المتصاعدة.وفي الجزيرة العربية كان شعار الناس الخوف، ودثارهم السيف، وحياتهم مليئة بالتعاسة والمآسي.

بداية عصر جديد

وازاء هذه الاوضاع أبت رحمة الله - عز وجل - إلا ان تبعث للبشرية منقذاً وهادياً، وبشيراً، وسراجاً منيراً، فولد الرسول محمد بن عبد الله (صلي الله عليه وآله) بعد خمسة وخمسين يوماً من واقعة الفيل الشهيرة حيث كانت هذه الواقعة ارهاصا وإيذاناً بانتهاء عصر، وبداية عصر جديد، فقد بعث الله - سبحانه - طيرا ابابيل علي جيش ابرهة فقتلهم ودمرهم واهلكهم عن بكرة أبيهم بعد ان تجبروا، وحاولوا الاعتداء علي بيت الله الحرام. فهاهو الغيب يدخل طرفاً رئيسياً في معركة الخير والشر، والحق والباطل، ويدعم الحق بقوته. وهاهو الارهاص بطلوع فجر جديد لان الله - عز وجل - خلق الناس ليرحمهم لا ليعذبهم، و قد أبي ان يستمر المستضعفون والفقراء والبؤساء في وضع كهذا الوضع، فبعث رسوله خيراً عميماً ورحمة للعالمين.وعند ولادة سيد الخلق (صلي الله عليه وآله) كانت هناك ارهاصات عديدة اخري في الأرض؛ فقد غاضت بحيرة ساوة، وفاضت بحيرة السماوة، وزلزل ايوان كسري وسقطت منه أربعة عشر شرفة، وخمدت نيران المجوس ولم تخمد قبل ذلك الف سنة.وشهد العالم حوادث اخري غريبة لم يكن يعهدها من قبل ايذاناًبأن الله -

عز وجل - شاء ان ينقذ البشرية، فوضعت آمنة ذلك الوليد الذي عمت بركته البشرية علي امتداد التأريخ.

دروس الميلاد

وهنا يتبادر الي الاذهان السؤال التالي: اننا اليوم نعيش في ظروف شبيهة في ابعاد مختلفة للجاهلية التي كانت سائدة قبل الاسلام، فنحن نشهد الآن الجاهلية المادية الطاغية وهي تسعي اليوم لتعم بضلالتها وظلامها الارض، فكيف ننتفع ونستلهم العبر والدروس من ذكري مولد الرسول الاعظم (صلي الله عليه وآله)؟ان البعض يعتقد - للاسف الشديد - اننا لا نستطيع ان ننتفع بشخصية النبي (صلي الله عليه وآله) مادام غائبا عنا، وهذا التصور يتضمن خطأ فظيعا، فان يكن الرسول غائبا عنا فان الكتاب الذي اوحي الي قلبه الشريف مايزال باقيا، كما ان سيرته الوضاءة ماتزال بين ايدينا، وسنحاول فيما يلي الاجابة علي السؤال السابق عبر طرح النقاط والملاحظات التالية:

استفادة ممكنة

1- ان الاستفادة من شخصية الرسول (صلي الله عليه وآله) ممكنة من خلال دراسة سيرته، فمن المعلوم ان رسالته (صلي الله عليه وآله) كانت اول رسالة كتبت، لان الكتابة في عهده كانت منتشرة، وكان (صلي الله عليه وآله) بدوره يؤكد عليها، وهكذا بقيت سيرته العطرة ذخرا لنا، فالرسالات السماوية السابقة لم تكتب بتفاصيلها كما كتبت رسالة نبينا الأعظم (صلي الله عليه وآله)، وعلي سبيل المثال فقد روي لنا التأريخ تفاصيل وجزئيات كاملة عن حياة النبي (صلي الله عليه وآله)؛ كيف كان ينام، وكيف كان ينهض، وكيف كان يأكل ويشرب ويمشي، واسلوب تعامله مع أهله، واصحابه،... كل هذه التفاصيل وغيرها مثبتة في كتب السيرة بوضوح الي درجة ان هذه الكتب ذكرت لطريقة شرب النبي (صلي الله عليه وآله) للماء ثلاثين اربا!ومن جهة أخري فان القرآن الكريم يقول في هذا المجال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الاحزاب / 21)، والاسوة تعني ان نستلهم الدروس والعبر من سيرته وكأنه

(صلي الله عليه وآله) يقودنا بالفعل ويعيش بين ظهرانينا، فعلينا ان نجسده في اذهاننا، ولو اننا استلهمنا من سيرته العطرة كل التفاصيل وربطناها ببعضها لجسدنا سيرته، وحينئذ نستطيع ان نتساءل عندما نواجه أي سؤال محير او موقف صعب، كيف كان يتصرف الرسول (صلي الله عليه وآله) في مثل هذه المواقف؟ كيف كان - مثلاً - يقود الحرب (علماً اننا بحاجة الي سيرته في الحرب لاننا في حالة جهاد)؟ وكيف كان (صلي الله عليه وآله) يقود الأمة في حياته، وبأي خلق كان يتفاعل مع المجتمع، وكيف أدار ذلك المجتمع الجاهلي الغارق في الغفلة، والعداوات، والصراع؟ان علي كل فرد منا، وعلي المجتمع كله دراسة سيرة النبي (صلي الله عليه وآله) بشكل معمق، وحفظ هذه السيرة ومحاولة اتباعه (صلي الله عليه وآله) فيها، وحينئذ ستكون سيرته هذه رحمة لنا كما كان وجوده رحمة لمن كان حوله.

رمز وحدة الأمة

2- ان الرسول (صلي الله عليه وآله) يمثل راية واحدة توحد الامة، فجميع الخطوط تنتهي الي شخصيته (صلي الله عليه وآله)، ونحن لو اتخذنا منه منطلقا للوحدة والتوحيد وتركيز الجهود، ولو اتخذنا منه (صلي الله عليه وآله) حبلا نعتصم به لأصبحنا امة قوية مقتدرة لا يمكن ان تنال منها مؤامرات الاعداء.وعندما يقول الله - سبحانه -: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً) (آل عمران / 103)، فانه يؤكد في آية سابقة علي ان حبل الله يتمثل في اثنين؛ الرسول (صلي الله عليه وآله)، والرسالة اي القرآن الكريم، فالاعتصام بحبل الله - عز وجل - يعني توحيد الصفوف تحت راية النبي (صلي الله عليه وآله)، وهذا مطلب يمكن تحقيقه لان الرسول (صلي الله عليه وآله) حاكم فيما بيننا، والاحتكام الي منهجه وتعاليمه يعد من الفرائض

التي اشار اليها القرآن الكريم في قوله:(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء / 65).فالتسليم لمنهج النبي (صلي الله عليه وآله) من شأنه ان يوحدنا، اما ان يعتقد كل فريق بان رسول الله (صلي الله عليه وآله) ملكه، وينفي انتماء الآخرين اليه، فهذا ما سيولد الشقاق والخلاف الذي جعل المسلمين اليوم معرضين للغزو العسكري، والاقتصادي، والسياسي، والثقافي...

القرآن الناطق

3- لاشك ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) متجسد في القرآن الكريم، فقد كان (صلي الله عليه وآله) خلقه القرآن، كما واثني عليه الخالق - عز وجل - قائلا: (وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم / 4).ولاريب ان كتاب الله موجود بين ايدينا، وعلينا الالتصاق اكثرفأكثر بهذا الكتاب العظيم، والاستفهام من آياته الكريمة، والعمل بتعاليمه المقدسة، احياءاً لسيرة رسول الله (صلي الله عليه وآله)، واستنزالاً لرحمته التي شملت العالمين بأجمعهم، فقد جاء اليهم بكتاب هو نور وهدي، وفيه بصائر وذكر، وفيه تفصيل كل شيء.اننا نعيش في كل عام ذكري سعيدة هي ذكري ولادة النبي (صلي الله عليه وآله)، ونحن نهنئ انفسنا، والعالم الاسلامي، بل البشرية كلها بهذه الذكري، ونؤكد ان الرسول (صلي الله عليه وآله) لم يكن رحمة للمسلمين فقط، بل كان رحمة للعالمين. وعلينا ان نسعي ونبذل الجهود من اجل هداية البشرية كلها بسيرة الرسول (صلي الله عليه وآله) الوضاءة. فأين دعوتنا هذه من الناس، ولماذا لانحمل هذا السراج المنير الي جميع ارجاء العالم وخصوصا تلك المناطق التي تبحث عن النور، والتي عانت ما عانت من الويلات والمآسي بسبب ضلالها، وابتعادها عن الصراط المستقيم الذي رسمه لها الخالق - عز وجل -؟ان الدعوة الآن

الي الرسالة التي سبق وان حملها نبينا الأعظم محمد (صلي الله عليه وآله)، والعمل المنظم والدؤوب من أجل نشرها، يمثلان واجبا اساسيا نستلهمه من هذه الذكري، ومن هذا الحدث الحبيب الي قلوبنا. فالبشرية اليوم هي احوج ما تكون الي من يصحح انحرافاتها، ويهديها الي سواء السبيل، وينقذها من اسر المذاهب الوضعية التي لم تجر عليها سوي المزيد من الازمات والمشاكل في مختلف الأصعدة.

ميلاد الرحمة

اشاره

هناك ايام تبقي تتألق في احشاء التأريخ المظلمة فيما تتلاشي سائر الأيام، فما هو سر تألق تلك الأيام التي هي من أيام الله التي لايمكن ان ينطفئ توهجها؟ فلقد مضت عشرات القرون وذكري البعثة النبوية الشريفة لنبي الرحمة، وخاتم الانبياء والمرسلين محمد (صلي الله عليه وآله) ماتزال جديدة طرية تستقطب اهتمام كل مؤمن في كل مكان، فيما تشهد المعمورة وقوع حوادث شتي سرعان ما تضمحل، وتتلاشي من ذاكرة التأريخ، فما سر بقاء هذه الذكري وغيرها من الذكريات الالهية؟

سر تجدد الذكري

ان السر في تجددها وخلودها وخصوصا ذكري البعثة النبوية الشريفة هو ما لهذه الذكريات من علاقة وثيقة، واتصال متين بالسنن الالهية الثابتة، ولكون البشرية بحاجة ماسة الي تجديدها لما لها من دور في تحقيق الضرورات التي يحياها الانسان المؤمن في حياته.وهكذا الحال بالنسبة الي كافة الذكريات الاسلامية الاخري كذكري عاشوراء التي تتجدد كل عام وكأنها وقعت في ذلك العام، فهذه الذكريات ومنها ذكري البعثة النبوية الشريفة انما تتجدد، وتظل خالدة بسبب مالها من علاقة واتصال بحاجات الانسان في الحياة.

حاجة متجددة

فالبعثة النبوية لم تكن واقعة تأريخية مرت مرور الكرام فمضت وانتهت، ولم تكن الحاجة البشرية اليها حاجة وقتية انتهت واستغني عنها، بل هي حاجة متجددة، وحقيقة مستمرة، ولقد ابدت البشرية تجاوبها مع نداءات الوحي التي انطلق صداها الي الدنيا من غار حراء أن: (قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق /1)، وظل هذا الدوي يمخر عباب التأريخ الطويل، وانتشر في ارجاء الدنيا رغم كل العوارض، والعوائق، والمحاولات القاسية التي ارادت ان تحول دون وصوله إلينا.ومنذ ذلك اليوم المجيد وحاجة الناس الي البعثة النبوية ماتزال مستمرة، ونحن بالطبع من هؤلاء الناس، فنحن مازلنا بأمس الحاجة الي هذا الانبعاث الالهي الذي من شأنه ان يوقظ هذه البشرية السادرة في غفلتها، والمنطوية علي ذاتها المتأطرة في حدودها الضيقة، فنحن نلمس اليوم مدي الحرمان والبؤس الروحي الذي يعم ارجاءها، فلابد لها في كل آن من بعثة وانبعاث.

رسالة عالمية

ان مهمة النبي (صلي الله عليه وآله) لم تقتصر علي اهل مكة والمدينة وحدهما، وهو (صلي الله عليه وآله) لم يكن رسولا لأهل الجزيرة العربية فحسب، ولا للأمم التي عاصرته، وعايشته فقط، بل كان رسولا لكل الاجيال والأمم علي مدي التأريخ منذ لحظة انبعاثه (صلي الله عليه وآله) رسولاً ورحمة للعالمين، والبشرية كلما احتاجت الي انبعاث روحي فليس امامها إلا العودة الي هدي النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله).ان وجه الدنيا قد تبدل عما كان عليه في الأمس أبان العصر الأول للرسالة؛ حيث تغيرت ظواهر وحقائق كثيرة، وحدث انقلاب عظيم في مظاهر الحياة المادية، فأين ركوب الدواب من التحليق بالطائرات، واين الاستنارة بمصابيح الزيت من المصابيح الكهربائية؟ وهكذا الحال بالنسبة الي كافة مظاهر الحياة التي تبدلت وتغيرت شيئا فشيئاً حتي غدا هذا العصر

عصر العقول الالكترونية.

الطبيعة البشرية باقية

ولكن الشيء الوحيد الذي لم يطرأ عليه التغيير هو الطبيعة البشرية، حيث مازالت البشرية تريد اشباع حاجتها الروحية، وظلت بحاجة الي رحمة الهية مهداة كما قال النبي (صلي الله عليه وآله): " انما انا رحمة مهداة " [24] ، وقد أكد القرآن الكريم علي هذه الحقيقة قائلا: (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء / 107).وعندما يتحول التفكير البشري الي تفكير مادي، فيغوص ابناء البشر في شهواتهم وملذاتهم، ويجرون وراءها، فتنشب النزاعات والفتن، وتسيل الدماء، وتزهق الارواح، فحينئذ لابد لها من بلسم ينقذها من الهلاك، والدمار، ويداوي جراحها.

رسالة السماء بلسم البشرية

وهذا البلسم ليس إلا رسالة السماء، وبالتأكيد فان البلسم الشامل والكامل هو ما تجسد في بعثة نبي الرحمة، وخاتم رسالات السماء محمد (صلي الله عليه وآله) علما ان حال البشرية اليوم ليس بأفضل من حالهم بالأمس وفي عصر ما قبل الرسالة، فقد كان حالهم كما وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: " أرسله علي حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزامٍ من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظٍّ من الحروب... وشعارهم الخوف، ودثارهم السيف " [25] ، وهو افضل وصف لحالتهم المتزعزعة المتردية حيث لا أمن إلا بالسيف والقوة.لقد كان الاقتتال بين القبائل العربية يقع لأتفه الاسباب، وعلي سبيل المثال فان الأوس والخزرج اقتتلا لأكثر من ثلاثمائة سنة من أجل سبب بسيط وتافه إلا وهو قتل بهيمة، وقد كانت القبائل العربية تنقض في بعض الاحيان - عندما يداهمها الجوع - علي آلهتها المصنوعة من التمر لتأكلها!، وأما السبل فقد كانت غير آمنة من قطاعها الذين كانوا يسلبون وينهبون ما طاب لهم من اموال القوافل المارة بهم، وعلي هذه الصور وغيرها كان حال الجاهلية الأولي.

قبائل العصر الحديث

واذا ما تأملنا حال العالم اليوم اكتشفنا انه ليس بأفضل مما كان عليه في الأمس وإن اختلفت الوسائل والمظاهر، فزعماء البشرية اليوم يصنعون وسائل فنائها وانقراضها بأيديهم حيث الصواريخ المدمرة، والقنابل النووية، والاسلحة الكيمياوية، والغواصات المزودة بالرؤوس النووية التي تجوب اعماق المحيطات طولاً وعرضاً.كما وان البشرية غدت اليوم مهددة بشتي انواع المخاطر الداهمة مثل الجوع والمرض والحرمان والجفاف والقحط المنتشر في ارجاء كثيرة من الأرض.ومع وجود هذه الاوضاع المأساوية، تري هل غدت البشرية المعذبة غنية عن الرسالة، وانبعاثها الجديد كما يزعم البعض من المنبهرين بوسائل الحضارة المتطورة؟ كلا وألف كلا؛

بل ربما ازدادت الحاجة لهذا الانبعاث اضعافا واضعافا عما كانت عليه بالامس.فان كان الاقتتال بالامس يعتمد علي قوة الفرد، وقدرته علي حمل السيف، ومنازلة الخصم به، فانه يختلف اليوم بنسبة واحد الي مليون؛ فبمستطاع شخص او شخصين يجلسان وراء الازرار، وبمجرد ضغطات بسيطة عليها ان يطلقا الصواريخ العابرة للقارات، فينعدم بذلك وجود الملايين من البشر، وتلغي صلاحية الارض للحياة؛ اي ان بامكان هذين الشخصين ان يحددا ويقررا مصير هذا العالم من موقعهما، في حين ان جيوش الامس كان عليها ان تسير اياماً وليالي، وتقطع الصحاري والقفار والوديان والسهول لكي تبلغ مواقع المواجهة بينها، فاين حروب الامس من حروب اليوم؟!

انبعاث رحماني

وبناء علي ذلك فنحن بحاجة اليوم الي الانبعاث الرحماني، وهذا الانبعاث يتجدد مع تجديد الذكري والاستلهام منها؛ فان كانت البعثة في الأمس سبب في اصلاح قبائل متناحرة لايتجاوز عدد افرادها بضعة آلاف من الناس، فانها اليوم ضرورية لاصلاح امر الملايين من البشرية المعذبة والمضطهدة التي تحتاج الي من يعمل علي انقاذها وتحريرها مما تعاني منه الويلات، والفتن، والآثار السلبية للحرمان.وهنا يتبادر الي الاذهان السؤال المهم التالي: هل المهم في الرسول (صلي الله عليه وآله) شخصه ام نهجه ونبراسه الرسالي اللذان ما يزالان قائمين وسيظلا كذلك حتي قيام الساعة؟ من المعلوم ان غياب شخصه (صلي الله عليه وآله) ليس مهما كأهمية ما جاء به في رسالته الالهية من تعاليم سامية بدليل قوله - تعالي -: (يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً - وَدَاعِياً اِلَي اللَّهِ بِاِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (الاحزاب / 45-46).فالرسول (صلي الله عليه وآله) سراج لاينطفئ وإن غاب شخصهعنا، وحاشا لنور الرسالة الوهاج ان تحجبه الغيوم الداكنة، فلا يد للزمان تتطاول فتنال من شعاع

الرسول (صلي الله عليه وآله) الساطع الخالد، فهذا النور موجود مادامت كلمة " لا إله إلا الله محمد رسول الله " تطل علي الخافقين، ولذلك فان اهم ما في ذكري البعثة النبوية الشريفة ان نجدد هذه الذكري مع الزمان مادامت الحاجة الي الرسالة مطلوبة ومتجددة.وربما يغيب عن البعض، بسبب ما يترك الانبهار بحضارة الغرب من أثر علي النفوس، ان العالم الغربي صار مثله مثل تلك العجوز الشمطاء التي أكل الدهر عليها وشرب فلجأت الي عطار في محلتها علها تنجح في اصلاح نفسها! فالغربيون باتوا اليوم يحاولون تلميع وجوههم، واصلاح ظاهرهم الذي غداً سخيفاً باهتاً، ويكفي في هذا المجال ان تشهد تقارير مرض الايدز بمدي التفسخ الخلقي الذي يعيشونه، هذا المرض الذي لم ينجحوا لحد الآن في اكتشاف علاج له.ومن حقنا ان نتساءل هنا: من المسؤول عن هذه الويلات والمآسي التي تمر بها البشرية، أليس هو الفكر الجاهلي المادي المتمثل في الحضارة الغربية؟ وعندما يكون هذا الفكر هو السبب، أليست البشرية بحاجة الي رحمة الهية تقف في وجه هذا الاتجاه الجاهلي المعاصر وتقضي عليه؟الرحمة عند الرسول (ص):تري اين نجد هذه الرحمة، وماهو مكمنها؟ انها عند رسول الله (صلي الله عليه وآله) متمثلة في ما جاء به من الرسالة، ونهجها الخالد العظيم، واهدافها السامية النبيلة، فالعمل الجبار والمذهل الذي انجزه النبي (صلي الله عليه وآله) ومايزال ينجزه عبر رسالته ونهجه الخالدين يتمثل في انه صنع من هذا الانسان الذي كان يتحرك من اجل دنياه، ومن منطلق شهواته ودوافعه الانانية، صنع منه انساناً يكاد يكون انموذجاً في الاخلاق السامية، فاذا به عطوف رحيم كريم، يحب الآخرين، ويضحي من أجلهم، ويحب امته، ويقدس عقيدته، ومبادئه، ويحمل رسالة في الحياة.ومن

خلال الايثار صارت تلك الجماعة الرسالية الاولي مثالاً يضرب علي مر الاجيال، وفي هذا المجال يروي لنا التأريخ انه عندما سقط عدد من اصحاب النبي (صلي الله عليه وآله) في احدي الحروب جرحي وكان العطش قد اخذ منهم مأخذه، جيء لهم بالماء، وأعطي لأولهم فأبي ان يشرب قبل أخيه الثاني المطروح الي جنبه، وعندما أعطي هذا الماء الي الثاني أبي هو الآخر ان يشرب قبل أخيه الثالث وهكذا حتي جاء دور العاشر فقال: ان الاول اولي مني واحق بشرب الماء، فلما عادوا الي الأول وجدوه قد فارق الحياة، وهكذا الحال بالنسبة الي الثاني والثالث حتي التحق الجميع بالرفيق الأعلي وهم عطشي لم يذوقوا الماء لانهم آثروا الآخرين علي أنفسهم.

امة متآخية و موحدة

وهكذا فقد صنع الرسول (صلي الله عليه وآله) من تلك الامة المتمزقة المشتتة، امة واحدة متآخية تسودها المودة والتضحية والايثار، وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وتجاهد في سبيل الله حق جهاده، فلقد تحرروا من أطر انفسهم الضيقة التي كانوا يعيشونها في الجاهلية، واصبح الواحد منهم يهب مسرعاً يحمل سيفه، وينطلق للجهاد بمجرد ان يطرق سمعه نداء: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ) (النساء / 75).وهكذا تغيرت كل القيم الجاهلية، بل ونسفت من اساسها بفضل ذلك المنهج الرسالي، وصار الجميع جنودا للاصلاح والتغيير، وتحولت تلك الكتل المتنازعة المتناحرة الي كتلة واحدة متراصة تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتخوض غمار الجهاد، وتدعو لله - تعالي -، وقد انتشر نور الاسلام بفضل جهاد ابنائه الذين حملوا راية الجهاد والدعوة الالهية منطلقين من الجزيرة العربية الي بقاع العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وهذه هي أمة الرسالةوامة القرآن التي صنعها النبي (صلي الله عليه

وآله).

مسافات شاسعة

اما نحن فمازالت المسافة شاسعة بيننا، وبين ما يدعو اليه القرآن، فأين نحن من تلك النداءات والوصايا والاوامر القرآنية؟ أولسنا نحن الذين ينبغي ان نتأسي بالرسول واخلاقه وسيرته في حياتنا؟اننا اليوم بأمس الحاجة الي امة منا تقوم باعباء مسوؤليتها التأريخية، وتحمل راية النبي (صلي الله عليه وآله) من جديد، وتعمل علي ايقاظ القيم الايمانية في النفوس، هذه القيم التي تدعو الي القسط، وحب الآخرين، والايثار، والتضحية، بل الي حب الله - عز وجل -، وتغيير ما في النفوس من عوامل التردي والتخلف، واصلاحها، وبالتالي اصلاح المجتمع الفاسد.ان من اعظم الانتماء هو ان ننتمي الي تلك القيم التي تنادي وتدعو لها الرسالة المحمدية، ولنحذر كل الحذر من ان تكون اهداف حركتنا متلوثة بالروح الانانية النفعية؛ اي يجب ان لا تكون اهدافنا شخصية بل لتكن اهدافاً من أجل الله تعالي وفي سبيله، ومن أجل ابناء هذه الأمة المعذبة المضطهدة في كل مكان من بقاع عالمنا الاسلامي.

