الحياه البرزخيه

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي جعفر، 1318

عنوان و نام پديدآور : الحياه البرزخيه : تبحث عن امتداد حياه الانسان بعد الرحيل من الدنيا .../ جعفر السبحاني مشخصات نشر : قم الممثليه الولي الفقيه لشوون الحج و الزياره معاونيه شئون التعليم و البحوث الاسلاميه في الحج [مشعر]1376.

مشخصات ظاهري : ص 100

فروست : (علي مائده العقيده 13)

يادداشت : عربي يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس موضوع : برزخ موضوع : برزخ -- جنبه هاي قرآني شناسه افزوده : بعثه مقام معظم رهبري در امور حج و زيارت معاون آموزش و تحقيقات رده بندي كنگره : ‮ BP222/24 ‮ /س 2ح 9 1376

رده بندي ديويي : ‮ 297/44

شماره كتابشناسي ملي : م 77-18012

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

المقدمة

قال اللَّه تعالى وتبارك:

«وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوات بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».

البقرة/ 154

وقال عزّ من قائل:

«قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» يس/ 26-/ 27

لمّا انتهت معركة بدر بانتصار عظيم، وقف النبي الأكرمصلى الله عليه و آله يخاطب قتلى المشركين واحداً واحداً ويقول:

يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة، ويا اميّة بن حلف ويا أبا جهل و ... هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً، فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّاً.

فقال له بعض أصحابه: يا رسول اللَّه أتنادي قوماً موتى.

فقالصلى الله عليه و آله: «ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

السيرة النبويّة 1: 649؛صحيح البخاري 9: 98 كتاب الجنائز

ص:5

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد للَّه ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بالعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضي ءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنيةصَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا- ونظراً للحاجةِ المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّةٍ من كتاب اللَّهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، واللَّه الموفِّق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة

ص:6

ص:7

تقديم

ابن تيميّة وأثر منهجه في العقيدة والشريعة

في العصر الذي تحالفت فيه الوثنيّة والصليبيّة على تدمير الإسلام وتحطيم كيانه في أراضيه، والذي ينبغي فيه للعالِمِ المسؤول في مثل هذا الظرف الحرِج، أن يتصدّى لهذه المواقف الخطيرة، ويعمد إلى تجميع القوى وتكريسها، ليكون المسلمونصفاً واحداً ويداً واحدة وقوة حامية للإسلام أمام الزحف الوثني القادم من المشرق، المتمثل آنذاك في الهجمة المغوليّة الشرسة المدمِّرة، والزحف الصليبي القادم من الغرب، المتمثّل في الحملات النصرانية الحاقدة، على مقدسات المسلمين في فلسطين.

في مثل هذا العصر نرى من يطرح نفسه عالماً دينيّاً عارفاً بالكتاب والسنّة، يطرح على الساحة قضايا ومسائل من شأنها تعكير الصفو، وبلبلة الأذهان، وشقّ الصفوف، وبالتالي تضعيف القوة الإسلامية التي قوامها الوحدة.

أفيمكن والحال هذه وصف مثل هذا الشخص بأنّه عالم عارف أو

ص:8

شيخ إسلام أحيى السنّة وأمات البدعة؟!

لقد كانت النصارى بالمرصاد للمسلمين وكان من أمانيّهم الاستيلاء على القدس الشريف، وانتزاعه من أيدي المسلمين بحجّة كونه مولِد المسيح، وقبلة النصارى، ولهذا شنّوا الغارة تلو الغارة، والحملة تلو الحملة على بلاد المسلمين من أواخر القرن الخامس (491) إلى أواسط القرن السابع، وكانت للحروب الصليبية هذه مراحل ثمان انتصر المسيحيون في بعضها وهزمت قواتهم في البعض الآخر.

وقد تحمّل المسلمون جرّاء هذه الحملات الكبرى خسائر كبرى، لا يستطيع البنان واللسان عدّها وإحصاءها، ولا تصويرها، وبيانها.

وفيما كان الجرح نازفاً من جهة الغرب، تعرّضت البلاد الإسلامية من ناحية الشرق من عام 613 ه لحملة شعواء، وثنية الجذور لإقتلاع الإسلام من أساسه والقضاء على أُصوله وفروعه وإبادة حضارته ومدنّيته إلى أن سقطت الخلافة العباسية بأيدي أُولئك الوثنيين عام 656، وكانت الخسائر في النفوس والأرواح كبيرة قاربت المليون، بل أكثر.

وبقي التدمير والحرب سائدَين في البلاد إلى أواخر هذا القرن، بل امتدا إلى أواخر القرن الثامن.

ثم وقعت في الشمال الغربي من البلاد الإسلامية أعني الأندلس كارثة أُخرى، هي إبادة المسلمين وتصفيتهم بقتلهم أو بترحيلهم عن بلادهم وأوطانهم بأعداد كبيرة وهائلة.

فإذا نظرنا إلى الجدول التاريخي نرى أنّ هذه القرون الأربعة تعدّ من شرّ القرون على العالم الإسلامي حيث فيها:

ص:9

1- ابتدأت الحروب الصليبية من عام 491 واستمرت إلى عام 660 ه.

2- ابتدأت الحروب التترية (المغولية) من عام 603 وانتهت عام 807 ه.

3- أُبيد المسلمون في أوطانهم بإسبانيا والأندلس، أو رحّلوا من عام 609 إلى عام 898 ه.

ففي هذه الظروف المأساوية المتّسمة بالقتل والتنكيل والتشريد، والهدم، والمقرونة بتحريق المكتبات وتدمير الثقافة الإسلامية، نرى أحمد بن عبد الحليم بن تيمية يطرح مسائل باسم التوحيد والشرك ويُقسِّم المسلمين إلى قسمين: موحّد ومشرك،

والأول هو مَن يتبع خطواته وأفكاره، والثاني هم المخالفون وهم الأكثرية الساحقة من المسلمين.

فهل- ترى- طرحت هذه المسائل المفرقة لصفوف المسلمين بدوافع إيمانية، وبحجة الدفاع عن حوزة الدين والإيمان.

أو أنهّ كان وراء الأكمة ما وراءها، وأنّه كانت هناك وراء الكواليس أُمور أُخرى، يعلمها اللَّه.

أو أنّ طارح هذه الأفكار كان إنساناً ساذجاً ومغفّلًا غير واقف على مصالح الإسلام والمسلمين ولا عارف بما يصلحهم في ذلك الظرف العصيب وما يفسدهم.

وبكلمة قصيرة: ما كان يعرف الداء ولا الدواء.

ونحن لا نقضي بشي ء عليه فالتاريخ خير قاضٍ، والعلم عند اللَّه تبارك وتعالى.

ص:10

وعلى أيّ نحو فسّر موقفُ الشخص المذكور، فقد أنتج هذا الموقف ثلاث نتائج سيئة، لم تزل آثارها الخطيرة باقيّة إلى الآن:

1- الحطّ من شأن الأنبياء والأولياء والصالحين والشهداء والصدّيقين، وإنزالهم من مقاماتهم المعنوية العالية التي أعطاهم اللَّه إياها بجهادهم، وإخلاصهم، ووفائهم للعقيدة ودفاعهم عن الشريعة.

2- تعريض الآثار الإسلامية للمحو والإبادة والطمس والهدم، على حدّ لا يبقى من آثار النبيّ والمسلمين الأوائل شي ء يدل على وجودهم، وعلى تفانيهم وتضحياتهم، لو أُتيح لأتباع هذه الفكرة، وأنصار هذا الرجل أن ينفِّذوا كل مآربهم، ومراميهم.

وبالتالي لوْ وُفِّقوا لذلك، لَتحوّل الإسلام في رؤية الأجيال المستقبلة إلى صورة أُسطورية لا واقع لها ولا أساس، إلّابين الكتب والأوراق، أو في عالم الأذهان والأفكار.

3- تفريغ الدين من محتواه الداخلي، الغني، حيث قاموا بتفسير القرآن بحرفيته، فأثبتوا للَّه سبحانه الجسمانية، الجهة، والمكان، وسائر ما تتمتع به المخلوقات من الأوصاف والحالات، وما لها من الأعضاء والجوارح.

وهذا واضح لمن طالع رسائل الرجل المذكور، وكتاباته.

هذه أبرز النتائج التي ترتّبت على هذا المنهج الفكري الذي قدّمه ابن تيمية، ولكنّه لم يوفّق لتأصيل وتعميم ما كان ينويه ويهدف إليه ويسعى إلى نشره وحمل الناس عليه، وذلك لأنّه:

أوّلًا: واجه مخالفة العلماء الكبار من جميع المذاهب في البلاد المنعمة بالعلم والإيمان، والحبّ للرسول وآله في مصر والشام

ص:11

وغيرهما، ولأجل ذلك بقيت فكرته بذرة في ثنايا الكتب تنتظر أرضية مناسبة لنموّها، وتجدّدها.

ثانياً: واجه ما كان المسلمون مفطورين عليه من حبٍّ للإسلام، والرسالة المحمديّة الشريفّة، وتعلّق فطري سليم بالرسول الكريمصلى الله عليه و آله وآثاره، وما كان مركوزاً في أذهانهم منذ قرون من مشروعية لمظاهر التكريم والتبجيل للأنبياء والأولياء والصالحين.

وكانت الظروف على هذه الحال، ولم تكن مناسبة لنموّ وتوسع هذه البذرة إلى أن انتقلت إلى أراض قاحلة من العلم والمعرفة من بقاع نجد، فسقيت البذرة على يد محمّد بن عبد الوهاب النجدي (1115- 1206) فأخذت البذرة تنمو بين قوم امّيين لا يعرفون المعارف الصحيحة، بل تغلب عليهم البداوة والجاهلية، وقد استغل محمّد بن عبد الوهاب هذا النمط من الناس لتعميق هذه الفكرة، ودعمها وإشاعتها، ومن سوء الحظ أنّ أمير المنطقة محمّد بن سعود (حاكم الدرعية)، من إمارات نجد، أيّده في فكرته واتّفقا على المناصب والدعم المتقابل، وبذلك عادت الفكرة إلى الساحة باسم الوهابية، وأخذت تنمو شيئاً فشيئاً بين أعراب نجد وما حولها، وقد وقعت مناوشات وحروب دامية بين هذه الفرقة والخلافة الإسلامية العثمانية مرات، بفضل القوات المصرية التابعة للخلافة آنذاك.

وفي خلال الحرب العالمية الأُولى انهارت الخلافة الإسلامية وتبدّلت إلى ملكيات، وإمارات يحميها الاستعمار البريطاني والفرنسي، فاستولى أمير الوهابية عبد العزيز بن سعود على مكة والمدينة عام 1344، وبذلك سيطروا على أقوى مركز من مراكز التبليغ والدعوة،

ص:12

وصار لهم نشاط نسبيّ في تبليغ الفكرة ونشرها، وكبح الألسن وإلجامها والسيطرة على المخالفين والمعارضين.

ومع ذلك لم يكن النجاح حليفهم إلى أن اكتُشِفَت في المنطقة الشرقية (الظهران) أكبر معادن البترول، فصار أمير الوهابية يملك أكبر ثروة في العالم سخّرها لصالح قبيلته، ونشر الفكرة التي نشأ عليها هو وآباؤه، ولولا هذه الظروف الإتفاقية لا تحسّ منهم من أحد، ولا تسمع لهم رِكْزاً.

إنّ التاريخ يعيد نفسه، ففي الوقت الذي تشنّ القوى الكافرة من الصهاينة والصليبيين، الغارة تلو الغارة على الأطفال والشباب لمسح هويتهم الإسلامية بشتى الوسائل، حتّى أنّ الإنجيل قد ترجم في عقر دار المسلمين بمختلف اللغات الدارجة في البلاد الإسلامية.

ففي هذا الوقت العصيب الذي تدمع عين الإسلام دماً، نرى الوهابيين مستمرين على تهديم الآثار الإسلامية الباقية، بمعاولهم الهدامة تحت غطاء توسيع المسجدين، موزعين ملايين الكتب والأشرطة، كلّها مكرَّسة للهجمة الشرسة على المسلمين قاطبة والشيعة الإمامية خاصة، ولا تتبنى من العلم الصحيح الناجع لداء المسلمين اليوم، شيئاً، سوى أنّ البناء على القبور وتقبيل الضريح والتوسل بالأولياء وطلب الشفاعة منهم شرك وبدعة.

فياللَّه وللمسلمين بهذا التفريق والتبديد، والإسراف والتبذير، أما آن لهؤلاء المغفلين أن ينتبهوا من غفلتهم ويسعوا في سبيل وحدة المسلمين، مكان تفريقهم وتذليلهم لهم، إذا كانوا يعتبرون أنفسهم مسلمين؟

ص:13

وعلى كلّ تقدير، فنحن أمام هذه الحادثة الكارثة التي هزّت وحدة المسلمين وجعلتهم فريسة للمستعمرين ووسيلة للتقاتل والتخاصم والتنازع والتناوش، مكان بذل الجهد وتكريس التعاون لأهم الأُمور وهو حفظ استقلالهم والتخلّص من مخالب المستعمرين وتنشيط اقتصادهم وتجديد سيادتهم على العالم.

وهنا نحن نغضّ الطرف عن جميع ما ذكرنا وندعو علماء الوهابية في الحجاز والرياض أن يقيموا مؤتمراً إسلامياً يحضره علماءُ من كافة المذاهب الإسلامية، لدراسة مسائل عديدة- مّما يتميز بها الوهابيون عن غيرهم- في جوّ هادئ تسيطر عليه الروح الموضوعية والعلمية، والبعيدة عن السيطرة السياسية حتى يتبيّن الحقّ عن الباطل، وتتم الحجة على الجاحد، ولعلّ في هذا المؤتمر نجاح الإسلام والمسلمين وتوحيد الكلمة، كما أنّ لهم كلمة التوحيد.

وبما أنّ الحياة البرزخيّة بعد الانتقال من الدنيا، هي الأساس لنقد دعاياتهم وعقائدهم خصّصنا تلك النشرة لتحقيقها والبرهنة عليها بالكتاب والسنّة والعقل الصريح، في ضمن فصولٍ.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربِّ العالمين

جعفر السبحاني

ص:14

ص:15

الفصل الأول حقيقة الإنسان، روحه ونفسه

اشارة

لم يزل الإنسان عبْر القرون يبحث عن الحياة وحدّها ومنشئها ومُنتهاها بحثاً حثيثاً، كي يقف على معالمها وآثارها وكيفية حدوثها بين الموجودات الحيّة.

وقد أدّى هذا البحث والولع الشديدين إلى نشوء قسم مختص يعرف ب «عالم الأحياء»، وقد كرّس لفيف من العلماء جُلَّ أعمارهم في سبيل ذلك وخرجوا بنتائج باهرة معروفة.

والغاية القصوى من دراسة الظاهرة الحياتية، هي الوقوف على واقعِ الإنسان، وهل هو عبارة عن هيكل ماديّ متكوّن من عروق وأعصاب وعظام وغيرها من المكوّنات المادية فحسب، أم أنّ هناك وراء هذا المظهر المادّي جوهراً آخراً يشكِّل حقيقة الإنسان ويُشيّد واقعه والإنسان به يكون إنساناً؟

وبعبارة اخرى: إنّ الباحث يحاول أن يقف على ذاته وواقعه، وانّه هل هو موجود آليّ مركب من أدوات مادية مختلفة تتفاعل أجزاؤه

ص:16

بعضها ببعض، أو أنّ وراء هذا الموجود الآليّ حقيقة قدسية هي واقع الإنسان وهي المدبّرة لما تراه وتظنّه إنسانا؟

فالعلماء في هذا المجال على رأيين:

الأول: الإنسان موجود آلي مركّب من عرق وعصب ولحم وعظم، وما الشعور إلّانتيجة تفاعل هذه الأجزاء بعضها ببعض، وليس وراءَ هذا التركيب الماديّ أيّ وجود آخر باسم الروح والنفس وأنّ الإنسان يفنى بموته وبه تنتهي شخصيتة و «ليس وراء عبّادان قرية» وقد انطلت هذه النظرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على كثير من الباحثين في الغرب، وبذلك قاموا بنفي العوالم الغيبيّة وراء المادة، وحسِبوا أنّ الوجود يساوي المادة وهي أيضاً تساويه، وبذلك شيّدوا المذهب المادّي في ذينك القرنين.

الثاني: إنّ واقع الإنسان الذي به يعدّ إنساناً، هو نفسه وروحه، وليس جسمه إلا أداة بيد روحه وجهازاً يعمل به في هذا العالم المادّي، وهذا لا يعني أنّه مركّب من جسم وروح، بل أنّ الواقع فوق ذلك، فالإنسان هو الروح، والجسم كسوة عليه، ونِعْمَ ما قيل:

يا خادَم الجسم كمَ تشقى بخِدمته فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ

ومن حسن الحظ أنّه في الوقت الذي كان المادّي يرفع عقيرته وينادي بأنّه ليس وراء المادة شي ءٌ أثبتت البحوث العلمية بطلان هذه النظرية، فقام الروحيون بنشر رسائل عديدة وكتب كثيرة تشتمل على تجاربهم وأدلتهم في هذا المضمار، فبذلك دمّروا ما بُني من تفكّرات مادية بمعاولهم العلمية.

وبما أنّ بحثنا في هذه الرسالة يعمتد على الكتاب والسنّة فنترك

ص:17

أدلّتهم للقارئ الكريم للبحث عنها في مظانّها، ولكن قبل أن ندرس قضاء الكتاب والسنّة في المقام نأتي ببعض الأدلّة العقلية التي تتجاوب وشعور قرّائنا فإنّها دلائل واضحة- على أنّ وراء الجسم، واقعاً آخر باسم الروح- يخضع أمامها كل إنسان واع وإن لم يقرأ كتابا فلسفياً، ولم يقرع باب العلوم العقلية، لأنّ ما يمرّ عليه كلها امور وجدانية يحّس بها كلّ إنسان إذا تجرّد عن رأي مسبق.

أ- الشخصيّة الإنسانيّة المعبّر عنها ب «أنا»:

لم يزل كلّ واحد منّا ينسُب جميعَ أفعاله إلى موجود نعبّر عنه ب «أنا» ويقول: «أنا فعلت» «أنا أكلت» و «أنا ضربتُ» وربما ينسبها إلى الضمائر المتصلة القائمة مكان «أنا» فيقول: «قرأت»، «كتبت»، «أردت» و «أجبت»، فإذن يقع السؤال حول تعيين الموضوع الذي تنسب إليه هذه الأفعال، فما هو إذن؟ هل هو هذا الجسم المادّي، أو شي ء آخر وراء ذلك؟ فلو كان الموضوع هو الجسم المادّي منه، لا يكون دليلًا على وجود جوهر آخر مجرد عن المادة وآثارها، ولو كان الموضوع أمراً غيره، يثبت به موضوع وراء المادة، مقترن بجسمه وحياته المادية.

ثم إنّنا ننسب أعضاءنا إلى شي ء آخر وراء الجسم المادّي هذا ونقول: «رأسي» و «قلبي»، «بطني» و «قدمي» فهذه أعضاء رئيسية للجسم الماديّ «الإنسان»، ومع ذلك فإنّنا ننسبها إلى شي ء آخر وراء هذا الجسم المادّي.

وربما نتجاوز إلى أكثر من هذا فننسب نفس الجسم بأكمله إلى شي ء آخر، فنقول: «بدني»، فإذن ما هذا المضاف إليه في جميع هذه

ص:18

الانتسابات، من انتساب الأفعال والأعضاء والبدن بأكمله؟

وبما أنّ كلّ قضية تتركّب من موضوع ومحمول، فبداهة العقل تحكم بأنّ لهذه المحمولات موضوعاً وإن لم يكن مرئياً إلّاأنّنا ندركه من خلال هذه المحمولات.

