الامثال فی القرآن الکریم

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : الامثال فی القرآن الکریم/ تالیف جعفر السبحانی

مشخصات نشر : قم: موسسه الصادق علیه السلام للطباعه و النشر، 1420ق. = 1378.

مشخصات ظاهری : ص 281

شابک : 964-6243-73-8

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : قرآن -- امثال

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : موسسه امام صادق(ع)

رده بندی کنگره : BP84/4/س 2الف 8

رده بندی دیویی : 297/154

شماره کتابشناسی ملی : م 78-16876

المدخل

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

«لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَ تِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»

الحشر: 21

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 5

الأمثال في القرآن

اشارة

وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً:

الأوّل: المثل في اللغة

يظهر من غير واحد من المعاجم، كلسان العرب والقاموس المحيط، أنّ للفظ «المثل» معاني مختلفة، كالنظير والصفة والعبرة وما يجعل مثالًا لغيره يُحذا عليه إلى غير ذلك من المعاني. «1»

قال الفيروز آبادي: المِثْل- بالكسر والتحريك- الشبه، والجمع أمثال؛ والمَثَلُ- محرّكة- الحجة، والصفة؛ والمثال: المقدار والقصاص، إلى غير ذلك من المعاني. «2»

ولكن الظاهر انّ الجميع من قبيل المصاديق، وما ذكروه من باب خلط المفهوم بها وليس للّفظ إلا معنى أو معنيين، والباقي صور ومصاديق لذلك المفهوم، وممن نبَّه على ذلك صاحب معجم المقاييس، حيث قال:

المِثْل والمثَل يدلّان على معنى واحد وهو كون شي ء نظيراً للشي ء، قال ابن

______________________________

(1) لسان العرب: 13/ 22، مادة مثل.

(2) القاموس المحيط: 4/ 49، مادة مثل.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 6

فارس: «مثل» يدل على مناظرة الشي ء للشي ء، وهذا مثل هذا، أي نظيره، والمثل والمثال بمعنى واحد. وربما قالوا: «مثيل كشبيه»، تقول العرب: أمثل السلطان فلاناً، قتله قوداً، والمعنى انّه فعل به مثلما كان فعله.

والمِثْل: المثَل أيضاً، كشِبْه وشبَه، والمثل المضروب مأخوذ من هذا، لأنّه يذكر مورّى به عن مثله في المعنى

وقوله: مَثَّلَ به إذا نكّل، هو من هذا أيضاً، لأنّ المعنى فيه إذا نُكل به: جعل ذلك مثالًا لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه. والمثُلات أيضاً من هذا القبيل، قال اللَّه تعالى: «وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلات» «1» أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله، وواحدها: مُثُل. «2»

وعلى الرغم من ذلك فمن المحتمل أن يكون من معانيه الوصف والصفة، فقد استعمل فيه امّا حقيقة أو مجازاً، وقد نسب ابن منظور استعماله فيه إلى يونس ابن حبيب النحوي (المتوفّى 182 ه)، ومحمد بن سلام

الجمحي (المتوفّى 232 ه)، وأبي منصور الثعالبي (المتوفّى 429 ه). «3»

ويقول الزركشي (المتوفّى 794 ه): إنّ ظاهر كلام أهل اللغة ان المثل هو الصفة، ولكن المنقول عن أبي علي الفارسي (المتوفّى 377 ه) انّ المثل بمعنى الصفة غير معروف في كلام العرب، إنّما معناه التمثيل. «4»

ويدل على مختار الأكثر ما أورده صاحب لسان العرب، حيث قال: قال

______________________________

(1) الرعد: 6.

(2) معجم مقاييس اللغة: 5/ 296.

(3) لسان العرب: 13/ 22، مادة مثل.

(4) البرهان في علوم القرآن: 1/ 490.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 7

عمر بن أبي خليفة: سمعت مُقاتِلًا صاحب التفسير، يسأل أبا عمرو بن العلاء، عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «مَثَلُ الجَنّة»، ما مَثَلُها؟ فقال: «فيهَا أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسن»، قال:

ما مَثَلُها؟ فسكت أبو عمرو.

قال: فسألت يونس عنها، فقال: مَثَلها صفتها، قال محمد بن سلام: ومثل ذلك قوله: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيل» «1» أي صفتهم.

قال أبو منصور: ونحو ذلك روي عن ابن عباس، وأمّا جواب أبي عمرو لمقاتل حين سأله ما مثَلُها، فقال: فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ، ثمّ تكريره السؤال ما مَثَلُها وسكوت أبي عمرو عنه، فانّ أبا عمرو أجابه جواباً مقنعاً، ولما رأى نبوة فَهْمِ مقاتل، سكت عنه لما وقف من غلظ فهمه. وذلك انّ قوله تعالى: «مثل الجنّة» تفسير لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدخِلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهار» «2» وصف تلك الجنات، فقال: مَثَلُ الجنة التي وصفتها، وذلك مثل قوله: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجيل» أي ذلكصفة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في التوراة، ثم أعلمهم أنّ صفتهم في الإنجيل كزرعٍ. «3»

ثمّ إنّ الفرق بين المماثلة والمساواة، ان المساواة

تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين، لأنّ التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، وأمّا المماثلة فلا تكون إلّا في المتفقين. «4»

______________________________

(1) الفتح: 29.

(2) الحج: 14.

(3) لسان العرب: مادة مثل.

(4) لسان العرب: مادة مثل.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 8

وأمّا الفرق بين المماثلة والمشابهة هو انّ الأُولى تستعمل في المتفقين في الماهية والواقعية، بخلاف الثانية فإنّما تستعمل غالباً في مختلفي الحقيقة، المتفقين في خصوصية من الخصوصيات.

وبهذا يعلم انّ التجربة تجري في المتماثلين والمتفقين في الحقيقة، كانبساط الفلز حينما تمسُّه النار، وهذا بخلاف الاستقراء، فانّ مجراه الأُمور المختلفة كاستقراء انّ كل حيوان يتحرك فكه الأسفل عند المضغ، فيتعلّق الاستقراء بمختلفي الحقيقةكالشاة والبقرة والإبل.

وقد تكرر في كلام غير واحد من أصحاب المعاجم ان المَثَل والمثْل سيان، كالشَبَه والشبْه، ومع ذلك كلّه نرى أنّ القرآن ينفي المثْل للَّه، ويقول: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شي ء» «1» وفي الوقت نفسه يُثبت له المثَل، ويقول: «لِلَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ مَثَلُ السُّوءِ وَللَّهِ المَثَلُ الأَعْلى وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيم». «2»

والجواب: انّه لا منافاة بين نفي المِثْل للَّه واثبات المَثَل له؛ أمّا الأوّل، فهو عبارة عن وجود فرد لواجب الوجود يشاركه في الماهية، ويخالفه في الخصوصيات، فهذا أمر محال ثبت امتناعه في محلِّه، وأمّا المَثَلْ فهو نُعوت محمودة يُعرف بها اللَّه سبحانه كأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعلى هذا، المَثَلْ في هذه الآية وما يشابههابمعنى ما يوصف به الشي ء ويعبَّر به عنه، من صفات وحالات وخصوصيات.

فهذه الآية تصرح بأنّ عدم الإيمان بالآخرة مبدأ لكثير من الصفات

______________________________

(1) الشورى: 11.

(2) النحل: 60.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 9

القبيحة، ومصدر كل شر، وفي المقابل انّ الإيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كلّ خير وبركة، فكلّ وصف سوء وقبيح

يلزم الإنسان ويلحقه، فإنّما يأتيه من قبل عدم الإيمان بالآخرة، كما أنّ كلّ وصف حسن يلزم الإنسان ينشأ من الإيمان بها، وبذلك ظهر معنى قوله: «لِلَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة مَثَل السُّوء» الذي يدلّ بالملازمة للذين يؤمنون بالآخرة لهم مثل الحسن.

وأمّا قوله سبحانه: «وَللَّهِ المَثَلُ الأَعلى فمعناه أنّه منزّه من أن يوصف بصفات مذمومة وقبيحة كالظلم، قال سبحانه: «ولا يَظلم رَبُّك أَحداً». «1» وفي الوقت نفسه فهو موصوف بصفات محمودة.

فكلّ وصف يستكرهه الطبع أو يردعه العقل فلا سبيل له إليه، فهو قدرة لا عجز فيها، وحياة لا موت معها إلى غير ذلك من الصفات الحميدة، بخلاف ما يقبله الطبع فهو موصوف به.

وقد أشار إلى ذلك في غير واحد من الآيات أيضاً، قال: «وَلَهُ المَثَلُ الأَعلى فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ» «2»، وقال: «لَهُ الأَسْماءُ الحُسْنى «3»، فالأمثال منها دانية ومنها عالية فإنّما يثبت له العالي بل الأعلى. «4»

ومنه يعلم أنّ الأمثال إذا كان جمع مثْل- بالسكون- فاللَّه سبحانه منزّه من المثْل والأمثال، وأمّا إذا كان جمع مثَل- بالفتح- بمعنى الوصف الذي يحمد به سبحانه، فله الأمثال العليا، والأسماء الحسنى كما مرّ.

______________________________

(1) الكهف: 49.

(2) الروم: 27

(3) طه: 8.

(4) لاحظ: الميزان: 12/ 249.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 10

الثاني: الْمَثَلْ في الاصطلاح

المثل قسم من الحكم، يرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها، ثمّ يتداولها الناس في غير واحد من الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.

فالكلمة الحكيمة على قسمين: سائر منتشر بين الناس ودارج على الألسن فهو المثل، وإلا فهي كلمة حكيمة لها قيمتها الخاصة وإن لم تكن سائرة. فما ربمايقال:

«المثل السائر» فالوصف قيد توضيحي لا احترازي، لأنّ الانتشار والتداول داخل في مفهوم المثل، ويظهر ذلك

من أبي هلال العسكري (المتوفّيحوالي 400 ه)، حيث قال:

جعل كل حكمة سائرة، مَثَلًا، وقد يأتي القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به إلّا انّه لا يتفق أن يسير فلا يكون مَثَلًا. «1»

وكلامه هذا ينم «انّ الشيوع والانتشار وكثرة الدوران على الألسن هو الفارق بين الحكمة والمثل، فالقول الصائب الصادر عن تجربة يسمّى حكمة إذا لم يتداول، ومثلًا إذا كثر استعماله وشاع أداؤه في المناسبات المختلفة».

ولأجل ذلك يقول الشاعر:

ما أنت إلا مثل سائريعرفه الجاهل والخابر

وأمّا تسمية ذلك الشي ء بالمثال، فهو لأجل المناسبة والمشابهة بين الموردين على وجه يُصبح مثالًا لكل ما هو على غراره.

______________________________

(1) جمهرة أمثال العرب: 1/ 5.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 11

قال ابن السكيت (المتوفّى عام 244 ه): المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ، شبّهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره. «1»

وبما انّ وجه الشبه والمناسبة التي صارت سبباً لإلقاء هذه الحكمة غير مختصة بمورد دون مورد، وإن وردت في مورد خاص يكون المثل آية وعلامة أو علماً للمناسبة الجامعة بين مصاديق مختلفة.

يقول المبرّد: فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأوّل، كقول كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لها مَثَلًاوما مواعيدها إلّا الأباطيل

فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد «2».

وعلى ذلك فالمثل السائر كقوله: «في الصيف ضيعتِ اللبن» علم لكل من ضيَّع الفرصة وأهدرها، كما أن قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ينتطح فيها عنزان» علم لكلّ أمر ليس له شأن يعتد به. «3»

كما أنّ قول أبي الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام: «لو ترك القطا ليلًا لنام» الذي تمثل به الإمام عليه السلام في جواب أُخته زينب عليها السلام، علم

لكل من لا يُترك بحالأو من حُمل على مكروه من غير إرادة، إلى غير ذلك من الأمثال الدارجة.

______________________________

(1) مجمع الأمثال: 1/ 6.

(2) مجمع الأمثال: 1/ 6.

(3) مجمع الأمثال: 2/ 225.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 12

الثالث: فوائد الأمثال السائرة

اشارة

ذكر غير واحد من الأُدباء فوائد جمة للمثل السائر:

1. قال ابن المقفّع (المتوفّى عام 143 ه): إذاجعل الكلام مثلًا كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث.

2. وقال إبراهيم النظام (المتوفّى عام 231 ه): يجتمع في المثل أربعة لاتجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة.

وقال غيرهما: سميت الحِكَم القائم صدقها في العقول أمثالًا، لانتصاب صورها في العقول مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب. «1»

وقد نقل ابن قيم الجوزية (المتوفّى عام 751 ه) كلام النظام بشكل كامل، وقال:

وقد ضرب اللَّه ورسوله الأمثال للناس لتقريب المراد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثّل به فقد يكون أقرب إلى تعقّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره، فان النفس تأنس بالنظائر والأشباه وتنفر من الغربة والوحدةوعدم النظير.

ففي الأمثال من تأنس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره، وكلّما ظهرت الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً، فالأمثال شواهد المعنى المراد، وهي خاصية العقل ولبّه وثمرته. «2»

______________________________

(1) مجمع الأمثال: 1/ 6.

(2) أعلام الموقعين: 1/ 291. وما ذكره من الفائدة مشترك بين المثل السائر الذي هو موضوع كلامنا، والتمثيل الذي شاع في القرآن، وسيوافيك الفرق بين المثل السائر والتمثيل.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 13

وقال عبد القاهر الجرجاني (المتوفّى عام 471 ه): اعلم أنّ مما اتّفق العقلاء عليه انّ التمثيل إذاجاء في أعقاب المعاني، أو

أُبرزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أُبّهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً، وقسر الطّباع على أن تُعطيها محبة وشغفاً.

فإن كان ذمّاً: كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشدّ، وحدّه أحد.

وإن كان حجاجاً: كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر.

وإن كان افتخاراً: كان شأوه أمدّ، وشرفه أجد «1»، ولسانه ألد.

وإن كان اعتذاراً: كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ، ولغَرْب الغضب أفلّ، وفي عُقد العقود أنفث، وحسن الرجوع أبعث.

وإن كان وعظاً: كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر أن يجلي الغياية «2» ويُبصّر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل. «3»

4. وقال أبو السعود (المتوفّى عام 982 ه): إنّ التمثيل ليس إلّا إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهور، وتحلية المعقول بحلية المحسوس، وتصوير أوابد المعاني بهيئة المأنوس، لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفيّة، وفهم الدّقائق الأبيّة كي يتابعه فيما يقتضيه،

______________________________

(1) من الجد: الحظ، يقال: هو أجدّ منك، أي أحظ.

(2) الغياية: كل ما أظلك من فوق رأسك.

(3) أسرار البلاغة: 101- 102.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 14

ويشايعه إلى ما لا يرتضيه، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية والكلمات النبوية، وذاعت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء.

إن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبيّ، وقمع سورة الجامح الابيّ، كيف لا، وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبرازها لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف. «1»

ولعلّ في هذه

الكلمات غنى وكفاية فلا نطيل الكلام، غير انّه يجب التنبيه على نكتة، وهي ان السيوطي نقل في «المزهر» عن أبي عبيد انّه قال:

الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق بكناية. «2»

ولا يخفى انّ الأمثال ليست من خصائص العرب فحسب، بل لكلّ قوم أمثال وحكم يقرِّبون بها مقاصدهم إلى إفهام المخاطبين ويبلغون بها حاجاتهم، وربما يشترك مَثَلٌ واحد بين أقوام مختلفة ويصبح من الأمثال العالمية، وربما تبلغ روعة المثل بمكان يقف الشاعر أمامه مبهوراً فيصب مضمونه في قالب شعري.

روى الطبري عن مهلب بن أبي صفرة، قال: دعا المهلَّب حبيباً ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة. «3»

وليس المهلب أوّل من ساق هذا المثل على لسانه، فقد سبقه غيره إليه.

______________________________

(1) هامش تفسير الفخر الرازي: 1/ 156، المطبعة الخيرية، ط الأُولى، مصر- 1308 ه.

(2) المزهر: 1/ 288.

(3) تاريخ الطبري: حوادث سنة 82 ه.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 15

روى أبو هلال العسكري في جمهرته، عن قيس بن عاصم التميمي (المتوفّى عام 20 ه) الأبيات التالية التي تعرب بأنّ المثل صبّ في قالب الشعر أيضاً:

بصلاح ذات البين طول بقائكم ان مُد في عمري وإن لم يمدد

حتى تلين قلوبكم وجلودكم لمسوّد منكم وغير مسوّد

انّ القداح إذا جمعن فرامهابالكسر ذو حنق وبطش باليد

عزّت فلم تكسر وان هي بددت فالوهن والتكسير للمتبدّد «1»

وقد نقل المسعودي في ترجمة عبد الملك بن مروان، وقال:

كان الوليد متحنّناً على إخوته، مراعياً سائر ما أوصاه به عبد الملك، وكان كثير الإنشاد لأبيات قالها عبد الملك حين كتب وصيته، منها:

انفوا الضغائن عنكم

وعليكم عند المغيب وفي حضور المشهد

انّ القداح إذا اجتمعن فرامهابالكسر ذو حنق وبطش باليد

عزّت فلم تكسر وإن هي بددت فالوهن والتكسير للمتبدّد «2»

______________________________

(1) جمهرة الأمثال: 1/ 48.

(2) مروج الذهب: أخبار الوليد بن عبد الملك الامثال فى القرآن الكريم، ص: 16

الكتب المؤلّفة في الأمثال العربية

وقد أُلّفت في الأمثال العربية قديمها وحديثها كتباً كثيرة، وأجمع كتاب في هذا المضمار هو ما ألّفه أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الميداني (المتوفّى عام 518 ه) وأسماه ب «مجمع الأمثال» لإحتوائه على عظيم ما ورد منها وهي ستة آلاف ونيف. «1»

الرابع: الأمثال القرآنية

دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن مشتمل على الأمثال، وانّه سبحانه ضرب بها مثلًا للناس للتفكير والعبرة، قال سبحانه: «لَوْ أَنْزَلْنا هذا الْقُرآنَ عَلى جَبلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْربُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفكَّرون». «2»

إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على وجود الأمثال في القرآن، وانّ الروح الأمين نزل بها، وكان مَثَلًا حين النزول على قلب سيد المرسلين، هذا هو المستفاد من الآيات.

ومن جانب آخر انّ المثل عبارة عن كلام أُلْقيَ في واقعة لمناسبة اقتضت إلقاء ذلك الكلام، ثمّ تداولت عبر الزمان في الوقائع التي هي على غرارها، كما هو الحال في عامة الأمثال العالمية.

______________________________

(1) مجمع الأمثال: 1/ 5.

(2) الحشر: 21.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 17

وعلى هذا فالمثل بهذا المعنى غير موجود في القرآن الكريم، لما ذكرنا من أنّ قوام الأمثال هو تداولها على الألسن وسريانها بين الشعوب، وهذه الميزة غير متوفرة في الآيات القرآنية.

كيف وقد أسماه سبحانه مثلًا عند النزول قبل أن يعيها النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويقرأها للناس ويدور على الألسن، فلا مناص من تفسير المثل في القرآن بمعنى آخر، وهو التمثيل القياسي الذي تعرّض إليه علماء البلاغة في علم البيان وهو قائم بالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وقد سمّاه القزويني «في تلخيص المفتاح» المجاز المركب وقال:

إنّه اللفظ المركب المستعمل فيما شُبِّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه، ثمّ مثل

بما كتب يزيد بن وليد إلى مروان بن محمد حين تلكأ عن بيعته: أمّا بعد، فإنّي أراك تقدّم رجلًا وتؤخّر أُخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت، والسلام. «1»

فلهذا التمثيل من المكانة ما ليس له لو قصد المعنى بلفظه الخاص، حتى أنّه لو قال مثلًا: بلغني تلكّؤك عن بيعتي، فإذا أتاك كتابي هذا فبايع أو لا، لم يكن لهذا اللفظ من المعنى بالتمثيل، ما لهذا.

فعامة ما ورد في القرآن الكريم من الأمثال فهو من قبيل التمثيل لا المثال المصطلح.

ثمّ إنّ الفرق بين التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز أمر واضح لا حاجة لإطناب الكلام فيه، وقد بيّنه علماء البلاغة في علم البيان، كما طرحه أخيراً علماء

______________________________

(1) الإيضاح: 304؛ التلخيص: 322.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 18

الأُصول في مباحث الألفاظ، ولأجل ذلك نضرب الصفح عنه ونحيل القارئ الكريم إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.

ويظهر من بعضهم انّ التمثيل من معاني المثل، قال الآلوسي: المثل مأخوذ من المثول- و هو الانتصاب- و منه الحديث «من أحبّ أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوّأ مقعده من النار» ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إمّا على تشبيه بلا شبيه أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة نافعة، أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز. «1»

ولولا قوله «الشائع» لانطبقت العبارة على التمثيل القياسي.

«وقد امتازت صيغة المثل القرآني بأنّها لم تنقل عن حادثة معينة، أو واقعة متخيلة، أُعيدت مكرورة تمثيلًا، وضرب موردها تنظيراً، وإنّما ابتدع المثل القرآني ابتداعاً دون حذو احتذاه، و بلا مورد سبقه فهو تعبير فني جديد ابتكره القرآن حتى عاد صبغة متفردة في الأداء والتركيب والإشارة».

«وعلى هذا فالمثل في القرآن الكريم ليس من قبيل المثل

الاصطلاحي، أو من سنخ ما يعادله لفظاً ومعنى، الفقر بالأمثال بمضمونه، بل هو نوع آخر أسماه القرآن مثلًا من قبل أن نعرف علوم الأدب «المثل»، و من قبل أن تسمّي به نوعاًمن الكلام المنثور وتضعه مصطلحاً له. بل من قبل أن يعرف الأُدباء «المثل» بتعريفهم». «2»

______________________________

(1) روح المعاني: 1/ 163.

(2) الصورة الفنية في المثل القرآني: 72، نقلًا عن كتاب المثل لمنير القاضي.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 19

الخامس: أقسام التمثيل

قد عرفت أنّ التمثيل عبارة عن إعطاء منزلة شي ء لشي ء عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو المجاز أو غير ذلك، فهو على أقسام:

1. التمثيل الرمزي: وهو ما ينقل عن لسان الطيور والنباتات والأحجار بصورة الرمز والتعمية ويكون كناية عن معاني دقيقة، وهذا النوع من التمثيل يعج بها كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع، وقد استخدم هذا الأُسلوب الشاعر العارف العطار النيشابوري في كتابه «منطق الطير».

ويظهر من الكتاب الأوّل انّه كان رائجاً في العهود الغابرة قبل الإسلام، وقد ذكر المؤرّخون انّ طبيباً إيرانياً يدعى «برزويه» وقف على كتاب «كليلة ودمنة» في الهند مكتوباً باللغة السنسكريتية ونقلها إلى اللغة البهلوية، وأهداه إلى بلاط أنوشيروان الساساني، وقد كان الكتاب محفوظاً بلغته البهلوية إلى أن وقف عليه عبد اللَّه بن المقفع (106- 143 ه) فنقله إلى اللغة العربية، ثمّ نقله الكاتب المعروف نصر اللَّه بن محمد بن عبد الحميد في القرن السادس إلى اللغة الفارسية وهو الدارج اليوم في الأوساط العلمية.

نعم نقله الكاتب حسين واعظ الكاشفي إلى الفارسية أيضاً في القرن التاسع ومن حسن الحظ توفر كلتا الترجمتين.

وقام الشاعر «رودكي» بنظم، ما ترجمه ابن المقفع، باللغة الفارسية.

ويظهر من غير واحد من معاجم التاريخ انّه تطرق بعض ما في هذا الكتاب من الأمثلة إلى

الأوساط العربية في عصر الرسالة أوبعده، وقد نقل انّ عليّاً عليه السلام قال: «إنّما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض» وهو من أمثال ذلك الكتاب.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 20

وهناك محاولة تروم إلى أنّ القصص القرآنية كلّها من هذا القبيل أي رمز لحقائق علوية دون أن يكون لها واقعية وراء الذهن، وبذلك يفسرون قصة آدم مع الشيطان، وغلبة الشيطان عليه، أو قصة هابيل وقابيل وقتل قابيل أخاه، أو تكلم النملة مع سليمان عليه السلام، وغيرها من القصص، وهذه المحاولة تضاد صريح القرآن الكريم، فانّه يصرح بأنّها قصص تحكي عن حقائق غيبيبة لم يكن يعرفها النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا غيره، قال سبحانه:

«لَقَدْكانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولي الأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَي ءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون». «1»

فالآية صريحة في أنّ ما جاء في القصص ليس أمراً مفترىً، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن بأجمعه هو الحقّ الذي لا يدانيه الباطل.

2. التمثيل القصصي: وهو بيان أحوال الأُمم الماضية بغية أخذ العبر للتشابه الموجود. يقول سبحانه: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثلًا لِلّذِينَ كَفَرُوا امرأةَ نُوحٍ وَامرأةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيئاً وقِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلِين». «2»

والقصص الواردة في أحوال الأُمم الغابرة التي يعبر عنها بقصص القرآن، هي تشبيه مصرّح وتشبيه كامن والغاية هي أخذ العبرة.

3. التمثيل الطبيعي: وهو عبارة عن تشبيه غير الملموس بالملموس، والمتوهم بالمشاهد، شريطة أن يكون المشبه به من الأُمور التكوينية، قال سبحانه: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِفَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ مِمّا

______________________________

(1) يوسف: 111.

(2) التحريم: 10.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 21

يَأْكُلُ

النّاسُ وَالأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيّنَت وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون». «1»

والأمثال القرآنية تدور بين كونها تمثيلًا قصصيّاً، أو تمثيلًا طبيعيّاً كونيّاً. وأمّا التمثيل الرمزي فإنّما يقول به أهل التأويل.

السادس: الأمثال القرآنية في الأحاديث

إنّ الأمثال القرآنية بما أنّها مواعظ وعبر قد ورد الحث على التدبر فيها عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، ننقل منها مايلي:

1. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «قد جرّبتم الأُمور وضرستموها، ووعظتم بمن كان قبلكم، وضُربت الأمثال لكم، ودعيتم إلى الأمر الواضح، فلا يصمّ عن ذلك إلا أصمّ، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى، ومَن لم ينفعه اللَّه بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشي ء من العظة». «2»

2. وقال عليه السلام: «كتاب ربّكم فيكم، مبيّناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره وأمثاله». «3»

3. قال أمير المؤمنين عليه السلام: «نزل القرآن أرباعاً: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام». «4»

______________________________

(1) يونس: 24.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 176.

(3) نهج البلاغة: الخطبة 81.

(4) بحار الأنوار: 24/ 305 ح 1، باب جوامع تأويل ما نزل فيهم عليهم السلام.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 22

4. روى الإمام الصادق عليه السلام عن جده أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال لقاض: «هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟»، قال: لا، قال: «فهل أشرفت على مراد اللَّه عزّ وجل في أمثال القرآن؟»، قال: لا، قال: «إذاً هلكت وأهلكت». والمفتي يحتاج إلى معرفةمعاني القرآن وحقائق السنن وبواطن الإشارات والآداب والإجماع والاختلاف والاطّلاع على أُصول ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، ثم حسن الاختيار ثم العمل الصالح ثم الحكمة ثم التقوى ثم

حينئذٍ إن قدر. «1»

5. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «سمّوهم بأحسن أمثال القرآن، يعني: عترة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، هذا عذب فرات فاشربوا، وهذا ملح أُجاج فاجتنبوا». «2»

6. وقال علي بن الحسين عليهما السلام في دعائه عند ختم القرآن:

«اللّهمّ انّك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته- إلى أن قال:- اللّهم اجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً، ومن نزعات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً، ولأقْدامِنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً، ولما طوت الغفلة عنّا من تصفح الاعتبار ناشراً، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه وزواجر أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله». «3»

7. وقال علي بن الحسين عليهما السلام في مواعظه: «فاتّقوا اللَّه عباد اللَّه، واعلموا أنّ اللَّه عزّ وجلّ لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ولم يرغّبهم فيها و في عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنّما خلق الدُّنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيّهم

______________________________

(1) بحار الأنوار: 2/ 121 ح 34، باب النهي عن القول بغير علم من كتاب العلم.

(2) بحار الأنوار: 92/ 116، الباب 12 من كتاب القرآن.