لا نجاح للمجتمع الاناني

ولنعلم انه لن تزهر وتورق شجرة المجتمع الاناني، بل تزهر وتورق وتثمر شجرة ذلك المجتمع الذي تشيع فيه روح الايثار والبذل والتضحية من أجل الآخرين، ويسوده التعاون والتكاتف والمسارعة الي الخيرات، وهذا هو المجتمع الناجح الذي ينشد التقدم والازدهار والذي يمثل اساس الحضارة الانسانية الحرة الكريمة.وهذا المجتمع هو الذي يتحرك نحو الكمال، والاهداف النبيلة السامية لان اليد الالهية ستكون في عونه، وتسدد افراده، وقد ضمن الله - سبحانه - لعباده النصر والتأييد فيما لو نصر ابناء هذا المجتمع ربهم بتلك الروح الايجابية الخلاقة المتمثلة في تحمل المسؤولية، والتوكل عليه - تعالي -، وقد اشار القرآن الكريم بصراحة الي هذا المعني في قوله: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد / 7).ونصرة

الله - جل وعلا - تعني في جانب منها نصرة أوليائه، وكتابه العزيز من خلال العمل بمناهجه وقيمه واوامره ونواهيه وكل شرائعه المقدسة، فلابد من ان نتآخي بيننا كما يقول - تعالي -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات / 10).ولابد من التعاضد والتعاون كما أكد علي ذلك - عز وجل -قائلا: (وَتَعَاوَنُوا عَلَي الْبِرِّ وَالتَّقْوَي وَلا تَعَاوَنُوا عَلَي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (مائدة / 2).

كتاب كله هدي

ولا مناص لنا ايضا من الالتفاف حول كتاب الله، والأخذ بسيرة رسوله واوليائه من الأئمة (عليهم السلام) حيث يقول - تعالي -: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا) (آل عمران / 103).وكتاب الله العزيز كله هدي، وهو السراج الذي ينير لنا طريق الحياة الحرة الكريمة، وهو الذي يأمرنا بالتلاحم، والتعاون فيما بيننا.ولابد ان نجسد اسلامنا من خلال تلك المعاني والقيم؛ قيم المسؤولية، والاهتمام بمصير الآخرين عبر مساعدتهم، وانقاذهم من المصائب والويلات والكوارث التي تحل بهم كما يصرح بذلك الحديث الشريف: " من اصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم ". [26] .أما آن الأوان لأن نتحمل مسؤولياتنا التأريخية تجاه اخواننا المضطهدين المقهورين في بلدان عالمنا الاسلامي الشاسع؟وللأسف فعندما يكون الحديث حديث المسؤولية والحث عليها، تتدفق سلسلة التبريرات الواهية التي يدحضها القرآن جملة وتفصيلا في قوله - تعالي -: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَي نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ - وَلَوْ أَلْقَي مَعَاذِيرَهُ) (القيامة / 14-15).فلنكن في عون اخواننا اينما كانوا، ولنبحث عن ذوي الحاجة والعوز الذين قد لاتبدو حاجتهم علي سيماهم لتعففهم، فعلينا ان لا ننتظر لكي يبادرونا بالسؤال لان في السؤال ذلة، والمؤمن ينبغي ان يبقي عزيزاً، صائناً لكرامته. ولنقرأ تأريخ الأئمة (عليهم السلام) وكيف كانوا يوصلون الحاجة الي اصحابها بأساليب تحفظ كرامة الانسان المحتاج، فقد كانوا

(عليهم السلام) يدورون علي بيوت الفقراء والمساكين متنكرين لايسألون الناس الحافاً.وإذا كان البعض لايعاني من الحاجة المادية فان حاجته قد تكون معنوية؛ أي قد يكون محتاجاً الي الهداية والرشاد، ومثل هؤلاء ينبغي البحث عنهم وانقاذهم مما هم فيه من جهل وضلال وبعد عن الحقائق، ولنعلم ان الله سبحانه ينزل فيض رحمته علي عباده إن هم تراحموا بينهم، ونبينا (صلي الله عليه وآله) هو نبي الرحمة، وتتجلي هذه الرحمة في تعاليمه، وسيرته وقيمه، وفي كتابه، وما علينا إلا ان نلتف حول الرسول (صلي الله عليه وآله) ورسالته، ونحمل رايته لكي نقترب من هديه، ونبلغ هذا الهدي للعالمين.

انطلاقة العقل والارادة

اشاره

في عصر ما قبل البعثة النبوية الشريفة كانت البشرية غائصة في مستنقع الجهل والضلال، حيث لف العقل البشري - هذه النعمة الالهية الكبري - بركام من الخرافات والاساطير، وحجب الغفلة والشهوات، وكذلك الارادة - هذه القوة الالهية التي تميز بها الانسان - كانت قد غلت بالاصر والاغلال، بالاضافة الي القلب الذي هو ينبوع العواطف الخيرة فهو الآخر دس في ركام من الاخلاق الرذيلة التي حجبته عن تلك العواطف.ومن أجل انقاذ هذا الانسان تدخلت ارادة السماء فولد النور، وانبعث الخير علي اعتاب مولد النبي محمد (صلي الله عليه وآله)، وإثر ذلك تغيرت النواميس واذا بشرفات قصر كسري بالمدائن تتهاوي، ونيران المجوس في فارس تخمد، وغيرها من التحولات العظيمة التي جذبت انبتاه العالم اليها.

ارادة السماء تتدخل

لقد كانت هذه التحولات الكبيرة اشارة واضحة الي تدخل ارادة السماء في ساحة الصراع بين الخير والشر، والنور والظلام، والحب والبغضاء، بعد ان لف ظلام الجهل نور الحقيقة، وسيطر الطغاة علي مقاليد الارض حتي لم يعد الدعاة الي الله - تعالي - قادرين علي الصمود امام هجمات الجاهليين، وحينئذ قررت الارادة الالهية، والمشيئة العليا ان ينتصر النور علي الظلام، والعقل علي الجهل، بولادة سيد البشر محمد (صلي الله عليه وآله).وهذه الولادة المباركة كانت بمثابة انطلاقة حضارة السماء التي ستعم الارض، وهي آخذة بالتقدم والتكامل حتي يظهر ولي الله الأعظم فيملأ الارض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.ونحن إذا قرأنا التاريخ، ودرسنا فصول الحضارات علي وجه الخصوص لرأينا ان الخط البياني لتقدم البشرية قد بدأ لحظة ميلاد الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) وبعثته، صحيح ان كل رسالات السماء كانت تحمل معها وقود الحضارة لتدفع بالبشرية الي الامام، الا ان رسالة النبي الاعظم محمد

(صلي الله عليه وآله) كانت تمثل الدرجة الأخيرة في التحول الكيفي في مسيرة الحضارة البشرية.بين المنهج الاسلامي والمنهج الجاهلي:وهنا بالضبط كانت الانعطافة الكبري، فبلغت المسيرة رشدها، وبدأت الحضارة حركتها الحقيقية، وعاد الانسان يعيش انسانيته مقراً ان الناس سواسية كأسنان المشط، علي عكس ما كان يعتقد به الفلاسفة القدامي كأرسطو الذي كان يصرح ان الناس لا يمكن ان يكونوا سواسية، فهم علي اقسام؛ فمنهم من ليس ببشر وانما خلقهم الله بالصورة الآدمية لكي يخدموا الآخرين من الطبقات العليا.والي اليوم نلاحظ ان هذا التقسيم غير الطبيعي مايزال سائدا في بعض البلدان؛ ففي الهند - مثلاً - نجد شريحة كبيرة من الناس يطلق عليها اسم (المنبوذون) تعيش في حالة يرثي لها من الجهل، والتخلف، والفقر، والحرمان، والأسوأ من ذلك ان احداً منهم لايجرؤ علي انقاذ نفسه من هذا الواقع المزري لاعتقاده بانه منبوذ حقاً!وراح البعض يميز بين جنس الرجل، وجنس المرأة؛ اذ كان اغلب الفلاسفة يعتقدون ان المرأة ليست من جنس الرجل، وانها من جنس ادني منه، وان الله - تعالي - قد خلقها لتخدمه، وهذه المعتقدات وما شاكلها تسربت الي بعض الديانات مما سبب انحرافها - كالديانة اليهودية مثلاً - حتي صار اصحابها يعتنقونفكرة العنصرية ليجعلوها شعاراً لمحاربة الشعوب.

خلفية جاهلية

وحتي أولئك الذين يدعون التقدم والحضارة في عالمنا المعاصر لايعترفون هم ايضاً بالآخرين، لان خلفيتهم الفكرية خلفية جاهلية، ولانهم لم يتبعوا القيم الالهية، ومن هنا ندرك حقيقة ان الحضارة الحقيقية لايمكن ان تكتمل الا في ظل رسالات السماء التي تؤدي الدور الفاعل في استثارة دفائن العقول، واستخراج خزائنها، واذا بهذه العقول المدسوسة في تراب الخرافات والاساطير تنشط، وتأخذ بالاشعاع في الآفاق الواسعة.وكلما تحرر العقل شحذت العزيمة، وتوفرت النية

الخالصة حتي يصبح الانسان قادرا علي اتخاذ قراره بنفسه، ذلك ان قيمة الانسان بقراره، فالانسان الذي يخضع لكل من هب ودب سرعان ما ينهار امام أي تحد قد يواجهه في حياته.ان الانسان الحر يمكنه ان يتحدي كل الحتميات الاجتماعية والجنسية بل وحتي الحتميات التأريخية، صحيح ان هناك عوامل تأريخية قد يكون بعضها ثابتاً، إلا إن الانسان مع ذلك يكون فوق التأريخ بارادته، فبإمكانه انه يوقفه ليصنعه من جديد، وهذه هي الفكرة الثورية التي تستطيع ان تجعل الانسان يقفز قفزات واسعةلتحقيق تطلعاته الكبيرة.ومن خلال تحقيق هذه الفكرة تمكن الاسلام من مد نفوذه علي اكبر مساحة من الارض، وفي اسرع وقت، ونحن نلمس ذلك في شخصية رسول الله (صلي الله عليه وآله) الذي تحدي كل الحتميات الجاهلية التي كانت سائدة آنذاك، فأثار العقول بعد ان كانت خامدة، واعاد للنفوس حيويتها بعد ان كانت ميتة، والغي العصبيات، والاعتداءات، والاحقاد، والبغضاء بعد ان كانت متأججة، وأرسي في صفوف الأمة المحبة، والوئام، والالفة والانسجام، وكان ذلك ديدنه حتي آخر لحظة من حياته الشريفة، إذ كان (صلي الله عليه وآله) ينادي ملك الموت قائلا: " شدد عليَّ وخفَّف علي أمتي " رحمة بها، ومحبة لها. وهذه هي بعض تجليات رسالة النبي (صلي الله عليه وآله).

منهاج النبي علاج مشاكلنا

ولو نشأت الامة حقا علي منهاج الرسول الاعظم (صلي الله عليه وآله)، وعاشت سيرته المباركة لما كانت اليوم تعاني من أية مشاكل تذكر، إلا انها لما صارت تعيش الغربة عن واقع رسالتها، ولم تكرس قيمها الاسلامية في واقعها، فمن الطبيعي ان يأتي الحكام الطغاة ليتسلطوا عليها، وينفذوا الادوار الاجرامية ضدها، فلو كان مجتمعنا محمديا قرآنيا لما فسح المجال لاي طاغية ليعيث بمقدراته، ويتسلم مقاليد اموره رغما

عن ارادته، فالمجتمع المحمدي هو مجتمع المسؤولية، والوحدة، والحب والتعاون والتكافل، ومجتمع التحدي والشهادة.ولذلك ينبغي علينا ان نبني مجتمعا صلبا ايمانيا صادقا يتحدي كل من تسول له نفسه ان يصنع من نفسه دكتاتورا يتسلط علي رقاب الشعوب المسلمة.

المسلمون و خطر الابادة

ان المسلمين يواجهون اليوم خطر الابادة فلا مجال للجدل في بعض القضايا الهامشية، كما انه لا مجال للعمل البطيء المتعثر في هذه الفترة، فهذا الظرف يتطلب عملا جادا ودؤوبا، ومن اجل ان نرتفع بالساحة الاسلامية الي مستوي التحدي والتصدي؛ اري ضرورة العمل بالارشادات والوصايا التالية:1- لنسع من اجل صنع دوائر ايجابية يتداخل بعضها مع بعض كالموجة التي تنطلق من وسط دائرة ليتسع مداها الي الدوائر الاوسع، فلا يجوز لنا اليوم نحن ابناء الحركة الاسلامية ان ننعزل وننكمش علي بعضنا، وليرحب كل واحد منا بأي انسان يمد له يد العون لانقاذ بلاده وشعبه، ولنبدأ جميعاً بفكرة جديدة وانطلاقة جديدة، صحيح ان هناك نقاط اختلاف ولكننا عندما نجد نقاط الوفاق، وعندما نستطيع ان نتمحور حولها، ونعتمد عليها، فان هذا يعني ان نقاط الخلاف ستنفعنا في مجالات كثيرة، خصوصاً إذا عرفنا ان من طبيعة المجتمع انه يعيش ادواراً مختلفة من حيث الطبقات، والجنسيات، والتوجهات...2- كل عمل يسهم في إضعاف انظمة البغي والجور، ويساعد علي تنمية قوي المعارضة هو عمل مقبول علينا ان نشجعه.3- ضرورة العمل في الساحة الجماهيرية دون التقوقع في الدوائر المنفصلة عنها، فلا يخفي ان قيمة الحركات الاسلامية تتجلي في التواصل مع الجماهير، وابداء الخدمات لهم، فلابد من ان ندخل اوساطهم من خلال استشارتهم، والاستماع الي افكارهم، وان نطرح عليهم في نفس الوقت نظرياتنا وافكارنا ومن الممكن ان يتحقق ذلك بواسطة عقد الندوات والمؤتمرات وغيرها مما تسمح به

ظروف كل حركة اسلامية.ان علي المتصدين للقضايا الاسلامية ان يفسحوا المجال للجماهير لابداء آرائها، وما يختلج في صدورها، فان الآثار الايجابية لذلك ستنعكس علي ساحة العمل بصورة واضحة، ومن هذا المنطلق يجب ان نعطي الجماهير دورها الطبيعي في الحياة ليتعلموا كيف يبادرون الي استعادة حقوقهم المسلوبة، والدفاع عنها..

الحوزات العلمية و ضرورة التطوير

وفي هذا الاطار اوجه حديثي الي الحوزات العلمية بالقول ان التقدم التقني، وتنامي التحديات الفكرية يستدعيان من العلماء ان يلاحظوها بافكارهم ونظرياتهم، ومثل هذا الأمر لايمكن ان يتحقق إلا اذا برمجنا مناهج الحوزات العلمية برمجة حديثة وفق تطورات العصر إذ ليس من المعقول ان نبقي جامدين علي البرامج السابقة.ان الحوزات العلمية بحاجة الآن الي دم جديد، وانبعاثة جديدة، فالحوزة التي لايدرس فيها الطالب الاقتصاد، والسياسة، وسبل مقاومة الطغاة والمستكبرين، لايمكن ان تسمو في سماء التكامل.وفي هذا المجال كتب أحد الفلاسفة الغربيين في كتابه (الامام الصادق عقل الفكر الشيعي) يقول: ان الامام الصادق (عليه السلام) لم يورث الشيعة مالاً، ولا سلطة، وانما اورثهم منهجية سليمة لتعلم العلم، فالامام الصادق بقي وبقي من ورائه التشيع مستمرا في تحدي المتغيرات، وتتجلي هذه الحقيقة اكثر عندما نجد علماء الاسلام تلهج السنتهم علي مر التأريخ بذكر الامام الصادق (عليه السلام) عندما يتباحثون في مختلف ابواب العلم.

دعوة للتجديد

انها دعوة مفتوحة لكل العلماء والفقهاء والمفكرين للعمل عليتطوير برامج الحوزات العلمية لكي تكون حقاً جهاز دعوة وتبليغ في سبيل الله - عز وجل -، وقد يقول البعض انه قد تم بعض التغيير في المناهج الحوزوية قبل عشر سنوات، وانا أؤيد ذلك ولكن لابد من احداث تجديد كل عقد من الزمان مع المحافظة - طبعاً - علي الموضوعات الاساسية، اما المتغيرات فلابد من ان تتخذ طريقها الي عقول الموجهين، ثم منهم الي الجماهير، كمال قال - تعالي - في سورة الاحزاب وهو يصف الرسول ومناهجه، ودوره في توجيه الناس:(يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً - وَدَاعِياً اِلَي اللَّهِ بِاِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (الاحزاب / 45 - 46).

مبدد الظلمات و محطم الحواجز

اشاره

ماهي الظلمات التي بددها فجر الرسالة الاسلامية، وماهي الصراعات التي اطفأت نارها بعثة النبي (صلي الله عليه وآله) في غار حراء، ولماذا كان الرسول سراجاً منيراً، وبماذا بشر الله - عز وجل - المؤمنين الذين يتبعون هذه الرسالة؟؟هذه تساؤلات لابد ان نتدبر فيها، ونعمل الفكر من أجل الاجابة عليها، ولا يكفي في هذا المجال ان نقرأ القرآن قراءة عابرة، ونسلم تسليما قلبيا بما جاء به دون ان نعرف ابعاده وآفاقه، ودون ان نستوحي منه افكارا نتبصر فيها لعلها تكون لنا معراجا ووسيلة الي الله - سبحانه -.

المعرفة شرط اول

هناك مسافات شاسعة وواسعة تفصلنا عن رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وأهل بيته (عليهم السلام)، فنحن ما نزال نجهل مقامهم، وواجبنا اتجاههم، وبالتالي فاننا إذا بقينا علي هذه الحالة، وارتحلنا عن الدنيا ونحن نجهل اهمية قادتنا، فعلينا ان لا نأمل ان نكون في يوم القيامة ممن تنالنا شفاعتهم، وممن يجالسهم ويحاورهم في الجنة، ذلك لان المعرفة هي الشرط الأول، فعندما لا تعرف شخصاً ما فكيف تحترمه وتحبه وتتبعه، وكيف ترجو ان يكون لك شفيعاً وصاحباً؟!ان تلك الظلمات التي كانت سائدة علي البشرية لم تكن ظلمات الفقر والمرض والتخلف والجهل، بل كانت ظلمات اعمق من ذلك، هي الجذور الاساسية لمثل هذه الظلمات. انها ظلمات العلاقات بين الناس، فهذه العلاقات لم تكن قائمة علي اساس فطري سليم، بل كانت علاقات قائمة علي الظلم والاستكبار والاستعباد والتفرقة العنصرية.ان هذه العلاقات هي الأهم في حياة الانسان، فهو عندما ينظر الي الآخرين نظرة سليمة، ويؤمن انهم اخوان له في الدين، او نظراء له في الخلق، فحينئذ سوف تصلح وتستقيم سائر مواقفه منهم. اما إذا فسدت هذه العلاقة، وهذه الفطرة فان المواقف الأخري

سوف تفسد بدورها، وهذه هي الظلمات الحقيقية التي يشير اليها القرآن الكريم.ان الفلسفات البشرية القديمة والحديثة لا يمكن ان تكون قائمةإلاّ علي هذه العلاقة الشاذة؛ أي علاقة العبودية والاستعباد. فنحن لو القينا نظرة فاحصة علي هذا العالم في عصوره القديمة والحديثة لرأينا ان علاقة الناس بعضهم ببعض انما هي علاقة الذئب بالشاة، فالجزيرة العربية كانت قائمة علي اساس الفروق القبلية والعنصرية، وكانت هذه الفروق تثير الحروب والصراعات المستمرة الطاحنة، وقد كانت هذه الحروب والصراعات انعكاسا للثقافة الجاهلية المسيطرة علي النفوس والاذهان آنذاك، وهذه هي الظلمات التي جاء الاسلام لازالتها.

عادت الظلمات من جديد

وقد سيطرت هذه الظلمات مرة اخري علي البشرية خلال القرن الخامس عشر وحتي السابع عشر، فقد كانت هذه القرون قرونا مأساوية في حياة الانسانية، فأصبح تأريخ الانسان مجرد حالة من التناحر الذي يعرف اليوم بالحرب الخفية بين الشمال والجنوب، وقد قسمت هذه الحروب البشرية الي قسمين؛ قسم يسمي ب (الدول المتقدمة) وآخر ب (الدول النامية او المتخلفة).تري لماذا لم تستطع البشرية رغم مرور قرون طويلة، ورغم الجهود التي بذلتها وثوراتها وانتفاضاتها ان تبلغ التقدم، فبقيت تلك البلدان متخلفة بل وازداد تخلفها هذا، في حين ان الدول المتقدمةازدادت تقدما وقوة؟السبب في ذلك يكمن في ان الغرب يؤمن بفلسفة مزيجة من الفلسفة الدينية المستوحاة من التوراة والانجيل، والفلسفة اليونانية والرومانية المستوحاة من التصورات البشرية.

من مظاهر الظلمات المعاصرة

ان الغرب بدأ يفكر بشكل آحادي اعتبارا من تلك القرون، فأخذ يتجه نحو الفلسفة المادية البعيدة عن المسحة الروحية، والقيم الايمانية، وعندما ترسخت هذه الفلسفة فيه بدأ باستعمار الشعوب ونهبها بشكل منظم؛ ففي خلال قرنين من الزمان استطاعت البلدان الغربية ان تسرق من اميركا اللاتينية ومن بعض الدول في آسيا الكثير من ثرواتها، وهكذا استطاعت تلك البلدان المستعمرة ان تنهب كل ما في البلدان الفقيرة من ثروات.وعلي سبيل المثال فقد اختطفت البلدان الغربية من افريقيا ما يقرب من مائة مليون انسان، وهنا يحق لنا ان نطرح هذا السؤال: ماهي الاسباب التي دفعت البلدان الغربية الي تلك الممارسات اللاانسانية؟ انها بالتأكيد الافكار الظلماتية والجاهلية التي جاء نبينا محمد (صلي الله عليه وآله) للقضاء عليها، واقتصاص جذورها. انها الافكار المادية التي انتزعت منها القيم الانسانية، والسماوية، والمصائب والمآسي والويلات التي نجدها اليوم في البلدان الاسلامية هي من افرازات تلك الافكار الجاهلية التي صدرها الغرب إلينا.ان

هذا التخلف هو نتيجة ذلك الانعطاف الخطير في تأريخ البشرية؛ والمتمثل في تقسيم العالم الي بلدان متقدمة، وبلدان متخلفة، وقد بعث النبي (صلي الله عليه وآله) لمحاربة هذه الظاهرة الطبقية كما تشير الي ذلك بوضوح الآيات التالية من سورة الأحزاب:(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً اِلاَّ اللَّهَ وَكَفَي بِاللَّهِ حَسِيباً - مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً - يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلآَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ اِلَي النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً - تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً - يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً - وَدَاعِياً اِلَي اللَّهِ بِاِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِاَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً) (الاحزاب / 39 - 47).