وبعبارة واضحة: أنّ الأفعال البشرية رغمصدورها من أعضاء مختلفة كالإبصار بالعين، والرفع باليد، والمشي بالرجل، والسمع بالأُذن، فالإنسان ينسبها جميعاً إلى مصدر واحد، فيقول:

«أنا شاهدت»، «أنا مشيت» و «أنا سمعت» كما ينسب كلّ عضو من جسمه إلى مصدر كذلك، فإذن تتطّلب هذه المحمولات موضوعاً واحداً لنفسها، حتى لا تكون القضية مجرّد انتسابات بلا موضوع، وعندئذ يكون هذا المصدر الواحد هو الشخصية الواقعية للإنسان التي نعبرّ عنها بروحه ونفسه.

فالنتيجة: أنّ الشخصية الإنسانية تكمن وراء جسمه وصورته الظاهرية.

ب- ثبات الشخصية الإنسانية في دوّامة التغييرات الجسدية:

إنّ كل واحد منّا يحس بأنّه باقٍ في دوّامة التغيرّات والتحوّلات التي تطرأ على جسمه، فمع أنّه تمرّ عليه أحوال كثيرة وتبدّلات جوهرية خلال مراحل الطفولة، والصّبا، والشباب، والشيخوخة، إلا أنّه يجد أنّ شيئاً واحداً ينسب إليه جميع هذه الصفات والحالات وهو باق خلال هذه التغييرات، غير متغير.

فيقول: أنا الذي كنت طفلًا، ثم يافعاً، ثم شاباً، ثم كهلًا، ثم شيخاً،

ص:19

فيدرك أنّ هناك حقيقة باقية ثابتة رغم تغيير كلّ هذه الأحوال والأوضاع وتصرّم الأزمنة وانقضاء الأوقات، فقد تغير كل شي ء خلال سبعين سنة ولكن هناك أمر باق لم يتغير ولم يتبدل وهو الذي يحمل تلك الصفات والأحوال، فالمتغير غير الثابت، والتغير آية المادية، والثبات آية التجرّد عن أحكام المادة.

بل نرى أنه ينسب إلى نفسه الفعل الذي قام به قبل خمسين سنة ويقول: «أنا الذي كتبت هذا الخط يوم كنت طفلًا» وهذا يعرب عن أنّه يدرك بوجدانه هو الذي كتب ذلك الخط سابقاً، فلو لم يكن هناك شي ء ثابت إلى زمان نطقه بهذا الكلام لزم كذب القضية وعدمصّحتها، وذلك لأنّه لو كان الإنسان خلاصة الأجزاء المادية الظاهرة فالمفروض أنّها زالت وحدثت بعدها شخصيات جسمانية متعددة، فأين الإنسان أيامصباه، منه أيام شيخوخته، وقد تحوّلت وتبدّلت عظامه وعروقه وأعصابه في دوامة التغيّرات وتحلّل منه كلّ شي ء وتخلّفت عنه أشياء أُخر، مثلها شكلًا وغيرها حقيقة.

فعملية التغيّر في جسمه مستمرة فما زالت الخلايا تتلف وتُستعاض بأُخر، ولكن الإنسان يرى نفسه ثابتاً في مهب تلك التحوّلات، فكأنَّ هناك أمراً ثابتاً طيلة سبعين عاماً يحمل تلك التحولات، فهو يشعر في جميع مراحل حياته أنه هو الإنسان السابق الذي وجد منذ عشرات السنين.

نفترض أنّ إنسانا جنى وله من العمر عشرون عاما، ولم يقع في قبضة السلطات إلى أن ألقت القبض عليه وله من العمر ستون عاماً، فعند ذلك يقف في قفص الاتّهام ليُحاكم على جرمه، فإذا به محكوم بالإعدام

ص:20

على ما جبت يداه بقتله أُناساً أبرياء، فلا القاضي ولا الحاضرون في جلسة المحكمة يرون الحكم الصادر بحقّه جائراً، بل يراه الجميع أنّه وفق العدالة.

ولو كان الإنسان عبارة عن جسم مادي، فقد تغيرت خلاياه مرات عديدة طيلة تلك الأعوام، لكنّ الحاضرين والقاضي وكل سامع، يرى أنّه نفس ذلك الإنسان الجاني، فما هذا إلّالأنّ هناك حقيقة ثابتة في دوّامة المتغيّرات، لم يطر أعليها أيّ تغيير، بل بقيت محفوظة مع كل هذه التبدلات، وإذا كان التغيّر منصفات المادة، والثبات والدوام منصفات الموجود غيرالمادّي، نكتشف من ذلك أنّ واقع الإنسان غيرمادّي وثابت في جميع الحالات، وهذا ما نعبرّ عنه بالروح المجرّدة، أو النفس المجردة.

وأخيراً نقول: إنّ هذا البرهان غير البرهان السابق، فمنطلق الأول هو وجود الموضوع لجميع المحمولات، ومنطلق البرهان الثاني هو ثبات الموضوع في دوّامة التحوّلات والتغيرات الطارئة على البدن.

وفي النهاية نقول: وقد لخص الرازي هذا البرهان في تفسيره وقال: إنّ أجزاء هذا الهيكل أبداً في النموّ والذبول، والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان، ولا شكَّ أنّ الإنسان من حيث هو هو أمر باق من أوّل عمره، والباقي غير ما هو غير باق، والمشار إليه عند كل أحد بقوله «أنا» وجب أن يكون مغايراً لهذا الهيكل «(1)».

ج- علم الإنسان بنفسه مع غفلته عن بدنه:

اشارة

ترى الإنسان يغفل في ظروف خاصة عن كل شي ء حتى عن بدنه


1- الرازي: مفاتيح الغيب 4: 147.

ص:21

وأعضائه، لكنّه لا يغفل عن نفسه، وهذا برهان تجريبي يمكن لكلّ منّا القيام به، وبذلك يصح القول بأنّ للإنسان وراء جسمه الماديّ حقيقة أُخرى، حيث إنّه يغفل عن الأول ولا يغفل عن الثانية، وبتعبير علمي:

المغفول، غير المغفول عنه، وإليك توضيح ذلك:

إنّ إدراك هذه الحقيقة (يغفل عن كل شي ء حتى جسمه ولا يغفل عن نفسه) يتوقف على ظروف خاصة بالشكل التالي:

1- أن يكون في جوّ لا يشغله فيه شاغل ولا يلفت نظره لافت.

2- أن يتصور أنّه وجد في تلك اللحظة بالذات وأنّه كان قبل ذلك عدماً، وما هذا إلّاليقطعصلته بماضيه وخواطره قطعاً كاملًا.

3- أن يكونصحيح العقل سليم الإدراك، في تلك اللحظة.

4- أن لا يكون مريضاً لا يلفت المرض انتباهه إليه.

5- أن يستلقي على قفاه ويفرّج بين أعضائه وأصابع يديه ورجليه حتى لا تتلامس فتجلب انتباهه إليها.

6- أن يكون في هواء طلق معتدل لا حار ولا بارد ويكون كأنّه معلّق في الفضاء حتى لا يشغله وضع المناخ، أو يلفته المكان الذي يستند إليه.

ففي هذه الحالة التي يقطع الإنسان كلصلاته بالعالم الخارجي عن نفسه تماماً ويتجاهل حتى أعضاءه الداخلية والخارجية ويجعل نفسه في فراغ من كل شي ء وعندئذ يستشعر بذاته، أي سيدرك شيئاً غير جسمه وأعضائه وأفكاره وبيئته التي أحاطت به، وتلك هي «الذات الإنسانية» أي الروح أو النفس الإنسانية التي لا يمكن أن تفّسر بشي ء من الأعضاء والحواس والقوى.

ص:22

وهذه البينونة أظهر دليل على أنّ للإنسان وراء جسمه وأعضائه المغفول عنها في بعض الظروف، حقيقة واقعية غير مغفول عنها أبداً، وأنّ الإنسان ليس هو جسمه وأعضاؤه وخلاياه.

وقد لخّص الرازي هذا البرهان وقال: إنّي أكون عالماً بأنّي «أنا» حال، أكون غافلًا عن جميع أجزائي وأبعاضي، والمعلوم، غير ما هو غير معلوم فالذي أُشير إليه بقولي مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض «(1)».

إلى هنا اكتفينا بالبراهين الواضحّة التي يسهل التمعّن فيها لكل إنسان واع وإن لم يدخل مدرسة كلامية أو فلسفية، وبذلك استغنينا عن البراهين المعقدة التي أقامها الفلاسفة على وجود الروح في كتبهم، وبما أنّ رسالتنا في هذه البحوث مقتصرة على الاعتماد على الكتاب والسنّة، لذلك ندرس واقع الانسان وحقيقته على ضوء ذينك المصدرين ونكتفي في هذا الحقل بآيات ثلاث.

القرآن وحقيقة الشخصية الإنسانية:

إذا استعرضنا آيات القرآن الكريم نقف، على أنها تدلّ تارة بوضوح وأُخرى بالاشارة على أنّ واقع الإنسان وشخصيته غير جسمه الماديّ، ونحتج في المقام بآيات:

الآية الاولى:

قال سبحانه: «قُلْ يَتَوفّاكُمْ ملكُ المَوتِ الّذي وكّل بِكُمْ ثُمَّ إليهِ تُرجَعونَ» (السجدة/ 11).


1- الرازي: مفاتيح الغيب 4: 149

ص:23

الآية تردّ على ادّعاء المشركين القائلين بأنّ الموت بطلان الشخصية وانعدامها، وأنّها منوطة بجسده المادي، بأنّ شخصيته قائمة بشي ء آخر لا يضلّ ولا يبطل، بل يؤخذ عن طريق ملك الموت إلى أن يحشره اللَّه يوم القيامة.

وإليك بيان الشبهة والإجابة، في ضمن تفسير آيتين:

قال سبحانه:

1- «وقالُوا ءإذا ضَلَلْنا في الأرض ءإنّا لَفي خلَقٍ جَديدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرون»

2- «قُلْ يَتوفّاكُمْ مَلَكُ المَوتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرجَعُون»

تدلّ هاتان الآيتان على «خلود الروح» بعد انحلال الجسد وتفكّكه وذلك بالبيان التالي:

كان المشركون يستبعدون إمكانية عودة الإنسان بعد تفكّك جسمه الماديّ وتبدّده في التراب.

ولهذا اعترضوا على فكرة الحشر والنشر يوم القيامة، وقد عبر القرآن الكريم عن اعتراضهم بقوله:

«قالوا ءإذا ضَلَلنا في الأرضِ ءإنا لَفي خَلق جَديد»

يعني أنّ الموت يوجب فناء البدن، وتبعّض أجزائه، وضياعها في ذرات التراب، فكيف يمكن جمع هذه الأجزاء الضّالة المتبعثرة، وإعادة تكوين الإنسان مرة أُخرى من جديد؟

فردّ القرآن الكريم هذا الاستبعاد والاعتراض بجملتين هما:

1- «بَلْ هُمْ بِلِقاء رَبِّهمْ كافِرون»

ص:24

2- «قُلْ يَتوفّاكُمْ مَلَكُ المَوتِ»

فلا شك أنّ الجملة الأُولى ليست هي الجواب على اعتراضهم حول إمكانية إعادة المعدوم من أجزاء الجسد، بل هي توبيخ لهم على إنكارهم لقاء اللَّه وكفرهم بذلك، وإنّما ترى الجواب الواقعي على ذلك في الجملة الثانية، وحاصله هو: أنّ ما يضلّ من الآدمي بسبب الموت إنّما هو الجسد وهذا ليس حقيقةُ شخصيته، فجوهر شخصيته باقٍ، وإنّ الذي يأخذه ملك الموت وينتزعه من الجسد ليس إلّاالجانب الأصيل الذي به تناط شخصيته وهو محفوظ عندنا.

إذن فالضال في التراب من الإنسان- بسبب الموت- هو القشر والبدن، وأمّا حقيقته وهي الروح الإنسانية التي بها قوام شخصيته، فلا يطالبها الفناء ولا ينالها الدثور.

التوفّي في الآية ليس بمعنى الإماتة، بل بمعنى الأخذ والقبض والاستيفاء، نظير قوله سبحانه: «اللَّهُ يَتوفّى الأنفُسَ حِينَ مَوتِها» (الزمر/ 42) وقوله تعالى: «وهوَ الّذي يتوفّاكُمْ بِالليلِ ويَعلَمُ ما جَرحْتُمْ بِالنَّهارِ» (الأنعام/ 60) ومن قولهم «وافاه الأجل» وبعبارة أُخرى: لو ضلّ بالموت كلّ شي ء من وجودكم لكان لاستبعادكم إمكان إعادة الإنسان وجه مقبول.

وأمّا إذا بقى مابه واقعيتكم وحقيقتكم وهي النفس الإنسانية والروح التي بها قوام الجسد، فلا يكون لهذا الاستبعاد مبرّر، إذ تكون الإعادة حينئذ أمراً سهلًا وممكناً لوجود مابه قوام الإنسان.

قال العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية:

«إنّه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنيّة على الاستبعاد، بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم، وضلالًا منكم في

ص:25

الأرض، بل ملَكُ الموت الموكَّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم، بمعنى قطع علاقتها من الأبدان، وأرواحكم تمام حقيقتكم، فأنتم أي ما يعنى بلفظة «كم»:

محفوظون لا يضل منكم شي ء في الأرض، وإنّما تضلّ الأبدان، وتتغيّر من حال إلى حال، وقد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها، ثم إنّكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها.

وبهذا تندفع حجّتهم على نفي المعاد بضلالهم سواء أقرّرت على نحو الاستبعاد أم قُررّتَ على أنّ تلاشي البدن يُبطل شخصية الإنسان فينعدم، ولا معنى لإعادة المعدوم، فإنّ حقيقة الإنسان هي نفسه التي يحكي عنها يقول «أنا» وهي غير البدن، والبدن تابع لها في شخصيته، وهي تتلاشى بالموت ولا تنعدم، بل محفوظة في قدرة اللَّه حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب والجزاء فيبعث على الشريطة التي ذكر اللَّه سبحانه» «(1)».

الآية الثانية:

قال سبحانه: «يا أيَّتُها النَّفسُ المُطمئِنَّةُ ارجِعِي إلى ربِّكِ راضيةً مَرضَّيةً فادخُلي في عِبادي وَادْخُلِي جَنَّتي» (الفجر/ 27- 30).

فالآية لم تخاطب جسد الإنسان وأعضاءه كما ترى، بل واقعه وحقيقته التي يعبَّر عنها الذكر الحكيم بالنفس، واختار من بين النفوس الكثيرة النَفس المطمئنة وهي التي تسكن إلى ربَّها، وترضى بما رضي به


1- الميزان: ج 16: ص 252.

ص:26

لها، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ، أو نفعٍ أو ضرّ.

ويرى الدنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر، أو أيّ نفع وضّرٍ ابتلاءً وامتحاناً الهياً، فلا يدعوه تواترُ النعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد، والعلوّ والاستكبار، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر.

ثم يخاطبها بخطاب آخر ويقول: «ارجعي إلى ربِّك راضيةً مرضيةً»، وظرف الخطابين من حين نزول الموت إلى دخول جنة الخلد، ثمّ يخاطبها بخطاب ثالث ورابع ويقول: «فَادخُلي في عِبادي وادخلي جنّتي» وهما تفريعان على الخطاب الثاني الماضي أعني «ارجعي إلى ربِّك ...» وقوله «في عبادي» يدل على أنها حائزة مقام العبودية وفي قوله «جنّتي» تعيين لمستقرّها وفي إضافة الجنة إلى ضمير التكلم، تعريف خاص، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى وتقدّس إلّافي هذه الآية «(1)».

والمخاطب في هذه الخطابات الأربعة، ليس جسده البارد الذيصار بالموت بمنزلة الجماد ولا عظامه الرميمة الدفينة في طبقات الثرى، بل نفسه وروحه الباقية غير الداثرة.

ولوخُصَّ ظرف الخطاب بيوم البعث من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنة، لما ضرّ بالاستدلال وان كان على الوجه الأوّل أظهر.

والحاصل: سواء أقلنا بأنّ ظرف الخطاب هو زمان الموت أو قلنا بأنّه زمان البعث، فالمخاطب هو نفس الإنسان لا بدنه ولا أعضاؤه فتدلّ على أنّها واقعهُ والباقي كسوة عليها.


1- الطباطبائي: الميزان 20: 213، مجمع البيان 5: 489.

ص:27

الآية الثالثة:

قال سبحانه: «فَلَولا إذا بَلغت الحُلْقوم وأنتم حِينئذٍ تَنظُرُونَ» (الواقعة/ 83-/ 84).

وجه الدلالة: أنّ الحلقوم جزء من جسمه فهناك أمر آخر يبلغ الحلقوم عند الموت وليس إلّاالنفس التي تُنتقل من دار إلى دار.

ولو كانت حقيقة الإنسان هو جسده المادّي، فلا معنى للبلوغ ولا للنزوع والخروج.

وبذلك يعلم أنّ بعض ما سنستدل به في الفصل الآتي، يدل ضمناً على ما نحن الآن بصدد بيانه، ولأجل ذلك نقتصر في المقام بالآيات الثلاث، ونحيل الاستدلال بغيرها إلى ما سيوافيك في الفصل القادم.

ما هي حقيقة النفس الإنسانية؟

إنّ كثيراً من القوى الطبيعية معروفة بآثارها لا بحقائقها، فالكهرباء نعرفها بآثارها، كما أنّ الذرّة أيضا كذلك، فالعالِم بالحقائق هو اللَّه سبحانه، وليس حظّ الإنسان في ذلك الباب إلّاالوقوف على الآثار، فإذا كانت هي حال القوى الكامنة في الطبيعة، فالروح أولى بأن تكون كذلك، غير أنّ كثيراً من المتكلّمين وبعض المحدّثين خاضوا في هذا الباب ولم يأتوا بشي ء واضح، وأقصى ما عندهم: أنّها جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوارني، علوي، خفيف، حي، متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، والدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاءصالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك

ص:28

الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية.

وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح.

قال ابن القيم: وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دلّ الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وأدلّة العقل والفطرة «(1)».

أقول: ما قاله ونقله ابن القيم، أحسن ما نقل عنهم في المقام، ولكن واقع الروح ومنزلته أرفع بكثير مما جاء في هذا الكلام، وتشبيهه بسريان الماء في الورد، والدهن في الزيتون والنار في الفحم يعرب عن سطحية الدراسة في المعارف الغيبية، وعدم التفريق بين مراتب الروح، فإنّ مرتبة منها يشبه بما ذكر، وأمّا المرتبة العليا أعني المخاطب بقوله سبحانه «يا أيّتها النفسُ المطمئنَّةُ ارجِعي إلى ربِّكِ راضيةً مَرضيةً فادخُلي في عِبادي وادخُلي جَنَّتي» فهي أرفع كرامة من أن يكون شأنها شأن الأُمور المادّية اللطيفة، والتفصيل موكول إلى محلِّه.


1- ابن القيم« شمس الدين»: الروح: 178.