(3) الصحيفة السجادية: من دعائه عليه السلام عند ختم القرآن.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 23

أحسن عملًا لآخرته، وأيم اللَّه لقد ضرب لكم فيه الأمثال وصرّف الآيات لقوم يعقلون ولا قوّة إلّا باللَّه». «1»

8. وقال الإمام الباقر عليه السلام لأخيه زيد بن علي: «هل تعرف يا أخي من نفسك شيئاً مما نسبتها إليه فتجيئ عليه بشاهد من كتاب اللَّه، أو حجّة من رسول اللَّه، أو تضرب به مثلًا، فانّ

اللَّه عز وجلّ أحلَّ حلالًا وحرّم حراماً، فرض فرائض، وضرب أمثالًا، وسنَّ سنناً». «2»

9. روي الكليني عن إسحاق بن جرير، قال: سألتني امرأة أن استأذن لها على أبي عبد اللَّه عليه السلام فأذن لها، فدخلت ومعها مولاة لها، فقال: يا أبا عبد اللَّه قول اللَّه عزّ وجلّ:

«زَيتُونةٍ لا شَرْقيةٍ وَلا غَرْبية» «3» ما عني بهذا؟ فقال: «أيّتها المرأة إنّ اللَّه لم يضرب الأمثال للشجر إنّما ضرب الأمثال لبني آدم». «4»

10. روى داود بن كثير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: «يا داود إنّ اللَّه خلقنا فأكرم خلقنا وفضلنا وجعلنا أُمناءه وحفظته وخزّانه على ما في السماوات وما في الأرض، وجعل لنا أضداداً وأعداءً، فسمّانا في كتابه وكنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء وأحبها إليه، وسمّى أضدادنا وأعداءنا في كتابه وكنّى عن أسمائهم وضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه ...». «5»

هذه عشرة كاملة من كلمات أئمّتنا المعصومين حول أمثال القرآن.

***______________________________

(1) الكافي: 8/ 75.

(2) بحار الأنوار: 46/ 204، الباب 11.

(3) النور: 35.

(4) الكافي: 5/ 551، الحديث 2، باب السحق من كتاب النكاح.

(5) البحار: 24/ 303، الحديث 14.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 24

وقد حازت الأمثال القرآنية على اهتمام المفكرين، فذكروا حولها كلمات تعرب عن أهمية الأمثال ومكانتها في القرآن:

1. قال حمزة بن الحسن الاصبهاني (المتوفّى عام 351 ه): لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر، شأن ليس بالخفي في إبراز خفيّات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق، تريك المتخيَّل في صورة المتحقق، والمتوهَّم في معرض المتيقن، والغائب كأنّه مشاهد، وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة، وقمع لسورة الجامح الابيّ، فانّه يؤثر في القلوب مالا يؤثِّر وصف الشي ء في نفسه ولذلك أكثر اللَّه تعالى في كتابه

وفي سائر كتبه الأمثال، ومن سور الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال وفشت في كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم وكلام الأنبياء والحكماء. «1»

2. قال الإمام أبو الحسن الماوردي (المتوفّى عام 450 ه): من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والنّاس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال، وإغفالهم الممثَّلات، والمثل بلا ممثَّل كالفرس بلا لجام والناقة بلا زمام. «2»

3. قال الزمخشري (المتوفّى عام 538 ه) في تفسير قوله سبحانه: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» «3»: وضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر، إلى آخر ما نقلناه عن الاصبهاني. «4»

4. وقال الرازي (المتوفّى عام 606 ه): «إن المقصود من ضرب الأمثال انّها

______________________________

(1) الدرّة الفاخرة في الأمثال السائرة: 1/ 59- 60 والعجب ان هذا النص برمّته موجود في الكشاف في تفسير قوله سبحانه: «فَما رَبِحَتْ تِجارتهم وَما كانُوا مُهْتَدين مَثَلُهُمْ كَمَثل الَّذي استَوقَدَ ناراً» (انظر الكشاف: 1/ 149).

(2) الإتقان في علوم القرآن: 2/ 1041.

(3) البقرة: 17.

(4) الكشّاف: 1/ 72.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 25

تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشي ء في نفسه، وذلك لأنّ الغرض في المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل، وذلك في نهاية الإيضاح، ألا ترى أنّ الترغيب إذا وقع في الإيمان مجرداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مُثِّل بالنور، وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول، كما يتأكد إذا مثل بالظلمة، وإذا أخبر بضعف أمر من الأُمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الإخبار بضعفه مجرداً، ولهذا أكثر اللَّه تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه أمثاله، قال تعالى:

«وَتِلْكَ الأَمْثال نَضْرِبها لِلنّاس» «1». «2»

5. وقال الشيخ عزالدين عبدالسلام (المتوفّى عام 660 ه): إنّما ضرب اللَّه الأمثال في القرآن، تذكيراً ووعظاً، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب، أو على إحباط عمل، أو على مدح أو ذم أو نحوه، فإنّه يدل على الاحكام. «3»

6. وقال الزركشي (المتوفّى عام 794 ه): وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود مالا يخفى، إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والشاهد بالغائب، فالمرغب في الإيمان مثلًا، إذا مثّل له بالنور تأكّد في قلبه المقصود، والمزهَّد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه وفيه أيضاً تبكيت الخصم، وقد أكثر اللَّه تعالى في القرآن، وفي سائر كتبه من الأمثال. «4»

لكن يرد على ما ذكره الزمخشري والرازي والزركشي أنّ ما ذكروه راجع إلى

______________________________

(1) العنكبوت: 43.

(2) مفاتيح الغيب: 2/ 72- 73.

(3) الإتقان في علوم القرآن: 2/ 1041.

(4) البرهان في علوم القرآن: 1/ 488.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 26

نفس الأمثال لا إلى الضرب بها، فانّ الأمثال شي ء وضرب الأمثال شي ء آخر، لأنّ إبراز المتخيل بصورة المحقّق، والمتوهم في معرض المتيقن، ليس من مهمة ضرب الأمثال، وإنّما هي مهمة نفس الأمثال، «وذلك انّ المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرّها، والمثل هو الذي يفصل إجمالها، ويوضح إبهامها، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها ومشكاة الهداية ونبراسها». «1»

السابع: الكتب المؤلفة في الأمثال القرآنية

ولأجل هذه الأهمية التي حازتها الأمثال القرآنية، قام غير واحد من علماء الإسلام القدامى منهم والجدد، بتأليف رسائل وكتب حول الأمثال القرآنية نذكر منها ما وقفنا عليه.

1. «أمثال القرآن» للجنيد بن محمد القواريري (المتوفّى سنة 298 ه).

2. «أمثال القرآن» لإبراهيم بن محمد بن عرفة بن مغيرة المعروف بنفطويه

(المتوفّى سنة 323 ه).

3. «الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة» لحمزة بن الحسن الاصبهاني (المتوفّى 351 ه).

4. «أمثال القرآن» لأبي علي محمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي (المتوفّى عام 381 ه).

5. «أمثال القرآن» للشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن حسين السلمي النيسابوري (المتوفّى عام 412 ه).

______________________________

(1) تفسير المنار: 1/ 237.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 27

6. «الأمثال القرآنية» للإمام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي (المتوفّى سنة 450 ه).

7. «أمثال القرآن» للشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (المتوفّى سنة 754 ه). وقد طبعت مؤخّراً.

8. «الأمثال القرآنية» لعبد الرحمن حسن حنبكة الميداني.

9. «أمثال القرآن» للمولى أحمد بن عبد اللَّه الكوزكناني التبريزي (المتوفّى عام 1327 ه). المطبوعة على الحجر في تبريز عام 1324 ه.

10. «أمثال القرآن» للدكتور محمود بن الشريف.

11. «الأمثال في القرآن الكريم» للدكتور محمد جابر الفياضي. وقد طبعت مؤخّراً.

12. «الصورة الفنية في المثل القرآني» للدكتور محمد حسين علي الصغير. وقد طبعت مؤخّراً.

13. «أمثال قرآن» (بالفارسية) لعلي أصغر حكمت. وقد طبعت مؤخّراً.

14. «تفسير أمثال القرآن» (بالفارسية) للدكتور إسماعيل إسماعيلي. وقد طبعت مؤخّراً.

الثامن: تقسيم الأمثال القرآنية إلى الصريح و الكامن

اشارة

ذكر بدر الدين الزركشي ان الأمثال على قسمين: ظاهر وهو المصرح به، وكامن وهو الذي لا ذكر للمثل فيه وحكمه حكم الأمثال. «1»

وقد نقل السيوطي ذلك النص بنفسه وحاول تفسير المثل الكامن، وقال ما

______________________________

(1) البرهان في علوم القرآن: 1/ 571.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 28

هذا نصّه: فمن أمثلة الأوّل، قوله تعالى: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذي اسْتَوقَدَ ناراً ...» «1» ضرب فيها للمنافقين مثلين: مثلًا بالنار ومثلًا بالمطر- ثمّ قال-: وأما الكامنة: فقال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم، يقول: سمعت أبي يقول:

سألت الحسين بن فضل، فقلت: إنّك

تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب اللَّه: «خير الأُمور أوسطها»؟ قال: نعم في أربعة مواضع:

قوله تعالى: «لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ». «2»

وقوله تعالى: «وَالّذينَ إِذا أَنْفَقُوا لم يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا وكانَ بَيْنَ ذلِكَ قِواماً». «3»

وقوله تعالى: «وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ». «4»

وقوله تعالى: «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبيلًا». «5»

قلت: فهل تجد في كتاب اللَّه «من جهل شيئاً عاداه»؟ قال: نعم، في موضعين:

«بَل كَذّبُوا بما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ». «6»

______________________________

(1) البقرة: 17- 20.

(2) البقرة: 68.

(3) الفرقان: 67.

(4) الإسراء: 29.

(5) الإسراء: 110.

(6) يونس: 39.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 29

«وَإِذ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَديم». «1»

قلت: فهل تجد في كتاب اللَّه «احذر شر من أحسنت إليه»؟ قال: نعم.

«وما نَقمُوا إِلّا أن أغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ». «2»

قلت: فهل تجد في كتاب اللَّه «ليس الخبر كالعيان»؟ قال: في قوله تعالى: «قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قال بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبي». «3»

قلت: فهل تجد «في الحركات البركات»؟ قال: في قوله تعالى: «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبيلِ اللَّهِ يَجِدْفي الأَرْضِ مُراغَماً كَثيراً وَسَعَة». «4»

قلت: فهل تجد «كما تدين تدان»؟ قال: في قوله تعالى: «مَنْ يعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه». «5»

قلت: فهل تجد فيه قولهم «حين تَقْلي تدري»؟ قال: «وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حينَ يَرَونَ العَذابَ مَن أَضلُّ سَبِيلًا». «6»

قلت: فهل تجد فيه: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين»؟ قال: «هَلْ آمنُكُمْ عَليهِ إِلا كَما أَمِنتُكُمْ عَلى أَخيهِ مِنْ قَبْلُ». «7»

قلت: فهل تجد فيه «من أعان ظالماً سُلِّط عليه»؟ قال: «كَتَبَ عَليهِ أَنَّهُ مَنْ

______________________________

(1) الأحقاف: 11.

(2) التوبة: 74.

(3) البقرة: 260.

(4) النساء: 100.

(5) النساء: 123.

(6) الفرقان: 42.

(7) يوسف: 64.

الامثال فى القرآن الكريم، ص:

30

تَوَلّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعير». «1»

قلت: فهل تجد فيه قولهم: «ولا تلد الحية إلا حيّة»؟ قال: قوله تعالى: «وَلا يَلِدُوا إِلا فاجِراً كَفّاراً». «2»

قلت: فهل تجد فيه: «للحيطان آذان»؟ قال: «وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ». «3»

قلت: فهل تجد فيه: «الجاهل مرزوق والعالم محروم»؟ قال: «مَنْ كانَ فِي الضَّلالةِ فلَيَمْدُد لَهُ الرَّحْمنُ مَدّاً». «4»

قلت: فهل تجد فيه: «الحلال لا يأتيك إلا قوتاً، والحرام لا يأتيك إلا جزافاً»؟ قال:

«إِذْتَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَومَ سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَومَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهم» «5». «6»

وقد أخذ عليه «بأنّه لو حققْتَ النظر فيما أورده الماوردي، لما وجدت مثلًا قرآنياً واحداً بالمعنى الذي يراد التعبير عنه بأنّه مثل كامن، على أنّ الماوردي لم ينقل عن الحسين بن الفضل بأنّ متخيّره هذا مثل كامن، ولاسمَّى الماوردي ذلك به، وإنّما أورد رواية للمقارنة بما يمكن أن يعد امثالًا من كلام العرب والعجم ووضع قائمة مختارة ازاءه من كتاب اللَّه بما يبذ كلامهم ويعلو على أمثالهم.

فالتسمية إذن اختارها السيوطي متابعاً فيها الزركشي. وطبّق عليها هذه

______________________________

(1) الحج: 4.

(2) نوح: 27.

(3) التوبة: 47.

(4) مريم: 75.

(5) الأعراف: 163.

(6) الإتقان في علوم القرآن: 2/ 1045- 1046.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 31

الأمثلة. فهي فيما عنده أمثال كامنة ولكنّه من الواضح ان هذه العبارات القرآنية لا تدخل في باب الأمثال، فان اشتمال العبارة على معنى ورد في مثل من الأمثال، لا يكفي لإطلاق لفظ المثل على تلك العبارة، فالصيغة الموروثة ركن أساسي في المثل، لذلك نرى أنّ اصطلاح العلماء على تسمية هذه العبارات القرآنية (أمثالًا كامنة) محاولة لا تستند على دليل نصي ولا تاريخي. «1»

تفسير آخر للمثل الكامن:

ويمكن تفسير المثل الكامن بالتمثيلات التي وردت في الذكر الحكيم من دون أن يقترن بكلمة «مثل» أو «كاف»

التشبيه، ولكنّه في الواقع تمثيل رائع لحقيقة عقلية بعيدة عن الحسن المجسد بما في التمثيل من الأمر المحسوس، ومن هذا الباب قوله سبحانه:

1. «أَفَمَنْ أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَن أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بهِ في نارِجَهَنَّم وَاللَّهُ لا يَهْدي القَوم الظّالِمين». «2» انّه سبحانه شبَّه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فانّه ينهار بناءه في الماء ولا يثبت، فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنم، فالآية تدل على أنّه لا يستوي عمل المتقي وعمل المنافق، فانّ عمل المؤمن المتقي ثابت مستقيم مبني على أصل صحيح ثابت، وعمل المنافق ليس بثابت وهو واه ساقط. «3»

______________________________

(1) الصورة الفنية في المثل القرآني: 118، نقلًا عن كتاب «الأمثال في النثر العربي القديم».

(2) التوبة: 109.

(3) مجمع البيان: 3/ 73.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 32

2. «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَروا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدخُلُونَ الجنَّةَ حتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِين». «1» كانت العرب تمثل للشي ء البعيد المنال، بقولهم: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، وحتى يبيض القار، إلى غير ذلك من الأمثال. يقول الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب

ولكنّه سبحانه مثل لاستحالة دخول الكافر الجنة بأنّهم يدخلون لو دخل الجمل في ثقب الإبرة، وقال: ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، معبراً عن كونهم لا يدخلون الجنة أبداً.

ففي الآية تمثيل وليس لها من لفظ المثل وحرف التشبيه أثر.

3. «وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُون». «2» إنّ هذا مثل

ضربه اللَّه تعالى للمؤمن والكافر فأخبر بأنّ الأرض كلّها جنس واحد، إلا أنّ منها طيّبة تلين بالمطر، ويحسن نباتها ويكثر ريعها، ومنها سبخة لا تنبت شيئاً، فإن أنبتت فممّا لا منفعة فيه، وكذلك القلوب كلّها لحم ودم ثمّ منها لين يقبل الوعظ ومنها قاس جاف لا يقبل الوعظ، فليشكروا اللَّه تعالى من لانَ قلبه بذكره. «3»

______________________________

(1) الأعراف: 40.

(2) الأعراف: 58.

(3) مجمع البيان: 2/ 432.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 33

وفي ذيل الآية «كَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيات» إلمام إلى كونه تمثيلًا، كما في الآية التالية.

4. قال سبحانه: «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمراتِ وَأَصابَهُ الكِبَر وَلَهُ ذُرِّيّةٌ ضُعفاءُ فَأَصابَها إعصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون». «1»

أخرج البخاري عن ابن عباس، قال: قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيمن ترون هذه الآية نزلت «أَيَوَدُّ أَحدكُمْ أَنْ تَكُون لَهُ جَنَّة مِنْ نَخيل وَأَعْناب»؟

قالوا: اللَّه أعلم، فغضب عمر، و قال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شي ء، فقال: يابن أخي: قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلًا لعملٍ، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لرجل غني عمل بطاعة اللَّه، ثم بعث اللَّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله. «2»

وحصيلة البحث: انّ التمثيل الوارد في القرآن الكريم، تارة يقترن بكلمة المثل، وأُخرى يقترن به مع لفظ الضرب حيث اختار سبحانه مادة الضرب لقسم كبير من أمثال القرآن، وثالثة بحرف كاف التشبيه، ورابعة بذكر مادة المثل بدون اقتران بواحد منهما مثل قوله: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يخْرجُ نَباتهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالّذِي خَبُثَ

لا يَخرجُ إِلا نَكِداً». «3»

______________________________

(1) البقرة: 266.

(2) صحيح البخاري: التفسير: تفسير سور ة البقرة، باب قوله: «أيودّ أحدكم» رقم 4264.

(3) الأعراف: 58. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 34

التاسع: ما هو المراد من ضرب المثل؟

قد استعمل الذكر الحكيم كلًا من لفظي «المَثَل» و «المِثْل» في غير واحد من سوره وآياته حتى ناهز استعمالهما ثمانين مرة، إلّا أنّ الثاني يزيد على الأوّل بواحد. والأمثال جمع لكليهما ويميّزان بالقرائن قال سبحانه: «إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» «1». وهو في المقام، جمع المِثْل لشهادة انّه يحكم على آلهتهم بأنّها مثلهم في الحاجة والإمكان.

وقال سبحانه: «تِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لعلّهُمْ يَتفَكَّرُون». «2»

فاقتران الأمثال بلفظ الضرب، دليل على أنّه جمع مَثَل. إلّا أنّ المهم هو دراسة معنى «الضرب» في هذا المورد ونظائره، فكثيراً ما يقارن لفظ المثل لفظ الضرب، يقول سبحانه: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا». «3» وقال سبحانه: «وَلَقَدْضَرَبْنا للنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون». «4»

وقد اختلفت كلمتهم في تفسير لفظ «الضرب» في هذا المقام، بعد اتّفاقهم على أنّه في اللغة بمعنى إيقاع شي ء على شي ء، ويتعدّى باليد أو بالعصى أو بغيرهما من آلات الضرب، قال سبحانه: «أَنِ اضْرِب بِعَصاكَ الْحَجَر» «5» وقد ذكروا وجوهاً:

الأوّل: انّ الضرب في هذه الموارد بمعنى المَثَل، والمرا د هو التَمثيل، وهو

______________________________

(1) الأعراف: 194.

(2) الحشر: 21.

(3) إبراهيم: 24.

(4) الزمر: 27.

(5) الأعراف: 160.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 35

خيرة ابن منظور واستشهد بقوله: «واضْربْ لَهُمْ مَثَلًا أَصحابَ القَرْيَةِ إِذْ جاءَها الْمُرسَلُون» «1» أي مثّل لهم مثلًا وهو حال أصحاب القرية، وقال: «يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَ وَالباطِل» «2» أي يمثل اللَّه الحقّ والباطل. «3» وهذا خيرة صاحب القاموس أيضاً.

الثاني: انّ الضرب بمعنى الوصف والبيان، وقد حكي عن مقاتل بن سليمان، وفسر به

قوله سبحانه: «وضَرَبَ اللَّه مَثلًا عَبداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَي ء». «4» واستشهد بقول الكميت:

وذلك ضرب أخماس اريدت لأسداس عسى أن لا تكونا «5»

الثالث: انّ الضرب بمعنى الاعتماد والتثبيت، وهو خيرة الشيخ الطوسي «6» (385- 460 ه) والزمخشري «7» والآلوسي «8» (المتوفّى عام 1270) فقد فسروا به قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ». «9»

الرابع: ان الضرب في المقام من باب الضرب في الأرض وقطع المسير،

______________________________

(1) يس: 13

(2) الرعد: 17.

(3) لسان العرب: 2/ 37، مادة ضرب.

(4) النحل: 75.

(5) تفسير الطبري: 1/ 175

(6) التبيان في تفسير القرآن: 7/ 302.

(7) الكشاف: 2/ 553.

(8) روح المعاني: 1/ 206.

(9) الحج: 73.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 36

وضرب المثل عبارة عن جعله سائراً في البلاد كقولك: ضرب في الأرض إذا صار فيها، ومنه سمي الضارب مضارباً. «1»

فإذا كان الضرب بمعنى قطع الأرض وطيّها، فضرب المثل عبارة عن جعله شيئاً سائراً بين الأقوام والشعوب يمشي ويسير حتى يستوعب القلوب.

وفي المقام كلمة لابن قيم، يوضح فيها أكثر هذه الاحتمالات:

ضرب اللَّه سبحانه لعباده، الأمثال، وضرب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لأُمّته الأمثال، وضرب الحكماء والعلماء والمؤدِّبون الأمثال، فما معنى ضرب المثل؟

قد يكون مشتقاً من قولك (ضرب في الأرض) أي سار فيها.

فمعنى ضرب المثل جعله ينتشر ويذيع ويسير في البلاد. وإلى هذا ذهب أبو هلال في مقدمة كتابه. «2»

وقد يكون معنى «ضرب المثل» نصبه للناس بإشهاره لتستدل عليه خواطرهم كما تستدل عيونهم على الأشياء المنصوبة. واشتقاقه حينئذٍ من قولهم: (ضربت الخباء) إذا نصبته.

وقوله تعالى: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالباطل» «3» أي ينصب منارهما ويوضح أعلامهما ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه. ويعرفون الباطل فيجتنبوه، كما قال الشريف الرضيّ (359- 406 ه) في كتابه

«تلخيص البيان في مجازات القرآن»:

______________________________

(1) الحكم والأمثال: 79.

(2) انظر مقدمة كتاب جمهرة الأمثال.

(3) الرعد: 17.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 37

وقد يفهم من ضرب المثل صنعه وإنشاؤه، فيكون مشتقاً من ضرب اللِّبْنِ وضرب الخاتم.

أو قد يكون من الضرب بمعنى: إبقاء شي ء على شي ء. «1»

ومنه ضرب الدراهم: أي إيقاع النموذج الذي به الصّكُ على الدراهم لتنطبع به، فكأنّ المثل مطابق للحالة، أي للصفة التي جاء لإيضاحها، وخلاصة القول: ضرب المثل مأخوذ: إمّا من:

1. ضرَب في الأرض بمعنى: سار.

2. ضربه: نصبه للناس وأشهره.

3. ضرب: صنع وأنشأ.

4. ضرب: إبقاء شي ء على مثال شي ء. «2»

وبذلك يعلم تفسير قوله سبحانه: «... وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلّا رَجُلًا مَسْحُوراً* انْظُر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا». «3»

نرى أنّ المشركين وصفوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم بكونه رجلًا مسحوراً، فيرد عليه سبحانه باستنكار ويقول: «انظر- أيّها النبي- كيف ضربوا لك الأمثال» أي كيف وصفوك بأنّك مسحور مع أنّ سيرتك تشهد على خلاف ذلك، وما تتلوا من الآيات كلامه سبحانه لا صلة له بالسحر وانّ ما يجدونه خلَّاباً للعقول وآخذاً بمجامع القلوب فإنّه هو لأجل عذوبته وجماله وإعجازه الخارق وأين هو من السحر؟!

______________________________

(1) تلخيص البيان في مجازات القرآن: 107.

(2) الأمثال في القرآن الكريم: 20- 21.

(3) الفرقان: 8- 9.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 38

وعلى ذلك فالمعنى المناسب لتفسير الآية، هو تفسير الضرب بالوصف، وقد تقدم انّ الوصف من أحد معانيه وأقرّ به ابن منظور: ان انظر كيف وصفوك بكونك مسحوراً.

وأمّا تفسيره بالتمثيل بأن يقال: انظر كيف مثّلوا لك المثال أو التمثيل، فغير تام، لأنّ وصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بكونه «مسحوراً»، لا مثَل سائر، ولا تمثيل قياسي.

ونظيره تفسيره بقطع الأرض، لأنّ

المشركين ما وصفوه به ليشهروه حتى يصير قولهم «سيراً في الأرض».

العاشر: الأمثال القرآنية وانسجامها مع البيئة

لا شكّ انّ كلّ خطيب يتأثر بالظروف التي يعيش فيها، وبسهولة يمكن فرز كلام المدني عن القروي، وكلامهما عن كلام البدوي، وما ذاك إلّا لأنّ البيئة تُعدّ أحد الأضلاع الثلاثة التي تُكوِّن شخصية الإنسان، و من هذا الجانب أصبح بإمكان المحقّق الخبير بالتاريخ أن يميز الشعر الجاهلي عن الشعر في العصر الإسلامي، و الشعر في العصر الأموي عن الشعر في العصر العباسي، وما هذا إلّا نتيجة انعكاسات البيئة على التراث الأدبي، ولكن القرآن بما انّه كلامه سبحانه قد تنزّه عن هذه الوصمة، لأنّ اللَّه سبحانه خالق كلّ شي ء فهو منزّه من أن يتأثر بشي ء سواه.

ومع ذلك كلّه نزلت الأمثال القرآنية لهداية الناس ولذلك روعي فيها الغايات التي نزلت لأجلها، فنجد ان الطابع المكي يعلو هامة الأمثال المكية، والطابع المدني يعلو هامة الأمثال المدنية.

أمّا الأمثال المكية، فكانت دائرة مدار معالجة الأدواء التي ابتلي بها المجتمع

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 39

المكي لا سيما وانّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يجادل المشركين ويسفِّه أحلامهم ويدعوهم إلى الإيمان باللَّه وحده وترك عبادة غيره، والإيمان باليوم الآخر. ففي خِضمِّ هذا الصراع يأتي القرآن بأروع مثل ويشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسّكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام النسيم الهادئ، وقطرات المطر، وهبوب الرياح.

يقول سبحانه: «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَولياء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيتاً وإِنَّ أَوهَنَ الْبُيُوتِ لَبيتُ العَنْكَبُوتِ لو كانُوا يَعْلَمون». «1»

فقد شبه آلهتهم التي اتخذوها حصوناً منيعة لأنفسهم بخيوط العنكبوت، وبذلك صغّرهم وذلّلهم.

كما أنّه سبحانه في آية أُخرى شبّه آلهتهم بالذباب، وقال: «يا أَيُّهَا النّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا له

إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعوا لَهُ وان يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوب». «2»

فقد كانت قريش تعبد 360 إلهاً يطلونهم بالزعفران فيجف، فيأتي الذباب فيختلسه فلا يقدرون عن الدفاع عن أنفسهم، ففي هذا الصدد، قال سبحانه: «ضعف الطالب والمطلوب» أي الذباب والمدعوّ.

فأي مثل أقرع من تشبيه آلهتهم بهذه الحشرة الحقيرة. ولقد مضى على الناس منذ ضرب لهم كتاب الإسلام هذا المثل أربعة عشر قرناً، وما يزال المثل القرآني يتحدَّى كل جبروت الغزاة وعبقرية العلماء، وما يزال على الذين غرّهم الغرور بما حقّق إنسان العصر الحديث من معجزات العلم، أن ينسخوا ذلك، بأن يجتمعوا

______________________________

(1) العنكبوت: 41.

(2) الحج: 73.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 40

فيخلقوا ذباباً، أو يستنقذوا شيئاً سلبتهم إيّاه هذه الحشرة الضئيلة التي تقتلها ذرة من هواء مشبع بمُبيد الحشرات، وتستطيع مع ذلك أن تسلب مخترع المبيد حياته، بلمسة هيّنة خاطفة تحمل إليه جرثومة داء مميت. «1»

هذا في مجال الرد على عبادتهم للأوثان والأصنام، أمّا في مجال ركونهم إلى الدنيا والإعراض عن الآخرة، يستعرض مثلًا يشير فيه إلى أنّ الدنيا ظل زائل وليست خالدة، قال سبحانه: «إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرض مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَها وَازّيّنَتْ وَظَنّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَليها أَتاها أَمْرُنا لَيلًا أو نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفكَّرُون». «2» هذا بعض ما يمكن أن يقال حول الأمثال التي نزلت في مكة. وأمّا الأمثال التي نزلت في المدينة، فقد نجد فيها الطابع المدني لأجل انّها بصدد علاج الأدواء التي ابتلي بها المجتمع يومذاك وهي الأدواء الخلقية مكان الشرك والوثنية،

أو مكان إنكار الحياة الأُخروية، فلذلك ركّز الوحي على معالجة هذا النوع من الأدواء بالتمثيلات التي سنشير إليها. فقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم في مهجره مبتلياً بالمنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بغية الإطاحة بالحكومة الإسلامية الفتيّة، وفي هذا الصدد نرى أنّ الأمثال المدنية تطرقت في آيات كثيرة إلى المنافقين و بيّنت خطورة موقفهم على الإسلام والمسلمين، فتارة يضرب اللَّه سبحانه لهم مثلًا بالنار وأُخرى بالمطر، يقول سبحانه: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ

______________________________

(1) الصورة الفنية في المثل القرآني: 99، نقلًا عن كتاب «القرآن وقضايا الإنسان» لبنت الشاطئ.