سبيل الخروج من الظلمات

والآيات الكريمة السابقة جاءت لتؤكد علي أن الظلمات التيعاشتها البشرية ماهي إلاّ ظلمات التمييز العنصري، والفروقات الطبقية فنحن لا نستطيع ان نغير التأريخ، ونبدأ انعطافا جديداً إلاّ من خلال مقاومة هذا الفيروس الخطير؛ فيروس الرؤية الطبقية والعنصرية الي الناس، وإذا ماتمكنا من ان نقضي علي هذه الجرثومة قضاءاً مبرماً فان هذا يعني اننا سنستطيع بحول الله - تعالي - ان نبدأ المسيرة المباركة، ونسير في الاتجاه المعاكس للتيار المنحرف الذي يجرف البشرية الآن.ونحن إذا ما رأينا ان البلدان المتخلفة لم تستطع خلال قرون طويلة من الثورات والمحاولات ان تغير المعادلة السائدة في العالم، فالسبب يكمن في ان شعوبها لم تحاول ان تغير ما في نفسها، ولان العلاقة بين ابناء شعوب هذه البلدان كانت ذات العلاقة بين الدول الغنية والفقيرة.ونحن

كتجمع ايماني فان مراكزنا العلمية، ومعاهدنا الدينية يجب ان تكون هي المنطلق. فهي محافل القرآن، والامكنة التي تسودها الاجواء الايمانية، وبعبارة اخري فان غار حراء الذي انطلقت منه الرسالة الاسلامية السمحاء يتجسد اليوم في هذه المراكز والمعاهد شريطة ان تستقبل نور الوحي، وتتجاوز الذاتيات والانانيات والتمايزات، وفي هذه الحالة فاننا سنستطيع ان ننشر نور الاسلام في جميع ارجاء العالم، وإلاّ فان مآسينا ومصائبنا ستبقي كما هي ان لم نقل انها ستزداد سوءً ووخامة.

الرؤية العنصرية كفر

ان مجرد الاعتراف بالفروق والعنصريات هو كفر بما جاء به نبينا محمد (صلي الله عليه وآله)، وانا اذكر في هذا المجال انه عندما بدأت الجوازات والجنسيات بالصدور في البلدان الاسلامية فان فقهاؤنا (رحمهم الله) بادروا الي الافتاء بحرمة اقتناء المسلمين لهذه الوثائق التي تكرس الاختلافات والتشتت في جسد الأمة الاسلامية الواحدة، حتي انهم افتوا بحرمة الحج إذا كان يقوم علي الجواز والبطاقة الشخصية.ان الاسلام استطاع في العصور الماضية ان يخلق ارضا اسلامية واحدة تضم الفلبين والنيجر، ويوغوسلافيا والنمسا، والجزائر والمغرب، وبلاد الهند والسند، ولكن اين هذا الاسلام اليوم؟ ان العالم الاسلامي مجزأ الي أكثر من ثلاثين بلدا، وفي كل بلد عدة اقاليم، وفي كل اقليم الكثير من النعرات الطائفية والعنصرية...إذا لم تستطع القيادة النبوية ان توحدنا، ولم يكن بمقدور هذه الراية المباركة ان تصهرنا في بوتقة واحدة فماذا يعني انتماؤنا اليها، وادعاؤنا الانضواء تحتها؟ انه خداع ذاتي ان تحضر - مثلا - محفلا يذكر فيه اسم الرسول (صلي الله عليه وآله)، وتصلي فيه عليه، ولكن يوجد بينك وبين اخيك حاجز من الحواجز الطائفية أو العنصرية وما الي ذلك من الاعتبارات المادية الضيقة!

مقياس الإيمان الحقيقي

علينا اليوم ان نبدأ بتحطيم هذه الحواجز تماما كما فعل النبي (صلي الله عليه وآله)؛ فالمجتمع المدني الذي اسسه (صلي الله عليه وآله) كان مجتمعا صغيرا ربما لم يكن عدد افراده يتجاوز عشرة آلاف انسان، ولكنه انموذجا للمجتمع الاسلامي الكبير الذي بشر به النبي (صلي الله عليه وآله)، والذي استوعب بالفعل الشرق والغرب، والشمال والجنوب.ونحن ايضاً يجب ان نجعل من تجمعاتنا الصغيرة مثالا لتلك التجمعات التي نبشر بها، ونأمل ان تتشكل في المستقبل القريب. وهذا هو المقياس الحقيقي لمدي ايماننا بقيادتنا النبوية، وإلا

فمن يصدق الادعاءات التي نطلقها في هذا المجال؟ فنحن ندعي ان اميركا و البلدان الغربية تستضعفنا، و لكننا في الحقيقة نعتبر (اميركا) بالنسبة الي من هم دوننا، فنحن بدورنا نعتبر مستكبرين بالنسبة الي الجماعات الاخري التي هي دوننا في القوة والقدرة والنفوذ.ان الله - عز وجل - يقول في محكم كتابه الكريم:(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) (الانعام / 129).تري لماذا يولي الله - سبحانه - الظالمين علي بعضهم البعض؟ السبب في ذلك ان الظالم يظلم من دونه، فمن الطبيعي ان يسلط عليه من هو اقوي منه.

الانتماء المزدوج سبب المشاكل

ولذلك نجد ان الخالق - جلت قدرته - يؤكد في بداية سورة الاحزاب علي هذه الفكرة التي تتضمنها الآية الكريمة التالية:(مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ اُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِاَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الاحزاب / 4).وبعبارة أخري فان الانتماء المزدوج هو الذي يسبب هذه المشاكل، فيجب - اذن - ان تكون هناك رؤية واحدة، وانتماء واحد، وحركة واحدة في التأريخ، ولذلك يقول - تعالي -:(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً اِلاَّ اللَّهَ وَكَفَي بِاللَّهِ حَسِيباً) (الاحزاب / 39).ان هذه الخشية التي تتركز في اتجاه واحد، انما تنصب وتتمثل في خشية الله - سبحانه وتعالي - وحده.

وحدة القيادة الالهية

ثم يضيف السياق القرآني الكريم قائلا: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِن رِّجَالِكُمْ)؛ اي ان صلتكم بالنبي (صلي الله عليه وآله) ينبغي ان تكون صلة واحدة، ثم يبين - تعالي - حقيقة وحدة القيادة الالهية في قوله: (وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً - يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).وإذا وصلنا الي هذا المستوي؛ مستوي التوحد والذوبان في بوتقة الايمان، فهناك تنزل علينا الصلوات من ربنا: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلآَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ اِلَي النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً).وعندما يخرجنا الخالق - تعالي - من الظلمات الي النور، ومن اجواء الثقافة الجاهلية، الي احضان الثقافة الايمانية النورانية، فحينئذ سنعيش في الآخرة في دار الأمن والسلام كما وعدنا الله - جل وعلا - بذلك في قوله:(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً).

منطلق الوحدة

اشاره

ان الوحدة الاسلامية التي تستند الي كتاب الله - تعالي - وقيادة رسوله (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) الذين هم الامتداد الطبيعي له، هي الوحدة المتمسكة بحبل الله والمعتصمة بعروته الوثقي؛ فهذا الحبل هو الذي يشد الطاقات الاسلامية ويجعل منها كتلة متراصة وبناءاً متماسكاً. وهذا الحبل المتين يتمثل - كما قلنا - بكتاب الله وشريعته المقدسة، والنبي (صلي الله عليه وآله)، ثم الأئمة (عليهم السلام) هم الذين يعملون علي تطبيق احكام وتعاليم الكتاب والشريعة.

مولد الرسول مناسبة للوحدة

ومن وحي هذه الفكرة فاننا نتخذ من ذكري ولادة رسولنا الاعظم محمد (صلي الله عليه وآله) مناسبة للوحدة، فنحتفي فيها بتلك الاصول الواحدة الثابتة التي تجمع طوائف المسلمين، وتجعلهم يداً واحدة ضد اعدائهم، وتجعل ذمتهم ذمة واحدة يسعي لها ادناهم، وتحيل اهدافهم الي اهداف مشتركة او بالاحري اهداف واحدة.ان الله - سبحانه وتعالي - شاء ان ينصر المؤمنين، وينصر كتابه المقدس بهم جاعلا النصر الثاني شرطا للنصر الاول فقال في محكم كتابه الكريم: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد / 7)، وهاهي ذي جماهيرنا المسلمة تهب في كل الآفاق لنصرة كتاب الله مضحّية بكل غال ونفيس من اجل تحقيق هذا الهدف السامي. فهاهو ذا نصر الله آت، وكل آت قريب.

الوحدة ليست شعاراً يردد

ان علينا اليوم ان لا نكتفي بترديد شعار الوحدة، بل علينا ان نعمقها في كل بعد من ابعاد حياتنا، فهي تعني اولا وقبل كل شيء نبذ كل اسباب الخلاف، والاعراض عن الاهداف الضيقة المحدودة التي تعرض وحدتنا للخطر، ونبذ المصالح والانانيات التي هي بمثابة السكين التي تطعن المسلمين في خاصرتهم، وتحولهم الي فرق شتي.ثم علينا بالاضافة الي ذلك ان نركز اهتمامنا علي ذلك الهدفالواحد وهو اقامة حكم الله في الارض معتصمين بحبل الله المتجلي في القرآن والرسول (صلي الله عليه وآله)، وبعد ذلك يتعين علينا ان نتجه الي انفسنا والي فئاتنا المختلفة لنربط بعضها ببعض في وحدات صغيرة تكبر شيئا فشيئا حتي تصبح الامة جسدا واحدا من ادناها الي اقصاها.

بالحق يعرف الرجال

ان علينا ان نعرف الحق، ثم نقيّم الرجال به بعد ذلك، فالحق الذي يعرف به الرجال تعرف به ايضا الانظمة والاقوال والادعاءات، وهو الذي تهدينا اليه فطرتنا وعقولنا وهدي كتابنا وسنة رسولنا (صلي الله عليه وآله)، وهذا الحق هو نداء الوحدة. اما ما يطلقه هذا وذاك من اقوال تفرق المسلمين، وتعمل من اجل تقسيمهم الي فئات واحزاب متناحرة سواء باسم الطائفية ام العنصرية ام القومية... او باسماء اخري ما انزل الله بها من سلطان، فانها ليست إلاّ اصناماً تعبد من دون الله.

اسباب الوحدة قائمة

وعلينا في هذا المجال ان نتذكر دوما ان المسلمين كانوا وما يزالون تشدهم الي بعضهم اسباب الوحدة، وعوامل الاتحاد اكثر مما تفرقهم عوامل الشقاق والنفاق والاختلاف. و علي الرغم من ان الاختلاف طبيعي بين البشر، وان الله - تبارك وتعالي - قد خلق بني آدم مختلفين عن بعضهم، وجعل لكل انسان موقعا خاصا ينطلق منه، وجعل له اسلوبا ومنهجا يتمسك بهما، إلا أن اسباب الوحدة ما تزال كثيفة ومركزة في اوساط الامة بحيث لا تدع لأبواق الضلالة وعوامل النفاق سبيلاً تنفذ من خلاله في ضمير الامة.وعلي سبيل المثال فاننا عندما نتأمل مهرجان الحج، والامواج البشرية المتفاعلة فيه قادمة من كل فج عميق، فاننا سنشاهد بوضوح تلك الوحدة الحقيقية العميقة الجذور التي لا تستطيع عوامل التفرق ان تنال منها، او تحدث فيها اي خلل؛ فالطواف حول الكعبة هو رمز التمحور حول الحق، والابتعاد عن المحوريات الباطلة، كما ان الإصحار بعرفات في ثوب واحد مشترك، ولاقامة مشاعر مشتركة واحدة هو رمز لتلك النفوس التي تصارح بعضها بعضا، كما ان الصلاة باتجاه القبلة، واداء الزكاة والصيام، والتمسك بسنة رسول الله (صلي الله عليه وآله) كل ذلك

يمثل عوامل للوحدة لا اسبابا للنفاق والشقاق..

مثيرو الاختلافات عاجزون

واما الذين يريدون ان يسلطوا الاضواء علي بعض الخلافاتالتأريخية، او الخلافات الطبيعية بين البشر، واولئك الذين يريدون ان يضخموا الاختلافات في اللون او الشكل او اللغة او الاقليم فان هم الا في ضلال مبين، ومحاولاتهم هذه تشبه الي حد كبير ذلك الذي ينفخ في الشبك، او يرسم علي الماء، فماذا عساهم يفعلوا ضد هذا الدين المقدس الذي قاوم كل تحديات الفرقة عبر اربعة عشر قرنا رغم الشهوات والاهواء والمصالح، ورغم الضغوط الحضارية؟ وماذا عساهم ان يصنعوا بهذه الامة الواحدة التي امتزجت دماؤها بهدي السماء ونور القرآن الكريم؟ وهل ستنجح محاولاتهم من أجل تحريف مفاهيم القرآن هذا الكتاب الذي ترسخت آياته في قلوب مئات الملايين من المسلمين في انحاء الارض؟!

الزبد يذهب جفاءاً

ان القرآن الكريم يوجه الفكر والعقل، ويبرمج الحياة برمجة واحدة بالنسبة الي الجميع، اما القشريون الذين لا يرون إلا زبد الحياة، والغثاء العائم فوق سيلها المندفع، والذين يريدون ان يضخموا بعض الخلافات، فانهم لا يأخذون بنظر اعتبارهم قول الله - جلت اسماؤه -: (فَاَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد / 17).فلنكن علي ثقة بان هذا الزبد سيذهب ويزول كما زالت امثاله في تأريخنا المديد، وكما انمحت كل عوامل التفرقة. ولنتخذ من حياة الرسول (صلي الله عليه وآله) هدي، ومن كتاب الله حبلا نعتصم به، ونتمسك ببرامجه ومناهجه، ولنبدأ بتزكية انفسنا، وتربيتها علي اساس حب المسلمين جميعا لكي نكون اذلة علي المؤمنين، اعزة علي الكافرين، ولنعش في اجواء الحق متمحورين حول القيم المقدسة، ولنعمل علي تكوين الخلايا الموحدة حتي تصبح الامة الاسلامية امة واحدة، ويتحقق قول - عز من قائل -: (إِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92).

النعمة الكبري والمنة السابغة

اشاره

عندما خلق الله - سبحانه وتعالي - البشر، اراد ان يجعل لهم نعمة سابغة تتمثل في هداية الانسان الي ارفع مستوي، ولقد شاء - عز وجل - ان يختار من بين ابناء آدم (عليهم السلام) نبينا محمد (صلي الله عليه وآله)، ومن اجل هذا النبي العظيم، ومقامه الرفيع أسجد الخالق - عز وجل - جميع ملائكته لآدم (عليه السلام).

الأمة المختارة

وبفضل هذا النبي اراد - تعالي - ان يجعل المسلمين الامة المصطفاة والمختارة من بين الأمم من خلال توفيقهم الي ان يمدوا سلطة الاسلام علي الكرة الارضية، وسوف يظهر - تعالي - دينه علي ايديهم، فلقد شاءت قدرته ان يجعل هذه الأمة الشاهدة والشهيدة علي أهل الأرض جميعاً.لقد احب الله - جلت قدرته - ان يتجلي لخلقه بعد ان كان كنزا مخفيا، فخلق نور محمد (صلي الله عليه وآله) هذا النور الذي اشرقت به السماوات والأرض، والذي كان سبب وفلسفة وحكمة الوجود، فلولاه (صلي الله عليه وآله) لما خلق الله - تعالي - الافلاك.وعندما كان النبي (صلي الله عليه وآله) اقرب شيء الي مقام ربه عندما كان قاب قوسين او أدني، قال له جبرائيل (عليه السلام): والله لئن تقدمت قيد انملة لاحترقت. في حين ان نبينا (صلي الله عليه وآله) تقدم الي مقام ربه مسافات لا يستطيع ان يتصورها الوهم والخيال.

منة الله علي البشرية

لقد شاء - تعالي - ان يمن علي البشرية فبعث منها رسولا ليضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم كما تصرح بذلك الآيات التالية:(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي اُنْزِلَ مَعَهُ اُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالاَرْضِ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَاَمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الاُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). (الاعراف / 157 - 158).وهكذا بعث النبي (صلي الله عليه وآله) ليرفع هذه الاغلال، ويحرر

البشرية من حب المادة، ومن جاذبية الأرض، ولينطلق في آفاق التقدم، وإذا لم يكن بمقدور الانسان ان يكون مثل النبي في الرقي الاخلاقي والروحي، فليكن مثل سلمان الذي قال النبي (صلي الله عليه وآله) في حقه عندما اختلف المسلمون بشأنه: " سلمان منا أهل البيت " [27] .

قيود الأنظمة

ان هذا التقدم كان نتيجة التخلص من الاصر والاغلال، وهذه القيود والاغلال تتجسد في قوانين وانظمة هدفها تقييد الانسان، فهناك الكثير من المحدوديات والاغلال المفروضة علي الانسان من قبل الانظمة الفاسدة سواء في العصور القديمة ام في عصرنا الراهن، والرسول (صلي الله عليه وآله) لم يأت لهذا الغرض صدفة، فلم يكن من المصادفة ان تقع حوادث غير طبيعية عند ولادة النبي (صلي الله عليه وآله) من مثل انطفاء نيران المجوس، ومنع الجن والشياطين من العروج الي السماء، واستراق السمع، ان هذه التطورات لم تكن إلا بداية منعطفات خطيرة ستشهدها البشرية مستقبلاً.ويحدد لنا الله - تعالي - في الآيات الكريمة السابقة المقتطفة من سورة الاعراف ما يجب ان نفعله تجاه شخصية النبي (صلي الله عليه وآله)، ففي هذه الآيات يذكر - عز وجل - نعمه علي الانسان عبر الرسول والرسالة، فهناك مزايا انعم بها الخالق علي الانسانية من خلال الرسول سواء تجسدت هذه النعم في شخصه أم في الرسالة، فهو (صلي الله عليه وآله) رسول جاء برسالة، وهو لايتصرف وفق هواه كما يقول - تعالي -: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي - إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي) (النجم / 3 - 4).وهو من جهة ينتمي الي الأمة الاسلامية، فهو لا ينتمي الي ارض ولا قوم، ولا الي أي عنصر آخر، بل هو اسمي من كل ذلك.

رسول و كتاب و رسالة

وهو من جهة ثانية منفصل عن الثقافة الجاهلية، ورواسبها،واغلالها، وخبائثها، وهو أمي لا يقرأ كتابا، بل هو كتاب بحد ذاته ورسالة، كما يشير الي ذلك - عز وجل - في قوله: (النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ) (الاعراف / 157).فالتبشير به (صلي الله عليه وآله) كان موجودا في

كل الكتب السماوية وخصوصا في العهدين المقدسين لدي اليهود والنصاري.وعلي هذا فان منّة الله علينا بمبعث الرسول (صلي الله عليه وآله) عظيمة، وقد وضع - تعالي - لنا برنامجا نفي من خلاله بحق الرسول (صلي الله عليه وآله) علينا، وذلك من خلال الايمان به ونصرة رسالته:(فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ) (الاعراف / 157).وانها لمكرمة عظيمة عندما ترتفع اصواتنا جماعيا بالصلاة عليه وآله بمجرد ان يتناهي اسمه الكريم الي اسماعنا، فماذا نعني بالصلاة علي النبي وآله؟ان هذه الكلمات تعني من جهة اننا ندعو الله - سبحانه وتعالي - ان يصلي عليه، وصلاة الله علي الرسول هي في الحقيقة رفع لدرجته ودرجة امته؛ فنحن عندما نقول: " اللهم صل علي محمد وآل محمد " فاننا ندعو بصورة غير مباشرة لأمته بالرفعة والمجد والصمود، وعندما نذكر آله الكرام فاننا نعني بذلك ان المرء انما يكرم في أهل بيته وفي بنيه، واكرامنا للرسول (صلي الله عليه وآله) يتم عبر تكريمنا لأهل بيته الذين جددوا رسالته، وكانوا امتدادا لشخصيته الكريمة.

التكريم والتعظيم لايكفيان

ثم يستأنف - تعالي - قائلا -:(وَنَصَرُوهُ) (الاعراف / 157).فالتكريم والتعظيم لايكفيان لوحدهما بل لاينفعان إذا لم ننصره، ونصرة الرسول (صلي الله عليه وآله) تتجسد اليوم في نصرة رسالته وخطه.ونحن ينبغي علينا ان لا نري شيئاً إلاّ عبر شخصية النبي (صلي الله عليه وآله)، كما يشير الي هذا المعني - تعالي - في قوله: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي اُنْزِلَ مَعَهُ) (الاعراف / 157)، ونور الرسول (صلي الله عليه وآله) يتجلي في القرآن، و سيرته الشريفة التي دعانا الخالق - عز وجل - الي التأسي بها في قوله - عز من قائل -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الاحزاب /

21).تري كيف نجعل رسول الله (صلي الله عليه وآله) اسوة حسنة لنا؟ ان هذا غير ممكن إلاّ من خلال معرفة سيرته، وافعاله، وسلوكه، ومواقفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكيفية ادارته للأمور، وتعامله مع الناس، فجعله اسوة لنا يعني الاقتداء به (صلي الله عليه وآله).

رسالة متميزة

ان رسالة النبي كانت رسالة مكتوبة، ولذلك فانها متميزة عن باقي الرسالات السماوية، ذلك لان الكتابة كانت قد انتشرت في الجزيرة العربية بعد انتشار الدعوة الاسلامية، ولذلك فقد تمت كتابة سيرته واحاديثه ومواقفه ومفردات تعامله مع الناس.وفيما يلي ننقل بعضاً من مواقفه، وسلوكياته السامية الرفيعة مع الناس الذين كانوا يعيشون حوله؛ فقد روي اصحاب السيرة انه لم ير مرة يصافح احدا ثم يكون هو البادئ بسحب يده من يد الطرف الآخر، بل كان ينتظر ان يسحب الطرف الآخر يده منه. وفي الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقسّم لحظاته بين اصحابه، فينظر الي ذا وينظر الي ذا بالسوية. قال: ولم يبسط رسول الله (صلي الله عليه وآله) رجليه بين أصحابه قط، وان كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله (صلي الله عليه وآله) يده من يده حتي يكون هو التارك، فلما فطنوا لذلك كان الرجل اذا صافحه قال بيده فنزعها من يده ". [28] وكان (صلي الله عليه وآله) محباً للايتام، عظيم العطف عليهم ذلك لانه شب يتيماً، وذاق مرارة اليتم في حياته.وقد بلغ رسول الله (صلي الله عليه وآله) مستوي من العدالة لم يستطع احد ان يبلغه، وفي هذا المجال يروي انه (صلي الله عليه وآله) في آخر أيامه عندما اشتد به المرض صعد علي المنبر وطلب من المسلمين ان يطالبوه

بحقوقهم، فقام رجل وطلب منه (صلي الله عليه وآله) ان يقتص منه وقال انك يا رسول الله قد ضربتني بعصاك علي بطني في احد الايام، فقام الرسول (صلي الله عليه وآله) واعطي عصاه لهذا الرجل، فما كان من هذا الرجل إلا ان قبل بطن النبي (صلي الله عليه وآله) بدل ان يقتص منه.ان المواقف الرسالية التي وقفها رسول الله (صلي الله عليه وآله) من جاهلية قريش لتدل علي عظمة هذه الشخصية، فلقد استطاع (صلي الله عليه وآله) بهذه الشخصية الفريدة ان يحول تلك الفلول المتناحرة المنتشرة في انحاء الجزيرة العربية الي امة واحدة بعد ان كانت مجرد قبائل تتصارع ويقتل بعضها بعضا لسنوات عديدة، وقد استطاعت هذه الفلول التي جمعها رسول الله (صلي الله عليه وآله) تحت راية الايمان والتوحيد ان تفتح الشرقوالغرب ليجعل منها امة ذات حضارة شامخة.