ص:29

الفصل الثاني استمرار الحياة بعد الإنتقال من الدنيا أو بقاء الروح بعد الموت

اشارة

قد تعرّفت في الفصل السابق على أنّ واقع الإنسان روحه ونفسه، وأنّ الجسم المادّي منه ليس إلّاكسوة عليه، والنفس هي اللبّ، والبدن قشره، وقد قرّبناه إلى ذهن القارى ء تقريباً سهلًا مستندين في ذلك على ما ورد في الكتاب العزيز مضافاً إلى ما مر من قضاء العقل الصريح في هذا المضمار.

ونركز في فصلنا هذا على خلود الروح بعد الموت، وأنّها باقية بإذنه سبحانه إلى أن يرث اللَّه سبحانه الأرض ومن عليها وما فيها، ونقتصرفي المقام- بدل الاستدلال بالبراهين العقلية- علىصريح الآيات ونصوص الذكر الحكيم حتى لا يبقى لمريب ريب ولا لمشكّك شك.

الآية الأُولى:

قال سبحانه: «اللَّهُ يَتوفّى الأنفُسَ حِينَ مَوتها والتَّي لَمْ تَمُتْ في منَامِها

ص:30

فَيُمسِكُ الّتي قَضَى عَليها الموتُ ويُرسِلُ الأُخرى إلى أجلٍ مُسمّىً إنّ في ذلكَ لآياتٍ لِقومٍ يتَفكَّرون» (الزمر/ 42).

توضيح الاستدلال يتوقف على التمعّن في أمرين:

1-/ المراد بالأنفس هي الأرواح المتعلّقة بالأبدان لا مجموعهما، لأنّ المقبوض عند الموت ليس هو المجموع، بل المقبوض هو الروح، والآية تدل على أنّ الأنفس تغاير الأبدان حيث تفارقها وتستقل عنها وتبقى بحيالها.

2-/ إنّ لفظة «يتوفّى» و «يمسك» و «يرسل» تدلّ على أنّ هناك جوهراً غير البدن المادّي في الكيان الإنساني، يتعلّق به كل من «التوفّي» و «الإمساك» و «الإرسال» وليس المراد من التوفّي في الآية إلّاأخذ الأنفس وقبضها، ومعناها أنّه سبحانه يقبض الأنفس إليه، وقت موتها ومنامها، بيد أنّ من قضى عليه بالموت يمسكها إلى يوم القيامة ولا تعود إلى الدنيا، ومن لم يقض عليه به يرسلها إلى الدنيا إلى أجل مسمّى، فأية دلالة أوضح من قوله أنّه سبحانه يمسك الانفس، فهل يمكن إمساك المعدوم أو أنّه يتعلّق بالأمر الموجود وليس ذلك إلّاالأنفس.

الآية الثانية:

قوله سبحانه: «ولا تَقولُوا لِمَنْ يُقتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ أمواتٌ بَلْ أحياءٌ ولكنْ لا تَشعُرون» (البقرة/ 154).

وقد جاء في أسباب نزولها، أنّ المشركين كانوا يقولون: إنّ أصحاب محمّدصلى الله عليه و آله يقتلون أنفسهم في الحروب بغير سبب ثم يموتون

ص:31

فيذهبون، فأعلمهم اللَّه أنه ليس الأمر على ما قالوه، بل هم أحياء على الحقيقة إلى يوم القيامة.

وأدب التفسير الصحيح يبعثنا على أن نفسر الحياة بمعناها الحقيقي أي ما يفهمه عموم الناس من لفظة «حيّ» خصوصاً بقرينة الآية الثالثة، حيث أثبتت للشهداء الرزق والفرح والاستبشار كما سيجي ء، فتفسير الآية بأنّهم سيحيون يوم القيامة تفسير باطل، لأنّ الإحياء في ذلك اليوم عام لجميع الناس ولا يخصّ الشهداء، كما أنّ تفسير الحياة في الآية بمعنى الهداية والطاعة قياساً لها بقوله سبحانه: «أوَ مَنْ كانَ مَيْتَاً فَأحيَيناهُ وجَعلْنا لَهُ نُوراً يَمشي بهِ في النّاس» (الأنعام/ 122) حيث جعل الضلال موتاً والهداية حياة قياس باطل، لوجود القرينة على تفسير الحياة بالهداية والموت بالضلال فيها دون هذه الآية.

وسيوافيك تفنيد هذين الرأيين عن الرازي في تفسير الآية الثالثة.

ومعنى الآية «ولا تَقولوا لِمَنْ يُقتلُ فِي سبيلِ اللَّهِ أموات» إي لا تعتقدوا فيهم الفناء والبطلان فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء ولكن حواسّكم لا تنال ذلك ولا تشعر به.

وعلى ذلك فالآيتان تثبت للشهداء حياة برزخية غير الحياة الدنيوية وغير الأُخروية، بل حياة متوسطة بين العالمين.

الآية الثالثة:

قال سبحانه:

1- «ولا تَحسبنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ أمواتاً بلْ أحياءٌ عندَ ربِّهِمْ يُرزَقُونَ».

ص:32

2- «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضلِهِ ويَستبشرونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بهِمْ مِنْ خَلفِهِمْ ألّا خَوفٌ عَلَيهمْ ولا هُمْ يَحزَنُونَ».

3- «يَستَبشِرُونَ بِنعمةٍ مِنَ اللَّهِ وفَضلٍ وأنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أجْرَ المُؤمنين» (آل عمران/ 169-/ 171).

والآيات هذهصريحة- كل الصراحة- في بقاء الأرواح بعد مفارقتها الأبدان، وبعد انحلال الأجسام وتفكّكها كما يتّضح ذلك من الإمعان في المقاطع الأربعة التالية:

1- «أحياءٌ عند ربّهم».

2- «يُرزَقون».

3- «فَرِحينَ ...». 4- «ويَستَبشِرونَ ...».

والمقطع الثاني يشير إلى التنّعم بالنعم الإلهية، والثالث والرابع يشيران إلى النعم الروحية والمعنوية، وفي الآية دلالة واضحة على بقاء الشهداء بعد الموت إلى يوم القيامة.

وقد نزلت الآية إمّا في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلًا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، وإما في شهداء أُحد وكانوا سبعين رجلًا أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبد اللَّه بن جحش، وسائرهم من الأنصار، وعلى قول نزلت في حقّ كلتا الطائفتين.

قال الرازي في تفسير الآية: إنهم في الوقت أحياء كأنّ اللَّه أحياهم، لإيصال الثواب إليهم، وهذا قول أكثر المفسرين، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور.

ص:33

ثم أشار إلى التفسيرين الآخرين الّلذين أوعزنا إليهما:

أحدهما: للأصم حيث فسّر الحياة بالحياة الدينية وأنّهم على هدى من ربهم ونوره.

وثانيهما: لبعض المعتزلة وأنّ المراد من كونهم أحياء أنّهم سيُحيون.

ثم قال: إنّ أكثر العلماء على ترجيح القول الأول.

ثم فنّد الرأين الأخيرين بوجوه نذكر بعضها:

1- لو كان المراد ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله «ولكن لا تشعرون» معنى، لأنّ الخطاب للمؤمنين وقد كانوا يعلمون «أنّهم سيحيون» يوم القيامة وأنّهم على هدى ونور.

2- إنّ قوله: «ويستبشرون بالَّذِين لم يلحقوا بهم» دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث، أي: ويستبشرون بأناس لم يلحقوا وهم في الدنيا، فإذا كان هذا طرف الاستبشار فيكون هو طرف الحياة ويكون قبل البعث.

3- لو كان المراد أحد المعنيين لا يبقى لتخصيص الشهداء بهذا فائدة، فإنّ غيرهم وكثير من غير الشهداء على نور وهدى من رّبهم.

وما أجاب به أبو مسلم أنّه سبحانه إنّما خصهم بالذكر لأنّ درجتهم في الجنّة أرفع ومنزلتهم أرفع، ضعيف، لأنّ منزلة النبيين والصديقين أعظم من الشهداء مع أنّه سبحانه ما خصهم بالذكر «(1)».

بقي الكلام في أمرين:

أ- في إعراب الظرف أي «أحياء عند ربهم»، ففيه احتمالات:


1- الرازي: مفاتيح الغيب 4: 146.

ص:34

1- أن يكون حالًا في محل النصب من الضمير في «أحياء».

2- أن يكون خبر بعد خبر: هم أحياء عندهم.

3- أن يكون ظرفاً للفعل المتأخر أي يرزقون.

والأول أقرب.

وعلى أيّ تقدير فليس «عند» هنا للقرب المكاني لاستحالته إذ ليس له مكان، ولا بمعنى في علمه وحكمه لعدم مناسبته، بل يعني القرب والشرف أي ذوزلفى ورتبة سامية «(1)».

ب- معنى قوله: «ويستبشرون» وأصل الاستبشار وإن كان بمعنى طلب البشارة، ولكن الظاهر أنّ اللفظة مجرّدة عن معنى الطلب، والمراد:

ويسرّون ويفرحون، استعمالًا للفظ في لازم معناه هو معطوف على قوله سبحانه: «فرحين» أي: يسرون ويفرحون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم في سبيل اللَّه تعالى بأن يلحقوا بهم من خلفهم، لما تبيّن لهم حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء، وهو أنّهم عند قتلهم في سبيل اللَّه تعالى يفوزون كما فازوا ويحوزون من النعم ما حازوا بدلالة قوله:

«لا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون».

ويمكن أن يكون المراد: يسرون بقدوم إخوانهم الباقين بالشهادة أو بالموت الطبيعي واللَّه العالم.

الآية الرابعة:

قوله سبحانه: «وجاءَ مِنْ أقْصَا المَدِينة رجلٌ يَسعَى قالَ يا قوم اتَّبِعوا المُرسَلِيَن اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسأَلُكمْ أجراً وهُمْ مُهتدُونَ ومالِيَ لا


1- الآلوسي: روح المعاني 2: 122.

ص:35

أعبُدُ الَّذي فَطَرني وإلَيهِ تُرجَعُونَ أأتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلهةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحمنُ بُضّرٍ لا تُغْنِ عنِّي شَفاعتُهُمْ شَيئاً ولا يُنقِذونَ إنيّ إذاً لفي ضلالٍ مُبينٍ إنِّي آمَنتُ بِربِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قيلَ ادخُلِ الجَنَّة قالَ يا ليتَ قَومي يَعلَمونَ بِما غَفَر لي رَبِّي وجَعَلني مِن المُكرَمِينَ وما أنزَلْنا على قَومِهِ مِنْ بَعدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّماء وما كُنّا مُنْزِلِينَ إنْ كانت إلّاصَيحةً واحدةً فإذا هُمْ خَامِدُونَ» (يس/ 20-/ 29).

اتّفق المفسرون على أنّ الآيات نزلت في رُسل عيسى، وقد نزلوا بأنطاكيا داعين أهلها إلى التوحيد وترك عبادة غيره سبحانه، فعارضهم من كان فيها بوجوه مذكورة في القرآن.

فبيما كان القوم والرسل يتحاجّون إذ جاء رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى اللَّه سبحانه وقال لهم:

اتّبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الأجر ولا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، وهم مهتدون إلى طريق الحق، سالكون سبيله، ثم أضاف قائلًا:

وما لي لا أعبدُ الَّذي فَطرني وأنشأني وأنعم إلَّي وهداني وإليه تُرجعون عند البعث، فيجزيكم بكفركم، أتأمرونني أن أتَّخذ آلهةً من دون اللَّه مع أنّهم لا يُغنون شيئاً ولا يردّون ضرراً عنّي، ولا تنفعني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذونني من الهلاك والضرر، وعندما مهّد الجو بإبطال حجّة المشركين وبيان أحقيّة منطقه، فعندئذ خاطب الناس أو الرسل بقوله «إنّي آمنتُ بربِّكمْ فَاسمعونِ» فسواء أكان الخطاب للمشركين أو للرسل فإذا بالكفار قد هاجموه فرجموه حتى قتل.

ولكنّه سبحانه جزاه بالأمر بدخول الجنة بقوله: «قيلَ ادخُلِ

ص:36

الجَنَّة» فلمّا دخل الجنة خاطب قومه الذين قتلوه بقوله «يا ليتَ قومي يعلمون بما غفر لي ربِّي وجعلني من المُكرمين».

ثم إنّه سبحانه لم يمهل القاتلين طويلًا حتى أرسل جنداً من السماء لإهلاكهم، يقول سبحانه: «وما أنْزَلْنا على قَومهِ منْ بَعدهِ مِنْ جندٍ من السَّماء وما كُنّا مُنزِلينَ إنْ كانَتْ إلّاصيحةً واحدةً فإذا هُمْ خامِدونَ»

أي: كان إهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر وهيصيحة واحدة حتى هلكوا بأجمعهم فإذا هم خامدون ساكتون.

ودلالة الآية على بقاء النفس وإدراكها وشعورها وإرسالها الخطابات إلى من في الحياة الدنيا واضحة جداً، حيث كانَ دخول الجنة «قيل ادخُلِ الجَنَّة» والتمنّي «يا ليت قومي» كان قبل قيام الساعة، والمراد من الجنة هي الجنة البرزخية دون الأُخروية.

إلى هنا تم بيان بعض الآيات الدالة على بقاء أرواح الشهداء الذين بذلوا مهجهم في سبيل اللَّه، وهناك مجموعة من الآيات تدلّ على بقاء أرواح الكفار بعد انتقالهم عن هذه الدنيا، لكن مقترناً بألوان العذاب والطائفة الأولى منعّمة بألوان النعم، وإليك الطائفة الثانية:

الآية الخامسة:

قال سبحانه: «فَوقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وحاقَ بآلِ فِرعَوْنَ سوءُ العَذاب النّارُ يُعْرَضُونَ عَليها غُدُوّاً وعَشيّاً ويوم تقومُ السّاعةُ أدْخِلُوا آلَ فِرعونَ أشدَّ العَذابِ» (غافر/ 45- 46).

والآيةصريحة في أنّه سبحانهصرف عن مؤمن آل فرعون سوء مكرهم فَنَجا مع موسى، لكن أحاط بآل فرعون سوء العذاب، وأما كيفية

ص:37

عذابهم فتدلّ الآية على:

أولًا: أنّ هناك عرضاً لهم على النار وإدخالًا لهم فيها، والثاني أشدّ من الأول.

ثانياً: أنّ العرض على النار قبل قيام الساعة، كما أنّ الإدخال حين قيامها.

وثالثاً: أنّ التعذيب بعد الموت وقبل قيام الساعة (البرزخ) والتعذيب عند قيام الساعة، بشي ء واحد وهو نار الآخرة، لكن العذاب قبل قيامها بالعرض على النار وبعد قيامها بالدخول فيها، وينتج أنّ البرزخيين يعذّبون من بعيد «(1)» وأهل الآخرة بالدخول.

ورابعاً: أنّ آل فرعون وإن ماتوا بالغرق في البحر، لكن موتهم لم يكن بمعنى بطلانهم وفنائهم رأساً، بل بمعنى خروج أرواحهم من أبدانهم وانتقالهم إلى عالم آخر حائل بين العالمين، فقُضيَ عليهم بسوء العذاب إلى يوم القيامة بالعرض على النار، والدخول فيها بعد قيامها، ولو لم يكن إحياء، فلا معنى لتعذيب الجماد الفاقد للشعور بالعرض على النار.

وخامساً: أنّ شخصية آل فرعون بأرواحهم لا بأبدانهم، بشهادة بطلان أجسادهم وتشتّت أجزائها، لكنّهم معادون بعد الموت بالعرض على النار، وبالدخول فيها بعد قيام الساعة.


1- يستفاد من الآية 25 من سورة نوح على القول بأنها راجعة إلى البرزخ أنّ الدخول لا يختص بيوم القيامة، بل يعمّه والحقبة البرزخية، ولعلّ هناك فرقاً بين النارين أعاذنا اللَّه منهما.

ص:38

الآية السادسة:

«حتّى إذا جاءَ أحدَهُمُ المَوتُ قالَ ربِّ ارجِعُونِ لَعَلِّي أعملُصالحاً فيِما تَركتُ كلّا إنّها كَلمةٌ هوَ قائِلُها ومِنْ ورائِهِمْ بَرزخ إلى يومِ يُبعَثُونَ» (المؤمنون/ 99- 100).

وقبل أن ننّوه بدلالة الآية على بقاء الحياة بعد الموت نفسر لفظين من الآية.

أحدهما: «البرزخ»، وهو الحاجز بين الشيئين، قال سبحانه: «مَرجَ البَحرينِ يَلتقيانِ بَينهُما برزخٌ لا يَبغِيانِ» (الرحمن/ 19- 20) ذكر سبحانه عظيم قدرته، حيث خلق البحرين، العذب والمالح يلتقيان ثم لا يختلط أحدهما بالآخر لوجود حاجز بينهما.

والثاني: لفظة «وراء» وهو في الآية بمعنى أمام، ومعنى قوله «ومن ورائهم» أي: من أمامهم وقدّامهم.

قال سبحانه: «وكانَ وَراءَهم مَلِكٌ يأخُذُ كلَّ سفينةٍ غَصْبا» (الكهف/ 79).

والاستدلال بهذه الآية من وجهين:

1- إنّ الإنسان المذنب يرى حين الموت ما أُعدّ له في مستقبل أمره من عذاب أليم، ولأجل ذلك يطلب من ملائكة اللَّه أن يرجعونه إلى عالم الدنيا، حتى يتدارك ما فاته ويتلافى ما فرّط، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: «حتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ الموتُ قالَ ربِّ ارجعون لَعلِّي أعملُصالحاً فيما تَركتُ».

2- إنّ قوله تعالى: «ومِنْ ورائِهمْ برزخٌ إلى يومِ يُبعَثون» تصريح لا غموض فيه بوجود حياة متوسطة بين الموت والبعث، وإنّما سميت

ص:39

برزخاً لكونها حائلًا بين الدنيا والآخرة، ولا تتحقق الحيلولة إلّابأن يكون للإنسان واقعية في هذا الحدّ الفاصل، إذ لو كان الإنسان بين هاتين الفترتين معدوماً لماصحّ أن يقال بين الحالتين برزخٌ، وهو حائل وفاصل بين الإنسان في الدنيا والإنسان في الآخرة.

الآية السابعة:

«ولَوْ تَرى إذ الظّالمونَ في غَمَرات المَوتِ والمَلائكةُ باسِطوا أيدِيِهمْ أخْرِجُوا أنفُسَكُمُ اليومَ تُجزَونَ عَذابَ الهُونِ بِما كُنتمْ تَقولُونَ عَلى اللَّهِ غيرَ الحَقِّ وكُنتُمْ عنْ آياتهِ تَستَكْبِرونَ» (الأنعام/ 93).

والاستدلال بالآية على بقاء الروح بعد فناء الجسد من طريقين:

أ- قوله «أخرجوا أنفسكم»صريح في أنّ الملائكة تنتزع الروح من البدن ويعني هذا أنّ المتروك هو البدن، وأمّا الروح فتؤخذ وتخرج من الجسد إخراجا.

ب- إنّ ظاهر قوله: «اليوم تُجزون عذابَ الهُون» هو الإشارة إلى يوم الموت، وساعته، ولو كان الموت فناءً كاملًا للإنسان لما كان لهذه العبارة معنى، إذ بعد فناء الإنسان فناءً كاملًا شاملًا لا يمكن أن يحسّ بشي ء من العذاب.

ومن هنا يتبيّن أنّ الفاني إنّما هو الجسد، وأمّا الروح فتبقى وترى العذاب الهون وتذوقه وتحسّ به.

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية: إنّ كلامه تعالى ظاهر في أنّ النفس ليست من جنس البدن، ولا من سنخ الأُمور المادية الجسمانية، وإنّما لها سنخ آخر من الوجود يتّحد مع البدن ويتعلّق به

ص:40

نوعاً من الاتحاد والتعلّق غير مادّي.