(2) يونس: 24.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 41

بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبْصِرُون* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون* أَوْكَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِفِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللَّهُ مُحيطٌ بِالكافِرين». «1» كان المجتمع المدني يضمُّ في طياته طوائف ثلاث من اليهود وهم: بنو قينُقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة؛ وقد جبلوا على المكر والحيلة والغدر، وكانوا يقرأون سمات النبي صلى الله عليه و آله و سلم في توراتهم، ويمرّون عليها مرار الأُمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة، وهذه السمة أدت إلى أن يشبّههم سبحانه بالحمار الذي يحمل أسفاراً قيمة دون أن يستفيدوا منها شيئاً، يقول سبحانه: «مَثَلُ الّذِينَ حُمِّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَومَ الظالِمين». «2» وأمّا المسلمون الذين عاصروا النبي صلى الله عليه و آله و سلم فكانوا بحاجة إلى هداية إلهية تصلح أخلاقهم، فقد كان البعض منهم ينفقون أموالهم رئاءً دون ابتغاء مرضاة اللَّه، أو ينفقونها بالمنِّ والأذى، فنزل

الوحي الإلهي بمثل خاص يبيّن موقف المنفق في سبيل اللَّه والمنفق بالمن والأذى أو رئاء الناس، قال سبحانه: «مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مائةُ حَبّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليم». «3»

وقال سبحانه: «يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لاتُبْطِلُوا صَدقاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذى كَالّذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوانٍ عَليه

______________________________

(1) البقرة: 17- 19.

(2) الجمعة: 5.

(3) البقرة: 261.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 42

تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَركَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ على شَي ءٍ مِمّا كَسَبوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقومَ الكافِرِين». «1» هذه إلمامة خاطفة لملامح الأمثال القرآنية التي نزلت قبل الهجرة وبعدها، وسيوافيك البحث في تلك الأمثال عند تفسير الآيات واحدة تلو الأُخرى.

الحادي عشر: استنكار الأمثال القرآنية

يظهر من بعض الآيات انّ بعض المخاطبين بالأمثال كانوا يستنكرونها ويستغربون منها، و ما ذلك إلا لأنّ المثل كان يكشف عن نواياهم ويبيّن واقع عقيدتهم، ويسفِّه أحلامهم، فيبعث فيهم القلق والاضطراب، ذلك عندما يجمع سبحانه في أمثاله تارة بين الذباب و العنكبوت والبعوضة- كما مرّ- وأُخرى بين الكلب والحمار:

كقوله سبحانه:

«فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْب انْ تَحْمِل عَلَيهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث». «2»

«مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُوا التَّوراة ثمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً». «3» وقد نقل سبحانه استنكارهم، وقال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوقَها فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدي بِهِ كَثيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلا

______________________________

(1) البقرة: 264.

(2) الأعراف: 176.

(3) الجمعة: 5.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 43

الفاسِقين». «1»

قال الزمخشري: والتمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعاني، وإدناء المتوهّم من الشاهد، فإن كان المتمثَّل

له عظيماً كان المتمثّل به مثله، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك. «2»

وربما سرت تلك الشبهة إلى عصرنا الحاضر، فقد استغرب بعضهم من ضرب المثل بالحشرات والأُمور الحقيرة الضئيلة، ولكنّه غفل عن أنّ العبرة في ضرب الأمثال ليس بأدواتها وآلاتها، وإنّما بمكنوناتها وغاياتها، وما يدرينا بسرّ الإعجاز في التركيب الجثماني للبعوضة، مثلًا، وما فيه من إبداع وتحد وإعداد، ولعل فيه من الإنجاز الخلقي ما لا نشاهده بأكثر الأجسام ضخامة وكبراً، على أن المبدع لها جميعاً هو اللَّه وكفى «واللَّه رب الصغير والكبير وخالق البعوضة والفيل، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل، انّها معجزة الحياة، معجرة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا اللَّه على أنّ العبرة في المثل ليست في الحجم، إنّما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير، وليس في ضرب الأمثال ما يعاب، وما من شأنه الاستحياء من ذكره. واللَّه- جلت حكمته- يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس. «3»

الثاني عشر: التمثيلات القرآنية

قد عرفت أنّ المثل السائر غير التمثيل الوارد في القرآن الكريم، وانّه

______________________________

(1) البقرة: 26.

(2) الإتقان في علوم القرآن: 2/ 1042.

(3) في ظلال القرآن: 1/ 57.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 44

سبحانه عند ما يقول: «وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفكَّرون» «1» يريد التمثيل لا المثل السائر، وهذه التمثيلات هي نمط آخر من علوم القرآن وباب عظيم من معارفه.

وقد ألّف غير واحد في توضيح رموزها كتباً ورسائل، ذكرنا أسماءها في قائمة خاصة، ولعلّ ما لم أقف عليه أكثر من ذلك.

ولأجل إيقاف القارئ الكريم على الآيات التي سنتناولها بالبحث في هذا الكتاب، نذكر التمثيلات القرآنية حسب ترتيب السور التي وردت فيها، وقد تحمّل عبأ جمعها الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتابه «الصورة الفنية في المثل القرآني»

على الرغم من ذلك فقد فاته بعض الآيات:

1. «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لايُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون». «2» 2. «أَوْكَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوتِ وَاللَّهُ مُحيطٌ بِالكافِرين* يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوا فيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَو شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدير». «3»

3. «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمّا الّذينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمّا الّذينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدي بِهِ كَثيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلا الفاسِقينَ* الّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ

______________________________

(1) الحشر: 21.

(2) البقرة: 17- 18.

(3) البقرة: 19- 20.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 45

بَعْدِ ميثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرونَ». «1» 4. «وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الّذي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلّا دُعاءً وَنداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون». «2» 5. «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَما يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّه قَريبٌ». «3»

6. «أَو كَالّذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيي هذهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مائةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوماً أَوْ بَعْضَ يَومٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُر إلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُر 3 إِلى حِمارِكَ وَلنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُر 3 إِلى العِظامِ كَيْفَ نَنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها

لَحْماً فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قالَ أَعلَم أَنّ اللَّه عَلى كُلّ شَي ءٍ قَديرٌ». «4» 7. «مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ». «5»

8. «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذى كَالّذي يُنْفِقُ مالَهُ رئاءَ النّاسِ ولا يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَليهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ

______________________________

(1) البقرة: 26- 27.

(2) البقرة: 171.

(3) البقرة: 214.

(4) البقرة: 259.

(5) البقرة: 261.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 46

وابِلٌ فَتَركَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّاكَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الكافِرينَ». «1» 9. «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ». «2» 10. «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُلَهُ فيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفكَّرُون». «3» 11. «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». «4» 12. «مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ في هذهِ الحَيوةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ ريحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ». «5» 13. «أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرينَ ما كانُوا يَعمَلُون». «6»

______________________________

(1) البقرة: 264.

(2) البقرة: 265.

(3) البقرة: 266.

(4) آل عمران: 59.

(5) آل عمران: 117.

(6) الأنعام: 122.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 47

14. «وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ

الآياتِ لِقَومٍ يَشْكُرُونَ». «1» 15. «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ* ساءَ مَثَلًا القَومُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ». «2» 16. «إِنَّما مَثَلُ الحَياةِالدُّنْيا كَماءٍأَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرنا لَيلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كأنْ لَمْ تغن بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ». «3» 17. «مَثَلُ الفَريقَينِ كَالأَعْمى وَالأَصَمّ وَالْبَصيرِ وَالسَّميعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ». «4»

18. «لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الماءِلِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَمَا دُعاءُ الكَافِرينَ إِلا في ضَلالٍ». «5»

______________________________

(1) الأعراف: 58.

(2) الأعراف: 175- 177.

(3) يونس: 24.

(4) هود: 24.

(5) الرعد: 14.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 48

19. «أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيِهِ فِي النّار ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ في الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ». «1»

20. «مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الكافِرِينَ النّارُ». «2»

21. «مَثَلُ الّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍاشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في يَومٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا على شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعيد». «3»

22. «أَلَمْ تَرَكيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ* تُؤْتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون».

«4» 23. «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبيثةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوقِ الأَرْضِ مَالَها مِنْ قَرار». «5» 24. «وَسَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الّذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الأَمْثالَ». «6»

______________________________

(1) الرعد: 17.

(2) الرعد: 35.

(3) إبراهيم: 18.

(4) إبراهيم: 24- 25.

(5) إبراهيم: 26.

(6) إبراهيم: 45.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 49

25. «للَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة مَثَلُ السَّوْءِوَللَّهِ المَثَلُ الأَعلى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ». «1»

26. «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ على شَي ءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوونَ الحَمدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ». «2» 27. «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شي ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَولاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». «3»

28. «وَلاتَكُونُوا كَالَّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّه بِهِ وَليُبيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فيهِ تَخْتَلِفُونَ». «4»

29. «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرتْ بِأَنْعُمِ اللَّه فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالخَوفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ». «5» 30. «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَينِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُما زَرْعاً* كِلْتَا الْجَنَّتينِ أَتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهْراً* وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً* وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذه أَبَداً* وَما

______________________________

(1) النحل: 60.

(2) النحل: 75.

(3) النحل: 76.

(4) النحل: 92.

(5) النحل: 112.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 50

الامثال فى القرآن الكريم 99

أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لأجِدَنَّ خَيراً مِنْها مُنْقَلَباً*

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلًا* لَكِنّا هُوَ اللَّهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً* وَلَولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلّا باللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً* فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتصبِحَ صَعيداً زَلَقاً* أَوْ يُصْبِحَ مَاؤهَا غَوراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً* وَأُحِيطَ بِثَمَرهِ فَأَصْبَحْ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفقَ فِيهَا وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكَ بِرَبِّي أَحَداً* وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصراً* هُنالِكَ الولايَةُ للَّهِ الحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً». «1»

31. «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَماءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِفَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً». «2»

32. «يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذباباً وَلَوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ». «3»

33. «اللَّهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأْنَّها كَوكَبٌ دُرِيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرةٍ مُبارَكةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقيةٍ وَلا غَرْبيةٍ يَكادُ زَيْتُها يِضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يِهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثالَ لِلنّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ». «4»

______________________________

(1) الكهف: 32- 44.

(2) الكهف: 45.

(3) الحج: 73.

(4) النور: 35.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 51

34. «وَالَّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ». «1»

35. «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّىّ يَغْشاهُ مَوجٌ مِنْ فَوقِهِ مَوجٌ مِنْ

فَوقِهِ سَحابٌ ظُلماتٌ بَعْضُها فَوقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ». «2»

36. «مَثَلُ الَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَولياءَ كَمَثلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ». «3» 37. «وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ». «4»

38. «ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعقِلُونَ». «5» 39. «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرى الْفُلْكَ فيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون». «6»

______________________________

(1) النور: 39.

(2) النور: 40.

(3) العنكبوت: 41.

(4) الروم: 27.

(5) الروم: 28.

(6) فاطر: 12.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 52

40. «وَما يَسْتَوي الأَعْمى وَالْبَصيرُ* وَلا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ* وَلا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ* وَما يَسْتَوِي الأَحْياءُ وَلا الأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ». «1» 41. «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَها الْمُرْسَلُونَ* إِذْأَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ* قالُوا ما أَنْتُمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلّا تَكْذِبُونَ* قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لمُرسَلُونَ* وَما عَلَيْنا إِلا الْبَلاغُ الْمُبينُ* قالُوا إِنّا تَطَيَّرنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمسَّنكُمْ مِنّا عَذابٌ أَليمٌ* قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ* وَجاءَمِنْ أَقْصَى الْمَدينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قالَ يا قَومِ اتَّبعُوا الْمُرسَلينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَماليَ لا أَعْبُدُ الَّذي فَطَرني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ

آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُم شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونَ* إِنّي إِذاً لَفي ضَلالٍ مُبينٍ* إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَومي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لي رَبِّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمين* وَما أَنْزَلْنا عَلى قَومِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ* إِنْ كانَتْ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ* يا حَسْرَةً عَلَى العِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ». «2» 42. «أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبينٌ* وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظامَ وَهِيَ رَميمٌ* قُلْ يُحْيِيها الَّذي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ». «3»

______________________________

(1) فاطر: 19- 22.

(2) يس: 13- 30.

(3) يس: 77- 79.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 53

43. «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فيهِ شُركاءُ مُتَشاكِسونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَويانِ مَثلًا الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ». «1» 44. «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجهُهُ مُسْودّاً وَهُوَ كَظيمٌ* أَوَ مَنْ يُنَشَّؤُا في الحِلْيَةِ وَهُوَ في الخِصامِ غَيْرُ مُبينٍ». «2» 45. «فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعين* فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثلًا للآخِرِينَ». «3»

46. «وَلَما ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثلًا إذا قَومُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ* وَقالُوا أآلهتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلّا جَدلًا بَلْ هُمْ قَومٌ خَصِمُونَ* إِنْ هُوَ إِلّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثلًا لِبَني إِسْرائيلَ». «4» 47. «ذلِكَ بِأنَّ الَّذينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الَّذينَ آمَنُوا اتَّبعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ». «5»

48. «مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَالْمُتَّقُونَ فيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَير آسنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّر طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى وَلَهُمْ فيها مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ

مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُوا ماءً حَميماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ». «6»

______________________________

(1) الزمر: 29.

(2) الزخرف: 17- 18.

(3) الزخرف: 55- 56.

(4) الزخرف: 57- 59.

(5) محمد: 3.

(6) محمد: 15.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 54

49. «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِالسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ في الإِنْجِيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطأهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُّ الزرّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّارَوَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظيماً». «1»

50. «اعْلَمُوا أَنَّما الحَياةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَالأَولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَما الحَياةُ الدُّنيا إِلا مَتاعُ الْغُرُورِ». «2» 51. «كَمَثَلِ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَريباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ». «3» 52. «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُر فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنّي بَري ءٌ مِنْكَ إِنّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمينَ». «4»

53. «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصدِّعاً مِنْ خَشيةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ». «5»

______________________________

(1) الفتح: 29.

(2) الحديد: 20.

(3) الحشر: 15.

(4) الحشر: 16.

(5) الحشر: 21.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 55

54. «مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُأَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدي القَومَ الظّالِمينَ». «1» 55. «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأة لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلينَ». «2»

56. «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلّذِينَ آمَنُوا امْرأةَ فِرْعَونَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً في الجَنَّةِ وَنَجِّني مِنْ فِرْعَونَ

وَعَمَلِهِ وَنَجِّني مِنَ الْقَومِ الظّالِمينَ* وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرانَ الّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ القانِتين». «3»

57. «وَما جَعَلَنا أَصحابَ النّارِإِلا مَلائِكةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلّا فِتْنَةً لِلّذينَ كَفَروا لِيَسْتَيقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذينَ آمَنُوا إِيماناً ولا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقولَ الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُ اللَّهُ مَنْ يَشاءُوَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَما هِيَ إِلا ذِكْرى لِلْبَشَرِ». «4»

هذا ما ذكره الكاتب، ولكنّه غير جامع إذ هناك آيات تتضمن تمثيلًا وإن لم

______________________________

(1) الجمعة: 5.

(2) التحريم: 10.

(3) التحريم: 11- 12.

(4) المدثر: 31.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 56

يشتمل على لفظ المثل أو حرف التشبيه ولكن التمثيل برَّمة أركانه موجود فيها، قال سبحانه: «الّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسّ» «1». فشبّه آكل الربا بمن مسَّه الجن فصار مذعوراً لا يملك عقله ونفسه. إلى غير ذلك من الآيات.

قال بعض العلماء: ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أُمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره بصورة المحسوس، فانّ الأمثال تصوّر المعاني بصورة الأشخاص، لأنّها أثبت في الذهن لاستعانة الذهن فيها بالحواس، ومن ثمّ كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليّ و الغائب بالشاهد.

وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعليالثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر وتحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله. «2»

ثمّ إنّ الآيات التي جاء فيها التصريح بالمثل، عبارة عن الآيات التالية:

1. «وَلَقَدْ صَرَّفنا لِلنّاسِ في هذا القُرآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل». «3»

2. «وَلَقَدْ صَرّفنا في هذَا القُرآنِ لِلنّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَل». «4»

3. «وَللَّهِ الْمَثَلُ الأعْلى وَهُوَ الْعَزيزُالحَكِيمُ». «5»

4. «وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ

وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم». «6»

______________________________

(1) البقرة: 275.

(2) رياض السالكين: 5/ 461.

(3) الإسراء: 89.

(4) الكهف: 54.

(5) النحل: 60.

(6) الروم: 27.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 57

5. «وَلَقَدْضَرَبْنا لِلنّاسِ في هذا الْقُرآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل». «1»

6. «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذكَّرون». «2»

7. «كَذلِكَ يَضْرِب اللَّهُ الأَمْثال». «3»

8. «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذكَّرون». «4»

9. «وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِم وَضَرَبْنا لَكُمُ الأَمْثال». «5»

10. «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثالَ لِلنّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَي ءٍ عَليم». «6»

11. «وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلا الْعالمون». «7» 12. «وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتفَكَّرُونَ». «8»

13. «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ». «9»

14. «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبيّناتٍ وَمَثلًا مِنَ الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقين». «10»

15. «وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلّا جِئْناكَ بِالحَقّ وَأَحْسَنَ تَفسيراً». «11» ولكن الأمثال أعم مما ورد فيه لفظ المثل أو كاف التشبيه كما مرّ.

______________________________

(1) الروم: 58.

(2) الزمر: 27.

(3) الرعد: 17.

(4) إبراهيم: 25.

(5) إبراهيم: 45.

(6) النور: 35.

(7) العنكبوت: 43.

(8) الحشر: 21.

(9) محمد: 3.

(10) النور: 34.

(11) الفرقان: 33. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 58

الثالث عشر: الآيات التي تجري مجرى المثل

القرآن الكريم كلّه حكمة وعظة، بلاغ وعبرة، وقد قام غير واحد من المحقّقين باستخراج الحكم الواردة فيه التي صارت أمثالًا سائرة عبر القرون لتداولها على الألسن في حياتهم العملية. وقد سبق منّا القول إنّ هذه الآيات لم تنزل بوصف المثل، لأنّ المثل عبارة عن كلام تداولته الألسن فصار به أمثالًا سائرة دارجة، ومن الواضح أنّ الحكم الواردة في القرآن نزلت من دون سبق مثال لها، فلم تكن يوم نزولها موصوفة بوصف المثل، وانّما أُضفي عليها هذا الوصف عبر مرِّ الزمان وتداول الألسن.

ثم إنّ جعفر بن شمس الخلافة «1» (المتوفّى عام 622 ه) عقد باباً في

ألفاظ القرآن الجارية مجرى المثل، ونقله السيوطي عنه في كتاب «الإتقان»، وقال: وهذا هو النوع البديعي المسمّى بإرسال المثل.

وإليك ما أورده من هذا الباب:

1. «وَعَسى أَنْ تكرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ». «2»

2. «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة». «3»

3. «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها». «4»

______________________________

(1) هو أبو الفضل جعفر بن محمد شمس الخلافة الأفضلي البصري المتولّد عام 543 ه، ترجمه ابن خلكان في «وفيات الأعيان» مؤلف كتاب «الآداب» وهو كتاب وجيز في الحكم والأمثال من النثر والنظم طبع في مصر عام 1349 ه.

(2) البقرة: 216.

(3) البقره: 249.

(4) البقرة: 286.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 59

4. «لَنْ تَنالُوا البِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّون». «1»

5. «ما عَلى الرَّسُولِ إِلا البَلاغُ». «2»

6. «قُلْ لا يَسْتَوي الْخَبيثُ وَالطَّيِّب». «3»

7. «لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٍ». «4»

8. «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيراً لأسمَعَهُمْ». «5»

9. «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل». «6»

10. «الآن وَقَدْ عَصَيْتَ قبلُ». «7»

11. «أَلَيْسَ الصُّبحُ بِقَرِيب». «8»

12. «قُضِي الأَمْرُ الَّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيان». «9»

13. «الآن حَصْحَصَ الحَقّ». «10»

14. «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه». «11»

15. «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداك». «12»

16. «ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوب». «13»

17. «كُلُّ حِزبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُون». «14»

______________________________

(1) آل عمران: 92.

(2) المائدة: 99.

(3) المائدة: 100.

(4) الأنعام: 67.

(5) الأنفال: 23.

(6) التوبة: 91.

(7) يونس: 91.

(8) هود: 81.

(9) يوسف: 41.

(10) يوسف: 51.

(11) الإسراء: 84.

(12) الحج: 10.

(13) الحج: 73.

(14) الروم: 32.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 60

18. «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْر». «1»

19. «وَقليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُور». «2»

20. «وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُون». «3»

21. «وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبير». «4»

22. «وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِ ءُ إِلا بِأَهْلِهِ». «5»

23. «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ». «6»

24. «لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُون». «7»

25. «وَقَليلٌ ما هُمْ». «8»

26. «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّه كاشِفَة».

«9»

27. «هَلْ جَزاءُ الإِحْسان إِلّا الإِحْسان». «10»

28. «فَاعْتَبِرُوا يا أُولي الأَبْصار». «11»

29. «تَحْسَبُهُمْ جَميعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى . «12»

30. «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَة». «13»

______________________________

(1) الروم: 41.

(2) سبأ: 13.

(3) سبأ: 54.

(4) فاطر: 14.

(5) فاطر: 43.

(6) يس: 78.

(7) الصافات: 61.

(8) ص: 24.

(9) النجم: 58.

(10) الرحمن: 60.

(11) الحشر: 2.

(12) الحشر: 14.

(13) المدثر: 38.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 61

هذا ما نقله السيوطي في «الإتقان» عن كتاب «الآداب» لجعفر بن شمس الخلافة، ولكن المذكور في كتاب «الآداب» ما يناهز 69 آية، وقد صارت هذه الآيات في عصره أمثالًا سائرة. «1»

ثمّ إنّ شهاب الدين محمد بن أحمد أبا الفتح الابشيهي المحلي (790- 850 ه) في كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف» ذكر من حِكم القرآن التي تجري مجرى الأمثال أكثر مما نقله السيوطي في إتقانه عن كتاب الآداب.

قال صاحب المستطرف: إنَّ الأمثال من أشرف ما وصل به اللبيب خطابه، وحلي بجواهره كتابه، وقد نطق كتاب اللَّه تعالى وهو أشرف الكتب المنزلة بكثير منها، ولم يخل كلام سيدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عنها، وهو أفصح العرب لساناً وأكملهم بياناً، فكم في إيراده وإصداره من مثل يعجز عن مباراته في البلاغة كلّ بطل، .... فمن أمثال كتاب اللَّه، قوله تعالى: «لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّون»، «الآن حَصْحَصَ الحَق»، و «قُضِي الأَمْرُ الذي فيهِ تَسْتَفْتِيان» إلى آخر ما ذكره. «2»

ثمّ إنّ بعض من ألّف في أمثال القرآن، استدرك عليهما الحِكم التي صارت مثلًا بين الناس والتي يربو عددها على 245 آية. «3»

كما أنّ الدكتور محمدحسين الصغير ذكر في خاتمة كتابه من هذه المقولة فبلغ 495 آية. «4»

ولكن الذي فاتهم هو التركيز على أنَّ هذه الآيات لم تكن

أمثالًا يوم نزولها،

______________________________

(1) الإتقان: 2/ 1046 النوع السادس والستون.

(2) المستطرف في كلّ فن مستظرف: 1/ 27.

(3) أمثال القرآن، علي أصغر حكمت.

(4) الصورة الفنّية في المثل القرآني: 387- 402.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 62

بل كانت حِكماً وإنّما جاءت مثلًا حسب مرِّ الزمان.

وأخيراً نزيد أنّ هناك آيات أُخرى غير ما تقدَّم أكثر تداولًا على الألسن في أكثر البلاد الإسلامية نشير إلى قسم منها، وربما يوجد بعض منها فيما ذكره مؤلف الآداب، وهذه الآيات هي:

1. «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا». «1»

2. «هذا فراقٌ بَيْنِي وَبَيْنِك». «2»

3. «نُورٌ عَلى نُور». «3»

4. «وَ ما عَلى الرَّسُولِ إِلّا البَلاغ». «4»

5. «يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ». «5»

6. «هَلْ يَسْتَوي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُون». «6»

7. «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ». «7»

8. «هَلْ جَزاء الإِحْسانِ إِلّا الإِحسانُ». «8»

9. «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُون». «9»

10. «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِين». «10»

هذه آيات عشر صارت مثلًا سائراً بين أكثر المسلمين.

______________________________

(1) الأعراف: 31.

(2) الكهف: 78.

(3) النور: 35.

(4) النور: 54.

(5) الروم: 19.

(6) الزمر: 9.

(7) الفتح: 10.

(8) الرحمن: 60.

(9) الصف: 2.

(10) الكافرون: 6.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 63

ثم إنّ المحقّق بهاء الدين العاملي (953- 1030 ه) عقد فصلًا تحت عنوان «فيما ورد من كتاب اللَّه تعالى مناسباً لكلام العرب» ويريد بذلك انّ هناك معادلات في كلام العرب لما جاء في القرآن من الحكم، وذكر الآيات والأمثال التالية:

أ: العرب تقول في وضوح الأمر: «قد وضح الصبح لذي عينين».

وقال اللَّه تعالى: «الآن حَصْحَصَ الحَقّ». «1»

ب: وتقول العرب في فوات الأمر: «سبق السيف العدل».

قال اللَّه تعالى: «قُضِيَ الأَمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتيان». «2»

ج: وتقول في تلافي الإساءة «عاد غيث على ما أفسد».

قال اللَّه تعالى: «مكانَ السَّيئةِ الحَسنة». «3»

د: وتقول في الإساءة لمن

لا يقبل الإحسان: «اعط أخاك ثمرة فإن أبى فجمرة».

وقال تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِين». «4» ه: وتقول في فائدة المجازاة: «القتل أنفى للقتل». وقال تعالى: «وَلَكُمْ فِي القِصاصِ حَياةٌ يا أُولي الأَلْباب». «5»

______________________________

(1) يوسف: 51.

(2) يوسف: 41.

(3) الأعراف: 95.

(4) الزخرف: 36.

(5) البقرة: 179.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 64

و: وتقول في اختصاص الصلح: «لكّل مقام مقال».

وقال تعالى: «لِكُلِّ نَبأٍ مُسْتَقر» «1». «2» ثمّ إنّ بهاء الدين العاملي عاد إلى الموضوع في كتابه «المخلاة» ونقل شيئاً من أمثال العرب التي استفادها العرب من القرآن الكريم، فأوضح أنّ القرآن هو المنبع المهم لهذه الأمثال، قال: أ: قولهم: ما تزرع تحصد: «مَنْ يَعْمَل سُوءاً يُجْزَ بِهِ». «3»

ب: قولهم: للحيطان آذان: «وَفيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ». «4» ج: قولهم: احذر شرَّ من أحسنت إليه: «وَما نَقَمُوا إِلّا أنْ أغناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ». «5»

د: وقولهم: لا تلد الحيّة إلّا حيّة: «وَلا يَلِدُوا إِلّا فاجِراً كفّاراً» «6». «7» وما ذكره شيخنا العاملي هو الذي سبق ذكره في كلام الآخرين تحت عنوان «الأمثال الكامنة». ولعلّ ما ذكره ابن شمس الخلافة والسيوطي والبهائي ليس إلّا جزءاً يسيراً من الحكم التي سارت بين الناس، أو صارت نموذجاً لصبِّ بقية الأمثال في قالبها، وهذا من القرآن ليس ببعيد. كيف وقد وصفه النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تُحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه». «8»

______________________________

(1) الأنعام: 67.

(2) أسرار البلاغة: 616- 617.

(3) النساء: 123.

(4) التوبة: 47.

(5) التوبة: 74.

(6) نوح: 27.

(7) المخلاة: 307.

(8) الكافي: 2/ 599، كتاب فضل القرآن، الحديث 2. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 65

الرابع عشر: الأمثال النبوية

إذا كان المثل إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهود، وتحلية المعقول بحلية المحسوس،

واستنزال الحقائق المستعصية، فهو من أدوات التبليغ والتعليم، ولذلك ذاع التمثيل في القرآن الكريم والكلمات النبوية، وكلمات أئمّة أهل البيت عليهم السلام، إلى عبارات البلغاء وإشارات الحكماء.

وقد قام غير واحد من المحدثين بجمع الأمثال النبوية.