دراسة السيرة النبوية ضرورة

وهكذا فإن السيرة النبوية جديرة بالدراسة، وان عدم دراسة هذه السيرة انما هو اجحاف بحق النبي (صلي الله عليه وآله). فهذه السيرة يجب ان تكتب في كل سنة مرة علي الأقل، وان تصاغ في كل مرة بما يتلاءم ومتطلبات العصر، وتتأكد هذه الحاجة بالنسبة الي المجاهدين في كل مكان.ولذلك فان كل انسان رسالي يجب ان يكون في مستوي وعي ومواجهة الاحداث، وان يأخذ من سيرة الرسول الاعظم (صلي الله عليه وآله) ما يذلل امامه الصعاب، وعلي سبيل المثال فانه (صلي الله عليه وآله) كان قلبه يمتلئ حبا لأمته، فعندما خرج من مكة الي الطائف، ولاقي مالاقاه من اذي وجفاء، ورمي بالحجارة حتي سال الدم من قدميه، فانه مع كل ذلك رفع يديه الي السماء قائلاً:" ولك العتبي حتي ترضي ولا حول ولا قوة إلاّ بك "

[29] .وايضاً في يوم حنين حينما سقط (صلي الله عليه وآله) اليالارض علي أثر ضربة، وقد انكسرت رباعيته، والدم يسيل علي حر وجهه، قال: " اللهم اهد قومي فانهم لايعلمون " [30] .هذا هو الحب العظيم الذي ينبغي لكل انسان رسالي ان يضمره في قلبه لامته، فعلي الرغم من المآسي التي كان الرسول (صلي الله عليه وآله) يعيشها في حله وترحاله إلا انه كان يدعو بالخير لقومه، ويري ان هذا العمل وما يسببه من مآسي ومحن بالنسبة له انما هو قليل في ذات الله - تعالي -.ان توسلنا بالرسول (صلي الله عليه وآله) يستلزم قراءة التأريخ لمعرفة السيرة النبوية، فاليوم هو يوم الاحزاب، وقوي الكفر والنفاق والضلالة متآلفة الآن ضد المسلمين في حرب شعواء ضدهم، وعلي شعوبنا ان تستلهم من السيرة النبوية المباركة الزخم الثوري لمواجهة تلك الحرب، ولتعلم هذه الشعوب ان الله - عز وجل - سوف ينصر المجاهدين الرساليين في كل مكان.ان دراسة السيرة النبوية تمثل ضرورة وخصوصا اذا ازدحمت الاحداث، وضاقت الحياة بالمؤمنين، ومن هنا فان علي المفكرين، والعلماء ان يعيدوا صياغة السيرة النبوية بحيث تتلائم مع مقتضيات العصر لان فيها من المرونة ما يوافق وينسجم مع كل عصر ومكان، ومن هنا يجب نبذ الخلافات، وتوحيد الصف، والالتفاف حول راية الرسول (صلي الله عليه وآله) من خلال تنفيذ أوامره، وتعظيمه، وتوقيره، وجعله محور الوحدة الاسلامية، ورمز توحيد الطاقات.

نهج الحياة في سيرة النبي الأعظم

اشاره

لا أحلي ولا أروع من الحديث عن سيرة نبي الاسلام الأعظم (صلي الله عليه وآله)، لاسيما وإن كان الحديث حديثا يخرج من القلب ليدخل الي القلب؛ لا تحده الحدود ولا تؤطره الأطر، فهو يمتد بامتداد نور النبوة، ويتخلد بخلود الرسالة.ونشير في هذا الحيز الي

مفصل مهم من مفاصل السيرة المحمدية التي تشكل بدورها منعطفا ذا بال في هذه السيرة. إذ كان الرسول (صلي الله عليه وآله) واقفاً.. ثابتاً بقامته التي ارتفعت في الفضاء؛ علي جبل مشرفاً علي هضبات مكة المكرمة، كانت نظراته الوقادة متجهة صوب الكعبة وهي تزهو بجلالتها وعظمتها وقد مضي علي حمله الأمانة الإلهية المقدسة ما يقرب من ثلاث عشرة سنة؛ حملت في كل لحظة من لحظاتها آيات العزم الراسخ والتحدي العظيم والألم الرهيب. كان الرسول (صلي الله عليه وآله) واقفاً يودع بيت الله الحرام؛ فهذه مكة المكرمة؛ اقدس ارض خلقها الله سبحانه وتعالي، واعظم بقعة شرفها الله حيث ولد الرسول (صلي الله عليه وآله) وترعرع، وحيث مهوي افئدة المؤمنين، وحيث محجة الأنبياء والاوصياء، وحيث مهبط الملائكة المقربين. هذه مكة يودعها حبيبها علي انفراد.. في لحظة اختصرت كل ثقل الرسالة وهمومها. فهو عاني الأمرين من أهل مدينته ولم يكن رأي منهم إلا العناد والغرور، ولم يتلق منهم - إلا القليل ممن آمن بهم - سوي توجيه التهم الرخيصة، ولقد بلغ بهم حقدهم الأعمي علي رسولهم الرحيم أن وقعوا بالمستضعفين من أصحابه ممن لا ظهير لهم تعذيبا وتقتيلا، وكان السباقون للقاء الله آل ياسر الذين نكل بهم حتي الاستشهاد، وإزاء هذا المنظر المفجع لم يكن يسع الرسول (صلي الله عليه وآله) إلا ان يحث أصحابه وينفخ فيهم روح التحدي والاستقامة حتي يأتي نصر الله الذي وعده.

معاناة الرسول الأليمة

ولقد يتذكر النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله) علي وقفة وداعه الأخير كيف حاصره مشركو قريش في شعب أبي طالب، حاصروه وأتباعه المؤمنين حصارا منعوا فيه الناس من الاتصال بهم واتصالهم بهم، حصاراً اضطروا فيه الي اكل ما تبقي من الأوراقالصفراء في

أشجار الشعب الجرداء؛ إلاّ منه!.وفي خضم آلام سنين الحصار الثلاث توفي عم رسول الله (صلي الله عليه وآله) وكفيله.. مؤمن قريش ابو طالب (سلام الله عليه) كما توفيت في السنة ذاتها زوجته الوفية خديجة الكبري أم المؤمنين (سلام الله عليها).وبعد معجزة الأرضة التي يحدثنا التاريخ الاسلامي عنها؛ حيث بعث الله الأرضة لتأكل وثيقة التآمر الجاهلي التي قضت بمحاصرة الثلة المؤمنة في الشعب المشار اليه وتحريم التعامل معهم، وأخبر جلت قدرته رسوله الكريم بنبأها، فعرض الرسول (صلي الله عليه وآله) التحدي الإلهي للمشركين، الأمر الذي اضطرهم فيه الي فك الحصار، بعد ان لحقهم الخزي والعار.... وعاد الرسول (صلي الله عليه وآله) الي مكة؛ ولكن دون حماية من عمه الرؤوف أبي طالب، بل تحت حماية أعدي أعدائه أبي لهب الذي انتهت زعامة بني هاشم إليه آنذاك. ابو لهب الذي كان يبتدع الأساليب الشيطانية لايذاء الرسول الأكرم (صلي الله عليه وآله)، وكان حريصا كل الحرص علي تشويه سمعة الرسول وتوجيه التهم اليه في اوساط القبائل والعشائر القادمة الي مكة واسواقها ومشاعرها، ولقد كان يمشي وراء الرسول (صلي الله عليه وآله) كظله.. كلما مشي الي وفد من الوفود داعياً إياهم الي الاسلام والتصديق به، فكان ابو لهب يأتي الوفد منهم قائلا: ان هذا ابن أخي وانا عمه وهو كذا وكذا، وينسب اليه التهم الرخيصة. ووصل به الأمر ان فوض الأمر لمشركي قريش لان يدبروا مؤامرتهم الجديدة التي تستهدف حياة الرسول (صلي الله عليه وآله) ونفسه، علي ان يضيع دمه الشريف بين القبائل العربية من قريش وحلفائها.

لحظة الوداع المقدسة

هنا؛ كانت لحظة الوداع، بعد ان عهد الرسول (صلي الله عليه وآله) الي الامام علي (عليه السلام) ان يبيت في فراشه ومضي الي

سبيله باتجاه المدينة، باتجاه إقامة الدولة الاسلامية، وفتح صفحة جديدة من صفحات التحدي والجهاد.وحينما وصل (صلي الله عليه وآله) الي تلك القمة ووقعت نظرته الشريفة علي بيت الله الحرام وما حوته أركانه الشريفة من سني الجهاد المضني لثلاثة عشر عاماً، دمعت عيناه وأثقلت الهموم برمتها علي قلبه الطاهر. فما كان من الوحي إلاّ ان نزل عليه ب (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَي مَعَادٍ) (القصص / 85)اي ان ثم عودة الي مدينتك مكللا بالنصر بالعزة. وإذ ذاك اطمأنت نفس رسول الله (صلي الله عليه وآله) فترك مكة ميمما وجهه شطر المدينة المنورة. فكانت مراحل تأسيس الدولة الاسلامية العظيمة بما تعني من سن القوانين وتنفيذها، وما تعني من جهاد قل ان شهد التأريخ له مثيلاً. فمن تربية المؤمنين وتهذيب انفسهم وسلوكياتهم حتي خوض الغزوة تلو الغزوة الي الوقوف بوجه المنافقين الذين كان خطرهم علي وجه الحتم أشد وأعتي من خطر اعداء ماوراء الحدود.وعلي أية حال، فان الباحث والمهتم بشؤون سيرة المصطفي (صلي الله عليه وآله) لايقف عند حدث حتي تأخذ بلبه أحداث اخري، ولا يتابع نقطة معينة في هذه السيرة المباركة حتي تستهويه نقاط غيرها، قد تكون بدورها اشد الحاحا لإضفاء مزيد من الأضواء عليها.

تساؤلات..

والآن يمكننا القول بان ثم تساؤلات كبيرة تفرض نفسها علينا في هذا الاطار، ولعل الإجابة عليها تدلنا علي السر الأول الذي مكّن الرسول الأكرم (صلي الله عليه وآله) لأن يكون الرجل الصالح الأول علي مر التأريخ؟ وان يكون قائدا للأمة الوسط، وبانيا لحضارة القبائل العربية المتناحرة؛ الغارقة في ظلمات الجهل والشرك والخوف والسيف والاغتيال والثأر.. وكيف تحولت هذه القبائل الجاهلة الي أمة اسلامية - بقيادة هذا الرسول الفذ - ذات

حضارة عريقة لانزال نحن المسلمين، بل وغير المسلمين من الأمم الأخري ننعم بظلها بما تمثل من عمق فكري وعلمي وادبي و.. و..، وماذا كانت لدي الرسول (صلي الله عليه وآله) من وسائل في عملية بنائه الصرح الاسلامي؟ ونحن الآن بعد ما يزيد علي الف واربعمائة عام ماذا يتوجب علينا ان نقوم به حتي نعيد تلك الأمجاد، ونعود الي تلك الحضارة التليدة والتي كان الحاكم يخاطب الغمام: إمطري.. شرقي غربي فخراجك يأتيني؟ان هذا سؤالاً أو اسئلة لابد من العثور علي اجوبة لها لنتمكن بذلك من ان ننقذ انفسنا من هذا الواقع المتخلف ونذهب بها الي واقع آخر.

ركائز العمل القيادي

هناك ثلاثة ركائز اساسية استطاع الرسول القائد (صلي الله عليه وآله) عبرها ان يغير وجه التأريخ، وكلما اردنا ان نعيد الأمجاد الماضية لابد من الالتجاء اليها باعتبار ان معرفتها واستفادة العبر منها تمثل الدواء الناجع لما نصبوا إليه.

اسقاط حجب الشرك

الركيزة الأولي: إن النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله) استطاعبحكمته البالغة ان ينشر القرآن وتعاليمه القيمة وأن يسقط حجب الشرك عن البشرية.فالانسان بذاته ووجدانه موجود الهي ورباني مفطور علي الايمان والتسليم بوحدانية الله تبارك وتعالي. وهذه الفطرة تدعو الانسان الي تحمل المسؤولية في الحياة، وتدعوه الي النشاط والحيوية، إلاّ أن حجب الشرك تتكالب عليه لتمنعه من الاشراق والتوحيد الذي هو رأس امارات الحياة والوجود لديه. فالانسان في واقع الأمر يعيش صراعاً داخلياً مريراً؛ متعدد الصور والأشكال؛ متفاوت الدرجات، سواء اعترف بوجود هذا الصراع او اصر علي إنكاره. فالمرء بطبيعته عابد لله تعالي متشرف بالخضوع اليه؛ وبفعل تآمر النفس ووساوس الشيطان وعصرات الزمن يتحول عبداً لعبد آخر او صنم او غير ذلك من الآلهة المزيفة! فالبعض من القوم كان يعبد التمر، والآخرون كانوا اذا مروا علي صخرة تتمثل فيها صورة انسان أو حيوان او ما يشبههما باتفاق الصدفة فانهم يتوقفون عندها ويعتقدونها إلها من دون الله سبحانه. إن هذه الحال تعد الذروة في الفراغ الفكري والعقيدي، وليس ذلك إلا نتيجة من نتائج الخضوع لحجب الشرك.فالنبي المصطفي (صلي الله عليه وآله) واجه واقعاً مريراً كهذا الواقع، وبفضل وتوجيه الآيات القرآنية الكريمة، وبالعمل علي انتزاع داعي الشرك هذا تحول الانسان في الجزيرة العربية الذي لم يكن غير كتلة من الركود والقيود والاسر؛ تحول الي شعلة من النشاط والحيوية والفاعلية.إذن؛ فالداعي الدافع الذي يتجسد في رغبة بني البشر في التملص من

المسؤولية الملقاة علي عاتقه بالفطرة، المسؤولية التي يعبر عنها القرآن المجيد ب " الأمانة " التي عرضت علي السماوات والأرضين والجبال فأبين ان يحملنها، الأمانة التي هي اثقل من النماذج - آنفة الذكر - علي قلب الانسان الذي يحاول التهرب من حملها، فتراه يتوسل بالشركاء والآلهة المزعومة من دون الله تعالي. فهو قيد نفسه ومصيره بالاعتقاد الأجوف بأن الخشب أو التمر أو الحجارة أو رئيس القبيلة سيقربه من الله زلفي وينقذه من نار جهنم، وهو في ذلك ما يخدع إلاّ نفسه.إن التاريخ يشير الي ان الازمة البشرية في هذا الإطار لم تكن أزمة عقلية او ذهنية. فالفكر والتفكير بابسط انواعه وتركيباته يؤكد للانسان ان الصنم - الحجارة - لا يضر ولا ينفع. بل إن ازمة بني الانسان التاريخية لاتعدو كونها أزمة نفسية. وهذه الازمة هي التي أودت بالناس لأن تعبد الاصنام ولاتزال تتوسل بالأوهام والتمنيات علي اشكالها العديدة.لقد جاء القرآن؛ وجاءت سيرة الرسول (صلي الله عليه وآله)لتحذر الانسان من ان هذه الأصنام ليست لاتنفع ولا تضر فحسب، وانما تهوي به الي النار حيث المصير ذي الاهوال الخالدة إلا ان يشاء الله. كما صرح الله تعالي في القرآن بان الاموال والأولاد والحسب والنسب الي زيد أو عمرو ليست ميزانا يعتمد لتحديد المصير الموعود.وما أروع صراحة الرسول (صلي الله عليه وآله) مع الناس اذ كان يوجههم نحو تحمل مسؤولياتهم الموكولة بهم. لقد أعلن لهم بكل بساطة ووضوح ان الايمان لا ولن يدرك بالتمني ولكنه وقر في القلب يصدقه عمل الأركان، والايمان من دون اقترانه بالعمل الصالح ليس إلا كذبة تافهة. والقرآن الكريم لم يحثنا علي الايمان إلا ويحثنا علي العمل الصالح. ولقد ضرب لنا الأمثلة المتنوعة علي

ذلك، وذكر قصص أسلافنا من الناس ليوضح في طياتها محاسن اقتران الايمان بالعمل الصالح، وليوضح ايضا الصورة المضادة لذلك.

كلكم مسؤول

وعلي العموم، فان القرآن الكريم وسيرة الرسول الأكرم (صلي الله عليه وآله) اسقطا حجب الشرك عن اعين الناس؛ فإذا بهم يواجهون مسؤولياتهم بشكل مباشر. وحينما قال لهم نبيهم (صليالله عليه وآله): " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " [31] .تجلت الانسانية في ضمائرهم وحركاتهم، وتحول اولئك الجامدون الساكنون، اولئك الناس الذين يحترفون تضييع أعمارهم في اللهو والصيد والخرافات، تحولوا الي أمة حيّة فاعلة، واصبحوا رقماً يحسب له سكان الأرض جميعاً حسابه. وقد وصف امامنا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) بعض أصحاب الرسول (صلي الله عليه وآله) قائلا: " كانوا والله رهبان الليل وفرسان النهار ". ان هؤلاء صنعهم الرسول المصطفي بفضل إزاحة حجب الشرك التي في مقدمتها دحض التمنيات والأماني.ولم يوجه القرآن الكريم النصح للمسلمين فحسب، وانما توجه بالخطاب الي أهل الكتاب الذين كانوا يستحلون الخضوع للأوهام القائلة بان مجرد الانتماء الي دينهم كاف لهم عن السقوط في جهنم، وتؤكد الآية المباركة ب (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَي مَنْ ءَامَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة / 69)تؤكد ان شرط الخلاص هو الايمان والعمل الصالح. فبمجردادعاء أحد ما انتماءه الي الاسلام أو اليهودية أو النصرانية أو الصابئة غير جدير - البتة - لأن يكون المقياس في تحديد مصير الانسان في الدار الآخرة، بل لعل العكس هو الصحيح؛ باعتبار ان آحادية الإيمان قد تؤدي بالانسان الي المهلكة التي حذره الله منها مراراً.

المنفذ الأول الي الجنة

أما الركيزة الثانية في ارتقاء الرسول (صلي الله عليه وآله) قمة القيادة - وهو القمة أبداً - فهي: إقناع الناس بان العمل الصالح هو المنقذ الوحيد. فحينما كان المسلمون ينظرون الي القرآن

ويتلون آياته الكريمة كانت بصائرهم متفتحة وقلوبهم متدبرة ما تحويه، وحينما كانوا يصلون الي قول الله تعالي: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ - وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة / 7-8).كانت تتفجر كل كوامن طاقاتهم، كانت هذه الآية ومثيلاتها باعثا علي تحويلهم الي كتل من النشاط والحيوية.ولقد جاء أحدهم رسول الله (صلي الله عليه وآله) يوماً من البادية قائلاً: يا رسول الله! انا رجل أعيش في البادية البعيدة ولا يمكنني الوصول اليكم كل حين، وأحب ان توجز لي الدنيا كلها بكلمة واحدة حتي أعقلها.. وأعمل بها. فتلا عليه النبي (صلي الله عليه وآله): (إذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا - وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا - وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا - يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا - بِاَنَّ رَبَّكَ أَوْحَي لَهَا - يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ - فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ...) وعندما وصل الرسول (صلي الله عليه وآله) الي هذه الآية قام الرجل قائلاً: حسبي يا رسول الله. مثل هذه الآية الشريفة كان يبعث الذين اتبعوا الرسول علي استغلال كل لحظة من لحظات حياتهم للعمل والحيوية، فكانت حركاتهم نضالاًمقدساً، ولم تكن بأي شكل من الاشكال تعني السكوت والجمود واللهو.ووقف احد الغرباء بين يدي النبي (صلي الله عليه وآله) الذي كان جالساً بين أصحابه - حيث ان من عادته (صلي الله عليه وآله) أن يجلس جلسة العبد، وما كان ما يميزه عن المحيطين به، حيث لم يكن بمستطاع من لا يعرفه ان يميزه بمظهره عن أصحابه فإذا بالرسول يتفوه بكلمات معدودة انفض الجمع علي أثرها مسرعين؛ كل باتجاه. فقال القادم: ما بكم؟ وماذا قال لكم هذا الرجل - النبي (صلي الله عليه وآله) -؟ ولماذا تحركتم

بهذا الاسلوب واتجهتم باتجاهات مختلفة؟ فقال قائل منهم: هذا رسول الله الينا، ونحن نصدق به ونؤمن، وقد حدثنا بحديث. فقال: فلماذا والي اين انطلقتم؟ فقال: انطلقنا لنطبق الحديث. قال: وكيف؟ قال: نعمل بالحديث الأول الذي سمعناه ثم نعودالي الرسول لنستمع الي الحديث الثاني.ان المسلمين في الصدر الأول للاسلام كانوا يطبقون الي حد كبير الآيات القرآنية، والذي دعاهم الي ذلك احساسهم العميق وشعورهم الصادق وايمانهم الحق بأهمية العمل الصالح، وكانوا علي اعتقاد راسخ بان هناك يوماً آخراً لايحكم فيه سوي ميزان العمل. ولقد قرأوا حِكَم القرآن الكريم القائلة بان (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) (المؤمنون / 103) هو الذي تحيط به خطيئته. أي ان من كان في كتابه عملاً صالحاً وسيئاً، ورجحت كفة العمل السيء - والعياذ بالله - فانه كان كمن لم يكن له عمل صالح حيث تلم به خطوب الخطايا من كل حدب وصوب.ان هذه البصيرة وهذا الوعي كانا يدفعان بالمؤمن آنذاك الي الاستزادة من اعماله الصالحة، وهو كان علي يقين من أمره بان كلمة مقدسة واحدة ينطقها من شأنها ان ترفع من منزلته يوم القيامة وتنقذه في أحرج المواقف.وما أوسع رحمة الله سبحانه وتعالي، حيث جعل للمؤمنين سبلاً لاتحصي لممارسة عمل الخير والصلاح. ولقد فتح الله لنا اسباب الايمان والعمل الخير في انفسنا، وكان ذلك ان يقرر الشيطان اللعين القعود لنا عند الصراط المستقيم.وتحضرني رؤيا أحد المؤمنين الذي توفي أبوه ورآه في المنام، اذسأله عما كان من مصيره في عالم البرزخ والحساب الأول. فأجابه الأب: بعد وفاتي جاؤوا بالميزان ووضعت أعمالي الصالحة في كفة والأعمال الأخري في الكفة المقابلة فرجحت كفة أعمالي السيئة علي الأعمال الصالحة، وهناك كلما استعطفتهم بارجاعي الي الحياة الدنيا لم يكن

ندائي ذا وقع عليهم؛ وحتي كدت ان اخسر الميزان، اذا بملك من الملائكة استوقف من أمر بسوقي الي جهنم قائلاً: هناك عمل من أعمال هذا الرجل ما وضعناها في ميزانه. ثم كشف عما كان في قبضته، حيث كانت حفنة من تراب ووضعها في الميزان في كفة الحسنات فاذا بها ترجح علي كفة سيئاتي وصرت من أهل الجنة. فسألت هذا الملك الكريم عن قصة حفنة التراب التي كنت نسيتها. فقال: في يوم من الايام كنت تشيع مؤمنا عند قبره ثم أهلت هذه الحفنة من التراب بعد دفنه، ويأبي الله أن يذهب عملك الصالح هذا سداً.وعلي الطرف النقيض من ذلك هناك الاعمال السيئة ومما يمكن ان تلحق بالانسان الغافل عن مصيره. ولا ننسي المثل العربي المعروف " القشة التي قصمت ظهر البعير " فقد تكون هناك قشة واحدة من شأنها ان تغير من حركة الميزان باتجاه تعاستنا الابدية. ومن هنا لايجوز لنا باي حال من الأحوال ان نستهين بالعمل الصالح فنتركه، او نستهين بالعمل السيء ونرتكبه رجاء مغفرة الله سبحانه.نعم، ان الله عز وجل ارحم الراحمين، لكن لايعني ذلك انه يغفر للانسان دون ان يكون في كتابه أعمال صالحة.(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرَي لِلذَّاكِرِينَ) (هود / 114)فالعمل الصالح يحول السيئات الي حسنات، وليس السيئات تتحول بذاتها حسنات...لقد اصبحت القبائل الجاهلة امة ذات حضارة شماء بفعل ما كان يبعث فيها الرسول الأكرم (صلي الله عليه وآله) مثل هذه العقيدة الصالحة. فكان (صلي الله عليه وآله) يتقدم المؤمنين من أصحابه في ساحات الحروب بنفس الدرجة التي كان يحثهم علي التقدم في القتال ومواجهة الأعداء، كان يتقدمهم في ممارسة العمل الصالح وتهذيب الذات وخدمة الناس بنفس الدرجة التي كان

يحثهم علي ذلك.والآيات القرآنية الكريمة اكدت في غير موقع بان ذات رسول الله (صلي الله عليه وآله) تواقة الي ان تكون الانموذج الأعلي في ممارسة ماهو خير وصلاح.ومن هذه الآيات: (وإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران / 121).أي انك ايها الرسول قد سبقت المؤمنين في الاستعداد الميداني لقتال أعداء الله، والقيام بمهام التخطيط والاستعداد له قبل الجيش الاسلامي، وهذا بطبيعته يمثل القمة في الايثار والجرأة والشجاعة، حيث يعمد القائد الي تنفيذ مثل هذه المهمة. ولقد صور لنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) شخصية الرسول (صلي الله عليه وآله) و شجاعته في القتال بقوله: " كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فلم يكن أحد منا أقرب الي العدو منه " [32] .