فالمراد بقوله: «أخرجوا أنفسكم» قطع علقة أنفسهم من أبدانهم وهو الموت «(1)».

الآية الثامنة:

«ولَوْ تَرى إذْ يتَوفّى الَّذينَ كَفَروا الملائِكَةُ يَضْرِبونَ وُجُوهَهُمْ وأَدْبارَهُمْ وذُوقُوا عَذابَ الحريقِ ذلكَ بِما قَدَّمَتْ أيديكُمْ وأَنَّ اللَّهَ ليسَ بِظلّامٍ لِلعَبيد» (الانفال/ 50-/ 51).

تدلّ الآية على أنّ الكافرين يعذَّبون حين الموت بوجهين:

الأول: بضرب الملائكة، وجوههم وأدبارهم، وقد أُشير إليه في آية أُخرى أيضاً، قال سبحانه: «فَكيفَ إذا تَوفَّتهُمُ الملائكةُ يَضرِبونَ وُجوهَهُمْ وأدبارَهُمْ» (محمد/ 27).

الثاني: بعذاب الحريق، الذي يدل عليه قوله سبحانه: «ذُوقوا عَذابَ الحريقِ»، فالآية تدلّ على أنّ هناك عذابين منفصلين موضوعاً ومحمولًا، فالعذاب الأول موضوعه الجسد، والثاني موضوعه روح الإنسان المنتقل إلى الحياة غير الدنيوية.

الآية التاسعة:

قال سبحانه: «مِمّا خطيئتهم أُغرِقُوا فأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنصارا» (نوح/ 25) والآية نازلة في شأن قوم نوح الذين غرقوا لخطيئاتهم أوّلًا، «فأُدخلوا ناراً» ثانياً.


1- الطباطبائي: الميزان ج 7/ 285.

ص:41

ومن المفسرين من فسر الجملة الثانية بنار الآخرة ويقول: جي ء بصيغة الماضي لكون تحقّقه قطعياً «(1)». ولكنّه بعيد، لأنّ ظاهر الآية كون الدخول في النار متّصلًا بغرقهم لا منفصلًا، بشهادة تخلّل لفظة «فاء» وإلّا كان اللازم التعبير ب «ثم».

الآية العاشرة:

قوله سبحانه: «قالُوا رَبّنا أمَتَّنَا اثنَتينِ وأحْيَيتنا اثنتَينِ فَاعترَفنا بِذُنوبِنا فَهلْ إلى خروجٍ مِنْ سَبيل» (غافر/ 11) الآية تدلّ بوضوح على أنّه مرّت على الإنسان المحشور يوم القيامه، إماتتان وإحياءان.

فالإماتة الأُولى: هي الإماتة الناقلة للإنسان من الدنيا.

والإحياء الأول: هو الإحياء بعد الانتقال منها.

والإماتة الثانية: قُبيل القيامة عند نفخ الصور الأول.

والإحياء الثاني: عند نفخ الصور الثاني.

قال سبحانه: «ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ في السَّموات وَمنْ في الأرضِ إلّامَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فيهِ أُخرى فإذا هُمْ قِيامٌ يَنظُرُون» (الزمر/ 68).

وعلى ما ذكرنا فكل من الإحياءَين لاصلة له بالدنيا، بل يتحققان بعد الانتقال من الدنيا، أحدهما في البرزخ بعد الإماتة في الدنيا، والآخر يوم البعث بعد الإماتة بنفخ الصور الأول.

وعندئذٍ تتضح دلالة الآية على الحياة البرزخية بوضوح.

نعم لم يتعرض القائلون بالحياة الدنيوية ولم يقولوا «وأحييتَنا


1- الطبرسي: مجمع البيان 5/ 364.

ص:42

ثلاثاً» وإن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح، ولعلّ الوجه هو أنّ الغرض تعلّق بذكر الإحياء الذي يعدّ سبباً للإيقان بالمعاد ومورِّثاً للإيمان وهو الاحياء في البرزخ ثم يوم القيامة، وأمّا الحياة الدنيوية، فإنّها وإن كانت إحياء بلا شكّ لكنّها لا توجب بنفسها يقيناً بالمعاد، فقد كانوا مرتابين في المعاد وهم أحياء في الدنيا «(1)».

تفسير خاطئ للآية:

إنّ بعض المفسّرين فسّروا الآية بالنحو التالي:

الإماتة الأُولى: حال النطفة قبل ولوج الروح.

الإحياء الأول: حال الإنسان بعد ولوجها فيها.

الإماتة الثانية: إماتته في الدنيا.

والإحياء الثاني: إحياؤه يوم القيامة للحساب.

وعندئذ تنطبق الآية على قوله سبحانه «كَيفَ تَكفُرونَ باللَّهِ وكُنتُمْ أمواتاً فَأحياكُمْ ثُمّ يُميتُكُم ثمَّ يُحْيِيكُمْ ثمَّ إليه تُرجَعون» (البقرة/ 28) «(2)».

ولكنّه تفسير خاطئ وقياس باطل.

أمّا كونه خاطئاً، فلأنّ الحالة الأُولى للإنسان أي حالته قبل ولوج الروح في جسده لا تصدق عليها الإماتة، لأنّه فرع سبق الحياة، والمفروض عدمه.

وأمّا كونه قياساً باطلًا، فلأنّ الآيتين مختلفتان موضوعاً، إذ


1- الطباطبائي: الميزان 17/ 313.
2- الكشاف 3: 363 ط دار المعرفة- بيروت

ص:43

المأخوذ والوارد في الآية الثانية هو لفظة «الموت» ويصحّ تفسيره بحال النطفة قبل ولوج الروح، بخلاف الوارد في الآية الأُولى، إذ الوارد فيها «الإماتة» فلا يصح تفسيره بتلك الحالة التي لم يسبقها الإحياء.

ولأجل ذلك يصحّ تفسير الآية الثانية بالنحو التالي:

1- كنتم أمواتاً: الحالة الموجودة في النطفة قبل ولوج الروح.

2- فأحياكم: بولوج الروح فيها ثم الانتقال من البطن إلى فسيح الدنيا.

3- ثمّ يُميتُكم: بالانتقال من الدنيا إلىصوب الآخرة.

4- ثم يُحييكُم: يوم البعث للحساب والجزاء.

وبما أنّ موقف الآيتين مختلفان هدفاً وغاية، اختلف السياقان، فصارت احداهما تلمح بالحياة المتوسطة بين الدنيا والآخرة (البرزخ) دون الأُخرى، ولا ملزم لتطبيق إحداهما على الأُخرى بعد اختلافهما في الموضوع والغاية.

تلك عشرة كاملة تورث اليقين، باستمرار الحياة بعد الانتقال من الدنيا، ولا ينكر دلالتها إلّاالجاحد، وليس ما يدل من الآيات على بقائها بعد الموت منحصراً في هذه الآيات العشر، بل هناك مجموعة من الآيات تصلح للاستدلال على المقصود، مثل: «وكذلكَ جَعلناكُمْ أُمّةً وَسطاً لتكُونُوا شُهَداء على النّاسِ، ويكونَ الرسولُ عليكُمْ شَهيداً» (البقرة/ 142)، وقوله سبحانه: «فَكيفَ إذا جِئْنا منْ كلِّ أُمةٍ بِشَهيدٍ وجِئنا بكَ على هؤلاء شَهيداً» (النساء/ 41) «(1)»

لكنّا نقتصر عليها روماً للإختصار.


1- فلو قلنا: بأن موت النبيّ صلى الله عليه و آله عبارة عن فنائِه المطلق، فما معنى كونه شهيداً على أُمته في تمام الأجيال؟.

ص:44

وأمّا الاستدلال بالسنّة الشريفة على أنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان برأسه، وإنّما هو الانتقال من دار إلى دار، فسيوافيك قسم من الروايات في الفصل التالي المتكفّل لبيان وجود الصلة بين أهل الدنيا والنازلين في البرزخ، بحيث يسمعون كلامهم ويجيبون دعاءهم وإن كنّا نحن غير سامعين ولا فاهمين.

ولا عجب في أن يكون هناك رنين أوصراخ وكنّا بمعزل عن السمع والفهم، قال سبحانه: «وإنْ مِنْ شَي ء إلّايُسبِّحُ بِحمِدِهِ ولكنْ لا تَفقَهونَ تَسبيحَهُمْ إنْهُ كانَ حَليماً غَفورا» (الإسراء/ 44).

ص:45

الفصل الثالث وجود الصلة بين الحياة الدنيوية والحياة البرزخيّة

اشارة

لا أظنّ أنّ مسلماً ملمّاً بالقرآن والسنّة ينكر وأنّ للإنسان بعد موته وقبل بعثه حياة متوسطة بين الدنيا والآخرة، وهو فيها بين مرتاح ومنعَّم، ومتعب معذّب.

ولكن الجدير بالدراسة، في ضوء الكتاب والسنّة، هو تبيين الصلة بين الحياتين، وانّ البرزخيين غير منقطعين عمّا يجري في الحياة الدنيوية، وإنهم يسمعون إذا دُعُوا، ويجيبون إذا سُئلوا، بإذنٍ منه سبحانه، والبرزخ وإن كان بمعنى المانع والحائل، لكنّه حائل عن الرجوع إلى الدنيا الذي نفاه سبحانه بصريح كلامه عندما طلب لفيف من الظالمين الرجوعَ إلى الدنيا لتدارك ما فات منهم من العبادة والطاعة قائلين: «ربَّ ارجِعونِ لَعلّي أعملُصالحاً فيما تركتُ»، فأُجيبوا بالحرمان بقوله: «كلّاً» (المؤمنون/ 99-/ 100) وليس بمانع عن السماع والاستماع ولا عن السؤال والجواب، كل ذلك بإذن منه سبحانه.

وتدل على وجود الصلة بين الحياتين بهذا المعنى، مجموعة من

ص:46

الآيات وقسم وافر من الروايات نأتي في المقام بصريحهما، حتى يُزال الشك عن المرتاب.

1- النبي ّصالح يكلّم قومه بعد هلاكهم:

أخبر اللَّه تعالى في القرآن الكريم عن النبيّصالح عليه السلام أنّه دعا قومه إلى عبادة اللَّه، وترك التعرّض بمعجزته (الناقة) وعدم مسّها بسوءٍ، ولكنّهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم:

«فَأخَذَتْهُمُ الرَّجفةُ فأصبَحوا في دارِهِمْ جاثِمينَ فَتولَّى عَنهمْ وقالَ يا قومِ لَقدْ أبلغتُكُمْ رِسالةَ رَبِّي ونَصحتُ لَكُمْ ولكنْ لا تُحبُّونَ الناصحينَ» (الأعراف/ 78- 79).

ترى انّ اللَّه تعالى يخبر على وجه القطع والبتّ بأنّ الرجفة أهلكت أُمةصالح عليه السلام فأصبحوا في دارهم جاثمين، وبعد ذلك يخبر أنّ النبيّصالحاً تولّى عنهم ثم خاطبهم قائلا: «لَقد ابلغتُكُمْ رسالةَ ربِّي ونَصحتُ لَكمْ ولكنْ لا تُحبُّونَ النّاصِحِين».

والخطابصدر منصالح لقومه بعد هلاكهم وموتهم بشهادة جملة «فتولّى» المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقيب هلاك القوم.

ثم إنّ ظاهر قوله: «ولكنْ لا تُحبُّونَ النّاصحينَ»، يفيد أنّهم بلغت بهم العنجهية أن كانوا لا يحبُّونَ النّاصحينَ حتى بعد هلاكِهِمْ.

2- النبي شعيب يخاطب قومه الهالكين:

لم تكن قصة النبيّصالح هي القصة الوحيدة من نوعها في القرآن

ص:47

الكريم، فقد تبعه في ذلك شعيب إذ خاطب قومه بعد أن عمّهم الهلاك قال سبحانه:

«فأخَذَتْهُمُ الرَّجفةُ فأصَبحوا في دارهِهِمْ جاثِمينَ الَّذِينَ كذَّبوا شُعيباً كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها الَّذينَ كذَّبوا شُعَيباً كانُوا همُ الخاسرينَ فَتولَّى عَنهُمْ وقالَ يا قَومِ لقدْ أبلغتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ونَصحتُ لَكُمْ فَكيفَ آسى عَلى قومٍ كافرين» (الأعراف/ 91- 93).

وهكذا يخاطب شعيب قومه بعد هلاكهم ويكونصدور هذا الخطاب بعد هلاكهم بالرجفة.

فلو كان الاتصال غير ممكن، وغير حاصل، ولم يكن الهالكين بسبب الرجفة سامعين لخطابصالح وشعيب فما معنى خطابهما لهم؟

أيصح أن يفسّر ذلك الخطاب بأنّه خطاب تحسّر وإظهار تأسّف؟

كلّا، إنّ هذا النوع من التفسير على خلاف الظاهر، وهو غيرصحيح حسب الأُصول التفسيرية، وإلّا لتلاعب الظالمون بظواهر الآيات وأصبح القرآن الكريم لعبة بيد المغرضين، يفسرونه حسب أهوائهم وأمزجتهم.

على أنّ مخاطبة الأرواح المقدسة ليست أمراً ممتنعاً في العقل حتى تكون قرينة عليه.

3- النبي يأمر بالتكلّم مع الأنبياء:

جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى لنبيّه:

«واسألْ مَنْ أرسَلْنا مِنْ قَبلِكَ مِن رُسُلِنا أجَعلْنا مِنْ دُونْ الرَّحمنِ آلهةً يُعبَدون» (الزخرف/ 45).

ص:48

ترى أنّ اللَّه سبحانه يأمر النبيّ الأكرم بسؤال الأنبياء الذين بُعِثُوا قبله، ومن التأويل الباطل إرجاعها إلى سؤال علماء أهل الكتاب استظهاراً من قوله سبحانه: «فإنْ كنتَ في شكٍّ مِمّا أنزْلنا إليكَ فاسألِ الَّذِينَ يقرأُونَ الكِتابَ مِنْ قَبلِكَ لقدْ جاءكَ الحقُّ مِنْ ربِّكَ فلا تَكونَنَّ مِنَ المُمتَرينَ ولا تكوننَّ مِنَ الَّذينَ كذَّبوا بِآياتِ اللَّه فتكونَ مِنَ الخاسِرينَ» (يونس/ 94- 95).

وقوله سبحانه: «فاسألْ بَني إسرائيلَ إذْ جاءهُمْ فقالَ لَهُ فِرعونُ إني لأَظنُّكَ يا موسى مَسحُورا» (الإسراء/ 101).

ووجه البطلان هو: أنّ الخطاب في الآية الأُولى وان كان متوجّهاً إلى النبيّ لكن المقصود هو الأُمة بقرينة قوله: «ولا تكُونَنَّ منَ المُمتَرين» و «ولا تكوننَّ من الَّذين كذَّبوا».

ومثلها الآية الثانية، فالخطاب وإن كان للنبي وأمره سبحانه بأنّ يسأل بني إسرائيل عن الآيات النازلة إلى موسى، ولكنّه من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة» والنبيّ أجلّ وأعظم من أن يشكل عليه شي ء ويسأل علماء بني إسرائيل عمّا أشكل عليه.

هاتان الآيتان راجعتان إلى سؤال الأُمة علماءَ بني إسرائيل وقرّاء كتبهم، وهذا بخلاف قوله: «اسأل مَنْ أرسَلْنامن قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا» فإنّه خطاب للنبيّ حقيقة.

وأمّا ما هو الوجه في سؤال الأنبياء في مجال التوحيد أي قوله:

«أجَعَلنا منْ دون الرّحمن آلهةً يعبدون»، فقد ذكره المفسرون، وأنّهصلى الله عليه و آله تكلم مع الأنبياء السالفين ليلة المعراج.

ص:49

4- السلام على الأنبياء:

إنّ القرآن الكريم يسلّم على الأنبياء في مواضع متعدّدة ويقول:

1- «سَلامٌ عَلى نُوحٍ في العالَمينَ».

2- «سَلامٌ على إبراهيمَ».

3- «سَلامٌ على مُوسى وهارونَ». 4- «سَلامٌ عَلى إلْ ياسينَ». 5- «وسَلامٌ عَلى المُرسَلين» (الصافّات/ 79، 109، 120، 130 و 181).

ولا شك أنّ ما ورد فيها ليس سلاماً سطحيّاً أجوف، بل هو سلام حقيقيّ وتحيّة جديدة يوجّهها القرآن إلى أنبياء اللَّه ورسله.

وهل يصحّ التسليم الجدّي على الجماد الذي لا يَعرف ولا يُدرك ولا يشعر؟! وليس لنا تفسيرالمفاهيم القرآنية النابعة عن الحقيقة تفسيراً قشرياً، بأن نقول:

إنّ كافة التحيات في القرآن والتي نتلوها في آناء الليل وأطراف النهار ليست إلّامجاملات جوفاء وفي مستوى تحيات المادّيين لرفقائهم وزملائهم الذين أدركهم الموت.

إنّ المادّي لمّا يسوِّ الوجودَ بالمادة ولا يرى لورائها حقيقة، فعندما يسلّم في محاضراته وشعاراته على زملائه الميّتين يعود ويفسره بالتكريم الأجوف.

وأمّا نحن المسلمين، فبما أنّ الوجود عندنا أعمّ من المادة وآثارها، فليس علينا تفسير الآيات تفسيراً مادّياً خارجاً عن الإطار المحدّد في الكتاب والسنّة لتفسير الذكر الحكيم، وهذا ما يبعثنا على تفسير تلك التسليمات بنحو حقيقي، وهو يلازم حياة المسلَّم إليهم

ص:50

ووجود الصلة بيننا وبينهم، سلام اللَّه عليهم أجمعين.

هذا هو ما يرشدنا إليه الوحي في مجال إمكان ارتباط الأحياء بالأرواح.

السنّة الشريفة والصلة بين الحياتين:

اشارة

ما تلوناه عليك كان مجموعة من الآيات الناصعة الدالّة على وجود الصلة بين الحياتين، وأنّ قسماً من الأنبياء تكلّموا مع البرزخيين.

وأمّا السنّة الشريفة، فهناك روايات وافرة دالّة على ما نتوخّاه نأتي بقسم منها:

1- النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله يكلّم أهل القليب:

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم في جانب المسلمين وهزيمة نكراء في جانب المشركين.

فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربينصوبَ مكة مخلِّفين وراءهم سبعين قتيلًا منصناديدهم وساداتهم، ووقف النبيّ يخاطب القتلى واحداً واحداً ويقول:

«يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أُمية بن خلف، ويا أبا جهل (وهكذا عدّد من كان منهم في القليب) هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً، فإني قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقّا».

فقال له بعض أصحابه: يا رسول اللَّه أتنادي قوماً موتى؟

فقالصلى الله عليه و آله:

«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن

ص:51

يجيبوني».

وكتب ابن هشام يقول: إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أضاف بعد هذه المقالة وقال:

«يا أهل القليب، بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيكم، كذّبتموني وصدّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس».

ثمّ قال: «هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّا» «(1)».

روى البخاري عن نافع أنّ ابن عمر- رضي اللَّه عنهما- أخبره قال:

اطّلع النبيصلى الله عليه و آله على أهل القليب فقال: «وجدتم ما وعد ربكم حقاً»، فقيل له: تدعوا امواتاً، فقال: «ما أنتم باسمعَ منهم، ولكن لا يجيبون».