وقد ذكر المحقّق المعاصر الشيخ محمد الغروي- حفظه اللَّه- في مقدمة كتابه «الأمثال النبوية» حوالي عشرة كتب حول الأمثال النبويّة، وهو بكتابه هذا أوصل العدد إلى إحد عشر كتاباً، وقد نقل عن عبد المجيد محمود مؤلف كتاب «أمثال الحديث» العبارة التالية: أمّا أمثال الحديث فلم تحظ بالعناية التي نالتها أمثال القرآن أو الأمثال العربية العامة، ولم أر أحداً من أصحاب الكتب الستة أفردها بالتأليف أو أفرد لها باباً في كتابه، سوى الإمام الترمذي الذي خصص لأمثال الحديث مكاناً في جامعه تحت عنوان:

«أبواب الأمثال عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم» لكنّه لم يذكر تحت هذا العنوان غير أربعة عشر حديثاً، ولهذا يقول ابن العربي: ولم أر أحداً من أهل الحديث صنف فأفرد لها باباً غير أبي عيسى- يعني الترمذي- وللَّه درّه لقد فتح باباً أو بنى قصراً أو داراً، ولكن اختط خطاً صغيراً، فنحن نقتنع به ونشكره عليه. «1»

ثمّ إنّ شيخنا الغروي قام بجمع شوارد الأمثال النبوية في جزءين كبيرين مع تفسيرها، مرتباً إياها وفق حروف التهجّي، وأسمى كتابه «الأمثال النبويّة»،

______________________________

(1) أمثال الحديث: 88، ولكلامه صلة.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 66

وطبع في بيروت.

وها نحن نذكر نماذج من الأمثال النبوية التي جمعها السيوطي في «الجامع الصغير» لتكون زينة للكتاب.

1. «مثل الإيمان مثل القميص تقمَّصه مرّة، وتنزعه أُخرى».

2. «مثل البخيل والمتصدّق كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأمّا المنفق فلا ينفق إلّا سبغت على جلده، حتى

تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأمّا البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلّا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسّعها فلا تتسع».

3. «مثل البيت الذي يذكر اللَّه فيه والبيت الذي لا يذكر اللَّه فيه، مثل الحيِّ والميِّت».

4. «مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك، إمّا أن تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك، أو تجد منه ريحاً خبيثة».

5. «مثل الجليس الصالح مثل العطّار، إن لم يعطك من عطره أصابك من ريحه».

6. «مثل الرّافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها».

7. «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار عذب على باب أحدكم، يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرّات، فما يبقي ذلك من الدَّنس».

8. «مثل العالم الذي يعلِّم الناس الخير وينسى نفسه، كمثل السراج يضي ء للناس ويحرق نفسه».

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 67

9. «مثل القلب مثل الريشة تقلّبها الرياح بفلاة».

10. «مثل الذي يعتق عند الموت، كمثل الذي يهدي إذا شبع».

11. «مثل الذي يتعلّم العلم، ثمّ لا يحدِّث به، كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه».

12. «مثل الذي يتعلّم العلم في صغره كالنقش على الحجر، ومثل الذي يتعلّم العلم في كبره، كالذي يكتب على الماء».

13. «مثل الذي يجلس يسمع الحكمة ولا يحدِّث عن صاحبه إلّا بشرّ ما يسمع، كمثل رجل أتى راعياً، فقال: يا راعي اجزرني شاة من غنمك، قال: اذهب فخذ بأُذنِ خيرها شاةً، فذهب فأخذ بأُذنِ كلب الغنم».

14. «مثل الذي يتكلّم يوم الجمعة والإمام يخطب، مثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: «انصت» لا جمعة له».

15. «مثل الذي يعلّم الناس الخير وينسى نفسه، مثل الفتيلة، تضي ء للناس وتحرق نفسها».

16. «مثل الذي يعين قومه

على غير الحقّ، مثل بعير تردّى وهو يجر بذنبه».

17. «مثل الذين يغزون من أُمّتي ويأخذون الجعل يتقوّون به على عدوهم، مثل أُمِّ موسى، ترضع ولدها وتأخذ أجرها».

18. «مثل المؤمن كمثل العطار، إن جالسته نفعك، وإن ماشيته نفعك، وإن شاركته نفعك».

19. «مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شي ء نفعك».

20. «مثل المؤمن إذا لقي المؤمن فسلّم عليه، كمثل البنيان يشدّ بعضه

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 68

بعضاً».

21. «مثل المؤمن مثل النحلة، لا تأكل إلّا طيباً، ولا تضع إلّا طيباً».

22. «مثل المؤمن مثل السنبلة، تميل أحياناً، وتقوم أحياناً».

23. «مثل المؤمن مثل السنبلة، تستقيم مرّة، وتخرّ مرّة، ومثل الكافر مثل الأرزة، لا تزال مستقيمة حتى تخرّ ولا تشعر».

24. «مثل المؤمن مثل الخامة، تحمرُّ مرّة، وتصفرُّ أُخرى، و الكافر كالأرزة».

25. «مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفتها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن، يكفّأ بالبلاء، ومثل الفاجر كالأرزة صماء معتدلة، حتى يقصمها اللَّه تعالى إذا شاء».

26. «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترجُّة ريحها طيّب وطعمها طيّب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلوٌ. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر».

27. «مثل المؤمن مثل النحلة إن أكلت أكلت طيباً، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره، ومثل المؤمن مثل سبيكة الذهب إن نفخت عليها احمرّت، وإن وزنت لم تنقص».

28. «مثل المؤمن كالبيت الخرب في الظاهر، فإذا دخلته وجدته مونفاً، ومثل الفاجر كمثل القبر المشرف المجصص، يعجب من رآه وجوفه ممتلئُ نتناً.

29. مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد

إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمّى .

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 69

30. مثل المجاهد في سبيل اللَّه، كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صدقة، حتى يرجع، وتوكّل اللَّه تعالى للمجاهد في سبيله إن توفّاه أن يدخله الجنّة أو يرجعه سالماً مع أجرٍ أو غنيمة».

31. «مثل المرأة الصالحة في النساء، كمثل الغراب الأعصم الذي إحدى رجليه بيضاء».

32. «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرّة، وإلى هذه مرّة، لا تدري أيّهما تتبع».

33. «مثل ابن آدم وإلى جنبه تسعة وتسعون منيّة، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت».

34. «مثل أصحابي مثل الملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلّا بالملح».

35. «مثل أُمّتي مثل المطر، لا يُدرى أوّله خير، أم آخره».

36. «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق».

37. «مثل بلال كمثل نحلة، غدت تأكل من الحلو والمرّ ثم يمسي حلواً كلّه».

38. «مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل، كمثل أُمية بن أبي الصلت في هذه الأُمّة».

39. «مثل منىً كالرحم في ضيقه، فإذا حملت وسعها اللَّه».

40. مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوّله إلى آخره، فبقى متعلّقاً بخيط في آخره، فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع».

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 70

41. «مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان، مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثهقوم طليعة، فلمّا خشي أن يسبق ألاح بثويبه: أُتيتم أُتيتُم، أنا ذاك، أنا ذاك».

42. «مثلي و مثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذُبّهنّ عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي». «1»

الخامس عشر: الأمثال العلوية

كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها،

ومنه عليه السلام ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، وعلى كلامه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي.

فقد قام غير واحد من رواد الفصاحة والبلاغة بجمع شوارد كلامه، وكلمه القصار والطوال، فنافت على اثني عشر ألف كلمة، وفيما جمعه عبد الواحد الآمدي (المتوفّى حدود 550 ه) في كتابه «غرر الحكم ودرر الكلم» غنى وكفاية لطلّاب الحق ولذلك نطوي عنها كشحاً.

وأمّا التمثيل في كلمات سائر الأئمة الاثني عشر فحدّث عنه ولا حرج، وقد شمّر المحقّق الغرويّ عن ساعد الجدّ فألّف موسوعات في هذا المضمار، شكر اللَّه مساعيه الجميلة.

______________________________

(1) الجامع الصغير: 2/ 527- 534.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 71

السادس عشر: أمثال لقمان الحكيم

اختلفت الأقوال في شخصية لقمان الحكيم، روى ابن عمر، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لم يكن لقمان نبيّاً، ولكن كان عبداً كثير التفكّر حسن اليقين، أحبّ اللَّه فأحبّه و منّ عليه بالحكمة». «1»

وقد بلغ سمو كلامه إلى حد نقل سبحانه تعالى شيئاً من حكمه في القرآن الكريم، وأنزل سورة باسمه، كما قام غير واحد من العلماء بجمع حكمه المبثوثة في الكتب.

وقد قام أمين الإسلام الطبرسي بنقل شي ء من حكمه في تفسيره، وقد وصفه الإمام الصادق عليه السلام بقوله: «واللَّه ما أُوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا بسط في جسم ولا جمال، ولكنّه كان رجلًا قويّاً في أمر اللَّه، متورّعاً في اللَّه ساكتاً سكيناً، عميق النظر، طويل التفكّر، حديد البصر، لم ينم نهاراً قط، ولم يتكئ في مجلس قوم قط، ولم يتفل في مجلس قوم قط، ولم يعبث بشي ء قط، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط

قط، ولا على اغتسال لشدّة تستره وتحفّظه في أمره، ولم يضحك من شي ء قط، ولم يغضب قط مخافة الإثم في دينه، ولم يمازح إنساناً قط، ولم يفرح بما أوتيه من الدنيا، ولا حزن منها على شي ء قط، ... ولم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلّا أصلح بينهما، ولم يمض عنهما حتى تحاجزا، ولم يسمع قولًا استحسنه من أحد قط، إلّا سأله عن تفسيره وعمّن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والعلماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين، فيرثي للقضاة بما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لعزتهم باللَّه وطمأنينتهم في ذلك، ويتعلّم ما يغلب به

______________________________

(1) مجمع البيان: 4/ 315.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 72

نفسه ويجاهد به هواه، ويحترز من السلطان، وكان يداوي نفسه بالتفكّر والعبر، وكان لا يظعن إلا فيما ينفعه، ولا ينظر إلا فيما يعينه، فبذلك أُوتي الحكمة ومنح القضية». «1»

______________________________

(1) مجمع البيان: 4/ 317- 318.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 73

سورة البقرة 1

التمثيل الأوّل

اشارة

قال سبحانه: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْا إِلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون* أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدين* مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوقَدَ نَاراً فَلَمّا أَضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون». «1»

تفسير الآيات

الوقود- بفتح الواو- الحطب، استوقد ناراً، أو أوقد ناراً، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب.

افتتح كلامه سبحانه في سورة البقرة بشرح حال طوائف ثلاث:

الأُولى: المؤمنون، واقتصر فيهم على آيتين.

الثانية: الكافرون، واقتصر فيهم على آية واحدة.

الثالثة: المنافقون، وذكر أحوالهم وسماتهم ضمن اثنتي عشرة آية.

______________________________

(1) البقرة: 14- 18.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 74

وهذا إن دل على شي ء فإنّما يدل على أنّ النفاق بؤرة الخطر، وانّهم يشكلون خطورة جسيمة على المجتمع الإسلامي. وقد مثل بمثلين يوقفنا على طبيعة نواياهم الخبيثة وما يبطنون من الكفر.

بدأ كلامه سبحانه في حقهم بأنّ المنافقين هم الذين يبطنون الكفر ويتظاهرون بالإيمان «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون».

ثمّ إنّه سبحانه يردّ عليهم، بقوله: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون» والمراد أنّه سبحانه يجازيهم على استهزائهم.

ثمّ وصفهم بقوله: «أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدين»، أي أخذوا الضلالة وتركوا الهدى واستبدلوا الكفر بالإيمان، فلم يكونوا رابحين في هذه التجارة والاستبدال، ثمّ وصفهم بالتمثيل الآتي:

نفترض أنّ أحداً، ضلّ في البيداء وسط ظلام دامس وأراد أن يقطع طريقه دون أن يتخبّط فيه، ولا يمكن أن يهتدي- والحال هذه- إلّابإيقاد النار ليمشي على ضوئها ونورها ويتجنب المزالق الخطيرة، وما أن أوقد النار حتى باغتته ريح عاصفة

أطفأت ما أوقده، فعاد إلى حيرته الأُولى.

فحال المنافقين كحال هذا الرجل حيث إنّهم آمنوا بادئ الأمر واستناروا بنور الإيمان ومشوا في ضوئه، لكنّهم استبدلوا الإيمان بالكفر فعمَّهم ظلام الكفر لا يهتدون سبيلًا.

هذا على القول بأنّ المنافقين كانوا مؤمنين ثمّ عدلوا إلى الكفر، وأمّا على

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 75

القول بعدم إيمانهم منذ البداية، فالنار التي استوقدوها ترجع إلى نور الفطرة الذي كان يهديهم إلى طريق الحق، ولكنّهم أخمدوا نورها بكفرهم بآيات اللَّه تبارك و تعالى.

والحاصل: أنّ حال هؤلاء المنافقين لمّا أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر كحال من ضلَّ في طريقه وسط الظلام في مكان حافل بالأخطار فأوقد ناراً لانارة طريقه فإذا بريح عاصفة أطفأت النار وتركته في ظلمات لا يهتدي إلى سبيل.

وهذا التمثيل الذي برع القرآن الكريم في تصويره يعكس حال المنافقين في عصر الرسالة، ومقتضى التمثيل أن يهتدي المنافقون بنور الهداية فترة من الزمن ثمّ ينطفئ نورها بإذن اللَّه سبحانه، وبالتالي يكونوا صمّاً بكماً عمياً لا يهتدون، فالنار التي اهتدى بها المنافقون عبارة عن نور القرآن، وسنّة الرسول، حيث كانوا يتشرّفون بحضرة الرسول ويستمعون إلى كلامه وحججه في بيانه ودلائله في إرشاده وتلاوته لكتاب اللَّه، فهم بذلك كمن استوقد ناراً للهداية، فلمّا أضاءت لهم مناهج الرشد ومعالم الحقّ تمرّدوا على اللَّه بنفاقهم، فخرجوا عن كونهم أهلًا للتوفيق والتسديد، فأوكلهم اللَّه سبحانه إلى أنفسهم الأمّارة وأهوائهم الخبيثة، وعمّتهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم.

وعلى هذا ابتدأ سبحانه بذكر المثل بقوله: «مَثَلُهمْ كَمَثلِ الَّذي استوقَد ناراً فلَمّا أَضاءَت ما حوله» وتم المثل إلى هنا.

ثمّ ابتدأ بذكر الممثل بقوله: «ذَهَبَ اللَّه بِنُورهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبصرون».

فإن قلت: فعلى هذا فما هو جواب «لما» في قوله «فلمّا أَضاءَت»؟

الامثال فى القرآن

الكريم، ص: 76

قلت: الجواب محذوف، لأجل الوجازة، وهو قوله «خمدت».

فإن قلت: فعلى هذا فبم يتعلّق قوله: «ذهب اللَّه بنورهم»؟

قلت: هو كلام مستأنف راجع إلى بيان حال الممثل، وتقدير الكلام هكذا: فلَمّا أَضاءَت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسرين على فوات الضوء، خائبين بعد الكدح من إيقاد النار.

فحال المنافقين كحال هؤلاء، أشعلوا ناراً ليستضيئوا بنورها لكن «ذَهَب اللَّه بنورهم وتَرَكَهُمْ في ظُلمات لا يُبصرون».

وبكلمة موجزة: ما ذكرنا من الجمل هو المفهوم من الآية، والإيجاز بلا تعقيد من شؤون البلاغة. «1»

فقوله سبحانه: «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» بمعنى أنّ ذلك كان نتيجة نفاقهم وتمرّدهم وبالتالي تبدّد قابليتهم للاهتداء بنور الحقّ «فَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُون» أي في أهوائهم وسوء اختيارهم يتخبّطون في ظلمات الضلال، لايبصرون طريق الحقّ والرشاد.

ترى أنّ التمثيل يحتوي على معاني عالية وكثيرة بعبارات موجزة، ولو حاول القرآن أن يبيّن تلك المعاني عن غير طريق التمثيل يلزم عليه بسط الكلام كما بسطناه، وهذا من فوائد المثل، حيث يؤدي معاني كثيرة بعبارات موجزة.

ثمّ إنّه سبحانه يصفهم بأنّهم لما عطّلوا آذانهم فهم صمّ، وعطّلوا ألسنتهم فهم بكم، وعطّلوا عيونهم فهم عمي، وقال: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون».

والمراد من التعطيل أنّهم لم يكونوا ينتفعون بهذه الأدوات التي بها تعرف

______________________________

(1) لاحظ الكشاف: 1/ 153.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 77

الحقائق، فما كانوا يسمعون آيات اللَّه بجد، ولا ينظرون إلى الدلائل الساطعة للنبوة إلّامن خلال الشك. «1»

إلى هنا تمّ استعراض حال المنافقين بحال من أوقد ناراً للاستضاءة، ولكن باءت مساعيه بالفشل.

وممّا يدل على أنّ المنافقين آمنوا باللَّه ورسوله في بدء الأمر ثمّ طغى عليهم وصف النفاق، قوله سبحانه: «ذلِكَ بأَنّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُون». «2»

وممّا يدل على أنّ الإسلام نور ينوّر القلوب والأنفس قوله سبحانه: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ». «3» وأمّا الظلمة التي تحيط بهم بعد النفاق وتجعلهم صمّاً بكماًعمياً، فالمراد ظلمات الضلال التي لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد، يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُون». «4» وبذلك ظهر انّ تفسير الظلمة التي يستعقبها إطفاء النور بظلمة القبر وحياة البرزخ ومابعدها من مواقف الحساب والجزاء غير سديد، وإن كان هناك ظلمة للمنافق لكنّها من نتائج الظلمة الدنيوية.

______________________________

(1) انظر مجمع البيان: 1/ 54؛ آلاء الرحمن: 1/ 73.

(2) المنافقون: 3.

(3) الزمر: 22.

(4) البقرة: 257.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 78

فاستشهاد صاحب المنار على كون المراد هو ظلمة القبر و البرزخ بقوله سبحانه: «يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ لِلَّذينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً ...» «1» ليس بأمر صحيح، والآية ناظرة إلى حياتهم الدنيوية التي يكتنفها الإيمان والنور، ثمّ تحيط بهم الظلمة والضلالة، ولا نظر للآية لما بعد الموت.

سؤال وإجابة

إنّ مقتضى البلاغة هو الإتيان بصيغة الجمع حفظاً للتطابق بين المشبّه والمشبّه به، مع أنّه سبحانه أفرد المشبّه به «كالذي استوقد ناراً» وجمع المشبّه أعني قوله: «مثلهم» «ذهب اللَّه بنورهم»، فما هو الوجه؟

أجاب عنه صاحب المنار بقوله: إنّ العرب تستعمل لفظ «الذي» في الجمع كلفظي «ما» و «من» ومنه قوله تعالى: «وَخُضْتُمْ كَالّذِي خَاضُوا» «2» وإن شاع في «الذي» الافراد، لأنّ له جمعاً، وقد روعي في قوله «استوقد» لفظه، وفي قوله «ذهب اللَّه بنورهم» معناه. والفصيح فيه مراعاة التلفظ أوّلًا، ومراعاة المعنى آخراً، والتفنّن في

إرجاع الضمائر ضرب من استعمال البلغاء. «3»

ولنا مع هذا الكلام وقفة، وهي أنّ ما ذكره مبني على أنّ قوله سبحانه: «ذَهَبَ اللَّه بنورهِمْ وَتَرَكهم في ظُلماتٍ لا يُبصرون» في تتمة المثل، وأجزاء المشبه به، ولكنّك قد عرفت خلافه، وانّ المثل تم في قوله: «فلمّا أضاءت

______________________________

(1) الحديد: 13.

(2) التوبة: 69.

(3) تفسير المنار: 1/ 169.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 79

ما حوله»، وذلك بحذف جواب «لمّا»، لكونه معلوماً في الجملة التالية، وهو عبارة عن إخماد ناره فبقي في الظلام خائفاً متحيّراً.

وإلّا فلو كان قوله «ذهب اللَّه بنورهم» من أجزاء المشبّه به، وراجعاً إلى مَن استوقد ناراً، يلزم أن تكون الجملة التالية أعني قوله: «صمٌّ بكمٌ عُميٌ» كذلك، أي من أوصاف المستوقد، مع أنّها من أوصاف المنافق دون أدنى ريب، ولو أردنا أن نصيغ المشبه والمشبه به بعبارة مفصلة، فنقول:

المشبه به: الذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله أُطفأت ناره.

والمشبه: المنافقون الذين استضاءوا بنور الإسلام فترة ثمّ ذهب اللَّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون.

وأمّا وجه الافراد، فهو أنّه إذا كان التشبيه بين الأعيان فيلزم المطابقة، لأنّ عين كلّ واحد منهم غير أعيان الآخر. ولذلك إنّما يكون التشبيه بين الأعيان إذا روعي التطابق في الجمع والإفراد، يقول سبحانه: «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» «1»، وقوله: «كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ». «2» وأمّا إذا كان التشبيه بين الأفعال فلا يشترطون التطابق لوحدة الفعل من حيث الماهية والخصوصيات، يقال في المثل: ما أفعالكم كفعل الكلب. أي ما أفعالكم إلّا كفعل الكلب. وربما يقال: إنّ الموصول «الذي» بمعنى الجمع، قال سبحانه: «وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» «3». «4»

______________________________

(1) المنافقون: 4.

(2) الحاقة: 7.

(3) الزمر: 33.

(4) انظر التبيان في تفسير القرآن:

1/ 86. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 80

سورة البقرة 2

التمثيل الثاني

اشارة

قال سبحانه: «أَوْكَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَلَهُمْ مَشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَاللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِير». «1»

تفسير الآيات

الصيّب: المطر، وكلّ نازل من علو إلى أسفل، يقال فيه: صاب يصوب، وهو عطف على قوله «كَمَثَلِ الّذي استوقَدَ ناراً»، ولما كان المثل الثاني أيضاً مثلًا للمنافقين، فمقتضى القاعدة أن يقول «وكصيب» مكان «أو كصيب» ولكن ربّما يستعمل «أو» بمعنى «و» قال الشاعر:

نال الخلافة أو كانت له قدراًكما أتى ربّه موسى على قدر

ويحتمل أن يكون «أو» للتخيير، بأن مُثل المنافقين بموقد النار، أو بمن وقع في المطر.

______________________________

(1) البقرة: 19- 20.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 81

والرعد: هو الصوت الذي يُسمَع في السحاب أحياناً عند تجمعه.

والبرق: هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالباً، وربما لمع في الأُفق حيث لا سحاب، وأسباب هذه الظواهر اتحاد شحنات السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات.

والصاعقة: نار عظيمة تنزل أحياناً أثناء المطر والبرق، وسببها تفريغ الشحنات التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض.

والإحاطة بالشي ء: الإحداق به من جميع الجهات.

والخطف: السلب والأخذ بسرعة، ومنه نهي عن الخطفة بمعنى النهبة.

قوله: «وَإِذا أَظلَم» بمعنى إذا خفت ضوء البرق.

إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآيات، فلنرجع إلى بيان حقيقة التمثيل الوارد في الآية، ليتضح من خلالها حال المنافقين، فانّ حال المشبه يعرف من حال المشبه به، فالمهم هو التعرف على المشبه به.

والإمعان في الآيات يثبت بأنّ التمثيل يبتدأ من قوله «أو كصيّبٍ من السَّماء» وينتهي بقوله: «وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا».

وأمّا قوله: «وَاللَّهُ محيطٌ بِالكافرين» جملة معترضة جي ء بها في أثناء

التمثيل، وقوله بعد انتهاء التمثيل: «وَلَو شاءَاللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» يرجع إلى المشبه.

هذا ما يرجع إلى مفردات الآيات وكيفية انسجامها، والمهم هو ترسيم ذلك المشهد الرهيب.

فلنفترض أنّ قوماً كانوا يسيرون في الفلوات وسط أجواء سادها الظلام

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 82

الدامس، فإذا بصيّب من السماء يتساقط عليهم بغزارة، فيه رعود قاصفة وبروق لامعة تكاد تخطف الأبصار من شدتها وصواعق مخيفة، فتولّاهم الرعب والفزع والهلع ممّا حدا بهم إلى أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم خشية الموت للحيلولة دون سماع ذلك الصوت المخيف، فعندئذٍ وقفوا حيارى لا يدرون أين يولّون وجوهم، فإذا ببصيص من البرق أضاء لهم الطريق فمشوا فيه هنيئة، فلما استتر ضوء البرق أحاطت بهم الظلمة مرة أُخرى وسكنوا عن المشي.

ونستخلص من هذا المشهد أنّ الهول والرعب والفزع والحيرة قد استولى على هؤلاء القوم لا يدرون ماذا يفعلون، وهذه الحالة برمتها تصدق على المنافقين، ويمكن تقريب ذلك ببيانين:

البيان الأوّل: التطبيق المفرق لكلّ ما جاء من المفردات في المشبه به، كالصيب والظلمات والرعد والبرق، على المشبه، وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً أفضلها ما ذكره الطبرسي تحت عنوان الوجه الثالث.

وقال: إنّه مثل للإسلام، لأنّ فيه الحياة كما في الغيث الحياة، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر، ومافيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل، وبما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم، وما فيه من الصواعق كما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. ويقوي ذلك ما روي عن الحسن عليه السلام انّه قال: «مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه». «1»

وربّما يقرّر هذا الوجه

بشكل آخر، وهو ما أفاده المحقّق محمد جواد

______________________________

(1) مجمع البيان: 1/ 57.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 83

البلاغي (المتوفّى 1352 ه) فقال: الإسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الأرض بالعدل والصلاح والأمن وحسن الاجتماع، ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل اللَّه ونيل السعادة، وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنّهم «يجعلون أصابعهم في آذانهم من» أجل «الصواعق حذر الموت» وخوفاً من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها، وسفهاً لعقولهم أين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم واللَّه محيط بالكافرين. «1»

وهذان التقريران يرجعان إلى التطبيق المفرق كما عرفت.

البيان الثاني: التطبيق المركب، وهو إنّ الغاية من وراء هذا التمثيل أُمور ثلاثة ترجع إلى بيان حالة المنافقين.

وقبل أن نستوعب البحث عنها نذكر نص كلام الزمخشري في هذا الصدد.

قال الزمخشري: والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شي ء يقدر شبهه به وهو القول الفصل والمذهب الجزل. «2»

إذا عرفت ذلك، فإليك البحث في الأُمور الثلاثة:

______________________________

(1) آلاء الرحمن: 1/ 74.

(2) الكشاف: 1/ 162- 163.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 84

الأوّل: إحاطة الرعب والهلع بالمنافقين إثر انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ودخول القبائل فيه وتنامي شوكته، مما أوجد رعباً في قلوبهم وفزعاً في نفوسهم المضطربة، ويجدون ذلك بلاءً أحاط بهم كالقوم الذين يصيبهم الصيّب من السماء فيه ظلمات و

رعد وبرق وإليه أشار قوله سبحانه: «أو كصيّب من السماء فيه رعد وبرق».

الثاني: انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لمّا كان يخبرهم عن المستقبل المظلم للكافرين والمدبرين عن الإسلام والإيمان خصوصاً بعد الموت صار ذلك كالصاعقة النازلة على رؤوسهم فكانوا يهربون من سماع آيات اللَّه ويحذرون من صواعق براهينه الساطعة، مع أنّ هذا هو منتهى الحماقة، لأنّ صمّ الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: «يَجْعَلُون أَصابعهُمْ في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَر المَوت وَاللَّه مُحيطٌ بِالكافِرين».

الثالث: كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يدعوهم إلى أصل الدين ويتلوا عليهم الآيات البيّنة ويقيم لهم الحجج القيّمة، فعندئذٍ يظهر لهم الحق، فربّما كانوا يعزمون على اتّباعه والسير وراء أفكاره، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما يعودون إلى تقليد الآباء، وظلمة الشهوات والشبهات، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: «يَكادُ الْبَرقُ يَخْطَفُ أَبْصارهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشوا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا».

إلى هنا تمّ التطبيق المركب لكن في مقاطع ثلاثة.

ثمّ إنّه سبحانه أعقب التمثيل بقوله: «وَلَو شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأَبْصارِهِم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَي ءٍ قَدير» أي انّه سبحانه قادر أن يجعلهم صمّاً وعمياًحتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تجدي هداية هاد.

وذهاب سمعهم وأبصارهم نتيجة أعمالهم الطالحة التي توصد باب التوفيق

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 85

أمامهم فيصيرون صمّاً وبكماً وعمياً.

ثمّ إنّ الآيات القرآنية تفسر تلك الحالة النفسانية التي كانت تسود المنافقين في مهجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث كانوا في حيطة وحذر من أن تنزل عليهم سورة تكشف نواياهم، كما يشير إليه قوله سبحانه: «يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أَن تُنَزَّل

عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُون». «1» ومن جانب آخر يشاهدون تنامي قدرة الإسلام وتزايد شوكته على وجه يستطيع أن يقطع دابرهم من أديم الأرض، يقول سبحانه: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلّا قَلِيلًا* مَلْعُونينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا». «2» هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التمثيل الوارد في حق المنافقين، ولكن المهم تطبيق هذا التمثيل على منافقي عصرنا، فدراسة حال المنافقين في عصرنا هذا من أهم وظيفة المفسِّر، فانّ حقيقة النفاق واحدة، ترجع إلى إظهار الإيمان وإبطان الكفر لغاية الإضرار بالإسلام والمسلمين، وهم يقيمون في خوف ورعب، وفي الوقت نفسه صم بكم عمي فهم لا يرجعون.