الرجل الأول في التأريخ

كان النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله) - وهو الانسان الأول في التاريخ - يسارع الي عمل الخيرات مبادرا الي ممارسة كل ما من شأنه ان ينعكس بالايجاب علي نفسية اصحابه وتربيتهم. وحينما قرر بناء أول مسجد للمسلمين في المدينة المنورة أمر المسلمين بان يأتوا ويضعوا حجر البناء، وكان كل مسلم يحمل حجراً واحداً وكان هو - القائد - يحمل حجرين معا، وكلما اراد المسلمون ان يخففوا عن نفسه كان جوابه النفي؛ مؤكداً ان القائد لابد له من الفعل المضاعف. فياتري ماذا كان بوسع الرعية الصالحة ان تتخذ من مواقف ازاء هذا الايثار والتضحية النبوية غيرالاقتداء والالتزام؟!

الاستقامة ثم الاستقامة

أما الركيزة الثالثة التي اعتمدها الرسول المصطفي محمد (صلي الله عليه وآله) في بعث المسلمين علي ان يكونوا أمة صالحة فهي: تمسكه بمبدأ الصبر والاستقامة وحثهم علي الالتزام به. وقد جعل النبي (صلي الله عليه وآله) من نفسه مثلا أعلي في هذا المضمار؛ حتي قال: " ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت.. " [33] .وقد صرح بهذا التصريح العظيم وهو الذي (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي - إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي) (النجم / 3 -4).ولمزيد من التبصر بهذا الحديث النبوي الشريف لابد لنا من قراءة تأريخ الرسل والانبياء (عليهم السلام) وما تعرضوا له من أذي وتعذيب وتنكيل لايليق بأي حال من الأحوال بشخصياتهم ومقاماتهم الرفيعة. لكي نتعرف علي عظمة الرسول وموقعه عند ربه عز وجل، أوليس الأجر علي قدر المشقة؟! وفوق ما كان يتعرض له (صلي الله عليه وآله) من أذي جسدي ونفسي كان يؤمر بالصبر والاستقامة من قبل الله تعالي حتي قال يوماً: " شيبتني سورة هود " فقيل له: لماذا يا رسول الله؟ قال: لآية فيها،

فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ".وتحدثنا السيرة النبوية الشريفة ان الرسول (صلي الله عليه وآله) حينما استشهد العشرات من اصحابه البررة ومن بينهم حمزة سيد الشهداء (عليه السلام)، وفر قسم كبير اثناء وبعد انتصار المشركين في معركة احد، واصابته ومن تبقي معه وفي مقدمتهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بالبليغ من الجراح؛ بعد كل ذلك عاد (صلي الله عليه وآله) الي المدينة - والمسافة من أحد قريبة - وحينما أخذ ينزع لامة حربه هبط عليه الأمين جبرائيل (عليه السلام) قائلا: يا رسول الله أتنزع لامة حربك والملائكة ما نزعوا لاماتهم؟! ان الله سبحانه وتعالي يأمرك بأن تلحق بالمشركين؛ انت والمجروحون معك. وقد انصاع الرسول (صلي الله عليه وآله) لهذا الأمر الالهي فذهب الي الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) فرآه وقد اثخنه ما يزيد علي سبعين جرحا بليغا وكانت الدماء تنزف منهما علي السواء، فقال (صلي الله عليه وآله): صبرا يا أبا تراب! فقال (عليه السلام) يا رسول الله ان هذا موضع الشكر. فقاما ومعهما النخبة الخالصة من أصحاب الرسول، وقاد بهم المعركة التي سميت بمعركة (السويق) حيث ألحق بالمشركين هزيمة نفسية نكراء، لم يتذوقوا بعدها طعم الانتصار أبداً.بهذه الآيات من الصبر والاستقامة والصمود تمكن النبي (صلي الله عليه وآله) من خلق الأمة التي كانت حتي وقت قريب من ذلك العهد ميداناً للتناحر والبغضاء والهزيمة والخنوع.

دورة التأريخ

اشاره

... والآن عاد علينا التأريخ الجاهلي بدورته أو أعدناه نحن علي أنفسنا، ذاك وهذا التأريخ المخزي حيث تداعت وتتداعي علينا الأمم كما تتداعي الأكلة علي القصعة، كنا قبل الاسلام وصرنا الآن مجرد مواد خام وإمكانات واسواقاً وساحات لاستعراض السيطرة الأجنبية نتوجه حيث يريد لنا أعداؤنا. حل بنا كل ذلك بعد

ان تركنا نهج الرسول (صلي الله عليه وآله) وما رسمه لنا من برنامج حياة حرة. واذ احرر هذه السطور فانه يسقط طفلان من الجوع كل دقيقة في العراق جراء الحصار المفروض علي الشعب دون حكومته الظالمة، وفي البوسنة هناك مئات الآلاف من القتلي وعشرات الآلاف من النساء ذهبن ضحيات الاعتداء والاغتصاب، وفي جمهورية الشيشان يتعرض الناس الي ابشع انواع التصفية العرقية. بل وحتي في أفغانستان حيث يتناحر الأخوة المسلمون الذين كانوا حتي الأمس القريب يقاتلون الاحتلال السوفياتي في خندق واحد، هذا فضل عما يتعرض له اللبنانيون المسلمون المحرومون لأطنان القذائف اليهودية ضمن محاولات ابادة الشعب الفلسطيني علي طريقة الابادة القومية التي تعرض لها الهنود الحمر في اميركا حيث اصبحوا جزءا من مخلفات التأريخ الميت. هذه صورة مبسطة من واقعنا المعاش في ظل السيطرة الأجنبية علينا بعد أن تركنا التمسك بالنهج الإلهي الذي أبلغه الرسول (صلي الله عليه وآله) وأوصله الينا بكل أمانة وايثار.

العودة الي الجذور

أٌقول: إننا اليوم بأمس الحاجة الي العودة الي النهج النبوي الذي عمل علي تنبيه الناس، بانه لا مفر دون اسقاط حجب الشرك عن أعينهم، وإزاحة هذه الغشاوة الشيطانية المتمثلة في ارتكاب السيئات.ان المفترض بنا ان ندرك بأن كل لحظة من لحظات عمرنا محسوبة علينا في كتاب الله الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها. فالمسلم النزيه ليس لديه ثمة وقت يضيعه في مجالس اللهو والبطالة مثلاً، وهو مطلوب منه علي درجة عالية من الأهمية. أن المسلمين علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله) كانوا كما هي خلية النحل؛ فمن الايمان بالله الواحد الأحد الي ممارسة العمل الصالح الذي يبدأ بقتال المشركين ويمر بتربية النفس وتهذيبها لينتهي بتحصيل العلم وفتح آفاق

الحياة، ليضمنوا بكل ذلك الحياة الابدية والنعيم الدائم ورضوان الله الأكبر.

مبعث الهدي

اشاره

لقد انبعث النور الالهي من جبل النور (غار حراء) في مثل يوم السابع والعشرين من شهر رجب الاصب، وبدأت صفحة مشرقة وجديدة من تاريخ البشرية.. وانّي كان عمر البشرية علي وجه هذا الكوكب الارضي.. هل بلغ الاف السنين؟! ام عشرات الالوف من السنين؟! ام ملايين من الاعوام؟، ومهما كانت الاجابة، تبقي الحقيقة التي اجمع عليها المؤرخون وهي، ان هناك فصلان شهدتهما حياة البشرية؛ الفصل الاول وهو الذي سبق انبعاث الرسالة المحمدية الشريفة، والفصل الاخر هو الذي عقب هذا الحدث العظيم.ففي الفصل الاول لاحظت البشرية بعض التقدم والازدهار والتحول الحضاري في بعض الواحات الخضراء، ولكن في الاغلب الاعم رافق ذلك عهود مظلمة غطت حياه البشرية من شرقها الي غربها. فلو القيت ببصرك آنذاك علي النصف الشرقي للكرة الارضية، والذي كان يهيمن عليه الحكم الامبراطوري الساساني الفارسي، والذي امتد من بلاد الرافدين الي اعماق السهل الصيني تقريبا، وكذلك الحكم الروماني البزنطي والذي امتد من بلاد الشام الي عمق القارة الاوربية، لرأيت ما رأيت من صور العذاب والمحنة التي شهدتها البشرية.اما لو القيت بنظرك علي شبه الجزيرة العربية بمساحتها الشاسعة والمترامية الاطراف، فلن تجد الا ظلاما دامسا وظلما وتخلفا واسعا وفوضي علي كافة الاصعدة والمجالات الحياتية.. بل لم يذق العربي آنذاك طعم القانون والحرية والهناء الا ببزوغ نور الاسلام الذي سطع علي وجه الجزيرة العربية.

حضارة ام فرعونية؟!

لقد حاول ولا زال يحاول بعض الكتاب الغربيين واصحاب الفكر الالحادي المادي ان ينفخوا في رماد الحضارات البالية كالحضارة الفرعونية - ان صح اطلاق كلمة الحضارة عليها - متشبثين ببعض نقاط التقدم البسيطة التي رافقت حياة تلك الحقبة التاريخية، متناسين فداحة الظلم وقساوة التعسف الذي قوّم اعمدة تلك الصروح الفاسدة علي اساس اذلال

بني البشر والنيل من كرامته المقدسة.انهم يشيرون الي عملية تحنيط الاموات وبناء معبد الشمس (ابي الهول) والاهرامات الثلاثة والقصور المنيعة التي حوت مقابر الفراعنة.. علي انها آثار حضارية تستدعي التجليل والاعتزاز من قبل بني البشر، وقد تناسوا ان هذه الاهرامات ما بنيت إلاّ علي اكوام من العظام والجماجم البشرية. لقد كان الفراعنة وازلامهم يقتادون المزارعين قسراً ليبنوا مقابرهم التي اخذت بعد حين تناطح في علوها السماء، ولكن علي حساب دفن عشرات الآلاف من البشر المعذبين تحت صخورها!اي حضارة تلك التي يموت فيها الآلاف.. الآلاف من البشر حتي تحيي مجرد ذكري الفراعنة في قبورهم؟ ثم اي تطور علمي حازه الفراعنة آنذاك عندما ابتكروا لأول مرة عملية تحنيط الاموات؟!.. لقد كانوا يأتون بالمحرومين والمزارعين ويسترقوهم ثم يجوعوهم لكي ينقلوا تلك الصخور التي لم يجتمع الا المئات.. المئات لمجرد تحريك صخرة واحدة من مكانها، وعندما يسقط هذا الانسان العبد ميتا ينزلون علي جثته لكي يمتصوا دمه ويجمعون لحمه لكي يستفادوا منهما في عملية التحنيط؟!

كسروية و قيصرية

اما الدولة الساسانية المجوسية الكسروية فهي الاخري كانتتحكمها الطبقات الغنية وقوي العسكر والجيش، بل كانت المرأة هي السلعة المشاعة بين الجميع لكي يتلذذوا منها أنّي شاءوا..!اما الدولة الرومانية المسيحية القيصرية التي ورثت رسالة عيسي (عليه السلام) فقد طالتها يد الفساد كما طالت يد التحريف علي كلمات الانجيل المقدس، وما بقيت من ركائزها الا الهيكل الشكلي لقداسة مزورة وكاذبة للحكم المسيحي والذي لا يهمه سوي الهيمنة والسلطة تحت ذريعة حكومة الله والمسيح!يروي لنا التاريخ ان الرومان عندما دخلوا في معارك عديدة مع المسلمين، اجتمعت قيادتهم العسكرية في احد الليالي وفي خيمة القائد، وتحدثوا عن قوة المسلمين ومدي استبسالهم رغم صعوبة الطرق ووعورة الجبال والوديان التي

لم يألفوها وهم تربوا وترعرعوا بالامس في اراضي قاحلة وجرداء، وكان حارس الخيمة يستمع الي حديثهم عند باب الخيمة، فمد رأسه الي داخل الخيمة عندما سمع الاصوات ارتفعت ودار الجدال بقوة حول الامر، وقال: أتأذنون لي ان اتفوه بكلمة حول سبب تقدم المسلمين في مقابل تقهقرنا؟.. ولكنهم اخذوا ينهروه وقالوا له: اسكت، كيف تتدخل في شؤون القيادة. فسكت الرجل، ثم عاد النقاش ثانية حول الامر، فأدخل رأسه ثانية الي الخيمة وطلب منهم الحديث، فرفضوا ذلك ونهروه ثانية.. ثم عاود في التدخل في الأمر ثالثة ورابعة، ثم الح عليهم، ففسحوا له لكي يتكلم، فقال: ان الجواب علي استفساركم هو لدي. قالوا: وكيف؟! قال: الدليل علي ذلك هو حالي وحال امثالي، فقالوا: وضح ما تقصد؟ فقال: انا كنت بالأمس في تلك القرية النائية، وكنت اسكن مع زوجتي واطفالي واكدح في مزرعتي وبيتي وكنت املك عدداً من الابقار والشياة، الي ان جاء جيشكم فصادر جميع اموالي وارضي وقتلوا احد اطفالي ثم اتوا بي عنوة الي هنا لكي اعمل حارساً. فأقول واتساءل: كيف استميت واستبسل من اجلكم وانا شاهدت ما شاهدت من ظلم ومفاسد، وكيف يمكن لجنودكم ان يحملوا راية الظلم والجور ويواجهوا ويقاتلوا من يحمل لواء العدل الي العالم؟!وقبل ذلك شهدت بلاد الرومان فتوحات الاسكندر المقدوني الذي جاء من الغرب لكي يكتسح الشرق بجيشه، وفعل ما فعل ضد الفقراء والمظلومين لكي يبني امجاداً زائفة له ولمن يأتي من بعده.

ظلام و نور

لقد جاء الاسلام الي الامم والشعوب لكي يعيدها الي حضيرة المباديء والقيم السماوية الطاهرة، ويخرجها من اغلالها واصرها التي كانت عليها (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ

لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ) (الجمعة / 2).لقد اجتاحت الفوضي والحروب الضروس الطاحنة بين القبائل العربية وراج سوق الشعوذة والخرافات.. لقد حكمت وتحكمت العصبية القبلية المقيتة بروح وكيان كل من سكن بادية الجزيرة العربية والتي لم تر في تاريخها اي مدنية او حضارة تذكر، بل لم يقترب إليها فاتحوا البلاد الاخري لتخلفها المفرط وفقر باديتها القاحلة التي لا تنبت فيها سوي الزرع القليل لملوحة الارض وفقدان الماء الكافي.لقد صنعت هذه الصحراء الغبراء رجل الجزيرة العربية انساناً شديداً، وفضاً غليظاً، تتآكله الامية والجهل والخرافة والفوضي.. وشاءت القدرة الربانية ان يأتي رجل من بطن الجزيرة العربية وينزل علي ابنائها نور العدل والعطف والمحبة والتعاون والتآلف.. فصنع هذا الرسول العظيم (صلي الله عليه وآله) من هذه الامة المتخلفة بالامس امة تطوي الفيافي كطي السجل في الصحف بهمتها العالية وروحها الوثابة، وتنشر الخير والفضيلة في كل مكان كما اعترف اكثر المؤرخين والمفكرين الغربيين بذلك.لقد تحكمت علي الديانة اليهودية بعد ان مستها يد التحريف وروح العصبية العنصرية، فاقتصرت علي قوم بني اسرائيل عبر سلالة ضيقة لايحق الانضمام اليها الاخرون، لان الامم والشعوب الاخري ليست " من شعب الله المختار "! اما الديانة المسيحية فأصبحت هي الاخري ألعوبة بيد الحكام ووعاظ السلاطين بعد ان شمروا ساعد التلاعب والتجاسر علي كلمات الله المقدسة وحرفوها حسب ما تشتهي اهوائهم.ان تسليط الضوء علي بعض المفاسد والجرائم التي يرتكبها الانسان اليوم تحت يافطة الدين في بعض الدول والشعوب الاخري كالهند والصين وافريقيا - مثلاً - يتلمس جيدا عظمة شخصية الرسول (صلي الله عليه وآله) وبركة البعثة النبوية الشريفة علي الامم التي تفيئت تحت ظل مباديء الاسلام وتعاليمه السمحة.فقد سمعت قبل فترة خبرا مذهلا ولا اكاد لحد الان

اصدقه! مفاده؛ هو انه، وخلال السنة الماضية تم اعدام ثلاثة ملايين بنت لمجرد انها بنت! في الهند، مع العلم ان الزواج في الهند يتم عبر تقديم المهر والصداق من قبل الزوجة الي الزوج؟!كما ان هناك عادة لازالت رائجة في هذا البلد، وهي قتل الزوجة فيما اذا مات زوجها، كما تقر بعض قوانين الديانات الهندية! وتتم عملية الاعدام اما عبر دفن الزوجة مع الزوج الميت او عبر حرقها، ويقول صحفي ذهب لمقابلة والد وأم الزوجة التي توفي زوجها: سألهم عن انطباعهم، فقالوا: نحن راضين لان الله يريدهكذا؟! اما في الصين وافريقيا فهناك امور عجيبة ومذهلة اخري!

مقاومة زيف الطغاة

لقد نعمت البشرية ببركة انبلاج نور الاسلام وانتشار مناهج الرسالة الاسلامية بين كثير من بلدان العالم آنذاك ما لم تنعم باقي الامم والشعوب الاخري، وهذا لا يعني بالتأكيد ان كافة الحكومات والدول التي رفعت راية الاسلام وادعت تسربلها بلباس الاسلام ان تكون اسلامية في واقعها وجوهرها. فهناك جملة من الدول والحكومات كحكومة بني امية وبني العباس و.. حكمت باسم الاسلام وذلك لمعرفتها بأن الشعوب التي تخضع لسطوتها لا ترض ولن ترضي غير الاسلام دينا. فلذا لم تجرأ علي محاربة اسم ورسم وطقوس الاسلام، بل انبرت لتحريف بعض مفاهيم الاسلام وتشييع بعض التفاسير للقرآن الكريم حسب ما تشتهي مصالحها الدنيوية، كما تفعل جملة من الدول الاسلامية في الوقت الحاضر. وهنا يأتي دور ائمة الهدي وسيرتهم المباركة في مقدمة مواجهة صور التحريف المغرضة هذه لتفهيم الامة بحقيقة مبادئها، ولذا كانوا (عليهم السلام) بمثابة (القرآن الناطق) كما يقول مولانا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) بل ان ظهور وبعثة هكذا رسالة ربانية عظيمة علي يد سيدنا الرسول الاعظم (صلي الله

عليه وآله) وبهذه المفاهيم والتعاليم المنقذة والنبيلة، تستدعي بطبيعة الحال كما هو ديدن الطغاة عبر التاريخ، المواجهة من قبل الظلمة والفاسدين والسعي الحثيث علي ان لا تقف تعاليم هذا الدين المبارك بوجه مطامعهم واهواءهم الشيطانية.ولكن بفضل نور الولاية الطاهرة ودور الائمة الاثني عشر المعصومين من آل بيت محمد (صلي الله عليه وآله) تم احباط كافة صور التزوير والتحريف المتعمد الذي انبري اعداء الاسلام والمستكبرين للنيل من مباديء الاسلام وتوجيهها وفق مصالحهم الدنيوية، فكانت سيرتهم ومواقفهم العملية (عليهم السلام) خير دليل ولا زال ببركة احاديثهم المأثورة عنهم لكل من يتلمس الحقيقة الناصعة. وبهذا تم حفظ مباديء الاسلام وجوهر الدين في وقت قد ورثت البشرية المباديء المحرفة لتعاليم موسي (عليه السلام) و عيسي (عليه السلام) في التوراة والانجيل!واليوم لو القينا نظرة الي خارطة العالم الاسلامي لوجدنا ان صحوة وبعثة محمدية جديدة اخذت تتسع لتشمل كافة قطاعات ومرافق حياة المسلمين تدريجياً وخطوة خطوة، بل اخذ المسلمون يستعيدون مواقعهم الطبيعة بين الجماهير ويرسمون خريطة العودة الي بناء صرح حضارتهم الاسلامية، التي شيدها الرعيل الاول من المسلمين، كما شيدت حكومة الرسول الاكرم (صلي الله عليه وآله) في المدينة المنورة وكذلك حكومة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) والتي امتدت طيلة اربع سنوات، وحتي حكومة الامام الحسن المجتبي (عليه السلام) والتي لم تدم سوي ستة اشهر، او حكومة الشهيد مسلم بن عقيل في الكوفة والتي استمرت عدة سويعات!

