سرشناسه : يعقوب اردني احمدحسين - ۱۹۳۹
عنوان و نام پديدآور : المواجهه مع رسولالله و آله عليهمالصلاه و السلام : القصه الكامله تاليف احمدحسين يعقوب
مشخصات نشر : قم مركز الغدير للدراسات الاسلاميه ۱۴۱۷ق = ۱۹۹۷م = ۱۳۷۵.
مشخصات ظاهري : ص ۶۸۰
وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
يادداشت : عربي
يادداشت : كتابنامه بهصورت زيرنويس
موضوع : محمد(ص ، پيامبر اسلام ۵۳ قبل از هجرت - ۱۱ق -- رسالت سياسي
رده بندي كنگره : BP۲۴/۶۵/ي۷م۸
رده بندي ديويي : ۲۹۷/۹۳
شماره كتابشناسي ملي : م۷۷-۱۸۷۹۷
يروي هذا الكتاب قصه المواجهه التي حدثت بين رسول اللّه وآله والمسلمين من جهه، وبين اعداء اللّه و(الطلقاء) واعوانهم من جهه اخري. وان يكن هولاء الاعداء قد اذعنوا(عام الفتح)، وتلفظوا بالشهادتين، فخاطبهم النبي(ص) بقوله:(اذهبوا فانتم الطلقاء)،فانهم عادوا بعد وفاه رسول اللّه(ص) يستانفون المواجهه من جديد. وكانت مواجهه دائمه بين الشرعيه الالهيه وبين قوي الامر الواقع الذي فرض علي المسلمين بوسائل كثيره ابرزها: القوه العسكريه، واغراءات المال والجاه، والعصبيه القبليه، والقمع الذي فاق كل تصور، اضافه الي الزيف والتضليل الاعلاميين. يروي الكتاب قصه هذه المواجهه في خمسه ابواب متسلسله تاريخيا، يروي اولها الوقائع التي حدثت قبل الهجره من مكه المكرمه الي المدينه المنوره، وثانيها وقائع الحقبه التي تم فيها نصر اللّه والفتح، وثالثها ما حدث في ايام رسولاللّه(ص) الاخيره، والوقائع التي حدثت بعد وفاته. وقد اتحدت في هذه الاونه بطون قريش لتحول دون ان يوول الامر الي اصحابه الشرعيين بالوصيه والاهليه. ويبحث رابعها في الاحكام الشرعيه المتعلقه بالامامه والولايه، ويجيب عن مختلف الاسئله المتعلقه بهذه القضيه. اما الباب الخامس، والاخير، فيروي وقائع الانقلاب الذي حدث علي الشرعيه ويبين آثاره المدمره علي الاسلام. يمثل هذا الكتاب، وهو يروي قصه المواجهه هذه، مواجهه علميه حقيقيه تسعي الي كتابه قصه قضيه عادل عمل السلطان واعوانه، طوال عصور عديده، علي طمسها. وقد اتيح من خلال الجهد الذي بذله المولف للحقيقه الموضوعيه ان تتضح كامله نقيه، من طريق العوده الي كتاب اللّه وسيره رسوله(ص)، وبيان الائمه(ع)، واتباع مناهج البحث العلميه. واذا كان المولف الذي امتهن في حياته العامه مهنه المحاماه عن المظلومين في ساحه القضاء لم يتورع عن اظهار عاطفته تجاه موضوع بحثه -كما سيلاحظ القاريء- فان ذلك ناشيء من ايمانه العميق بقيم العداله والانصاف، ووجوب اقرار الحق واتباعه، وليس من التعصب الاعمي لعقيدته، سيما انه لم يتلق هذه العقيده من اسلافه وبيئته، وانما كونها بنفسه بالبحث والتحقيق والرجوع الي المصادر الاصليه الموثوقه. ولقد سبق للمولف ان اصدر عده كتب ليست بعيده عن موضوع كتابه هذا منها: 1- نظريه عداله الصحابه. 2-النظام السياسي في الاسلام. 3-طبيعه الاحزاب السياسيه العربيه. 4-الخطط السياسيه لتوحيد الامه الاسلاميه. 5-المرجعيه السياسيه في الاسلام. ومركز الغدير للدراسات الاسلاميه اذ يسره ان يقدم كتابه الجديد هذا (المواجهه-القصه الكامله) الي القراء فانما يقوم بجزء من واجبه في اعاده قراءه تاريخ امتنا الاسلاميه واستخلاص الحقائق والعبر. مركز الغدير للدراسات الاسلاميه بيروت
الحمد اللّه رب العالمين، واصلي واسلم بافضل صلاه واتم تسليم، علي حبيبنا، وقره اعيننا، سيد ولد آدم، وخاتم الانبياء والمرسلين محمد، وعلي آله الطيبين، سفن النجا، ونجوم الهدي، وباب حطه، واحد الثقلين، واهل المنزله والشرف والفخر والرئاسه، صلاه وسلاما دائمين متلازمين متكررين في كل لحظه وحين الي يوم الدين اما بعد: فها انا اضع بين يدي عشاق الحقائق الشرعيه المجرده كتابي السادس(المواجهه القصه الكامله) وهو اول كتاب من نوعه يعالج هذا الموضوع بذات الهيئه والمضمون والمنهجيه. وقد عنيت بالمواجهه تلك المجابهه التي حدثت عبر التاريخ بين رسولاللّه محمد صلي اللّه عليه وآله وسلم من جهه، وبين اعداء اللّه الذين كرهوا ما انزل اللّه، فتبرعوا نيابه عن الجنس البشري فجابهوا رسولاللّه وآله، وقاوموهم، وكادوا لهم كيدا، ومكروا بهم مكرا، وحاربوهم حربا مسلحه طوال احدي وعشرين سنه منها ثلاث عشره سنه قبل الهجره وثماني سنين بعد الهجره. ثم احاط الرسول وآله باعداء اللّه، واغلق في وجوههم كل الابواب، وترك باب الاسلام مفتوحا، فاستسلم اعداء اللّه، وذكرهم بمكرهم، وان كان مكرهم لتزول منه الجبال -ولما ذلوا واستسلموا، عفا رسولاللّه عنهم قائلا:(اذهبوا فانتم الطلقاء)، وتلفظوا بالشهادتين، فعرفوا بالمسلمين الطلقاء، وعاشوا بنعيم في ظلال حريه الاسلام، ونظام المساواه، والعدل، وتكافو الفرص الاسلامي واحترام كرامه الانسان، ولاح لمجتمع دوله الرسول ان اعداء اللّه بالامس والذين صاروا اليوم(مسلمين طلقاء) قد استقاموا، ولم لا، فالبواطن اختصاص الهي، وليس للبشر الا ظواهر الامور وانشغل المجتمع الاسلامي بالاهم. وجاء نصر اللّه والفتح، وخرج العرب جميعا ومواليهم من دوائر الشرك الي دائره التوحيد، فلم يعد بوسع عربي ان يعلن شركه وتوحد العرب، ولاول مره في تاريخهم، تحت خيمه دوله النبي، دوله الايمان التي عاش في ظلالها العرب والعجم، والموالي والصرحاء، مع كل الالوان ينعمون جميعا بالحريه، والمساواه، والعدل، والكرامه الانسانيه، وتكافو الفرص كثمرات طبيعيه لتطبيق القوانين الالهيه التي بينها النبي بيانا كاملا وشاملا ونقلها من النص الي التطبيق، ومن النظر الي الواقع، ومن الكلمه الي الحركه عبر مسيرتي الدعوه والدوله. وحج رسولاللّه بالناس، واعلن امام وفود الحجيج، ان حجته تلك هي حجه الوداع، وانه قد خير فاختار ما عند اللّه، وانه يغتنم فرصه تجمع المسلمين، ويعلن امامهم بامر من ربه في ذلك المكان(غدير خم) ان اللّه تعالي قد امره باعلان علي بن ابي طالب وليا للامه واماما لها من بعده، فهو ولي من كان النبي وليه ومولي من كان النبي مولاه. فتقدمت الجموع وبايعتالامامعلي، وهناته بالولايه، وكان ابوبكر وعمر من اوائل المبايعين والمهنئين، وبايعه الطلقاءايضا. وفي ذات الموقف اعلن النبي امام ذلك الجمع المهيب بان الهدي لا يدرك الا بالتمسك بالثقلين: كتاب اللّه وعتره النبي اهل بيته، وان الضلاله لا يمكن تجنبها الا بالتمسك بهذين الثقلين معا. ثم نادي النبي باعلي صوته:(الا هل بلغت) وصاحت الجموع الاسلاميه بصوت واحد: لقد بلغت يا رسولاللّه، اديت الامانه، وبلغت الرساله، وتركت الناس عليالمحجه البيضاء. فقال الرسول: اللهم اني اشهدكمعليهم. ويهبط جبريل الامين، ومعه آيه الاكمال (اليوم اكملت لكمدينكم واتممت عليكمنعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) [1] . وتلي النبي آيه الاكمال علي المجتمعين، ففرحالمجتمعون بكمال الدين، وتمام النعمه، ورضا الرب الحكيم بولايه علي. وبدا للناس انالمواجهه قد وضعت اوزارها، وان الشرعيه الالهيه قد القت جرانها في الارض، وعاد الناس الي ديارهم علي هذا الاساس.
في هذا الوقت، توحدت بطون قريش تماما مره اخري كما توحدت ضد النبي، وهبطت من بهاء التدبير الالهي، الي ظلمه تدبيرها، فقال قائلها: ليس من العدل ان يكون النبي من بني هاشم، وان يكون الولي منهم. وليس من الحكمه ان يعطي اهل بيت النبوه هذا الدور المميز!! والانصاف يقضي بان تكون النبوه لبني هاشم، وان تكون الخلافه للبطون. هذا هو العدل، وعلي بطون قريش ان تعمل علي فرض العدل بالقوه، وتجميع العرب حول هذا الهدف!!! فليس مناسبا ان يتولي الامور من بعد النبي عليبن ابي طالب الذي قتل ساداتالبطون!! ونكل بشيوخ الوادي في بدر واحد والخندق!! وهكذا فتحت بطون قريش ابواب مواجهه جديده بالوقت الذي كان فيه النبي يتاهب للقاء ربه، وبدات بطون قريش تستقطب، وتشن حملاتها الدعائيه ضد النبي من جديد، ولكن وهي مسلمه هذه المره!!! ولم يكن امام النبي في هذه الحاله الا التذكير بالبيان الالهي المتعلق بالقياده من بعد النبي، وبالدور المميز لاهل بيت النبوه، فقاد النبي حمله مضاده، ووضح خلال حملته حتيالواضحات، حتي لا تبقي لمن خالف شبهه، وحتي تكون معصيته مع العلم وسبق الاصرار.
ومرض النبي مرضه الذي مات منه، فاراد قبل موته ان يلخص الموقف للامه، وان يكتب توجيهاته النهائيه، كما يفعل قاده الامم عاده وكما فعل الخلفاء طوال التاريخ، وضرب الرسول لكتابه توجيهاته موعدا يحضره الخلص من اوليائه، وبالوقت الذي حدده النبي لكتابه توجيهاته النهائيه فوجيء النبي، وفوجيء الخلص من اوليائه بسادات بطون قريش يدخلون علي حجرته المقدسه، ولم يكن بوسع النبي ان يعدل عن كتابه توجيهاته النهائيه فقال لاوليائه:(قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا) فنهض اولياء النبي ليحضروا الكتف والدواه، وعلي الفور نهض عقيد سادات البطون، وتجاهل وجود النبي وقال للحاضرين:(ان رسولاللّه يهجر، ولا حاجه لنا بكتابه، حسبنا كتاب اللّه). وعلي الفور ايضا قال سادات البطون، متجاهلين بالكامل وجود النبي:(القول ما قاله(فلان) حسبنا كتاب اللّه، لا حاجه لنا بكتاب النبي، ان النبي يهجر!! ما باله استفهموه اهجر!! ما شانه اهجر!!) واكثروا اللغط والتنازع وتبين للنبي حقيقه الموقف، وان هدف سادات البطون هو الحيلوله بينه وبين كتابه ما اراد، وبهذا المناخ لم يعد هنالك ما يبرر كتابه ما اراد، وادرك انها الفتنه، لذلك راي ان يحسم الموقف فقال:(قوموا عني، لا ينبغي عند نبي تنازع، ما انا فيه خير مما تدعوني اليه) هنالك نهض الجميع وخرج سادات البطون بعدان صدموا خاطر النبي الشريف، وتركوه يموت غاضبا مهموما!!. واغتنموا فرصه انشغال الامام واهل بيت النبوه، بتجهيز النبي وتكفينه(فتقطعوا امرهم زبرا) ونصبوا الخليفه الجديد في غياب آل محمد ثم اقبلوا يزفونه، وواجهوا آل محمد بواقع لا طاقه لهم علي تفسيره، ونجحت خطه البطون بتقويض الشرعيه الالهيه، ونسف الترتيبات الالهيه راسا علي عقب، وفتح ابواب مواجهه جديده ودائمه بين الشرعيه والواقع المفروض وما زالت تلك المواجهه تشتد حتي اكلت الاخضر واليابس، ولم يبق من الجانب السياسي في الاسلام الا الهيكل العظمي.
فتحت علي البحث خمسه ابواب، استحضرت خلالها الحادثات التاريخيه واعملت فيها الجهد المضني المستفيض وفق مناهج الاستقراء والبحث والمقارنه والاستنباط، فدرت، فاعطت حقائقها، واوقفتني علي منابعها واصولها، ومراكز قوتها، ونقاط ضعفها فاتضح الواقع علي حقيقته. ثم وقفت علي منابع الشرعيه الالهيه، من مصادرها النقيه كتاب اللّه جل وعلا، وبيان الرسول لهذا الكتاب، وبيان ائمه اهل بيت النبوه اعدال الكتاب، ووقفت علي حجه قاده التاريخ وشيعتهم من العلماء وفق مناهج البحث والاستقراء والمقارنه ايضا، فاتضحت امامي الشرعيه الالهيه كامله لا تشوبها شائبه، بلا لبس ولا غموض نقيه، كانها كوكب دري. وبعد ذلك استحضرت دقائق الزمن واستعرضت حركه المواجهه بين الشرعيه الالهيه وبين الحادثات التاريخيه، وذهب الزبد جفاء واما ما ينفع الناس فمكث في الارض.
قسمت البحث الي خمسه ابواب. ففي الباب الاول: غطيت وقائع المواجهه بين رسول اللّه وآله الاكرمين وبين اعداء اللّه خلال الفتره الواقعه ما بين الاعلان عن انباء النبوه والرساله والكتاب وولايه العهد الي اللحظه التي نجا فيها النبي من مطارده بطون قريش له اثناء الهجره المباركه، وقد بحثت هذه الفتره من خلال سته فصول وافيه. اما الباب الثاني فقد غطيت فيه انباء المواجهه من اللحظه التي وصل فيها النبي الي المدينه حتي اللحظه التي تم فيها فتح مكه واستسلام سادات بطون قريش للنبي بدون قيد او شرط، وقد عالجتها من خلال خمسه فصول شافيه. وفي الباب الثالث: غطيت وقائع المواجهه التي جرت بين الشرعيه الالهيه وبين بطون قريش المتحده بعد اسلامها من خلال سته ابواب، ابرزت فيها كل خفي في هذه المواجهه، حتي تعرت مواقف البطون علي حقيقتها المذهله. اما في الباب الرابع: فقد ابرزت فيه الاحكام الشرعيه المتعلقه بالامامه اوالقياده او المرجعيه من بعد النبي من خلال ثلاثه عشر فصلا، فما من سوال عن هذه الناحيه الا ونجد له في الباب جوانبا حتي ليصلح هذا الباب ان يكون كتابا مستقلا. وفي الباب الخامس: غطيت فيه بدقه وقائع الانقلاب الاسود علي الشرعيه وآثارهالمدمره من خلال ثلاثه عشر فصلا وقد حرصت علي توثيق الابواب الاربعه توثيقا كاملا، وعلي ربطها مع بعضها برباط محكم وثيق. واني اعيذك باللّه من ان تتصور ان هذا البحث كان نزهه، لقد كان معاناه مرهقه، بل ومواجهه حقيقيه، تركت حملها الثقيل علي عظم قد رق، وقلب مثقل بالالم. اللهم انك تعلم اني ما اردت الا الدفاع عن القضيه العادله لاهل بيت نبيك، تقربا مني اليك بهم، اللهم اجعل جهدي خالصا لوجهك وصدقه تطفيء بها خطاياي، وهديه خالصه لمحمد صلي اللّه عليه وآله وسلم واهل بيته الطاهرين وبني هاشمالماجدين تقربني منك زلفي، انك يا مولاي ودود رحيم، وآخر دعوانا ان الحمد للّه رب العالمين. الاردن جرشاحمد حسين يعقوب
خلال المرحله السريه للدعوه، كثرت الاشاعات عن بشائر النبوه والرساله والكتاب، وكثر الاهتمام بشخصيه محمدبن عبداللّه واختلطت الامور علي بطون قريش، وزاد فضولها للوقوف علي حقيقه الرجل، وحقيقه الاشاعات التي تنشر من حوله بذلك الوقت، وبالذات تلقي النبي امرا الهيا باعلان دعوته، ويبدو جليا من التسلسل المنطقي للامور، ان النبي قد جمع الهاشميين في بيته اولا، واطلعهم علي حقيقه النبا العظيم،وانه -وبامر من ربه- عين في هذا الاجتماع ولي عهده والامام من بعده وانتهي الاجتماع بقرار البيت الهاشمي بحمايه النبي وعدم تسليمه، واعلن هذا القرار (عميد البيت الهاشمي) عبد منافبن عبدالمطلب المكني بابي طالب. واجتماع الهاشميين في بيت النبي لم يكن خافيا علي بطون قريش المشبعه بالفضول للوقوف علي حقيقه محمد، ومن الطبيعي ان وقائع الاجتماع، انتشرت وشاعت بعد سويعات من انفضاضه، وهكذا وقفت بطون قريش علي حقيقه ومجمل النبا. ويبدو ان الخطوه المنطقيه الثانيه تمثلت بصعود النبي علي الصفا، ومناداته علي بطون قريش وملاها الذين يجتمعون دائما حول الكعبه وقيامه باعلان نبا النبوه والرساله والكتاب امامهم. ويذكر المورخون ان رسول اللّه واصحابه قد خرجوا في صفين واخترقوا طرق مكه وسككها). وهكذا احيط البطن الهاشمي خاصه بحقيقه النبا، وتم تعيين ولي العهد والخليفه من بعد النبي امام هذا البطن، واحيطت بطون قريش وسكان مكه عامه بحقيقه هذا النبا، ووقفوا علي حقيقه الشائعات التي انتشرت طوال المرحله السريه من الدعوه والتي استمرت ثلاث سنين، واشرب الجميع نبا النبوه ونبا ولايه العهد او الامامه من بعد النبي، وانتشر نبا ولايه العهد او الامام من بعد النبي مع نبا النبوه، ولكن لان بطون قريش متغطرسه، ولم تحمل الامر محمل الجد، ولان النبا العظيم(نبا النبوه) هو الاعظم فقد طغي علي نبا ولايه العهد او الامامه من بعد النبي، وقد وثقت ذلك في الباب المتعلق بالقياده من بعد النبي توثيقا كاملا.
التدرج بتعميم وترسيخ معالم الحكم الشرعي، صفه ملازمه لقواعد العقيده الاسلاميه، ويمكن ان تلحظ هذه الصفه في الصلاه، وفي الانفاق، وفي الدعوه، وفي المنهج السياسي، وتحريم المالوفات كالخمر، وحتي في طريقه نزول القرآن الكريم، وولايه العهد او الامامه من بعد النبي لازمتها صفه التدرج والتعميموالتثبيت المستمر، فقد اعلنت ولايه العهد او الامامه من بعد النبي فيالاجتماع الذي عقده النبي لبني هاشم في بيته، حيث اعلن في هذا الاجتماع لاول مره ان عليبن ابي طالب هو ولي عهد النبي، وهو الامام او امير الجماعه المسلمه من بعد النبي. وطوال مرحله الدعوه العلنيه في مكه والتي استمرت عشر سنين والرسول يظهر مع ولي عهده معا، يسيران معا، ويصليان معا، فاذا روي الرسول روي معه ولي عهده والامام من بعده، وكانا يسكنان معا في بيت واحد.
قال الامام علي واصفا علاقته بالنبي في تلك الفتره:(وضعني في حجره وانا وليد، يضمني الي صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرقه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبه في قول، ولا خطله في فعل. وكنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه، يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علما، ويامرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنه بحراء فاراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه وخديجه وانا ثالثهما، اري نور الوحي والرساله، واشم ريح النبوه). وسئل قثمبن العباس كيف ورث علي رسول اللّه دونكم؟ فقال(كان اولنا لحوقا به، واشدنا به لصوقا). بمعني انه كلما تذكرت بطون قريش نبوه محمد تذكرت امامه علي من بعده، لقد ربطت الاثنين معا، وتجسد هذا الربط واقعيا حيث كان الاثنان معا يسكنان في بيت النبي.
عملا بمبدا التدرج بتعميم وتثبيت الحكم الشرعي، ونظرالاهميه ولايه عهد النبي والامامه من بعده فقد اعلن رسول اللّه خلال مرحلتي الدعوه والدوله الاسلاميه سلسله من الاعلانات او المراسيم التشريعيه لتثبيت وترسيخ ولايه العهد او الامامه من بعد النبي، فقال لولي عهده امام ملا المسلمين وعامتهم:(انت مني بمنزله هارون من موسي الا انه لا نبي بعدي [2] واعلنه وليا للمسلمين فقال له:(انت وليي في الدنيا والاخره) [3] . وقال لولي عهده امامهم(انت ولي كل مومن من بعدي) [4] وقال للمسلمين في قضيه الجاريه انه:(...ولي كل مومن بعدي) [5] وجعل ولايته طريقا الي الجنه ومسلكا الي الهدي، وحاجزا عن الضلاله فقال للمسلمين:(من احب ان يحيي حياتي ويموت موتي ويسكن جنه الخلد التي وعدني ربي، فان ربي غرز قضبانها بيده فليتول عليا فانه لن يخرجكم من هدي ولن يدخلكم في ضلاله) [6] . واعلن امام المسلمين قائلا:(اوصي من آمن بي وصدقني بالولايه لعلي، فانه من تولاه تولاني، ومن تولاني تولي اللّه، ومن احبه احبني ومن احبني احب اللّه، ومن ابغضه ابغضني ومن ابغضني فقد ابغض اللّه) [7] واعلن امام المسلمين قائلا:(من آمن بي وصدقني فليتول عليبن ابي طالب، فان ولايته ولايتي، وولايتي ولايهاللّه) [8] وتاكيدا لحق علي بالولايه والامامه من بعد النبي نزل قوله تعالي: (انما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاه ويوتون الزكاه وهم راكعون، ومن يتولي اللّه ورسوله والذين آمنوا فان حزب اللّه هم الغالبون) [9] وسبب نزول هذه الايه ان عليبن ابي طالب تصدق بخاتمه وهو راكع، فرآه رسول اللّه، فدعا ربه بالدعاء الذي دعا به موسي ربه (واجعل لي وزيرا من اهلي) وما اتم رسولاللّه دعاءه حتي هبط جبريل ومعه آيه الولايه [10] ولم يكتف الرسول بذلك، واحتياطا لسد ابواب التاويلات فقد اعلن الرسول ان عليا سيد المسلمين، وامام المتقين وقائد الغر المحجلين وخاتم الوصيين، وانه رايه الهدي، وامام الاولياء، ونور اهل الطاعه، فقال امام المسلمين:(اوصي اللّه الي في علي ثلاثه.(انه سيد المسلمين، وامام المتقين، وقائد الغر المحجلين) [11] وقال له امامهم:(مرحبا بسيد المسلمين وامام المتقين) [12] وفي جلسه ضمته والملا من المسلمين قال النبي:(يا انس اول من يدخل عليك من هذا الباب امير المومنين وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين وخاتم الوصيين. قال انس: قلت: اللهم اجعله رجلا من الانصار -وكتمته- اذ جاء علي فقال: من هذا يا انس؟ فقلت: علي. فقام مستبشرا فاعتنقه...) [13] وفي يوم من الايام قال رسول اللّه امام الملا من المسلمين:(ادعوا لي سيد العرب، فقالت عائشه: الست سيد العرب؟! فقال النبي: انا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب) [14] وقال في جمع من المسلمين:(النظر الي وجه علي عباده، وهو سيد في الدنيا وسيد في الاخره، من احبه احبني، وحبيبي حبيب اللّه، وعدوه عدوي، وعدوي عدو اللّه، ال [15] ويل لمن ابغضه(واعلن امام المسلمين قائلا: يا علي كذب من زعم انه يحبني ويبغضك [16] . وخاطب النبي عليا امام المسلمين قائلا له:(انت تبين لامتي ما اختلفوا فيه من بعدي [17] واعلن امام المسلمين قائلا:(كفي وكف علي في العدل سواء) [18] وقال امام المسلمين:(انا مدينه العلم وعلي بابها) [19] ، (وانا مدينه الحكمه وعلي بابها [20] . وزياده في اقامه الحجه قال النبي لاصحابه:(عليبن ابي طالب باب حطه من دخله كان مومنا ومن خرج منه كانكافرا). [21] . وقال لهم النبي:(علي مني وانا من علي، ولا يودي عني الا انا او علي) [22] وقال لاصحابه ايضا:(انا المنذر، وعلي الهادي، وبك يا علي يهتدي المهتدون) [23] واعلن امام اصحابه قائلا:(انا وهذا -يعني عليا- حجه علي امتي يوم القيامه) [24] . واكد لهم ذلك بقوله:(علي مع القرآن، والقرآن مع علي لا يفترقان حتي يردا علي الحوض) [25] . وامعانا بالتشريف، واعلانا عن عمق الالتصاق بين نبوه النبي، وولايه علي امر النبي من ربه ان يزوج ابنته فاطمه سيده نساء العالمين الي سيد المسلمين [26] ، ورفض النبي ان يزوج السيده المباركه لابي بكر او لعمر [27] ، واعلن النبي امام المسلمين: ان اللّه قد جعل ذريه كل نبي من صلبه، وجعل ذريه محمد من صلب علي [28] . فاولاد علي وفاطمه بالنص الشرعي هم اولاد النبي، وهم ورثته من بعده، ومنهم ائمه الامه الي يوم الدين، واعلن النبي: ان وصيه ووارثه علي [29] ، واخيرا اعلن في حجه الوداع امام جمع يزيد علي مئه الف مسلم ولايه علي، وامامته للمسلمين من بعده، [30] وقدم له المسلمون التهاني وعلي راسهم ابو بكر وعمر [31] وبانتهاء اعلان التوليه امر اللّه نبيه ان يعلن كمال الدين وتمام النعمه [32] .
يصعب تاويل قرار تعيين الولي والامام من بعد النبي، فالنبي وصفه بانه خليفه له، وانه ولي المسلمين، وولي كل مسلم ومسلمه من بعده، وانه امير المومنين، وانه سيد المسلمين، وانه المبين للدين من بعد النبي، وان طاعته طاعه النبي، ومعصيته معصيه للنبي، وانه لا يودي عن النبي غيره، وانه وارث النبي، فكانه صلي اللّه عليه وآله وسلم قد تعمد ان يعلن ولايه العهد والامامه بكل الالفاظ والمدلولات المتعارف عليها في زمانه وفي كل زمان، وذلك نظرا لاهميه هذا المنصب ولضرورته من بعده، ومن يمض بهذه النصوص الشرعيه يجدها متكامله، وتشكل شبكه محكمه واطارا متينا للامامه يصعب الخروج عنه دون الخروج من الدين نفسه [33] .
النبي الكريم، يتبع ما يوحي اليه، (ان اتبع الا ما يوحي الي [34] وعندما اعلن: ان عليا ولي عهده والخليفه من بعده، ورسخ وثبت هذا الاعلان طوال مرحلتي الدعوه والدوله بمئات النصوص الشرعيه، لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه، بل فعله بناء علي التوجيهات الالهيه، وحتي علي مستوي زواج ابنته الغاليه، سيده نساء العالمين، كان ينتظر التوجيه الالهي بزواجها انظر الي تصريحه حول هذا الموضوع اذ جاء فيه:(بشاره اتتني من ربي في اخي وابن عمي وابنتي بان اللّه زوج عليا من فاطمه) [35] وقوله لفاطمه:(اما ترضين ان اللّه اختار من اهل الارض رجلين، احدهما ابوك، والاخر بعلك) [36] . وكقوله:(ان اللّه اوحي الي في علي ثلاثا، انه سيد المسلمين) [37] وكقوله:(ان اللّه عهد الي في علي عهدا... ان عليا رايه الهدي، وامام اوليائي ونور من اطاعني) [38] . وكقوله:(يا معشر الانصار الا ادلكم علي ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا؟ قالوا بلي يا رسول اللّه قال: هذا علي فاحبوه بحبي، واكرموه بكرامتي، فان جبريل امرني بالذي قلت لكم عن اللّه عز وجل) [39] ومن جهه ثانيه فان مهمه النبي ان يبين للناس ما نزل اليهم من ربهم، ومن المسلم به ان القرآن الكريم قد جاء تبيانا لكل شيء، فهل يعقل ان يترك النبي اهم شيء وهو الامامه من بعده دون بيان؟! ومن الذي فرق الامه بردا، وجعلها طرائق قددا، غير التنافس علي منصب خلافه النبي؟!
لقد تم اختيار الامام علي من اللّه تعالي ليكون ولي عهد للنبي خلال حياته، والامام او رئيس الدوله او امير الجماعه المسلمه من بعد وفاه النبي، بل ووالد الائمه او روساء الدوله الاسلاميه، علي اعتبار ان اولاد علي هم اولاد النبي، كما هو ثابت بالنصوص الشرعيه القاطعه، وقد اعلن النبي هذا الاختيار الالهي، وارسي قواعد موسسه الامامه او رئاسه الدوله الاسلاميه او اماره الجماعه المسلمه، وقدم الرسول ولي عهده علي اساس انه الاعلم والافهم بالدين، والاكثر اخلاصا له، وعلي اساس انه الافضل. وجاءت الوقائع لتترجم التكييف الالهي، ولتثبت دقته ويقينيته، فاثبت الامام علي انه الاشجع في الجماعه المسلمه، ولا يوجد من هو اشجع منه، وقد اعترف العدو والصديق بسبقه في هذا المجال، واثبت بانه الاعلم وبانه الافهم بالدين، وقد رجع اليه كل الخلفاء، واثبت بانه الاكثر اخلاصا للدين، فقد ضمن بحقه لينجو دين الاسلام، واثبت انه الافضل اطلاقا في الجماعه المسلمه. وهكذا انطبقت الوقائع علي النصوص، فكانها ثوب قد فصل علي لابسه، واللّه اعلمحيث يضع رسالته.
مع انتشار المعرفه وتعميمها، ومع سطوع فجر الحريات، وتكريس الحق بالراي والراي المعارض، والرغبه في الوقوف علي الحقائق العلميه المجرده، احس القوم بالخطر الداهم من النص الشرعي (ان هذا اخي وخليفتي ووصيي فيكم فاسمعوا له واطيعوا) وقدروا ان شيوع هذا النص واطلاع عامه المسلمين عليه يمزق الهاله المقدسه التي اضفاها القوم علي التاريخ السياسي الاسلامي الذي ساد من بعيد وفاه النبي حتي سقوط آخر سلاطين بني عثمان، وعلي الذين قادوا هذا التاريخ، وكيف يسمحون بتمزيق تلك الهاله المقدسه، وقد ضحوا بالدين نفسه لتجميل التاريخ وقادته. في كتاب حياه محمد لمحمد حسين هيكل ص104 الطبعه الاولي ذكر الحديث النص الشرعي(ان هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم) وفي الطبعه الثانيه وما بعدها من طبعات الكتاب حذفت هذه الجمله كامله من النص. وفي تفسير الطبري ج 19 ص121 طبعه مصطفي الحلبي استبدلوا كلمه (ان هذا اخي ووصيي وخليفتي) بكلمه (ان هذا اخي وكذا وكذا) فلم يتحملوا ان يلفظوا كلمه (وصيي وخليفتي) فاستعاضوا عنها بكذا وكذا مع ان الطبري نفسه ذكر النص الشرعي بكامله في تاريخه ج2 ص319. وتلك عاده تعود القوم عليها فيحذفون من النص ما يعارض التاريخ او ما لا يليق بجماله وهالته!!! وظاهر الحق معهم، فان استطاعوا ان يوولوا كلمه ولي المومنين فكيف يمكنهم تاويل كلمه خليفه، او كلمه وصي!!!
بعد صراع مرير بين جرهم، وخزاعه، وقريش آلت زعامه مكه(امالقري) الي بطون قبيله قريش. وتتالف هذه القبيله من 25 بطنا [40] اشرفها اطلاقا اولاد عبد مناف(بنو هاشم، بنو المطلب، بنو عبد شمس، بنو نوفل) [41] فهم ساده بطون قريش في الجاهليه بغير منازع، وهم الذين اخذوا العصم لقريش من ملوك الارض، فانساحت برحلتي الشتاء والصيف بامن وامان. ولانهم زعماء مكه، ولان البيت الحرام في مكه، ولقيامهم بخدمه الحجيج واكرامه، ولكرمهم المميز، اشتهرت هذه البطون الاربعه وسموا باقداح النضار لفخرهم وسيادتهم علي العرب [42] ، وتبعا لذلك اشتهرت كل بطون قريش عامه. وبعد منافسات طويله وصراع توصلت بطون قريش الي صيغه سياسيه جاهليه اقتسمت بموجبها المناصب السياسيه(مناصب الشرف)، بحيث يختص كل بطن من البطون المتنافسه علي منصب من مناصب الشرف يبقي لهم، ولان هذا التقسيم في جانب منه تركه، وفي جانب منه اتفاق ضمني، وعقيده سياسيه في الجانب الثالث، فقد استقر، واصبح جزءا(مما وجدنا عليه آباونا) فاختص الهاشميون بالسقايه والرفاده، وهو منصب من اخطر المناصب آنذاك واكثرها كلفه، واختص بنو عبد الدار باللواء، وهو رمز لوحده قريش، واختص بنو عبد شمس بالقياده، وآلت القياده الي ابي سفيان والد معاويه، والخلاصه ان القياده او الزعامه في مكه حسمت بهذه الصيغه، واستقرت اوضاعها، ولم يعد من مصلحه اي بطن زعزعه او هز هذه الصيغه في ظل الاوضاع السائده آنذاك.
هاشم اول من سن رحلتي الشتاء والصيف، وفي السنين العجاف لم يكن لمكه غيره يطعم الناس ويشبعهم، وكان يقال له ابو البطحاء وسيد البطحاء، وكان يحمل ابن السبيل ويومن الخائف، وينهي عن اكل الحرام، ويجالس الملوك فكثيرا ما دخل الي النجاشي وقيصر واكرموه، مما جعل من هاشم قائدا فعليا او زعيما فعليا لمكه وللبطون، هذا التميز اثار حسد اميه، واعتبر هذا التميز خطرا يتهدد حصته(القياده) [43] ، لذلك تكلف ان يصنع مثل هاشم فعيرته العرب بذلك ثم نافر هاشما، وقضي بان هاشما هو الافضل، وخسر اميه الرهان، وجلي عن مكه [44] ، وترك هاشم عبدالمطلب، وسريعا ما تخلق باخلاق ابيه فنهي عن الظلم والبغي ودنيات الامور، وقال ان وراء هذه الدار دار يجزي فيها المحسن باحسانه، ويعاقب فيها المسييء بمساوئه، وحث علي الوفاء بالنذر، ومنع نكاح المحارم، ونهي عن قتل المووده، وحرم الخمر والزنا، واكرم الجار، ورعي الذمام فقد قاطع حرب بن اخيه لانه قتل يهوديا، ولاحقه حتي اخذ الديه واعطاها لابن عم اليهودي، وهو الذي كشف ماء زمزم، واستخرج منها غزالان من ذهب، واسياف وحلي بها الكعبه، وكانت روياه حق، ودعاوه مستجاب، وكان يفي بالعقود، ولا يظلم، ولا يغدر، وكان يحرم اكل الميته. وكان يقال له الفياض لجوده [45] . ومن الموكد ان هذه الصفات والمزايا العاليه تجعل من صاحبها زعيما، وقائدا فعليا تهفو له العقول السليمه، وترتاح اليه القلوب الطيبه فتواليه، وفسر الامويون هذه الصفات علي انها محاوله للالتفاف علي الصيغه السياسيه التي اعطت الحق بالقياده لبني اميه، وفسرتها بطون قريش علي انها مزاوده بلا معني وتمهيد لزعزعه الصيغه ونسفها، وتحولت كل هذه الوساوس الي حسد اضمرته بطون قريش لهذا التميز الهاشمي، وبدات تشعر بالقلق المتزايد من هذا التميز واكثرها قلقا كان ابو سفيان، وخلال اسفاره سمع ان نبيا سيظهر من بني عبد مناف، وقرر ابو سفيان انه لا يوجد في بني عبد مناف من هو اجدر بالنبوه منه [46] ، ولم لا فانه وارث الحق بالقياده، وترقب حتي يصبح نبيا فيفرك انوف بني هاشم بنبوته، ويضع حدا لتميزهم هذا، وينتزع منهم الاعتراف بانه القائد والزعيم بجداره. وارتاح من ظلال هذا الوهم الي حين.
من خلال الاشاعات التي تسربت عن النبوه والديانه الاسلاميه الجديده خلال المرحله السريه للدعوه التي استمرت بصوره سريه ثلاث سنوات، سمع ابو سفيان خاصه، وبطون قريش عامه ان(فتي بني عبد المطلب يكلم من السماء) [47] واستبعد ابو سفيان خاصه، وبطون قريش عامه ان يختار اللّه محمد بن عبداللّه نبيا، واستثقلوا علي انفسهم ان يتبعوا هذا الغلام [48] ، واستبعدوا صحه هذه الاشاعات. ولكن بعد ان صعد النبي علي الصفا، واعلن امام الملا من قريش نبا النبوه والرساله والكتاب، وبعد ان تسربت وقائع الاجتماع الهاشمي في بيت النبي، ونبا تعيين ولي العهد، وبعد ان قطع محمد واصحابه طرق مكه وسككها [49] معلنين انتماءهم للدين الجديد، تاكد ابو سفيان، والبطن الاموي خاصه، وتاكدت بطون قريش عامه من صحه انباء النبوه والكتاب وولايه العهد، وانها كانت مصيبه بقلقها وخوفها من البطن الهاشمي.
بعد وقوف محمد بن عبد اللّه علي الصفا [50] واعلانه رسميا عن نبا النبوه والرساله والكتاب امام الملا من قريش، وبعد ان تسربت وقائع اجتماع الهاشميين في بيت النبي، وتسرب نبا اختياره لولي عهده، وبعد ان فاجا اصحاب محمد البطون باختراقهم لطرق مكه وسككها [51] ، استوعب ابو سفيان والبطن الاموي خاصه وبطون قريش عامه المضامين الاساسيه للدعوه المحمديه، واعتبروها موامره هاشميه، وادركوا جميعا بان اهداف محمد بن عبداللّه تنصب علي: تغيير عقيده الشرك السائده في المجتمع المكي تغييرا كاملا، واستبدالها بالعقيده الاسلاميه الجديده، ويستتبع ذلك الغاء الصيغه السياسيه السائده في مكه آنذاك، والقائمه علي اقتسام مناصب الشرف بين بطون قريش، وايجاد نظام سياسي جديد بقياده محمد الهاشمي يحصر مناصب الشرف كلها به يخلفه بتدبير هذا النظام وقيادته الشخص الذي يعينه رب محمد، او يعينه محمد باذن من ربه!!! بعد ان يبسط سلطانه علي مكه، وهكذا يحوز الهاشميون كافه مناصب الشرف وحدهم، ويحرمون البطون من المناصب التي ورثوها واصبحت حقوقا لهم!!! وبالايجاز فاذا كان بامكان بطون قريش ان تتكارم لتحاكي الكرم الهاشمي، وان تتفاخر لتنقله الفخر الهاشمي، وان تتصنع الحكمه لتردم الحكمه الهاشميه، فانه ليس بامكانها الاتيان بنبوه لتضارع هذه النبوه الهاشميه، وقد عبر عن هذه الحقائق ابو جهل احسن تعبير. (التقي ابن ابي شريف مع ابي جهل وقال له: اتري محمدا يكذب؟ فقال له ابو جهل كيف يكذب علي اللّه وقد كنا نسميه الامين لانه ما كذب قط، ولكن اذا اجتمعت في بني عبد مناف السقايه، والرفاده، والمشوره، ثم تكون فيهم النبوه فاي شيء يبقي لنا؟. وكان ابو سفيان يقول:(كنا وبني هاشم كفرسي رهان، كلما جاءوا بشيء جئنا بشيء مقابل، حتي جاء منهم من يدعي بخبر السماء فاني ناتيهم بذلك!! [52] .
فهمت بطون قريش عامه، وابو سفيان والبطن الاموي خاصه، ان الدين الذي جاء به محمد يقوم علي ثلاثه اسس او علي ثلاثه مرتكزات. الاساس الاول:(الاساس الشخصي)، وهو محمد بن عبد اللّه الهاشمي بالذات الذي اعلن انه نبي ورسول، وانه يوحي اليه قرآنا من عند اللّه يعمل بالتعاون والتنسيق مع بني هاشم، ومع اصحابه ليكون قياده جديده تحل محل قياده بطون قريش، حيث سيكون هو القائد والزعيم او صاحب الملك، وهو بمثابه المرجعيه الوحيده لدينه، والولي الوحيد في حاله نجاح دعوته. الاساس الثاني:(وهو الاساس القانوني)، ويتمثل فيما يوحي الي محمد(وهو القرآن)، وهو في مجمله بالاضافه لقول محمد سيشكلان قانونا لاداره الملك الذي يطمح محمد بتكوينه واقامته، ومن خلال اسفارهم عرفوا ان الدول لها قوانين، وسمعوا وعرفوا عن قوانين روما والقياصره. الاساس الثالث:(وهو الاساس البشري)، ويتمثل بالهاشميين، وببني المطلب بن عبد مناف وباصحاب محمد، وهم بمثابه نواه لمجتمع الملك الجديد، واركان للامه الجديده، وهم بمثابه جيش ينمو باستمرار، ومهمته حمايه القياده الجديده والديانه الجديده، وتوسيع رقعه الملك الجديد الذي يطمح محمد باقامته علي انقاض ملك زعامه بطون قريش، وطمعه بالغاء حق الامويين الموروث بالقياده!! هذا الملك الذي يامل محمد بالقضاء عليه وتدميره، ويامل بحرمان الامويين من حقهم الموروث بقيادته [53] .
للاسف الشديد ان زعامه بطون قريش عامه، والزعماء الامويون بقياده ابي سفيان خاصه قد قدروا انهم المتضررون من هذا الدين الجديد. فقد اعتبروا مخطئين ان النبوه موجهه ضدهم بالذات، وان غايتها هو ابدال زعامه البطون بزعامه محمد، واقامه ملك محمد علي انقاض ملك البطون، وان هدفها الحقيقي هو الغاء الصيغه السياسيه الجاهليه القائمه علي اقتسام مناصب الشرف بين البطون، والغاء القياده الامويه، واقامه نظام جديد يعطي الحق للهاشميين بالتمتع بكل مناصب الشرف وحيازتها، ويعطي الحق لمحمد بالقياده بدلا من ابي سفيان، وهكذا براي البطون ينال الهاشميون شرف النبوه وشرف الملك معا، وتحرم من هذين الشرفين كافه بطون قريش، وفي ذلك اجحاف بحق البطون علي حد تعبير عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فيما بعد!!! [54] .
قدرت بطون قريش عامه، والبطن الاموي خاصه ان نجاح النبوه المحمديه والرساله يعني (حسب تحليل قريش) دمار الصيغه السياسيه الجاهليه القائمه علي التوازن بين البطون وتقسيم مناصب الشرف، وتعني ايضا تفرد البطن الهاشمي بشرف النبوه، وحرمان بطون قريش من هذا الشرف. وعندما ينجح محمد بدعوته، ويتمكن من بناء المجتمع الجديد علي اساسها، فسيكون حاكم ذلك المجتمع بغير منازع، وهكذا يتفرد الهاشميون بالملك ايضا وبمزايا القياده، وفي ذلك نسف كامل للصيغه السياسيه الموروثه، ونسف للجانب السياسي من عقيده الشرك التي تتبناها البطون!! فالدين الجديد براي بطون قريش خروج هاشمي علي ما اجمعت عليه البطون ورضيت به، وهو نقض للصيغه السياسيه يصب في الخانه الهاشميه، وبما ان البطن الهاشمي هو الذي يحتضن الدعوه والداعيه، فمن الموكد -حسب منطق الاشياء وبتحليل قريش- ان خلافه محمد ستنحصر في البطن الهاشمي ابدا، وقد سمعت بطون قريش بوقائع الاجتماع الذي عقده الهاشميون في دار محمد، وسمعوا نبا اختيار علي بن ابي طالب لولايه محمد ولخلافته من بعده، وهكذا سينال الهاشميون شرف النبوه ابدا، وشرف الملك ابدا، وستحرم بطون قريش من هذين الشرفين معا، وهذا امر ينبغي ان ترفضه كافه البطون، وان تكافح بكل وسائل الكفاح لاجهاض النبوه والدين والرساله، لان اختصاص محمد الهاشمي بشرف النبوه وحرمان البطون الاخري من هذا الشرف، امر غير مقبول، واختصاص آل محمد مع النبوه بالملك اجحاف بحق البطون علي حد تعبير عمربن الخطاب فيما بعد [55] والطريق الاوحد يتمثل برفض النبوه ورفض الرساله ورفض الكتاب!!!
كان اكثر البطون القريشيه اندفاعا بمعاداه النبي ورسالته وبني هاشم حضنته هو البطن الاموي، وابو سفيان واولاده خاصه، ذلك لان القياده كانت لبني اميه ولابي سفيان خاصه، ونجاح دعوه محمد يعني فقدانهم لمنصب القياده الذي توارثوه، وانتقال هذا المنصب الي محمد الهاشمي والي آله من بعده، والامويون وابو سفيان واولاده خاصه لا يطيبون خاطرا ببني هاشم، فذكريات المنافره بين هاشم واميه وفوز هاشم علي اميه والجلاء عن مكه قبل البعثه ما زالت عالقه في الذهنيه الامويه [56] ، وحسد الامويين لبني هاشم امر لا يخفي علي احد في مكه آنذاك. ومن جهه ثانيه فقد سبقت البعثه النبويه اشاعات بان النبي الموعود سيكون من بني عبد مناف، واقتنع ابو سفيان بانه الاجدر بهذه النبوه [57] . وفوجيء ابو سفيان باختيار اللّه سبحانه وتعالي لمحمد، فاحبط وامتلا قلبه وبنوه وبنو عمومتهم الامويين بالحسد لمحمد خاصه، وللهاشميين عامه، واقنع ابو سفيان نفسه بان الهاشميين قد(سرقوا) حلمه بالنبوه وهم في طريقهم عن طريق هذه النبوه لياخذوا حقه بالقياده، فكان الحسد هو الموجه الاعظم لتحركات الامويين خاصه، ولبطون قريش عامه [58] خلال مرحله الدعوه العلنيه التي استمرت عشر سنين [59] فاندفعت بطون قريش بقياده البطن الاموي، وبالتحديد ابي سفيان وبنيه، وشكلوا الجبهه المعارضه للنبوه وللاسلام ولمحمد ولال محمد، وعارضوا النبي بكل وسائل المعارضه، وآذوه بكل انواع الاذي، وصدوا عن سبيل اللّه بكل وسائل الصد، وتامروا علي قتل النبي [60] ، وشرعوا بهذا القتل فصلا [61] ، ولكن اللّه نجي نبيه. وعندما هاجر النبي مكرها، وكون قاعده دولته، جيشت بطون قريش الجيوش بقياده البطن الاموي، وحاربته بكل وسائل الحرب طوال ثماني سنين من اصل عشر سنين(عمر دوله النبوه المباركه)، واخيرا احاط اللّه بهم وامكن نبيه منهم، واغلقت بوجههم كل الابواب، ولم يبق الا باب الاسلام فاسلمت بطون قريش عامه، والبطن الاموي خاصه، مكرهين بعد ان غلبوا علي امرهم وسموا بالطلقاء) [62] . وطوال 21 عاما وبطون قريش عامه والبطن الاموي خاصه يعارضون ويقاومون الاسلام ونبيه ويحاربون اللّه ورسوله، وخلال هذه الحروب قتل الامام علي والهاشميون سادات بني اميه وسادات البطون القريشيه، فجمعت بطون قريش مع الحسد لمحمد ولال محمد الحقد علي محمد وعلي آل محمد لانهم قتلوا سادات البطون، وما فعلته هند ام معاويه بعم النبي لدليل قاطع علي طبيعه هذا الحقد [63] . وبالرغم من دخول جيوش النبي لعاصمتهم عاصمه الشرك آنذاك، وبالرغم من هزيمه البطون المنكره، وبالرغم من عفو النبي الكريم وحلمه وقوله لهم(اذهبوا فانتم الطلقاء)، الا ان هذه البطون لم تكن راضيه عن الترتيبات الالهيه، ولا مطمئنه لهذا التميز الهاشمي، صحيح انها توقفت عن المقاومه، والقت السيوف التي حاربت بها الاسلام ونبي الاسلام، واندمجت في المجتمع الاسلامي، الا انها استغلت سماحه الاسلام، واخذت تخلق الفرص وتتحينها لاعاده التوازن بين البطون الذي اختل -برايها بالنبوه الهاشميه، واخذت تعمل بالخفاء لتعديل الترتيبات الالهيه بعد موت النبي!!!. [64] .
بصعوده صلي اللّه عليه وآله وسلم علي الصفا، وباعلانه رسميا لنبا النبوه والرساله والكتاب، وباختراقه واصحابه لطرق مكه وسككها مكبرين موحدين للّه، وباجتماعه مع الهاشميين في داره، واختياره لولي عهده، واجماع البطن الهاشمي علي عدم تسليم النبي وعلي حمايته، بهذا كله عمت انباء النبوه والرساله والكتاب وولايه العهد ارجاء مكه كلها، ودخلت هذه الانباء كل بيت من بيوتها، واحيط سكان مكه علما بهذه الانباء.
ما ان اعلن النبي انباء النبوه والرساله والكتاب، واحيطت بطون قريش ال23 بهذه الانباء علما، عندئذ وقفت وقفه رجل واحد بقياده البطن الاموي، واعلنت رفضها المطلق والتام للنبوه والرساله والكتاب ولولايه العهد، واعلنت انها ستجند كل امكانياتها الماديه والادبيه لصد سكان مكه خاصه والعرب عامه عن تصديق محمد وانبائه، وعن الدخول في دينه، وتجسيدا لهذا الرفض شنت بطون قريشالثلاثه والعشرين حملات نفسيه واعلاميه مركزه ومنكره ومنظمه ضد محمد، وضد نبوته، وضد القرآن، وضد البطن الهاشمي، وضد الذين اتبعوه، واعلنت هذه البطون انها لن تسمح اطلاقا بنجاح محمد، او نجاح دعوته، وقد فهمت مضامين هذا الاعلان ضمنا ومن خلال مواقف البطون.
قلنا ان الزعامه او الوجاهه او الامر في مكه قد استقر لصالح قبيله قريش، وتتكون هذه القبيله من خمسه وعشرين بطنا، وكانت ظاهريا قبل الاسلامتظهر بمظهر واحد، وتلوح كانها وحده واحده لها علم يرمز لوحدتها، ويحمل بنو عبدالدار هذه الرايه، وتسمي برايه قريش كلها، ولها قياده ممثله بالبطن الاموي، وتظهر هذه القياده وتتصرف علي اساس انها قياده لكل بطون قريش، ويكرم الهاشميون ويطعمون الحجيج ويسقونه ويسهلون اقامته، وينفقون عليه، ويحسنون وفادته، فيتحدث الناس عن كرم قريش كلها، وحسن وفادتها، فكان الهاشميون يكرمون باسم قريش كلها، وكان بني عبدالدار يحملون رايه قريش كلها، وكان الامويون يقودون قريش كلها..الخ. وباختصار كانت قريش تظهر امام الاخرين كانها كتله واحده بصرف النظر عما بين بطونها من ضغائن، وحسد، ودغاله. اما في الحق والحقيقه فقد كانت وحده البطون تاكل من الداخل وتنذر بانهيار مريع. وجاءت الاعلانات المتبادله الصادره عن محمدبن عبداللّه من جهه، وعن بطون قريش ال23 من جهه اخري، لتعجل حركه التاكل الداخلي، ولتكرس علنا واقع انقسام المجتمع المكي، فانقسم المجتمع المكي الي قسمين. 1 - القسم الاعظم عددا ومددا ظاهريا، ويتالف من بطون قريش الثلاثه والعشرين من والاهم من الموالي والاحابيش، وقد اعلنوا بلسان واحد، انهم سيقفون ضد محمد، وضد دعوته، وانهم لن ياذنوا له بان يفسد عليهم امرهم. 2 - اما القسم الثاني وهو الاقل عددا، ويتالف من محمد رسولاللّه صلي اللّه عليه وآله وسلم ومن بطنه الهاشمي ومن بطن بني المطلببن عبد مناف، وممن والي هذين البطنيين من الموالي والاحابيش يضاف اليهم الذين اعتنقوا دين محمد. وقد اعلن محمد انه لن يتراجع عن دعوته حتي لو وضعوا الشمس في يمينه والقمرفي يساره، وانه ملزم بتبليغ رسالات ربه.
بمعني ان قريش تتكون من خمسه وعشرين بطنا وقف منها مع محمد بطنان هما البطن الهاشمي وبطن بني المطلب بن عبد مناف ووقف ضده الي 23 بطنا الاخري من بطون قريش.
محمد بن عبد اللّه مصر علي دعوته، وهو ماض بتبليغ رسالات ربه، ولا مساومه في هذه الناحيه، فها هو يقول لعمه الذي راجعته مشيخه بطون قريش، وطلبت منه ان يتدخل لدي محمد للتوقف عن دعوته:(واللّه ما انا بقادر ان ارد ما بعثني به ربي، ولو ان يشعل احدهم من الشمس نارا)، وقوله صلي اللّه عليه وآله وسلم مره اخري:(يا عم واللّه لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري علي ان اترك هذا الامر حتي يظهره اللّه او اهلك فيه ما تركته). وموقف عماده البطن الهاشمي آنذاك المتمثله بابي طالب مرتبط ارتباطا وثيقا بموقف النبي، فها هو ابو طالب يقول باسم الهاشميين:(واللّه لننصرنه ثم لنعيننه)، ويقول في موقف آخر مخاطبا النبي:(يا ابن اخي اذا اردت ان تدعو الي ربك فاعلمنا حتي نخرج معك بالسلاح)، وقال في موقف ثالث مخاطبا مشيخه قريش:(واللّه لبئس ما تسومونني، اتعطوني ابنكم اغدوه لكم، واعطيكم ابني تقتلونه، هذا واللّه ما لا يكون ابدا). وقوله للنبي:(اذهب يا ابن اخي فقل ما احببت، فواللّه لا اسلمك لشيء ابدا)، وعندما اشيع يوما ان محمدا قد قتل، رتب ابو طالب موامره لقتل كل سادات قريش دفعه واحده، وحضر محمد والفتيه الهاشميون علي وشك تنفيذ امر ابي طالب بقتل سادات قريش، عندئذ اعلن ابو طالب تفاصيل ما قرره، وكشف الفتيه الهاشميون عن سلاحهم، فادركت مشيخه قريش الجد الهاشمي. بمعني ان النبي ماض بدعوته، وان الهاشميين وعلي راسهم عميدهم آنذاك ابوطالب لن يسلموه وسيحموه. ولن يسمحوا لاحد ان يمس شعره منه وسيردون علي ايهاساءه توجه الي النبي، وفي حاله قيام قريش بقتل محمد، فان الهاشميين سيقتلون سادات قريش كلهم، وسيقاتل الهاشميون والمطلبيون حتي يفنوا، وتفني بطون قريش كلها. كذلك فان بطون قريش ال23 بقياده البطن الاموي مصره علي الحيلوله بين محمد ودعوته للّه، ومصره علي منعه وعلي تعويق دعوته، وعلي المحافظه علي عقيدتها عقيده الشرك وعلي نظامها السياسي وامرها كله، وفي سبيل ذلك هي علي استعداد لتعادي محمدا، والهاشميين واتباع محمد، وان تستعدي العرب قاطبه علي محمد ومن والاه مستغله نفوذها الادبي عند العرب لتحقيق ذلك مما يجعل المواجهه بين محمد والبطنين الهاشمي والمطلبي ومن شايع محمد من جهه، وبين بطون قريش ال23 واشياعها من جهه اخري قدرا محتوما لا مفر منه.
فور اعلان النبي عن بشائر النبوه والرساله والكتاب، وبمجرد انفضاض الاجتماع الهاشمي الذي عقد في دار النبي، اعلنت زعامه بطون قريش ال23 بقياده البطن الاموي، وبالتحديد ابو سفيان وآله(حاله الطواريء)، واعلنوا المواجهه مع النبي خاصه ومع الهاشميين عامه، ومع من والاهم، واخذت هذه المواجهه اشكالا مختلفه طوال حياه النبي بدءا من السخريه والاستهزاء والاغراء والتكذيب، وانتهاء بالحرب المسلحه التي شنوها علي النبي وآله، والتي وضعت اوزارها بهزيمه البطون الساحقه، ثم عوده البطون للتشكيك بكل ذلك من وراء جدر. وغايه بطون قريش ال23 وهدفهم من هذه المواجهه ينصب علي ما يلي: 1 - صرف شرف النبوه والرساله والكتاب عن محمد الهاشمي لمجرد كونه هاشميا، وعن آله لكونهم هاشميين، لانه ليس من الانصاف براي البطون ان ينال البطن الهاشمي هذا الشرف وحده من دون بطون قريش ال25 [65] ، ومن جهه ثانيه فان محمدا ليس عظيما من عظماء القرشيين حتي يكون جديرا بهذا الشرف(لولا نزل هذا لقرآن علي رجل من القريتين عظيم) [66] . 2 - التصدي بكل وسائل التصدي للنبوه والرساله والكتاب حتي لا ينجح محمد بدعوته، وحتي لا يفلح بنسف عقيده الشرك، واحلال عقيده الاسلام محلها، وتبعا لذلك ستسقط زعامه الشرك(زعامه بطون قريش) وتحل محلها آليا زعامه محمد الهاشمي كونه الاعلم والافهم بهذه العقيده، ولانه مرجعها اليقيني الوحيد، وكون محمد همزه الوصل بين السماء واتباع هذه العقيده، وحيث ان الرهط هو الذي يحتضن محمدا ويحتضن دعوته، فحتما مقضيا سيكون الهاشميون بطانه زعامته، وسيكون خليفته منهم، وقد عرفت البطون وقائع اجتماع الهاشميين الذي عقد في دار النبي، وسمعت تلك البطون بقول النبي للمجتمعين:(ايكم يوازرني علي هذا الامر ويكون اخي ووزيري وخليفتي فيكم...، وسمعوا بقوله لعلي بن ابي طالب انت اخي وخليفتي...) [67] . وبهذه الحاله تقع الطامه الكبري براي البطون، ويجمع الهاشميون شرف النبوه، وشرف الملك وعزه، ويقع المحذور علي حد تعبير عمربن الخطاب رضي اللّه عنه ابن بطون قريش البار وترجمانها الامين فيما بعد [68] . 3 - وفي سبيل تحقيق ذلك يجب ان تتحد بطون قريش ال23 في وحده حقيقيه، وان تقف وقفه رجل واحد، وتسلم قيادتها للبطن الاموي ليقود المواجهه ضد نبوه محمد ومطامع الهاشميين، وهكذا كان اذا اتحدت البطون وتولي الامويون بقياده ابي سفيان وذريته كبر مواجهه النبي ومواجهه دينه، والصد عن سبيل اللّه مستغله نفوذها الادبي عند العرب، بوصفهم جيران بيت اللّه الحرام وسدنته. 4 - ووسيله البطون الي ذلك كله تتمثل بعزل محمد عن بني هاشم، فمحمد مجرد رجل يسهل قتله والقضاء علي دعوته، ولكن العقبه الكوود هم بنو هاشم الذين اعلنوا انهم حماه النبي، وان اي اعتداء عليه من قبل البطون هو بمثابه اعلان حرب لن تضع اوزارها حتي يفني الهاشميون والبطون معا [69] ، لذلك رات البطون استعمال كل الوسائل لعزل محمد عن الهاشميين، وان اصر الهاشميون علي عدم التخلي عن محمد يتوجب عزل الهاشميين انفسهم عن البطون، وفرض محاصرتهم ومقاطعتهم [70] ، وبالتالي عزل الهاشميين عن العرب، وان لم تنجح هذه الوسائل فيتوجب علي البطون ان تقدم رجالا منها ليشتركوا جميعا بقتل محمد فيضيع دمه بين البطون، ولا يقوي الهاشميون علي المطالبه بدمه، وان لم تنجح محاوله القتل، فيتوجب ملاحقه محمد اينما حل، ومحاربته حتي يتم القضاء التام عليه وعلي دعوته [71] . 5 - واثناء ذلك كله يجب صد الناس عن دين محمد ودعوته، وملاحقه الذين اتبعوا دينه وعزلهم والتضييق عليهم، وحملهم علي ترك هذا الدين، وتشويه سمعه محمد بين الناس وعند العرب، واشاعه الدعايات الكاذبه عنه، والقول بانه -حاشا له-مجنون او كاهن او شاعر، او كاذب...الخ، والتشكيك بكل ما يقوله، وان القرآنالذي جاء به(ان هو الا اساطير الاولين..الخ). وبايجاز فان بطون قريش حسدت محمدا واهل بيت محمد فضلا خصهم اللّه به، فتصرفت طوال حياه النبي بدوافع الغيره والحسد، وحسد بطون قريش امر ظاهر [72] (ام يحسدون الناس علي ما آتاهم اللّه من فضله) [73] . التقي ابن ابي شريف مع ابي جهل وقال له اتري محمدا يكذب؟ فقال له ابوجهل كيف يكذب علي اللّه وقد كنا نسميه الامين، لانه ما كذب قط!، ولكن اذا اجتمعت في بني عبد مناف السقايه والرفاده والمشوره، ثم تكون فيهم النبوه فاي شيء يبقي لنا!! وكان ابو سفيان يقول(كنا وبني هاشم كفرسي رهان، كلما جاءوا بشيء جئنا بشيء مقابل، حتي جاء منهم من يدعي خبر السماء فاني ناتيهم بذلك) [74] . هذا هو نمط تفكير البطون، وتلك هي الدوافع الخفيه لفهم مواقف تلك البطون.
مع ان المواجهه بين النبي والهاشميين ومن شايعهم من جهه، وبين بطون قريش ال23 واشياعهم من جهه اخري، قد اصبحت قدرا محتوما ولا مفر منه، الا ان هذه المواجهه محكومه ومضغوطه في المرحله الاولي منها [75] بعوامل متعدده، تجعل من هذه المواجهه مواجهه نفسيه واعلاميه وتهديديه، او ان شئت فقل انها حرب بارده، فابو طالب سيد البطحاء، والشيخ الفعلي لقريش كلها، وهو حكيمها وشاعرها وسيدها وابن سيدها، وهو عميد البطن الهاشمي، ومحمد هو ابن شقيق ابي طالب، وهذا عامل من اهم العوامل التي تجعل المواجهه بين الفريقين محكومه ومضغوطه، فضلا عن ذلك فان ابا طالب لم يقطع صلته بالبطون بل كان يستقبل وفودها، ويستمع لمطالب تلك الوفود، وينقل تلك المطالب لابن اخيه محمد، ويسمع رده عليها وينقل الرد لوفود قريش [76] ، ويساهم بذلك بتلطيف حده الصراع وابقائه ضمن حدود معينه. كما ان ابا طالب قد ابلغ بطون قريش واثبت لهم بانه قد هم بان يقتل سادات البطون كلهم عندما ظن بان محمدا قد قتل، وانه قد خصص لكل سيد من سادات البطون هاشميا ليقتله، فادركت بطون قريش ان عمليه قتل النبي مكلفه، وانها ستفتح عليها سلسله من الثارات لا تنتهي الا بدمار قريش، وساعدت قناعه البطون تلك علي لجم المواجهه، وجعلها بحدود معينه، بالاضافه الي ذلك فان البطن الهاشمي وبطن بني المطلب قد اعلنا حمايتهما للنبي، وانهما لن يسلماه، ولن يسمحا لاحد بايذائه [77] ، فمحمد بحمايه هذين البطنين الهاشمي والمطلبي، وهذان البطنان قوه حقيقيه معروفه عند العرب بفخرها وشرفها ومكانتها، ولا تملك بطون قريش امكانيه تجاهلها، خاصه بعد ان ايقنت تلك البطون بجديه الموقف الهاشمي، انظر الي قول ابي طالب مخاطبا ومتوعدا ومحذرا لبطون قريش:(واللّه لو قتلتموه ما ابقيت منكم احدا حتي نتفاني نحن وانتم) [78] . وانظر الي قوله مخاطبا النبي:(يا ابن اخي اذا اردت ان ندعو الي ربك، فاعلمنا حتي نخرج معك بالسلاح) [79] كان عاملا من اهم العوامل التي حددت طبيعه المواجهه بين الفريقين، فاخذت المواجهه بين الفريقين في السنين العشر الاولي طابعا او مناخا يشبه مناخ الحرب البارده بين القوي العظمي، فكل قوه تتمسك برايها وعقائدها ولا تتراجع عنها، وموقفه ان الصدام قدر لا مفر منه، ولكنها لا تعرف متي ولا اين؟ وتجهل نتائجه! مما طبع المواجهه الاولي بطابع الحرب النفسيه والاعلاميه، وجعلها ملجومه بحدود معينه حتي حين.
مع اعلان النبي لبشائر النبوه والرساله والكتاب وولايه العهد او الاماره من بعد النبي، ومع اعلان البطنين الهاشمي وبطن بني المطلب حمايتهما للنبي، وعدم تسليمه، وعدم السماح لاي كان بايذائه، واعلان الهاشميين بانهم سيقاتلون بطون قريش حتي آخر رجل اذا قامت تلك البطون بقتل محمد [80] ، ومع دخول عدد من الناس في دين الاسلام [81] ، ومع اصرار بطون قريش ال23 علي رفض النبوه والرساله والكتاب وولايه العهد، واعلانها بانها ستقاوم محمدا بكل وسائل المقاومه.. مع هذا كله تكونت واقعيا جبهتان تتواجهان، وقيادتان تتنافسان:
وتتكون هذه الجبهه من البطن الهاشمي، وبطن بني عبد المطلب، ومن مواليهما واحابيشهما بالاضافه الي القله التي دخلت في دين الاسلام، وهذه هي جبهه الايمان.
وتتكون هذه الجبهه من بطون قريش ال23 ومواليها واحابيشها، بمعني ان مقاليد الامور في مكه -ام القري- كانت بيد قبيله قريش، وان هذه القبيله كانت تتكون من 25بطنا [82] ، ومع اعلان بشائر النبوه والرساله والكتاب وولايه العهد انقسمت بطون قريش الي قسمين، فالبطن الهاشمي وبطن بني عبد المطلب بن مناف وقفا الي جانب النبي، وشكلوا معه نواه جبهه الايمان، اما بقيه بطون قريش ال23 فقد رفضوا نبوه محمد، واعتبروها هاشميه، واخلالا بتوازن البطون القرشيه، وخروجا هاشميا علي الصيغه السياسيه السائده في مكه. ورفضوا الدين الاسلامي علي اعتبار انه اثر من آثار نبوه محمد، وتبعا لذلك شكلوا جبهه عريضه هي جبهه الشرك، لغايات مقاومه النبوه المحمديه، ومقاومه الدين الاسلامي المنبثق عن هذه النبوه، وللصد عن سبيل اللّه المتمثل بمحمد وبدين الاسلام.
عندما تتكون جبهتان متعارضتان، وعندما تصبح المواجهه بينهما قدرا محتوما، وقاب قوسين او ادني، فمن الطبيعي ان تبرز قياده لكل جبهه من الجبهتين المتنافستين، تتولي عمليه التدبير والتخطيط، وتعمل علي تحقيق اهداف الجبهه من المواجهه، فمن الذي كان يقود جبهه الايمان، ومن الذي كان يقود جبهه الشرك؟
ظهرت فكره الايمان النقي بظهور نبوه محمد، حيث استقطب بنبوته الهاشميين وبني المطلب، والقله التي آمنت من بطون قريش واحابيشها ومواليها، ومن هولاء تكونت جبهه الايمان، وكرده فعل لظهور هذه الجبهه، تجمع الرافضون لفكرتي النبوه والايمان وشكلوا جبهه الرفض والتصدي(جبهه الشرك)، وغايتها الغاء النبوه الهاشميه او القضاء عليها، واجهاض فكره الايمان، ومنع الدين الجديد من الانتشار. وبهذه الحاله فان طبائع الامور ومنطقها يقضيان بان تكون قياده جبهه الايمان بيد محمد (صلياللّه عليه وآله وسلم)، فهو النبي والرسول المكلف بتبليغ رسالات ربه، وهو الاعلم بمضامين تلك الرسالات، وهو الاكثر اخلاصا لها، وهو الذي يتلقي التوجيهات الالهيه بالذات، ويبلغها لاتباعه، وبالضروره هو ولي من آمن به وناصره، وهو امير الجماعه المسلمه وقائدها وامامها، ومن المحال عقلا ان تكون قياده جبهه الايمان بيد غيره، فهو وحده القائد العام لجبهه الايمان اثناء المواجهه، يستعين بمن يشاء من اتباعه تحت عين اللّه ليضمن كسب المواجهه ولتكون كلمه اللّه هي العليا، وكلمه اعداء اللّه هي السفلي.
قلنا ان محمدا صلي اللّه عليه وآله وسلم هو القائد العام لجبهه الايمان بالشرع والعقل والضروره، لانه الاعلم والاخلص، ولانه هو بالذات الذي يتلقي التوجيهات المتعلقه بمسيره جبهه الايمان، ومنطق الامور يقضي ان يستعين القائد العام محمد بصفوه اتباعه ليكونوا اركانا لقيادته فمن هم اولئك الصفوه؟ 1 - اولهم ولي عهده والامام من بعده: علي بن ابي طالب عليه السلام حيث عينه الرسول بامر من ربه وليا لعهده واماما واميرا وعلما للجماعه المسلمه من بعده، واعلن ذلك مع اعلانه لانباء النبوه والرساله والكتاب، وطلب من الهاشميين ومن بني المطلب -وهم العمود الفقري لجبهه الايمان- ان يسمعوا لعليبن ابي طالب ويطيعوه، وكان من بين الحضور والده ابو طالب [83] . واقتضت حكمه اللّه تعالي ان يكفل النبي عليا، وان يعيش في كنف النبي كواحد من افراد اسرته [84] ، وان يبقي كذلك حتي يفارق النبي الحياه، وذلك ليعده لخلافته وليصنع علي عين الرسول بالشكل والمضمون الذي اراده اللّه تعالي. وخلال مرحلتي الدعوه التي استمرت ثلاث سنوات سريه، وعشر سنوات علنيه، ومرحله الدوله التي استمرت عشر سنوات [85] ، كان الامام علي يتبع الرسول اتباع الفصيل لامه، وينفذ اوامره حرفيا [86] مهما كانت مكلفه، فعلي سبيل المثال امره النبي ان ينام في فراشه ليله هجرته ليوهم المتامرين علي قتل النبي ان النائم هو النبي وليس عليا [87] ، ونفذ الامام الامر مع انه من الممكن ان يقتله المتامرون ظنا منهم انه النبي [88] . وكلفه الرسول ان يودي الامانات الي اهلها بعد هجرته [89] ، وان يتولي عمليه ترحيل عائله الرسول من مكه الي المدينه، وبعد الهجره، وفي اول معركه جرت بين الكفر والايمان، كلفه ان يخرج مع حمزه وعبيداللّه بن الحارث لمبارزه سادات قريش دفاعا عن الحق الهاشمي [90] ، وفي كل معارك الشرك مع الايمان كانت الرايه بيد علي [91] ، وكان هو فارس الاسلام الاوحد، وقد فر الجميع ولم يفر [92] ، وتقدم في مواطن عجز الجميع ان يصلوا اليها [93] ، وحقق النصر في معارك عجز الجميع عن تحقيقها [94] ، وعندما سقطت عاصمه الشرك، وصدر الامر الالهي بالبراءه من المشركين، ارسل الرسول سوره البراءه مع ابي بكر، واحيط المسلمون علما بذلك، وبينما كان ابو بكر متوجها الي مكه هبط جبريل بامر من ربه، ومعه الامرالالهي بان ياخذ قرار البراءه من ابي بكر ويعطيه لعلي، وتعليل ذلك انه لا يودي عن النبي الا هو او علي وقد احيط المسلمون علما بذلك [95] وفي آخر حجه حجها الرسول(حجه الوداع) نصبه الرسول رسميا اماما ووليا للمومنين من بعده [96] وتوجه بتاج الولايه [97] وطلب من المومنين ان يقدموا التهاني لامير المومنين من بعد النبي، وبالفعل قدموا له التهاني، وكان علي راس المهنئين ابو بكر وعمر رضي اللّه عنهما [98] . والخلاصه ان علي بن ابي طالب ابرز اركان قياده جبهه الايمان خلال مرحلتي الدعوه الاسلاميه والدوله الاسلاميه في عهد النبوه المبارك. 2 - الركن الثاني من اركان قياده النبي، وهو عبد مناف بن عبد المطلب المكني بابي طالب وهو والد الامام عليبن ابي طالب وعم الرسول الشقيق لوالده [99] ، وهو الذي كفل الرسول وضمه الي اولاده بعد وفاه جده، ورباه في كنفه حتي تزوج [100] ، واحاط ابو طالب والسيده زوجته رسولاللّه بكل مشاعر الحب والموده، واحباه اكثر مما يحب الوالدان ابنهما [101] . وكان لابي طالب الدور البارز في اركان قياده جبهه الايمان، فهو الذي شجع الهاشميين والمطلبيين علي حضور اول اجتماع سياسي في دار النبي [102] ، وهو الذي تصدي لخصومه في ذلك الاجتماع ولجمهم [103] ، وهو الذي ارسي قواعد تاييد الهاشميين والمطلبيين للنبي [104] ، واعلان هذين البطنين حمايتهما للنبي، وهو الذي اعلن امام بطون قريش بانها اذا قتلت محمدا فان الهاشميين والمطلبيين سيقاتلون البطون حتي الفناء التام [105] ، وهو نفسه الذي خاطب النبي امام قريشوباسم الهاشميين قائلا:(يا ابن اخي اذا اردت ان تدعو الي ربك فاعلمنا حتي نخرج معك بالسلاح) [106] . وهو نفسه الذي كان يستقبل وفود البطون ويسمع لمطالبها وينقل رد النبي عليها [107] ، وابو طالب هو الذي كان ينقل النبي عده مرات من فراشه ليليا اثناء الحصار خوفا علي حياته [108] ، وهو الذي شجع بنيه علي التضحيه بارواحهم فداء لمحمد [109] ، وهو الناطق الرسمي باسم النبي عندما اكلت رايه الارض صحيفه المقاطعه، وهو الذي قاد عمليه الرجوع من الشعب الي مكه عندما حوصر الهاشميون في شعب ابي طالب [110] ، وهو شاعر الاسلام، وحامي حماه [111] ، ومن هنا نفهم معني قول رسولاللّه:(ما نالت مني قريش حتي مات ابو طالب) [112] ، ولهذا سمي العام الذي مات فيه ابو طالب وماتت فيه زوجته بعام الحزن [113] ، واعتبر موت الاثنين مصيبتين، وعبر عن ذلك بقوله:(اجتمعت علي هذه الامه في هذه الاياممصيبتان، لا ادري بايهما انا اشد جزعا) [114] . والخلاصه ان ابا طالب كان احد اركان قياده جبهه الايمان، وقد استغل مكانته الاجتماعيه وسخرها لصالح الرسول ولصالح دينه، فقد كان -سلاماللّه عليه- شيخ البطاح وسيد البطون القريشيه بغير منازع. وقد لجم وجوده المواجهه لتبقي ضمن حدود معينه، اذ هابته البطون ولم تقو علي تصعيد المواجهه. ومن المثير للدهشه حقا ان الدوله الاسلاميه التاريخيه التي قبضت علي مقاليد السلطه بالقوه، وسيطرت علي وسائل الاعلام، قلبت الحقائق وبقدره قادر حولت ابا طالب الي رجل مشرك، وقالت انه في ضحضاح من النار علي حد تعبير المغيرهبن شعبه المشهور بعداوته لبني هاشم وانكرت دور ابي طالب البارز في قياده جبهه الايمان!!! [115] ونسوا او تناسوا مضامين قول الرسول وهو يقف امام جثمان ابي طالب ويردد والاسي يملا قلبه الشريف:(يا عم ربيت صغيرا، وكفلت يتيما، ونصرت كبيرا، فجزاك اللّه عني خيرا) [116] . ومع هذا اقنعوا العوام ان الرجل مات مشركا، واخفوا فضله علي الاسلام ونبيه، واخترعوا فضائل لمن عادوا النبي وعادوا الاسلام وحاربوهما بكل وسائل الحرب!!! وللّه عاقبه الامور!!! 3 - ومن اركان قياده جبهه الايمان جعفربن ابي طالب، وهو ابن عم رسولاللّه، والاخ الشقيق للامام علي بن ابي طالب، وهو من اوائل الذين آمنوا. امره رسولاللّه ان يقود المهاجرين الي بلاد الحبشه وان يرتب امورهم هنالك، وان يوطد لهجرتهم. ولما علمت قريش بامر الهجره خشيت من انتشار الاسلام فارسلت رسولين الي النجاشي ومعهما الهدايا، ورجت النجاشيء ان يرد المهاجرين الي مكه، فدعا النجاشي جعفرا وسمع منه، وتمكن جعفربن ابي طالب من اقناع النجاشي بعداله القضيه الاسلاميه ومن هزيمه وفد بطون قريش) [117] . وكانت لهذا القائد مكانه خاصه في قلب رسول اللّه، وعندما عاد من الحبشه بعد فتح خيبر استقبل الرسول قائلا(واللّه ما ادري بايهما انا اشد سرورا بفتح خيبر ام بقدوم جعفر) [118] . وبقي ركنا عليا من اركان قياده جبهه الايمان حتي استشهد في غزوه موته وهو حامل لرايه القياده والجهاد في سبيل اللّه [119] . 4 - ومن اركان قياده جبهه الايمان حمزهبن عبد المطلب، عم الرسول، اشترك مع الهاشميين بحمايه الدعوه والداعيه، ولما اشتد اذي قريش للنبي تحدي البطون واعلن اسلامه، ومن ذلك اليوم صار ركنا من اركان جبهه الايمان، وفارسا من اعظم فرسان الاسلام قاتل وابن اخيه علي في بدر قتالا فذا لم تعهده العرب، وكان حمزه وعلي وعبيداللّهبن الحارث اول ثلاثه برزوا لمبارزه سادات بني اميه، وتمكن علي وحمزه من ان يغيروا موازين القوي كليا لصالح جيش الاسلام، وفي احد فر الجميع ولم يبق غير حمزه وعلي ومصعببن عمير والقله من اصحاب النبي، وبينما كان حمزه يقاتل باسلوبه الفذ غدره عبد حبشي من عبيد ابي سفيان، وكان قتل حمزه موامره امويه رتب فصولها ابو سفيان وزوجته هند ام معاويه، لان حقدهمعلي النبي وعلي، وحمزه خاصه، وبني هاشم عامه حقد يفوق التصور والتصديق، ولم يكتف المتامرون بقتل حمزه، بل مثلوا به، فشقوا بطنه، وقطعوا انفه واذنيه، وحاولت هند ام معاويه ان تاكل كبده تشفيا وانتقاما من فرط حقدها [120] . 5 - عبيد اللّه بن الحارث، وهو احد سادات بني عبد المطلب، اعلن اسلامه يوم اجتماع الدار وبقي تحت تصرف الرسول يفعل ما يومر، وهاجر مع الذين هاجروا، وخرج مع الرسول الي بدر، ولمابرزت سادات الامويين وطلبوا المبارزه امره صلياللّه عليه وآله وسلم- بان يخرج مع حمزه وعلي لمبارزتهم، وكان خصمه افتي منه فتبادلا الطعان واصيب عبيداللّه واستشهد في بدر [121] ، وعز ذلك علي رسولاللّهوردد بيتا من الشعر قاله ابو طالب:فكذبتم وبيت اللّه نخلي محمدا ولما نطاعن دونه ونناضلفونسلمه حتي نصرع حوله ونذهل عن ابنائنا والحلائل [122] .
يلاحظ ان اركان قياده جبهه الايمان خاصه في مرحله الدعوه هاشميون، والسبب في ذلك ان الهاشميين قاطبه باستتثناء ابو لهب اعلنوا التفافهم حول النبي، وحمايتهم له، وانذروا بطون قريش بانها اذا قتلت النبي فان الهاشميين سيقاتلون حتي يفني الهاشميون والبطون معا [123] ، وبالتالي فان ايه اساءه توجه لمحمد سيرد الهاشميون عليها بحزم [124] ، فضلا عن ذلك فقد احس الهاشميون بحسد قريش لهم، وباصرارها علي صرف الفضل الالهي عنهم [125] ، وادركوا ان بطون قريش تتامر عليهم، وقد اجمعت علي مقاطعتهم وحصارهم في شعب ابي طالب، ولم يرعوا فيهم الا ولا ذمه [126] ومن هنا نفهم معني قول رسولاللّه لحمزه وعلي وعبيداللّه في بدر:(يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث اللّه به نبيكم اذا جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور اللّه) [127] . لماذا لم يبرز قاده من غير بني هاشم في مرحله الدعوه؟ لان الهاشميين هم الذين تحملوا عبء حمايه الدعوه الاسلاميه، وحمايه الداعيه محمد صلي اللّه عليه وآله وسلم، ولان الهاشميين كانوا يشكلون بموازين بطون قريش كيانا سياسيا تعترف به البطون وتعتبره مسوولا، لانه لم يسلم محمدا ولم يمكن بطون قريش منه، وفوق ذلك فان البطن الهاشمي اعلن حمايته للنبي، وتوعد البطون بالافناء التام ان هي اقدمت علي قتل النبي. اما الذين اسلموا خلال مرحله الدعوه من غير بني هاشم وبني المطلب فقد كان لهم شان آخر، فهم من بطون شتي، وبالتالي لم يتبلور التجمع او الكيان السياسي الذي ينتمون اليه واجمالا هم مجرد افراد. فضلا عن ذلك فقد كان المطلوب منهم ان يشهدوا ان لا اله الا اللّه، وان محمدا رسولاللّه، وان ما يوحي الي محمد هو من عند اللّه. وهم علي نوعين: 1 - فمن كان ينتمي بالدم الي اي بطن من البطون القرشيه حماه بطنه حمايه تامه، فقد يتعرض للوم والتقريع والسخريه، لكن لا احد يقوي علي التعرض له بالضرب او القتل او الايذاء الظاهر، لانه مغطي بحمايه بطنه. 2 - اما من كان منتميا الي بطون قريش بالموالاه او العبيد او الاحابيش ممن اسلموا، فقد كانوا موضع النقمه ومحط الابتلاء لانهم بلا حمايه عشائريه ومن هولاء: ا - بلال بن رباح الحبشي الذي كان عبدا مملوكا لاميهبن خلف الجمحي [128] ، فقد عذبه اميه عذابا اليما فكان يضع الصخره العظيمه عليه في الرمضاء ولا يتحول بلال عن ايمانه [129] . ب - ياسر وسميه -زوجته- وعمار -ابنهما- حلفاء بني مخزوم ولم يتورع ابو جهل عن طعن سميه في قبلها، وعذب ياسرا وعمارا عذابا اليما فصمدوا فمنهم من قضي نحبه ومنهم من انتظر [130] . ج - خباب بن الارت وكان ابوه من السبايا فعذب ايضا عذابا اليما وثبت علي دينه [131] . د - الجاريه لبيبه جاريه بني مومل بن حبيب بن عدي، فقد انزل بها عمر بن الخطاب اشد انواع العذاب فكان لا يتوقف عنتعذيبها الا سامه [132] . ه - زنيره المراه التي عذبها عمر بن الخطاب حتي فقدت عينيها [133] هذه بعض نماذج الصفوه المومنه من المستضعفين، وبالاجمال فان المواجهه الحقيقيه كانت بين النبي محمد وآله من جهه، وبين بطون قريش من جهه اخري، لقد تامرت البطون علي الال -الكرام- فقاطعتهم وحدهم وحصرتهم في شعاب ابي طالب وحدهم، وذاقوا عذاب المقاطعه والحصار وحدهم [134] ، واشتركت بالحصار والمقاطعه كافه بطون قريش ال23 بما فيهم بنو تيم وبنو عدي وبنو اميه، ومن اسلم من هذه البطون كان خارج الحصار والمقاطعه تماما، وخارج نطاق المواجهه الحقيقيه، ولم يكن لهم دور يذكر لا بحمايه الدعوه، ولا بحمايه الداعيه، هذا هو السبب بانحصار اركان قياده المواجهه ببني هاشم وببني المطلب، وبثانويه الادوار التي قام بها المسلمون من بقيه البطون خلال مرحله الدعوه في مكه.