______________________________

(1) التوبة: 64.

(2) الأحزاب: 60- 61. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 86

سورة البقرة 3

التمثيل الثالث

اشارة

قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمّا الّذينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُ بِهِ إِلّاالْفاسِقِينَ* الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرضِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون». «1»

تفسير الآيات

الحياء تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف مايعاب به ويُذمّ، يقال: فلان يستحي أن يفعل كذا، أي أنّ نفسه تنقبض عن فعله.

فعلى هذا فالحياء من مقولة الانفعال، فكيف يمكن نسبته إلى اللَّه سبحانه مع أنّه لا يجوز عليه التغيّر والخوف والذم؟

الجواب: انّ اسناد الحياء كاسناد الغضب والرضا إلى اللَّه سبحانه، فانّها جميعاً تسند إلى اللَّه سبحانه متجردة عن آثار المادة، ويؤخذ بنتائجها، وقد اشتهر قولهم: «خذوا الغايات واتركوا المبادئ» فالحياء يصد الإنسان عن إبراز ما يضمره

______________________________

(1) البقرة: 26- 27.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 87

من الكلام، واللَّه سبحانه ينفي النتيجة، أي لا يمنعه شي ء عن إبراز ما هو حق، قال سبحانه: «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنَ الحَقِّ». «1» وأمّا ضرب المثل فقد مرّ الكلام فيه، وقلنا إنّ لاستخدام كلمة «ضرب المثل» في التمثيل بالأمثال وجوهاً: منها: أنّ ضرب المثل في الكلام يذكر لحال ما يناسبها، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفياً، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم، وهو حدوث أثر خاص فيها، كأن ضرب المثل يقرع به اذن السامع قرعاً ينفذ أثره في قلبه، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شي ء وتقبيحه إلّابتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه. «2» البعوضة: حيوان حقير يشبه خرطومه

خرطوم الفيل، أجوف وله قوّة ماصة تسحب الدم، وقد منح اللَّه سبحانه هذا الحيوان قوة هضم ودفع كما منحه أُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته، وتتمتع بحساسية فائقة، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. وقد اكتشف علماء الحيوان مؤخراً انّ البعوضة قادرة على تشخيص فريستها من مسافة تقرب عن 65 كيلومتراً. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في حقّها: «كيف ولو اجتمع جميع حيوانها، مناطيرها وبهائمها، وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أُممها وأكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت

______________________________

(1) الأحزاب: 53.

(2) تفسير المراغي: 1/ 70.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 88

كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنّها مقهورة، مقرة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها». «1»

يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير:

«إنّما ضرب اللَّه المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق اللَّه فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين، فأراد اللَّه سبحانه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته». «2»

إلى هنا تم تفسير مفردات الآية، وأمّا تفسير الآية برمتها فقد نقل المفسرون في سبب نزولها وجهين:

الأوّل: انّ اللَّه تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين، أعني قوله: «مثلهم كمَثل الذي استوقد ناراً» وقوله: «أو كصيّب من السماء» قالالمنافقون:

اللَّه أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

الثاني: انّه سبحانه لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره، فأنزل اللَّه هذه الآية. «3»

ولا يخفى ضعف الوجه الأوّل،

فانّ المنافقين لم ينكروا ضرب المثل، وإنّما أنكروا المثلين اللّذين مثّل بهما سبحانه حال المنافقين، وعند ذلك لا يكون التمثيل بالبعوضة جواباً لرد استنكارهم، لأنّهم أنكروا المثلين اللّذين وردا في حقهما، فلا

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 186.

(2) مجمع البيان: 1/ 67.

(3) مجمع البيان: 1/ 67.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 89

يكون عدم استحيائه سبحانه من التمثيل بالبعوضة رداً على اعتراضهم.

وأمّا الثاني، فقد ورد ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في مكة المكرمة، لأنّ الأوّل ورد في سورة الحج وهي سورة مكية، والآخر ورد في سورة العنكبوت وهي أيضاً كذلك. وهذه الآية نزلت في المدينة، فكيف تكون الآية النازلة في مهجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم جواباً على اعتراض المشركين في موطنه؟

وعلى كلّ تقدير فالآية بصدد بيان أنّ الملاك في صحة التمثيل ليس ثقل ما مثّل به أو كبره، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالإبل والفيل كمال، وإنّما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً.

وبعبارة أُخرى: إذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره بحقيرها ولما يراد التنفير بما اعتادت النفوس النفور منها، فالملاك هو كون المثل مفيداً لما يريد المتكلم تحقيقه، من غير فرق بين حقير الأشياء وكبيرها، وهو سبحانه يشير إلى ذلك المعنى بقوله: «إِنَّ اللَّه لا يَسْتَحْيي أن يضربَ مثلًا ما بَعوضة» (بل) فوقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلّا بالمجهر، كما تقول: فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه أي مما فوقه في القلة.

ولو أُريد ما فوقه في الكثرة يقول مكانه «فضلًا عن الدرهم والدرهمين».

فما في كلام بعض المستشرقين من أنّ الصحيح أن يقول «فما دونه» غير

تام.

للفرق بين قوله: «فما فوقه» وقوله «فضلًا» و الأوّل بقرينة المقام بمعنى فما فوقه في الصغر والحقارة لا بمعنى «فضلًا».

وربما تفسر الآية بأنّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها في

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 90

الكبر، ولكن الأوّل هو الأوفق لمقصود المتكلم. كما يقال عند لوم المتجري:

بأنّك تقترف جريمة لأجل دينار بل فوقه، أي نصف دينار، والمراد من الفوقية هو الفوقية في الحقارة.

وقد أورد الزمخشري على نفسه سؤالًا، وهو: كيف يضرب اللَّه المثل لما دون البعوضة وهي في النهاية في الصغر؟ ثمّ أجاب:

إنّ جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات، وقد ضربه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم مثلًا للدنيا، وفي خلق اللَّه حيوان أصغر منها ومن جناحها ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلّا تحركها فإذا سكنت، فالسكون يواريها، ثمّ إذا لوحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة، وتفاصيل خلقتها، ويبصر بصرها، ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر سبحان الذي خلق الأزواج كلّها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. «1»

وقال البيضاوي: لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل عقب ذلك ببيان حسنه، وما هو الحق له والشرط فيه، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر، والخسة والشرف، دون الممثل، فانّ التمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له، ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه، فانّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأنّ من طبعه الميل إلى الحس وحب

المحاكاة، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم

______________________________

(1) الكشاف: 1/ 205- 206.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 91

بالعظيم، وإن كان المثل أعظم من كلّ عظيم، كما مثل في الإنجيل على الصدور بالنخالة، والقلوب القاسية، بالحصاة، ومخاطبة السفهاء، بإثارة الزنابير، وجاء في كلام العرب: أسمع من قراد، وأطيش من فراشة، وأعز من مخ البعوض. «1»

وربّما يتصور أنّ التمثيل بالأشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء، وعلى هذا فالقرآن المشتمل على النمل والذباب والعنكبوت والنحل لا يكون فصيحاً فضلًا عن كونه معجزاً.

وأجاب عنه صدر المتألهين الشيرازي (المتوفّى عام 1050 ه) بقوله: إنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها، إذا شرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة، والشرف والخساسة، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال، لأنّ الغرض الأصلي منه إيضاح المعنى المعقول، وإزالة الخفاء عند إبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه، فانّ العقل الإنساني مادام تعلقه بهذه القوى الحسيّة لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداًعن مزاحمة الوهم ومحاكاته، لأنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.

ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم، وصحف الأوائل ومسفوراتهم، تتميماً للتخيّل بالحس، فهناك يضاعف في التمثيل، حيث يمثل أوّلًا المعقول بالمتخيل، ثمّ يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل. «2»

ثمّ إنّه سبحانه يذكر أنّ الناس أمام الأمثال على قسمين:

______________________________

(1) تفسير البيضاوي: 1/ 43.

(2) تفسير القرآن الكريم: 2/ 192- 193.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 92

أ: المؤمنون: وهم الذين قال سبحانه في حقّهم: «فَأَمّا الّذين آمَنُوا فَيَعْلَمُون

انّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ».

ب: الكافرون: وهم الذين قال سبحانه في حقّهم: «وَأَمّا الّذين كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مثَلًا». والظاهر أنّ قولهم «أراد اللَّهُ» كان على سبيل الاستهزاء بادّعاء الرسول أنّ المثل وحي منزل من اللَّه، وإلّافانّ الكافرين والمنافقين كانوا ينكرون الوحي أصلًا.

ولا غرو في أن يكون شي ء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أُخرى، وما هذا إلّا لأجل اختلاف القابليات، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الإلهية سبب الهداية، وأمّا الطائفة الأُخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله سبحانه: «يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلّا الفاسقين» من كلامه سبحانه، ولا صلة له بكلام المنكرين، بل تم كلامه بقوله: «بها مثلًا» وهو انّ الأمثال تؤثر في قوم دون قوم.

ثمّ إنّه يعلل إضلال غير المؤمنين بفسقهم ويقول: «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلّا الفاسقين»، والفسق: عبارة عن خروج النواة من التمر، وفي الاصطلاح: من خرج عن طاعة اللَّه، سواء أكان مسلما متجرياً أو كافراً فاسقاً.

وقد أطنب المفسرون الكلام في مفاد الجملة الأخيرة أعني: «يُضِلُّ به كثيراً وَيَهْدي بهِ كَثيراً» فربما يتوهم أنّ الآية بصدد الإشارة إلى الجبر، فحاولوا تفسير الآية بشكل يتلاءم مع الاختيار، وقد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ المواعظ الشافية والكلمات الحِكَمية لها تأثير معاكس فيؤثر في القلوب المستعدة تأثيراً إيجابياً وفي العقول المنتكسة تأثيراً سلبياً.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 93

هذا هو تفسير الآية.

وربّما يحتمل أنّ الآية ليست بصدد بيان ضرب المثل بالبعوضة كضربه بالعنكبوت والذباب، بل الآية خارجة عن نطاق ضرب المثل بالمعنى المصطلح، وإنّما الآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية و الجلالية، والآية بصدد بيان أنّ اللَّه

سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والأرض، أو صغيراً و حقيراً كالبعوضة والذباب، فمعنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه استدل على جلاله وكماله بخلق السماوات والأرض وقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ». «1»

يلاحظ على تلك النظرية بأمرين:

أوّلًا: لو كان المراد من ضرب المثل وصفه سبحانه بالقدرة العظيمة لكان اللازم أن يأتي بالآية بعد هاتين الآيتين مع أنّه فصل بينهما بآيات ثلاث تركّز على إعجاز القرآن و التحدّي به، ثمّ التركيز على الجنة وثمارها كما هو معلوم لمن راجع المصحف الكريم.

وثانياً: انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً، فقد جاء قوله: «فَأَمّا الّذينَ آمنوا فيعلمون انّه الحق من ربّهم» في سورة الرعد بعد تشبيه الحق و الباطل بمثل

______________________________

(1) البقرة: 21- 22.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 94

رائع يأتي البحث عنه إن شاء اللَّه، قال سبحانه: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِها ...» إلى أن قال: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ» ثمّ قال: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ انّمَا أُنزل إِلَيكَ مِن ربّكَ الحقُّ كَمَن هو أعمى إِنّما يَتَذَكّرُ أُولُوا الألباب* الّذين يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولَا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ». «1»

تجد انّ الآيات في سورتي البقرة والرعد كسبيكة واحدة يفسر بعضها البعض.

ففي سورة البقرة ذكر ضرب المثل بالبعوضة، كما ضرب في سورة الرعد مثلًا للحق والباطل.

ففي سورة البقرة قال سبحانه: «وَأَمّا الّذين آمنوا فيعلمون انّه الحقّ من ربّهم».

وفي سورة الرعد قال سبحانه: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنّ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ

الحَقُّ كمَنْ هُوَأَعْمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلباب».

وفي سورة البقرة قال: «وَما يُضِلُّ بهِ إِلّا الفاسِقينَ»، وفسَّره بقوله: «الّذين ينقضون عهد اللَّه من بَعْدِميثاقِهِ ...» الخ.

وفي سورة الرعد، فسّر أُولي الألباب بقوله: «الّذينَ يُوفُونَ بعَهدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ المِيثاق». «2»

فبمقارنة هذه الآيات يعلم أنّ المراد من ضرب المثل هو المعنى المعروف أي التمثيل بالبعوضة لتحقير معبوداتهم أو ما يشبه ذلك.

نعم ما نقلناه عن الإمام الصادق عليه السلام ربّما يؤيد ذلك الوجه كما مرّ، فتدبّر.

______________________________

(1) الرعد: 17- 20.

(2) الرعد: 20.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 95

سورة البقرة 4

التمثيل الرابع

اشارة

«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَانَّ مِنَ الحِجارَة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُون». «1»

تفسير الآية

جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل، وقد كانوا يجادلون موسى عليه السلام بغية التملص من ذبحها، ولكن قاموا بذبحها و ما كادوا يفعلون.

وكان ذبح البقرة لأجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل، فصاروا يتدارؤون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة، فرجعوا في أمرهم إلى موسى عليه السلام، وشاء اللَّه أن يظهر حقيقة الأمر بنحو معجز، فقال لهم موسى عليه السلام: «انّ اللَّه يأمركم أن تذبحوا بقرة»، فلمّا ذبحوها- بعد مجادلات طويلة- أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.

قال سبحانه: «فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يحيي اللَّهُ المَوتى وَيُريكُمْ

______________________________

(1) البقرة: 74.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 96

آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون». «1»

ومع رؤية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسى عليه السلام، لكن- و للأسف- قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة و يقول:

«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة».

وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال: إنَّ قُلوبهُمْ «كالحِجارَة أَوْ أَشَدّ قَسوَة» أي: بل أشدّ قسوة، فكلمة «أو» موضوعة مكان بل.

ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية. أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى

سائر الأعضاء، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو، لأنّه مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية، وأوّل عضو يتأثر بالأُمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع، فلامنافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة، ومع ذلك يصحّ نسبة الإدراك إلى القلب.

ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّقسوة من الحجارة، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة:

الأوّل: «وَانّ مِنَ الحِجارة لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه الأَنْهار».

الثاني: «وَانَّ مِنْها لما يَشَّقّق فيَخرج مِنْهُ الماء».

______________________________

(1) البقرة: 73.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 97

الثالث: «وَانّ مِنْها لما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه».

أمّا الأوّل: أي تفجّر الأنهار من الحجارة، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.

وأمّا الثاني: كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الأنهار.

وأمّا الثالث: كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الأودية المنخفضة من خشية اللَّه.

ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي، وهي الهبوط من خشية اللَّه.

وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لأمره ونهيه.

ومن عجيب الأمر أنّ بني إسرائيل رأوا بأُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الأسباط.

ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية اللَّه، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الإنسان بأدواته الحسية.

يقول صدر المتألهين: إنّ الكون بجميع أجزائه يسبح للَّه ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

الامثال فى القرآن الكريم،

ص: 98

وعلى هذا الشعور تسبح الموجودات كلّها، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزهه عن كلّ نقص وعيب.

ثمّ يقول: إنّ العلم والشعور والإدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود، ابتداء من «واجب الوجود» إلى النباتات والجمادات، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة. و ... و ... ولا يخلو موجود من ذلك أبداً، غاية ما في الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا- بعض الأحيان- لضعفها وضآلتها.

على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية، واقتربت إلى التجرد، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية، وتعمّقت فيها، ضعفت فيها هذه الصفات، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك، ولكنّها ليست كذلك- كما نتوهم- إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة. «1»

وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها، بل هناك آيات تؤكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرة.

يقول سبحانه: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً». «2»

وبما انّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمته في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة، فلنقتصر على ذلك، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.

______________________________

(1) الأسفار: 1/ 118 و 6/ 139، 140.

(2) الإسراء: 44.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 99

سورة البقرة 5

التمثيل الخامس

اشارة

«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلّادُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ». «1»

تفسير الآية

النعيق: صوت الراعي لغنمه زجراً، يقال: نعق الراعي بالغنم، ينعق نعيقاً، إذا صاح بها زجراً.

والنداء: مصدر نادى ينادي مناداة، وهو أخص من الدعاء، ففيه الجهر بالصوت ونحوه، بخلاف الدعاء.

وفي تفسير الآية وجوه:

الأوّل: انّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلّا إذا كان الناعق أصم، ويكون معنى الآية: انّ الذين كفروا الذين لا يتفكرون في الدعوة الإلهية، كمثل الأصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولًا إلّادعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى

وجه التشبيه: انّ الناعق أصم كما أنّ هؤلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.

______________________________

(1) البقرة: 171.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 100

الامثال فى القرآن الكريم 148

وفي هذا المعنى المشبه هو الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلّاصوتاً ودعوة فارغة من المعنى.

والمشبه به: هو الناعق الأصم الذي ينعق بالغنم، ولكن لا يسمع من نعاقه إلّادعاءً ونداءً.

وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية، ولكنّه بعيد من حيث المعنى، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلّاصوتاً ونداءً؟

الثاني: انّ المشبه هو النبي صلى الله عليه و آله و سلم، والمشبه به هو الناعق للغنم، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلّا دعاءً ونداءً ما، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير ان تعقل شيئاً، فهم- الكافرون- صمٌّ

لا يسمعون كلاماً يفيدهم، وبكم لا يتكلمون بما ينفع، وعمي لا يبصرون، فهم لا يعقلون شيئاً، لأنّ الطرق المؤدية إلى التعقل موصدة عليهم.

ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أُخرى يعود إليه، فانّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى إلّا انّ الأوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده، وهي قوله: «صمٌّ بكمٌ عميٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون»، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول اللَّه تعالى فأنتج ما أشبه القلب. «1»

______________________________

(1) الميزان: 1/ 420.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 101

ثمّ إنّ صاحب المنار فسّر الآية على الوجه الأوّل وقال: «مثل الذين كفروا» أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم كمثل الذي لا يسمع إلّادعاء ونداءً، أي كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وجزها عن الحمى، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار. شبّه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل، ويزجرها فتنزجر، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً، ولا تفهم له معنى وإنّما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد، ولا تعقل سبباً للإقبال ولا للإدبار. «1»

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد ذمهم وانّهم لا يعتنقون الإيمان ولا يمتثلون الأوامر الإلهية ونواهيها، وعلى ذلك تصبح الآية نوع مدح لهم، لأنّهم لو كانوا كالبهائم السائمة يجيبون دعوة النبي كقبولها دعوة الراعي وينزجرون بزجره صلى الله عليه و آله و سلم كانتهائها عن نهي الراعي، فيكون ذلك على خلاف المقصود، فانّ المقصود بشهادة قوله «صم بكم عمي» انّهم لا يسمعون

كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا ينطقون بالحقّ ولا ينظرون إلى آيات اللَّه وانّهم في واد والنبي صلى الله عليه و آله و سلم في واد آخر.

وأين هم من البهائم السائمة التي تقع تحت يد الراعي فتنتهي بنهيه؟!

______________________________

(1) تفسير المنار: 2/ 93- 94.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 102

سورة البقرة 6

التمثيل السادس

اشارة

«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالّذين آمنوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ». «1»

نزلت الآية عندما حوصر المسلمون واشتد الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب فجاءت الآية لتثبت قلوبهم وتعدهم بالنصر.

وقيل: إنّ عبد اللَّه بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلى متى تتعرضون للقتل. ولو كان محمّد نبياً لما واجهتم الأسر والتقتيل، فنزلت الآية.

تفسير الآية

وردت لفظة «أم» للإضراب عما سبق و تتضمن معنى الاستفهام، و المعنى «بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة».

و «البَأساء»: هي الشدة المتوجهة إلى الإنسان من خارج نفسه كالمال والجاه والأهل.

و «الضرّاء»: هي الشدة التي تصيب نفس الإنسان كالجرح و القتل، وقيل:

______________________________

(1) البقرة: 214.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 103

انّ «البأساء» نقيض «النعماء»، «الضراء» نقيض «السراء»، و «الزلزلة» شدة الحركة، و الزلزال البلية المزعجة لشدة الحركة والجمع زلازل، وأصله من قولك زلّ الشي ء عن مكانه، ضوعف لفظه بمضاعف معناه، نحو صرى وصرصر، وصلى وصلصل، فإذا قلت زلزلته، فمعناه كررت تحريكه عن مكانه.

وقد جاء ما يقرب من مضمون الآية في آيات أُخرى، منها قال سبحانه: «وَالصّابِرينَ فِي البَأْساءِوَالضَّرّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولئِكَ الّذينَ صَدَقُوا وَأُوْلئِكَ هُمُ المُتَّقُون». «1»

وقال سبحانه: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْساءِ وَالضَّرّاءِلَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون». «2»

وقال سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ إِلّا أَخَذْنا أَهْلَهَا بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِلَعَلَّهُمْ يَضَّرّعُون». «3»

تدل مجموع هذه الآيات على دوام الابتلاء والامتحان في جميع الأُمم خصوصاً في الأُمة الإسلامية.

ثمّ إنّ الهدف من امتحان أبناء البشر هو تحصيل العلم بكفاءة الممتحن، لكنّه فيه سبحانه يستهدف إلى إخراج ما بالقوة من الكمال إلى الفعلية مثلًا: فانّ إبراهيم عليه السلام

كان يتمتع بموهبة التفاني في اللَّه و بذل ما يملك في سبيله غير انّه لم تكن لها ظهور و بروز، فلما وقع في بوتقة الامتحان ظهرت تلك الموهبة إلى الوجود بعد ما كانت بالقوة.

______________________________

(1) البقرة: 177.

(2) الأنعام: 42.

(3) الأعراف: 94.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 104

وما ذكرنا هو المستفاد من الآيات وقد صرح به الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه: قال:

«لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، لأنّه ليس أحد إلّا و هو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن، فانّ اللَّه سبحانه يقول:

«وَاعْلَمُوا انّما أَموالكُمْ وَأَولادكُمْ فِتْنَة» ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يُستحق الثواب والعقاب». «1»

إلى هنا تبين معنى مفردات الآية وسبب نزولها والآيات التي وردت في هذا الصدد في حقّ سائر الأُمم.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآية.

يقول سبحانه: إنّ الابتلاء بالبأساء والضراء سنة إلهية جارية في الأُمم كافة ولا تختص بالأُمة الإسلامية، فالتمحيص وتميز المؤمن الصابر عن غير الصابر رهن الابتلاء.

فلا يتمحض إيمان المسلم إلّا إذا غربل بغربلة الامتحان ليخرج نقياً. ولا يترسخ الإيمان في قلبه إلّا من خلال الصمود والثبات أمام أعاصير الفتن الهوجاء.

وكأنّ الآية تسلية لنبيه وأصحابه مما نالهم من المشركين وأمثالهم، لأنّ سماع أخبار الأُمم الماضية يسهل الخطب عليهم، وانّ البلية لا تختص بهم بل تعم غيرهم أيضاً، ولذلك يقول: «أَمْ حَسِبْتُمْ» أي أظننتم وخلتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة «وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثلُ الّذين خَلوا مِنْ قَبْلِكُم»، أي أن تدخلوا الجنة ولما تبتلوا وتمتحنوا بمثل ما ابتليت به الأُمم السالفة وامتحنوا به. فعليكم بالصبر والثبات كما صبر

هؤلاء وثبتوا.

______________________________

(1) نهج البلاغة: قسم الحكم: الحكمة 93.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 105

وعلى ضوء هذا فالمثل بمعنى الوصف- وقد تقدم منّا القول- بأنّ من معاني المثل هو الوصف. فقوله: «وَلَما يَأْتِكُم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء»، أي «لما يأتكم وصف الذين خلوا من قبلكم» فلا يدخلون حظيرة الإيمان الكامل إلّاأن يكون لهم وصف مثل وصف الذين واجهوا المصائب والفتن بصبر وثبات وعانوا الكثير من القلق والاضطراب، كما قال تعالى في حقّ المؤمنين: «وَزلزلوا زِلزالًا شَديداً» ففي خضم هذه الفتنة التي تنفد فيها طاقات البشر، فإذا بالرحمة تنزل عليهم من خلال دعاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وصالح المؤمنين.

كما قال سبحانه: «وَزلزلوا حتى يقول الرسول والّذين آمنوا معه متى نصر اللَّه» والجملة ليست إلّاطلب دعاء للنصر الذي وعد اللَّه به رسله والمؤمنين بهم واستدعاءً له، كما قال تعالى: «وَلَقدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُون» «1»، وقال تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلي». «2»

يقول الزمخشري: ومعناه طلب الصبر وتمنّيه واستطالة زمان الشدة، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة، وتماديه في العظم ... فإذا لم يبق للرسل صبر حتى ضجّوا، كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح ورائها.

وعند ذلك يخاطبون بقوله سبحانه: «ألا إنّ نصر اللَّه قريب» أي يقال لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر. «3»

ثمّ إنّ القراءة المعروفة هي الرفع في قوله: «حَتى يَقول الرسول»، وعند ذلك تكون الجملة لحكاية حال الأُمم الماضية. وقرئ بنصب «يقول» و على هذا

______________________________

(1) الصافات: 171- 172.

(2) المجادلة: 21.

(3) الكشاف: 1/ 270 في تفسير الآية.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 106

تكون الجملة في محل الغاية لما سبقها وهو قوله

«مسّتهم البأساء والضراء» و «زلزلوا» ولعل القراءة الأُولى أفضل لبعد كون الجملة غاية لمس البأساء والضراء والزلزال.

وقد تبين ممّا ذكرنا انّ المثل بمعنى التمثيل والتشبيه، فتشبيه حال الأُمة الإسلامية بالأُمم السابقة في أنّهم يعمّهم البأساء والضراء والزلزال، فإذا قرب نفاد طاقاتهم وصمودهم في المعارك يدعو الرسول ومن معه من المؤمنين لهم بالنصر والغلبة والنجاح.

ثمّ إنّ بعض الكتاب ممن كتب في أمثال القرآن جعل الآيات الثلاث التالية من الأمثال القرآنية. «1»

أ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حاجَّ إِبْراهيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّي الّذي يُحْيي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمين». «2»

ب: «أَوْ كَالّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيى هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوماً أَوْبَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مائَةَ عامٍ فَانْظُر إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُر إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ». «3»

______________________________

(1) الدكتور محمد حسين علي الصغير: الصورة الفنية في المثل القرآني: 144؛ و الدكتور إسماعيل إسماعيلي: تفسير أمثال القرآن: 191.

(2) البقرة: 258.

(3) البقرة: 259.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 107

ج: «وَإِذْقالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». «1»

ولا يخفى ما فيها من الضعف.

أمّا الآية الأُولى فلأنّ المراد من التمثيل هو التشبيه

الذي يصور فيه غالباً غير المحسوس بالمحسوس ويقرِّب المعنى إلى ذهن المخاطب، ولكن التشبيه في الآية الأُولى الذي قام به مناظر إبراهيم كان تشبيهاً غير صحيح، وذلك لأنّه لمّا وصف إبراهيم ربّه بأنّه يحيي ويميت أراد منه من يضفي الحياة على الجنين ويقبضه عندما يَطعن في السن، ولكن المناظر فسره بوجه أعم وقال: أنا أيضاً أُحيي وأُميت، فكان إحياؤه بإطلاق سراح من كُتب عليه القتل، وقتل من شاء من الأحياء، مع الفرق الشاسع بين الإحياء والإماتة في كلام الخليل وكلام المناظر، فلم يكن هناك أي تشبيه بل مغالطة واضحة فيه.

وأمّا الآية الثانية، فلم يكن هناك أي تشبيه أيضاً، لأنّه يشترط في التمثيل الاختلاف بين المشبه و المشبه به اختلافاً نوعياً، كتشبيه الرجل الشجاع بالأسد ومُحمرَّ الشقيق بأعلام الياقوت، و أمّا الآية المباركة فانّما هي من قبيل إيجاد مِثْل للمشبه، فالرجل لما مرّ على القرية الخاوية على عروشها و قد شاهد بأنّه باد أهلها ورأى عظاماً في طريقها إلى البِلاء فقال: «كيف يحيي هذه اللَّه بعد موتها» فأماته اللَّه سبحانه مائة عام ثم أحياه كما هو ظاهر الآية، وعلى ذلك فأوجد مِثْلًا للمشبه مع الوحدة النوعية وإنّما الاختلاف في الصنف، وقد عرفت لزوم وجود التباين النوعي بين المشبّه و المشبّه به.