ثم روى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة- رضى اللَّه عنها- قالت: إنما قال النبيّصلى الله عليه و آله: «إنّهم ليعلمون الآن أنّ ماكنت أقول حقّ»، وقد قال اللَّه تعالى: «إنّك لا تُسمِعُ المَوتى» «(2)».

ولا يذهب عليك أنّ السيدة عائشة سلّمت الحياة البرزخية لهم، ولذلك قالت: إنّ النبيّ قال: «إنهم ليعلمون الآن أنّ ما كنت أقول حق» ولكنها نفت ان يقول النبيّ «ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون» من دون أن تسنده إلى قائل حاضر في الواقعة، وإنّما استنبطت قولها من الآية الكريمة، ومن المعلوم أنّ ابن عمر يدّعي السماع عن النبيّ، أو عمّن سمعه منهصلى الله عليه و آله ولا يعارضه، استنباطها، وإنما يكون نظرها حجة على نفسها لا على من عاين وشهد تكلم النبي معهم.


1- السيرة النبوية: ج 1 ص 649، السيرة الحلبية: ج 2 ص 179 و 180 وغيرهما.
2- البخاري: الصحيح الجزء 9 كتاب الجنائز باب ما جاء في عذاب القبر ص 98.

ص:52

أضف إلى ذلك أنّه لاصلة للآية بما تدّعيه، كما سيوافيك.

ولأجل التأكيد علىصحة القصة نأتي أيضاً بنصّصحيح البخاري في باب معركة بدر (غير كتاب الجنائز) ونردفه بذكر مصادر أُخرى، وما ظنّك بأمر يرويه الإمام البخاري ولفيف من المحدثين قال:

وقف النبيصلى الله عليه و آله على قليب «بدر» وخاطب المشركين الذين قُتلوا وأُلقيت جثثهم في القليب: «لقد كنتم جيران سوء لرسول اللَّه، أخرجتموه من منزله، وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربّى حقّا»، فقال له رجل: يا رسول اللَّه ما خطابك لهم؟

فقالصلى الله عليه و آله: «واللَّه ما أنتم بأسمع منهم وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع من حديد إلّاأن أعرض بوجهي عنهم».

وقد أنشد حسان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض أبياتها إلى هذه الحقيقة أعني قصة القليب إذ يقول:

يناديهم رسول اللَّه لمّا قذفناهم كباكب في القليبِ

ألم تجدوا كلامي كان حقّا وأمر اللَّه يأخذ بالقلوبِ

فما نطقوا ولو نطقوا لقالواصدقت وكنت ذا رأي مصيبِ

على أنّه لاتوجد عبارة أشدّصراحة ممّا قاله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في المقام حيث قال: «ما أنتم بأسمع منهم»، وهل ثمة بيان أكثر إيضاحاً وأشد تقريراً لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيصلى الله عليه و آله لواحد واحد من أهل القليب، ومناداتهم بأسمائهم، وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة؟!

فلا يحق لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة والرسول أن يسارع إلى إنكار هذه القضية التاريخية الإسلامية المسلّمة ويبادر قبل التحقيق ويقول: إنّ هذه القضية غيرصحيحة لأنّها لا تنطبق على عقلية المادّي المحدودة.

ص:53

وقد نقلنا هنا نصّ هذا الحوار، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّصلى الله عليه و آله يصرّح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارة في الصراحة والدلالة على هذه الحقيقة.

ومن أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش أدناه «(1)».

2- الإمام عليّ عليه السلام يكلّم رؤساء الناكثين:

إنّ الإمام علياً عليه السلام بعد أن وضعت الحرب في معركة الجمل أوزارها مرّ على كعب بن سور وكان قاضي البصرة فقال لمن حوله:

«أجلسوا كعب بن سور» فاجلسوه بين شخصين يمسكانه- وهوصريع- فقال عليه السلام: «يا كعب بن سور قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا فهل وجدت ما وعدك ربُك حقّا»؟ ثم قال: «أضجعوه».

ثم سار قليلًا حتى مرّ بطلحة بن عبيد اللَّهصريعاً فقال: «أجلسوا طلحة» فأجلسوه، فقال عليه السلام: «يا طلحة قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا»؟ ثم قال: «أضجعوا طلحة».

فقال له رجل: يا أمير المؤمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟ فقال عليه السلام: «يا رجل، واللَّه لقد سمعا كلامي، كما سمع أهل القليب كلام رسول اللَّه» «(2)».


1- صحيح البخاري ج 5 معركة بدر ص 76، 77، 86، 87، صحيح مسلم ج 8 كتاب الجنة باب معتمد الميت/ 163، سنن النسائي ج 4 باب أرواح المؤمنين ص 89/ 90، مسند الإمام أحمد ج 2/ 121، المغازي للواقدي غزوة بدر وغيرها.
2- المفيد، الجمل/ حق اليقين للسيد عبد اللَّه شبر 2/ 73.

ص:54

3- السلام على النبيّصلى الله عليه و آله فى ختام الصلاة:

إنّ جميع المسلمين في العالم- بالرغم من الخلافات المذهبية بينهم في فروع الدين- يسلّمون على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في الصلاة عند ختامها فيقولون:

«السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته»

وقد أفتى الشافعي وآخرون بوجوب هذا السلام بعد التشّهد، وأفتى الآخرون باستحبابه، لكن الجميع متفقون على أنّ النبيصلى الله عليه و آله علّمهم السلام وأن سنة النبي ثابتة في حياته وبعد وفاته «(1)».

والسؤال الآن: اذا كانتصلتنا وعلاقتنا بالنبيصلى الله عليه و آله قد انقطعت بوفاته، فما معنى مخاطبته والسلام عليه يومياً؟!

4- الميت يسمع قرع النعال:

الميت يسمع كلام من يتكلم قرب قبورهم لا بجسمه، بل بروحه التي كانت لها ارتباط وإشعاع على الجسم، ولا يعني أنّها داخلة في قبره كما كانت في حياته ملازمة لجسمه ومعلقة به، بل المراد أنّ لها ارتباطاً وإشعاعاً على الجسم الذي فارقه، ويدل على ذلك:

ما رواه البخاري عن أنس بن مالك أنّه حدّثهم عن رسول اللَّه (ص) قال: «إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه حتى أنّه ليسمع قرعَ نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمّد (ص)؟ فيقول: أشهد أنّه عبد اللَّه ورسوله، فيقال له: انظر


1- راجع كتاب تذكرة الفقهاء، ج 3: 233 المسألة، 294، وكتاب الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1 ص 47، لمعرفة أقوال المذاهب والفقهاء في هذا المجال.

ص:55

إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللَّه بة مَقعداً في الجنة فيراهما جميعا، وأمّا الكافر والمنافق فيقول: لا أدري، كنت أقول كما يقول الناس، فيقال: لا دَريتَ ولا تَلَيتَ، ثم يُضرب بمطارقة من حديد ضربة بين اذنيه، فيصيحصيحة يسمعها من يليه إلّاالثقلين» «(1)».

وجه الاستدلال به أنه قال: «وانه ليسمع قرع نعالهم»، فالميت إذاً يسمع قرع النعال، فالكلام من باب أوْلى.

5- قول الميت عند حمل الجنازة:

روى البخاري فيصحيحه عن أبي سعيد الخدريّ (رض): أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «إذ وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانتصالحة قالت قدّموني، وإنّ كانت غيرصالحة قالت: ياويلي أين تذهبون بها، يسمعصوتها كل شي ء إلّاالإنسان ولو سمعه لصعق» «(2)».

6- النبيّ صلى الله عليه و آله يسلّم على الأموات:

روى مسلم عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كلّما كان ليلتَها في رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين وآتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون وإنّا إن شاء اللَّه


1- البخاري: الصحيح ج 2/ 90 باب الميت يسمع خفق النعال، ولاحظ في تفسيرالحديث فتح الباري لابن حجر العسقلاني 3/ 160، وشرح الكرماني 7/ 117.
2- البخاري: الصحيح، الجزء 2/ 86 رواه في ما بين: حمل الرجال الجنازة دون النساء ص 85 وباب قول الميت وهو على الجنازة« قدموني»، لاحظ شرح الحديث في فتح الباري 3/ 144 وشرح الكرماني 7/ 104.

ص:56

بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد» «(1)».

فلو كان الأموات لا يسمعون كالجماد يكون السلام عليهم عبثاً، وأين منزلة نبيّ الحكمة من العبث وقد تضافر أنّ النبيّ كان يمارس زيارة البقيع.

وبذلك يعلم أنّ المقصود من الموت في المقام هو وقف سريان الدم في الأوردة، والشرايين في جسم الإنسان، وهو الممد بجوارحه وحواسه بالحركة والشعور والإحساس، والمحرّك الرئيس لها هو القلب والرئتان بواسطة التنفّس.

وأمّا ما يرجع إلى واقع الإنسان وشخصيته الحقيقية وهو الجوهر، المدرك المفكر فهو باق عالم شاعر.

7- تعذيب الميت في القبر:

روى البخاري عن ابنة خالد بن سعيد بن العاص أنّها سمعت النبيّ وهو يتعوّذ من عذاب القبر.

وروى عن أبي هريرة كان رسول اللَّه يدعو: «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة الشيخ الدجال» «(2)».

وفيصحيح مسلم وجميع السنن عن أبي هريرة أنّ النبيّ قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهّد الأخير فليتعوذ باللَّه من أربع: من عذاب جهنم،


1- مسلم: الصحيح 7/ 41.
2- البخاري: الصحيح الجزء 2/ 99، ولاحظ في شرح الأحاديث فتح الباري لابن حجر 3/ 188.

ص:57

ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة الدجال».

وفيصحيح مسلم أيضاً وغيره عن ابن عباس أنّ النبيّ كان يعلّمهم هذا الدعاء كما يعلّمهم السورة من القرآن: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من فتنة الدجال «(1)».

كلام لإبن عبد البر في المقام:

قال ابن عبد البر ثبت عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّاردّ اللَّه عليه روحه حتّى يرد عليه السلام». فهذا نص في أنّه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه و آله من وجوه متعددة أنّه أمر بقتلى بدر فالقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم «يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا، فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّا» فقال له عمر: يا رسول اللَّه ما تخاطب من أقوام قد جُيّفوا فقال: «والذي بعثني بالحقّ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون جوابا».

وثبت عنهصلى الله عليه و آله أنّ الميت يَسمع قرعَ نعال المشّيعين له، إذا انصرفوا عنه.

وقد شرّع النبيصلى الله عليه و آله لأُمته إذا سلّموا على أهل القبور أن يسلّموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» وهذا


1- ابن القيم: الروح/ 52 وقد بسط الكلام في إثبات الموضوع واحاط بأطرافه ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتابه.

ص:58

خطاب لمن يسمع ويعقل- ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.

والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأنّ الميت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به.

قال أبو بكر عبد اللَّه بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء:

(حدثنا) محمّد بن عون: حدثنا يحيى بن يمان، عن عبد اللَّه بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة رضى اللَّه تعالى عنها قالت: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلّااستأنس به وردّ عليه حتى يقوم».

(حدثنا) محمّد بن قدامة الجوهري: حدثنا معن بن عيسى القزاز:

أخبرنا هشام بن سعد: حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: إذا مرّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلّم عليه، ردّ عيه السلام وعرفه، وإذا مرّ بقبر لا يعرفه فسلّم ردّ عليه السلام. إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة في الصحاح والمسانيد.

ص:59

الفصل الرابع الحياة البرزخية في كلمات العلماء

كلّ من يعبأ بعلمه وتعبّده أمام النصوص من علماء الإسلامصرّحوا باستمرار الحياة بعد الإنتقال من الدنيا، نذكر من كلماتهم ما يلي:

1- قال الإمام أحمد بن حنبل (م/ 241): والأعور الدّجال خارج لا شكّ في ذلك ولا ارتياب، وهو أكذب الكذابين، وعذاب القبر حّق، ويُسأل العبد عن دينه وعن رّبه ويَرى مقعده من النار والجنة، ومنكر ونكير حقّ، وهما فتّانا القبور، نسأل اللَّه تعالى الثبات «(1)».

2- وقال أبو جعفر الطحاوي (م/ 321): (نؤمن) بعذاب القبر لمن كان له أهلًا، وسؤال منكر ونكير في قبره عن رّبه ودينه ونبيّه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول اللَّه وعن الصحابة رضوان اللَّه عليهم، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران «(2)».

3- وقال الإمام الأشعري (260-/ 324): ونؤمن بعذاب القبر،


1- الإمام أحمد: السنة/ 50.
2- أبو جعفر الطحاوي: شرح الرسالة الطحاوية لابن أبي العز قسم المتن/ 396.

ص:60

وبالحوض، وأنّ الميزان حقّ والصراط حّق، والبعث بعد الموت حقّ، وإنّ اللَّه عزّ وجلّ يُوقِفُ العبادَ في الموقف يحاسب المؤمنين «(1)».

4- قال البغدادي: أنكرت الجهميّة والضرارية سؤال القبر، وزعم بعض القدرية أنّ سؤال الملكين في القبر إنّما يكون بين النفختين في الصور وحينئذ يكون عذاب قوم في القبر.

وقالت السالمية بالبصرة: إنّ الكفّار لا يُحاسَبون في الآخرة.

وزعم قوم يقال لهم الوزنية: أنْ لا حساب ولا ميزان.

وأقرّت الكرّامية بكل ذلك كما أقرّ به أصحابنا، غير أنّهم زعموا أنّ منكراً ونكيراً هما الملكان اللّذان وكّلا بِكلّ إنسان في حياته، وعلى هذا القول يكون منكر ونكير كل إنسانٌ غير منكر ونكيرصاحبه.

وقال أصحابنا: إنّهما ملكان غير الحافظين على كل إنسان «(2)».

5- قال البزدوي (وهو من الماتريدية): سؤال منكر ونكير في القبر حقّ عند «أهل السنّة والجماعة»، وهما ملكان يسألان من ماتَ بعد ما حُيِّي، مَنْ ربّك وما دينُك ومن نبيّك، فيقدر المؤمن على الجواب ولا يقدر الكافر.

وفيه أحاديث كثيرة عن النبيصلى الله عليه و آله في هذا الباب أنّ الملكين يجيئان في القبر إلى الميت ويحيي اللَّه تعالى الميت فيسألان عمّا ذكرنا «(3)».

6- وقال الرازي: إنّ قوله: «ويَستبشِرونَ بالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ»


1- الإمام الأشعري: الإبانة، الأصل 26.
2- البغدادي: أُصول الدين: 245.
3- الإمام أبو اليسر محمّد البزدوي 421-/ 493 أُصول الدين: 165-/ المسألة 49.

ص:61

دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث، مضافا إلى قوله صلى الله عليه و آله:

«القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حُفَرِ النيران» والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة، وكان عليه السلام يقول في آخرصلاته: «وأعوذ بك من عذاب القبر» إلى أن قال: الإنسان هو الروح، فإنّه لا يعرض له التفرّق والتمزّق، فلا جرم يصل إليه الألم واللذة (بعد الموت).

ثم إنّه سبحانه وتعالى يردّ الروح إلى البدن يومَ القيامة الكبرى حتى تنضم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية «(1)».

7- وقال إبن ابي العزّ الدمشقي: إنّ الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.

وقد جعل اللَّه لكلّ دارٍ أحكاماً تخّصها، وركّب هذا الإنسانَ من بدن ونفس، وجعلَ أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم،صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً.

فإذا تأملت هذا المعنى حقّ التأمل، ظهر لك أنّ كون «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار» مطابق للعقل، وأنّه حقّ لا مِرية فيه، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم.

ويجب أن يعلم أنّ النار التي في القبر والنعيم ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها، وإن كان اللَّه تعالى يَحمي عليه الترابَ والحجارةَ التي فوقه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا، ولو مسّها أهل الدنيا لم يحسّوا بها.


1- الرازي: التفسير الكبير 4/ 146 و 149.

ص:62

بل أعجب من هذا، أنّ الرجلين يدفن أحدهما إلى جنب صاحبه، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصل من هذا إلى جاره شي ء من حرّ ناره، ولا من هذا إلى جاره بشي ء من نعيمه، وقدرة اللَّه أوسع من ذلك وأعجب «(1)».

وقال الرازي في تفسير قوله: «ويَستبشرونَ بالَّذينَ لَمْ يلحقُوا بهِمْ منْ خَلفِهِم» والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة، والإستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة، فدلّ هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة «(2)».

8- قال ابن تيمية: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدلّ على عود الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس، وأنكره الجمهور، قابلهم آخرون بأنّ السؤال للروح بلا بدن، وهذا ما قاله ابن مرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة تردّه، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص «(3)».

9- قال التفتازاني: ويدل على الحياة بعد الموت قوله تعالى:

«النّارُ يُعرَضونَ عَليها غُدوّاً وعَشيّاً» (غافر/ 46) وقوله: «أُغرقُوا فأُدخِلُوا ناراً» (نوح/ 25) وقوله: «ربّنا أمتنا اثنتَينِ وأحييتَنَا اثنَتَينِ» (غافر/ 11).

وليست الثانية إلّافي القبر، وقوله: «يُرزقون فَرحينَ بِما آتاهُمْ اللَّهُ» (آل عمران/ 169-/ 170).


1- شرح الرسالة الطحاوية/ 396-/ 397.
2- الرازي: مفاتيح الغيب 4/ 146، ج 9/ 90.
3- ابن القيم: الروح/ 50 معبراً عن ابن تيمية ب« شيخ الإسلام».

ص:63

وقوله صلى الله عليه و آله: «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران».

والأحاديث في هذا الباب متواترة المعنى.

وقال في موضع آخر:

اتّفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر ونكير في القبر، وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه، ونسب خلافه إلى بعض المعتزلة.

قال بعض المتأخرين منهم: حُكي إنكار ذلك عن ضرار بن عمرو، وإنّما نسب إلى المعتزلة، وهم براء منه لمخالطة ضرار إياهم، وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق.

لنا الآيات، كقوله تعالى في آل فرعون: «النّارُ يُعرَضُونَ عَليها غدّواً وعشيّاً» (غافر/ 46)، أي قبل القيامة، وذلك في القبر، بدليل قوله تعالى: «ويومَ تَقومُ الساعةُ أدخِلوا آلَ فِرعونَ أشدَّ العَذاب» (غافر/ 46)، وكقوله تعالى في قوم نوح: «أُغرِقوا فأُدخلوا ناراً» (نوح/ 25)، والفاء للتعقيب، وكقوله تعالى: «ربَّنا أمَتّنَا اثنَتينِ وأحيَيتَنا اثنتَين» (غافر/ 11)، وإحدى الحياتين ليست إلّافي القبر، ولا يكون إلّانموذج ثواب أو عقاب بالإتفاق، وكقوله تعالى: «ولا تَحسبنَّ الَّذين قُتلوا في سَبيلِ اللَّهِ أمواتاً بلْ أحياءٌ عندَ ربِّهمْ يُرزَقونَ فَرحينَ بِما آتاهُمْ اللَّهُ» (آل عمران/ 169).

والأحاديث المتواترة المعنى كقولهصلى الله عليه و آله: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» وكما روي أنّه مرّ بقبرين، فقال: «إنّهما ليعذّبان ..» «(1)»، وكالحديث المعروف في الملكين الّلذين يدخلان القبر ومعهما مرزبتان، فيسألان الميت عن رَّبه وعن دينه وعن نبيّه .. إلى غير


1- أخرجه الإمام البخاري في كتاب الوضوء/ 55، 56 وكتاب الجنائز/ 89.