بينا ان رسولاللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) كان بالعقل والضروره ومنطق طبائع الامور، هو القائد العام لجبهه الايمان، خلال مرحلتي الدعوه الاسلاميه العلنيه التي استمرت عشر سنوات [135] ، ومرحله الدوله الاسلاميه التي استمرت عشر سنوات ايضا، وساعده بهذه القياده رجال امتحن اللّه قلوبهم للايمان، اعطوا ولم ياخذوا، وقدموا اضخم التضحيات وليس لهم هدف الا رضوانه تعالي، وقد عرضنا نماذج من اركان قياده جبهه الايمان الذين تشرفوا بالعمل تحت قياده النبي. واستكمالا للدائره ونزولا عند ضرورات البحث العلمي المجرد، يتوجب علينا بعد ذلك ان نبين من هو القائد العام لجبهه الشرك والعصيان الذي تولي كبر مجابهه النبي ومحاربته ومحاربه دينه بكل وسائل الحرب وفنونه طوال مرحلتي الدعوه والدوله، ومن هم اركان قيادته الذين وقفوا معه طوال عشرين عاما، حتي اذا ما احيط بهم وحصروا في جزيره الشرك، اسلموا كارهين ونحو بحربهم للنبي منحي جديدا يتمثل بفنون الكيد الحقود لمحمد ولال محمد ولدين محمد؟!! القائد العام لجبهه الشرك والعصيان: كان القائد العام لجبهه الشرك والعصيان خلال مرحلتي الدعوه والدوله، هو صخربن حرب بن اميه بن عبد شمس بن عبد مناف المكني بابي سفيان، وهو والد معاويه الذي ناصب امير المومنين العداء واجلب عليه طلاب الدنيا، وحاربه حربا لم تعهد البشريه اخلاقها، حتي غلب وقبض علي مقاليد الامور، واصبح فيما بعد خليفه للمسلمين، وهو الذي دبر عمليه قتل الامام الحسن بالسم [136] ، وهو الذي اوصي ابنه يزيدا ان يرسل مسلمه بن عقبه الي مدينه النبي، فيقتل اصحاب الخطر من الصحابه الكرام ويختم اعناق عامتهم [137] ، وهو جد يزيد بن معاويه قاتل الامام الحسين، ومبيد الذريه الطاهره في كربلاء [138] وهادم الكعبه المشرفه. ورث ابو سفيان الحسد لبني هاشم، والشغف بالتنافس معهم من ابيه حرب ومن جده اميه، فكان اميه يتشبه بهاشم ويحسده مكانته في قريش، فعيرته بطون قريش بذلك، فاعلن اميه انه اشرف من هاشم ونافره عمه هاشم الي كاهنه خزاعه، فقضت ان هاشما اشرف من اميه، وخسر اميه الرهان، وذبح مائه ناقه، وجلي عن مكه عشر سنين، فازداد حقده علي هاشم وبنيه واورث هذا الحقد والحسد والرغبه بمنافسه الهاشميين الي ذريته [139] . كان قصي يجمع شرف مكه، فكانت بيده السقايه والرفاده والحجابه والندوه واللواء والقياده، وبموته وموت عبدالدار صارت السقايه والرفاده والقياده لبني عبد مناف، والحجابه واللواء لبني عبد الدار. ثم صارت السقايه لعبد المطلب بن هاشم ومن بعده لابي طالب، والقياده لاميه ومن بعده لابنه حرب ومن بعده لابنه ابي سفيان، وكان يقود الناس في غزواتهم [140] . كان ابو سفيان تاجرا كثير التنقل والاسفار، وقد سمع ان نبيا سيبعث من آل عبد مناف، وقد اقنع نفسه انه ليس في بني عبد مناف من هو اجدر منه بالنبوه، فهو قائد قريش في غزواتها، وهو تاجر ميسور الحال، وهو سليل عبد مناف رمز عز قريش وفخارها، ومن حوله بنو اميه الاكثر مالا ونفيرا [141] . وانتشرت شائعات في مكه بان فتي عبد المطلب(محمد) يكلم من السماء [142] ، ويقول بانه نبي، ورفض ابو سفيان ان يصدق تلك الشائعات، وفوجيء ابو سفيان باعلان النبي لبشائر النبوه والرساله والكتاب، فجن جنونه، وسلم قياده نفسه لعناصر الحسد والحقد والتنافس والهوي، تعبث بها ذات اليمين وذات الشمال او تهوي بهافي مكان سحيق!! وشكا ابو سفيان لابن ابي الصلت سوء المقادير، وشعوره العميق بالهوان، وبنيات ثقيف تراه منقادا لغلام من بني عبد مناف(يعني النبي)، وحاول ابن ابي الصلت مشفقا ان يغير طريقه ابي سفيان بالتفكير، وان يعده لتقبل قدر محتوم فقال له:(كاني بك يا ابا سفيان ان خالفته قد ربطت كما يربط الجدي يوتي بك اليه فيحكم فيك بما يريد) [143] . ومن سوء طالع ابي سفيان ان بني هاشم كافرهم ومومنهم احتضنوا محمدا، واعلنوا ان بطون قريش اذا قتلت محمدا فان الهاشميين سيقاتلون حتي يفنوا هم والبطون القريشيه معا [144] ، وابعد من ذلك ان ابا طالب قال للنبي:(يا ابن اخي اذا اردت ان تدعو الي ربك فاعلمنا حتي نخرج معك بالسلاح) [145] . فثارت في نفس ابي سفيان لواعج التنافس، والحسد لبني هاشم والحقد عليهم، وراق لابي سفيان ان يعتبر قضيه النبوه موامره هاشميه علي الامويين عامه، وعلي ابي سفيان خاصه، وادرك ان سلاح النبوه لا مثيل له لتنفيذ هذه الموامره، فقال ابو سفيان والشعور بالاسي والاحباط والهزيمه يملا قلبه:(كنا وبني هاشم كفرسي رهان، كلما جاءوا بشيء جئنا بشيء مقابل، حتي جاء منهم من يدعي خبر السماء فاني ناتيهم بذلك)!!؟. [146] . هذه الخلفيات هيات ابا سفيان نفسيا ليكون احد ابرز ائمه الكفر الذين لا ايمان لهم. فابو سفيان هو قائد قريش في غزواتها كما كان ابوه وجده اميه وعبد شمس [147] ، وهو احد اشد المعادين للنبوه الهاشميه، وهو من اكبر تجار قريش واكثرهم ثراء، فكل الموهلات اللازمه لقياده جبهه الشرك متوفره فيه، فمن الطبيعي ان تقدمه بطون قريش ال23 ليقود جبهه الشرك، الرافضه للنبوه والرساله والكتاب وولايه العهد، وان يوجه القابلين بامرته التوجيه الذي يري انه كفيل باحباط مشاريع النبوه والرساله والكتاب وولايه العهد. فابو سفيان كان وراء وحده بطون قريش ال23 ضد محمد وضد البطن الهاشمي، فمن غير المعقول ان تتحد البطون في غياب قائدها ودون علمه، وهو وراء توحيد متناقضات الشرك لتكوين جبهه قويه تقف متحده ضد محمد وضد الهاشميين ومع ان ابا جهل كان يعارض بشده نفوذ بني عبد مناف بحجم معارضته للنبوه، وبالرغم من ان الامويين هم بطن من بطون عبد مناف، الا ان ابا سفيان لم يجد غضاضه من ان يتحالف مع ابي جهل، وحتي مع الشيطان ضد محمد وضد بني هاشم!! وابو سفيان هو رئيس وفد البطون الذي توجه الي ابي طالب، وطالبه امابكف ابن اخيه محمد عن بطون قريش، او ان يخلي بين محمد وبين البطون، وابو سفيان هو الذي حطم الوحده بين بني عبد مناف فاستهوي بني نوفل، وضمهم الي جبهه الشرك ليقفوا وجها لوجه ضد ابناء عمومتهم الهاشميين وبني المطلب، وابو سفيان كان وراء عمليات تعذيب المستضعفين من المسلمين، اذ من غير الممكن عقلا ان تتم عمليات التعذيب بدون علم القياده!! وابو سفيان هو مهندس عمليه الحصار والمقاطعه التي تفتقت عنها عقليه بطون قريش، ثم قررت حصار الهاشميين في شعب ابي طالب، ومقاطعتهم ثلاث سنوات حتي اضطروا ان ياكلوا ورق الشجر من الجوع، واضطر اطفالهم ان يحصوا الرمال من العطش [148] فمن غير المقبول بكل الموازين العقليه، ان تتخذ البطون القريشيه قرارا بهذه الخطوه بدون علم قائدها واركان قيادته. وكان ابو سفيان وراء استقبال الطائف لرسول اللّه ذلك الاستقبال السييء الذي اثر بنفس رسولاللّه تاثيرا عميقا، فهتف من اعماقه(اللهم اليك اشكو ضعف قوتي، وقله حيلتي، وهواني علي الناس، اللهم يا ارحم الراحمين انت رب المستضعفين، وانت الي من تكلني الي بعيد يتجهمني او الي عدو ملكته امري.... [149] وابو سفيان احد الذين خططوا لارسال وفد الي النجاشي مزودا بالهدايا، لرد المسلمين الذين هاجروا الي الحبشه حتي يتمكن وائمه الكفر في مكه من فتنتهم وردهم عن دينهم [150] . وابو سفيان هو احد المجتمعين علي الاقل في دار الندوه، والمتامرين علي قتل النبي ليله هجرته، وقد قرر المجتمعون ان يختاروا من كل بطن من بطون قريش رجالا ليضربوا النبي ضربه رجل واحد، فيقتلوه ويضيع دمه بين القبائل، ولا يقوي الهاشميون علي المطالبه بدمه [151] ، ولما نجي اللّه نبيه من موامره ائمه الكفر، لم يتوقف ابو سفيان لحظه واحده عن الكيد للنبي فقد استاجر الفين من احابيش بني كنانه ليقاتل بهم رسولاللّه [152] ، وهو الذي نحي العير وساحل بها وعلي اثرها حدثت معركه بدر، وكان ابو سفيان غائبا عن المعركه حيث كان يقود العير، فحلف انه لا يغتسل قبل ان يثار من محمد، فجاء المدينه وقتل رجلا من الانصار واجيرا واحرق ابياتا وتبنا، فلحقه الرسول في حمله السويق ومعه مائتا رجل، ولكنه لم يدرك ابا سفيان [153] . وحاول ابو سفيان ان يغتال رسولاللّه، فارسل ابو سفيان رجلا لهذه الغايه، ولكن اللّه نجي نبيه [154] . وابو سفيان وزوجته واولاده معاويه ويزيد، كانوا وراء معركه احد، فهم الذين حرضوا المشركين علي الانتقام من محمد وعلي ضروره حربه، وهم الذين رتبوا موامره قتل الحمزه عم النبي، وانفقوا الكثير من اموالهم للتجهيز لمعركه احد. فقد انفق ابو سفيان علي هذه المعركه اربعين اوقيه من الذهب، وكل اوقيه 42 مثقالا [155] ، وبعد انتصار المشركين نادي ابو سفيان علي مسمع النبي اعلي هبلر اعلي هبل، لنا العزي ولا عزي لكم، ولم يكتف وزوجته بالتامر علي قتل حمزه، بل قطعوا اذنيه وانفه واخذ يدق الرمح في شدق حمزه قائلا ذق يا عقق. [156] وابو سفيان كان وراء اكبر تجمع شهدته الجزيره العربيه، حيث جمع الاحزاب وغزا بهم رسولاللّه، وتحالف حتي مع اليهود طمعا باستئصال محمد علي حد تعبيره، وعندما اراد رسولاللّه ان يودي العمره، كان ابو سفيان علي راس الذين صدوا رسولاللّه عن المسجد الحرام، والهدي معكوفا ان يبلغ محله. ولم يرع ابو سفيان في عداوته للنبي حتي اخلاق الجاهليه، فبالرغم من غناه وثروته فقد عدا علي دور المهاجرين من بني جحشبن رئات وباعها من عمرو بن علقمه [157] . خلال المده التي تراس فيها ابو سفيان جبهه الشرك والعصيان رمي الاسلام، وبني الاسلام ومعتنقي الاسلام لكل منهم في كنانته، وحاربهم بكل وسائل الحرب، وقاومهم بكل فنون المقاومه. وفوجيء ابو سفيان يوما من الايام بجنود اللّه يحيطون بعاصمه الشرك، كما يحيط السوار بالمعصم، وكان خارج مكه ويلقاه العباس بن عبدالمطلب، ويقترح عليه العباس ان يذهب به الي رسولاللّه ليستامن له، ويوافق الرسول علي ان يومن ابا سفيان حتي الغداه [158] . وفي اليوم التالي اقتيد ابو سفيان الي رسولاللّه، كما يقاد الجدي تماما كما تنبا ابن ابي الصلت [159] . فخاطبه الرسول قائلا: ويحك يا ابا سفيان الم يان لك ان تعلم ان لا اله الا اللّه؟ فقال ابو سفيان بابي انت وامي ما احلمك واكرمك واوصلك، واللّه لقد ظننت ان لو كان مع اللّه اله غيره لقد اغني عني شيئا بعد. قال الرسول ويحك يا ابا سفيان الم يان لك ان تعلم اني رسولاللّه؟ قال ابو سفيان بابي انت وامي ما احلمك واكرمك واوصلك، اما هذه فان في النفس منها حتي الان شيئا [160] . وتدخل العباس لانقاذ ابي سفيان قائلا: ويحك اسلم واشهد انه لا اله الا اللّه، وان محمدا رسولاللّه قبل ان تضرب عنقك [161] ، وهكذا وحتي لا تضرب عنقه نطق بالشهادتين، وتعاملا مع التركيبه النفسيه لابي سفيان، وتسخيرا لموقعه القيادي لصالح الفتح، ونزعا لفتيل المقاومه بالاعلان الضمني عن استسلام ابي سفيان، امر النبي مناديا ينادي(من دخل دار ابي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن اغلق بابه فهو آمن) [162] . تلك هي الظروف التي اسلم بها ابو سفيان، اما طبيعه اسلامه، ومحبته لمحمد، واهل بيت محمد، ولبني هاشم فموضوع آخر، فقبل النبوه، كان ابو سفيان خاصه والامويون عامه يحسدون بني هاشم ويدمنون علي التنافس معهم، فما هي طبيعه مشاعر ابي سفيان والامويين بعد 19 عاما من المواجهه، وبعد ان قتل الهاشميون سادات بني اميه، وفيهم من اولاد ابي سفيان واخوال اولاده واجدادهم وبني عمومتهم، انها مشاعر الحقد الاسود الدفين، والتلفظ بالشهادتين وحده غير قادر علي محو هذه المشاعر السوداء بجره قلم من نفس ابي سفيان ونفوس اولاده ونفوس البيت الاموي عامه. وبان محمدا هو سيد الامه ووليها فمن الطبيعي ان لا يعلنوا ذكره الا بخير، ومع هذا فقد كانت مشاعر الحقد تتفلت من ابي سفيان، فقد راي الناس يتهافتون علي رسولاللّه يوما فقال ابو سفيان:(لو عاودت الجمع لهذا الرجل فضرب رسولاللّه في صدره ثم قال لابي سفيان: اذا يخزيكاللّه) [163] . ولقد مر يوما في خلافه عثمان علي قبر حمزه بن عبد المطلب، فداس عليه برجله، وقال:(يا ابا عماره ان الامر الذي اجتلدنا عليه بالسيف امسي في يد غلماننا اليوم يتلعبون به) [164] . وعندما آلت الامور الي عثمان، واصبح خليفه قال له ابو سفيان:(صارت اليك بعد تيم وعدي، فادرها كالكره، واجعل اوتادها بني اميه، فانما هو الملك، ولا ادري ما جنه ولا نار). [165] ودخل يوما علي عثمان بعدما ذهب بصره فقال: اها هنا احد فقالوا: لا فقال ابو سفيان:(اللهم اجعل الامر امر جاهليه والملك ملك غاصبيه واجعل اوتاد الارض لبني اميه) [166] . ورسول اللّه علي علم كامل بنفسيه ابي سفيان ونوازعه، وعن جديته في عداوته للاسلام ولنبي الاسلام، ولاهل بيت النبوه وعلي علم بطبيعه المشاعر الامويه نحوه، ونحو اهله ونحو الاسلام، وقد خبر هذه المشاعر السوداء وعجم عودها طوال 23 عاما من المواجهه النفسيه والقتاليه والكيديه، وبالرغم من ان رسولاللّه قد بسط سلطانه علي بلاد العرب، الا ان ابا سفيان لم يياس من النيل من رسولاللّه، فقد كمن له ومعه احدي عشر فردا لينفروا ناقته لعله يسقط عنها فيموت [167] . ومن الطبيعي جدا ان يلعنه رسولاللّه كوسيله لكشف حقيقته امام الامه، ولقد روي الامام الحسن عليه السلام ان رسولاللّه قد لعن ابا سفيان في سبع مواطن، وعد الامام الحسن هذه المواطن [168] ، ولعنه رسولاللّه في صلاه الصبح في الركعه الثانيه فقال: اللهم العن ابا سفيان وصفوان بن اميه.... [169] . قال الحلبي في روايه: صار صلي اللّه عليه وآله وسلم يقول:(اللهم العن فلانا وفلانا). [170] واخرج البخاري... انه سمع رسولاللّه حتي اذا رفع راسه من الركوع من الركعه الاخيره يقول اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعدما يقول سمع اللّه لمن حمده [171] . وقال السيوطي: واخرج احمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير والبيهقي من الدلائل ان رسولاللّه قال يوم احد:(اللهم العن ابا سفيان، والعن الحرثبن هشام، والعن سهيل بن عمرو والعن صفوان بن اميه)، ثم قال السيوطي: واخرجه الترمذي وصححه وابن جرير وابن ابي حاتم ان رسولاللّه كان يقول في صلاه الفجر:(اللهم العن فلانا وفلانا....) [172] ، واخرج نصر بن مزاحم عن البراءبن عازب قال: اقبل ابو سفيان ومعه معاويه فقال رسولاللّه:(اللهم العن التابع والمتبوع، اللهم عليك بالاقيعس) فقال ابن البراء لابيه: من الاقيعس؟ قال: معاويه [173] . واخرج ابن مزاحم قال: فنظر رسولاللّه الي ابي سفيان، وهو راكب ومعاويه واخوه احدهما قائد والاخر سائق، فلما نظر اليهم رسولاللّه قال:(اللهم العن القائد والسائق والراكب) قلنا انت سمعت رسول اللّه؟ قال: نعم والا فعمتا اذناي كما عميتا عيناي [174] . وشاعت حقيقه ابي سفيان وبنيه بين الناس، وعرفها العامه والخاصه، قال الامام علي في خطبه له يوم صفين:(... وخلاف معاويه اياي الذي لم يجعل اللّه له سابقه في الدين، ولا سلف صدق في الاسلام، طليق ابن طليق، وحزب من الاحزاب، لم يزل للّه ولرسوله وللمسلمين عدوا هو وابوه، حتي دخلا في الاسلام كارهين مكرهين [175] ، ومن خطبه ايضا خاطبا علي مقاتله معاويه:(سيروا الي بقيه الاحزاب قتله المهاجرين والانصار) [176] . وقال مره:(انما تقاتلون الطلقاء وابناء الطلقاء، واولي الجفاء، ومن اسلم كرها وكان لرسول اللّه انف الاسلام كله حربا، اعداء اللّه والسنه والقرآن واهل الاحزاب والبدع والاحداث، ومن كانت بوائقه تتقي، وكان علي الاسلام مخوفا) [177] . وخاطب الامام علي معاويه قائلا:(وانت ابن حزب من الاحزاب، وابن اعدي قريش لرسول اللّه ولكتابه) [178] . وقال الامام علي يوما لمعاويه:(منا النبي ومنكم المكذب) [179] ، وقوله:(قرات كتاب الفاجرين الفاجر) [180] ، وقوله:(يا ابن صخر يا ابن اللعين) [181] ، وقول عمر بن الخطاب:(ابو سفيان عدو اللّه، قد امكن اللّه منه بغير عهد ولا عقد، فدعني يا رسولاللّه اضرب عنقه) [182] ، وقول عمر:(ان ابا سفيان لقديم الظلم) [183] . قال الامام علي:(ليسوا باصحاب دين، ولا قرآن، اني اعرف بهم منكم حجتهم اطفالا وحجتهم رجالا، فكانوا شر اطفال وشر رجال) [184] ، كتب معاويه الي ابي ايوب الانصاري فاخبر بذلك عليا، وقال له:(يا امير المومنين ان معاويه كهف المنافقين كتب الي بكتاب) [185] . وكتب قيس بن سعد بن عباده امير الخزرج مخاطبا معاويه(فانما انت وثن بن وثن، دخلت في الاسلام كرها وخرجت منه طوعا، لم يقدم ايمانك ولم يحدث نفاقك) [186] . وكتب محمد بن ابي بكر الي معاويه(وانت اللعين ابن اللعين، ثم لم تزل انت وابوك تبغيان الغوائل لدين اللّه، وتجهدان علي اطفاء نور اللّه، وتجمعان علي ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتحالفان فيه القبائل، علي ذلك مات ابوك، وعلي ذلك خلفته، والشاهد عليك بذلك من ياوي ويلجا اليك من بقيه الاحزاب ورووس النفاق والشقاق لرسول اللّه)... [187] . وكتب له الامام السبط:(.. وانت ابن حزب من الاحزاب وابن اعدي قريش لرسول اللّه ولكتابه) [188] . ومن خطبه لابن عباس في صفين:(ان ابن آكله الاكباد قد وجد من طغام اهل الشام اعوانا علي علي بن ابي طالب) [189] . قال الحسن بن علي مخاطبا معاويه امام جمع من اصحابه:(انشدكم اللّه ايها الرهط اتعلمون ان الذي شتمتموه -يعني عليا- منذ اليوم صلي القبلتين كليهما وانت بهما كافر، تراها ضلاله وتعبد اللات والعزي غوايه؟، وانشدكم اللّه هل تعلمون انه بايع البيعتين كليهما بيعه الفتح وبيعه الرضوان، وانت يا معاويه باحداهما كافر وبالاخري ناكث؟ وانشدكم اللّه هل تعلمون انه اولي الناس ايمانا، وانك يا معاويه واباك من المولفه قلوبهم، تسرون الكفر، وتظهرون الاسلام، وتستمالون بالاموال؟ وانشدكم اللّه الستم تعلمون انه كان صاحب رايه رسولاللّه يوم بدر، وان رايه المشركين كانت مع معاويه ومع ابيه، ثم لقيكم يوم احد ويوم الاحزاب ومعه رايه رسولاللّه، ومعك ومع ابيك رايه الشرك، وفي كل ذلك يفتح اللّه له، ويفج حجته، وينصر دعوته، ويصدق حيثه، ورسول اللّه في تلك المواطن كلها عني راض وعليك وعلي ابيك؟ وانشدك اللّه يا معاويه اتذكر يوم جاء ابوك علي جمل احمر، وانت تسوقه واخوك عتبه هذا يقوده، فرآكم رسولاللّه فقال: اللهم العن الراكب والقائد والسائق؟، اتنسي يا معاويه الشعر الذي كتبته الي ابيك لما هم ان يسلم تنهاه عن ذلك؟يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا بعد الذين ببدر اجموا فرقاخالي وعمي وعم الام ثالثهم وحنظل الخير قد اهدي لنا الارقالا تركنن الي امر يكلفنا والراقصات به في مكه الخرقافالموت اهون من قول العداه له عاد ابن حرب عن العزي اذا فرقا واللّه لما اخفيت من امرك اكبر مما ابديت... الي ان قال: وانتم ايها الرهط نشرفكم اللّه الا تعلمون ان رسولاللّه لعن ابا سفيان لا تستطيعون ردها... [190] . بمعني ان خاصه المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون ان ابا سفيان هو قائد جبهه الشرك، وان اولاد ابي سفيان، وسادات بني اميه كانوا اركان قياده طوال فتره المواجهه علي صعيدي الدعوه والدوله الاسلاميه التي دامت 19 عاما، وانهم قد دخلوا في الاسلام مكرهين حرصا علي حياتهم، وفهمهم للاسلام، لم يكن قادرا علي ان ينزع من نفوسهم الحقد الدفين علي محمد وعلي آل محمد وعلي الاسلام، ورسول اللّه لم يومر بان يحاكم الناس علي النوايا، واكتفي ببيان حقيقه ابي سفيان واولاده واركان جبهه الشرك للمسلمين ليحذروا منهم فيما بعد. وقبل ان ينتقل الرسول الي جوار ربه، كانت بطون قريش وبقيه الاحزاب تتحرك بالخفاء وترتب اوراقها لتعديل الترتيبات الالهيه لمرحله ما بعد النبوه، بحيث تصرف الامر عن اهل بيت النبوه ويختص الهاشميون بالنبوه وحدها لا يشاركهم بها احد من البطون، وتختص البطون بالخلافه وحدها لا يشاركهم بها هاشمي، والطريقه المثلي لتحقيق ذلك هي: 1 - القبض علي مقاليد الامور بالقوه والتغلب والاغتصاب. 2 - رفع شعار القرآن وحده يكفي تمهيدا لاخراج النصوص النبويه من الصراع، ولاخراج النبي من التاثير علي سير الاحداث وهكذا كان، فما ان مرض النبي وادرك قاده البطون انه ميت من مرضه، حتي كشفوا عن حقيقه مخططهم، فما ان قال النبي قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا، حتي وقفت البطون وقفه رجل واحد، وقالوا للنبي نفسه لا حاجه لنا بكتابك حسبنا القرآن، انك مريض، وانك تهجر، وتمكنوا من الحيلوله بين النبي وبين كتابه ما اراد. وقد وثقت هذه الحقائق ونظرتها علميا في كتاب كامل يقع في 800 صفحه اسمه الخطط السياسيه لتوحيد الامه الاسلاميه، وفي كتابي نظريه عداله الصحابه كشفت حقيقه الموامره [191] . بهذا المناخ تالق نجم ابي سفيان وولده وبنو اميه، لان الموامره لن تنجح بغير استقطاب كل المعادين لمحمد ولاهل بيت محمد، وابو سفيان واولاده وبنو اميه علي قائمه المعادين فمن الطبيعي جدا ان تتم الاستعانه بهم، والاستفاده من خبراتهم في معاداه النبي واهل بيت النبوه، ولا باس من اعطائهم بعض المكاسب. عندما انتقل رسولاللّه الي الرفيق الاعلي، كان ابو سفيان يجمع الصدقات من بعض القبائل، فعاد ومعه الصدقات وعلم ابو سفيان ان ابا بكر بالتعاون مع عمر قد قبضا علي مقاليد السلطه عمليا، وهما في طريقهما لتصفيه المعارضه، فاراد ابو سفيان ان يحسن واقعه السياسي وان يحصل علي مكاسب سياسيه فقال:(اني لاري عجاجه لا يطفئها الا الدم يا آل عبد مناف، فيم ابو بكر من اموركم! اين الاذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الامر في اقل حي من قريش، ثم قال لعلي: ابسط يدك ابايعك فواللّه نصيحتك) (جلا) [192] فزجره علي -لانه ونظامه عن طريق علي مغلقه، وكانت السلطه متلهفه للتعاون مع ابي سفيان واولاده وبني اميه ومع اي شخص يواليها بما فيهم المنافقون. فقال عمر لابي بكر: ان هذا ابو سفيان قد قدم وهو فاعل شرا، وكان النبي يستالفه علي الاسلام فدع له ما بيده من الصدقات، ففعل ابو بكر، وترك لابي سفيان ما جمعه من الصدقات [193] . وزياده بتعميق ولاء البيت الاموي للنظام الجديد الذي قبض علي مقاليد الامور حتي قبل ان يدفن النبي، اقترح عمر علي ابي بكر ان يعين يزيد بن ابي سفيان قائدا للجيش الزاحف الي بلاد الشام، وان يعين معاويه ابن ابي سفيان نائبا لاخيه يزيد، ولان ابا سفيان كان غائبا، ولم يكن يدري ان الامويين قاطبه شركاء فعليين بالنظام الجديد، وان كافه بني اميه من انصاره، وانهم قد رتبوا الامور بالتعاون مع الخليفه ومع نائبه ترتيبا محكما بحيث يكون ابو بكر هو الخليفه الاول، وعمر هو الخليفه الثاني، وعثمان هو الخليفه الثالث، بدليل ان عثمان بن عفان كان اول زعيم من زعماء المهاجرين قد بايع بدون تردد، وتبعه الامويين قاطبه فبايعوا بيعه رجل واحد [194] ، وبدليل ان عثمان عندما كتب العهد لعمر قال:(اني قد وليت عليكم)، ثم اغمي عليه، فكتب عثمان: اني قد وليت عليكم عمر ولم آلكم خيرا ولما استفاق ابو بكر من اغماءته شكر لعثمان ذلك، وقال له: واللّه لو كتبت نفسك لكنت اهلا لها [195] . وكان عثمان يدعي بالرديف، والرديف بلسان العرب هو الرجل الذي ياتي بعد الرجل، وتقول العرب ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم [196] . وهذا كله لا يمكن ان يتم عفويا وبدون اتفاق مسبق، بين السلطه وبين الامويين، ولكن لان ابا سفيان كان غائبا، ولا يدري حقيقه الامر تصرف بهذه الطريقه، ولما وقف علي الحقيقه سعد وشكر السلطه، وعبر عن ذلك بقوله(وصلته رحم) وهكذا تاسست عمليا بذره الملك الاموي فيما بعد. واتحدت ثانيه بطون قريش ضد البطن الهاشمي، والفرق ان بطون قريش عندما اتحدت ضد النبي، وضد بني هاشم اتحدت وهي تعلن شركها، بينما اتحادها اليوم تم وهي تعلن اسلامها [197] . والخلاصه: ان ابا سفيان كان القائد العام لجبهه الشرك والعصيان، طوال فتره الدعوه النبويه التي استمرت 13 سنه منها ثلاث سنوات سريه وعشره علنيه، وكان هو القائد العام لجيش الشرك الذي حارب الرسول طوال 8 سنوات، ولما احيط به واسلم مكرها، لم يتوقف عن الكيد للنبي وآله، ولم يرتح للنتيجه الموقته التي آلت اليها اموره. اركان قياده جبهه الشرك: قلنا ان رسولاللّه -صلي اللّه عليه وآله وسلم- كان القائد العام لجبهه الايمان، وكان له اركان قياده يساعدونه بقياده جبهه الايمان وقد عرفناهم بالقدر اللازم لبحثنا. وتبين لنا ان ابا سفيان هو القائد العام لجبهه الشرك والعصيان، الذي ناصب رسولاللّه العداء طوال مرحلتي الدعوه الاسلاميه، وحاربه حربا حقيقيه طوال 4 - 5 سنوات، ولم يلق ابو سفيان سيفه حتي وجد نفسه محاصرا، فاستسلم واسلم لينجو بروحه، وبدا حربا ضد الاسلام ونبيه من نوع جديد. من هم اركان قياده جبهه الشرك؟: كان ابو سفيان هو القائد العام لجبهه الشرك، وكانت عنده هيئه اركان تساعده في قياده جبهه الشرك، وتتالف هيئه الاركان تلك من مجموعه من الشخصيات المشركه التي كان لها قدم راسخه بمعاداه الاسلام، ومحاربه نبيه طوال مده 18 عاما ولم تلق السلاح حتي استسلم قائدها ابو سفيان فاستسلمت معه، وابرز رجالات هيئه اركان الشرك هم: 1 - معاويه بن ابي سفيان، ويزيد بن ابي سفيان، وعتبه ابي سفيان، وحنظله بن ابي سفيان: وهم الحلقه الاولي من اركان قياده جبهه الشرك، وقفوا مع ابيهم وقفه رجل واحد طوال 18 عاما، وقاوموا رسولاللّه، وقاوموا دين الاسلام بكل وسائل المقاومه، وعندما حدثت الحرب حاربوا الرسول وحاربوا دينه بكل فنون الحرب، وبعد 18 عاما من المقاومه والعداء والحرب فوجيء القائد -بجبهه الشرك- ابو سفيان، وفوجيء اولاده بجند اللّه علي مشارف مكه، فانهارت معنويات ابي سفيان واستسلم واضطر مكرها ان ينطق بالشهادتين، فغضب اولاده ولامه معاويه، وشجعه علي عدم الاستسلام، وتعجب معاويه من ابيه كيف ينسي حنظله وينسي دمه الذي سفكه علي ابن ابي طالب في بدر [198] ، وكيف يدين بدين محمد، ونظم ذلك شعرا مثيرا، ولكن ابا سفيان، كان اعقل من اولاده وابعد نظرا، فقد ادرك انه لا طاقه له بجند اللّه، وادرك ان الحرب مع محمد ومع الاسلام حرب طويله، وليست محصوره باسلوب او باسلوبين، وان الدنيا اكبر من اهلها، فمضي قدما باستسلامه، ولم يعبا بتقريع معاويه له، واضطر اولاده للاستسلام، واضطروا للنطق بالشهادتين، فعصموا دماءهم. 2 - عتبه بن ربيعه، وهو جد معاويه، وشيبه بن ربيعه وهو خال معاويه، والوليد بن عتبه وهو ابن خال معاويه، والعاصبن سعيد، وعقبه بن معيط وقد قتلوا في بدر [199] . 3 - والحكم بن العاص بن اميه بن عبد شمس، وكان من اكثر الناس عداوه لرسولاللّه خلال مرحلتي الدعوه، واشدهم حربا للّه خلال مرحله الدوله، ثم صار طليقا من الطلقاء، ولم يتوقف عن عدائه لرسول اللّه ولا عن كيده له، فنفاه رسول اللّه، وبقي منفيا طوال فتره حياه الرسول المباركه في المدينه، فلما توفي النبي، راجع عثمان ابا بكر ليعيده، فرفض ابو بكر، ولما توفي ابو بكر راجع عثمان عمر ليعيده فرفض عمر، فلما تولي عثمان الخلافه اعاده معززا مكرما، واعطاه من بيت مال المسلمين ما حوله من الفقر المدقع الي الغني الفاحش [200] ، وكان الخليفه عثمان يحبه حبا شديدا بالرغم من كراهيه الحكم للرسول، وكراهيه الرسول له، وعندما مات الحكم اقام الخليفه عثمان علي قبره فسطاطا علي عاده اهل الجاهليه باظهار الحزن [201] . 4 - وكان ابنه مروان بن الحكم بن العاص من اركان قياده الشرك، وقد قربه عثمان، واعطاه ابنته، وجعله رئيسا لوزرائه، وكاتما لاسراره، واعطاه خمس غنائم افريقيا [202] واعطاه فدك بالوقت التي منعوها عن صاحبه الحق فيها وهي فاطمه الزهراء ابنه محمد [203] وكان من اسباب قتل الخليفه عثمان، فيما بعد [204] ، وهو الذي ساهم اعظم المساهمه بتكوين الملك، وصار فيما بعد خليفه المسلمين وملكهم، وصار اولاده من بعده خلفاء وملوك المسلمين، مع ان رسولاللّه قد لعنهم وحرم عليهم ان يسكنوا المدينه معه [205] . 5 - الحارث بن الحكم بن العاص بن اميه بن عبد شمس: وهو ابن عم الخليفه عثمان واخو مروان، ويكفيه تعريفا انه ابن الحكم، واخ مروان الذين لم يتوقفوا عن معاداه رسولاللّه قط لا في الجاهليه ولا في الاسلام، ولقد حوله الخليفه عثمان من فقير معدم الي غني مترف، واضفي عليه الشرف، فزوجه ابنته عائشه، واقطعه منطقه مهزوز(منطقه تصدق بها رسولاللّه علي المسلمين) واعطاه مائه الف من بيت المال دفعه واحده [206] . 6 - الوليد بن عقبه بن معيط: كان والده من اشد اعداء رسولاللّه خلال مرحله الدعوه، وقد قتل في بدر صبرا، واستمر ابنه الوليد في معاداه الاسلام، ومحاربه نبيه حتي اسلم كما اسلم غيره من الطلقاء، ونطق بالشهادتين، ومع هذا لم يتوقف يوما عن معاداه رسولاللّه ودينه، ومن حسن حظه انه كان اخ الخليفه عثمان لامه، فولاه عثمان ولايه الكوفه فيما بعد، وكان مشهورا فيما بعد بالزنا وشرب الخمر [207] ، صلي الصبح اربعا بدلامن اثنتين وهو سكران وقصته مشهوره، وكان يقول هو ساجد: اشرب واسقني [208] ، واضطر الخليفه عثمان ان يقيم الحد عليه [209] ، وقد لعب دورا بارزا في تاسيس الملك الاموي وتثبيته. 7 - عبد اللّه بن سعد بن ابي سرح العامري، كتب لرسول اللّه، وعرف الرسول ان الرجل خائن فطرده، فارتد عن الاسلام، واخذ يشيع بين اهل مكه، بانه كان يتلاعب بالقرآن، فانزل اللّه تعالي فيه: (ومن اظلم ممن افتري علي اللّه كذبا او قال اوحي الي ولم يوح اليه شيء ومن قال سانزل مثل ما انزل اللّه) [210] . وبعد اباح الرسول دمه ولو تعلق باستار الكعبه، ولكن عثمان استامن له من النبي فامنه النبي في النهايه [211] وهو ابن خاله عثمان [212] واخوه من الرضاعه [213] وقد لمع نجم الرجل في خلافه عثمان، فاعطاه عثمان جميع ما افاء اللّه عليه من فتح افريقيه كلها دون ان يشرك فيه احدا من المسلمين، ثم ولاه علي مصر بعد ان عزل عنها عمرو بن العاص [214] ، وهو كغيره من بني اميه من الطلقاء. 8 - عبد اللّه بن عامر بن كريز الاموي: وهو من المشهورين بعداوته للنبي، وهو طليق من الطلقاء، لكنه ابن خال عثمان وقد ولاه البصره، وعينه اميرا علي فتوحات الشرق فلمع نجمه، وصار سيدا من سادات بني اميه، الذين ساهموا باقامه الحكم الاموي وتثبيت اسسه، وزعزعه اركان الاسلام [215] . 9 - ومن اركان قياده الشرك ابو جهل المخزومي، الذي كان ينافس ابا سفيان علي قياده جبهه الشرك، ويشغل نفوذ بني عبد مناف تفكيره، وقد قتل في معركه بدر [216] ، ومن اركان قياده الشرك الوليد بن المغيره، وهو والد خالد بن الوليد واحد المستهزئين [217] ، وابنه خالد بن الوليد، وقد قاوم الوليد وابنه خالد الاسلام ونبي الاسلام بكل وسائل المقاومه خلال مرحله الدعوه، وبعد قيام الدوله الاسلاميه ونشوب معركه بدر، اشتعلت نيران الحقد في قلوب بني مخزوم علي محمد وعلي آل محمد نتيجه قتل سادات بني مخزوم، ولعب خالد فيما بعد دورا مميزا في معركه احد، وقلب موازين القوي لصالح المشركين، وكانت كراهيته لاهل بيت محمد ظاهره، لذلك حالف ابا بكر وعمر، وساهم مساهمه فعاله بقيام دولتيهما، وصرف الامر عن اهل بيت محمد، وكان مستعدا ان يحرق بيت فاطمه بنت محمد علي من فيه باعصاب هادئه، وهو يعلم ان فيه فاطمه بنت الرسول، وعلي ابن عم الرسول، والحسن والحسين ابناه، وصار فيما بعد قائدا عسكريا من اعظم القاده العسكريين لحكومتي ابي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، يفعل ما يشاء، وكان بامكانه ان يقتل اصحابه، وان يتزوج زوجه المقتول منهم بنفس يوم وفاه زوجها وبدون عده دون ان يتعرض لاي لوم، لدوره الكبير في تثبيت اركان تلك الحكومتين [218] ، وعندما قاد معاويه جبهه العصيان ضد الامام علي بن ابي طالب، وقف سادات بني مخزوم، وعلي راسهم اولاد خالد بن الوليد مع معاويه لا حبا بمعاويه، ولكن كراهيه لعلي ولبني هاشم، ولقد جزاهم معاويه بجزاء سنمار-فدس السم لابن خالد بن الوليد [219] . 10 - عمرو بن العاص بن وائل، كان ابوه شانئا لرسول اللّه، وقد نعته اللّه بالابتر، قال الرازي: ان العاصبن وائل كان يقول ان محمدا ابتر لا ابن له [220] وامه ليلي بغي من اشهر بغايا مكه، وارخصهن اجره، واقعها سته رجال، ولما حملت ووضعت اخذ كل منهم يزعم بان المولود ابنه، فاقرت بمواقعه السته لها، وقالت: الحقوا المولود باكثرهم شبهه به، فالحقوه بالعاص بن وائل [221] ، وعده الكلبي المتوفي سنه 206ه في كتابه مثالب العرب: ممن يدين بسفاح الجاهليه، وعده ابو عبيده المتوفي سنه 209ه في كتاب الانساب من الادعاء، واكد الزمخشري ذلك في كتابه ربيع الابرار [222] ، وكذلك الحلبي في سيرته [223] ، وابن عساكر في تاريخه [224] ، واعلن والده العاص عداءه لرسول اللّه ووقوفه ضده. تبني الابن عمرو مواقف ابيه، وتطرف بكراهيته لرسول اللّه، ولاهل بيته، ولبني هاشم. ولان عمرو ذكي وطموح، لمع كواحد من اركان قياده جبهه الشرك، فقاوم الرسول خلال مرحله الدعوه كلها، وكان احد مبعوثي بطون قريش الي النجاشي، لرد المهاجرين الي الحبشه، طمعا بفتنتهم عن دينهم، واختياره مبعوثا، دليل عمق ولائه لقضيه البطون، واشترك مع بطون قريش في كل المواقع التي حاربت تلك البطون فيها رسولاللّه، قال الحسن بن علي بن ابي طالب (عليهمالسلام) لعمرو بن العاص في حضور معاويه:(لقد قاتلت يا عمرو رسولاللّه في جميع المشاهد، وهجوته وآذيته في مكه، وكدته كيدك كله، وكنت من اشهر الناس له تكذيبا وعداوه، ثم خرجت تريد النجاشي مع اصحاب السفينه، لتاتي بجعفر واصحابه الي مكه، فلما اخطات ما رجوت، ورجعك اللّه خائبا، واكذبك واشيا، جعلت حسدك علي صاحبك عماره بن الوليد، فوشيت به الي النجاشي حسدا، لما ارتكب من حليلته، ففضحك اللّه وفضح صاحبك، فانت عدو بني هاشم في الجاهليه والاسلام، ثم انك تعلم وكل هولاء الرهط يعلمون انك هجوت رسولاللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بسبعين بيتا من الشعر فقال رسولاللّه:(اللهم اني لا اقول الشعر، ولا ينبغي لي فيه، اللهم العنه بكل حرف الف لعنه فعليك اذا من اللّه ما لا يحصي من للعن ويروي ان النجاشي قال لعمرو:(ويحك يا عمرو اطعني واتبع محمدا).. [225] ولكن عمر تردد، ورصد مصالحه، ثم ادرك بدهائه وذكائه ان كفه محمد قد رجحت، وان محمدا سيغلب بطون قريش، وتستسلم تلك البطون عاجلا ام آجلا، وشاور عمرو معاويه، وبين لمعاويه ان مصلحته تقتضي الالتحاق بمحمد، فقال له معاويه:(يا ابا عبد اللّه اني لاكره لك ان تتحدث العرب عنك انك انما دخلت في هذا الامر لغرض الدنيا).. [226] ولكن الرجل سار الي النبي ونطق بالشهادتين، وهو يحمل قناعات الشرك، وحسد البطون لبني هاشم، وآثارا نفسيه عميقه لثارات ودماء سالت. ومن الطبيعي ان النبي لا يحاسب علي النوايا، وانه سيقبل ظاهره ويكل باطنه للّه، وانه سيشجع توجهه نحو الاسلام، ويدخل النبي عاصمه الشرك، ويستسلم ابو سفيان وابناوه ومعاويه منهم، ويلتقي الصديقان في دائره الاسلام، ويخططان معا. قال زيد بن ارقم:(غزا رسولاللّه غزوه، ومعه معاويه، وعمرو، فرآهما مجتمعين، فنظر اليهما نظرا شديدا ثم رآهما في اليوم الثاني، واليوم الثالث، كل ذلك يديم النظر اليهما، فقال في اليوم الثالث: اذا رايتم معاويه وعمرو بن العاص مجتمعين، ففرقوا بينهما، فانهما لن يجتمعا علي خير) [227] . ولم يطل مقام النبي بعد نصر اللّه له والفتح، فمرض، واراد ان يلخص الموقف، فتصدي له عمر بن الخطاب كما يروي البخاري ومسلم وقال: عندنا كتاب اللّه، ولا حاجه لنا بكتاب آخر، وردد اعوانه من خلفه: القول ما قال عمر ان النبي يهجر(حاشا له)، ونجح عمر واتباعه بالحيلوله بين النبي، وبين كتابه ما اراد. [228] ومن المثير للدهشه حقا ان بني اميه قاطبه، وعمرو بن العاص، وكل الطلقاء كانوا مع عمر ومع ابي بكر، وضد بني هاشم، وضد الامام علي، ومع مبدا الحيلوله بين ان يجمع الهاشميون مع النبوه الخلافه، وهكذا اتحدت البطون مره ثانيه ضد محمد، وضد بني هاشم، ولكن هذه المره تحت مظله الاسلام. اما المره الاولي فقد اتحدت البطون ضد محمد وضد بني هاشم ولكن تحت مظله الشرك!!! وصار عمرو قائدا من قاده جيوش الخليفه، وتالق نجم الرجل، وتوطد سلطانه، وكثر ماله، وتربع علي ولايه مصر طوال عهدي ابي بكر وعمر، وجاء عثمان وعزله بعد فتره من بدء خلافته. وولي عبد اللّه بن ابي سرح مكانه، فنقم علي عثمان واخذ يحرض علي قتله، وبعد ان قتل عثمان وبويع الامام علي، ادرك ان نجمه آفل لا محاله، وبعد مشاورات بينه، وبين معاويه، وبعد مساومات انتهت بان تكون: مصر لعمرو بن العاص، والخلافه لمعاويه [229] ، ومضي الحليفان قدما، ونجحا بالخروج من الشرعيه، وبتفرق الخاصه وجهل العامه. لما رفعت المصاحف علي الرماح يوم صفين، قال علي عليه السلام:(عباد اللّه انا احق من اجاب الي كتاب اللّه، ولكن معاويه، وعمرو بن العاص، وابن ابي معيط، وحبيب بن مسلمه، وابن ابي سرح، ليسوا باصحاب دين، ولا قرآن، اني اعرف بهم منكم، صحبتهم اطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر اطفال، وشر رجال.. وما رفعوها الا خدعه ومكيده) [230] ، وبالايجاز كان عمرو بن العاص احد اركان قياده جبهه الشرك، واحد الذين اشربوا في قلوبهم حسد وكراهيه محمد وبني هاشم. وبعد الحرب الدمويه، اضافوا للحسد والكراهيه، الحقد الدفين لمحمد ولال محمد. وبعد ان رجحت كفه النبي، في صراعه المرير مع بطون قريش، واغلقت كل الابواب الا باب الاسلام، اظهروا الخير للنبي، وبقيت مشاعرهم نحو آل محمد كما هي. وقد صدق عمرو بن العاص عندما تمثل بهذا البيتوقد نبت المرعي علي دمن الثري وتبقي حزازات النفوس كما هيا
كتاب صفين لابن مزاحم ص،182والكامل للمبرد،1/181ومروج الذهب للمسعودي،2/57،59وشرح النهج لابن ابي الحديد 2/176.
بدات المواجهه الفعليه مع النبي وآله الاكرمين فور اعلانه -صلي اللّه عليه وآله وسلم- لبشائر النبوه، والرساله، والكتاب، وولايه العهد، وبالتحديد بعد ان انفض الاجتماع الذي عقد في بيت النبي بناء علي دعوه منه، والذي ضم بني هاشم، حيث اعلن النبي في هذا الاجتماع انباء النبوه والرساله والكتاب اعلانا خاصا لرهطه الاقربين، وحيث تم تعيين السيد الهاشمي علي بن ابي طالب وليا لعهد النبي، اماما ومرجعا من بعده [231] ، ولسريع ما شاعت وقائع هذا الاجتماع وانتشرت، وبعد ان احيط سكان مكه علما بوقائع هذا الاجتماع وتفصيلاته، انقسم المجتمع المكي الي قسمين متناقضين، او جبهتين متواجهتين: الجبهه الاولي: وتتالف من النبي والهاشميين وبني عبد المطلب، وهي الاقل عددا ويتزعمها النبي محمد وعلي بن ابي طالب ولي عهده وابن عمه، ومن ابرز اركان هذه الجبهه اطلاقا عبد مناف بن عبد المطلب المكني بابي طالب وهو عم الرسول وكافله [232] وجعفربن ابي طالب وهو ابن عم الرسول، وحمزه بن عبدالمطلب وهو عم الرسول ايضا. وكانت بطون قريش تعتبر الذين اسلموا جزءا من هذه الجبهه. الجبهه الثانيه: وتتالف من بطون قريش ال23 [233] بقياده البطن، الاموي ويتزعم هذه الجبهه رسميا صخر بن حرب بن اميه المكني بابي سفيان، ومن ابرز اركان قيادته اولاده معاويه ويزيد وحنظله وعتبه، وسادات بني اميه كعتبه، وشيبه، والحكم بن العاص، ومروان بن الحكم بن العاص، وعقبه بن معيط، والوليد بن عقبه، والعاصبن وائل، وابنه عمرو بن العاص، وابو جهل المخزومي، والوليد بن المغيره والد خالد بن الوليد، وسادات بطون قريش ال23 [234] ، وهذه الجبهه هي الاكثر عددا وهي التي استطاعت ان تستقطب عطف العرب، وان تقاوم النبي ودينه واهل بيته طوال مرحله الدعوه العلنيه التي استمرت عشر سنين في مكه، وجيشت الجيوش، وحاربت النبي واهل بيته ودينه بعد الهجره ثماني سنوات، حربا حقيقيه، وفي كل المواقع، ولم ترم البطون سلاحها الا بعد ان احيط بها، وحصرت في جزيره من الشرك، واغلقت بوجهها كل الابواب، ولم يبق امامها الا باب الاسلام فدخلته مكرهه.
مرت المواجهه بين هاتين الجبهتين بعده مراحل:
بدات هذه المرحله من اليوم الذي اعلن فيه النبي امام المجتمعين في منزله من بني هاشم انباء النبوه والرساله والكتاب، واختياره لولي عهده والامام من بعده، وامتدت الي اللحظه التي هاجر فيها رسول اللّه من مكه الي المدينه بعد نجاته من موامره البطون التي كانت تهدف لقتله قبل الهجره بقليل. ومده هذه المرحله عشر سنين، بمعني ان النبي عندما تلقي كلمه الوحي، كان يدعو الي ربه سرا من يغلب علي ظنه استجابتهم لدعوته، وكان اتباعه يمارسون عبادتهم سرا، واستمرت المرحله السريه ثلاث سنين، وسمع الملا من بطون قريش شائعات، مفادها ان فتي عبد المطلب يكلم من السماء، وانتشرت هذه الشائعات بين سكان مكه، ولكن السكان لم يقطعوا الشك باليقين حول صحه هذه الشائعات او عدم صحتها، الا بعد صعوده -صلي اللّه عليه وآله وسلم- علي الصفا واعلانه للنبا العظيم [235] ، وبعد ان انتشرت وقائع اجتماع الهاشميين في بيت النبي، واعلانه لبشائر النبوه والرساله والكتاب، واختياره علي بن ابي طالب وليا لعهده، هنالك بالذات، بدات المرحله الاولي من المواجهه، وهي مرحله الدعوه العلنيه في مكه والتي امتدت عشر سنين، مبتدئه بالاعلان عن النبا العظيم، ومنتهيه بنجاح النبي بالهجره من مكه الي المدينه [236] . وتتميز هذه المرحله بانها مواجهه مضغوطه، ونفسيه بطابعها العام، فقد فهمت بطون قريش ال23 جديه الموقف الهاشمي، وعزم الهاشميين علي حمايه النبي ودعوته، وان الهاشميين سيقاتلون حتي آخر رجل منهم اذا ما قامت البطون بقتل محمد [237] ، لذلك لجات البطون الي المفاوضات والاغراء [238] وحصار ومقاطعه بني هاشم لتحملهم علي التخلي عن محمد لتنفرد به وتقتله، وشنت علي النبي وعلي دينه حملات اعلاميه منظمه، واستغلت البطون نفوذها الادبي عند العرب وصدت عن سبيل اللّه، ونفرتهم من رسوله [239] ، وضيقت علي الذين اتبعوه من ابناء البطون، وعذبت من لا بطون لهم تحميهم عذابا اليما [240] ، وبذلت جهودها لارجاع الذين هاجروا الي الحبشه، لتفتنهم عن دينهم [241] ، وفكرت جديا بقتل النبي سابقا ولكنها تخلت عن فكره قتله امام جديه الموقف الهاشمي. [242] ولما ايقنت باسلام جزء من اهل يثرب، ومن عزم النبي علي الهجره، اتفقت بطون قريش علي اختيار عدد متساو من رجالات البطون ليشتركوا بقتل النبي، وليضربوه ضربه رجل واحد، فيضيع دمه بين البطون، ولا يقوي الهاشميون علي المطالبه بدمه، وشرعوا بالقتل فعلا ليله هجره النبي، ولكن اللّه نجي نبيه، وافشل مخططات وموامره البطون [243] ، وبهذه الهجره انتهت المرحله الاولي من المواجهه.
بدات هذه المرحله من اليوم الذي نجا فيه النبي من موامره القتل، ومن وصوله الي المدينه المنوره، وامتدت هذه المرحله حتي صلح الحديبيه [244] . وفي هذه المرحله قويت جبهه الايمان باسلام من اسلم من الانصار، وكثر عدد الداخلين في دين الاسلام، وتجمعت اكثريتهم في بقعه جغرافيه واحده، صارت بمثابه اقليم للدوله الاسلاميه، وهي المدينه المنوره، وصارت للمسلمين دوله حقيقيه تراسها رسول اللّه بنفسه، وتولت هذه الدوله تنظيم وقياده المواجهات العسكريه التي جرت بين جبهه الايمان، وبين جبهه الشرك، وسيرت الدوله الاسلاميه العديد من السرايا العسكريه التي لم تعهدها جزيره العرب من قبل، ودخلت الدوله الاسلاميه الفتيه بحروب طاحنه مع بطون قريش [245] ، وخلال هذه الفتره كانت البطون ترفض التفاوض مع النبي، وترفض الاعتراف بكيانه، وتستمر في حملاتها الاعلاميه الفاجره ضده وضد الاسلام، وتحاربه بكل وسائل الحرب، مستعمله نفوذها الادبي عند العرب لصدهم عن الاسلام ونبيه. وفي هذه المرحله ظهرت ظاهره النفاق، وتتمثل بالتظاهر بالاسلام، والقيام ظاهريا بكل ما يامر به الاسلام من صلاه وصيام وكلام، واخفاء الحقد علي النبي واهل بيته، والكفر بدينه، وتربص الفرص لنقض كلمه الاسلام من اصولها، واصبح المنافقون قوه رهيبه، ولكن فاعليتها كانت ملجومه بوجود النبي، وقبول المسلمين بقيادته وولايته، كانت مشكله النفاق من اكبر المشكلات، ومن المدهش انه بعد موت النبي، اختفت كلمه النفاق، وتبخر المنافقون وكانهم كانوا ينتظرون موت النبي ليصلحوا انفسهم قبل ان يرتد اليك طرفك!!! وعلي الرغم من ان مشكله النفاق والمنافقين كانت عصيه علي الحل، الا ان رسول اللّه قاد سفينه الاسلام بتلك الظروف بكفاءه لا مثيل لها. ومهما انشغل النبي، فلن ينشغل عن مكه، ففيها بيت اللّه الحرام، القاسم المشترك بين قبائل العرب، ومع هذا فان المشركين حولوا مكه الي عاصمه للشرك، وقاعده لجبهه الشرك، يتم فيها التدبير والتخطيط للصد عن سبيل اللّه، وقد اكتوت بطون قريش بنار الحرب، وتعرضت طرق تجارتها للخطر، وهي لا تفكر اطلاقا بالاعتراف بمحمد واتباعه، او بالتفاوض معه. فقرر صلي اللّه عليه وآله وسلم بعد رويا مباركه ان يودي العمره ومعه عدد من اصحابه، وفوجئت بطون قريش بقدوم النبي واصحابه، وفوجئت بقرار العمره، واصرت علي منع النبي من اداء العمره، ولكنها اضطرت ان تتفاوض معه لاول مره، وانتهت المفاوضات (بصلح الحديبيه)، ونتيجه هذه المعاهده اعترفت بطون قريش بمحمد وآله واتباعه، ولاول مره ككيان سياسي، يقف معها علي قدم المساواه، واعترفت بحق هذا الكيان باستقطاب ما يشاء، وبالتحالف مع من يشاء، ورفعت حصارها الادبي عن العرب، واعلنت ولاول مره بان لقبائل العرب الحريه باختيار التحالف معها، او مع خصمها محمد، وقد اعتبر صلح الحديبيه هو الفتح الحقيقي المبين لمكه، وبدايه لتحالف جبهه الشرك المكونه من بطون قريش ال23 بقياده البطن الاموي، بالاضافه لما استاجرت تلك البطون من الاحابيش، وتم صلح الحديبيه في السنه السادسه من الهجره النبويه [246] . وخلال هذه المرحله شهدت المواجهه الطويله بين محمد وآله، وبين بطون قريش حاله من الانفراج، واتيحت الفرصه للنبي لاقامه تحالفات مع بعض القبائل، وللدعوه السلميه المسلحه بالقوه والحجه الشرعيه والعقل والمنطق، وحوافز المصلحه العاجله والاجله. كما اقيمت له الفرصه للقضاء نهائيا علي الخطر اليهودي الذي لا يقل بشاعه عن خطر المشركين ففتح حصون خيبر [247] وغنم ما فيها، واصلح امور مجتمعه بما غنم، وسير بعض السرايا العسكريه الي القبائل المعانده والمتردده [248] ، واوجد حاله من التماس مع الغساسنه اتباع الاكاسره [249] ، ورتب الكثير من اموره الداخليه خلال فتره سريان معاهده الحديبيه.
بدات من فتح مكه بعد نقض معاهده الحديبيه في السنه الثامنه للهجره، واستمرت حتي مرض الرسول مرضه الذي مات منه. لم يرق طعم السلم لبطون قريش التي اتخذت من عداوه محمد وآله عقيده تدين بها، واكتشفت تلك البطون انها اوقعت نفسها بمطب قاتل، وعبدت الطريق امام من تعتبره عدوها وتصورت ان الامر لعبه، فنقضت تلك البطون معاهده الحديبيه [250] ، عندئذ وجد النبي ان الفرصه مواتيه والظروف مهياه، فعزم علي ان يفتح مكه، وان يعلن انهيار جبهه الشرك وهزيمتها الساحقه النهائيه، وان يجبر قائد هذه الجبهه واركان قيادته علي الاستسلام، ولتحقيق هذه الاهداف جهز الرسول عشره آلاف مقاتل، ورتب اموره ليفتح مكه، ويحقق الاهداف التي رسمها بدون اراقه دماء، وهكذا كان وبفتح مكه انهارت عمليا جبهه الشرك، وحذف هذا المصطلح من الخارطه السياسيه نهائيا، واستسلم قائدها العام ابو سفيان مع اركان قيادته اولاده: معاويه ويزيد وعتبه، وسادات بني اميه، وسادات البطون، وكان تصرف النبي مع المغلوبين، بحجم خلقه العظيم، فقال لقاده جبهه الشرك ولمن والاهم من سكان مكه: اذهبوا فانتم الطلقاء [251] ، والتصق نعت الطلقاء بهم، ولم يقووا علي التخلص منه حتي بعد ان نجح انقلابهم فيما بعد، وقبضوا علي مقاليد الامور بالقوه والتغلب، وصاروا رسميا قاده المسلمين بقوه السلاح!!! وبفتح مكه تغيرت الخارطه السياسيه كليا، واصبحت الدوله الاسلاميه هي القوه الحقيقيه الوحيده في بلاد العرب، وسمع كل العرب باستسلام قاده بطون قريش، وشعرت قبائل العرب انها صارت في حل من مجامله البطون، وانه ليس هنالك ما يحول بينهما، وبين ادراك مصالحها، من خلال استسلامها، او اسلامها بعد ان بهرتها العبقريه المحمديه، وتوصلت الي قناعه عقليه مفادها (ان آلهه العرب جميعا آلهه زائفه، وان الاله الحقيقي هو اله محمد، والاقرب ان محمد رسولاللّه، وان مصالحها تقتضي القرب من الرجل، وان تستسلم له او تسلم معه، فاتجهت اليه كل القلوب بقوه الانبهار، وحوافز البحث عن الحلم المفقود. واغتنم النبي الفرصه، واراد ان يصفي ما تبقي من اوكار الشرك، فاتجه الي حنين ومعه كثره كاثره من المسلمين سكري بزهو النصر، وفاجاهم عدوهم فولوا مدبرين، ولكن النبي واهل بيته ثبتوا، حتي استعادت جموع المسلمين روعها، فكرت بعد فر والحقت الهزيمه بعدوها [252] ، واتجهوا الي الطائف آخر معاقل الشرك، فتحصن بها اهلها فحاصرهم النبي، ثم قرر ان الطائف قد سقطت عمليا، وان اهلها اتوه يوما فتركها [253] ، وقسم الغنائم بين الناس، وعاد الي المدينه المنوره، يغمره السرور بنصر اللّه والفتح، وما ان استقر قليلا حتي بدات الوفود تتقاطر عليه، معلنه استسلامها او اسلامها علي يديه [254] ، وخلال تلك الفتره كان النبي يتفقد ما بقي من جيوب الشرك، ويرسل سراياه وبعوثه ورسله، لتطهيرها وهدايه اهلها. وارتاحت نفسه الشريفه وهو يري ان بلاد العرب قد توحدت، ولاول مره في التاريخ، وبكلفه بشريه لا تتجاوز اربعمائه قتيل، وبمده زمنيه لم تتجاوز تسع سنين واطمان قلبه الطاهر وهو يري دين الاسلام قد اصبح دينا لكل سكان بلاد العرب، وصرح علنا بان الشيطان قد يئس من ان يعبد في بلاد العرب. لقد اقلقت هذه الانجازات الهائله مضاجع قاده الدولتين الاعظم آنذاك خاصه الاباطره، واشيع بان الروم قد حشدوا جيشا كبيرا، فاستنفر رسولاللّه المسلمين، وجهز حمله كبري قوامها ثلاثين الف مقاتل معهم (15الف) بعير، وعشره آلاف فرس في ظروف صعبه، وسار بهذا الجيش قرابه 500 كيلومتر ووصل الي تبوك [255] ، واخضع دومه الجندل، ووطد سلطان الاسلام بهيبته، واحجم الروم عن ملاقاته بعد ان قذف اللّه في قلوبهم الرعب، وحققت الغزوه اهدافها النفسيه، فضلا عن الكم الهائل من العبر والاسرار، فقد جمعت غزوه تبوك الاخيار والاشرار، وثبت للاخيار بان الذين اجرموا يحقدون علي محمد وعلي آل محمد، وان النبي وآله لو فتحوا اقطار الدنيا، وملكوها للمجرمين، فلن يرضوا عن محمد وآل محمد، بالوقت الذي يتلفظ فيه اولئك المجرمون بالشهادتين ويدعون الاسلام!! واكبر دليل الايات القرآنيه النازله في غزوه تبوك والتي فضحتهم، وموامرتهم الدنيئه علي قتل النبي في طريق عودته من تبوك [256] ، والمثير للدهشه حقا، انهم بنفس الوقت الذي كانوا يعدون فيه موامره قتل النبي، كانوا يبنون مسجدا ويرجون من النبي ان يفتحه لهم تبركا به [257] . ولما قيل للنبي لم لا تقتلهم؟ قال الرسول: (اني اكره ان يقول الناس ان محمدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل اصحابه). فقيل: (يا رسولاللّه فهولاء ليسوا باصحاب) قال الرسول للسائل: (اليس يظهرون انه لا اله الا اللّه)؟ قال السائل: (بلي ولا شهاده لهم) قال النبي: (اليس يظهرون اني رسولاللّه؟) قال السائل: (بلي ولا شهاده لهم) ولم يستوعب السائل فقال النبي: (قد نهيت عن قتل اولئك) [258] . بمعني ان هذا الصنف من المسلمين يتلفظ بالشهادتين، ويمارس كل الاعمال الظاهريه التي تدل ظاهريا علي اسلامه، ولكنه بنواياه وبقلبه كافر بكل ذلك، ويخرج عن صلاحيه النبي ان يحاكم الناس علي نواياهم وما في قلوبهم!! ولكن النبي يكشف صفاتهم للمخلصين حتي يحذرهم -المسلمون- فلا يقعوا في احابيلهم ولا ينخدعوا بمظاهرهم، لانهم هم العدو الحقيقي. ولم يتوقف النبي في هذه المرحله عن ترسيخ العقائد، وبيان الطريقه المثلي، لكشف المنافقين وعزلهم، بعد ان اصبحوا خطرا حقيقيا يتهدد الاسلام ومستقبله، وفي هذه المرحله حج النبي حجه الوداع [259] ، وقال للناس: انها حجه الوداع، وانه لن يلقاهم ثانيه، وبعد انتهاء مراسم الحج وعوده الناس، جمعهم النبي في مكان يدعي: غدير-خم ليس في بلاد العرب مكان آخر يحمل هذا الاسم، واعلن امامهم ولايه الامام علي، وامارته علي المومنين، وتوجه بتاج الاماره، وطلب منالحاضرين ان يقدموا له التهاني بالاماره وهكذا كان [260] . وكان ابو بكر وعمر اول المهنئين [261] ، وما ان استقر قليلا حتي امر بتجهيز بعث اسامه، وكلف ابو بكر وعمر ان يلتحقا بالبعث ولعن من يتخلف عن بعث اسامه [262] . ثم مرض مرضه الذي مات منه، وهو علي فراش المرض اراد ان يلخص الموقف لامته ليجنبها شرور العواصف التي تتربص وتنتظر موت النبي حتي تنقض وتقتلع كل شيء من جذوره، فقال لمن حوله: قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا، وما ان سمع عمر كلام رسولاللّه حتي قال: (حسبنا كتاب اللّه) بمعني ان المسلمين ليسوا بحاجه الي كتاب رسولاللّه، لان القرآن عندهم، وما ان اتم عمر جوابه حتي قال رجال عمر بصوت واحد: القول ما قاله عمر. ولما ابدي بعض الحضور استغرابهم قال رجال عمر: ان النبي قد هجر -حاشا له- وقال عمر: ان النبي قد هجر، وهكذا حالوا بين الرسول، وبين كتابه ما اراد، وصعدت الروح الطاهره الي بارئها وانتهت تلك المرحله [263] .
وبدات منذ اللحظه التي حالوا فيها بين رسولاللّه وبين كتابه ما اراد وامتدت حتي قتل عثمانبن عفان الخليفه الثالث، ويبدو انه قد تم الاعداد الدقيق لصنع تاريخ هذه المرحله وبتروي اثناء حياه النبي، فقول النبي: (قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده)، لا يستدعي نفور عمر ورده الفوري: (لا حاجه لنا بالكتاب حسبنا كتاب اللّه)، ولما ابدي بعض الحاضرين دهشتهم من رد عمر، قال اتباع عمر: (القول ما قاله عمر)، وامام وجود اصوات تطالب بان تتاح الفرصه لرسولاللّه ليكتب ما يريد قال اتباع عمر بصوت واحد ان النبي يهجر واكثروا اللغط [264] ، ومن يجرو ان يقول في حضره النبي انه هجر غير عمر، فلو لم يقل عمر اولا بهجر النبي، لما تجرء الذين معه علي ترديد هذه الكلمه النابيه والقاسيه [265] ، وباختصار من غير الممكن عقلا ان تلد هذه المقدمه مثل هذه النتيجه، وان يكون هذا التوافق بين عمر والذين تضامنوا معه وليد لحظته!! والظاهره الثانيه ان كل بطون قريش ال23 وقفت وقفه رجل واحد، وشكلت جبهه واحده بمواجهه اهل بيت النبوه وبني هاشم، فمن غير الممكن عقلا ان تكون هذه الوقفه ثمره تصور آني!!! وانت تلاحظ ان هذه البطون قد وقفت مجتمعه ضد النبي وحاربته وحاربت دينه وحاربت الهاشميين بكل وسائل الحرب طوال 18عاما، حتي احيط بها فسلمت او استسلمت ونطقت بالشهادتين كارهه، واليوم تدعي هذه البطون بانها الاولي بالاماره، لان محمدا من قريش!! اما رهطه بني هاشم الذين حاربوا ووقفوا معه طوال حياته والذين قاطعتهم هذه البطون نفسها، وحاصرتهم بسبب موالاتهم لمحمد، فليس لهم من الامر شيء [266] . والمدهش ان كل المنافقين وقفوا مع بطون قريش وقفه رجل واحد، وصاروا بقدره قادر من المومنين، وكانهم كانوا ينتظرون موت النبي حتي يهتدوا بيوم وفاته!! وقبضت البطون علي مقاليد الامور، ووقع الخلاف بين الانصار، واكتشفوا بانهم امام تجمع قبض علي مقاليد الامور، وتحول الي سلطه حقيقيه، فسلموا لينجوا بانفسهم وليحافظوا علي حياتهم ومصالحهم، ومن يعارض فالموت الزووم ينتظره!! فلن يكون احد بعد النبي بوزن الامام علي، فهو الولي بالنص، وهو الخليفه بالنص كما بينا وسنري ومع هذا هدد بالقتل ان لم يبايع [267] ، ولن يكون احد اعظم حرمه، واقرب للنبي من سيده نساء العالمين فاطمه وابنيها سيدا شباب اهل الجنه، وريحانتي النبي في هذه الامه، ومع هذا وضع الحطب حول منزلهم وهددوا باحراق البيت عليهم وهم احياء ان لم يخرج نفر ممن لم يبايعوا. [268] كان ذلك في اليوم الثاني لوفاه النبي!! فكان الامر ملخصا للناس (اما الموت او المبايعه والرضا بالامر الواقع، فاختار الناس المبايعه والقبول بالامر الواقع. ومن جهه ثانيه فان الذين قبضوا علي مقاليد الامور، وصاروا سلطه، قبضوا في الوقت نفسه علي موارد الارزاق ومنابع الثروه، وعلي قرار الجاه والنفوذ، فمن لم يبايع يحيا ذليلا ويموت جوعا، فصارت البيعه طريق خلاص، ومسلك حياه. ووجد اهل بيت النبوه انفسهم وجها لوجه امام سلطه جمعت رغبه ورهبه، من خلفها امه تقف بمواجهتهم، فصار اهل بيت النبوه والقله ممن والاهم في جهه، وصارت السلطه وجميع اوليائها في جهه اخري. ومع هذا قاوم اهل بيت النبوه، واقاموا الحجه علي خصومهم [269] ، واعترف عدوهم بشرعيه حجتهم ومنطقيتها وعقلانيتها [270] وطاف الامام وزوجته وولداه علي بيوت الانصار يسالون النصره، فاحتج الانصار بوقوع البيعه وتمنوا لو سبق الامام اليهم [271] . امام هذه المقاومه الضاريه اصدرت السلطه الحاكمه سلسله من القرارات الاقتصاديه، قصمت فيها ظهر اهل بيت النبوه وهي: 1- قرار حرمان اهل بيت النبوه من ميراث النبي [272] . 2- قرار حرمان اهل بيت النبوه من منح النبي لهم ومصادره هذه المنح [273] . 3- قرار حرمان اهل بيت النبوه من حقهم في الخمس الوارد في القرآن الكريم باي محكمه [274] . 4- الزمت السلطه نفسها باعاله اهل بيت النبوه. [275] وكانت هذه القرارات الاليمه حاله فريده في تاريخ المواجهه، ففي اقسي مرحله من مراحل المواجهه، قررت بطون قريش ان تحاصر النبي واهله بني هاشم في شعب ابي طالب، وان تقاطعهم فلا تبيع منهم ولا تشتري ولا تنكح منهم ولا تنكحهم، لكن بطون قريش المشركه آنذاك لم تتعرض لممتلكاتهم واموالهم، ولم تتدخل في موضوع اعالتهم [276] ، والفرق بين الحالتين ان بطون قريش كانت علي الشرك عندما اتخذت قرارات المقاطعه والحصار، وبطون قريش وموسسوا هذه المرحله كانوا علي الاسلام عندما اتخذوا قراراتهم الاقتصاديه بحق اهل بيت النبوه!!! واحتج اهل البيت، فتلطفت السلطه، وسمعت ظلامتهم، ولكنها اصرت، فاستسلم اهل بيت النبوه، حفاظا علي شوكه الاسلام، ولكنهم لم يتركوا فرصه دون الاحتجاج بالنصوص الشرعيه التي اعطتهم مركز القياده، وبينت ان الهدي لا يدرك الا بالقرآن وبهم، وان الضلاله لا تتجنب الا بالقرآن وبهم [277] . وادركت السلطه خطوره سلاح الاحتجاج بالنصوص الشرعيه، خاصه السنه النبويه بفروعها الثلاثه: القول، والفعل، والتقرير، لذلك منعت كتابه وروايه احاديث رسولاللّه [278] ، وقالت: ان القرآن وحده يكفي [279] ، وعممت بانه لا ينبغي الركون الي كل ما قاله رسولاللّه، فرسولاللّه بشر يتكلم بالغضب والرضي [280] ، والسلطه هي الاعلم بالحاله النفسيه التي صدر فيها القول عن رسولاللّه!! هل هو في الغضب فتهمله او بالرضي فتعمل به!! ولتحقيق هذه الغايه اضطرت السلطه ان تستعين بالجميع بما فيهم المنافقين واعداء اللّه الذين يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر والعصيان، لتكون الامه كلها في جهه، واهل بيت النبي في الجهه المواجهه لها!! فتظهره كانهم قد خرجوا عن الجماعه، وشقوا عصا الطاعه!! واكتشفت السلطه ان رسولاللّه قد لعن اعداء اللّه، وكشف حقيقتهم، وتعذر علي السلطه ان تلغي نصوص اللعن، وتعذر عليها ان تستغني عن اعداء اللّه ورسوله ليكون الحشد كاملا بمواجهه اهل البيت، فاشاعت بين الناس ان رسولاللّه كان يتكلم بالغضب والرضي فلا ينبغي ان يعمل كلامه [281] ، وللتغطيه علي الذين لعنهم رسولاللّه وكشف عداواتهم للّه ولرسوله، وهم الذين استعانت بهم السلطه وبواتهم ارفع المناصب -اشاعت السلطه بكل وسائل اعلانها ان الرسول كان يغضب ويفقد السيطره علي نفسه، فيسب ويشتم ويلعن ويسييء لمن لا يستحق ذلك- فدعا اللّه تعالي ان يجعل كل ذلك زكاه وطهورا لمن صدرت منه هذه الاساءات بحقهم!! [282] وبهذا التاويل المرعب علي صاحب الخلق العظيم، صار ابو سفيان ومعاويه ابنه وسادات بني اميه الذين حاربوا النبي واهل بيته طوال 18عاما زاكين مطهرين [283] ، وصار الحكمبن العاص وابنه مروان، وذريتهم وهم الذين لعنهم رسولاللّه، وحرم عليهم ان يساكنوه، صاروا بجره قلم، زكاه، طاهره نفوسهم، وبحكم هذا التاويل صاروا فيما بعد خلفاء وقاده للمسلمين [284] . وطمعا بتاليف القلوب حول السلطه، ولضمان وحدتهم بمواجهه مطالب اهل بيت النبوه اخذ قاده هذه المرحله ينفقون اموال بيت المسلمين كيفما اتفق، وبما يحقق غاياتهم، فوزعوا العطايا حسب منازل الناس عندهم، ووفق معاييرهم [285] ، والغوا سنه المساواه بتوزيع العطايا التي اوجدها رسولاللّه [286] ، وعندما قيل ان رسولاللّه قد وزع بالتساوي فلم تميزون؟ قالوا: رسولاللّه مجتهد، والخليفه مجتهد، فمن حق المجتهد ان لا ياخذ باجتهاد مجتهد آخر. [287] وهكذا نشات في هذه المرحله الطبقات، ووجد الغني الفاحش بجانب الفقر المدقع، وعاش اصحاب الملايين جنبا الي جنب مع مئات الالوف الذين كانوا يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء، ويطوون الليالي جياعا هم وذرياتهم [288] ، ثم جيشوا الجيوش، وخرجوا لحرب العالم، ونشر دين الاسلام وتطبيق شرعيته ونشر عدالته بين الناس. وخلعت وسائل الاعلام التي تملكها السلطه علي موسسي هذه المرحله اثواب القداسه والعصمه، فصار عملهم وقولهم وتقريرهم سنه واجبه الاتباع تقرا مع ما تبقي من سنه الرسول، وصار لكل واحد من هولاء الموسسين سنه، واذا تعارضت سنه الموسسين مع سنه الرسول، تترك سنه الرسول ويعمل بسنه الموسسين من باب الاجتهاد [289] وتحت شعار تغير الاحكام بتغير الزمان [290] . فعلي سبيل المثال: اقنعت وسائل اعلام دوله الموسسين العامه: بان رسول قد خلي علي الناس امرهم، ولم يعين خليفه من بعده ليختار الناس لانفسهم [291] ، فكان الاولي بخليفه النبي ان يخلي علي الناس امرهم اقتداء برسولاللّه ولكن سن الموسسون سنه خلاصتها ان الخليفه ينبغي ان يعين الخليفه الذي ياتي بعده وذلك لعده اسباب: اولا: الخليفه ينظر للناس حال حياته، وتبع ذلك ان ينظر لهم بعد وفاته، فمن هنا صار من حق الخليفه القائم ان يعين من يخلفه (يعهد اليه) [292] علي حد تعابير ابن خلدون. ثانيا: حتي لا تترك امه محمد هملا بلا راع علي حد تعبير ام المومنين عائشه [293] او كالظان علي حد تعبير معاويه [294] او خروجا من اللوم علي حد تعبير عبداللّهبن عمر [295] وهكذا صار العهد سنه واقتنع العامه ان رسولاللّه لم يسنها انما سنها الخلفاء الراشدون [296] . ومثال آخر: ان الرسول كان يوزع العطايا بين الناس بالتساوي لان حاجات البشر الضروريه متشابهه فكل واحد من ابناء البشر بحاجه لماكل ومشرب وملبس ومركب ومنزل وزوجه وذريه... الخ. فجاء الموسسون لهذه المرحله وقالوا ان هذه السنه ليست مناسبه، وان الافضل اعطاء الناس علي حسب منازلهم، واخترعوا موازين لتلك المنازل [297] . مثال ثالث: ان اللّه قد جمع لال محمد النبوه والملك كما جمعها لال ابراهيم وجعل الصلاه علي آلمحمد جزءا من الصلوات المفروضه علي العباد [298] ، وارشد الخلق بان الهدي لا يدرك الا بالقرآن وباهل بيت محمد، وان الضلاله لا يمكن تجنبها الا بالاثنين معا كما هو ثابت بحديث الثقلين [299] . وجاء الموسسون فقالوا: انه ليس من العدل ان ياخذ آلمحمد النبوه والملك، وان تحرم بقيه البطون من هذين الشرفين معا، والافضل برايهم ان ياخذ الهاشميون النبوه لا يشاركهم فيها احد من بطون قريش، وان تاخذ بقيه بطون قريش الملك او الخلافه لا يشاركهم فيها هاشمي قط [300] واقتنع العامه ان هذا الترتيب هو الاول بالاعمال. وكضربه نهائيه وفنيه وللوقوف امام حديث الثقلين الذي نقلته الامه بالتواتر، ولابقاء حاله المواجهه بين الامه، وبين اهل بيت النبوه وجد مصطلح العشره المبشرين في الجنه، ومصطلح النفر الذي مات رسولاللّه وهو عنهم راض [301] ، ولما مات هولاء وجد مصطلح الصحابه العدول [302] ، والعداله تشبه العصمه [303] ، واشاعوا ان كل من راي النبي او سمعه ونطق بالشهادتين فهو صحابي معصوم من سبه او شتمه او نقده فهو زنديق لا تجوز الصلاه عليه، ولا يجوز دفنه في مقابر المسلمين [304] وبعد موت الصحابه صار التابعون بمواجهه اهل البيت!! وبعد موت التابعين صار علماء المسلمين بمواجهه اهل البيت، وبهذه التدابير الذكيه الغوا عمليا مفاعيل حديث الثقلين، وصار وجود اهل البيت للتبرك ان لزموا الصمت، واعرضوا عن السياسه اما ان لوحوا بحقهم بقياده الامه، فهم باحثون عن الفتنه التي حرمها اللّه ودمهم حلال للحاكم الغالب. وهكذا تم عمليا في هذه المرحله وضع كافه الاسس التي نسفت النظام السياسي الاسلامي برمته، وتكون علي انقاضه نظام سياسي بديل، مولف من اجتهادات الموسسين، وسوابقهم الدستوريه، والاعراف التي اوجدوها، ومن تنظيرات شيعتهم التي جعلت الموالاه لهولاء الموسسين الكرام، جزءا لا يتجزء من الموالاه للّه تعالي. موسسوا هذه المرحله: يدين نظام الخلافه التاريخي الذي نشا بعيد وفاه النبي واستمر بصوره مختلفه حتي سقوط آخر سلاطين بني عثمان بوجوده وتنظيراته المختلفه الي مجموعه من الرجال الموسسين العظام الذين ابلوا اعظم البلاء حتي اخرجوه بهذه الصيغه التي عرفناها واعظم اولئك الموسسين هم: 1- عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: الخليفه الراشد الثاني فهو الذي قاد مرحله التاسيس وتحمل اعباءها كامله فلولاه لما وجد نظام الخلافه التاريخي بصورته المعروفه، ولتغير وجه التاريخ الاسلامي تماما ولنحا منحي آخر فهو الذي تصدي للنبي وهو علي فراش الموت حيث قال لمن حوله: (قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا) عندئذ تصدي له عمر وقال: لا حاجه لنا بالكتاب، حسبنا كتاب اللّه [305] ، وهو الذي حشد اعوانه لهذه المواجهه فما ان قال عمر: حسبنا كتاب اللّه حتي ردد اعوانه من خلفه: (القول ما قال عمر)، فوجد النبي نفسه امام تكتل حقيقي وقد فهم النبي ذلك. ولما استغرب بعض الحاضرين هذا التصرف، وقالوا قربوا يكتب لكم رسولاللّه!! قال عمر (رضي اللّه عنه): ان النبي يهجر [306] فردد اعوانه من خلفه استفهموه؟ انه يهجر وكثر اللغط والاختلاف [307] وفهم النبي مغزي المعارضه وادرك ان كتابه الكتاب بهذا المناخ لم تعد مجديه، فقال: (قوموا عني) [308] وهكذا نجح عمر وبتكتله بالحيلوله بين النبي وبين كتابه ما اراد، فضاعت الي الابد فرصه تلخيص النبي للموقف.. وفيما بعد اعترف عمر ببعض الاسباب التي دفعته وحز به لهذا التصرف الرهيب [309] ، فليس في الدنيا احد يجرا علي مواجهه النبي بهذه الصوره المرعبه غير عمر، وهكذا انكشفت هيبه الشرعيه، وهتك سترها في حضره النبي نفسه، وانفتح امام الطلقاء باب الجراه علي انتهاك الشرعيه، وفك عراها عروه بعد عروه وباعصاب هادئه. وعمر نفسه الذي انبا الناس عما سمي فيما بعد باجتماع الانصار في السقيفه [310] ، وهو الذي قاد ابو بكر، وابا عبيدهبن الجراح الي ذلك المكان، واستطاع بعبقريته ان يحوله من مجرد تجمع عند مريض وهو سعدبن عباده، وعواده الي اجتماع سياسي [311] ، ثم حوله الي هيئه عامه تبايع الخليفه [312] ، وهو الذي حشر اعوانه ورتبهم وحولهم الي جيش يزف الخليفه زفا ليواجه آلمحمد بامر واقع [313] ، ورتب قسما من اعوانه ليستقبلوا الخليفه الجديد بالترحابويقبلوا علي بيعته [314] .فقد جمع عمر بطون قريش حول هذا الهدف، ونظر مبدا النبوه لبني هاشم، والخلافه للبطون [315] هدد الامام علي بالقتل ان لم يبايع [316] ، وجمع الحطب واعوانه ليحرق بيت فاطمه علي من فيه وفيه سيده نساء العالمين وسيدا شباب اهل الجنه الحسن والحسين. [317] كان وراء القرارات الاقتصاديه التي اتخذتها السلطه لتركيع اهل بيت محمد [318] وهو الذي عين ابا بكر اول خليفه، وليتحمل ظاهريا مسووليه مواجهه اهل بيت النبوه ولو شاء عمر لكان هو الخليفه الاول [319] وكان وراء وحده بطون قريش حول النظام الجديد ووراء تعيين يزيدبن ابي سفيان قائدا لجيش الشام ومعاويه خليفه ليزيد، وهو الذي مكن لمعاويه في الارض،واعده ليكون الحارس الاحتياطي للترتيبات الجديده [320] .ولما مات ابو بكر رضي اللّه عنه عهد بالخلافه لعمر، فورث دوله مستقره، واوجد كافه الترتيبات الضروريه للنظام الذياراد [321] .ولما طعن عمر، وجلس علي فراش الموت كما جلس رسولاللّه اوصي، وهو بهذه الحاله، بان الخليفه من بعده احد سته مات الرسول وهو راض عنهم [322] ، وعمليا عهد بالخلافه لعثمان، لان عثمان موضع ثقه ابي بكر وعمر والثلاثه حلف واحد، ولا فرق بينهم فلو كتب عثمان لابي بكر: ان قد وليت عليكم عثمان، لما اعترض ابو بكر [323] ، ولان عثمان كان يعرف بالرديف اي الرجل الذي ياتي بعد الرجل وليس في الدنيا من هو احب الي الخليفتين من عثمان [324] ، فهو عميد بني اميه المعروفه بقوتها وحاجه النظام لها، والمعروفه بعداوتها لبني هاشم [325] ، ولكن الاعلان عن السته هو من باب رسم مدي الصراع مستقبلا، فعندما ينادي اهل البيت بحقهم بالقياده في غياب عمر يتصدي لهم خمسه يمثلون بطون قريش، ويحولون بينهم وبين تحقيق حلمهم بالجمع بين النبوه والخلافه [326] عندئذ تطمئن روح عمر الطاهرهويومن الناس ضد اجحاف بني هاشم [327] .وهكذا عهد عمر بالخلافه عمليا لعثمان بن عفان رضي اللّه عنه [328] ، وبمده يسيره استطاع عثمان ان يجمع حوله كل اعداء رسولاللّه، فعمه الحكمبن العاص (طريد رسولاللّه) اعاده الي المدينه معززا مكرما، واعطاه مائه الف [329] ، واتخذ ابنه مروان رئيسا لوزرائه، وزوج ابنته لابنه الاخر [330] ، ولما مات عدو اللّه الحكمبن العاص ضرب عثمان فسطاطا علي قبره امعانا بحزنه عليه. واتخذ عبداللّهبن ابي سرح وزيرا له، وولاه مصر اعظم ولايات الدوله مع ان الرسول قد اباح دم عبداللّهبن ابي سرح ولو تعلق باستار الكعبه، حيث ارتد عن دينه، وافتري علي اللّه الكذب، ونزلت فيه آيه: (ومن اظلم ممن افتري علي اللّه الكذب) [331] ووسع ولايه معاويه واطلق يده، وقد لعن رسولاللّه معاويه ولعن اباه واخاه [332] واتخذ الوليدبن عقبه بن معيط العدو اللدود لرسولاللّه وزيرا وهو الفاسق بنص القرآن [333] وقرب الامويين ومن والاهم واغدق عليهم من العطايا ما يفوق التصور والتصديق، حتي صاروا طبقه متميزه بجاهها ومالها [334] وصارت مقاليد الامور في ايديهم عمليا وليس لعثمان من الخلافه غير الاسم [335] وصارت الدوله امويه بما للكلمه من معني، فلا تجد مصرا الا وواليه امويا او موالي لبني اميه، وضج الناس وثاروا علي عثمانوقتلوه [336] .
وبدات هذه المرحله بعد قتل عثمان وتولي الامام علي بعد ان بايعه المهاجرون والانصار، ودانت له بلاد الاسلام الا ان معاويه ابن ابي سفيان والي بلاد الشام رفض مبايعه الامام علي، وادعي انه مخول بالمطالبه بدم عثمان الاموي، ولكن السبب الحقيقي هو طلب الملك، واعمالا للمبدا الذي اوجده الموسسون بعدم جواز جمع الهاشميين للنبوه والملك. [337] ووقف معه كل الطلقاء، وجمع حوله كل قوي النفاق وطلاب الدنيا، وسخر موارد بلاد الشام التي ادخرها طوال عشرين عاما لهذه الغايه. روع معاويه الناس، وخرج علي الامام وحاربه ونشر الارهاب [338] وبعد مقتل الامام علي بويع الحسن، وبغدر قاده جيشه به [339] وبتخلي وجوه العراق عنه، ولقله الناصر [340] ، وابقاء علي ما تبقي من الصحابه، وحقنا للدماء تنازل الحسن لمعاويه علي ان تعود الخلافه بعد موته شوري او تعود للحسن [341] ، الا ان معاويه دس السم للامام الحسن، ونقل الملك لابنه يزيد حتي لا تبقي امه محمد كالظان علي حد تعبيره [342] ويزيد فاسق جاهر بكفره، استباح مدينه الرسول وقتل فيها عشره آلاف شخص بيوم واحد هو يوم (الحره) [343] ، وختم اعناق وايدي ما تبقي من الصحابه امعانا باذلالهم، وارسل جيشا كبيرا لملاقاه الامام الحسين في كربلاء مع ان عدد من كان مع الحسين لا يتجاوز 73-رجلا، الا انه امر بقتل الحسين، وبقتل شباب الذريه المباركه، وهندس مجزره كربلاء، واباد اهل بيت النبوه، ولم ينج منهم الا غلام مريض، واخذ نساء اهل البيت سبايا حفايا. [344] وعندما وضعت بين يديه رووس الضحايا اعلن بصراحه انه ينتقم من محمد ومن علي لما فعلوه بالامويين يوم بدر، وبالتالي تلك ثارات لهم [345] ، وجلل اعماله المخزيه بهدم الكعبه المشرفه، ولم يطل به الامر فهلك، وجاء من بعده ابنه معاويه الثاني، وكان فتي صالحا اعترف بذنوب ابيه وجده واعتزل الامر. [346] وانقض مروانبن الحكمبن العاص عدو اللّه ورسوله علي الخلافه، وتغلب عليها بالقوه، ثم تناقلها اولاده من بعده. وخلال فتره الحكم الاموي اوجدوا سنه لعن عليبن ابي طالب واهل بيت النبوه علي المنابر، وعمموا هذه علي كافه بلاد المسلمين، فكان الخطباء يلعنون عليا واهل البيت في كل خطبه ومستهل كل درس، وعمم الامويين علي كافه حكامهم ورعاياهم: ان انظروا، فمن ثبتت موالاته لاهل بيت محمد فامحوا اسمه من ديوان العطاء، ولا تقبلوا له شهاده، وان استمر فاهدموا داره، واقتلوه. [347] ولوحق الذين يوالون اهل بيت النبوه، وذبحوا بغير رحمه [348] ، وظلت هذه السنه متبعه حتي جاء عمربن عبدالعزيز فالغاها. ونادي العباسيون بعداله قضيه اهل بيت النبوه، وعرضوا للناس ما لحق باهل البيت فاستقطبوا حولهم الناس، وتمكن العباسيون من القضاء علي الحكم الاموي بالقوه، ومن التملك علي رقاب الناس بالقوه تماما، كما فعل الذين من قبلهم، وبعد ان تحقق لهم ذلك، تنكروا لاهل بيت النبوه، ونكلوا بهم تنكيلا يفوق التنكيل الاموي [349] ، ونكلوا بمن يواليهم او ينادي بحقهم بالحكم. وضعف العباسيون، وانفرد كل والي بولايته، وظهر العثمانيون وبالقوه والتغلب قبضوا علي مقاليد الامور، وحكموا لانهم غلبوا، وتابع العثمانيون سيره الذين من قبلهم فنكلوا بمن يذكر بحق اهل بيت النبوه بالقياده، وتوارث العثمانيون الخلافه كما توارثها الذين قبلهم حتي سقط آخر سلاطين بني عثمان بالغزو الغربي، وبسقوطه سقط نظام الخلافه التاريخي. لقد انقرض الصحابه، والتابعون، وسقط نظام الخلافه، وتداعي اهل النخوه من العلماء لاعاده نظام الخلافه التاريخي، والطريقه المثلي برايهم ان يستقطب هذا العالم او ذاك الناس حوله، حتي اذا انس من نفسه القوه انقض علي الحكم القائم، واقام حكما بديلا له كما فعل الذين من قبله. وظهر الوهابيون، وظهر الاخوان المسلمون، وظهر التحرير.. الخ. ونسجوا علي منوال اللذين قبلهم بتجاهل اهل بيت النبوه وتجاهل حديث الثقلين، والنصوص الشرعيه التي تعطي اهل البيت الحق بقياده الامه وتوجيهها، ولان هذه الجماعات لا تملك السلطه، ولا القدره علي التنكيل بمن يوالي اهل البيت اكتفت تلك الاحزاب بحملات التشهير، واختلاق الاكاذيب والقول بان شيعه اهل بيت النبوه كفره... الخ.
اخذت مواجهه بطون قريش العدائيه للنبي ودينه وعترته واتباعه اشكالا متعدده: بدات بالسخريه والاستهزاء، وتكذيب النبي، ثم محاوله اغرائه، ثم ايذائه والطعن بشخصيته، واختلاق الاكاذيب عليه، ونشرها بين العرب، والتهديد بقتله، وفرض الحصار والمقاطعه علي بني هاشم الذين احتضنوه، والطعن بالقرآن الكريم وزعمهم بانه اساطير الاولين، وان عناصر اجنبيه تلقنه هذا القرآن، والطعن بمضامين الدعوه الاسلاميه والتشكيك بها، والشروع بقتله لمنعه من الهجره، وتخصيص الجوائز لمن يقبض عليه حيا او ميتا، والتضييق علي اتباعه، ومنعهم من الهجره، ومحاوله اعاده الذين هاجروا منهم ليردوهم عن دينهم، وسومهم سوء العذاب لمن لا عشيره له، حتي مات بعضهم تحت التعذيب. واخيرا جيشت بطون قريش الجيوش، وحاربت النبي ودينه في بدر واحد والخندق.. وعندما هزمت البطون واضطرت الي الدخول في الاسلام كارهه، اندست بين الصفوف وشكلت مركز تاثير، وبعد موت النبي قبضت علي مقاليد الامور بدعوي ان محمدا رجل من قريش، وان البطون القريشيه اولي به لانه منها، وايضاحا للامور وتمهيدا لبسط الحقائق، سنفرد فقره خاصه بكل شكل من اشكال مواجهه بطون قريش العدائيه للنبي وعترته واتباعه المخلصين.
في المرحله السريه من الدعوه الاسلاميه، وقبل ان يومر النبي باعلان دعوته انتشرت في اوساط مكه شائعات عن انباء النبوه والرساله والكتاب، فكان النبي اذا مر بملا من قريش قالوا: (ان فتي عبد المطلب ليكلم من السماء) [350] حتي اذا ما اعلن النبي دعوته افصحوا عن سخريتهم واعلنوا هزءهم بصوره واضحه. ولقد سجل القرآن الكريم هذا الشكل من مواجهه بطون قريش حيث قال تعالي: (واذا رءاك الذين كفروا ان يتخذونك الا هزوا اهذا الذي يذكر آلهتكم) [351] وقوله تعالي: (واذا راوك ان يتخذونك الا هزوا اهذا الذي بعث اللّهرسولا) [352] .وقد قررت بطون قريش ان تكون فرقه خاصه مهمتها الاستهزاء بالرسول، وجعلت اقطابها الوليدبن المغيره والد خالدبن الوليد، وعقبهبن ابي معيط، والحكمبن العاصبن اميه، جد ملوك بني اميه ووالد مروانبن الحكم باني المملكه الامويه، وعم عثمانبن عفان الخليفه الراشد الثالث، وابو جهل.. [353] وقد اشار القرآن الكريم لوجود هذه الفرقه بقوله تعالي (انا كفيناكالمستهزئين) [354] .وما يوكد واقعه الاستهزاء قوله تعالي: (ولقد استهزيء برسل من قبلك...) [355] وقوله تعالي: (ولقد استهزيء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون). [356] وبالايجاز فقد كانت بطون قريش تسخر من النبي، وتستهزيء به وتري انه غير آهل للرساله، لانه ليس عظيما بمقاييسهم الفاسده للعظمه، انظر الي قوله تعالي مسجلا الظواهر التي كانت بطون قريش تبني عليها مواقفها: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن علي رجل من القريتينعظيم) [357] .
لم تكتف بطون قريش بالسخريه والاستهزاء بالنبي، انما اشاعت بين سكان مكه وقبائل العرب بان النبي (حاشاه) كاذب فيما زعم من امر النبوه والرساله، وزعمت انه مفتر، وقد سجل القرآن الكريم واقعه تكذيب البطون لرسولاللّه حيث قال تعالي: (وان يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم).. [358] وقوله تعالي: (قل اني علي بينه من ربي وكذبتم به).. [359] وقوله تعالي: (قل ما يعبوا بكم ربي لولا دعاوكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما). [360] وكان تاثير هذه الاشاعات ساحقا علي قبائل العرب، لان بطون قريش لها مكانه ادبيه خاصه عند العرب بوصف هذه البطون حماه البيت الحرام وجيرانه وسدنته، وبالتالي فان قبائل العرب تعتبر راي البطون بالنبي ثقه، واقتنعت اكثر هذه القبائل بان رسولاللّه (حاشاه) كاذب في امر النبوه والرساله بدليل انه عرض نفسه علي قبائل كثيره فكانت تلك القبائل تقول له: اسرتك وعشيرتك اعلم بك حيث لم يتبعوك... [361] وظل علي هذه الحاله حتي ساقه اللّه لحي من اهل يثرب.
في اطار الحرب النفسيه، ومحاولات بطون قريش، لتطويق الداعيه، واجهاض الدعوه، توجهت زعامه تلك البطون الي ابي طالب، حامي الداعيه والدعوه، وعميد البيت الهاشمي وقالوا له: (ان ابن اخيك قد عاب آلهتنا، وسفه احلامنا وضلل اسلافنا، فليمسك عن ذلك، وليحكم في اموالنا بما يشاء)، واطلع ابو طالب النبي علي عرض قريش، ومن الطبيعي ان يرفض هذا العرض، واجاب عمه قائلا: (ان اللّه لم يبعثني لجمع الدنياوالرغبه فيها، وانما بعثني لابلغ عنه، وادل عليه) [362] .واستفاضت الروايات بان زعامه قريش جاءت الي ابي طالب وشكت له امر رسولاللّه وقالت له: فان كان مريضا داويناه، وان اراد مالا جمعنا له من اموالنا حتي يكون اكثرنا مالا.. فقال رسولاللّه: واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساريما تركت هذا الامر حتي يظهره اللّه او اموت دونه [363] . فكفت قريش عن محاولاتها الفاشله لاغراء النبي.
ان محمدا كشخص لم يكن خافيا علي زعامه قريش، فهو ابن انهد واشرف فتيانها عبد اللّهبن عبد المطلب [364] ، وهو حفيد عبد المطلب [365] ، السيد الصالح الذي نادي باخلاق الحنيفيه السمحاء في المجتمع الجاهلي، الحكيم المجاب الدعوه وهو من بني هاشم [366] ، ذوابه البطون وتاجها المتالق، ولقد لفتت سيره النبي قبل النبوه واخلاقه العاليه انظار سكان مكه فسموه الامين، ولقد شاعت هذه الصفه بين سكان مكه كلها فعندما اختلفت بطون قريش علي من يضع الحجر الاسود مكانه في الكعبه المشرفه، وكادت هذه البطون ان تقتتل، واتفقوا علي ان يحكموا بالامر اول داخل عليهم، فدخل محمدبن عبداللّه ففرحت بطون قريش وقالت بلسان واحد: (هذا الامين قد رضينا به، هذا محمد). [367] فوضع الحجر في ردائه وطلب من كل قبيله من القبائل المتنازعه ان تمسك بطرف الرداء وترفعه، وهكذا فعلت القبائل فتناوله بيده الشريفه ووضع الحجر الاسود مكانه في البناء، فرضيت البطون، واكتشفت ان محمدا مع الامانه حكيم. ولقد شاعت هذه الصفات مع غيرها من صفاته الكريمه، فكل بطون قريش تعلم علم اليقين ان محمدا امين وصادق وحكيم، ولكنها تجاهلت يقينها، وكيدا منها زعمت انه (حاشاه) كاذب، وساحر، وكاهن، ومجنون، ومفتر علي اللّه تعالي، وجندت بطون قريش كل امكانياتها لنشر اكاذيبها علي رسولاللّه، لتصد الناس عن دينه، ولتفشل دعوته ونبوته ان استطاعت، حتي لا يومن به احد، فقلبت بطون قريش الحقائق واغرقتها في بحار من اكاذيبها الي حين، وتعمدت الكذب مع سبق الاصرار، ولقد سجل القرآن الكريم الكثير من مطاعن هذه البطون بالنبي الاعظم: (فذكر فما انت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون ام يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) [368] ، (وقالوا يا ايها الذي نزل عليه الذكرانك لمجنون) [369] . لم تكتف بطون قريش بقلب الحقائق وبطعونها الظالمه بشخصيه الرسول انما آذته ايضا بافعال ماديه تمجها الفطره السليمه، فعلي سبيل المثال: بينما كان النبي واقفا بين يدي اللّه مصليا، ومعلنا عبوديته له في بيت اللّه الحرام الذي يامن فيه الخائف، راته زعامه قريش علي هذه الحاله فجمح بها طغيانها وامرت غلاما ان يلقي فرثا وسلي قد استخرجوه من جزور مذبوح علي ظهر النبي، فنهض رسولاللّه من صلاته كسير الحال، واخبر عمه ابا طالب بما جري، فغضب ابو طالب وتوشح بسيفه واقبل علي زعامه البطون الجالسه حول الكعبه، وقال مهددا: (واللّه لا يتكلم منكم رجل الا ضربته ثم امر غلامه فالقي الفرث والسلي علي وجوه زعامه البطون ردا علي ما فعلته بمحمد). [370] وقال القرطبي في تفسيره: ان ابا طالب لطخ بالفرث وجه عبداللّهبن الزبعري، وهو الذي لطخ رسولاللّه.
في معرض مواجهه بطون قريش لمحمد ولال محمد ولمن والاهم، واصرارا منها علي الحاق الهزيمه بمحمد وآله، وصرفا لشرف النبوه عنهم، طعنت بطون قريش في القرآن الكريم، علي اعتبار انه اعظم براهين النبوه، فزعمت ان هذا القرآن اساطير الاولين، وان محمدا تقوله علي اللّه، وانه مفتري، ولو شاءت تلك البطون لقالت مثله، وعندما تحداها محمد بامر من ربه ان تاتي بعشر سور مفتريات من مثله كما تزعم عجزت، وسلمت عمليا، وتحداها ان تاتي بسوره فعجزت، ثم اعلن النبي بامر من ربه بان الجنس والانس لو اجتمعا لن ياتوا بمثل هذا القرآن ولو تظاهروا. ومضت بطون قريش في اكاذيبها، فقالت: ان القرآن عمل ساحر، وفن شاعر، وتراتيل كاهن، ولكن البطون كانت مقتنعه ان اتهاماتها مختلقه، وغير مقنعه وان دعاياتها فاشله، وعاجزه عن اقناع العقل البشري مهما انحط مستواه، ولكنها قدرت ان هذه الدعايات علي هزالتها، ستشغل العامه وتصدهم عن الاصغاء لمحمد. وشككت بطون قريش بصحه الاخبار والانباء التي جاء بها القرآن، وابدت عجبها من جعل الالهه الها واحدا، ويجيبها القرآن بانه علي فرض وجود آلهه، فان بعض الالهه سيعلو علي بعض وستكون الكلمه العليا لاله واحد، وبغير ذلك يتعذر تدبير الكون، وتبدي بطون قريش شكها المطلق بامكانيه اعاده تركيب الانسان بعدم موته، ويجيبهم القرآن الكريم، كونوا اي شييء مما يكبر في صدوركم، فان الذي خلق هذا الشيء اول مره بقادر علي اعادته بعد تلفه. وكان واضحا ان بطون قريش قد هزمت منطقيا وهزمت عقليا، وان النبي بهدي من ربه قد اجابها علي كافه تساولاتها وطعونها اجابات مقنعه، وان الحجه قد اقيمت علي بطون قريش تماما [371] ثم ان قريش تعرف محمدا ولم تعهد عليه الكذب علي الناس، وكانت بطون قريش مجتمعه تلقبه بالامين لصدقه وامانته ورجاحه عقله [372] ، وقد عاش النبي بين البطون، وايقنت بنبله وشرفه وتميزه، ثم ان محمدا سليل عبداللّه، وعبداللّه سليل عبد المطلب، وعبد المطلب سليل هاشم، وهاشم سليل عبدمناف، وهولاء سادات قريش واشرافها وحكماوها، فهل يعقل ان يكذب من كانت هذه صفاته علي الكبر بعد ان بلغ اربعين عاما!! وهل يعقل ان يكون كذبه علي اللّه تعالي!! ان بطون قريش مقتنعه باستحاله ذلك وهي تري ان محمدا سويا ليس به جنه، ويزداد كل يوما تالقا ورجاحه وبهاء. لكن بطون قريش تكره ان يكون النبي من بني هاشم، وان يختص الهاشميون بشرف النبوه من دون بطون قريش، ودافع البطون الحقيقي هو الحسد لبني هاشم والخوف عليمصالحها. [373] . وللتعبير عن حقيقه دافعها هذا وضعت البطون اصابعها في آذانها، وتجاهلت صوت العقل والمنطق، واصرت علي متابعه دعاياتها المختلفه الفاشله، وشكلت فرقه من المستهزئين بمبلغ الرساله منهم الوليدبن المغيره والد خالدبن الوليد، والعاصبن وائل والد عمروبن العاص، وعقبهبن ابي معيط والد الوليدبن عقبه، والحكمبن العاص جد ملوك بني اميه ووالد مروانبن الحكم باني المملكه الامويه، وعم عثمانبن عفان [374] واستعانت هذه الفرقه بمحدثين كالنضربن الحرث الذي كان يحدث قريش عن اخبار ملوك فارس وهو عليم بها [375] وذلك لغايات صد الناس عن محمد، وصدهم عن السماع له او الانصات الي القرآن الكريم، ولالهاء الناس عن الدين الجديد.
قلنا: ان عددا من سكان مكه قد دخل في دين الاسلام، وكان المطلوب من المسلم ان يشهد بوحدانيه اللّه تعالي، وبان محمدا نبي اللّه ورسوله وان يطيع النبي، ويسمع منه، لم يطلب منهم النبي ان يواجهوا بطون قريش، او ان يحموه او يحموا دعوته، فقد كانت المواجهه الفعليه محصوره بالنبي وبني هاشم من جهه، وبين بطون قريش ال23 من جهه ثانيه، وتصدي الهاشميون ومعهم بنو المطلب لحمايه النبي وحمايه دعوته [376] بمعني ان دور الذين اسلموا محصور بالثبات علي اسلامهم واعتقادهم بوحدانيه اللّه وبنبوه محمد ورسالته. ومع هذا كانت تعتبرهم بطون قريش من موالي محمد، وجزءا من جبهه المواجهه التي يقودها النبي بالتعاون والتعاضد مع البطن الهاشمي. ومن هنا فقد صبت بطون قريش جام غضبها علي الموالي او الاحابيش او العبيد -الذين لا قبائل لهم تحميهم- فنكلت بهم تنكيلا تقشعر من هوله الابدان، وكشفت هذه البطون عن طبيعه الشرك بتعامله مع من يظفر بهم من اعدائه، وابرز التاريخ مجموعه من الصور المرعبه لهذا التنكيل، فقد كان اميهبن خلف احد ساده البطون يخرج عبده المملوك بلالبن رباح الحبشي اذا حميت الشمس وقت الظهيره ويلقيه في الرمضاء علي وجهه وعلي ظهره، ثم يامر بوضع صخره كبيرهعلي صدره [377] .وياسر، وابنه عمار، وزوجته سميه، تلك الاسره الضعيفه اخرجها ابو جهل احد سادات البطون وعذبها عذابا اليما، فتوجعت الام سميه فاغضبت ابا جهل فطعنها بحربه في فرجها فماتت، ومات ياسر من التعذيب، وتحمل عمار العذاب. [378] وعاش عمار بعد ذلك، حتي قتله معاويه في معركه صفين وهو يقاتل الي جانب الامام علي. وخباب بن الارت التميمي احد السبايا الذي عذب بالرضن -حجاره محماه بالنار- ولووا عنقه، وثبت علي دينه حتي شهدانتصار الاسلام [379] .وصهيب بن سنان الرومي وعامر بن فهير الذين عذبوا حتيدلعت السنتهم [380] .ولبيبه جاريه بني مومل بن حبيب بن عدي التي انزل بهاعمربن الخطاب اشد الوان العذاب ثم تركها سآمه [381] . وزنيره المراه التي عذبها عمر بن الخطاب حتي فقدت بصرها ولكن رد بصرها. اما الذين آمنوا ممن لهم قبائل تحميهم، فقد تعرضوا للمضايقات النفسيه، ولقارص القول، ولصنوف الهزو والسخريه، ولانواع من الضغوط، لان القبيله كانت بمثابه كيان سياسي ملتزم بخلع حمايته علي افراده، ومن هنا تعرض الذين اسلموا من بطون قريش للمضايقات والضغوط ليتخلوا عن اعتقادهم بنبوه محمد ورسالته بالدرجه الاولي.
بعد ان نجحت قياده بطون قريش بتطويق الدعوه، وتشكيك قبائل العرب بصدق النبي، وعقله، وكجزء من مخططات قياده هذه البطون لافشال مشروع النبوه والرساله والقضاء عليه، تابعت ضغوطها النفسيه علي الذين اتبعوا محمدا من ابناء البطون، اذ يتعذر عليها ان تتجاوز معهم التضييق والضغوط النفسيه حتي لا تثير حفيظه البطون التي ينتمون اليها فيتداعي التحالف ضد النبي وضد آله وضد الاسلام. وبنفس الوقت استمرت قياده تلك البطون بانزال ابشع انواع التعذيب الوحشي ضد الذين اتبعوا محمدا من الموالي والعبيد الذين لا بطون لهم تحميهم... وحتي لا يغيب اتباع محمد عن عيون تلك البطون وطمعا بخنق الدعوه المحمديه، فرضت قياده تلك البطون لونا من الوان الاقامه الجبريه فمنعت اتباع محمد من الهجره، واجبرتهم علي البقاء في مكه، ليسهل علي البطون السيطره علي حركه النبوه والرساله واتباعها.فقد حاولت ان تمنع المهاجره الاولي الي الحبشه [382] .وحاولت ان تمنع موجه المهاجرين الثانيه الي الحبشه، وعندما نجح المهاجرون بالوصول الي الحبشه شكلت قياده بطون قريش وفدا الي النجاشي برئاسه عمرو بن العاص ومعه الهداياوكلفته باقناع النجاشي ليرد المهاجرين الي مكه [383] .وبعد موت ابي طالب، قويت عيون بطون قريش علي النبي فذهب الي الطائف، وجرت اتصالات بين زعامه البطون وزعامه الشرك في الطائف، ورتبوا اسوا استقبال لرسولاللّه في الطائفوهكذا اجهضوا مشروع هجرته الي الطائف [384] .وعندما هم النبي بالهجره الي المدينه المنوره تآمرت قياده بطون قريش علي قتله وشرعت بهذا القتل فعلا، ولكن اللّه نجي نبيه [385] ، ولما نجح النبي بالهجره الي المدينه المنوره خصصت بطون قريش الجوائز لمن يقبض علي النبي حيا او ميتا ويرده الي مكه، ليمضي بقيه عمره تحت الاقامهالجبريه [386] .
عندما امر النبي ان يصدع بامر ربه، دعا البطن الهاشمي لاجتماع في داره، ثم اعلن رسولاللّه (ص) امام المجتمعين انباء النبوه والرساله، وبامر من ربه عين عليبن ابي طالب وليا لعهده واماما من بعده، وما ان انتشرت وقائع هذا الاجتماع حتي انقسم المجتمع المكي الي معسكرين متواجهين. ا- المعسكر الاول: ويتالف من الهاشميين بقياده ابي طالب، ويتعاطف معهم بطن بني المطلببن عبدمناف، والمسلمون من البطون الاخري، والموالي، والعبيد وهم معسكر الاسلام. ب- المعسكر الثاني: ويتالف من بطون قريش ال23 بقياده البطن الاموي وبني مخزوم، وبالتحديد ابي سفيان وبنيه وبني عمومته، وابي جهل وسادات البطون ال23، ومن والاهم من الموالي، والاحابيش، والعبيد وهم معسكر الشرك.
قامت وحده معسكر الشرك علي اسس منها: 1- ان بطون قريش ال23 تعتبر النبوه شرفا ومفخره، وترفض بشده ان ينال الهاشميون هذا الشرف دون البطون، فاذا اختص الهاشميون بشرف النبوه ونالوا فخرها، عندئذ يتعذر علي البطون ان تحصل علي مفخره مشابهه لمفخره النبوه، فتقع الطامه الكبري، ويتكرس التميز الهاشمي وتختل الصيغهالسياسيه الجاهليه، القائمه علي التوازن بين البطون [387] .2- ثم ان قياده معسكر الشرك اعتبرت النبوه طريقا للملك، ليس ملك قريش فقط انما ملك العرب، فاذا اعترفت بطون قريش بنبوه محمد الهاشمي فسيصبح سيد قريش وتتبعه العرب، فيمسي سيدا للعرب كلها عندئذ يجمع الهاشميون شرف وفخر النبوه مع شرف وفخر الملك، ويتحقق التميز الهاشمي الي الابد، وعلي الرغم من ان بطون قريش ال23 قد دخلت الاسلام فيما بعد الا انها بقيت مسكونه بهذه التصوراتالمريضه [388] . 3- كانت بطون قريش ال23 تشترك بحسد بني هاشم، وتكره ان ياتيها الهدي عن طريق هاشمي، فالظلام احب اليها من نور ياتيها عن طريق هاشمي. تلك حقيقه يصل اليها حتما وبالضروره كل من وقف علي مفاصل الحادثات التاريخيه. هدف معسكر الشرك: ينصب هدف معسكر الشرك المكون من بطون قريش ال23 علي الرفض التام والمطلق للنبوه الهاشميه، وتبعا لذلك رفض الرساله، ورفض الكتاب الالهي (القرآن الكريم) لانها وصلتهم عن طريق الهاشميين، وتعميم فكره الرفض المطلق هذه علي سكان مكه خاصه، وعلي قبائل العرب ومواليها وعبيدها عامه، وذلك باخفاء الدافع الحقيقي لرفضها، واشاعه اكاذيب مفادها: ان محمدا صلي اللّه عليه وآله وسلم شاعر، او كاهن، او مسحور او مجنون، او كاذب (حاشاه)، او هذه الصفات مجتمعه قد توفرت فيه، ثم انه رجل نكره وليس عظيما من عظماء القرشيين، ثم ان هذا الذي جاء به محمد ما هو في الحق والحقيقه الا اساطير الاولين، ومضامينه غير معقوله!! فقد جعل الالهه الها واحدا!!! ويدعي ان الانسان اذا مات وتحول الي تراب يبعثه اللّه من جديد ويحاسبه علي كافه اعماله.. الخ من اكاذيب بطون قريش وتصوراتها المريضه.
اسهل خطه لتحقيق هدف معسكر الشرك تكمن بقتل محمد، وبقتله تقتل النبوه والرساله ويسدل الستار عليها قبل ان يفهمها الناس. او ان تتسلم قياده معسكر الشرك محمدا وتتصرف به كما يتصرف السيد بعبده، فتنزل به اشد انواع العذاب حتي يموت او تنتزع منه بالقوه اعترافات بعدم صحه انباء النبوه والرساله والكتاب وولايه العهد، وان هذه الانباء برمتها مختلقفه، عندئذ تقدم قياده معسكر الشرك هذه الاعترافات الزائفه لعامتها علي اساس انها حقائق، ويسدل الستار نهائيا علي تلك الانباء العظيمه!!! وتنتصر بطون قريش!! وترقص علي انقاض المشروع الالهي لانقاذ الجنس البشري. من الذي منع معسكر الشرك من تنفيذ خطته السهله؟ منذ اليوم الاول لاعلان النبوه والرساله والكتاب وولايه العهد اعلن الهاشميون بلسان عميدهم عبد منافبن عبد المطلب المكني بابي طالب بان اي اعتداء علي محمد هو اعتداء علي كل الهاشميين باستثناء ابي لهب، وان الهاشميين ملتزمون بحمايه النبي، وحمايه حقه بالدعوه الي اللّه، وان الهاشميين لن يمكنوا احدا من الوصول الي محمد حتي يوسدوا في التراب [389] ، وان اي ايذاء يلحق بمحمد سيرد الهاشميون فورا بمثله [390] ، وخاطب ابو طالب النبي بحضور الهاشميين: (يا ابن اخي اذا اردت ان تدعو الي ربك فاعلمنا حتي نخرج معك بالسلاح) [391] وطمانه نيابه عن الهاشميين قائلا: (واللّه لا ازال احوطك وامنعك) [392] ، وقد اشاعت قياده معسكر الشرك بان محمدا قد قتل لتختبر جديه الهاشميين بالدفاع عن محمد، وعلي اثر الاشاعه جمع ابو طالب رجالات بني هاشم واعطي لكل واحد منهم حديده صارمه، وامر كل واحد منهم ان يقف فوق راس عظيم من عظماء البطون الذين تحلقوا حول الكعبه، وان ينتظر كل هاشمي اشاره من ابي طالب ليقتل زعماء بطون قريش كلهم ان صح موت محمد، وبهذه الاثناء وصل الخبر بان محمدا لم يقتل، فخاطب ابو طالب زعماء بطون قريش واخبرهم بحقيقه ما هم بفعله لو ان محمدا قد قتل، فصعقت زعامه البطون من هول ردالفعل الهاشمي [393] . وتوعد ابو طالب زعامه بطون قريش قائلا: (واللّه لو قتلتموه ما ابقيت منكم احدا حتي نتفاني نحن وانتم) [394] ، فقال له المطعمبن عديبن نوفلبن عبد مناف لقد كدت تاتي علي قومك؟ قال ابو طالب: هو ذلك، وخاطب النبي امامهم شعرا:فاذهب بني فما عليك غضاضه اذهب وقر بذاك منك عيونافواللّه لن يصلوا اليك بجمعهم حتي اوسد في التراب دفينا [395] . لقد اقتنعت زعامه معسكر الشرك ان اقدامها علي قتل محمد بهذه الظروف يعني اشعال حرب اهليه بين البطن الهاشمي وبطن بني المطلب -الذي تضامن مع الهاشميين- وبين بقيه بطون قريش ال23، واذا اشتعلت هذه الحرب فستاتي علي قريش كلها، ويبقي الفخر والشرف مع الدمار والاشلاء فاحجمت عن القتل الي حين. ومن هنا انصبت مطالبها علي تسليم محمد، او ان يخلي الهاشميون بين البطون وبين محمد، ورفض الهاشميون بلسان عميدهم ابي طالب هذين المطلبين جمله وتفصيلا.
ادركت زعامه معسكر الشرك ان عدوها اللدود هو البطن الهاشمي، فلولا هذا البطن لحققت زعامه الشرك الانتصار السريع علي محمد ودعوته، لذلك فكرت هذه الزعامه بطريقه حاسمه تجنب قريش اراقه الدماء وتركع نهائيا البطن الهاشمي، وتجبره علي التخلي عن محمد لتتمكن قريش من تصفيه حسابها معه.
فكره الحصار والمقاطعه، فكره جديده علي العرب عامه وعلي بطون قريش خاصه، ورغم تنقيبي المتواصل عن الفكره الا انني لم اجد في تاريخ العرب وقريش خاصه حاله مشابهه لها، ولست ادري كيف نشا تصور الحصار والمقاطعه في ذهن زعامه الشرك، ولا من الذي اوحي لها بهذا التصور وحدد معالمه ومداه، لكن الاقرب الي المنطق ان بطون قريش ادركت ان قتل محمد مكلف، وان الهاشميين جادون في موقفهم، وانه ليس بامكان قريش ان تدع محمدا وشانه، فالناس يدخلون في دينه، ومن يدخل بهذا الدين لا يخرج منه، واذا تركوا محمدا وشانه فستنموا دعوته وسيتكاثر اتباعه، فاذا اصبح قتل محمد مستحيلا بسبب الموقف الهاشمي، فيجب ان تتحد البطون علي مقاطعه بني هاشم، ومواليهم، وعبيدهم وحصرهم في شعب ابي طالب حتي يركعوا فيسلموا محمدا للبطون فتقتله، وعلي هذا اجمعت بطون قريش ال23 بقياده البطن الاموي الذي يلتقي مع البطن الهاشمي بالجد الثالث (عبد مناف).
اجتمع زعماء معسكر الشرك (قاده بطون قريش ال23) واتفقوا علي ان يحصروا محمدا وبني هاشم وبني المطلب، ومواليهم في شعب ابي طالب، وتعاهدوا ان يقاطعوا النبي، وابا طالب، وبني هاشم، وبني المطلب، مقاطعه اقتصاديه واجتماعيه كامله، وان لا يبايعوا احدا من بني هاشم، ولا يناكحوهم، ولا يعاملوهم ابدا حتي يقوم الهاشميون بتسليم محمد لبطون قريش فتقتله، واعتبروا ذلك عقدا وعهدا، وكتبوا به صحيفه مهرت بتواقيع ثمانين من زعماء بطون قريش ال23، ولاضفاء القداسه والجديه علي هذا التعاقد والتعاهد، علقوا الصحيفه في جوف الكعبه في السنه السابعه من النبوه خلال شهرمحرم [396] . الهاشميون يعانون في الشعب وبطون قريش تتفرج: انحاز الهاشميون باستثناء ابي لهب، وبنو المطلب بن عبد مناف الي ابي طالب ودخلوا في شعبه او شعب بني هاشم، ولم يكن يصل اليهم اي شيء من الطعام الا ما يتسرب اليهم سرا من بعض المتعاطفين معهم، واستمر الحصار ثلاث سنوات، انفقت خلال هذه المده خديجه بنت خويلد زوجه الرسول كافه اموالها، وانفق ابو طالب وبنوه كل ما عندهم، واشتد الامر علي الهاشميين، وعلي المطلبيين، وعانوا الحرمان والجوع، واكلوا نباتات الارض، واضطر اطفالهم ان يمصوا الرمال من العطش، وكانت بطون قريش تشاهد معاناه الهاشميين وتتلذذ بها، وتتفرج دون اي احساس بالحرج، وكان علي راس المتفرجين بنو اميه، وبنو تيم وبنو عدي، وبنو مخزوم، وبنو نوفل... الخ. كان مطلب بطون قريش من بني هاشم ينحصر في تسليم محمد لهذه البطون لتقتله، وتضع حدا لدعوته ولدين الاسلام. ولكن الهاشميين لم يركعوا، ولم يستسلموا، ولم يعطوا الدنيه، انما تحملوا ما لم تتحمله ايه قبيله من القبائل في سبيل محمد وفي سبيل دينه. فلولاهم لقتلت البطون محمدا كما قتل غيره من الانبياء، ولولاهم لما قامت للاسلام قائمه، ولكان شان الاسلام كشان غيره من دعوات الحق التي جاء بها النبيون والتي اجهضت من قبله، ولكن اللّه تعالي اراد ان يظهر دينه، وان يتحمل البطن الهاشمي اعباء مرحله التاسيس الحاسمه.
استمر الحصار ثلاث سنوات عاني فيها الهاشميون الامرين، وتحملوا ما لم يتحمله بشر، وكان يكفيهم ان يخلوا بين محمد وبين بطون قريش، او ان يسلموا محمدا لقياده تلك البطون، عندئذ يتجنبون مواجهه بطون قريش التي رمتهم بقوس واحده، وينجون من العذاب الاليم الذي مسهم اثناء فتره الحصار والمقاطعه. لكن تسليم الهاشميين لمحمد او تركه للبطون لتقضي فيه بامرها، امر لا يتفق مع طبيعه ابي طالب عميد البطن الهاشمي آنذاك، ولا يتفق مع الطبيعه الهاشميه، من هنا فقد صبروا وصابروا واحتسبوا وجاء الفرج. فاوحي اللّه تعالي لنبيه ان اللّه قد ارسل حشره علي صحيفه الحصار والمقاطعه فاكلت تلك الحشره كل ما كتب فيها عدا ما كان فيها من اسم اللّه، وما ان انتهي جبريل من القاء تلك البشاره العظيمه حتي نهض رسولاللّه فاخبر عمه بتفاصيل خبر السماء هذا. عندئذ توجه ابو طالب ومحمد ومعهما الهاشميون الي البيت الحرام، وسمعت بطون قريش بعوده ابي طالب ومحمد والهاشميون وبتجميعهم حول الكعبه، فاقبلت قريش لتقف علي حقيقه الامر، ولما اكتمل جمعها قالت زعامه الشرك لابي طالب: (قد آن لك يا ابا طالب ان تذكر العهد، وان تشتاق اليقومك وتدع اللجاج في امر ابن اخيك) [397] .كانت زعامه الكفر تتصور ان ابا طالب جاء ليعلن استسلامه واستسلام بني هاشم، وانه لا يدري كيف يعلن هذا الاستسلام، فابتدات زعامه البطون بالقول لتسهل اعلانه!! وطلب ابو طالب من زعماء معسكر الشرك احضار الصحيفه، وتصورت زعامه البطون انه لم يبق بينها وبين اعلان الاستسلام الا قاب قوسين، ولما احضرت الصحيفه اشار اليها ابو طالب وقال: اليست هذه صحيفتكم علي العهد الذي تركتموها فيه؟ فقالت زعامه البطون: نعم. قال ابو طالب: فهل احدثتم فيها حدثا؟ قالت زعامه البطون: اللهم لا. المعجزه ونهايه الحصار والمقاطعه: قال ابو طالب: لقد اعلمني محمد عن ربه ان اللّه قد بعث الارضه فاكلت كل ما فيها الا ذكر اللّه، افرايتم ان كان صادقا، ما تصنعون؟ قالت زعامه البطون: نكف ونمسك. قال ابو طالب: فان كان كاذبا دفعته اليكم تقتلونه. فقالت زعامه البطون قد انصفت واجملت. وفضت الصحيفه فاذا كل ما فيها قد محي الا مواضع اسم اللّه عز وجل وبهتت زعامه الشرك، ولكنها جادلت بالباطل. وقالت انهذا الا سحر مبين [398] . وعلي اثر هذه المعجزه اسلم عدد من الناس، واعلن ابو طالب انه لن يبقي محاصرا وهو علي الحق، واهتزت شرعيه الحصار والمقاطعه في النفوس، وعاد النبي وابو طالب والهاشميون الي مكه، وفشلت تماما فكره الحصار والمقاطعه، وتكرست الرجوله الهاشميه، والتميز الهاشمي. وبالرغم من التعتيم الاعلامي علي تلك المعجزه، فقد انتشرت وسمع بها العرب. مثلما سمعوا بانباء الحصار والمقاطعه.