______________________________

(1) البقرة: 260.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 108

وأمّا الآية الثالثة، فمفادها هو انّ إبراهيم كان مؤمناً بقدرته على إحياء الموتى ولكن طلب الإحياء ليراه بعينه، لأنّ للعيان أثراً كبيراً في الاطمئنان ورسوخ العلم في القلب، فطلب الرؤية ليطمئن قلبه ويزداد يقينه، فخاطبه سبحانه بقوله: «فَخُذْ أَربَعة من الطّير فصرهنّ إليك»، أي أملهنّ وأجمعهنّ وضمهنّ إليك. «ثُمّ اجعل عَلى كُلّ جَبل مِنهُنَّ جزءاً» هذا دليل على أنّه سبق الأمر بقطعهنّ

وذبحهنّ. «ثمّ ادعوهنّ يأتينك سعياً»، ولم يذكر في الآية قيام إبراهيم بهذه الأعمال استغناء عنه بالقرائن.

هذا هو مفهوم الآية وأمّا انّها ليست مَثَلًا، فلعدم توفر شرائط المثَل من المشبه والمشبه به، وإنّما هو من قبيل إيجاد الفرد من الأمر الكلي أي إحياء الموتى سواء أكان إنساناً أم لا.

فالأولى عدّهذه الآيات من القصص التي حكاها القرآن الكريم للعبرة والعظة لكن لا في ثوب المثل. فلننتقل إلى التمثيل السابع في سورة البقرة.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 109

سورة البقرة 7

التمثيل السابع

اشارة

«مَثَلُ الّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم* الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا منّاً وَلا أَذى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون* قَولٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَليم». «1»

تفسير الآيات

وعد سبحانه في غير واحد من الآيات بالجزاء المضاعف، قال سبحانه: «مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثيِرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وإليهِ تُرْجَعُون». «2»

ولأجل تقريب هذا الأمر أتى بالتمثيل الآتي وهو:

انّ مثل الإنفاق في سبيل اللَّه كمثل حبة أنبتت ساقاً انشعب سبعة شعب خرج من كلّ شعبة سنبلة فيها مائة حبة فصارت الحبة سبعمائة حبة، بمضاعفة اللَّه لها، ولا يخفى انّ هذا التمثيل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعة، فانّ في

______________________________

(1) البقرة: 261- 263.

(2) البقرة: 245.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 110

هذه إشارة إلى أنّ الأعمال الصالحة يمليها اللَّه عزّ وجلّ لأصحابها كما يملي لمن بذر في الأرض الطيبة.

وظاهر الآية انّ المشبه هو المنفق، والمشبه به هو الحبة المتبدلة إلى سبعمائة حبة، ولكن التنزيل في الواقع بين أحد الأمرين:

أ: تشبيه المنفق بزارع الحبة.

ب: تشبيه الإنفاق بالحبة المزروعة.

ففي الآية أحد التقديرين.

ثمّ إنّ ما ذكره القرآن من التمثيل ليس أمراً وهمياً وفرضاً خيالياً بل هو أمر ممكن واقع، بل ربما يتجاوز هذا العدد، فقد حكى لي بعض الزُّرّاع انّه جنى من ساق واحد ذات سنابل متعددة تسعمائة حبة، ولا غرو في ذلك فانّه سبحانه هو القابض والباسط.

ثمّ إنّه سبحانه فرض على المنفق في سبيل اللَّه الطالب رضاه ومغفرته أن لا يتبع ما أنفقه بالمنِّ

والأذى.

أمّا المن، فهو أن يتطاول المعطي على من أعطاه بأن يقول: «ألم أعطك» «ألم أحسن إليك» كلّ ذلك استطالة عليه، وأمّا الأذى فهو واضح.

فهؤلاء- أي المنفقون- غير المتبعين إنفاقهم بالمنّ والأذى «لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يَحْزنون».

ثمّ إنّه سبحانه يرشد المعوزين بأن يردّوا الفقراء إذا سألوهم بأحد نحوين:

أ: «قول معروف» كأن يتلطف بالكلام في ردّ السائلين والاعتذار منهم والدعاء لهم.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 111

ب: «ومغفرة» لما يصدر منهم من إلحاف أو إزعاج في المسألة.

فالمواجهة بهاتين الصورتين «خير من صدقة يتبعها أذى».

وعلى كلّ حال فالمغني هو اللَّه سبحانه، كما يقول: «وَاللَّه غني»، أي يغني السائل من سعته، ولكنّه لأجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استقرضكم في الصدقة وإعطاء السائل. «حليم» فعليكم يا عباد اللَّه بالحلم و الغفران لما يبدر من السائل.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 112

سوره البقرة 8

التمثيل الثامن

اشارة

«يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذى كَالّذي يُنْفِقُ مَالَهُ رئَاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُون عَلى شي ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِين». «1»

الرئى من الرؤية، وسمي المرائي مرائياً، كأنّه يفعل ليري غيره ذلك.

والصفوان واحدته صفوانة، مثل سعدان وسعدانة، ومرجان و مرجانة، وهي الحجر الأملس.

و «الوابل»: المطر الشديد الوقع.

و «الصلد»: الحجر الأملس أي الصلب، و «الصلد» من الأرض مالا ينبت فيه شيئاً لصلابته.

قدمرّ في التمثيل السابق انّ التلطف بالكلام في رد السائل والاعتذار منه، والعفو عما يصدر منه من إلحاف وإزعاج، أفضل من أن ينفق الإنسان ويتبع عمله بالأذى.

وأمّا ما هو سببه، فقد بيّنه سبحانه في هذا التمثيل، وذلك بأنّ المن والأذى

______________________________

(1) البقرة: 264.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 113

يبطل الإنفاق السابق، لأنّ ترتب الأجر

على الإنفاق مشروط بترك تعقبه بهما، فإذا اتبع عمله بأحد الأمرين فقد افتقد العمل شرط استحقاق الأجر.

وبهذا يتبيّن انّ الآية لا تدل على حبط الحسنة بالسيئة، لأنّ معنى الحبط هو إبطال العمل السيّ ء الثواب المكتوب المفروض، والآية لا تدل عليه لما قلنا من احتمال أن يكون ترتب الثواب على الإنفاق مشروطاً من أول الأمر بعدم متابعته بالمن والأذى في المستقبل، فإذا تابع عمله بأحدهما فلم يأت بالواجب أو المستحب على النحو المطلوب، فلا يكون هناك ثواب مكتوب حتى يزيله المنّ والأذى.

وأمّا استخدام كلمة الإبطال، فيكفي في ذلك وجود المقتضي للأجر وهو الإنفاق، ولا يتوقف على تحقّق الأجر ومفروضيته على اللَّه بالنسبة إلى العبد.

ثمّ إنّ الحبط باطل عقلًا وشرعاً.

أمّا الأوّل فلما قرر في محله من استلزامه الظلم، لأنّ معنى الحبط انّ مطلق السيئة يذهب الحسنات وثوابها على وجه الإطلاق مع أنّه مستلزم للظلم، لأنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر- فعلى القول بالإحباط- يكون بمنزلة من لم يحسن.

وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسئ، وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنهما. «1»

وأمّا شرعاً فلقوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَه». «2»

______________________________

(1) كشف المراد: المقصد السادس، المسألة السابعة.

(2) الزلزلة: 7- 8.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 114

وإلى هذين الوجهين أشار المحقّق الطوسي بقوله:

والإحباط باطل، لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه». «1»

ثمّ إنّ العبد بما انّه لا يملك شيئاً إلّابما أغناه اللَّه وأعطاه، فهو ينفق من مال اللَّه سبحانه، لأنّه وما في يده ملك لمولاه فهو عبد لا يملك شيئاً إلّابتمليكه سبحانه، فمقتضى تلك القاعدة أن ينفق للَّه وفي سبيل اللَّه ولا يتبع عمله بالمن والأذى.

وبعبارة أُخرى: انّ حقيقة العبودية

هي عبارة عن حركات العبد وسكناته للَّه سبحانه، ومعه كيف يسوغ له اتّباع عمله بالمن والأذى.

ولذلك يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالأَذى .

ثمّ إنّه سبحانه شبّه أصحاب المن والأذى بالمرائي الذي لا يبتغي بعمله مرضاة اللَّه تعالى، ولا يقصد به وجه اللَّه غير انّ المانّ والمؤذي يقصد بعمله مرضاة اللَّه ثمّ يتبعهما بما يبطله بالمعنى الذي عرفت، والمرائي لا يقصد بأعماله وجه اللَّه سبحانه فيقع عمله باطلًا من رأس، ولذلك صحّ تشبيههما بالمرائي مثل تشبيه الضعيف بالقوي.

وأمّا حقيقة التمثيل فتوضيحها بالبيان التالي:

نفترض أرضاً صفواناً أملس عليها تراب ضئيل يخيل لأوّل وهلة انّها أرض نافعة صالحة للنبات، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلداً صلباً

______________________________

(1) المصدر نفسه.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 115

أملس لا تصلح لشي ء من الزرع، كما قال سبحانه: «كمَثَل صَفْوان عَلَيْهِ تُراب فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكهُ صَلداً لا يَقْدِرُون على شي ء مِمّا كسبوا».

فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن ردي ء، فالإنسان غير العارف بحقيقة نية العامل يتخيل انّ عمله منتج، كما يتصور الإنسان الحجر الأملس الذي عليه تراب قليل فيتخيل انّه صالح للنبات، فعند ما أصابه مطر غزير شديد الوقع ونفض التراب عن وجه الحجر تبين انّه حجر أملس لا يصلح للزراعة، فهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الأستار تبين انّه عمل ردي ء عقيم غير ناتج.

ثمّ إنّ المانّ و المؤذي بعد الإنفاق أشبه بعمل المرائي.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 116

سورة البقرة 9

التمثيل التاسع

اشارة

«وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغاءَمَرضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبيتاً مِنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَين فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». «1»

تفسير الآية

«الربوة»: هي التل المرتفع.

و «الطلّ»: المطر الخفيف، يقال: أطلت السماء فهي مطلة. وروضة طلّة ندية.

شبّه سبحانه في التمثيل السابق عمل المان والمؤذي بعد الإنفاق، والمرائي بعمله بالأرض الصلبة التي عليها تراب يصيبها مطر غزير يكتسح التراب فلا يظهر إلّاسطح الحجر لخشونته وصلابته، على عكس التمثيل في هذه الآية حيث إنّها تشبّه عمل المنفق لمرضاة اللَّه تبارك و تعالى بجنة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل النسيم الطلق و المطر الكثير النافع، وقيد المشبه به ببستان مرتفع عن الأرض، لأنّ تأثير الشمس والهواء فيه أكمل فيكون أحسن منظراً وأذكى ثمراً، أمّا الأماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلّاقليلًا فلا تكون كذلك.

______________________________

(1) البقرة: 265.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 117

قال الرازي: إنّ المراد بالربوة الأرض المستوية الجيدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو، كما قال سبحانه: «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الماء اهْتَزَّت وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ».

ويؤيده انّ المثل مقابل الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر.

وعلى كلّ حال فهذا النوع من الأرض ان أصابها وابل أتت أُكلها ضعفين فكان ثمرها مثلي ما كانت تثمر في العادة، وإن لم يصبها وابل بل أصابها الطل تعطي أُكلها حسب مايترقب منها.

فالذين ينفقون أموالهم في سبيل اللَّه أشبه بتلك الجنة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.

ثمّ إنّ قوله سبحانه: «ابتغاء مرضات اللَّه و تثبيتاً من أنفسهم» بيان لدوافع الإنفاق وحواجزه وهو ابتغاء مرضاة اللَّه أولًا، وتقوية روح الإيمان في القلب ثانياً، ولعلّ السرّ في دخول «من» على «من أنفسهم» مع كونه مفعولًا لقوله «تثبيتاً» لبيان

انّ هذا المنفق ينفق من نفس قد روضها وثبتها في الجملة على الطاعة حتى سمحت للَّه بالمال الغزير فهو يجعل من مقاصده في الإنفاق، تثبيتها على طاعة اللَّه وابتغاء مرضاته في المستقبل.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 118

سورة البقرة 10

التمثيل العاشر

اشارة

«أَيَوَّدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون». «1»

تفسير الآية

ودّ الشي ء: أحبه. و «الجنة» هي الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك، لأنّها تجن الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه.

و «النخيل» جمع نخل أو اسم جمع.

و «الأعناب» جمع عنب وهو ثمر الكرم، والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره.

و «الإعصار» ريح عاصفة تستدير في الأرض ثمّ تنعكس عنها إلى السماء حاملة معها الغبار كهيئة العمود، جمعه أعاصير، وخص الأعاصير بما فيها نار، وقال: «إعصار فيه نار»، وفيه احتمالات:

أ: أن يكون المراد الرياح التي تكتسب الحرارة أثناء مرورها على الحرائق

______________________________

(1) البقرة: 266.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 119

فتحمل معها النيران إلى مناطق نائية.

ب: العواصف التي تصاحبها الصواعق وتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد.

ج: البرد الشديد الذي يطلق على كلّ ما يتلف الشي ء ولو بتجفيف رطوبته.

والمتعين أحد الأوّلين دون الثالث، وإلّا لكان له سبحانه أن يقول كمثل ريح صرّ وهو البرد الشديد، قال سبحانه في صدقات الكفار ونفقاتهم في الدنيا: «مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ في هذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ ريحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون». «1»

نعم ربما يفسر الصرّ بالسموم الحارة القاتلة. «2» وعندئذ تتحد الآيتان في المعنى

وعلى كلّ حال فالمقصود هو نزول البلاء على هذه الجنة الذي يؤدي إلى إبادتها بسرعة.

ثمّ إنّه سبحانه بينما يقول: «جنّة من نَخيلٍ وَأَعْناب» الظاهر في كون الجنّة محفوفة بهما، يقول أيضاً: «فِيها مِنْ كُلّ الثَّمَرات»، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين؟

والظاهر انّ النخيل والأعناب لما

كانا أكرم الشجر وأكثرها نفعاًخصّهما بالذكر وجعل الجنة منهما، وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما.

إلى هنا تم تفسير مفردات الآية.

______________________________

(1) آل عمران: 117.

(2) مجمع البيان: 1/ 491.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 120

وأمّا التمثيل فيتركب من مشبه ومشبه به.

أمّا المشبه فهو عبارة عمن يعمل عملًا صالحاً ثمّ يردفه بالسيئة، كما هو المروي عن ابن عباس، عندئذٍ يكون المراد من ينفق ويتبع عمله بالمنّ والأذى.

قال الزمخشري: ضربت الآية مثلًا لرجل غني يعمل الحسنات، ثمّ بعث اللَّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها. «1»

وأمّا المشبه به فهو عبارة عن رجل طاعن في السن لحقته الشيخوخة وله أولاد صغار غير قادرين على العمل وله جنّة محفوفة بالنخيل والأعناب تجري من تحتها الأنهار وله من كلّ الثمرات، وقد عقد على تلك الجنة آمالًا كبيرة، وفجأة هبت عاصفة محرقة فأحرقتها وأبادتها عن بكرة أبيها فكيف يكون حال هذا الرجل في الحزن والحسرة والخيبة والحرمان بعد ما تلاشت آماله، فالمنفق في سبيل اللَّه الذي هيأ لنفسه أجراً وثواباً أُخروياً عقد به آماله، فإذا به يتبع عمله بالمعاصي، فقد سلط على أعماله الحسنة تلك أعاصير محرقة تبيد كلّ ما عقد عليه آماله.

______________________________

(1) الكشاف: 1/ 299.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 121

سورة البقرة 11

التمثيل الحادي عشر

اشارة

«الّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسّ ذلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبوا وَأَحَلَّ اللَّهُ البيعَ وَحَرَّمَ الرِّبوا فَمَنْ جاءَهُ مَوعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَفَأُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ». «1»

تفسير الآية

«الربا» الزيادة كما في قولهم ربا الشي ء يربو إذا زاد، والربا هو الزيادة على رأس المال، فلو أقرض أحد أحداً عشرة إلى سنة فأخذ منه في نهاية الأجل أكثر ممّا دفع فهو ربا إذا شرطه في العقد.

و «التخبط» والخبط بمعنى واحد، و هو المشي على غير استواء، يقال: خبط البصير إذا اختلت جهة مشيه، ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: هو يخبط خبطة عشواء، أي يضرب على غير اتساق.

وعلى هذا فالمراد من قوله: «يَتَخَبَّطهُ الشَّيْطان» أي يخبطه الشيطان ويضربه، وبالتالي يصرعه.

______________________________

(1) البقرة: 275.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 122

و «السلف» أي الماضي يقال سلف يسلف سلوفاً، ومنه الأُمم السالفة أي الماضية.

وأمّا قوله «مِنَ المَسّ» فالظرف متعلق بيقوم، أي لا يقومون إلّاكما يقوم المصروع من المس.

وحاصل معنى الآية انّ آكل الربا لا يقوم إلّاكقيام من يخبطه الشيطان فيصرعه، فكما أنّ قيامه على غير استواء فهكذا آكل الربا.

فالتشبيه وقع بين قيام آكل الربا و قيام المصروع من خبط الشيطان، فيطرح هنا سؤالان:

الأوّل: ما هو المراد من أنّ آكل الربا لا يقوم إلّا كقيام المصروع؟

الثاني: ما هو المراد من كون الصرع من مس الشيطان؟

أمّا الأوّل: فقد اختلف فيه كلمة المفسرين على وجوه:

1. ذهب أكثرهم إلى أنّ المراد قيامهم يوم القيامة قيام المتخبطين، فكأنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فيعرفه أهل الموقف انّه آكل الربا في الدنيا.

و على ضوء هذا فيكون معنى الآية انّهم يقومون

مجانين كمن أصابه الشيطان بمسٍّ.

2. انّهم إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله: «يخرجون من الأجداث سراعاً» إلّا آكلة الربا فانّهم يقومون ويسقطون، لأنّه سبحانه أرباه في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 123

ويؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: أُسري بي إلى السماء رأيت رجالًا بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء ياجبرئيل؟ قال:

هؤلاء آكلة الربا.

3. انّ المراد من المس ليس هو الجنون، و إن كان المس يستعمل فيه، بل المراد من تبع الشيطان وأجاب دعوته، كما هو الحال في قوله سبحانه: «إِنَّ الّذينَ اتَّقَوا إِذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُون» «1»، وذلك لأنّ الشيطان يدعو إلى طلب اللّذات والشهوات والاشتغال بغير اللَّه، فهذا هو المراد من مس الشيطان، و من كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً، فتارة يجرّه الشيطان إلى اتّباع النفس والهوى وتارة تجرّه الفطرة إلى الدين والتقوى فتضطرب حياته ويسودها القلق.

فلا شكّ انّ آكل الربا يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً عليها، ولذلك تكون حياته الدنيوية حياة غير منظمة وعلى غير استواء.

وهناك وجه رابع ذكره السيد الطباطبائي وهو:

إنّ الإنسان الممسوس الذي اختلت قوته المميزة لا يفرق بين الحسن والقبيح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي في أخذه للربا فانّ الذي تدعو إليه الفطرة أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه. وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة، فهذا شي ء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فانّ ذلك ينجر من جانب المرابي إلى

اختلاس المال من يد المدين وتجمعه وتراكمه عند المرابي، فانّ هذا المال لا يزال ينمو و يزيد، ولا ينمو إلّامن مال الغير، فهو بالانتقاص

______________________________

(1) الأعراف: 201.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 124

والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام من جانب آخر.

وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شي ء مع تزايد الحاجة، وكلما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه وفي ذلك انهدام حياة المدين.

فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.

وهذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فانّ المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرّق بين البيع والربا، فإذا دعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع، أجاب: انّ البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: «إِنَّما البيعُ مثْل الرِّبا». «1»

وهناك سؤال: وهو انّه لماذا قيل البيع مثل الربا بل كان عليهم القول بأنّ الربا مثل البيع، لأنّ الكلام في الربا لا في البيع فوجب عليهم أن يشبهوا الربا بالبيع، لا على العكس.

والجواب انّهم شبهوا البيع بالربا لأجل المبالغة وهو انّهم جعلوا حلية الربا أصلًا، وحلية البيع فرعاً، فقالوا: إنّ البيع مثل الربا.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني وهو كون الجنون معلولًا لوطأة الشيطان ومسّه، فنقول:

انّ ظاهر الآية انّ الجنون نتيجة تصرف الجن في المجانين، مع أنّ العلم

______________________________

(1) الميزان: 2/ 411.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 125

الحديث كشف علة الجنون وهو حدوث اختلالات في الأعصاب الإدراكية، فكيف يجمع بين مفاد الآية وما عليه العلم الحديث، وهذا

من قبيل تعارض النقل والعقل.

وأجاب عنه بعض المفسرين بأنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، ولا ضير في ذلك، لأنّه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأً غير مطابق للواقع.

فحقيقة معنى الآية هو انّ هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وأمّا كون الجنون مستنداً إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن، لأنّ اللَّه سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده، أو على عبده المؤمن. «1»

وأجاب عنه السيد الطباطبائي بأنّ اللَّه تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل، و لغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلّا مع بيان بطلانه ورده على قائله، وقد قال تعالى في وصف كلامه: «وَإِنَّهُ لكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ». «2»

وقال تعالى: «إِنَّهُ لَقَولٌ فَصْلٌ* وَما هُوَ بِالْهَزْلِ». «3»

وأمّا انّ استناد الجنون إلى تصرف الشيطان و ذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه انّ الاشكال بعينه مقلوب عليهم في اسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب

______________________________

(1) نقله في الميزان: 2/ 413 ولم يذكر المصدر؛ وفي تفسير المنار: 3/ 95 ما يقرب من ذلك نقله عن البيضاوي في تفسيره.

(2) فصلت: 42.

(3) الطارق: 13- 14.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 126

الطبيعية فانّها مستندة أخيراً إلى اللَّه تعالى مع إذهابها العقل. «1»

وهناك كلام آخر للسيد الطباطبائي ولعلّه يقلع الشبهة: انّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان، كما أنّ أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما

حكاه اللَّه عن أيوب عليه السلام إذ قال: «أنّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» «2»، وإذ قال: «أَنّي مَسَّنِيَ الضُرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ» «3»، والضرّهو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان. «4»

______________________________

(1) الميزان: 2/ 412.

(2) ص: 41.

(3) الأنبياء: 83.

(4) الميزان: 2/ 413.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 127

آل عمران 12

التمثيل الثاني عشر

اشارة

«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون* الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِين». «1»

تفسير الآية

ذكر سبحانه كيفية ولادة المسيح من أُمّه «مريم العذراء» وابتدأ بيانه بقوله: «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ...» وانتهى بقوله:

«قالَتْ رَبّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشَاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». «2»

وبذلك أثبت انّ المسيح مخلوق للَّه سبحانه مولود من أُمّه العذراء دون أن يمسّها بشر وانّه عليه السلام آية من آيات اللَّه سبحانه، ولما كانت النصارى تتبنى إلوهية المسيح وانّه يؤلف أحد أضلاع مثلث الأُلوهية الرب و الابن وروح القدس، وكانت تؤمن انّه ابن الرب، لأنّه ولد من مريم بلا أب.

ولما احتجوا بهذا الدليل أمام النبي صلى الله عليه و آله و سلم وافاه الوحي مجيباً على استدلالهم بأنّ

______________________________

(1) آل عمران: 59- 60.

(2) آل عمران: 45- 47.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 128

كيفية خلق المسيح يضاهي كيفية خلق آدم. حيث إنّ آدم خلق من تراب بلا أب وأُمّ، فإذا كان هذا أمراً ممكناً، فمثله المسيح حيث ولد من أُمّ بلا أب فهو أهون بالإمكان.

وبعبارة أُخرى: انّ المسيح مثل آدم في أحد الطرفين، ويكفي في المماثلة المشاركة في بعض الأوصاف، ففي الحقيقة هو من قبيل تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة الشبهة.

إنّ من الأسئلة المثارة حول قوله سبحانه: «ثُمَّ قال لَهُ كُنْ فيكون» هو انّ الأنسب أن يقول: «ثم قال له كن فكان» فلماذا قال: «فيكون» لأنّ أمره سبحانه بالتحقّق أمر يلازم تحقّق الشي ء دفعة.

والجواب انّه وضع المضارع مكان الماضي وهو أمر جائز، والنكتة

فيه هي تصوير الحالة الماضية فأنّ تكوّن آدم كان أمراً تدريجياً لا أمراً دفعياً.

وبعبارة أُخرى: انّ قوله: «كن» وإن كان دالًا على انتفاء التدريج ولكنّه بالنسبة إليه سبحانه، وأمّا بالنسبة إلى المخلوق فهو على قسمين: قسم يكون فاقداً له كالنفوس والعقول الكلية، وقسم يكون أمراً تدريجياً حاصلًا بالنسبة إلى أسبابها التدريجية، فإذا لوحظ الشي ء بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة- لانتفاء الزمان والحركة في المقام الربوبي، ولذا قال سبحانه: «وَما أَمْرنا إِلّا واحدةٌ كَلَمْحٍ بالْبَصَر» «1» وأمّا إذا لوحظ بالقياس إلى وجود الممكن وأسبابه فالتدريج أمر متحقق وبالجملة فقوله «فيكون» ناظر إلى الحالة الماضية. «2»

وهناك وجه آخر ذكره المحقّق البلاغي عند تفسير قوله سبحانه: «بَدِيعُ

______________________________

(1) القمر: 50.

(2) الميزان: 3/ 212؛ المنار: 3/ 319.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 129

السَّمواتِ والأَرْض وَإِذا قَضى أَمْراً فَانَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون».

إنّ قوله: «فيكون» تفريع على قوله «يقول» وليس جزاءً لقوله تعالى «كن»، لأنّ الكون بعد الفاء، هو نفس الكون المأمور به لا جزاءه المترتب عليه، وتوهم انّه جزاء لذات الطلب أو ملكوت مع الطلب مدفوع، بأنّه لو صحّ لوجب أن ينصب مع أنّه مرفوع. «1»

وعلى كلّ تقدير فالقرآن الكريم يستدل على إبطال إلوهية المسيح بوجوه مختلفة، منها هو تشبيه ولادة المسيح بآدم. والتمثيل المذكور يتكفّل بيان هذا الأمر أيضاً، وفي الحقيقة الآية منحلة إلى حجتين تفي كلّ واحدة منهما بنفي الإلوهية عن المسيح.

إحداهما: انّ عيسى مخلوق للَّه- على ما يعلمه اللَّه لا يضل في علمه- خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبداً لا رباً.

وثانيهما: انّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم، فلو اقتضى سنخ خلقه ان يقال بإلوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنّهم لا

يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى عليه السلام أيضاً لمكان المماثلة.

ويظهر من الآية انّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية و إن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكونه إلى والد. «2»

______________________________

(1) آلاء الرحمن: 1/ 120.

(2) الميزان: 3/ 212.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 130

آل عمران 13

التمثيل الثالث عشر

اشارة

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَولادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ في هذِهِ الحَياةِ الدُّنيا كَمَثَلِ ريحٍ فِيها صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون». «1»

تفسير الآيات

الصرّ: الريح الباردة نحو صرصر، قال الشاعر:

لا تعدلنّ أتاويين «2» تضربهم نكباء صرٍّ بأصحاب المحلات

ونقل الطبرسي عن الزجاج انّه قال: الصرّ صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح، وأضاف: و يجوز أن يكون الصرّ صوت الريح الباردة الشديدة.

وعلى كلّ تقدير فالمراد هو الريح السامة التي تهلك الحرث.

والمراد من «حرث قوم ظلموا أنفسهم» الذين زرعوا في غير موضع الزراعة

______________________________

(1) آل عمران: 116- 117.

(2) الاتاوي: جمع الإتاوة: الخراج الامثال فى القرآن الكريم، ص: 131

أو في غير وقتها، فهبت عليه العواصف فذهب أدراج الرياح، إذ لا شكّ انّ للزمان و المكان تأثيراً بالغاً في نمو الزرع، فالنسيم الهادئ الذي يهب على الزرع ويلامسه والأرض الخصبة كلها عوامل تزيد في طراوة الزرع ونضارته.

هذا هو المشبه به، فالكافر إذا أنفق ماله في هذه الحياة الدنيا بغية الانتفاع به، فهو كمن زرع في غير موضعه أو زمانه، فلا ينتفع من إنفاقه شيئاً، فانّ الكفر وما يتبعه من الهوى يبيد إنفاقه، ولذلك قال سبحانه: «إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْني عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَولادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً».

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 132

الأنعام 14

التمثيل الرابع عشر

اشارة

«أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُون». «1»

تفسير الآية

نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام، و ذلك انّ أبا جهل آذى رسول اللَّه فأخبر بذلك حمزة، وهو على دين قومه، فغضب وجاء ومعه قوس فضرب بها رأس أبي جهل وآمن، وهو المروي عن ابن عباس.