من وحي البعثة

ان البعثة المباركة تعطينا دروس عديدة لو تأملنا في جوهرها ومضامينها، فمن هذه الدروس:1- لابد من قراءة ودراسة البعثة النبوية الشريفة وحياة الرسول الاكرم (صلي الله عليه وآله) وسيرته ومشروعه الدعوي للأمة دراسة عميقة. فلا تقتصر دراستنا علي مجرد شذرات من ولادة

الرسول (صلي الله عليه وآله) ويوم بعثته ويوم وفاته، بل لابد ان تتسع دائرة دراستنا كافة الابعاد السلوكية والاخلاقية والفكرية في كافة مراحل دعوته المباركة، بل تستمر دراستنا ايضا لاستلخاص اهم الدروس من سيرة الائمة المعصومين (عليهم السلام) باعتبارهم المكملين لدور التوجيه والقيادة الربانية للأمة.فنحن قلما نجد خطباءنا وكتابنا وصحفينا يسلطون الضوء الكاشف والكافي علي سيرة الرسول الاكرم (صلي الله عليه وآله) والائمة المعصومين (عليهم السلام) ويستخلصون الدروس المفيدة لواقع الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للأمة.2- لقد بعث الرسول الاكرم (صلي الله عليه وآله) وصدع بدعوته المباركة لا لكي يغير ويصلح بعض الظواهر والاشكال والقشور، فلم تكن حركة الرسول (صلي الله عليه وآله) حركة اصلاحية ترميمية، بل كان دوره (صلي الله عليه وآله) دور البناء والمعمار الذي يبني البناء من الاساس ثم يرتقي لبناء الطوابق الاخري.. انه (عليه السلام) لم يهادن ولم يداهن الاعداء علي حساب الدين وتعاليمه، فلذا لم يرض بأنصاف الحلول كما يفعل البعض فقد عرض بعض المشركين عليه (صلي الله عليه وآله) لكي يجمعوا في عبادتهم بين عبادة الاصنام والصلاة، فرفض (صلي الله عليه وآله) ان يرقع في الدين وقيمه.لقد اعاد الرسول الاكرم (صلي الله عليه وآله) الانسان من جديد وصاغه من جديد، لقد غير (صلي الله عليه وآله) ثقافته من الثقافة الجاهلية المقيتة الي ثقافة ربانية رحبة، فصنع رجالاً كأبي ذر الغفاري الذي كان هو وقبيلته من قطاع الطرق وحوله الي اصدق انسان حتي قال (صلي الله عليه وآله) في حقه: " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر " [34] وكسلمان الفارسي حتي قال فيه: " سلمان منا اهل البيت " وكذلك عمار بن ياسر

والمقداد الذي اضحي كزبر الحديد..انه (صلي الله عليه وآله) استهدف حركة جذرية شاملة في الامة وفي مختلف الابعاد، فلذا لم يترك الامة في غياهب الأمور ومجاهيل القضايا، بل اعطي رؤي مناهج التحرك العملي علي كافة الاصعدة والمجالات الحياتية، هذا ناهيك عن دعوة الامة لمعرفة ائمة زمانهم وقادتهم الميدانيين بعد وفاته وهم ائمة اهل البيت (عليهم السلام).3- لقد صاغ (صلي الله عليه وآله) الانسان المسلم علي اساس وقاعدة الايمان بالله عبر تقوية وربط العلاقة بين العبد والمولي، بين الضعيف ومنتهي القدرة والعزة اللامتناهية.نحن لو ذهبنا الي (ما ينهاتن) في نيويورك الامريكية واردنا ان ننظر الي عمارة (امبابرستت) والتي تتألف من (120) طابق، او عمارات وبنايات كبري تناطح السحاب في (شيكاغو) او (طوكيو)، لرأينا انها بنيت علي اساس من الصخور او (الرصاص) او أي قاعدة أخري بشرط ان تكون قوية جدا بأمكانها ان تحمل قوة وثقل (130 او 140) طابق علي مدي سنين عديدة، فكذلك الانسان اذا تمكن ان يربط قلبه المتحول والمليء والمتأثر بدواعي الهوي والشك بمقام العزة الالهية، فلا يمكن زعزعة كيان هذا الانسان المؤمن او تحريفه، وهذا الأمر انتهجه الرسول الاكرم (صلي الله عليه وآله) في سيرته لبناء اصحابه وحوارييه (رض).روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " استقبل رسول الله (صلي الله عليه وآله) حارثة بن مالك بن النعمان الانصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقاً، فقال له رسول الله (صلي الله عليه وآله): لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال يا رسول الله عرفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري وكأني أنظر الي عرش ربي (و) قد وضع للحساب وكأني أنظر الي

أهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني أسمع عواء أهل النار في النار فقال له رسول الله (صلي الله عليه وآله): عبد نوّر الله قلبه، أبصرت فاثبت، فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة، أن يرزقني الشهادة معك، فقال: اللهم ارزق حارثة الشهادة، فلم يلبث إلاّ إياماً حتي بعث رسول الله (صلي الله عليه وآله) سرية فبعثه فيها، فقاتل فقتل تسعة - أو ثمانية - ثم قتل ". [35] .لقد دعا الحارثة افضل دعاء فكان صحابياً جليلاً وذكياً، وقد عرف كيف يستشعر خوف الله وحبه في قلبه وكيف ينتخب ويختار الطريق القويم والسليم المؤدي اليه جل وعلا وان يرغب في ان تكون حياته كلها في جنب الله فلا يهمه ان تستمر ايام حياته ام تقل، وانما المهم عنده (رض) هو ان تزداد معرفته في الله يوماً بعد آخر، ولذا اختار طريق الشهادة، ولانه كما يري الطريق السهل والمضمون الي الجنة من ان يبقي في الدنيا مع ابتلاءاتها وفتنها العديدة.وبالفعل استجاب الله لطلبه فخرج بعد عدة ايام مع سرية لحرب المشركين فاستشهد هناك (رض).

رسل الله رمز التحدي

اشاره

قبل ان ندخل في رحاب القرآن الكريم، ونستوحي من آفاق معرفته الفياضة، لابد ان نذكر القارئ الكريم بملاحظتين مهمتين:

الارتفاع الي مستوي التدبر

1- ان علي الانسان المسلم ان لايري نفسه غير قادر علي الارتفاع الي مستوي التدبر في كتاب الله، والاستفادة من آياته الكريمة، فهناك البعض وبسبب احساسهم بالنقص، والضعف، والحقارة يظنون انهم لم يصلوا بعد الي مستوي القرآن الكريم، فاذا بهم لا ينفتحون علي آياته الكريمة، ولا يحاولون استيعاب آفاق المعرفة الالهية، بل ولا يسمحون لانفسهم بالتدبر في القرآن!ومثل هذا الموقف هو موقف عجيب، فلولا ان القرآن من الممكن ان يلهم الانسان، ولولا ان الله - تعالي - يعلم انه من الممكن ان يرتفع الانسان الي مستوي فهم القرآن الكريم، لما بعث الرسول بهذا الكتاب، ولما جعله هدي للناس، ولما أرسل رسوله للناس كافة، بل لخصص بالقرآن طائفة من الناس دون غيرها.وعلي هذا فان الخالق - تعالي شأنه - يسر القرآن للذكر:(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ) (القمر / 17).فكل انسان بلغ مبلغ الوعي والادراك هو مهيأ نفسيا وذهنيا لمعرفة آيات القرآن، والتدبر فيها، واستيعاب معانيها، وفي الحقيقة فان ايحاء الانسان الي نفسه انه لايستطيع فهم القرآن الكريم انما هو من وساوس الشيطان، فالشيطان الرجيم يأتي الي الانسان المسلم، ويوسوس في صدره قائلا: اين انت من القرآن؟ ان القرآن هو كتاب الله العظيم ولا يستطيع ان يفهم هذا الكتاب إلا أهله! فاغلق منافذ قلبك عن القرآن اذن، لانك عاجز عن فهمه!!وهكذا يجب علي الانسان المسلم ان لايستصغر نفسه، ولا يستحقرها، فالله - سبحانه وتعالي - أودع فيه هذا العقل العظيم القادر علي استيعاب الحقائق، فلماذا نحرم انفسنا من نعمة منحها الله ايانا؟ ان مثل هذا العمل

لايخدم إلا مصالح الشيطان، لانه يريد ان يغوينا من خلال الحيلولة دون دخول النور القرآني الي قلوبنا. فاذا ما أظلم القلب، سيطر الشيطان، واستحوذت علينا وساوسه وتبريراته وبالتالي همزاته ولمزاته، لينحي الانسان عن الصراط المستقيم.

انعكاسات القرآن في القلوب

2- الحقيقة الثانية التي أريد ان اثبتها كتذكرة هنا هي؛ ان القرآن الكريم يتجلي في قلوب الناس، ولكن هذه القلوب قد تكون شفافة نقية صافية تتلألأ كقلب النبي (صلي الله عليه وآله)، وهذا النور هو نور القرآن المتشعشع في مشكاة قلب الرسول (صلي الله عليه وآله).ومع ذلك فان قلب الانسان المسلم الذي انعكس عليه شيء من نور القرآن قد يكون متأثرا ببعض الافكار التي دخلت هذا القلب، فتركت فيه آثارا من الشرك، وهذا هو السبب في انحراف الديانات السابقة كالديانة المسيحية، فالمسيحيون قالوا ان الناس ليس بامكانهم الايمان بالانجيل وصفائه ووضوحه، وبالنور الالهي الموجود فيه، فلنأخذ من ثقافات الآخرين كالثقافة اليونانية الوثنية، ولنمزج هذه الثقافة بالانجيل، فكانت النتيجة ان اخذوا بفكرة الاقاليم الثلاثة؛ الله، والابن، وروح القدس.وهذه السلوكيات الخاطئة هي نفس ما يقوم بها الآن البعض من المثقفين الذين ذهبوا الي البلدان الغربية فأخذوا يفسرون القرآن الكريم حسب ما تعلموه وتلقوه من افكار غربية وضعية.

رافد عذب و نبع صاف

ان علينا ان نستمد ثقافتنا من القرآن الكريم بشكل مباشر، وانلا ننفصل عن هذا الكتاب العظيم، فحجتنا يوم القيامة ستكون قويّة عندما نأخذ علمنا وثقافتنا من هذا الرافد العذب، والنبع الصافي، فالقرآن الكريم يظل هو الاساس والمعيار حتي بالنسبة الي احاديث الأئمة (عليهم السلام)، ولذلك يأتي التأكيد من قبل الامام الصادق (عليه السلام) علي المسلمين بأن يعرضوا الروايات والاحاديث علي القرآن الكريم، فما وافق الكتاب فليأخذوا به، وما خالفه فليضربوه عرض الحائط.

شبهات الكفار تجاه الرسل

وفي سورة الفرقان التي تحمل اسما من اسماء القرآن الكريم، وهو " الفرقان " الذي يعني ان القرآن يفرق بين الحق والباطل، هناك بعض الآيات التي يطرح فيها الله - سبحانه - تساؤلات بل شبهات الكفار تجاه الرسل، وهي كالتالي:(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الاَسْوَاقِ لَوْلآ اُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً - أَوْ يُلْقَي إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً - انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً - تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً - بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً - إِذَا رَأَتْهُم مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً - وَإِذَآ اُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً - لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً - قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً) (الفرقان / 7 - 15).

شبهات تافهة

ان الله - تعالي - يستعرض لنا في الآيات السابقة الشبهات التافهة التي أثارها المشركون والكفار تجاه الرسالات الالهية متمثلة في الانبياء والرسل؛ فكيف يمكن ان يمشي الرسول في الاسواق ويأكل الطعام، فهو اذن انسان عاجز ضعيف لا يتفوق علينا، فهو يجوع، ونحن نجوع أيضا، وعندما يحل وقت الطعام يجلس علي المائدة كما نجلس نحن، ومن الناحية الاقتصادية فانه هو الآخر يحتاج الي الاموال كما نحتاج نحن اليها، وهو محتاج الي ان يعمل، ويمارس التجارة في الاسواق لكي يؤمن رزقه. فلماذا يعمل، ولماذا لا تنزل عليه من السماء الاموال، والذهب، والفضة لكي يستغني بها عن مزاولة الاعمال؟ولذلك

فان الكفار كانوا يطالبون ان ينزل مع الرسول ملك فيكون معه نذيراً، وبعبارة اخري فانهم كانوا يريدون ان يؤمنوا بالرسالات من خلال القوة والخضوع، في حين ان سنة الله - تعالي - اقتضت ان يؤمن البشر بالرسالات الالهية من خلال الاقتناع بها، ومن خلال الوصول الي مستوي من النضج يؤهلهم لان يصبحوا مؤمنين حقيقيين.لقد كان باستطاعة الخالق - عز وجل - ان يخلق أناسا يعبدونه كما تعبده الملائكة، ولكنه اكرم الانسان بالارادة، لكي يعبده هذا الانسان بارادته وحريته واختياره.وهناك - بالاضافة الي ذلك - الظالمون الذين كانوا يقولون كلاما اخطر من ذلك يرويه - تعالي - في قوله: (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً) (الفرقان / 8).فهؤلاء الظالمون اتهموا الانبياء بالجنون، وهي أسوأ تهمة يتهم بها الانسان، والقرآن الكريم، ان هؤلاء الظلمة ماهم إلاّ مجموعة من الضالين: (انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (الفرقان / 9).فهم يقولون كلاما في كل يوم فيقولون ان الرسول مجنون، ولم يفكروا في ان الانسان المجنون لايمكن ان يكون حكيما، ولا يستطيع ان يدير دولة، او يقود جيشا وأمة، ويؤسس حضارة، وأي مجنون ذلك الذي يستطيع القيام بكل هذه الأعمال؟!ولكن القرآن الكريم يكلهم الي انفسهم، وبتعبير آخر يرد تهمةالجنون الي انفسهم لانهم لا يعون ما يقولونه، وما ينشرونه من ضلالات وأباطيل.

الدنيا ليست نهاية المطاف

ثم يستأنف - عز وجل - قائلا: (تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ) (الفرقان / 10).فالقرآن يرشد الانسان الي ان هذه الدنيا ليست نهاية المطاف بل هي قنطرة للآخرة، ولذلك فان الله - تعالي - لم يعط للانبياء شيئاً كثيراً منها لأنها هينة عنده، فلو كانت هذه الدنيا تعدل عند الله جناح

بعوضة لما جعل للانسان الكافر فيها من حاجة.اما نحن فان الدنيا تعتبر عندنا من القضايا المهمة في حين انها كلها خداع نخدع من خلاله انفسنا، لان الدنيا لابد ان تنتهي بالموت، والانسان لايعرف متي سيرحل عنها، وكلما جمع الانسان من هذه الدنيا اكثر، فان حسرته عليها حين يفارقها ستكون اشد، وفي الآخرة سيكون حسابه ووقوفه لهذا الحساب اطول.ان الله - تعالي - ليس من صفاته ان يكرس القيم الزائفة، بل يريد ان يخرج الناس من ظلمات الدنيا الي نور الآخرة، من قيم المادة الزائفة الي القيم المعنوية الحقيقية، وان اولئك الظالمين انما اهتموا بهذه الدنيا لانها مبلغ علمهم، ولانهم يعتقدون انها نهاية المطاف كما يقول - تعالي -: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (الفرقان / 11).فلا تغمض عينيك ايها الانسان لتقول ليست هناك آخرة، بل افتحهما لكي تراها، فالذي يغمض عينيه يتحمل ذنبان؛ ذنب ضلالته، وذنب الجريمة التي يرتكبها، فالانسان الذي يغمض عينيه وهو يمشي ثم يقع في البئر فانه يذم من قبل الناس مرتين؛ مرة لانه ابتلي وسقط في البئر فكسرت رجلاه - مثلا -، ومرة لان الناس سيلومونه علي اغماضه لعينيه، وهكذا الحال بالنسبة الي الانسان عندما يكذب بالساعة فانه سيعاني من مشكلتين؛ المشكلة الاولي تتمثل في الذنوب التي ارتكبها بسبب تكذيبه بالساعة، والمشكلة الثانية تتجلي في اصل تكذيبه بالساعة.ومثل هذا الانسان سيكون مصيره ان يلقي في نار مستعرة مسجرة لغضب ربها: (وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً - إِذَا رَأَتْهُم مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (الفرقان / 11 - 12).وانا لا ادري بالضبط كم تبلغ هذه المسافة التي يصفها القرآن الكريم بانها بعيدة، إلا ان الكافرين يسمعون لهذه

النار التغيض والزفير، فاذا بالنيران تضرب بعضها بعضا، فكيف بهذا الانسان الذي لايستطيع ان يتحمل ضوء الشمس في الشتاء، كيف يستطيع ان يتحمل ذلك السعير، وتلك النيران التي يقال ان الشمس نفسها سترمي فيها يوم القيامة فتضج من حرها!!

متي سيحل الأجل؟

اننا لانعرف متي سيحل اجل الواحد منا، وهل سنبقي علي قيد الحياة الي ساعة بل ثانية أخري، فالي متي نبقي في الغرور، والي متي نبقي غير مؤدين بالشكل الصحيح لصلاتنا، وصيامنا؟ وحتي متي نستمر في سلوكياتنا الخاطئة، حتي يأتينا النداء للرحيل، فلا نستيطيع ان نعيش ولو للحظات اخري مهما الححنا علي ذلك لنتوب ونرجع الي الله - تعالي -؟ كما يبين ذلك القرآن الكريم في قوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (الانعام / 28).ثم يستأنف - عز من قائل - قائلا: (وَإِذَآ اُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً - لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (الفرقان / 13- 14).وتصف الروايات هذا المكان الضيق بانه كالحيز الذي يحدثه الوتد في الارض او الجدار، فمن الصعوبة بمكان ان يدخل الوتد في الجدار، وهكذا الحال بالنسبة الي الانسان في يوم القيامة فانه يدخل في النار بعد ان يضرب علي رأسه كما يضرب المسمار عندما يدق في الجدار. فقد روي عن الامام الصادق (عليه السلام) يقول: " والذي نفسي بيده انهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط " [36] .والكافرون الظلمة يحشرون في نار جهنم (مقرنين) أي علي شكل مجموعة ملتصقة ببعضها البعض ثم يرمون في النار وهم علي هذه الحالة. ثم يبين لنا القرآن الكريم ان هؤلاء الظلمة سوف يلعنون انفسهم، فالانسان عندما يقع في مصيبة كبيرة فانه يلعن نفسه خصوصا إذا

كان هو المتسبب في هذا المصير الذي آل إليه.ويسخر - تعالي - من هؤلاء قائلا لهم: (لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (الفرقان / 14).تري لماذا لم يستغلوا الفرص التي سنحت لهم في الدنيا؛ لقد قرأتم القرآن، وسمعتم النصائح، ولكن كل واحد منكم قال ان هذا الكلام لا يعنيني، في حين انهم كلهم معنيون دون استثناء.ويقول - عز وجل - مقارنا بين هذا المصير الذي انتهي إليه اولئك المكذبون بالرسالات قائلا:(قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً - لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَي رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً) (الفرقان / 15 - 16).ان هذه المجموعة الكريمة من الآيات جاءت في مقام التأكيد علي حقيقة ان الرسل هم علي حق رغم ما تعرضوا له من تلك التهم الرخيصة الي درجة انهم فقدوا الدنيا وما فيها من بهارج، ولكنهم - مع ذلك - كانوا علي حق، وأعداؤهم علي باطل، ذلك لأن هؤلاء الرسل والذين آمنوا بهم كسبوا الحياة الاساسية المتمثلة في الآخرة، في حين ان اعداءهم لم يكسبوا سوي الدنيا الزائلة علي حساب فقدانهم للحياة الأخروية وما أعد فيها من نعيم.

الهدف الحقيقي من طلب العلم

ان هذه الحقيقة تعني اننا يجب ان نحصن انفسنا امام الاعلام المزيف، والدعايات المضللة، والافكار السلبية، والتبريرات الواهية، فيجب علي الواحد منا - مثلاً - ان لا يدرس العلم لكي يقول للناس انني عالم، فما فائدة العلم الذي يملأ الانسان غروراً، ويجعله يأمل ان يشغل المناصب المهمة، بل علينا ان نتلقي العلم لكي ينفعنا في الآخرة، ولنخلص نياتنا ولنسع من أجل ان تكون طاهرة زاكية.ان هدف الانسان من تعلم العلم هو ان ينفعه، وبالتالي ان يكون سببا لانتفاع

الآخرين منه لا أن يخزنه في قلبه، فاذا طلب منه ان يقوم بالتبليغ في منطقة ما فعليه ان لا يمانع، وللأسف فان بعض المتعلمين عندما يطلب منهم ان يتوجهوا الي منطقة ما للتبليغ فانهم يمتنعون عن ذلك مختلقين العشرات من التبريرات، ومن حقنا ان نسأل هؤلاء: لماذا درستم العلم اساساً؟ هل لكي تختلقوا مثل هذه التبريرات؟ان مثل هذا الانسان عليه ان يراجع نيته عندما بدأ بدراسة العلم؛ فهل كانت نيته خالصة ام كانت تخالطها بعض الشوائب الدنيوية، فاذا ما اكتشف ان نيته لم تكن خالصة فعليه ان يسعي منذ الآن من أجل ان يكون مخلصا، فالانسان لايمكن ان يخرج من هذه الدنيا من دون ان يتعرض للامتحان، وهذا الامتحان يتجلي بالنسبة الي طالب العلم في ان يكون جنديا مخلصا في سبيل الله - تعالي - ودعوته عن وعي وايمان.

لماذا نستصغر انفسنا؟

ان الواحد منا لم يؤمن بالدين علي اساس كلام الآخرين، بل نحن نمتلك الوعي والعقل، فلماذا - اذن - نحتقر انفسنا، ونستصغرها، ولماذا لا نكون جنودا مضحين في سبيل الله - عز وجل -، ومن اجل القيم والمبادئ التي نؤمن ونلتزم بها؟ان التهم التي وجهت الي النبي (صلي الله عليه وآله) وسائر الرسل (عليهم السلام) انما هي دروس لنا، فمن يدعي انه داعية الي الله - تعالي - فعليه ان يصمد امام التهم، والتيارات الضالة التي تحاول ان تمتص حالتنا الثورية الايمانية، وان نواجهها بقوة واقتدار، لا لكي ننتصر، فالنصر أمر ليس بايدينا بل هو بيد الله - جل وعلا -، ولكن لان الله اعد الجنة لمن استقام، والنار لمن ضل وانهار.

طريق الرسالة شائك

ان الذي يستيطع ان يتسلق الجبل لابد ان يصل الي قمته فيري نتيجة عمله وهي الجنة هناك، اما الذي يسقط في الطريق، ويهوي الي الوادي، فانه - في الحقيقة - قد هوي في نار جهنم، ولذلك فان علينا ان نستقيم لوجه الله - تعالي - لا من أجل المغانم الدنيوية، والاطماع الآنية، فنحن لا نعد احدا في هذا المجال انه سيحصل علي بيوت مجهزة، وسيارات فاخرة إذا ما انضم الي حركتنا الجهادية، كلا، فطريقنا هو طريق الجهاد، والدم، والتضحيات، والسجون، والاعتقال، والتعرض الي التعذيب، والمحن.تري لماذا يتراجع البعض بمجرد ان تتراجع القضايا المادية في الحركات التي ينتمون اليها؟ وهل يدل موقفهم هذا علي خور عزائمهم، وضعف ايمانهم، وعدم خلوص نياتهم منذ البدء؟ الجواب بالايجاب بالتأكيد، فلنتركهم يبررون، فمثل هذه التبريرات لايمكن ان تنفعهم يوم القيامة، بل علي العكس من ذلك، فهذه المعاذير هي بحد ذاتها جريمة.وعلي سبيل المثال فان الانسان الذي لا يصلي،

ويدعي ان الصلاة غير واجبة فان جريمته هذه مضاعفة، وكذلك الحال بالنسبة الي الذي ينسحب من الساحة ويثير حوله الغبار والدخان لكي يبرر انسحابه، ويتهرب بذلك من عتاب ولوم الآخرين، فان هذا التبرير هو بحد ذاته كذب، والكذب حرام بل ان بعضه افتراء علي الله - سبحانه وتعالي -.فلنحاول ان نقبل علي العمل الرسالي بقلوب متفتحة، ونيات خالصة، واذهان واعية، لكي نضمن استمرارية هذا العمل رغم الصعاب، والعقبات التي من المؤكد اننا سنواجهها في هذا الطريق الذي نستهدف من السير فيه مرضاة الخالق وجناته.

الرسالة الاسلامية مشروع البشرية جمعاء

اشاره

لايمكن لأي مبدأ او مشروع او نظرية وضعية ان يقوي علي الوقوف في موازاة الاسلام من حيث شمولية الانسانية جمعاء، وتغطية حاجاتها في هذه الحياة الدنيا. فالاسلام هو المشروع الانساني الوحيد الذي يتمتع بهذه الشمولية، ويستطيع ان يتحدي كل المبادئ والافكار والنظريات والقوانين التي ابتدعها الانسان.ان الانسان في هذا الكون هو واحد من ثلاثين مليون نوع من الاحياء التي تدب علي كوكبنا، وعندما يكون الحديث عنه من زاوية معينة نجد انه ينقسم الي تقسيمات عديدة حسب المعايير المادية، ولكننا عندما نحيط به وننظر الي جوهره نجده ذلك الانسان الواحد، ذا الفطرة الواحدة، والطبائع والمصالح المشتركة، والقوانين والسنن الالهية الواحدة.وعندما يصوغ هذا الانسان فكرة، او يخطط لمشروع، او يضع منهجا ما فان فكرته، او مشروعه، او منهجه يتأثر حسب موقعه ومحيطه. فلو كان الانسان يعيش في منطقة حارة - مثلاً - فان مشروعه سيتأثر بهذه البيئة ومناخها، وإذا كان هذا الانسان غنيا فان منهجيته في التفكير ستتبلور متأثرة بالترف الذي يعيشه، فيكون مشروعه هذا منسجما ومتلائما مع ما يرومه المترفون، اما إذا كان فقيراً معدماً فان مشروعه سترحب به الطبقة الكادحة الفقيرة

وهكذا...