لقد كان الموقف الهاشمي بزعامه ابي طالب نقطه تحول كبري في تاريخ الاسلام، فلولا الموقف المشرف لبني هاشم، لقتلت بطون قريش محمدا، ولما قامت للاسلام قائمه، ولكن اللّه تعالي اناط بالهاشميين تحمل اعباء مرحله المواجهه الحاسمه والتاسيس، وشرف ابو طالب بعبء قياده الهاشميين في هذه المرحله، وساعدهم بعونه علي حمايه الدعوه والداعيه، وجعل لبني هاشم عامه فضلا علي كل مسلم ومسلمه الي يوم الدين، واقام رباطا عضويا بين ماضي الدعوه وحاضرها ومستقبلها، ومد الفضل الهاشمي مدا عظيما ولم يجعله راكدا، فجعل الصلاه علي محمد وعلي آل محمد جزءا من الصلاه المفروضه علي العباد، فمن لم يصل عليهم لا صلاه له، علي حد تعبير الشافعي. وفي ذلك تتويج لصدارتهم، وتقدمهم في كل الازمان. لقد شاءت حكمه اللّه ان يكون لابي طالب الباع الاطول بهذه المرحله، وان يكون لاولاده واحفاده مركز الصداره في جميع المواجهات التي جرت في جميع المراحل.
ومن المهازل التي تثير قرف النفس البشريه، ان القوي التي سيطرت علي مقاليد امور الامه الاسلاميه فيما بعد، صورت ابا طالب بصوره المشرك، ووضعته في ضحضاح من النار علي حد تعبير المغيرهبن شعبه، وزورت، وانكرت كفاحه، وانكرت جهاد اولاده الذي لا يخفي علي احد، وفرضت مسبتهم علي المنابر، ولم تقبل شهاده من يواليهم، فعادت وليهم، ووالت عدوهم، والقت باذهان العامه والغوغاء ان الهاشميين ماتوا بموت محمد، وانهم لم يخلقوا للقياده، انما خلقوا ليكونوا اتباعا لخلفاء بطون قريش، وان الخلافه حق خالص للبطون لانهم اقرباء محمد!! مثلما كانت النبوه حق خالص للهاشميين، وان هذه القسمه هي القسمه العادله، وكان هذه البطون هي التي اعطت النبوه لبني هاشم،!! وكانها هي المخوله بتوزيع الفضل الالهي!! [399] .
لم تتوقف زعامه البطون عن مراقبه تحركات النبي، واتصالاته المستمره بقبائل العرب، ونتائج هذه الاتصالات، وقد تاكدت زعامه البطون ان محمدا قد نجح اخيرا باقامه قاعده له في يثرب، وان عددا من اهلها لا يقل عن سبعين رجلا قد اتبعوا دينه، واتفقوا معه علي ان يهاجر النبي اليهم، وعاهدوه علي ان يحموه كما يحمون انفسهم، وشاع ان عددا كبيرا من اهل يثرب غير هولاء قد دخلوا الاسلام، وان محمدا يتاهب للهجره، وتاكدت استخبارات البطون من صحه تلك الانباء، وعرفت بالتحديد اليوم الذي سيهاجر به محمد. بعد ان اطلعت عليتفاصيل بيعه العقبه [400] .عندئذ ادركت زعامه البطون ان محمدا قد تجاوز الخط المالوف وانه قد بدا مرحله خطيره. فاذا نجح محمد بالهجره فسيستقطب حوله الاكثريه من سكان يثرب، ومن حولها من قبائل العرب، عندئذ ستصبح النبوه الهاشميه حقيقه واقعه، ويذهب الهاشميون بفخر النبوه بين العرب دون سائر البطون، واكثر من ذلك فقد ينجح محمد بتكوين ملك لبني هاشم، وهكذا يتكرس التميز الهاشمي، ليس علي مستوي مكه، بل علي مستوي العرب، وليس مستبعدا ان يجمع محمد جيشا وان يغزو به مكه، ويجعل سافل كل شيء عاليه، ويعيد ترتيب كل شيء تحت اشرافه. عقدت زعامه بطون قريش ال23 اجتماعا موسعا في دار الندوه وتداولوا فيما بينهم بامر محمد، وطرحت ثلاثه آراء للبحث والمناقشه: 1-فاما حبسه، 2-واما نفيه، 3-واما قتله [401] ، (واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوكويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين) [402] . واتفقوا علي ان قتل النبي هو الحل ولا حل غيره، وقد قرروا اختيار عدد من الفتيه يمثل كل فتي منهم عشيره، ليشتركوا في شرف قتله، ولتكوين جبهه متراصه ضد الهاشميين فلا يقوون علي المطالبه بدمه او الاقتصاص من قتلته، وبهذا التدبير يضيع دم محمد بين العشائر وينجون من رد الفعل الهاشمي. وعلي هذا اجمعوا امرهم وتعاقدوا وتعاهدوا لتنفيذ موامرتهم.
زعامه بطون قريش لا تترك الامور المتعلقه ببني هاشم وبالنبي للصدفه، في دار الندوه اتفقت زعامه البطون علي قتل النبي، ووضعت خطه القتل، وتطرقت لادق التفاصيل، ومهمه الفتيه الذين تم اختيارهم من كل البطون تتلخص بتنفيذ خطه الجريمه. وتقضي الخطه بمراقبه البيت المبارك الذي يقيم فيه النبي، حتي اذا ما خيم الظلام وهجع السامر، زحف فتيه البطون بعزم وهدوء، وطوقوا البيت المبارك، فان خرج النبي خلال فتره التطويق انقضوا عليه بسيوفهم وضربوه ضربه رجل واحد، وان لم يخرج خلال مده معقوله، دخلوا عليه البيت جميعا وضربوه وهو نائم ضربه رجل واحد. وقرار زعامه البطون واضح بان تلك الليله يتوجب ان تكون آخر ليالي محمد من الحياه. فالامور مرتبه ترتيبا محكما، ولا طاقه لبني هاشم علي مواجهه البطون، خاصه بعد موت سيدهم وعميدهم وشيخ البطاح ابي طالب. كل شيء جهزته البطون لتنفيذ الجريمه وباعصاب هادئه، مع ان محمدا من قريش، ومع ان الهاشميين بنو عمومتهم، ولكن عندما يتمكن الحقد من النفوس، فانها تبور ولا شيء يصلحها. هيا الرسول نفسه للهجره والخروج من مكه، وكلف ولي عهده والامام من بعده عليبن ابي طالب، ان يتدثر ببرد النبي الحضرمي الاخضر، وان ينام في فراش النبي ليوهم المتامرين القتله ان النائم هو النبي وليس عليا، فينشغلوا عنه، وكلف النبي ولي عهده ايضا ان يتولي تاديه الامانات الموجوده عند الرسول الي اهلها وبعد ان يفعل ذلك، يحمل اهل النبي، ويتبعه مهاجرا الي المدينه المنوره. وبعد ان رتب النبي اموره، ودع ولي عهده واهل بيته وخرج مهاجرا، شاهد النبي المتامرين القتله يحيطون بالبيت المبارك احاطه السوار بالمعصم، ويطوقونه تطويقا كاملا، بحيث يتعذر الدخول او الخروج من البيت، وقف النبي وقرا: (يس والقرآن الحكيم... وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون) ثم سار النبي بخطي ثابته وبقلب مليء بالايمان، وتخطي القتله، فلم يبصروه [403] ، ثم تابع طريقه الي المدينه يرافقه ابو بكربن ابي قحافه، وعبداللّه بن اريقط. وطال انتظار المتامرون، ولم يخرج النبي، وبدات الوساوس تعمل في صدورهم، لقد انبلج الفجر، ولاحت الدنيا، ومن المستحيل ان يتاخر خروج محمد الي هذا الحد، واقتحموا بيت النبي، ودخلوا الحجره المقدسه، واقتربوا من فراش النبي وكشفوا الغطاء، فاذا النائم بفراش النبي علي وليس محمدا فهاج القتله، وسالوا عليا عن النبي فقال لهم علي بهدوء المومن ورباطه جاشه (قلتم له اخرج عنا فخرج عنكم). احيطت زعامه بطون قريش علما بما حدث، فهاجت وماجت وجن جنونها، فاطلقت فرسانها ورجالها ليبحثوا عن محمد وليعودوا به حيا او ميتا، وخصصت جائزه كبري مقدارها مائه ناقه لمن يقبض علي محمد، وبذلت زعامه بطون قريش كل وسعها للقبض علي محمد ولكنها فشلت ولم تفلح، حيث دخل النبي الغار وقضي فيه ثلاثه ايام، حتي يئست زعامه البطون من العثور عليه وبعد ذلك شق طريقه بيمن اللّه ورعايته الي عاصمه دولته المباركه، ولتتيقن قريش ان ليس في الامر سحرا، شاهد سراقه احد الطامعين في الجائزه محمدا وهو يتابع رحلته المباركه، وحاول سراقه ان ينال الجائزه، ولكنه راي من المعجزات، ما اجبره علي الاقلاع عن محاولاته، وكان هلاكه موكدا لو لم ينزع من ذهنه امر الحصول علي الجائزه، واخيرا قال رسولاللّه لسراقه: (كيف بك يا سراقه اذا سورت بسواري كسري) رجل مشرد ومطارد يعد احد مطارديه بسواري اعظم ملك من ملوك الارض آنذاك!!! لكن الرجل لا ينطق عن الهوي، يعرف ما يريد ويسعي بخطي متلاحقه لتحقيق ما يريد. وقبل ان يغادر النبي مكه وقف علي مروه، وناجي مكه قائلا: (اني لاعلم انك احب البلاد الي، وانك احب ارض اللّه الي اللّه، ولولا ان المشركين اخرجوني منك ما خرجت).
لقد خططت زعامه بطون قريش لقتل النبي، وجهزت القتله باسلحه الجريمه، ووضعتهم بالمكان المخصص لارتكاب الجريمه، واعطتهم الاوامر، ليضربوا النبي جميعا ضربه رجل واحد عندما تقع ابصارهم عليه، فيقتلوه، ولكن النبي نجا من الموامره بسبب لا يد للقتله فيه، وهكذا تمت جريمه الشروع في القتل وبقيت صفحه سوداء بتاريخ زعامه بطون قريش. وعندما نجا النبي استنفرت بطون قريش خيلها ورجلها وخصصت جائزه كبري لمن يقبض علي النبي حيا او ميتا، واباحت دم النبي، وفوضت اي قرشي او حبشي او اي عبد من عبيدها او مولي من مواليها ان يقتل محمدا بعد ان استنفرت كل سكان مكه ولكن اللّه نجي نبيه من القتل لسبب لا يد لزعامه بطون قريش فيه، وهكذا تمت جريمه الشروع بقتل النبي ثانيه، وبقيت صفحه سوداء في تاريخ زعامه البطون. ومن المفارقات المفجعه ان زعامه البطون هذه فيما بعد زعمت انها اولي بالخلافه من آل محمد لان محمدا من بطون قريش!! وخططت تلك الزعامه بليل، واستولت علي السلطه الاسلاميه بالغصب والتغلب، واقنعت الناس بالقوه بانها الاولي بالحكم لان محمدا منها، وافتخرت علي العرب بذلك في الوقت الذي قتلت فيه آلمحمد تقتيلا ونكلت بهم تنكيلا وهم وحدهم الذين حموا محمدا من شر البطون، وحاربوا البطون تسعه عشر عاما دفاعا عن محمد!! ان هذا لامر عجاب. صحيح ان بطون قريش لم تقتل النبي لسبب لا يد لها فيه، لكنهم قتله وان لم يقتلوا، وسنري فيما بعد كيف تذبح زعامه البطون ابناء محمد باعصاب بارده وبلا رحمه.
نجا النبي من موامره القتل التي خططت لها زعامه بطون قريش، ونجا ايضا من مطارده خيل البطون ورجلها بعد فشل موامره القتل، وتابع رحلته المباركه الي يثرب، وسبقت وصوله اليها انباء هجرته، ونجاته من القتل والمطارده. لقد سمع سكان يثرب ومن حولها الكثير الكثير عن رسولاللّه واختلفوا بشانه اختلافا كبيرا حتي قبل ان يهاجر اليهم، فمنهم من آمن به واحبه حبا شديدا، وترقب بشوق بالغ قدومه، واعتبر هذا القدوم فاتحه خير وبركه علي الجميع. ومنهم من فوجيء بدخول الاسلام الي يثرب، ومن سرعه انتشاره، فكره النبي كرها شديدا دون ان يراه، وحكم عليه مزاجيا قبل ان يستمع اليه، وتمني من كل قلبه لو ان بطون قريش قد تمكنت منه فقتلته شر قتله، ووضعت له ولدينه حدا وبالتالي فقد كره قدومه، واعتبر هذا القدوم شرا مستطيرا. وبالرغم من اختلاف يثرب ومن حولها بشان النبي وبشان دينه، الا ان الجميع اعتبروه شخصا مميزا، وبطلا صمد امام ضغوط بطون قريش ال23 طوال 13 سنه، ونجا من محاوله قتله، ومن عمليه مطارده البطون له، ويبدو ان الذين بايعوه في العقبه الكبري قد نجحوا نجاحا باهرا بالاعداد لقدومه، فتولدت حاله من الانبهار العام، جعلت الجميع يتلهفون علي مشاهده الرجل النبي، واخفي الكارهون له ولدينه ولقدومه مشاعرهم بالكره، واظهروا له غير ما ابطنوا، وابدوا كياسه بالغه، وحسن ضيافه، بعد ان اخذوا بحاله الانبهار العام. وهكذا خرجت يثرب ومن حولها عن بكره ابيها، ولاول مره في تاريخها، لتستقبل النبي مظهره له كل مشاعر الاعجاب والاحترام، والفرح بقدومه، وعرض عليه العديد من وجهاء يثرب ان يحل ضيفا عليهم، ومن جمله الذين عرضوا عليه ذلك عبداللّهبن ابي (زعيم المنافقين)، وتنافسوا لينالوا شرف ضيافته، وخرج النبي بحل ادهش المتنافسين علي استضافته، وقطع تنافسهم، حيث قرر ان يحل بالمكان الذي تبرك فيه ناقته الماموره.
كانت تسكن يثرب وما حولها قبائل عربيه، اكثرها واهمها علي الاطلاق الاوس، والخزرج، وكل قبيله من هاتين القبيلتين تري ان السياده اذا آلت للقبيله الاخري منهما فانه حط من قدرها، وانتقاص من كبريائها، ولم تتوصلا مع الزمن الي قاسم مشترك، مما جر عليهما المتاعب والويلات، وغرس في نفوس المنتسبين اليهما بذور الحسد والتنافس والكراهيه والحقد، فاذا تبني الاوس موقفا، فالخزرج يتبنون بالضروره الموقف المناقض له، واذا اندفعت الخزرج نحو خير، اندفع الاوس لينالوا اوفره، وانقسمت كل قبيله من هاتين القبيلتين الي بطون متعدده، وجري تنافس صامت بين هذه البطون لا يقل حده واثرا عن التنافس الذي كان يجري بين القبيلتين الام. كل هذا اوجد حاله من التاكل الداخلي في المجتمع اليثربي الذي تشكل القبيلتان اسسه وقوامه، وشعورا عميقا بالحاجه الي حل ياتي من خارج يثرب، وسعت كل قبيله منهما لتتبني هذا الحل، ولتكون لها اليد الطولي بايجاده، وهذا يفسر السرعه الهائله التي انتشر بها الاسلام في يثرب ومن حولها. والخلاصه ان اهم القوي الفاعله في يثرب يكمن في الاوس والخزرج.
ويسكن المدينه وما حولها مع الاوس والخزرج قبائل يهوديه ارتبطت مع هاتين القبيلتين باحلاف عشائريه، وتعاطت التجاره، واحتكرتها، وتمركزت بها رووس الاموال، وتعاملت بالربا، ومارست اذكاء نار الفتنه بين بطون هاتين القبيلتين، وكونت لنفسها نفوذا هائلا، ولكنها لم تفكر بالسياده علي يثرب لاحساسها العميق بانها عنصر اجنبي لا يقبل اليثاربه حكمه، ومن اهم القبائل اليهوديه في يثرب بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظه. وعلي الرغم من ان الاوس والخزرج جميعا عرب، اصلهم واحد الا ان احساسهم بهذا الرباط لا يكاد يذكر بسبب ضراوه التاكل الداخلي، وعنف التنافس واثرهما المدمر. ومع ان القبائل اليهوديه كانت تدين بالديانه اليهوديه، وتشعر جميعا بوطاه الغربه، الا ان الرابطه العامه بين هذه القبائل تكاد ان تكون معدومه عمليا بسبب عمق التنافس المادي بين هذه القبائل، بدليل ان رسولاللّه(ص) قد هرسها فيما بعد قبيله بعد قبيله وهي تتفرج علي بعضها دون ان تحرك ساكنا او تحتج احتجاجا يذكر.
وهم الذين اسلموا من بطون الاوس والخزرج او تظاهروا بالاسلام، وقد عرفوا جميعا بالانصار، وطبيعه العلاقه بين القبيلتين القائمه علي التنافس الحاد والسعي الحثيث الي السبق والفوز والتقدم عجلت بدخول منتسبي القبيلتين معا في دين الاسلام، حتي لا تسبق قبيله قبيله، او تختص قبيله بالفضل دون الاخري، ففي فتره يسيره دخل افراد القبيلتين، او تظاهروا بالدخول فلم يعد بامكان اي فرد من افراد هاتين القبيلتين ان يعلن اعتناقه لغير دين الاسلام، وهكذا عم الاسلام اسميا المدينه وما حولها، ولم يبق من هولاء السكان علي دينه القديم غير اليهود، ومع هذا اسلمت مجموعه منهم، بمعني ان سكان يثرب وما حولها دخلوا في الاسلام او تظاهروا بدخوله طوعا وبدون اكراه. وكان للصادقين منهم دور بارز في نشر الاسلام في يثرب وفي تهيئه المجتمع اليثربي نفسيا لقبول قياده النبي، وفي خلق حاله الانبهار العام التي دفعت الجميع لاستقباله، وعجلت بانتشار الاسلام، وتكون من هولاء الصادقين في ما بعد مع من هاجر جيش النبي الذي دانت له العرب، والصادقون موزعون علي مختلف بطون قبيلتي الاوس والخزرج. والخلاصه ان مسلمي الانصار شكلوا قوه كبري فاعله وموثره ومتميزه عن غيرها من القوي الفاعله في يثرب.
وهم الذين اسلموا من سكان مكه، وهاجروا قبل النبي او بعده واستمر تدفقهم علي يثرب حتي فتح مكه، وبعد الفتح ادرك الاذكياء من اهل مكه ان الاسلام هو طريق الدنيا وطريق الاخره معا، وان مفتاح ذلك هو موالاه محمد او التظاهر بموالاته وتصديقه، والخلاصه لقد تجمعت في يثرب قوه فاعله ومتميزه عن غيرها عرفت (بالمهاجرين) وكانت اكثريتها من بطون قريش وبعضهم من الموالي الذين امتحن اللّه قلوبهم للايمان.
فوجئت الاغلبيه الساحقه من رجالات يثرب بانتشار الاسلام، وسرعه توغله في النفوس، مثلما فوجئت بحاله الانبهار العام بشخصيه الرسول، وبقدره الدين الجديد، وقدره نبيه علي استقطاب الناس وخلق آليه الاستقطاب. واكتشفت ان معارضه النبي او معارضه دينه مجابهه هي بمثابه انتحار سياسي يجر علي صاحبه سخط العامه، والعزل التام عن اي دور في القياده او التوجيه ويخرجه من دائره الضوء. وتفتقت ذهنيتهم المريضه عن مبدا خطير قدروا انه الحل الوحيد وهو مبدا: (الاسلام التام في الظاهر والكفر التام في الباطن). فالمنافق ينطق بالشهادتين، ويعلن بلسانه ان القرآن كلام اللّه، ويسبح، ويصلي، ويصوم ويزكي، وينفق ويتصدق، ويعتمر، ويحج، ويخرج للجهاد مع الرسول، او يعتذر عن الخروج، ويبالغ بالاعتذار اذا تخلف حتي يقبل الرسول عذره، فمن حيث الظاهر هو مسلم من جميع الوجوه. لكنه في قراره نفسه كافر بكل ما جاء به محمد، يكره النبي، ويكره قيادته للمجتمع، يحقد علي النبي وعلي اهل بيته، وعلي من يحبهم ويواليهم، ويحب الذين عادوا النبي واهل بيته فيتخذه وليجه له ووليا، ويتربص الفرص لنقض كلمه الاسلام من اصولها. لقد ترسخت فكره النفاق، وصارت مشكله النفاق من اعظم المشكلات التي واجهت النبي ومن والاه، حيث عمت هذه الظاهره، المدينه وما حولها، فعبداللّهبن ابي يسكن مع ابنه في بيت واحد، ومع هذا فالوالد زعيم المنافقين، والابن عبد صالح يوالي اللّه ورسوله، ولقد عبر القرآن عن ذلك خير تعبير قال تعالي: (وممن حولكم من الاعراب منافقون، ومن اهل المدينه مردوا علي النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم).. [404] لقد تحول المنافقون الي قوه رهيبه، فقد كثر عددهم حيث شكلوا الاكثريه الساحقه من مجتمع المدينه، ولكن فاعليتهم كانت ملجومه بقياده النبي الحكيمه، وبوجوده المبارك. وقبول المسلمين لهذه القياده وكم حاول النبي ان يصلحهم، وان يهديهم سواء السبيل، ولكنهم اختاروا العمي علي الهدايه، وذهبت كل المحاولات ادراج الرياح.
عندما انتقل النبي الي جوار ربه، رقص المنافقون طربا وفرحوا بموته، وفرحوا عندما دب الخلاف بين اتباعه، وكانت سعادتهم لا توصف عندما خرج اهل بيت النبوه من دائره الحدث والتاثير واقصوا عن قياده الامه. هنالك اختفت كلمه النفاق وتبخر المنافقون تماما، وكانهم كانوا ينتظرون موته ليصلحوا انفسهم قبل ان يرتد اليك طرفك، وليعلنوا ولاءهم المطلق للسلطه التي خلفت النبي!! ان هذا لشيء عجاب. وبعد ان استعرضنا القوي الفاعله في يثرب عند قدوم النبي، سنبين بما امكن من الايجاز كيف تعامل النبي مع هذه القوي؟
بعد نجاه النبي من موامره قتله التي خططت لها زعامه بطون قريش، وافلاته من مطارده خيل البطون ورجلها له، تابع رحلته المباركه الي يثرب، ووصلها ووجد سكان يثرب ومن حولها من الاعراب قد خرجوا عن بكره ابيهم ليستقبلوه، وليظهروا او يتظاهروا باظهار فرحتهم بقدومه، بغض النظر عن حقيقه نواياهم، ودوافعهم لهذا الاستقبال والخروج، وبغض النظر عن اختلافهم الكبير بشان النبي كما اسلفنا. ومن الموكد ان سكان يثرب ومن حولها، كانوا بواقع الحال احد ثلاثه: 1- فاما مومن صادق يعتبر موالاه النبي وطاعته جزءا من دينه وهذا حال الذين امتحن اللّه قلوبهم للايمان من المهاجرين والانصار، كسعدبن عباده، وسعدبن معاذ، والمقداد، وعماربن ياسر. 2- واما منافق يتظاهر بالاسلام وبموالاه النبي رغبه او رهبه، ويبطن الكفر بالاسلام والحقد علي النبي وآله واوليائه، ويقيم اوثق العلاقات مع اعدائهم كحال عبداللّه بن ابي، واصحاب مسجد الضرار، والذين تامروا علي قتل النبي. 3- واما من اليهود الذين انبهروا بالسرعه التي التف بها اهل المدينه من العرب حول محمد، وادركوا ان محمدا صار سيد المدينه وما حولها، وان لاتباعه الكلمه العليا، وان مصالحهم ونفوذهم تحت رحمه الرجل واتباعه، ومن الحكمه ان يتظاهروا بموالاه محمد الي حين، حرصا علي مصالحهم، وتجنبا للسباحه بمعاكسه التيار العام.
انتهت فتره مراسم الاستقبال، واستقر النبي في وطنه الجديد (المدينه المنوره وما حولها) وبرزت عمليا اركان دوله المواجهه، وتولي النبي زمام المبادره لتوجيه هذا البروز، وقاد عمليا وبدون ضجه اعلاميه بلوره اركان دوله المواجهه المستقبليه.
محمد (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بالضروره هو اس السلطه، وهو القائد وهو المرجع، فهو الرسول الذي اختاره اللّه تعالي لتبليغ رسالات ربه وعينه وليا واماما وجعل طاعته والقبول بشرعيه قيادته ومرجعيته جزءا لا يتجزا من دين الاسلام، وبالتالي فهو المكلف ببيان القرآن وهو الاعلم، والافهم، والاتقي، والافضل بشهاده اللّه تعالي فمن الطبيعي جدا ان يكون هو القائد وهو الامام، وهو المرجع. وقد احيط سكان يثرب علما بالخطوط العريضه للمواجهه التي جرت بين محمد، وبين زعامه بطون قريش خلال مده ال13 عاما التي قضاها النبي في مكه قبل هجرته، وفهموا بان النبي قد اعلن عليبن ابي طالب وليا لعهده واماما من بعده كما وثقنا. فالامام او رئيس السلطه معروف، ونائبه معروف. ومن الطبيعي ان يتولي الامام او القائد توزيع الادوار وان يستعين بمن يراه مناسبا لتحقيق الغايه الشرعيه من ظاهره السلطه. وقد بينا ان كل سكان المدينه المنوره وما حولها قبلوا بقياده محمد قلبيا او تظاهروا بالقبول، ومحمد ليس مخولا ان يطلع علي نوايا شعبه، بل تعامل مع الظاهر، وترك امر البواطن للّه. بمعني ان سكان المدينه وما حولها قد قبلوا وبدون ضغط ولا اكراه بقياده محمد، ومرجعيته.
تكون شعب الدوله الجديده من سكان يثرب وما حولها وهم بالضروره احد اربعه اصناف: 1- المسلمون الصادقون الذين هاجروا من مكه الي المدينه (المهاجرون). 2- المسلمون الصادقون الذين آمنوا من اهل يثرب ومهدوا لقدوم النبي، واعدوا المجتمع اليثربي لتقبل النبي. 3- المسلمون الذين تظاهروا بالاسلام وموالاه النبي -رغبه او رهبه- وابطنوا الكفر والكراهيه لمحمد ولال محمد ولمن والاهم وهم (المنافقون). 4- اصحاب المصالح الذين كرهوا قياده محمد، وكرهوا دينه، ولكن حرصا علي مصالحهم وحتي لا يسبحوا بمواجهه التيار العام تظاهروا بقبولهم لقياده محمد للمجتمع الجديد وهم اليهود. الصنفان الاوليان (المهاجرون والانصار) ظاهرهما كباطنهما مع النبي، ومع القرآن، ومع الدين بلا تردد ظاهرا وباطنا. واما الصنفان الثالث والرابع: فظاهرهما مع النبي ومع قيادته للمجتمع وباطنهما كاره لذلك، حاقد عليه، يتربص الفرص لنقضه، ولكنهما لا يظهران الا ودا، بمعني ان سكان يثرب وما حولها قابلون بقياده محمد، وراضون بها، وبمحض اختيارهم العلني رضوا ان يكونوا شعب السلطه الجديده، وقبلوا او تظاهروا بالقبول بكافه ترتيبات هذه السلطه. وهذا عين ما تمنته كل دوله متحضره طوال التاريخ.
المهاجرون والانصار بالمفهوم الذي وضحناه آنفا، يومنون بان الحل لما ينجم بينهم، وبينهم وبين غيرهم يكمن في كتاب اللّه وسنه نبيهم. فكتاب اللّه، وبيان النبي لهذا الكتاب هما بمثابه المنظومه الحقوقيه او القانون النافذ الذي ينظم العلاقه بين السلطه والامه، او بين افراد الامه وجماعاتها، او بين الكيان السياسي للامه وغيره من الكيانات، ويرسم المسالك لبلوغ الغايات العامه والخاصه. والمسلمون المنافقون يتظاهرون بذلك، واصحاب المصالح يعلنون انه لا مانع لديهم من ذلك، وانهم يقبلون بكل الترتيبات التي يضعها محمد. بمعني ان كل افراد الشعب قبلوا او تظاهروا بقبول القياده السياسيه المتمثله بمحمد، وبقبول القانون النافذ المتمثل بالقرآن الكريم، وبفهم النبي له، وبتوجيهات هذا النبي، والتي تعتبر جزءا لا يتجزا من القانون ومن الاسلام معا. وهذا اقصي ما تطمح الدول بتحقيقه.
المدينه المنوره وما حولها هي اقليم الدوله من حيث المبدا، وهو غير محدد، لان الارض كلها للّه، ومحمد هو رسوله المكلف بتبليغ رسالات ربه الي نبي البشر، وكلما تبلغ فوج من البشريه الرساله، وصدق بها، ووالي نبي اللّه او الامام الشرعي من بعده فيصبح هذا الفوج آليا جزءا من رعايا الدوله، والارض التي يقيم عليه هذا الفوج تغدو جزءا لا يتجزا من اقليم الدوله الاسلاميه. فالعبره بالدخول في دين اللّه، وبموالاه نبيه او القبول بقيادته او قياده الامام الشرعي القائم مقامه، والعبره ان يكون الدخول في الاسلام والموالاه او التظاهر بهما بدون ضغط ولا اكراه، ومن هنا فان الدوله الاسلاميه معده اصولها لتكون دوله عالميه تسود العالم كله من حيث السلطه، وتضم جماعات الجنس البشري كلها لتكون شعبا لهذه الدوله، وتنقص الارض من اطرافها لتكون الكره الارضيه اقليما لهذه الدوله.
النبي العظيم متيقن ان نجاته من موامره القتل، وافلاته من مطارده خيل البطون ورجلها لم يضع حدا لحاله المواجهه بينه وبين زعامه بطون قريش. وان هذه الزعامه الفاسده لن تقبل بالتطورات الاخيره والتي اسفرت عن ميلاد كيان سياسي جديد في المدينه المنوره وما حولها برئاسه محمد الذي تعتبره عدوها اللدود. وبالتالي فان زعامه البطون لن تعترف بهذا الكيان الجديد باي وجه من الوجوه، ولن تخلي بين محمد وبين العرب، بل ستتابع استغلال نفوذها الادبي عند العرب لتصدهم عن محمد وعن دينه، ولتحرضهم عليه. وزياده علي ذلك فان زعامه البطون ستتصدي بالذات لمقاومه محمد والصدام معه ومحاوله القضاء عليه وعلي دينه نيابه عن العرب الذين لم يوكلوها بذلك مما يعني ان استمرار المواجهه وتصعيدها بين النبي ومن والاه، وبين زعامه بطون قريش ومن والاها قدر محتوم، وامر لا ريب فيه. فمن الطبيعي والحاله علي هذه الشاكله ان يبدا النبي مبكرا باستعداداته لهذه المواجهه، ولمواجهات اخري محتمله جدا مع فئات اخري تتعارض مصالحها مع الاسلام ومع نبيه. وقد راي (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ان اولي اولوياته هو ترتيب الاوضاع الداخليه في الكيان السياسي الذي وجد نفسه رئيسا له.
لكي نفهم التشريعات التي وضعها رسولاللّه لترتيب وتنظيم الاوضاع الداخليه لشعب المدينه المنوره وما حولها لا بد من فهم طبيعه تركيبه هذا الشعب الذي وجد النبي نفسه عمليا قائدا له، وهذه التركيبه في غايه التعقيد والتشابك، بحيث يتعذر علي اي رجل في العالم ان ينجح في قياده هكذا شعب، او ان يخلق بين افراده وجماعاته حاله من الانسجام والتوافق توهلهم لئن يكونوا طرفا موفقا في ايه مواجهه جديه. فشعب المدينه وما حولها يتكون من مجموعه من البطون القبليه المتميزه تماما عن بعضها، الحريصه علي وجودها واستقلالها القبلي بالرغم من ارتباطها برابطه الدم والقرابه باحدي القبيلتين الاعظم الاوس والخزرج، وهذه البطون مسكونه بهواجس التنافس والتحاسد والتكاره. اما بقيه شعب المدينه فهم بطون، او عائلات يهوديه استقرت في المدينه بعد طول ترحال، ولم يفارقها الاحساس بالغربه، ولا الشعور بانها عنصر اجنبي رغم طول الاقامه، وكثره الثروه وتشابك المصالح. وقد نشات بين هذه التجمعات القبليه المتنافره تحالفات بين بعض البطون والبعض الاخر، او بين بعض هذه البطون وبعض العائلات اليهوديه فرضتها حاجات واقعيه.
واعتنقت كل بطون قبيلتي الاوس والخزرج الاسلام او تظاهرت باعتناقه، ووالت كل بطون الاوس والخزرج رسولاللّه بعد هجرته، او تظاهرت بموالاته رغبه او رهبه. وهكذا وظاهريا جمعوا بين وحده الدين، ووحده الاصل، ووحده الوطن، ووحده القياده. لكن الامور واقعيا كانت مختلفه جدا، فاكثريه الاوس والخزرج لم يعتنقوا الاسلام انما تظاهروا باعتناقه، ولم يوالوا النبي حقا، انما تظاهروا بموالاته، وهذه الاكثريه هي التي عرفت شرعا (بالمنافقين) حيث تعذر عليها ان تبقي علي حالها، او تسبح بمواجهه تيار قوي وجارف، فتظاهرت باعتناق الاسلام، وبموالاه النبي، واضمرت الكفر بالاسلام والحقد علي النبي. واندست مظهره اسلامها وموالاتها للنبي ومبطنه كفرها وحقدها علي النبي، تتربص الفرص لنقض كلمه الاسلام من اصولها، وللقضاء علي محمد وآله ومن صدق به. وليس من المستبعد ان هذه الاكثريه بقيت عاكفه علي اصنامها تقدم لها فروض الطاعه، وليس بعيدا ان تكون هذه الفئه بلا دين وبلا خلاق. اما بطون اليهود والعائلات اليهوديه فقد كانت اقل مكرا وابعد غورا، فبعضهم اعتنق الاسلام وصدقوا وهم قله، والاكثريه منهم بقيت علي دينها، وبنفس الوقت اظهرت قبولها بقياده النبي، وتعاملت بحذر مع الاكثريه المنافقه، وتعاطفت معها. وتمنت الاكثريه اليهوديه ان ينجح مخطط المنافقين الرامي الي نقض كلمه الاسلام من اصولها، والقضاء علي محمد وآله والمخلصين له، وطبع اللّه علي قلوب الفريقين. اما الفريق الثالث فهم المومنون الذين امتحن اللّه قلوبهم للايمان من المهاجرين والانصار فقد آمنوا باللّه حقا، وصدقوا رسوله، وصدقوا بموالاتهم له. وكانت عقولهم وهواهم مع اللّه ورسوله. وبالرغم من قله الفئه المومنه، الا ان اللّه تعالي قد ساعدها بفرض هيبتها، وخلق جوا من الانبهار بوجودها.
وفوق هذا وذلك وجدت حاله من التشابك العجيب بين تشكيلات شعب المدينه وما حولها، فافراد وبطون الاوس قلبيا مع الذين ينتمون للاوس، وافراد وبطون الخزرج مع المنتسبين للخزرج. ومن الممكن تجاهل رابطه الدم، والتنافس بين القبيلتين حقيقه من حقائق الحياه ترسخت نهائيا، لقد خففها الاسلام، لكنه لم يقو علي اقتلاعها نهائيا من النفوس. والتحالفات بقيت مصانه، وبقيت آثارها. ثم ان هنالك ظاهره عجيبه حقا، فقد يكون الاب منافقا ويكون الابن مومنا. ومهما تمكن الاسلام من قلب الولد فعسير جدا عليه ان يترك اباه، فعندما كثر الحديث عن ضروره قتل عبداللّهبن ابي عز ذلك علي ابنه المومن واستاذن النبي بقتل اباه، حتي لا يقتله غيره ويكون مضطرا لمشاهده قاتل ابيه، فيطمئنه النبي ويوكد له بانه سيحسن صحبته ولن ياذن لاحد بقتله.
هذه هي الخطوط العريضه لطبيعه المجتمع الذي وجد النبي نفسه قائدا له، وهو مجتمع يتعذر علي اي رجل فذ ان ينجح بقيادته وتوحيده لكن النبي موهل الهيا، وهو ذروه الوجود الانساني. فقد كان، ببصيرته الثاقبه وبعون اللّه، علي علم كامل بطبيعه التشكيلات البشريه التي يتكون منها شعبه، وهو لم يتوقع بان يحكم شعبا من الملائكه، لذلك عمم ان يتعامل مع الواقع كما هو، وان ينقله بحدود قدرته علي الاحتمال، وتدريجيا مما هو كائن الي ما ينبغي ان يكون او لاقرب نقطه مما ينبغي ان يكون.
لترتيب الاوضاع الداخليه لشعب المدينه وما حولها تمهيدا لاعداده للمواجهات، وضع النبي دستورا مكتوبا عرف بالصحيفه، وهو بمثابه عهد من الرسول، وتكون هذا الدستور النبوي من 48 ماده مصاغه صياغه دستوريه من جميع الوجوه. وعند الوقوف علي المعاني اللغويه للكلمات والمصطلحات التي وردت في هذا الدستور، وبعد الاطلاع علي التشريعات الاسلاميه التي صدرت خلال حياه النبي فيما بعد، وبعد الاحاطه بتفاصيل النظام السياسي الاسلامي، يجد الباحث الموضوعي المتجرد ان هذه الصحيفه التي وضعها رسولاللّه لغايات تنظيم المجتمع المديني واعداده للمواجهه، هي دستور دوله من جميع الوجوه. وهي افضل دستور يمكن ان يوضع لترشيد المجتمع المديني في هذه المرحله، فقد اختيرت الفاظه لتكون هينه علي الاسماع، خفيفه الوقع، توقظ مجتمع المدينه، ولا تهيجه.
يتضمن الدستور ترتيب الاوضاع الداخليه في مجتمع المدينه وما حولها في حالتي السلم والحرب، وبيان مجمل لحقوق الجماعات التي تكون المجتمع وواجباتها، وحدد طبيعه العلاقات بين الجماعات المكونه لشعب المدينه، وبين السلطه المتمثله بشخصه الكريم. فحافظت كل جماعه علي وجودها، واعطيت قدرا كافيا لاداره شوونها وحل اشكالاتها، وعندما يتعذر عليها الحل فالمرجع هو رسولاللّه. وتضمن الدستور اعلانا ضمنيا ومكتوبا ولاول مره بان رسولاللّه هو اعلي سلطه في البلاد، وحكمه هو الفصل بحل الخلافات، ورسم الدستور افقا للعلاقات بين هذا الكيان السياسي وبين غيره من الكيانات السياسيه المنتشره في الجزيره. وتضمن الدستور موادا تنص بوضوح بان زعامه بطون قريش هي عدوه الجميع ولا يجوز لاي فرد او جماعه من جماعات شعب المدينه وما حولها ان تعقد صلحا منفردا معها، او ان تتحالف مع اي بطن من البطون المنتميه لزعامه بطون قريش. واشتملت الصحيفه موادا تتيح للجماعات حريه الحركه في عمومها والرجوع للنبي عند الاختلاف، وتضمنت مباديء تبرز اهميه قيم معينه. ومع علم النبي بخطوره ظاهره النفاق، وبكثره المنافقين، الا انه لم يشر لهذه الظاهره، ولا لاتباعها، ولم يعترف بوجودها، انما تعمد تجاهلها واغفالها تماما، طمعا بالاصلاح او الاستطلاع وتعبيرا عن حسن نيه السلطه الجديده نحو شعبها وتفهما منها لنوازع النفس البشريه.
مراجع الدستور النبوي: سيره ابن هشام 1/501وما فوق،ومجموعه الوثائق السياسيه لمحمد حميد اللّه ص 15وما بعدها،والرسول العربي وفن الحرب عند العرب لقائد الجيش السورياللواء مصطفي طلاس،كما نقلها عن سيره ابن اسحاق، ونظام الحكم في الشريعه والتاريخ لظافر القاسمي ص 31وما فوق.الماده الاولي:(هذا كتاب من محمد النبي رسولاللّه بين المومنين والمسلمين من قريش واهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم امه واحده من دون الناس). فهذه الماده اعلنت عن ميلاد امه جديده تتكون من المومنين والمسلمين من قريش واهل يثرب وممن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، وان الذي اعلن عن ميلاد هذه الامه الجديده، هو محمد النبي رسولاللّه. وهذه الامه الجديده تشمل جميع السكان الذين والوا النبي او تظاهروا بالموالاه والذين اعتنقوا الدين او تظاهروا باعتناقه والذين لم يعتنقوا الدين، ولكنهم تظاهروا بقبولهم لقياده النبي وهم اليهود. لاحظ الماده 25 والمواد 26-36 التي عالجت طبيعه انتماء اليهود للمجتمع الاسلامي بمعني ان الدستور وجد ليحكم المسلمين واهل الكتاب وليعيش الفريقان في ظله. المواد من 3-11 تقر بالوجود الشرعي للتشكيلات القبليه وملحقاتها وترتيباتها، وتدخل مفهومي المعروف والقسط، كذلك فالمواد 24-36 تقر بالوجود السياسي ليهود بطون معينه. الماده 39:(يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفه) والماده42: (وانه ما كان من اهل هذه الصحيفه من حدث او اشتجار يخاف فساده فان مرده الي اللّه والي محمد رسولاللّه..) والماده44 قد نصت: (وان بينهم النصر علي من دهم يثرب) ونصت الماده38 علي: (وان اليهود ينفقون مع المومنين ما داموا محاربين) ماده22: (وانكم مهما اختلفتم من شيء فان مرده الي اللّه والي محمد).بمعني ان يثرب هي وطن الجميع، وان محمدا هو مرجع الجميع، وان النفقات مفروضه علي الجميع. الماده43: وقد نصت هذه الماده علي ما يلي: (وانه لا تجار قريش ولا من نصرها) الماده20ب: (وان لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه مومن). وببساطه صارت بطون قريش هي عدوه المجتمع. الماده40: (وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم) والماده12: (وان المومنين لا يتركون مغرما (اي مثقلا بالديون) بينهم ان يعطوه بالمعروف في نداء او عقل) والماده17: (وان سلم المومنين واحده لا يسالم مومن دون مومن). تلك نماذج من مواد الدستور النبوي. تدابير اخري: وفي نطاق تنظيم الشعب وتهيئه المجتمع للمواجهه اوجد رسولاللّه نظام المواخاه حيث آخي بين المهاجرين في مكه قبل الهجره، وآخي بينه وبين ولي عهده والامام من بعده عليبن ابي طالب. وبعد ان تمت الهجره آخي بين المهاجرين من مكه، وبين انصار المدينه، وآخي بينه وبين ولي عهده عليبن ابي طالب، واعمالا لمبدا المواخاه اوجد نظام المشاركه والمواساه، حيث قدم الاغنياء اجزاء من اموالهم الي اخوانهم الفقراء، وحض علي الانفاق واعتبره اكبر مظاهر الايمان، وشجع الفقراء علي اخذ نصيبهم من اموال الاغنياء وذوي الفضل باعتباره حق شرعي لهم، وحض الاغنياء والفقراء علي التكافل والتضامن، معلنا انهم شركاء في مالاللّه، ورسم صوره شرعيه لمجتمع الايمان حيث اعتبره بمثابه الجسد الواحد، اذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي. وتبع هذه التدابير مجموعه كبيره من التشريعات الاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه خلقت مجتمعه حاله فريده من التماسك والتعاضد بين الجماعه المومنه، وميزتها عن غيرها من الجماعات، وساعد علي نجاحها ان رسولاللّه وهو قائد المجتمع كان مستوي معيشته لا يختلف عن مستوي افقر افراد الشعب.
طوال فتره البعثه النبويه التي سبقت الهجره، والتي استمرت 13عاما، والنبي واهله بحاله مواجهه مع بطون قريش، فبطون قريش ال23 باختصار شديد ترفض رفضا مطلقا ان يكون النبي من بني هاشم، وتبعا لذلك فانها ترفض الدين الاسلامي لانه قد جاء عن طريق هاشمي. وخلال تلك الفتره عارضت بطون قريش النبوه الهاشميه، والدين الذي جاء عن طريق هاشمي بكل اشكال المعارضه وقاومته بكل فنون المقاومه، وصدت عنه بكل انواع الصد مستعمله نفوذها الادبي عند العرب، ثم افلست زعامه البطون، وتامرت علي قتل النبي قبل هجرته، واشتركت كل بطون قريش ال23 بهذه الموامره القذره، ولكن اللّه نجي نبيه، وفشلت الموامره، وتابع النبي مسيره هجرته الخالده، فجن جنون بطون قريش، فطاردت النبي بخيلها ورجلها، وخصصت جائزه كبري لمن يقبض عليه حيا او ميتا قبل وصوله الي يثرب، وفشلت المطارده، ووصل النبي سالما الي عاصمه دولته، ورتب اوضاعها المعقده بمده لا تتجاوز السته اشهر.
بطون قريش لا تقبل ان يكون النبي من بني هاشم، ولا تقبل اي دين عن طريق هاشمي، ولا تسمح باي تميز للبطن الهاشمي لا في مكه، ولا باي مكان في العالم. فحسدها للبطن الهاشمي يفوق التصور والتصديق، وفي سبيل تحقيق ذلك، فان البطون: 1- لن تعترف مطلقا بنبوه محمد، ولا بالكيان السياسي الذي يراسه محمد. 2- ستستعمل نفوذها عند العرب وتتابع صدهم عن محمد وعن دينه، وتتابع دعاياتها الكاذبه، واختلافاتها الظالمه ضده وضد دينه. وكلمه زعامه بطون قريش مسموعه، فهم حماه البيت الحرام، وجيرانه، وسدنته ولا احد من العرب لا يعرفهم، ثم ان محمدا من قريش، ولو وجدت قريش بمحمد خيرا ما اخرجته، ولا تامرت علي قتله، ولما استمرت بعداوته. وبطون قريش تتزعم عداوه محمد خدمه للعرب ودفاعا عنهم وعن معتقداتهم، تلك هي اسطوانه البطون التي تكررها امام الحجيج وامام العمار دائما. 3- ان محمدا مذنب، لانه لم يمكن زعامه البطون من قتله، ومذنب لانه قد نجا من مطارده خيل البطون ورجلها، لذلك فان البطون ستلاحقه نيابه عن العرب فتريح العرب منه وتستريح، وتفشل النبوه الهاشميه. هذا هو المنطق المعوج لزعامه بطون قريش.
بالهجره اختلفت الامور تماما، فمحمد(ص) يتراس كيانا سياسيا اكثر تنظيما واستقرارا من الكيان السياسي الذي تتوزع زعامه البطون رئاسته، وليس الهاشميون وحدهم هم الذين يحمون محمدا ودينه بل يحمي محمدا ودينه شعب المدينه وما حولها، فالمومنون الصادقون يبطنون الحمايه ويعلنونها والكاذبون يتظاهرون بحمايه الدعوه والداعيه، ويحلفون اغلظ الايمان بانهم مع اللّه ومع رسوله، ولا يجرو احد منهم ان يظهر غير ذلك. ولم يعد الذين اتبعوا محمدا ضعفاء يخافون ان يتخطفهم الناس انما صارت لهم دوله تحميهم ويحمونها، وصار لهم وطن ياويهم ويدافعون عنه. وباختصار صارت للمسلمين دوله حقيقيه برئاسه محمد (صلي اللّه عليه وآله وسلم)، وتغيرت موازين القوي تماما.
للنبي مطلب واحد وهو ان تخلي بطون قريش بينه وبين العرب، وان تتوقف عن استغلال نفوذها الادبي عند العرب لصدهم عنه، وان تتوقف عن دعاياتها الكاذبه ضده وضد دينه، وان تعترف بوجوده وبحقه باستقطاب الناس حوله وحول دعوته،. ولقد عبر عن هذا المطلب عتبهبن ربيعه الاموي حيث خاطب زعامه البطون قبل نشوب القتال في بدر قائلا: (... فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فان اصابوه فذاكالذي اردتم، وان كان غير ذلك الفاكم) [405] . ومحمد لا يكره احدا علي الدخول في دينه، ودين محمد لا يبيح الاكراه وهو قائم علي القناعه، فجزء كبير من شعب المدينه وما حولها، ما زال علي دين اليهوديه، ومع هذا يعيشون بسلام مع المسلمين، وزعامه بطون قريش علي علم بذلك، وعلي علم بما يطلبه النبي منها، وهي تعرف قلبه الكبير، ونفسه العاليه، فلا خوف من عقابه لها علي عذابها له ولاله ولمن اتبعه، قبل هجرتهم الي يثرب، وبالتالي فليس كثيرا عليها ان تجيب مطلبه هذا. فاليهود يستقطبون الناس لدينهم ولا تعترضهم بطون قريش، والنصاري يفعلون ذلك، وعبده الاصنام يتمتعون بذات الحقوق، وبطون قريش لا تعترضهم، ولا تضع امامهم اي عائق، وتخلي بينهم جميعا وبين العرب، فلماذا لا تعامل ابنها محمدا كما تعامل غيره؟ ولماذا لا تخلي بينه وبين العرب، كما خلت بين اصحاب الديانات وبين العرب؟ ولكن قريشا رفضت مطلب محمد رفضا مطلقا، وتصر علي ملاحقتها له وعلي اجهاض دينه، وابطال نبوته والقضاء عليه ان استطاعت، لانها مسكونه بالحسد لمحمد ولاهل بيت محمد!!!
يتوجب علي بطون قريش ان تخلي بين محمد وبين العرب، وان تتوقف عن استغلال نفوذها للحيلوله بينه وبين العرب، وان تمتنع عن دعاياتها الكاذبه واختلافاتها الظالمه ضده وضد دينه، مستغله قدوم العرب لحج البيت او لاداء العمره، فمحمد مشفق وناصح لخلق اللّه، ويكره سفك الدم وقتل النفس التي حرم اللّه، فما هي الطريقه المثلي التي تحقق مطلبه بدون سفك دم وبدون قتال؟ مكه التي تسكنها بطون قريش (واد غير ذي زرع)، وحياه سكانها تعتمد بالدرجه الاولي علي التجاره، فهي عصب الحياه في مكه، والتجاره تقوم علي رحله الشتاء الي اليمن ورحله الصيف الي بلاد الشام، فاذا اقتنعت زعامه بطون قريش ان رحلتها الصيفيه الي بلاد الشام اصبحت في خطر وتحت رحمه محمد، فالعقل والمنطق يفرضان عليها ان تتفاوض مع محمد، لرفع الخطر عن طرق تجارتها الي بلاد الشام، ومحمد لا يطمع بالكثير، فهو يريد ان تعترف به بطون قريش كما تعترف بغيره، وان تخلي بينه وبين العرب كما خلت بين غيره وبين العرب. ومحمد اولي بذلك للرحم والقربي، وبالمقابل فان محمدا لن يعترض طرق تجارتها الي بلاد الشام. هذا هو اسهل الحلول لتجنب استمرار حاله المواجهه بينها وبين محمد، ولكن الحسد اعمي بصائر زعامه بطون قريش، وحقدها علي محمد وبني هاشم عطل عقلها تماما، وسلبها القدره علي التخطيط السليم، فبطون قريش لا تريد ان تعترف بان موازين القوي قد اختلت، وبوقت يطول او يقصر، وسواء اشاءت قريش ام ابت سيصبح محمد سيد العرب وزعيمهم بغير منازع.
خلال سته اشهر استطاع النبي ان يرتب الاوضاع الداخليه في يثرب، وان يحدد مسارب الامور ومسالكها الشرعيه، وان ينتزع وبالرضا اقرار سكان يثرب وما حولها بمسارب الشرعيه ومسالكها. فكل جماعه من الجماعات التي يتالف منها المجتمع اليثربي تري ان موالاه محمد والقبول به حكما وحاكما ومرجعا هي الشرعيه، وان معاداته ورفض حكمه وتحكيمه ومرجعيته هي الخروج الصارخ علي الشرعيه، وهذا قمه ما يطلبه الحاكم من رعيته، والمجتمع اليثربي قد وافق بالاجماع علي ان بطون قريش هي عدوه الجميع، لا تجار، ولا يجوز الصلح المنفرد معها، ولا يحال بين مومن وبين مال او نفوس تلك البطون كما هو واضح من مواد الدستور النبوي الذي نوهنا عنه آنفا. ومحمد كقائد وكرسول مهمته ان يرشد المواجهه بين الكيان السياسي الذي يراسه، وبين زعامه بطون قريش، بحيث تكون هذه المواجهه بحدود الشرعيه الالهيه بلا بغي ولا عدوان. وبالفعل فما ان رتب النبي الاوضاع الداخليه لكيانه السياسي حتي بدا بارسال الاشارات المتلاحقه الي زعامه بطون قريش لاشعارها ان الامور قد تغيرت، وان طريق تجارتها الي بلاد الشام اصبحت تحت رحمته، فان شاء تركها تمر آمنه، وان شاء منعها، ومن الخير لها ان تفاوضه، فهو لا يطمع بالكثير، وغايه ما يتمناه بهذه المرحله هو ان تخلي بطون قريش بينه وبين العرب، وان تتوقف عن استغلال البيت الحرام لبث اكاذيبها ودعاياتها الظالمه ضده وضد دينه.
في الشهر السابع من الهجره ارسل الرسول سريه عسكريه برئاسه عمه حمزهبن عبد المطلب لاعتراض عير قريش، وفي الشهر الثامن ارسل سريه اخري برئاسه ابن عمه عبيدهبن الحارث. [406] وفي الشهر التاسع ارسل سريه برئاسه سعدبن ابي وقاص، وفي الشهر الحادي عشر قاد بنفسه سريه لاعتراض عير قريش، واثناء عودته وادع بني ضمره. [407] وفي الشهر الثالث عشر تمت غزوه بواط لذات الغايه، وفي الشهر السادس عشر تمت غزوه ذي العشيره لذات الهدف. [408] وفي الشهر السابع عشر تمت غزوه نخله لذات الغايه، حيث قتل عمروالحضرمي، واسر صاحباه [409] .واخيرا تم تجهيز قوه للاستيلاء علي القافله التي عادت من بلاد الشام، والتي اسفرت عن معركه بدر وهي اول مواجهه مسلحهبين النبي، وبين زعامه البطون [410] . كانت زعامه البطون تسمع بخروج كل سريه، وتعرف الغايه من خروجها، وقد تيقنت ان طريق تجارتها تحت رحمه محمد، ولكنها مضت بتجاهلها للرسول، وتجاهلها للواقع متغطرسه، تابي مفاوضته او التحدث معه باي شكل من الاشكال.
في المره الثامنه خرج النبي لاعتراض العير القادمه من الشام، وعلم ابو سفيان بخروج النبي، فغير خط سيره، وارسل الي بطون قريش يستنفرها لحمايه عيرها واموالها، فقررت بطون قريش ان تخرج كلها هذه المره، وان تشترك بالنفقات، فماتخلف احد من قريش الا بعث مكانه بعيثا [411] . وتولي حنظلهبن ابي سفيان، وعمروبن ابي سفيان مهمه تحريض قريش علي الخروج، مع ان مال العير لابي سفيان. [412] وفي غياب ابي سفيان قاد ابو جهل جيش البطون. وجهزت قريش 950 مقاتلا، ومئه فرس، وسبعمئه بعير والبست كل فارس درعا. [413] واستعدت لزحفها الاثم علي رسولاللّه لغايه معلنه وهي حمايه الاموال والعير.
رات عاتكه بنت عبد المطلب رويا مفادها ان راكبا اقبل علي بعير حتي وقف بالابطح، ثم صرخ باعلي صوته يا آل غدر انفروا الي مصارعكم ثلاثا، ثم دخل الكعبه وعلاها وكرر صرخته ثلاثا، وصعد الي ابي قبيس وكررها ثلاثا، ثم اخذ صخره فرماها وهوت فما بقي بيت من بيوت مكه، ولا دارا من دورها الا دخلته منها فلذه، الا بني هاشم وبني زهره اذ لم يدخل بيوتهم من هذه الصخره شيئا. وانتشر خبر الرويا، وسمعت به زعامه البطون، فقال ابو جهل: (ان يكن ما قالته عاتكه حقا فسيكون خلال ثلاثه ايام، وان مضت الثلاثه ولم يكن نكتب ان الهاشميين اكذببيت في العرب...) [414] .لما نجت القافله ارسل ابو سفيان لقريش رساله مفادها: (انما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم واموالكم فقد نجاها اللّهفارجعوا) [415] .قبل ان يبدا القتال وقف عتبه بن ربيعه، واقترح علي بطون قريش قائلا: (ارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب، فان اصابوافذاك الذي اردتم وان كان غير ذلك الفاكم) [416] .ومما قاله عتبه: (لا آمن ان تكون الدائره عليكم، وانتم لا تطلبون الا دم الحضرمي والعير التي اصاب، وانا احمل ذلك وهو علي، يا قوم ان يك محمد كاذبا يكفيكموه ذوبان العرب، وان يك ملكا اكلتم في ملك ابن اخيكم، وان يك نبيا كنتم اسعد الناس به، يا قوم لا تردوا نصيحتي ولا تسفهوارايي) [417] .
لم يكن هدف بطون قريش من خروجها حمايه العير، فالعير قد نجت، ولا دم الحضرمي، لقد افصحت بطون قريش عن هدفها الحقيقي من الخروج، فها هو قائد البطون ابو جهل يعلن: (لا واللّه لا نرجع حتي يحكم اللّه بيننا وبين محمد) [418] ، (واللّه لا نرجع بعد ان مكننا اللّه منهم، ولا نطلب اثرا بعد عين، ولا يعترض لعيرنا بعد هذه ابدا). [419] وفي لحظه من لحظات بطر قياده البطون وغطرستها قال ابو جهل: (وايم اللّه لا نرجع اليوم حتي نقرن محمدا واصحابه في الحبال فلا الفين احدا منكم قاتلا احدا منهم، ولكن خذوهم اخذا، نعرفهم بالذي صنعوا لمفارقتهم دينكم، ورغبتهم عما كان يعبد آباوهم) [420] ، وصرحت زعامه البطون بان من اسباب خروجهم، ان تسمع العرب بهذا الخروج، ويشربون الخمر في بدر، وتعزف لهم القيان، والي هذا اشار اللّه سبحانه وتعالي بقوله (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاءالناس) [421] . وهكذا زحفت بطون قريش لتحقيق هذه الاهداف، والقت عصاها في منطقه بدر، لترد عمليا علي الاشارات المتلاحقه من محمد لمفاوضتها.
لقد نجت القافله، وسمع النبي واصحابه بخروج قريش بخيلها ورجلها، وتصميمها علي الوصول الي بدر، فاتخذ النبي بمشوره اصحابه افضل المواقع، وسيطر علي الماء، وعبا اصحابه، وكانت رايه المهاجرين مع عليبن ابي طالب، ورايه الانصار مع سعدبنعباده [422] .وتترس بعضهم ببعض بصفوف متقاربه، واعطي الرسول امرا لاصحابه ان لا يسلوا السيوف حتي يغشاهم المشركون، وان لا يقاتلوا حتي يامرهم الرسول بالقتال، وبين لهم ان رجالا من بني هاشم قد اخرجوا كرها، وقال لهم: (فمن لقي منكم احدامن بني هاشم فلا يقتله) [423] .وكانت زعامه البطون علي علم بحقيقه مشاعر الهاشميين في مكه عندما اكرهتهم علي الخروج. انظر الي قولها: واللّه لقد عرفنا يا بني هاشم وان خرجتم معنا ان هواكم معمحمد [424] .
وقفت بطون قريش بخيلها ورجلها مصطفه للقتال، وبرز امام الصفوف قائدها ابو جهل، وبخشوع مصطنع، وبوقار كاذب رفع يديه الي السماء ودعا ربه قائلا: (اللهم اقطعنا للرحم، وآتانا بمالا يعرف فاحنه الغداه) [425] .وفي الجانب الاخر اصطف اصحاب محمد، وسوي النبي الصفوف، ورتب امورهم بمساعده الحمزه وعلي، ثم رفع يديه الي السماء ودعي ربه قائلا: (اللهم انك انزلت علي الكتاب وامرتني بالقتال، ووعدتني احدي الطائفتين وانت لا تخلف الميعاد، اللهم هذه قريش قد اقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم احنهم الغداه) [426] .
بعد ان هيا النبي اصحابه للقتال قال لهم بيقين: سيروا علي بركه اللّه، واللّه لكاني انظر الي مصارع القوم. هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان... فما عدا كل رجل مصرعه. وفي الجانب الاخر وبعد ان رتب ابو جهل بطون قريش قال لاحد معارضيه: (ستري غدا خلاف ما تري يقتل اشراف اصحابمحمد ويوسرون) [427] .
وقفت كل فئه بمواجهه الاخري، وصارت المواجهه المسلحه بينهما اقرب من السواد الي البياض، وفجاه خرج عتبهبن ربيعه بين اخيه شيبه وابنه الوليد للمبارزه ونادي مناديهم: يا محمد اخرج لنا الاكفاء من قومنا. فقال النبي: (يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث اللّه به نبيكم، اذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور اللّه. وكلف حمزهبن عبد المطلب عمه، وعليبن ابي طالب ابن عمه، وعبيداللّهبن الحارث قريبه ان يخرجوا للمبارزه. وقتل المشركون الثلاثه، وقطعت ساق عبيداللّه وحمل لرسولاللّه. فقال عبيداللّه يا رسولاللّه الست شهيدا؟ قال: بلي، قال: اما واللّه لو كان ابو طالب حيا لعلم اني احق بما قال حين قال:فكذبتم وبيت اللّه نخلي محمدا ولما نطاعن دونه ونناضلفونسلمه حتي نصرع حوله ونذهل عن ابنائنا والحلائل [428] .صعقت بطون قريش بهذه النتيجه، واهتزت، وادرك ابو جهل ذلك فخاطب جيشه قائلا: (الا لا يهولنكم مقتل عتبه، وشيبه، والوليد، فانهم عجلوا وبطروا حين قاتلوا، وايم اللّه لا نرجع اليوم حتي نقرن محمدا واصحابه في الحبال، فلا الفين احدا منكم قتل منهم احدا ولكن خذوهم اخذا، نعرفهم بالذي صنعوالمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان يعبد آباوهم) [429] . وشهر سيفه، وشهر المشركون سيوفهم ثم هجموا، والتحمت الفئتان التحاما رهيبا، قله مومنه، قليله العده والعدد، وكثره مشركه كثيره العده والعدد.
حمزه بن عبد المطلب اسد اللّه واسد رسوله، لا يخفي علي احد، لكن الرجل الذي قاتل بقدره، وكفاءه تفوق الوصف والتصور هو عليبن ابي طالب، حتي لفت انظار اهل الارض واهل السماء، فنادي ملك من السماء: (لا سيف الا ذو الفقار ولافتي الا علي) [430] . لقد تالق نجم ولي عهد النبي في بدر، وادرك الكثير بان اللّه اعلم حيث يضع رسالته، لقد اثخن الامام علي، وقتل هو وحمزه نصف ما قتل من المشركين، وصارت بطوله الامام فيما بعد مسبه له، ووسيله للتحريض عليه، ومبررا لابعاده عن حقه بالامامه من بعد النبي، فبعد عشرين سنه يقول عمربن الخطاب لسعيدبن العاص: (اني لاراك معرضا تظن اني قتلت اباك، واللّه ما قتلت اباك) [431] ، يريد عمر ان يذكر سعيدا ان الذي قتل اباه في بدر هو عليبن ابي طالب.
انجلت المعركه، وهزمت بطون قريش هزيمه منكره، ومنيت بخسائر فادحه، وصدقت رويا عاتكه، فما من بيت الا وسقطت فيه فلذه من تلك الصخره، وصرع كل رجل من القتلي في المكان الذي حدده النبي سلفا وقتل من قتل، واسر من اسر، وصدق اللّه وعده، فاعطي نبيه ذات الشوكه بعد ان نجت العير، وسمع العرب بنتائج المعركه، وادركوا ان قوي خارقه تدعم محمدا، وان محمدا اصبح حقيقه من حقائق الحياه في الجزيره، وان السير معه هو طريق النصر والمجد.
انتهت المعركه بهزيمه البطون الساحقه، وبانتهائها حملت نفوس البطون باسوء جنين عرفته الخليقه وهو الحقد، فامتلات نفوس البطون بالحقد الاسود علي محمد وعلي آل محمد، وظل هذا الحقد في نفوسها، ولم يفارقها لحظه قط. وهكذا جمعت بطون قريش مع الحسد لمحمد ولاله، الحقد الاسود عليهم، واني لاي دين ان يقتلع هذا الثنائي القذر من النفس البشريه!! كيف يمكن لابي سفيان ان يحب عليا وقد قتل ابنه وعمه؟! كيف يمكن لمعاويه ان يحب عليا وقد قتل شقيقه وجده وخاله وابن خاله وعمومته؟! كيف يمكن لخالدبن الوليد وعثمانبن عفان، والوليدبن عقبهبن ابي معيط، ان يحبوا الحمزه وعلي وسيوفهما تقطر بدم الاباء والاعمام والاخوال!! يسهل التصور ان يحبوا النبي، ويصعب التصور بان يحبوا آله!! لقد لاحقهم الوتر، واورثوه لذرياتهم، وكتب علي اهل بيت محمد طوال التاريخ ان يدفعوا ضريبه عاليه لانتمائهم الصادق لمحمد ولدين محمد سيقول بعضهم: (الاسلام يجب ما قبله)، انهم يحملون النص غير معناه. ان النفس البشريه ليست زرا كهربائيا تطفا وتضاء بحركه. انها عالم من الانفعالات يتعذر عمليا علي الانسان ان يحب الذي قتل ابنه، او اباه، او جده، او اخاه او ابن اخيه، او عمه او ابن عمه، ان ذلك فوق طاقه النفس البشريه. صحيح ان الذي قتلهم قتلهم علي الايمان وجهادا في سبيل اللّه، بل ودفاعا مشروعا عن النفس، وصحيح ايضا ان عنوان الايمان موالاه اللّه ورسوله، ومعاداه اعدائهما حتي ولو كانوا الاباء والابناء والاخوه والذريه، لكن هذا كله لا يمنع انفعالات النفس البشريه، وثوره اشجانها من حين الي حين. فمحمد هو الامر، وعلي ابن ابي طالب، وحمزه بن عبد المطلب هما المنفذان اللذان نكلا بالبطون، فما من بطن الا وتعددت فيه النوائح علي قتيل او مقتولين في بدر، والهاشميون بمعيار بطون قريش يتحملون الجزء الاكبر من المسووليه، فلو سلموا محمدا للبطون، او خلوا بين البطون وبين محمد، لما قتل الذين قتلوا، ولما تطورت الامور الي هذا الحد.
قتل من الامويين في بدر احد عشر قتيلا، قتل اكثريتهم الساحقه علي، وبعضهم قتله حمزه، والبعض الاخر اشترك الاثنان بقتله. ومن هولاء القتلي حنظلهبن ابي سفيان، الابن الكبير لابي سفيان وشقيق معاويه، وعتبه بن ابي ربيعه جد معاويه، والوليد بن عتبه خال معاويه، وشيبه بن عتبه شقيق جد معاويه وعم امه، والعاصبن سعيد، وابنه عبيدهبن سعيدبن العاص، وعقبهبن معيط وهم القرابه القريبه لعثمانبن عفانبنابي العاصبن اميهبن عبدشمس [432] .
قتل اثنان منهم: عميربن عثمانبن عمروبن كعببن سعدبن تيم، قتله عليبن ابي طالب، وعثمانبن مالكبن عبيداللّهبن عثمان، وهما من القرابه القريبه لابي بكر عبداللّهبن عثمانبن عامربن عمروبن كعببن سعدبن تيم، ومن القرابه القريبه لطلحهبن عبيداللّه احد الذين عرفوا بانهم من المبشرين فيالجنه [433] .
قتل منهم عدد كبير، منهم ابو جهل، والعاص بن هشام بن المغيره خال عمربن الخطاب، والوليدبن المغيره والد خالدبنالوليد، وقتلهما عليبن ابي طالب [434] .
قتلت مجموعه من بني اسد منهم ربيعهبن الاسود، والحارثبن ربيعه، قتله عليبن ابي طالب، وعقيلبن الاسودبن عبد المطلب، قتله حمزه وعلي، ونوفلبن خويلدبن سعد، قتله علي... وهم من القرابه القريبه للزبيربن العوام احدالذين عرفوا بانهم من المبشرين في الجنه [435] .
خرجت بنو عدي مع بطون قريش، (فلما كانوا في السحر عدلوا في الساحل منصرفين الي مكه، فصادفهم ابو سفيان فقال: يا بني عدي، كيف رجعتم لا في العير ولا في النفير؟)، وباختصار فان بني عدي رجعوا من الطريق ولم يشتركوا في القتال، وحجه بني عدي الظاهره انهم رجعوا امتثالا لامر ابي سفيان حيث قالوا له عندما سالهم عن سبب رجوعهم: (انت ارسلتالي قريش ان ترجع فرجع من رجع ومضي من مضي) [436] .
قال الاخنس بن شريق وكان حليفا لبني زهره: (يا بني زهره قد نجي اللّه عيركم، وخلص اموالكم، ونجي صاحبكم مخرمهبن نوفل، وانما خرجتم لتمنعوه وماله، وانما محمد رجل منكم، ابن اختكم، فارجعوا واجعلوا جبنها بي، فلا حاجه لكم ان تخرجوا في غير منفعه، لا ما يقول هذا الرجل، فانه مهلك قومه، سريع في فسادهم) وبنو زهره هم قوم عبدالرحمنبن عوفبن عبدالحارثبن زهره وسعدبن ابي وقاصبن اهيببن عبد منافبن زهره، وهما من العشره الذين اشتهر بانهم من المبشرين في الجنه، وهما من السته الذين اختارهم عمرليكون احدهم خليفه [437] .
وهم قوم ابي عبيده عامربن عبداللّهبن الجراح، وهو احد الذين اشتهروا بانهم من المبشرين في الجنه، وهو ثالث الثلاثه الذين دخلوا السقيفه في ما بعد ووطدوا الامر لابي بكر وعمر، لم يقتلوا ولم يقتل منهم احد في معركه بدر.
اكثر بطون قريش بغضا للنبي وآله وحقدا عليهم هم: (بنو اميه، وبنو المغيره، وبنو مخزوم) هكذا رتبهم النبي [438] . وهذا النص علاوه علي انه صادر عمن لا ينطق عن الهوي، فهو قراءه متانيه وعميقه لوقائع الامور، فاكثر القتلي في بدر كانوا من هذه البطون الثلاثه، والمتنافسون علي زعامه بطون قريش هم سادات تلك البطون الثلاثه، وحسب حسابات هذه البطون الثلاثه فانها الاكثر تضررا من النبوه الهاشميه والتميز الهاشمي، وهذه البطون ايضا من اكثر بطون قريش حبا للوجاهه، وولعا بالتسلط. ومع ان هذه البطون الثلاثه لا تطيب نفوس بعضها لبعض، لانها تطلب ذات الغنيمه وتركض خلف نفس الطريده، الا ان كراهيتهم لمحمد ولال محمد اظهرتهم دائما بمظهر الفريق الواحد. فكم تهارش ابو جهل وعتبه، وكم قرع احدهما الاخر حيا وميتا لكنهما حاربا معا تحت نفس الرايه، لانهم بالضروره فريق واحد، ومع نشوب القتال وسقوط القتلي صارت بطون قريش تحقد علي محمد وعلي آلمحمد الا ان هذه البطون الثلاثه كانت رمز حسد البطون وحقدها علي محمد وعلي آل محمد.
الاكثريه الساحقه من بطون قريش ومواليها ناصبت محمدا وآلمحمد العداء، ورفضت النبوه الهاشميه والتميز الهاشمي رفضا قاطعا خلال المده التي قضاها النبي في مكه قبل الهجره، وكل البطون اشتركت بموامره قتل النبي، وباثم مطاردته عندما نجا من القتل، وقد اسلم القليل من افراد البطون ومواليها، وعندما هاجر الرسول لحقوا به مهاجرين، وتجمع في المدينه اكثر من مائه عنصر من عناصر البطون وشكلوا جماعه متميزه عن غيرها سميت بالمهاجرين. وقد حاول الرسول مشفقا وبكل قواه ان يتجنب الصدام المسلح مع بطون قريش خوفا من آثاره، لكن البطون ركبت راسها، وفرضت عليه هذا الصدام المسلح فرضا. فرتب اصحابه وكانوا يتالفون من: 1- المهاجرين وهم الذين اسلموا من بطون قريش ومواليها. 2- الانصار وهم الذين خرجوا معه من الاوس والخزرج ومواليهما. 3- آل محمد وابرزهم الحمزه وعلي وهم مع النبي بمثابه هيئه اركان، وفي الجانب الاخر وقفت بطون قريش بكل خيلائها وفخرها معلنه بان هدفها هو القضاء علي محمد وربط من ينجو من اتباعه بالحباله، وسوقهم الي مكه نكالا لهم ولغيرهم. وبدات المعركه، واحتدم القتال، وفوجئت بطون قريش بعمود المسلمين، وبالعزم المميز لمحمد ولال محمد، وانتهت المعركه بهزيمه البطون، وبقتل 70-رجلا من خيره رجالات البطون وباسر مثلهم. اذهلت هذه النتيجه كل الذين سمعوا بانباء هذه المعركه، لقد كانت خروجا واضحا عن كل اطوار التوقعات المعتاده. والذين قتلوا من بطون قريش تركوا فراغا هائلا، وصاروا جراحا نازفه في قلوب ذويهم من بطون قريش التي بقيت علي الشرك وتحول القتلي الي غصات في حلوق اقاربهم من الذين اتبعوا محمدا. فحذيفه او ابو حذيفه بن عتبه بن ربيعه كان من اصحاب محمد، وابوه واخوه وعمومته كانوا من اركان البطون، وقد شاهد بام عينيه اباه، واخاه، وعمه، وسادات بني اميه يتجرعون كووس الموت امامه. صحيح انه علي دين محمد، لكن من غير الممكن عقلا ان لا يكون موتهم غصه في حلقه، قد يفارق الحياه قبل ان تفارقه تلك الغصه، وبحركه عفويه، وبتصرف لا-شعوري يعبر عن حقيقه مشاعره فيقول للنبي، الذي طلب من اصحابه ان لا يتعرضوا لاحد من بني هاشم لانهم اكرهوا علي الخروج: (انقتل آباءنا وابناءنا واخواننا وعشيرتنا ونتركالعباس عم النبي، واللّه لئن لقيته لالحمنه السيف) [439] .ومثل حذيفه (حذيفات) والفرق بين حذيفه وغيره ان حذيفه صادق وعفوي، ولا يخفي من مشاعره شيئا، وغيره يتمتع بقدر من الدهاء، وضبط الاعصاب فيخفي مشاعره رغبه او رهبه. فهل يعقل ان يقتل خال عمربن الخطاب، واولاد عمومه ابي بكر وعمومه عثمان... الخ. ولا يترك قتلهم غصات في قلوب ذويهم!! يمكن للدين ان يرشد هذه الغصات، ولكنها لن تختفي ابدا ومن الممكن وبكل المعايير الانسانيه ان تتهيج هذه الغصات كلما راوا عليا وحمزه او النبي او احدا من بني هاشم. ان فكره الثار ضاربه الجذور في النفسيه العربيه، ولا ترتاح نفوس ذوي القتيل، الا اذا قتل القاتل، او ابعد تماما عن المسرح والاعين، وكيف يمكن ابعاد النبي، او الحمزه او علي ولي المومنين من بعد النبي؟! ثم لنفترض بان القاتل قد مات فان ذريته مطلوبه، صحيح ان الذين قتلوا في بدر من البطون قد قتلوا علي الشرك، وقتلهم واجب ديني، ومن قبيل الدفاع عن النفس لكن تلك هي طبائع النفوس التي خرجتها مدارس الشرك عبر التاريخ، انظر الي قول ابي سفيان: (واني لانا الموتور الثائرقتل ابني حنظله وساده اهل الوادي...) [440] .وانظر الي قول هندبن عتبه زوجه ابي سفيان: (لو اعلم ان الحزن يذهب من قلبي بكيت، ولكن لايذهبه الا ان اري ثاري من قتله الاحبه) [441] . ومن هم الذين قتلوا احبه هند؟ هم النبي وحمزه وعلي؟!! وهند لا تكتفي ذات يوم بقتل حمزه ولو بالغدر، انما تمثل به وتقطع اذنيه، وتشق بطنه، وتحاول ان تاكل كبده. هذه طبيعه حقد ذوي المقتولين علي محمد وعلي آل محمد، ولا تهدا الجراح بموت النبي ولا بقتل حمزه ولا بموت علي، ولا تزول الغصات من الحلوق، انها جراح دائمه، وغصات معترضه في الحلوق يورثها الاباء للابناء والاجداد للاحفاد، ويهيجها اصحاب الارب، فبعد عشرين سنه من وقعه بدر يقول عمربن الخطاب لابن احد قتلي بدر (سعيدبن العاصبن سعيد) الذي قتله علي: (اني لاراك معرضا تظن اني قتلت اباك، واللّه ما قتلته...) [442] فعمربن الخطاب يظن ان سبب اعراض سعيد هو ظنه بان عمر قتل اباه في بدر، لذلك هو يذكر ابن المقتول بطريقه ذكيه انه لم يقتل اباه، انما الذي قتل اباه هو علي. وهذا التعريض لا يصدر عن رجل من عامه الناس انما يصدر عن خليفه المسلمين بعد قرابه عشرين سنه علي وقعه بدر!! وعندما جيء براس الحسين ورووس الطيبين من اهل بيت محمد بعد مذبحه كربلاء ووضعت الرووس بين يدي يزيدبن معاويه تمثل بقول ابن الزبعري.فقد قتلنا القوم من ساداتهم وعدلنا ميل بدر فاعتدلفلست من خندف ان لم انتقم من بني احمد ما كان فعل [443] . فبعد 58 عاما يعرب حفيد ابي سفيان وهند وابن معاويه عن حقيقه مشاعره، لم تغيره الخلافه، ولم يغيره اسلامه، ولم تهن مشاعره الحاقده مع طول الامد، انما عبر عن حقيقه مشاعره فجاه بعفويه واظهر ما كان يتصنع باخفائه، وغمره الفرح والسرور الذي غمر اباه واجداده عندما قتل حمزه وعلي والحسن. ولم يقصر الحاقدون حقدهم علي محمد وعلي آلمحمد، بل حقدوا علي كل الموالين لهم، فبعد 58عاما علي وقعه بدر، ارسل مسلمبن عقبه رووس المتمردين علي يزيدبن معاويه من اهل المدينه، وعندما القيت الرووس بين يديه جعل يتمثل بشعر ابن الزبعري.فليت اشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسلفلاهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشلفلعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء ولا وحي نزل [444] .تلك هي طبيعه النفوس الكارهه لمحمد ولال محمد (انتمسسكم حسنه تسوهم وان تصبكم سيئه يفرحوا بها) [445] .كبر معاويه في الخضراء فكبر اهل الخضراء، ثم كبر اهل المسجد بتكبير اهل الخضراء، فخرجت فاخته بنت قرظه من خوخه لها، فقالت لمعاويه: (سرك اللّه يا امير المومنين! ما هذا الذي بلغكفسررت به؟) قال: (معاويه موت الحسنبن علي) [446] . وبالاجمال فان نجاح النبوه الهاشميه، وتكرس التميز الهاشمي، والجراح التي نتجت عن قتلي معركه بدر، والغصات التي اعترضت حلوق الذين اتبعوا محمدا من بطون قريش تركت بصماتها علي التاريخ الاسلامي كله، وظلت تعمل وتعتمل بالنفوس حتي كانت من ابرز الاسباب التي قوضت النظام السياسي الاسلامي الالهي، وفرغته من مضمونه ومحتواه، واخرجت المنظومه الحقوقيه عمليا من الخدمه.
كانت النتائج المذهله وغير المتوقعه لمعركه بدر صدمه هائله، لبطون قريش، وليهود المدينه، وللمنافقين، وهزه عنيفه لقناعات القبائل العربيه التي كانت تتربص لمعرفه نتيجه المواجهه بين محمد، وبين بطون قريش. لقد ذهلت قبائل اليهود بنتائج المعركه، وحسدت محمدا والمسلمين هذا النصر الباهر، وذهل منافقوا المدينه، وحقدوا علي محمد واصحابه لانهم انتصروا، وحزن اليهود والمنافقون لان البطون قد هزمت، لا حبا بالبطون، ولكن كراهيه لمحمد ولال محمد ولمن اتبعهم. اما بطون قريش فكلها ثائره، وموتوره، ومنكوبه، وحاقده الا بني عدي -لم يكونوا مع العير ولا مع النفير- كما وصفهم ابو سفيان، وبني زهره الذين لم يشتركوا في القتال، ومع هذا تاثر هذان البطنان بما اصاب بطون قريش، وانضما في ما بعد الي قافله البطون المطالبه بالثار والقضاء علي محمد، وقد صممت بطون قريش علي الانتقام من محمد وآله واصحابه، والثار منهم، والقضاء عليهم ان استطاعوا. ولا نبالغ اذا قلنا ان ما حدث طوال التاريخ السياسي الاسلامي وثيق الصله بمعركه بدر ونتائجها وآثارها.
كان البيت الاموي عامه وابو سفيان واولاده خاصه من اعمق بطون قريش ثوره، واكثرها احساسا بالنكبه والفجيعه، فقد قتل منهم في بدر احد عشر سيدا من سادات الوادي علي حد تعبير ابي سفيان، منهم: ولده حنظلهبن ابي سفيان، اما زوجته هند، فان حقدها علي النبي وآله يفوق التصور والتصديق، ولم لا، فهي تعتبرهم مسوولين عن قتل ابنها وابيها واخيها وابن اخيها وسادات عمومتها وابنها معاويه ويزيد كانا يغليان بالحقد والكراهيه علي محمد وآلمحمد. لقد توفرت في بيت ابي سفيان كل دواعي العجله في الانتقام، وامام ضغط الاسره، وفيض مشاعر الحقد والاحباط، حرم ابو سفيان الدهن حتي يثار من محمد، فخرج في اربعين فارسا او مائتي فارس، ووصلوا الي المدينه ليلا وحلوا ضيوفا علي سلامبن مشكم اليهودي، واستقصوا اخبار النبي، ومع الفجر خرجوا فقتلوا رجلا من الانصار، واجيرا له، واهلكوا حرثه، وحرقوا بيتين واهلكوا حرثا في العريض، ثم ولوا مدبرين، واعتقد ابو سفيان انه قد تحلل من يمينه، وانه قد اوصل بنفسه رساله ضمنيه لمحمد وآل محمد، بان الثار والانتقام لقتلي بدر قدر لا مفر. وسمع النبي بالخبر، وفهم مضمون الرساله، فندب اصحابه لتعقب الغزاه، وتعقبهم بالفعل، ولكن الغزاه قد نجوا بالفرار. ووصل ركب ابي سفيان سالما الي مكه واخذ يعد العده للثاروالانتقام [447] .
التجاره عصب الحياه في مكه، وقوامها رحلتي الشتاء والصيف، واسهل طرق رحله الصيف الي بلاد الشام المرور من طريق المدينه المسلوكه والمختصره، والمرور من هذا الطريق مستحيل الا بموافقه محمد، ومحمد لن يوافق الا بالمفاوضه، وبطون قريش لن تفاوضه، لان مفاوضتها معه اعتراف ضمني بوجوده، وهي لا تريد ان تعترف به. والغاء رحله الصيف كارثه، فالبديل الاوحد هو البحث عن طريق بديل، ودلهم فراتبن حيان العجلي علي الطريق البديل، وهي طريق العراق، فجهزوا قافله وارسلوها عبر الطريق الجديد، وعلم النبي فارسل زيدبن حارثه ومعه مائه راكب فاصابوا القافله، وفر حراسها واسر الدليل فرات بن حيان. وهكذا ارسل الرسول رساله ضمنيه الي زعامه البطون مفادها، ان تجاره بطون قريش لن تمر الي بلاد الشام الا بموافقه محمد، وموافقه محمد لن تدرك الا بالمفاوضات، وغايه ما يطلبه محمد من هذه المفاوضات هو ان تخلي البطون بينه وبين العرب، وان تتوقف عن استغلال نفوذها ضده.وفهمت بطون قريش مضمون الرساله، فكلمات عتبه بن ربيعه ما زالت في اذهان البطون: (خلوا بينه وبين العرب فان اصابوه فذلك الذي اردتم، وان كان غير ذلك الفاكم)، لكن اني لبطون قريش ان تدرك الرشد بعد ان جمعت بين الحسد والحقد، لقد تيقنت زعامه البطون انها قد خسرت رحله الصيف الي حين، وقررت ان تستبعد فكره المفاوضات مع محمد، وان تعتمد كليا علي القوه للثار من محمد وآله ومن والوهم،والقضاء التام عليهم [448] .
رجعت البطون من بدر مهزومه وموتوره، ووجدت العير التي عاد بها ابو سفيان من الشام موقوفه في دار الندوه لم توزع لغيبه البطون في بدر. هرعت زعامه البطون الي ابي سفيان، واجتمعوا في دار الندوه، وتداولوا الامور وما جري في بدر، والسبل التي سيسلكونها للثار من محمد والقضاء عليه، واتفقوا علي النقاط التاليه: 1 تعيين ابي سفيان قائدا عاما لجيش البطون. 2 تخصيص كامل العير التي نجت لتجهيز هذا الجيش. 3 تشكيل اربعه وفود لتسير في العرب طالبين النصر منهم، وفد برئاسه عمروبن العاص، ووفد برئاسه هبيرهبن ابي وهب، ووفد برئاسه ابن الزبعري، والوفد الرابع برئاسه ابي عزت الجمحي. وبالفعل تحركت الوفود الاربعه، ونجحت بتاليب العرب، وجمعهم ضد محمد. 4 ولتتذكر البطون قتلي بدر، فلا ترجع حتي تدرك ثارها او تموت دونه، قرروا اخراج الحريم معهم، ولقد عورض القرار لكن هند زوجه ابي سفيان تصدت للمعارضين واصرت علي خروج الحريم ليشهدن القتال والثار للاحبه الذين قتلهم محمد وآله،وهكذا خرجت البطون ومن والاها مع ظعنهم [449] .
خرجت بطون قريش ومن معها من العرب والاحابيش الذين نجحت بحشدهم علي شكل جيش منظم ومدرب قوامه ثلاثه آلاف مقاتل يركبون مائتي فرس، وثلاثه آلاف بعير، وفيهم سبعمائه دارع، وعده وسلاح كثير لقتال النبي والثار منه ومن آله واصحابه والقضاء عليهم ان امكن، وقادتهم المقادير ليقفوا وجها لوجه امام محمد وآله، ومناتبعهم في منطقه جبل احد قرب المدينه [450] .
لما اجمعت قريش علي الخروج كتب العباسبن عبد المطلب كتابا الي النبي اخبره فيه ان قريشا قد اجمعت علي المسير اليه، بثلاثه آلاف مقاتل منهم سبعمائه دارع، وثلاثه آلاف جمل، وقادوا مائتي فرس، وختم الكتاب، واستاجر رجلا من بني غفار، واشترط عليه ان يسير ثلاث ليال. وقدم الغفاري، وسلم رسولاللّه الكتاب. [451] وانتشر الخبر واجتمع النبي باهله واصحابه.
قال النبي: ايها الناس اني قد رايت في منامي رويا: رايت كاني في درع حصينه، ورايت كان سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته، ورايت بقرا يذبح، ورايت كاني مردف كبشا. قال الناس فما اولتها؟ قال اما الدرع الحصينه فالمدينه، فامكثوا فيها، واما انقصام سيفي فقتل رجل من اهل بيتي، واما البقر المذبحفقتلي في اصحابي.. [452] .
واستشار النبي اصحابه، وكان راي عبداللّهبن ابي البقاء في المدينه، وراي النبي مع راي ابن ابي، وكان ذلك راي كبراء المهاجرين والانصار فقال النبي: امكثوا في المدينه، واجعلوا النساء والذراري في الاطام، فان دخلوا علينا قاتلناهم في الازقه، فنحن اعلم بها منهم، وارموا من فوق الصياصي والاطام... ورات الاكثريه الخروج وملاقاه العدو، وخشي بان يفسر العدو البقاء في المدينه جبنا، واستجاب النبي لراي الاكثريه، وامرهم بالاستعداد للخروج ولبس عده الحرب، وشعرت الاكثريه انها اكرهت الرسول علي الخروج فندمت، وقالوا: (يا رسولاللّه ما كان لنا ان نخالفك فاصنع ما بدا لك؟) فقال: (دعوتكم فابيتم، ولا ينبغي لنبي ان لبس لامته ان يضعها حتي يحكم اللّه بينه وبين اعدائه). ودفع لواء المهاجرين الي عليبن ابي طالب، ولواء الخزرج الي سعدبن عباده، ولواء الاوس الي سعدبن معاذ، وارجع اليهود الذين خرجوا معه، وانصرف عبداللّهبن ابي ومن والاه، وسار النبي حتي وصل الي جبل احد، فجعل احدا خلف ظهره، واستقبل المدينه، ورتب خمسين من الرماه علي جبل احد، وقال النبي للرماه: (احموا لنا ظهورنا، فانا نخاف ان نوتي من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وان رايتمونا نهزمهم حتي ندخل معسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وان رايتمونا نقتل فلا تعينوننا ولا تدافعوا عنا، وارشقوا خيلهم بالنبل، اللهم اني اشهدك عليهم، ثم وقف اماماصحابه، ونهي ان يقاتل احد حتي يامره) [453] .
اقبل المشركون وقد اتخذ جيش الاسلام مواقعه، فاستدبروا المدينه، واستقبلوا احدا، وصفوا صفوفهم، واقاموا النساء خلف الرجال يضربن بالاكبار والدفوف، اما نساء عليه بطون قريش بزعامه هند ام معاويه فكن يشجعن، ويحرضن الرجال علي القتال، ولم يطل الانتظار، فبرز من صفوف المشركين طلحهبن ابي طلحه، وصاح: من يبارز، فبرز له علي عليه السلام، واختلفا بضربتين، فضربه علي علي رجل فقطعها وقتل، فلما قتل طلحه، سر رسولاللّه واظهر التكبير وكبرالمسلمون وشد اصحاب الرسول علي المشركين [454] .وقتل علي بن ابي طالب حمله اللواء من المشركين وكانوا ثمانيه، ثم حمل اللواء عبد لهم فالحقه الامام بهموقتله [455] .وعلي اثر صولات علي وحمزه، وبعد ان قتل حمله اللواء انكشف المشركون منهزمين لا يلوون، وتبعهم المسلمون حتي اجهضوهم عن العسكر واخذوا ينهبون، وشاهد الرماه ذلك، وتركوا اميرهم وانطلقوا الي معسكر الشرك ينهبون وخلوا الجبل، ولم يبق مع الامير الا عشره، واخذ المسلمون ينهبون، ونظر خالدبن الوليد الي خلاء الجبل وقله آهله فكر بالخيل ومعه عكرمه فقتلوا من بقي من الرماه وقلبوا موازين المعركه. وفوجيء المسلمون بما حدث، واخذ المسلمون يضربون بعضهم، وفر عمربن الخطاب، وعثمانبن عفانوغيرهما... [456] .وزاد الطين بله ان الامويين قدروا ان قتل علي مستحيل، وان قتل الحمزه ممكن، فرتبوا موامره للغدر بحمزه ونفذت الموامره وقتل حمزه، واشيع بان النبي قد قتل، فزلزل المسلمون زلزالا شديدا، وقاتل عليبن ابي طالب قتالا يفوق التصور والتصديق، وصبر علي وصابر، قال ابن اسحاق: (كان الفتح يوم احد بصبر علي). [457] وقاتل سعدبن عباده، وقاتل المقداد، والحباببن منذر، وقاتل كعب، وابو دجانه، وسهلبن حنيف وغيرهم من الاخيار، ومع هذا اصيب النبي في جبهته ورباعيته وشفته. واحتاج المسلمون الي وقت حتي اعادوا تنظيم انفسهم، وعاد الذين فروا من القتال بعد ان اشيع بان النبي قد قتل، واحس المشركون بانهم قد ثاروا لقتلاهم في بدر، فقد قتلوا 70رجلا من الانصار، واربعه من المهاجرين، منهم حمزه عم النبي وجناحه، ويده الطولي، وقدرت قياده جيش البطون انها قد ثارت لقتلاها في بدر، وانها قد انتصرت حقيقه، ومن حسن التدبير ان تحافظ علي بريق نصرها، فانسحبت واقبل المسلمون علي قتلاهم، واحضروهم الي رسولاللّه. وكان اول من احضر حمزه فصلي عليه النبي، ثم جمع اليه الشهداء، وكلما اتي بشهيد وضع الي جنب حمزه فصلي عليه وعلي الشهداء حتي صلي عليه 70مره. ودفن الشهداء، وقال النبي: (انا علي هولاء شهيد)، فقال ابو بكر: يا رسولاللّه اليسوا اخواننا اسلموا كما اسلمنا، وجاهدوا كما جاهدنا)؟ قال الرسول: (بلي، ولكن هولاء لم ياكلوا من اجورهم شيئا ولا ادري ما تحدثون بعدي)، فبكي ابو بكر وقال: (انا لكائنون بعدك؟). واقسم النبي: (والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم احد الي يوم القيامه الا ردوا عليه)، واضاف: (فلا تدعوا السلام عليهم وزيارتهم. وعزي رسولاللّه القوم بقتلاهم، واكد انهم في الجنه، وارتاح الناس لسلامه النبي رغم جراحه. واشاع اليهود بان محمدا طالب ملك، وما اصيب هكذا نبي قط في بدنه واصحابه، وجعل المنافقون يثبطون عزائم الناس، ويبثون الاراجيف. فاشار عليه بعض اصحابه بقتلهم، فقال النبي: (ان اللّه مظهر دينه ومعز نبيه ولليهود ذمه فلا اقتلهم، فقيل: فهولاء المنافقين يا رسولاللّه، فقال رسولاللّه: اليس يظهرون شهاده ان لا اله الا اللّه واني رسولاللّه؟ قيل: بلي يا رسولاللّه، انما يفعلون ذلك تعوذا من السيف، فقد بان امرهم وابدي اللّه اضغانهم عند هذه النكبه. فقال رسولاللّه نهيت عن قتل من قال لا اله الا اللّه محمد رسولاللّه). وجاءت نساء الانصار فبكين علي حمزه، لان استشهاد حمزه كان جرحا غائرا في قلبه، فقال النبي: (رضي اللّه عنكن وعن اولادكن) ومن ذلك التاريخ ما بكت امراه من الانصار الا بداتبحمزه... [458] . من الموكد ان بطون قريش قد انتصرت في معركه احد، وثارت لقتلاها في بدر، وكبدت المسلمين 70 او 74 قتيلا احدهم حمزه عم النبي، وجناحه القوي ويده المقتدره، وكادت ان تقتل النبي نفسه لولا رحمه اللّه، ومن الموكد ان البطون قد انسحبت من المعركه انسحاب المنتصر، وكان الجيش الاسلامي ساعتها مضعضعا، ولا يقلل من حقيقه انتصار البطون في احد فقدانها ل25 قتيلا من رجالها. ولكن الموكد ايضا ان المسلمين لم يهزموا في احد من قله، فقد انتصروا في بدر وهم اذله، انما يكمن سبب هزيمتهم في مخالفتهم لرسولاللّه، فقد طلب منهم ان يبقوا في المدينه فابوا الا الخروج. وخرج ورتب امور المعركه ترتيبا محكما، وامر الرماه ان لا يبرحوا مكانهم مهما كانت الاسباب وخالفته اكثريه الرماه، وعصت امره وتركوا مواقعهم ليشاركوا في النهب، فجاء خالدبن الوليد ومن معه من فرسان قريش فانقضوا علي المسلمين من الخلف في غياب الرماه وقلبوا موازين المعركه. وطوال التاريخ الاسلامي كان مكمن كل النكبات والكوارث التي لحقت بالامه الاسلاميه في مخالفه الرسول واعتماد الراي بدلا من النص.
هزت هزيمه المسلمين في احد التركيبه الهشه لمجتمع المدينه وما حولها، عاد النبي جريحا ومعه الجرحي، وقد سبقت عودته انباء القتلي، واشاع اليهود ان محمدا طالب ملك، وعلي حد علمهم فلم يصب نبي كما اصيب محمد، وتنمر المنافقون، واظهروا شماتتهم وفجع المسلمون الصادقون بقتلاهم، وحزنوا حزنا شديدا، وكان النبي من اكثرهم حزنا علي عمه الحمزه. وفي الجانب الاخر كانت بطون قريش تتلذذ بنصرها بالوقت الذي اختلط فيه عليها امرها، ففريق يري ان محمدا قد انتهي بالفعل، فقد اصيب بعده جراح، وقتل عمه، و73 رجلا من اصحابه، وقد انتصرت البطون عليه بالفعل، وثارت لقتلاها، وما هي الا فتره حتي ينفض اصحابه من حوله، وينهار الكيان السياسي الذي بناه، فمن الحكمه ان تعود البطون بنصرها الموزر، وان تترقب آثار انتصارها. وقد تكون ملاحقه محمد كارثه تسلبها بريق انتصارها العظيم فقد ينفر معه الاوس والخزرج اذا احسوا انهم قد هوجموا في قعور بيوتهم. وفريق آخر يري ان الفرصه سانحه للقضاء علي محمد قبل ان يتمكن من التقاط نفسه، واعاده تنظيم رجاله. ادرك النبي ان ترك الامور علي ما هي عليه دون اجراء عاجل. سيضاعف هزه المجتمع اليثربي، ويكون ضربه معنويه موجعه يصعب التنبو باثارها. فبعد ان ضمد جراحه، وضمد الذين جرحوا جراحهم، اصدر اوامره بالاستعداد للخروج لملاقاه بطون قريش او ملاحقتها، وبعد صلاه الصبح نادي مناديه: (ان رسولاللّه يامركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا الا من شهد القتال بالامس) [459] ، ودعا رسولاللّه باللواء وهو معقود لم يحل ودفعه الي علي عليه السلام، وخرجوا حتي وصلوا الي حمراء الاسد فعسكروا هنالك، وامرهم ان يجمعوا الحطب في النهار، وان يوقدوه ليلا. وكان معسكر بطون قريش بالروحاء، وهول معبدبن ابي معبد الخزاعي الامر لبطون قريش فاخبرهم: (تركت محمدا واصحابه خلفي يتحرقون عليكم بمثل النيران، وقد اجمع معه من تخلف عنه بالامس من الاوس والخزرج وتعاهدوا الا يرجعوا حتييلحقوكم فيثاروا منكم) [460] .ذهل ابو سفيان واركان حربه من سرعه اعاده النبي لتنظيم صفوف اصحابه ومن رده العاجل، وادركوا ان محمدا قد عكر عليهم نصرهم وخطف منهم بريقه، وانهم ان اصطدموا معه بهذه الحاله فسيهزمهم لا محاله وينقلب فرحهم الي ترح. ومر بابي سفيان نفر يريدون المدينه، فخصص لهم مكافاه اذا قالوا لمحمد ان بطون قريش قد اجمعت علي الرجوع اليه. ليضمن توقف محمد عن الملاحقه. واصدر ابو سفيان واركان حربه اوامرهم بالرحيل والعوده الي مكه فورا. بعد ان نغص النبي انتصارهم. لقد كانت حركه النبي حركه بارعه بكل الموازين العسكريه، لقد اعادت الروح المعنويه للمسلمين، وعكرت صفو بطون قريش، وخطفت منها بريق انتصارها، ورجعت وكانها مهزومه، وكانت هذه الحركه الرائعه ابلغ رساله لليهود والمنافقين والقبائل المحيطه بالمدينه التي تنتظر من يقع حتي تنقض عليه وتاكله. ومن هنا اعلن تعالي رضاه عن (الذين استجابوا للّه وللرسول من بعد ما اصابهم القرح) [461] ، وعفا عن الذين فروا من معركه احد كعمربن الخطاب، وعثمان وغيرهم منالصحابه الكرام، واعطاهم فرصا جديده [462] .
قبل ان ينصرف ابو سفيان من احد نادي المسلمين وزهو النصر يملا اهابه: (موعد بيننا وبينكم بدر الصفراء راس الحول، نلتقي فيه فنقتتل) [463] فامر الرسول من يقول لابي سفيان: هو موعد بيننا وبينكم ان شاءاللّه. (وبدر الصفراء كانت مجمعا وسوقا سنويا للعرب تجتمع وتتبادل السلع فيه من 1-8 ذي القعده ثميعودون الي بلادهم) [464] .ولما عادت بطون قريش الي مكه عممت موعد اللقاء، واخذت تستعدي علي النبي، وتجمع الاموال استعدادا للخروج، وفرضت ضريبه علي سكان مكه ولاول مره في تاريخها، ولم يترك احد الا وينبغي ان يدفع مالا لا يقل عن (اوقيه) مساهمه بالمجهود الحربي، فجمعوا الاموال العظيمه ورصدوها لحرب محمد وآله ومن والاهم. ومع اقتراب الموعد كره ابو سفيان قائد تحالف البطون هذا الخروج، وندم علي قوله وتحديده الموعد، وتعرض لملامه الكثير من قومه، وتمني عدم خروج الرسول للموعد، لان العام جدب، والارض مثل ظهر الترس ليس فيها لبعير شيء، ولكن البطون كرهت ان يخرج محمد ولا يخرجون فيجتريء عليها، فاحبت ان يكون الخلف من قبله. وفي غمره حيرتها قدم نعيمبن مسعود الاشجعي مكه، فاتفقوا معه علي ان يعطوه عشرين ناقه مقابل ان يخذل اصحاب محمد، ورجع الرجل واخذ يشيع بان ابا سفيان قد جمع الجموع واجلب معه العرب، وجاء محمد واصحابه بما لا قبل لهم به واشار علي اهل المدينه ان يبقوا في المدينه ولا يخرجوا، لانهم ان خرجوا فلن يفلت منهم احد هذه المره، ونجح الرجل بغرس كراهيه الخروج في قلوب الكثير من اصحاب محمد، وفرح المنافقون واليهود، وتصوروا ان محمدا لن يفلت من هذه الجموع التي يصفها نعيمبن مسعود. ونجح نعيم بتثبيط بعض الصحابه، والقاء الرعب في قلوبهم. قال عثمانبن عفان (رضي اللّه عنه) يصف حالته وامثاله ممن اصغوا لنعيم: (لقد رايتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا فما ارياحدا له نيه في الخروج) [465] . كان الرسول يرصد آثار دعايه نعيم فجمع الناس وحثهم علي الخروج ثم قال: (والذي نفسي بيده لاخرجن وان لم يخرج معي احد) [466] عندئذ تشجع من وهن من المسلمين وخرج مع النبي 1500-مقاتل ومعهم عشره افراس فاعطي النبي رايته لعليبن ابي طالب، وغايه المسلمين من الخروج كانت ملاقاه البطون علي الموعد، ومع هذا تزودوا ببضائع، واقاموا في بدر الصفراء ثمانيه ايام ورجعوا بخير وفضل من اللّه وربح الدينار دينارا. اما ابو سفيان فقد اطلع بطون قريش علي الخطه التي رسمها لنعيم، وبين لهم ان العام عام جدب، واقترح عليهم ان يسيروا يومين فيرجعوا، فخرجت البطون وهم الفان ومعهم خمسون فرسا وانتهوا الي مجنه، فشربوا السويق فسمي اهل مكه ذلك الجيش جيش السويق، وعادوا بعد ان بلغهم خروج النبي، وقال صفوانبن اميه لابي سفيان: (قد واللّه نهيتك يومئذ ان تعد القوم، وقد اجتراوا علينا وراوا انا قد اخلفناهم، وانما خلفنا الضعف عنهم. فاخذوا في الكيد والنفقه في قتال رسولاللّه) [467] ، واعدوا العده لغزو النبي في ما بعد.