وقيل: انّها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل، و هو المروي عن أبي جعفر، ولكن الظاهر انّها عامة في كلّ مؤمن وكافر، ومع ذلك لا يمنع هذا نزولها في شخصين خاصين.

ففي هذه الآية تمثيلات وتشبيهات جعلتها من قبيل التشبيه المركب نذكرها تباعاً:

1. يقول سبحانه: «أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ» وقد شبّه الكافر ب «الميت» الذي هو مخفف الميِّت والمؤمن بالحي.

______________________________

(1) الأنعام: 122.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 133

وليست الآية نسيج وحدها فقد شبّه المؤمن في غير واحد من الآيات بالحي، والكافر بالميت، قال سبحانه: «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوتَى «1» و «لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيّاً» «2» و «وَما يَسْتَوِي الأَحْياءُ وَلَا الأَمْواتُ». «3»

2. يقول سبحانه: «وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشي بِهِ فِي النّاسِ» فقد شبّه القرآن بالنور، حيث إنّ المؤمن على ضوء القرآن يشق طريق السعادة، قال سبحانه: «يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَكُم بُرهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبيناً». «4»

وقال سبحانه: «مَا كُنْتَ تَدري مَا الكِتابُ ولَا الإِيمَانُ ولكِن جَعَلْناهُ نُوراً» «5»، فالقرآن ينور الدرب للمؤمن.

3. يقول سبحانه «كمَن مَثله فِي الظُلمات لَيْس بِخارجٍ مِنْها»، فالمراد من الظلمة إمّا الكفر أو الجهل، ويؤيد الأوّل قوله سبحانه: «اللَّهُ وَلِيُّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّور». «6»

ثمّ إنّه سبحانه شبه

الكافر بالذي يمكث في الظلمات لا يهتدي إلى شي ء بقوله:

«كَمَنْ مَثَلهُ فِي الظُّلمات» ولم يقل: كمن هو في الظلمات، بل توسط لفظ المثل فيه، ولعل الوجه هو تبيين انّه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل.

هذا هو تفسير الآية على وجه التفصيل.

______________________________

(1) الروم: 52.

(2) يس: 70.

(3) فاطر: 22.

(4) النساء: 174.

(5) الشورى: 52.

(6) البقرة: 257.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 134

وحاصل الآية: انّ مثل من هداه اللَّه بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل، والمهتدي والضال،- مثله- من كان ميتاً فأحياه اللَّه و جعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به، فيميز بعضه من بعض.

هذا هو مثل المؤمن، ولا يصح قياس المؤمن بالباقي على كفره غير الخارج عنه، الخابط في الظلمات المتحير الذي لا يهتدي سبيل الرشاد.

وفي الحقيقة الآية تشمل على تشبيهين:

الأوّل: تشبيه المؤمن بالميت المحيا الذي معه نور.

الثاني: تشبيه الكافر بالميت الفاقد للنور الباقي في الظلمات، والغرض انّ المؤمن من قبيل التشبيه الأوّل، دون الثاني.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 135

الأعراف 15

التمثيل الخامس عشر

اشارة

«وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقلَّتْ سَحَاباً ثِقَالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ المَوتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون* وَالبَلَد الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّانَكِداً كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيات لِقَومٍ يَشْكُرُون». «1»

تفسير الآية

«أقلّ» من الإقلال، وهو حمل الشي ء بأسره.

والنكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير، يقال نكد إذا سئل فبخل، قال الشاعر:

واعطي ما أعطيته طيّباًلا خير في المنكود والناكد

«البلد الطيب»: عبارة عن الأرض الطيب ترابها، ففي مثلها يخرج الزرع نامياً زاكياً من غير كدِّ ولا عناء، كلّ ذلك بإذنه سبحانه.

والبلد الخبيث هي الأرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها إلّا شيئاً

______________________________

(1) الأعراف: 57- 58.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 136

قليلًا، و كأنّها لا تعطي إلّاشيئاً قليلًا وهو بالعسر.

وتصريف الآيات عبارة عن تكررها.

ذكر سبحانه في الآية الأُولى بأنّه يرسل الرياح مبشرةً برحمته، فإذا حملت سحاباً ثقالًا بالماء ساقه سبحانه إلى بلد ميت فتحيا به الأرض وتؤتي ثمراتها.

وعاد سبحانه في الآية الثانية إلى القول بأنّ هطول المطر وسقي الأرض جزء مما يتوقف عليه خروج النبات، وهناك شرط آخر وهو أن تكون الأرض خصبةصالحة للزراعة دونما إذا كانت خبيثة، هذا هو حال المشبه به.

وأمّا المشبه فهو انّه سبحانه يشبه المؤمن بأرض طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها، كما تشبه قلب الكافر بالأرض السبخة لا تنبت شيئاً، فقلب المؤمن كالأرض الطيبة وقلب الكافر كالأرض السبخة.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 137

الأعراف 16

التمثيل السادس عشر

اشارة

«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغَاوِين* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْركْهُ يَلْهَث ذلِكَ مَثَلُ الْقَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ* ساءَمَثَلًا الْقَومُ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُون». «1»

تفسير الآيات

النبأ: الخبر عن الأمر العظيم ومنه اشتقاق النبوة، أخلد إلى الأرض أي سكن إليها.

السلخ: النزع، وقوله: «أخْلد إلى الأرض» لصق بها، واللهث أن يدرع الكلب لسانه من العطش، واللهاث حرّالعطش.

هذا هو تفسير مفردات الآية، وأمّا المضمون فالآية تمثيل يتضمن مشبهاً ومشبهاً به، أمّا الثاني فقد اختلفت كلمة المفسرين في المراد منه، فالأكثر على أنّ المراد هو بلعم بن باعوراء الذي كان عالماً من علماء بني إسرائيل، وقيل من

______________________________

(1) الأعراف: 175- 177.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 138

الكنعانيين أُوتي علم بعض كتاب اللَّه، ولكنّه كفر به ونبذه وراء ظهره، فلحقه الشيطان وصار قريناً له وكان من الغاوين الضالين الكافرين.

والإمعان في الآية يعرب عن بلوغ الرجل مقاماً شامخاً في العلم والدراية، وعلى الرغم من ذلك فقد سقط في الهاوية، وإليك ما يدل على ذلك في الآية:

أ: لفظ «نبأ» حاك عن أنّه كان خبراً عظيماً لا خبراً حقيراً.

ب: قوله: «الذي آتَيْناهُ آياتنا» حاك عن إحاطته بالحجج والبيّنات وعلم الكتب السماوية.

ج: قوله: «فانسلخ منها» يدل على أنّ الآيات والعلوم الإلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن إلّا انّه خرج منها.

ويؤيد ذلك انّه سبحانه يعبر عن التقوى باللباس، ويقول: «وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيرٌ». «1»

د: قوله: «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطان» يدل على أنّ الشيطان كان آيساً من كفره وقد انقطعت صلته به، لكنّه لما انسلخ من الآيات لحقه الشيطان واتبعه فأخذ يوسوس له

كلّ يوم إلى أن جعله من الضالين.

إلى هنا تم تفسير الآية الأُولى، وأمّا الآية الثانية فهي تتضمن حقيقة قرآنية، وهي انّه سبحانه تبارك و تعالى كان قادراً على رفعه وتنزيهه وتقريبه إليه، ولكنّه لم يشأ، لأنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بهداية من أعرض عنه وتبع هواه، إذ كيف يمكن تعلق مشيئته بهداية من أعرض عن اللَّه وكذب آياته، ولذلك يقول:

«وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها» أي لرفعناه بتلك الآيات «ولكن ما شئنا» وليس

______________________________

(1) الأعراف: 26.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 139

ذلك للبخل منه سبحانه، بل لفقدان الأرضية الصالحة، لأنّه أخلد إلى الأرض ولصق بها، وكأنّها كناية عن الميل والنزوع إلى التمتع بالملاذ الدنيوية، ومعه كيف تشمله العناية الربانية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى وجه آخر لعدم تعلّق مشيئته بهدايته، وهو انّ هذا الإنسان بلغ في الضلالة والغواية مرحلة صارت سجية وطبيعة له، ومزج بها روحه ونفسه وفطرته، فلا يصدر منه إلّا التكذيب والإدبار عن آياته، فلذلك لا يؤثر فيه نصيحة ناصح ولا وعظ واعظ، ولتقريب هذا الأمر نأتي تمثيلًا في ضمن تمثيل، ونقول:

«فَمَثَلهُ كَمَثل الكَلْب انْ تَحْمل عَلَيه يَلْهَث أَوْتَتْركهُ يَلهَث»، وذلك لأنّ اللهث أثر طبيعي لسجيته فلا يمكن أن يخلّص نفسه منها.

هذا هو المشبه به، وهو يعرب عن أنّ الهداية والضلالة بيد اللَّه تبارك وتعالى، وقد تعلّقت مشيئته بهداية الناس بشرط أن تتوفر فيه أرضية خصبة تؤهله لتعلّق مشيئته تعالى به، فمن أخلد إلى الأرض ولصق بها، أي أخلد إلى المادة والماديات، فلا تشمله الهداية الإلهية بل هو محكوم بالضلال لكن ضلالًا اختيارياً مكتسباً.

هذا هو حال المشبه به، وقد عرفت أنّ التمثيل يتضمن تمثيلًا آخر.

وأمّا المشبه فقد اختلفت كلمة المفسرين، فربما يقال انّ المراد أُمية بن أبي الصلت الثقفي

الشاعر، وكانت قصته انّه قرأ الكتب وعلم أنّ اللَّه سبحانه يرسل رسولًا في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلمّا بعث سبحانه محمداً حسده ومرّ على قتلى بدر فسأل عنهم، فقيل: قتلوا في حربهم مع النبي، فقال: لو كان نبياً لما قتل أقرباءه، وقد ذهب إلى الطائف ومات بها، فأتت أُخته

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 140

الفارعة إلى رسول اللَّه، فسألها عن وفاته، فذكرت له انّه أنشد عند موته:

كل عيش وإن تطاول دهراًصائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدالي في قلال الجبال أرعى الوعولا

انّ يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوماً ثقيلًا

ثمّ قال صلى الله عليه و آله و سلم لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت:

لك الحمدُ والنعماءُ والفضلُ ربّناولا شي ء أعلى منك جدّاً وأمجدُ

مليكٌ على عرش السّماءِ مهيمنٌ لعزّته تعنُوا الوجوهُ وتسجدُ

ثمّ أنشدته قصيدته التي يقول فيها:

وقف الناس للحسابِ جميعاًفشقيٌّ معذّب وسعيد

والتي فيها:

عند ذي العرش تُعرضونَ عليه يعلمُ الجهرَ والسِراءَ الخفيّا

يوم يأتي الرحمنُ وهو رحيم إنّه كان وعدُهُ مأتيّا

ربِّ إن تعفُ فالمعافاةُ ظنّي أو تُعاقِبْ فلم تعاقِب بريّا

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ أخاك آمن شعره، وكفر قلبه» وأنزل اللَّه تعالى الآية. «1»

وقيل انّه أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سمّاه النبي الفاسق، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوخ، فقدم المدينة، فقال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: ما هذا الذي جئت به، قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم»، قال: فأنا عليها، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «لست عليها ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها».

فقال أبو عامر: أمات اللَّه الكاذب منّا طريداً وحيداً،

فخرج إلى أهل الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح، ثمّ أتى قيصر وأتى بجند ليخرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم من المدينة، فمات بالشام طريداً وحيداً.

والظاهر انّ المشبه ليس خصوص هذين الرجلين، بل كما قال الإمام الباقر عليه السلام: «الأصل في ذلك بلعم، ثم ضربه اللَّه مثلًا لكل مؤثر هواه على هدى اللَّه من أهل القبلة». «2»

وفي الآية دلالة واضحة على أنّ العبرة في معرفة عاقبة الإنسان هي أُخريات حياته، فربما يكون مؤمناً في شبابه ويرتد عن الدين في شيخوخته وهرمه، فليس

______________________________

(1) مجمع البيان: 2/ 499- 500.

(2) مجمع البيان: 2/ 500.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 142

صلاح الإنسان وفلاحه في عنفوان شبابه دليلًا على صلاحه ونجاته في آخر عمره.

وبذلك يعلم أنّ ترضي القرآن عن المهاجرين والأنصار في قوله سبحانه: «لَقَدْ رَضِي اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً». «1»

ويؤيد ما ذكرناه انّه سبحانه حدّد ظرف الرضا بقوله: «إِذ يُبايعونك» ولا يكون دليلًا على رضاه طيلة حياتهم، فلو دلّ دليل على زلة واحد منهم، فيؤخذ بالثاني جمعاً بين الدليلين.

وقد يظهر مفاد قوله سبحانه: «والسَّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنْصَارِ وَالّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْري تَحْتَهَا الأَنهَارُ خالِدينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ». «2»

فانّ الآية دليل على شمول رضى اللَّه لهم، فيؤخذ بالآية مالم يدل دليل قطعي على خلافها، فلو ثبت بدليل متواتر أو خبر محفوف بالقرينة ارتداد واحد منهم أو صدور معصية كبيرة أو صغيرة، فيؤخذ بالثاني، وليس بين الدليلين أي خلاف، إذ ليس مقام صحابي أو تابعي أعلى من مقام ما جاء في هذه الآية، أعني

من آتاه اللَّه سبحانه آياته وصار من العلماء الربانيين ولكن اتبع هواه فانسلخ عنها.

فما ربما يتراءى من إجماع غير واحدمن المفسرين بهذه الآيات على عدالة كافة الصحابة فكأنّها غفلة عن مفادها وإغماض عما صدر عن غير واحد من الصحابة من الموبقات والمعاصي واللَّه العالم.

______________________________

(1) الفتح: 18.

(2) التوبة: 100.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 143

سورة التوبة 17

التمثيل السابع عشر

اشارة

«وَالذّين اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنينَ وإِرْصاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلّا الحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَومٍ أَحقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرين* أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللَّهِوَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَبهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدي القَومَ الظّالِمين». «1»

تفسير الآيات

«الضرار»: هو إيجاد الضرر عن عناد.

«الإرصاد» بمعنى الإعداد.

«البنيان» مصدر بنى

و «التقوى خصلة من الطاعة يحترز بها عن العقوبة، والواو فيه مبدلة من الياء لأنّها من وقيت.

«شفا»: شفا البئر وغيره، جُرفَه، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك.

______________________________

(1) التوبة: 107- 109.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 144

«الجرف» جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء، وتجرفه السيول فيبقى واهياً.

قال الراغب: يقال للمكان الذي يأكله السيل فيجرفه، أي يذهب به، جرف

هار البناء وتهوّر: إذا سقط، نحو إنهار.

ذكر المفسرون انّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء، وبعثوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتيهم، فأتاهم وصلى فيه، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف، فقالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد وكانوا اثني عشر رجلًا، وقيل خمسة عشر رجلًا، منهم: ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، ونبتل بن الحرث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء، فلمّا فرغوا منه، أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يتجهّز إلى تبوك.

فقالوا: يا رسول اللَّه انّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة.

فقال صلى

الله عليه و آله و سلم: «إنّي على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء اللَّه فصلّينا لكم فيه»، فلمّا انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

إنّ الآية تشير إلى الفرق الشاسع بين من بنى بنياناً على أساس محكم و من بناه على شفا جرف، فالأوّل يبقى عبر العصور ويحتفظ بكيانه في الحوادث المدمرة، بخلاف الثاني فانّه سوف ينهار لا محالة بأدنى ضربة.

فالمؤمن هو الذي يعقد إيمانه على قاعدة محكمة وهو الحقّ الذي هو تقوى اللَّه ورضوانه، بخلاف المنافق فانّه يبني إيمانه على أضعف القواعد وأرخاها وأقلّها

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 145

بناءً وهو الباطل، فإيمان المؤمن و دينه من مصاديق قوله: «أَفَمَنْ أسَّس بُنيانه على تقوى من اللَّه ورضوان» ولكن دين المنافق كمن «أسّس بنيانه على شفا جرف هار» فلا محالة ينهار به في نار جهنم.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 146

سورة يونس 18

التمثيل الثامن عشر

اشارة

«إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْهَا أَتاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأن لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُون* واللَّهُ يَدعُو إلى دارِالسَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». «1»

تفسير الآيات

قوله: «فاخَتلَطَ بهِ نَبات الأَرض» فلو قلنا بأنّ الباء للمصاحبة، يكون معناه أي اختلط مع ذلك الماء نبات الأرض، لأنّ المطر ينفد في خلل النبات، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد انّه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض حيث إنّ الماء صار سبباً لرشده والتفاف بعضه ببعض.

قوله: «ازّيّنت» أصله تزينت، فادغمت التاء بالزاي وسكنت الزاي فاجلبت لها ألف الوصل.

فقوله: «أخذت الأَرْضُ زُخرفها وازَّيّنت» تعبير رائع حيث جعلت الأرض

______________________________

(1) يونس: 24- 25.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 147

آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كلّ لون فاكتستها وتزينّت بغيرها من ألوان الزين.

قوله: «قادرون عليها»، أي متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها.

قوله: «أتاها أمرنا» كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها «حصيداً» شبيهاً بما يحصد من الزرع في استأصاله.

قوله: «كأن لم تغن» بمنزلة قوله: كأن لم ينبت زرعها.

قوله: «دار السلام» فهو من أوصاف الجنة، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه، بخلاف المقام فانّها دار البلاء.

هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها الجملي، فنقول:

نفترض أرضاً خصبة رابية صالحة لغرس الأشجار وزرع النبات وقد قام صاحبها باستثمارها من خلال غرس كلّ ما ينبت فيها، فلم يزل يتعاهدها بمياه الأمطار والسواقي، فغدت روضة غنّاء مكتظة بأشجار ونباتات متنوعة، وصارت الأرض كأنّها عروس تزيّنت وتبرجت، وأهلها مزهوّون بها يظنّون انّها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزيّنت

وانّهم أصحاب الأمر لا ينازعهم فيها منازع. فيعقدون عليها آمالًا طويلة، ولكن في خضم هذه المراودات يباغتهم أمره سبحانه ليلًا أو نهاراً فيجعل الطري يابساً، كأنّه لم يكن هناك أي جنة ولا روضة.

هذا هو المشبه به واللَّه سبحانه يمثل الدنيا بهذا المثل، وهو انّ الإنسان ربما يغتر بالدنيا ويعول الكثير من الآمال عليها مع سرعة زوالها وفنائها، وعدم ثباتها واستقرارها.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 148

يقول مؤيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم

ترجو البقاء بدار لا ثبات لهافهل سمعت بظل غير منتقل

وقد أسماها سبحانه متاع الحياة الدنيا في مقابل الآخرة التي أسماها بدار السلام في الآية التالية، وقال: «اللَّه يدعو إلى دار السلام».

ثمّ إنّه يبدو من كلام الطبرسي انّ هذا التمثيل من قبيل التمثيل المفرد، فذكر أقوالًا:

أحدها: انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع.

وثانيها: انّه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزوال عن الجبائي وأبي مسلم.

وثالثها: انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بحياة مقدَّرة على هذه الأوصاف. «1»

والحقّ انّه من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث يعبر عن عدم الاعتماد والاطمئنان بالدنيا بما جاء في المثل، وإنّما اللائق بالاعتماد هو دار السلام الذي هو سلام على الإطلاق وليس فيها أي مكروه.

وقد قيد سبحانه في الآية دار السلام، بقوله: «عند ربّهم» للدلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك.

ويأتي قريب من هذا المثل في سورة الكهف، أعني: قوله:

______________________________

(1) مجمع البيان: 3/ 102.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 149

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ على كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدراً». «1» وسيوافيك بيانها في محلها.

ويقرب من هذا

ما في سورة الحديد، قال سبحانه:

«اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْو وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ في الأَمْوالِ وَالأَولادِ كَمَثلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيج فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرُور». «2»

______________________________

(1) الكهف: 45.

(2) الحديد: 20. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 150

الامثال فى القرآن الكريم 199

سورة هود 19

التمثيل التاسع عشر

اشارة

«إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَأَخْبتُوا إِلى رَبّهِمْ أُولئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُون* مَثَلُ الفَريقَين كَالأَعْمى وَالأَصَمِّ وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُون». «1»

تفسير الآيات

يصور سبحانه الكافر كالأعمى والأصم، والمؤمن بالبصيروالسميع، ثمّ ينفي التسوية بينهما- كما هو معلوم- غير انّ هذا التمثيل يستقي مما وصف به سبحانه كلا الفريقين بأوصاف خاصة.

فقال في حقّ الكافر: «ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُون». «2»

والمراد كان لهم أسماعاً وأبصاراً ولكنّهم لم يكونوا يستخدمونها في سماع الآيات ورؤية الحقائق، فنفي الاستطاعة كناية عن عدم استخدام الأسماع، كما أنّ نفي الأبصار كناية عنه.

ثمّ إنّه سبحانه وصف المؤمن في الآية التالية بأوصاف ثلاثة:

______________________________

(1) هود: 23- 24.

(2) هود: 20.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 151

أ: الإيمان باللَّه.

ب: العمل الصالح.

ج: التسليم إلى اللَّه حيث قال: «وأخبتوا إلى ربّهم».

فالمؤمن الصالح ثمرة من شجرة الإيمان كما انّ التسليم والانقياد والخضوع والاطمئنان لما وعد اللَّه من آثاره أيضاً.

فالمؤمن هو الذي يسمع آياته ويبصرها في سبيل ترسيخ الإيمان في قلبه واثماره.

ثمّ إنّه مثّل الكافر و المؤمن بالتمثيل التالي، وقال: «مَثَلُ الفَريقَين كَالأَعْمى والأَصم وَالبَصير وَالسَّميع هَلْ يَسْتَويان مَثلًا أَفَلا تَذَكَّرُون».

أي مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع. ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم، لأنّ المؤمن ينتفع بحواسه باعمالها في معرفة المنعم وصفاته وأفعاله، والكافر لا ينتفع بها فصارت بمنزلة المعدومة.

ثمّ إنّه وسط الوضع بين الأعمى والأصم كما وسطها بين البصير والسميع، وذلك لإفادة تعدّد التشبيه بمعنى:

انّ حال الكافر كحال الأعمى.

وحال الكافر أيضاً كحال الأصم.

كما أنّ حال المؤمن كالبصير.

وحاله أيضاً كالسميع.

وحاصل الكلام: انّه لا يستوي البصير والسميع مع الأعمى والأصم، والمؤمن والكافر أيضاً لا يستويان.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 152

سورة الرعد 20

التمثيل العشرون

اشارة

«لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَي ءٍ إِلّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الماءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَمَا دُعاءُ الكافِرِينَ إِلّا فِي ضَلالٍ». «1»

تفسير الآية

تقدم الظرف في قوله: «لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ» لأجل إفادة الحصر، ويؤيّده ما بعده من نفي الدعوة عن غيره.

كما أنّ إضافة الدعوة إلى الحقّ من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الدعوة الحقة له، لأنّ الدعوة عبارة عن توجيه نظر المدعو إلى الداعي، والإجابة عبارة عن إقبال المدعو إليه، وكلا الأمرين يختصان باللَّه عزّاسمه. وأمّا غيره فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً- وعند ذاك- كيف يمكن أن يجيب دعوة الداعي.

فالنتيجة انّ الدعوة الحقة التي تستعقبها الإجابة هي للَّه تبارك و تعالى، فهو حي لا يموت، ومريد غير مكره، قادر على كلّ شي ء، غني عمّن سواه.

______________________________

(1) الرعد: 14.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 153

وبذلك يعلم أنّ الدعوة على قسمين: دعوة حقة ودعوة باطلة، فالحقة للَّه ودعوة غيره دعوة باطلة، أمّا لأنّه لا يسمع ولا يريد، أو يسمع ولا يقدر. و أشار إلى القسم الباطل بقوله: «وَالّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بِشَي ءٍ»، وقد عرفت وجه عدم الاستجابة.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورة واحدة من عدم الاستجابة، لكنّه استثناء صوري وهو في الحقيقة تأكيد لعدم الاستجابة، وقال: «إِلّاكَباسِط كَفَيّه إِلى الماء لِيَبْلُغَ فاه وَما هُوَ بِبالِغِهِ».

فدعوة الأصنام والأوثان وطلب الحاجة منهم، أشبه بحال الظمآن البعيد من الماء كالجالس على حافة البئر والباسط كفه داخل البئر ليبلغ الماء فاه، مع البون البعيد بينه و بين الماء.

قال الطبرسي: هذا مثل ضربه اللَّه لكلّ من عبد غير اللَّه ودعاه رجاء أن ينفعه، فانّ مثله كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء من مكان

بعيد ليتناوله ويسكن به غلته، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما، فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأصنام لا يصل نفعها إليهم ولا يستجيب دعاءهم. «1»

وربما تفسر الآية بوجه آخر، ويقال: لا يستجيبون إلّا استجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. «2»

والظاهر رجحان الوجه الأوّل، لأنّ الآلهة بين جماد لا يشعر أو ملك أو جن

______________________________

(1) مجمع البيان: 3/ 284.

(2) الكشاف: 2/ 162.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 154

أو روح يشعر ولكن لا يملك شيئاً، فهذا الوجه يختص بما إذا كان الإله جماداً لا غير.

ثمّ إنّه سبحانه يقول في ذيل الآية: «وَما دُعاء الكافرينَ إلّا في ضَلالٍ»، فانّ الضلال عبارة عن الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب، ودعاء غيره خروج عن الطريق الموصل إلى المطلوب، لأنّ الغاية من الدعاء هو إيجاد التوجّه ثمّ الإجابة، فالآلهة الكاذبة إمّا فاقدة للتوجّه، وإمّا غير قادرة على الاستجابة، فأي ضلال أوضح من ذلك.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 155

سورة الرعد 21

التمثيل الواحد والعشرون

اشارة

«أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِمَاءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْربُ اللَّهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثالَ». «1»

تفسير الآية

«الوادي»: سفح الجبل العظيم، المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، ولعل منه اشتقاق الدية، لأنّه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل.

«القدر»: اقتران الشي ء بغيره دون زيادة أو نقصان، فإذاكانا متساويين فهو القدر، والقدْر والقَدَرْلغتان مثل الشبْر وشَبَر.

والاحتمال: رفع الشي ء على الظهر بقوة الحامل.

و «الزبد»: هو خبث الغليان ومنه زبد القدر وزبد السيل.

و «الجفاء» ممدوداً يقال: أجفأت القدر بزبدها، إذا القيت زبدها.

و «الإيقاد»: إلقاء الحطب في النار.

______________________________

(1) الرعد: 17.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 156

«والمتاع» ما تمتع به.

و «الحق» في اللغة هو الأمر الثابت ويقابله الباطل، فالأوّل بمفهومه الواسع يشمل كلّ موجود أو ناموس ثابت لا يطرأ عليه التحول والتبدل حتى أنّ القوانين الرياضية والهندسية وكثير من المفاهيم الطبيعية إذا كانت على درجة كبيرة من الثبات فهي حقّ لا غبار عليها.

و «المكث»: الكون في المكان عبر الزمان.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الآية تمثل للحق والباطل مثلًا واحداً يستبطن تمثيلات متعددة:

الأوّل: انّ السيل المتدفق من أعالي الجبال الجاري في الوديان يحمل معه في سيره زبداً رابياً عليه، فالحقّ كماء السيل والباطل الزبد الطافح عليه.

الثاني: انّ المعادن والفلزات المذابة في القدر إذا أوقدت عليها النار، تذاب ويعلو عليها الخبث، فالغاية من الإذابة هو فصل المعادن والفلزات النفيسة عن خبثها وزبدها.

وعندئذٍ فالحقّ كالذهب والفضة والمعادن النفيسة والباطل كخبثهاوزبدها الطافح.

الثالث: انّ ما له دوام و بقاء ومكث وينتفع به الناس كالماء وما يتخذ للحلية أو المتاع يمثّل الحق، وما ليس كذلك كزبد السيل وخبث القدر الذي يذهب

جفاءً يمثّل الباطل.

وأمّا التفصيل فإليك توضيح الآية:

«أَنْزَلَ مِنَ السماء ماءً فَسالَتْ أَودِيَة» الواقعة في محل الأمطار المختلفة في

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 157

السعة والضيق، والكبر والصغر «بقدرها» أي كلّ يأخذ بقدره، ففيضه سبحانه عام لا يحدد وإنّما التحديد في الآخذ، فكلّ يأخذ بقدره وحده، فقدر النبات يختلف عن قدر الحيوان وهو عن الإنسان، فكلّ ما يفاض عليه الوجود إنّما هو بقدر قابليته، كما أنّ السيل المنحدر من أعالي الجبال مطلق غير محدد، ولكن يستوعب كل وادٍ من ماء السيل بقدر قابليته وظرفيته.

«فَاحْتَمَل السَّيْلُ زَبداً رابِياً» أي طافياً عالياً فوق الماء.