المشروع الاسلامي منهاج عالمي

وعلي العكس من ذلك فان المشروع الذي قدمه الاسلام كان وما يزال يمثل منهاجا عالميا كونيا يتناسب مع كل العصور والازمنة منذ بعثة النبي الاعظم (صلي الله عليه وآله)، وحتي قيام الساعة. وهنا يكمن سر عظمة هذا الدين الالهي، والرسالة الربانية الخاتمة، وفي اطار هذا الشمول والاحاطة تبرز عظمة القرآن الكريم ومعجزته. فالانسان مهما بلغ تعمقه وتبحره، ومهما خاض في بحار الفلسفة التي تبني علي اساسها الافكار والمنهجيات فانه يبقي ذلك الكائن المحدود في فكره، فلابد ان تتعلق بتفكيره ومنهجيته التي يصوغها خيوط العاطفة مهما حاول قطعها، فيبقي بذلك محدوداً ومؤطراً بسائر المحدوديات والاطر سواء البيئية، او المناخية، او العنصرية وما الي ذلك، في حين ان ذلك المنهج الذي تبعثه السماء لا يشوبه ادني شائبة من تلك الشوائب التي تدل علي الضعف والنقص والحاجة.فعندما يضع الانسان مشروعا فانه سوف يصوغه بالشكل الذي يرتضيه هو ومن يرتبط به من مجتمعه، ولكن رب العالمين عندما يضع مشروعا او يقر مبدأ او منهجا او قانونا فانه يضعه بحيث يتلاءم مع جميع من علي هذه الارض من بشر.

مشاريع ناقصة

من كل ذلك يتبين لنا ان المشاريع الحضارية التي تصاغ هنا وهناك تبقي مشاريع ناقصة تؤمن مصالح فئة معينة دون الأخري وربما علي حسابها، وعلي سبيل المثال فان الاميركيين عندما يفكرون في مشاريعهم، ويخططون لها فان تفكيرهم هذا ينطلق مما يؤمنون به من منطق، ويتلاءم مع ظروفهم، وبما يوفر لهم مصالحهم، وعلي سبيل المثال فان الرئيس الاميركي الاسبق (جورج بوش) عندما فكر في تحرير الكويت فان اختياره وقع علي اتباع الاسلوب الذي لا يتسبب في ازهاق روح جنوده، فالذي وضع هذه الاستراتيجية لم يفكر كم سيقتل ويباد من ابناء العراق، فهذا

غير مهم عنده!هكذا يخطط الاميركيون، ويصوغون مشاريعهم، وستراتيجياتهمالعدوانية وذلك من زاوية صيانة مصالحهم، واستمرار نهبهم، ولا يهمهم بعد ذلك ما يجري علي الآخرين من مصائب وويلات.وفي المقابل فاننا لو استعرضنا الرسالات الالهية التي اضطلع بها الانبياء والمرسلون فاننا سوف لا نجد في عملهم، وحركتهم ادني ذرة من تلك الستراتيجيات، والمشاريع المصلحية، وحاشا لهم ان يفكروا في ذلك ولو للحظة واحدة، فما عند الانبياء ليس من أنفسهم وانما هو من عند الله - تعالي - من الوحي المبين، ولذلك فان رسالة الرسول رسالة شاملة تهتم بجميع افراد البشرية ايا كانت انتماءاتهم.

مشروع الرحمة

وعلي هذا فان المشكلة تكمن في انعدام المشروع الالهي الكوني الذي جاهد الانبياء والرسل والاوصياء من أجله؛ المشروع الانساني الكوني الشامل الذي يعطي لكل وجود حقه، وهو المشروع الذي كانت ومازالت الانسانية في كل عصر ودهر بأمس الحاجة اليه، والذي يمكن ان نسميه ايضاً ب " مشروع الرحمة " انطلاقاً من قوله - عز وجل -:(وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء / 107).وقبل فترة ليست بالبعيدة طرح احد الخبراء الاميركيين مشروعاًعلي صندوق النقد الدولي يقضي بنقل الصناعات التي تسبب تلوث البيئة الي البلدان النامية لكي تتخلص شعوب البلدان المتقدمة من النفايات، والمواد السامة الناجمة من هذه الصناعات، وليس مهمّاً في هذا المشروع الاناني ان تبتلي شعوب البلدان النامية بهذا التلوث، بل المهمّ ان تسلم رئة الاميركي ولا يصيبها اي اذي ولو علي حساب البشر في البلدان الفقيرة!بهذه الروح، والتوجهات الانانية يضع الغربيون خططهم ومشاريعهم، وهذا الأمر ليس بالجديد في تأريخهم، فالسنوات الأخيرة وقبلها شهدت أموراً كهذه وخاصة بالنسبة الي عمليات تصدير النفايات التي تجري بصورة سرية في أغلب الاحيان، وهذه هي تجارة الموت الصادرة من

مشاريع انانية تتسم بروح الجريمة والعدوان.ان هذه وغيرها من المشاريع والافكار والمخططات المصلحية ذات المنظار الضيق والمحدود تشهد علي الحاجة الشديدة للانسانية الي نهج الرسالات المتجسدة في خاتمتها، والتي جاء بها الرسول النبي الأمي الذي بعث رحمة للعالمين، والذي تمثل شخصيته قمة الانسانية الخيرة والرحيمة، والحاجة الي هذه الشخصية ماتزال ملحة.فلنتصفح التأريخ، ولننظر كيف كانت الحالة المزرية التي عاشهاالعرب قبل اشراقة الاسلام علي الجزيرة العربية وعلي العالم، ولعل ابرز ما يعكس هذه الصورة السوداء دفنهم لبناتهم وهن احياء بغير رحمة ولا شفقة، وحالة الاقتتال والغارات التي كانت تحدث بين قبائلهم، وسيادة قانون الغاب حيث القوي يأكل الضعيف.ولننظر بعد ذلك كيف انقلبت احوالهم تلك بعد فترة زمنية وجيزة من بعثة النبي (صلي الله عليه وآله) اليهم والي العالم اجمع، فحدث علي أثر ذلك انقلاب جذري وعميق في طباعهم واخلاقهم، وتحولوا من تلك الطبيعة الجافة، والقلوب القاسية الي اناس يتعاملون بالرحمة واللطف واللين والايثار والبذل، بل صاروا اخوة في الايمان، واما في العبادة والطاعة فان اجواف الليالي كانت شاهدة عليهم.

اويس أخو رسول الله

ولعل احدهم (اويس القرني) الصحابي الجليل الذي لم ير الرسول (صلي الله عليه وآله) ولكنه لقب ب (الصحابي) لعظيم ايمانه، وخلقه، وكثرة طاعته وعبادته رغم انه لم يصحب الرسول، ولم يشاهده، ولم يوفق لزيارة المدينة إلا مرة واحدة من أجل التبرك برؤية النبي (صلي الله عليه وآله)، ولكنه عندما وصل إليها كان الرسول قد خرج منها في احدي غزواته، فقفل راجعاً منها الي قريته " قرن المنازل ". لكنه ترك أثراً لم يحس به إلاّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) عندما عاد الي المدينة فقال: اشم رائحة الايمان، فمن الذي جاء الي هنا؟ فقيل له: يا

رسول الله انه شاب دخل المدينة علي راحلته لرؤياك فلما لم يجدك غادرها وهو مايزال علي راحلته لم ينزل عنها. فعرفه الرسول (صلي الله عليه وآله) وقال: ذاك أخي " أويس القرني ".ويتحدث التأريخ عن هذا الصحابي الجليل انه كان يحيي لياليه مع اصحابه ليلة بالدعاء والتوسل ومد يد الضراعة الي الله، وليلة بالسجود الطويل، واخري بالركوع المستمر، وهكذا حتي يطل الفجر وكأنها ليالي القدر المباركة.وروي عنه (اويس القرني) رحمه الله عليه " قال لرجل سأله كيف حالك؟ فقال: كيف يكون حال من يصبح يقول لا أمسي، ويمسي يقول لا أصبح. يُبشر بالجنة ولا يعمل عملها، ويحذر النار ولا يترك ما يوجبها. والله إن الموت وغصصه وكرباته وذكر هول المطلع وأهوال يوم القيامة لم تدع للمؤمن في الدنيا فرحاً، وان حقوق الله لم تبق لنا ذهباً ولا فضة، وان قيام المؤمن بالحق في الناس لم يدع له صديقاً... " [37] .وبهذه الصورة وغيرها من آلاف الصور تحولت تلك القلوب التي كانت كالحجارة أو أشد قسوة، وذلك الجفاء الذي جعل الواحد منهم يقتل اخاه ربما من أجل بضع تمرات، الي قلوب رحيمة، ونفوس لينة بفضل الرسالة المحمدية المباركة، فما احوج البشرية اليوم الي اشراقة جديدة لهذا الرسول ورسالته العظيمة.ولقد احس بهذه الحاجة كل من اطلع ولو علي اليسير من آفاق هذه الرسالة من غربيين او شرقيين فضلا عن المسلمين انفسهم، فهذا هو (جاك اتالي) الشخصية الفرنسية العالمية المشهورة، والذي يرأس حاليا بنك التنمية الاوروبي تحدث في كتابه الذي صدر حديثا والذي يحمل اسم " آفاق المستقبل " عن مشاكل الانسانية ومآسيها مبينا فيه كيف ان البشرية باتت تسير بسرعة هائلة نحو فنائها، شارحا لذلك الاسباب، ومن

ضمنها التدهور البيئي الذي يقف علي رأس هذه الأسباب، كما وتعرض للحديث عن الحروب، والازمات الاقتصادية، والكثير من المشاكل، و المعضلات التي تقض مضجع البشرية، ثم ينتهي في كتابه الي تقرير الحقيقة التي لابد له ولغيره من المفكرين ان يعترفوا بانها هي التي تضع حداً للمأساة والمعاناة الانسانية الكبري حيث يقول:بلي؛ فلا خلاص للبشرية وليس امامها إلاّ مخرج واحد وهو ان يأتيها منقذ كمحمد (صلي الله عليه وآله) فاذا جاء من هو مثلهانكشفت هموم وغموم البشرية.

انتظار الأمل لا يعني السكوت

وبالطبع فاننا كمؤمنين بانتظار ذلك الأمل المشرق المتمثل في حفيد النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله)، الامام الحجة بن الحسن العسكري - ارواحنا لمقدمه الفداء -، ولكن هذا لا يعني ان نعيش اليأس حتي ساعة الظهور المباركة، فالقرآن والنهج النبوي هما اللذان يأخذان بالبشرية نحو الآفاق المشرقة في عصر الغيبة الكبري، ثم هناك علماؤنا ومراجعنا الكرام الذين هم امتداد لأئمة الهدي المعصومين، وبهذين النهجين وبجهود واجتهاد المراجع العظام يوضع المشروع الانساني الكوني للحياة، هذا المشروع الذي لا يخص قوما، او طائفة، او عنصرا دون آخر، كما ان هذا المشروع الالهي الشمولي الذي وضع أسسه، وبني هيكله الخالق - تعالي - لا يقف عند الانسان وحده، بل انه يشمل الوجود كله بأحيائه وجماده، ففيه مراعاة لحقوق كل كائن، وهو يستثمر كل طاقة من أجل بناء الحياة الفضلي.ان الانسان عندما يأوي الي الاسلام ويرتدي ثوبه، ويلبس لباس التقوي، يغدو كائنا متطورا تنطبق عليه معاني الانسانية الحقيقية، فيصبح ذلك الموجود العاقل الذي يستطيع ان يعيش بين احضانالطبيعة ويتعايش معها.

رحمة للعالمين

ونحن نقرأ في السيرة النبوية الشريفة ونلمس آثارا كبيرة تدل علي معني الشمولية الكونية في الاسلام، ومن ذلك كيفية تعامله (صلي الله عليه وآله) مع الحيوان، وقد نقل عنه (صلي الله عليه وآله) انه قص جزء من ردائه لان قطة كانت نائمة عليه فأبي ان يوقظها من نومها، وفي مرة أخري نجده (صلي الله عليه وآله) يسقي هذا الحيوان بيده الكريمة عندما يلحظ العطش عليه، وتارة يحذر من ايذاء الحيوان فيقول (صلي الله عليه وآله): " رأيت في النار صاحب الهرة تنهشها مقبلة ومدبرة، كانت أوثقتها ولم تكن تطعمها ولا ترسلها تأكل من خشاشة الأرض ". [38] .بل ان

رحمته (صلي الله عليه وآله) شملت حتي الافاعي التي تقطن في بعض زوايا البيوت، فنهي عن قتلها واصفا اياها بوصف محبب الي النفس قائلاً: " لا تقتلوا عوامر البيوت ".وهناك ايضاً الكثير من المناسبات والشواهد التي دلت وتدل علي ان قلبه الكبير (صلي الله عليه وآله) كان مفعما بالحب والعطف والرحمة الي درجة انه قال عن نفسه: " انما انا رحمة مهداة "، ولعل شهادة الباري - عز وجل - كافية في هذا المجال وذلك في قوله: (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء / 107).وبعد؛ فهذه هي السيرة والاخلاق التي ينبغي ان نحياها في مشاريعنا ومناهجنا ومسيرتنا في هذه الحياة، لا الاخلاق المادية الانانية التي يتخلف بها الانانيون والمصلحيون. فالمشاريع المادية الوضعية لا تتصف إلا بالاخلاق الجاهلية الجافة، ولا تعير الي القيم الروحية والانسانية ادني اهمية، بل لا تعرف إلا الذهب والفضة والدرهم والدينار، وبهذا الاسلوب تعمل علي مسخ الانسانية.ان هذه المشاريع تفتقر الي معاني التراحم والتعاطف، وبذلك تتفكك في ظلها الاسر ليتفكك المجتمع كله فيصبح افراده ذئابا مفترسة، وحيوانات يفتك بعضها ببعض، فالمجتمعات البشرية وخصوصاً الغربية تعج اليوم بالملايين من صور هذا التفكك والانحلال.

تيار عظيم من العاطفة

تري اين الغربيون من الاسلام وقوانينه ووصايا الرحمة التي سنها من مثل قوله - تعالي -: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الاسراء / 23)، وقوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الاسراء / 24)، وهذه هي الاخلاق الاسلامية في احدي جوانبها الكثيرة، فالاسلام هو تيار عظيم من العاطفة، وهو رحيم حتي باعدائه، ومثل هذا الخلق الاسلامي العظيم نجده متجسدا في منهج النبي (صلي الله عليه وآله) واهل البيت (عليهم السلام)، ونحن عطاشي الي هذا المنهل العذب، ولذلك

فان من الواجب علينا ان نستثمر سيرة الرسول (صلي الله عليه وآله) في حياته الشريفة لكي نحيي في هذه الدنيا حياة مثالية ملؤها السعادة والأمل والهناء ومع كل الناس في مختلف المجتمعات والأمم في الارض.

كيف نحقق السعادة الروحية؟

ان مثل هذه الحياة المقرونة بالسعادة الروحية، والراحة النفسية، واطمئنان القلب نجدها متجلية عند علمائنا ومراجعنا العظام، فتري الواحد منهم يحمل قلب الفتوة والشباب بما نستشعره منه من روح الظرافة، وحسن المجاملة رغم انه قد يناهز المائة سنة من العمر، وعندما يتوفاهم الأجل فانهم يرحلون عن هذه الدنيا وهم في كامل صحتهم. وكل هذا مستوحي من آداب واخلاق القرآن والسيرة النبوية الشريفة، ولو أخدنا بهذه الاخلاق، وطبقناها في حياتنا لعشنا السعادة الروحية، والاطمئنان القلبي في اجواء مفعمة بالايمان والتقوي وحب الله - سبحانه وتعالي - وحب رسوله وأهل بيته الميامين.ومن أجل تحقيق هذا الهدف ينبغي ان نلتزم بأربعة أمور مهمة:1- مطالعة السيرة النبوية الشريفة والعمل بها ما امكننا، ففي بعض البلدان الاسلامية جرت عادة المسلمين هناك علي ان يعقدوا الجلسات الخاصة التي يتداولون فيها السيرة النبوية، واحوال النبي (صلي الله عليه وآله) وصحابته الخلص؛ كيف ولد ونشأ، وكيف بعث بالرسالة، وكيف كانت دعوته ومن ثم جهاده وغزواته؟ بل وكل ما يتعلق به (صلي الله عليه وآله) واصحابه (رض) من مآثر واخلاق كريمة وفضائل ومناقب.وللأسف فاننا نكاد نهمل هذا الجانب المهم من السيرة النبوية، بل ربما لم يقرأ احدنا كتابا كاملا عن حياة النبي الاعظم (صلي الله عليه وآله)، في حين ان الامام السجاد (عليه السلام) يشير الي اهمية هذا الجانب بقوله: " كنا ندرس مغازي النبي كما ندرس القرآن ".2- اتخاذ النبي (صلي الله عليه وآله) اسوة وقدوة لنا في

حياتنا:وفي هذا المجال يقول - تعالي -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الاحزاب / 21)، وهذا يعني ضرورة التخلق باخلاق الرسول (صلي الله عليه وآله)، والتأدب بآدابه من خلال تقصي كل صغيرة وكبيرة تتعلق بآدابه، واخلاقه، وطرق تعامله، فقد جاء في بعض الروايات - مثلا - انه (صلي الله عليه وآله) كان عندما يريد شرب الماء يلتزم بثلاثين ادبا في هذا الخصوص، وروي عنه (صلي الله عليه وآله) انه كان عندما يجلس بين اصحابه يوزع نظره بينهم، وعند الاشارة كان يؤشر بكل يده الشريفة، وعند المصافحة كان لايترك يد المصافح حتي يبدأ هو بسحبها، وقد قيل ان احدا لم يكن يسبق الرسول (صلي الله عليه وآله) في المبادرة بالسلام والتحية.

من آداب الرسول

وهكذا كان (صلي الله عليه وآله) في حياته مع أهل بيته، وفي حياته الخاصة، وفي قيامه، وقعوده، ونومه، وتناوله الطعام، فقد كان (صلي الله عليه وآله) يقسم فترة نومه الي ثلاثة اقسام؛ بان يضطجع قليلا بعد صلاة العشاء، ثم ينهض ليصلي بضع ركعات، ثم ينام قليلا، لينهض بعد ذلك في جوف الليل وينشغل بالصلاة حتي طلوع الفجر.وعند الطعام لم يكن (صلي الله عليه وآله) يذكر طعاماً تشتهيهنفسه، وما عاب قط طعاما قدم له، ولم يكن يطلب الأكل حتي يقدم له فان لم يؤت له به نهض ونام، وروي عنه (صلي الله عليه وآله) انه ما ثنيت له وسادة إلا في مرة واحدة جعلته يتأخر عن صلاة الليل، فما كان منه إلا أن نهض وعاتب اهله قائلا: " من ثني لي وسادتي فأخرني عن لقاء حبيبي "، وهذا دليل علي ان حبه (صلي الله

عليه وآله) للصلاة كان حباً جماً.تري هل نحن ننهض للصلاة ولو باليسير من هذه الروح، ومن هذا الحب للقاء الله - تعالي -، ام ترانا ننهض مكرهين ضجرين فلا نعي ما نقول عندما نصلي، أوليس الكثير منا لايعير أذنا صاغية لنداء " حي علي خير العمل " الذي يدعونا الي تلك اللحظات التي هي جوهر ما في حياتنا كلها؟ هذا في حين ان النبي (صلي الله عليه وآله) يقول: " لا تضيعوا صلاتكم فان من ضيع صلاته حشر مع قارون وهامان، وكان حقاً علي الله أن يدخله النار مع المنافقين. فالويل لمن لم يحافظ علي صلاته وأداء سنة نبيه (صلي الله عليه وآله) " [39] .اين نحن من ادب النبي (صلي الله عليه وآله) عندما كان يجلس في محرابه لينتظر حلول وقت الصلاة لحظة بلحظة، فما ان يدخل وقتها حتي ينادي بلالا (رض) ان: " ارحنا يا بلال بالصلاة " [40] ، كما انه (صلي الله عليه وآله) كان يوصي ويؤكد علي أهمية الصلاة بقوله: " قرة عيني في الصلاة " [41] .ان الصلاة هي حصن التوحيد واطاره، وعندما ندخل هذا الحصن تنهمر علينا سائر البركات التي نرجوها في حياتنا، ولذلك فان علينا ان نهتم بالصلاة كثيرا كما نهتم بصحتنا وسلامتنا.3- حب الرسول (صلي الله عليه وآله) واهل البيت (عليهم السلام) واكثار الصلوات عليهم.ان حب الرسول (صلي الله عليه وآله) يتجلي بذكر الصلاة عليه وعلي آله الميامين، ودرجة الانسان المؤمن في الآخرة ترتفع بمقدار حبه للنبي (صلي الله عليه وآله)، والذي يحب الرسول لابد ان يحب أهل بيته، والمحب لأهل البيت (عليهم السلام) هو محب لشيعتهم، ولكل فرد من امة محمد (صلي الله عليه وآله).وهكذا

فان الصلاة علي النبي (صلي الله عليه وآله) تمثل كل الفضيلة ذلك لان في الصلاة هذه ذكرا لله - عز وجل -، ودعاء للامة الاسلامية، فعندما يصلي الانسان المؤمن ويسأل الله تعالي ان يرفع درجته فان في عمله هذا رفعا لدرجته هو ايضا عند الله، ونحن - سواء كنا في العراق أم في ايران أم في لبنان أم في افغانستان أم في البوسنة والهرسك - عندما نصلي علي النبي (صلي الله عليه وآله)، فانه - سبحانه - سيكشف عنا غمومنا وهمومنا، وييسر لنا ما تعسر من أمورنا، وما صعب من مشاكلنا.ولذلك ينبغي علينا ان نكثر من هذه الصلوات، وان نؤكد عليها في كل محفل ففيها محبة للرسول وآله، وبالتالي الحب لله - تعالي شأنه -.4- العمل بنهج الرسول (صلي الله عليه وآله)، واوامره ونواهيه، وهذا ما يدعونا اليه القرآن الكريم، وما غاب عنا من هذه الأوامر والنواهي نجده عند ائمتنا (عليهم السلام) الذين هم عدل الكتاب، وثاني الثقلين.

العالم يبحث عن رسالة محمد

اشاره

وأد البنات صورة واحدة من الصور التي كانت تتكرر في الجزيرة العربية قبل بعثة النبي محمد (صلي الله عليه وآله)، وعندما بعث (صلي الله عليه وآله) ورزقه الله - تعالي - الكوثر (الزهراء عليها السلام)، علم هذا المجتمع القاسي الفاقد للعاطفة كيف يتعامل مع الفتيات من خلال تعامله السامي مع ابنته فاطمة (عليها السلام) فقال في حقها: " فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني " [42] ، وقال ايضاً: " فاطمة ريحانتي "، " فاطمة حورية في صورة انسية "، وعندما كانت (عليها السلام) تأتي الي النبي (صلي الله عليه وآله) كان ينهض واقفا ويستقبلها ثم يأخذ يدها ويقبلها ثم يقول: " فاطمة أم أبيها ".

وبهذه الكلمات حوّل النبي (صلي الله عليه وآله) ذلك المجتمع الجلف العاتي، الي مجتمع يفيضعاطفة وانسانية وحباً.وقد كانت هناك صور أخري لجاهلية هذا المجتمع قبل الاسلام، فكل قبيلة كانت تري ان افرادها يجب ان يبلغوا عدداً معيناً لا يتجاوزونه، فان ولد فيهم مولود جديد دفنوه حياً! بنتاً كان أم ولداً، لانهم كانوا يزعمون ان الارض التي يعيشون عليها لا تكفي لاطعام اكثر من العدد الذي يحددونه، وهكذا فقد كانوا يئدون الاولاد ويقتلونهم، كما كانوا يئدون البنات ويقتلونهن، فجاء القرآن الكريم ونهاهم عن هذه الممارسة الخاطئة قائلاً: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ) (الاسراء / 31).