عندما تمكن النبي من السيطره علي طرق تجاره البطون الي بلاد الشام، فقدت رشدها، وعمت الكراهيه نفوس قادتها وافرادها، وبعد وقوع الصدامات المسلحه، وسقوط القتلي في بدر جمعت البطون مع الحسد لمحمد وآله الكراهيه والحقد علي محمد وآله، ان الثار للقتلي لا يعيدهم، ولكنه يعزي النفس الموتوره الي حين، ولن تهدا حتي يفني القاتل وتفني ذريته، وينقطع ذكره من الوجود تلك هي طبيعه النفس الموتوره الحاقده، تلك هي طبيعه مشاعر بطون قريش ضد محمد وآل محمد، وجماع هذه المشاعر ومهيجها هو البطن الاموي، وبالتحديد ابو سفيان واولاده، وعلي الاخص معاويه وزوجته هند وبنو عمومتهم، فالطريقه التي قتل فيها حمزه، واسلوب هند بالتمثيل به ترسم بادق صوره واوضحها المشاعر المخيفه التي يحملها اهل هذا البطن لمحمد وآل محمد، ويلي هذا البطن بنو مخزوم عامه، وبنو المغيره خاصه، ثم تتساوي البطون دون ذلك بهذا الخليط من المشاعر.
قريش لن ترجع عن عداوتها لمحمد ولال محمد، واقل ما ترضي به بطون قريش هو القضاء التام علي محمد وآل محمد، واستئصالهم من الوجود تماما، فمن يوالي محمدا وآل محمد هو عدو البطون، وان كان من البطون نفسها، ومن يعادي محمدا وآل محمد هو حبيب البطون، وان كان يهوديا. قال ابو سفيان مخاطبا وفد يهود بني النضير: (ان احب الناس الينا من اعاننا علي عداوه محمد) [468] ، وعداوه محمد ليس لها حد زمني، ولقد تعاهد ابو سفيان ومعه ابناوه مع وجهاء بني النضير اليهود داخل الكعبه (ان تكون الكلمه واحده علي محمد، ما بقي من بطون قريش ومن اليهود رجل واحد) [469] ، فعداوه محمد والمضي قدما بعداوته اقل ما ترضي به بطون قريش ليكون اساسا للتحالف بينها وبين غيرها من الاحزاب.
كانت بنو النضير احدي الجماعات التي يتكون منها مجتمع المدينه وما حولها وهي ترتبط مع النبي بعهود ومواثيق، فقام النبي بزيارتهم يوما من الايام فرحبوا به واصروا ان ياكل عندهم، وبنفس الوقت تامروا علي قتله. وعلم الرسول بالموامره وعاد دون ان يشعروا، ثم ارسل اليهم انذارا بان يجلو من المدينه، فرفضوا، وحاصرهم النبي، ثم استسلموا علي ان يجلوا من المدينه ولهم ما حملت الابل الا الحلقه، فذهبت اكثريتهم الي منطقه خيبر. ولما استقر بهم المقام، شكلوا وفدا من مشيخه يهود بني النضير برئاسه حييبن اخطب للتفاهم والتنسيق مع زعامه بطون قريش باعتبارها العدو الاقوي والالد لمحمد وآله ومن والاهم، ولدعوتها بالاسراع بحرب محمد. واجتمع الوفد مع زعامه البطون وقال رئيسه حييبن احطب مخاطبا زعامه البطون: (جئنا لنحالفكم علي عداوه محمد وقتاله) [470] فمن الطبيعي ان يتكلم ابو سفيان نيابه عن زعامه البطون بوصفه هو القائد حسب تقسيمات الصيغه الجاهليه، ولان بطون قريش قد رضيت به قائدا علي اعتبار انه وبنوه والبطن الاموي هم الاكثر حسدا لمحمد وآله، وحقدا عليهم، واشد القوم وترا واعمقهم ثوره، ولانه القائد الذي انتصر في احد. فتكلم ابو سفيان واجاب وفد يهود بني النضير قائلا:(ان احب الناس الينا من اعاننا علي عداوه محمد) [471] .واقترح وفد بني النضير ان تختار بطون قريش 50رجلا ليتعاهدوا ويحلفوا باللّه داخل الكعبه بان تكون الكلمه واحده علي هذا الرجل -اي محمد- ما بقي من بطون قريش ومن اليهود رجل [472] ، وهكذا فعلوا، وتم التحالف بين بطون قريش وبين وجهاء بني النضير بالاصاله عن انفسهم، وبالنيابه عن يهود المدينه وخيبر، وكافه انحاء الجزيره. وعلي هامش الاجتماعات سال ابو سفيان اليهود: (اينا اهدي، نحن ام محمد، وديننا خير ام دين محمد؟) فاجابه اليهود بالاجماع امام بطونقريش: (انتم اولي بالحق منه!!) [473] . وتحرك المتحالفون معا، وسيرت زعامه قريش وفودها الي العرب تطلب النصر علي محمد، وسار الوفد اليهودي الي قبيله غطفان الكبيره واجتمع مع شيوخها، وتم ضمهم الي التحالف، ووعدهم اليهود بتمر خيبر لمده سنه. [474] وتحالف معهم بنو سليم، وبنو اسد يقودهم طلحه الاسدي وبنو فزاره، واشجع، وبنو مره، وجمعت قريش 4000 مقاتل من اتباعها واحابيشها، ومعها 300 فرس، و1500 بعير يقودهم سفيانبن عبدشمس حليف حرب بن اميه، وهو ابو ابي الاعور الذي قاتل مع معاويه في ما بعد في معركه صفين. [475] وفي ما بعد تم الاتفاق مع بني قريضه التي كانت تقيم في المدينه لينضموا الي هذا التحالف وعددهم 750 مقاتلا، ومهمتهم ان ينقضوا علي المسلمين من الداخل ويطعنوهم من الخلف.
وهكذا جمعت بطون قريش عشره آلاف وسبعمائه وخمسين مقاتلا، وقبل هذا التجمع لم تشهد الجزيره العربيه في تاريخها الطويل تجمعا بحجمه قط، والهدف المشترك لكل الاحزاب المكونه لهذا التجمع هو عداوه محمد، والعمل علي القضاء عليه واستئصاله من الوجود، مع من والاه، ومن البديهي ان اول اوليائه وحماته هم آله الكرام. وهذا التجمع من اغرب التجمعات التي عرفها التاريخ ايضا، فقبائل العرب كانت تعبد اصناما متعدده، وتدين بالولاء لشيوخها الذين لم يجتمعوا طوال التاريخ حتي يوم غزا ابرهه الحبشي الكعبه، وهي اقدس مقدساتهم، ولكنهم اجتمعوا هذه المره علي عداوه محمد وآله، والعمل علي استئصالهم، واذا لم يكن غريبا اجتماع العرب مع بعضها فان الغريب حقا ان تجتمع العرب مع اليهود، وان يشكل الجميع جيشا واحدا له قياده واحده!!! لست ادري ماذا بقي من صله الرحم التي كانت تتشدق بها زعامه بطون قريش عامه، وابو سفيان واولاده خاصه، عندما يتعاونون مع اليهود علي ابن عمهم وصهرهم محمد!!! فابو سفيان وبنوه وبنو عمومته يلتقون مع النبي في عبدمناف: صخربن حرببن اميهبن بعد شمسبن عبدمناف، ومحمدبن عبداللّهبن عبد المطلب بن هاشمبن عبدمناف، ان هذا لامر عجاب!!!
كان ابو سفيان هو القائد العام لتجمع الاحزاب، فهو راسهم ومدبر امرهم، والذي جمعهم وحدد ساعه خروجهم، ووقت انسحابهم ولا خلاف بين احد من اتباع المله علي هذه الحقيقه. اركان حربه: ومن اركان حربه مشيخه البطن الاموي وعلي راسهم ابنه يزيد، وابنه معاويه فكلاهما رجل، وكلاهما ذكي وذو حيله، وكلاهما حاقد علي محمد وعلي آل محمد خاصه، وعلي اوليائهم عامه، وكيف لا يحقدون وهم يذكرون اخاهما حنظله، وجدهما عتبه، وخالهما شيبه، وابن خالهما الوليد!! وسبعه آخرين من البطن الاموي او من شيوخ الوادي علي حد تعبير ابي سفيان!!. ومن اركان حربه: عكرمه بن ابي جهل، وخالد بن الوليد، وعمروبن العاص، وكلهم موتور، وثائر، وحاقد علي محمد وعلي آلمحمد، وتتوفر بكل واحد منهم مقومات القياده والمشوره. ومن اركان حربه: عمروبن عبدبن ابي قيسبن عبد ود، اشجع رجالات بطون قريش واقواها، فقد كان يتحرق شوقا لملاقاه محمد ولاثبات قدرته بعد ان حرمته ظروف قاهره من الاشتراك في معركه احد، وخرج في ما بعد وتحدي كل المسلمين ولم يقو احد علي مبارزته غير عليبن ابي طالب،الذي قتله -كما سنري- قولا واحدا [476] .ومن اركان حرب ابي سفيان: سفيانبن عبدشمس، حليف حرب ابن اميه، وهو ابو الاعور الذي اسلم في ما بعد وقاتل مع معاويه في كل معاركه عندما خرج معاويه علي الامامعلي [477] .ومن اركان حرب ابي سفيان: طلحه الاسدي، وعيينه بن حصن، الذي صار في ما بعد صحابيا رايه مقبول حتي في علي الذي قاتله علي الاسلام. ومن اركان حربه ايضا مشيخه اليهود مثل حييبن اخطب، وكنابهبن الحقيق، واخوه هوده، وابو عامر الراهب، وكعببناسد عقيد بني قريظه [478] .
زحفت الاحزاب بقياده ابي سفيان ويممت شطر المدينه حتي وصلت الي رومه [479] فعسكرت هنالك، ونزلت غطفان بمنطقه الرعايه قرب احد، وتصوروا ان محمدا سيخرج اليهم، وانهم هم الذين حددوا مكان المعركه وطبيعه الحربوادارتها [480] .
كانت خزاعه حلفا لبني هاشم (حلف ابينا وابيك الاقلدا)، كما قال شاعرهم للنبي، فلما خرجت قريش من مكه الي المدينه سار ركب من خزاعه من مكه الي المدينه اربعا، واخبروا النبي بتحرك قريش والاحزاب معها. ولا يعقل ان يتم الاعداد لهذا التحالف الضخم، وان تتحرك الاحزاب ورسولاللّه في غفله عنها، خاصه وان سراياه العسكريه لم يتوقف خروجها قط، وهو علي علم بحقد بطون قريش واصرارها علي استئصاله من الوجود، والاهم من ذلك الوحي الذي لم ينقطع عنه قط طيله حياته، ولكن قدوم ركب خزاعه بالخبر مناسبه لاطلاع المسلمين علي الوضع، واستطلاع رايهم بمعالجته.
اطلع النبي اصحابه علي الخبر، ووعدهم بالنصر ان صبروا واتقوا واطاعوا اللّه ورسوله، وسالهم انبرز لهم من المدينه، ام نكون فيها ونخندقها علينا، ام نكون قريبا ونجعل ظهورنا الي هذا الجبل؟ فاختلفوا بالاجابه، ولكنهم تذكروا جميعا معركه احد ونتائج مخالفتهم لامر الرسول، فلم يتشبثوا بالخروج انما كان هواهم بالمدينه وحولها، فقال سلمان الفارسي: يا رسولاللّه. انا اذا كنا بارض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسولاللّه ان نخندق؟ [481] فكره الخندق اصلا من رسولاللّه ولكنها كانت مجمله، فجاء سلمان وفصلها وارتاح المسلمون لذلك. ورتب النبي الخطه الدفاعيه علي هذا الاساس: 1- ان يجعل جبل سلع خلف ظهره. 2- ان يخندق من اطم المداد الي جبل اطم ذباب، ومنه الي جبل راتج. 3- استحضار الحجاره من جبل سلع لتكون احد الاسلحه فيرمون بها. 4- ان تدفع النساء والصبيان في الاطام. 5- ان يكون الخندق من امام المسلمين. 6- النبي القائد يوزع اصحابه بالطريقه التي يراها لمواجهه الاحزاب من وراء الخندق بعد انجازه.
قسم النبي حفر الخندق بين اصحابه، واشترك معهم بالحفر كانه واحد منهم، وانجزوا الخندق خلال سته ايام، ثم جمع اصحابه وكانوا ثلاثه آلاف مقاتل، ودفع اللواء الي ولي عهده عليبن ابي طالب، ورتب الادوار وانتظر قدوم الاحزاب.
يبدو ان الطريق لدخول المدينه تمر حتما بالمنطقه التي قرر الرسول حفر الخندق بها، ويبدو ايضا ان المناطق التي تجاورها علي اليمين واليسار حرات مفروشه بحجاره يتعذر علي الانسان او الابل او الخيل السير فوقها، فمن اراد دخول المدينه يتوجب عليه حتما مقضيا ان يمر من الخندق، او ان يكابد المستحيل ويحاول ان يسير في الحرات. فعلي الاحزاب ان تجتاز الخندق اذا ارادت ان تدخل المدينه او تقف دونه لتتفرج عليه وعلي المدافعين، وعمليه اجتياز الخندق بهذا المناخ مستحيله من جميع الوجوه.
سارت الاحزاب خلف قائدها ابي سفيان متوجهه الي المدينه ومعها من الخيل الف فرس، وتصورت الاحزاب انه لم يبق بينها وبين دخول المدينه واستئصال محمد ومن معه الا قاب قوسين او ادني، ولما وصلت فوجئت بالخندق مفاجاه تامه، وقال ابو سفيان: تلك مكيده لا تعرفها العرب!! والقت الاحزاب عصاها علي الجانب الاخر من الخندق، واخذت تبحث عن منفذ تدخل منه. وجرت عده محاولات لاجتياز الخندق، كالمحاولات التي قام بها خالدبن الوليد، وعكرمه بن ابي جهل، وهبيره، وعمروبن العاص، ولكن محاولاتهم قد فشلت.
عمرو بن ود اقوي رجالات البطون، بل هو اقوي رجل في تجمع الاحزاب قاطبه، برز امام الخندق، واخذ يدعو للمبارزه. لا احد من العرب يقوي علي مبارزه عمروبن ود، فسكت المسلمون كان علي رووسهم الطير، كما يقول الواقدي، مما دعي عمروبن ود ليقول:فولقد بححت من الندا لجمعكم هل من مبارزولما سمعه علي استاذن النبي ثلاثا، والرسول لا ياذن له، لان مبارزه عمروبن ود ليست نزهه، واخيرا اذن الرسول لعلي، واعطاه سيفه وعممه وقال: اللهم اعنه عليه. وكان عمروبن ود فارسا وعلي راجلا، والتقي الاثنان وجري بينهما حوار ساقه الامام علي باعصاب هادئه، وبثقه بالنفس تفوق التصور والتصديق. وترجل عمرو والتقي مع اقوي رجل عرفه الاسلام قط، وثارت غبره وسمع الناس التكبير فايقنوا بان عليا قد قتل عمرو، وصعقت الاحزاب من هول النبا، وازدادت بطون قريش حقدا علي النبي وآله، وتشاءموا، وفرح المسلمون وتفاءلوا خيرا. لقد كان قتل عمروبن ود ضربه معنويه موجعه لتجمع الاحزاب. وكانت هذه المبارزه نصرا موزرا للمسلمين فقال النبي: (لمبارزه علي بن ابي طالب (عليه السلام) لعمروبن ود يومالخندق افضل من اعمال امتي الي يوم القيامه) [482] .لقد كفت هذه المبارزه المومنين القتال حقا، قال السيوطي في الدر المنثور في ذيل تفسير قوله تعالي: (ورد اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفي اللّه المومنين القتال) [483] قال: (واخرج ابن ابي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عن ابن مسعود انه كان يقرا: (وكفي اللّه المومنين القتال بعليبن ابي طالب). وجاء في ميزان الاعتدال حديثا مسندا عن ابن مسعود انه كان يقرا: (وكفي اللّه المومنينالقتال بعلي) [484] . لقد حسمت مبارزه الموقف نهائيا لصالح المسلمين، ولكنها اخرجت بصوره تستوعبها العقليه البشريه، وتصب في خانه عمليه الابتلاء والامتحان الالهي. لقد كان المسلمون في حاله زلزله كبري: الجوع، والبرد، والعدو من فوقهم ومن تحتهم، والنفوس البشريه تتصور بتصوراتها المختلفه (اذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم، واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر...) [485] بهذا الوقت بالذات زف اللّه للمومنين بشري انتصار اقوي رجل فيهم علي اقوي رجل في الاحزاب، فاطمانت نفوسهم، وادركوا ان نصر اللّه قادم لا محاله.
فوجئت الاحزاب بالخندق، وفشلت محاولاتها لاجتيازه، واجري النبي مفاوضات مع زعماء غطفان لينسحبوا من التجمع، وانهارت الثقه بين العناصر الرئيسه التي تكون منها تجمع الاحزاب، فقد فقدت بطون قريش ثقتها باليهود، وكذلك غطفان التي ادركت انه لا ناقه لها ولا جمل بهذه الحرب، وان املها بالمكاسب الماديه احلام، واكتشف اليهود ان البطون سترحل وستتركهم وجها لوجه ووحدهم امام محمد لينكل بهم، فانهارت اهم اساسات تحالف الاحزاب، واكثر النبي الدعاء: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الاحزاب، اللهم اهزمهم) وتكرر دعاوه الاثنين، والثلاثاء، والاربعاء، واستجيب له ما بين الظهر والعصر. وعصفت الريح، وزمجرت، والقي القائد العام للاحزاب ابو سفيان كلمه حلل فيها الموقف فقال: (انكم واللّه لستم بدار مقام، لقد هلك الخف والكراع، واجدب الجناب، واخلفنا بنو قريظه وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقد لقينا من الريح ما ترون، واللّه ما يثبت لنا بناء، ولا تطمئن لنا قدر، فارتحلوا فاني مرتحل)، وجلس علي بعيره فوثب البعير. فناداه عكرمهبن ابي جهل: (انك راس القوم وقائدهم، تقشع وتترك الناس)، فاستحي ابو سفيان فاناخ جمله، واخذ بزمامه، وقال: (ارحلوا) فجعل الناس يرتحلون. ثم قال ابو سفيان لعمروبن العاص: (يا ابا عبد اللّه لا بد لي ولك ان نقيم في جريده من خيل بازاء محمد واصحابه، فانا لا نامن ان نطلب). وهكذا كان، ثم لحقت الجريده بالاحزاب وعادت بطون قريش ومن والاهم الي مكه، وعادت غطفان وقبائل بني سليم،ومن حضر من اليهود الي محالهم) [486] . يعطي المورخون لنعيمبن مسعود دورا بارزا، ويصورونه كانه هو الذي فكك تجمع الاحزاب واوقع بينه ونعيمبن مسعود كان مشهورا في مكه وفي المدينه بانه صائد مكافات، فطالما خذل المسلمين عن الخروج مع الرسول بعد ان مس القوم القرح بعد معركه احد مقابل عشرين ناقه رصدتها له بطون قريش، وشاع الامر وعرف المسلمون ذلك، فنفروا منه، واخذوا ينظرون اليه شزرا، ويترفعون عن الاستماع اليه. ومن جهه ثانيه ففي التجمع دهاه ودهاقنه، واليهود اهل حيله، فمن المستحيل عقلا ان يضحك صائد مكافات معروف مثل نعيم علي الجميع دون ان يكشف امره.
لقد نجت المدينه، ونجي الذين آمنوا بنعمه اللّه الذي ارسل علي الاحزاب ريحا وجنودا (...اذكروا نعمه اللّه عليكم اذ جاءتكم جنود فارسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها). [487] وبفضل القياده الحكيمه لرسولاللّه حيث نجح نجاحا باهرا بالاخذ بكل الاسباب. وكان للشجاعه التي ابداها الامام علي -عندما قتل عمروبن ود- دورا بارزا في نجاه الذين آمنوا، فهي المعركه الحقيقيه الوحيده التي جرت في غزوه الخندق، فكانت نصرا معنويا للمومنين، وفالا حسنا وضربه معنويه موجهه لتجمع الاحزاب. هذه الاسباب مجتمعه كانت وراء هزيمه الاحزاب، ونجاه المسلمين والمدينه المنوره من بطش اعظم تجمع، عرفهتاريخ المواجهه مع النبي [488] .
سمع العرب بتجمع الاحزاب، وبمسيرتها الي محمد، فهم بين مشارك بهذا التجمع، وبين مويد له متعاطف معه، وايقنوا ان تجمع الاحزاب كان اكبر تجمع شهدته جزيره العرب، ولم يخالجهم ادني شك بان الاحزاب ستستاصل محمدا ودينه واولياءه من الوجود. ثم احيطوا علما بقصه الخندق، وبمبارزه عليبن ابي طالب لاقوي العرب واشجعها عمروبن ود، وكيف قتله علي، وسمعوا باختلاف الاحزاب، وبما فعلته الريح بتلك الاحزاب، وبفشل الاحزاب وعودتها خائبه بعد حصار للمدينه دام بضع عشره يوما. وتابع العرب انباء المعارك التي جرت بين محمد وبين قبائل اليهود، وكيف خرج محمد منها منتصرا. وتابعوا انباء السرايا العسكريه التي كان يسيرها محمد فتجوب انحاء الجزيره، وتودب القبائل المعاديه له او الطامعه به قبيله تلو قبيله. وعرف العرب ان محمدا قد فرض حصارا علي الطرق التجاريه التي تسلكها قوافل بطون قريش الي بلاد الشام سواء عن طريق المدينه او عن طريق العراق، وهو مصر علي ابقاء حاله الحصار هذه حتي تخلي بطون قريش بينه وبين العرب. ان الرجل يفرض سلطانه، ويوسع هذا السلطان ويوطده يوما بعد يوم، لقد ادركت العرب وعلي راسها بطون قريش ان شعار (استئصال محمد من الوجود) وهم وغير قابل للتحقيق، فمحمد لا يمكن استئصاله ولا يمكن القضاء عليه، فشعر العرب بالحيره، وشعرت بطون قريش بالاحباط، واحتارت بامر الرجل، واحست بالالم والمراره، ويئست منه تماما. لقد فشلت البطون عسكريا بعد ان استنفدت كل خططها، واستعملت كل قواها، ولم تقو علي استئصال محمد او القضاء عليه، بل علي العكس من ذلك، فكلما صادمته خرج من صدامها معه وهو اكثر قوه، والعرب اكثر تفهما له واعجابا بامره. وفشلت البطون اعلاميا، فلم يعد يصدق احد ان محمدا مجنون او شاعر او كاهن او كاذب او ساحر كما اشاع اعلام البطون، لقد اظهر محمد عبقريه قياديه تفوق التصور والتصديق.
لم يعد امام بطون قريش سوي التسليم بالوجود الواقعي لمحمد، والاعتراف بسيطرته الكامله علي طريق تجارتها الي بلاد الشام، وباستحاله تنفيذ شعارها (استئصال محمد من الوجود والقضاء عليه) لكنها لا تعرف كيف تعبر عن قبولها بهذه الحقائق دون ان تخدش كبريائها المتغطرس. لقد اكلت الحرب مع محمد اموالها، مثلما اكلت خيره ابنائها، ولم يعد لها القدره علي البقاء في حاله استنفار عسكري دائم، ولم تعد لها القدره علي مواجهه الحصار، فما من قافله تجاريه من قوافلها الا ويعترضها محمد، فيغنمها هو واصحابه وياسرون رجالها او يقتلون منهم، او تنجو منهم بشق الانفس، وآخر الانباء استيلاء محمد علي قافله (ابي العاص بن الربيع)، الذي استجار بزوجته السابقه زينب بنت محمد، وامر الرسول علي اثر ذلك برد ما اخذ من القافله، لحكمه رآها، فعاد ابو العاصبن الربيع وسلمالاموال لاصحابها، واعلن اسلامه امام قريش [489] . وباختصار لم يعد لبطون قريش ايه مصلحه اطلاقا باستمرار حاله التوتر بينها وبين محمد، ولم تعد لها القدره بمعاداه محمد نيابه عن العرب. ومحمد لا يطلب منها الكثير، فغايه ما يطلبه منها ان تخلي بينه وبين العرب، وان تقف علي الحياد، فان اصابه العرب كفوها اياه، وان لم يصيبوه فان محمد لن يتعرض لهم، قريش كلها تفهم هذا، وقد جري عرض مطلب محمد قبل معركه بدر، واعلنه عتبهبن ربيعه -كما مر بنا- والعافيه كل العافيه بسحب فتيل التوتر، والاعتراف عمليا بوجوده كقوه واقعيه، وترك العرب له ليحددوا مواقفهم منه بالطريقه التي يرونها. ان زعامه البطون قد اشتهت هذا الحل وارتاحت له، ولكنها خجوله من اعلانه ومن التصريح به، ومن الاعتراف بان هذا هو تفكيرها، وتحليلها النهائي للموقف. ولا تدري كيف تعبر عنه وتعلنه!! ولا كيف يمكنها ان تتفاوض مع محمد بعد الذي فعلته به، وفعله بها طوال 19عاما من المشاحنه والبغضاء والحملات الاعلاميه التي لم تتوقف، والحملات العسكريه التي استمرت سته سنوات!!!
علاوه علي ان محمدا نبي، فهو عبقري، وقائد سياسي لا مثيل له. والجزء الاهم في العمليه السياسيه اطلاقا ان توجه الفعل او سلسله الافعال السياسيه الي الخصم، وترقب بدقه ردود فعله عليها ومقدار قربه او بعده مما تريده. لقد تيقن النبي ان بطون قريش قد افلست تماما، واقتنعت ان استئصاله مستحيل، وهزيمته عسكريا مستحيله، وانه لم تعد لها القدره علي الاستمرار بحاله التاهب القصوي والاستنفار العام، ولم تعد لها القدره علي تحمل حاله الحصار المفروضه عليها، وان العرب لن يقدموا لبطون قريش اكثر مما قدموا، وانها قد ادركت بان كفه محمد قد رجحت تماما، وان المستقبل له. وتيقن النبي ان بطون قريش حائره في امرها، وانها تبحث جديا عن مخرج من ورطتها، وعن سبيل يحفظ لها شرفها وما تبقي من كبريائها، ويرتب امورها مع محمد بشكل يزيل حاله التوتر الدائم بينها وبينه. فصمم النبي علي مساعدتها واخراجها من حيرتها، وجرها باللطف الي مائده المفاوضات لازاله التوتر الدائم بينه وبينها. واشاعه الامن في ربوع بيت اللّه الحرام.
بيت اللّه الحرام في مكه مثابه للناس جميعا، وامن لهم تقدسه كل قبائل العرب، وهي موقنه انه بيت اللّه الحرام، وتزوره، وتحج البيت وهي علي شركها، وقد لمعت بطون قريش واشتهرت لانهم جيران بيت اللّه الحرام، وحماته وسدنته، ولانهم يكرمون زوار هذا البيت، فلم يصدف في تاريخ البيت الحرام، ان صد حاج او راغب بزياره البيت الحرام، فحج البيت وزيارته حق مطلق لكل واحد من الناس، فما الذي يمنع محمدا كواحد من الناس علي الاقل من ان يزور بيت اللّه الحرام؟! وما الذي يمنع المهاجرين والاوس والخزرج وهم من الناس علي الاقل من زياره بيت اللّه الحرام واداء العمره؟! وعندما تعلم بطون قريش ان محمدا ومن معه قد جاءوا لاداء العمره فستندهش حتما، وستتخذ احد موقفين: 1- اما ان تاذن لهم باداء العمره بعد تردد ومفاوضات. 2- او تمنعهم بعد تردد ومفاوضات، وفي ذلك احراج كبير لها امام العرب، واخلال برسالتها نحو بيت اللّه الحرام المتمثله بحمايه البيت وتسهيل امور حجاجه وزواره. وفي الحالتين فان المفاوضات بين محمد وبين البطون قدر محتوم. والمفاوضات لها اصولها، فلا بد من وفد يمثل البطون مخول بالتفاوض مع محمد، ولا بد من وثيقه خطيه تشتمل علي ما اتفق عليه الطرفان، ولا بد من جلسه تجمع بين الطرفين المتفاوضين، بهذا المناخ تبث بطون قريش ما في صدرها، وتعبر بشكل او باخر عن حقيقه تحليلها النهائي للموقف، وتبدي رغبه ضمنيه بازاله حاله التوتر، ومحمد هو الرابح بهذه الحاله، حيث يحقق ضمنيا اعتراف البطون رسميا بوجوده ككيان كفو لها. واحتمال الصدام المسلح صفر، بسبب المفاجاه، ولان البطون تعرف محمدا واصحابه، وقد عجمت عودهم في الحرب، ولانها غير مستعده لهذا الصدام، ولانها لا تريد ان تحرج نفسها امام العرب عندما تقاتل عمار بيت اللّه الحرام. واطمانت نفس النبي الكريمه، وارتاحت لفكره اداء العمره، وراي الرسول في منامه انه قد دخل البيت الحرام، وحلق راسه، واخذ مفتاح البيت ووقف في عرفه مع الواقفين. عندئذ اتخذ النبي قراره لاداء العمره، واذاع القرار، وذاع خبر الرويا المباركه مع القرار، ولم يشك الصحابه بالفتح، بسبب هذه الرويا [490] .
امر النبي اصحابه بان يتجهزوا للعمره، علي ان يخرجوا بغير سلاح الا السيوف في القرب، واعد سبعين بدنه، واشعرها وقلدها، واشعر المسلمون بدنهم وقلدوها، ثم صلي ركعتين في المسجد، واحرم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ان الحمد والنعمه لك والملك، لا شريك لك)، وهكذا فعل المسلمون واحرموا معه. وخرج من المدينه معتمرا 1600 مسلم من اصحابه، وعدد من النساء. وفي الطريق الي مكه كان يمر بالاعراب، فيستنفرهم لاداء العمره معه لكنهم كانوا يتشاغلون عنه، ويقولون في انفسهم ان محمدا واصحابه لن يرجعوا ابدا من هذه الرحله، وان قريشا ستقضي عليهم، وتابع النبي واصحابه مسيرتهم ومعهم الهدي حتي وصلوا اليالحديبيه، فعسكر (صلي اللّه عليه وآله وسلم) فيها [491] .
لقد بلغ قريش خروج محمد وصحبه الي مكه معتمرين ومعهم الهدي، ففزعت، وراعها ذلك. منطقيا زياره البيت الحرام حق لكل الناس فلا يصد زائر كائنا من كان فرد ام جماعه، لكن محمد واصحابه شيء آخر، لقد اجتمعت بطون قريش وتشاورت في ما ينبغي ان تفعله فقالت: (ان محمدا يريد ان يدخل علينا في جنوده معتمرا، فتسمع به العرب، وقد دخل علينا عنوه وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا، واللّه لا كان هذا ابدا ومنا عينتطرف) [492] .واتخذت قيادتهم الترتيبات اللازمه لصد محمد ومن معه ومنعهم من اداء العمره، ومن هذه الترتيبات: 1- وضع العيون علي الجبال لرصد محمد. 2- تقديم مئتي فارس الي كراع الغميم. 3- استنفار من يطيعها من الاحابيش. 4- الاستعانه بثقيف. 5- ان تخرج بطون قريش ومعها النساء والاطفال. 6- ان يعسكر الجميع بمنطقه بلدح حيث يضربون القبابوالابنيه، وهكذا كان [493] .
لقد احيط الرسول علما بقرار بطون قريش، وهو علي علم به، فمعه الوحي، ومعه الالهام وله عقل مميز، وقلب كبير معد لمواجهه اشد الامور تعقيدا. استقر بالحديبيه فهو ليس بعجله من امره، وجاءه وفد من خزاعه حلفائه وحلفاء آبائه واجداده، منهم المسلم، ومنه المتعاطف معه، ومعهم بديلبن ورقاء، ووضعوا النبي بالصوره وباستعدادات بطون قريش لصده ومن معه ومنعهم من اداء العمره.
فقال الرسول لركب خزاعه: (انا لم نات لقتال احد، انما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه. وقريش قوم قد اضرت بهم الحرب ونهكتهم، فان شاءوا ماددتهم مده يامنون فيها، ويخلون في ما بيننا وبين الناس، والناس اكثر منهم، فان ظهر امري علي الناس، كانوا بين ان يدخلوا في ما دخل فيه الناس، او يقاتلوا وقد جمعوا. واللّه لاجهدن علي امري هذا حتيتنفرد سالفتي، او ينفذ اللّه امره) [494] .
تحرك وفد خزاعه الي زعامه البطون وخزاعه متهمه عندهم، وتدخل عروهبن مسعود، واقنع زعامه البطون ان تسمع من وفد خزاعه، وتكلم بديلبن ورقاء وزعامه البطون تصغي له، ونقل لهم بامانه تامه ما قاله الرسول. واقترح عروه ان يبعثوه الي محمد، ليتاكد من صحه ما قاله بديل بن ورقاء، ووافقت زعامه البطون، وذهب عروه وقابل الرسول، ووضعه بالصوره التي آلت اليها امور البطون، واطلعه النبي علي حقيقه موقفه، وتاكد من صحه ما قاله بديل، والخزاعيون. ورجع عروهبن مسعود مبهورا بشخصيه النبي، وعمق العلاقه بين النبي واصحابه، واطلع البطون علي حقيقه موقف النبي والغايه من قدومه، وانه قد اتي البيت معظما له، ومعه الهدي ينحره وينصرف. وجاء سيد الاحابيش حليس بن علقمه، وشاهد الهدي عليه القلائد وقد اكل اوباره، والقوم قد تفلوا وشعثوا، وتاثر حليس بما راي، وقبل ان يقابل الرسول رجع الي قريش غاضبا، قال لهم: (اني قد رايت ما لا يحل صده، رايت الهدي في قلائده قد اكل اوباره معكوفا عن محله، والرجال قد تفلوا وقملوا.. اما واللّه ما علي هذا حالفناكم ولا عاقدناكم علي ان تصدوا عن بيت اللّه من جاء معظما لحرمته موديا لحقه، وساق الهدي معكوفا ان يبلغ محله، والذي نفسي بيده لتخلن بينه وبين ما جاء به، او لانفرن بالاحابيش نفره رجل واحد) فقالت له زعامه البطون:فاكفف عنا حتي ناخذ لانفسنا بعض ما نرضي به [495] .وبعث الرسول الي قريش خراش بن اميه الكعبي ليبلغ اشرافهم ما جاء به. وكلف النبي عمر بن الخطاب ليذهب الي قريش،فرفض عمر لانه خاف قريشا علي نفسه كما قال [496] .عندئذ كلف الرسول عثمان بن عفان ليقول لقريش: (ان محمدا لم يات لقتال احد، انما جاء ومن معه زوارا لهذا البيتمعظمين لحرمته ومعهم الهدي ينحرونه وينصرفون) [497] . ومن الموكد ان عثمان قد بلغ ما ارسل به تماما.
اشيع بان عثمان قد قتل، وانتشرت الاشاعه في اوساط المسلمين، عندئذ قال النبي لاصحابه: ان اللّه امرني بالبيعه، فبايعه من معه من المسلمين، وانتشر نبا البيعه، وسمعت به بطون قريش، وادركت ان محمدا جاد، وانه سيقاتل ان لم ياذنوا له بدخول المسجد الحرام او يجدوا للامر مخرجا، فرعبت بطون قريش، ووعت حقيقه انها غير مستعده للقتال، وان استعدادها ينحصر في منع محمد ومن معه من اداء العمره عنوه عنها وليس قتاله، وعلي هذا الاساس اجلبت ثقيف، وجمعت احابيشها، واخذ محمد البيعه من اصحابه علي القتال نسف لكامل خطط البطون، وتحديد مجال المناوره امامها، وقد هدد حليسبن علقمه بسحب الاحابيش، وموقف ثقيف يتراخي، وبالنتيجه ستكون البطون الغير مستعده للقتال وجها لوجه امام محمد، وتنفتح علي البطون ابواب لا تقوي علي اغلاقها. ثم ان مطالب محمد واضحه ومحدده، وغايه ما يتمناه ان تخلي البطون بينه وبين العرب، لذلك رات زعامه بطون قريش ان من الخير لها ان تصالح محمدا، وان تعقد معه هدنه طويله الاجل مقابل ان ينصرف عنها هذا العام ويعود في العام القابل حتي لا تفهم العرب بان محمدا قد دخل مكه عنوه، واختارت البطون ثلاثه من رجالاتها ليقوموا بالمفاوضات مع محمد نيابه عنها، ويكتبوا وثيقه بما يتم الاتفاق عليه ويوقعها الطرفان، وتشكل وفد البطون الي المفاوضات من سهيلبن عمرو، وحويطببن عبدالعزي، ومكرزبن حفص، وتوجه وفد البطون لمقابله الرسول والشروع بالتفاوض تمهيدا لتحقيق المصالحه [498] .
جلست بطون قريش ممثله بوفدها لتتفاوض مفاوضه مباشره مع محمد الذي لم تعترف بوجوده طوال مده 19عاما، وجلوسها علي مائده المفاوضات معه يعني اعترافها الضمني بوجوده ككيان كفو للتعاقد معها. استهل رئيس وفد البطون الجلسه الاولي بتقديم اعتذار البطون عن بعض المناوشات المحدوده التي جرت من بعض اتباعها قائلا: (من قاتلك لم يكن من راي ذوي راينا، ولا ذوي الاحلام منا، بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا فابعث الينا باصحابنا الذين اسرتهم، فقال النبي: ابعثهم اليكم حين ترسلون اصحابي، فقال سهيل: انصفتنا، وهكذا تمت الموافقه علي تبادل الاسريونفذت فورا) [499] .
بعد مفاوضات مضنيه بين الطرفين تم الاتفاق علي كافه النقاط التي بحثت، ولم يبق الا كتابه كتاب الصلح، وتم الاتفاق علي ان يتولي كتابته عليبن ابي طالب يمليه عليه رسولاللّه، واعترض وفد البطون علي عباره (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، وعباره (رسولاللّه) وطالبوا بتغييرهما الي (باسمك اللهم) و(محمدبن عبداللّه)، فاستجاب لهم رسولاللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم)، وهكذا تغلب علي مشكلتين شكليتين كادتا ان تنسفا المفاوضات كلها، وان تضيع الفرصه الذهبيه التي ترقبه اطوال 19 عاما [500] .
هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللّه، وسهيل بن عمرو، اصطلحا: 1- علي وضع الحرب عشر سنين يامن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض. 2- لا اسلال ولا اغلال وان بيننا عيبه مكفوفه. 3- من احب ان يدخل في عهد محمد وعقده فعل، ومن احب ان يدخل في عهد قريش وعقدها فعل. 4- من اتي محمدا منهم بغير اذن وليه رده، ومن اتي قريش من اصحاب محمد لم ترده. 5- يرجع محمد عامه هذا باصحابه، ويدخل مكه العام القابل في اصحابه فيقيم ثلاثا، ولا يحملون معهم الا سلاح المسافر، السيوف في القرب. واخذ الرسول نسخه من هذا الكتاب، واخذ سهيل نسخهاخري [501] .وبعد تبادل نسخ الكتاب (المعاهده)، قال من حضر من خزاعه: (نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ونحن علي من ورائنا من قومنا، ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل مع قريش في عهدهاوعقدها، ونحن علي من ورائنا من قومنا) [502] .
لقد اعطي اتفاق الحديبيه محمدا كل ما يريده: (من احب ان يدخل في عهد محمد وعقده فعل) وهذا البند (الثالث) عام يشمل العرب والعجم، ومعناه ان قريش تترك الحريه لاي مجموعه بشريه لتدخل في عهد محمد وعقده. وهذا بحد ذاته انقلاب، لان اعلام البطون كان يصور محمدا وكانه ابن عاق من ابنائها خرج عليها، وكان الصراع بينها وبينه هو صراع عائلي بين عشيره كبري وبين فرد خارج عليها، وبهذه الحاله فان لم تقف العرب مع العشيره الكبري فانها لن تقف مع ابن العشيره الخارج عليها.وجاء اعتراف البطون بحق محمد باستقطاب العرب حوله ليقلب كل المفاهيم، وليلغي دفعه واحده آثار اعلام البطون، وليخلق مناخا جديدا للدعوه، ومجالا رحيبا للدوله الاسلاميه. فدين محمد قائم علي السلام، والكلمه الطيبه والاقناع، واحترام العقل، وتقديس الحوار الجدي الباحث عن الحقيقه المجرده، فاذا وجدت الحريه، ورفع الحرج، وسمع الناس حجه محمد، وقارنوها مع حجه البطون، واعلامها فسيدخلون بالضروره في عهد محمد وعقده، وبوقت يطول او يقصر ستجد بطون قريش نفسها معزوله، فهي لا تدعي بدين جديد، وليس لديها ما تقدمه، ومع الايام تصبح جزيره ظلمات وسط نور باهر. فلذلك كان هذا الاتفاق فتحا حقيقيا لمكه، وهزيمه ساحقه لبطون قريش، وكان نصرا موزرا لدبلوماسيه الرسول التي حصدت ثمار المواجهه المسلحه مع البطون افضل حصاد، وباقرب الطرق وايسرها، وحققت كل ما كان يتمناه النبي (صلي اللّه عليه وآله وسلم). وتحديد مده الصلح بعشر سنين غير ملزم، فاذا اخلت البطون بهذا الاتفاق، فهي التي ينبغي ان تدفع الثمن، وان تواجه قوه تقوي ولا تضعف، وبهذه الحاله فان محمدا بحل منها. وحدث هذا بالفعل. وحول رجوعه علي ان يعود العام المقبل، فالعمره سبب للمصالحه وطريق اليها، فقد اتخذ الرسول قرار العمره لعل مسيرته الي العمره تودي الي المفاوضه، فالصلح، وقد ادت العمره دورها وقادت الي المصالحه، وكانت سببا لتخلي قريش بينه وبين العرب، وهو المطلب الذي قاتل من اجله سته سنوات، وتمناه طوال فتره البعثه التي سبقت المصالحه، والتي استمرت 19عاما. ورجوع محمد دون اداء العمره احراج كبير لبطون قريش امام العرب، واعتراف صريح منها بانها تصد زوار بيت اللّه الحرام، وبالتالي ليست اهلا لاداره البيت الحرام، ومحمد ماجور برجوعه، لانه لو اصر علي اداء العمره، فالشر الذي سيحدث بادائها اعظم من الخير الذي يرجي بتركها. اما حول البند الذي ينص علي التزام النبي برد من ياتيه بدون اذن وليه، فهو يصب في مصلحه الاسلام، فمن يومن باللّه ورسوله لا يمكنه ان يتخلي عن هذا الايمان، سواء اكان مع محمد او عند بطون قريش، وكثير من المسلمين كانوا يقيمون في مكه، فمن يرده النبي ينضم للمسلمين المقيمين في مكه ليشكلوا معا قوه يستفاد منها عاجلا ام آجلا. ثم ان بنود الاتفاق متكامله، فاذا اخلت بطون قريش ببند منها فان محمدا بحل من هذا الاتفاق بعد ان شاع بين العرب، واعترفت البطون بحقه باستقطاب من يشاء. وستتاح له الفرصه لتصفيه الحركه اليهوديه في الجزيره، واستقطاب القبائل التي كانت متردده مراعاه لخاطر بطون قريش. وبكل الموازين السياسيه والعسكريه فان صلح الحديبيه كان من اعظم الانجازات والفتوحات التي حققها رسولاللّه صلي اللّه عليه وآله وسلم.
بهذه الكلمات الثلاث اجاب رسولاللّه من لم تعجبه هذه المعاهده، بمعني ان اللّه تعالي هو الذي امره بالعمره، ورتب له الامور، فهو عبداللّه يفعل ما يومر، ورسولاللّه يتقيد باوامر من ارسله، فمعه الوحي ومعه الالهام، وهو لا ينطق عن الهوي. فمحمد يعلم علم اليقين بان ما جري سوف يجري، خطوه بعد خطوه حتي يكتمل بالصوره التي آل اليها. لقد صرح النبي علنا بان اللّه قد امره بالبيعه [503] ، وامر مناديا ينادي: (ان روح القدس قد نزل وامر بالبيعه، فاخرجوا علي اسم اللّه فبايعوا) [504] ، بمعني ان اللّه يوجه نبيه خطوه خطوه، نحو الهدف العظيم. حتي تحقق الصلح المبارك، فرضي اللّه تعالي عنه، وبرضاه رضي رسولاللّه.
لم يرض عمر بن الخطاب بمعاهده الصلح التي رضي اللّه عنها، واعتبرها فتحا مبينا، وامر رسوله بقبولها والتوقيع عليها، ليختم مرحله من المواجهه، لقد اعتبر عمر هذه المعاهده (دنيه)، وقال للرسول امام المسلمين: (فعلام نعطي الدنيه في ديننا)، وظهر الرجل بمظهر من يزايد علي الرسول بالدين الذي علمه الرسول اياه!!! وقبل يوم واحد فقط طلب رسولاللّه من عمر ان يذهب الي بطون قريش ليقول لها: (بان رسولاللّه لم يات لقتال احد، انما جئنا زوارا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي ننحره وننصرف، فرفض وقال للرسول: يا رسولاللّه اني اخاف قريش علي نفسي، وليس بها من بني عدي منيمنعني)!! [505] .وهو نفس عمر الذي اشترك في معركه بدر ولم يثبت انه قد قتل مشركا او جرحه، وهو نفسه الذي هرب من المعركه يوم احد، وقد ذكره الرسول بذلك يوم اقبل عليه فقال له: (انسيتم يوم احد اذ تصعدون ولا تلوون علي احد، وانا ادعوكم فياخراكم).. [506] .وهو نفس الرجل الذي لم يكن له اي دور مميز في اي معركه من معارك الاسلام التي سبقت صلح الحديبيه!!! وهو الذي يزايد علي رسولاللّه، ووصف المعاهده التي وقعها النبي ورضي (بانها دنيه في ديننا) واعلن عمر انه لو وجد اعوانا ما اعطيالدنيه!! اي ما سمح بتوقيع هذا الصلح!!! [507] .ولقد استخف نفرا من اسلم وغضب الكثير لغضبه.. [508] لقد حاول ان يحول بين النبي وبين الصلح، وحاول ان يلغي المعاهده، ولكنه لم ينجح، ومن ذلك التاريخ ادرك اهميهوجود الاعوان لفرض رايه [509] .وبالرغم من معارضه عمر الشديده لصلح الحديبيه ورده علي اللّه ورسوله الا ان اولياءه يسجلونه شاهدا علي هذا الصلح،ويوكدون انه قد وقع كشاهد!!! [510] .لقد برع القوم باعطاء عمر (رضي اللّه عنه) دور البطوله في كل موقف، حتي وان خالف الرسول او اختلف معه، فمخالفته للرسول او اختلافه معه كان لحكمه رآها عمر (رضي اللّه عنه)!!! قال ابو سعيد الخدري: (جلست عند عمربن الخطاب رضي اللّه عنه يوما، فذكر القضيه، فقال: لقد دخلني يومئذ من الشك، وراجعت النبي صلي اللّه عليه وسلم يومئذ مراجعه ما راجعته مثلها قط، ولقد عتقت فيما دخلني يومئذ رقابا، وصمت دهرا،واني لاذكر ما صنعت خاليا فيكون اكبر همي) [511] .علي اي حال لقد تغلب النبي علي المزايده والتشويش، ويوم الفتح قال: (ادعوا لي عمربن الخطاب، فقال اي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: اي رسولاللّه ما كان فتح في الاسلام اعظم منصلح الحديبيه!!) [512] .
لقد ارسل اللّه رسوله محمدا الي الناس كافه، بغض النظر عن الدين او اللون او العرق، فهو خالقهم جميعا، ابوهم آدم وامهم حواء. ولانه يتعذر علي النبي ان يبلغ الناس جميعا وبوقت ومكان واحد مضمون رسالته، فقد اختار تعالي مكه لتكون نقطه الانطلاق للنبوه والرساله، لان زوار البيت يتقاطرون لزيارته من مختلف الانحاء، واحري بهم ان ينقلوا معهم ما يسمعون من انباء عند عودتهم لامصارهم، وكانت الغالبيه العظمي من سكان مكه وما حولها تعبد الاصنام، وندره منهم كانوا قد اعتنقوا اليهوديه او النصرانيه، او سمعوا الكثير عن هاتين الديانتين. وكان ما كان من تصدي بطون قريش للنبوه والرساله، ومن مواجهتها للنبي حتي تامرت علي قتله وفشلت. وطاردته ففشلت، ووصل رسولاللّه سالما الي المدينه. وبالاجمال لم تحدث مواجهه بين النبي وبين اليهود خلال فتره وجوده في مكه التي استمرت 13عاما، بل علي العكس من ذلك، فقد كانت ترد انباء يرويها المشركون عن اليهود بان نبيا من بني عبدمناف سيظهر، وان اوان ظهوره قد اقترب!! فيرتاح النبي والذين اسلموا معه لمثل هذه الانباء ويطمئنوا لها.
لا بد من التذكير بان بطون قبيلتي الاوس والخزرج يشكلون الاغلبيه الساحقه من سكان بلده يثرب وما حولها، بالاضافه الي اقليه كبيره من اليهود. ويبدو واضحا ان اصحاب بيعتي العقبه الاولي والثانيه قد نجحوا نجاحا ساحقا بادخال دين الاسلام الي كل بيت من بيوت بطون الاوس والخزرج، مثلما نجحوا بخلق راي عام في يثرب وما حولها متشوق او متظاهر بالتشوق لرويه الرجل الرسول، وموالي او متظاهر بموالاه هذا الرسول. ولا خلاف بين اثنين من سكان يثرب بان الرجل الرسول سياتي الي يثرب قائدا ومتبوعا غير تابع، ولم يعلن احد من السكان معارضته لقياده الرسول. لقد نجح المسلمون الرواد في يثرب بايجاد حاله عظمي من الانبهار. لقد استقبل سكان يثرب وما حولها النبي استقبالا حافلا لم يستقبل به زعيم قبله قط، وما يزيد هذا الاستقبال روعه انه وليد مشاعر مختلطه من الرضي والاقتناع والمجامله والانبهار، وفي بعد قصي عن القوه والاكراه والتسلط. وقد اشتركت الاقليه الكبيره من اليهود اشتراكا موثرا في كل ذلك، فقد تسلق قسم منهم جذوع النخيل ليكون اول من يري طلعه النبي!! ولما اشرقت طلعه النبي، صاح احد اليهود: (يا اهل يثرب هذا حظكم قد اتي). انتهت مراسم الاستقبال، ودخل النبي عاصمته الجديده يغمره شعور عام بالرضي والاطمئنان، وصمم ان يجعل من وصوله الي يثرب نقطه تحول كبري في حياه كل سكانها، لا فرق باللون او العرق او الدين. لقد كانت نظرته للامور حياديه ومجرده، وهمه الاعظم منصب علي انقاذ الجميع من الظلمات الي النور، واشعار الجميع انهم اصحاب رساله الي العالم. ولعبت قوانين التنافس والتسابق بين بطون الاوس والخزرج دورا كبيرا، فلا تجد من هذه البطون رجلا الا وقد اسلم او تظاهر بالاسلام، او والي محمدا حقيقه او تظاهر بموالاته، فبطون الاوس تريد ان تكون السابقه، وبطون الخزرج تطمع بذلك. لقد ادركت بطون الاوس والخزرج ان الاسلام صار هو درب الحياه الوحيد، وتذكره المواطنه، وطريق المستقبل، والمفتاح الي كل دور من ادوار الحياه، فارادت الاوس ان تسبق الخزرج، وارادت الخزرج مثل ذلك، ووسيله السبق هو الاسلام وموالاه النبي او التظاهر بهما. ولم يبق رجل من رجالات بطون هاتين القبيلتين، الا وقد اسلم او تظاهر بالاسلام. وفي هذا المناخ التنافسي ظهرت ظاهره النفاق علي اوسع نطاق، حيث يظهر اهله الاسلام والموالاه، ويبطنون الكفر والحقد علي محمد وآله. اما اليهود فقد كانوا اكثر وضوحا، حيث اعلن عدد قليل منهم اعتناقه للاسلام، وبقيت الاكثريه الساحقه منهم علي دينها، ولم يكرههم النبي علي ترك دينهم واعتناق دينه، ولم يغضب منهم او يحقد عليهم، بل كان يامل ان يكونوا اكثر تفهما له، وتعاطفا معه، فهم من نسل اسحاق النبي، ومحمد من نسل اسماعيل النبي، واسحاق واسماعيل اخوه فهما ابنا ابراهيم (عليهمالسلام)، بمعني انهم ابناء عمومه، ومن جهه ثانيه فهم اهل كتاب، وقد احيطوا علما باخبار الرسل والانبياء، وقبل اعلان النبوه المحمديه، كان اليهود يستفتحون علي المشركين العرب ويوكدون لهم ان نبيا سيظهر، وان هذا النبي هو بشري انبياء بني اسرائيل الذين سبقوه. ولان النبي حيادي وموضوعي، وليس عنده حكم مسبق، فقد كان يتوقع خيرا من اليهود، ويظن انه بوقت يطول او يقصر سيقتنع اليهود به ويدخلون في دينه، ويستفيد الاسلام من تجارب اليهود الايمانيه السابقه، ومما وسع افق هذا التفاول، ارتباط اليهود بسلسله متماسكه من التحالفات مع بطون الاوس والخزرج، وظهر اليهود بمظهر الموالين لمحمد او الراضين بقيادته، المستبشرين بعهده خيرا. كل هذه الاسباب الموضوعيه دعت رسولاللّه لاعتبار سكان يثرب وما حولها بما فيهم اليهود مع من هاجروا من اهل مكه امه واحده متميزه عن غيرها من الناس، واعتبار المدينه وطنا للجميع بما فيهم اليهود وحمايه هذا الوطن من مسووليه الجميع، واعترف بالتحالفات القبليه السابقه لقدومه، وتركها علي حالها، واعطي كافه هذه التشكيلات الحريه باداره شوونها، وعند اختلافها فهو المرجع لحل هذه الخلافات. واعتبر النبي اعلي سلطه في البلاد، وقد وضع النبي هذه الترتيبات علي شكل دستور، وافق عليه كل سكان المدينه بما فيهم اليهود، او تظاهروا بالموافقه ولم يعترض عليها منهم احد، واخذت هذه الترتيبات صفه التعاقد. وقد جاء في هذه الترتيبات ما يلي وبالحرف: (وان علي اليهود نفقتهم، وعلي المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر علي من حارب اهل هذه الصحيفه (الدستور)، وان بينهم النصح والنصيحه والبر دون الاثم)، وقد حللنا هذه الصحيفه فيماسبق [513] . ومن الموكد ان اليهود قد فهموا مضمون الصحيفه، ووافقوا عليها، او علي الاقل لم يعترضوا. وليس هنالك ما يمنعهم من الاعتراض عليها، فتحالفاتهم مع البطون ما زالت قائمه، ومعهم كافه المنافقين، ومحمد لم تثبت اقدامه بعد في يثرب، واليهود اهل مال وقوه، ولهم نفوذ، ومع هذا لم يرو احد بان اليهود قد اعترضوا علي هذه الترتيبات، وكلما روي يفيد بانهم قد قبلوا بها او تظاهروا بالقبول. وقد ذهب المورخون والرواه واصحاب السيره مذهبين: 1- فمنهم من يقول بان اليهود قد عاهدوا النبي وتعاقدوا معه، بان تكون حرب النبي حربهم، وسلمه سلمهم، وعدوه عدوهم، ونصوص الصحيفه او الدستور الذي وضعه النبي لترتيب اوضاع يثرب وما حولها بعد قدومه اليها توكد ذلك، وسير الاحداث التاريخيه يوكد ايضا هذا القول. 2- ومنهم من يري بان اليهود قد عاهدوا النبي وتعاقدوا معه علي التعايش معه، وان لا يعينوا عليه عدوا كائنا من كان. وسيان اخذنا بهذا القول او ذاك، فان اليهود علي اقل تقدير قد التزموا بعدم معاداه النبي وبالتعايش السلمي معه.
من الموكد ان يهود المدينه وما حولها ذهلوا من سرعه التفاف بطون الاوس والخزرج حول الرسول، ومن قدره الرسول علي استقطابهم، ومن حاله الانبهار العام التي دفعت هذه البطون لموالاه محمد او التظاهر بموالاته. واكتشف اليهود بانهم قد تميزوا او عزلوا عن المجتمع، فراوا ان من الحكمه ان لا يكشفوا انفسهم، فاعلنوا انهم باقون علي دينهم، ولكنهم يوالون النبي ويقبلون بقيادته وهم مع الاوس والخزرج، يوالون وليهما ويعادون عدوهما. ومن الطبيعي ان النبي لا يحاكم علي البواطن، فهو يعلم علم اليقين ان هنالك منافقين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر والعصيان، ويتشدقون بموالاه النبي وهم عصاه، ولكن حسب مقتضيات العدل الالهي فانه لا سلطان له عليهم ما اظهروا الاسلام ونطقوا بالشهادتين، ولا سلطان له علي اليهود الذين احتفظوا بدينهم، واعلنوا قبولهم بقياده النبي، وابطنوا العداوه له، لقد كان النبي يطاولهم ما طاولوه، ويهادنهم ما هادنوه، ولا يبدا بعداوه اي فرد او جماعه، ولا يفتح علي اي كان ابواب المواجهه والخصومه، تلك هي طبيعه النبي وطبيعه دينه وهذا منهج النبي في كل مواجهاته، فقد كان يترك الخصم حتي يبدا بالعدوان، فاذا بدا الخصم بالعدوان يعطي اوامره بالرد وبحجم العدوان. ومن هذا المنطلق، فان افرادا من اليهود، وجماعات منهم قد نقضوا العهد، وخرجوا علي العقد، فجابه الذين نقضوا عهودهم، ولم يتعرض لغيرهم، فاذا خرج خارج جابهه، واذا نقض عهده ناقض تصدي له. هذه السياسيه الحكيمه جنبته وحده خصومه، وفتتت جبهه اولئك الخصوم، فمن فيض النعمه الالهيه علي محمد، ومن عبقريه قيادته، ان خروج اليهود ومواجهتهم له لم يتم علي دفعه واحده، ولا بوقت واحد، والا لكان في ذلك حرج شديد، انما حدثت مواجهه اليهود له علي موجات، وباوقات متعدده، وفي كل خروج كان الرسول يواجه من يخرج عليه من اليهود ومن ينقض عهده، ولا يتعرض لغيره لا من قريب ولا من بعيد. وكان يحرص كل الحرص، علي ان يبين لمن يخرج عليه سوء عمله وحقيقته، وان ينصحه بالنزوع عنه، فان ابي استعان النبي عليه باللّه وواجهه، مما اضفي علي مواجهاته كلها طابع الشرعيه.
النتائج المذهله التي اسفرت عنها معركه بدر، صعقت كل اولئك الذين كانوا يبطنون الكراهيه والحسد لمحمد ولاله واتباعه، واججت نيران حسدهم للنبي وحقدهم عليه، واخرجتهم عن وقارهم المصطنع، وعن صمتهم الاثم. ومن هولاء: اليهود، والمنافقين، ومع انه لا علاقه خاصه لهم ببطون قريش، الا انهم ابدوا تاثرهم البالغ بما اصاب البطون وبكوا قتلي البطون، وشجعوها علي الانتقام من محمد وآله.
بنو قينقاع احدي الجماعات اليهوديه التي هزتها نتائج معركه بدر، واخرجتها عن صمتها الاثم، ومع انهم قد اعطوا الرسول العهود والمواثيق بان يكونوا معه او لا يظاهروا عليه عدوا، الا انهم نقضوا العهد، وجاهروا بعداوتهم للنبي، فجمعهم النبي، وذكرهم بعهده وعقده ودعاهم الي الاسلام، او التوقف عن اعلان عداوتهم له، فلم يصغوا للنبي، فحذرهم النبي من ان يصيبهم ما اصاب البطون في بدر، فاجابوا النبي بصلف قائلين: (يا محمد لا يغرنك من لقيت، انك قهرت قوما اغمارا، وانا واللّه اصحاب الحرب، ولئن قاتلتتنا لتعلمن انك لم تقاتلمثلنا) [514] .ومع هذا تركهم النبي ليقيم الحجه عليهم، وليحملهم مسووليه بدء العدوان عليه، وجاءت امراه مسلمه لتشتري مصاغا من سوقهم، فغافلها يهودي فربط ردائها دون ان تشعر، ولما نهضت المراه انكشفت عورتها، فضج اليهود بالضحك، فقام رجل مسلم فقتل الذي ربط ثوب المراه. عندئذ، اجتمعت بنو قينقاع وقتلوا الرجل، واعلنوا رسميا نبذهم للعهد وتحصنوا في حصنهم، واعلنوا الحرب ضمنيا علي النبي، عندئذ سار اليهم النبي، وحاصرهم خمس عشره ليله، حتي قذف اللّه في قلوبهم الرعب، وعرضوا علي رسولاللّه ان يخرجوا من الحصن، ويجلوا من المدينه، فابي الرسول الا ان ينزلوا علي حكمه، وهكذا كان، فربطهم رسولاللّه واوثقهم بالحبال فحضر ابن ابي، وتيقن ان النبي سيقتلهم فادخل يده في جنب درع النبي، وطلب منه ان يحسن لمواليه وتغير وجه النبي، فقال له: (ارسلني)، فقال ابن ابي: (لا ارسلك حتي تحسن في موالي اربعمئه دارع وثلاثمئه حاسر، تريد ان تحصدهم في غداه واحده)، فقال الرسول: (خلوهم لعنهم اللّه ولعنه معهم) وامر بان يجلوا من المدينه. وحاول ابن ابي ان يبقيهم في المدينه فابوا، وتم اجلاوهم الياذرعات، بعد ان اخذ النبي اموالهم [515] .
قتل رجل مسلم رجلين من بني عامر دون ان يعلم ان بينهم وبين رسولاللّه امان وعهد، وطلب عامربن الطفيل ديتهما، فسار رسولاللّه الي بني النضير ليستعين بهم علي الديه، وكانوا حلفاء بني عامر، فقال اليهود: نفعل يا ابا القاسم ما احببت، اجلس حتي نطعمك. ثم خلا بعضهم الي بعض فقال حييبن اخطب: (يا معشر اليهود، قد جاءكم محمد في نفر من اصحابه لا يبلغون العشره، فاطرحوا عليه حجرا من فوق هذا البيت الذي هو تحته فاقتلوه، فلن تجدوا اخلي منه الساعه، فان قتل تفرق اصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من ها هنا من الاوس والخزرج). فقال عمروبن جحاش: (انا اظهر علي البيت واطرح عليه الصخره!) فقال سلامبن مشكم: (اطيعوني هذه المره وخالفوني الدهر، واللّه ان فعلتم ليخبرن بانا قد غدرنا به، وان هذا نقض العهد الذي بيننا). وجاء رسولاللّه الخبر من السماء، فنهض كانه يريد حاجه، وترك اصحابه جلوس مع اليهود، واكتشف اليهود ان موامرتهم قد كشفت، ونصحهم ناصح منهم، اسلموا لتنجو من عاقبه موامرتكم عليه، فابوا، فقال لهم حكيمهم، (اذا فان محمدا سيطلب منكم الخروج فاخرجوا). ولما وصل رسولاللّه الي مامنه ارسل ليهود بني النضير رسولا لينقل لهم انذارا مختصرا: (ان اخرجوا من بلادي)، وتبلغوا الانذار فشجعهم ابن ابي علي رفض الانذار. وحاول ابن ابي ان يشكل جبهه من اليهود والمنافقين، وسريعا امر النبي من اطاعه بالتهيو لمقاتله بني النضير الذين نقضوا عهده، ورفضوا انذاره، ودخلوا حصونهم واستعدوا للقتال، وتخلي عنهم ابن ابي ويهود بني قريظه. وبدا المسلمون في حصارهم، واثناء الحصار نزلت قله منهم، واعلنت اسلامها، وبعد ان استحكم الحصار استسلم بنو النضير، ونزلوا علي ان لهم ما حملت الابل الي الحلقه، فاجلاهم رسولاللّه عن المدينه، وحملوا عليستمائه بعير، وهكذا ربح المواجهه مع بني النضير [516] .
بقيت بنو قريظه علي عهدها وعقدها مع رسولاللّه، وكانت تري ان خروج بني قينقاع وبني النضير علي العهد والعقد عمل طائش وغير مصيب، ولم يصدر من بني قريظه ما يعكر حاله التعايش السلمي بينهم وبين رسولاللّه واصحابه، واستمرت الامور علي ما يرام، ووصف عقيد بني قريظه كعببن اسد العلاقات بين محمد وبين بني قريظه قائلا: (اني عاقدت محمدا وعاهدته، فلم نر منه الا صدقا، واللّه ما اخفر لنا ذمه، ولاهتك لنا سترا، ولقد احسن جوارنا) [517] . هذا ما قاله عقيد بني قريظه للوفد الذي جاء ليضم بني قريظه الي تجمع الاحزاب، الا ان حييبن اخطب ومن معه نجحوا باغواء بني قريظه، واتفقت بنو قريظه اخيرا علي ان تنظم لتجمع الاحزاب، وان تهجم علي المسلمين من الخلف عندما تبدا بطون قريش ومن معها من الاحزاب بالهجوم علي محمد، وهكذا يواجه الرسول هجومين معا وبان واحد، هجوم من داخل المدينه يشنه 750 مقاتل من بني قريظه، وهجوم من خارج المدينه تشنه الاحزاب المولفه من بطون قريش ومن تحالف معها من القبائل واليهود وعددهم عشره آلاف مقاتل، وفوجئت الاحزاب بالخندق، وبقتل عليبن ابي طالب لعمروبن ود اقوي مقاتلي الاحزاب، وهزمت الروح المعنويه لتلك الاحزاب وفشل حصارها للمدينه، فارسل اللّه ريحا وجنودا لم تروها، عندئذ اصدر ابو سفيان بوصفه القائد العام للاحزاب امرا بالانسحاب، فانسحبت الاحزاب دون علم بني قريظه. وبالوقت الذي كانت تنتظر فيه بنو قريظه هجوم الاحزاب من الامام لتبدا هجومها من الخلف، اصدر النبي اوامره بالزحف علي بني قريظه. وعلمت بنو قريظه بانسحاب الاحزاب، وبزحف النبي واصحابه، فرعبت وايقنت بالهلاك، ولكنهم تحصنوا في حصونهم، علي امل ان يحسنوا موقعهم التفاوضي مع النبي، ولما احاط بهم النبي، قالوا: نكلمك قال الرسول: نعم. قالت بنو قريظه: (ننزل علي ما نزلت عليه بنو النضير لك الاموال والحلقه وتحقن دماءنا، ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري، ولنا ما حملت الابل الا الحلقه). فرفض رسولاللّه هذا العرض، فعرضوا عليه قائلين: (تحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذريه، ولا حاجه لنا في ما حملت الابل)، ورفض النبي هذا العرض ايضا، وقال لهم: تنزلون علي حكمي، واضطروا بعد حصار شديد ان ينزلوا علي حكم النبي، فامر الرسول بربط المقاتلين منهم ووضعهم في جهه، ووضع النساء والذريه في جهه اخري. ودنت بطون الاوس وقالوا: يا رسولاللّه ان بني قريظه حلفاونا دون الخزرج، وقد وهبت بني قينقاع لابن ابي، وقد ندم حلفاونا علي ما صنعوا فهبهم لنا، فقال الرسول: (اما ترضون ان يكون الحكم فيهم الي رجل منكم؟) قالوا: (بلي)، فقال النبي: (فذلك الي سعدبن معاذ). وقبلت اليهود سعدا كحكم، وذهبت الاوس وقالت لسعد: (يا ابا عمرو ان رسولاللّه قد ولاك امر مواليك لتحسن فيهم فاحسن، فقد رايت ابن ابي وما صنع في حلفائه، مواليك، مواليك، قد منعوك في المواطن كلها، واختاروك علي من سواك، ورجوا عياذك، ولهم جمال وعدد، وقد نصروك يوم البعاث والحدائق والمواطن، ولا تكن شرا من ابن ابي). وكان سعدبن معاذ ساكتا، ولما اكثروا عليه قال سعد: (قد آن لسعد ان لا تاخذه في اللّه لومه لائم)، وقال سعد للاوس: (اترضون بحكمي لبني قريظه؟) قالت الاوس: (نعم قد رضينا حكمك وانت غائب). فقال سعد: (لا آلوكم جهدا!) قالت الاوس: (ماذا تعني؟) قال سعد: (عليكم عهد اللّه وميثاقه ان الحكم فيهم ما حكمت؟) قالت الاوس: (نعم). قال سعد: (وعلي من ها هنا مثل ذلك؟) فقال الرسول ومن معه: (نعم).
بعد ان راي رسولاللّه ان الاوس كلها متعاطفه مع بني قريظه الذين اضطروا مكرهين ان ينزلوا علي حكمه، راي ان يعين سيد الاوس سعدبن معاذ ليحكم في بني قريظه، وقبلت الاوس ذلك وارتاحت له. فاخذ سعدبن معاذ من الاوس عهد اللّه وميثاقه ان يقبلوا بحكمه، واخذ العهد والميثاق من الرسول ومن معه ليقبلوا بحكمه وبعد ذلك اصدر حكمه، وهو: (فاني احكم فيهم ان يقتل من جرت عليه الموسي، وتسبي النساء والذريه، وتقسم الاموال). ونفذ الحكم، فسبق السبي الي دار اسامهبن زيد، والنساء والذريه الي دار ابنه الحارث، وجمعت الاسلحه والاثاث والمتاع. ثم نفذ الحكم، وتم قتل المقاتله، ورجته سلمي بنت قيس ان يعفو عن يهودي كان يترد ويتودد الي اخيها سليط، فوهبها رسولاللّه ذلك اليهودي وعفا عنه، وعندما راي رسولاللّه كراهيه الاوس لقتل بني قريظه، فرق الاوس، ليتولي رجال الاوس بانفسهم مهمه تنفيذ حكم القتل بحلفائهم السابقين، فيكون القاضي منهم، ومن يتولي الاعدام منهم، وهكذا بالقضاء علي بني قريظه زال الخطر اليهودي عن المدينه، واصبحت مسكنا خالصا للمسلمين والمنافقين معا [518] .
كانت خيبر من اعظم واكبر التجمعات اليهوديه في الجزيره، حتي انها اصبحت قلعه حقيقيه، ففيها المال وفيها الرجال، وقد تابع يهود خيبر بقلق بالغ انباء مواجهات الرسول مع يهود بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظه وتاثروا بما اصابهم، وتعاطفوا معهم حتي صارت خيبر ملجا للكثير من اليهود، واستقطبت بخيراتها واموالها عواطف الكثير من ابناء القبائل العربيه المحتاجه الطامعه باي شيء مما حولها، ومع الايام تحولت الي قاعده لمن يتربصون الدوائر بالنبي وآله ومن والاه، وصارت اعظم خطر يهدد الاسلام. وقد ادرك يهود خيبر ومن لجا اليهم وتحالف معهم ان المواجهه مع محمد ومن والاه قدر محتوم لا مفر منه، وقد ارعبتهم مواجهات محمد السابقه مع خصومه، لذلك فهم يخشون فكره شن هجوم عليه، مما فرض عليه فرضا ان يبقوا بحاله ترقب وقلق حتي ياتي محمد ومن والاه لحربهم فيحاربونه حربا دفاعيه، وهم في حصونهم، واستعدادا لتلك المواجهه الحاسمه رمموا حصونهم واصلحوها، واستوردوا السلاح وصنعوه، ووسعوا دائره تحالفاتهم مع القبائل، خاصه مع قبيله غطفان، وزعيمها عيينهبن حصن، ويقال انهم جندوا عشره آلاف مقاتل يتم استعراضهم يوميا، وقدروا انهم بهذه العده والعدد سيكونون اول من يلحق هزيمه ساحقه بمحمد وآله ومن والاه، ومن هنا فقد ايقنوا بان محمدا قادم اليهم لا محاله، وترقبوا كل يوم قدومه ليواجهوه بما لا قبل له به. وبعد ان فتح اللّه علي نبيه في صلح الحديبيه ذلك الفتح المبين، وحقق انتصاره السياسي، وخلت بطون قريش بينه وبين العرب، واعترفت به وهي عدوته اللدوده، واعترفت بحقه باستقطاب العرب حوله. عندئذ قدر النبي ان الفرصه ملائمه لمواجهه اخطر واقوي ما تبقي من خصومه، وهم يهود خيبر، وبعد اقل من شهرين من رجوعه من الحديبيه اصدر اوامره بالتهيو لغزو خيبر، وفضل ان يغزو معه الذين خرجوا معه الي الحديبيه، واعلن ان الغايه من غزو خيبر هو الجهاد وليست الغنيمه وبعد اتمام الاستعدادات، وفي شهر صفر من السنه السابعه للهجره زحف النبي نحو خيبر، وفي الطريق علم ان قبائل غطفان الكبيره قد تحالفت مع اليهود علي حرب محمد مقابل تمر خيبر لسنه. ولما استقر الرسول في معسكره قرب خيبر امر اتباعه ان لا يقاتلوا حتي ياذن لهم النبي بالقتال ونظم اتباعه، واعطي الرايات، فاعطي رايه الي علي (عليهالسلام)، ورايه الي الحباببن منذر، ورايه الي سعدبن عباده، ثم اذن بالقتال، وامر ان يركز علي الحصن الذي فيه غطفان، فضغط المسلمون ضغطا شديدا علي هذا الحصن، واشيع في غطفان ان مضاربهم وبيوتهم وذرياتهم قد تعرضوا للغزو، فانسحبت غطفان من التحالف، وذهبت لتحمي ذراريها من الغزو الموهوم، وبانسحاب غطفان تهدمت الروح المعنويهلاهل خيبر، ولكنهم قاتلوا بكفاءه، وهجم الرسول علي الحصون حصنا حصنا فصمدت امامه، ثم انسحب، واتخذ مقرا لقيادته، ثم اخذ يرسل المسلمين علي موجات، موجه تذهب بالرايه وموجه ترجع. فاعطي رايته الي ابي بكر، وخرج ابو بكر ولكنه رجع ولم يفعل شيئا، ثم اعطي الرايه الي عمر، فخرج عمر ثم رجع ولم يفعلشيئا [519] .وفي كنز العمال ان رسولاللّه بعث ابا بكر بالناس فانهزم حتي رجع. وبعث عمر فانهزم بالناس حتي رجع. وقال: اخرج هذا الحديث ابن ابي شيبه، واحمدبن حنبل، وابن ماجه، والبزار، وابن جرير وصححه، والطبراني في الاوسط، والحاكم، والبيهقي في الدلائل، والضياء المقدسي. [520] والي هذا اشار الهيثمي في مجمعه [521] ، وذكره مختصرا وقال: رواه الطبراني في الكبير والاوسط. اما الواقدي رحمه اللّه فقد اشفق ان يقرن اسم ابي بكر وعمر مع الهزيمه والرجوع دون فعل شيء، لذلك روي الخبر: (دفع الرسول لواءه الي رجل من اصحابه المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا، ثم دفعه الي آخر فرجع ولم يصنع شيئا). [522] ولاح له انه بعمله هذا برا ابا بكر وعمر من تهمه الهزيمه، وتقرب الي اللّه باخفاء الحقيقه. امام تراجع المسلمين سالت كتائب اليهود، ورجحت الكفه لصالحهم، وحض رسولاللّه المومنين علي القتال، واقبل الليل وحجز بين المتقاتلين، واغتم المسلمون فقال النبي: (لاعطين الرايه غدا رجلا يحبه اللّه ورسوله، يفتح اللّه علي يديه، ليسبفرار...) [523] .وفي الصباح نادي علي علي بن ابي طالب، وكان ارمدا لا يري فتفل بعينه واعطاه الرايه. [524] ولا ينكر احد من اهل المله قول الرسول هذا، ولا ينكر واقعه اعطاء النبي الرايه لعلي. وبالرغم من كراهيه القوم لعلي، وحقدهم عليه، وبراعتهم بتحريف الوقائع التاريخيه الا انهم عجزوا عن اخفاء تلك الحقيقه او تحريفها. اخذ علي الرايه واندفع كالاعصار بقوه ربانيه، كما يقول الفخر الرازي في تفسيره لقوله تعالي: (ام حسبت ان اصحاب الكهف).. [525] فتلقاه الحارث اخو مرحب في ثله من رجاله وهجموا علي المسلمين، فانكشف المسلمون وثبت علي وحده، وتمكن من قتل الحارث فرجع اصحاب الحارث الي الحصن، وقهر يهود خيبر لاول مره، ودنا الامام من الحصن، فضربه يهودي فطرح ترسه من يده، فتناول الامام بابا وتترس به. روي الامام احمدبن حنبل في مسنده [526] ان ثمانيه نفر عجزوا عن قلب ذلك الباب، وروي الخطيب في تاريخ بغداد ان البابالذي تترس به الامام، لم يقو اربعون رجلا علي حمله [527] .وثبت الامام علي، وقاتل بقوه لم يالف مثلها البشر، وحض النبي المسلمين علي الجهاد، وسقطت حصون خيبر حصنا بعد حصن، وايقن من تبقي من اليهود بالهلكه وقذف اللّه في قلوبهم الرعب، ونزل ابن ابي الحقيق وصالح رسولاللّه علي حقن دماء من في حصونهم من المقاتله، وترك الذريه لهم، ويخرجون من خيبر وارضها بذراريهم ويخلون بين رسولاللّه وما كان لهم من مال او ارض وعلي الصفراء والبيضاء والكراع والحلقه، وعلي البز الا ثوبا علي ظهر انسان، وفتحت خيبر واستسلم اليهود وذلوا، وفكرت زينب بنت الحارث بالانتقام من محمد، فجمعت المعلومات حول ما يحب ويشتهي، واخيرا اخذت كتف شاه وذراعها وطبختها ثم حملتها الي النبي وقدمتها له كهديه، فقبل النبي الهديه كعادته وفتح الهديه ودعي من حضر من اصحابها فنهش منها ونهشوا، وبعد ان ازدردوا لقمه منها قال النبي لاصحابه: كفوا ايديكم، فان هذه الذراع تخبرني انها مسمومه، ومات الذين اكلوا منها، اما رسولاللّه فقد عاش بعدها ثلاث سنين، وجييء بالمراه فاعترفت فقيل ان الرسول عفا عنها، وقيل انه قتلها. وجمعت الغنائم، واخذ الرسول الخمس. وبعد فتح خيبر قدم الدوسيون وفيهم ابو هريره والذي جعلته السلطه في ما بعد اعظم مرجع. وعند تقسيم الانفال واعطاء الخمس لذوي القربي من بني هاشم وبني المطلب مشي عثمان الي رسولاللّه، وقال له: (نحن وبني المطلب في منزله واحده -يعني ان هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل اخوه- اعطيتهم وتركتنا، فقال الرسول: ان بني المطلب لم يفارقوني في الجاهليه والاسلام، دخلوا معنا الشعب، انما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك رسولاللّه بين اصابعه). [528] وكان حصيله القتليمن المسلمين 15شهيدا وقتل من اليهود 93رجلا [529] .
ارسل النبي لهم محيصهبن مسعود، وفاوضهم حتي صالحوا علي ان تكون لهم نصف الارض بتربتها ولرسولاللّه نصفها، فاخرهم رسولاللّه عن ذلك، فلما كان عمربن الخطاب اجلاهم مع بقيه اليهود الي بلاد الشام. ولفدك قصه طويله سنذكرهافي باب الانقلاب [530] .
اثناء عوده الرسول سلك منطقه برمه حتي وصل الي وادي القري يريد يهودها، وقد سمع اليهود بمسيره اليهم، واجلبوا معهم بعض العرب ولما اقبل النبي استقبله اليهود بالرمي، فنظم الرسول اصحابه واعطي الرايات. لسعدبن عباده، والي الحباببن المنذر، وسهيلبن حنيف. وبعد ذلك دعي رسولاللّه اليهود الي الاسلام، ليحقنوا دماءهم ويحفظوا اموالهم، فرفضوا عرض الرسول وخرج فرسانهم للمبارزه حتي قتل منهم احد عشر رجلا، ثم استسلموا في المساء وتم الفتح عنوه، واقام الرسول في وادي القري اربعه ايام وقسم الغنائم، وترك النخيل والارض بايديهم وعاملهم عليها [531] .
لما علم يهود تيماء بما اصاب فدك وخيبر ووادي القري صالحوا رسولاللّه علي الجزيه، واقاموا بايديهم واموالهم [532] .
الشعر له سلطان في نفوس العرب، والشاعر بمثابه محطه اذاعه ينتقل ما تبثه عبر امواج الاثير. وقد ظهرت في هذا العهد مجموعه من الاشخاص اجادوا الشعر ايما اجاده وآذوا النبي، واساءوا للاسلام، وحاولوا ان يولبوا العرب علي محمد، وعلي الاسلام، مثلما فعلت عصماء بنت مروان، ومثل كعب ابن الاشرف اليهودي، وابي عفك اليهودي، وسلامبن ابي الحقيق. وقد ساهم اولئك المجرمون مساهمه فعاله بتاليب العرب وتوحيدهم علي حرب النبي، وباشعال الحروب، وبذل النبي جهوده لهدايتهم فرفضوا ذلك رفضا مطلقا بالرغم من ان لرسولاللّه عندهم عهدا وميثاقا، وبهذه الحاله من غير المعقول ان يدعهم وشانهم وهم يجهرون بعدائهم الموثر، ويولبون الناس ضده وضد دينه، فاصدر اوامره بملاحقتهم وقتلهم اينماكانوا، وقتلوا بالفعل [533] .
الجزء الاكبر من الجزيره العربيه صحاري، والموارد شحيحه لا تكفي سكانها حتي مع السلطه النافذه والعداله بالتوزيع، مما جعل الكثير من القبائل تعتمد بسد الكثير من حاجاتها علي الغزو، فيغزوا بعضها البعض. ولما نجح الرسول بتكوين كيانه السياسي في المدينه، وهزم خصومه وغنم اموالهم، ولان المدينه واحه وسط صحراء، فقد فكرت الكثير من القبائل المحتاجه بغزوها، لا كراهيه لمحمد او لدينه، ولا انتقاما منه ولكن طمعا بالمغنم وما يسد بعض حاجاتها. ولقد راودت فكره غزو المدينه اذهان العديد من القبائل والجماعات، وتهيات بالفعل للغزو وشرعت به، ولكن النبي كان لها بالمرصاد واستعمل معها اسلوبا لم تعهده العرب وهو الحرب الوقائيه، فعندما تتوفر لديه المعلومات بان هذه القبيله او تلك تستعد لغزو المدينه كان النبي يسارع ويجهز حمله فيغزوها قبل ان تغزوه. وبهذا الاسلوب المميز استطاع الرسول ان يربح المواجهه مع القبائل الطامعه في غزوه، وان ينزع من اذهانها التفكير بغزوه، وان يشعرها بوجوده وبقدرته علي ان ينال كل من تسول له نفسه الكيد به. وهذا ما فعله في غزوه قرقره الكدر بجمع ثعلبه ومحارب، ومثل حملته علي تجمع بني سليم، وسريته علي طليحه، ومسلمبن خويلد، ومثل غزوه ذات الرقاع التي قادها الرسول لارهاب جموع انمار وثعلبه، وغزوه دومه الجندل، وغزوه المريسيع علي بني المصطلق من خزاعه، وحملته علي القرطاء من بني بكر، وسريته الي الغمر بجمع بني محارب وثعلبه، وسريه زيد الي بني ثعلبه، وسريه عليبن ابي طالب الي سعدبن بكر بفدك، وسريه عبداللّه بن رواحه لاسيربن زارم في غطفان، وسريه ابي بكر الي بني كلاب في نجد، وسريه الليثي الي بني عواد وبني عبدبن ثعلبه، وسريه بشيربن سعد الانصاري الي عين اجبا لتشتيت جمع من غطفان، وسريه ابي العوجا الي بني سليم، وسريه بني الملوح، وسريه هوازن، وغزوه ذات السلاسل الي قضاعه، وسريه ابن ابي تقادهبن ربعي الي غطفان بمنطقه نجد، وسريه عيينهبن حصن الي بني تميم اذ فاجاهم وشتت شملهم، وسريه قطبهبن عامر الي خثعم، وسريه علقمهبن مجزر الي الاحباش في جده، وسريه الضحاك اليكلاب [534] . ومثل مواجهته الاخيره مع بطون قريش يوم نقضت عقده، ولم تف بعهده فجهز جيشا وفتح مكه.
هنالك قبائل وجماعات اعطت الرسول العهد والعقد، ثم نقضت عقدها ولم تف بعهدها، فتصدي لها رسولاللّه وواجهها جماعه جماعه، والحق بها الهزيمه، كما فعل مع يهود بني قينقاع، وكما فعل مع يهود النضير، ومع يهود بني قريظه، ومع قبيله لحيان الذين غدروا باصحابه، وكما فعل مع الذين اعترضوا زيدبن حارثه اثناء سفره الي الشام، ومع النفر الذين قدموا المدينه واسلموا، ثم قتلوا مسلما وفروا، ومثل سريه موتهلمعاقبه قتله الحارثبن عمير وهم من بني غسان [535] .
هنالك فئات اعتدت علي النبي، اما تشهيا، او كرده فعل، فتصدي لهم النبي وواجههم، وجعلهم يدفعون ثمن عدوانهم عليه، مثل ذلك يوم قاد بنفسه حمله لمعاقبه كرزبن جابر الفهري الذي اغار علي مسرح المدينه واستاقه، وتعقبه الرسول حتي وادي بدر، ولم يدرك كرز. ومثل ذلك ابو سفيان الذي حلف ان يثار من محمد قبل ان يغتسل، فجاء المدينه واحرق تبنا وبيوتا، وقتل انصاريا واجيرا له، فتعقبه النبي في غزوه السويق ولكنه لم يدرك ابا سفيان. ومثلها غزوه الغايه التي قادها الرسول للانتقام من عيينهبن حصن، الذي هاجم ضاحيه الغابه، وقتل ابن ابي ذر، وما زال الرسول يلاحقه حتي قتل منهم اناسا، منهم حبيببن عيينهبن حصن، ومثل ذلك سريه غالببن عبداللّه التي ارسلها اليمصاب اصحاب بشيربن سعد فصبحهم [536] .
كما عرف النبي المواجهه وعرفته فقد عرف الموادعه، فوادع القبائل الواقعه بين مكه والمدينه، وحاول بالحسني هدايتها الي الاسلام كما فعل مع بني ضمره، اذ اتفق مع سيدهم محشيبن عمرو الضمري ان لا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعا، ولا يعينوا عدوا، وتعهد الرسول بان لا يغزوهم، ومثل سريه عبدالرحمنبن عوف الي كلب بدومه الجندل اذ طلب منه موادعتهم وقال له: ان استجابوا لك فتزوج ابنه ملكهم، فمكث عندهم واسلم منهم عدد كبير، وسريه الخبط بقياده ابي عبيده الي حي من جهينهمما يلي ساحل البحر [537] .
في الجاهليه كانت خزاعه حليفه لعبد المطلب جد الرسول، اعطاها عقده وعهده، وبطون مكه كلها تعلم ذلك، ولما جاء الاسلام اعتنقه الكثير من افراد قبيله خزاعه، وتعاطف مسلمهم ومشركهم مع النبي اثناء صراعه مع بطون قريش، وهم الذين اخبروه بمسيره الاحزاب، وعندما تم صلح الحديبيه وخلت البطون بين محمد وبين العرب، فمن شاء دخل في عهد محمد وحلفه، ومن شاء دخل في عهد بطون قريش وحلفها، عندئذ قفز الحاضرون من خزاعه واعلنوا دخولهم في عقد محمد وعهده، وقالوا انهم يفعلون ذلك نيابه عن خزاعه كلها، ودخل من حضر من بني بكر في حلف قريش وقالوا: انهم يفعلون ذلك نيابه عن بني بكر كلها. وكان بين خزاعه وبني بكر عداوات قديمه هدات ولكنها لم تزل. وجاءت الشراره التي اججت العداوه من جديد يوم هجا انسبن زنيم الديلي رسولاللّه، فسمعه غلام من خزاعه فضربه وشجه، وذهب انس الي قومه فاراهم شجته، فثاروا واعتقدوا انها الفرصه الملائمه للانتقام من خزاعه وللثار منهم، وكلمت بنو نفاثه قاده البطون بذلك فاستخفوهم، وساعدت البطون بني بكر بالسلاح والكراع والرجال سرا، وفوجئت خزاعه بالهجوم عليها، وهي لاهيه لا تعرف شيئا، وقتل 23 رجلا من خزاعه كان ذلك علي راس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبيه. وهكذا نقضت بطون قريش عمليا عهدها وعقدها مع النبي، وبالتالي الغيت الهدنه، ورجعت حاله الحرب بين الطرفين، هكذا قيمت قريش الواقعه، وهكذا قيمها النبي. وسمع النبي بهذا القدر، ثم خرج عمروبن سالم الخزاعي في اربعين راكبا من خزاعه ليضعوا النبي بالصوره ويخبرونه بما حدث ويستنصرونه، وقدم عمرو والرسول بين اصحابه في المسجد وانشده قصيدته المشهوره:فاللهم اني ناشد محمدا حلف ابينا وابيك الاقلدافان قريشا اخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك الموكدا [538] .غضب النبي غضبا شديدا مما فعلته البطون، ولكنه كتم غضبه، وقال لعمروبن سالم واصحابه: (ارجعوا وتفرقوا في الاوديه)، وقام رسولاللّه ودخل بيته، وقد ذكرت السيده عائشه انهاسمعته يقول: (لا نصرت ان لم انصر بني كعب) [539] .ومن الموكد ان النبي العظيم قد صمم نهائيا ليضع حدا لوجود بطون قريش، وصمم علي اجبارها علي الاستسلام، ولكن بدون اراقه دماء، لذلك كتم ما في نفسه، ليفاجئها. وادركت بطون قريش انها قد نقضت العهد، وان محمدا سيلغي الاتفاق وسيغتنم فرصه حاله الاسترخاء وعدم الاستعداد التي عاشتها البطون خلال فتره الهدنه التي استمرت 23 شهرا، فيتقدم بجيش جرار ويفتح مكه، لذلك اوفدت ابا سفيان الي رسولاللّه للاعتذار وللاستمرار بالهدنه، وفشل ابو سفيان بمهمته واجابه الرسول باقتضاب شديد. وامر رسولاللّه اصحابه بالتجهيز للغزو دون ان يعلم احدا الوجهه التي يريدها رسولاللّه، ولكن التوقعات اتجهت الي ان رسولاللّه يريد المسيره الي مكه، وارسل رسولاللّه الي اوليائه من خارج المدينه طالبا منهم الاستعداد للمسيرهمعه [540] .ثم وزع الرايات فاعطي عليا رايه، والزبير اخري، وسعدبن ابي وقاص رايه ثالثه، ورايه مع ابي نائله، ورايه مع قتادهبن النعمان، ورايه مع ابي برده، ورايه مع جبربن عتيك، ورايه مع ابي لبابه، ورايه مع اسير الساعدي، ورايه مع عبداللّهبن زيد، ورايه مع قطبهبن عامر، ورايه مع عمارهبن حزم، ورايه مع سليطبن قيس. وكان المهاجرون سبعمائه ومعهم 300فرس، وكانت مزينه الفا معهم 100فرس ومائه درع وثلاثه الويه، وكانت اسلم اربعمائه معهم 30فرسا، وكانت جهينه 800معهم 50 فرسا، وكانت بنو كعببن عمرو خمسمئه. وبعد ان رتب الرسول اموره، وجهز جيشه المولف من عشره آلاف مقاتل خرج يوم الاربعاء الموافق العاشر من رمضان. كل ذلك والناس لا يدرون من سيغزو رسولاللّه، ولا يزيد علي القول عندما يسال. (حيث يشاء اللّه)، وكلما سار انضم اليه جمع من الاعراب، ولما دني من مكه راي العباس ابا سفيان ومعه حكيمبن حزام وبديلبن ورقاء، فجاء بهم الي رسولاللّه واسلم حكيم وبديل، وشهد ابو سفيان بوحدانيه اللّه، واعلن ان في نفسه شيء من كون محمد رسولاللّه، ثم اضطر ابو سفيان ان يشهد بان محمدا رسولاللّه، وراي جيش الاسلام، ومكانه النبي بين اتباعه، فذهل وقال للعباس: (ما رايت يا ابا الفضل ملكا هكذا قط لا ملك كسري ولا ملك بني الاصفر)!! وهكذا كيفابو سفيان النبوه علي انها ملك [541] .وسمعت بطون قريش بزحف النبي ورات جيشا ما رات مثله قط ياتمر بامره ويحيط بهم، ورات البطون قائدها ابو سفيان يسير في ركاب النبي، فاستسلمت وسلمت فاخذ علي اللواء الاعظم ودخل به مكه فغرزه عند الركن، ودخل جيش الاسلام مكه من كل الجهات. وانتهي رسولاللّه الي الكعبه فرآها، واستلم الركن وكبر، فكبر المسلمون حتي ارتجت مكه بالتكبير، والمشركون فوق الجبال ينتظرون، ثم طاف حول الكعبه، وامر بالاصنام فكسرت ثم جلس في ناحيه، ثم نهض واشرف علي الناس، ثم قال: (الحمد للّه الذي صدق وعده ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، ماذا تقولون وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا، اخ كريم وابن اخ كريم، وقد قدرت. فقال رسولاللّه: فاني اقول كما قال اخي يوسف: (لا تثريب عليكم يغفر اللّه لكم وهو ارحم الراحمين) والقي كلمهجامعه [542] .واعلن ان مكه قد احلت ساعه من نهار ولا تحل لغيره، وصعد بلال علي ظهر الكعبه واذن الظهر. وعبرت جويريه بنت ابي جهل عن الوضع النفسي للبطون بقولها لما سمعت الاذان: (قد لعمري رفع لك ذكرك اما الصلاه فسنصلي، واللّه لا نحب منقتل الاحبه ابدا) [543] .وقال خالد بن اسيد: (الحمدللّه الذي اكرم ابي فلم يسمع هذا)، وقال الحارثبن هشام: (واثكلاه ليتني مت قبل هذا اليوم)، وقال الحكمبن العاص: (هذا واللّه الحدث العظيم ان يصيح عبد بني جمح علي بنيه ابي طلحه) وقال ابو سفيان: (اما انا فلا اقول شيئا لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء)، فاتي جبريلفاخبر النبي بما قالوا [544] .وتوافدت زعامه البطون فنطقت بالشهادتين امام رسولاللّه. وقال النبي مخاطبا مكه: (واللّه انك لخير ارض اللّه، واحب ارضاللّه الي، ولولا اني اخرجت منك ما خرجت) [545] .
لما فتح النبي مكه اجتمعت هوازن كلها بقياده مالكبن عوف، وقسم كبير من ثقيف، ومن اجلبوا معهم، وايقنوا ان محمدا سيسير اليهم ليفتح الطائف كما فتح مكه، لذلك اجمعوا امرهم واتفقوا علي ان يسيروا لمواجهه محمد، ومعهم اموالهم ونساوهم وذرياتهم ليقاتلوا دفاعا عن كل شيء. واخذوا معهم دريدبن الصمه تيمنا به. وسمع رسولاللّه بهذا التجمع وبمسيرته، وخرج من مكه ومعه اثنا عشر الفا من المسلمين، وهو اكبر تجمع في تاريخ الاسلام، ومعه في الجمع الطلقاء الذين تلفظوا بالشهادتين يوم الفتح، ومن الموكد ان اعدادا كبيره من هذا التجمع لم تخرج للجهاد، ولا طمعا بالشهاده، او لنصره دين اللّه او النبي، انما خرجوا طمعا بالغنيمه ممن تدور عليه الدائره سواء اكان محمدا او تجمع ثقيف وهوازن وحلفائهم. ومنهم ابو سفيانبن حرب الذي اخرج معه الازلام وسار في اثر محمد يلتقط ما يسقط منهم من متاع حتي اوقر، والحارثبن هشام، وعبداللّهبن ربيعه، ومعاويه ويزيد ابني ابي سفيان. وحمل الرايه عليبن ابي طالب، واعطيت رايات كثيره لغيره، واخذت هوازن مواقعها في الوادي، وتربصت حتي قدم جيش الاسلام، فانقضت عليه فانكشفت الخيل الاسلاميه وفرت، وكان يقودها خالدبن الوليد، وتبعهم اهل مكه، ثم انهزم الناس في اثرهم، وتركوا رسولاللّه ومعه اهل بيته علي والعباس وابو سفيانبن الحارثبن عبد المطلب وعتبه ومعتبا ابن ابي لهب، ونفر قليل من الانصار كسعدبن عباده والحباببن منذر. فامر النبي العباس ان يصرخ: (يا معشر الانصار، يا اصحاب الشجره)، واستمر النبي وعلي والهاشميون ومن ثبت معهم بالقتال وحدهم حتي آب الناس وعادوا بعد الهزيمه، ولما عاد الناس وحمي الوطيس والنبي علي بغلته، يدعو ربه قائلا: (اللهم اني اسالك وعدك، لا ينبغي لهم ان يظهروا)، وطلب من العباس ان يناوله حصيات، فناوله العباس حصيات من الارض، فرمي بها رسولاللّه المشركين، وقال: (انهزموا ورب الكعبه). فولي تجمع هوازن وثقيف الادبار وانهزموا الي حصونهم، تاركين اموالهم وذراريهم ونساءهم غنيمه لمحمد ومن معه، وتبعهم الرسول وحاصرهم خمسه عشر يوما، ثم قدر ان المحاصرين كالثعلب ان انتظر استخرجه وان تركه خرج بنفسه، فقرر تركهم، موقنا من استسلامهم.
سالت ام سلمي رسولاللّه فقالت: (ارايت هولاء الذين اسلموك وفروا عنك وخذلوك لا تعف عنهم... ان امكنك اللّه منهم فاقتلهم كما تقتل هولاء المشركين!) فقال النبي للسائله: (يا ام سلمي قد كفي اللّه، عافيه اللّهاوسع) [546] . ومن الموكد ان ملائكه قد قاتلت مع النبي، وان حالات من الرعب قد صورها اللّه للمشركين، اذ لو انتصروا لكانت كارثه حقيقيه.
الجيش الذي قاده النبي الي حنين هو اكثر الجيوش التي قادها عددا حتي ذلك التاريخ لكن الكثير من افراد هذا الجيش وقواده قد خرجوا بالدرجه الاولي للغنيمه وبتعبير ادق لغنيمه المغلوب حتي ولو كان محمدا. فمن جمله هذا الجيش طلقاء الفتح كابي سفيان ويزيد ومعاويه ابناه، وامثالهم. صحيح انهم نطقوا بالشهادتين قبل اسبوع من خروجهم، ولكن تلفظهم بالشهاده لا يكفي وحده ليقاتلوا مع النبي. لقد خرجوا مع النبي ينظرون لمن تكون الدائره فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون ان تكون الصدمه لمحمد واصحابه، وخرج ابو سفيانبن حرب في اثر العسكر كلما مر بترس ساقط او رمح او متاع من متاع النبي (صلي اللّه عليه وسلم) وحمله الازلام في كنانته حتي اوقر [547] ، وخرج معه سادات البطون الذين نطقوا بالشهادتين. حتي ان بعض سادات البطون تعاهدوا ان يقتلوا محمدا اذا كانت الدائره عليه. (فشيبهبن عثمانبن ابي طلحه تعاهد هو وصفوانبن اميه اذا رايا علي رسولاللّه دائره ان يكوناعليه فيقتلانه!!!) [548] .وانت فهمت طبيعه اسلام هولاء القوم يوم سمعوا بلالا يوذن علي الكعبه لاول مره بعد الانتصار وفتح مكه. فجويريه بنت ابي جهل تيقنت ان ذكر النبي قد ارتفع حقا، وعزمت علي الصلاه، ولكنها عبرت عن حقيقه مشاعرها ومشاعر سادات البطون عندما قالت: (اما الصلاه فسنصلي واللّه لا نحب من قتل الاحبه ابدا... وقال خالدبن اسيد: الحمدللّه الذي اكرم ابي فلم يسمع هذا اليوم! -اي اكرمه بالقتل علي الشرك فلم يسمع الاذان-... وقال الحكمبن ابي العاص: هذا واللّه الحدث العظيم ان يصيح عبد بني جمح علي بنيه ابي طلحه،... وقال ابو سفيان: -وكان اكثر ذكاء- اما انا فلا اقولشيئا، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء) [549] .ومع هذا فانهم خرجوا مع جيش المسلمين، كمسلمين، وعيينهبن حصن احد قاده الجيش الاسلامي يستاذن من الرسول حتي ياتي حصن الطائف لاقناعهم بالاستسلام ومع هذا يدخل الحصن، ويقول للمشركين: (فداكم ابي وامي، واللّه لقد سرني ما رايت منكم،...-واللّه ما لاقي محمد مثلكم قط، ولقدمل المقام فاثبتوا في حصنكم...) [550] .ويعود الي الرسول ليزعم انه حاول اقناع اهل الطائف بالاستسلام فاخفق والرسول ساكت ويعلم ان عيينه كاذب ومنافق. وعيينه نفسه يعبر عن حقيقه وجوده فيقول: (واللّه ما جئت معكم اقاتل ثقيفا، ولكني اردت ان يفتح محمد الطائففاصيب جاريه من ثقيف فاطاها لعلها تلد لي رجلا) [551] .ورجل من اسلم يقدم للنبي شيئا قائلا انه هديه فيساله النبي: وممن انت؟ قال الرجل: من اسلم، فيقول النبي: انا لا اقبل هديه مشرك، فيقول الرجل لرسولاللّه: اني مومن باللّه وبرسوله، فيقول له الرسول: حتي نصل، وتبين ان هدف الرجلالحصول علي قطيع من الغنم!! [552] .واثناء عودته الي الجعرانه اخذت الاعراب تساله واحاطت به لتوحي له بانها مسلمه، ولتحصل علي جزء من الغنيمه، وفكروا ان ياخذوا رداءه. فانسل الرسول وهو يقول: (اعطوني ردائي! اعطوني ردائي!، لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمتهبينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا) [553] .
وصل النبي الي الجعرانه عائدا من الطائف، ليوزع الغنائم التي كانت محبوسه هنالك، وكانت الاغنام بالالاف فلا يعلم عددها، فقد قيل انها اربعون الف واكثر، وكانت الابل 24-الف، وفضه كثيره حوالي اربعه آلاف اوقيه. ووضعت الغنائم تحت تصرف الرسول ليقسمها فاعطي المولفه قلوبهم اول الناس حيث طلب ابو سفيان فاعطاه اربعين اوقيه ومائه من الابل، وقال ابو سفيان: اعطي ابني يزيد فاعطاه رسولاللّه مثل ابيه، ثم قال ابو سفيان: اعط ابني معاويه. فاعطاه الرسول مثل ابيه واخيه فرضي ابو سفيان وقال للنبي: (انك الكريم فداك ابي وامي ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالمانت) [554] .واعطي بقيه زعماء البطون، كحكيمبن حزام وصفوان بن اميه.. وبينما كان الرسول يوزع الغنائم اتاه ذو الخويصره وقال له: (اعدل يا رسول)، فقال له الرسول: (ويلك من يعدل اذا لم اعدل)... وعاش ذو الخويصره حتي قاتل علي بن ابيطالب... [555] .
قدم وفد هوازن الي رسولاللّه وقد اوشك علي الانتهاء من توزيع الغنائم ورجوه فقال النبي: (لقد استانيت بكم حتي ظننت انكم لا تقدمون وقد قسم السبي. فقال ابو صرد زهيربن صرد: (يا رسولاللّه انا اهلك وعشيرتك، وقد اصابنا من البلاء ما لا يخفي عليك، انما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك، وحواضنك... انهن حضنك في حجورهن وارضعنك بثديهنوانت خير المكفولين)، وارتجل قصيده [556] .فقال النبي: (ان احسن الحديث اصدقه وعندي من ترون من المسلمين، فابناوكم ونساوكم احب اليكم ام اموالكم؟) قالوا: (يا رسولاللّه خيرتنا بين احسابنا وبين اموالنا، وما كنا نعدل بالاحساب شيئا، فرد علينا ابناءنا ونساءنا). فقال النبي: (اما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم)، ولما صلي رسولاللّه استشفعوا به امام الناس فكرر مقاله، وقال المهاجرون: (ما كان لنا فهولرسولاللّه)، وقالت الانصار: مثل ذلك [557] .وقال الاقرع بن حابس: (اما انا وبنو تميم فلا)، وقال عيينهبن حصن: (اما انا وفزاره فلا)، وقال عباسبن مرداس: (اما انا وبنوسليم فلا) [558] . (واستعمل رسولاللّه صلي اللّه عليه وسلم عتاببن اسيد علي مكه، وخلف معاذبن جبل وابا موسي الاشعري يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين) [559] ، وعاد الرسول الي المدينه بعد ان حقق هذا الانتصار العظيم، وقد غمره السرور بنصر اللّه والفتح، وما ان استقر قليلا، حتي بدات الوفود تتقاطر عليه، معلنه استسلامها او اسلامها علي يديه او متظاهره بذلك، وخلال هذه الفتره كان النبي يتفقد ما بقي من جيوب الشرك، ويرسل سراياه وبعوثه ورسله لتطهيرها وهدايه اهلها. وارتاحت نفسه الشريفه وهو يري ان بلاد العرب قد توحدت ولاول مره في التاريخ، وبكلفه بشريه لا تتجاوز اربعمائه قتيل، وبمده زمنيه لم تتجاوز تسع سنين، واطمان قلبه الطاهر وهو يري دين الاسلام قد اصبح دينا لكل سكان بلاد العرب وصرح النبي علنا بان الشيطان قد يئس من ان يعبد في بلاد العرب.