ص:64

ذلك من الأخبار والآثار المسطورة في الكتب المشهورة، وقد تواتر عن النبيصلى الله عليه و آله استعاذته من عذاب القبر، واستفاض ذلك في الأدعية المأثورة «(1)».

10- وقال الشريف الجرجاني: إحياء الموتى في قبورهم مسألة منكر ونكير وعذاب القبر للكافر والفاسق كلّها حقّ عندنا، اتّفق عليه سلف الأُمة قبل ظهور الخلاف، واتّفق عليه (الأكثر بعده) أي بعد ظهور الخلاف، (وأنكره) مطلقا «ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة»، وأنكر الجبّائي وابنه والبلخي تسمية الملكين منكراً ونكيراً وقالوا: إنّما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل، والنكير إنما هو تفريع الملكين له.

لنا في إثبات ما هو حقّ عندنا وجهان: الأول قوله تعالى: «النّار يُعرضونَ عَليها غدوّاً وَعشياً ويومَ تقومُ الساعةُ أدخِلوا آلَ فِرعونَ أشدَّ العَذاب»، عطف في هذه الآية عذابَ القيامة على العذاب الذي هو عرض النارصباحاً ومساءً، فعلم أنّه غيره، ولا شبهة في كونه قبل الإنشار من القبور، كما يدل عليه نظم الآية بصريحه، وما هو كذلك ليس غير عذاب القبر اتّفاقا، لأنّ الآية وردت في حقّ الموتى، فهو هو «(2)».

11- وقال الآلوسي: إنّ حياة الشهداء حقيقة بالروح والجسد ولكنّا لا ندركها في هذه النشأة «(3)».

هذه كلمات أعلام السنّة، وإليك كلام بعض مشايخ الشيعة


1- التفتازاني: شرح المقاصد: 5/ 112/ 114.
2- الجرجاني: شرح المواقف 8/ 317 وقد مزَج كلامه مع عبارة المواقف للإيجي، فما ذكره نظرية الماتن والشارح.
3- الآلوسي: روح المعاني 2/ 20.

ص:65

الإمامية:

12- قال الشيخ المفيد في شرح عقائد الصدوق: فأمّا كيفية عذاب الكافر في قبره وتنعّم المؤمن فيه، فإنّ الخبر أيضاً قد ورد بأنّ اللَّه تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جناته، ينعّمه فيها إلى يوم الساعة، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي في التراب وتمزّق، ثم أعاده إليه وحشره إلى الموقف وأمر به إلى جنة الخلد ولا يزال منعماً بإبقاء اللَّه.

غير أنّ جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل يعدل طباعه، ويحسنصورته ولا يهرم مع تعديل الطباع ولا يمسّه نصب في الجنة ولا لغوب.

والكافر يجعل في قالب كقالبه في محلّ عذاب يعاقب، ونار يعذب بها حتى الساعة ثم ينشئ جسدَه الذي فارقه في القبر فيعاد إليه فيعذّب به في الآخرة عذاب الأبد ويركّب أيضاً جسده تركيباً لا يفنى معه «(1)».

هذه اثنتا عشرة كلمة من أعلام السنة والشيعة تعرب عن اتفاق الأمة على استمرار الحياة بعد الانتقال عن الدنيا، أو تجديد الحياة بعده، وأن الموت ليس بمعنى بطلان الإنسان إلى يوم القيامة، بل هناك مرحلة بين المرحلتين، لها شؤون وأحكام.

ويؤيد ما ذكره، وما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميت في قبره، ولولا أنّه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً، وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل.


1- المفيد: أوائل المقالات:/ 49 ط تبريز، شرح عقائد الصدوق/ 44 ط تبريز.

ص:66

وقال ابن القيم- تلميذ ابن تيمية- بعد نقل ما ذكرنا عن الإمام أحمد: إنّ اتّصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار، كاف في العمل به.

إلى أن قال: فلولا أنّ المخاطب يسمع، لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحد، لكن العلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه، وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به: أنّ النبيصلى الله عليه و آله حضر جنازة رجل فلمّا دفن قال: «سلو لأخيكم التثبت فإنّه الآن يسأل»، فأخبر أنّه يسأل حينئذ، وإذا كان يسأل فانّه يسمع التلقين «(1)».

وقال: إن إلّارواح على قسمين: أرواح معذّبة، وأرواح منعّمة، فالمعذبة في شغل ما هي فيه من العذاب، عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعّمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها، وروح نبينا في الرفيق الأعلى، قال اللَّه تعالى: «ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ والرَّسولَ فأُولئكَ مع الَّذين أنعم اللَّه عَلَيهم من النبيّينَ والصدِّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ وحَسُن أولئك رَفيقاً» وهذه المعية ثابتة في الدنيا وفي دار البرزخ وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحبّ في هذه الدور الثلاثة «(2)».

إجابة على سؤال:

إنّ هنا سؤالًا أثاره كثير من المفسرين وكلّ تخلّص عنه بوجه:


1- ابن القيم شمس الدين: الروح/ 13 و 17 ط بيروت والآية من سورة النساء 69.
2- ابن القيم شمس الدين: الروح/ 13 و 17 ط بيروت والآية من سورة النساء 69.

ص:67

وهو أنّا نشاهد أجساد الموتى ميتة في القبور، فكيف يصحّ ما ذهبتم إليه من التنعيم والتعذيب، والسؤال والإجابة؟

وهناك من تخلّص عنه زاعماً أنّ الحياة البرزخية حياة مادية بحتة، قائمة بذرات الجسد المادّي المبعثرة في الأرض، منهم الرازي قال:

أمّا عندنا فالبنية ليست شرطاً في الحياة، ولا امتناع في أن يعيد اللَّه الحياة إلى كل واحد من تلك الذرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف «(1)».

يلاحظ عليه: أنّ الإعتراف بأنّ الحياة البرزخية من أقسام الغيب الذي يجب الإيمان به وإن لم نعرف حقيقتها، أولى من هذا الجواب الغامض الذي لا يفيد القارى ء شيئاً سوى أنَّ التعبّد ورد بذلك.

لكن الظاهر من أكثر أهل السنة العاكفين في العقائد بالأخبار والآثار، أنّ هنا جسداً علىصورة الطير تتعلّق به الروح، وقد استدل له بما أخرجه عبد الرزاق، عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك قال: قال رسول اللَّه: «إنّ أرواح الشهداء فيصور طير خضر معلّقة في قناديل الجنة حتى يرجعها اللَّه تعالى إلى يوم القيامة».

وفي بعض الروايات: «أنّ أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلّق من ثمر الجنة أو شجر الجنة».

أخرج مسلم فيصحيحه عن ابن مسعود: مرفوعاً: «أن أرواح الشهداء عند اللَّه في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث


1- الرازي: التفسير الكبير 4/ 145-/ 146.

ص:68

شاءت ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش» «(1)».

ويبدو أنّ الروايات إسرائيليات، وقد رُدّ مضمون هذه الروايات في روايات أئمة أهل البيت، فعالجوا مشكلة الحياة البرزخية بشكل قريب إلى الأذهان، وهو خلق جسد آخر علىصور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم فقال «رأيت فلاناً».

روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام مسنداً إلى علي بن مهزيار، عن القاسم بن محمّد، عن الحسين بن أحمد، عن يونس ابن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد اللَّه (الإمام الصادق) عليه السلام جالساً فقال: «ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟» قلت: يقولون: في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد اللَّه: «سبحان اللَّه، المؤمن أكرم على اللَّه أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر، يا يونس المؤمن إذا قبضه اللَّه تعالىصيرّ روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».

روى ابن أبي عُمر، عن حماد، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن أرواح المؤمنين؟ فقال: «في الجنة علىصور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان» «(2)».


1- الآلوسي: روح المعاني 2/ 21.
2- الطبرسي: مجمع البيان 1/ 236 ط صيدا، لاحظ الكافي للكليني: الجزء 3/ 245 وبما أنّ الشيخ الطبرسي نقل الرواية عن الكافي، ذكرنا موضع الرواية منه.

ص:69

الفصل الخامس البرزخيّون ينتفعون بأعمال المؤمنين

اشارة

إذا كانت حقيقة الإنسان هو روحهُ ونفسه الباقية غير الداثرة، وكانت الصلة بين الدارين (دار الدنيا ودار البرزخ) موجودة، وكانت متعلقة بأجسام تناسبها وهم بين منعّم ومعذّب، يقع الكلام في انتفاع أهل البرزخ بأعمال المؤمنين المتواجدين في دار الدنيا إذا قاموا بالإستغفار لهم بأعمال نيابة عنهم، وعدمه.

وقبل الدخول فيصلب الموضوع لنا كلامٌ نقدّمه: هو أنّ الإيمان إنّما ينتفع به الإنسان إذا انضمّ إليه العمل الصالح، ولا ينفع إيمان إذا خلا عنه، ولأجل ذلك يذكر سبحانه العمل الصالح إلى جانب الإيمان في أكثر آيات الكتاب العزيز.

وقد أخطأت «المرجئه» لمّا زعموا أنّ الإيمان المجرّد وسيلة نجاة ومفتاح فلاح، فقدّموا الإيمان وأخّروا العمل.

وقد شجب أهل البيت عليهم السلام هذه الفكرة الباطلة حيث حذّروا الآباء ودعوهم إلى حفظ أبنائهم منهم: «بادروا أولادكم بالأدب قبل أن

ص:70

يسبقكم إليهم المرجئة» «(1)».

فالإعتماد على الإيمان مجرداً عن العمل فعل النوكى والحمقى، وهو لا يفيد ولا ينفع أبداً.

ولقد كانت لهذه الفكرة الباطلةصيغة أُخرى عند اليهود، فهم كانوا يعتمدون على مسألة الإنتساب إلى الآباء وبيت النبوة، فزعموا أنّ الثواب لهم والعقاب على غيرهم حيث قالوا: «نَحَنُ أبناءُ اللَّهِ وأحبّاؤُهُ» أو قالوا: «لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّاأيّاماً مَعدودَة»، وفي ظلّ هذه الفكرة اقترفوا المنكرات واستحلّوا سفك دماء غيرهم من الأقوام والأُمم والإستيلاء على أموالهم.

والحق الذي عليه الكتاب والسنّة هو: أنّ المنجي هو الإيمان المقترن بالعمل الصالح، كما أنّ التسويف في إتيان الفرائض باطل جداً، وهو أن يؤخّر الإنسان الواجب ويقول سوف أحجّ مثلًا، ويقول ذلك كلّ سنة ويؤخر الفريضة.

وهذا هو الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام يؤكّد في خطبته على العمل إذ يقول: «وإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل» «(2)».

ويقول: «ألا وإنَّ اليومَ المِضمار وغداً السباق، والسَّبَقةُ الجنّة، والغايةُ النار، أفلا تائب من خطيئته قبل منيته، أَلا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه» «(3)».

وهذا هو ما اتّفقت عليه الأُمة الإسلامية وتضافرت عليه


1- الكافي 6/ 47، الحديث 5.
2- نهج البلاغة، الخطبة 42.
3- نهج البلاغة، الخطبة 28.

ص:71

الأحاديث والأخبار.

انتفاع الإنسان بعمله وبعمل غيره:

لكنّه سبحانه بفضله و جوده الواسعين وسّع على الإنسان دائرة الإنتفاع بالأعمال بحيث شمل الإنتفاع بعد الموت، بالأعمال التي تتحقق بعد الموت، وهي على نوعين:

الأول: ما إذا قام الإنسان بعمل مباشرة في زمانه ومات ولكن بقي العمل يستفيد منه الناس كصدقة جارية أجراها، أو إذا ترك علماً ينتفع به، ويقرب منه ما إذا ربّى ولداًصالحاً يدعو له، فهو ينتفع بصدقاته وعلومه، لأنّها أعمال مباشرية باقية بعد موته وليست كسائر أعماله الفانية بفنائه الزائلة بموته، فالجسر الذي بناه، والنهر الذي أجراه، والمدرسة التي شيدّها، والطريق الذي عبّده، إنّما تحقق بسعيه، فهو ينتفع به.

وقد وردت في هذا المجال روايات كثيرة، قام بنقل بعضها ابن القيم في المسألة السادسة في كتاب له بإسم «الروح» قال:

وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنّه لا يصل إلى الميت شي ء البته لا بدعاء ولا غيره، ثم قال: فالدليل على انتفاعه بما تسبّب إليه في حياته ما رواه مسلم فيصحيحه من حديث أبي هريرة رضى الله عنه: أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلّامن ثلاث:

صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدصالح يدعو له» فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدل على أنّها منه، فأنّه هو الذي تسبّب إليها.

وفي سنن ابن ماجة في حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول

ص:72

اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علّمه ونشره، أو ولداًصالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أكراه، أوصدقةً أخرجها من ماله فيصحته وحياته يلحقه من بعد موته».

وفيصحيح مسلم أيضاً من حديث جرير بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أُجورهم شي ء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شي ء».

وهذا المعنى روي عن النبيصلى الله عليه و آله من عدة وجوهصحاح وحسان.

وفي المسند عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فأمسك القوم، ثم إنّ رجلًا أعطاه فأعطى القوم، فقال النبيصلى الله عليه و آله: «من سنّ خيراً فاستنّ به كان له أجره ومن اجور من تبعه غير منتقص من أُجورهم شيئاً، ومن سنّ شراً فاستنّ به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً».

وقد دلّ على هذا قولهصلى الله عليه و آله: «لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنّه أوّل من سنّ القتل» فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل والثواب أولى وأحرى «(1)».

ويؤيده ما ورد في شأنصلاة الجماعة حيث تُفضَّل بسبع وعشرين درجة أو خمس وعشرين درجة علىصلاة بغير جماعة «(2)».


1- ابن القيم تلميذ ابن تيمية م/ 751: كتاب الروح، المسألة السادسة عشرة، ونقلها برمتها محمّد الفقي من علماء الأزهر في كتابه التوسل والزيارة: 226-/ 227.
2- صحيح مسلم 2/ 128، باب فضل صلاة الجماعة.

ص:73

فكيف ينتفع المصلّون بعضهم ببعض؟ وكلّما زاد المصلون ازدادوا انتفاعاً.

الثاني: فيما إذا لم يكن للميت في العمل سعي ولا تسبيب، فهل يصل ثواب عمل الغير إليه؟

الظاهر من الكتاب والسنة هو أنّه سبحانه بعميم فضله وواسع جوده يوصل ثواب عمل الغير إلى الميت، فيما إذا قام الغير بعملصالح نيابة عن الميت، وبعث ثوابه إليه، ويدل على ذلك لفيف من الآيات وطائفة كبيرة من الأحاديث والأخبار.

عرض المسألة على الكتاب:

لقدصرّحت الآيات بأنّ الإنسان المؤمن ينتفع بعمل غيره، وإن لم يكن له فيه سعي، ونحن نشير إلى بعض هذه الموارد على سبيل المثال لا الحصر:

1- استغفار الملائكة للمؤمن، قال تعالى:

«الَّذينَ يَحملونَ العرشَ ومَنْ حولَهُ يُسبِّحونَ بِحَمدِ ربِّهمْ ويُؤمِنونَ به ويَستغفرونَ للَّذينَ آمَنوا ربَّنا وَسِعْتَ كلَّ شي ء رَحمةً وعِلماً فَاغِفر للَّذينَ تابُوا واتَّبَعوا سَبيلَكَ وقِهِمْ عذابَ الجَحيمِ» (غافر/ 7)

وقال تعالى أيضاً:

«تكادُ السَّمواتُ يَتفطَّرنَ مِنْ فَوقِهنَّ والملائكةُ يُسَبَّحونَ بِحمدِ

ص:74

ربِّهمْ ويَستغفرونَ لِمَنْ في الأرض ألا إنَّ اللَّهَ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ» (الشورى/ 5)

2- دعاء المؤمنين للذين آمنوا:

«والَّذينَ جَاءوا مِنْ بَعدهِمْ يَقولونَ رَّبنا اغفرْلَنا ولإخوانِنا الَّذينَ سَبقونا بِالإيمانِ ولا تَجعلْ في قُلوِبنا غِلّاً للَّذينَ آمنوا رَّبنا إنَّكَ رَوؤفٌ رَحيم» (الحشر/ 10)

الأحاديث الدالة على انتفاع الميت بفعل الحيّ:

تدلّ روايات كثيرة على أنّ الميت ينتفع بعمل الغير، إمّا بدعائه فيكفي في ذلك ما تواتر عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله من زيارته لأهل بقيع الغرقد ودعائه لهم، وزيارته لشهداء أُحد وتعميمهم بالدعاء، وتكرار ذلك منه، ولو لم ينتفعوا بدعائه لما قام به عليه السلام، وقد عرفتَ الآيات الدالة على انتفاع الميت بدعاء الحي.

إنّما الكلام فيما إذا قام بعمل (لا بدعاء) قربى نيابة عن الميت، فالروايات المتضافرة تدل علىصحة العمل ووصول ثوابه إليه وانتفاع الميت به، وقد وزّعت الروايات في الصحاح والمسانيد في مختلف الأبواب كالصوم والحج والعتق والنذر والتصدّق والسقي وقراءة القرآن، فنحن نذكر هذه الروايات على هذا الترتيب، ولعلّ المتتبِّع في الصحاح والمسانيد يقف على أكثر من ذلك.

أ- انتفاع الميت بصوم الغير نيابة عنه:

1- روى الشيخان عن عائشة: أنّ رسول اللَّه قال: «من مات وعليه صيام،صام عنه وليّه».

2- روى الشيخان أيضاً عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبيّ وقال: يا رسول اللَّه إنّ أُمّي ماتت وعليهاصوم شهر أفأقضي عنها؟ قال:

ص:75

«نعم فدين اللَّه أحق أن يقضى».

3- وفي رواية: جاءت امرأة إلى رسول اللَّه وقالت: يا رسول اللَّه إنّ أُمّي ماتت وعليهاصوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: «أفرأيتِ لو كان على أُمك دين فقضيْتيهِ أكان يؤدّى ذلك عنها؟ قالت: نعم قال: «فصومي عن أُمك».

4- روى بريدة قال: بينا أنا جالس عند رسول اللَّه إذ أتته امرأة وقالت: «إني تصدّقت على أُمّي بجارية وإنّها ماتت، فقال: «وجب أجرك، وردّها عليك الميراث».

فقالت: يا رسول اللَّه إنّه كان عليهاصوم شهر أفأصوم عنها؟ قال:

«صومي عنها» قالت: إنّها لم تحجّ قطّ، أفأحج عنها؟ قال: «حجّي عنها» «(1)».

ب- انتفاع الميت بحج الغير نيابة عنه:

5- قال سعد بن عبادة: يا رسول اللَّه، إنّ أُم سعد في حياتها كانت تحجّ من مالي وتتصدّق وتَصِل الرحم وتنفق من مالي، وإنّها ماتت فهل ينفعها أن أفعل ذلك عنها؟ قال: «نعم».

6- وقال (ص): «لو كان مسلماً فَأَعْتقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك».

وقد مضى جواز الحج نيابة في الرواية الرابعة.

ج- انتفاع الميت بعتق الغير عنه:

7- عن عطاء بن رباح قال: قال رجل: يا رسول اللَّه أعتق عن أُمّي؟


1- هذه الروايات 1-/ 5 رواها مسلم في صحيحه، ج 3، باب قضاء الصيام عن الميت: 155-/ 156.

ص:76

قال: «نعم» قال: أينفعها؟ قال: «نعم».