جاءت الرحمة الإلهية

وجاء الرسول (ًصلي الله عليه وآله وسلم)، وجاءت معه الرحمة الالهية، ولننظر كيف كان (صلي الله عليه وآله) يتعامل مع الحسنين؛ لقد كان الحسن والحسين (عليهما السلام) يدخلان مجلسه وهو فوق المنبر يعظ المسلمين، ثم يأتي الحسن (عليه السلام)، ويتخطي صفوف الرجال ويعثر ويسقط ارضاً، وإذا بالرسول (صلي الله عليه وآله) يهب من فوق منبره، ويسعي الي شق طريقه وسط الناس، ثم يأخذ بولده، ويحمله الي المنبر وهو يقول:" اولادنا اكبادنا " [43] .وبهذه الكلمات وغيرها كان (صلي الله عليه وآله) يعبر عن مدي العاطفة التي يجب ان يكنها كل أب تجاه اولاده الذين هم ككبده.كما وروي عنه (صلي الله عليه وآله) في هذا المجال انه كان يحمل الحسنين (عليهما السلام) احدهما علي كتف، والثاني علي الكتف الآخر ثم يمشي وهو يقول: " نعم الراكبان أنتما ".وروي ايضاً عن أنس، وعبد الله بن شيبة عن أبيه أنه دعي النبي (صلي الله عليه وآله) الي صلاة والحسن متعلق به فوضعه النبي (صلي الله عليه وآله) مقابل جنبه وصلّي، فلما سجد أطال السجود

فرفعتُ رأسي من بين القوم فاذا الحسن علي كتف رسول الله (صل الله عليه وآله) فلمّا سلّم (عليه السلام) قال له القوم: يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها كأنما يوحي إليك فقال (صلي الله عليه وآله): " لم يوح إليَّ ولكن ابني كان علي كتفي فكرهت أن أعجّله حتي نزل " [44] .وفي رواية اخري أنه (صلي الله عليه وآله) قال: " إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجّله حتي يقضي حاجته " [45] .بهذه الاخلاق السامية، والعواطف الفياضة بالحنان كان (صلي الله عليه وآله) يتعامل مع الاطفال، فلنقارن صورة الأب الذي يأخذ ابنته او ابنه ليدفنهما احياء مع صورة النبي (صلي الله عليه وآله) وهو يعامل الحسنين تلك المعاملة المتدفقة حباً وحناناً.وصورة اخري اعرضها عن المجتمع الجاهلي وهي؛ ذات مرة هاجمت قبيلة قبيلة اخري، فأخذوا افرادها اسري لديهم، وقد كان الهجوم يتم عادة بالمكر والخداع، حيث يباغتون الناس وهم نائمون من دون سابق انذاز، وربما من دون اي سبب، فيحتلون موقعهم، ويأخذونهم اسري، وهنا وقف شيخ القبيلة المغيرة، ووضع الرمح علي كتفيه، وبدأ ينشد الاشعار الحماسية ليبين من جهة فضائل قبيلته، ومن جهة اخري يهجو القبيلة التي انتصروا عليها، وفي هذه الاشعار كان يحرض ابناء قبيلته علي الاسري، فما كان منهم إلا ان قتلوا الاسري بأجمعهم، وأبادوهم عن بكرة أبيهم.ولنقارن الآن هذه الصورة الجاهلية الوحشية مع صورة الرسول(صلي الله عليه وآله) عندما فتح مكة هذه الارض المقدسة التي كانت تقطنها قبيلة قريش التي سامت الرسول (صلي الله عليه وآله) واصحابه سوء العذاب طيلة ثلاث عشرة سنة؛ فما من فعلة قبيحة إلا وارتكبوها بحق الرسول (صلي الله عليه وآله)،

فكانوا يأذونه في الطريق، ويرشقونه بالحجارة، وكانوا يدفعون اولادهم الي ايذائه (صلي الله عليه وآله) و يلقون في طريقه الاشواك، ثم لاحقوه الي المدينة، وقتلوا عمه، وضربوه وجرحوه، وقتلوا اصحابه، وفعلوا به ما فعلوا.

العفو النبوي الأعجوبة

وعندما انتصر النبي (صلي الله عليه وآله) عليهم في فتح مكة، جاء الي المسجد الحرام، وهنا تسمرت اعين الكفار والمشركين علي شفتيه، فقال (صلي الله عليه وآله) لهم: ماذا ترون اصنع بكم؟، فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال (صلي الله عليه وآله): " اذهبوا، فأنتم الطلقاء " [46] . وهكذا وبكلمة واحدة اطلق سراحهم، بل واغدق عليهم الاموال، وعفا عنهم!وهكذا فلولا بعثة الرسول (صلي الله عليه وآله) الي الجزيرةالعربية لانقرض بشرها لان الناس كانوا يتقاتلون، وكان الاولاد يقتلون، والبنات في تناقص مستمر بسبب حماقات الجاهلية، ولكن ادركتهم هنا الرحمة الالهية المهداة، وجاءت لا لتنقذ الجزيرة العربية فحسب وانما البشرية كلها.

محمد.. الأمل

جدير ذكره في هذا المجال ان احد المفكرين الفرنسيين - المعروفين - كتب كتاباً تحت عنوان " آفاق المستقبل " يقول فيه: ان مستقبل البشرية مهدد لأسباب عديدة، وان الأمور اذا سارت علي هذا المنوال فان مستقبل الحضارة البشرية سيكون في خطر عظيم، وان لا أمل للبشرية سوي ان يأتي شخص مثل محمد (صلي الله عليه وآله) الذي انقذ البشرية في يوم من الايام، وغير مسارها.وعندما كتب احدهم كتاباً حول اعظم شخصية في العالم؛ يختار شخصاً واحداً من بين الشخصيات الكثيرة التي ظهرت علي مر التأريخ الا وهو رسول الله محمد (صلي الله عليه وآله)، ذلك لانه لم يأت انسان عبر التاريخ المديد للبشرية ترك آثاراً ايجابية علي مسيرة الانسانية كالنبي (صلي الله عليه وآله).وهكذا جاء الي البشرية اخيراً المنقذ الذي لا ينقذ منطقة واحدةفحسب، او جيلاً خاصاً، بل ينقذ العالم وعلي امتداد الاجيال، ويملأ نوره الخافقين، وسيبقي هذا النور يشع، ويمتد شعاعه حتي يظهر الله - عز وجل - دينه علي الدين كله

من خلال ظهور الامام الحجة المهدي (عجل الله فرجه).

كل الايجابيات للاسلام

ان هذا الفصل لا يسع لان احدث عن مختلف الآثار الايجابية لبعثة الرسول (صلي الله عليه وآله)، ولكن اؤكد بإجمال ان ما نجده من آثار ايجابية في الحضارة البشرية انما هو بفضل تعاليم الاسلام، فالفلاسفة والمؤرخون والمفكرون كلهم يعترفون ان الحضارة الاوربية هي من اشعاعات الحضارة الاسلامية، فالمذهب البروتستانتي - علي سبيل المثال - الذي اسسه (لوثر كينغ) انما تأثر بالنظرة التوحيدية الاسلامية، وهذه النظرة هي التي دفعت بالحضارة الغربية الي هذا المستوي الرفيع من التطور والتقدم.واما فيما يتعلق بالعلوم التي انتقلت من الاندلس الاسلامية الي الغرب بصورة مباشرة فالحديث عنها مفصل ومتشعب ومثبت في كل الكتب التأريخية، ولكن هذا ليس الشوط الأخير في سلسلة الحلقات المتصلة بهذه الرحمة الالهية؛ اي ان الحضارة البشرية لم تستطع بعد ان تستمد كل النور والهدي من حضارة الاسلام، فالذي استفادته البشرية من القرآن الكريم، ومن النبي (صلي الله عليه وآله) انما هو بصيص من النور.

رحمة استوعبت البشرية

ان اخلاق النبي (صلي الله عليه وآله)، وشمائله، وتعاليمه من شأنها ان تستوعب البشرية كلها، والعالم الآن يعاني من مشاكل وازمات لا تنتهي؛ فهناك صراع الشمال والجنوب؛ اي ان الصراع بين الاغنياء والفقراء يشتد لتبدأ اضطرابات وثورات في الجنوب، وقمع من قبل الشمال، وبالتالي حروب ومعارك... تري ماهي جذور هذه المشاكل والازمات، وماهو اصل هذه المفاسد؟

ازمة اخلاق و ضمير

الجواب هو ان البشرية مصابة بأزمة اخلاق وضمير، كما يشير الي ذلك - تعالي - في قوله:(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم / 41)، وعلي سبيل المثال فلو ان ترسانات الاسلحة الكيمياوية والنووية وغيرها فتحت لما بقي اي كائن حي علي هذه الارض، ومثل هذه الاسلحة انما تستخدم عندما تكون هناك ازمة اخلاق، وعندما تشتهي مصالح واهواء المستكبرين.وعلي هذا فان البشرية اليوم بحاحة الي اخلاق، وبالتحديد اخلاق رسول الله (صلي الله عليه وآله) الذي قال: " انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق " [47] ، صحيح ان الغربيين يملكون اقتصادا قويا، وان اليابانيين - علي سبيل المثال - يضربون الآن الرقم القياسي في النمو الاقتصادي والتكنولوجي، وارباحهم تقاس بالترليونات، ولكن ذرة من الاخلاق اعظم من كل هذا الربح والامكانيات، فهذه الارباح اين تذهب؟ وما فائدة سيارة ضخمة عملاقة ليس فيها مقود؟ ان ضررها اكبر من نفعها لانها سترمي بنا الي واد سحيق.والحضارة البشرية اليوم تشبه الي حد كبير سيارة تسير بسرعة جنونية دون ان يكون فيها مقود، فهي قوة بلا عقل، واخلاق بدون ضمير.ان البشرية بحاجة اليوم الي تلك الرحمة الالهية، الي النبي (صلي الله عليه وآله)، والي من يحمل رسالته، ونحن نفتخر باننا ننتمي الي هذه القدوة الالهية، ونفتخر باننا سنظل علي هدي رسول الله

(صلي الله عليه وآله)، ونعتقد بأن هذه الثروة الحضارية التي نمتلكها لا يمكن ان تقدر بثمن، ولو اعطونا الدنيا كلها ثم سلبوا منا الولاء للنبي (صلي الله عليه وآله) لما كانت هذه الدنيا تعدل عندنا شيئاً، لان ولاءنا ضمير، وروح، وحب، ونهج صحيح في الحياة.

واجبنا ازاء الرسالة

تري ماذا يجب علينا ان نفعل تجاه هذه الرسالة الالهية؟علينا ان نزرع الاخلاق الحسنة في ربوع هذا العالم، شريطة ان نتحلي نحن بها اولا ثم نكون المثل الاعلي لهذه الاخلاق، ونبشر بها كل الشعوب، فلو عرفت البشرية ماذا تعني رسالة الاسلام حقاً لتنبهت اليها واهتمت بها.وفي هذا المجال لابد ان لاتغيب عن اذهاننا هذه الحقيقة، وهي ان العالم ظمآن، والذي يروي غليله ليس إلا رسالة الاسلام، وسيرة النبي (صلي الله عليه وآله)، فعلينا ان نكتب عن حياته (صلي الله عليه وآله) للعالم قائلين بملء افواهنا: هذا هو النبي الذي ندعو اليه. ولنعلم ان مسؤوليتنا خطيرة، وواجبنا عظيم في هذا المجال.ان الله - عز وجل - يقول:(يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) (المائدة / 15)، فالرسول (صلي الله عليه وآله) جاء ليفصل للناس رسالات الله، وليبين العلم الحقيقي، ويعفو عن كثير، ويخفف عن البشرية اعباءها، كما قال - عز من قائل -:(قَدْ جَآءَكُم مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة / 15)، فالنور هو النبي (صلي الله عليه وآله)، وهذا النور في اشعاع أبدي.

رسالة العلم والحياة السعيدة

اما الكتاب المبين فيقول عنه - عز وجل -: (يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ) (المائدة / 16)، فهذه الرسالة هي رسالة العلم لانه نور، ورسالة الحياة السعيدة لان السلام هو الذي يحققها.ان البشرية كانت تحتاج في ذلك اليوم الي هذه السبل، وهي الآن مازالت بحاجة اليها، بل انها أحوج ما تكون اليها بسبب الأزمات والمشاكل اللامتناهية التي تعاني منها في هذا العصر والتي استعرضنا جانبا منها، فهذه البشرية هي بحاجة ماسة الي (السلام) والامن والاستقرار والسعادة الحقيقية في ظل الاسلام، وفي ظل

القيادة الالهية الرشيدة، ليخرجها الله - تعالي - من الظلمات الي النور، ويهديها الي صراط مستقيم.

كيف ندعو العالم الي نهج النبي؟

اشاره

إذا أردنا ان نقارن الحياة التي نعيشها بالحياة التي اراد الله - تعالي - لنا ان نعيشها لكان الفرق هائلا، والفجوة واسعة خصوصا إذا عرفنا ان الانسان يمتلك فرصة ليعيش حياة كريمة ملؤها الرفاه والسلام والسعادة.وهنا ندرك مدي حاجة البشرية الي رسالات الله - عز وجل - ورسله، والي ذلك الشخص الفذ العظيم المتمثل في النبي الاعظم (صلي الله عليه وآله) وتعاليمه التي من شأنها ان تجعل من حياتنا حياة اخري.

نفوس مكبلة بالقيود

وفي هذا المجال لنلق نظرة الي هذه الدنيا التي نعيشها، ولنبدأ من زاوية واحدة هي زاوية الحالة النفسية، فلو تمثلت لنا انفسنا في صورة مجسدة لرأيناها مكبلة بالقيود والاصر والاغلال، ومثل هذه النفوس لا يمكنها ان تعيش سعيدة لانها مسجونة، مكبلة، ترسف في قيودها، في حين ان الحياة التي بشرنا به الاسلام، ودعانا اليها الرسول (صلي الله عليه وآله) هي حياة طليقة حرة، حياة الاخوة، حياة لا تقيدها الاطماع الرخيصة.وحتي الحياة في البلدان الصناعية المتقدمة التي تبدو قائمة علي الحرية والديمقراطية فانها ليست قائمة في الحقيقة علي الحرية الحقيقية لان الانسان هناك عبد لشهواته، فأية حرية لذلك الانسان الذي لا هم له إلا التفكير في بطنه وشهواته؟ هل هذه هي الحياة؟ أم أنها حياة ذلك الرجل الذي يقول: " والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها علي ان اعصي الله في نملةٍ اسلبها جلب شعيرة ما فعلته... " [48] .

ثقافة المادة

فلننظر الي تربية الانسان في عالم اليوم، والي الثقافة السائدة، انها ثقافة المادة، ثقافة كل همها ادخال الانسان في معتقلات الدنيا، فما هو الفرق بين الانسان يقيد يديه الي ظهره و يرسف في قيود مادية، وبين انسان يخاف من ظله؟ انهما كلاهما يعيشانالموت، فالبخل فقر عاجل، والخوف موت عاجل.اننا نلاحظ الآن - علي سبيل المثال - مدي تورط العالم في المخدرات الي درجة ان هناك بعض البلدان يتعاطي نصف اهلها المخدرات، والنصف الآخر يتاجر بها كما نلاحظ ذلك في الولايات المتحدة الاميريكية، فالاحصائيات تشير الي ان تعاطي المخدرات في حالة ازدياد مستمر رهيب!وفي احصائية اخري عن المانيا الغربية جاء: ان ظاهرة تعاطي المخدرات في حالة ارتفاع بين النساء والفتيات الصغيرات!! في حين ان كل

انسان يعرف ماذا تعني هذه السموم من الموت العاجل، ومع ذلك تراهم يعملون ليل نهار، ويمدون ايديهم، ويمارسون التسول في سبيل ان يشتروا المخدرات ليغيبوا بها عن هذا العالم ساعة او ساعتين!تري لماذا يفعل الانسان الغربي كل ذلك؟ الجواب لانه لا يشعر بالراحة والسعادة في ظل الثقافة المادية، فالخوف يلاحقه، وهو يبحث عن الشهوات، وهو مقيد بعشرات القيود المادية.

الحياة في ظل الاسلام

تري هل هذه هي الحياة الحقيقية ام الحياة التي يدعو اليها الاسلام؟ ان الاسلام يجعل الانسان يعيش السعادة حتي وهو يرزح تحت أحلك الظروف، ولنا في هذا المجال خير اسوة وشاهد بالامام الكاظم (عليه السلام) الذي عاش المحن والمآسي في سجون بغداد، ومع ذلك فقد كان يحمد الله - تعالي - ويشكره لانه وفر له فرصة مناسبة يتفرغ من خلالها للعبادة.وهكذا فان الحضارة الايمانية هي من الناحية النفسية حضارة الحياة، في حين ان الحضارة المادية هي حضارة الموت، وحتي لو رأيت انسانا يعيش علي الارض ويتحرك ولكنه في الحقيقة ميت اذا لم يكن يتبع الصراط الالهي القويم، في حين ان الانسان الذي يعيش في ظل المنهج الالهي هو انسان حي يعيش السعادة والطمأنينة.والدليل علي ذلك ان الغربيين اصبحوا اليوم يهربون من الحياة الي المخدرات، والمسكرات، والعربدة، والي كل ما من شأنه ان يلهيهم، الي درجة ان البعض منهم يفضل ان يتخلص من الحياة بالانتحار، فالاحصائيات مذهلة في هذا المجال، وهي في حالة ازدياد مستمر في كل عام!ان الانسان انما يتهرب من هذه الحياة لانها ليست الحياة التي خلق لها، وليست الحياة التي يقول عنها القرآن الكريم:(يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الانفال / 24)، فالرسول (صلي الله عليه وآله) يدعو الناس

الي ما يجعلهم يعيشون حياة حقيقية.وهكذا فاننا بحاجة الي رسول الله (صلي الله عليه وآله) لكي يغير هذه الحياة، فهذه الحياة اصبحت الآن تافهة، فالانسان الذي يعيش في الظلام لايمكن ان يفهم معني النور، والبشرية تعيش الآن هذا الظلام، وهي متعطشة الي النور، وحينئذ ستدرك ان تلك المادية الطاغية التي كانت تعيشها انما كانت في الحقيقة سجناً كبيراً، ولذلك قال - تعالي - في معرض تبيينه لصفات الرسول (صلي الله عليه وآله):(يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً - وَدَاعِياً اِلَي اللَّهِ بِاِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (الاحزاب / 45 - 46).

انهم يحطمون القيم

اننا نعيش حياة ملؤها الظلام الدامس، والجور الي درجة ان الانسان يتمني الموت لكي يتخلص منها ومن جبروت الجبارين وطغيانهم وظلمهم، فهم يحطمون القيم بطرق مختلفة، وينشرون الاباحية، ويحاربون كل من يدعو الي الله - جل وعلا -.والسؤال المهم الذي اريد ان اطرحه هنا هو: كيف نعيد البشرية الي حياة الرسول (صلي الله عليه وآله)، الي تلك الحياة المليئة بالسعادة الروحية، والهناء المادي؟ والجواب يتلخص في نقطتينمهمتين:1- ضرورة وجود مجموعة من الناس الذين لايهابون اية قوة، ويحملون رسالات الله، والذين قال عنهم الله - عز وجل -:(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً اِلاَّ اللَّهَ) (الاحزاب / 39)، ووجود مثل هؤلاء كفيل باعادة البشرية الي تلك الحياة السعيدة القائمة علي القيم والمثل الالهية.2- ان نتحدث للعالم عن حياة الرسول (صلي الله عليه وآله) وانجازاته العظيمة، والسؤال المطروح هنا: تري كم كتبنا عن شخصية النبي (صلي الله عليه وآله)، وهل نحن في المستوي المطلوب في هذا المجال؟لقد كُتبت وأُلفت الكثير من الكتب من قبل المستشرقين، وهم يكتبون كأعداء، ويتكتمون علي الكثير من الحقائق، فأين

نحن من الرسول (صلي الله عليه وآله)؟ واين نحن من الامام السجاد (عليه السلام) الذي كان يقول: " كنا ندرس مغازي الرسول (صلي الله عليه وآله) كما ندرس القرآن "!

مسؤولية كبيرة

ان علينا الآن مسؤولية كبيرة ازاء اطفالنا، فنحن مكلفون بتعليمهم سيرة الرسول (صلي الله عليه وآله) لكي تعيش هذه الشخصية العظيمة في قلوبهم. تري كم واحداً منا قرأ كتابا عن حياة النبي (صلي الله عليه وآله)؟ وهل تكفي قراءة هذا الكتاب الواحد؟ وكيف يكون الرسول نبينا ونحن لانعرفه؟ ان معرفة الرسول والأئمة شرط من شروط كمال الانسان.ولذلك فان من الواجب علينا ان نعرف الرسول (صلي الله عليه وآله) أولا، ثم نعرف العالم به بعد ذلك لكي نستطيع ان نقدم صورة ناصعة لهذه الشخصية العظيمة الي البشرية وهي تعيش اليوم احلك الظروف وأكثرها تأزما حيث تصبح الحاجة الي النهج الذي بشرت به هذه الشخصية حاجة اساسية من حاجات العالم اليوم.

پاورقي

[1] نهج البلاغة / كناب 45.

[2] نهج البلاغة / من غريب كلامه (ع) / رقم 9.

[3] ناسخ التواريخ / ج 3.

[4] اصول الكافي / ج 2 / ص 468.

[5] بحار الأنوار ج 89 / ص 197.

[6] بحار الأنوار / ج 74 / ص 59.

[7] بحار الأنوار / ج 25 / ص 16.

[8] بحار الأنوار / ج 53 / ص 187.

[9] بحار الأنوار / ج 19 / ص 180.

[10] نهج البلاغة / من غيب كلامه -9-.

[11] البحار / ج 10 / ص 40.

[12] بحار الأنوار / ج 35 / ص 177.

[13] بحار الأنوار / ج 16 / ص 406.

[14] نهج البلاغة / كتاب 45.

[15] الكافي / ج 2 / ص 494.

[16] المصدر السابق / ص 493.

[17] المصدر السابق / ص 492.

[18] المصدر السابق.

[19] بحار الأنوار / ج 91 / ص 47.

[20] الكافي / ج 2 / ص 493.

[21] بحار الأنوار / ج 91 / ص 70.

[22] بحار

الأنوار / ج 91 / ص 71.

[23] بحار الأنوار / ج 2 / ص 144.

[24] بحار الأنوار / ج 16 / ص 115.

[25] نهج البلاغة / خطبة 89.

[26] الكافي / ج 2 / ص 163.

[27] بحار الأنوار / ج 20 / ص 189

[28] بحار الأنوار / ج 16 / ص 260.

[29] بحار الأنوار / ج 19 / ص 22.

[30] بحار الأنوار / ج 35 / ص 177.

[31] بحار الأنوار / ج 72 / ص 38.

[32] نهج البلاغة / من غريب كلامه -9-

[33] بحار الأنوار / ج 39 / ص 56.

[34] بحار الأنوار / ج 22 / ص 417.

[35] الكافي / ج 2 / ص.54.

[36] بحار الأنوار / ج 8 / ص 255.

[37] بحار الأنوار / ج 72 / ص 367.

[38] بحار الأنوار / ج 61 / ص 271.

[39] بحار الأنوار / ج 80 / ص 14.

[40] بحار الأنوار / ج 79 / ص 193.

[41] بحار الأنوار / ج 16 / ص 249.

[42] بحار الأنوار / ج 43 / ص 171.

[43] بحار الأنوار / ج 104 / ص 97.

[44] بحار الأنوار / ج 43 / ص 294.

[45] بحار الأنوار / المصدر السابق.

[46] بحار الأنوار / ج 19 / ص 180.

[47] بحار الأنوار / ج 16 / ص 210.

[48] بحار الأنوار / ج 41 / ص 162.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.