لقد اقلقت هذه الانجازات الهائله مضاجع قاده الدولتين الاعظم آنذاك خاصه الاباطره، واشيع بان الروم قد حشدوا جيشا كبيرا علي حدود الجزيره، فاستنفر النبي المسلمين وجهز حمله كبري قوامها 30-الف مقاتل معهم 15-الف بعير وعشره آلاف فرس في ظروف صعبه، وسار بهذا الجيش قرابه ستمائه كيلومتر ووصل الي تبوك، واخضع دومه الجندل، ووطد سلطان الاسلام بهيبته وسمع الروم بخروجه ولكنهم احجموا عن ملاقاته بعد ان قذف اللّه الرعب في قلوبهم. وحققت الغزوه اهدافها النفسيه، واحجم حتي قيصر عن ملاقاه النبي، وكانت الغزوه مليئه بالعبر والاسرار، فقد جمعت غزوه تبوك الاخيار والاشرار في جيش واحد، وثبت للاخيار بان النبي وآله لو فتحوا اقطار الدنيا وملكوها للمجرمين فلن يرضوا عن محمد وآل محمد، بالوقت الذي يتلفظ فيه اولئك المجرمون بالشهادتين ويدعون الاسلام، واكبر دليل علي ذلك الايات القرآنيه النازله في غزوه تبوك والتي فضحتهم. والمثير للدهشه حقا انهم بنفس الوقت الذي كانوا يعدون فيه موامره قتل النبي عند عودته من غزوه تبوك، كانوا يبنون مسجدا ويرجون من النبي ان يفتحه لهم تبركا به!! ولما قيل للنبي: لما لم تقتلهم؟ فقال النبي: اني اكره ان يقول الناس ان محمدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين، وضع يده في قتل اصحابه!! فقيل: يا رسولاللّه فهولاء ليسوا باصحاب!، قال الرسول للسائل: اليس يظهرون ان لا اله الا اللّه؟ قال السائل: بلي ولا شهاده لهم، قال الرسول: اليس يظهرون اني رسولاللّه؟ قال السائل: بلي ولا شهاده لهم. ولم يستوعب السائل. فقال النبي: قد نهيت عن قتل اولئك!! بمعني ان هذا الصنف من المسلمين يتلفظ بالشهادتين ويمارس كل الاعمال الظاهريه التي تدل ظاهريا علي اسلامه، ولكنه بنواياه وقلبه كافر بكل ذلك، ويخرج عن صلاحيه النبي ان يحاكم الناس علي ما في نواياهم وما في قلوبهم، ولكن الرسول يكشف صفاتهم للمخلصين حتي يحذرهم المسلمون فلا يقعوا في احابيلهم ولا ينخدعوا بمظاهرهم، لانهم هم العدو الحقيقي. ولم يتوقف النبي في هذه المرحله عن ترسيخ العقيده وبيان الطريقه المثلي لكشف المنافقين وعزلهم بعد ان اصبحوا خطرا يتهدد الاسلام ومستقبله.
بفتح مكه سقطت عاصمه الشرك، وتلقت عقيده الشرك ضربه قصمت ظهرها تماما، وهدمت اركانها، وباستسلام قاده البطون هزم انصار الشرك، وقضي تماما علي وجوده، وتكرس نهائيا مبدا التوحيد، فلم يعد بوسع احد ان يعلن عن شركه، او يجاهر بمعارضته لعقيده التوحيد. لقد احترقت رايه الشرك والمعارضه التي كانت تلجا اليها العرب، فاذا سلم قاده البطون واسلموا واعطوا القياده لمحمد وهم الد اعدائه، فما هي مصلحه الاخرين بمعارضه محمد!! ومن الذي يقف بوجه محمد الذي قضي علي الحركه اليهوديه بكل قوتها ومكرها، ودوخ القبائل العربيه واذهب ريحها مع كثرتها، ثم ركع قاده بطون قريش بكل فخرها وشرفها، لقد كان فتح مكه اعلانا وبخط عريض بان محمدا سيد الجزيره بغير منازع، والمالك الحقيقي لخيراتها، والمخول بتوزيع الادوار كلها علي سكانها، وان الدين الذي جاء به محمد هو الدين الرسمي للسكان، فمن لم يوال محمدا او يتظاهر بموالاته، ومن لم يعتنق دين محمد او يتظاهر باعتناقه فقد اسقط ضمنيا حقه بالرزق، والملك، والجاه، والنفوذ، وبالمستقبل كله، ورضي ان يعيش خائفا في مجتمع موعود بالامن والاستقرار، وبفتح وباستسلام هوازن والطائف، سقطت آخر حصون المقاومه، للنبوه وللدين، واخذت قبائل العرب تتوافد علي النبي لتعلن قبولها بولايته واعتناقها للدين، حتي سمي عام الفتح بعام الوفود، كان محمدا يبحث عن الناس، والناس الان يبحثون عن محمد، كان محمدا يركض خلفهم، وصار العرب يركضون الي محمد، واخذ جباته يتحركون بين القبائل ويجبون الاموال، ليوزعها محمد علي الوجه الشرعي. وباختصار فانك لا تجد الا مسلما او متظاهرا بالاسلام، ومواليا للنبي او متظاهرا بالولاء، لقد اصبحت الجزيره دوله اسلاميه واحده، قامت لاول مره في التاريخ، وحدها النبي خلال مده لا تتجاوز العشر سنين، ونالت شرف رئاسه النبي لهذه الدوله. فاعظم مظاهر وحدتها كانت رئاسه النبي المباركه، فقد والته كل العرب او تظاهرت بموالاته بدون اكراه، ودخلت في دينه او تظاهرت بالدخول في دينه وبدون اكراه ايضا. لقد اصبح محمد نظام وحده العرب، ونظام وحده الدوله، ونظام وحده القانون لقد اختلط محمد بالدين، واختلط الدين بمحمد فهما وجهان لعمله واحده. فلو قمت بكل واجباتك الدينيه من صلاه وصيام وحج وقراءه قرآن وصدقه وقيام ليل، ولكنك لا توالي محمدا فانت كافر بلا خلاف، بمعني ان الرئاسه اختلطت بالدين، فاذا امكن الفصل بين الرئيس وبين الدين، عندئذ تتحول الدوله الي دوله غير اسلاميه وتصبح ملكا، لقد صار الرئيس بمثابه خيط سبحه اذا قطع الخيط تبعثرت حبات السبحه.
شخص محمد بالذات كامام او كقياده سياسيه، وما جاء به من عند اللّه كشريعه او كقانون هما الاساس الاوحد الذي بنيت عليه الامه الجديده، وهما مفتاح كل الانتصارات التي تعاقبت طوال عهد النبوه الذي استمر 23 عاما. ودور الامه منحصر بقبول محمد كقياده سياسيه ومرجعيه، وبقبول ما جاء به كقانون نافذ، وقد اختار اللّه محمدا كامام او كمرجع او كقائد، لانه الاعلم والافهم والافضل والاتقي والاقدر حسب علم اللّه القائم علي الجزم واليقين. وقد انزل عليه القرآن ليكون بمثابه قانون نافذ يسري عليه وعلي رعايا دولته، وقد اختار اللّه قواعد هذا القانون لانها الانسب والاصلح لتنظيم كافه العلاقات الناشئه عن وجود الدعوه والدوله معا، بمعني ان امامه او قياده او مرجعيه محمد بالذات، وتطبيق القواعد والقوانين الالهيه تقود حتما الي الانتصار الاعظم، والي المثاليه المطلقه، التي تجلب منافع الاجتماع والدوله، وتتجنب شر حاله الاجتماع والدوله، لان الدوله اي دوله تقبض علي مقاليد الامور وتحوز الارزاق وتنقلب الي قوه رهيبه لا طاقه للافراد ولا للمجتمع بمواجهتها ان لم تكن بيد امينه او تكون هنالك ضمانات فعليه بان تستعمل الدوله قواها الرهيبه استعمالا سليما.
واذا اردنا ان نجمل ونكشف للتوضيح عناصر النصر الاعظم واساسه الاوحد، فانا نجمعها بثلاثه عناصر: العنصر الاول: قياده سياسيه او مرجعيه او امامه محمد صلي اللّه عليه وآله بالذات، لانه الاعلم والافهم بما انزل اللّه، الافضل والاتقي والاقدر حسب علم اللّه تعالي القائم علي الجزم واليقين، وهو الحاله المثلي للحكم، اذ يقود الجماعه اعلمها وافهمها وافضلها واتقاها واقدرها، فاذا لم تكن القياده والمرجعيه والامامه لمحمد بالذات، خلال عهده الراشد فان القياده لن تكون اسلاميه، ولن تكون مثاليه، ولن تحقق الغايه من وجودها. العنصر الثاني: ان تكون القواعد الالهيه التي انزلها اللّه علي محمد او اوحاها له، او الهمه اياها هي القانون النافذ الساري علي العلاقات الناتجه عن الدعوه الالهيه والدوله الالهيه، فاذا طبق جزء من هذه القواعد، واهمل جزءا آخر فعندئذ لا يصبح القانون قانونا الهيا، وتفوت المنفعه منه ويقصر عن بلوغ الغايه من وجوده. العنصر الثالث: وهو قبول الجماعه المسلمه بقياده محمد بالذات وبمرجعيته او امامته، وبقبول القواعد الالهيه كحاكم وحكم لتنظيم العلاقات المنبثقه عن مسيرتي الدعوه والدوله. فاذا لم تقبل الجماعه بالاثنين معا، فانها ليست في الحق والحقيقه جماعه اسلاميه، انما هي شيء آخر بين بين وامره الي اللّه، وبوقت يطول او يقصر ستدفع هذه الجماعه ضريبه عدم قبولها هذا. تلك هي مفاتيح النصر والهزيمه، والعز والذل، وهي اساس الشرعيه والمشروعيه، فاذا فقد عنصر من هذه العناصر، اهتزت الشرعيه من اساساتها، وفقدت تواجدها تماما.
اهم عنصر من تلك العناصر الثلاثه هو عنصر القياده او الامامه او المرجعيه، فالامام هو اس الدين كله، ومحور كل العناصر، فلا احد يفهم المقصود الشرعي من كل نص فهما قائما علي الجزم واليقين الا الامام او القائد او المرجع. فهو الملجا الذي يلجا اليه المومنون، وهو الثقه الذي يتلقون منه بيان القواعد الالهيه، وهو المخول باجابه الامه علي كل سوال، فاذا فقدت الامه نبيها او امامها او قائدها الشرعي او مرجعها الذي ينبغي ان ترجع اليه عندئذ تصبح الامه مثل جسد بغير راس، او كبدن من غير قلب، او قطعان من غير راع، ومن هنا صارت الامامه ضروره من الضرورات لا غني عنها في كل العقائد الالهيه، وتوصلت التشريعات الوضعيه الي هذا المطاف فاقرت بضروره الامامه او القياده او المرجعيه. والفرق ان الامام في العقائد الالهيه هو الاعلم والافهم والافضل، بينما القائد او الامام في العقائد الوضعيه هو الغالب.
بعد ان فتح النبي مكه، واستسلمت زعامه بطون قريش، صارت القياده او الامامه او المرجعيه من بعده هي محور كل اهتماماته، وانصب اهتمامه علي ترتيب موسسه الامامه او القياده وابراز اهميتها، وتحديد الامام او القائد الذي سيخلف النبي بعد موته، وتقديمه للامه علي اساس انه وليها وقائدها ومرجعها بعد موت النبي، وبيان الحكمه من اختياره بالذات، وبيان طريقه انتقال منصب الامامه او القياده او المرجعيه من امام الي امام، لان اخطر ما يواجه الامه من بعد وفاه الرسول هو الصراع علي الرئاسه. وانصب اهتمام النبي علي اقناع الامه بان الامام من بعده يجب ان يكون الاعلم والافهم بالدين، والافضل والاتقي، واصلح الموجودين في زمانه، وتلك صفات لا يعلمها الا اللّه تعالي. ومن هنا فانه صلي اللّه عليه وآله وسلم لم يحدد هذا الامام من تلقاء نفسه، ولم يقدمه للامه لتعرفه من تلقاء نفسه، انما اللّه تعالي هو الذي اختار الامام من بعده، واهله للامامه، وامر نبيه ان يقدمه للمسلمين كامام وكقائد وكمرجع لهم بعد وفاه نبيهم. واكد لهم ان الامور البسيطه ترقب اوامر اللّه فيها فكيف بامر علي مستوي خطوره الامامه (ان اتبع الا ما يوحي الي). فاللّه سبحانه وتعالي هو الذي اختار الامام وحدده واهله وبين طريقه انتقال الامامه من امام الي امام، علي اعتبار ان الامامه جزء لا يتجزء من الدين وبيانها واجب علي النبي، اذن من غير المعقول ان يبين الرسول المهم ويترك الاهم.
بعد الانتصار الاعظم بفتح مكه وتصفيه جيوش الشرك، ودخول الناس في دين اللّه افواجا، بدات الامه باستعراض بطيء لسيره محمد، الرجل العظيم الذي صنع المعجزات، فوحد العرب وحولهم من دين الي دين بمده فعليه لم تتجاوز العشر سنين، وتبين ان رسولاللّه يوم اعلن النبوه والرساله والكتاب اعلن بنفس الوقت نبا ولايه العهد او الامامه من بعده، فقد صرح الرسول بنفس الجلسه التي اعلن فيها نبوته بان ولي عهده والامام من بعده هو عليبن ابي طالب حيث قال له: (انت اخي وخليفتي ووصيي فيهم من بعدي) او (ان هذا اخي وخليفتي ووصيي فيكم من بعدي فاسمعوا له واطيعوا)، ومن الطبيعي ان الرسول لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه، انما هو امر الهي تلقاه من ربه، وامره باعلانه بنفس الوقت الذي اعلن فيه انباء النبوه والرساله والكتاب. ومن ذلك التاريخ لم يصدر امر الهي بالغاء او نسخ قرار تعيين الامام علي وليا للعهد، وخليفه من بعد النبي، حيث بقي هذا الامر الالهي ساري المفعول من بدء الدعوه الي ما بعد الفتح، واستمر ساريا مفعوله، لانه لم يلغ ولم ينسخ، والمسلمون يعلمون ذلك، وبطون قريش تعلم ذلك علم اليقين، ومن دخل الاسلام او تظاهر بدخوله يعلم ذلك ايضا. وعندما صدر الامر الالهي لم تحمله بطون قريش علي محمل الجد، لانها استبعدت ان ينجح محمد بدعوه او بتاسيس ملك. ولما اراد الرسول بعد نجاحه ان يذكر الناس بانه ميت لا محاله وانه قد نعي الي نفسه، وانه لا بد للناس من امام وقائد ومرجع من بعده ياخذهم بالحق ويقودهم بالهدي، وان هذا الامام هو عليبن ابي طالب، اختاره اللّه واهله للقياده والامامه والمرجعيه من بعد النبي، وامر نبيه ان يعلن ذلك بيوم وساعه اعلان نبا النبوه والرساله، حتي تكون الامور واضحه بعد موت النبي ولا يختلف عليه اثنان.
والامام الذي اختاره اللّه تعالي، للامامه والقياده من بعد النبي، وهو عليبن ابي طالب لم يكن نكره، ولا خامل الذكر فهو ابن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، المكني بابي طالب، تعرفه وتعرف اباه وجده العرب والعجم فهم شيوخ البطاح، وابو طالب سيد مكه وحكيمها، يعرفه العرب والعجم ايضا ويعرفون انه هو الذي حمي الدعوه والداعيه، وربي النبي في حجره، وبقي النبي في بيته حتي تزوج خديجه بنت خويلد، والاهم من ذلك ان عليا ابن عم رسولاللّه، وزوج البتول، فاطمه الزهراء سيده نساء العالمين، وانه هو والد سبطي الرسول، سيدي شباب اهل الجنه وريحانتي النبي من هذه الامه. ثم ان علي بن ابي طالب هو فارس الاسلام، فهو الاشجع وهو الاقوي، وهو الاكثر جهادا، فمن يدعي انه فاق عليا بهذه الامور او تقدم عليه فهو كاذب كائنا من كان، ومن كان في شك من هذا، فليدلني الثقلان علي رجل اجاب عمروبن ود يوم الخندق غيره، مع ان عمرو هذا قد بح صوته من النداء: هل من مبارز؟! وليدلني الثقلان علي واقعه هرب فيها علي، ولينفي الثقلان هروب غيره!!! ثم ان عليا هو الاعلم بالنص، وهو المخول ببيان ما تختلف فيه الامه من بعد النبي بالنص، وهو الهادي بالنص، وهو المخول بان يودي عن النبي بالنص، وهو الاعدل بالنص، وهو الافضل بالضروره والعقل والنص. وباختصار فان علي بن ابي طالب في العرب كالقمر في رابعه السماء، يستمد نوره وبهاءه من شمس دين الاسلام، وهو محمد صلي اللّه عليه وآله وسلم. وعندما يقدمه النبي للامه كقائد وكمرجع وكامام لها من بعد النبي، فانه يقدم الذي اختاره اللّه تعالي لمهمه الامامه والقياده والمرجعيه واهله لذلك.
عندما اعلن رسولاللّه النبوه والرساله اعترضت بطون قريش علي نبوه محمد، ولم تعترف بها وقاومت رسولاللّه 21 عاما رافضه رفضا مطلقا النبوه والرساله، فزعمت ان محمدا ليس موهلا للنبوه فهو غلام يتيم -علي حد تعبير ابي سفيان- والافضل من النبي (رجل من القريتين عظيم). واختلقت علي النبي الاكاذيب فقالت: انه ساحر، وشاعر، ومجنون، وكاهن، وكاذب... الي آخر اسطوانتها التي سجلها القرآن الكريم للاعتبار. وبذلت كل جهودها لصرف النبوه عن محمد. وتصدت للنبي عشر سنوات في مكه، ذاق فيها هو والهاشميون من شر البطون الامرين، ولما عزم النبي علي الهجره تامرت كل بطون قريش علي قتله، فنجاه اللّه، ثم طاردته في طريقه الي يثرب فنجاه اللّه، ثم حاربته سبع سنين حربا مسلحه، ومع هذا رفضت الاعتراف به نبيا ورسولا، ورفضت الدخول في دينه طوال تلك المده. وعندما غزاها النبي ودخل مكه دخول الفاتحيين، اضطرت بطون قريش ان تعترف بان محمدا رسول ونبي لتحقن دمها!! فهل يعقل من كان هذا موقفهم من رسولاللّه ان ينسوا ذلك بعد التلفظ بالشهادتين. ومن هنا فالذين اعترضوا علي نبوه محمد هم انفسهم الذين اعترضوا علي امامه علي، والذين اتحدوا لاجهاض نبوه محمد، هم انفسهم الذين اتحدوا لاجهاض امامه علي واهل بيت النبوه.
المنافقون فئه مسلمه محسوبه علي المسلمين، تلفظت بالشهادتين، واظهرت الاسلام والموالاه لمحمد وآله، وابطنت الكفر والفسوق والعصيان والحقد الاسود علي محمد وآله. وقد برزت ظاهره النفاق بعد ان نجح الرسول بتكوين كيان سياسي في المدينه المنوره، وبعد ان اعز اللّه جانبه، فلم يقو اعداوه من اهل المدينه ومن حولها علي الجهر بمعاداته او السير بعكس تيار القوه الغالبه في المجتمع، فانتشر النفاق في المدينه وما حولها من الاعراب قال تعالي: (وممن حولكم من الاعراب منافقون، ومن اهل المدينه مردوا علي النفاق لا تعلمهم نحننعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون الي عذاب عظيم) [560] . وقويت شوكه منافقي المدينه وما حولها بفتح مكه وانهيار آخر معاقل الشرك، فلم يعد بوسع احد كائنا من كان الجهر بمعارضه دين الاسلام او قياده النبي فتوسعت ظاهره النفاق، اذ اضطر قاده البطون ان يظهروا الاسلام والموالاه للنبي وآله رغبه او رهبه وان يخفوا غير ذلك. ومن هنا حدث تقارب مذهل بين منافقي المدينه وما حولها، ومنافقي مكه، والمنافقين من الاعراب قال تعالي: (ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائره السوء).. [561] هولاء الاعراب لا خلاق لهم ولا دين ولا هم لهم الا المغنم والمكسب المادي، فهم جميعا ضد من تدور عليه الدائره ليغنموا، ووصل التقارب بين الفرقاء الثلاثه: (بطون قريش ومنافقي المدينه وما حولها، والاعراب) الي حد التحالف.
بطون قريش تحسد محمدا وبني هاشم، لان اللّه قد اختصهم بالنبوه وفضلهم علي البطون، ونتيجه للحرب التي دارت بين محمد وبين البطون فقد قتل محمد وحمزه وعلي سادات بطون قريش، فجمعت البطون مع الحسد لمحمد ولبني هاشم الحقد عليهم لانهم قتلوا الاحبه. فالحسد لمحمد ولال محمد، والحقد علي محمد وعلي آل محمد، هو اساس التقارب والتحالف بين بطون قريش، ومنافقي المدينه وما حولها، والاعراب، واساس وحده المصالح.
محمد واهل بيته والذين آمنوا يلتزمون بالنصوص الشرعيه والتوجيهات الالهيه لادراك المقاصد الشرعيه، وبطون قريش والمنافقون والذين في قلوبهم مرض ينفرون من النص، ويعتقدون ان الذي يسميه محمد نصوصا وتوجيهات الهيه ما هي الا آراء شخصيه لمحمد تكلم بها بلحظه غضب، فيصبح رايهم مقابل راي محمد. ومن هنا فقد اعتقدوا ان آراءهم هي اكثر توفيقا وتحقيقا للمقاصد الشرعيه من راي محمد!! والعياذ باللّه. ومن هنا هانت عليهم معصيه الرسول، وهان عليهم موازنه آرائهم بالنصوص الشرعيه، وترجيح آرائهم علي النصوص الشرعيه. وهان عليهم اعمال الراي واهمال النص. وليبقوا ظاهريا ضمن اطار الشرعيه سموا تقديم الراي علي النص اجتهادا، ورتبوا اجرا علي ذلك فقالوا: ان المجتهد ماجور اخطا ام اصاب، وتجاهلوا بانه لا اجتهاد في مورد النص. وهكذا تركوا الجزم واليقين الاتي من اللّه ورسوله، واتبعوا الظن والتخمين المتاتي من اعمال آرائهم، واتباع ما تهوي الانفس.
بقيت ظاهره النفاق من ابرز الظواهر التي رافقت نشوء دوله النبي، واستمرت طوال حياته المباركه، وحتي بعيد وفاته بقليل، فلما نجحت بطون قريش بانقلابها الاسود علي اهل بيت النبوه، وقف المنافقون وقفه رجل واحد مع بطون قريش التي كان يقودها عمر وابو بكر وابو عبيده رضي اللّه عنهم، لم يقف المنافقون معهم حبا بالبطون ولا بقيادتها، ولكن كانت الغايه من وقفه المنافقين الحيلوله بين اهل بيت النبوه وبين حقهم بقياده الامه، وغايه المنافقين البعيده المدي كانت تخريب النظام السياسي الاسلامي عن طريق الخطوه الكبري المتمثله باقصاء القياده الشرعيه. وكانت وقفه المنافقين تلك نقطه تحول في تاريخ الامه، وفي تاريخ ظاهره النفاق، اذ من تاريخ تلك الوقفه اصلح اللّه المنافقين بيوم وليله، واختفت كلمه النفاق نهائيا، ولم يرو اي راو علي الاطلاق ان احدا من المنافقين قد عارض ابا بكر، او عمر، او عثمان، او معاويه، او احد ملوك بني اميه، او ملوك بني العباس! وكانهم كانوا ينتظرون موت الرسول ليصلحوا انفسهم بيوم وليله، وليوالوا اي ولي يتولي امورهم باستثناء اهل بيت النبوه، فعندما آلت الامور الي علي اتحدوا ضده، ولكن بلباس المومن لا بلباس المنافق.
كان النبي علي علم يقيني بموقف بطون قريش وموقف المنافقين والمرتزقه من الاعراب، في قضيه الخلافه والامامه من بعده، وكان يعلم ان الذين اعترضوا علي نبوته ورسالته وحاولوا ان يصرفوا فضل النبوه والرساله عنه، سيعترضون علي امامه علي وسيحاولون ان يصرفوا عنه فضل الامامه، وكان علي علم بحجم التقارب بين بطون قريش ومنافقي المدينه وما حولها ومرتزقه الاعراب. لكن مثل محمد لا ينحني امام العواصف، ولا يثنيه شيء في الدنيا عن تبليغ رسالات ربه كامله غير منقوصه، ومثله لا يصدر احكاما علي ما في نوايا الناس وضمائرهم، فقد يعدلون، او يحدث اللّه لهم ذكرا. لذلك فقد تابع تبليغ رسالات ربه، وبلغ الامه مجتمعه ومنفرده: ان امام الامه ومرجعها وقائدها من بعده هو علي بن ابي طالب واحد عشر اماما من ولده، وركز تركيزا خاصا علي عليبن ابي طالب لانه اول الائمه من بعده، وحتي لا ينسي المومنون ربط قضيه الامامه باهل بيت النبوه، وربط اهل بيت النبوه بالقرآن الكريم، جعل القرآن هو الثقل الاكبر، واهل بيت النبوه هم الثقل الاصغر، واعلن استحاله الهدي بغير هذين الثقلين، واستحاله تجنب الضلاله بغير التمسك بهما، واعلن ان اهل بيت النبوه كسفينه نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، واعلن ان اهل بيت النبوه امان للامه، وبين للناس بان اللّه تعالي هو الذي امره بهذه الاعلانات، لانه يتبع ما يوحي اليه، وقد بلغهم هذه الاعلانات معذره اليهم. ومضي رسولاللّه بتبليغ رسالات ربه، وبتقديم الامام من بعده بمختلف وسائل التبليغ وطرق الكشف، وبكشف خدع المنافقين والبطون واساليبهم الملتويه وبدون اثاره.
بعد فتح مكه وتصفيه جيوب الشرك ادركت بطون قريش، المهاجرون منها والطلقاء، بان النبي قد بدا بترتيب عصر ما بعد النبوه، وان اجل النبي قد دني، وادرك المنافقون ما ادركته البطون وايقنوا جميعا بان محمدا يخطط ليكون الامام من بعده ابن عمه وزوج ابنته ووالد سبطيه: عليبن ابي طالب. وايقنت البطون بانه اذا نجح النبي بتنصيب علي بن ابي طالب اماما من بعده، فلن تخرج الامامه من الهاشميين الي يوم الدين، وستجمع الامه علي قيادتهم. وهكذا يجمع الهاشميون النبوه والامامه معا او النبوه والخلافه معا او النبوه والملك معا علي حد تعبير عمربن الخطاب، فاذا فعلوا ذلك امتازوا علي قومهم بجحا بجحا علي حد تعبير عمربن الخطاب ايضا. لذلك لملمت البطون نفسها لمواجهه نوايا محمد، وحدث تقارب جدي بين الذين اسلموا من البطون قبل فتح مكه وبين الطلقاء الذين اسلموا بعد الفتح. فصار عثمانبن عفان رضي اللّه عنه، وهو مهاجر، حليف حقيقي لابي سفيان ومعاويه ويزيد والحكمبن العاص، وهم طلقاء، وتكونت وحده حال بين التسعه المبشرين في الجنه، وبين قاده الطلقاء وافرادهم، بمعني ان الذين اسلموا من بطون قريش قبل الفتح شكلوا جبهه واحده مع الذين اسلموا بعد الفتح، وصار لمنتسبي بطون قريش موقف موحد او مشابه من كل الاحداث. كانت البطون تحكم بلده مكه وفق صيغتها السياسيه الجاهليه، وها هو محمد يصنع ملكا عظيما وهو حكم العرب، فلا مصلحه لبطون قريش ان تعترض علي نبوه محمد فضلا عن عدم جدوي هذا الاعتراض، والافضل للبطون ان تتمسك بنبوه محمد، وان تعترف بحق الهاشميين الشرعي بالنبوه، ومقابل اعترافها هذا يجب ان يعترف الهاشميون بحق البطون بالملك. وتلك هي القسمه العادله، للهاشميين النبوه خالصه من دون البطون، وللبطون الملك تتداوله في ما بينها خالصا من دون الهاشميين، وهذا هو وجه الصواب والتوفيق علي حد تعبير منظر البطون عمربن الخطاب رضي اللّه عنه. ولكن محمد غير قابل بهذه القسمه، وهو يخطط لاقامه امامه يديرها اثنا عشر اماما من اهل بيته يحكمون بالتتابع، والافضل للبطون ان تترك محمدا وشانه وان تقيم تحالف حقيقي بينها وبين الجميع بما فيهم المنافقين، وهكذا اتحدت البطون بعد الفتح ضد علي وبني هاشم لاجهاض الامامه، كما اتحدت ضد محمد وبني هاشم لاجهاض النبوه. وتحقيقا لهذا الهدف مدت قيادات البطون ايديها الي المنافقين، ووضعتهم بما يلزم بالصوره، وتحالفت مع طلاب المصالح من الانصار. لست ادري كيف نفسر قول عمربن الخطاب: (فما ان رايت اسلم حتي ايقنت بالنصر) فمن الذي اخبر عمر بان اسلم ستحضر؟! وكيف عرف عمر ان قبيله اسلم معه وانها تويد نظامه الجديد؟! ان الجواب المنطقي الوحيد هو ان قبيله اسلم بالصوره كامله، وانها علي موعد لتاييد النظام الجديد، (حيث ضاقت بهم السكك)، علي حد تعبير عمر رضي اللّه عنه. والموكد ان بطون قريش قد اتحدت بعد الفتح ضد علي وامامته وضد بني هاشم، تماما كما اتحدت بطون قريش ضد محمد ونبوته وضد بني هاشم، ولكنهم هذه المره قالوا بان محمدا من قريش وان عشيرته اولي به، وان عليا والهاشميين طلاب زعامه، ولا ينبغي ان يتولي الاماره طالبها!! ومن الموكد ايضا بان بطون قريش قد تحالفت مع المنافقين في المدينه وما حولها ومع المرتزقه من الاعراب. ومن الموكد اخيرا بان قياده بطون قريش قد اجتذبت اليها قطاعا كبيرا من الانصار، وانهم جميعا حلفاء!!
من الموكد ان القائد العام لهذا التحالف هو عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فلو شاء عمر لكان هو الخليفه الاول، وان نائب القائد العام هو ابو بكر رضي اللّه عنه، فهما معا لا يفترقان في عمل ولا مسير ولا منزل، كما قال الواقدي [562] ، وقد آخي الرسول بينهما قبل الهجره وبعدها، وكلاهما نال شرف مصاهره الرسول، فقد زوج عمر ابنته حفصه لرسولاللّه وزوج ابو بكر ابنته عائشه لرسولاللّه، ومن المدهش ان عائشه وصفيه كانتا يدا واحده كما يقول الواقدي في مغازيه، وكانتا معا حتي علي الرسول نفسه، انظر الي قوله تعالي: (ان تتوبا الي اللّه فقد صفت قلوبكما، وان تظاهرا عليه فان اللّه هو مولاه وجبريل وصالح المومنين) [563] فالف المثني في كلمتي تتوبا، وتتظاهرا، تشمل السيدتين عائشه وحفصه. راجع علي سبيل المثالتفسير ابن كثير [564] . ويلي ابا بكر وعمر بالاهميه ابو عبيده، ويليه بالاهميه عثمان ويليهما طلحه، وسعدبن ابي وقاص، وعبد الرحمنبن عوف، وكان الزبير خارج قياده بطون قريش لان هواه مع بني هاشم ثم غيره ابنه عبداللّه، وقد عرفوا بالنفر الذي مات رسولاللّه وهو راض عنهم، علي حد تعبير عمر، ثم عرفوا بالعشره المبشرين بالجنه. وساعد هولاء القاده العظام بقياده بطون قريش، خالدبن الوليد، وعمروبن العاص، وابو سفيان، ومعاويه، ويزيد، وعبداللّهبن ابي سرح، وغيرهم من عظماء البطون، كالحكمبن العاص، والوليدبن عقبهبن ابي معيط، وكلهم موتور وحاقد علي علي واهل بيت النبوه، فما من احد منهم الا وقتل علي اباه او اخاه او ابن عمه، وساعد هولاء القاده العظام من الانصار اسيدبن حضير، وبشيربن سعد وغيرهم. ويمكنك القول ان اقوي اركان قياده هذا التحالف كان عمربن الخطاب، وهو الاجرء فلو سكت لسكتوا، ولو رضي لرضوا لان النبي قد خلق تيارا غلابا من القبول بولايه علي، كما تدل علي ذلك رساله معاويه لمحمد بن ابي بكر.
هدف قاده البطون من تشكيل هذا التحالف هو منع الهاشميين من ان يجمعوا بين النبوه والخلافه، حتي لا يجحفوا علي قومهم، وتثبيت مبدا النبوه لبني هاشم والخلافه لبطون قريش تتداولها في ما بينها، والحيلوله بين الامام علي بالذات وبين حقه بالامامه، لان علي قد قتل سادات قريش، ولا تقبل به البطون اماما، حتي وان اختاره اللّه نفسه!!، والحيلوله بين اي هاشمي وبين الاماره، لان اي هاشمي اذا تسلم الاماره فسيدعوا لخلافه او امامه اهل بيت النبوه، وعلي هذا اجمعت قياده بطون قريش ومن تحالف معها. وبطون قريش تعترف بالنبي وتدين بالاسلام، ولكنها ترفض ان يجمع الهاشميون مع النبوه الملك (الخلافه والنبوه معا).
ساد هذا التحالف روح الفريق، والالتزام بالهدف، ففي سقيفه بني ساعده وعندما قال الانصار لا نبايع الا عليا وعلي غائب، عندئذ قال ابو بكر: اني قد رضيت لكم احد هذين الرجلين: عمر وابا عبيده فبايعوا ايهما شئتم. عندئذ قال الاثنان: معاذ اللّه ان نتقدم عليك، فقفز بشيربن سعد فبايع ابا بكر وبايعه عمر وابو عبيده وعندما مرض ابو بكر مرضه الذي مات منه، دعا عثمان ليكتب له عهدا، فقال ابو بكر: (اني قد وليت عليكم..) فاغمي عليه من شده الوجع، فاتمها عثمان من تلقاء نفسه وكتب: (اني قد وليت عليكم عمربن الخطاب)، فلما افاق ابو بكر من غيبوبته طلب من عثمان ان يقرا له ما كتب، ولما قرا عثمان ارتاحت نفس ابي بكر، وقال لعثمان: (واللّه لو كتبت نفسك لكنت اهلا لها). فانت تلاحظ ان عثمان قد كتب كلمه عمر من تلقاء نفسه، لانه يعرف ان الخليفه حسب الاتفاق عمر، ثم انظر الي قول ابي بكر: (واللّه لو كتبت نفسك لكنت اهلا لها)، بمعني ان الجميع يتصرفون بروح الفريق وضمن مخطط معلوم بغض النظر عن الديكور. وعندما مرض عمر مرضه الذي مات منه كان واضحا ان الخليفه من بعده عثمان بكل المقاييس، فعثمان كان يعرف بالرديف اي الرجل الذي يلي الرجل، ولكن عمر اراد ان يتولي عثمان الخلافه بديكور خاص، ويتولي الطاقم الذي اختاره عمر في ما بعد صد الامام علي عن حقه بالامامه، حيث يفتح شهيه اكبر عدد من الطامعين بالخلافه فيكونون للامام في ما بعد مجتمعين ندا!! ولم ينس عمر الذين ساعدوه علي انشاء التحالف، فقال بحسره: (لو كان ابو عبيده حيا لوليته واستخلفته) وابو عبيده ثالث الثلاثه من المهاجرين الذين دخلوا سقيفه بني ساعده، وقال عمر: ولو كان خالدبن الوليد حيا لوليته واستخلفته وكان لخالد دور عظيم بتثبيت اركان الحكم الجديد، فقد كان مع السريه التي كلفت باحراق بيت فاطمه بنت محمد علي من فيه، وهو الذي قتل مالكبن نويره الصحابي الذي ولاه رسولاللّه، ومع هذا تزوج امراته بنفس الليله بدون عده. ولا فرق عند التحالف بين عربي وعجمي، والدليل ان عمر بن الخطاب قال في مرضه: (ولو كان سالم مولي ابي حذيفه حيا لوليته واستخلفته)، وسالم هذا من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب. وقد كانت حجه المهاجرين في السقيفه ان عشيره محمد اولي بميراثه، وان العرب لا تولي هذا الامر الا من كانت النبوه فيهم، ومع هذا فان عمر قال: (ولو كان معاذ بن جبل حيا لوليته واستخلفته)، ومعاذ من الانصار، وحسب اقوال الثلاثه في السقيفه فان الخلافه لم تكن جائزه للانصار!!! بمعني ان التحالف كان يتصرف كفريق واحد، والمهم عنده تحقيق الهدف بالحيلوله بين ان يجمع الهاشميون الملك والنبوه معا، وان تكون النبوه لبني هاشم والخلافه لغيرهم، ومن باب سد الذرائع الحيلوله بين اي هاشمي وبين الاماره حتي ولو كانت علي بلده صغيره لان التحالف يخشي ان يستغل الهاشمي امارته للتوطيد للهاشميين!!
ادركت بطون قريش ان نبوه محمد قدر لا مفر منه، وان الاسلام اصبح حقيقه من حقائق الحياه، ولا مطمع للبطون بصرف النبوه عن محمد، او القضاء علي دينه لان هذا غير ممكن. وهدف البطون منصب علي صرف الامامه والقياده والمرجعيه عن عليبن ابي طالب من بعد النبي، والحيلوله دون اعطاء اهل بيت النبوه دورا مميزا في الامه بعد وفاه الرسول، وذلك حتي لا يجمع الهاشميون بين النبوه والملك، او النبوه والخلافه.فيصير النبي منهم والخلفاء منهم ويذهبوا بالشرف كله، وتحرم بقيه البطون من هذا الشرف. وحيث ان المنافقين يكرهون محمدا واهل بيت محمد فقد اتحدوا مع البطون لغايات صرف الامامه من بعد النبي عن عليبن ابي طالب، والحيلوله دون اعطاء اهل بيت النبي دورا مميزا بعد وفاه الرسول، والمرتزقه من الاعراب مع البطون ومع المنافقين، مما جعل من هذه العناصر الثلاثه حلفا واقعيا حقيقيا له قيادته، وله اهدافه، وله مويدوه.
لا طاقه لهذا التحالف علي مواجهه الرسول عن طريق الحرب، وربما كانت قياده هذا التحالف عزوفه عن فكره الحرب بسبب اواصر النسب بينها وبين الرسول، ولا طاقه لهذا التحالف بمواجهه الرسول عن طريق المنطق، لان قيام هذا التحالف عمل ضد المنطق، وليس بامكان هذا التحالف ان يواجه الرسول عن طريق الشرع، لان هذا التحالف ما قام الا لهدم الجانب السياسي من الشرع!!! انه تحالف نشا في الظلام، ولكن ليس بامكان قاده التحالف ان يقفوا مكتوفي الايدي، مشلولي الحركه، بالوقت الذي يوطد فيه محمد الامر من بعده لعلي، ويبرز الدور المميز لاهل بيته من بعده!! لقد ادرك قاده التحالف خطوره البيان النبوي، وهو لا يتوقف عن القول بانه يتبع ما يوحي اليه، وانه لا ينطق عن الهوي. فاذا استطاعت قياده التحالف ان تشكك بقول الرسول وبشخصيته، فانها ستبطل مفعول البيان النبوي المنحصر في حديث الرسول، وقاده التحالف وافراد التحالف اقل واذل من ان يواجهوا رسولاللّه بذلك. ومن هنا لم يبق امام قياده التحالف الا مواجهه النبي بحرب الشائعات، وذلك باطلاق سلسله من الشائعات تتظافر للتشكيك في قول الرسول وشخصيته، واستحاله ان تكون كل اقوال الرسول من عند اللّه. فاذا نجحت هذه الشائعات بزعزعه الثقه ببيان الرسول المتعلق بالامور السياسيه، يكون اجله قد دنا، ولا تمهله المنيه لبناء ما هدمته قياده التحالف، عندئذ يتم توزيع الادوار بين كتائب التحالف، واثناء انشغال العتره الطاهره بتجهيز النبي، ينصب خليفه من بطون قريش، حيث يجمع الخليفه بيده الجاه والمال وتاييد التحالف ويواجهوا عليا واهل بيت النبوه وبني هاشم بامر واقع. وبعد ذلك تقوم السلطه الجديده بتحويل تلك الشائعات الي قناعات، ثم يتناقلها العامه بالوراثه، وتصبح جزءا من الدين!!! تلك هي خطه التحالف لتحقيق هدفه!!!
لقد اشاعت قياده التحالف بان رسولاللّه بشر يتكلم في الغضب والرضي، ولا ينبغي ان يحمل كلامه علي محمل الجد، وبالتالي لا ينبغي تنفيذ كل ما يقوله الرسول، فضلا عن عبثيه كتابه اقوال الرسول. قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص: (كنت اكتب كل شيء اسمعه من رسولاللّه اريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا تكتب كل شيء سمعته من رسولاللّه، ورسولاللّه بشر يتكلم في الغضب والرضي، فامسكت عن الكتابه، فذكرت ذلك لرسولاللّه، فاوما باصبعه الي فمه وقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منهالا حقا) [565] . من الذي يجرو علي هذا النهي؟ وما هي مصلحته بعدم كتابه احاديث رسولاللّه؟ وكيف يقوم بهذا العمل الخطير اثناء حياه الرسول سرا ودون علم الرسول؟ ان الشخص الوحيد القادر علي هذا العمل الخطير، والقول الاشد خطوره هو عمربن الخطاب رضي اللّه عنه، فهو قائد التحالف، وهو المعني الاول بتحقيق الهدف الذي قام التحالف لتحقيقه، وهو مبتدع نظريه (النبوه لبني هاشم والخلافه للبطون)، وهو المقتنع بصواب وعداله هذا التوزيع، ثم انه ليس موضع شك، فهو مهاجر وهو صهر الرسول. والشخص الاخر القادر علي فعل ذلك هو ابو بكر رضي اللّه عنه، فهو نائب قائد التحالف، ومن المويدين لنظريه عمر والمقتنعين بصوابها، ثم انه ليس موضع شك فهو مهاجر، وهو صهر الرسول، ومن الموكد ان عثمان رضي اللّه عنه شريكهما بهذا النهي، فهو من رجال عمر، ومن المقتنعين بنظرياته، وهو اموي ونوه الهاشميون باقاربه شيوخ الوادي، وهو يعتقد ان التحالف قد ينجح، ومن الممكن ان يحصل علي نصيبه وافرا، ومن جهه ثانيه، فليس هو بمتهم فهو مهاجر وصهر الرسول ايضا!!
لما آلت الخلافه الي ابي بكر الصديق كان اول مشروع فعله هو جمعه للاحاديث النبويه التي كتبها هو شخصيا وقيامه باحراقها، كما روت السيده عائشه ابنته وام المومنين. وكان مشروعه الثاني ان جمع الناس وقال لهم: (انكم تحدثون عن رسولاللّه احاديثا تختلفون فيها، والناس بعدكم اشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسولاللّه شيئا، فمن سالكم فقولوا بينناوبينكم كتاب اللّه) [566] .فهذا الموقف المعلن من ابي بكر، وقناعته بان التحديث عن رسولاللّه يورث الخلاف، وقيامه باحراق الاحاديث التي جمعها شخصيا يدل علي حساسيته المفرطه من احاديث رسولاللّه، وانه احد الذين نهوا ابن عمرو عن كتابه احاديث الرسول، تحت شعار انه يتكلم في الغضب والرضي، ثم من هي قريش ان لم يكن ابو بكر وهو احد شيوخها منها!! وعندما آلت الخلافه، الي عمربن الخطاب بعد موت ابي بكر، كان اول مشاريعه ان طلب من الناس وناشدهم لياتوه باحاديث رسولاللّه التي كتبوها، وظن الناس ان عمر يريد ان يجمع احاديث رسولاللّه فاتوه بها، فلما اتوه باحاديث رسولاللّهالمكتوبه امر بحرقها جميعا، وحرقت بالفعل [567] .جاء في كنز العمال: حديث (انه ما مات عمر حتي بعث الي اصحاب رسولاللّه فجمعهم من الافاق: عبداللّهبن حذيفه وابا الدرداء وابا ذر وعقبهبن عامر وقال لهم: ما هذه الاحاديث التي افشيتم عن رسولاللّه في الافاق)؟ قالوا: اتنهانا؟ قال: لا، اقيموا عندي لا واللّه لا تفارقوني ما عشت، فنحن اعلم ناخذ منكمونرد عليكم) [568] .وروي الذهبي في تذكره الحفاظ بترجمه ابي بكر، ان عمر حبس ثلاثه بتهمه (انهم اكثروا الحديث عنرسولاللّه) [569] . ولقد نهي عمر جيوشه عن التحديث عن رسولاللّه [570] ، وهذه السياسه الصارمه نحو روايه الاحاديث، ونحو حرق المكتوب منها، تدل علي حساسيته المفرطه تجاه احاديث رسولاللّه، حتي ولو كان شخصيا هو الذي سمعها، وموقفه بالحجره المباركه ومواجهته للرسول وجها لوجه، وقوله للرسول: حسبنا كتاب اللّه يوكد هذه الحساسيه، وان لم يكن ابو حفص مع قريش التي نهت عبداللّه بن عمرو عن كتابه احاديث الرسول، فمن هي قريش اذا؟، صحيح انه لم يكن واحدا من ساده قريش قبل الاسلام، وانه كان شخصا عاديا، ولكنه نال الشرف بالاسلام، ونال العلا بمصاهرته لرسولاللّه فاصبح من ساده قريش، فمن غير الممكن ان تنهي قريش في غياب عمر!!! ولما آلت الخلافه الي عثمان بعد موت عمر كانت اول مشاريعه ان اصدر مرسوما بعدم جواز روايه اي حديث لم يسمع به في عهدي ابي بكر وعمر. [571] تلك هي قريش التي نهت عبداللّهبن عمروبن العاص عن كتابه احاديث رسولاللّه، بحجه ان الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضي. والغايه الحقيقيه من النهي كانت لغايات ابطال مفاعيل الاحاديث النبويه المتعلقه بموسسه الامامه من بعد النبي وبالدور المميز لاهل بيت النبوه بعد وفاته!!
معاويه بن ابي سفيان احد قاده التحالف، وقد اصدر مرسوما ملكيا بعد عام الجماعه، وارسل نسخا من هذا المرسوم الي كل عماله، حيث امر فيه بالحرف: (ان برئت الذمه ممن روي شيئا من فضل ابي تراب واهل بيته)، روي ذلك المدائني في كتابه الاحداث كما في شرح النهج لعلامه المعتزله، فمعاويه ابرز بيت القصيد والغايه من منع كتابه احاديث رسولاللّه، حتي لا ينتشر فضل ابي تراب واهل بيته في الامه، وحتي لا يعرف المسلمونحقهم الثابت شرعا بقياده هذه الامه!! [572] .
قلنا ان قياده التحالف قد صممت نهائيا علي اقصاء الامام علي عن حقه بالقياده والامامه من بعد النبي، وعلي الغاء الدور المميز لاهل بيت النبوه وتجريدهم من كافه حقوقهم السياسيه، وانها عزمت علي ان تتصدي للحمله المركزه، التي كان يقودها رسولاللّه قبل وفاته لتثبيت الشرعيه. وتحقيقا لهذه الاهداف، اطلقت قياده التحالف اشاعتها الاولي التي مفادها ان رسولاللّه بشر يتكلم في الغضب والرضي، ولا ينبغي ان يحمل كلامه علي محمل الجد، ولا ينبغي ان يكتب كلام الرسول، وقد اثبتنا ذلك. ولتدعيم هذه الاشاعه اطلقت قياده التحالف شائعتها الثانيه: روي البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب قول النبي من آذيته، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصله، باب من لعنه النبي ما يلي وبالحرف: (ان رسولاللّه كان يغضب، فيلعن، ويسب، ويوذي من لا يستحقها، ودعي اللّه ان تكون لمن بدرت منه زكاه وطهورا). وهكذا صوروا رسولاللّه صاحب الخلق العظيم الذي وصفه اللّه تعالي بايه محكمه (وانك لعلي خلق عظيم) [573] بصوره الرجل الذي يفقد السيطره علي اعصابه، فيتصرف مثل تلك التصرفات التي الصقوها ظلما برسولاللّه. لان الشخص العادي الذي لا تتوفر فيه موهلات النبوه يترفع عن سب ولعن وايذاء الناس بدون سبب فكيف بسيد الخلق واعظمهم؟!!!
القصد منها دعم الاشاعه الاولي، والتشكيك بشخصيه الرسول وبصحه حكمه علي الرجال، والنيل من علي بن ابي طالب واهل بيته، وابراز مظلوميه اعداء اللّه، ورفع خامل ذكرهم، اذ من الثابت ان رسولاللّه قد لعن اعداء اللّه، وبالذات الكثير من قاده هذا التحالف كما يروي البخاري والسيوطي والترمذي، والنسائي، واحمد، وابن جرير، والبيهقي، ونصربن مزاحم، والحلبي. وراجع كتابنا الخطط السياسيه [574] ، تجد الذين لعنهم رسولاللّه، وراجع بعث اسامه في كل السير تجد ان رسولاللّه قد لعن الذين يتخلفون عن جيش اسامه. ومن جمله الذين لعنهم رسولاللّه ابو سفيان، ومعاويه، ويزيد، والحكمبن العاص، و... الخ. بموجب هذه الشائعه، فان الذين لعنهم رسولاللّه صاروا مطهرين او زاكين، وهكذا فاقوا منزله اهل البيت الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا!! واذا كان لقول الرسول بعلي واهل بيته قيمه، فلماذا لا يكون لقوله هذا بقاده التحالف قيمه، وهذا يعزز الشائعه الاولي التي اطلقها قاده التحالف بضروره عدم حمل كلام الرسول علي محمل الجد، وبالتالي عدم جدوي كتابته!! ومن جهه اخري فلن يعترض معترض علي مروان بن الحكم او علي معاويه بن ابي سفيان، اذا آلت اليهم الخلافه يوما ما! فاذا قال لمعاويه قائل: لقد لعنك رسولاللّه فكيف تتامر علي امه محمد الذي لعنك؟ عندئذ يجيبه معاويه بلسان فصيح: فظ اللّه فاك، لقد دعي لي رسولاللّه، ان تكون لعنته لي زكاه وطهورا، ودعوات الانبياء مستجابه، لذلك فاني زاك بالنص ومطهر بالنص، واصحابك اهل بيت النبوه مطهرين فقط، فانا اولي بالقياده منك ومنهم!! وشر البليه ما يضحك!!
ولدعم الشائعتين السابقتين، وامعانا بالتشكيك بقول الرسول وشخصه، اطلقت قياده التحالف شائعتها الثالثه. النص الحرفي لهذه الشائعه: روي البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفه ابليس وجنوده، وفي كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر، وكتاب الادب، باب ان اللّه يامر بالعدل، وكتاب الدعوات، باب تكريم الدعاء، وروي مسلم في صحيحه، باب السحر ما يلي وبالحرف: (ان بعض اليهود سحروا رسولاللّه، حتي ليخيل اليه انه يفعل الشيء وما فعله). وهذا قمه الشكيك في كل ما يصدر عن رسولاللّه، وما يعني التحالف بالدرجه الاولي، ما صدر ويصدر عن رسولاللّه بالامور المتعلقه برئاسه الدوله، وبالمكانه الخاصه التي تصوروا ان رسولاللّه قد خص بها اهل بيته الكرام.
ولدعم الشائعات الثلاثه، وللتشكيك في ذاكره الرسول حتي بالامور المتعلقه بالقرآن الكريم، فقد اطلق قاده التحالف اشاعتهم الرابعه: روي البخاري في باب قوله تعالي: (وصل عليهم) وكتاب الشهادات، باب شهاده الاعمي ونكاحه، وروي مسلم في كتاب فضائل القرآن، باب الامر بتعهد القرآن ما يلي وبالحرف: (ان النبي سمع رجلا يقرا في المسجد فقال الرسول: رحمه اللّه اذكرني كذا وكذا آيه اسقطتها من سوره كذا)!!! فانت تري انه لولا هذا القاريء، لما تذكر النبي بزعمهم الايه التي اسقطها من سوره كذا!!! وهذا تشكيك بقوه ذاكره الرسول حتي بالامور المتعلقه بالقرآن الكريم، فكيف بالامور السياسيه!!!
ثم بلغت حمله قاده التحالف علي رسولاللّه المدي، عندما قالوا له وجها لوجه وفي بيته: (رسولاللّه يهجر، ان رسولاللّه قد هجر، ما شانه اهجر). والذين قالوا هذا لرسولاللّه هم حزب عمربن الخطاب، وعمر نفسه هو اول من قال كما ذكر ذلك ابو حامد الغزالي في كتابه [575] ، وكما ذكر ذلك السبط الجوزي في كتابه. [576] وبعد ذلك تجرا حزب عمر وقالوا: (القول ما قاله عمر ان رسولاللّه يهجر، وان رسولاللّه قد هجر، وما شانه (اي الرسول) اهجر)!!! واصح الصحاح عند شيعه قاده التحالف هما صحيح بخاري وصحيح مسلم، وقد روي البخاري هذه الواقعه الاليمه بست صيغ، ورواها مسلم في صحيحه، واحمد في مسنده، والنووي بشرح صحيح مسلم، وابن ابي الحديد بشرح النهج، واذا اراد القاريء الكريم ان يقف علي تفاصيل هذه الحقيقه بدقه ويقف علي كامل المراجع فعليه ان يراجع كتابنا نظريه عداله الصحابه والمرجعيه السياسيه في الاسلام. ولا يقوي احد في الدنيا علي انكار هذه الواقعه، اوالاعتذار عنها [577] .
اول من اتهم رسولاللّه بالهجر، ورفع بوجهه شعار: (حسبنا كتاب اللّه) هو عمر بن الخطاب، حيث حضر هو وثله من حزبه ليطمئنوا علي الوضع الصحي لرسولاللّه، ومن الموكد ان شخصا ما اخبر عمر بان الرسول سوف يكتب وصيه تلك الليله، فاحضر عمر عددا كبيرا من حزبه ليحول بين الرسول وبينكتابه وصيته كما اقر عمر بذلك [578] . وما ان قال الرسول: (قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا)، حتي تصدي له عمر بن الخطاب فقال فورا دون ان يسال عن مضمون الكتاب: (حسبنا كتاب اللّه، ان رسولاللّه قد هجر) وبدون تروي صاح الحاضرون من حزب عمر فقالوا: القول ما قاله عمر!! ان رسولاللّه يهجر واستغرب الحاضرون من غير حزب عمر وصعقوا من هول ما سمعوا فقالوا عفويا: قربوا يكتب لكم رسولاللّه، وكان الحاضرون من حزب عمر يشكلون الاكثريه لانهم اعدوا للامر عدته فصاح عمر واعوانه: (حسبنا كتاب اللّه ان الرسول يهجر)، واختلف الفريقان وتنازعوا، وصدم عمر وحزبه خاطر النبي فقال النبي للجميع: (قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع، وما انا فيه خير مما تدعوني اليه)، ولقد اصاب ابن عباس عندما سمي ذلك اليوم بيوم الرزيه!!!
الرسول مريض ومسجي في بيته لا في بيت عمر، ويبدو واضحا ان عمر تلقي اشاره ما من بيت الرسول تفيد بانه سيوصي تلك الليله، فجمع عمر عددا من افراد حزبه، احدهم ابو بكر فهما لا يفترقان ابدا كما اثبتنا، وفوجيء الرسول بدخولهم، ولكنه مضي وقال: (قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده). وكان عمر يعرف مضمون الكتاب، وتناسي عمر انه وحزبه زوار في بيت الرسول، وان من حق المريض ان يقول في بيته ما شاء، وقواعد الادب تفرض علي الزائر ان يلتزم حدوده، لقد تناسي عمر وصحبه ذلك وتصدوا للنبي في بيته، وحالوا بينه وبين ما يريد، تلك حادثه لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشريه!! فعندما مرض ابو بكر قال: قربوا اكتب فقربوا بكل الاحترام، فقال لعثمان: اكتب اني قد وليت عليكم.. واغمي عليه اغمي وانتظروه حتي افاق. كان عمر حاضرا وهو يقول للناس: (ايها الناس اسمعوا واطيعواقول خليفه رسولاللّه) [579] . وعمر نفسه اوصي ولم يعترضه احد. لم يقل عمر: ان ابا بكر هجر، ولم يقل حزب عمر ذلك!! ولم يقولوا: لا حاجه لوصيه ابي بكر حسبنا كتاب اللّه!! ما لهم كيف يصنعون ذلك برسولاللّه!! ماذا بقي من اسلام المسلم عندما يقول للرسول في بيته انت تهجر!! ولسنا بحاجه لكتابك، لان القرآن عندنا وهو يكفينا!! تلك حادثه غريبه لا مثيل لها في تاريخ البشريه. ومع هذا بقي اصحاب هذه الحادثه ابطالا، ولم يتعرضوا للوم لائم!! ان هذا لامر عجاب.
لقد تجاوز قاده التحالف حدود العقل والمنطق، عندما اطلقوا اشاعتهم السادسه فقالوا للرسول نفسه: عندنا القرآن ولا حاجه لنا بكتابك او وصيتك، لان القرآن وحده يكفينا.
لقد اطلق عمر بن الخطاب هذه الاشاعه في بيت الرسول، وامام الرسول، ورددها الحاضرون من حزب عمر، وقد اطلقت مع الاشاعه الخامسه (ان رسولاللّه قد هجر) وتفصيل ذلك ان رسولاللّه اراد ان يلخص الموقف لامته قبل وفاته، لانه علي علم بالفتن التي تتربص بالامه وتنتظر وفاته لتنقض عليها فقال: (قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا)، وما ان اكمل الرسول جملته حتي تصدي له عمربن الخطاب، وقال: ان الرسول قد هجر حسبنا كتاب اللّه. وعلي الفور ردد الحاضرون من حزب عمر ما قاله عمر فقالوا: ان الرسول يهجر وحسبناكتاب اللّه [580] .وصعق من في بيت الرسول من غير حزب عمر فقالوا: قربوا يكتب لكم رسولاللّه، وعمر وحزبه يرددون قولهم الاول، فاختلفوا وتنازعوا وكثر اللغط فقال لهم رسولاللّه: قوموا عني ولا ينبغي عندي تنازع ونجح عمر وحزبه بالحيلوله بينرسولاللّه وبين كتابه ما اراد [581] .
ان ايمان ابو بكر وعمر وعثمان رضي اللّه عنهم بهذه الاشاعه ايمان لا يتزعزع، وهم مقتنعون ان القرآن وحده يكفي، ولا حاجه لحديث رسولاللّه، ولا لوصيه الرسول شخصيا. اما ابو بكر وعمر فقالا هذا الكلام للرسول نفسه، واكداه اثناء توليهما للخلافه، واما عثمان فقد اعطي مفاده للرجلين لانه اقتنع بانهما سينتصران يوما، وان سار في ركابهما سيستفيد فائده عظيمه. والدليل: ان اول عمل عمله ابو بكر بعد ان تسلم الخلافه ان (جمع الناس وقال: انكم تحدثون احاديثا تختلفون فيها، والناس بعدكم اشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسولاللّه شيئا،فمن سالكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب اللّه) [582] .لقد تصور ابو بكر ان سبب الخلاف والاختلاف يكمن في احاديث الرسول، لذلك اصدر امره بعدم نشر احاديث الرسول، وكان هو شخصيا يحتفظ بمجموعه مكتوبه من احاديث الرسول فجمعها واحرقها) لان القرآن وحده يكفي حسب رايه، ولا حاجه لاحاديث الرسول. عمر بن الخطاب طلب من الناس ان ياتوه بما عندهم من احاديث الرسول المكتوبه، وظن الناس انه يريد ان يجمعها ويامر بكتابتها من جديد فاتوه بها، فلما وضعت بين يديه امربحرقها، وحرقت فعلا [583] .ولم يكتف بذلك انما نهي الناس عن الحديث، وفرض علي المحدثين الاقامه الجبريه، وحبس بعضهم بجرم التحديث عن رسولاللّه!!. [584] وما ذلك الا لان عمر مقتنع ان القرآن وحده يكفي، ولا حاجه لما قاله الرسول او ما سيقوله حتي وانكان الرسول موجودا!! [585] .وجاء عثمان فسار علي مسيره صاحبيه، حيث استهل عهده باصدار مرسوم مفاده انه (لا يحل لمسلم يروي حديثا لم يسمعبه في عهد ابي بكر وعمر) [586] . وكان معاويه بن ابي سفيان اكثر وضوحا من الذين سبقوه، حيث دخل بالموضوع مباشره، فاصدر مرسوما ملكيا وجه منه نسخه الي كل عماله: (ان برئت الذمه ممن يروي شيئا بفضل ابي تراب واهل بيته). فغايه الجميع واحده وهي منع روايه وكتابه احاديث الرسول كلها حتي لا يروي الناس شيئا من فضل علي واهل بيت النبوه. وقدر معاويه انه لم يعد هنالك ما يبرر هذه التوريه فدخل بالموضوع مباشره، وحصر المنع بما يعطي حقا او فضائلا لعلي واهل بيت النبوه. اما ابو بكر وعمر وعثمان فقد كانوا يراعون مشاعر المسلمين، ولم يفصحوا عن قصدهم ويوضحوه كما افصح عنه معاويه ووضحه.
كافه الاشاعات السابقه غير منطقيه، واكثرها بعدا عن المنطق هذه الشائعه، فالقرآن يحتاج الي بيان، ومهمه النبي ان يبين للناس ما نزل اليهم من ربهم، وان يوضح المقاصد الالهيه العامه والخاصه من كل نص توضيحا قائما علي الجزم واليقين. ومن هنا كان بيان النبي -اي نبي- جزءا لا يتجزء من المنظومه الالهيه التي اوحاها اللّه لذلك النبي. علي اعتبار ان هذا النبي او ذلك هو الاعلم والافهم، وان بيانه للقواعد الالهيه هو بالضبط عين المقصود الالهي، فالكتاب لا يغني عن الرسول فكلاهما متمم للاخر، وطاعه النبي هي طاعه اللّه، ومعصيه النبي هي معصيه اللّه، فهما وجهان لعمله واحده (وللّه المثلي الاعلي)، فوضع قطعه العمله رسميا بين المتداولين والاشتراط عليهم ان لا ينظروا الا لجهه واحده من العمله امر غير معقول!! ومن جهه ثانيه هذا تفريق بين اللّه ورسوله، وبين الرسول ومعجزته؟! فباي منطق نجعل الدين كتاب اللّه المنزل فقط ونتجاهل كل ما صدر عن نبي اللّه المرسل؟! واذا امكننا فهم ان شخصا لا يريد حديث الرسول الذي ينقل عنه بالروايه!! فكيف تفهم بربك، الشخص الذي يقول للرسول انت تهجر، ولا حاجه لنا بقولك او وصيتك، لان عندنا القرآن وهو يكفينا؟! كيف تفهم شخصا كتب احاديثا عن رسولاللّه، ثمقام باحراقها تحت شعار ان القرآن وحده يكفي؟! [587] .
قصد قاده التحالف من اطلاق هذه الشائعه ان يلقوا بروع المسلمين ان الرسول ليس اكثر من مجتهد يقول برايه في الامور العامه، وان راي الرسول ليس ملزما، ومن حق اي مجتهد آخر ان يتبني اجتهاده الذي يخالف اجتهاد الرسول، ولا حرج علي هذا المجتهد الاخر، فهو ماجور بمخالفته لرسولاللّه سواء اخطا ام اصاب. وهذه الشائعه ثمره طبيعيه للاشاعات السابقه، ونتيجه ملطفه لها.
الرسول صلي اللّه عليه وآله وسلم- كان يقسم المال بين الناس بالسويه، لا فضل في ذلك لمهاجري علي انصاري، ولا لعربي علي عجمي، ولا صريح علي موالي، لان حاجات ابناء البشر الاساسيه متشابهه، وتلك امور تدرك بالعقل وبالفطره السليمه، فجميع ابناء البشر ياكلون ويشربون وينامون ويتزاوجون. ثم ان الرسول لا ينطق عن الهوي، فهو يتبع ما يوحي اليه من ربه، فامر بهذه الخطوره يتلقي فيه التوجيه الالهي، وطوال عهده الشريف وهو يقسم بين المسلمين بالسويه لا يفضل احدا علي احد حتي اصبح عمل الرسول هذا سنه فعليه، وجزءا من المنظومه الالهيه، علي اعتبار انها تشريع من اهم التشريعات الماليه في الاسلام. وعندما قبضت قياده التحالف علي مقاليد الامور لم تقو علي مخالفه هذا التشريع، فطول عهد ابي بكر وهو ملتزم بهذه السنه النبويه الفعليه. ولما تسلم عمر مقاليد الخلافه راي ان سنه الرسول هذه ليست مناسبه، فلا يعقل ان تكون قريش كالانصار!! ولا يعقل ان يكون العرب كالعجم، وان يكون الصريح كالمولي!!، ومن هنا فقد فضل المهاجرين كلهم علي الانصار كلها، وفضل العرب علي العجم، وفضل الصريح علي المولي، واعطي زوجات الرسول عطاء خاصا يفوق التصور والتصديق، وزائدا عن حاجه كل واحده منهن!!! حتي انه لم يساو بالعطاء بين زوجات الرسول نفسه!! فميز بينهن، واعطي بعضهن اكثر من بعض. وتصور عمر ان اسلوبه بتوزيع العطاء هو افضل من اسلوب النبي، ومع الايام اكتشف عمر انه قد غرس في المجتمع المسلم بذور الطبقيه، وانه قد اوجد بعمله هذا الغني الفاحش والفقر المدقع جنبا الي جنب!! فطلحه والزبير وعثمان وابن عوف يملكون الملايين!! وعمار وبلال وعامه الناس يموتون من الجوع!!! ونتيجه عمله هذا اشعل بيديه دون ان يدري نار الصراع القبلي بين ربيعه ومضر، وبين الاوس والخزرج، وبين العرب والعجم،وبين الصريح والمولي [588] . وظلت نيرانه تلك تكبر وتكبر، حتي التهمت المجتمع الاسلامي وافقدته صوابه!!
نجح عمر بالغاء سنه الرسول التي تساوي بين الناس بالعطاء والمستنده الي وحي الهي. ونجح باحلال سنته الشخصيه محل سنه الرسول. وبعد تسع سنين من تطبيق سنته الشخصيه، اكتشف ان رسولاللّه اهدي من عمر، وان سنه رسولاللّه خير من سنه عمر، بعد ان شاهد بعض الاثار المدمره لسنته الشخصيه، التي وضعها بالقوه محل سنه الرسول. واعلن عزمه علي الرجوع الي سنه رسولاللّه!! فقال: (وان عشت هذه السنه، ساويت بين الناس فلم افضل احمر علي اسود، ولا عربيا عليعجمي، وصنعت كما صنع رسولاللّه وابو بكر) [589] .
بمعني ان عمر عندما الغي التسويه بالعطاء كان يعلم انها سنه رسولاللّه، وان صاحبه ابو بكر قد اتبعها، ومع هذا الغي التسويه بالعطاء مع سبق العلم والاصرار، ثم عاد بعد تسع سنين ليفكرباعاده السنه التي عطل احكامها طول تلك المده!!! [590] .
الشارع الحكيم حرم علي آل محمد الصدقه، وجعل لهم حقا في الخمس بوصفهم ذوي قربي النبي (ولذي القربي) «الانفال 41»، وبين الرسول الايه فجعل خمس الخمس لذوي القربيوهم بنو هاشم الذكر منهم والانثي وبنو المطلب [591] .بالاضافه الي يتيم الهاشميين ومسكينهم وابن سبيلهم، والحكمه من هذا التشريع كانت ابراز التمييز لذوي القربي، وسد حاجاتهم بايجاد سبيل لحياه كريمه لهم، ولان الصدقه محرمه عليهم. [592] وبالرغم من وضوح الايه، ومن تواتر بيان النبي لهذه الايه، الا ان عمربن الخطاب ابي ان يعطي بني هاشم كل سهمهم [593] بحجه (ان قريش كلها ذوقربي) [594] .قال ابن عباس: (سهم ذوي القربي لقربي رسولاللّه، قسمه لهم رسولاللّه، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا فرايناهدون حقنا فرددناه عليه، وابينا ان نقبله) [595] . وباختصار شديد، ترك عمر نص الايه المحكمه، وبيان النبي لهذه الايه المتمثل بسنته الشريفه طوال عهده، واتبع رايه لانه اعتقد ان رايه اقرب للعدل كما يراه، واسهل لتحقيق ما يريده لبني هاشم.
من الموكد ان عمر عندما كان علي فراش الموت استعرض بمخيلته كل حماسه واندفاعه، وندم علي ما كان منه، وقال:(ليت ام عمر لم تلده) [596] . ومن الموكد ان عمر علي الاقل اعترف بانه قد اخطا عندما رفع حكم اللّه، والغي سنه رسولاللّه التي ساوت بين الناس في العطاء، ووضع بدلا منهما سنته الشخصيه التي فضلت بالعطاء، وعبر عن هذا الندم بقوله: (ان عشت هذه السنه ساويت بين الناس، وصنعت كما صنع رسولاللّه وابو بكر).
علي الرغم من ندم الخليفه عمر علي تعطيله لحكم اللّه، وعلي الغائه لسنه رسولاللّه، واعلانه لهذا الندم، واعترافه بخطا ما فعل او اجتهد برايهم، فانهم بعد مماته اخذوا يزدادون بحب الرجل، ويلتمسون له اعذارا عجيبه لا يقرها العقل. يقول القوشجي في معرض اعتذاره عن رفع سنه اللّه التي تامر بالمساواه بين الناس في العطاء، واعطاء خمس الخمس لبني هاشم وبني المطلب، واحلال سنه عمر التي تقضي بالمفاضله بدلا من المساواه بين الناس، ومنع الهاشميين حقهم يقول: (واجيب عن هذه الوجوه بان ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه، فانه من مخالفه المجتهد لغيره في المسائل الاجتهاديه) [597] .
معني ذلك ان الرسول عندما اعطي الناس بالسويه خلال عهده الراشد كله، فعل ذلك كمجتهد، وان مساواه الرسول للناس بالعطاء هي من قبيل الاجتهاد الشخصي من رسولاللّه كذلك فانه عندما اعطي الخمس لذوي القربي لم يفعل ذلك تطبيقا للايه القرآنيه، انما فعل ذلك بوصفه مجتهدا!! وعندما آلت الخلافه الي عمر قرر العدول عن اجتهاد الرسول، وايجاد اجتهاد بديل منه، راي عمر انه افضل!! وهذا العمل لا يشكل قدحا في عمر باي وجه من الوجوه، لانه من قبيل مخالفه مجتهد وهو عمر لمجتهد آخر وهو رسولاللّه!! ولا حرج علي عمر من مخالفته لرسولاللّه، لان كلاهمامجتهد!!! [598] .قال ابن ابي الحديد: (لم يخرج عمر بحكمه عن طريق الاجتهاد وما ادي اليه اجتهاده)!! وقال في معرض اعتذاره عن تخلف ابي بكر وعمر عن جيش اسامه: (ان الرسول كان يبعث السراياعن اجتهاد لا عن وحي يحرم مخالفته) [599] .وباختصار لقد تحولت تلك الاشاعه الي قناعه عامه، وصار الرسول مجرد مجتهد، ليس الا، ومن حق الخليفه المتغلب في اي زمان، ان ياتي باجتهاد يغاير اجتهاد الرسول. ويبدو ان مزيه التنافس بين النبي المجتهد وبين غيره محصوره بالخلفاء الثلاثه ابو بكر وعمر خاصه وعثمان بدرجه اقل، وبمستوي ادني ملوك بني اميه بوصفهم صحابه كرام!!! واخيرا برايهم ان النبي مجتهد، والقاعده العامه: ان المجتهد ماجور اخطا ام اصاب، والفرق ان المصيب له اجران وللمخطيء اجر واحد، ومن حق المجتهد، اي مجتهد ان يخالف مجتهداآخر!! [600] .والاهم من ذلك ان الاجتهاد وارد حتي في العبادات فزيادهالاذان الثالث يوم الجمعه من قبيل الاجتهاد!! [601] .والاجتهاد قد يقع في حد من حدود اللّه، قال القوشجي في معرض الاعتذار عن اسقاط عثمان القود عن عبيداللّهبن عمر: (انه اجتهد وراي انه لا يلزمه حكم هذا القتل، لانه وقع قبلعقد الامامه له) [602] .والاجتهاد قد يستفيد منه اعداء اللّه، فالحكمبن العاص عدو للّه كان يوذي رسولاللّه في الجاهليه والاسلام، لعنه الرسول، ولعناولاده [603] .واصدر الرسول اوامره بتغريب الحكم وولده، وقال: (لا يساكنني ولا ولده)، وعندما تولي ابو بكر الخلافه راجعه عثمان للسماح بعوده الحكمبن العاص فرفض ابو بكر، وبعد توليه عمر راجعه عثمان لنفس الغايه فرفض عمر، وعندما تولي عثمان الخلافه ادخله معززا مكرما، والبسه جبه من طيلسان [604] واعطاهصدقات المسلمين البالغه 300 الف درهم [605] .ولما مات الحكم ضرب عثمان علي قبره فسطاطا [606] .حزنا عليه، ولما قيل لشيعه عثمان: لم فعل عثمان ذلك؟ قالوا:(اداه اجتهاده الي ذلك لان الاحوال تتغير) [607] .روي الحاكم عن عبدالرحمنبن عوف قال: (كان لا يولد لاحد مولود الا اتي به النبي فدعا له، فادخل عليه مروانبن الحكم فقال الرسول: (هذا الوزع بن الوزع الملعونبنالملعون) [608] .ومع هذا اصبح هذا الولد بالاجتهاد رئيسا لوزراء المسلمين!!! واعطي هذا الولد فدكا، وهي التي اخذت من بنترسولاللّه!! [609] . كل هذه التناقضات قد جرت بدعوي الاجتهاد!!! وكثمره من ثمرات الشائعات التي اطلقها قاده التحالف، والتي تظافرت معا وخلقت وضعا حقوقيا لا مثيل له!! وعلي فرض ان الرسول قد قال للناس: (ان عليبن ابي طالب هو وليكم من بعدي و... الخ)، فاقوال الرسول هذه ليست ملزمه للاسباب الوارده وبالشائعات الانفه الذكر، وان اقوال الرسول من قبيل الاجتهاد، وليست وحيا يحرم مخالفته!!! وهذه هي المرامي البعيده لتلك الشائعه المشوومه.
1- الرسول لم يستخلف احدا انما خلي علي الناس امرهم. 2- الرسول لم يجمع القرآن والخلفاء الثلاثه هم الذين جمعوه.
اطلقت هاتان الاشاعتان معا ومفادهما الترك، فعلي المستوي القيادي فان رسولاللّه قد خلي للناس امرهم، ولم يستخلف احدا من بعده لا عليبن ابي طالب ولا غيره، بل ترك امته بلا راع ولا قائد، ولا بين لها كيف تختار ولا من تختار. فجاء الخلفاء الثلاثه ورتبوا امر القياده من بعد النبي وتلافوا بعبقريتهم الفذه ما اغفله النبي!! هذا علي الصعيد القيادي. اما علي الصعيد القانوني فان الرسول قد انتقل الي جوار ربه، وترك القرآن في صدور الرجال ولم يجمعه، وخشي الخلفاء الثلاثه ان يضيع القرآن بعد ان يقتل حفظته او يموتوا، لذلك شمروا عن سواعدهم وجمعوا القرآن، ولولا بعد نظر اولئك الخلفاء لضاع القرآن واندثر، وهكذا تلافي الخلفاء العباقره ما اغفله النبي، وبخطوتهم المباركه حفظوا القرآن من الضياع!!
1 - اثبات شائعه ترك الرسول للامه دون راع كقول ابي بكر: (ان اللّه بعث محمدا نبيا، وللمومنين وليا، فمن اللّه تعالي بمقامه بين اظهرنا حتي اختار اللّه له ما عنده، فخلي علي الناس امرهم ليختاروا لانفسهم ما فيه مصلحتهم متفقين لا مختلفين،فاختاروني عليهم وليا ولامورهم راعيا..) [610] .فابو بكر هو اول من اشاع بان الرسول قد خلي علي الناس امرهم، اي ترك امته بعده بغير راع وترك للامه حريه اختيار هذا الراعي في ما بعد، وبيان كيفيه اختيارهم له!! وجاء في تاريخ الطبري ان ابا بكر قال في مرضه الذي توفي منه: (ووددت اني سالت رسولاللّه لمن هذا الامر فلا ينازعه احد؟!! ووددت اني كنت سالته هل للانصار في هذا الامرنصيب؟!) [611] . فابو بكر يوكد هنا صحه هذه الشائعه.
اخرج ابو نعيم في حليته، ومسلم في صحيحه، والبخاري في صحيحه، والبيهقي في سننه، وابن الجوزي في سيره عمر ما يلي: (ان ابن عمر قال لابيه: ان الناس يتحدثون انك غير مستخلف، ولو كان لك راعي ابل او راعي غنم، ثم جاء وترك رعيته، رايت انه قد فرط، ورعيه الناس اشد من رعايه الابل والغنم!! ماذا تقول للّه عز وجل اذا لقيته ولم تستخلف علي عباده؟ قال ابن عمر: فاصابته كابه، ثم نكس راسه طويلا ثم رفع راسه وقال: واي ذلك افعل فقد سن لي (ان لم استخلف فان رسولاللّه لميستخلف، وان استخلف فقد استخلف ابو بكر)!! [612] .وانت تلاحظ ان عمر قد جعل فعل ابي بكر سنه، وجعل فعل النبي سنه، واعطي نفسه صلاحيه اتباع اي السنتين ولم يفرق بينهما!! وقد توصل الي هذه النتيجه بعد تفكير طويل، والحديث مروي عن ابنه، ورواه الثقات من شيعه الخليفتين!! وعمر يوكد في هذا الحديث بان الرسول لم يستخلف!! وروي المسعودي في مروج الذهب ان عبد اللّه بن عمر دخل علي عمربن الخطاب وهو يجود بانفاسه، فقال له: (يا امير المومنين استخلف علي امه محمد، فانه لو جاءك راعي ابلك او غنمك، وترك ابله او غنمه لا راعي لها للمته، وقلت له: كيف تركت امانتك ضائعه؟ فكيف يا امير المومنين بامه محمد؟) فاجابه عمر: (ان ادع فقد ودع من هو خير مني -يعني الرسول- وان استخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني ابابكر-) [613] .فعمر يصرح بان الرسول لم يستخلف، ويساوي بتصريحه هذا بين فعل ابي بكر وفعل الرسول!! وروي ابن قتيبه في الامامه والسياسه ص22 ان عمر لما احس بالموت قال لابنه عبداللّه: (اذهب الي عائشه واقرئها السلام، واستاذنها ان اقبر مع رسولاللّه ومع ابي بكر. فاتاها عبد اللّه، فاعلمها فقالت: حبا وكرامه، ثم قالت: يا بني ابلغ عمر سلامي وقل له لا تدع امه محمد بلا راع.. استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فاني اخشي عليهم الفتنه!! فاتي عبداللّه عمر فاعلمه فقال عمر: ومن تامرني ان استخلف لو ادركت..الخ) [614] .واخرج البلاذري في انساب الاشراف عن ابن عباس قال: (قال: عمر لا ادري ما اصنع بامه محمد وذلك قبل ان يطعن؟ فقلت:ولم تهتم وانت تجد من تستخلفه؟...) [615] .
راجت الشائعه التي روجها قاده التخالف، وقد اتضح ان اول من اطلقها هو ابو بكر وعمر وبفضل وسائل اعلام التحالف التي كانت تحت سيطره قيادات التحالف طوال التاريخ، تحولت هذه الشائعه الي قناعه آمنت بها الاكثريه الساحقه، لانها صدرت عن ابي بكر وعمر وهما فوق الشبهات. وقد راينا ان عبد اللّه بن عمر وصف حاله ترك الامه بدون راع بانها تضييع للامانه، وانها تفريط، وانها محل لوم يترفع عن الوقوع فيها راعي الابل او راعي الغنم، وان ترك الامه بدون راع يعني تركهم هملا علي حد تعبير عائشه، ويودي الي الفتنه حسب توقع ام المومنين!!! فهل يعقل بربكم ان يكون راعي الغنم او الابل او عبد اللّه ابن عمر او ام المومنين ابعد نظرا، وادرك لعواقب الامور من رسولاللّه وهو صفوه الجنس البشري؟!! وهل يعقل ان يكون ابن عمر او ابوه او ام المومنين او ابن ابي قحافه اكثر رحمه من النبي بامته!!! ثم فكره ترك الرسول للامه دون ان يعين خليفه من بعده، او يبين علي الاقل طريقه تعيينه، فكره تتعارض مع كمال الدين وتمام النعمه!! وهل يعقل ان يبين الرسول المهم ويتركالاهم!!! [616] .
اخرج الطبري في الرياض النضره كما اخرج ابو ذر عن ابن عمر انه قال: (لما طعن عمر قلت: يا امير المومنين لو اجهدت نفسك وامرت عليهم رجلا؟.. فقال عمر: (والذي نفسي بيده لاردنها للذي دفعها الي اول مره) ويقصد به عثمان حيث كلفه ابو بكر بكتابه عهده فقال لعثمان: اكتب (اني قد وليت عليكم... ثم اغمي علي ابي بكر من شده الوجع فكتب عثمان (عمر)، اي اكملها عثمان من تلقاء نفسه، ولما افاق ابو بكر طلب من عثمان ان يقرا له ما كتب، فسر الخليفه وقال لعثمان: (لو كتبت نفسك لكنت اهلا لها)، بمعني ان الذي ردها اليه هو عثمان وبالفعل فقد بر الخليفه بقسمه فولي عثمان عمليا بالرغم من (الديكور) او طريقه الاخراج.
المدهش انه اذا كان رسولاللّه قد ترك الناس ولا راعي، او بتعبيرهم خلي علي الناس امرهم، فلماذا لم يقتد الخليفتان بمحمد؟! ولماذا لم يخليا علي الناس امرهم!! فقد استخلف ابو بكر عمر، واستخلف عمر عثمان عمليا والسته نظريا؟!!! ومن العجب العجاب ان عمليه استخلاف ابي بكر لعمر، واستخلاف عمر لعثمان تمت بامر الرجلين وهما علي فراش الموت، فابو بكر يامر والرعيه تنفذ، وعمر يامر، والرعيه تجري وتنفذ وصيته كانها نص الهي. وبالمناسبه لست ادري لماذا لم يعامل الرسول بمثل هذه المعامله، ولم يحترم مثل هذا الاحترام!! فما ان قال الرسول: (قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا)، حتي تصدي له عمر وحزبه فقال: ان الرسول قد هجر حسبنا كتاب اللّه!!! انه من العجب العجاب حقا ان تعلو مكانه الخليفه علي مكانه النبي، وان يكرم الصحابي اكثر مما يكرم النبي، ومع هذا لا احد يعتذر!! ولا احد يقف عند هذه القاصمه، ولا احد يوجه اي لوم لفاعليها!!
وقد اشاعوا ان النبي لم يكتف بترك امته ولا راعي لها فحسب، انما ترك معجزته العظمي وهي القرآن دون جمع ولا كتابه، ولولا الخلفاء الثلاثه لضاع القرآن واندثر، فاضطروا ان يشمروا عن سواعدهم وان يجمعوا القرآن، وقد اثبتنا عدم صحه هذه الاشاعه بكتابنا الخطط السياسيه لتوحيد الامه الاسلاميه ص45.
الشائعات التسع التي اطلقها قاده التحالف تشكل في حقيقتها ومرماها تقاطيع نظريه جديده متداعيه، تكشف طبيعه قاعده التحالف واسلوب عملهم، وتصورهم لمستقبل الاسلام، وكل شائعه من هذه الشائعات ترمي هدفا قصده قاده التحالف.
فقاده التحالف يعتقدون ان محمدا نبي ورسول، ولا يجدي انكار هذا الاعتقاد فقد حاربته بطون قريش 23عاما لصرف شرف النبوه عن محمد الهاشمي، وكلما قاومت البطون هذا الشرف كلما ترسخ اكثر، ولا مصلحه لقاده التحالف الان الا بنبوه محمد القرشي الذي نجح بتاسيس ملك، وما عليهم الا ان يحسنوا اقتناص الفرص ليرثوا ابن البطون محمد بهذا الملك. وقاده التحالف ايضا يعتقدون ان القرآن الكريم من عند اللّه، اذ لا جدوي من انكار هذه الحقيقه، ولا مصلحه لهم بانكارها. فاذا انكر قاده التحالف نبوه محمد، وانكروا القرآن، انفض العرب من حولهم بعد موت النبي، وتبخرت احلامهم بوراثه ملك العرب عن محمد!!! هذه طبيعه دين قياده تجمع التحالف، وهو دين قائم علي المصلحه، ومختلط باحلام ملك قريش. وهذا هو الاساس الاول للوحده العجيبه التي جمعت ابا بكر وعمر ومعاويه وابا سفيان وطلحه وعمروبن العاص وخالد وعكرمهبن ابي جهل وسهيلبن عمرو وعثمان، فصار اعداء الامس احباب اليوم!!!
البطن الهاشمي ليس غريبا علي بطون قريش، فهاشم وعبد المطلب، وابو طالب، كلهم اسياد ومن خيره شيوخ الوادي علي حد تعبير ابي سفيان، وبكل الموازين فان البطن الهاشمي هو احد بطون قريش، والبطون اخوه لا فرق بينهم، وقد بدا الهاشميون الخصام والقطيعه فلم يقبلوا ان يسيروا مع اخوانهم بطون قريش ال24 انما انفردوا وشذوا عن البطون ورغبوا بالتميز عنهم، وادعي احدهم النبوه وهو محمد، فاضطرت بطون قريش مجتمعه ان تقف ضده، وان تقاومه وتحاربه طوال 23عاما، ولكن الهاشميين انتصروا وتميزوا عن البطون بالنبوه، وها هي البطون اخيرا مجتمعه تعترف بمحمد الهاشمي كنبي، فمن الحكمه ان تقف مطامع الهاشميين عند حد معين، وان يكتفوا بتميزهم بالنبوه!! ولكن قاده التحالف يلاحظون ان محمدا والهاشميين لا يقفون عند حد معين، فمحمد يقدم ابن عمه عليبن ابي طالب للامه ليكون الامام والقائد والمرجع من بعده، ويقول محمد: ان اللّه هو الذي امره باختيار علي للقياده والامامه والمرجعيه من بعده!! وهذا امر لا تقبله البطون، فمن غير المعقول ان النبي من بني هاشم وان يكون خليفته من بني هاشم!! هذا امر يفوق التصور والتصديق!! ولا يكتفي محمد بذلك، انما يعطي اهل بيته دورا مميزا وابديا. وها هو محمد يقول: بان الهدايه لا تدركها الامه الا بالقرآن وبعترته اهل بيته معا، وليس بامكان الامه ان تتجنب الضلاله الا بالقرآن وباهل بيته معا!!، والكارثه ان محمدا يقول: بان اللّه قد امره باعلان ذلك. فاذا نجح محمد بمخططه هذا فان الهاشميين سيحصلون علي الملك والنبوه معا وينالون الشرفين، ويحرمون البطون من هذين الشرفين معا!!! فمن غير الممكن ان يامر اللّه بذلك وان يخص الهاشميين بالنبوه والملك معا!! ومن غير الممكن ان يعطي اهل بيت محمد من دون البيوت دورا مميزا في الامه!!! ان هذا هو الاجحاف بعينه.
وقد اتفقت بطون قريش، المهاجر منها والطليق، علي ان توجهات محمد ليست معقوله، وليست وديه، وفيها شيء من الاجحاف اذ ليس من العدل والانصاف ان ينال الهاشميون شرف النبوه والملك وحدهم، ولكن الانصاف والصواب والعدل يتحقق بترك النبوه خالصه لبني هاشم، لا ينازعهم فيها احد من البطون، وان يترك الهاشميون الملك او الخلافه للبطون لتتداولها بينها، وعلي هذا اجمعت بطون قريش، المهاجر منها والطليق، وسلمت امرها لعمربن الخطاب ولاخيه ابي بكر، فهما صهرا الرسول، وهما مهاجران، وليسا موضع شبهه، وكان عمر بن الخطاب مهندس هذا الحل، ومنظر النظريه برمتها، واحد الذين فتنوا بعبقريه هذا الحل واعظم المخلصين له.
منافقوا المدينه وما حولها من الاعراب ومنافقوا مكه -لعنهم اللّه جميعا- كافرون بنبوه محمد، وكافرون بكل ما جاء به محمد، وقد اظهروا الاسلام نفاقا اما قلوبهم فهي تغلي بالكراهيه والحقد علي محمد وعلي آل محمد، وفكره القضاء علي محمد مستحيله، وفكره القضاء علي دين الاسلام اكثر استحاله، وحيث ان بطون قريش قد قررت بالاجماع الاتحاد ضد آل محمد، ورفض ترتيبات محمد لعصر ما بعد النبوه، فتلك فرصه المنافقين الذهبيه للانتقام من آل محمد، ودحرهم عن مركز القياده، وللقضاء علي دين محمد، وذلك بتخريب الجانب السياسي منه، هذا هو السبب بالتفاف كل المنافقين حول قياده التحالف، واخلاصهم لقضيه قاده التحالف، وهذا هو السبب الذي ادي لذوبان النفاق بالتحالف، وتستره به، واختفاء كلمه النفاق من المسرح السياسي بعد موت النبي!!
علاوه علي الحركه التنظيميه للتحالف، وعلاوه علي وحده الهدف، فقد اتفق قاده التحالف علي التشكيك بذات الرسول، وبعقله، وبقوله، وبرويته للمستقبل، فزعموا ان كل اقوال الرسول لا ينبغي ان تحمل علي محمل الجد، لانه بشر معرض للخطا للصواب ويتكلم بالغضب والرضي. وقد وثقنا هذا الزعم عند معالجه الشائعه الاولي، والدليل انه يفقد السيطره علي اعصابه فيشتم الناس ويسبهم ويلعنهم بدون ذنب ولا سبب، وقد وثقنا هذا الزعم عند معالجه الشائعه الثانيه، ومما يزيد المخاوف ان النبي احيانا يخيل اليه انه يفعل الشيء وما فعله!!! وقد وثقنا هذا الزعم عند استعراض الشائعه الثالثه، والادهي ان السن قد اثر عليه حتي انه يسقط احيانا من القرآن الكريم، وقد وثقنا ذلك عند طرح الاشاعه الرابعه، والمخيف بالرسول انه يهجر، فيطلق الفاظه واقواله دون ان يكون مالكا لقواه العقليه!! واجمعت الامه علي واقعه صدور هذا اللفظ من عمر بن الخطاب، والرسول لا يهتم بمصلحه الامه، حتي انه مات وترك امته بدون راع، والقرآن وهو برهان نبوته تركه بدون جمع!!! كل هذه العيوب التي تضمنتها الشائعات الفاسده تلقي ظلالا كثيفه من الشك بكل ما قاله النبي، وبكل ما وصي به، وكل ما صدر منه خاصه في الجانب المتعلق بالقياده من بعده، وتهيب باصحاب الهمه لينقذوا الاسلام من هذا الرجل، ويخططوا لمستقبل الاسلام نيابه عنه!!! فالنبي في احسن الاحوال ليس اكثر من مجتهد قد يصيب قوله وقد يخطيء، وقد من اللّه علي الامه بمئات المجتهدين كعمر وابي بكر رضي اللّه عنهما، حيث ينظران فما وافق الصواب من كلام الرسول اقره المجتهدون، وما خالف الصواب تركاه واجتهدا غيره، ولحسن حظ الاسلام ان القرآن موجود فالقرآن وحده يكفي، ولا حاجه لتوجيهات او اقوال شخص كالرسول مشكوك بكل اقواله!!! وقد حقق هذا اهدافه كامله، وسهل لقاده التحالف في ما بعد ان يحولوا اشاعاتهم الي قناعات، وان يحرقوا المكتوب من احاديث الرسول، وان يمنعوا تداول هذه الاحاديث منعا باتا، وقد اجمعوا علي ذلك حتي وصل الامر باحد قاده التحالف ان اصدر مرسوما يقضي باباحه دم من يروي شيئا من فضل عليبن ابي طالب او اهل بيته؟
وهكذا اخرج النبي بذاته وقوله وفعله من ساحه التاثير علي مسرح الاحداث، وليبقي التحالف داخل دائره الاسلام الكبري، رافعا شعار: (حسبنا كتاب اللّه)، اي ان كتاب اللّه وحده يكفي ولا حاجه لاي قول آخر. ولقد ادرك التحالف انه لا بد من قياده تسوس التحالف، وتقوده الي تحقيق اهدافه، رافعه بوجه النبي شعار (حسبنا كتاب اللّه). وساقت العنايه الالهيه ابا بكر وعمر وعثمان ويزيد ومعاويه ابناء ابي سفيان وعمروبن العاص وخالدبن الوليد وغيرهم ليقودوا ويوجهوا سفينه الاسلام كقياده موازيه لقياده الرسول اثناء حياته، وكقياده مستقبليه لعصر ما بعد النبوه بالتعاون والتكاتف مع منافقي المدينه، وما حولها من الاعراب، ومع بطون قريش مهاجرها وطليقها الذين اصلحهم اللّه بيوم وليله، وجمعهم علي هدف واحد وهو الحيلوله بين آل محمد وحقهم الشرعي بالقياده والتميز. وهكذا صار القرآن نظريا هو الدستور الوحيد لهذا التحالف، وابعد قول الرسول وفعله وتقريره وبالنهايه استبعد الرسول نفسه وقالوا انه (حاشا له): يهجر. ولضمان وحده التحالف وجدت قياده موازيه لقياده الرسول اثناء حياته ولتنفرد بالحكم بعد وفاته.
واستقطب قاده التحالف حول شائعاتهم جمهورا كبير يتعاطف مع تلك الشائعات ويومن بها، ويسعي لتطبيقها، ومقتنع ان القرآن وحده يكفي، ولا حاجه لا لحديث الرسول ولا لفعله ولا لتقريره، ومقتنع انه ليس من العدل والانصاف ان يجمع الهاشميون النبوه والملك معا، وعلي هذا اجمعت قياده التحالف وقاعدته المكونه من بطون قريش، مهاجرها وطليقها، مسلمها ومنافقها، وعلي هذا اجمعت قاعده التحالف وجمهورها المكون من ابناء بطون قريش جميعا الا الهاشميين، وبني المطلب ومن عصم اللّه، ومن منافقي المدينه ومن حولها من الاعراب، ومن المرتزقه من الاعراب الذين لا هم لهم الا المغنم.
صار التحالف دوله داخل دوله، له عيونه والمتعاطفون معه حتي في داخل دار النبي نفسه، وصارت قياده ظل مع وجود القياده الشرعيه، فاذا انتقل النبي الي جوار ربه يتسلم التحالف السلطه بيسر وسهوله.
محمد رسولاللّه بلغ الرساله، وهي القرآن الكريم، هذا القرآن وحده يكفي الامه، لانه كلام اللّه الذي بين كل شيء، ولا حاجه لحديث الرسول لانه يورث الخلاف، ولا لفعل الرسول ولا لتقريره، فهو بشر!! فمن يترك رب البشر ويتمسك بالبشر!! والنبوه تكفي الهاشميين!!، ولا حاجه لتميز اهل بيت النبوه بحجه انهم اقارب الرسول، فبطون قريش كلها ذوو قرباه ومشيخه بطون قريش اولي بمحمد!!، والامر شوري.
واقعيا عزل المومنون الصادقون وصاروا اقليه، وفوجووا بما يجري، فاما ان يسيروا بمعاكسه التيار العام فيخسروا مصالحهم، ويقفوا وجها لوجه امام سلطه حقيقيه تملك المال والدور والقوه، وقد يخسرون حياتهم ودينهم، واما ان يسلموا ما سلم الاسلام، وما سلمت امور الناس ما داموا ضمن دائره التوحيد، وراوا ان الحل الاخير انسب واسلم، حتي يجعل اللّه للامر مخرجا، ويزول الالتباس بين الحق والباطل. وقد فهم المومنون الصادقون ان الحقد علي آل محمد وكراهيتهم هو محور التحالف وقاعدته، وان اقصاء اهل بيت محمد عن حقهم بقياده الامه هو الهدف المشترك للتحالف. وقد لاحظ المومنون الصادقون ان بطون قريش ومن خلفها اكثريه العرب قد اتحدت ضد علي واهل بيت النبوه لتصرف عنهم القياده، كما اتحدت ضد النبي وبني هاشم لتصرف عنهم النبوه، فسالت نفوس المومنين الصادقين حسرات، وادركوا ان جرح الاسلام خطير، وان المعالجه اشد خطوره.
لو ان قياده التحالف رضيت باللّه ورسوله، وقبلت ما اختاره اللّه ورسوله ما اختلف علي عليبن ابي طالب ولا علي اهل بيته اثنان، ولما تجرا احد علي نقض الترتيبات الالهيه، ولرافق تنصيب علي موت النبي، وصارا بمثابه خطوه تلي خطوه بلا رجه ولا هزه، ولكن قياده البطون جرات الناس علي الترتيبات الالهيه، وجهرت بالطعن فيها، وكتلت الناس لالغائها، وشككت برسولاللّه نفسه، وبقوله وفعله وتقريره، واستبعدت ان تكون كل اقوال الرسول من اللّه تعالي، ثم واجهته شخصيا وقالوا للرسول: انت تهجر، فاستخف الناس بالترتيبات الالهيه، واغتنم المنافقون واعداء الاسلام الفرصه وهم كثر، فالتفوا حول قياده التحالف وشجعوهم ليمضوا قدما بالتفريق بين الرسول وبين القرآن، وبين الامه وبين قيادتها الشرعيه، وبين الترتيبات الالهيه وحظها من التطبيق، واعلن الجميع انهم مجتهدون ضمن دائره التوحيد والاسلام الكبري!! وهكذا كان.
اكثريه قاده التحالف من بطون قريش، فقد اتفقت بطون قريش كلها باستثناء البطن الهاشمي وبطن بني المطلب علي الحيلوله بين الهاشميين وبين قياده الامه بعد وفاه النبي، وعلي الاتحاد ضد علي وضد توجهات النبي، ولكن هذه المره تحت مظله الاسلام. ومن هنا وقف الذين اسلموا وهاجروا من بطون قريش مع الذين اسلموا من البطون يوم الفتح وقفه رجل واحد، للمحافظه علي بنيه البطون القريشيه وشرفها وحقها المهظوم!! واختار تحالف البطون قياده جديده تتالف من مهاجري البطون وطلقائها، وتم الاتفاق علي تسليم قياده التحالف الي مهاجري البطون وتقديم المهاجرين الي الصف الاول، ويبقي الطلقاء في الصف الثاني، حتي لا يثيروا انتباه العامه، وسواد الامه!! وهكذا تكونت قياده البطون من خليتين.
وتتالف من عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد، وكلاهما من بني عدي، ومن ابي بكر الصديق وطلحهبن عبيداللّه، وكلاهما من بني تيم، ومن ابي عبيده عامربن الجراح، وهو من بني الحارثبن فهر، ومن الزبيربن العوام وهو من بني اسد بن عبد العزي. ومن عبدالرحمنبن عوف وسعدبن ابي وقاص، وكلاهما من بني زهرهبن كلاب، ومن عثمانبن عفان وعمروبن العاص، وكلاهما من بني اميه، ومن خالدبن الوليد وهو من بني مخزوم. قال عمر بن الخطاب في ما بعد: ان رسولاللّه قد انتقل الي جوار ربه وهو راض عن هولاء جميعا، وقد اشتهرت هذه الخليه في ما بعد بان رجالاتها جميعا باستثناء خالدبن الوليد وعمروبنالعاص من المبشرين بالجنه [617] .وتم التركيز علي ان هولاء هم المبشرون بالجنه من دون الناس، واهملت مئات النصوص التي بشرت غيرهم بالجنه، واهملت وسائل الاعلام في ما بعد سادات اهل الجنه: (النبي،وعلي، وجعفر، وحمزه، والحسن، والحسين) [618] . علي اي حال لقد برزت هذه الخليه، وفرضت رايها فرضا من اللحظه التي مرض فيها رسولاللّه، وواجهت الرسول نفسه، وحالت بينه وبين كتابه ما يريد، وقالت له وجها لوجه: انت تهجر!! [619] ، وبعد ذلك عينت حاكمها الجديد وسمته خليفه النبي، فكان الخليفه منهم، والنائبان منهم. وعندما مرض ابو بكر عهد بالخلافه لعمربن الخطاب، وعندما مرض عمر عهد بالخلافه لعثمان عمليا وسمي سته قدر ان الخلافه لا تصلح الا لواحد منهم، وحقيقه مقصده انه اراد ان يكثر منافسي علي واهل بيت النبوه علي رئاسه الامه، ليبقي دائما طالب للخلافه ومنافس لاهل بيت النبوه، وقد عالجنا هذا الموضوع في كتبنا النظام السياسي في الاسلام، ونظريه عداله الصحابه والمرجعيه السياسيه في الاسلام، وكتابنا الخطط السياسيه لتوحيد الامه الاسلاميه، ووثقنا كل كلمه قلناها. هذه الخليه تمثل وحده بطون قريش، وقد بايعت بالاجماع عمربن الخطاب وابا بكر ليكونا رئيساها. ولا بد من الاشاره بان الخليه لم تضم الزبير اولا لانه كان يتعاطف مع اخواله بني هاشم وكان في صفهم، ولما برز ابنه عبداللّه وناصب اهل بيت النبوه العداء، تمكن من جر ابيه الي الصف المعادي لاهل بيت النبوه. ولا بد من الاشاره ايضا الي ان خالدبن الوليد وعمروبن العاص كانا همزه الوصل بين المهاجرين من بطون قريش وبين الطلقاء، وقد هندسوا بالتعاون مع يزيد ومعاويه اركان التحالف والوفاق بين هذين الفريقين حتي اتحدت قريش ضد الولي وبني هاشم تماما كما اتحدت ضد النبي وبني هاشم، والفرق انهم في المره الاولي اتحدوا تحت مظلله الشرك، وهم يتحدون الان تحت مظله الاسلام.
يزيد بن ابي سفيان، ومعاويه بن ابي سفيان، والحكم بن العاص بن اميه بن عبد شمس، ومروان بن الحكم بن العاص، والوليد بن عقبه بن معيط، وعبداللّه بن سعد بن ابي سرح العامري، وعبد اللّه بن عامر بن كريز الاموي، وعكرمه بن ابي جهل، وصفوان بن اميه، وسهيل بن عمرو، وغيرهم من سادات بطون قريش وابناء ساداتهم الذين قادوا جبهه الشرك وقاوموا النبي وحاربوه بكل وسائل المقاومه وفنون الحرب، حتي احيط بهم واسلموا يوم الفتح مكرهين.
وهكذا اتحدت بطون قريش في الاسلام ضد الولي عليبن ابي طالب وضد الهاشميين تماما كما اتحدت بطون قريش في الجاهليه ضد النبي وضد بني هاشم، والفرق بين الحالتين انهم عندما اتحدوا ضد النبي اتحدوا تحت مظله وخيمه الشرك وعندما اتحدوا ضد الولي اتحدوا تحت مظله وخيمه الاسلام. اشار الامام علي الي واقعه الاتحاد هذه بقوله: (اللهم اني استعينك علي قريش ومن اعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، واجمعوا علي منازعتي امرا هولي) [620] .
بمعني ان سادات البطون الذين حاربوا النبي، ثم اسلموا يوم الفتح، والمهاجرون من ابناء البطون الذين اسلموا قبل الفتح، وحاربوا مع النبي صاروا فريقا واحدا وصاروا هم العمود الفقري ومركز التدبير والتخطيط للتحالف الذي قام بين بطون قريش وبين المنافقين والمرتزقه من الاعراب وطلاب الجاه والدنيا من الانصار، وساعد سادات البطون اشخاص متنفذون من المنافقين والاعراب.