8- عن عبد الرحمان بن أبي عمرة الأنصاري: أنّ أُمّه أرادت أن تعتق فأخرت ذاك إلى أن تصبح فماتت؟ قال عبد الرحمان: قلت للقاسم ابن محمّد: أينفعها أن أعتق عنها؟ قال القاسم: أتى سعد بن عبادة رسول اللَّه فقال: إنّ أُمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ فقال رسول اللَّه: «نعم».

وقد مضى في الرواية السادسة ما يدل على جواز العتق عن الغير:

د- انتفاع الميت بعمل الغير فيما إذا نذر ولم يعمل:

9- جاء سعد بن عبادة إلى رسول اللَّه فقال: إنّ أُمي كان عليها نذر، أفاقضيه؟ قال: «نعم» قال: أينفعها؟ قال: «نعم».

ورواه مسلم بلفظ آخر قال: استفتى سعد بن عبادة رسول اللَّه في نذر كان على أُمّه توفيت قبل أن تقضيه؟ قال رسول اللَّه: «فاقضه عنها».

ه- انتفاع الميت بصدقة الغير نيابة عنه:

10- عن أبي هريرة: أنّ رجلًا قال للنبيّ: إنّ أبي مات وترك مالًا ولم يوص، فهل يكفّر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: «نعم».

11- عن معاذ، قال: «أعطاني رسول اللَّه (ص) عطية، فبكيت فقال:

«ما يبكيك يا معاذ»؟ قلت: يارسول اللَّه كان لأُمي من عطاء أبي نصيب تتصدّق به وتقدّمه لآخرتها وإنّها ماتت ولم توص بشي ء قال: «فلا يبك اللَّه عينك يا معاذ، أتريد أن تُؤجر أُمك في قبرها؟ قلت: نعم يارسول اللَّه، قال: «فانظر الذي كان يصيبها من عطائك فامضه لها، وقل اللّهم تقبّل من أُم معاذ».

ص:77

فقال قائل: يارسول اللَّه لمعاذ خاصة أم لأُمتك عامة؟ قال: «لأُمتي عامة».

12- عن سعد أنّه سأل النبيصلى الله عليه و آله قال: يا نبيّ اللَّه إنّ أُمي قد افتلتت وأعلم أنّها لو عاشت لتصدّقت، أفإن تصدَّقتُ عنها أينفعها ذلك؟

قالصلى الله عليه و آله: «نعم» فسأل النبيصلى الله عليه و آله: أيّ الصدقة أنفع يارسول اللَّه؟ قال:

«الماء»، فحفر بئراً، وقال: هذه لأُم سعد.

واللام في قوله: «هذه لأُم سعد» هي اللام الداخلة على الجهة التي وجهت إليه الصدقة، وليست من قبيل اللام الداخلة على المعبود المتقرّب إليه، مثل قولنا: نذرت للَّه، وإن شئت قلت: اللام في قوله «لأُم سعد» مثل اللام الواردة في قوله تعالى: «إنَّما الصَّدقاتُ للفُقراءِ» (التوبة/ 60).

13- وفيصحيح البخاري عن عبد اللَّه بن عباس رضى الله عنه: «إنّ رجلًا أتى النبيّ فقال: يارسول اللَّهصلى الله عليه و آله إنّ أُمّي افتلتت نفسها ولم توصِ، وأظنّها لو تكلّمت تصدقت، أفلها أُجر إن تَصدّقتُ عنها؟ قال: «نعم».

14- وفيصحيح البخاري عن عبد اللَّه بن عباس رضى الله عنه: «إنّ سعد ابن عبادة توفّيت أُمه وهو غائب، فأتى النبيصلى الله عليه و آله فقال: يارسول اللَّه إنّ أُمي توفّيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدّقتُ عنها؟ قال: «نعم»، قال: «فإنّي أشهدك إنّ حائطي المخرافصدقة عنها» والمراد بالحائط البستان، والمخراف عبارة عن اسم ذلك الحائط.

15- وعن عبد اللَّه بن عمر: «إنّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإنّ هشام بن العاص نحر خمسة وخمسين، وإنّ عمراً سأل النبيصلى الله عليه و آله عن ذلك فقال: «أمّا أبوك فلو أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدّقت عنه نفعه ذلك» ورواه الإمام أحمد.

ص:78

و- انتفاع الميت بالذكر والدعاء والقراءة والتحية:

6 1- روى ابن ماجة فيصحيحه: إنّ رسول اللَّه قال: «اقرأوا (يس) على موتاكم».

17- وعن أبي هريرة: «زوروا موتاكم ب (لا إله إلّااللَّه)».

18- «ما من رجل يزور قبر حميمه فيسلّم عليه ويقعد عنده إلّاردّ عليه السلام وأنس به حتى يقوم من عنده».

19- «ما من رجل يمرّ بقبر كان فيه (من) يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّاعرفه وردّ عليه السلام».

20- «ما الميت في قبر إلّاشبه الغريق المتغوث ينتظر دعوة من أب أو أُم أو ولد أوصديق ثقة، فإذا لحقته كانت أحبّ إليه من الدنيا وما فيها، وإنّ اللَّه عزّ وجلّ ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الدنيا أمثال الجبال، وإنّ هدية الأحياء إلى الأموات الإستغفار لهم والصدقة عنهم».

21- من حديث أبي هريرة رضى الله عنه: قال: قال رسول اللَّه: «إذاصلّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء».

22- وفيصحيح مسلم من حديث عوف بن مالك: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله على جنازة، فحفظت دعاءه وهو يقول: «اللّهمّ اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله وأوسع مدخله، وأغسله بالماء والثلج والبرد، ونقّه من الخطايا كما نقّيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلًا خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار».

23- وفي السنن عن واثلة بن الأسقع قال:صلّى رسول اللَّه على رجل من المسلمين فسمعته يقول: «اللّهم إنّ فلاناً ابن فلان في ذمتك

ص:79

وحبل جوارك، فقهِ فتنة القبر وعذابه، وأنت أهل الوفاء والحقّ، فاغفر له وارحمه إنّك أنت الغفور الرحيم».

24- وفي السنن من حديث عثمان بن عفان (رض) كان النبي (ص) إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم واسالوا له التثبت فأنّه الآن يسأل».

ولو استقصيت الصحاح والسنن لوقفت على روايات كثيرة من هذا القسم.

أضف إلى ذلك ما ننقله عن النبي الأكرمصلى الله عليه و آله عند ما زار بقيع الغرقد، من دعائه لأهله وترحيمه لهم.

إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار الواردة في هذا المجال، ومن أراد التبسط فليرجع إلى مظانّها «(1)».

موقف المذاهب الإسلامية من هذه المسألة:

وهؤلاء هم أئمة المذاهب الثلاثة (الحنبلي والشافعي والحنفي) يفتون بانتفاع الميت بعمل الحي حتى إذا لم يوص به ولم يكن له فيه سعي.

فهؤلاء هم فقهاء الحنابلة يقولون: ومن توفي قبل أن يحجّ الواجب عليه سواء أكان ذلك بعذر أو بغير عذر، وجب عليه أن يخرج من جميع ماله نفقة حجة وعمرة ولو لم يوص «(2)».


1- لاحظ للوقوف على مصادر هذه الروايات: صحيح مسلم، كتاب النذر، ج 5/ 73-/ 78 وكنز العمال 6 ص 598-/ 602 رقم 17050-/ 17071، والروح لابن القيم 118-/ 121 وغيره، والتوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية للشيخ الفقي 229 وغيرها.
2- الفقه على المذاهب الأربعة للجزري 1/ 571.

ص:80

وهذا هو الفقه الحنفي يقول: أمّا إذا لم يوص وتبرّع أحد الورثة أو غيرهم فإنّه يرجى قبول حجتهم عنه إن شاء اللَّه «(1)».

وهذا هو الشافعي يقول: فإن عجز عن مباشرة الحج بنفسه يحج عنه الغير بعد موته من تركته (ولم يقيد بالإيصاء وعدمه) «(2)».

وقال ابن القيم: واختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر: فذهب الإمام أحمد وجمهور السلف إلى وصولها، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، نصّ على هذا الإمام أحمد في رواية محمّد بن أحمد الكحال قال: قيل لأبي عبد اللَّه: الرجل يعمل الشي ء من الخير منصلاة أوصدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو أُمّه، قال: أرجو، أو قال: الميت يصل إليه كل شي ء منصدقة أو غيرها، وقال: أيضاً اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات وقل هو اللَّه أحد وقل:

اللّهمّ إنّ فضله لأهل المقابر.

وقال: فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه والخلال في جامعه عن الشعبي بسندصحيح، قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره، يقرأون القرآن.

وقال النووي في شرح المهذب: يستحب (أي للزائر للأموات) أن يقرأ ما تيسّر ويدعو لهم عقبها، نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب.


1- المصدر نفسه 1/ 567.
2- المصدر نفسه 1/ 569.

ص:81

وقال في الاذكار: قال الشافعي والأصحاب: يستحب أن يقرأوا عند الميت شيئاً من القرآن قالوا: فإن ختموا القرآن كلّه كان حسناً.

ثم قال: وقد روي عن بعض الشافعية أنه لا يصل ثوابها للميت.

ونقل عن جماعات من الشافعية أنهم أوّلوه بحمله على ما إذا لم يقرأ بحضرة الميت، أو لم ينو ثواب قراءته له، أو نواه ولم يدع «(1)».

وهذه الروايات وإن أمكن المناقشة في إسناد بعضها، لكن المجموع متواتر مضموناً، فلا يمكن ردّ الكل.

أضف إلى ذلك وجود رواياتصحيحة قاطعة للنزاع، والفقيه إذا لاحظ مع ما أفتى به أئمة المذاهب الثلاثة ينتزع ضابطة كلية، وهو وصول ثواب كلّ عمل قربى إلى الميت، إذا أتى به نيابة عنه، سواء كان العمل داخلًا فيما ذكر من الموضوعات أو خارجاً عنها، لأنّ الظاهر أنّ الموضوعات كالصوم والحج وغيرهما من باب المثال، لا من باب الحصر.

فتلك الآيات والروايات وهذه الفتاوىصريحة في جواز القيام بعمل ما عن الميت من دون إيصاء، وبعبارة أُخرى: من دون سعي له فيه، فإذا لم ينتفع الميت بعمل الغير فكيف جاز الحج عنه أو وجب، وكذا في سائر الأُمور الأُخرى كالإستغفار والدعاء له وشفاعته والتصدّق والعتق عنه.

وقال الدكتور عبد الملك السعدي: لم يثبت أنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان يقرأ شيئاً من القرآن إذا زار المقابر سوى ما ورد أنهصلى الله عليه و آله قال: «يس قلب القرآن اقرأوها على موتاكم» إذا حملنا لفظ الموتى على المعنى الحقيقي وهو خروج الروح من الجسد، لأنّ حمله على حالة النزع حمل اللفظ على معناه المجازي، والحمل على الحقيقة أولى، ومع هذا فلا مانع من


1- ابن القيم، الروح: 235-/ 236.

ص:82

قراءة القرآن في المقبرة لعدم ورود المنع من ذلك، ولأنّ الأموات يسمعون القراءة فيستأنسون بها، ولأنّ الإمام أحمد كان يرى ذلك حيث قد نهى ضريراً يقرأ عند القبور ثم أذن له بعد أن سمع أنّ ابن عمر رضى الله عنه أوصى أن يقرأ إذا دفن عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها، كما جاء في المغني لابن قدامة في مسألة زيارة القبور «(1)».

أمّا القول بأنّ القراءة عند القبور بدعة، فغير مسلّم، لأنّ البدعة هي التي لم يرد بها نص خاص أو لم تدخل تحت القواعد العامة للإسلام، والقراءة مشروعة على الإطلاق في الإسلام بغضّ النظر عن مكان القراءة وزمانها ما لم يرد نهي عنها بوقت معين وزمان معين أو مكان معين.


1- المغني 2/ 567.

ص:83

الفصل السادس حول الشبهات المطروحة

اشارة

لقد وقفت بفضل الآيات الكريمة الناصعة، والسّنة النبوية المطهّرة، وكلمات العلماء الأبرار على أنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان وبطلانه، أو القضاء على حقيقته وشخصيته، بل هو قنطرة تعبر بالإنسان من دار إلى أُخرى إمّا محفوفة بالنعمة والراحة، أو ملفوفة بالنقمة والتعذيب.

كما وقفت على أنّ الصلة بين الدارين غير منقطعة، وأنّ هناك مبادلة كلام بكلام حتى إنّ البرزخيين يسمعون خفق نعال المشيِّعين.

كما اتّضح أنّ المؤمنين ينتفعون بخير الأعمال التي يقوم بها أقرباؤهم وأصدقاؤهم.

كلّ ذلك بفضل منه سبحانه على عباده حتى ينتفعوا، بما يُقدّم لهم إخوانُهم- بعد انتقالهم من الدنيا- من أدعيةصالحة، وأعمال طيبة تهدى ثوابها إلى آبائهم وإخوانهم وأساتذتهم الذين وجبت حقوقهم عليهم.

غير أنّ تبعية الأهواء ربما تصدّ الإنسان عن البخوع للحق،

ص:84

والخضوع أمام الحقيقة فيقدِّم رأيه الساقط على البراهين الواضحة، فتارة يُنكر وأُخرى يردّ الصلة بين الدارين، وثالثة يَجحد انتفاع البرزخيين بأعمال إخوانهم المؤمنين، كلّ ذلك في قوالب شبه ضئيلة نمّقته الأهواء والتقليد الأعمى ولا يقام له في سوق الإعتبار وزن ولا في مبوّأ الحق مقيل، «فظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر» وإليك تلكم الشبهات مع أجوبتها:

الشبهة الأولى:

إنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلّا اللَّه، فهي حياة مستقلّة نؤمن بها ولا نعلم ماهيتها.

وإن بين الأحياء والأموات حاجزاً يمنع الاتّصال فيما بينهم، وعلى هذا فيستحيل الاتصال بينهم لا ذاتاً ولاصفاتاً، واللَّهُ سبحانه يقول:

«ومِنْ ورائِهمْ بَرزخٌ إلى يومِ يُبعَثونَ» «(1)».

الجواب: إنّ الحياة بمعناها الحقيقي مجهولة الكنه سواء أكانت دنيوية أم برزخية ولا يعلم حقيقتها إلّاخالقها، لكن ذلك لا يمنع في التعرّف عليها بشي ء من آثارها: الإدراك والشعور في نوع الحيوان، والتفكّر والتعقّل في نوع آخر كالإنسان، فالحياة بلا شعور ودرك نفي لواقع الحياة.

على أنّه سبحانه بيّن بعض آثار الحياة البرزخية في الآيات النازلة في الشهداء، قال سبحانه: «بَلْ أحياءٌ عنَد ربِّهمْ يُرزقَونَ فَرِحين بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضلِه ويستَبشِرونَ بالَّذينَ لَمْ يلحقُوا بِهمْ مِنْ خَلفِهِمْ ألّا خوفٌ


1- الرفاعي: التوصّل إلى حقيقة التوسل/ 267، سورة المؤمنون: 100.

ص:85

عَليهِمْ ولا همْ يَحزَنُونَ» (آل عمران/ 169، 170) والإمعان فيما سبق من الروايات حول الحياة البرزخية يرفع الحجاب عن آثارها وظواهرها.

ومع هذا التضافر والتنصيص فما معنى هذا التجاهل؟!

وأمّا البرزخ فهو بمعنى الحاجز، وكونه حاجزاً لا يعني انقطاع الصلة بين أهل الدنيا وأهل البرزخ، بل يكون مانعاً من رجوع الناس إلى حياة الدنيا، لأنّ الحياتين قد قدّرتا على شكل خاص لا يختلط أحدهما بالآخر، فإنّ الحياة المادية القائمة على الكون والفساد والفعل والإنفعال تختلف عن الحياة البرزخية المبراة عن هذه الآثار، فبين الحياتين حاجز يمنع عن اختلاط إحداهما بالأُخرى، لا أنّ بينهما ستاراً حديدياً يمنع عن اللقاء أو عن السماع.

ويعرب عنصحة ما ذكرناه أنّ قوله سبحانه: «ومِنْ ورائِهمْ بَرزخٌ إلى يوم يُبعثونَ» جاء جواباً لتمنّي الكافر وسؤاله الرجوع إلى الدنيا حيث يقول: «ربِّ ارجعونِ لَعلِّي أعملصالحاً فِيما تركتُ» فردّ السؤال بقوله: «كلّا إنّها كلمةٌ هو قائِلُها ومنْ ورائِهمْ بَرزخٌ إلى يومِ يُبعَثونَ» (المؤمنون/ 99، 100).

ولوصحّ ما ذكره فما معنى تكلم النبيصالح وشعيب مع قومهما؟! وما معنى تكلّم النبّي الأكرمصلى الله عليه و آله ليلة المعراج مع الأنبياء؟! وما معنى تمنّي حبيب النجار بعد موته بقوله: «ياليتَ قَومي يَعلَمونَ»؟!

الشبهة الثانية:

إنّ اللَّه سبحانه يقول: «وأن ليسَ للإنسانِ إلّاما سَعَى» (النجم/ 39) فالآية تحصر الإنتفاع في العمل الذي سعى فيه الإنسان قبل موته، ومعه

ص:86

كيف ينتفع بعمل الغير الذي لم يسع فيه؟

والجواب على هذه الشبهة من وجوه متعددة، ولكنّنا نذكر قبل الجواب ما يفيد القارى ء في المقام، وهو: أنّه لو كان ظاهر الآية هو ما يرومه المستدل وهو: أنّ الغير لا ينتفع بعمل الغير ما لم يكن قد تسبب إليه في الحياة، لعارَض هذا ظاهر الآيات الأُخر والروايات المتضافرة في ذلك المجال، إذ لو كان كذلك فما معنى استغفار المؤمنين لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان؟ وما معنى استغفار حملة العرش ومن حوله لأهل الإيمان؟ وما معنى هذه الروايات الواردة في مجالات مختلفة، الدالة على انتفاع الميت بعمل الغير؟

كل ذلك يعرب عن أن للآية مفاداً آخر وهو غير ما يرومه المستدل، وإليك تفسير الآية بالإمعان فيها، وذلك بوجوه:

الوجه الأول:

إنّ سياق الآيات المحيطة بهذه الآية سياق ذمّ وتنديد، وسياق إنذار وتهديد، فإنّ اللَّه سبحانه يبدأ كلامه العزيز بقوله: «أفرأيت الذي تَولّى وأعْطى قَليلًا وأكدى أعِندَهُ عِلمُ الغَيبِ فَهوَ يَرى أمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فيصُحُفِ مُوسى وإبراهيمَ الَّذِي وَفّى ألّا تَزِرُ وازِرةٌ وِزرَ أُخرى وأنْ لَيسَ للإنسانِ إلّاماسَعى وأنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الجزاءَ الأوْفى وأنَّ إلى رَبِّكَ المُنتهى» (النجم/ 33-/ 42).

فإنّك ترى أنّ الآيات الحاضرة مثل سبيكة واحدةصيغت لغرض الإنذار والتهديد، خصوصاً قوله: «وأنْ ليسَ للإنسان إلّاماسَعى» فإنّ هذه الآية وقعت بين آيتينصريحتين في التهديد المتقدمة قوله: «ألّا تَزرُ وازرةٌ وِزرَ أُخرى» والمتأخّرة قوله: «وأَنّ سعيهُ سوفَ يُرى» ثم

ص:87

قوله: «وأنّ إلى ربِّكَ المُنتهى».