يتساءل الانسان المحايد عن مصلحه هذا الفريق الواحد من انحراف مسيره الاسلام، ومن الاهتمام برسم معالم القياده بعد وفاه النبي، فيخطر علي البال: ربما كان لهذا الفريق الواحد دور مميز في معارك الايمان التي جرت في عهد النبوه المجيد؟ لقد قلنا ان قياده هذا الفريق قد تكونت من خليتين: الخليه الاولي تتكون من التسعه الذين عرفوا بانهم مبشرون في الجنه، والخليه الثانيه تتكون من سادات قريش الذين اسلموا يوم الفتح، وقلنا ان الاساس الذي قام عليه الاتفاق بين الخليتين هو الاجماع علي صرف مركز القياده عن اهل بيت النبوه!! وللاجابه علي السوال الذي طرحناه نتناول الخليه الاولي المكونه من التسعه المبشرين بالجنه، ونبحث عن ادوار مميزه لهم في المعارك التي جرت في عهد النبوه. كانت معركه بدر اعظم معركه واول معركه، ومع ان التاريخ قد كتبه قوم يتشيعون لرجالات الخليه الاولي، الا اننا لا نري لاي رجل من رجالات هذه الخليه دورا مميزا في هذه المعركه، فرئيس هذه المجموعه عمربن الخطاب -رضي اللّه عنه- لم يرو احد بانه قد قتل رجلا واحدا من المشركين، صحيح ان الواقدي قد روي ان عمر قد قتل خاله العاصبن هشامبن المغيره، وبالتتابع قال الواقدي: ان عماربن ياسر هو الذي قتل العاص، ثم قال: ويقال ان الذي قتله هو علي (عليهالسلام) [621] . مما يعني ان روايه ان عمر قد قتل خاله غير صحيحه لانها تتعارض مع مسيره عمر، ومع نسيجه النفسي، ومع طبيعه بني عدي التي لم تالف القتال، ومع ان بني عدي قد خرجوا مع بطون قريش تحت الضغط الشعبي لملاقاه محمد في بدر الا ان بني عدي رجعوا من الطريق، فقال لهم ابو سفيان كلمته الشهيره: (لا مع العير ولا مع النفير) كما اثبتنا ذلك ووثقناه، ولنفترض ان عمر قد قتل خاله، فليس كثيرا علي رجل له احلام عمر ومظاهره ان يقتل احد المشركين في معركه لها اهميه معركه بدر، وتلت معركه بدر معركه احد ففر عمر من المعركه وترك الرسول. وفي غزوه الخندق لم يكن له اي دور بارز، وسمع عمروبن ود ولم يجبه، وفر في حنين، تلك امور لا خلاف عليها. بمعني انه ليس لعمر -رضي اللّه عنه- دور بارز يتناسب مع عظيم احلامه وطمعه بالملك!! وفر في خيبر، وقد وثقنا ذلك. كذلك سيدنا ابو بكر فلم يرو اي مورخ علي الاطلاق ان ابا بكر قتل مشركا او جرحه او سلبه في معركه بدر او اي معركه من معارك الايمان، ولا خلاف بان الرجل فر في معركتي احد وحنين، انه رجل مسالم يميل الي السفاره، ويعشق العليه، وفر في خيبر وقد وثقنا ذلك. اما عثمان وطلحه فلم يشهدا معركه بدر. [622] وفر عثمان في معركه احد، ولم يكن له دور في معركه الخندق، وفر في حنين. واما ابو عبيده، فتقول احدي الروايات انه قد قتل مشركا في بدر، وتقول روايه ان الزبير قتل مشركين. علي اي حال فان هولاء الصحابه الكرام قد بذلوا جهدهم بدون سرف ولا تقتيل وناصحوا للّه ولرسوله في حدود طاقتهم واستعدادهم، ولكن الجهد الذي بذلوه في الاسلام لا يتناسب واحلامهم بالملك، واستعدادهم واعدادهم لتحمل تبعاته، ولا يتطاول الي مستوي الجهد الخارق الذي بذله علي بن ابي طالب خاصه وآل البيت وبنو هاشم عامه!!! اما الخليه الثانيه التي تعد نفسها للتصدر، ولرسم مستقبل الاسلام بعد وفاه النبي، فهم قاده الشرك وابناء قادته الذين حاربوا النبي وقاوموه بكل فنون الحرب، وبكل وسائل المقاومه حتي احيط بهم فاسلموا وهم كارهون. فهل يحق لهولاء ان يحلموا بالملك علي المسلمين، وهل يحق لهم ان يرسموا مستقبل الاسلام والمسلمين بعد موت النبي، وهم قدامي المحاربين الذين حاربوا النبي، وهل يحق للطليق ان يقود المهاجرين، وللجاهل بدين اللّه ان يعلم العالم، ولنفترض ان الملك قد وصل اليهم، فكيف يحكمون بكتاب اللّه وهم لا يعرفونه، وبسنه رسولاللّه وهم يجهلونها!!! ولكن هذا حدث فالذين حاربوا النبي وهم بطون قريش اتحدوا مع الذين هاجروا مع النبي من بطون قريش ابعاد اهل بيت النبوه عن مركز قياده الامه بعد موت النبي، ونجح هذان الفريقان باقصاء اهل بيت النبوه عن مركز قياده الامه بعد وفاه النبي، مثلما نجحوا بالاستيلاء علي السلطه بالقوه بمساعده منافقي المدينه وما حولها والمرتزقه من الاعراب، ثم اظهرتهم وسائل اعلامهم كانهم الورثه الشرعيون للنبي، وحاولت تلك الوسائل ان تحول اشاعاتهم التي اطلقوها ضد رسولاللّه الي قناعات، واظهرتهم وسائل الاعلام بمظهر قاده الاسلام الذين رضي اللّه عنهم ورسوله!!
لا وجه للمقارنه بين الدور المميز الذي لعبه الامام علي وبنو هاشم في نصره الاسلام، وبين الدور الذي لعبه كل واحد من التسعه الذين عرفوا بانهم مبشرون في الجنه. فكل بطون قريش ال23 كانت في جهه، وكان النبي محمد وبنو هاشم وبنو المطلب في جهه ثانيه. والبطون ال23 تامرت علي قتل النبي واشتركت بمطاردته، والبطون ال23 تامرت علي حصار النبي وبني هاشم واشتركت بالحصار والمقاطعه بما فيهم بني عدي وبني تيم وكافه البطون التي ينتمي لها التسعه اشتركوا بحصار الهاشميين في شعب ابي طالب ومقاطعتهم. والبطون ال23 كانت بمجموعها هي الجيش الذي حارب النبي في بدر واحد والخندق، وهم الذين صدوه عن المسجد الحرام والهدي معكوفا ان يبلغ محله، والبطون ال23 هم الذين لاحقوا النبي قبل الهجره وقاوموه وحاربوه، بينما البطن الهاشمي هو الذي وقف مع النبي، وهو الذي حماه وحمي دعوته فلولا الهاشميين وبني المطلب لقتلت البطون محمدا دون ان ترعي فيه الا ولا ذمه. وبالتالي فانه لا مجال للمقارنه بين البطن الهاشمي، وبين بني عدي وبني تيم وبني اميه او اي بطن من بطون قريش، فالهاشميون والمطلبيون كانوا مع النبي وحموه خلال الدعوه، وكانوا ساعده الايمن خلال مرحله الدوله. بينما الامويون، وبنو عدي، وبنو تيم، وبطون قريش ال23 كانوا ضد النبي وهم الذي قاوموه وآذووه، وحاصروه وبني هاشم في شعب ابي طالب وقاطعوهم ثلاث سنين، ثم تامروا جميعا علي قتله، وطاردوه جميعا، ثم حاربوه حربا لا هواده فيها حتي احاط بهم فسلموا واسلموا وهم كارهون. فمن هو الاولي بمحمد، هل هم بنو هاشم الذين وقفوا معه طوال سني الدعوه والدوله؟ ام بني عدي وبني تيم وبطون قريش الذين قاوموه وحاربوه طوال سني الدعوه والدوله؟ لقد حكم اللّه سبحانه وتعالي ورسوله بان الهاشميين هم الاولي وهم ذو القربي الذين امر اللّه بمودتهم في الكتاب، وهم الافضل بنص الشرع الحنيف، ولا تجوز صلاه عبد ان لم يصل عليهم، وهم الاولي بقياده الامه اذ جعل اللّه القرآن الكريم ثقلا، وجعل اهل بيت النبوه ثقلا آخر، وبين اللّه لعباده من خلال نبيه ان الامه لن تهتدي بعده الا بالاثنين معا، ولن تتجنب الضلاله الا بالاثنين معا. ومع هذا يصر قاده التحالف ان بني عدي وبني تيم وبطون قريش ال23 هم الاولي بالنبي والاحق بميراثه!! وبالفعل استولوا علي القياده، وفرضوا اصرارهم الذي يتعارض مع الشرع والعقل.
لا مجال للمقارنه بين دور علي ودور عمر او ابي بكر او اي واحد من التسعه في مجال نصره الاسلام اثناء حياه النبي، فعمر وابو بكر لم يقتلا او يجرحا اي مشرك طوال تاريخ المعارك التي جرت بين الكفر والايمان، ولم يكن لهما دور مميز في اي معركه علي الاطلاق، وفرا في احد بالاجماع وفرا في حنين وفر معهما في المعركتين عثمان، لقد بذل التسعه جهودهم لكنها لا ترقي الي معشار جهد الامام علي. وقد وثقنا ذلك. لقد صنع علي والحمزه الاعاجيب في بدر، واظهرا جهدا مميزا وطاقه خارقه، قال الواقدي في مغازيه [623] لقد احصي من القتلي 49 منهم 22 قتيلا قتلهم امير المومنين علي -عليهالسلام- او شرك بقتله، وكان علي يحمل لواء الرسول [624] .لقد اظهر علي من القدره الخارقه في بدر ما يفوق الوصف، والطريقه التي قتل فيها حمزه، ومنهج المشركين بالتمثيل به تبين حجم الضرر الذي الحقه بالمشركين. صحيح ان الحمزه قد استشهد، ولكن عليا سد مسده، ومسد الجموع في كلوقعه [625] .اما في احد فقد هرب اكثريه التسعه ووصف بعض شيعه التسعهاسلوب الامام في القتال يوم احد [626] .وفي الخندق سمع التسعه نداء عمرو بن ود فلم يجبه احد منهم، فتصدي له الامام علي فقتله، وبقتله قتل الروح المعنويه لتجمع الاحزاب، ومن هنا قيم النبي هذا العمل الرائع بانهافضل من عمل الامه الي يوم القيامه [627] .وبطولاته في خيبر تفوق بطولات بدر واحد. [628] وانهزم الناس في حنين بما فيهم التسعه وثبت علي. [629] وكان معروف بشجاعته حتي سمي باسد اللّه وسيفه فيارضه. [630] وكان يحمل لواء النبي في كل زحف [631] .فهل لاحد من التسعه او لهم مجتمعين مثل هذا الماضي العسكري المجيد؟ وهل يدعي احد منهم انه الاعلم او الافهم من علي؟ او انه الاقرب من النبي؟ او ان آباءه واجداده افضل واشرف من آباء واجداد الامام علي؟ هم اعقل من ان يفعلوا ذلك!! ومع هذا يصر قاده التحالف علي انهم الاولي بالحكم والقياده!! قال الامام علي: (اما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الاعلوننسبا والاشهرون برسولاللّه تولها، فانها كانت اثره) [632] .
اتحدت بطون قريش المهاجر منها والطليق علي ان تقف ضد علي وضد توجه النبي وقفه رجل واحد، وتحول بكل ما اوتيت من قوه بين جمع الهاشميين للنبوه والملك معا، وعلي ذلك اتفق المهاجر والطليق، يقول الامام علي معبرا عن هذه الناحيه: (واللّه ما تنقم منا قريش الا ان اللّه اختارنا عليهم، فادخلناهم في حيزنا وقال:ونحن وهبناك العلي ولم تكن عليا وحطنا حولك الجرد والسمرا [633] .ويقول مشيرا الي قاده التحالف: (حتي اذا قبض رسولاللّه رجع قوم علي الاعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا علي غير الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي امروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص اساسه، فبنوه في غير موضعه). ويتابع الامام حملته الشعواء علي قاده التحالف فيصفهم بانهم: (معاون كل خطيئه، وابواب كل ضارب في غمره، قد ساروا في الحيره، ودخلوا في السكره علي سنه من آل فرعون، من منقطع اليالدنيا ساكن، او مفارق للدين مباين..) [634] .وقال مره: (اللهم اني استعديك علي قريش ومن اعانهم، فانهم قطعوا رحمي، واكفاوا انائي، واجمعوا علي منازعتي حقا كنتاولي به من غيري) [635] .
لقد تحققت الوحده بين مهاجري بطون قريش وطلقائها، وشيدوا اركان التحالف الذي استطاع ان يقبض علي مقاليد الامور حتي والنبي علي فراش الموت بعد سلسله مرعبه من الشائعات، ولم يكتف قاده التحالف بالشائعات التي اشرنا الي بعضها، بل اخذوا يزايدون علي الرسول ليعرفوا، وليلقوا في روع الغافلين بانهم اكثر حرصا علي الدين من رسولاللّه، وتلك حلقه في مخطط. وكان اكثر الناس مزايده علي رسولاللّه هو عمر، لذلك نكتفي بذكر بعض مزايداته التي جاوزت المدي بالمزايده الكبري والرسول علي فراش الموت.
كان عمر (رضي اللّه عنه) قبل الاسلام رجل مغمور من بني عدي، يمتهن (البرطشه)، اي كان يكتري للناس الابل والحميروياخذ عليه جعلا [636] .والي هذا اشار سعد بن عباده عندما قال مخاطبا عمر في السقيفه: (لاعيدنك الي قوم كنت فيهم ذليلا غير عزيز وتابعاغير متبوع) [637] .وعمر نفسه لا ينكر ذلك، ولكن اللّه اعزه بالاسلام وحوله من تابع الي متبوع، وتالق نجم الرجل عندما نال شرف مصاهره رسولاللّه فصار يتردد علي بيت الرسول بحكم المصاهره، وبحكم نبل النبي وسعه قلبه. وعمر هذا لا شان له بالحرب، فلم يثبت انه قد قتل او جرح او اسر احدا من المشركين طوال تاريخ دوله النبي، والروايات التي تصوره كرجل سيف انما هي ضرب من الاساطير لا تتفق مع شخصيته، ولا مع نسيجه النفسي ولا مع طبيعه قومه بني عدي الذين وصفهم ابو سفيان بوصفهالذي ذهب مثلا: (لا مع العير ولا مع النفير) [638] .ولقد تحققت وتبين لي انه لم يقتل من بني عدي احد لا مع المشركين ولا مع المومنين، ولقد جد عمر في الاسلام واجتهد واستطاع خلال 12سنه ان يتعلم سوره البقره كما اخرج ذلك الخطيب في روايه مالك، والبيهقي في شعب الايمان، والقرطبي في تفسيره باسناد صحيح عن عبداللّهبنعمر [639] .وبالرغم من تعلمه لسوره البقره فقد كان يشكو من قله الفقه فطالما قال: (كل الناس افقه من عمر). [640] وقال مره: (امراه اصابت واخطا رجل) ويقصد بالرجل نفسه. [641] ثماعترف مرتين او ثلاثه: (كل احد افقه من عمر) [642] .واعترافاته بهذا المجال بلا حصر [643] .
ومع هذا كان عمر يزايد علي رسولاللّه، ويتصور الغافلون ان عمر احرص علي الدين من الرسول نفسه، وافهم بالدين من الرسول نفسه، ونادرا ما ضاق الرسول ذرعا بصهره بل كان يسعه بخلقه العظيم، وبحلمه الفذ، ويعلمه.
اللّه سبحانه وتعالي هو الذي اخرج محمدا للعمره، واختار الحديبيه محطا لرحاله، ومركزا لمفاوضاته مع بطون قريش، واعلمه ان المفاوضات معها ستنتهي بصلح الحديبيه، وهذا الصلح هو الفتح الحقيقي المبين، ويحقق الغايه التي سعي اليها محمد طوال مناوشاته وحربه مع بطون قريش، وكفي باللّه شهيدا علي ذلك فهو الذي امر نبيه بتوقيع الصلح.
وصف عمر الصلح الذي رضيه اللّه، ووقعه رسوله بانه (دنيه) حيث قال عمر لرسولاللّه: (فعلام نعطي الدنيه فيديننا) [644] .فقال الرسول: (انا رسولاللّه ولن يضيعني)، وجعل عمر يرد الكلام علي رسولاللّه، ويصف الصلح بانه (دنيه). وقاد حمله رهيبه من التشكيك بصحه عمل رسولاللّه، واخذ ينفرد باصحاب الرسول ويقول لهم: ان محمدا وعدنا ان ندخل الكعبه. وحاول ان يستقطب الصحابه، لعله ينجح بافشال الصلح الذي عقده النبي مع قريش، ومع ان حملته بالتشكيك قد تركت آثارا مدمره، وهزت الثقه برسولاللّه الي حين الا انه فشل بتكوين قوه من الصحابه قادره علي اجهاض الصلح. وقد اعترف عمر في ما بعد اثناء خلافته فقال: (ارتبت ارتيابا لم ارتبه منذ اسلمت الا يومئذ، ولو وجدت شيعه تخرج عنهم رغبهعن القضيه لخرجت) [645] .ولم يتوقف عمر عن حملته بالتشكيك الا بعد ان اقبل عليه رسولاللّه فقال: انسيتم يوم احد اذ تصعدون ولا تلوون علياحد وانا ادعوكم في اخراكم... [646] . فكان الرسول الاعظم يعيد بهذه التذكيرات الحجم الحقيقي لعمر، ويقول له: انت الذي تدعو للحرب وقد فررت في معركه وتركتني!!!
جاء ابو جندل بن سهيل بعد توقيع الاتفاق، وعملا بالاتفاق يتوجب اعادته الي قريش، واحتج عمر بانه لا ينبغي اعادته. ولكن الاتفاق واضح فقال الرسول لابي جندل: (اصبر واحتسب فان اللّه جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا، انا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، واعطيناهم واعطونا علي ذلك عهدا وانا لانغدر)، واقتنع ابو جندل [647] .وبعد ان اغلقت دائره البحث في هذا الموضوع قال عمر لابي جندل: (ابوك رجل وانت رجل ومعك السيف فاقتل اباك) وكان هدف عمر ان ينقض ابو جندل علي سهيلبن عمرو ويقتله وهو في حضره الرسول وجواره، وهو سفير البطون، وليضفي عمر علي هذا التحريض طابعا دينيا وبطوليا قال عمر لابي جندل: (ان الرجل يقتل اباه في اللّه) وفطن ابو جندل لاسلوب عمر بالمزايده، فقال لعمر: (مالك لا تقتله انت يا عمر)؟ فقال عمر: (نهاني رسولاللّه عن قتله وعن قتلغيره!!) [648] . ولعل هذا هو السر الذي لم يقتل فيه عمر احدا من المشركين طوال تاريخ دوله النبي!!!
تدخل ابو بكر صديقه الحميم، وتدخل ابو عبيده، وطلبا من عمر ان يمارس ضبط النفس، وبعد ان اخفق بجمع الاعوان ليلغي ما اوجده الرسول، وليحل ما ربطه، وبعد ان وزع الشك بالرسول وشكك به قال الرسول لام سلمه: (عجبا يا ام سلمه! اني قلت للناس انحروا واحلقوا وحلوا مرارا، فلم يجبني احد من الناس وهم يسمعون)!!! ان عدم اجابه الناس للرسول اثرطبيعي من آثار حمله تشكيك عمر [649] . وبعد ان اخفق عمر بتحريض ابي جندل علي قتل ابيه وبعد ان ذكره الرسول بفراره من احد.. هنالك سكن الرجل وهدات العاصفه التي صنعها.
في مرحله المفاوضات التي سبقت ابرام معاهده الصلح طلب رسولاللّه من عمر ان يذهب الي قريش ويبلغها ان الرسول ليست لديه نوايا ضدها، وان غايته: (نذبح الهدي وننصرف)، فرفض عمر طلب الرسول وقال له: (اني اخاف قريش علي نفسي، قد عرفت قريش عداوتي لها وليس بها من بني عديمن يمنعني)... الخ.. [650] . ومع هذا فان الرجل الذي لا يقوي ان يكون سفيرا لتبليغ جمله واحده يدعو للحرب!!
لو نجحت حمله عمر بالتشكيك بالنبي، ولو نجح باستقطاب العدد الذي يراه من الصحابه لاجبار الرسول علي الغاء الاتفاقيه بالقوه، وجر من معه الي حرب مع قريش لم يخطط لها لدمر حاله التماسك بين الرسول واصحابه، ولكن الموكد بان عمر لا يحسن الحرب، ولا يحبها انما كان يزايد. ولو نجح عمر باقناع ابي جندل بقتل ابيه سهيل بن عمرو في حضره الرسول او في معسكره لكان في ذلك احراجا هائلا لرسولاللّه، ولتقولت قريش بان الرسول قد قتل كبير مفاوضيها وغدر به وهو في رحابه، ولادت هذه التقولات الي نتائج خطيره. ولكن عمر قد لا يقصد ذلك وانما يريد ان يقتنع الصحابه بانه احرص علي الاسلام من الرسول نفسه!! وان يشكك بكلام الرسول!! وقد فصلنا صلح الحديبيه تفصيلا كاملا تحت عنوان (وافلست بطون قريش) فارجع اليه.
روي البخاري في صحيحه، باب خروج النساء الي البراز ما يلي وبالحرف: (حدثنا يحييبن بكير حدثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروه عن عائشه: ان ازواج النبي(ص) كن يخرجن بالليل اذا تبرزن الي المناصح، وهو صعيد افيح، فكان عمر يقول للنبي: احجب نساءك. فلم يكن رسولاللّه يفعل، خرجت سوده بنت زمعه زوج النبي ليله من الليالي عشاء، وكانت امراه طويله فناداها عمر: الا قد عرفناك يا سوده حرصاان ينزل الحجاب، عندئذ انزل اللّه آيه الحجاب!!!) [651] . المشكله الحقيقيه ان الرواه يتصرفون بالوقائع والاحداث ليعطوا الرجل دائما دور البطوله في كل مزايده، ولا يجدون غضاضه ولا حرج لو اعطوه هذا الدور حتي علي رسولاللّه. فما هي علاقه عمر بزوجه رسولاللّه؟ وهل هو اكثر غيره من الرسول او معرفه للصواب من الخطا منه؟ وهل يترقب الوحي اشاره من عمر!! او توجيها منه لمواقع الخطا في المجتمع!!! شهد اللّه ان هذه التصورات لا تطاق!!
لما اتم رسولاللّه تصفيه اوكار الشرك، وتشجيعا للناس علي الدخول في دائره التوحيد والاطمئنان فيها امر النبي ابا هريره ان يبشر من لقيه مستيقنا قلبه بشهاده لا اله الا اللّه بالجنه، فكان اول من لقيه عمر. فلما بشره ابو هريره ضربه عمر بيده بين ثدييه فاسقطه علي الارض، وقال له: (ارجع)، فرجع ابو هريره الي رسولاللّه فقال له الرسول: (مالك يا ابا هريره؟). فقال ابو هريره: (لقيت عمر فاخبرته بالذي بعثتني به فضرب بين ثديي ضربه فخررت لاستي). فقال النبي: (ارجع) ودخل عمر فقال له الرسول: (ما حملك علي ما فعلت؟).. فقال عمر: (لاتفعل فاني اخشي ان يتكل الناس عليها؟) [652] .والكارثه حقيقه ان النووي والقاضي عياش يرون ان الصواب كان في جانب عمر. قال النووي: ان الامام الكبير مطلقا اذا راي شيئا وراي بعض اتباعه خلافه، ينبغي للتابع ان يعرضه علي المتبوع، فاذا ظهر له ان ما قاله التابع هو الصواب رجع المتبوعاليه (اي يرجع الرسول لعمر بهذه الحاله).. [653] .وهنا تكمن الكارثه فقد فعلت اشاعات قاده التحالف فعلها فهم يعتقدون ان الرسول لا يتلقي الوحي الا بالقرآن وحده، وما عدا القرآن فهو يتصرف به من تلقاء نفسه وعلي (ذراعه)، ولقد اكد الرسول مرارا وتكرارا لعمر ولحزبه بانه لا يخرج من فمه الا حقا واقسم علي ذلك، لكن لا عمر ولا حزبه ولا شيعتهم يصدقون رسولاللّه في هذه الناحيه!! لانها تتعارض مع اشاعاتهم، ولان الناس اذا صدقوها ستخرب كل خطط التحالف المستقبليه!! عندما ذكر عبد اللّه بن عمرو بن العاص نهي قريش (قاده التحالف) عن كتابه ما يسمعه من رسولاللّه، بدعوي انه يتكلم في الغضب والرضي، اوما الرسول باصبعه الي فمه، وقال: (اكتبفوالذي نفسي بيده ما خرج منه الا حقا) [654] . ومن الطبيعي ان يحاط عمر علما بما قاله الرسول، ولكن مثل عمر لا يصدق ذلك!!! لان ذلك يتعارض مع الاشاعات التي اطلقها هو وحزبه للتشكيك بقول رسولاللّه تمهيدا لاجهاض الترتيبات الالهيه لعصر ما بعد النبوه، حيث كان يري ان هذه الترتيبات ليست لمصلحه الاسلام. تماما كما كان يري ان صلح الحديبيه الذي امر اللّه به ورضي عنه رسوله دنيه في الدين!! انه رجل مومن محتاط لدينه، وايمانه واحتياطه يخرج عن دائره التصور والمعقول!!!
الرسول علي فراش المرض، وقد خير فاختار ما عند اللّه، واطلع الامه بانه سيموت في مرضه هذا، فاراد ان يلخص الموقف لامته، ويبدو ان الرسول الكريم قد حدد وقتا لكتابه وصيته، ويبدو ايضا ان عمر بن الخطاب قد احيط علما بالوقت الذي حدده الرسول لكتابه وصيته، وهذا هو الذي دفع عمر لحشد اعوانه الذين يرون رايه ليتواجدوا في بيت الرسول بالوقت المحدد لكتابه الوصيه، ويبدو ان عمر قد احيط علما بمضمون الوصيه من المصدر الذي اعلمه بموعد عزم الرسول علي كتابتها. فجمع عمر ثله من حزبه وذهبوا الي بيت الرسول كعواد وكانهم لا علم لهم بموعد كتابه الوصيه، ولا بمضمونها، فجلسوا، فقال الرسول: (قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا) وعلي الفور تصدي له عمر وقال: ان الرسول قد غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه، حسبنا كتاب اللّه. هذا هو القول الملطف اما في الحقيقه كما يروي ابو حامد الغزالي وابن الجوزي: (انه ما ان اتم رسولاللّه كلامه حتي تصدي له عمر وقال: ان الرسول يهجر وعندنا كتاب اللّه! حسبنا كتاب اللّه)، وعلي الفور قال الحاضرون من حزب عمر: (القول ما قاله عمر! ان الرسول يهجر حسبنا كتاب اللّه). صعق الحاضرون من غير حزب عمر لهول ما سمعوا ولما يصدقوا آذانهم وطلبوا احضار الكتف والدواه. ولكن عمر وحزبه اصروا واكثروا اللغط والتنازع وكرروا اقوالهم السابقه، فقدر الرسول ان الكتابه بهذا المناخ ليست مناسبه، وغضب، فقال: (لا ينبغي عندي تنازع، ما انا فيه خير مما تدعوني اليه، قوموا عني). وهكذا نجح عمر وحزبه بالحيلوله دون رسولاللّه وكتابه ما اراد. وقد تناولنا هذه الحادثه المفجعه في كتابنا نظريه عداله الصحابه والمرجعيه السياسيه في الاسلام من ص287، وحللناها تحليلا وافيا، ووثقناها توثيقا كافيا بحيث يتعذر انكارها فضلا عن الاعتذار عنها، وتناولناها في كتابنا الخطط السياسيه لتوحيد الامه الاسلاميه.
الرسول علي اتصال دائم مع الوحي، وهو رئيس الدوله، ما زال رئيسا، وما زال نبيا رسولا، وهو يجلس في بيته لا في بيت عمر ولا في بيت احد من حزب عمر، وهو مريض ويريد ان يكتب وصيه قبل ان يتوفي. تماما كما فعل ابو بكر وكما فعل عمر نفسه، وكما يفعل اي مسلم او اي انسان. من الذي اقام عمر وصيا علي الرسول ونائبا عن المسلمين حتي يكسر هو وحزبه خاطر النبي الشريف فيقول له: (انت تهجر وعندنا القرآن)، وهو يكفينا ويردد حزبه هذه المقوله في مقام النبي الاعظم؟! هل هو مسلم حقا من يقول مثل هذه الالفاظ النابيه لرسولاللّه؟! كيف يعتذرون عن هذه الحادثه، كيف يبررونها؟! وهل عمر احب اليهم من رسولاللّه؟! بئس للظالمين بدلا!!
الشرعيه الالهيه، تعني الاطار العام ومضمون هذا الاطار الذي يشمل: (1)ذات النبي (شخصه). (2)القرآن الكريم. (3) سنه النبي بفروعها الثلاثه القول والفعل والتقرير. (4)الالتزام بالاركان الثلاثه الانفه.
يعني الالتزام بالشرعيه الالهيه 1- ان يومن الفرد او الجماعه ايمانا مطلقا لا يعتريه ادني شك بان محمد بالذات رسولاللّه، الصادق، المصدق، الذي لا ينطق عن الهوي، وانه الموتمن علي الوحي الالهي بكل صوره واشكاله، وانه الاعلم بالدين، والافهم، وانه الافضل، والاصوب علي الاطلاق، وان كل ما يقوله النبي، اصوب وانسب مما يقوله بشر سواه. ويعني ايضا ان القرآن الكريم لفظا ومعني هو من عند اللّه، وان بيان النبي لهذا لقرآن هو القول الفصل، وهو جزء لا يتجزء من الدين، وان كل ما يبينه الرسول حقائق مطلقه، تقبل الحوار والاستفهام وتترفع عن الجدل.
بعد ان بينا معني الشرعيه الالهيه، واركانها ومعني الالتزام بها بما امكن من الدقه والاختصار، نتسائل هل حدثت مواجهه بين الشرعيه الالهيه بمفهومها الذي بيناه وبين النظام السياسي الذي اقامه عمر بن الخطاب والمتحالفين معه؟ ونجيب وبكل الاسف ان مواجهه حقيقيه وصارخه قد جرت بين الشرعيه الالهيه وبين عمر والمتحالفين معه.
قاده التحالف وعلي راسهم عمر بن الخطاب، رفعوا شعار حسبنا كتاب اللّه في كل مناسبه من المناسبات، وقد رفعوا هذا الشعار بمواجهه النبي نفسه، وفي بيت النبي، ليحولوا بين النبي وبين كتابه توجيهاته النهائيه، ولم يكن القصد من رفع شعار (حسبنا كتاب اللّه) امام النبي الاصرار علي التمسك بالقرآن الكريم، انما كانت غايه الذين رفعوا هذا الشعار في تلك المناسبه، هي التفريق بين النبي المرسل الذي بلغ القرآن وبينه، وبين القرآن ككتاب منزل من عند اللّه، وقطع الصله العضويه بين الاثنين، وكانت غايتهم المباشره هي الحيلوله بين الرسول وبين كتابه توجيهاته النهائيه، او كتابه ما اراد، وهذه حقيقه مطلقه ساطعه كسطوع الشمس، وقد اجمعت الامهعلي صحتها وصدورها من عمربن الخطاب وحزبه [655] .ولما استهجن الحاضرون من غير حزب عمر هذا القول الشنيع وهذه التفرقه الواضحه بين الرسول وبين الكتاب الالهي تجاهل عمر بن الخطاب وجود النبي وقال للحضور: (ان النبي يهجر،وعندنا كتاب اللّه)، ولسنا بحاجه لكتابه محمد!! [656] .عندئذ قال الحاضرون من حزب عمر: (القول ما قاله عمر)، واكثر عمر وحزبه اللغط والاختلاف، وتنازعوا مع الذين وقفوا في صف النبي، وعندما قال النبي: لا ينبغي عندي تنازع، قوموا عني، اصغي عمر وحزبه لقول النبي، وسعدوا لان النبي قدعدل عن كتابه ما اراد [657] .
بعد ان جلس عمر علي كرسي الخلافه اعترف، وقال بكل جراه: (بانه قد صد النبي عن الكتابه حتي لا يجعل الامر لعلي) [658] . وبهذه الحاله يغدو واضحا ان رفع شعار حسبنا كتاب اللّه حال حياه النبي، لم يقصد به التمسك بالقرآن انما كان القصد منه التفريق بين الرسول وبين كتاب اللّه، ورفع هذا الشعار لتحقيق باطل، ولاستبعاد النبي عن التاثير علي مسرح الاحداث ليخلو الجو لعمر وحزبه يرتبون ما يريدون.
الذين رفعوا شعار (حسبنا كتاب اللّه) بمواجهه النبي للغايه التي اشرنا اليها، رفعوا نفس الشعار بعد وفاه النبي ايضا، فاول عمل عمله ابو بكر بعد ان تسلم الخلافه ان خطب الناس فقال لهم: (انكم تحدثون احاديثا تختلفون فيها والناس بعدكم اشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسولاللّه شيئا، فمن سالكم فقولوا:بيننا وبينكم كتاب اللّه) [659] .لقد تصور ابو بكر ان سبب الخلاف والاختلاف يكمن في حديث رسولاللّه، وتذكر ابو بكر انه قد كتب قرابه 500 حديث عن رسولاللّه، وقام ليلته يتقلب، ولما اصبح قام بحرق الاحاديثالتي كتبها بنفسه عن رسولاللّه [660] .وهكذا اطمانت نفس ابي بكر واعتقد انه قد قطع دابر الخلاف لانه احرق ما عنده من الاحاديث، وامر الناس ان يتمسكوا بالقرآن وحده وان لا يحدثوا عن رسولاللّه. وجاء عمر بن الخطاب وهو اول من رفع شعار (حسبنا كتاب اللّه) فشن حمله قويه ليلتزم الناس بهذا الشعار، ولا يضيعوا وقتهم ويصدوا الناس عن القرآن بالحديث عنرسولاللّه [661] .وجمع عمر المحدثين من الصحابه من كافه الافاق، وقال لهم: ما هذه الاحاديث التي افشيتم عن رسولاللّه فيالافاق؟ [662] . وروي الذهبي في تذكره الحفاظ ان عمر حبس ثلاثه من الصحابه هم: ابن مسعود، وابا الدرداء، وابا مسعود الانصاري قائلا لهم: اكثرتم الحديث عن رسولاللّه!!
لقد جاوز عمر بن الخطاب المدي، اذ ناشد الناس ان ياتوه بكل الاحاديث المكتوبه عن رسولاللّه، فلما اتوه بها امر بتحريقهاكلها [663] .وجاء عثمان بن عفان فسار علي سيره صاحبيه فكان اول مرسوم اصدره: (بانه لا يحل لمسلم يروي حديثا لم يسمع بهفي زمن ابي بكر وعمر) [664] .
انت تلاحظ ان الخليفتين قد ركزا علي القرآن الكريم تركيزا تاما بعد وفاه النبي، واستبعدا الحديث النبوي استبعادا تاما، فاحرق ابو بكر ما كان مكتوبا عنده، وجمع عمر ما بايدي الناس من الاحاديث المكتوبه عن رسولاللّه وقام بحرقها!! وركزا معا علي شعار (حسبنا كتاب اللّه) او (بيننا وبينكم كتاب اللّه) كما قال ابو بكر، واعتبر ابو بكر ان روايه الاحاديث عن رسولاللّه تورث الاختلاف، وان اقتناء احاديث الرسول المكتوبه ليس مناسبا ويسبب الارق والقلق كما رددت عائشه، مما دعي ابوها ان يحرق الاحاديث ال500 التي كتبها بنفسه عن رسولاللّه!! مما دعي عمر ايضا ان يناشد الناس لياتوه بكل الاحاديث المكتوبه عندهم عن رسولاللّه، فلما جاءوه بها امر بتمزيقها. وسار عثمان علي سياسه صاحبيه بهذا المجال، فما هو القصد من هذه الحمله المركزه؟ القصد من هذه الحمله المركزه هو التفريق بين الكتاب المنزل والنبي المرسل الذي بلغ هذا الكتاب وبينه، واستبعاد الرسول من التاثير علي الحدث السياسي او الاحداث السياسيه!!. فعندما يتمسك الناس بالقرآن الكريم وحده، ويتجاهلون ويحرقون بيان النبي لهذا القرآن، فانهم بعملهم هذا يلغون كافه النصوص النبويه التي بينت هذا القرآن، فالقرآن الكريم اشار للصلاه مجملا ولكنه لم يبين كيفيه هذه الصلاه، وجاء النبي فبينها بيانا تفصيليا، كذلك فان القرآن الكريم اشار اشارات مجمله للامور المتعلقه بالامامه والقياده خلال حياه النبي وبعد وفاته، فجاء الرسول وبين هذه الامور بيانا تفصيليا. كذلك فان القرآن الكريم تناول النواحي الماليه فاجملها اجمالا، فقام الرسول وبين هذه الامور بيانا تفصيليا، وهكذا في كل امر من الامور وكل ناحيه من النواحي، فبيان النبي مرتبط بالقرآن، والقرآن مرتبط ببيان النبي ارتباطا عضويا لا يقبل التجزئه.
اثبتنا انه خلال حياه النبي جرت محاوله ناجحه للتفريق بين الكتاب المنزل والنبي المرسل، وبين القرآن وبين بيان النبي لهذا القرآن، وافصح اصحاب المحاوله عن غايتهم المتمثله بالحيلوله بين الرسول وبين كتابه ما اراد، حتي لا يجعل الامر لعليبن ابي طالب، كما وثقنا وقد نجحت محاولتهم لان النبي كان علي فراش المرض، ولان النبي خشي من عواقب اصراره علي كتابه ما اراد، فلو اصر علي الكتاب لاصر عمر وحزبه علي زعمهم بان الرسول قد هجر، وذلك يترك مفاعيل مدمره علي الدين. وحتي والرسول كان يتمتع بالصحه والعافيه كان قاده التحالف يحضون الناس سرا علي عدم كتابه احاديث الرسول بحجه ان الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضي ولا ينبغي ان يحمل كل كلامه علي محمل الجد، ولما ذكر عبد اللّه بن عمرو لرسولاللّه ما قاله قاده التحالف، قال له الرسول: (اكتب فوالذي نفسيبيده ما خرج منه الا حقا) واوما باصبعه الي فيه [665] . ومع ان الرسول قد اقسم باللّه علي ان كل ما يخرج من فمه حقا الا ان قاده التحالف اصروا عمليا علي شائعاتهم، وعلي دعوه الناس للاعتماد علي القرآن وحده. ولم يبين قاده التحالف سبب اصرارهم بالاعتماد علي القرآن الكريم وحده، واصرارهم علي استبعاد النبي وبيان النبي لهذا القرآن؟! قد اعترف عمربن الخطاب في ما بعد بغايته من الحيلوله بين النبي وبين كتابه ما اراد بالوقت الذي رفع فيه شعار (حسبنا كتاب اللّه)، وذلك حتي لا يجعل رسولاللّه الامر لعليبن ابي طالب. وقد وثقنا ذلك. ولكن قاده التحالف لم يعترفوا بالغايه الحقيقيه التي يتوخونها من التفريق بين النبي المرسل وبين الكتاب المنزل، وبين بيان النبي لهذا الكتاب بالرغم من حاله التكامل والترابط العضوي بين النبي والكتاب وبيان النبي لهذا الكتاب.
لقد افصح معاويه بن ابي سفيان ضمنيا عن الغايه التي يتوخاها قاده التحالف من تفريقهم بين النبي المرسل والكتاب المنزل، وبيان النبي لهذا الكتاب يوم اصدر مراسيمه الملكيه في ما بعد:
(روي ابو الحسن المدائني في كتاب الاحداث قال: كتب معاويه نسخه واحده الي عماله بعد عام الجماعه ان: برئت الذمه ممن روي شيئا من فضل ابي تراب واهل بيت النبوه. فقامت الخطباء في كل كوره، وعلي كل منبر، يلعنون عليا، ويبروون منه، ويقعون فيه وفي اهل بيته. وكتب معاويه الي عماله في جميع الافاق الا يجيزوا لاحد من شيعته واهل بيته شهاده، وكتب اليهم: ان انظروا من قبلكم من شيعه عثمان ومحبيه واهل ولايته الذين يروون فضائله ومناقبه، فادنوا مجالسهم وقربوهم واكرموهم، واكتبوا الي بما يروي كل رجل منهم واسمه واسم ابيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتي اكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه اليهم معاويه من الصلات والكساء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر.. فلبثوا بذلك حينا. ثم كتب معاويه الي عماله: ان الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحيه، فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الي الروايه في فضائل الصحابه والاولين. وكتب ايضا: ولا تتركوا خبرا يرويه احد من المسلمين في ابي تراب الا وتاتوني بمناقض له في الصحابه، فان هذا احب الي واقر لعيني وادحض لحجه ابي تراب وشيعته، واشد عليهم من مناقب عثمان وفضله. فقرئت كتبه علي الناس فرويت اخبار كثيره في مناقب الصحابه مفتعله لا حقيقه لها، وجد الناس في روايه ما يجري هذا المجري حتي اشادوا بذكر ذلك علي المنابر، والقي الي معلمي الكتاتيب فعلموا غلمانهم وصبيانهم من ذلك الكثير الواسع حتي رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتي علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم. فلبثوا بذلك الي ما شاء اللّه، ثم كتب الي عماله نسخه واحده الي جميع البلدان: (انظروا من قامت عليه البينه انه يحب عليا واهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه). وشفع ذلك بنسخه اخري: من اتهمتموه بموالاه هولاء القوم (اهلبيت النبوه) فنكلوا به واهدموا داره.. الخ) [666] .لقد غلب معاويه الامه بالقوه، وركعها بالعصا، وتملك ملكها بدون ارادتها ولم يعد يخشي شيئا من المعارضه او البلبله فكشف علنا عن مقاصده وحصر منع بيان النبي في الجانب السياسي المحظور المتعلق بقياده علي وبالدور المميز لاهل بيت النبوه، فاباح دم كل من يروي شيئا من فضل ابي تراب(علي بن ابي طالب) واهل بيته (اهل بيت النبوه) [667] .وهكذا حسم الموضوع، وحدد الغايه من المنع واعلنها امام الامه، لانه ليس فيها من يقوي علي اعتراضه، او هز وحده رعاياه او التشكيك بشرعيه حكمه القائم علي القوه والتغلب. وابطالا للبيان النبوي المتعلق بالقياده من بعد النبي لعلي ولاهل بيت النبوه اصدر معاويه مرسوما خاصا بذلك، جاء فيه: (ولا تتركوا خبرا يرويه احد من المسلمين في ابي تراب الا وتاتوني بمناقض له في الصحابه، فان هذا احب الي واقر لعيني وادحض لحجه ابي تراب وشيعته). بمعني ان معاويه يطلب من عماله وحكام اقاليمه ان يشرفوا علي وضع احاديث تناقض كل ما ينفع عليبن ابي طالب واهل بيته من البيان النبوي. ولتمييع النصوص النبويه المتعلقه بالقياده وبدور اهل بيت النبوه امر معاويه عماله وحكام اقاليم مملكته بوضع احاديث بفضائل الصحابه حتي يضيع فضل علي واهل بيته، ويتحولون الي مجرد صحابه من جمله مائتي الف صحابي واكثر!! وهذا معني قول المدائني: (ثم كتب معاويه الي عماله ان الحديث عن عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحيه، فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الي الروايه فيفضائل الصحابه والاولين) [668] . فكانت ضربات معاويه فنيه وتحت الحزام واكثر وضوحا وتاثيرا من ضربات عمر وابي بكر. وهكذا اخرجوا النبي عمليا واخرجوا بيانه النبوي من ساحه التاثير علي مسرح الاحداث، وضيعوا البيان النبوي وهو اكبر ثروه واعظم ثروه عرفها البشر، وبعد 95عاما عاد تلاميذ قاده التحالف ليجمعوا البيان النبوي الذي خربه اسيادهم وضيعوه من اجل ملك زائل!!، فانا للّه وانا اليه راجعون علي المصيبه الكبري فلا تجد حديثا الا ويناقضه حديث.
لم يكتف قاده التحالف بمواجهه البيان النبوي، ومنع الناس رسميا من روايته وكتابته، وحرق المكتوب منه، وابطال مفاعيل المعلوم منه، واخراجه من ساحه التاثير علي الاحداث السياسيه التي هزت الامه، ولم يكتفوا بالتفريق بين كتاب اللّه المنزل وبين نبيه المرسل، وبين بيان النبي لهذا الكتاب وصولا الي الغاء قياده علي من بعد النبي، والغاء الدور الشرعي المميز لاهل بيت النبوه.. لم يكتفوا بذلك انما واجهوا ذات النبي وشخصه للتشكيك ببيانه المتعلق بالقياده من بعد النبي، وبدور اهل بيت النبوه المميز فزعموا خلال فتره صحه النبي وحياته: ان النبي يتكلم في الغضب والرضا، وانه كان يغضب فيلعن ويسب ويودي من لا يستحق ذلك. وامعانا في التشكيك في كل ما يصدر عن النبي زعم قاده التحالف ان اليهود قد سحروه حتي ليخيل اليه انه يفعل الشيء وما فعله، ولدعم الشائعات الثلاث السابقه شككو في ذاكره الرسول، فزعموا انه يسقط احيانا من آيات القرآن الكريم. ثم جاوز قاده التحالف المدي بقولهم للرسول وجها لوجه: انت تهجر ولسنا بحاجه لوصيتك!!. وقدر قاده التحالف ان هذه الشائعات قد لا تنجح بالتشكيك باقوال النبي المتعلقه بالقياده، فزعم قاده التحالف واولياوهم ان الرسول ليس اكثر من مجتهد في ما يقول وما يفعل ومن حق اي مجتهد آخر ان يخالف قول الرسول وفعله، وهكذا قوضوا الشرعيه الالهيه من اساسها.
بدلا من ان يكتشف الناس ان عمر رفع سنه رسولاللّه، ووضع رايه الشخصي بدلا منها، وبدلا من ان يلحظوا الاثار المدمره التي نتجت عن احلال الراي الشخصي محل الحكم الشرعي، وبدلا من ان يعرفوا الامور علي حقيقتها اخذوا يختلقون الاعذار التي لا يقبلها عقل، فقالوا: ان تبديل عمر لسنه الرسول، وهي حكم شرعي براي عمر، هو من قبيل الاجتهاد فالرسول مجتهد!! وعمر مجتهد!! ومن حق مجتهد وهو عمر!! ان يخالفمجتهدا آخر وهو رسولاللّه [669] . والاهم ان عمر ماجور ايضا علي ذلك!!. وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلا ووثقناه فيما سبق.
بعد ان استبعدوا النصوص النبويه التي عالجت موضوع القياده من بعد النبي، وبعد ان زحزحوا الامام علي عن حقه بالقياده، وحرموا اهل بيت النبوه من دورهم المميز، زعموا بان رسولاللّهخلي علي الناس امرهم وترك امته ولا راعي لها [670] . وانظر الي قول ابي بكر (.. حتي اختار اللّه لرسوله ما عنده، فخلي علي الناس امرهم)، فابو بكر هو اول من اشاع بان الرسول ترك الامه ولا راعي لها (او خلي علي الناس امرهم) وجاء في تاريخ الطبري [671] ان ابا بكر قال في مرضه الذي توفي منه: (... وددت اني سالت رسولاللّه لمن هذا الامر من بعده فلا ينازعه احد)، وجاء في الحليه لابي نعيم [672] وصحيح مسلم والبخاري والبيهقي في سننه، وابن الجوزي في سيره عمر: ان عمر قال في مرضه: (ان لم استخلف فان رسولاللّه لم يستخلف). وروي المسعودي في مروج الذهب [673] ان عمر قال في مرضه: (ان ادع فقد ودع من هو خير مني -يعني الرسول- وان استخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني ابا بكر-.
قالت عائشه لابن عمر: (يا بني ابلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدع امه محمد بلا راع. استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا،فاني اخشي عليهم الفتنه) [674] .فام المومنين عائشه وهي امراه ادركت ان ترك الامه ولا راعي لها عمل غير حكيم ويودي للفتنه! قال ابن عمر لابيه: (ماذا تقول للّه عز وجل اذا لقيته ولم تستخلف علي عباده، ولو كان لك راعي ابل او راعي غنم ثم جاء وترك رعيته رايت انه قدفرط) [675] . وقال المسعودي في مروج الذهب [676] ان عبداللّهبن عمر قال لابيه: (لو جاءك راعي ابلك او غنمك وترك ابله او غنمه ولا راعي لها للمته، وقلت له: كيف تركت امانتك ضائعه؟. فكيف يا امير المومنين بامه محمد). ومع ان عبد اللّه بن عمر مجرد شخص عادي وليس نبيا الا انه ادرك بان ترك الامه دون راع عمل يوجب اللوم، وهو تفريط وتضييع للامانه! الا يستطيع الرسول ان يفكر بمستوي تفكير امراه او تفكير رجل عادي كعبداللّهبن عمر ويدرك ما ادركته عائشه وعبداللّهبن عمر؟!! ومع هذا زعموا ان رسولاللّه ترك امته ولا راعي لها، فجاءوا وسدوا الخلل الذي اغفله رسولاللّه بزعمهم واوجدوا منصب ولايه العهد، اذ لم يصدف طوال التاريخ ان ترك اي خليفه الامه بدون راع يرعاها من بعده الا رسولاللّه!!! وجاء ابن خلدون ليوسع صلاحيه الخلفاء ويضفي عليها الشرعيه، ويبارك عبقريتهم باختراع ولايه العهد فقال في مقدمته [677] : (ان الامام (الخليفه) يتولي امور الناس حال حياته وتبع ذلك ان ينظر لهم بعد مماته ويقيم لهم من يتولي امورهم من بعده) وقد فصلت ذلك في الابواب السابقه ووثقته. وقصد قاده التحالف ضرب جدار النسيان علي النصوص النبويه التي عالجت موضوع القياده والامامه من بعد النبي، وبنفس الوقت ابراز ناحيه من شخصيه النبي بالصوره التي ارادوها هم!!
وقد اشاعوا ان النبي لم يكتف بترك امته بدون راع عرضه للفتنه والاختلاف انما ترك معجزته الوحيده وهي القرآن دون جمع ولا كتابه، فاضطر قاده التحالف ان يشمروا عن سواعدهم وان يجمعوا القرآن ويكتبوه، ولولاهم لضاع القرآنواندثر!! [678] .وقد عالجنا هذا الموضوع باستفاضه تامه في كتابنا الخطط السياسيه لتوحيد الامه الاسلاميه [679] واثبتنا فساد تلكالشائعه [680] . وبالايجاز فانهم ما تركوا شارده ولا وارده ظنوا انها تضفي الفضل عليهم الا وتمسكوا بها حتي ولو كانت حطا من قدر سيد ولد آدم!!
لم يكتف قاده التحالف بصرف قياده الامه عن قائدها الشرعي، علي بن ابي طالب، وابتزاز حقه! [681] .ولم يكتفوا بمحاصره البيان النبوي المتعلق بمنصب الامامه او القياده من بعد النبي وتحريم روايته وحرق المكتوبمنه! [682] .ولم يكتفوا بحمله الشائعات التي شنوها علي النبي للتشكيك بقوله وشخصه وصولا الي الغاء البيان النبوي المتعلق بالقيادهمن بعد النبي! [683] .ولم يكتفوا بان قالوا للرسول وجها لوجه: انت تهجر، ولا حاجهلنا بوصيتك! [684] .ولم يكتفوا بالقول بان الرسول مجرد مجتهد، ومن حق الخليفه كمجتهد ان يتبني رايا معاكسا للحكم الشرعي الذي نفذهالرسول! [685] .ولم يكتفوا بان اباحوا دم من يروي شيئا في فضل ولي الامر واهل بيت النبوه، وقادوا حمله وضع الحديث عليرسولاللّه! [686] .لم يكتفوا باخراج النبي، واخراج سنته القوليه عمليا من التاثير علي مسرح الاحداث عندما حاصروها ومنعوا روايتها وكتابتهاوحرفوا المكتوب منها! [687] .
الرسول عبد مامور يتبع ما يوحي اليه من ربه، وقد امره ربه تعالي ان يقسم المال بين الناس بالسويه لا فضل في ذلك لعربي علي عجمي، ولا لمهاجر علي انصاري، ولا لسيد علي مولي، لان حاجات الناس البشريه الاساسيه متشابهه، وتلك امور علاوه علي انها امر الهي الا ان الانسان يدركها بالعقل الذي جعله اللّه حجه علي خلقه وبالفطره السليمه، فجميع ابناء الجنس البشري ياكلون ويشربون ويلبسون وينامون ويتزوجون، لذلك كان رسولاللّه طوال عهده الخالد يقسم المال بين الناس بالسويه، حتي اصبح عمل الرسول هذا سنه فعليه واجبه الاتباع، وجاء ابو بكر واتبع سنه الرسول الفعليه هذه، فكان يقسم المال بالسويه بين الناس كما كان يفعل رسولاللّه. سنه الرسول ليست مناسبه وراي عمر بن الخطاب خير منها!! لما تسلم عمر بن الخطاب الخلافه من بعد ابي بكر، راي ان سنه الرسول ليست مناسبه ولا عادله ولا معقوله! فهل يعقل ان يعطي القرشي مثل الانصاري؟ وهل يعقل ان يعطي العجمي مثل العربي؟ وهل يعقل ان يعطي المولي مثل السيد؟ وهل يعقل ان يعطي الطليق مثل المهاجر؟! وهل يعقل ان تعطي ام المومنين عائشه مثل ام المومنين ام سلمه؟... لقد راي عمر ان ذلك ليس انصافا ولا عدلا بالرغم من انها سنه فعليه موكده من سنن الرسول. رفع سنه النبي الفعليه وابدالها براي عمر بن الخطاب الشخصي!! امام هذه (العيوب) التي تصور عمر انه قد اكتشفها بسنه الرسول الفعليه قرر رفع سنه الرسول من التطبيق والغائها، وايجاد سنه جديده اوحي له بها عقله، فقسم بين الناس علي مراتبهم في نفسه ووفق الموازين التي اوحي له بها عقله، ومن ثم قسم المال بين الناس حسب مراتبهم عنده، فاعطي زوجات الرسول مبالغ طائله تفوق التصور والتصديق وزائده عن حاجاتهم، ولم يساو بين زوجات الرسول بالعطاء، فاعطي عائشه اثني عشر الف، وحفصه مثلها، واعطي لكل واحده من امهات المومنين الاخريات عشره آلاف!! واغدق عطاياه علي كبار رجالاته كعثمان وطلحه والزبير، وروساء المرتزقه من الاعراب، واستمر علي ذلك تسع سنين من عهده الرائد مخالفا لسنه رسولاللّه وعاملا برايه الشخصي، ولم ينكر عليه احد ذلك لا بقول ولا يد، حتي نسي الناس سنه الرسول، واتبعوا راي عمر بن الخطاب الذي تحول مع التكرار الي سنه حقيقيه لها اهميه اكثر من سنه الرسول نفسه.
طبق عمر بن الخطاب كخليفه رايه الشخصي بعد ان الغي سنه رسولاللّه، ومع الايام وبقدره قادر صار راي عمر الشخصي سنه واجبه الاتباع فطبقها تسع سنين ثم اكتشف آثارها المدمره وبقي سائرا عليها حتي مات، وجاء الخلفاء فنسجوا علي منواله تاركين سنه الرسول ومتبعين سنه عمر حتي سقط آخر سلاطين بني عثمان!! بعد تسع سنين من تطبيق راي عمر بن الخطاب الذي تحول الي سنه بدات الاثار المدمره لسنه عمر تظهر فظهرت الطبقيه والغني المترف جنبا الي جنب مع الفقر المدقع، وظهر الموت من التخمه والموت من الجوع معا، فطلحه والزبير وعثمان ابن عفان وعمرو بن العاص كانوا يملكون الذهب الذي يكسر بالفووس، وعمار وبلال وعامه الناس كانوا يموتون من الجوع. ونمت بذور الصراع القبلي بين ربيعه ومضر، وبين الاوس الذين والوه والخزرج الذين عارضوه، وبين العرب والعجم وبين الموالي والصرحاء، وتحولت البذور الي نار في ما بعد كبرتوكبرت حتي التهمت المجتمع الاسلامي كله [688] .
بعد تسع سنين من الغاء عمر لسنه الرسول واحلال رايه الشخصي محلها اكتشف عمر ان رايه الشخصي لم يكن اهدي ولا اكثر انصافا من سنه الرسول كما تصور قبل تسع سنين، لذلك اعلن عن عزمه علي الرجوع الي سنه الرسول فقال: (ان عشت هذه السنه ساويت بين الناس، فلم افضل احمر علي اسود، ولا عربيا علي عجميا، وصنعت كما صنع رسولاللّه وابوبكر) [689] . ولكن عمر مات ولم يعش السنه، وبقيت سنه النبي مهجوره وسنه عمر نافذه، طبقها جميع الخلفاء، وصار لكل خليفه موازينه الخاصه بترتيب الناس، وتصرفوا باموال اللّه وفق هذه الموازين التي لم تدم علي حال، ولم يستقر لها قرار.
قال تعالي (واعلموا انما غنمتم من شيء فان للّه خمسه وللرسول ولذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل ان كنتم آمنتم باللّه وما انزلنا علي عبدنا يوم الفرقان يوم التقيالجمعان واللّه علي كل شيء قدير) [690] . وقوله تعالي (قل لا اسالكم عليه اجرا الا الموده في القربي). بين الرسول هذه الايه بسنته العمليه التي طبقها طوال عهده الخالد، فجعل خمس الخمس لذوي قرباه وهم بنو عبد المطلب الذكر منهم والانثي، وبني المطلب [691] ، بالاضافه الي يتيم الهاشميين ومسكينهم وابن سبيلهم... قال ابن عباس: (سهم ذوي القربي لقربي رسولاللّه قسمه لهم رسولاللّه). [692] والحكمه من هذا التشريع ان اللّه تعالي قد حرم الصدقه علي محمد وعلي آل محمد [693] ، فجعل هذا السهم ليسد به حاجاتهم.
ادرك عمر بن الخطاب ان هذه الايه وبيانها يكرسان التميز الهاشمي الذي يدعيه علي، وفي معرض حمله قاده التحالف لتركيع اهل بيت النبوه، جردوهم من حقهم في الخمس الوارد في آيه محكمه، والثابت بالسنه الفعليه لرسولاللّه، بحجه انقريش كلها ذوي قربي [694] .وبهذه المناسبه نتساءل طالما ان قريش ذوي قربي فلماذا تامروا علي قتل النبي!! ولماذا حاصروا الهاشميين وبني المطلب في شعب ابي طالب ثلاث سنين!! لماذا لم يتذكر ابناء البطون القربي يوم فعلوا ذلك!!، وهل حوصر بنو عدي وبنو تيم مع الهاشميين وبني المطلب ام ان بني عدي وبني تيم اشتركوا مع قريش بحصار الهاشميين والمطلبيين الذين الغي عمر حقهم المخصص لهم بسهم ذوي القربي!!لقد ابي عمر بن الخطاب ان يعطي بني هاشم حقهم [695] .بحجه ان قريش كلها ذوي قربي كما قال [696] .وهكذا وبكل بساطه ابطل عمر بن الخطاب مفعول آيه محكمه، واهمل السنه النبويه الفعليه، وعمل برايه الشخصي، ولم ينكر عليه احد بقول او بفعل، فان كان مخطئا فله اجر واحد، وان كان مصيبا فله اجران حسب القواعد التي وضعها محبوه!!. لقد اعتقد عمر ان رايه اقرب للعدل من سنه الرسول واسهل لتحقيق ما يريده بني هاشم الذين حرمهم من تركهالنبي [697] .ولما سال الهاشميون كيف ناكل اذن ومن اين ناكل، قال لهم الخليفه ساقدم لكم الطعام فقط ولا تزيدون عليه [698] .
حدد اللّه تعالي للمولفه قلوبهم سهما من الزكاه في الايه المحكمه (انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمولفه قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السبيل فريضه من اللّه واللّه عليم حكيم) [699] ، وبين الرسول الكريم هذه الايه بسنته الفعليه، فطوال عهده المبارك وهو يعطي المولفه قلوبهم سهمهم الوارد في هذه الايه المحكمه، ولما تولي ابو بكر الخلافه جاءوا اليه لياخذوا سهمهم جريا علي عادتهم مع الرسول، فكتب لهم ابو بكر بذلك وذهبوا بكتابه الي عمر، فتناول عمر كتاب ابي بكر ومزقه وقال لاصحاب السهم: لا حاجه لنا بكم، فقد اعز اللّه الاسلام واغني عنكم، فعادوا الي ابي بكر وقالوا له: اانت الخليفه ام هو؟ فقال:ابو بكر بل هو ان شاء اللّه [700] .ولا بد من التنويه بان رسولاللّه عندما اعطي للمولفه قلوبهم سهمهم الوارد في الايه المحكمه كان ينفذ امرا الهيا، ومخصصا اعطاه اللّه لفئه معينه وهم المولفه قلوبهم، وكان الاسلام عزيزا، ولم يكن بحاجه للمولفه قلوبهم وفق موازين عمر وتفكيره، فالاسلام كان عزيزا قبل ان يتولي ابو بكر وعمر الخلافه، فقد جاء نصر اللّه وجاء الفتح والرسول علي قيد الحياه ومع هذا كان الرسول يعطيهم، لان هذه ترتيبات (العليم الحكيم) ومحمد صلي اللّه عليه وآله وسلم عبد مامور يتبع ما يوحي اليه وما يومر به، ثم ان توزيع السهام بالطريقه الوارده في الايه المحكمه لا يعطي الخيره للحاكم، فكل فئه من الفئات الثمانيه تاخذ حقها شاء الحاكم ام ابي، لان الحاكم يحكم بما انزل اللّه وقد حدد تعالي علي سبيل الحصر المستحقين للصدقات، فليس من حق عمر ولا غير عمر ان يحذف اي فئه او يحرمها من حقها وسهمها الذي خصها اللّه تعالي به!! ثم ان الاسلام لم يات ليدخل العرب وجيران العرب فيه، انما جاء الي الجنس البشري كله ومهمه الامام ان يعمل خلال عهده علي هدايه الجنس البشري كله، فسهم المولفه قلوبهم لا يتعلق بذات الاشخاص الذي عناهم عمر، والذي لم يعد بحاجه اليهم انما هو متعلق بالصفه ذاتها، فحاله التاليف بالمال لفئات معينه باقيه الي يوم القيامه وليست متعلقه بزمن من الازمان من جهه، ومن جهه ثانيه فان الرسول قد بين الايه واعطي المولفه قلوبهم خلال عهده فصارت عمليه اعطاوهم سنه فعليه وليس من حق عمر ولا غير عمر ان يلغي سنه فعليه قد استقرت واضطرد العمل بها!! ولو عاش عمر لسنه قابله واكتشف الاثار المدمره المترتبه علي الغاء سنن الرسول الفعليه واستبدالها بارائه الشخصيه لقال مثلما قال يوم الغي سنه التسويه في العطاء: لفعلت كمافعل رسولاللّه [701] .
تملك النبي قبل البعثه وبعدها، وكانت له ممتلكاته الخاصه كاي انسان، وله ارحام يصلهم في حياته ويرثونه بعد وفاته كسائر المسلمين. وفجاه وبدون مقدمات يقدر عمر بن الخطاب مصادره تركه النبي كلها بعد موته، وحرمان ورثته الشرعيين من هذه التركه!! ذهلت فاطمه، وذهل علي والحسن والحسين من هذا القرار العجيب فراجعته فاطمه، وراجعه علي لمعرفه اسباب قرار المصادره وحرمان الورثه من تركه مورثهم!!، فقال لها ابو بكر بوصفه الواجهه الرسميه لعمر: (انه سمع الرسول يقول بانالانبياء لا يورثون) [702] .ومع ان عليا مستودع علم النبوه، ومع ان فاطمه هي سيده نساء العالمين الا انهم لم يسمعوا بهذا القول اطلاقا، وقد عاشوا مع الرسول قبل البعثه وبعدها تحت سقف واحد، وهم اولي من يجب ان يعلم بمثل هذه الاحكام. واستغربت فاطمه قول ابي بكر فقالت له: من يرثك اذا مت؟ فقال ابو بكر: ولدي واهلي؟ فقالت له: فما لنا لا نرث النبي فرد ابو بكر بمقولتهالسابقه [703] .فتدخل علي بن ابي طالب وقال لابي بكر: قال تعالي: (وورث سليمان داود)، وقال تعالي: (يرثني ويرث من آل يعقوب) فكيف نوفق بين قولك الانبياء لا يورثون وبين هاتين الايتين!! هذا كتاب اللّه ينطق. فسكت ابو بكر وانصرف مصرا عليقوله [704] .لم تكتف الزهراء بذلك بل بسطت خصومتها مع ابي بكر وعمر امام المهاجرين والانصار، وارتجلت امامهم خطبه من عيون كلام العرب، ومما قالته حول هذا الموضوع: (افعلي عمد تركتم كتاب اللّه ونبذتموه وراء ظهوركم اذ اللّه تبارك وتعالي يقول: (وورث سليمان داود) وقال عز وجل في ما قص من خبر يحييبن زكريا: (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب)، وقال عز وجل: (واولوا الارحام بعضهم اولي ببعض في كتاب اللّه) وقال: (يوصيكم اللّه في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) وقال تعالي: (ان ترك خيرا الوصيه للوالدين والاقربين بالمعروف حقا علي المتقين)، وزعمتم ان لا حق ولا ارث لي من ابي، ولا رحم بيننا، افخصكم اللّه بايه اخرج منها نبيه، ام تقولون اهل ملتين لا يتوارثون!! اولست انا وابي من اهل مله واحده!! لعلكم اعلم بخصوص القرآن وعمومه منالنبي افحكم الجاهليه تبغون!!) [705] .واصر ابو بكر علي رايه، وقال: انه الوريث الوحيد للنبي [706] .
ولاسباب انسانيه تفضل عمر فقال لابي بكر: (اعطهم آله الرسول ودابته وحذاءه، فاعطوها لعلي) [707] .وانت تري ان ولي اللّه علي، وسيده نساء العالمين نطقا بالحق المبين، ولكن لو سلم ابو بكر وعمر بحق علي وفاطمه بارث النبي لنزعوا منهما الخلافه في ما بعد، ولكنهما صادرا التركه وانكرا حق اهل بيت النبوه بتركه النبي. ومن جهه ثانيه، فان تركه النبي لو آلت الي ورثته لاستمالوا بها الناس نحوهم، وكان المال سلاحا رهيبا، لذلك راي عمر وابو بكر ان يحرما اهل بيت النبوه من تركه الرسول حتي لا يستغلها اهل البيت في القضايا السياسيه، فصادرا التركه والمنح، وتعهدا مشكورين بتقديم الطعام لال محمد مقابل تجريدهم من كافهحقوقهم الماليه [708] .
كان الرسول يقوم ليالي رمضان ويودي سننها بغير جماعه،والناس يفعلون كما كان الرسول يفعل، وجاء عهد ابي بكر وكل واحد من المسلمين يقوم شهر رمضان ويصلي منفردا، وبعد ان مات ابو بكر وآلت مقاليد الامور الي عمربن الخطاب وفي سنه 14 هجريه، اي بعد سنه من وفاه ابي بكر، دخل المسجد فراي الناس بين قائم وراكع وساجد وقاريء ومسبح ومحرم بالتكبير، فاستاء من هذا المنظر وراي انه غير مناسب وفيه خلل كبير، لذلك اصدر اوامره ان يصلي الناس التراويح جماعه وليس كما كانوا يصلونها في زمن رسولاللّه وابي بكر وعين اماما للرجالوآخر للنساء [709] .ولما شاهد عمر الناس علي هذه الحال ارتاحت نفسه وقال:(نعمت البدعه) [710] . وهكذا تدخل عمر في العبادات ايضا وراي ان سنه رسولاللّه التي قضت بان يصلي كل واحد من المسلمين منفردا، ويقوم رمضان بدون جماعه امر لم يعد مقبولا ولا مناسبا، لذلك حمل الناس علي ترك سنه الرسول الفعليه التي كلفت المسلم بان يقوم رمضان منفردا، والي اتباع رايه الشخصي الذي يري ان جمع التراويح انسب، وبالفعل ترك الناس سنه رسولاللّه، واطاعوا عمر بن الخطاب واتبعوا رايه الشخصي لانه راي الدوله الحاكمه.
استقرت سنه رسولاللّه الفعليه بان يكبر علي الجنازه خمس تكبيرات، وانتقل الرسول الي جوار ربه والناس علي هذه الحاله، ولما تسلم عمربن الخطاب خلافه المسلمين راي ان الخمس تكبيرات التي سنها رسولاللّه ليست مناسبه، وان الافضل ان يكبر الناس اربع تكبيرات علي الجنازه بدلا من الخمستكبيرات التي كان يكبرها الرسول [711] . وهكذا الغيت سنه رسولاللّه الفعليه في صلاه الجنازه وحل محلها راي عمر بن الخطاب الشخصي.
كان مقام ابراهيم ملصقا بالكعبه المشرفه، لكن العرب اخرجوه الي مكانه اليوم، فلما بعث رسولاللّه وفتح مكه الصقه بالبيت كما كان علي عهد ابراهيم واسماعيل فلما تولي عمربن الخطاب الخلافه نقله من الموضع الذي وضعه رسولاللّه فيهالي الموضع الذي وضعته العرب في الجاهليه فيه!! [712] .
الثابت عن ائمه اهل بيت النبوه ان جبريل هبط علي رسولاللّه بالاذان، وان جبريل قد اذن واقام، وعندها امر رسولاللّه عليا بان يدعو له بلالا فعلمه رسولاللّه الاذان وامره به كما جاء به جبريل. [713] والخلاصه ان جمله (حي علي خير العمل) جزء لا يتجزء من الاذان الذي تلقاه الرسول من ربه، وطوال عهد الرسول كانت هذه الجمله، هذا ما تعلمه اولياء اهل بيت النبوه من الائمه الكرام، وقد اعترف الكثير من شيعه الحكام بان هذهالجمله كانت من الاذان [714] . ولما تسلم عمر بن الخطاب الخلافه حذف هذه الجمله لانها غير مناسبه.
من الموكد ان رسولاللّه كان علي علم كامل بما يجري، فهو يعلم بقيام التحالف الجديد، ويعرف العناصر المنخرطه بهذا التحالف، ويعرف قياداته، ويعرف الاهداف التي جمعت المتحالفين. ومعرفه كل هذا لا تحتاج الي كبير العناء، فوجود اعداد كبيره من المنافقين في المدينه وما حولها حقيقه من حقائق المجتمع الاسلامي الذي كان يقوده الرسول قال تعالي: (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينه مردواعلي النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين) [715] . فكل مسلم كان يعلم ان اعدادا كبيره من افراد المجتمع الذي يعيش فيه منافقون، وان اعدادا كبيره من الاعراب التي تقطن حول المدينه منافقون ايضا، كان الناس يرسلون هذه الحقائق ارسال المسلمات. مع علمهم بان المنافقين يتلفظون بالشهادتين. وبعد الفتح كان الناس يعلمون علم اليقين ان قسما كبيرا من الطلقاء الذين اسلموا يوم الفتح منافقون بالرغم من تلفظهم بالشهادتين. وكان الناس يعلمون ان قسما كبيرا من القبائل العربيه قد دخل في الاسلام وتلفظ بالشهادتين طمعا بالمغنم فهم بمثابه مرتزقه ياكلون من يقع ويغنمون منه حتي ولو كان رسولاللّه. كما قال تعالي: (يتربصون بكم الدوائر). وكل الناس يعلمون ان الذين اسلموا قبل الفتح واسلموا بعد الفتح ابناء بلده واحده وهي مكه وينتسبون لعشيره كبيره واحده وهي قريش. وكل الناس يعلمون ان بطون قريش ال23 قد وقفت ضد النبوه وقاومت النبي وحاربته لا كراهيه في الدين، ولكن حسدا لبني هاشم فهي تكره ان يكون النبي من بني هاشم فيتميز البطن الهاشمي عن بقيه البطون وتختل الصيغه السياسيه الجاهليه القائمه علي اقتسام مناصب الشرف، فاذا اختص الهاشميون بالنبوه، فما هو المقابل الذي تاخذه البطون!؟ وكل الناس يعلمون ان بطون قريش ال23 قاومت محمد طوال 13سنه وحاربته 8 سنين، ولم تعترف بنبوته وبرسالته الا بعد ان احاطت جيوشه بمكه احاطه السوار بالمعصم، ودخلتها تلك الجيوش دخول الفاتحين واغلقت بوجه اهلها كل الابواب، ولم يبق الا باب الاسلام، عندئذ اسلمت او تظاهرت بالاسلام وهي كارهه، واعترفت بالنبوه الهاشميه كحاله واقعيه لا بد من الاعتراف بها. عامه الناس كانوا يعرفون كل هذه المعلومات، فمن باب اولي ان يعرفها النبي.
اتحاد المهاجرين مع الطلقاء كان جديدا، واتحاد بطون قريش مهاجرها وطليقها مع المنافقين كان جديدا، وتحالف البطون مع المرتزقه من الاعراب كان جديدا، واجماع هذا التحالف علي عدم جواز ان يجمع الهاشميون النبوه مع الخلافه او الملك، كان جديدا، واجماع هذا التحالف علي عدم جواز اعطاء بيت النبوه اي دور مميز بعد وفاه النبي كان جديدا واجماع هذا التحالف علي الحيلوله بين الامام علي وبين قياده الامه من بعد النبي كان جديدا. هذه هي البلايا التي جاءت كثمره لتحالف البطون مع المنافقين والمرتزقه من الاعراب.
طالما ان ظاهره النفاق حقيقه من الحقائق الثابته في القرآن والسنه، ومن الحقائق التي اجمعت عليها الامه بما فيهم قاده التحالف، وطالما ان المنافقين كانوا موجودين كحقيقه من حقائق المجتمع، لهم قياده معروفه في المدينه وما حولها وهو عبداللّهبن ابي، وللمنافقين في مكه قياده معروفه، الرسول يعرفهم والمجتمع كله يعرفهم بلحن القول. فمن يخبرني اين ذهب المنافقون بعد موت النبي؟ هل كانوا ممن ينتظرون موته حتي يصلحوا انفسهم بيوم وليله؟، وهل كانوا ينتظرون موته حتي يتبخروا من الوجود؟ من يدلني علي منافق واحد قد اعترض علي ابي بكر او عمر او عثمان او معاويه او مروانبن الحكم او امتنع عن بيعته!!؟ ومع ان التاريخ قد كتب تحت اشراف هولاء الساده واولياوهم، الا ان اي مورخ لم يرو قط ان منافقا واحدا قد اعترض عليهم. فالبديل الوحيد ان المنافقين كانوا معهم!! بالظاهر والباطن، بالسر والعلانيه!! وبالمقابل ل المنافقون علي المنافع وعلي صك بالغاء ظاهره النفاق!! وبالاعتراف بان المنافقين صاروا مومنين، مع ان اللّه يشهد بان المنافقين لكاذبون. الذين اعترضوا علي خلافه ابي بكر وعمر وعثمان ومعاويه ومروان.. الخ، هم علي بن ابي طالب، وبنو هاشم، وسعد بن عباده، والحباببن المنذر، وابو ذر، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وابي بن كعب، والبراءبن عازب، وخالدبن سعيدالاموي، وجماعه من المهاجرين والانصار [716] . هولاء هم الذين اعترضوا، اما المنافقون فقد وقفوا مع السلطه، وتبنوا مواقفها ودافعوا عنها بحراره، وبالمقابل فانهم اقتسموا الغنائم، وولتهم الدوله التاريخيه علي رقاب الناس. وعاده يقف المنافقون بالضروره بالصف الذي يعارض اللّه ورسوله. قد تشيع وسائل اعلام قاده التاريخ ان الذين عارضوا السلطه التاريخيه كانوا هم المنافقين، لكن مثل هذه الاشاعه غير صحيحه وواقع الحال يكذبها، فعدد المنافقين اكثر بكثير من الذين عارضوا وللمنافقين موقف واحد، ثم ان اللّه ورسوله والمومنين يشهدون بان الدعوه الاسلاميه والدوله الاسلاميه قد قامتا علي اكتاف الذين عارضوا، ويشهدون بحسن اسلامهم وعظيم جهادهم وبلائهم، وبصدق ولائهم للّه ولرسوله، وهذا امر يسلم به قاده التحالف انفسهم.
صحيح ان الرسول بشر، لكن له قلب رسول، وعقل رسول، ومنهج رسول بالتفكير، لانه معد الهيا ليكون نبيا ورسولا واماما ووليا للمومنين، ومن جهه ثانيه فان الرسول كان يجمع بين النبوه والرساله ورئاسه الدوله الاسلاميه. والانطلاق من هذه القواعد يجنبنا القياس الخاطيء، فلم يعد مناسبا ان يقول احد من الناس لو كنت مكان الرسول لفعلت كذا وكذا بهذا التحالف، بسبب الاختلاف بالتركيب النفسي والاعداد بين الرسول وغيره، ويبقي المنهج الوحيد لمعرفه موقف الرسول من هذا التحالف باستقراء السيره النبويه الطاهره، من مصادر اهل بيت النبوه علي اعتبار انهم وحدهم الثقه والجهه الموتمنه علي البيان النبوي.
لقد شيد النبي اركان الدوله الاسلاميه، ودولته ليست دوله بوليسيه تحشر نفسها في ضمير الانسان وقلبه انما هي دوله مثلي قامت لرد الاعتبار لكرامه الانسان التي داسها الطغاه، ولمساعده الانسان علي استعاده حريته، وتوجيهه في اطار عمليه الابتلاء الالهي، فترسم له الاهداف الالهيه الساميه التي خص اللّه الانسان بها، وترشد الي ايسر الطرق لبلوغها. تبين له الخير او تبين له الشر بيانا قائما علي الجزم واليقين وتساعده علي سلوك طريق الخير، والسكن اليها، وتعينه علي تجنب طريق الشر وتنفره منها وتتكاتف معه لتنفيذ الاحكام الشرعيه، لتبقي الدوله والانسان المسلم معا في اطار الشرعيه والمشروعيه. لكن دوله النبي لا تضع رقيبا علي الانسان يرافقه حيثما حل او ارتحل، ولا تجبره اجبارا علي فعل الخير، ولا تفرض عليه بالقوه ان يتجنب الشر، لانها ان فعلت ذلك، الغت مبررات الثواب والعقاب، وعطلت عمليه الابتلاء الالهي.
اعظم انجاز حققه النبي الكريم هو اخراجه للعرب من دائره الشرك الي دائره التوحيد، لم يعد بوسع احد ان يجهر بالشرك فكلهم موحد باللّه او متظاهر بالتوحيد، لقد نجح الرسول الاعظم بتمويل العرب من دين الشرك الي دين التوحيد. واستطاع ان يوحد مئات القبائل والبطون في دوله واحده لاول مره في تاريخ العرب بفتره زمنيه قياسيه لا تتجاوز عمليا سبع سنين، وبكلفه بشريه لا تكاد تذكر. وفوق ذلك دل العرب علي الطريق الصحيح والصراط المستقيم، وشجعهم ورغبهم بسلوك هذا الطريق، وبين لهم الطريق المعوج ايضا، وكشف لهم عن مالات الطريقين. لقد سعد النبي بهذه الانجازات العظمي، وسعدت دولته وتيقن بانه قد ادي رسالته تماما فارتاحت نفسه الشريفه.
بطون قريش مهاجرها وطليقها، ومنافقوا المدينه وما حولها من الاعراب، والمرتزقه من الاعراب يظهرون شهاده ان لا اله الا اللّه، ويظهرون ان محمدا رسولاللّه، طالما انهم يظهرون هاتين الشهادتين فلا سلطان لرسولاللّه عليهم، ويخرج عن صلاحيه النبي ان يقول لاي واحد منهم انت تظهر الشهادتين وتبطن الكفر بهما؟ لان باطن الانسان منطقه محظوره علي النبي وعلي غيره. واللّه سبحانه وتعالي هو المختص بمحاكمه الانسان علي ما في باطنه، لانه تعالي وحده يعرف هذا الباطن علي وجه الجزم واليقين، وغيره لا يعرف الا علي سبيل الظن والتخمين، والظن والتخمين لا يصلحان اساسا للاحكام التي تنشا مراكزا حقوقيه للانسان او عليه. ومع ان اللّه سبحانه وتعالي يعلم حقائق وخفايا هذا الباطن الا انه الزم نفسه العادله باقامه الحجه المناسبه علي المكلف يوم القيامه، قد ينكر الانسان انه قد اقترف هذا الفعل او ذاك يوم القيامه، ويحلف باغلظ الايمان عندئذ يكلف اللّه يد الانسان ورجله ليشهدا بواقع الحال، فينطقهم اللّه تعالي ويشهدوا علي الانسان بما فعل، وبالفعل فانه لا يعلم حقيقه ما في النفس البشريه الا اللّه وصاحبها. ومن هنا فحسب موازين العدل الالهي التي ياخذ بها النبي ودولته فلا سلطان لمحمد علي التحالف ما داموا مظهرين لشهاده ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسولاللّه، والتحالف بالاجماع مظهر لهاتين الشهادتين. هذه امور تدرك بروح الدين الحنيف، وبالفارق الجوهري بين الدوله النبويه والدوله الوضعيه ومع هذا وضح النبي هذه الناحيه عندما رجع من غزوه تبوك وكشف له الوحي عن موامره المنافقين علي قتله، ومع هذا لم يعاقبالمنافقين المتامرين علي قتله لانه لا يملك الدليل [717] . قيام التحالف بين مجموعات تظهر الشهادتين، واشاعه الاتفاق والائتلاف بينها لا يكفي لادانه هذا التحالف، فظاهريا التحالف والائتلاف واشاعه المحبه والاتفاق مظاهر شريفه ومحموده ولا يملك النبي وكونه رئيس للدوله ان يدخل الي منطقه الباطن المحرم عليه دخولها حتي لا يخدش قيمه العدل الالهي الذي امر النبي وامر المومنون باشاعته في المجتمع، فاذا عدي النبي علي هذه القيمه المطلقه يهون علي اي كان في ما بعد ان يستخف بها. حصول الاتفاق الجرمي، انا وانت، وغيرنا مقتنعون ان الاتفاق الجرمي نفسيا حاصل عند التحالف، فاللّه سبحانه وتعالي امر نبيه ان ينصب عليبن ابي طالب اماما للامه من بعد النبي، واختص ذريه النبي بالامامه، واعطاهم مركزا مميزا ليقودوها ضمن اطار الشرعيه والمشروعيه وهذا التنصيب والاختصاص تكليف بالدرجه الاولي، فلا احد بالكون كله يحسن قياده الامه بكفاءه ائمه اهل البيت، وليس في الكون مجموعه جديره بالدور المميز كاهل بيت النبوه، وهذا الترتيب الالهي لمصلحه العباد بالدرجه الاولي. التحالف يرفض ذلك كله داخل نفوس المنخرطين في صفوفه، وبالتالي فهو يعمل بالسر علي الحيلوله بين الامام وحقه الالهي بالقياده، وبين اهل بيت النبوه وحقهم الالهي بالدور المميز، الاتفاق الجرمي حاصل وثابت في نفس كل واحد من افراد التحالف، ولكن لم يظهر يقينا خطوات عمليه تدل عليه دلاله جازمه، الا بقرينه معاكسه، فعمر يقول انه ليس من العدل ان ياخذ الهاشميون النبوه والملك معا، والعدل الالهي يوجب اعطاء النبوه للهاشميين، واعطاء الملك للبطون، ويجيبه النبي: ان هذا الترتيب ليس من عنده انما هو ترتيب الهي، ولكن عمر يمط شفتيه، وهو غير مقتنع فالخلل في ايمان عمر، ومهمه المجتمع والمومنون ان يحذروا هذا الخلل. لان ترتيب الائمه واعطاء الدور المميز لاهل بيت النبوه، هو ترتيب الهي لمصلحه العباد لا لمصلحه النبي ولا لمصلحه اهل البيت، فطالما ان المجتمع والمومنون لم يحذروا هذا الخلل، فهم المفرطون بحق انفسهم، وهم الذين ادخلوها في تيه الشك واخرجوها من نعمه اليقين، وبوقت يطول او يقصر سيدركون ذلك وسيكتوون بناره ويدفعون ثمن المعصيه، عندها لن ينفعهم عمر ولا قاده التحالف ولا جمع التحالف وسيندمون، ولات حين مندم، خاصه وان كل هذا يجري والتحالف يظهر الشهادتين!!
قيام التحالف حاله من الانحراف عن الدين الحنيف، ينبغي ان تكون حافزا للصادقين من المومنين ليقفوا بحاله يقظه تامه وليفوتوا علي التحالف وقادته فرصه تحقيق اهداف التحالف، والاستعداد لمواجهته من خلال تكوين وحده حقيقيه بين المومنين الصادقين، والالتفاف حول الامام المعين ليخلف النبي، وهذا ما لم يحدث فقد وجد الامام علي نفسه وحيدا مع اهل بيته. ويصف الامام علي حالته بعد وفاه النبي، واستيلاء التحالف علي السلطه بالقوه: (فنظرت فاذا ليس لي رافد ولا مساعد الا اهل بيتي، فظننت بهم عن المنيه، فاغضيت علي القذي، ورجعت ريقي علي الشجا، وصبرت من كظم الغيظعلي امر من العلقم، وآلم للقلب من وخز الشفار) [718] . فالذين آمنوا اخذوا بالمفاجاه وبدقه التخطيط وفوجئوا بانهم امام تنظيم مسلح وضع يده علي مواقع السلطه، وواجه الذين آمنوا الوضع الجديد كافراد لا كجماعه، وذهلوا عن راس الجماعه المومنه، فقدروا ان التسليم اولي، وان قوتهم لا تكاد تذكر مع جموع التحالف، والحقيقه ان الكثره والقله لا دور لهما في موازين الاسلام، فطوال حياه النبوه المباركه كان المومنون قله، وكان المنافقون والمرتزقه والمنحرفه واليهود هم اكثريه المجتمع، ومع هذا قادت القله المومنه هذا المجتمع لانها سلمت للنبي واقتنعت به واطاعته، فلو ان القله المومنه محصنه بالقناعه الكافيه، ومطيعه للولايه الراشده، لما تمكن التحالف من النجاح، فالانحراف يواجه بالقناعه المضاده وتصميمها.
لو ان رسولاللّه بوصفه رئيسا اصدر قرارا بلزوم القاء اعضاء التحالف لسلاحهم، وبضروره تسليم قياده التحالف انفسهم لرسولاللّه، وبلزوم رجوع المتحالفين عن انحرافهم، وضروره اطاعه ولي اللّه والامام من بعده لما قدم قرار الرسول هذا ولا اخر امام تجمع التحالف المقتنع باهدافه، والمطمئن لها، لان قرار الرسول بوصفه رئيس دوله ليست له قوه بشريه او جماعه متكاتفه ومقتنعه به تضعه موضع التنفيذ، التحالف يدرك ذلك جيدا، لذلك استغل قادته سماحه الاسلام وحريته ليبنوا رويدا رويدا قاعده شعبيه تتبني موقفا معارضا لحكم اللّه ورسوله، ولتوجه الجماعه المومنه الصادقه، وظلت الجماعه المومنه مجرد مجموعه كبيره من الافراد ينقصها التنظيم، ووحده الموقف، ووحده الحركه، والقدره علي تحقيق ذلك باي لحظه. كان رسولاللّه هو نظام الجماعه المومنه الصادقه، او خيط سبحتها فلما مات رسولاللّه انقطع خيط السبحه، وانفرط العقد، وفقدت كل حبه من حبات السبحه ارتباطها مع الحبات الاخري. بينما كان التحالف علي العكس من ذلك، كونوا قيادتهم والرسول علي قيد الحياه، وحددوا اهدافهم، وجمعوا انفسهم، صفا واحدا حتي بمواجهه النبي نفسه، قال الرسول في بيته: اريد ان اكتب للامه، كتابا فتصدي له عمر وقال: لا حاجه لنا بكتابك فانت تهجر، والقرآن يكفينا! وعلي الفور ردد حزب عمر: القول ما قال عمر، ان الرسول يهجر!!!. لماذا لم ينظم الرسول الفئه المومنه لمواجهه عصر ما بعد النبوه؟، يتعذر علي النبي عمليا ان يفعل ذلك. اعلن يوما انه سيذهب لاداء العمره، فخرج معه 1500 رجل يشهدون الشهادتين، وعسكر بهم في الحديبيه وكان من جمله اصحابه راس النفاق وزعيمه عبداللّهبن ابي!!! طلب النبي من اصحابه ان يبايعونه علي الموت، فتقدم المومنون والمنافقون فبايعوا الرسول علي ذلك وبايع معهم عبداللّهبن ابي!!. عرضت قياده البطون علي ابن ابي ان يطوف بالكعبه فرفض قائلا: لن اطوف وقد منعتم رسولاللّه! قل لي بربك كيف يمكن للنبي ان يقول للصادقين انني ادعوكم الي اجتماع خاص وانتم ايها المنافقون ابقوا في امكنتكم!!! هذا عسير وغير منطقي لكن المومن الصادق يكون حيث اراده الرسول ان يكون، فكلام الرسول بين كالشمس، وعلي رايته وهي مرفوعه، ما ضر المومنين لو انضووا تحتها، عندئذ يوجههم الامام ويهزم بهم المنحرفين بعد ان يلقي اللّه في قلوبهم الانحراف!! التحالف يدعوهم الي المعصيه والي السير في طريق مظلم، ورسولاللّه يدعوهم الي الطاعه والسير علي الصراط الواضح، فلم يلبوا دعوه الرسول، وتركوا الامام من بعده وحيدا، وافسحوا المجال لخيل التحالف لتمر وتدوس بسنابكها اهل بيت النبوه!!! علي وفاطمه والحسن والحسين يذهبون الي بيوت الانصار ويطلبون منهم النصره ومع هذا لا يجيبون، فاطمه بنت محمد تدخل علي القوم وتعرض قضيتها العادله عليهم، وتقيم الحجه علي القوم، ومع هذا لا يصغي لها احد!! الحطب يجمع ويوضع حول البيت الذي يسكنه علي وفاطمه والحسن والحسين ويهددهم التحالف بحرقه وتخرج فاطمه فتبكي وتنادي: يا ابت، يا رسولاللّه ومع هذا لا يجيبها احد!!
اسيد بن حضير احد قاده التحالف، واحد افراد السريه التي كانت مهمتها حرق بيت فاطمه بنت محمد علي منفيه [719] .ننقل للقاريء الكريم تفاصيل الحديث الذي جري بين الرسول وبين اسيد هذا!! اثناء العوده من غزوه تبوك!! (قال اسيد بن حضير: يا رسولاللّه ما منعك البارحه من سلوك الوادي فقد كان اسهل من العقبه؟ قال الرسول: يا ابا يحيي اتدري ما اراد البارحه المنافقون وما هموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبه، فاذا اظلم الليل عليه، قطعوا انساع راحلتي ونخسوها حتي يطرحوني من راحلتي. فقال اسيد: يا رسولاللّه لقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطن ان يقتل الرجل الذي هم بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وان احببت، والذي بعثك بالحق، فنبئني بهم فلا تبرح حتي آتيك برووسهم، وامرت سيد الخزرج فكفاك من في ناحيته، فان مثل هولاء مشركون يا رسولاللّه!! حتي متي نداهنهم وقد صاروا اليوم في القله والذله، وضرب الاسلام بجرانه، فما يستبقي من هولاء؟ قال الرسول لاسيد: اني اكره ان يقول الناس ان محمدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل اصحابه! فقال اسيد: يا رسولاللّه فهولاء ليسوا باصحاب!! قال رسولاللّه: اليس يظهرون شهاده ان لا اله الا اللّه؟ قال اسيد: بلي، ولا شهاده لهم، قال الرسول: اليس يظهرون اني رسولاللّه؟ قال اسيد: بلي، ولا شهاده لهم، قال الرسول: اني قد نهيت عن قتل اولئك)، فاسيد لم يفهم التنظير الشرعي والعله في عدم قتلهم لذلك ختم رسولاللّه الحديث مع اسيد بهذه الجمله: اني قد نهيت.. انتهي النص الحرفي لهذهالواقعه [720] . الا يستطيع اسيدبن حضير ان يعتذر عن الذهاب بالسريه التي كلفها عمر باحراق بيت فاطمه بنت محمد علي من فيه، وفيه علي والحسن والحسين!! الا يستطيع اسيد ان يتفرج علي الاقل دون ان يشارك!! الا يستطيع اسيد ان يذكر هذا الحوار مع رسولاللّه!! الا يستطيع اسيد لما حضرت فاطمه بنت محمد واقامت الحجه علي القوم وطالبتهم بتركتها من ابيها وبفدك وبحقها في الخمس ان يقول لابي بكر وعمر وعثمان وبقيه قاده التحالف: لا تكسروا بخاطر بنت محمد، فقد مات ابوها قبل يومين فقط.. اعطوها فدك فهي اولي بفدك من مروان الذي طرده رسولاللّه ولعنه. لو قال اسيدبن حضير ذلك فلن يقطع قاده التحالف راسه!!! تلك طبيعه القوم الذين قادهم النبي!!! لقد دفع الانصار الضريبه كامله في ما بعد وسقطوا في مخالب الظالمين، لم يضروا النبي انما ضروا انفسهم، وكلما جاء ظالم ضيق الخناق عليهم، حتي جاء ابن معاويه يزيد فاستباح المدينه وقتل عشره آلاف بيوم واحد، وحملت الف بكر من دون زوج، وختم اعناق من بقي الصحابه وايديهم امعانا باذلالهم، وبايعوا علي انهم خول وعبيد لامير المومنين يزيدبن معاويه!!، هل يفعل علي ذلك؟ هل يفعل اهل بيت النبوه ذلك؟! لقد استدرج الظالمون اهل المدينه حتي اذا ركن اهل المدينه اليهم قتلوهم، حينذاك بحثوا عن علي وعن اهل بيت النبوه، وكان الوقت قد فات. ونجمل الموقف فنقول ان قتل النبي للمتحالفين غير ممكن وغير وارد للاسباب التي اوردناها في هذا الفصل، والنبي ليس بوكيل علي الناس ومهمته ان يبين لهم الطريق السوي وان يحذرهم من سلوك الطريق الاخري، ويخرج عن اختصاصه ان يجرهم الي الحق جرا. لقد بذل جهده واخرج الناس من دائره الشرك الي دائره التوحيد ووحدهم ولاول مره، وبني لهم ملكا عريضا، وهو يري ردا لا يتفق مع هذا الجميل. ان عليه ان يبلغ رساله ربهم كامله، ولكنه ليس عليهم بوكيل.
فصلنا في فصل سابق نماذج من الاشاعات التي اختلقها قاده التحالف وشيعتهم علي النبي الكريم لغايات التشكيك بالسنه النبويه المتعلقه بقياده الامه بعد وفاه النبي، تمهيدا لابطال مفاعيلها، والغاء الترتيبات الالهيه المتعلقه بالامامه والقياده والمرجعيه من بعد النبي، ونريد الان ان نعرف ما هو حكم القرآن في اشاعاتهم تلك؟ ان اشاعات قاده التحالف التي تشكك باحاديث الرسول، واتزانه، وعقله وخلقه غير صحيحه، وهي محض اختلاق، بالعقل والضروره لان محمد صلي اللّه عليه وآله وسلم صفوه الجنس البشري، ويكفيه شرفا انه رسولاللّه، ولكن لان قاده التحالف يرون ان القرآن وحده يكفي!! ولا داعي لاحاديث الرسول ولا لتوجيهاته، فمعني ذلك ان قاده التحالف يعترفون بالقرآن الكريم ويعتقدون انه من عند اللّه!! وبالتالي يصلح ان يكون حجه عليهم لمواجهه الاشاعات التي اطلقوها، وحمله التشكيك التي قادوها ضد رسولاللّه. ومحمد نفسه يومن بالقرآن، فهو الذي تلقاه من ربه، وامر ان يقراه علي الناس، وان يبينه لهم، فمن باب اولي ان يقبل حكمه!! فهل يقبل قاده التحالف حكم القرآن بشخص محمد وقوله؟ قال تعالي: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، والنجم اذا هوي، ما ضل صاحبكم وما غوي، وما ينطق عن الهوي، ان هو الا وحي يوحي، علمه شديد القوي). [721] ولا خلاف بين قاده التحالف ان هذه آيات من القرآن الكريم الذي يومنون به حسب زعمهم، والذي قبلوا حكمه فيصلا بيننا وبينهم، ولا خلاف ايضا بان كلمه (صاحبكم) تعني النبي بشخصه وقوله، ولا خلاف بان هذه الايات عامه، ويجب ان يحمل حكمها علي العموم، وان جمله (وما ينطق عن الهوي) جاءت عامه. فهو عبد مملوك للّه، فما ينطق به النبي ليس هوي انما هو وحي يوحي!! وقد تواترت الايات القرآنيه علي صحه هذا الفهم، انظر الي قوله تعالي مخاطبا النبي في قوله تعالي: (ان اتبع الا ما يوحي الي) [722] وقوله تعالي للنبي (قل انما اتبع ما يوحي الي من ربي) [723] ، وقوله تعالي: (ان اتبع الا ما يوحي الي) [724] ، وامر اللّه تعالي للنبي (واتبع ما يوحي اليك) [725] ، وقولهتعالي مخاطبا النبي: (واتبع ما يوحي اليك من ربك) [726] .
قال تعالي في سوره الحشر [727] : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا اللّه ان اللّه شديد العقاب) فقد جاء الامر الالهي بهذه الايه مطلقا فيتوجب علي المسلم الصادق ان ياخذ كل ما ياتي به الرسول ويامره به اطلاقا، وان ينتهي عن كل ما نهي عنه الرسول اطلاقا، ولا خلاف علي وضوح هذه الايه، وعلي استحاله تاويل الايتاء النبوي، والنهي النبوي!! فكيف يمكن التوفيق بين زمن هذه الايه وبين اشاعه قاده التحالف (بان الرسول يتكلم في الغضب والرضي ولا ينبغي انيكتب كل ما يقوله)!! كما زعموا [728] .
من المتفق عليه بان الصلاه هي عماد الدين، ومن المتفق عليه ان القرآن الكريم ذكر مصطلح الصلاه مجملا لا مفصلا، وان الرسول العظيم هو الذي علم الناس كيف يصلون، فاذا اخذنا بمقوله التحالف بان القرآن وحده يكفي، وبانه لا حاجه لحديث الرسول ولا لتوجيهاته، فمعني ذلك انهم اسقطوا الصلاه، واسقطوا الزكاه، واسقطوا الحج واسقطوا معظم العبادات، ومعظم المعاملات تماما كما اسقطوا الاحكام الشرعيه النبويه المتعلقه بالقياده والامامه والمرجعيه.
الذين زعموا ان القرآن وحده يكفيهم وليسوا بحاجه لحديث رسولاللّه او توجيهاته واشاعوا ذلك بين الناس خالفوا القرآن نفسه، وفرقوا بين اللّه ورسوله وعصوا اللّه بمعصيتهم للرسول، وردوا علي اللّه بردهم علي رسوله. فالقرآن الكريم جاء واضحا بما جاء به (وما آتاكم الرسول فخذوه.. وما نهاكم عنه فانتهوا) [729] لان القرآن الكريم قد صرح بان اطاعه الرسول هي اطاعه للّه، ومعصيه الرسول هي معصيه للّهبدليل قوله تعالي (ومن يطع الرسول فقد اطاع اللّه) [730] . فاللّه سبحانه وتعالي قد فرض علي المسلمين اطاعه الرسول كما فرض عليهم التوحيد، ومن هنا قرن اللّه سبحانه وتعالي طاعته بطاعه الرسول حيث كرر تعالي (واطيعوا اللّه والرسول). [731] فالقرآن الكريم الذي زعموا تمسكهم به يامرهم ان يطيعوا الرسول تماما كما يطيعون اللّه، وان يتجنبوا معصيه الرسول تماما كما يتجنبون معصيه اللّه، وشعارهم (حسبنا كتاب اللّه). ما هو في الحق والحقيقه الا شعار يراد به باطل، تماما كخدعه معاويه وعمروبن العاص في صفين (هذا كتاب اللّه بيننا وبينكم) فاذا اكتشفت الناس بعد الف عام ونيف خدعه شعار معاويه، ومع هذا فان المسلمين لم يكتشفوا بعد خدعه شعار (حسبنا كتاب اللّه).
لان الرسول اي رسول وليس محمد فحسب يحمل رساله، يجب ان يطاع، لان عدم اطاعه الرسول، تفوت الحكمه من رسالته، لذلك فرض اللّه تعالي اطاعه الرسل عامه، ومحمدخاصه كما فرض التوحيد قال تعالي في سوره النساء [732] . (وما ارسلنا من رسول الا ليطاع).. لانه بدون اطاعه الرسول يتعذر علي الرسول ان يودي مهمته، وان يبلغ مضامين الرساله الالهيه. فالرسول هو همزه الوصل المتعلقه بالرساله بين اللّه وبين الناس، فهو يتلقي من اللّه، ويبلغ المكلفين، فاللّه سبحانه وتعالي كلف المكلفين بواسطه الرسول، والرسول هذا معد، ومهيا، الهيا، ليبلغ الرساله الالهيه علي وجهها بدون زياده حرف او نقص حرف، او نسيان حرف. وبالتالي فان هذا الرسول هو الاعرف بما يرضي اللّه، وما يغضبه، فهو المكلف من الجناب الالهي، لانه ثقه، او لانه معصوم عن السقوط بما يسقط به عامه الناس وخاصتهم. ومن هنا فلا يكتمل ايمان الانسان باللّه الا اذا آمن برسله وبخاتمهم محمد، فلو ان عمرا من الناس قال: انني اصدق محمدا بان القرآن كله من عند اللّه، واصدق بان محمدا رسول من عند اللّه، ولكني لا اصدق محمدا في غير ذلك، لكان عمرو هذا كافرا بكل الموازين، ومتناقضا منطقيا مع نفسه، لان القرآن اوجب طاعه النبي كما اوجب طاعه اللّه، واعتبر معصيه النبي تماما كمعصيه اللّه، واعتبر الايمان بالنبي متمما بل ومفتاحا للايمان باللّه، ومن هنا تتبين عبثيه قول قاده التحالف امام النبي، انت تهجر، ولسنا بحاجه لكتابك حسبنا كتاب اللّه!!! لان النبي عندما اراد ان يكتب الكتاب كان وما زال نبيا ورسولا ورئيسا للدوله، ومعصوما وموتمنا علي تبليغ رسالات ربه!! ومن هنا ايضا تتبين عبثيه قاده التحالف الذين نهوا عن كتابه احاديث الرسول بدعوي انه ليس كل ما يقول الرسول صحيحا!! او ان قول الرسول يسبب الخلاف بين المسلمين.
قبل ان ينتقل الرسول الي جوار ربه، نهي قاده التحالف سريا عن كتابه احاديث الرسول بحجه ان الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضي، وليست كل احاديث الرسول جديره بانتكتب [733] . والسوال كيف نعرف ان هذا القول او ذاك صدر من الرسول وهو في حاله رضا حتي نكتبه، وان هذا القول او ذاك صدر من الرسول وهو في حاله غضب حتي لا نكتبه؟ واي آيه، واي حديث نبوي، بل واي شريعه الهيه نصت علي هذا المعيار!!؟ من الذي يشهد لنا ان هذا القول او ذاك صدر في حاله الرضي او الغضب وما هو دليله علي كل حاله!! وكيف نصدقه بدون دليل!! وهل يمكننا احصاء وفرز ما صدر عن الرسول من قول او فعل او تقرير انه قد صدر عن الرسول، وهو في حاله غضب او رضي!!!
ينصب هدف قاده التحالف علي ابطال مفاعيل الاحاديث النبويه المتعلقه بالامامه او القياده والمرجعيه بعد وفاه النبي، لان هذه الاحاديث تهدم احلامهم ومطامعهم بقياده الامه بعد وفاه النبي، ويتعذر عليهم ان يفصحوا عن غايتهم وان يكشفوا عن حقيقه اهدافهم من هذا الغموض والتشكيك، لذلك شن قاده التحالف حمله تشكيك بكل الاحاديث الصادره عن الرسول، واخترعوا فكره الغضب والرضا اختراعا، ولما استولي التحالف علي القياده بعد وفاه النبي قام اول الخلفاء ابو بكر باحراق الاحاديث التي كتبها عن رسولاللّه، ثم خطب الناس وقال: (انكم تحدثون عن رسولاللّه احاديث تختلفون فيها والناس بعدكم اشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسولاللّه، فمنسالكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب اللّه) [734] .وهكذا صدر القرار بمنع حديث رسولاللّه!!. ولما مات ابو بكر وآلت الخلافه الي عمر، كانت اول مشاريعه ان طلب من الناس كحاكم ان ياتوه بكل احاديث الرسول التي كتبوها، وظن الناس ان عمر يريد ان يجمع هذه الاحاديث فاتوهبها، فلما اكتملت بين يديه امر بتحريقها وحرقت فعلا [735] .وحمل الخليفه حمله شديده لمنع الناس من روايه وكتابه احاديث رسولاللّه وقد وثقنا ذلك تحت عنوان (الشائعهالاولي) [736] .وهكذا تعامل مع احاديث الرسول بصراحه اشد من تعامله مع آثار الفرس ومكتبه الاسكندريه، لقد محي كتب الفرس، وكتب اليونان، واحرق كتب احاديث الرسول!! وجاء عثمان وكان اول مشروع له ان اصدر مرسوما بعدم جوازروايه اي حديث لم يسمع به في عهدي ابي بكر وعمر [737] .
ليس بالامكان فهم هذه السياسه عند الخلفاء الثلاثه، فشعار حسبنا كتاب اللّه لم يعد كافيا!! وتصور الخليفه ابو بكر ان احاديث الرسول تسبب الاختلاف لم يعد مقنعا، قد اهترات الاشاعات التي اطلقها قاده التحالف، ومجتها الاذواق السليمه فما هو القصد من سياسه منع كتابه وروايه احاديث الرسول؟
روي المدائني في كتابه (الاحاديث) كما في شرح النهج لعلامه المعتزله ابن ابي الحديد، وكما في معالم المدرستين للعلامه العسكري [738] ان معاويه كتب نسخه واحده الي كل عماله بعد عام الجماعه ان (برئت الذمه ممن روي شيئا من فضل ابيتراب واهل بيته) [739] .فمعاويه احد قاده التحالف، وعلي علم بالاسباب الحقيقيه لمنع احاديث الرسول، وطالما ان معاويه بالتعاون مع المنافقين والمرتزقه، والغافلين عن الدين استطاع ان يقهر المومنين وان يحكم امه محمد بالقوه فما هو الداعي للمواربه واللف والدوران والتستر ليعلنها صريحه (بانه لا يجوز ان يروي او يكتب اي حديث يتضمن فضلا او ذكرا لعليبن ابي طالب، او لاهل بيت النبوه، ممن يخشي معاويه اذا اعلن الحقيقه، وكشف عن الغايه من منع حديث الرسول، فشعار حسبنا كتاب اللّه لم يعد كافيا، ولا قادرا علي حل الاشكالات في مملكته الاسلاميه الكبري!! وزياده في الوضوح عمم معاويه نقمته علي كل الذين يوالون عليبن ابي طالب واهل بيت النبوه، فاصدر مرسوما ملكيا ثانيا وعممه علي عماله في الافاق (ان لا يجيزوا لاحد من شيعهعليبن ابي طالب واهل بيته شهاده) [740] .واصدر مرسوما ثالثا وعممه علي الافاق هذا نصه: (ولا تتركوا خبرا بروايه احد من المسلمين في ابي تراب الا وتاتوني بمناقض له في الصحابه، فان هذا احب الي واقر لعيني، وادحضلحجه ابي تراب وشيعته) [741] .واصدر مرسوما رابعا وعممه علي جميع البلدان هذا نصه: (ان انظروا من قامت عليه البينه انه يحب عليا واهل بيت النبوهفامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه) [742] .واصدر معاويه مرسومه الملكي الخامس وعممه علي البلدان، وهذا نص المرسوم: (من اتهمتموه بموالاه هولاء القوم -يعنيعليا واهل بيت النبوه- فنكلوا به واهدموا داره) [743] . وهكذا صارت تهمه الكفر اخف من تهمه محبه اهل بيت النبوه، وهكذا وضح معاويه الاسباب الحقيقه لمنع روايه وكتابه احاديث الرسول، وصب كامل نقمته ونقمه الدوله التي يراسها علي اهل بيت النبوه، وعلي كل من يذكر بحبهم!! وهكذا كشف معاويه عن غايه قاده التحالف من منع روايه الاحاديث النبويه وكتابتها، وحدد هذه الغايه تحديدا واضحا (ودخل البيوت من ابوابها) اما قاده التحالف الذين سبقوه، فقد اضطروا ان يخفوا غايتهم الحقيقيه، وان يسلكوا طريقين الي هذه الغايه ففي حياه الرسول اطلقوا فيه شائعاتهم السريه للتشكيك بقول الرسول، وخلقه، وعقله حتي يبطلوا مفاعيل احاديث الرسول المتعلقه بولايه وقياده الامه بعد وفاه الرسول، والمتعلقه بالدور المميز لاهل النبوه، ولتحقيق نفس الغايه وبعد موت الرسول وبعد ان استولي قاده التحالف علي السلطه صدرت مراسيمهم بحرق احاديث الرسول المكتوبه، ومنع روايه وكتابه احاديث الرسول بدعوي ان القرآن وحده يكفي، وان روايه وكتابه احاديث الرسول تصد الناس عن القرآن، علي حد تعبير عمربن الخطاب، وتسبب الاختلاف، علي حد تعبير ابي بكر، وقد استظل الاثنان بخيمه شعارهم العتيد (حسبنا كتاب اللّه)، وقد وثقنا ذلك اكثر من مره.
بفتره زمنيه قياسيه، وبكلفه بشريه لا تكاد تذكر، استطاع الرسول الاعظم(ص) ان يحول العرب من الشرك الي دين التوحيد، فلم يعد بوسع احد ان يظهر غير دين التوحيد، كما استطاع الرسول الاعظم ان يوحد قبائل العرب وبطونها، وان يبني لهم دوله لاول مره في التاريخ البشري كله، واحاط الناس علما بالتعاليم الالهيه المتعلقه بالعبادات، والمعاملات والسياسات. وادرك الذين آمنوا ان اللّه قد اوفي بوعده لرسوله، واتضح الطريق وانه قد جاء حقا نصر اللّه والفتح، وان الرساله الالهيه قد بلغت الا قليلا، وان الفراق بين القائد والاتباع قد اقترب بعد ان احيط الذين آمنوا علما بان اللّه قد خير رسوله بين الملك في الدنيا او ما عند اللّه، فاختار ما عند اللّه، لان الملك وما في الدنيا كلها هزيل اذا ما قورن بما عند اللّه.
علم النبي -القائد- بقيام التحالف، وبالمجموعات التي تكونه، وعرف قياداته وفهم اهدافه، ومجملها: رفض الاختيار الالهي لعليبن ابي طالب(ع) ليكون اماما وقائدا ومرجعا للامه بعد وفاه النبي(ص)، ورفض الاختيار الالهي لاهل بيت النبوه ليقوموا بدور مميز بقياده الامه بعد وفاته، وكان النبي علي علم بالشائعات التي اطلقتها قياده التحالف للتشكيك بشخصه، وذاكرته، وعقله وصولا الي ابطال مفاعيل الاوامر الالهيه التي بلغها الرسول للامه. وقد اسف النبي لذلك اشد الاسف وشلت حركتهم ضده قيمه الامر الالهي، بالتفصيل الذي تناولناه في الفصل السابق.
لقد اختار اللّه محمدا رسولا كما اختار غيره من الرسل، ليبلغ آخر رساله الهيه الي بني البشر، ومهمه الرسول ان يبلغ الرساله التي عهد اللّه اليه تبليغها بدون زياده ولا نقصان، ويتبع ما يوحي اليه بكل خطوه، فالرسول عبد مامور للّه، ليس له من الامر شيئا الا ما خوله اللّه تعالي، لقد بلغ كل رسول سبق النبي رساله اللّه الي قومه، ورفضت علي الغالب اقوام الرسل كافه الرسالات الالهيه، لم يعاقب اللّه الرسول بجرم قومه وعدم تصديقهم له انما اخذ الاقوام التي كذبت الرسل، ونجي اللّه رسله، لان مهمه الرسول اي رسول هي البلاغ. لقد نجح النبي حيث اخفق غيره، وتحمل من الاذي والبلاء، ما لم يتحمله غيره، وصبر علي قومه، حتي انقذهم من الشرك الي التوحيد، واقام دولتهم لاول مره في التاريخ، وبين لهم صراط اللّه المستقيم، وتابع عمليه تعميق مفهوم التوحيد في النفوس، ومفهوم الوحده، ووضع الناس في ادق تفاصيل صراط اللّه المستقيم، فاستقامت امورهم وعرفوا درب الفلاح. في بدايه الفرحه بنصر اللّه والفتح، انحرفت شرائح من امه محمد، وطعنت باختيار اللّه سبحانه وتعالي لعلي ليكون امام الامه من بعد النبي، مثلما طعنت باختيار اهل بيت النبوه لدور تاريخي مميز بعد وفاه النبي، بمعني ان هذه الشرائح التي كونت تحالفا قبلت الرساله الالهيه او تظاهرت بقبولها، ولكنها رفضت الجانب المتعلق بقياده الامه من بعد النبي ورفضت اعطاء اهل بيت النبوه دورا مميزا في قياده الامه!!! وباختصار شديد فان التحالف يقبل بكل احترام الرساله الالهيه الا ذلك الجانب منها المتعلق بقياده الامه ومرجعيتها وامامتها، والذي يعطي دورا بارزا لاهل بيت النبوه، تماما كما رفضوا هم واسلافهم ومن شايعهم نبوه محمد(ص) في بدايه الامر لنفس الاسباب والحجج الواهيه. ان رفض التحالف (للاختيار الالهي) يهز اسلام كل فرد منخرط في هذا التحالف، ويعرض للخطر مستقبل الامه التي بناها محمد(ص) واهل بيته بالعرق والدم، وينحرف بهذه الامه عن صراط اللّه المستقيم الذي تعذب محمد(ص) طوال 23 عاما حتي بينه، فماذا يفعل النبي بهذه الحاله؟ هب ان الامه رفضت الرساله الالهيه كلها فماذا يمكنه ان يفعل؟ انما هو رسول ومهمته تنحصر بالتبليغ وباتباع ما يوحي اليه: (فهل علي الرسل الا البلاغ المبين) [744] (فان تولوا فانما عليك البلاغ) [745] (وما علي الرسول الا البلاغ المبين) [746] (فان اعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيظا ان عليك الا البلاغ) [747] (وما جعلناك عليهم حفيظا وما انت عليهم بوكيل) [748] (ان يشا يرحمكم او ان يشا يعذبكم وماارسلناك عليهم وكيلا) [749] . وبالايجاز: فان مهمه النبي منحصره بتبليغ الرساله الالهيه كامله الي العرب خاصه، والجنس البشري عامه واتباع ما يوحي اليه اثناء عمليه التبليغ، فاذا اعرض العرب كلهم او بعضهم، واذا اعرض الناس كلهم او بعضهم عن مضامين الرساله الالهيه كلها او بعضها، فمحمد(ص) ليس حفيظا علي العرب او علي الناس ولا وكيلا عنهم انما عليه ان يبلغ رساله ربه، وما اوحي اليه كاملا سواء تقبل منه الناس ذلك او اعرضوا عنه. فهو في حاله تقبل الناس لما جاء به لا يوقف البلاغ انما يعممه ويعمقه، وفي حاله الاعراض عنه لا يوقف عمليه البلاغ، انما يكررها ويعممها ما دام موجودا، لان مهمته الاساسيه محصوره بابلاغ رسالات ربه ما دام حيا.
الامه الاسلاميه نشات حديثا، وولدت رسميا بواقعه الهجره المباركه، وتعودت علي الارتباط بنبيها ورسولها، وقائدها، ومرجعها محمد صلي اللّه عليه وآله وسلم، فهو: الرسول وهو القائد، وهو المرجع، وهو القاضي، وهو المعيل، وهو الحاكم وهو الحكم بنفس الوقت، بمعني: ان قائد الامه الاسلاميه كنظام السبحه (خيط المسبحه) اذ انقطع الخيط فجاه -وبوقت غير مناسب- تتفرق كل حبات السبحه، وقد تضيع، وقد تدملها الارجل. ثم ان الامه حديثه العهد بالاسلام، فاعداد ساحقه منها لا تعرف من الاسلام الا اسمه ولا تجيد الا التلفظ بالشهادتين، بمعني انهم يجهلون الاسلام ويجهلون بيان القرآن، وقد قضي الامر، وبعد نصر اللّه والفتح، اختار الرسول ما عند اللّه فما هي الا سنه وبعض السنه حتي تغيب شمس الاسلام بغياب محمد، ويرحل البدر التام، ويشغر منصب القياده والامامه والمرجعيه بموت النبي. هذه بعض الاسباب الواقعيه التي تدعو الرجل العادي للتفكير بمنصب الامامه والمرجعيه بعد وفاه الرسول العظيم، فكيف يكون حجم تفكير الرسول نفسه بهذه الناحيه وهو المدعوم بالوحي الالهي، والذي يري المستقبل بالوضوح الذي يري فيه الحاضر والماضي!!. لذلك ركز النبي تركيزا خاصا علي منصب قياده الامه ومرجعيتها بعد وفاته.
الموهل لقياده الامه بعد النبي يجب ان يكون الاعلم والافهم بكتاب اللّه تعالي، والاقدر علي بيانه بيانا قائما علي الجزم واليقين، والافهم بسنه رسولاللّه (قوله وفعله وتقريره) والاكثر جهادا وبلاء في سبيل اللّه، والاكثر اخلاصا للّه، والاتقي، والافضل، بحيث يكون هذا الشخص بعد وفاه النبي، هو اعلم اهل زمانه بالقرآن والسنه علما قائما علي الجزم واليقين، وهو الاكثر اخلاصا للّه، والاتقي، والاصلح. هذا الرجل بالذات هو الموهل لقياده الامه بعد وفاه النبي، لانه سيتولي بيان القرآن للذين لا يعرفون بيانه من المسلمين، ومن الامم الجديده التي تدخل في الاسلام، وبيان سنه الرسول وبيان الحكم الشرعي في كل مساله تعرض. ولم لا! فهو مرجع الامه، وقائدها، وملاذها، وهو القائم مقام النبي، فهو رباني الامه الاوحد بعد وفاه النبي، الا انه ليس بنبي.
لا يوجد مخلوق في الارض، ولا في السماء، يعلم ان هذا او ذاك هو الاعلم بالقرآن وهو الاقدر علي بيانه، بيانا قائما علي الجزم واليقين لا علي الفرض والتخمين، وانه الاكثر جهادا وبلاء، والاكثر اخلاصا للّه، والاتقي والافضل، لان هذه صفات خفيه لا يعلمها مخلوق قط. الوحيد الذي يعلم ان هذه الصفات متوفره بهذا الشخص او ذاك هو اللّه سبحانه وتعالي. فهو وحده المختص بمعرفه هذا الشخص وتقديمه للناس.
الرسل، والائمه، والقاده، ومراجع الدول التي اقيمت بامر اللّه، يوهلهم اللّه تعالي لذلك، فما من رسول ولا نبي الا اهله اللّه سبحانه وتعالي، واعده وهياه ليقوم باعباء الرساله، فعلي سبيل المثال: الرسول موسي عليه السلام، اختاره اللّه للرساله وهياه واعده ورعاه، منذ ان ولدته امه وحتي ذلك اليوم الذي كلفه فيه بحمل الرساله، وكذلك داود وكذلك سليمان، وكذلك خاتم الرسل محمد، فما من رسول الا واهله اللّه تعالي لاداء رسالته ولاتباع ما يوحي اليه بدون زياده ولا نقصان. كذلك فانه اعد الائمه واهلهم وهياهم ليقوموا مقام الانبياء، وليتبعوا ما اوحي الي الانبياء بدقه بدون زياده ولا نقصان. او بتعبير ادق عصمهم، (والعصمه هي التوفيق الالهي) (وهي ضروريه لانه لو كان غير ذلك، لم يومن من اتباع الهوي، خاصه وانه معلم الامه ما يجهلونه من احكام الشرع، وصدور الذنب منه يودي لعدم الوثوق باقواله فالدليل الدال علي عصمه الرسول دال علي عصمه خليفته المنصوص عليه شرعا، لانهالقائم مقام النبي في حفظ الشرع، وتاديته للامه) [750] . فالعصمه تقريبا للذهن بمثابه مصل الهي يمنع من الوقوع بالخطا مهما كانت صوره، تماما كما يمنع التطعيم ضد السل من الاصابه بهذا المرض. والخلاصه: ان الرسل والائمه معدون، ومهيوون، وموهلون الهيا للقيام بالمهام التي اناطها اللّه سبحانه وتعالي بهم.
لم يصدف طوال التاريخ البشري ان اختير نبي من الانبياء او رسولا من الرسل او اماما من الائمه عن طريق الشوري او الانتخاب! لان الرسول بالضروره هو اعلم بني البشر في قومه بمضامين الرساله التي ارسله اللّه بها، وهو الموهل الهيا والوحيد القادر علي ابلاغ الرساله وما يوحي اليه، وهو الاقرب للّه، وهو الاتقي، وهو الاصلح، وهو الافضل، وتلك صفات خفيه لا يعلمها علي وجه الجزم واليقين الا اللّه تعالي، ومن هنا فان الشوري، التي يقوم بها الناس، والانتخاب الذي يمارسونه، لا يصلح لاختيار الرسل، لانهما يقصران عن بلوغ المطلوب، ولا قدره للناس علي معرفه الاعلم، والافضل، والاتقي، والاقرب الي اللّه. وتكليف الناس بهذه الامور عبث، والشارع الحكيم منزه عن العبث. والامام القائم مقام الرسول كذلك يجب بالضروره ان يكون الاعلم، والافهم بالدين، والاقرب الي اللّه، والاتقي، والافضل، حتي يكون موهلا ليقوم مقام الرسول، ويبين القرآن بيانا قائما علي الجزم واليقين، وليقدم للناس سنه النبي بدون زياده ولا نقصان، وليقود الناس الي المقصود الشرعي من كل نص، وبهذه الحاله، فان فكره الشوري، ووظيفه الانتخاب يعجزان عن ادراك الامام المطلوب لان الناس لا يعرفون من هو الاعلم.. والخ، فلو عرفوا ما كانت هناك حاجه الي شوري، ولا داعي لعمليه الانتخابات.
لا خلاف علي ان اختيار الرسل مهمه الهيه ولا علاقه للبشر بها، لكن الخلاف منحصر باختيار الائمه. اللّه سبحانه وتعالي يختار الامام لقياده المجتمع الذي كان يقوده الرسول، ولتعليم المجتمع الذي كان يعلمه الرسول، ولتعميق مفاهيم ومضامين الرساله التي جاء بها الرسول، بمعني ان هذا الامام لا يقوي علي القيام بهذه الاعمال علي الوجه الاكمل الا اذا كان هو الاعلم والافهم بالدين، والاقدر علي بيانه، والاتقي، والاقرب الي اللّه والي الرسول الذي سبقه، وافضل الموجودين، وهذه صفات لا يعلمها علي وجه الجزم واليقين الا اللّه سبحانه وتعالي، ومن هنا تشابهت موجبات اختيار الرسول وموجبات اختيار الامام. ثم ان كل فرد في المجتمع المومن يتمني ويدعو اللّه ان يدله علي الاعلم والافهم بالدين، والاقدر علي بيانه، والاتقي والاقرب الي اللّه والي الرسول والي افضل الموجودين، ودعاء المومنين (اللهم ولي امورنا خيارنا) فتلطف اللّه اللطيف، وقدم للناس الرجل الذي تتوفر فيه كل الصفات اللازمه للقيام مقام النبي، وامرهم بطاعته، لان اللّه اختاره لهم حيث توفرت فيه كل الصفات. والخلاصه: ان اختيار الرسل والائمه عمليه تستند الي صفات خفيه لا يعلمها الا اللّه، لذلك خص نفسه بصلاحيه اختيارهم.
الامه المومنه تبحث عن: الافضل، والاعلم، والافهم، والاتقي، والاقرب الي اللّه والي رسوله، واللّه سبحانه وتعالي لطف بها فدلها علي الرجل المطلوب ليكون امامها وقائدها من بعد النبي، فاذا قبلت الامه الاختيار الالهي، وبايعت هذا الرجل الامام علي السير معا علي صراط اللّه المستقيم فقد اهتدت وآمنت وسعدت في دنياها، وعاشت في ظلال العدل الالهي. وان رفضت الامه المومنه الاختيار الالهي، واتكلت علي نفسها وهواها ونصبت غيره، وبايعت سواه، فان لها معيشه ضنكا لانها اعرضت عن ذكر اللّه او كما قالت سيده نساء العالمين فاطمه بنت محمد صلي اللّه عليه وآله وسلم: (باي عروه تمسكوا، لبئس المولي وبئس العشير، وبئس للظالمين بدلا، استبدلوا واللّه الذنابي بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعا، (الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)، ويحهم (افمن يهدي الي الحق احق ان يتبع امن لا يهدي الا ان يهدي فما لكم كيف تحكمون)، اما لعمري لقد لقحت، فنظره ريثما تنتج، ثم احتلبوها ملء القعب دما عبيطا، وذعاقا مقرا هنالك يخسر المبطلون، ويعرف اللاحقون غب ما اسسه الاولون، ثم طيبوا عن دنياكم نفسا، واطمئنوا للفتنه جاشا، وابشروا بسيف صارم، وسطوه معتد غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا، فيا حسرتا لكم! واني بكم وقد عميت عليكم، انلزمكموها وانتم لها كارهون). [751] هذه بعض النتائج المدمره اذا رفضت الامه اختيار اللّه للامام، واتكلت علي نفسها واختارت بدلا منه علي هواها.
بنفس اليوم الذي امر اللّه فيه نبيه ان يعلن انباء النبوه والرساله والكتاب، امره باعلان نبا ولايه العهد والامامه من بعد النبي فسارت انباء النبوه، وابناء ولايه العهد والامامه من بعد النبي معا. ولكن انباء النبوه والرساله والكتاب طغت علي نبا ولايه العهد والامامه من بعد النبي، واستهان المشركون بهذا النبا ولم يحملوه علي محمل الجد، اذ استبعدوا تماما ان ينجح محمد بنشر دينه واقناع الناس به فضلا عن بناء ملك! لذلك اعتبروا نبا ولايه العهد والامامه من بعد النبي ضربا من الخيال المفرط.
اعلن النبي ان ولي عهده وامام الامه وقائدها ومرجعها ووصيها وامامها من بعده هو: عليبن ابي طالب، اعلن ذلك بنفس الساعه التي اعلن فيها رسميا نبا النبوه، وامام بني هاشم في الاجتماع الذي عقده لغايات هذه الاعلانات الكبري. اذ اخذ النبي برقبه علي وقال امام الجمع كله: (ان هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوا) وهذا الحديث صحيح وقد صححه ابو جعفر الاسكافي، وابن جرير الطبري كما ذكر ذلك السيوطي [752] ، ورجاله كلهم ثقات باستثناء، ابو مريم (عبد الغفاربن قاسم) المتهم بموالاه اهل بيت النبوه، وحسب موازين السلطه التاريخيه واشياعها فان من يوالي اهل البيت ليس بثقه، ومع هذا فقد اثني ابن عقده علي ابي مريم واطراه وبالغ بمدحه كما في لسان الميزان [753] وقد ارسل ائمه الحديث هذا الحديث ارسال المسلمات. [754] (ثم ضرب النبي بيده علي يد علي كنايه عن المبايعه) [755] وبايعه الرسول علي ذلك فعلا [756] ، هنالك اعلن الرسول امام الحاضرين وقال لعلي: (فانت اخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي) [757] ، ثم قال: (ادن مني فدنا علي ففتح النبي فاه،ومج فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه) [758] .
لقد تلقي النبي امرا الهيا بان يصدع بما يومر، عندئذ جمع النبي بني هاشم، واعلن انباء النبوه والرساله والكتاب وولايه العهد والامامه من بعده، فاذا كان النبي لا ينوي علي تزويج ابنته الا بامر من اللّه فهل يعقل ان يعلن امرا بهذه الخطوره بدون امر من اللّه!! والقرآن الكريم اكد هذه الحقيقه مرات متعدده اذ امر اللّه رسوله بان يعلن (ان اتبع الا ما يوحي الي) [759] (قل انما اتبع ما يوحي الي من ربي) [760] وقوله تعالي: (واتبع ما يوحي اليك) [761] وقوله تعالي: (واتبع ما يوحي اليك منربك).. [762] . واذا اصغينا الي اراجيف بطون قريش وقاده التحالف فعلينا ان نسال عن عدد ركعات كل صلاه هل هي من النبي(ص) وضعها من تلقاء نفسه ام هي من اللّه!! فعدد الركعات لم يرد في القرآن الكريم!!! ومن هنا اوجب اللّه علي عباده ان يومنوا بان محمد(ص) لا ينطق عن الهوي، اطلاقا وما يقوله ثمره وحي يوحي كما هو ثابت في سوره النجم، واوجب اللّه علي عباده المومنين ان ياخذوا كل ما اتاهم به الرسول، وان ينتهوا عن كل ما نهاهم عنه كما هو ثابت بسوره الحشر آيه 7. ومن هنا فاننا نتجاهل اشاعات قاده التحالف وبطون قريش ونجزم بان اللّه سبحانه وتعالي هو الذي امر نبيه بان يعلن بان ولي عهده والامام من بعده هو عليبن ابي طالب، وانه صلي اللّه عليه وآله وسلم لم يعلن ذلك من تلقاء نفسه انما بناء علي وحي من ربه.
القرار الالهي بتعيين الامام عليبن ابي طالب، وليا لعهد الرسول واماما من بعده هو امر الهي واجب الاتباع، تماما كالصلاه، وتماما كالتسبيح وكالزكاه، ومثل اي امر الهي آخر، ويبقي هذا الامر الالهي نافذا وواجب التطبيق حتي ينسخ او يلغي بقرار او امر الهي لاحق.
لقد ثبت ان رسولاللّه بامر من ربه قد عين علي بن ابي طالب وليا لعهده واماما من بعده، وان هذا التعيين بمثابه امر الهي واجب التطبيق ما لم ينسخ او يلغي، فهل نسخ قرار التعيين هذا او الغي؟ هل نسخه اللّه تعالي، وهل الغاه؟ علي الرغم من ان التاريخ قد كتب تحت اشراف قاده التحالف وان الاحاديث النبويه في ما بعد قد رويت تحت اشراف وبعلم وعن طريق علماء شيعه قاده التحالف، فانه لم يرو ويذكر ان امر التعيين الالهي هذا قد نسخ او الغي بايه او بحديث، وكل ما روي يوكد ثبات هذا النص. قرانا في تاريخ الطبري ان الرسول قد قال لعلي: (ان هذا اخي وخليفتي ووصيي فيكم فاسمعوا له واطيعوا)، ثم قرانا في تفسير الطبري قول الرسول (ان هذا اخي وكذا وكذا)، لقد ثقلت علي السنتهم كلمه (خليفه) وكلمه (وصي) فاستبدلوها بكذا وكذا حتي يقووا علي لفظها، ومع هذا لم يرووا ان قرار التعيين هذا قد نسخ او الغي. بل علي العكس توطدت اركان هذا النص وجاءت مئات النصوص الشرعيه لتدعمه وتقويه وتثبت مركزه بحيث يكون كالجبل الشامخ لا يقوي مكر واعاصير قاده التحالف علي اقتلاعه من وجوده الثابت.
لماذا اختار اللّه محمدا للنبوه ولم يختر ابا سفيان او عمرا او زيدا من الناس؟ هذا فضل اللّه يوتيه من يشاء، ولا يسال عما يفعل. هذا من جهه، ومن جهه ثانيه، فان اللّه اعلم حيث يضع رسالته، ومن جهه ثالثه لان اللّه سبحانه وتعالي قد اعد عليا وهياه واهله لولايه العهد وللامامه من بعد النبي.
في البدايه لم تكترث بطون قريش بولايه العهد، ولا بخلافه النبي، لانها استبعدت ان يتمكن محمد(ص)، من نشر دينه فضلا عن بناء ملك، وبالتالي اعتبرت فكره ولايه عهده والخلافه من بعده ضربا من ضروب الاوهام، ولكن لما نجح، وحدث الفتح والنصر العظيم، اخذت بطون قريش تحمل ولايه عهد النبي والخلافه من بعده علي محمل الجد، واخذ الحسد ينهش قلوب سادات البطون، فاسسوا التحالف لغايه الحيلوله بين علي وبين قياده الامه من بعد النبي، وبين اهل بيت النبوه وبين اي دور مميز لهم في قياده الامه من بعد النبي، ويكمن اساس اعتراض بطون قريش وقياده التحالف في ان الهاشميين اخذوا النبوه، وليس من الاصابه ولا من الصواب ان ياخذ الهاشميون الملك او الخلافه ايضا ويحرموا بطون قريش والعرب من هذين الشرفين!! لذلك فان بطون قريش وقياده التحالف تعترض علي ذلك. والاصوب، والاوفق، والافضل، براي عمر بن الخطاب خاصه، وسادات بطون قريش وقاده التحالف عامه ان تكون النبوه لبني هاشم لا يشاركهم فيها احد من البطون، وان تكون الخلافه او الملك للبطون لا يشاركهم فيه اي هاشمي. [763] وهذا هو الاساس الذي استقطب التحالف، وهذا هو الموج الذي ركبه عمر بن الخطاب حتي قاده لزعامه البطون. ولا يخفي ان هذه القسمه التي قسمها قاده البطون ساقطه دينيا، لان الفضل بيد اللّه يوتيه من يشاء، ولان الرساله والامامه من بعد النبي وظيفه دينيه، واللّه اعلم حيث يضع رسالته، ومن جهه ثانيه فان اللّه سبحانه وتعالي قد اعطي آل ابراهيم الكتاب والحكمه والملك (فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمه وآتيناهم ملكا عظيما) [764] ، (ولقد ارسلنا نوحا وابراهيموجعلنا في ذريتهما النبوه والكتاب) [765] . فلماذا تعترض البطون وقياده التحالف علي ذلك، وتصب اعتراضها علي محمد!! وآل محمد!! ثم كيف تستغرب قياده التحالف ان يخلف عليبن ابي طالب ابن عم النبي، وزوج ابنته، ووالد سبطيه وتعترض عليه، ولا تستغرب ان يخلف يزيد ابن معاويه اباه معاويه، وان يخلف مروان بن الحكم اولاده من بعده!! مالكم كيف تحكمون!! وباختصار فان اعتراض البطون ساقط دينيا لانهم لا يردون علي النبي وحده، انما يردون علي اللّه تعالي. صحيح ان قياده التحالف قد خططت في الظلام، ونجحت بالحيلوله بين الامام علي وبين حقه الشرعي بقياده الامه بعد وفاه النبي، لكنها لم تنجح بالغاء هذا الحق، ولا برفع الامام من قائمه الائمه، فقط نجحت البطون بانقلابها الاسود وباستيلائها علي السلطه بالنفوذ، وبردها علي اللّه ورسوله، ومعصيتها لهما.
بعد ان جاء نصر اللّه والفتح، صارت سيره النبي محط اهتمام الجميع، وفهم المسلمون مغزي تلميحات النبي بانه قد خير فاختار ما عند اللّه، وبدا اهتمام الناس ينصب علي من يقود الامه بعد وفاه النبي، وتصادف اهتمامهم مع تركيز النبي الخاص علي عصر ما بعد النبوه، وانتشر حديث الدار، والقرار الالهي بتعيين عليبن ابي طالب وليا لعهد النبي واماما من بعده، وانتشرت تاكيدات النبي لهذا النبا، وبدا الناس ينقصون طبيعه العلاقات، وحجم القرب والبعد بين الرسول القائد وبين ولي عهده والامام من بعده، وادركوا بعض الاسرار الكامنه في الاختيار الالهي لعلي.
بعد موت عبد المطلب كفل عبد مناف المكني بابي طالب ابن شقيقه محمدا رسولاللّه، وضمه لعياله، يرعاه كما يرعاهم، ويعيله كما يعيلهم، وكان عمر النبي آنذاك ثماني سنين، وخلال هذه الفتره التي امتدت سبع عشر عاما كان ابو طالب بمثابه الوالد للرسول، وكانت زوجته فاطمه بنت اسد بمثابه ام الرسول حقيقه، وكان اولاد ابي طالب بمثابه اخوه الرسول، عاشوا جميعا تحت سقف واحد، واكلوا من قصعه واحده، وتقاسموا مر الحياه وحلوها سبعه عشر عاما، فاحبهم الرسول واحبوا الرسول حبا جما. ولقد عبر الرسول عن عمق هذه العلاقه الوطيده يوم ماتت فاطمه بنت اسد زوجه ابي طالب وام علي فقال: (اليوم ماتت امي، انها كانت امي، ان كانت لتجيع اطفالها وتشبعني، وتشعثهم وتدهنني) [766] وبعد موت الام الحنونه بقي الي جانب ابن اخيه يغمره حبا يفوق حب الوالد لبنيه، ورعايه تفوق حد التصور والتصديق، حتي اذا بلغ الخامسه والعشرين من عمره زوجه عمه خديجه بنت خويلد، فاستقل النبي في بيت خاص به، وبقيت علاقته الحميمه مع بيت عمه ابي طالب، ولما شرف اللّه نبيه بالرساله، وقف ابو طالب مع ابن اخيه الرسول وقفه الرجال كما اسلفنا وجمع الهاشميين تحت قيادته، وحولهم الي ذراع عسكري، القي الرعب في قلوب سادات بطون قريش، وتمكن ابو طالب من حمايه الدعوه وحمايه الداعيه، وقد تناولنا ذلك بالتفصيل في الباب الاول من هذا البحث. ومرض العم الشيخ، وفارقته الحياه، ومسح النبي علي جبين عمه قائلا: (يا عم ربيت صغيرا، وكفلت يتيما، ونصرت كبيرا، فجزاك اللّه خيرا) [767] ، وبعد ان دفن ابو طالب، شعر النبي بعمق المصيبه فقال والاسي يملا قلبه الشريف: (اجتمعت علي هذه الامه مصيبتان لا ادري بايهما انا اشد جزعا). [768] وعبر النبي بدقه عن هول المصيبه بفقدان عمه عندما قال (ما نالت مني قريش حتي مات ابو طالب) [769] ، ومن المحزن ان وسائل اعلام قاده التحالف حولت الرجل الذي حمي الدعوه والداعيه الي مشرك!!
لما بلغ النبي الخامسه والعشرين خطب له عمه وزوجه خديجه بنت خويلد المراه الغنيه الفاضله، وكون النبي لنفسه اسره، ولم ينقطع عن بيت عمه، وفي احدي الايام اشتكت فاطمه بنت اسد المخاض فاخذ النبي بيدها وقادها الي الكعبه، فطلقت طلقه واحده، فولدت علي بن ابي طالب، وعاد به النبي الي بيت عمه فرحا مسرورا، وكان علي بن ابي طالب اول مولود يولد في الكعبه طوال التاريخ [770] ، وقد القي اللّه محبه علي الخاصه في قلب النبي، فكان النبي يتردد علي بيت عمه بصوره مستمره، ليطمئن علي علي وليشرف علي تربيته، وفي سنه جدباء، اقترح النبي علي عمه العباس ان يساعدوا ابا طالب فيكفلون بعض بنيه، فاخذ العباس جعفرا واخذ الرسول عليا لينفق عليه، ويضمه الي اسرته، وكان عمر علي يوم ذاك ست سنين [771] ، وعندما اخذ الرسول عليا قال صلي اللّه عليه وآله وسلم: (قد اخترت من اختاره اللّه عليكم عليا) [772] ، وهذا التصريح يوكد، بان ضم الرسول لعلي ترتيب رباني، فقد اراد اللّه ان ينشا ولي عهد النبي والامام من بعده في كنف النبي، ليتربي الولي تربيه خاصه، وليعد اعدادا كافيا لتولي الامامه بعد موت النبي، وليتثبت فواد علي بما يري من المعجزات. وهكذا عاش الامام علي مع النبي في بيت واحد طوال الفتره التي سبقت النبوه وخلال فتره النبوه التي سبقت الهجره، وما بعدها ايضا.
لقد كشف الامام علي عن عمق ارتباطه بالنبي خلال تلك المرحله، والمراحل التي تلتها فقال: (وضعني في حجره وانا وليد، يضمني الي صدره، ويكتنفني فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرقه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه.. وما وجد لي كذبه في قول، او حظله في فعل، وكنت اتبعه اتباع الفصيل لاثر امه، يرفع لي كل يوم من اخلاقه، ويامرني بالاقتداء به، وكنت في حراء، فاراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسولاللّه، وخديجه وانا ثالثهما، اري نور الوحي،واشم ريح النبوه) [773] .وسئل قثم بن العباس، كيف ورث علي رسولاللّه دونكم؟ فقال قثم: (كان اولنا لحوقا به واكثرنا لصوقا به) [774] ، واخرج البيهقي في دلائل النبوه عن علي، كما نقل الاربلي في كشف الغمه [775] خرج الرسول في بعض نواحي مكه فما استقبله شجر ولا جبل الا قال له: (السلام عليك يا رسولاللّه)، وقال الامام جعفر الصادق عليه السلام: (كان علي عليه السلام، يري مع النبي صلي اللّه عليه وآله وسلم الضوء ويسمع الصوت) [776] ، وقال النبي يوما لعلي: (انك تسمع ما اسمع وتري ما اري، الا انك لست بنبي، ولكنك وزير، وانك لعلي خير) راجع شرح النهج كما ورد في سيره الرسول واهلبيته [777] .
نبيء النبي يوم الاثنين، واسلم علي يوم الثلاثاء، قال الامام زين العابدين (ولقد آمن علي باللّه تبارك وتعالي وبرسوله وسبق الناس كلهم الي الايمان باللّه وبرسوله والي الصلاه ثلاث سنين). وكون عليبن ابي طالب اول المومنين، حقيقه لا يماري فيها الا قاده التحالف وشيعتهم الذين فصلوا الدين علي قدر التاريخ وقد اشار الي حقيقه ان عليا اولالمسلمين [778] .وقال الامام الحسن في خطبه له في مجلس معاويه: (انشدكم اللّه ايها الرهط! اتعلمون ان الذي شتمتموه منذ اليوم صلي القبلتين كلتيهما وانت يا معاويه بهما كافر، تراها ضلاله وتعبد اللات والعزي غوايه، وانشدكم اللّه هل تعلمون انه بايع البيعتين كلتيهما بيعه الفتح وبيعه الرضوان وانت يا معاويه باحداهما كافر وبالاخري ناكث، وانشدكم اللّه هل تعلمون انه اول الناس ايمانا، وانك يا معاويه من المولفه قلوبهم).. [779] قال انس بن مالك: بعث النبي يوم الاثنين واسلم علي يوم الثلاثاء،اخرجه الترمذي [780] والحاكم في المستدرك [781] .وابن الاثير في جامع الاصول كما في تلخيصه تيسير الوصول. [782] قال زيد بن ارقم اول من اسلم مع رسولاللّه عليبن ابي طالب. [783] قال تعالي: (والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون) [784] فمحمد هو الذي جاءبالصدق، وعلي هو الذي صدق به [785] .لم يفارق النبي قط، كانا معا في مكه، وكانا معا في المدينه، وسكنا في بيت واحد طوال حياه النبي التي ادركها علي، لم يجادل النبي، ولم يعانده، ولم يعصه طرفه عين، انما كان الصديق لكل اقواله، مثلما كان فارسه الاوحد في كل حروبه، ومن هنا وصفه الرسول: (بانه الصديق الاكبر والفاروقالاعظم) [786] . وما الذي يمنع من ان يكون علي هو اول من آمن، وقد عاش في كنف النبي منذ كان وليدا في السادسه من عمره، وكان يرافق النبي اينما حل وارتحل، يتبعه اتباع الفصيل لاثر امه، وقد شاهد خلال رفقته لرسولاللّه من آيات ربه الكبري ما لم يشاهد غيره!!
اثبتنا في الفصول السابقه ان قاده التحالف!، اطلقوا سلسله من الشائعات ضد الرسول نفسه!، فشككوا بخلق الرسول!، وشككوا بتوازنه!، ووصلت بهم الامور حدا ان شككوا بعقله!! فقالوا: هجر رسولاللّه، وزايدوا علي الرسول نفسه، وحاولوا ان يلقوا في روع العامه انهم احرص علي الدين من الرسول، وارحم بالامه منه، وصولا لغايتهم الكبري وهي الاستيلاء علي السلطه، ونسف الترتيبات الالهيه لعصر ما بعد النبوه، ونجحوا في ذلك، وصارت قياده الامه من بعد النبي لمن غلب. وعملت وسائل اعلام السلطه الغالبه كل جهدها لتحويل اشاعاتها ضد النبي وآله الي قناعات. وآلت الامور الي ابي بكربن ابي قحافه رضي اللّه عنه، فسموه صاحب النبي وصديقه، وقالوا: انه اول من اسلم، وعهد ابو بكر بالخلافه لعمر، فسمي فاروقا، ومع الايام وضغط وسائل الاعلام تحولت الشائعات الي قناعات، وبعد زمن ظهرت الحقائق فاذا عليبن ابي طالب هو اول من اسلم، واذا بالنبي قد وصفه: بانه الصديق الاكبر والفاروق الاعظم، فعز علي شيعه الخليفتين ذلك فوقفوا بالمرصاد ليحولوا بين الناس وبين معرفه الحقائق الشرعيه، ولكشف حقيقه فعلهم بانهم قد تبعوا الدين للتاريخ، وقاسوا الدين علي التاريخ وكان الاولي بهم ان يتبعوا التاريخ للدين، وان يقيسوا التاريخ علي هذا الدين، فما وافق الدين فحق هو، وما خالفه فهو رجس من عمل الشيطان، والتبري منه اولي بالعاقل.
تجسيدا لمنزله علي عند النبي، وابرازا لقربه منه، وانه لا يوجد من هو اقرب من علي اليه، اعلن النبي بامر من ربه، ان علي بن ابي طالب هو اخوه حقا، وانه تعالي قد آخي بينهما، قبل الهجره وبعدها، وامره ان يعلن عن هذه الاخوه امام المسلمين ليزداديقينهم بولي عهد نبيهم، وبقائدهم من بعده [787] .وحتي لا ينسي المسلمون رابطه الاخوه بين النبي وعلي ذكرهم النبي بهذه الاخوه في مناسبات متعدده فقال (بشاره اتتني من ربي في اخي وابن عمي وابنتي بان اللّه زوج عليافاطمه) [788] .وانظر الي قول النبي مخاطبا عليا: (انت اخي وصاحبي ورفيقي في الجنه) [789] ومثل قوله لعلي: (واما انت يا علي فاخي وابو ولدي ومني والي..) [790] وظل النبي يردد ويعلن هذه الاخوه طوال حياته، ولما حضرته الوفاه قال النبي (ادعوا لي اخي) [791] ، فلما جاء علي قال له النبي: ادن مني فدنا منه، واسند اليه ولم يزل يكلمه حتي فاضت روحه الزكيه. ومن هنا كثيرا ما قال علي (انا عبد اللّه واخو رسوله، وانا الصديق الاكبروالفاروق الاعظم لا يقولها بعدي الا كاذب) [792] . وكان معروفا عند العامه والخاصه اخوه النبي لعلي، مثلما كانت معروفه تاريخيا اخوه ابي بكر لعمر. وكان الناس يرسلون هذا ارسال المسلمات وقد عهد ابو بكر لاخيه عمر ونفذ عهده، بينما عهد الرسول لاخيه علي ولم ينفذ لان قياده التحالف رات ان عهد النبي ليس في مصلحه المسلمين!! وان الترتيبات الالهيه لعصر ما بعد النبوه ستفرق بطون قريش عن الاسلام لذلك اوجدوا بديلا للترتيبات الالهيه!!
الانسان بالفطره يجب ان تكون له ذريه تمتد بعد وفاته، وتنمو لتعبر عن وجوده، ومروره بالحياه وارتباطه بها، ومحمد انسان بالدرجه الاولي يحب ما يحب الانسان بفطرته، وكل نبي من الانبياء كانت له ذريه من بعده في قومه، تذكرهم به، وبالمباديء والمثل العليا التي نادي بها هذا النبي او ذاك ومن الطبيعي ان تكون ذريه كل نبي من صلبه. ليكون ابوهم، وعقبهم ينتمون اليه. ولان محمدا آخر الانبياء، ولان عليا آخر الاوصياء، واحكاما لحلقه التكامل والترابط بين رسولاللّه وبين ولي عهده والامام من بعده، واقناعا للمسلمين شاءت حكمه اللّه وارادته ان تكون ذريه النبي من صلب علي وان تكون فاطمه بنت محمد هي رمز استمرار هذه الذريه، لقد مات اولاد الرسول الذكور، وانقطعت ذريه النبي من بناته الاخريات، وبقيت ذريه النبي محصوره بنسل فاطمه من علي وتلك حكمه ربانيه، واحكام للحجه علي العباد وقد اعلن عن هذه الحقائق قبل وقوعها ويوم اعلنها النبي كان احدي بناته تحت ابن ابي العاص، والاخري تحت عثمان، وكانت سيده نساء العالمين مع علي ومع هذا فان النبي يوكد بان ذريته ستكون من فاطمه وعلي، حيث تنتمي ذريتها له، فيكون ابوهم ان في ذلك لايه لقوم يعقلون. قال صلي اللّه عليه وآله وسلم: (ان اللّه جعل ذريه كل نبي من صلبه، وجعل ذريتي من صلب علي) [793] ، وهذا معني قول النبي: (كل بني انثي ينتمون الي عصبتهم الا ولد فاطمه فانا وليهم وانا عصبتهم وانا ابوهم) اخرجه الطبراني وهو الحديث رقم 22 من الاحاديث التي اوردها ابن حجر [794] حيث قال: انه حديث صحيح، وطالما قال النبي لعلي: (واما انت يا علي فاخي وابو ولدي).. [795] وقال مشيرا لعلي: (هذا اخي وابنعمي وصهري وابو ولدي).. [796] . فليست صدفه ان تنحصر ذريه النبي بولد فاطمه، وقد احيطت الامه علما بذلك قبل وقوعه، وعلمت الامه في ما بعد علم اليقين، انه ليس للنبي ولد الا ولد فاطمه، وطالما ردد النبي بحب طافح وفخر ساحق، هذا ابني الحسن، وهذا ابني الحسين، وان اللّه سماهما باسميهما هذين، وانهما سيدا شباب اهل الجنه، وريحانتاه من هذه الامه. وبالرغم من محاولات قاده التحالف المستميته لاباده نسل النبي حتي يحلو لهم وجه الاستيلاء علي السلطه، وبالرغم من ان معاويه قد سم الامام الحسن، وان ابنه يزيد قتل الحسين، واباد الذريه المباركه في كربلاء، وبالرغم من مطارده الائمه وملاحقتهم طوال التاريخ الا ان السماء بقيت متالقه بنجومها.
كان النبي علي علم بان لا يكون له ذريه من صلبه، ولا يكون له اولاد ذكور تلك حكمه اللّه، وكان يعلم ان ابنته فاطمه الزهراء صديقه، اجتباها اللّه واصطفاها كما اصطفي البتول مريم، وان اللّه يعدها لامر عظيم، وانه تعالي سيختار لسيده نساء العالمين سيدا يليق بمقامها، وكانت سيده نساء العالمين تتالق في بيت ابيها بالعز كانها كوكب دري، تطمع لعليائها الانظار وتهوي فخرها ومكانتها قلوب الرجال، خطبها ابو بكربن ابي قحافه فرفض النبي ان يزوجها له، وخطبها عمر ورفض النبي، كانجواب النبي واحدا (انه ينتظر امر ربه) [797] .
وفي احدي الايام جاءت البشاره التي طالما انتظرها النبي، وزف الرسول البشاره الي الامه الاسلاميه فقال لاصحابه: (بشاره اتتني من ربي في اخي وابن عمي وابنتي بان اللّه زوجعليا فاطمه) [798] .ويزف النبي الخبر لسيده نساء العالمين فيقول لفاطمه مذكرها بنعمه اللّه (اما ترضين ان اللّه اختار من اهل الارض رجلين احدهما ابوك والاخر بعلك). [799] وقالت فاطمه: يا رسولاللّه زوجتني عائلا لا مال له، فقال لها النبي صلي اللّه عليه وسلم: (اوما ترضين ان يكون اللّه اطلع الي اهل الارض فاختار منهم رجلين فجعل احدهما اباك والاخر بعلك). [800] واشتكت فاطمه من فاقتها يوما فذكرها النبي بنعمه اللّه عليهم حيث قال لها: (اما ترضين اني زوجتك، اقدمامتي سلما، واكثرهم علما، واعظمهم حلما) [801] .
لقد جاء امر اللّه بعد طول انتظار، وصدر القرار الالهي بان تتزوج سيده نساء العالمين الصديقه البتول فاطمه بنت محمد رسولاللّه ومصطفاه وخيرته من اهل الارض، عليبن ابي طالب، ولي اللّه والامام من بعد النبي وخيره اللّه ومصطفاه من اهل الارض بعد محمد، وهكذا التقت الصفوه فاطمه، بعلي الصفوه، تحت اشراف صفوه الصفوه، وتزوج السيد من السيده ضمن ترتيب الهي ليخرج من تلاقح الصفوتين الائمه الكرام الذين سيتتابعون علي قياده الامه بعد وفاه جدهم محمد وابيهم علي. ومن هذا التلاقح والتزاوج والتقارب تتكون موسسه اهل بيت النبوه، لتكون احد الثقلين، بحيث يكون القرآن ثقل، واهل بيت النبوه وائمتهم الثقل الاخر، وقضي الحق جلت قدرته علي الامه انها لن تدرك الهدايه الا بالاثنين معا، ولن تتجنب الضلاله الا بالاثنين معا، مثلما قضي اللّه عليها ان يكون اهل بيت النبوه فيهم مثل سفينه نوح، فكلما اوشكت الامه علي الغرق تهرع للسفينه الجاهزه، ثم قضي اللّه ايضا ان يكون الائمه نجوم واعلام الامه تهتدي بهم، كلما حلت الظلمات، واختلطت عليها المنهاج والطرق وخلال حياه النبي انعم اللّه علي الصفوه بالحسن والحسين، فتولي اللّه تسميتهما، واعلن النبي امامتهما قاما او قعدا، ومن الحسين في ما بعد انحدر الائمه التسعه وعمليه تزويج اللّه لعلي من فاطمه، والنسل المبارك جزء لا يتجزء من الترتيبات الالهيه لعصر ما بعد النبوه فقد سمي اللّه اثني عشر اماما.. وامر نبيه ان يعلنهم علي الامه ليقودها بالتتابع كل امام يسلم الرايه لمن يليه حيث يكون كل واحد منهم امام الامه وقائدها ومرجعها، وقد سماهم الرسول قبل ان يولدوا، واخبر الامه بعددهم قبل ان يولدوا ايضا، اول الائمه عليبن ابي طالب، 2-الحسنبن علي، 3-الحسينبن علي، 4-زين العابدين عليبن الحسين، 5-محمدبن علي الباقر، 6-جعفربن محمد الصادق، 7-موسيبن جعفر الكاظم، 8-عليبن موسي الرضا، 9-محمدبن علي الجواد، 10-عليبن محمد الهادي، 11-حسنبن علي العسكري، 12-محمدبن الحسن المهدي. وسنعالج هذا الموضوع في حينه.
رتبت العنايه الالهيه حتي طريقه سكن النبي وولي عهده والامام من بعده حيث سكنا معا قبل النبوه في بيت واحد، وبعد النبوه بقيا معا، وقبل ان يتزوج علي، كان يسكن مع النبي، وبعد زواجه بقي ساكنا مع النبي، ولم لا، فعلي ولي عهده والامام من بعده، وهو ابن عمه واخوه وابو ولده، واراد اللّه سبحانه وتعالي ان يجعل من موضوع سكن علي مع النبي جانبا وبابا تطل منه الشرعيه وتثبت ولايه عهد علي للنبي وامامته من بعده، فامر اللّه نبيه ان يقف خطيبا ليقول: (ان رجالا يجدون في انفسهم شيئا، ان اسكنت عليا في المسجد واخرجتهم، واللّه ما اخرجتهم واسكنته بل اللّه اخرجهم واسكنه. ان اللّه عز وجل قد اوحي الي موسي واخيه ان تبوءا لقومكما بمصر بيوتا، واجعلوا بيوتكم قبله واقيموا الصلاه، وان عليا مني بمنزله هارون من موسي وهو اخي ولا يحل لاحدمنكم ان ينكح فيه النساء الا هو) [802] .واخرج رسولاللّه عمه العباس وغيره من المسجد فقال العباس: تخرجنا وتسكن عليا؟ فقال الرسول: (ما اخرجتكم واسكنتهولكن اللّه اخرجكم واسكنه) [803] .وخطب النبي يوما فقال: (اما بعد فاني امرت بسد هذه الابواب الا باب علي، فقال فيه قائلكم، واني ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكني امرت بشيء فاتبعته) [804] ، وقال: (واللّه ما اخرجتكم من قبل نفسي، ولا انا تركته، انما انا عبد مامور ما امرت به فعلت، ان اتبع الا ما يوحي الي) اخرجه الطبراني، راجع منتخب الكنز [805] .ثم قال النبي موضحا: (ان اللّه اوحي الي نبيه موسي ان ابن لي مسجدا طاهرا لا يسكنه الا انت وهارون، وان اللّه اوحي الي انابن لي مسجدا طاهرا لا يسكنه الا انا واخي علي) [806] .
اعلن النبي بامر من ربه وامام المسلمين حيث خاطب عليا قائلا: (انت مني بمنزله هارون من موسي الا انه لا نبي بعدي) مما يعني: ان لعلي كافه المنازل التي كانت لهارون، ولم يستثن الا النبوه، ومن المعروف ان المنازل التي كانت يتمتع بها هارون مع موسي هي الوزاره، وشد الازر والمشاركه في الامر، وخلافه موسي عند غيابه، بالاضافه الي نبوه هارون فعليبن ابي طالب بموجب هذا النص يتمتع بكافه اختصاصات وصلاحيات هارون كلها سوي انه ليس نبيا. وقد اجمعت الامه علي صحه حديث المنزله، وعلي صدوره من رسولاللّه، وقد اعترف بصحته حتي معاويه بن ابي سفيان، المشهور بكراهيته للامام علي واهل بيت النبوه وبحقده عليهم [807] .
علي ضوء هذه النصوص التي سقناها، والتي وصلت اليها بالرغم من الخطر الشديد الذي فرضه قاده التحالف علي كافه احاديث رسولاللّه، -روايه وكتابه- وعلي الرغم من ان الخليفتين ابو بكر وعمر قد حرقا بالنار كافه الاحاديث النبويه التي طالتها ايديهما. وقد وصلتنا هذه النصوص علي الرغم من ان سبه علي بن ابي طالب واهل بيت النبوه كانت وردا يوميا، وواجبا مفروضا بقوه الدوله وجبروتها علي كل مواطني الدوله الامويه. لكن هذه النصوص فرضت نفسها باحكام النبي، وقدرته العجيبه علي تلقين الجموع بما يريده اقامه لحجه البيان علي العباد، وقياما بواجبها. علي ضوئها يبدو واضحا بشكل قاطع بان: عليبن ابي طالب وذريه النبي الطاهره هم اولي بالنبي، واقرب اليه من قاده التحالف، ومن بطون قريش عامه، ومن بني تيم وبني عدي وبني خاصه. واننا امام سلطان اعطاه اللّه لمحمد وآل محمد، واقام الحجه علي العباد باحقيتهم به. وامام قوي اخري تحالفت واخذت الحق من اصحابه الشرعيين، واستولت علي السلطه بالقوه.
النبي يعلم بان قاده التحالف ماضون قدما بمخططهم الرامي الي الحيلوله بين علي والامامه من بعد النبي، وبين اهل بيت النبوه، وبين اي دور مميز لهم بقياده الامه، حسدا من عند انفسهم، وحقدا علي آلمحمد، وبدعوي ان الهاشميين قد اخذوا النبوه وهي تكفيهم، ومن العدل ان تعطي بطون قريش الخلافه او الملك، وامام اصرار النبي علي تبليغ رساله ربه المتعلقه بقياده الامه من بعد النبي، شن قاده التحالف حمله سريه علي النبي للتشكيك بقوله، وخلقه، وعقله وصدقه، وقد قدر النبي ان حمله قاده التحالف تلك محكوم عليها بالفشل، وان منفذهم الوحيد هو الغموض، لذلك اصر النبي علي توضيح الامر الالهي باختيار عليبن ابي طالب لقياده الامه من بعده بكل وسائل التوضيح، وتقديمه بكل مصطلح معروف، ليضع الامه بالصوره كامله، وليرسخ الامر الالهي بالاذهان، وليغطيه تغطيه اعلاميه كافيه، فيكون بهذه الحاله قد بلغ رسالات ربه كامله غير منقوصه.
لو درسنا تاريخ الدوله الاسلاميه التي استولت علي السلطه عن طريق القوه والتغلب من بعد وفاه الرسول حتي سقوط آخر سلاطين الدوله العثمانيه، لوجدنا ان المسلمين قد اطلقوا علي رئيس هذه الدوله سلسله من النعوت والالقاب والاصطلاحات لا تعدو ان تكون نعتا او لقبا من الالقاب التاليه: 1-خليفه، 2-وصي، 3-ولي، 4-ولي الامر، 5-امير المومنين، 6-سيد المسلمين، 7-سيد العرب، 8-وريث، 9-القائد، 10-امام، 11-المبين، 12-المنذر، 13-الهادي، 14-الحجه، 15-السلطان، 16-الملك (والسلطان والملك كنايه عن حوزه المنصب والتمكن منه، وطالما تحاشي الخلفاء التلقب بهذين المصطلحين).
تاديه لرساله البلاغ، واحكاما بايصالها للامه، وتحصينا لها من الغموض قدم النبي ولي عهده اماما للامه، وقائدا لها، ومرجعا من بعده بكل الاصطلاحات المتعلقه برئيس الدوله الاسلاميه والتي عرفت او ستعرف في ما بعد كما ساثبت ذلك في البحوث التي تلي بما امكن من التركيز والايجاز.
يوم اعلن الرسول انباء النبوه والرساله والكتاب اعلن نبا الخلافه من بعده، امام نفس الجمع وقال: (ان هذا اخي وخليفتي ووصيي فيكم من بعدي فاسمعوا له واطيعوا) وكان آخذا برقبه عليبن ابي طالب «وهذا الحديث صحيح ، وقد ذكر ابو جعفر الاسكافي، وابن جرير الطبري، كما ذكر ذلك السيوطي في (جامع الجوامع) [808] ، ورجاله كلهم ثقات، وقد ارسل ائمه الحديث هذا الحديث ارسال المسلمات وقد وثقنا ذلك فيالبحوث السابقه [809] .وفي نفس الاجتماع الذي تم فيه اعلان النبوه، ضرب النبي بيده علي يد علي كنايه عن المبايعه [810] ، وبايعه الرسول علي ذلك فعلا [811] ، هنالك قال الرسول امام الحاضرين لعليبن ابي طالب: (انت اخي، ووصيي وخليفتي من بعدي). [812] حتي يتذكر الجميع قرار التعيين ولا يمحي من الذاكره: هنالك قال النبي لعلي: (ادن مني، فدنا علي، ففتح النبي فاه ومج فيه من ريقه، وتفل بين كتفيهوثدييه) [813] .
قال الرسول لعلي: انت خليفتي.. هل من الممكن ان قاده التحالف لا يعرفون المعني الاصطلاحي لكلمه خليفه؟! الواقع يوكد بان قاده التحالف يعرفون معني خليفه، ومعني الاستخلاف بدليل ان عمر قال لابنه عند موته: (ان لم استخلف فان رسولاللّه لم يستخلف، وان استخلف فقد استخلف ابو بكر). هذا ما اخرجه ابو نعيم في حليته [814] ، ومسلم في صحيحه، والبيهقي في سننه وابن الجوزي في سيره عمر. واخرج البلاذري في انساب الاشراف [815] ، عن ابن عباس ان عمر قد قال: لا ادري ما اصنع بامه محمد؟ فقال له ابن عباس: (ولم تهتم وانت تجد من تستخلفه)؟ وهذا يعني ان عمر كان يعرف معني كلمه (خليفه)، ومعني الاستخلاف الذي نصه رسولاللّه. ثم ان ام المومنين عائشه اوصت لعمر: (ان استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا، ففهم عمر معني رسالتها فقال عمر: ومنتامرني ان استخلف) [816] . ثم ان روايه عمر شهيره ومستفيضه فطالما روي الرواه قول عمر: (لو كان ابو عبيده حيا وليته واستخلفته، ولو كان خالدبن الوليد حيا وليته واستخلفته، ولو كان سالم مولي ابي حذيفه حيا وليته واستخلفته، ولو كان معاذبن جبل حيا... الخ. فعمر: يعبر عن منصب رئاسه الدوله الاسلاميه بمصطلح (خليفه)، ويعبر عن التنصيب ب(الاستخلاف). فليس في كلمه خليفه اي غموض وتودي للمعني المقصود، ولا يمكن تاويلها.مما يفيد: ان عمر بن الخطاب وقاده التحالف فهموا مغزي قول الرسول لعلي: (وخليفتي من بعدي..) ولكنهم قدروا ان القرار الالهي بتعيين عليبن ابي طالب خليفه للنبي، واعلان الرسول لهذا القرار غير مناسبين، لان القرار يعطي الرئاسه للهاشميين مع النبوه ويحرم بقيه بطون قريش من هذين الشرفين!! كما وثقنا اكثر من مره.
لتفهم الامه امور دينها المتعلقه برئاسه الدوله الاسلاميه من بعد النبي، وحتي لا تنسي الامه هذه الامور، واداء لواجب البيان المفروض علي رسولاللّه، وكشفا لموامره التحالف التي كانت تحاك اثناء حياته المباركه، وتوعيه للمسلمين، لم يترك رسولاللّه (ص) لقبا او مصطلحا يدل علي رئاسه الدوله من بعده الا وقدم للامه عليبن ابي طالب، علي اساس انه الخليفه من بعده، وانه ولي المسلمين من بعده، وها هو صلي اللّه عليه وآله وسلم يقدمه للامه علي اساس انه الامام من بعده. النص الاول: قال رسولاللّهصلي اللّه عليه وآله وسلم: (لما عرج بي الي السماء انتهي بي الي قصر من لولو منه فراش من ذهب يتلالا، فاوحي الي او امر بي «كذا» في علي بثلاث خصال: انه سيد المسلمين،وامام المتقين، وقائد الغر المحجلين) [817] .النص الثاني: اتي علي بن ابي طالب يوما علي الرسول وهو جالس بين اصحابه فقال الرسول لعلي: (مرحبا بسيد المسلمين، وامامالمتقين) [818] .النص الثالث: عن انس بن مالك قال:... ثم قال: (يا انس اول من يدخل من هذا الباب امير المومنين، وقائد الغر المحجلين «و» سيد المومنين علي) [819] ، ولا احد يعرف من سيكون اول الداخلين من ذلك الباب وبعد فتره دخل علي بن ابي طالب، فنهض رسولاللّه وعانقه تلك واللّه آيه، ودليل قاطع بان الرسول لا يلقي الكلام علي عواهنه كما يزعمون، انما يتبع ما يوحي اليه. النص الرابع: قال الرسول يوما لاصحابه: (ان اللّه تعالي عهد الي في علي عهدا، قلت رب بينه لي، قال اسمع يا محمد. قال: «قلت: سمعت. قال:» ان عليا رايه الهدي بعدي وامام اوليائي ونور من اطاعني) [820] .
لقد اعلن رسولاللّه بخمس مناسبات بان عليا بن ابي طالب هو سيد المسلمين بعده، وان الرسول لم يقل ذلك من تلقاء نفسه انما هو وحي اللّه اليه، لانه صلي اللّه عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوي، وانه يتبع ما يوحي، وما هو الا عبد مامور يومر فيتبع. مثل قوله صلي اللّه عليه وآله وسلم (اوحي اللّه الي في علي ثلاثا انه سيد المسلمين). [821] ومثل قوله صلي اللّه عليه وآلهوسلم (اوحي الي في علي انه سيد المسلمين) [822] .وكقوله لعلي امام الصحابه (مرحبا بسيد المسلمين) [823] .وكان الرسول جالسا بين اصحابه فقال لهم اول من يدخل علينا هذا الباب هو امام المتقين وسيد المسلمين.. وبعد فتره دخلعليبن ابي طالب فنهض الرسول وعانقه [824] .
لقد اعلن رسولاللّه (ص) بمناسبات متعدده ان علي بن ابي طالب هو السيد، وهو الامام وهو القائد، وركز علي هذه المصطلحات الثلاثه وعلي الرغم من ان التاريخ قد كتب بجو معاد تماما لعلي ولاهل بيت النبوه وموال لقاده التحالف، وعلي الرغم من ان الكذب علي رسولاللّه صار امرا ميسورا الا انه لم يرد ان الرسول قال لاي واحد من قاده التحالف (انت الامام، والسيد، والقائد من بعدي) بينما الثابت وبهذا المناخ ان الرسول قد قال كل هذا لعليبن ابي طالب، فبين انه سيد المسلمين وامام المتقين، وانه القائد. مثل قوله(ص): (اوحي اللّه الي في علي ثلاثه.. وقائد الغر المحجلين). [825] وكقوله(ص): (اوحي اللّه الي في عليانه... وقائد الغر المحجلين) [826] .
مع اعلان النبي لنبا النبوه والرساله والكتاب اعلن نبا ولايه عهده والخلافه والوصايه من بعده، وامام سادات بني هاشم وبني عبد المطلب اعلن النبي، ان خليفته من بعده ووصيه علي امره وامته هو عليبن ابي طالب، فاخذ برقبه علي وقال امام الجمع كله: (ان هذا اخي وحبيبي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوا) وهذا الحديث صحيح وقد صححه ابو جعفر الاسكافي وابن جرير الطبري كما ذكر ذلك السيوطي في جامع الجوامع [827] ، ورجاله كلهم ثقاه، وقد ارسل -ائمهالحديث- هذا الحديث ارسال المسلمات [828] .وبعد ذلك ضرب النبي بيده علي يد علي كنايه عن المبايعه علي الخلافه والوصيه [829] ، وبايعه الرسول علي الخلافه والوصيه فعلا [830] ، هنالك اعلن الرسول امام الحاضرين وابلغ عليا رسميا بهذا القرار فقال لعلي (فانت اخي ووزيريووصيي وخليفتي من بعدي) [831] .
بعد هذا الاعلان وتبليغ علي بن ابي طالب رسميا باختيار اللّه سبحانه وتعالي له ليكون خليفه ووصيا للنبي ووزيره علي امره، قال الرسول لعليبن ابي طالب: (ادن مني، فدنا علي، ففتح الرسول فاه، ومج فيه من ريقه، وتفل بين كتفيهوثدييه) [832] .وتلك حاله لم تحدث لاي مسلم قط، ومن الطبيعي ان الرسول لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه، انما هو عبد مامور للّه، امر فاطاع، واوحي اليه فاتبع، وهذا القرار الالهي القاضي باختيار عليبن ابي طالب خليفه للنبي، ووحيا له لم ينسخ، ولم يلغ انما بقي ساري المفعول. لم يكتف النبي الكريم بذلك، انما اعلن وصايه علي، بصيغ مختلفه وباوقات متعدده فقال مره امام اصحابه: (لكل نبيوصي ووارث وان عليا وصيي ووارثي) [833] .
واعلن امام اصحابه مره بقوله: (لكل نبي وصي ووارث، وان وصيي ووارثي عليبن ابي طالب) [834] .
وقال النبي لاصحابه يوما: (ان وصيي موضع سري وخير من اترك بعدي ينجز عدتي، ويقضي ديني عليبن ابيطالب) [835] .
وكان النبي يجلس مع نفر من اصحابه فقال لخادمه انس بن مالك: (يا انس اول من يدخل عليك من هذا الباب امير المومنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، وخاتمالوصيين.. فدخل علي) [836] .
وقال النبي يوما لفاطمه الزهراء: (يا فاطمه اما علمت ان اللّه عز وجل اطلع علي اهل الارض فاختار منهم اباك فبعثه نبيا، ثم اطلع ثانيه فاختار بعلك فاوصي الي فانكحته واتخذته وصيا) [837] .
وبعد استشهاد علي بن ابي طالب، وانتقال الخلافه لابنه الحسن وقف الحسن خطيبا امام وجوه العرب وبقيه الصحابه فقال: (انا ابن النبي انا ابن الوصي) [838] ولم ينكر علي الامام الحسن اي واحد من الناس، وقد شاعت الوصيه في الادب العربي شعره ونثره [839] ، وانظر الي قول جابربنعبداللّه حدثني وصي الاوصياء (يعني عليا) [840] .
انكر البخاري ومسلم ان يكون الرسول قد اوصي، وقد استندوا الي الحديث المنسوب لام المومنين عائشه ومفاده (ان الرسول مات بين سحرها ونحرها وعلي فخذها ولم يوصي). مع ان البخاري نفسه قد روي عن ابن عباس بان الرسول قد اوصاهم حيث قال: (اخرجوا المشركين من جزيره العرب، واجيزوا الوفد بنحو ما كنت اجيزه، وقلت عن الثالثه: وقال نسيتها) كتاب النبي الي كسري وقيصر باب مرض النبيووفاته [841] .ولعل البخاري ومسلم بانكارهما للوصيه قد استندا علي ثبوت الواقعه التي رواها البخاري ست مرات، ورواها مسلم والتي تتلخص بان عمربن الخطاب وحزبه قد حالا بين رسولاللّه وكتابه ما اراد وهو علي فراش المرض وقالوا للرسول -حاشا له-انت تهجر [842] .ومع هذا فان البخاري نفسه قد روي بان الرسول قد اوصي، ونصوص الوصيه التي سقناها تدل دلاله قاطعه، بان رسولاللّه اوصي وذكر بوصيته مرات متعدده. والطريقه التي مات بها رسولاللّه ورواها البخاري ليست مقبوله ولا معقوله ولا تليق بسيد المرسلين، فموت الرسول بين سحر ونحر عائشه وعلي فخذها لا يتناسب اطلاقا مع جلال الرسول ومكانته عند اللّه، ولعل القصد من روايه هذه الطريقه بالموت هو اثبات قرب عائشه من النبي، واثبات بطلان ادعاء الامام بانه الوصي. والحقيقه التي اقرها الخليفه عمربن الخطاب تناقض روايه البخاري عن السيده عائشه، ففي زمان عمر كان الصحابه يجلسون في احدي الايام فسال كعب، ما كان آخر ما تكلم به رسولاللّه؟ فقال عمر: سل عليا، فروي علي كيف مات رسولاللّه وماذا قال. ولو ان الامور كما روي البخاري عن عائشه لكان من دواعي سرور عمر ان لا يسلم بهذا الشرف لعلي، ولاحال الناس يومها لنسال ام المومنين. والثابت ان رسولاللّه لما دنا اجله، واوشكت ان تحضره الوفاه قال: ادعو لي اخي، فدعو عليا، فقال ادن مني، فدنا منه علي ولم يزل يكلمه حتي فاضت نفس الرسول الزكيه، فاصابه بعضريقه [843] .وقد روي هذا الحديث علي وابن عباس، وام سلمه، وعبداللّهبنعمر، وعليبن الحسين وسائر ائمه اهل البيت الكرام [844] .
كما اهل اللّه تعالي نبيه للنبوه والرساله، اهل الامام من بعده للامامه، لان الامام من بعد النبي هو قائد الامه ومرجعها، والقائم مقام رسولها، وبالتالي يجب ان يكون موهلا ومعدا اعدادا الهيا، ليتولي بيان القرآن الكريم من بعد النبي بيانا متفقا مع المقصود الالهي من كل نص وقائما علي الجزم واليقين، بحيث يكون هذا البيان هو عين ما اراد اللّه لا زياده ولا نقصان، ويجب ان يكون الامام من بعد النبي محيطا احاطه كامله بالسنه النبويه بفروعها الثلاثه: (القول، والفعل، والتقرير). لان الدعوه الي دين الاسلام لا ينبغي ان تتوقف بوفاه النبي، لان الدين الاسلامي آخر الاديان، ورسوله خاتم الرسل، وهذا رسول الي الجنس البشري كله والغايه هي دخول هذا الجنس كله في دين اللّه، وطالما ان الدعوه الي الاسلام لا تتوقف بوفاه النبي، ودخول الناس في دين اللّه مستمر، فلا بد من وجود الامام الموهل الهيا لينوب عن النبي في بيان القرآن لهولاء الناس، وتقديم سنه الرسول لهم كما هي دون زياده ولا نقصان، وتوضيح الاحكام الشرعيه، والقدره علي تطبيق هذه الاحكام تطبيقا دقيقا بحيث تكيف هذه الحادثه علي هذا النص او ذاك تكييفا دقيقا. ثم ان الرسول خلال حياته كان مثلا اعلي وقدوه للمسلمين، وكذلك بعد مماته، فلا بد من وجود قدوه ومثلا اعلي حيا للمسلمين ليقتدوا به، والامام من بعد النبي ينبغي ان يكون القدوه.
كان الرسول بالضروره هو الاعلم، والافهم بالدين، فليس في زمان النبي من هو اعلم ولا افهم منه، وكان الرسول هو الاقرب للّه، والاتقي له، فليس في زمانه من هو اقرب للّه ولا اتقي منه، وكان اصلح وافضل ابناء الجنس البشري في زمانه، فليس في الكون الانساني من هو اصلح ولا افضل منه، تلك حقائق دينيه وعقليه لا يجادل فيها عاقل، والصفات التي الصقت بالنبي محمد من كونه الاعلم والافهم بالدين، والاتقي والاقرب الي اللّه وافضل الموجودين هي ثمره تاهيل واعداد الهي ليبلغ الرساله وليقود الدعوه والدوله معا فيكون قائدا للجماعه المسلمه، واماما ومرجعا للناس. وتلك صفات خفيه لا يعلمها علما يقينيا الا اللّه، ومن هنا اختص تعالي نفسه باختيار الرسل وتعيينهم بعد ان اهلهم واعدهم لذلك.
اقتضت حكمه اللّه ان يبلغ الرسل اماناتهم ورسالات اللّه الي نبي البشر، وبعد ذلك يحكم علي الرسل بالموت، ويختار لهم ما عنده، ومحمد كخاتم للرسل لم يستثن من الموت، فبعد ان بلغ الرسول رسالات ربه، وقاد الدعوه وبني الدوله، وبين ما طلب منه بيانه، اعلن للناس، انه قد خير فاختار ما عند اللّه، وانه تعالي قد اوصي اليه بان يرتب عصر ما بعد النبوه حسب المشيئه الالهيه، وانه قد رتب هذا العصر بالصوره التي اوصاها اللّه تعالي له. وكما اختار اللّه محمدا للنبوه والرساله واعده واهله لذلك فانه تعالي قد اختار عليبن ابي طالب ليكون وليا لعهد النبي خلال حياته، وخليفه واماما للامه بعد وفاته وقد اهل اللّه عليا لهذا المنصب الرفيع، فالهم نبيه محمدا ان يكفله صغيرا ليتربي في كنف النبي، وليصنع علي عينه، وبعد ان كلف النبي بالرساله اعلن رسولاللّه نبا الرساله مع نبا الخلافه او الامامه من بعده ليربط النبئين معا برباط عقائدي، ثم اوصي اللّه الي نبيه ان يزوج عليا سيده نساء العالمين فاطمه، ليخرج الائمه من بعد النبي من هذه الشجره المباركه محمد وعلي وفاطمه، ثم اعلن النبي بامر من ربه بان اولئك هم اهل بيته الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وهم الابناء والنساء والانفس كما اوضحت ذلك آيه المباهله مثلما اعلن النبي ان التمسك بهم، وبالقرآن معا هو درب الهدايه، وان تجاهلهم وتجاهل القرآن معا هو جرف الضلاله، وطوال حياه النبي المباركه وهو يعد عليا ليتولي الامامه من بعده، ويزقه بالعلم زقا، ويغرس فيه وفي ذريته افضل الصفات والاخلاق ليكونوا موهلين لقياده الامه ولينقلوا علم النبوه الموثوق من جيل الي جيل. وما انتقل الرسول الي جوار ربه، الا بعد ان تيقن من العلم الالهي بان عليبن ابي طالب هو الاعلم والافهم بعده بالدين، وهو الاقرب الي اللّه ورسوله، وهو الاتقي، وانه افضل واصلح اهل زمانه. وتلك صفات خفيه لا يعلمها علم اليقين الا اللّه. ومن هنا اختص اللّه تعالي نفسه باختيار الرسل، واختيار الائمه من بعده.
لو جارينا الذين قدموا وقائع التاريخ علي نصوص الشرع، وقدموا التابعين لمحمد علي محمد المتبوع لتوصلنا الي النتيجه المدمره التي توصلوا اليها وهي ان محمدا ترك الامه بدون راع، وترك الدوله التي بناها بالعرق والدم نهبا لاطماع الطامعين، او تركها لقمه سائغه لمن غلب، ياكلها من يتغلب ويقهر، وترك الامه بدون قياده ولا مرجعيه ولا امامه!!، فاذا سالتهم من هو قائد الامه ومرجعها وامامها الموهل ليقوم مقام الرسول؟ اجابوك بلسان طلق الخليفه؟! هذا الخليفه قد وصل الي منصبه بالقوه والتغلب وهو غير موهل لقياده الامه وامامتها ومرجعيتها، وهو اعمي من جميع الوجوه، فكيف يقود الاعمي عميانا او مبصرين!! فيتفلسفون ويقولون هكذا قال ابو بكر وقال عمر!! فاذا قلت لهم يا قوم ان للمسلمين برسولاللّه اسوه حسنه لا بابي بكر ولا بعمر، ولا يعدو الرجلان ان يكونا صحابيان جليلان وحاكمان عادلان، ولا يملكا صلاحيه التشريع وهما لا يضفيان علي نفسيهما هذه الهاله المقدسه التي تضفي عليهما!! عندئذ يتهمونك بالتشيع لاهل البيت الكرام وبالتشنيع علي الصحابه، هذا شانهم!!
نظرنا عقليا وشرعيا فكره الاعداد الالهي للرسل والائمه عموما، وبينا ان اللّه تعالي قد اختار عليبن ابي طالب ليكون امام الامه وقائدها ومرجعها من بعد النبي، واعده واهله لذلك: وبادناه طائفه من النصوص الشرعيه التي توكد تنظيرنا العقلي والشرعي.
قال النبي (ص) لاصحابه: (انا دار الحكمه وعلي بابها) [845] . وعن احمد في مناقبه، وفي روايه ان الرسول قال: (انا مدينه الحكمه وعلي بابها).
اعلن النبي امام اصحابه عن علم علي فقال: (انا مدينه العلم وعلي بابها). روي الحاكم بسنده عن مجاهد عن ابن عباس انه قال: قال رسولاللّه: (انا مدينه العلم وعلي بابها، فمن اراد المدينه فليات الباب)، قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الاسناد». [846] والخطيب البغدادي في تاريخه، قال: قال القاسم: سالت يحييبن معين عن هذا الحديث فقال: «هوصحيح [847] .
قال الرسول (ص) لعلي امام اصحابه: (انت تبين لامتي ما اختلفوا فيه من بعدي). [848] قال الحاكم: هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين. قال الرسول لسيده نساء العالمين فاطمه الزهراء: (اما ترضين اني زوجتك اقدم امتي سلما، واكثرهم علما واعظمهمحلما) [849] .
جاء النبي الي فاطمه فوجدها تبكي فقال لها مالك تبكين لقد انكحتك اكثرهم علما، وافضلهم حلما.. [850] .
قال الرسول (ص) لاصحابه: (اعلم امتي من بعدي علي بن ابي طالب) [851] .
قال الرسول (ص) لاصحابه: (علي بن ابي طالب اعلم الناس باللّه وبالناس) [852] .وعن سلمان الفارسي قال: قلت يا رسولاللّه، ان لكل نبي وصيا فمن وصيك؟ فسكت عني، فلما كان بعد رآني فقال: يا سلمان فاسرعت اليه فقلت لبيك قال: تعلم من وصي موسي؟ قلت نعم: يوشعبن نون قال لم؟ قلت لانه كان اعلمهم يومئذ، قال النبي: (ان وصيي وموضع سري وخير من اترك بعدي، ينجزعدتي ويقضي ديني عليبن ابي طالب) [853] .
قال النبي امام اصحابه يوما (علي باب علمي، ومبين من بعدي لامتي ما ارسلت به، حبه ايمان وبغضه نفاق) [854] .
قال النبي (ص): (واقضاهم علي بن ابي طالب) [855] وقال (ص): (واقضاها علي) [856] اي واقضي الامه علي بن ابي طالب. وروي ان الرسول قال (علي اقضي امتي)، وقال(ص)لاصحابه: (كفي وكف علي في العدل سواء) [857] .
قال الرسول لعلي امام الصحابه: (يا علي اخصمك بالنبوه ولا نبوه بعدي وتخصم الناس بسبع لا يحاجك فيها احد من قريش.. انت اولهم ايمانا باللّه، واوفاهم بعهد اللّه، واقومهم بامر اللّه، واقسمهم بالسويه واعدلهم في الرعيه، وابصرهم في القضيه).
قال الرسول امام اصحابه: (انا المنذر وهذا -يعني عليا- هو الهادي وبك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي) [858] .
خطب علي بن ابي طالب فقال في خطبته: (سلوني فواللّه لا تسالوني عن شيء يكون الي يوم القيامه الا حدثتكم، سلوني عن كتاب اللّه، فواللّه ما من آيه الا انا اعلم بليل نزلت ام بنهار، ام فيسهل نزلت ام في جبل) [859] .كان علي بن ابي طالب يقول: (اني واطايب وابرار عترتي احلمالناس صغارا، واعلم الناس كبارا، بنا ينفي اللّه الكذب) [860] .قال علي بن ابي طالب لاحدهم: (يا اخا بني عامر، سلني عما قال اللّه ورسوله فانما نحن اهل البيت اعلم بما قال اللّهورسوله) [861] .بعد وفاه الامام علي خطب الامام الحسنبن علي فقال: (لقد فارقكم رجل بالامس، لم يسبقه الاولون بعلم، ولا يدركه الاخرون، وكان رسولاللّه يبعثه بالرايه جبريل عن يمينهوميكائيل عن شماله لا ينصرف حتي يفتح اللّه عليه) [862] .قال علي بن ابي طالب: (ان ربي وهب لي قلبا عقولا ولساناصادقا ناطقا) [863] .
قال عمر بن الخطاب: (ولقد فاز علي بصهر رسولاللّه.. وعلما بالتنزيل، وفقها للتاويل) [864] .قال سعد بن ابي وقاص: (يا هذا علي ما تشتم علي بن ابي طالب؟ الم يكن اول من اسلم؟ الم يكن اول من صلي؟، الميكن اعلم الناس؟..) [865] .روي يحيي بن معين، قال: (قلت لعطاء: اكان في اصحابمحمد اعلم من علي؟ قال: لا واللّه لا اعلم) [866] .قالت عائشه ام المومنين: (من افتاكم بصوم عاشوراء؟ قالوا عليعليه السلام، قالت عائشه: انه لاعلم الناس بالسنه) [867] .واخرج ابن عبد البر في ج2 ص462 عن عبد اللّه قوله: (اعلماهل المدينه بالفرائض علي بن ابي طالب) [868] .(لما راي عمر بن الخطاب عبد اللّه بن جعفر يلبس ثوبين مضرجين خال ان هذا اللباس حرام فقال عمر ما هذه الثياب؟ فقال له عليبن ابي طالب: ما اخال احدا يعلمنا السنه، فسكتعمر) [869] .كان ابو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان علياشعر الثلاثه [870] .قال عمر بن الخطاب: (اقضانا علي بن ابي طالب) [871] .حتي الحجاجبن يوسف الثقفي قال: (اننا لم ننغم علي عليقضاءه فقد علمنا ان عليا كان اقضاهم) [872] .قال عمر بن الخطاب (علي اقضانا) [873] .عن ابن مسعود قال (كنا نتحدث ان اقضي اهل المدينه علي بنابي طالب) [874] .
كان ابو بكر يرجع الي علي في الامور التي لا يعرفها، او المشتبهه عليه، ولطالما ردد عمر: (لولا علي لهلك عمر)،ورجوعه الي علي امر مسلم مشهور [875] .
لقد رتبت العنايه الالهيه اوضاع علي بن ابي طالب ليكون الاول في كل ميدان، ففي ميدان الجهاد في سبيل اللّه كان عليبن ابي طالب هو الاول ايضا، فكل جهاد يقصر عن جهاده، وكل تضحيه تهون وتقل امام تضحيته، وكل بطوله تتضاءل وتقف هزيله امام بطوله علي، ويمكنك ان تقول وبكل ارتياح، بانه لم يسبق الامام علي بجهاده المميز، اي مهاجر، او انصاري، او مسلم قط، لقد تقدم الامام علي بجهاده وبطولاته وشجاعته علي الجميع فهو المجاهد الاعظم حقا. ضمن ترتيب الهي، كفل النبي ابن عمه عليبن ابي طالب وضمه اليه ليعيش في بيته وليصنع علي عينه، وكان علي في السادسه من عمره وبقي علي مع النبي حتي اختار النبي ماعند اللّه [876] .ومن تاريخ كفاله النبي لعلي وحتي انتقل رسولاللّه الي جوار ربه، وعلي يتبع الرسول اتباع الفصيل لاثر امه «علي حد تعبير الامام ، فهو ابن عمه، وهو اخوه وهو ناصره، وهو ولي عهده، وهو خادمه، فما تحرك الرسول خطوه الا وعلي عن يمينه، وما امر الرسول امرا الا وتلقي الطاعه من علي قبل ان يرتد الي الرسول طرفه. ولما شرف اللّه نبيه بالوحي والرساله، كان علي بن ابي طالب اول من صدقه فاسلم وآمن، تلك حقيقه لا يماري فيها الا شيعه قاده التاريخ، وقد سقنا عشرات المراجع التي توكد بانعليا هو اول المومنين [877] .فمحمد هو الذي جاء بالصدق، وعلي هو الذي صدق به. [878] ومن هنا وصفه الرسول الاعظم بانه هو الصديق الاكبر والفاروق الاعظم وقد وثقنا ذلك في البحوثالسابقه [879] .ولما صمم النبي علي الهجره امر عليبن ابي طالب ان ينام في فراشه ليوهم المتآمرين علي قتل النبي ان النائم هو محمد وليس عليا، حتي يتمكن النبي من شق طريقه نحو المدينه [880] ، وبهذه المناسبه نزل قوله تعالي: (ومن الناسمن يشري نفسه ابتغاء مرضاه اللّه واللّه رووف بالعباد) [881] .وبعد ان ادي الامانات التي كانت عند رسولاللّه لاصحابها جهز علي اهل النبي والفواطم والعواتك، وحركهم علنا مهاجرا الي المدينه دون ان يجرو احد علي التعرض له، او لمن معه، ومن يجرو علي الاقتراب من حمي سيف اللّه واسد اللّه واسد رسوله بالنص الشرعي كما وثقنا. وبوصول النبي الي المدينه، وترتيب اوضاعها الداخليه بدا النبي تحركاته العسكريه، تلك التحركات التي قادت الي مرحله المواجهه المسلحه بينه وبين خصمه اللدود قاده بطون قريش. وكانت بدر اولي معارك تلك المرحله وفي بدر تالق نجم الامام عسكريا، فعرفه القريب والبعيد، واعترف بقدراته الخارقه العدو قبل الصديق، هذه القدرات التي لفتت انظار اهل الارض واهل السماء اذ نادي منادي من السماء: (لا سيف الا ذو الفقار ولا فتي الا علي). [882] تجد بعض فن علي بالقتال، لقد قتل علي وحمزه نصف ما قتل من المشركين يوم بدر، وقتل المسلمون كلهم النصف الاخر. وكان علي وحمزه وعبيد اللّه او لثلاثه خرجوا لمبارزه صناديد الشرك لما يروي البيهقي في سننه [883] ، وابن ماجه في صحيحه باب الجهاد، والبخاري في صحيحه كتاب بدء الخلق، وقد اجمع علي ذلك المفسرون والمورخون واصحاب السير.. ويوم احد فر المسلمون، وفر ابو بكر وعمر وعثمان وغيرهم وثبت علي وقاتل قتال الابطال، فقتل اصحاب الويه الشرك [884] ، واصيب علي في سته عشر ضربه، ومع هذابقي يقاتل حتي امر الرسول بوقف القتال [885] . ويوم الخندق لما برز عمرو بن عبد ود وهو اقوي محارب في جيش الاحزاب واخذ يتبجح من يبارز، ومن الطبيعي ان لا يجيبه احد من الصحابه، فقام علي وهو مقنع في الحديد فقال: انا له يا نبي اللّه، فقال النبي انه عمرو بن عبد ود اجلس فنادي عمرو الا رجل؟ وتبجح عمرو بن عبد ود قائلا:فولقد بححت من الندا لجمعكم هل من مبارزفووقفت اذ وقف الشجاع مواقف القرن المناجز لم يجبه ابو بكر ولم يجبه عمر، ولم يجبه اي مسلم قط، امام هذا الصمت قرر علي ان يواجه عمروبن عبد ود، وان يحطم الروح المعنويه لتجمع الاحزاب بقتل عمرو، فاستاذن علي رسولاللّه فاذن له الرسول، فمشي علي عليه السلام ليبارزه وهو يقول:فلا تعجلن فقد اتاك مجيب صوتك غير عاجزفذو نبهه وبصيره والصدق منجي كل فائزفاني لارجو ان اقيم عليك نائحه الجنائزفمن ضربه نجلاء يبقي ذكرها عند الهزاهزلقد كان عمرو بن عبد ود جبلا حقيقيا لا قدره لاحد به، ولكن هذا الجبل تصدع امام عظمه علي، وقدرته الخارقه التي من اللّه تعالي بها عليه، لقد تمكن الامام علي من قتل عمرو بسهوله، لان قوه عمرو وشجاعته لا تكاد تذكر امام قوه عليوشجاعته [886] . وقد فهمت هذه الحقيقه اخت عمرو يوم رثته فقالت:فلو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته ما اقام الروح في جسديفلكن قاتله من لا يعاب به وكان يدعي قديما بيضه البلدراجع المستدرك علي الصحيحين: وبعد ان قتل علي عمرو بن عبد ود وعاد منتصرا ساله الرسول الاعظم كيف وجدت نفسك يا علي؟ قال: (وجدتها لو كان كلاهل المدينه في جانب لقدرت عليهم) [887] .
صعق المشركون من نتيجه المبارزه، فعمرو بن ود هو اقوي رجل في تجمع الاحزاب، وبدقائق معدوده، جندله عليبن ابي طالب!! وقدرت الاحزاب بان هذا امر عجاب فتحطمت روحها المعنويه، وكان مقتل عمروبن عبد ود من اهم الاسباب التي عجلت برحيلها، وغيرت موازين المعركه نهائيا لصالح الذين آمنوا، وهذا معني قوله تعالي: (ورد اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفي اللّه المومنين القتال) [888] وفي تفسير هذه الايه قال السيوطي (واخرج ابن ابي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود رضي اللّه عنه انه كان يقرا هذا بالحرف (وكفي اللّه المومنين القتال) بعلي بن ابي طالب. وفي ميزان الاعتدال للذهبي [889] ذكر حديثا مسندا عن ابن مسعود انه كان يقرا: (وكفي اللّه المومنين القتال)بعلي [890] .
قال الرسول امام اصحابه: (لمبارزه علي بن ابي طالب عليه السلام لعمروبن عبد ود يوم الخندق افضل من اعمال امتي الي يوم القيامه). [891] فلو لم يقتل علي بن ابي طالب عمرو بن عبد ود لبقيت الروح المعنويه في الاحزاب ولسهل عليها اجتياز الخندق، لكن اللّه تعالي رتب الامور في كل وقعه ليكون عليبن ابي طالب هو البطل تعميما لذكره الشريف، وتثبيتا لمنصبه، واعلاء لشانه.
نعم، كان التسعه الذين اشيع بانهم مبشرون بالجنه هنالك، وقد سمعوا نداء عمرو بن ود مرارا ولكن لم يجبه احد منهم، كان عمربن الخطاب وكان ابو بكر وكان عثمان، وكان طلحه، وكان الزبير..
اعطي رسولاللّه الرايه الي ابي بكر فخرج ابو بكر ورجع ولم يفعل شيئا، ثم اعطي الرايه لعمر فخرج عمر ورجع ولم يفعلشيئا [892] .وفي كنز العمال [893] ان رسولاللّه بعث ابا بكر في الناس فانهزم حتي رجع، ثم بعث عمر فانهزم بالناس حتي رجع، وقال المتقي الهندي اخرج هذا الحديث ابن ابي شيبه، واحمدبن حنبل، وابن ماجه، والبزار وابن جرير، وصححه والطبراني في الاوسط والحاكم والبيهقي في الدلائل، والضياء المقدسي فيالمختار، والي هذا اشار الهيثمي في مجمعه [894] .اما الواقدي فقد اشفق ان يقرن اسم ابي بكر وعمر بالهزيمه والرجوع دون فعل شيء لذلك روي الخبر علي الصوره التاليه (دفع رسولاللّه لواءه الي رجل من اصحابه المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا ثم دفعه الي رجل آخر فرجع ولم يصنع شيئا).. [895] ولاح للواقدي انه بهذا العمل قد برا ابو بكر وعمر من تهمه الهزيمه، وانه قد تقرب الي اللّه باخفاء الحقيقه!! امام تراجع المسلمين سالت كتائب اليهود ورجحت كفتهم، واقبل الليل وحجز بين المتقاتلين، وعرف المسلمون انفسهم علي حقيقتها بدون محمد وآلمحمد، بهذا المناخ قال النبي (لاعطين الرايه غدا رجلا يحبه اللّه ورسوله يفتح اللّه علي يديه كرار ليس بفرار).. [896] وفي الصباح نادي علي بن ابي طالب وكان ارمدا لا يري فتفل بعينيه واعطاه الرايه [897] ، كما نقله عن ابن شبه وابن حنبل وابن ماجه والبزار وابن جرير وصححه والطبراني في الاوسط والبيهقي في الدلائل، ومستدرك الصحيحين [898] ، ولا ينكر احد من اهل المله قول الرسول هذا، ولا ينكر احد واقعه اعطاء الرايه لعلي وبالرغم من كراهيه القوم وحقدهم علي علي، وبراعتهم بتحريف الواقعات التاريخيه وتظهيرها مجانا لصالح قاده التاريخ الا انهم عجزوا عن اخفاء تلك الحقيقه او تحريفها. اخذ علي الرايه واندفع كالاعصار بقوه ربانيه كما يقول الفخر الرازي، وتلقاهم اليهود، فانكشف المسلمون وثبت علي وحده، وتمكن من قتل الحارث قائد اليهود، فرجع اصحاب الحارث الي الحصن، وتمكن علي من قهر يهود خيبر لاول مره، ودنا الامام من الحصن فضربه يهودي فطرح ترس الامام من يده، فتناول الامام بابا وتترس به، وبقي الامام علي يقاتل بقوه لم تالفها البشر حتي سقطت حصون خيبر حصنا بعد حصن، وايقن من تبقي من اليهود بالهلكه فنزل ابن ابي الحقيق واعلن استسلامه بالتفصيل الذي ذكرناه في الفصول السابقه، انثمانيه نفر عجزوا عن قلب الباب الذي تترس به الامام [899] .
قال الهيثمي في مجمعه [900] عن انس: (لما كان يوم حنين انهزم الناس عن رسولاللّه الا العباسبن عبد المطلب وابو سفيان بن الحارث ابن عم النبي وعليبن ابي طالب، وكان علي يومئذ اشد الناس قتالا بين يديه)، وقال: رواه ابو يعلي والطبراني في الاوسط. وكان علي هو الذي ناول رسولاللّه التراب فرمي به وجوهالمشركين يوم حنين وقال: رواه البزار [901] .
بهدوء وبدون ضجه لا، وهم لا يمارون في ذلك؟ فان كان موقفهم كذلك فما لهم كيف يحكمون!! الهم الغنم وعلي آل محمد الغرم!!
لم يكن علي بن ابي طالب هو المجاهد الاعظم في سبيل اللّه فحسب، انما كان ابن مجاهد عظيم، ونعني به والد الامام علي وهو عبد مناف بن عبد المطلب المكني بابي طالب، وعلي الرغم من ان اعلام قاده التاريخ قد شوه سمعه ابي طالب، ووصمه بالشرك، وزجه في ضحضاح من النار علي حد تعبير المغيره بن شعبه، الا ان اعلام قاده التاريخ اقل من ان يطمس الحقيقه في موازين العدل الالهي، وحتي في موازين العقل البشري المحايد الذي يحترم نفسه.
يكفي ابو طالب شرفا انه قد كفل النبي وعمره ثماني سنين، وبقي النبي في بيت عمه ابي طالب وتحت اشرافه حتي بلغ الخامسه والعشرين، حيث تزوج النبي واستقل في بيته الخاص، خلال هذه المده التي امتدت سبع عشره سنه كان الرسول بمثابه الابن لابي طالب وزوجته، وكان اولاد ابي طالب بمثابه اخوه الرسول، ولما شرف اللّه نبيه بالرساله كان ابو طالب من اول المومنين به، والمدافعين عنه، وقد عبر رسولاللّه عن امتنانه لابي طالب، ورضاه عن مواقفه النبيله عندما وقف امام جثمانه الطاهر فقال الرسول والحزن يملا قلبه: (يا عم، ربيت صغيرا، وكفلت يتيما، ونصرت كبيرا فجزاك اللّه خيرا) [902] ، واعتبر الرسول فقدان ابي طالب مصيبه علي الامه فقال: (لقد اجتمعت علي هذه الامه مصيبتان لا ادري بايهما انا اشد جزعا) [903] ، وعبر النبي بدقه عن هول المصيبه بفقدان عمه، وعن الفراغ الهائل الذي تركه بوفاته فقال: (ما نالت منيقريش حتي مات ابو طالب) [904] .
كان ابو طالب شيخ البطاح بلا كلام، وكان سيد قريش وحكيمها تدين له بطون قريش بالطاعه، وتكن له اعمق التقدير والاحترام، وابو طالب من القله القليله التي سادت رغم ضيق ذات اليد، لقد استغل ابو طالب موقعه ومكانته في مكه، وحاول جاهدا ان يكون همزه الوصل بين ابن اخيه الرسول وبين بطون قريش ليسحب فتيل التوتر ما امكنه، وليخفف حده الصراع، ويجعله دائما تحت السيطره، فقد فاوضته بطون قريش، واشتكت له من ابن اخيه، ونقل وجهه نظر البطون الي ابن اخيه الرسول، وجمع بينه وبين سادات البطون، وفاوضهم النبي في بيت ابي طالب وتحت اشرافه، ثم وصلت المفاوضات بين الطرفين الي طريق مسدود [905] ، وليتمكن ابو طالب من حمايه ابن اخيه الرسول ودعمه، وحد البطن الهاشمي خلف قيادته، وضم اليهم بطن بني المطلب وجعل من البطنين قوه واحده، تاتمر بامره، ومهمتها الاولي والاخيره المحافظه علي حياه الداعيه محمد ودعوته الاسلام.
لما وصلت المفاوضات بين محمد وبين بطون قريش الي طريق مسدود، وراي سادات البطون ان الناس بداوا بالدخول في الاسلام، راي سادات البطون ان الحل الامثل لخلاصهم من محمد ودعوته يتمثل بقتل محمد، ولكن سادات البطون خشوا من رده فعل ابي طالب، فاشاعت البطون ان محمدا قد قتل وكان محمد غائبا، فجمع ابو طالب فتيه بني هاشم وبني المطلب في منزله، واعطي لكل واحد منهم حديده صارمه، وقال لهم اذا دخلت المسجد اتبعوني، فلينظر كل فتي منكم فليجلس الي عظيم من عظمائهم وكانت خطه ابي طالب ان يقتل كل عظماء بطون قريش، وفي هذه الاثناء حضر الرسول، فاخذ بيده ومعه الفتيه الهاشميون والمطلبيون ودار به علي انديه قريش فقال: يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به؟ قالوا لا، فاخبرهم وقال للفتيان اكشفوا عما في ايديكم، فكشفوا فاذا كل رجل منهم معه حديده صارمه فقال ابو طالب واللّه لو قتلتموه ما ابقيت منكم احدا حتي نتفاني واياكم، عندئذ ادرك سادات البطون مخاطر التفكير في قتل النبي، واقلعوا عن فكره قتله [906] .
عندما اعلن النبي رسالته في الاجتماع الذي عقد في بيته قال ابو طالب: (واللّه لننصرنه ثم لنعيننه) [907] ، وخاطب النبي قائلا (يا ابن اخي اذا اردت ان تدعو الي ربك فاعلمنا حتي نخرج معك بالسلاح) [908] ، وحث ابو طالب اولاده ليكونوا الي جانب ابن عمهم الرسول فقال لعلي: الزم ابن عمك [909] ، وروي بن ابي الحديد عن علي قال: قال ابي: يا بني الزم ابن عمك، فانك تسلم به من كل باس عاجل ام آجل ثم قال لي: (ان الوثيقه في لزوم محمد فاشدد بصحبته علي يديكا). [910] وقال يوما لاولاده:فان عليا وجعفرا ثقتي عند ملم الزمان والنوبفلا تخذلا وانصرا ابن عمكما اخي لامي من بينهم وابيفواللّه لا اخذل النبي ولا يخذله من بني ذو حسب [911] .وشاهد ابو طالب النبي وعلي يصليان معا، فقال لابنه جعفراذهب وصل الي جانب ابن عمك [912] .
كان الرسول واقفا يصلي، وسادات البطون يتفرجون عليه، ويعجبون منه فعز عليهم ذلك، فامروا غلاما ان يلقي الفرث والسلي علي ظهر محمد وعندما سجد النبي القي الغلام الفرث والسلي علي ظهره، فذهب النبي الي عمه وشاهد ابو طالب الفرث والسلي فقال مستغربا: (ما ذاك يا بن اخي) فاخبره النبي الخبر فاستشاط غيظا فتقلد سيفه وخرج ومعه غلام له، ولما راي سادات البطون مجتمعين خاطبهم قائلا: (واللّه لا تكلم منكم رجل الا ضربته) ثم امر غلامه بان يفعل بسادات البطونما امروا بفعله بمحمد وهكذا كان [913] .ومره اخري القي ابن الزبعري الفرث علي النبي، وعلم ابو طالب فمشي الي القوم ومعه النبي حتي اذا وصلهم قال: (يا بني محمد الفاعل بك هذا؟ فقال: عبداللّهبن الزبعري، فاخذ ابوطالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم) [914] .وهذا يفسر معني قول الرسول (ما نالت مني قريش حتي ماتابو طالب) [915] .
لقد عمم ابو طالب فكره الجهاد لحمايه النبي ودينه علي البطن الهاشمي، الذي وقف مع بطن بني عبد المطلب متحدين خلف ابي طالب، مستعدين للدفاع عن محمد ودينه وحتي آخر رمق، وللانتقام ممن يمس شعره واحده من محمد، وهذا ما دفع البطون لتاجيل التفكير بقتل محمد خوفا من رده فعل هذين البطنين واتخاذ قرار بمحاصره بني هاشم ومقاطعتهم في شعب ابي طالب، وتمت المحاصره والمقاطعه التي استمرت -ثلاث سنين- ثم فشلت فشلا ذريعا بفضل اللّه وحكمه نبيه، ووفاء ابي طالب وقد عالجنا هذا الموضوع بالتفصيل في بحثونا السابقه.
لما حضرت ابو طالب الوفاه جمع وجوه قريش واوصاهم وصيه طويله جاء فيها: (اوصيكم بمحمد خيرا فانه الامين في قريش والصديق في العرب وهو الجامع لكل ما اوصيتكم به.. واللّه لا يسلك احد سبيله الا رشد، ولا يوخذ احد بهديه الاسعد) [916] .
اخرج ابن سعد في طبقاته، ان ابا طالب لما حضرته الوفاه دعا بني عبد المطلب وقال لهم: (لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد، وما اتبعتم امره، فاتبعوه واعينوه ترشدوا). وفي لفظ يا معشر بني هاشم: (اطيعوا محمدا وصدقوه تفلحواوترشدوا) [917] .
اي شخص حيادي ويحترم عقله ويلم بمواقف واشعار ابي طالب يخرج بنتيجه حتميه مفادها: ان ابا طالب لم يكن مسلما فحسب، انما كان مومنا وصديقا، ونموذج للمومن الصادقيقتدي به. [918] قال الطبرسي في مجمع البيان: [919] .قد ثبت اجماع اهل البيت علي ايمان ابي طالب واجماعهم حجه لانهم احد الثقلين، وقال ابن معد الفخار في كتابه: [920] «يكفينا من الاستدلال علي ايمان ابي طالب اجماع اهل بيت رسولاللّه اجميعن وعلماء شيعتهم علي اسلامهواتفاقهم علي ايمانه ، وقال ابن طاووس في الطرائف: [921] .(اني وجدت علماء العزه مجمعين علي ايمان ابي طالب وقال: ولا ريب ان العتره اعلم بباطن ابي طالب من الاجانب وشيعه اهل البيت مجمعون علي ذلك). وقال ابن ابي الحديد في شرحه: [922] (قالت الاماميه واكثر الزيديه: ما مات الا مسلما، وقال بعض شيوخنا المعتزله بذلك منهم: ابو القاسم البلخي، وابو جعفر الاسكافي،وغيرهما) [923] .
نفس القوي التي تصدت للرسول والرساله طوال 21 عاما وقامت بكل وسائل المقاومه وحاربت بكل وسائل الحرب، لتصرف النبوه عن محمد الهاشمي، وعندما احيط بها واغلقت بوجهها كل الابواب اسلمت مكرهه، واظهرت الاعتراف بالنبوه باعتبارها اساسا للملك التي اضمرت الانقضاض عليه ذات يوم واخذه بالقوه والتغلب ونفس القوي التي وقفت ضد النبي هي عينها التي وقفت ضد علي واهل بيت النبوه، وفرضت مسبتهم ولعنهم علي الرعيه، ومحت اسماء محبيهم من ديوان العطاء، ولم تقبل لاحد منهم شهاده، ومن تمسك بحبهم وموالاتهم هدموا داره واباحوا دمه. هي نفسها القوي التي اشاعت الاباطيل عن رسولاللّه، كما اثبتنا ثم مدت اشاعاتها الكاذبه الي ابي طالب، لتصرف عن بني هاشم وعن النبي وآله كل فضل طمعا بتمكين ملكها وحسدا من عند انفسهم ان رفع اللّه الهاشميين ووضعهم، واعطي اللّه الهاشميين ومنعهم كما قال الامام علي عليه السلام، واشاعات هذه القوي عن النبي، وعن ابي طالب ساقطه، ولا تعادل قيمه الورق الذي كتبت عليه، ولا تستقيم امام اي بحث موضوعي مجرد.
امام المسلمين في الحق والحقيقه هو قدوتهم، ومثلهم الاعلي، ويكفي مفهوم الامامه شرفا ان اول امام للامه كان محمدا صلي اللّه عليه وآله وسلم، ومحمد هو المثل الاعلي للمسلمين، وقدوتهم، وبامر من اللّه سبحانه وتعالي اعلن رسولاللّه: ان علي بن ابي طالب هو: الخليفه والولي والسيد والقائد، وهو الامام من بعده، واعلن الرسول ذلك لعلم اللّه بان عليا هو الوارث الحقيقي لعلم النبوه، واصلح اهل زمانه، واعلم اهل زمانه، واقرب اهل زمانه لرسوله مما يجعله قدوه، ومما يرتفع به عن الزلل لان من مهام الرسول ان يبين للناس ما نزل اليهم من ربهم، ومن مهام خليفته والامام من بعده ان يقوم بوظيفه البيان ايضا لان الدعوه الي دين اللّه لا تتوقف، وبيان احكام الدين، ومعاني القرآن الكريم مستمر الي يوم القيامه وبالتالي يتوجب ان يكون رئيس الدوله الاسلاميه قدوه ومرجعادينيا بذاته وعلومه [924] . ومن هنا ابرز رسولاللّه بعض المزايا والهبات الالهيه التي يتمتع بها الامام علي من دون المسلمين، ويتفرد بها عن سواه من اهل زمانه.
قال النبي لعلي في جمع من اصحابه: (النظر الي وجهك يا علي عباده، انت سيد في الدنيا وسيد في الاخره، من احبك احبني، وحبيبي حبيب اللّه، وعدوك عدوي، وعدوي عدو اللّه،الويل لمن ابغضك) [925] .وقال الرسول يوما لعلي امام اصحابه: (انت تبين لامتي مااختلفوا فيه من بعدي) [926] .
وقال الرسول يوما لاصحابه (كفي وكف علي في العدل سواء) [927] .
وقال الرسول لاصحابه: (علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتي يردا علي الحوض) [928] .
وقال الرسول يوما لاصحابه: (علي مني بمنزلتي من ربي) [929] .