فانّ كلّ ذلك يعطي أنّ موضوع هذه الآية والآيات السابقة واللاحقة هو العقاب لا الثواب، والسيئة لا الحسنة، فالآية تصرّح بأنّ كل إنسان يحمل وزر نفسه ويعاقب بالعمل السيّئ الذي سعى فيه، وأمّا العمل السيّئ الذي اقترفه الغير ولم يكن للإنسان سعي فيه فلا يؤخذ به ولا يعاقب عليه.

وعلى ذلك فاللام في قوله: «للإنسان» ليس للإنتفاع بل اللام لبيان الإستحقاق، وهو أحد معانيها «(1)» مثل قوله: «وَيلٌ لِلمُطفّفينَ» وقوله: «لَهُمْ في الدُّنيا خِزيٌ ولَهمْ في الآخرةِ عذابٌ عَظيمٌ» (البقرة/ 114) وقولهصلى الله عليه و آله:

«الولد للفراش وللعاهر الحجر».

وعلى ذلك فالموضوع الذي تركّز عليه الآيات هو العقاب لا الثواب، ولهذا تكون الآية خارجة عن مصبّ البحث، وهذا ظاهر لمن أمعن النظر.

الوجه الثاني:

لو فرضنا أنّ محور البحث في هذه الآيات هو الأعم من الثواب والعقاب، وأنّ اللّام في الآية للإنتفاع، ولكن الآية مع ذلك لا تنفي انتفاع الإنسان بعمل غيره إذا كان للإنسان المنتفع سعي فيه ولو بإيجاد أرضيةصالحة للإنتفاع به في ذاته، في قبال من لا توجد في نفسه وذاته مثل هذه الأرضية والإستعداد والقابلية والمقتضى.

فمثلًا الإنسان ينتفع بشفاعة النبّي الأكرمصلى الله عليه و آله يوم القيامة باتفاق


1- قال ابن هشام في المغنى 1/ 208 وللام الجارة إثنان وعشرون معنى، أحدها: الإستحقاق، وهي الواقعة بين معنى وذات .. مثل« لهم في الدنيا خزي».

ص:88

جميع المسلمين حتى الوهابيين، ولكن انتفاعه هذا ناشى ء من أنّه سعى لهذا الإنتفاع حيث دخل في حظيرة الإيمان باللَّه وآياته.

وكذلك الأمر في استغفار المؤمنين للمؤمن بعد موته، وكذا الأعمال الصالحة التي يهدى ثوابها إلى أحد وتكون على وجه يرتبط بسعيه في الدخول في زمرة المؤمنين.

ولذلك لو كان مشركاً أو ممّن تحبط أعماله، لا يصل إليه ذلك الثواب ولا ينتفع بعمل الغير.

وقد تفطّن لهذا الجواب بعض أئمة أهل السنّة.

قال أبو الوفاء بن عقيل: إنّ الإنسان بسعيه وحسن معاشرته اكتسب الأصدقاء وأولد الأولاد وتزوّج وأسدى الخير وتودّد للناس، فنشأ عن ذلك أنّهم ترحّموا عليه وأهدوا له العبادات، وقد كان ذلك من آثار سعيه كما قالصلى الله عليه و آله: «إنّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه» ويدل على ذلك الحديث الآخر: «وإذا مات العبد انقطع عمله إلّامن ثلاث ..».

وقال الشيخ الفقي: «هذا جواب يحتاج إلى إتمام، فإنّ العبد بإيمانه وطاعته للَّه ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله، كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإنّ المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها، كالصلاة في جماعة، فإنّ كلّ واحد منهم تضاعفصلاته إلى سبع وعشرين ضعفاً لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سبباً لزيادة أجره، كما أنّ عمله كان سبباً لزيادة أجر الآخر.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنّما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين فرق كبير، فأخبر تعالى أنّه لا يملك

ص:89

إلّا سعيه، فإن شاء أن يبدله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه، فهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلّابما سعى «(1)».

الوجة الثالث:

إنّ الآية بصدد بيان أنّ عمل كل إنسان راجع إليه دون غيره، وأين هذا من عدم انتفاع الإنسان بعمل الغير؟ فإنّه غير داخل في منطوق الآية ولا في مفهومها، ولا الآية ناظرة إلى نفيه.

وإن شئت قلت: إنّ الآية بصدد بيان أنّ كلّ إنسان رهن عمله، فإن عمل شراً فلا يتحمّله غيره «ولا تَزرُ وازرةٌ وِزرَ أُخرى»، وإن عمل خيراً فيسعد به ويرى عمله وسعيه ف «الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر» و «مَنْ عَملَصالحاً فلنفسِهِ ومَنْ أساءَ فَعَلَيها» (الجاثية/ 15)، «فَمَنْ يَعملْ مِثقالَ ذرَّةٍ خيراً يَرهُ ومَن يعمَلْ مِثقالَ ذرَّةٍ شرّاً يَرَهُ» (الزلزلة/ 7-/ 8)، وهذه هي الضابطة الأصلية في حياة الإنسان عاجلًا وآجلًا، وليس لأحد رفضها والإعتماد على غيرها، ولكنّه لا ينافي جواز أن يهدي العامل ثواب عمله إلى غيره ويسعد الغير به فهو خارج عن مفاد الآية إيجاباً وسلباً.

وهذا مثل قول الوالد لولده: إنّما تنتفع بتجارتك وسعيك، وإنّ سعي كلّ إنسان له نفسه لا للغير، وهذا لا ينافي أن ينتفع هذا الولد بعمل غيره إذا أهدى إليه ذلك الغير شيئاً من الطعام والفواكه والألبسة بنيات مختلفة، فليس للولد حينئذ أن يعترض على والده ويقول: إنّك قلت إنّك تنتفع بسعيك مع أنّني انتفعت بسعي الغير، إذ للوالد أن يقول: إنّ كلامي في نفس العمل الصادر منك ومن غيرك، فكلّ يملك عمل نفسه


1- التوسّل والزيارة للشيخ محمّد الفقي: 234، والمؤلف من علماء الأزهر الشريف.

ص:90

ولا يتجاوزه، ولكن كلامي هذا ليس ناظر إلى ما لو وهب أحد حصيلة سعيه إليك بطيبة نفسه.

وكيف يمكن أن نقول بما يقوله هذا الوهابي ونظراؤه وقد تضافرت الآيات والأحاديث- كما مر عليك بعضها- بانتفاع الإنسان بعمل الغير في ظروف معيّنه، وتحت شرائط خاصة وإن لم يكن له أدنى سعي فيها.

هذه الآية تشير إلى نكتة وهي: أنّه يجب على الإنسان الاعتماد على السعي والعمل لا على الحسب والنسب، وإلّا يكون المسلم مثل اليهود الذين كانوا يتمنّون تمنّي الحمقى إذ كانوا يعتمدون علىصلتهم وانتمائهم إلى الأنبياء بقولهم: «نَحنُ أبناءُ اللَّهِ وأحبّاؤهُ» (المائدة/ 18) أو قولهم: «لَنْ تَمسَّنا النّار إلّاأيّاماً مَعدودَة» (البقرة/ 80).

نعم، هذه- كما قلنا- ليست ضابطة أصلية في سعادة الإنسان في دنياه وأُخراه، وليس له أن يعتمد عليها ويتخّذها سنداً، وإن كان أمراًصحيحاً في نفسه، وليس كل أمرصحيح يصح أن يعتمد عليه الإنسان ويعيش عليه كشفاعات الأنبياء والأولياء، فلا يجوز ترك العمل بحجة أنّهم يشفعون.

الشبهة الثالثة:

امتناع إسماع الموتى، دلّت بعض الآيات على إمتناع إسماع الموتى كقوله سبحانه: «فإنَّكَ لا تُسمِعُ المَوتى ولا تُسمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا وَلَّوْا مُدبِرينَ» (الروم/ 52).

وقوله: «وما يَستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ إنَّ اللَّهَ يُسمِعُ مَنْ يَشاءُ

ص:91

وما أنتَ بِمُسمِعٍ مَنْ في القُبورِ» (فاطر/ 22).

ولكن الإجابة واضحة بوجهين:

الأول: إنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى الأجساد الموجودة في القبور، فإنّها هي التي لا تسمع ولا تعي، والاتصال لا يكون بيننا وبين هذه الأجساد، بل يتحقق بيننا وبين الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية الباقية الخالدة، وإن تبعثر الجسد وتناثرت أجزاؤه فالأرواح هي التي يُسلّم ويُصلّى عليها وهي التي تسمع وترد.

وأمّا الحضور عند المراقد التي تضمّ الأجساد والأبدان فلأجل أنّه يبعث على التوجّه إلىصاحب تلك الأجساد ويكون أدعى إلى تذكّر خصاله وصفاته، وإلّا فإنّ الارتباط بهم والسلام عليهم يمكن حتى ولو من مكانٍ ناءٍ وبلدٍ بعيد، كما تصرح بعض أحاديث الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

الثاني: إنّ المراد نفي الإنتفاع، وإنّ نفي السماع كناية عنه، بمعنى أنّ هؤلاء يسمعون منك في الواقع ولكنّهم لا ينتفعون من قولك، كما أنّ أهل القبور يسمعون ولكنّهم لا ينتفعون به لفوات أوان السماع والعمل.

أو المراد نفي سماع القبول والإستفادة لا نفي أصل السماع «(1)».

انّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، والسنّة الشريفة تزيل الإبهامات الطارئة على آيات الكتاب العزيز الذي نزل من عند اللَّه الحكيم العليم.

قال ابن القيم: أما قوله تعالى: «وما أنتَ بِمُسمِعٍ مَنْ فِي القُبور» فسياق الآية يدل على المراد منها أنّ الكافر الميت القلب، لا تقدر على إسماعه إسماعاً ينتفع به، كما أنّ من في القبور لا تقدر على إسماعه


1- الدكتور عبد الملك السعدي: البدعة/ 133.

ص:92

إسماعاً ينتفعون به، ولم يرد سبحانه أنّ أصحاب القبور لا يسمعون شيئاً البته، كيف وقد أخبر النبيصلى الله عليه و آله أنّهم يسمعون خفق نعال المشيّعين، وأخبر أنّ قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه، وشرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنّ من سلّم على أخيه المؤمن ردّ عليه السلام.

وقال أيضاً: هذه الآية نظير قوله: «إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوتى ولا تُسمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ولَّوْا مُدبِرينَ» وقد يقال: نفي إسماع الصم، مع نفي إسماع الموتى، يدل على أنّ المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأنّ قلوب هؤلاء لما كانت ميتةصماً، كان إسماعها ممتنعاً وبمنزلة خطاب الميت والأصم، وهذا حقّ، ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت، إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلّقها بالأبدان في وقتٍ مّا، فهذا غير الإسماع المنفي «(1)».

الشهبة الرابعة:

دلّت السنّة على أنّ الإنسان ينقطع عملُه بعد موتهِ إلّاعن أُمور ثلاثة: إذ يقولصلى الله عليه و آله:

«إذا ماتَ الإنسان انقطع عملُه إلّامن ثلاث:صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍصالح يدعو له» وليس عمل الغير أحد هذهِ الأمور الثلاثة، فلا ينتفع به.

يلاحظ عليه:

إن الحديث يدل على أنّ عمل الإنسان ينقطع بموته إلّاعن


1- ابن القيم: الروح/ 45-/ 46.

ص:93

ثلاثة، ولا يدل على أنه لا ينتفع بشي ء من غير هذه الثلاثة، وكم فرق بين القول بالإنقطاع وعدم الإنتفاع، فإن الأوّل ناظر إلى الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حال حياته، فإنها تنقطع بالموت بالضرورة إلّاما كان له وجود استمراري كالأمور الثلاثة، وأما الثاني فهو تعبير أعمّ مّما يقوم به الإنسان بنفسه، أو يقوم به الغير، فلا ينفي الحديث إنتفاع الإنسان بعمل قام به الغير وأهدى ثوابَه إليه.

بعبارة أُخرى: الموضوع في الحديث هو الأعمال التي للإنسان فيها دور مباشر، أو تسبيباً كالولد، وأَمّا الأعمال الخارجة عن هذا الإطار، التي ليست للإنسان فيها أية مدخلية إلّابايجاد الأرضية الصالحة فهي خارجه عن موضوع الحديث.

الشبهه الخامسة:

الحوالة إنما تكون بحق لازم، وهي تتحقق في حوالة المخلوق على المخلوق، وإما حوالة المخلوق على الخالق فأمر آخر، لا يصح قياسه على حوالة العبيد بعضهم على بعض.

الجواب: إن هذا الموقف وهذا الكلام إجتهاد في مقابل النص، فقد تضافرت الأدلة على أنّ الميت ينتفع بعمل الحي، وقد عرفت نصوصه كتاباً وسنة، وبعد هذا فما معنى هذا الإستدلال؟

أضف إليه أنه ليس هناك حوالة مخلوق على الخالق، وإنما هو امتثال لأمره سبحانه بأن نستغفر للمؤمنين ونصوم ونصلي عنهم ونحجّ وننحر عنهم، وإنا لو فعلنا ذلك لانتفع الأموات، ونحن نقوم بذلك حَسب أمر النبي، وليس هناك حوالة مخلوق على اللَّه.

ص:94

هَبْ أنّ الثواب على العمل تفضلي لا استحقاقي وله سبحانه أن لا يعطي شيئاً للعامل، ولكنه سبحانه تفضّل وجعل ثواباً على العّمل ثم رخص في أن يؤتى العمل بنية الميت ومن جانبه وإنه سيصل إليه الثواب، بل وتبرأ ذمته، فلا يصح لنا اللجاج والعناد في مقابل النصوص تعصباً للمنهج.

الشهبة السادسة:

إنّ العبادات على قسمين: قسم يمكن فيه النيابة كالصدقة والحج، وقسم لا يمكن فيه النيابة كالإسلام والصلاة وقراءة القرآن والصيام، فهذا النوع يختصّ ثوابه بفاعله لا يتعداه ولا ينتقل عنه لغيره.

والجواب: إن هذا أيضاً اجتهاد في مقابل النص، فما الدّليل على هذه التفرقة وقد شرّع النبي الصومَ عن الميتِ مع أَنّ الصوم لا تدخله النيابة، واللَّه الذي وعد الثواب للحج والصدقة والعتق يتفضّل بايصال ثوابَ الصيام والصلاة والقراءة وغيرها مما يصح أن يفعله الغير تبرعاً إلى الميت.

وماذا تقولون في قوله صلى الله عليه و آله: «من مات وعليهصيامصام عنه أبيه» وهو حديثصحيح.

وقال البيهقي: قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، عن ابن عباس، وفي رواية بعضهم:

«صومي عن أُمّك».

وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول اللَّه إنّ أُمّي ماتت، وعليهاصيام شهر أفَأَقْضِي عنها؟ فقال

ص:95

النبي صلى الله عليه و آله: «لو كان عليها دين أكنتَ قاضيه عنها؟» قال: نعم، قال: «فدين اللَّه أحق أنْ يُقضى».

وأخرج أصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في «الشعب» والإمام أحمد عنه صلى الله عليه و آله: «يس قلب القرآن ولا يقرأُها رجل يريد اللَّه والدار الآخرة إلّاغفر له واقرأوها عند موتاكم».

وروى البيهقي: أنّ ابن عمر استحب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أول سورة البقرة وخاتمتها.

الشبهة السابعة:

إنّ اللام في قولهم: هذا للنبي أو للإمام أو للولي أو للوالد، هو نفس اللام الموجودة في قولنا: نذرت للَّه، أو للَّه علّي.

وعلى ذلك إن النذر للأموات شرك وعبادة لهم، بحجة اشتراك العملين في الصورة.

ولكن المتوهم غفل عن اختلاف معنى اللام في الموردين: فاللام في قوله هذا للنبي، نفس اللام الوارد في قوله تعالى: «إنما الصدقاتُ للفقراء والمساكين ...» (التوبة/ 60) ويختلف معناها مع الموجود في قوله:

«ربِّ إنّي نذرتُ لكَ مافي بطني محَّرراً» (آل عمران/ 35)، فإن اللام فيه للغاية، وبين المعنيين بون بعيد، والذي يضفي على العمل لون العبادة كون الشخص هو الغاية والمقصد لا المهدى إليه.

ثم يجب أن لا نحصر جواز إهداء الثواب في الأعمال المذكورة في الروايات، بل نعمّم الجواز بحيث يشمل جميع الأعمال، وذلك بالغاء الخصوصية، فكما يجوز إهداء ثواب الصدقة والحج والعتق

ص:96

يجوز إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الموتى.

خاصة وأنّ هناك أحاديث مروية عن أهل البيت عليهم السلام جوّزت مثل هذا العمل، وسوّغت إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الميت، وصرّحت بوصوله إليه وانتفاعهِ به، فلماذا يترك رأي أهل البيت عليهم السلام ويكتفى بقول أحد أئمة المذاهب الأربعة؟!

أفلا ينبغي الرجوع إلى قول أهل البيت عليهم السلام إلى جنب أقوال أئمة المذاهب الأربعة على قدم المساواة؟!

وأظن إن للقوم وراء هذا الإنكار أهدافاً خطيرة، وهو: أن القول بعدم انتفاع الموتى من عمل الأحياء ذريعة لانكار حياتهم، وبالتالي إن الأنبياء والأولياء أموات لا ينتفعون بشي ء مما يقدم إليهم من أحبائهم وشيعتهم.

فإذا كانوا كذلك فما معنى التوسل والإستغاثة بهم وندائهم؟

بحث في النذور:

قد تفضل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فضحّى عن أُمته أَحياءً وأَمواتاً وضحّى الصحابة والتابعون عن نبيهم، فقد أخرج ابن ماجة وعبد الرزاق وغيرهما عن عائشة وأبي هريرة: أن النبي (ص) كان إذا أراد أن يُضحِّي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين ... فذبح أحدهما عن محمّدٍ وآل محمّد والآخر عن أُمته من شهد للَّه بالتوحيد وله بالبلاغ.

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي: أن النبي ذبح بيده وقال:

«اللّهمّ هذا عنّي وعمن لم يُضحِّ من أُمتي» وصريح ذلك وصول الثواب إليهم وانتفاعهم.

ص:97

روى أبو داود بسنده في باب الأضحية عن الميت، عن علي بن أبي طالب: إنه كان يضحي عن النبي بكبش وكان يقول: «أوصاني أن أُضحي عنه فأنا أُضحي عنه» «(1)».

ما يترتب على هذا الأصل:

ويترتب على هذا الأصلصحة عمل المسلمين، حيث يقدمون بأعمال حسنةصالحة، وربما أهدوا ثوابها إلى أحبائهم واعزّتهم الموتى، وهو أمر يوافق عليه الكتاب والسنة، بلصرّحا به تصريحاً.

فما يقوم به المسلمون لموتاهم من إهداء ثواب الأعمال الصالحة لهم، أو ما يفعلونه عند قبور الأنبياء والأولياء من إطعام الطعام، وتسبيل الماء بنيّة أن يصل ثوابُها إليهم إنّما يقتدون فيها بسعد بن عبادة الذي سأل النبي عن حكم الصدقة عن أمِّه أينفعها؟ فقالصلى الله عليه و آله: «نعم»، فقال: فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: «الماء»، فحفر بئراً، وقال: هذه لأُم سعدٍ.

فهم في هذا سعديون لا وثنيون، لا يريدون عبادة الموتى، بل يريدون إيصال الثواب إليهم كما فعل سعد.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين


1- سنن ابي داود ج 2: كتاب الضحايا.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.