واعلن النبي امام اصحابه قائلا: (انا المنذر وعلي الهادي، وبك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي) [930] .وقال: (انا وهذا يعني عليا حجه علي امتي يومالقيامه) [931] .وقال: (علي بن ابي طالب باب حطه من دخل منه كان مومنا،ومن خرج منه كان كافرا) [932] .
اعلن النبي امام اصحابه: (علي مني وانا من علي ولا يودي عني الا انا او علي) [933] .
اخبر النبي عليا امام الصحابه قائلا: (يا علي من فارقني فقد فارق اللّه، ومن فارقك فقد فارقني) [934] .
اعلن الرسول امام الصحابه بقوله: (مكتوب علي ساق العرش: لا اله الا اللّه، محمد رسولاللّه ايدته بعلي، ونصرته بعلي) [935] .
في يوم من الايام قال النبي لمن حوله: (ادعو لي سيد العرب عليا، فقالت عائشه الست سيد العرب؟ فقال النبي: انا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب)، فلما جاء علي ارسل الي الانصار فاتوه فقال لهم: يا معشر الانصار الا ادلكم علي ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا؟ قالوا بلي يا رسولاللّه. قال: (هذا علي فاحبوه بحبي، واكرموه بكرامتي فان جبريل امرني بالذي قلت لكم،عن اللّه عز وجل) [936] .
اعلن النبي امام اصحابه بقوله: (ان اللّه عهد الي في علي عهدا فقلت يا رب بينه لي، فقال اللّه عز وجل اسمع ان عليا رايهالهدي، وامام اوليائي، ونور من اطاعني) [937] .
اعلن الرسول امام الصحابه بقوله: (من اراد ان يحيي حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنه الخلد التي وعدني ربي فليتولي عليبن ابي طالب، فانه لن يخرجكم من هدي ولن يدخلكم فيضلاله) [938] .وخاطبهم قائلا: (اوصي من آمن بي وصدقني بولايه عليبن ابي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولي اللّه، ومن احبه فقد احبني، ومن احبني فقد احب اللّه، ومن ابغضهفقد ابغضني، ومن ابغضني فقد ابغض اللّه عز وجل) [939] .وقال: (من آمن بي وصدقني، فليتول عليبن ابي طالب فانولايته ولايتي، وولايتي ولايه اللّه) [940] .
قال النبي لعلي في محضر من اصحابه: (يا علي اخصمك بالنبوه ولا نبوه بعدي وتخصم الناس بسبع ولا يحاجك فيه احد من قريش). اللهم انت اولهم ايمانا باللّه، واوفاهم بعهد اللّه، واقومهم بامر اللّه واقسمهم بالسويه، واعدلهم في الرعيه، وابصرهم بالقضيه،واعظمهم عند اللّه مزيه) [941] .
قال النبي لاصحابه يوما (علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتي يردا علي الحوض يوم القيامه) [942] .
اعلن الرسول امام اصحابه بان: (من سب عليا فقد سبني) [943] .ووضح النبي ذلك لاصحابه فقال: (من سبني فقد سب اللّه،ومن سب اللّه اكبه علي منخريه في النار) [944] .وقال الرسول لاصحابه: (من آذي عليا فقد آذاني). [945] ولم ينس النبي بان يعلن امام اصحابه ايضا بان: (من احب عليا فقداحبني ومن ابغض عليا فقد ابغضني) [946] .
عرف رئيس الدوله الاسلاميه طوال التاريخ بانه خليفه الرسول او الخليفه اطلاقا، وانه ولي امر المسلمين، او الولي اطلاقا، وهذا الاصطلاح الشرعي فرض نفسه، مع ان الخلفاء او اولياء امور المسلمين لم يصلوا الي هذا المنصب بالطرق الشرعيه انما اخذوه بالقوه والغلبه. وكان رسولاللّه يعرف بانه ولي امر المسلمين للدلاله علي رئاسته للجماعه المسلمه قبل الدوله، وعلي رئاسته للدوله بعد قيامها، وكدلاله علي اختصاصه بتصريف شوون المسلمين المتعلقه بالدين والدنيا معا وادارتها. وهذا الاصطلاح من الوضوح بحيث انه لا يحتاج الي ايضاح لولا المكابره وربط الدين الحنيف بعجله قاده التاريخ، فولي القاصر ابوه اوجده لابيه، او الحاكم الشرعي، ومعني هذا ان هولاء هم الذين يلون امره، ويتصرفون بشوونه، ويديرون اموره وولي امر المسلمين هو الذي يتصرف بشوونهم، ويدير امورهم وهو اوليبها من غيره [947] .
النص الاول: قال تعالي: (انما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاه ويوتون الزكاه وهم راكعون، ومن يتول اللّه ورسولهوالذين آمنوا فان حزب اللّه هم الغالبون) [948] .وسبب نزول هذه الايه: ان رسولاللّه دعا ربه بالدعاء الذي دعا فيه موسي ربه: (واجعل لي وزيرا من اهلي علي اخي..) وذلك بعد ان تصدق عليبن ابي طالب بخاتمه وهو راكع، وما ان اتم رسولاللّه دعاءه حتي هبط عليه جبريل ومعه آيه الولايه. وعليبن ابي طالب هو الشخص الوحيد الذي تواترت الروايات بانه قد تصدق وهو في حاله ركوع، وبالرغم من سيطره قاده التاريخ علي وسائل الاعلام، وغيرتهم من الامام علي، وكراهيتهم له، وفرض مسبته واهل بيت النبوه علي رعايا دولتهم الا ان الروايات قد تواترت بنزولها في علي لا في سواه وتشكيك شيعتهم بهذه الروايات امر طبيعي، لانهم تبعوا الدينللتاريخ، وكان ينبغي ان يتبعوا التاريخ للدين!! [949] .النص الشرعي الثاني: قال رسولاللّه (ص) لعلي امام كبار اصحابه: (انت وليي فيالدنيا والاخره) [950] .وهذا النص من العموم والشمول بحيث انه يتسع بولايه علي لامر المسلمين، ويلقي اضواء علي بيان النبي لايه الولايه، ولو ورد مثل هذا النص في اي واحد من قاده التحالف لطاروا به كل مطار، ولقطعوا به ظهر كل معارض!! النص الشرعي الثالث: قال الرسول لعلي مره امام اصحابه: (انت ولي كل مومنبعدي) [951] .النص الشرعي الرابع: في احدي المرات بعث رسولاللّه (ص) سريه، واستعمل علي هذه السريه عليبن ابي طالب، فاصطفي علي لنفسه من الخمس جاريه، فانكر عليه ذلك منتسبوا هذه السريه وشكوه لرسولاللّه، وكانت مناسبه استقطبت الصحابه ليسمعوا حكم رسولاللّه بفعل علي فقال الرسول امام الصحابه: (ان لعلي اكثرمن الجاريه التي اخذ، انه وليكم من بعدي) [952] .النص الخامس: قال الرسول عن علي امام اصحابه: (علي مني، وانا منه وهو وليكل مومن بعدي) [953] .النص السادس: قال الرسول لرجل وقع في علي امام الصحابه: (لا تقع في علي،فانه مني وانا منه وهو وليكم بعدي) [954] .النص السابع: الحدث الاعظم وتتويج الامام علي في غدير خم: الصيغه الاولي: تدرج الرسول باعلانه لولايه علي بن ابي طالب من بعده، فاعلنها امام الافراد، واعلنها امام الجماعات، ثم اعلنها امام الامه عندما اجتمعت في حجه الوداع واليك النص بروايه حذيفهبن اسيد الغفاري خطب رسولاللّه في الجمع العائد من حجه الوداع... واعلن في مقطع من خطبته: (يا ايها الناس ان اللّه مولاي، وانا ولي المومنين، وانا اولي بهم من انفسهم فمن كنت مولاه فهذا يعني (عليا) مولاه اللهم والي من والاه وعاد منعاداه) [955] .الصيغه الثانيه: بروايه زيد بن ارقم خطب الرسول في غدير خم فقال: (كاني دعيت فاجبت..) ثم قال (ان اللّه عز وجل مولاي وانا مولي كل مومن، ثم اخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا علي وليه،اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) [956] .الصيغه الثالثه: بروايه البراء بن مازن: خطب النبي في غدير خم فقال: (الستم تعلمون اني اولي بالمومنين من انفسهم؟ قالوا بلي. قال: الستم تعلمون اني اولي بكل مومن من نفسه؟ قالوا بلي، فاخذ بيد علي فقال (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاهوعاد من عاداه) [957] .الصيغه الرابعه: بروايه سعد بن ابي وقاص: اخذ رسولاللّه (ص) بيد علي بن ابي طالب وخطب في غدير خم فحمد اللّه واثني عليه ثم قال (ايها الناس اني وليكم قالوا صدقت، ثم رفع يد علي فقال، هذا وليي ويودي عني ديني وانا موالي من والاه ومعادي منعاداه) [958] .الصيغه الخامسه: وبروايه ثانيه لسعد بن ابي وقاص، كنا مع رسولاللّه، فلما بلغ غدير خم، وقف الناس، ثم رد من تبعه، ولحق من تخلف فلما اجتمع الناس اليه قال: (ايها الناس من وليكم؟ قالوا اللّه ورسوله ثلاثا ثم اخذ بيد علي فاقامه ثم قال: من كان اللّه ورسوله وليه،فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) [959] .
بعد ذلك، تناول رسولاللّه عمامته، والبسها علي امام الجمع وتوجه بها، وفهم الناس مضمون الاعلان النبوي، وان عليا قد اصبح رسميا ولي المومنين وامامهم بعد النبي، وتوافد الناس الحاضرون ليقدموا التهاني الي امير المومنين عليبن ابي طالب، وكان من ابرز المهنئين، عمر بن الخطاب، وابو بكر وعثمان، وبقيه التسعه الذين انتشر خبر انهم مبشرون بالجنه، وعبر بعضهم عن تهانيه بجمل مختصره شاعت وتناقلها الناس من يومئذ مثل الجمله التي هنا فيها عمربن الخطاب الامام علي بقوله: (بخ بخ يا ابن ابي طالب اصبحت مولاي ومولي كلمسلم) [960] .وكقول عمر بن الخطاب الذي ذهب مثلا: (هنيئا لك يا ابن ابيطالب اصبحت وامسيت مولي كل مومن ومومنه) [961] .
بعد ان تم تنصيب الامام عليبن ابي طالب خليفه للنبي، واماما او وليا للمسلمين من بعده انزل اللّه سبحانه وتعالي آيه الاكمال واعلن رسولاللّه كمال الدين، وتمام النعمه، والرضي بالاسلاميوم تلي ما اوحي اليه [962] . (اليوم اكملت لكم دينكم، واتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام دينا) «المائده/3».
القرار الالهي القاضي بتنصيب الامام عليبن ابي طالب اماما من بعد النبي والذي اعلنه الرسول في غديرخم امام مائه الف مسلم او يزيدون واضح لا يحتاج الي ايضاح، فقد سال الرسول الحضور (الست وليكم؟ فقالوا: بلي)، وسالهم، (الست مولاكم)، فرد الحضور: انت مولانا، فاخذ بيد علي وقال: (من كنت وليه فهذا علي وليه، ومن كنت مولاه فهذا علي مولاه)، وفهم الجميع ان الولي هو الحاكم، وهو الامام، وان المولي هو الحاكم او الامام!! ولكن، الرسول استعمل كلمه الولي والمولي ليفيد بان لعلي حقوقا علي الامه اكبر واكثر من حقوق اي حاكم علي رعيته. فاي حاكم لا يطلب من رعيته سوي ظاهر الولاء، اما علي فله علي الامه حق الموالاه الظاهره والباطنه، فالرسول اولي بالمومنين من انفسهم لانه وليهم ومولاهم، وحيث ان علي هو ولي ومولي من كان الرسول وليه ومولاه، فعلي بعد رسولاللّه اولي بالمومنين من انفسهم لان ولايته علي نسق ولايه الرسول. هذا ما جعل البعض يعبر عن دهشته من هذه المكانه والقداسه والصلاحيه التي اعطيت لعلي، فيقول مندهشا، (بخ بخ لك يا ابن ابي طالب اصبحت..) و(هنيئا لك يا ابن ابي طالب اصبحت مولي كل مومن ومومنه..) واداء لواجب البيان، وايضاحا للمعني، وحملا عليه، واحاطه بالمقصود توج الرسول عليا بعمامته وطلب من الحضور ان يقدموا التهاني لامامهم من بعد النبي وهكذا كان. والسوال الذي يطرح نفسه هل يعقل مع ذلك ان قاده التحالف لم يفهموا المعني المقصود من (ولي، ومن مولي) حتي سهل عليهم في ما بعد ان يخالفوا رسولاللّه دون قصد، وان يتبنوا رايا معاكسا للامر الالهي والحكم الشرعي؟ ليت هذا صحيحا، اذا لكان بامكاننا ان نلتمس لقاده التحالف عذرا!! فوصيه ابي بكر لعمر محفوره بالاذهان، وخالده ولا يخفي نصها علي احد: (اني قد وليت عليكم عمر ولم آلكم جهدا.. ويقولمبررا توليته لعمر: (اني ما وليت ذي قرابه) [963] .فانت تري ان ابا بكر يعبر عن عمليه تنصيبه لعمربن الخطاب خليفه له وحاكما علي المسلمين من بعده بكلمه (التوليه) (اني قد وليت) (اني ما وليت) وهي نفس الكلمه التي استعملها رسولاللّه. وهذا ما يوكد لنا ان ابا بكر فهم حق الفهم ما قصده رسولاللّه يوم (غدير خم)، وانه فهم ان رسولاللّه نصب عليابن ابي طالب اماما وقائدا من بعده!!! كذلك عمر بن الخطاب فكثيرا ما ردد كلمه التوليه وهو علي فراش الموت، فتراه يقول: (لو كان ابو عبيده حيا (لوليته واستخلفته) ولو كان سالم مولي ابي حذيفه حيا وليته واستخلفته، ولو كان خالدبن الوليد حيا لوليته، واحيانا. وقد استعملت كلمه (التوليه) من ابي بكر وعمر مرات ومرات للدلاله علي عمليه تنصيب رئيس الدوله، وليس اوضح من كلمه ابي بكر في اول خطبه سياسيه له: (اني قد وليت عليكم ولست بخيركم)، ويجدر بالذكر ان ابا بكر وعمر لم يجدا كلمه تغني عن كلمه (التوليه) علي الرغم من التصاق هذه الكلمه بعلي، فكلمه التوليه مشتقه من الولي، والرسول كان ولي امر المومنين حتي قبل ان تنشا الدوله بوجههم ويصرف امورهم، ويرتبطون به برابطه التبعيه، ويطيعون اوامره، حتي اذا ما قامت الدوله اعلن الرسول ذلك، وشمل هذا الاعلان رعاياالدوله الاسلاميه غير المسلمين [964] .وطوال التاريخ السياسي الاسلامي الذي امتد من عهد ابي بكر وحتي سقوط آخر سلاطين بني عثمان كان الخليفه او الملك يعرف بانه ولي امر المسلمين. ولما توفي رسولاللّه وقبض ابو بكر علي مقاليد السلطه: قال ابو بكر: (انا ولي رسولاللّه). ولما توفي ابو بكر وقبض عمر علي مقاليد السلطه قال عمر: (اناولي رسولاللّه وولي ابي بكر) [965] . وباختصار شديد فان قاده التحالف عرفوا المعني الذي قصده رسولاللّه يوم (غدير خم) من كلمه التوليه، والولي والمولي علي انها رئاسه الدوله من بعد النبي، وعلي هذا الاساس قدموا تهانيهم وتظاهروا بالرضي وتابعوا وباصرار عمليه التخطيط والتدبير للاستيلاء علي السلطه بعد وفاه النبي، حتي لا يجمع الهاشميون النبوه والملك معا، فيجحفوا علي بطون قريش علي حد تعبير عمر.
لما قبض قاده التحالف علي مقاليد السلطه بالقوه والغلبه، قيل لهم ان عليبن ابي طالب هو وليكم ومولاكم من بعد نبيكم، فكيف تاخذون الامر منه، وقد قدمتم له التهاني بامره المومنين يوم غدير خم امام اللّه ورسوله وامام مائه الف مسلم؟ فقال قاده التحالف: ان الرسول لم يقصد امره المومنين انما قصد: ان عليبن ابي طالب، محب، وناصر فقط، ولا علاقه لما قاله رسولاللّه بالامامه او الاماره او القياده من بعد النبي، وقيل لهم مالكم تستعملون نفس الاصطلاح؟، للدلاله علي الاماره او القياده او الامامه او الحكم؟ فسكت قاده التحالف، ولوحوا بالقوه.
اقامه للحجه، وقياما بواجب البيان، وتوضيحا للحكم الشرعي، وتثبيتا لامامه الامام علي من بعد النبي اعلن الرسول امام الصحابه بانه لا يودي عنه الا عليبن ابي طالب فقال: (عليمني وانا من علي ولا يودي عني الا انا او علي) [966] . وتعميما لهذا الحكم الشرعي وتجذيرا له في النفوس ارسل رسولاللّه ابا بكر اميرا علي الحج ومعه سوره براءه ولما سار ابو بكر هبط جبريل بامر من ربه وامر رسولاللّه ان يلحق عليا بابي بكر لياخذ منه سوره براءه، لانه لا يودي عن النبي الا هو او علي!!
وليحكم الرسول طوق الشرعيه، وحتي لا يكون امام قاده التحالف اي منفذ للتلاعب بعواطف المسلمين بين الرسول لاصحابه واعلن امامهم بشكل منجز وقاطع، بان طاعه الرسول هي طاعه للّه، ومعصيه الرسول هي معصيه للّه، وان طاعه علي هي طاعه للرسول، ومعصيه علي هي معصيه للرسول نفسه واعلن الامر الالهي امام اصحابه حيث قال: (من اطاعني اطاع اللّه، ومن عصاني عصي اللّه، ومن اطاع عليااطاعني، ومن عصي عليا عصاني) [967] .وراجع اعلان الرسول امام اصحابه عندما قال لعلي امامهم: (يا علي من فارقني فقد فارق اللّه، ومن فارقك يا عليفارقني) [968] .
وامعانا بالتضييق علي الذين كرهوا ما انزل اللّه، وابطنوا التعميم علي الغاء الترتيبات الالهيه بعد موت النبي، وايجاد ترتيبات بديله منها اعلن النبي امام اصحابه ومنهم قاده التحالف قائلا: (علي مع الحق فمن تبعه فهو علي الحق، ومن تركه تركالحق، عهدا معهودا) [969] . وهكذا حشر رسولاللّه اعداء الشرعيه بزاويه ضيقه، فكانت معصيتهم للّه وللرسول مع سبق الاصرار، وبدون عذر ولا شبهه.
علمنا كبشر قائم علي الظن والتخمين، وعلم اللّه تعالي قائم علي الجزم واليقين، والنبي الكريم لا ينطق عن الهوي، وهو متبع لما اوحي اليه من ربه، ويبلغ الناس بما اوحي اليه، بغض النظر عن رضاهم او عدم رضاهم بما يبلغه لهم الرسول، علي اعتبار ان الهدي اصلا هو هدي اللّه، ومهمه الرسول ان ينشر معالم الهدايه، وان يبين الحكم الشرعي لكل امر من الامور. وموضوع من هو الافضل، ومن هو الاصح في كل مجال مناهم موضوعات التي تحتاجها الامه الاسلاميه لملء الوظائف العامه، بدءا من رئاسه الدوله وانتهاء باقل الوظائف اهميه. والشرع الحنيف يملك الجواب القائم علي الجزم واليقين لكل سوال تطرحه الامه، او يطرحه بنو البشر او يخطر ببالهم، حتي لا يكل الناس الي انفسهم واهوائهم طرفه عين فيهلكوا، ولتبقي الامه دائما ضمن اطار الشرع والمشروعيه القائمه علي الجزم واليقين.
اللّه سبحانه وتعالي خلق آدم، وخلق منه زوجته، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، وتكاثر ابناء آدم وانقسموا الي شعوب وفرق وقبائل وبطون وبيوت، ليتزيلوا، ويتعارفوا، وهو العالم علما يقينيا بافضل فرق ابناء الجنس البشري، وافضل قبيله من قبائلهم، وبافضل بطن من بطون تلك القبائل، وافضل بيت من بيوت تلك البطون، وهو يعلم من هو اشرفهم، حسبا ونسبا، وقد اوحي اللّه الي نبيه بان خير قبيله من قبائل الناس هي قبيله قريش، وافضل بطن من بطون قريش هو البطن الهاشمي، وافضل بيت من بيوت البطن الهاشمي هو بيت عبد المطلب بن هاشم، وهم احسن الناس حسبا واشرفهم نسبا وقد بين رسولاللّه هذه الحقائق الشرعيه.
النص الاول: جاء في صحيح الترمذي [970] ان رسولاللّه وقف علي المنبر وقال امام المسلمين: من انا؟ فقال له من حوله: انت رسولاللّه فقال صلي اللّه عليه وآله وسلم: (انا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، ان اللّه خلق الخلق فجعلني من خيرهم فرقه ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقه، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيله ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نسبا). النص الثاني: جاء في المستدرك علي الصحيحين [971] عن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس بفناء رسولاللّه اذ مرت امراه فقال رجل من القوم هذه ابنه محمد، فقال ابو سفيان ان مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانه في وسط التبن، فانطلقت المراه فاخبرت النبي، فخرج رسولاللّه يعرف الغضب في وجهه فقال (ما بال اقوام تبلغني عن قوم، ان اللّه تبارك وتعالي خلق السموات فاختار العليا فاسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريش، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فانا من بني هاشم من خبار الي خيار..). النص الثالث: جاء في ذخائر العقبي للطبري عن واثله بن الاسلم قال: قال رسولاللّه(ص) (ان اللّه اصطفي من ولد آدم ابراهيم، واتخذه خليلا، واصطفي من ولد ابراهيم اسماعيل، ثم اصطفي من ولد اسماعيل نزارا، ثم اصطفي من ولد نزار مضرا، ثم اصطفي من مضر كنانه، ثم اصطفي من كنانه قريش، ثم اصطفي من قريش بني هاشم، ثم اصطفي من بني هاشم بني عبد المطلب، ثم اصطفاني من بني عبد المطلب)، وقال الطبري: اخرجه بهذا السياق ابو القاسم حمزهبن يوسف السهمي، واخرجه مسلموالترمذي وابو حاتم مختصرا [972] .النص الرابع: جاء في كنز العمال [973] نقلا عن الديلمي عن جابر ان رسولاللّه(ص) قال: (انا اشرف الناس حسبا ولا فخر، واكرم الناس قدرا ولا فخر، ايها الناس من اتانا آتيناه، ومن اكرمنا اكرمناه، ومن كاتبنا كاتبناه، ومن شيع موتانا شيعنا موتاه، ومن قام بحقنا قمنا بحقه، ايها الناس حاسبوا الناس علي قدر احسابهم وخالطوا الناس علي قدر اديانهم، وانزلوا الناس علي قدر مروءاتهم وداروا الناس يغفر لكم). النص الخامس: ذكر السيوطي في الدر المنثور في ذيل تفسير آيه التطهير في سوره الاحزاب قال: واخرج الحكيم الترمذي، والطبراني وابن مردويه وابو نعيم والبيهقي معا عن ابن عباس قال: قال رسولاللّه(ص): (ان اللّه قسم الخلق الي قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله تعالي: (واصحاب اليمين) و(اصحاب الشمال) فانا من اصحاب اليمين، وانا خير اصحاب اليمين، ثم جعل القسمين اثلاثا، فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله (واصحاب الميمنه ما اصحاب الميمنه، واصحاب المشامه ما اصحاب المشامه والسابقون السابقون) [974] فانا من السابقين وانا خير السابقين، ثم جعل الاثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيله فذلك قوله (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند اللّه اتقاكم) [975] وانا اتقي ولد آدم واكرمهم علي اللّه ولا فخر. ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا، فذلك قوله (انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا) [976] فانا واهل بيتي مطهرون منالذنوب) [977] .النص السادس: قال (ص): (خير العرب مضر، وخير مضر بنو عبدمناف، وخير بني عبد مناف بنو هاشم)، وقال(ص): (واللّه ما افترقت فرقتان منذ خلق اللّه آدم الا كنت في خيرهما)، وقال: (ان اللّه قسم الارض الي قسمين فجعلني في خيرهما قسما، ثم قسم النصف الي اثلاث فكنت في خيرها ثلثا، ثم اختار العرب من هذا الثلث، ثم اختار قريش من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبدالمطلب) [978] .
سياده هاشم علي قريش بكل امر من الامور حقيقه لا يجادل بها مطلع عاقل، وساد بعده عبد المطلب فهو سيد قريش بعد ابيه وحكيمها. واختصارا للموضوع يمكن القاريء مراجعه كتابنا النظام السياسي في الاسلام. [979] فالهاشميون هم اكرم قريش، واحكمها، واعقلها، وافهمها واشرفها، وارجلها. ولقد صدق ابو طالب بشعره اذ قال:فاذا اجتمعت يوما قريش لمفخر فعبد مناف سرها وصميمهاففان حصلت اشراف عبد منافها ففي هاشم اشرافها وقديمهافوان فخرت يوما فان محمدا هو المصطفي من سرها وكريمهافتدعت قريش غثها وسمينها علينا فلم تظفر وطاشت حلومهافوكنا قديما لا نقر ظلامه اذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمهافونحمي حماها كل يوم كريهه ونضرب عن احجارها من يرومهافبنا انتعش العود الدواء وانما باكنافنا تندي وتنمي ارومها [980] .
رسولاللّه مبارك وسيد ولد آدم بالنص، وقد شاءت حكمه اللّه ان لا يكون للنبي ذريه من صلبه، وقد اعلن الرسول ذلك امام المسلمين وتوج الحادثه فقال لهم: (ان اللّه جعل ذريه كل نبي من صلبه وجعل ذريتي من صلب علي). [981] وهذا نوع من التكامل العجيب بين الشخصيتين. واعلن الرسول امام اصحابه: (ان كل بني انثي ينتمون الي عصبتهم الا ولد فاطمه فانا وليهم وانا عصبتهم واناابوهم) [982] .والمدهش ان هذه الاعلانات سبقت زواج علي من فاطمه!! وقال الرسول لعلي امام اصحابه: (هذا اخي وابن عمي وصهريوابو ولدي) [983] . وليس صدفه ان تنحصر ذريه الرسول بولد فاطمه، وقد احيطت الامه علما بذلك وعلمت علم اليقين انه ليس للنبي ولد الا ولد فاطمه!! وطالما ردد الرسول بنشوه عارمه امام جموع الصحابه: (هذا ابني الحسن)، او (هذا ابني الحسين)، وافتخر بان اللّه تعالي هو الذي تولي تسميتهما -بالحسن والحسين-، وطالما اعلن ان ابناه الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنه، وريحانتاه من هذه الامه.
محمد خيره اللّه من خلقه، وعلي خيره الخلق بعد النبي تلك حقيقه قد وثقناها، لقد اطلع اللّه الي اهل الارض فاختار منهمرجلين احدهما النبي والاخر علي [984] . والخلافه ان محمد خيره اللّه من خلقه وعلي هو خيره الخلق بعد النبي وقد توج رسولاللّه فاطمه بنت محمد كسيده نساء العالمين قاطبه بامر من ربه، واعلن رسولاللّه ان عليبن ابي طالب هو سيد المسلمين وسيد العرب كما اثبتنا في البحوث السابقه. وتلقي الرسول امرا بان يزوج سيد المسلمين وسيد العرب وخيره اللّه من خلقه بعد النبي بسيده نساء العالمين فاطمه بنت محمد خاتم الرسل وخيره اللّه من خلقه. واحيط المسلمون علما ان الذريه الناتجه من هذين الزوجين هم ذريه النبي، وهم بنوه، وهم اهل البيت الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فكان اهل بيت النبوه هم خيره الخيره لانهم اختيارات الهيه متلاحقه، فاللّه قد اطلع الي اهل الارض فاختار محمدا وجعله رسولا واختار عليا ليكون زوج فاطمه وليكون وليا للمسلمين من بعد النبي. واللّه سبحانه وتعالي اختار محمدا سيدا لولد آدم، واختار عليا سيدا للمسلمين وللعرب، وهو ايضا الذي اختار الزهراء لتكون سيده نساء العالمين، وقد وثقنا كل حرف قلناه في المباحث السابقه فارجع اليها ان شئت، مما يعني ان اهل بيت النبوه هم خيره الخيره.
لا خلاف بين اثنين من ابناء الامه الاسلاميه بان آيه المباهله نزلت في (النبي وفاطمه وعلي والحسن والحسين).
قال تعالي (فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت اللّه عليالكاذبين) [985] .
من المعروف ان المهمه الاولي للرسول تنصب علي بيان ما انزل الي الناس من ربهم يوم المباهله المشهور وامام كافه سكان المدينه المنوره اخذ رسولاللّه بيد علي والحسن والحسين وجعلوا فاطمه وراءهم ثم قال: (هولاء ابناونا وانفسنا ونساونا، فهلموا انفسكم وابناءكم ونساءكم ثم نبتهل فنجعللعنه اللّه علي الكاذبين) [986] .
لماذا لم يدع الرسول بقيه بناته!!، لماذا لم يدع ابا بكر وعمر وعثمان؟ لقد اقتضت حكمه اللّه ان تكون هذه الحادثه مشهوده من الجميع، ليتميز اهل بيت النبوه عن سواهم، لتتميز الصفوه عن سواها!! ليتميز المتبوعين عن الاتباع.
محمد سيد ولد آدم ورسولاللّه المختار بامر من ربه، زوج ابنته سيده نساء العالمين فاطمه البتول الزهراء من ابن عمها المختار عليبن ابي طالب سيد العرب بالنص، وسيد المسلمين بالنص، ليخرج من هذين الزوجين الطاهرين اعلام الهدي الائمه المكرمون، فمن هذا الزواج المميز تخرج قياده مميزه، ففي كل زمان امام من هذه الشجره المباركه موهل الهيا لقياده الامه، وبيان القرآن، والاحاطه بالسنه النبويه، ومعرفه الشرع معرفه قائمه علي الجزم واليقين، ويعبر عنهم ب(اهل بيت النبوه).
هم: علي وفاطمه والحسن والحسين [987] ، هذا حسب اعتراف زوج الرسول ام سلمه ام المومنين واهل البيت هم علي وفاطمه والحسن والحسين حسب اعتراف عائشه امالمومنين [988] . قال الرسول مشيرا الي علي وفاطمه والحسن والحسين: (اللهم هولاء اهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهمتطهيرا) [989] .
نزلت آيه التطهير في خمسه وهم: (محمد وعلي وفاطمه والحسن والحسين) [990] .
آيه الموده في القربي نزلت في: (علي وفاطمه والحسن والحسين) [991] .
اهل البيت هم اولي الامر قال تعالي: (يا ايها الذين آمنوا اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول واولي الامر منكم) [992] فاولي الامرهم: (علي والائمه من اهل بيت النبوه) [993] .
قال تعالي: (فسئلوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) [994] . هذه الايه نزلت في اهل البيت وهم: (علي وفاطمه والحسنوالحسين) [995] .
في غدير خم، وبامر من اللّه تعالي، توج رسولاللّه عليبن ابي طالب رسميا اميرا للمومنين واماما لهم من بعده كما اسلفنا، وقرا قرار تنصيب الامام علي، مع الاعلان رسميا عن الدور المميز لاهل بيت النبوه من بعد النبي، فالنبي اعلن ان من كان رسولاللّه وليه فعلي بن ابي طالب وليه، فمن يوالي عليا فقد والي رسولاللّه، ومن والي رسولاللّه، فقد والي اللّه، ومعاداه اي قطب من هذه الاقطاب هي عداوه للثلاثه، وخروج صارخ من اطار الشرعيه والمشروعيه التي رسمها وارسي قواعدها اللّه ورسوله. وبعد ان توج الامام علي رسميا اميرا للمومنين ووليا واماما لهم من بعد النبي، حسم موضوع الامامه في العصر الذي يلي موت الرسول مباشره، وشاءت حكمه اللّه ان تحسم موضوع الامامه والقياده من بعد النبي اطلاقا وفي كل عصر بنفس المكان، ونفس الزمان الذي توج فيه الامام علي قائدا للامه ومرجعا لها من بعد النبي.
في (غدير خم) ربط رسولاللّه عناصر الشرعيه واركانها ربطا محكما، حيث قرن الولايه للّه، مع الولايه لرسولاللّه، مع الولايه لعليبن ابي طالب معا فمن يوالي اللّه، يوالي رسوله، ومن يوالي رسولاللّه يوالي الامام من بعده عليبن ابي طالب. واعلن النبي استحاله التجزئه بالولايه، بمعني ان من لا يوالي علي بن ابي طالب، لا يوالي النبي ضمنا بدون تصريح، ومن لا يوالي النبي، لا يوالي اللّه بالضروره، وبنفس قرار الربط هذا، ربط رسولاللّه بين القرآن الكريم وبين عترته اهل بيته ربطا محكما لا يقبل التجزئه، واعتبرهما ثقلين من بعد النبي، فالقرآن الثقل الاكبر واهل البيت الكرام هم الثقل الاصغر، وبنفس يوم التتويج اعلن النبي استحاله الفصل بين الثقلين، فالهدايه لا تدرك الا بالاثنين معا والضلاله لا يمكن تجنبها الا بالاثنين معا. بمعني آخر ان الرسول ربط بين القياده او الامامه او المرجعيه من بعده وهم اهل بيت النبوه وعلي راسهم عميدهم عليبن ابي طالب اول الائمه او اول القاده او اول المراجع، وبين القرآن الكريم بوصفه هو المنظومه الحقوقيه النافذه. او بمعني آخر ان الرسول ربط بين القياده وبين القوانين النافذه في المجتمع الاسلامي، فلا يكون الفرد ضمن اطار الشرعيه الا اذا كان، ملتزما بالقانون، ومطيعا او مواليا للقياده التي عينت حسب قواعد هذا القانون. فاهل البيت الكرام هم القياده لانهم هم الموهلون الهيا لبيان القرآن الكريم بيانا قائما علي الجزم واليقين في كل زمان، وهم المحيطون بسنه النبي احاطه تامه وقائمه علي الجزم واليقين واول ائمتهم هو عليبن ابي طالب لانه هو الاعلم والافهم بالدين وهو الاقرب الي اللّه وهو افضل الموجودين، وقد شهد اللّه بذلك لانه اختاره وامر نبيه ان يعلنه اماما من بعده. والقرآن الكريم والسنه بمثابه القوانين الساريه المفعول في المجتمع وهي تمثل ارقي التصورات القانونيه وادقها واعدلها.
ان اللّه تعالي هو الذي اختار محمدا رسولا واماما للناس واهله لبيان القرآن الذي انزله عليه، واوجب اللّه علي نبيه ان يبين كل ما اوحي اليه واللّه سبحانه وتعالي هو الذي اختار علي بن ابي طالب ليكون وليا لعهد النبي واماما من بعده، وامر رسوله ان يعلن ذلك فاعلنه، واللّه سبحانه هو الذي اعطي اهل بيت النبوه دورا مميزا في قياده الامه من بعد النبي واللّه سبحانه وتعالي هو الذي جعل من كل هذه الاركان عناصرا للشرعيه والمشروعيه. بمعني ان اللّه عين القاده او الائمه او المراجع، لعلمه اليقيني بانه الاعلم، والافهم، والاصلح، والافضل. وهو نفسه الذي وضع قواعد المنظومه الحقوقيه (القانون النافذ) فمهمه القياده هي تنفيذ القانون، وقياده الامه حسب احكام هذا القانون الالهي.
اليست الامه تبحث عن الاعلم والافهم بالدين، والاصلح والافضل؟ لا تستطيع الامه ان تهتدي اليه، فجاءت رحمه اللّه ووفرت علي الامه عناء البحث عن هذا الرجل ودلتهم عليه وقالت لهم انه هو المطلوب كذلك، فان الامه لا تعرف علي وجه الجزم واليقين ما هو القانون الانسب الذي ينظم امورها، وحياتها، فجاءت عنايه اللّه ووضعت تحت تصرف البشر هذا القانون، فالقائد مرتبط بهذا القانون برباط صميمي، والقانون مرتبط بالقائد برباط صميمي ايضا فكلاهما متمم للاخر. وهكذا حسمت رحمه اللّه وعنايته اكبر مشكلتين تواجهان البشر وهما مشكله القياده ومشكله القانون.
النص الاول: قال حذيفه بين اسيد الغفاري: قال رسولاللّه في غدير خم للمسلمين: (يا ايها الناس اني قد نباني اللطيف الخبير انه لم يعمر نبي الا نصف عمر الذي يليه من قبله، واني لاظن اني يوشك ان ادعي فاجيب، واني مسوول وانكم مسوولون فماذا انتم قائلون؟ قالوا نشهد انك قد بلغت وجهدت ونصحت فجزاك اللّه خيرا. فقال النبي: اليس تشهدون ان لا اله الا اللّه، وان محمدا عبده ورسوله، وان جنته حق، وناره حق، وان الموت حق، وان البعث بعد الموت حق، وان الساعه آتيه لا ريب فيها، وان اللّه يبعث من في القبور؟ قالوا: بلي نشهد، فقال النبي: اللهم اشهد). ثم قال رسولاللّه: (يا ايها الناس ان اللّه مولاي، وانا مولي المومنين، وانا اولي بهم من انفسهم، فمن كنت مولاه فهذا (يعني عليا) مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. ثم قال، يا ايها الناس اني فرط، وانتم واردون علي الحوض، حوض ما بين بصري الي صنعاء فيه عدد النجوم قد حان من فضه واني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما، الثقل الاكبر كتاب اللّه عز وجل سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بايديكم فاستمسكوا به، ولا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتي اهل بيتي، فانه قد نباني اللطيف الخبير انهما لن يتفرقا حتي يردا علي الحوض) [996] انتهي النص حرفيا كما رواه الطبراني، في الكبير. النص الثاني: قال زيد بن ارقم: لما رجع رسولاللّه (ص) من حجه الوداع ونزل غدير خم امر بدوحات فقممن، وبعد ان اجتمع المسلمون وقف الرسول خطيبا وقال: (كاني قد دعيت فاجبت، واني قد تركت فيكم الثقلين احدهما اكبر من الاخر، كتاب اللّه تعالي، وعترتي اهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض). ثم قال رسولاللّه: (ان اللّه عز وجل مولاي، وانا مولي كل مومن)، ثم اخذ بيد علي فقال صلي اللّه عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد منعاداه) [997] .النص الثالث: قال البراء بن عازب: (كنا مع رسولاللّه، فنزلنا بغدير خم، فنودي الصلاه جامعه، وكسح لرسولاللّه تحت شجرتين، فصلي الظهر واخذ بيد علي فقال: الستم الستم تعلمون اني اولي بالمومنين من انفسهم؟ قالوا: بلي، قال(ص): الستم تعلمون اني اولي بكل مومن من نفسه؟ قالوا بلي، فاخذ صلي اللّه عليه وآله وسلم بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، قال زيد: فبلغه عمر بعد ذلك، فقال له: (هنيئا يا ابن ابي طالب اصبحت وامسيت مولي كلمومن ومومنه) [998] .النص الرابع: قال سعد بن ابي وقاص: سمعت رسولاللّه (ص) يوم الجحفه فاخذ بيد علي وخطب فحمد اللّه واثني عليه ثم قال: (ايها الناس اني وليكم. قالوا: نعم يا رسولاللّه ثم رفع يد علي فقال: (هذا وليي ويودي عني ديني، وانا موالي من والاه ومعادي منعاداه) [999] .النص الخامس: قال سعد بن ابي وقاص: (كنا مع رسولاللّه فلما بلغ غديرخم وقف الناس ثم رد من تبعه، ولحق من تخلف، فلما اجتمع الناس اليه، قال رسولاللّه (ايها الناس من وليكم؟ قالوا: اللّه ورسوله ثلاثا ثم اخذ بيد علي فاقامه ثم قال رسولاللّه صلي اللّه عليه وآله وسلم: (من كان اللّه ورسوله وليه فهذا وليه، اللهموال من والاه وعاد من عاداه) [1000] .
تبين لنا من النص الاول والثاني ان رسولاللّه (ص) قد اعلن في غدير خم وامام جموع المسلمين العائده من حجه الوداع عن عده امور: الامر الاول: توج علي بن ابي طالب وليا للمومنين من بعده، وبهذا التتويج حسم موضوع الخلافه من بعده اي بالعصر الذي يلي موت النبي مباشره. الامر الثاني: اعلن مباشره عن الدور المميز لاهل بيت النبوه ووضحه توضيحا كاملا وبهذا الاعلان حسم موضوع القياده لعصر ما بعد النبوه وحتي قيام الساعه. الامر الثالث: ربطه المتين ما بين ولايه اللّه وولايه الرسول وولايه علي، اذ جعل الولايات الثلاثه علي نسق واحد هذا من جهه ومن جهه ثانيه فقد ربط اهل بيت النبي والقرآن الكريم برباط واحد، فجعل القرآن الثقل الاكبر واهل البيت هم الثقل الاصغر واكد استحاله الفصل بين الولاءات الثلاثه واستحاله الفصل بين الثقلين. اما النص الثالث، والرابع، والخامس فقد كشفت عن الامر الاول وجانب من الامر الثالث، ولم تتطرق هذه النصوص لدور اهل بيت النبوه مع ان الامور الثلاثه قد اعلنت في مكان واحد، وزمان واحد، والسبب ان البراء وسعدبن ابي وقاص قد ذكرا هذه النصوص اثناء فتره موجه العداء الصارخ لعلي التي قادها معاويه، وعندما فرض معاويه علي الناس مسبه علي فقام سعد اعتراضا منه علي مسبه علي، ولم يكن امام جموع الدنيا وقت لسماع بقيه الحديث، ولا مع سعد وقت ايضا لاتمام الحديث، فكان المجتمع الاسلامي يومئذ مشعوط وكانه علي كف عفريت، لا يسمع ولا يريد ان يسمع، واذا سمع لا يعقل والا فان النص الثالث والرابع والخامس انما هي اجزاء لا تتجزء من الامور الثلاثه التي اعلنها النبي في غدير خم، واي عاقل، واي حيادي يلحظ الارتباط الوثيق بين النصوص الخمسه. النص السادس: قال الرسول لاصحابه: (يا ايها الناس اني تركت فيكم ما اناخذتم به لن تضلوا كتاب اللّه وعترتي اهل بيتي) [1001] .وعندما يذكر اهل بيت النبوه يقفز الي ذهنك عميدهم بعد النبي وهو علي. النص السابع: قال الرسول لاصحابه: (اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي احدهما اعظم من الاخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الي الارض وعترتي اهل بيتي ولن يفترقا حتي يرداعلي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) [1002] .ومن الطبيعي ان يقفز الامام علي الي الذهن عندما نذكر هذا النص بوصف الامام هو عميد اهل بيت النبوه بلا خلاف بعد موت النبي. النص الثامن: قال رسولاللّه لاصحابه: (اني تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والارض، او ما بين السماء الي الارض وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتي يردا عليالحوض) [1003] .النص التاسع: قال الرسول لاصحابه: (اني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه واهلبيتي وانهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض) [1004] .النص العاشر: قال الرسول لاصحابه: (ايها الناس يوشك ان اقبض قبضا سريعا، فينطلق بي، وقد قدمت اليكم القول معذره اليكم، الا اني مخلف فيكم كتاب اللّه ربي عز وجل وعترتي اهل بيتي، ثم اخذ بيد علي فرفعها فقال هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي لايفترقان حتي يردا علي الحوض) [1005] .ابن حجر الشافعي يتحدث عن هذه النصوص: قال ابن حجر الشافعي: (ثم اعلم ان لحديث التمسك بالثقلينطرقا كثيره وردت عن نيف وعشرين صحابيا) [1006] .النص الحادي عشر: قال زيد بن ارقم: قام رسولاللّه يوما فينا خطيبا بماء يدعي خما بين مكه والمدينه فحمد اللّه واثني عليه ووعظ، وذكر ثم قال اما بعد: (الا ايها الناس فانما انا بشر يوشك ان ياتي رسول ربي فاجيب، واني تارك فيكم الثقلين: اولهما كتاب اللّه فيه الهدي والنور، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به، فحث علي كتاب اللّه ورغب فيه، ثم قال واهل بيتي اذكركم اللّه في اهل بيتي، اذكركم اللّهفي اهل بيتي، اذكركم اللّه في اهل بيتي) [1007] .النص الثاني عشر: قال زيد بن ارقم: قال رسولاللّه (ص): (الا واني تارك فيكم ثقلين: احدهما كتاب اللّه عز وجل وعترتي اهل بيتي).. الي ان قال الراوي عن زيد فقلنا: من اهل بيته؟ نساوه؟ قال: لا، وايم اللّه، ان المراه تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجعالي بيت ابيها.. الخ [1008] .النص الثالث عشر: تذكيرا للامه بعمق الترابط بين القرآن الكريم، وعتره النبي اهل بيته قال الرسول لاصحابه: (فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصرواعنهما فتهلكوا ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم) [1009] .النص الرابع عشر: قياما بواجب البيان، واقامه للحجه، وابطالا لكيد قاده التحالف قال الرسول لاصحابه: (الا ان مثل اهل بيتي فيكم مثل سفينهنوح من قومه من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق) [1010] .النص الخامس عشر: قال الرسول لاصحابه: (النجوم امان لاهل الارض من الغرق، واهل بيتي امان لامتي من الاختلاف، فاذا خالفتها قبيله منالعرب، اختلفوا فصاروا حزب ابليس) [1011] .النص السادس عشر: قال الرسول لاصحابه: (النجوم امان لاهل السماء، واهل بيتيامان لامتي) [1012] .راي ابن حجر بمعني مصطلح الامان للامه: قال ابن حجر الشافعي حول حديث (اهل بيتي امان لامتي) يحتمل: ان المراد باهل البيت الذين هم امان، علمائهم لانهمهم الذين يهتدي بهم كالنجوم [1013] .النص السابع عشر: امام حمله الرسول المركزه لترتيب عصر ما بعد النبوه، سال الصحابه رسولاللّه: ما بقاء الناس بعد اهل البيت؟، فقال الرسوللاصحابه: (بقاء الحمار اذا كسر صلبه) [1014] .النص الثامن عشر: خطب الرسول يوما فقال لاصحابه: (يا ايها الناس ان الفضل والشرف والمنزله لرسولاللّه وذريته فلا تذهبن بكمالاباطيل) [1015] .النص التاسع عشر: قال الرسول لاصحابه: (في كل خلف من امتي عدول من اهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتاويل الجاهلين، الا وان ائمتكم وفدكم الي اللّه،فانظروا من تفدون) [1016] .النص العشرون: قال الرسول لاصحابه: (واجعلوا اهل بيتي منكم مكان الراس من الجسد، ومكان العينين من الراس، ولا يهتدي الراس الابالعينين) [1017] .النص الحادي والعشرون: قال النبي لاصحابه يوما: (لا يحبنا اهل البيت الا مومن تقي، ولايبغضنا الا منافق شقي) [1018] .النص الثاني والعشرون: اقسم الرسول امام اصحابه قائلا: (والذي نفسي بيده، لا يبغضنااهل البيت احد الا ادخله اللّه النار) [1019] .
من اجل هذا جعل اللّه الصلاه علي آل محمد جزءا لا يتجزا من الصلاه المفروضه علي العباد فيتوجب حتي تتم الصلاه ان يصلي المصلي علي محمد وعلي آل محمد وهكذا فسر رسولاللّه آيه (ان اللّه وملائكته يصلون علي النبي، يا ايها الذينآمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) [1020] . قال الشافعي مشيرا الي هذه الناحيه:فيا اهل بيت رسولاللّه حبكم فرض من اللّه في القرآن انزلهفكفاكم من عظيم الفخر انكم من لم يصل عليكم لا صلاه له [1021] .
قياما بواجب البيان الملقي علي عاتق الرسول، وقطعا لدابر الخلاف والاختلاف وابطالا لكيد قاده التحالف واشياعهم وامثالهم من الطامعين بالسلطه، لم يكتف النبي باعلام الامه بكل وسائل الاعلام بان الامام من بعده هو عليبن ابي طالب، ولم يكتف بتحديد وتوضيح الدور المميز لاهل بيت النبوه في قياده الامه وتوجيهها من بعده، ولم يكتف بالرباط الوثيق الذي شد عراه بين الامام والقرآن وبين القرآن واهل البيت، ولم يكتف بان بين للامه استحاله ادراك الهدي دون التمسك بالثقلين، كتاب اللّه وعتره نبيه، واستحاله تجنب الضلاله بغير التمسك بهما. لم يكتف النبي بكل ما قدم وانما سمي اثني عشر اماما يلونه اولهم: علي، وثانيهم الحسن، وثالثهم الحسين، وسمي كل واحد من هولاء بالامام اطلاقا بدون قيد وهذا الاصطلاح معروف شرعا. وبالرغم من تكميم الافواه، وسيطره قاده التاريخ علي الاعلام (فقد عرف الرازي كلمه (الامام) بانه كل شيء يقتدي به في الدين، فالامام ابو حنيفه هو القدوه بالفقه، والبخاري هو القدوه في الحديث، والغزالي هو القدوه في التوحيد [1022] ، (وقياده الامه تسمي الامامه الكبري او العظمي، وامامه الصلاه تسمي الامامه الصغري، واطلاق لفظ الامام يعني صاحب الامامه الكبري، والخلاصه ان كلمه امام استقرت اصطلاحا ونهائيا علي انها تعني رئيس الدوله الذييخلف النبي، والمعين وفق الشرع الحنيف) [1023] .وعلي اي حال، فان الرسول بامر من ربه قدم علي بن ابي طالب للامه، كامام او كقائد او كمرجع، او كولي لها من بعده، او كخليفه له وكل هذه المصطلحات تدل علي ذلك الشخص المكلف شرعا بقياده دعوه الاسلام ودولته معا. ولكن افضل هذه الالفاظ واكثرها انطباقا علي الشرعيه وانسجاما معها هو مصطلح الامام، ومن هنا كرر رسولاللّه بان علي هو الامام من بعده، وكرر بان الحسن امام، وكرر بان الحسين امام، وسمي من ذريته اثني عشر اماما. جاء في ينابيع الموده للقندوزي الحنفي [1024] في الماده العاشره عن جابر بن سمره قال: كنت مع ابي عند النبي فسمعته يقول: (بعدي اثني عشر خليفه، ثم اخفي صوته، فقلت لابي ما الذي اخفي صوته؟ قال: قال كلهم من بني هاشم). وعن جابر قال رسولاللّه (ص): (انا سيد النبيين، وعلي سيد الوصيين وان اوصيائي بعدي اثنا عشر اولهم علي وآخرهم القائم المهدي). وجاء في كفايه الاثر لابي قاسم الخزار بالاسناد الي عبد اللّه بن مسعود سمعت رسولاللّه (ص) يقول: (الائمه من بعدي اثني عشر اماما كلهم من قريش). وفي كفايه الاثر ايضا بالاسناد الي ابي سعيد الخدري قال: صلي بنا رسولاللّه الصلاه الاولي ثم اقبل علينا فقال: (معاشر اصحابي ان مثل اهل بيتي فيكم مثل سفينه نوح، وباب حطه في اسرائيل، فتمسكوا باهل بيتي، والائمه الراشدين من ذريتي فانكم لن تضلوا ابدا فقيل يا رسولاللّه كم عدد الائمه بعدك؟ قال الرسول(ص): اثني عشر من اهل بيتي او قال من عترتي). وفي كفايه الاثر بالاسناد الي واثلهبن الاسقع قال: قال رسولاللّه: (ان الائمه من بعدي اثني عشر، فمن احبهم واقتدي بهم فاز ونجي، ومن تخلف عنهم ضل وغوي). وبالاسناد الي علي قال رسولاللّه (ص): (اثنا عشر من اهل بيتي اعطاهم اللّه فهمي وعلمي وحكمتي، وخلقهم من طينتي، فويل للمتكبرين عليهم من بعدي القاطعين فيهم صلتي، مالهم لا انالهم اللّه شفاعتي) [1025] .
قال الامام الصادق عليه السلام: (الائمه اثني عشر) وقال: (نحن اثنا عشر مهديا) عن عبد اللّه بن ابي الهذيل قال: سئل الامام الصادق عن الامامه في من تجب، وعلي من تجب له الامامه؟ فقال عليه السلام: (ان الدليل علي ذلك، والحجه علي المومنين، والقائم بامور المسلمين، والناطق بالقرآن، والعالم بالاحكام، اخو نبي اللّه صلي اللّه عليه وآله وسلم وخليفته علي امته، ووصيه عليهم ووليه الذي كان منه بمنزله هارون من موسي المفروض الطاعه بقول اللّه عز وجل (يا ايها الذين آمنوا اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول واولي الامر منكم) من سوره النساء آيه 59، الموصوفه بقوله عز وجل (انما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاه ويوتون الزكاه وهم راكعون) المدعو اليه بالولايه، المثبت له الامامه يوم غدير خم بقول(ص) عن اللّه عز وجل: (الست اولي منكم بانفسكم؟ قالوا بلي، قال فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، واعن من اعانه ذلك عليبن ابي طالب امير المومنين وامام المتقين، وقائد الغر المحجلين وافضل الوصيين، وخير الخلق اجمعين بعد رسولاللّه (ص). ثم الحسنان سبطا رسولاللّه، وابنا خيره النساء، ثم عليبن الحسين، ثم محمدبن علي، ثم جعفربن محمد، ثم موسيبن جعفر، ثم عليبن موسي، ثم محمدبن علي، ثم عليبن محمد، ثم الحسنبن علي، ثم ابن الحسن عليه السلام المهدي. وهم عتره الرسول(ص)، المعروفون بالوصيه والامامه، لا تخلو الارض من حجه، والحجه علي اهل الدنيا الي ان يرث اللّه الارض ومن عليها، وكل من خالفهم ضال، تارك للحق والهدي، وهم المعبرون عن القرآن، والناطقون عن الرسول(ص) بالبيان، وان من مات ولا يعرفهم مات ميته جاهليه ودينهم الورع والعفه والصدق والصلاحوالاجتهاد) [1026] .قال الامام محمد الباقر عليه السلام: (الائمه بعد رسولاللّه (ص) كعدد نقباء بني اسرائيل، وكانوا اثني عشر الفائز من والاهم، والهالك من عاداهم). وقال ايضا: (نحن اثنا عشر اماما منهم حسن وحسين ثم الائمه من ولد الحسين عليه السلام). وقال ايضا: (الائمه بعد الرسول(ص) اثنا عشر، الثاني عشر هو القائم عليه السلام). وقال ايضا: (تكون تسعه ائمه بعد الحسين بن علي تاسعهم قائمه). وقال ايضا: (ان اللّه عز وجل ارسل محمدا الي الجن والانسوجعل من بعده اثني عشر وصيا) [1027] .
شيعه الحكام اجمعوا بان الائمه من بعد النبي اثنا عشر اماما، وقالوا بان اولئك الائمه هم الصفوه، والي هذا العدد اشار البخاري في صحيحه [1028] ، ومسلم في صحيحه [1029] ، والترمذي في صحيحه [1030] ، وابو داود في مسنده [1031] ، واحمد في مسنده [1032] ، والمتقيالهندي في كنزه [1033] . والي هذا العدد اشارت النصوص الشرعيه، واحاديث الائمه الاطهار.
بعد ان اجمعوا علي ان الائمه من بعد النبي اثنا عشر اماما اختلفوا، فالحكام وشيعتهم قالوا: ان الائمه الاثني عشر من بعد النبي هم الحكام الذين قبضوا علي مقاليد الامور بالقوه بعد النبي حسب تسلسلهم الزمني. وفريق آخر منهم انتقي اثني عشر حاكما راي انهم اصلح من حكم وقال: انهم الاثنا عشر الذين نص عليهم النبي، ونفوا نفيا قاطعا ان يكون احد آخر سواهم، فهم ملتصقون بالواقع التاريخي، يتشبثون بكل شيء، ويحرفون كل شيء حتي يضفوا الشرعيه والمشروعيه علي ذلك الواقع التاريخي، لانهم لو سلموا بالشرعيه لانهار الكهف علي من فيه. اما الشرعيه وائمه اهل بيت النبوه فيرون ان رسولاللّه هو الامام القدوه، وهو الاعلم والافهم بالدين، والاقرب الي اللّه، واصلح الخلق، وافضل الموجودين، وهو الموتمن علي الدين والدنيا، ومن هنا كان اماما لعلم اللّه اليقيني بامتلاك النبي لهذه الصفات، وخليفته والامام من بعده يجب ان يكون من هذا الطراز الرفيع، وممتلك لهذه الصفات، حتي يكون موتمنا علي مصالح المعاد والعباد. ومن المهازل حقا ان يكون يزيد بن معاويه احد الائمه وهو المشهور بعهره وفجوره، علي الاقل ان لم يكن بكفره!! ومن المهازل حقا ان يكون الامام من يغلب كائنا من كان، او من يعهد اليه الغالب بغض النظر عن دينه وخلقه، وعلمه!!
قدم رسولاللّه اول الائمه من بعده علي بن ابي طالب، ثم قدم ابنه الحسن، وابنه الحسين ووصفهما بانهما امامان قاما او قعدا، وانهما سيدا شباب اهل الجنه [1034] ، وفوق ذلك فان كل واحد من الائمه الثلاثه تبوء عماده اهل بيت النبوه في زمنه، وقد عرفنا الدور المميز لاهل بيت النبوه، ويكفي السبطين شرفا انهما ذريه رسولاللّه. قال الحسين بن علي عليه السلام: (دخلت علي جدي رسولاللّه، فاجلسني علي فخذه، وقال لي: ان اللّه اختار من صلبك يا حسين تسعه ائمه تاسعهم قائمهم وكلهم في الفضلعند اللّه سواء) [1035] .وعن ابن عباس قال: سمعت رسولاللّه (ص) يقول: (انا وعلي والحسن والحسين وتسعه من ولد الحسين مطهرونمعصومون) [1036] .قال جابر بن عبد اللّه الانصاري: لما انزل اللّه علي نبيه (يا ايها الذين آمنوا اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول واولي الامر منكم) قلت: يا رسولاللّه عرفنا اللّه ورسوله فمن هم اولي الامر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك؟ فقال الرسول: (هم خلفائي يا جابر، وائمه المسلمين بعدي، اولهم عليبن ابي طالب ثم الحسن، ثم الحسين ثم علي بن الحسين).. [1037] الخ حتي يكتملوا اثني عشر. في حديث طويل جاء فيه ان جابر بن عبد اللّه الانصاري قال: (يا رسولاللّه ومن الائمه من ولد علي بن ابي طالب؟ فقال الرسول: الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنه، ثم سيد العابدين في زمانه علي بن الحسين، ثم الباقر..) الخ [1038] ، حتي يكتمل العدد اثني عشر. وعن عبد اللّه بن جعفر الطيار قال: سمعت رسولاللّه يقول: (اني اولي بالمومنين من انفسهم، ثم اخي علي بن ابي طالب اولي بالمومنين من انفسهم، فاذا استشهد فابني الحسن اولي بالمومنين من انفسهم، ثم ابني الحسين اولي بالمومنين من انفسهم، فاذا استشهد فابنه علي اولي بالمومنين منانفسهم) [1039] .
حين حضرت الوفاه امير المومنين كانت وصيته للحسن السبط بالنص التالي: (.. يا بني انه امرني رسولاللّه، ان اوصي اليك وادفع اليك كتبي وسلاحي كما اوصي الي ودفع الي كتبه وسلاحه، وامرني ان آمرك اذا حضرك الموت ان تدفعها الي اخيك الحسين، ثم اقبل علي ابنه الحسين فقال وامرك رسولاللّه ان تدفعها الي ابنك هذا، ثم اخذ بيد علي بن الحسين وقال وامرك رسولاللّه ان تدفعها الي ابنك محمد بن علي، فاقرئه من رسولاللّه ومني السلام).
الاصل بالائمه الكرام ان يكونوا اعلاما للامه، ومصابيح هداها، وسفن نجاتها، وفراق ليلها تطيعهم وتقتدي بهم، لانهم ائمه الامه وقادتها ومراجعها الشرعيه، بالنصوص القاطعه، ولكن الناس مع من غلب ولان قاده التاريخ غلبوا، ادار الناس لائمه اهل البيت ظهورهم، وصفقوا للغالب، وتجاهلوا الشرعيه التي يمثلها الائمه، والاصل ايضا ان يبدي الائمه حكمهم بالناس وبالعلماء بوصف الائمه هم الساده والقاده ولكن الزمان انقلب فنسال التابع عن رايه بالمتبوع، ونسال المقتدي عن رايه بالقدوه.
بعد ان هلك معاويه، وانهارت الدوله الامويه واستشهد علي والحسن والحسين اكتشف علماء شيعه الحكام بان الثلاثه ائمه وانهم ساده اهل الجنه، وقاده الامه، فهم نفس العلماء الذين سبوا الثلاثه، وتبراوا منهم ومن اهل البيت استجابه لقرار معاويه بن ابي سفيان، وهم نفس العلماء الذين شهدوا مقتل الثلاثه ظلما دون ان ينصروا او يقفوا علي الحياد علي الاقل ومكانه الثلاثه في الدين اعظم من ان يستدل عليها باراء علماء شيعه الحكام، فقد تسربت كامل النصوص الشرعيه الي العامه، وبوقت يطول او يقصر سيكتشفون كم ضيعوا بجنب اللّه ثم خذلوا ائمه الهدي.
قال الزهري: (لم ادرك احدا من اهل هذا البيت يعني اهل بيت النبوه افضل من علي بن الحسين). قال سعيد بن المسيب: (هذا سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام). قال ابن حجر في صواعقه (زين العابدين هو الذي خلف اباه علما وزهدا وعباده). وعن ابي حازم وسفيان بن عيينه كان كل منهما يقول: (ما رايت هاشميا افضل من علي بن الحسين). قال ابو حازم: (ما رايت افقه منه). وقال الامام مالك: (سمي زين العابدين لكثره عبادته) [1040] .
قال عبد اللّه بن عطاء المكي: (ما رايت العلماء عند احد قط اصغر منهم عند ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام) وقال النووي: (هو تابعي جليل، امام بارع مجمع علي جلالته، معدود في فقهاء المدينه وائمتهم، سمع جابرا وانسا، وروي عنه ابن اسحاق، وعطاء بن ابي رباح، وعمرو بن دينار الاعرج، وهو اسن منه والزهري وربيعه وخلائق كثيرون، وروي له البخاري ومسلم. وقال ابن العماد الحنبلي: (ابو جعفر محمد الباقر كان من فقهاء اهل المدينه وقيل له الباقر لانه بقر العلم اي شقه، وعرف اصله وتوسع فيه) [1041] .وقال محمد بن طلحه الشافعي: (محمد بن علي الباقر هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه، ورافعه.. صفا قلبه، وزكا عمله، وطهرت نفسه وشرفت اخلاقه، وعمرت بطاعه اللّه اوقاته) [1042] .وقال ابو الفداء بن كثير: (ابو جعفر الباقر تابعي جليل كبير القدر، احد اعلام هذه الامه علما وعملا وسياده، وسمي الباقر لبقره العلوم، كان ذاكرا خاشعا صابرا وكان من سلاله النبوه) [1043] .
نقل المحقق العلامه السيد محسن الامين ان الحافظ بن عقده جمع في كتاب رجاله اربعه آلاف رجل من الثقات الذين رووا عن جعفربن محمد، فضلا عن غيرهم وذكرمصنفاتهم [1044] .وروي النجاشي في رجاله بسنده عن الحسن بن علي الوشا في حديث انه قال: (ادركت في هذا المسجد مسجد الكوفه تسعمايه شيخ كل يقول حدثني جعفربن محمد، وكان جعفر عليه السلام يقول حديثي حديث ابي وحديث ابي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن ابي طالب، وحديث علي حديثرسولاللّه، وحديث رسولاللّه قول اللّه عز وجل) [1045] .جاء في حليه الاولياء: (ان جعفر الصادق حدث عنه من الائمه والاعلام: مالك بن انس، وشعبه بن الحجاج، وسفيان الثوري، وابن جريج.. واخرج عنه مسلم في صحيحه، وروي عنه مالك والشافعي والحسنبن صالح وايوب السجستاني واحمدبنحنبل) [1046] .وقال مالك بن انس: (ما رات عين ولا سمعت اذن، ولا خطر علي قلب بشر افضل من جعفر الصادق فضلا وعلما وعبادهوورعا) [1047] .قال المورخ اليعقوبي عنه: (وكان افضل الناس، واعلمهم بدين اللّه، وكان اهل العلم الذين سمعوا منه اذا رووا عنه قالوا: (اخبرناالعالم) [1048] .قال محمد فريد وجدي صاحب دائره المعارف عن الامام جعفر: (... كان من سادات اهل البيت لقب بالصادق لصدقه في كلامه،كان من افاضل الناس) [1049] .قال ابو فتح الشهرستاني عن الامام: (... وهو ذو علم غزير في الدين، وادب كامل في الحكمه، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات. قال ابو حنيفه: (جعفر بن محمد افقه من رايت، وقال ما كنت تاركا قولا قلته او قضاء قضيته لقول احد الا رجلا واحدا هوجعفر بن محمد) [1050] .قال انس امام المالكيه: (.. وما رايته يحدث عن رسولاللّه الا عنطهاره) [1051] . قال امام خراسان:فانت يا جعفر فوق المدح والمدح عناءفانما الاشراف ارض ولهم انت سماء [1052] .قال شيخ الازهر محمد ابو زهره عن الامام جعفر: (وله علي الاكابر منهم فضل خاص، فقد كان ابو حنيفه يروي عنه، ويراه اعلم الناس، واوسع الفقهاء احاطه، وكان الامام مالك يختلف اليه دارسا، وكان له فضل الاستاذيه علي ابي حنيفه ومالك،فحسبه ذلك فضلا..) [1053] .
تصور قاده التحالف انهم اذا نهوا الناس سرا عن كتابه احاديث رسولاللّه وشككوا، بشخص الرسول، واشاعوا اشاعاتهم الباطله، سيحولون بين الامه وبين معرفه الحكم الشرعي والبيان النبوي المتعلق بمنصب القياده او الامامه او المرجعيه من بعد النبي، مما يسهل عليهم في ما بعد الانقضاض علي قياده الامه، والاستيلاء عليها بالقوه والغلبه، وفرض الامر الواقع علي الناس، ولكن اللّه خيب ظنهم، وفوت رسولاللّه الفرصه عليهم. فقد بين رسولاللّه القرآن الكريم كله بيانا كاملا وقائما علي الجزم واليقين، وسمع المسلمون هذا البيان وفهموه او تظاهروا بسماعه وفهمه. وركز الرسول تركيزا خاصا علي منصب الامامه او القياده او المرجعيه من بعده، فوضحه توضيحا كاملا، وبينه بيانا شاملا، ورتب امور الناس الي يوم القيامه. وقد راينا بيان الرسول المتعلق بالامامه من بعده، وكيف ان اللّه تعالي قد اختار عليبن ابي طالب ليكون ولي عهد النبي حال حياته، وقائد الامه وامامها ومرجعها بعد وفاته، وقد بين الرسول هذا الامر بيانا لا يختلف عليه اثنان، وفي غدير خم اعلن الرسول رسميا ولايه علي امام مائه الف مسلم او يزيدون، وبايعه المسلمون وهناه المهنوون وكان اولهم عمر بن الخطاب. وان اللّه تعالي قد اختار اهل بيت النبوه، فاعطاهم دورا خاصا ومميزا بقياده الامه. وبامر من اللّه قد بين الرسول استحاله ادراك الامه للهدي الا بالتمسك باثنين وهما كتاب اللّه باعتباره (القانون النافذ في مجتمع الامه الاسلاميه) وباهل بيت النبوه باعتبار عميدهم في كل زمان هو قائد الامه وامامها ومرجعها، مثلما بين الرسول استحاله تجنب الضلاله بغير التمسك بالاثنين. ولم يكتف الرسول بذلك انما حدد الائمه من بعده وسمي اثني عشر اماما باسمائهم وكلهم من ذريته الطاهره، وكلهم عمداء لاهل بيت النبوه، فعلي وحسن، وحسين، وزين العابدين علي بن الحسين، والباقر.. سماهم الرسول، وتسعه منهم لم يلدوا بعد كما بينا.
رسولاللّه قد تلقي امرا من ربه بان يعلن عليبن ابي طالب وليا لعهده واماما من بعده، وكلف اللّه رسوله ان يعد الامام علي اعدادا خاصا للامامه من بعده، وقبل ان ينتقل النبي الي جوار ربه اكد عهده لعلي وتوجه امام مائه الف، والمفترض حسب قواعد الشرعيه ان تتقدم الامه وتبايع امامها الجديد. لم يكتف رسولاللّه بذلك. انما طلب من علي ان يعهد الي الحسن وطلب من الحسن ان يعهد الي الحسين، ومن الحسين ان يعهد الي ابنه علي وطلب من علي ان يعهد الي ابنه محمد الباقر.. الخ، بمعني ان الرسول قد رتب الامور بحيث يتعين كل امام بنص ممن سبقه. وحيث ان الامه قد دلها اللّه ورسوله علي الشخص المتصف بصفات الامامه، او القياده، او المرجعيه، فانها بهذه الحاله تقبل علي امامها الجديد فتبايعه، بيسر وسهوله بدون هزه ولا رجه، فيسير الجميع ضمن اطار الشرعيه والمشروعيه الالهيه، تحتقياده الرجل الذي ارتضاه اللّه ورسوله لقياده الامه [1054] .
قبلت الامه الاسلاميه بالترتيبات الالهيه المتعلقه بالقياده، او الامامه، او المرجعيه من بعد النبي، والتي بينها الرسول بيانا كاملا واقتنعت الامه او تظاهرت بالاقتناع بان اهل البيت وآل محمد احق بميراث محمد من غيرهم، ولم يندهش الناس من جمع الهاشميين للنبوه والملك معا، (وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيره) [1055] (وما كان لمومن ولا مومنه اذا قضي اللّه ورسوله امرا ان يكون لهم الخيره من امرهم) [1056] ثم ان اللّه اعطي آل ابراهيم النبوه والملك والكتاب، كما ورد بالتنزيل. ولم يثر هذا الجمع حفيظه احد، خاصه وان المسلمين قد سمعوا بان رسولاللّه خير من ابراهيم عليهما وآلهما الصلاه والسلام، واحيطوا علما بالدور المميز لبني هاشم عامه ولاهل بيت النبوه خاصه في نصره قضيه الاسلام طوال عهدي النبوه في الدعوه والدوله، وبالمكانه الدينيه التي يتمتع بها عليبن ابي طالب واهل بيت النبوه، ومن هنا تقبل الجميع الترتيبات الالهيه او تظاهروا بقبولها، صحيح ان بطون قريش لم تقبل قلبيا بهذه الترتيبات، فهي تحسد الهاشميين، وتحقد علي الامام علي لانه قتل ساداتها، ومن هذا المنطلق عارضت بطون قريش النبوه الهاشميه وقاومتها بكل وسائل المقاومه، ثم فشلت وظهر امر اللّه، ودخل الناس في دين اللّه افواجا، فلبدت بطون قريش امام حاله القناعه العامه بالترتيبات الالهيه التي اعلنها الرسول، وتظاهرت بقبولها، لان البطون موقنه بتعذر تغييرها او تبديلها بذلك الوقت، ولانها مهزومه نفسيا ويائسه من الانتصار علي محمد في اي مواجهه، ثم انها لم تعرف من يعلق الجرس!!! وهي كغيرها تفهم او تتفهم بان محمد رجل واقارب الرجل اولي به.
في مروج الذهب [1057] للمسعودي، وفي وقعه صفين [1058] لنصربن مزاحم تجد النص الحرفي للرساله التي ارسلها معاويهبن ابي سفيان لمحمدبن ابي بكر وجاء فيها بالحرف مخاطبا محمدبن ابي بكر الصديق (وقد كنا وابوك معنا في حياه من نبينا نري حق ابن ابي طالب لازما لنا، وفضله مبرزا علينا، فلما اختار اللّه لنبيه ما عنده، واتم له ما وعده، واظهر دعوته وافلج حجته، قبضه اللّه اليه فكان ابوك وفاروقه اول من ابتزه وخالفه، علي ذلك اتفقا واتسقا.. الخ). فاذا كان معاويه الطليق ابن الطليق الذي قاد وابوه الشرك والمواجهه ضد النبي طوال 21 عاما، والذي قتل علي اخوه وجده وخاله وابن خاله وسادات بني اميه يري حق ابن ابي طالب لازما له، وفضله مبرزا عليه، فالاولي بغيره ان يري هذا الحق وهذا الفضل مما يعني ان الترتيبات الالهيه التي اعلنها النبي والمتعلقه بالامامه او القياده من بعده صارت قناعه عامه لدي الناس، وقبلوا بها، ولا تنزع هذه القناعه الا بتدبير وجهد جبار وقوه خاصه.
مع ان عمر هو الذي قاد الانقلاب علي الشرعيه، ونفذ نسف الترتيبات الالهيه المتعلقه بالقياده والتي اعلنها الرسول وبينها بيانا كاملا، وعلي الرغم من انه قد نصب ابا بكر خليفه، ثم وصل الي سده الخلافه الا انه قد صدرت منه مجموعه من الاعترافات تفيد، بان آلمحمد هم الاولي بميراثه، وان عليبن ابي طالب هو اولي الناس بخلافه النبي ليضمن عمر وقوف الانصار الي جانبه او حيادهم، فقد خاطبهم في سقيفه بني ساعده قائلا (انه واللّه لا ترضي العرب ان تومركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوه فيهم،.. لنا بذلك علي من خالفنا من العرب الحجه الظاهره والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثهونحن اولياوه وعشيرته، الا مدل بباطل..) [1059] .انت تلاحظ ان حجه عمر هي حجه اهل بيت النبوه وقد وظفها عمر لصالحه، مع انه من بني عدي ومحمد من بني هاشم ولكن عمر يقر صراحه بان اهل محمد اولي بميراثه، وقد نقلت اقرار عمر بصيغته هذه الاكثريه من المورخين!!! وعمر يجلس علي كرسي الخلافه قال يوما لابن عباس (... اما واللّه يا بني عبد المطلب لقد كان علي بن ابي طالب فيكم اولي بهذا الامر مني ومن ابي بكر).. [1060] وقال يوما لابن عباس (يا ابن عباس واللّه ان صاحبك هذا لاولي الناس بالامر بعد رسولاللّه ولكننا خفنا...) [1061] ، وقال يوما لابن عباس: (.. ما اظن صاحبك الا مظلوما) [1062] ، ثم اعلن عمر بصراحه تامه: (بان الامر كان لعليبن ابي طالب فزحزحوه عنه لحداثه سنه، والدماء التي عليه) [1063] ، فهذا اقرار واضح بان عمربن الخطاب يعلم علم اليقين بان الامر لعلي، وكيف ينسي ذلك، وهو اول من قدم التهاني لعليبن ابي طالب في غدير خم!!؟ ولكنه مقتنع بان اختيار الرسول لعلي بن ابي طالب ليس مناسبا، لحداثه سن علي!!، هذا اولا. ويذكر ان ابن عباس قال له: (واللّه ما استصغره رسولاللّه عندماامره ان ياخذ سوره براءه من صاحبك ابي بكر) [1064] .والسبب الثاني، الدماء التي علي علي بن ابي طالب، فانت تري ان عمر يعتبر تميز علي بن ابي طالب بالجهاد سبب يحول دون حقه بالخلافه،!! فعمر يكره سفك الدماء حتي ولو كانت في سبيل اللّه، وهذا هو السر في انه لم يثبت ان عمربن الخطاب قتل او جرح مشركا قط!!! والخلاصه: ان عمر كان يعلم علم اليقين بان الولي من بعد النبي هو عليبن ابي طالب، وكان من اوائل الذين تقدموا بالتهاني لامير المومنين في غدير خم ولما لا يعلم عمر، طالما ان الطلقاء كمعاويه والاعراب كانوا يعلمون، فقد قال الحسينبن علي لعمر يوما: (انزل عن منبر ابي فقال عمر: (هذا منبر ابيك لا منبر ابي من امرك بهذا!!) [1065] قيل لعمر انك تفعل امورا لعليبن ابي طالب لا تفعلها لسواه؟، فقال عمر انه مولاي، وقول عمربن الخطاب: (هنيئا لك يا ابن ابي طالب اصبحت وامسيت مولاي ومولي كل مومن ومومنه) «قول مشهور» وقد وثقناه وهذا مما يجعلنا ان نجزم ان عمر كغيره من افراد المجتمع المسلم كان يعلم علم اليقين ان الامر من بعد النبي لعلي، حسب البيان النبوي، ولكن عمربن الخطاب كان يعتقد بان بيان الرسول ليس وحيا من اللّه، وان الرسول يتكلم في الغضب والرضي، فلا ينبغي ان يحمل كل كلامه علي محمل الجد!! وقد وثقنا ذلك في فصل الشائعات، ولعل هذا هو السر الذي حمل عمر في ما بعد علي جمع الاحاديث المكتوبه عن رسولاللّه وحرقها، ومنعه الناس من كتابه احاديث الرسول وروايتها بدعوي: ان القرآن وحده يكفي!! وقد وثقنا ذلك في البحوث السابقه. ومن جهه ثانيه فان عمر كان يعتقد ان قرار الرسول باختيار عليبن ابي طالب خليفه له ليس مناسبا لحداثه سن علي، ولان علي اثخن بقتل سادات بطون قريش وهم علي الشرك. ومن جهه ثالثه فان عمر كان يعتقد انه ليس من الانصاف ان يكون النبي من بني هاشم وان يكون الملك في بني هاشم!! قد لا يصدق القاريء ذلك!! وحتي يقطع الشك باليقين فليراجع الكامل لابنالاثير [1066] .وحسبك قول علامه المعتزله ابن ابي الحديد نقلا عن ابن اسحاق: (كان عامه المهاجرين وجل الانصار لا يشكون بان عليبن ابي طالب هو صاحب الامر بعد رسولاللّه) [1067] .
وعبر قيس بن سعد بن عباده سيد الخزرج عن عمق هذه القناعه فقال في ما بعد عن علي: (ايها الناس انا قد بايعنا خيرمن نعلم بعد محمد نبينا) [1068] .
قال المقداد بن عمرو متعجبا من فعله قريش: (واعجبا لقريش، ودفعهم هذا الامر عن اهل بيت نبيهم، وفيهم اول المومنين، وابن عم رسولاللّه واعلم الناس وافقههم في دين اللّه، واعظمهم عناء في الاسلام، وابصرهم في الطريق، واهداهم الي الصراط المستقيم). واللّه، لقد زوروها عن الهادي المهتدي، الطاهر النقي، واللّه ما ارادوا اصلاحا للامه، ولا صوابا في المذاهب، ولكنهم آثروا الدنياعلي الاخره فبعدا وسحقا للقوم الظالمين!! [1069] .
لما قال المقداد: (ما رايت مثل ما اوتي اهل هذا البيت بعد نبيهم ولا اقضي منهم بالعدل ولا اعرف بالحق.. -تاثر عبد الرحمن بن عوف- فقال للمقداد: (يا مقداد اتق اللّه!! فانياخشي عليك الفتنه)!!! [1070] .وقال المقداد يوما: ما رايت مثل ما اوذي اهل هذا البيت بعد نبيهم فقال له عبد الرحمن: وما انت وذلك يا مقدادبن عمر؟!! فقال المقداد: اني واللّه لاحبهم بحب رسولاللّه، وان الحق معهم وفيهم يا عبد الرحمن، اعجب من قريش.. قد اجتمعوا علي نزع سلطان رسولاللّه بعده من ايديهم، اما واللّه، يا عبد الرحمن، او اجد علي قريش انصارا لقاتلتهم كقتالي اياهم معرسولاللّه يوم بدر) [1071] .
الانصار باسرها قد تخلفت عن بيعه ابي بكر وقالت: لا نبايع الا عليا، او قالت: منا امير ومنكم امير [1072] .
وتقاعس عن بيعه ابي بكر: طلحه، والزبير، والمقداد، وسلمان، وعماربن ياسر، وابو ذر، وخالدبن سعيد، ورجال من المهاجرينوابو الا عليا [1073] .
كان سعد بن عباده يقول لابي بكر: (وايم اللّه، لو ان الجن اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم حتي اعرض علي ربي واعلم ما حسابي)، وكان لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع معهم، ولا يفيض بافاضتهم [1074] .
بعد ان اقيمت الحجه علي ابي بكر قال: (اقيلوني، اقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم) [1075] .
لم يبايع الولي ولا عم النبي، ولا بنو هاشم، حيث كانوا مشغولين بمصيبتهم، والرسول مسجي بين ايديهم، وقد اغلقعليهم الباب [1076] .
عندما جلس النبي علي فراش الموت، كانت الامه كلها علي علم بالبيان النبوي لعصر ما بعد النبوه وحتي قيام الساعه، كانت علي علم بان عليا هو الامام من بعد النبي، وان الحسن هو الامام من بعد علي، وان الحسين هو الامام من بعد الحسن.. الخ، كانت علي علم بالدور المميز لاهل بيت النبوه في قياده الامه من بعد النبي. وعلي علم بعمق الارتباط والتصور الشرعي بين اللّه ورسوله والقرآن الكريم من جهه، وبين الولي من بعد النبي واهل بيت النبوه من جهه اخري. وكان من غير المتصور نجاح اي قوه بتقطيع شبكه الترابط او تعكير شاشه هذا التصور، ولم تكن تدري ان الانقلابين وخصوم الامس قد دبروا امرهم بليل بهيم!!
بعد ان بين الرسول بكل وسائل البيان كافه الترتيبات الالهيه المتعلقه بقياده الامه من بعد النبي، وبعد ان نصب علي بن ابي طالب اميرا علي المومنين من بعده، واماما للمتقين، وطلب من الامه ان تبايعه علي ذلك، فبايعته فعلا، وقدمت له التهاني، وكان اول المهنئين عمر بن الخطاب، وبعد ان بين رسولاللّه الدور المميز لاهل بيت النبوه في قياده الامه من بعد النبي، وبعد ان بين عدد واسماء الذين اختارهم اللّه لقياده الامه حتي يوم القيامه!! بعدما سمعت الامه كل ذلك، او تظاهرت بسماعه، بعدما فهمت كل ذلك، او تظاهرت بفهمه، حذرها النبي من وقوع انقلاب، يقلب كل شيء راسا علي عقب، ويوجد المفارقه التامه بين الانقلابيين ومن والاهم وبين رسولاللّه، فيقول لعلي امام اصحابه: (يا علي من فارقني فقد فارق اللّه، ومن فارقك يا عليفقد فارقني) [1077] .وحذر الرسول من ان الانقلابيين سيغضبون ويسبون ويوذون عليا ويحملون الناس علي ذلك، فقال لاصحابه (من احب عليافقد احبني، ومن ابغض عليا فقد ابغضني) [1078] .وقال: (من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب اللّه ومنسب اللّه اكبه اللّه علي منخريه في النار) [1079] .وقال: (من آذي عليا فقد آذاني) [1080] .وحذر الرسول من وقوع جهد للامام من بعده فقال لعلي اماماصحابه: (اما انت ستلقي بعدي جهدا) [1081] .وابعد من ذلك فقد حذر الرسول من وقوع قتال وغدر، فقال لعلي امام اصحابه: (يا علي ستقاتلك الفئه الباغيه، وانت عليالحق فمن لم ينصرك فليس مني) [1082] .وقال لابي رافع احد اصحابه امام الصحابه: (يا ابا رافع سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا، حق علي اللّه جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده، فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانهفبقلبه) [1083] .وقال الرسول لعلي امام اصحابه (ان الامه ستغدر بكبعدي) [1084] .وحذر النبي من الانقلابيين سينكلون باهل بيت النبوه من بعد وسيشردونهم. وقال عبد اللّه بن مسعود: اتينا رسولاللّه فخرج الينا مستبشرا يعرف السرور في وجهه فما سالناه عن شيء الا اخبرنا.. حتي مرت فتيه من بني هاشم فيهم الحسن والحسين عليهما السلام، فلما رآهم رسولاللّه، التزمهم وانهملت عيناه، فقلنا يا رسولاللّه ما نزال نري في وجهك شيئا نكرهه فقال (انا اهل بيت اختار اللّه لنا الاخره علي الدنيا، وانه سيلقي اهل بيتي من بعدي تطريدا وتشريدا في البلاد).. رواه ابن ماجه في صحيحه [1085] ، وحذر النبي فوضح الصوره لاصحابه فقال لهم يوما: (ان اهل بيتي سيلقون من بعدي من امتي قتلا وتشريدا وان اشد قومنا لنا بغضا بنو اميه،وبنو المغيره، وبنو مخزوم) [1086] .والاهم من ذلك قد حذر بان عليا سيقتل، وان الحسن سيقتل وان الحسين سيقتل، وسيقتل معه الطيبون من اهل بيتالنبوه في كربلاء [1087] .
ثم حذر الرسول اصحابه بان نجاح الانقلابيين، سيفجر السد الذي يحجز الماسي والنكبات عن هذه الامه، ومفتاح نجاح الانقلابيين يتمثل باقصاء علي بن ابي طالب عن حقه بقياده الامه، وبحرمان اهل بيت النبوه من ممارسه دورهم الذي كلفهم اللّه تعالي به، وحذر اصحابه من ان يتخلوا عن علي وليهم الشرعي من بعد النبي، فتفتح عليهم ابواب مغلقه، وتشتعل النار في كل مقدس، وتاكل في النهايه الاخضر واليابس. ها هنا الفتنه من حيث يطلع قرن الشيطان: وابلغ من ذلك كله ان النبي قد قام خطيبا في اصحابه واشار نحو مسكن عائشه فقال لهم:
صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب ما جاء فيبيوت ازواج النبي 2/127و 127و 132و 189ط 1مطبعه محمدعلي صبيحرالقاهره و 4/46افست دار الفكر ر ط 1استانبول و4/100مطابع الشعب بروايه عبد اللّه بن عمر بن الخطاب و،4/65وملحق المراجعات ص251.
وفي لفظ آخر: ان رسولاللّه خرج من بيت عائشه فقال: (راس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان) [1088] . وسنثبت ان شاء اللّه في الفصول اللاحقه اكمال المواقع لهذين الحديثين الشريفين وعلاقتهما بكشف الانقلاب والانقلابيين.
ام المومنين عائشه زوج النبي، اشاعت بعد وفاه الرسول، ان النبي لم يستخلف علي ابن ابي طالب، ولم يتطرق الرسول للامامه من بعده واضافت: (ولو ان رسولاللّه اراد ان يستخلفلاستخلف ابا بكر، ثم عمر)!! [1089] .وسئلت ام المومنين مره (لو ان الرسول استخلف، من يستخلف؟ فقالت: لو ان الرسول استخلف لاستخلف ابا بكر ومنبعده عمر، ومن بعده ابي عبيده)!! [1090] .بمعني: ان ام المومنين انكرت ان يكون الرسول قد استخلف عليبن ابي طالب او احدا من اهل بيت النبوه، وبمعني ان ام المومنين تعلم علم اليقين ما خفي في نفس رسولاللّه، وتعرف ماذا ينوي ان يفعل الرسول قبل ان يصدر منه الفعل. ويلاحظ ان الامور واقعيا قد جرت وفق هذا الافتراض فابو بكر هو الخليفه الاول واتخذ عمر وليا لعهده وسماه خليفه من بعده، وقد صرح عمر مرارا وتكرارا وباسف بالغ بانه لو كان ابو عبيده حيا لولاه واستخلفه من بعده!!! ولكن لسوء الحظ مات ابو عبيده. انظر لقول عمر: (لو كان ابو عبيده حيا وليتهواستخلفته) [1091] .وهكذا انحصرت اهداف الانقلابيين، او قاده التحالف علي ما يلي: 1- صرف الامر عن علي بن ابي طالب صرفا كاملا. 2- الغاء الدور المميز الذي خص اللّه به اهل بيت النبوه لقياده الامه. 3- الحيلوله بين اي شخص من اهل بيت النبوه وبين الخلافه، بحيث تبقي النبوه للهاشميين وحدهم لا يشاركهم فيها احد، وتختص بطون قريش بالخلافه وحدها لا يشاركهم فيها ايهاشمي [1092] .4- ان ينصب في البدايه ابو بكر، وان يخلفه عمر، ثم يخلفه ابو عبيده ولما مات ابو عبيده وقع اختيار قاده التحالف علي عثمان ليكون الخليفه من بعد عمر فهو موضع سرهما، وكان يعرف بالرديف في عهد عمر والرديف الرجل الذي يرجوه الناس قائدا لهم بعد وفاه قائدهم. 5- ليس هنالك ما يمنع بعد هذا من ان يتولي الخلافه اي رجل سواء اكان من الانصار ام من الموالي، انظر الي قول عمر: (لو ادركت سالم مولي ابي حذيفه لوليته واستخلفته) وسالم هذا مولي لا نسب له في العرب، وموهلاته الحقيقيه هي ولاوه المطلق لعمر ولقاده التحالف (راجع قول عمر لو ادركت سالممولي ابي حذيفه وليته واستخلفته) [1093] .ثم ان عمر يتمني لو كان معاذ بن جبل حيا لولاه واستخلفه والمدهش ان معاذ من الانصار وكانت توليه الانصار غير جائزه شرعا في سقيفه بني ساعده بحجه ان عشيره الرسول اولي بميراثه!! وان ابا بكر وعمر وابو عبيده هم من عشيره الرسولواهله الاقربون [1094] . 6- وما يعني قاده التحالف الانقلابيين هو الحيلوله بين علي وحقه بالامامه من بعد النبي، وبين اهل بيت النبوه وحقهم بممارسه الدور المميز الذي خصهم اللّه به لقياده الامه. او بتعبير ادق هدف قاده التحالف ينصب علي الغاء الترتيبات الالهيه المتعلقه بالقياده والذي بينها الرسول واعلنها امام الامه مرارا وتكرارا كما فصلنا ذلك في الابواب السابقه تلك هي الاهداف الحقيقيه لقاده التحالف او لقاده الانقلاب الذي حذر رسولاللّه من وقوعه!!
لقد اخفي الانقلابيون او قاده التحالف مشاعرهم الحاسده والحاقده علي آل محمد، وتناسوا جراحات الماضي كلها، فلم يذكروا قتلاهم في بدر واحد والخندق، ولم يظهروا مشاعرهم وغصات حلوقهم، ولم يشعروا عليا بانه قاتل الاحبه، ولم يشعروا الرسول بانه المتسبب بل اعترفوا بالرسول وصار من مصلحتهم ان يعترفوا به، لانهم ادركوا ان الرسول ضمنا قد بني ملكا عريضا فصار هدفهم الاستيلاء علي هذا الملك، ودوامه، وهذا الدوام مرتبط بالاعتراف برساله محمد، وبالدين الذي جاء به محمد حتي يحكموا العرب بهذين الشعارين، ويضمنوا طاعه الرعايا بهذين السببين، فمحمد من هذه الناحيه خدمهم فقد رقاهم من حكم بلده مكه الي حكم العرب كلها، وفتح امامهم ابواب الخيرات التي ستتدفق عليهم عن طريق الجهاد. وعلي العكس من ذلك فقد قالت بطون قريش (مهاجروها وطلقاوها): ان الاسلام يجب ما قبله، وان اللّه تعالي قد اباح دماء الذين ماتوا من البطون علي الشرك، وقالت البطون: ان الخلاف بينها وبين الهاشميين في حقيقته كان خلافا عائليا من جميع الوجوه، وان اختلافها مع محمد كان من قبيل سوء الفهم، وان المقاومه والحرب التي نشبت بين البطون وبين محمد والهاشميين كانت من قبيل تسارع الاحداث ومن عمل الشيطان، وتحمد البطون ربها الذي اعزها بالاسلام، واكرمها بابنها البار محمد رسولاللّه صلي اللّه عليه وآله وسلم، فمحمد ما كان ولن يكون الا ابن قريش البار، الكريم الواصل لارحامه!!! وما كان الهاشميون الا العتره الطاهره التي احتضنت النبي، واحتضنت الاسلام، وجاهدت احسن الجهاد، وابلت البلاء الحسن!! وان ابا الحسن فارس قريش وابن عم النبي، وزوج ابنته.
لما رات بطون قريش اصرار محمد علي ولايه علي بن ابي طالب من بعده، واصراره علي اعطاء دور مميز لاهل بيت النبوه في قياده الامه من بعد النبي، وسمعوا اعلانات النبي المتكرره حول هذا الموضوع، وشاهدوا حرصه العميق علي توضيح ادق التفاصيل المتعلقه بالقياده والامامه من بعده وسمعوا تاكيداته المتلاحقه بان كافه الامور المتعلقه بقياده الامه والتي بينها الرسول لهم والمتعلقه بولايه علي وبالدور المميز لاهل البيت ما هي الا اوامر الهيه، (واتبع ما يوحي اليك) [1095] (ان اتبعالا ما يوحي الي) [1096] . لما رات بطون قريش كل هذا اخذت تبث الشائعات بين الناس، كان تقول: بان الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضي، ولا ينبغي ان يحمل كل كلامه علي محمل الجد، فلا ينبغي ان يكتب [1097] ومثل اشاعتها: بان الرسول يفقد احيانا السيطره علي اعصابه فيسب ويلعن ويشتم من لا يستحق ذلك. [1098] وقصد البطون من هذه الاشاعه هو ابطال النص الشرعي اللاعن لاعداء اللّه. ومثل شائعه البطون: بان الرسول يسقط من القرآن [1099] ، واخيرا واجهت بطون قريش النبي وهو علي فراش الموت وقالت له: انت تهجر. [1100] ومثل شائعه البطون بان بعض اليهود سحروا الرسول حتي ليخيل اليه انه يفعل الشيء وما فعله. [1101] والهدف من هذه الاشاعات التشكيك بشخصيه الرسول واقواله، وصولا الي ابطال مفاعيل البيان النبوي المتعلقه بالامامه او القياده من بعد النبي، والذي انصب بكليته علي اختيار الامام علي اماما للامه من بعد النبي، وعلي اعطاء الدور المميز لاهل بيت النبوه في قياده الامه. ومن غير المستبعد ان البطون قد تصورت بان هذه الترتيبات من عند محمد وليس من عند اللّه، فهان عليها انتهاكها ومحاوله تبديلها وافراغها من مضمونها الحقيقي.
فمدت البطون يدها للمنافقين، والمنافقون كانوا حقيقه من حقائق الحياه في المدينه المنوره وما حولها من الاعراب، وفي مكه بعد الفتح وكانت مشكله النفاق من اعظم المشكلات التي واجهت الاسلام وواجهت رسولاللّه، وكم بذل رسولاللّه من جهد مميز لردع المنافقين عن غيهم، وهدايتهم الي الاسلام، ولكنهم بقوا علي حالهم ظاهرهم مسلم يري فيه النفاق، وباطنهم كافر باللّه وبرسوله وحاقد علي محمد وعلي آل محمد، فكم عارضوا النبي، وكم ثبطوا العزائم، وكم شككوا. وفجاه وبدون مقدمات اعلن المنافقون: انهم مع دوله البطون، وليس من العدل ان يكون النبي من بني هاشم وان يكون الخليفه منهم، ووقفوا مع دوله البطون مويدين مناصرين لها. ولهذا لم نجد مورخا او باحثا قط ذكر ان منافقا قد اعترض علي توليه ابي بكر او عمر. لقد كان المنافقون مع بطون قريش عامه في صراعها مع اهل بيت النبوه، ومع ابي بكر وعمر خاصه في صراعهما مع الامام علي، وهكذا اختفت ظاهره النفاق تماما واصلح اللّه المنافقين بيوم وليله. ومدت بطون قريش يدها لطلاب الدنيا يقول المورخون: (وقد اقبلت قبيله اسلم بجماعتها حتي تضايق بهم السكك، فكان عمربن الخطاب يقول: (ما هو ان رايت اسلم حتي ايقنتبالنصر) [1102] .فما الذي اخبر عمر ان اسلم ستقف معه، هل هو يعلم الغيب ام ان هنالك اتفاق مسبق بين قياده التحالف وقبيله اسلم؟ ومن الذي اخبر اسلم بخبر الاجتماع طالما ان كبار الصحابه لا يعرفون عنه؟ ومن الذي دعا اسلم لتحضر وتبايع وتحقق لعمرما سماه نصرا؟!! [1103] . استفادت بطون قريش وقياده التحالف من التنافس الفطري بين الاوس والخزرج، ومن الخصومه القديمه بين هاتين القبيلتين، فاذا اتخذ الخزرج موقفا فالاوس يتخذون موقفا مناقضا له تماما، نعم كان للاوس والخزرج موقفا ظاهريا واحدا فقدموا سعد بن عباده لكبر سنه وشرفه، ولانه مريض، وعندما لمع سعد والمقداد، والحباب بن منذر عز ذلك علي الاوس، وفي اللحظه الحاسمه نهض بشير بن سعد وقال: (ان محمد رسولاللّه رجل من قريش وقومه احق بميراثه وتولي سلطانه).. [1104] ولم يكتف بشير بذلك انما قفز وبايع ابا بكر فكان بشير اول من بايع [1105] ، وهذا لم يكن صدفه انما هو وليد اتفاق وتدبير. فبنفس اليوم الذي بويع فيه ابو بكر ذهبت سريه فيها اسيد بن حضير سيد الاوس او هكذا اظهر لاستحضار علي للبيعه وحرق بيت فاطمه بنت رسولاللّه علي من فيه!! فهل يعقل ان هذا وليد لحظته، ام انه ثمره اتفاق وتدبير مسبق؟! وضغائن تغلي في الصدور؟!
قال الرسول يوما: (ضغائن في صدور اقوام لا يبدونها الا بعدي) [1106] .
رفع الانقلابيون مجموعه من الشعارات في اوقات متعدده، وفي مراحل مختلفه فكل مرحله لها شعارها او شعاراتها. فبمرحله الاعداد للانقلاب، رفع قاده البطون او قاده التحالف شعار: (منع الاجحاف يتحقق بالحيلوله دون جمع الهاشميين للنبوه والخلافه) وشعار الصواب والتوفيق باختصاص الهاشميين بالنبوه لا يشاركهم فيها احد من البطون، واختصاص بطون قريش بالخلافه لا يشاركهم فيها هاشمي!
قال عمر لابن عباس اثناء خلافته: (يا ابن عباس اتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد؟ قال ابن عباس: فكرهت ان اجيبه، فقلت: ان لم اكن ادري فان امير المومنين يدري، فقال عمر: كرهوا ان يجمعوا لكم النبوه والخلافه، فتجفخوا علي قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لانفسها فاصابت ووفقت. قال ابن عباس: فقلت يا امير المومنين ان تاذن لي في الكلام وتحط عني الغضب تكلمت، قال عمر: تكلم، قال ابن عباس: فقلت: اما قولك يا امير المومنين: اختارت قريش لانفسها فاصابت ووفقت، فلو ان قريشا اختارت لانفسها من حيث اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، واما قولك انهم كرهوا ان تكون لنا النبوه والخلافه، فان اللّه عز وجل وصف قوما بالكراهيه فقال: (ذلك بانهم كرهوا ما انزل اللّه فاحبط اعمالهم) [1107] ، فقال عمر: هيهات يا ابن عباس قد كانت تبلغني عنك اشياء اكره ان اقرك عليها فتزيل منزلتك عندي، قال ابن عباس فقلت: يا امير المومنين فان كان حقا فما ينبغي ان تزيل منزلتك مني، وان كان باطلا فمثلي اماط الباطل عن نفسه. فقال عمر: بلغني انك تقول: صرفوها عنا حسدا وبغيا وظلما. قال ابن عباس فقلت: اما قولك يا امير المومنين ظلما فقد تبين للجاهل والحليم، واما قولك حسدا فان آدم حسد، ونحن ولده المحسدون. فقال عمر: هيهات، هيهات ابت قلوبكم واللّه يا بني هاشم الا حسدا لا يزول. قال ابن عباس: فقلت: يا امير المومنين، مهلا لا تصف بهذا قلوب قوم اذهب اللّهعنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) [1108] .
ذكر عبد اللّه بن عباس: ان عمر ارسل اليه فقال: (يا ابن عباس ان عامل حمص هلك، وكان من اهل الخير، واهل الخير قليل، وقد رجوت ان تكون فيهم وفي نفسي منك شيء لم اره منك، واعياني ذلك فما رايك في العمل؟ قال ابن عباس: قلت لن اعمل حتي تخبرني بالذي في نفسك. قال عمر: وما تريد الي ذلك؟ قال ابن عباس فقلت: اريده فان كان شيئا اخاف منه علي نفسي خشيت منه عليها، الذي خشيت، وان كنت بريئا من مثله علمت اني لست من اهله، فقبلت عملك هنالك، فاني قلما رايتك طلبت مني شيء الا عاجلته. فقال عمر يا ابن عباس: (اني خشيت ان ياتي علي الذي هو آت -يعني موته- وانت في عملك فتقول، هلم الينا، ولا هلم اليكمدون غيركم [1109] . بمعني انه من فرط خشيه عمر من ان يجمع الهاشميون النبوه والملك، لا يريد ان يولي اي هاشمي حتي لا يدعو مستقبلا للهاشميين فتكون الخلافه فيهم مع النبوه، يريد ان يتاكد اثناء حياته ان الهاشميين بعيدين تماما عن مركز الخطر والتاثير، حتي لا ياخذوا الخلافه بعد وفاته. لم يحتاط عمر من معاويه، ولا من المغيره، ولا من احد من عماله، فهم موضع ثقه وضد فكره جمع الهاشميين للنبوه مع الملك لكنه احتاط عندما خطر بباله ان يولي ابن عباس الهاشمي، واكبر الظن ان ابن عباس لو وافق بالكامل علي شروط عمر واقسم له اغلظ الايمان بان يفكر كما يفكر، فان عمر لن يوليه، فقط لانه هاشمي، والهاشمي لا ينبغي ان يسلط علي رقاب الناس، فعمر رجل عادل ويحب العادلين مثله. وموالي لقضيه بطون قريش ويحب الموالين لتلك القضيه، وفي قلوب الهاشميين حسدا للبطون لا يزول!! كما قال.
عندما تاكد قاده التحالف ان النبي قد انتقل الي جوار ربه، وان آل محمد مشغولون بمصابهم وليس بامكانهم ترك النبي والخروج، رتبوا امورهم ليتعين خليفه للنبي في غياب آل محمد كلهم وطمعا باجتذاب الانصار الي صفهم لمواجهه آل محمد بالامر الواقع في ما بعد رفع قاده التحالف شعار: انهم اقارب محمد واهله وعشيرته وانهم الاولي بميراثه وسلطانه!! فقال ابو بكر في سقيفه بني ساعده: (الناس تبع لنا ونحن عشيره الرسول) وقال عمر: (انه واللّه، لا ترضي العرب ان تومركم ونبيها من غيركم، ولكن، العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوه فيهم.. من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن اهله وعشيرته..).واقوال ابي بكر وعمر هذه في السقيفه متفق عليها [1110] .وعندما قالت الانصار لا نبايع الا عليا. [1111] تجاهل الموجودون من قاده التحالف هذا الطلب، وقالوا: هذا عمر، وهذا ابو عبيده بايعوا ايهما شئتم، وبايعهم الانصار علي اساس انهم عشيره النبي واهله الاحق بميراثه وسلطانه، انظر الي قول بشير بن سعد اول رجل بايع ابا بكر: (ان محمدا رجلا من قريشوعشيرته احق بتولي سلطانه) [1112] .
لما قبض قاده التحالف علي مقاليد الامور، وبايعهم اولياوهم بالخلافه واحتج آل محمد رفع قاده التحالف شعار ان الامر شوري بين المسلمين، والمسلمون قد اختاروا ابا بكر اول الخلفاء وفق قواعد الشرع، انظر الي قول ابي بكر للعباس: (فخلي الرسول علي الناس امرهم ليختاروا لانفسهم في مصلحتهم متفقين غير مختلفين، فاختاروني عليهم وليا ولامورهم راعيا... الخ، وقد جئناك ونحن نريد ان نجعل لك في هذا الامر نصيبا يكون لك ولعقبك من بعدك، اذ كنت عم رسولاللّه، وان كان الناس قد راوا مكانك، ومكان اصحابكفعدلوا الامر عنكم.. الخ) [1113] . بمعني انهم بمواجهه الانصار وبغياب آل بيت محمد احتجوا بالقرابه من رسولاللّه، ولما قبضوا علي مقاليد الامور وواجهوا آل محمد بامر واقع رفعوا شعار الشوري، واحتجوا باختيار الناس لهم وبالبيعه.
وجد هذا الشعار عمليا عندما بدا الرسول بالتركيز المكثف علي الخلافه من بعده وعندما بين بان الامام من بعده هو علي بن ابي طالب، وبين الدور المميز في قياده الامه التي اختص اللّه به اهل بيت النبوه. عندئذ بدا قاده التحالف بالاشاعات للتشكيك بقول الرسول وشخصه وصولا الي ابطال مفاعيل النصوص النبويه التي احكمت ترتيب عصر ما بعد النبوه، وكانت العمليه سريه، وعندما قعد الرسول علي فراش الموت قال عمر بن الخطاب والحاضرون من حزبه للرسول مباشره، لا حاجه لنابوصيتك حسبنا كتاب اللّه!!، انت تهجر!! [1114] .
واخراجا لبيان الرسول عن التاثير علي الاحداث السياسيه، والغاء للبيان النبوي الذي غطي بدقه تفاصيل كل ما يتعلق بالقياده من بعد النبي، منع قاده التحالف كتابه احاديث الرسول وجمعوا المكتوب منها فاحرقوه، وكتبوا الي الامصار لمحو كل ما هو مكتوب عن الرسول وقد وثقنا ذلك اكثر من مره، وقد فعلوا كل ذلك تحت شعار حسبنا كتاب اللّه!! علي سبيل