إلى هنا تمت الإشارة إلى التمثيل الأوّل.

ثمّ إنّ الزبد لا ينحصر بالسيل الجارف بل يوجد طافياً على سطح أنواع الفلزات والمعادن المذابة التي تصاغ منها الحلي للزينة والأمتعة، كما قال سبحانه «ومِمّا يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله».

إلى هنا تمت الإشارة إلى التمثيل الثاني، كما قال: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحقّ وَالباطل» أي كذلك يوصف الحقّ والباطل ليأخذ طريقه بين الناس، ثمّ أشار إلى التمثيل الثالث وهو انّ من سمات الحق بقاءه وانتفاع الناس به «فَأمّا الزبد فيذهب جفاءً» حيث إنّ زبد السيل وزبد ما يوقدون عليه ينطفئ بعد مدة قصيرة كأن لم يكن شيئاً مذكوراً فيذهب جفاءً باطلًا متلاشياً.

«وَأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» فانّ الماء الخالص أو المعادن الخالصة التي فيها انتفاع الناس يمكث في الأرض.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثال» وقد مرّ في المقدمات معنى ضرب المثل، وقلنا انّ المراد هو وصف حال المشبه وبيانه.

هذا ما يرجع إلى تفسير ظاهر الآية، لكن الآية من غرر الآيات القرآنية التي

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 158

تبحث عن طبيعة الحقّ والباطل وتكونهما وكيفية ظهورهما والآثار

المترتبة عليهما ولا بأس بالإشارة إلى ما يمكن الاستفادة من الآية.

1. انّ الإيمان والكفرمن أظهر مصاديق الحق والباطل، ففي ظل الإيمان باللَّه تبارك و تعالى حياة للمجتمع وإحياء للعدل، والعواطف الإنسانية، فالأُمّة التي لم تنل حظها من الإيمان يسودها الظلم والأنانية وانفراط الأواصر الإنسانية التي تعصف بالمجتمع الإنساني إلى الهاوية.

2. انّ الزبد أشبه بالحجاب الذي يستر وجه الحقّ مدة قصيرة، فسرعان ما يزول وينطفئ ويظهر وجه الحقيقة أي الماء و الفلزات النافعة.

فهكذا الباطل ربما يستر وجه الحقيقة من خلال الدعايات المغرضة، ولكنّه لا يمكث طويلًا فيزول كما يزول الزبد، يقول سبحانه: «وَقُلْ جَاءَ الحَقّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً». «1»

وقال تعالى: «وَيَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ وَيُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ». «2»

3. انّ الماء والفلزات منبع البركات والخيرات له والزبد خبث لا ينتفع منه، فهكذا الحق والباطل، فما هو الحقّ كالإيمان و العدل ينتفع به الناس، وأمّا الباطل كالكفر والظلم لا ينتفع منه الناس.

4. انّ الماء فيض مادي يفيضه اللَّه سبحانه إلى السماء على الوديان والصحاري، فكل يأخذ بمقدار سعته، فالوادي الكبير يستوعب ماء كثيراً بخلاف الوادي الصغير فلا يستوعب سوى قليلًامن الماء وهكذا الحال في الأرواح والنفوس فكل نفس تنال حظها من المعارف الإلهية حسب قابليتها، فهناك نفس

______________________________

(1) الإسراء: 81.

(2) الشورى: 24.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 159

كعرش الرحمن ونفس أُخرى من الضيق بمكان يقول سبحانه: «ولَقَدْ خَلَقكُمْ أَطواراً».

وفي الحديث النبوي: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة». «1»

وقال أمير المؤمنين عليه السلام لكميل: «إنّ هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها». «2» فالمعارف الإلهية كالسيل المتدفق والقلوب كالأودية المختلفة.

ويمكن أن يكون قوله «بقدرها» إشارة إلى نكتة أُخرى، وهي انّ الماء المتدفق هو ماء الحياة الذي ينبت به الزرع والأشجار المثمرة في الأراضي الخصبة.

دون الأراضي السبخة التي لا ينبت فيها إلّا الأشواك.

5. انّ الماء يمكث في الأرض وينفذ في أعماقها ويبقى عبر القرون حتى ينتفع به الناس من خلال استخراجه، فهكذا الحقّ فهو ثابت لا يزول، ودائم لا يضمحل، على طرف النقيض من الباطل، فللحق دولة وللباطل جولة.

6. انّ الباطل ينجلي بأشكال مختلفة، كما أنّ الزبد يطفو فوق الماء والمعدن المذاب بأنحاء مختلفة، فالحقّ واحد وله وجه واحد، أمّا الباطل فله وجوه مختلفة حسب بعده من الحقّ وتضاده معه.

7. انّ الباطل في وجوده رهن وجود الحقّ، فلولا الماء لما كان هناك زبد، فالآراء والعقائد الباطلة تستمد مقوماتها من العقائد الحقّة من خلال إيجاد تحريف في أركانها و تزييفها، فلو لم يكن للحقّ دولة لما كان للباطل جولة، وإليه يشير سبحانه: «فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً».

______________________________

(1) بحار الأنوار: 4/ 405.

(2) نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 127.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 160

8. انّ في تشبيه الحقّ بالماء والباطل بالزبد إشارة لطيفة إلى أنّ الباطل كالزبد، فكما أنّه ينعقد في الماء الذي له هيجان واضطراب والذي لا يجري على منوال هادئ، فهكذا الباطل إنّما يظهر في الأوضاع المضطربة التي لا يسودها أي نظام أو قانون.

9. انّ حركة الباطل وإن كانت مؤقتة إنّما هي في ظل حركة الحقّ ونفوذه في القلوب، فالباطل يركب أمواج الحق بغية الوصول إلى أهدافه، كما أنّ الزبد يركب أمواج الماء ليحتفظ بوجوده.

10. انّ الباطل بما انّه ليس له حظ في الحقيقة، فلو خلص من الحقيقة فليس بإمكانه أن يظهر نفسه، ولو في فترة قصيرة، ولكنّه يتوسم من خلال مزجه بالحقّ حتى يمكن له الظهور في المجتمع، ولذلك فالزبد يتكون من أجزاء مائية، فلو خلص منها لبطل، فهكذا الباطل في الآراء والعقائد.

قال أمير

المؤمنين علي عليه السلام:

«فلو انّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، و لو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى». «1»

*** ثمّ إنّ بعض من كتب في أمثال القرآن جعل قوله سبحانه: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّهُا تِلْكَ عُقْبَى الّذينَ

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 49.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 161

اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكافِرينَ النّارُ». «1» من الأمثال.

ولكن الظاهر انّه ليس من باب التمثيل، لأنّه فرع وجود مشبه ومشبه به مع أنّ الآية هي بصدد بيان جزاء المتقين والكافرين، فقال: إنّ جزاء المتقين هو انّهم يسكنون الجنة التي تجري من تحتها الأنهار وأُكلها وظلها دائم.

وهذا بخلاف الكافرين فانّ عقباهم النار، وليست هاهنا أُمور أربعة بل لا تتجاوز الاثنين، وعلى ذلك فيكون المثل بمعنى الوصف، أي حال الجنة ووصفها التي وعد المتقون هو هذا.

نعم ذكر الطبرسي وجهاً ربما يصح به عدّالآية مثلًا، فلاحظ. «2»

______________________________

(1) الرعد: 35.

(2) مجمع البيان: 3/ 296.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 162

سورة إبراهيم 22

التمثيل الثاني والعشرون

اشارة

«مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَي ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيد». «1»

تفسير الآية

«العصف»: شدة الريح، يوم عاصف أي شديد الريح، وإنّما جعل العصف صفة لليوم مع أنّه صفة للريح لأجل المبالغة، وكأنّ عصف الريح صار بمنزلة جعل اليوم عاصفاً، كما يقال: ليل غائم ويوم ماطر.

انّه سبحانه يشبّه عمل الكافرين في عدم الانتفاع به برماد في مهب الريح العاصف، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق، فكذلك هؤلاء الكفار لا يقدرون مما كسبوا على شي ء فلا ينتفعون بأعمالهم البتة.

وقال سبحانه في آية أُخرى: «وَقَدِمْنَا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً». «2»

والمراد من أعمالهم ما يعد صالحاً في نظر العرف كصلة الأرحام وعتق الرقاب

______________________________

(1) إبراهيم: 18.

(2) الفرقان: 23.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 163

وفداء الأُسارى وإغاثة الملهوفين، لأنّهم بنوا أعمالهم على غير معرفة اللَّه والإيمان به فلا يستحقون شيئاً عليه.

وأمّا الأعمال التي تعد من المعاصي الموبقة، فهي خارجة عن مصبّ الآية لوضوح حكمها. والآية دليل على أنّ الكافر لا يثاب بأعماله الصالحة يوم القيامة إذا أتى بها لغير وجه اللَّه.

نعم لو أتى بها طلباً لرضاه ورضوانه فلا غرو في أن يثاب به ويكون سبباً لتخفيف العذاب.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 164

سورة إبراهيم 23

التمثيل الثالث والعشرون

اشارة

«أَلَمْ تَرَكَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُهافِي السَّماءِ* تُؤْتي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رِبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون». «1»

تفسير الآيات

انّه سبحانه تبارك و تعالى مثل للحق و الباطل، أو الكفر والإيمان بتمثيلات مختلفة، وقد جاء التمثيل في هذه الآية بأنّ مثل الإيمان كشجرة لها الصفات التالية:

أ: انّها طيبة: أي طاهرة ونظيفة في مقابل الخبيثة، فانّ الشجر على قسمين: منها ما هو طيب الثمار كالتين والنخل والزيتون وغيرها، ومنها ما هو خبيث الثمار كالحنظل.

ب: أصلها ثابت، أي لها جذور راسخة في أعماق الأرض لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الأمواج العاتية.

ج: فرعها في السماء، أي لها أغصان مرتفعة، فهي بجذورها الراسخة تحتفظ بأصلها وبفروعها في السماء و تنتفع من نور الشمس والهواء والماء.

______________________________

(1) إبراهيم: 24- 25.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 165

وهذه الفروع والأغصان من الكثرة بحيث لا يزاحم أحدها الآخر، كما انّها لا تتلوث بما على سطح الأرض.

د: «تعطي أُكلها كل حين» أي في كلّ فصل وزمان، لا بمعنى كلّ يوم وكل شهرحتى يقال بأنّه ليس على وجه البسيطة شجرة مثمرة من هذا النوع.

وبعبارة أُخرى: انّ مثل هذه الشجرة لا تبخس في عطائها، بل هي دائمة الأثمار في كل وقت وقّته اللَّه لاثمارها.

هذا حال المشبه به، وأمّا حال المشبه، فقد اختلفت كلمتهم إلى أقوال لا يدعمها الدليل، والظاهر انّ المراد من المشبه هو الاعتقاد الحقّ الثابت، أعني التوحيد والعدل وما يلازمهما من القول بالمعاد.

فهذه عقيدة ثابتة طيبة لا يشوبها شي ء من الشرك والضلال ولها ثمارها في الحياتين.

والذي يدل على ذلك هو انّه سبحانه ذكر في الآية التالية، قوله: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ» «1»، وهذا القول الثابت عبارة عن العقيدة

الصالحة التي تمثلها كلمة التوحيد والشهادة بالمعاد وغيرهما، قال السيد الطباطبائي:

القول بالوحدانية والاستقامة عليه، هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغير وزوال وبطلان، وهو اللَّه عزّ اسمه أو أرض الحقائق، و له فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيا بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الإنساني حق

______________________________

(1) إبراهيم: 27.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 166

عمارته، وهي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المنظور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح. «1»

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثال للنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون»، أي ليرجعوا إلى فطرتهم فيتحقّقوا من أنّ السعادة رهن الاعتقاد الصحيح المثمر في الحياتين.

وبذلك يعلم انّ ما ذكره بعض المفسرين بأنّ المراد كلمة التوحيد لا يخالف ما ذكرنا، لأنّ المراد هو التمثل بكلمة التوحيد لا التلفظ بها وحده حتى أنّ قوله سبحانه: «إِنَّ الّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون» «2» يراد منه التحقّق بقوله «ربّنا اللَّه» لا التلفظ بها، وقد أشار سبحانه إلى العقيدة الصحيحة، بقوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ» «3».

فالكلم الطيّب هو العقيدة، والعمل الصالح يرفع تلك العقيدة.

وبذلك يعلم أنّ كلّ عقيدة صحيحةلها جذور في القلوب، ولها فروع وأغصان في حياة الإنسان ولهذه الفروع ثمار، فالاعتقاد بالواجب العادل الحكيم المعيد للإنسان بعد الموت يورث التثبت في الحياة والاجتناب عن الظلم والعبث والفساد إلى غير ذلك من العقائد الصالحة التي لها فروع.

إلى هنا تم المثل الأوّل للمؤمن والكافر أو للإيمان والكفر.

______________________________

(1) الميزان: 12/ 52.

(2) الأحقاف: 13.

(3) فاطر: 10.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 167

وربما يقال: الرجال العظام من المؤمنين

هم كلمة اللَّه الطيبة، وحياتهم أصل البركة ودعوتهم توجب الحركة، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم ... وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.

ولكن سياق الآيات لا يؤيده، لأنّه سبحانه يفسر الكلمة الطيبة بما عرفت، أعني قوله: «يثبت اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة».

والمراد من القول الثابت هو الكلمة الطيبة، وقلب المؤمن هو الأرض الطيبة التي ترسخ فيها جذور تلك الشجرة.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 168

سورة إبراهيم 24

التمثيل الرابع والعشرون

اشارة

«وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار». «1»

تفسير الآية

مثّل سبحانه تبارك وتعالى للعقيدة الصالحة بالمثل السابق ومقتضى الحال أن يمثل للعقيدة الباطلة بضد المثل السابق، فهي على طرف النقيض مما ذكر في الآية السابقة، وإليك البيان:

فالكفر كشجرة لها هذه الأوصاف:

أ: انّها خبيثة مقابله الطيبة، أي لا يطيب ثمارها كشجرة الحنظل.

ب: «اجتثت من فوق الأرض» في مقابل قوله «أصلها ثابت» وحقيقة الاجتثاث هي اقتلاع الشي ء من أصله، أي اقتطعت واستأصلت واقتلعت جذورها من الأرض.

ج: «ما لها من قرار» أي ليس لتلك الشجرة من ثبات فالريح تنسفها وتذهب بها، وبالتالي ليس لها فروع وأغصان أو ثمار.

______________________________

(1) إبراهيم: 26.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 169

هذا هو المشبه به، وأمّا المشبه فهو عبارة عن العقيدة الضالة الكافرة التي لا تعتمد على برهان ولا دليل، يزعزعها أدنى شبهة وشك.

فينطبق صدر الآية التالية على التمثيل الأوّل، وذيله على التمثيل التالي، أعني:

قوله: «يثبت اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة» هذا هو المنطبق على التمثيل الأوّل

وأمّا المنطبق على التمثيل الثاني فهو قوله: «وَيُضِلُّ اللَّه الظالمين ويفعل اللَّه ما يشاء» أي يضل أهل الكتاب بحرمانهم من الهداية، وذلك لأجل قصورهم في الاستفادة عن الهداية العامة التي هي متوفرة لكل إنسان، أعني: الفطرة ودعوة الأنبياء.

وقوله: «يفعل اللَّه ما يشاء» بمعنى انّه تعلّقت مشيئته بتثبيت المؤمنين وتأييدهم وإضلال الظالمين وخذلانهم، ولم تكن مشيئته عبثاً وإنّما نابعة من حكمة بالغة.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 170

سورة إبراهيم 25

التمثيل الخامس والعشرون

اشارة

«وَأَنذِرِ النّاسَ يَوم يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الّذينَ ظَلَمُوا رَبّنَا أَخِّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ* وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الأَمْثالَ* وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولَ

مِنْهُ الجِبال». «1»

تفسير الآيات

إنّ الآية تمثل حال قوم شاهدوا نزول جزء من العذاب والبلاء فعادوا يظهرون الندم على أعمالهم البغيظة ويطلبون الإمهال حتى يتلافوا ما فاتهم من الإيمان والعمل الصالح، كما يحكي عنه سبحانه، ويقول: «وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب» أي مشاهدة نزول العذاب في الدنيا بشهادة استمهالهم، كما في قوله تعالى: «فَيَقول الذين ظلموا ربّنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل».

فيرد دعوتهم بأنّ هذا الطلب ليس طلباً صادقاًوإنّما ألجأهم إليه رؤية

______________________________

(1) إبراهيم: 44- 46.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 171

العذاب.

فيخاطبهم سبحانه بقوله: «أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال».

وعلى ما ذكرنا يكون مفاد الآية: حلفتم قبل نزول العذاب بأنّه ليس لكم زوال من الراحة إلى العذاب، وظننتم انّكم بما تمتلكون من القوة والسطوة أُمّة خالدة مالكة لزمام الأُمور فلماذا تستمهلون، ثمّ يخاطبهم بجواب آخر وهو قوله: «وَسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال» أي سكنتم ديار من كذب الرسل فأهلكهم اللَّه وعرفتم ما نزل بهم من البلاء و الهلاك والعذاب كقوم عاد وثمود، وضربنا لكم الأمثال وأخبرناكم بأحوال الماضين لتعتبروا فلم تتعظوا.

وعلى ذلك فالمشبه به هو حال الأُمم الهالكة بأفعالهم الظالمة.

والمشبه هو الأُمم اللاحقة لهم الذين رأوا العذاب فاستمهلوا الأجل وندموا ولات حين مناص.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 172

النحل 26

التمثيل السادس والعشرون

اشارة

«وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ* وَيَجْعَلُونَ للَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَه وَلَهُمْ ما يَشْتَهون* وإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم* يَتوارَى مِنَ القَومِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هَونٍ أَمْ يَدسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَما يَحْكُمُون* لِلَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة مثلُ السَّوءِ وَللَّهِ المَثَلُ الأَعلى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم». «1»

تفسير الآيات

إنّ اللَّه سبحانه هو الواجب الغني عن كل من سواه، قال سبحانه: «يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد» «2» فلا يصحّ وصفه بما يستشم منه الفقر والحاجة، لكن المشركين غير العارفين باللَّه كانوا يصفونه بصفات فيها وصمة الفقر والحاجة، و قد حكاها سبحانه في غير واحد من الآيات، فقال: «وَجَعَلُوا للَّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَمَا كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللَّهِ وَمَا كانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ سَاءَما يَحْكُمُون». «3»

______________________________

(1) النحل: 56- 60.

(2) فاطر. 15.

(3) الأنعام: 136.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 173

فقد أخطأوا في أمرين:

أ: فرز نصيب للَّه من الحرث والأنعام، وكأنّه سبحانه فقير يجعلون له نصيباً ممّا يحرثون و يربّون من أنعامهم.

ب: الجور في التقسيم و القضاء، فيعطون ما للَّه إلى الشركاء دون العكس، وما هذا إلّالجهلهم بمنزلته سبحانه وأسمائه وصفاته.

وقد أشار إلى ما جاء تفصيله في سورة الأنعام على وجه موجز في المقام، وقال:

«وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفتَرُون».

ونظير ما سبق انّهم كانوا يبغضون البنات ويجعلونها للَّه، ويحبون البنين ويجعلونهم لأنفسهم، وإليه يشير سبحانه بقوله: «وَيَجْعَلُونَ للَّهِ البَناتِ سُبحانهُ وَلَهُم ما يَشتَهُون» والمراد من الموصول في «ما يشتهون» هو البنون، وبذلك تبيّن معنى قوله سبحانه: «لِلّذِينَ لا

يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوء» أي انّ المشركين المنكرين للآخرة يصفونه سبحانه بصفات السوء التي يستقبحها العقل ويذمّها، وقد عرفت كيفية وصفهم له فوصفوه عند التحليل بالفقر والحاجة والنقص والإمكان، واللَّه سبحانه هو الغني المطلق، فهو أعلى من أن يوصف بأمثال السوء، ولكن الموحّد يصفه بالكمال كالحياة والعلم والقدرةوالعزّة والعظمة والكبرياء، واللَّه سبحانه عند المؤمنين «هُوَ الْمَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُالجَبّارُ الْمتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنى «1»، و يقول سبحانه: «وَلَهُ المَثَلُ الأَعلى فِي

______________________________

(1) الحشر: 23- 24.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 174

السَّموات وَالأَرض» «1»، وقال: «لَهُ الأَسماءُالحُسْنى . «2»

ومنه يظهر جواب سؤال طرحه الطبرسي في «مجمع البيان»، وقال: كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه «وَللَّه المثل الأعلى وقوله: «فَلَا تَضْرِبُوا للَّهِ الأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون». «3»؟

والجواب انّ المراد من ضرب الأمثال هو وصفه بما يدل على فقره وحاجته أو تشبيهه بأُمور مادية، وقد تقدم انّ المشركين جعلوا له نصيباً من الحرث والأنعام، كما جعلوا الملائكة بناتاً له، يقول سبحانه: «وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الّذينَ هُمْ عِبادُالرَّحْمن اناثاً»، «4» ويقول سبحانه: «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنّة نَسباً». «5» إلى غير ذلك من الصفات التي يتنزه عنها سبحانه، فهذا النوع من التمثيل أمر محظور، وهو المراد من قوله «فَلا تَضْرِبُوا للَّه الأَمْثال».

وأمّا التمثيل للَّه سبحانه بما يناسبه كالعزّةوالكبرياء والعلم والقدرة إلى غير ذلك، فقد أجاب عليه القرآن ولم ير فيه منع وحظر، بشهادة انّه سبحانه بعد هذا الحظر أتى بتمثيلين لنفسه، كما سيتضح في التمثيل الآتي.

وربما يذكر في الجواب بأنّ الأمثال في الآية جمع «المِثْل» بمعنى «الند»، فوزان قوله «لا تضربوا للَّه الأمثال» كوزان قوله: «فَلا تَجْعَلُوا للَّهِ أَنْدَاداً» «6»، ولكنّه

معنى بعيد، فانّ المثل بفتح العين يستعمل مع الضرب، دون المثل بسكون

______________________________

(1) الروم: 27.

(2) طه: 8.

(3) النحل: 74.

(4) الزخرف: 19.

(5) الصافات: 158.

(6) البقرة: 22.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 175

العين بمعنى الند فلم يشاهد اقترانه بكلمة الضرب.

ويقرب ممّا ذكرنا كلام الشيخ الطبرسي حيث يقول:

إنّ المراد بالأمثال الأشباه، أي لا تشبّهوا اللَّه بشي ء، و المراد بالمثل الأعلى هنا الوصف الأعلى الذي هو كونه قديماً قادراً عالماًحياً ليس كمثله شي ء.

وقيل إنّ المراد بقوله: «المثل الأعلى»: المثل المضروب بالحق، وبقوله: «فلا تضربوا للَّه الأمثال»: الأمثال المضروبة بالباطل. «1»

وفي الختام نود أن نشير إلى نكتة، وهي انّ عدّ قوله سبحانه «للّذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء وللَّه المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم» من قبيل الأمثال القرآنية لا يخلو من غموض، لأنّ الآية بصدد بيان نفي وصفه بصفات قبيحة سيئة دون وصفه بصفات عليا فأين التمثيل؟

إلّا أن يقال: إنّ التشبيه ينتزع من مجموع ما وصف به المشركون، حيث شبّهوه بإنسان له حاجة ماسّة إلى الزرع والأنعام وله بنات ونسبة مع الجن إلى غير ذلك من أمثال السوء، فالآية بصدد ردّ هذا النوع من التمثيل، وفي الحقيقة سلب التمثيل، أو سوق المؤمن إلى وصفه سبحانه بالأسماء الحسنى والصفات العليا.

______________________________

(1) مجمع البيان: 3/ 367.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 176

النحل 27

التمثيل السابع و العشرون

اشارة

«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ* فَلا تَضْرِبُوا للَّهِ الأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* ضَرَبَ اللَّه مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُعَلى شَيْ ءٍ وَمن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَستَوون الحمدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون». «1»

تفسير الآيات

ندّد سبحانه بعمل المشركين الذين يعبدون غير اللَّه سبحانه، بأنّ معبوداتهم لا تملك لهم رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً، فكيف يعبدونها مع أنّها أشبه بجماد لا يرجى منها الخير والشر، وإنّما العبادة للإله الرازق المعطي المجيب للدعوة؟

هذا هو المفهوم من الآية الأُولى

ثمّ إنّه سبحانه يمثّل لمعبود المشركين والمعبود الحق بالتمثيل التالي:

افرض مملوكاً لا يقدر على شي ء ولا يملك شيئاً حتى نفسه، فهو بتمام معنى الكلمة مظهر الفقر والحاجة، ومالكاً يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه، فيتصرف في ماله كيف شاء وينعم كيف شاء. فهل هذان متساويان؟ كلّا.

______________________________

(1) النحل: 73- 75.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 177

وعلى ضوء ذلك تمثّل معبوداتهم الكاذبة مثل العبد الرق المملوك غير المالك لشي ء، ومثله سبحانه كمثل المالك للنعمة الباذل لها المتصرف فيها كيف شاء.

وذلك لأنّ صفة الوجود الإمكاني- أي ما سوى اللَّه- نفس الفقر والحاجة لا يملك شيئاً ولا يستطيع على شي ء.

وأمّا سبحانه فهو المحمود بكلّ حمد والمنعم لكلّ شي ء، فهو المالك للخلق والرزق والرحمة والمغفرة والإحسان والإنعام، فله كلّ ثناء جميل، فهو الربّ ودونه هو المربوب، فأيّهما يصلح للخضوع والعبادة؟

ويدل على ما ذكرنا انّه سبحانه حصر الحمد لنفسه، وقال: الحمد للَّه أي لا لغيره، فالحمد والثناء ليس إلّا للَّه سبحانه، و مع ذلك نرى صحة حمد الآخرين بأفعالهم المحمودة الاختيارية، فنحمد المعطي بعطائه والمعلم لتعليمه والوالد لما يقوم به في تربية أولاده.

وكيفية الجمع

انّ حمد هؤلاء تحميد مجازي، لأنّ ما بذله المنعم أو المعلم أو الوالد لم يكن مالكاً له، وإنّما يملكه سبحانه فهو أقدرهم على هذه الأعمال، فحمد هؤلاء يرجع إلى حمده وثنائه سبحانه، ولذلك صح أن نقول: إنّ الحمد منحصر باللَّه لا بغيره. ولذلك يقول سبحانه في تلك الآية: «وَالحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون» أي الشكر للَّه على نعمه، يقول الطبرسي: وفيه إشارة إلى أنّ النعم كلّها منه. «1»

______________________________

(1) مجمع البيان: 3/ 375.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 178

النحل 28

التمثيل الثامن والعشرون

اشارة

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَي ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَينَمَا يُوَجِّههُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقيم». «1»

تفسير الآية

كان التمثيل السابق يبيّن موقف الآلهة الكاذبة بالنسبة إلى العبادة والخضوع وموقفه سبحانه تبارك و تعالى حيالها، ولكن هذا التمثيل جاء لبيان موقف عبدة الأصنام والمشركين وموقف المؤمنين والصادقين، فيشبّه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شي ء، ويشبّه الآخر بإنسان حرّ يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.

نفترض عبداً رقاً له هذه الصفات:

أ: أبكم لا ينطق وبالطبع لا يسمع لما في الملازمة بين البكم وعدم السماع، بل الأوّل نتيجة الثاني، فإذا عطل جهاز السمع يسري العطل إلى اللسان أيضاً، لأنّه إذا فقد السمع فليس بمقدوره أن يتعلم اللغة.

ب: عاجز لا يقدر على شي ء، ولو قلنا بإطلاق هذا القيد فهو أيضاً لا

______________________________

(1) النحل: 76.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 179

يبصر، إذ لو أبصر لا يصح في حقّه انّه لا يقدر على شي ء.

ج: «كلّ على مولاه»: أي ثقل ووبال على وليّه الذي يتولّى أمره.

د: «أَينما يُوجِّهه لا يَأْتِ بِخَير» لعدم استطاعته أن يجلب الخير، فلا ينفع مولاه، فلو أرسل إلى أمر لا يرجع بخير.

فهذا الرق الفاقد لكلّ كمال لا يرجى نفعه ولا يرجع بخير.

وهناك إنسان حر له الوصفان التاليان:

أ: يأمر بالعدل.

ب: وهو على صراط مستقيم.

أمّا الأوّل، فهو حاك عن كونه ذا لسان ناطق، وإرادة قوية، وشهامة عالية يريد إصلاح المجتمع، فمثل هذا يكون مجمعاً لصفات عليا، فليس هو أبكماً ولا جباناً ولا ضعيفاً ولا غير مدرك لما يصلح الأُمة والمجتمع. فلو كان يأمر بالعدل فهو لعلمه به فيكون معتدلًا في حياته وعبادته ومعاشرته التي هي رمز الحياة.

وأمّا الثاني: أي كونه على

صراط مستقيم، أي يتمتع بسيرة صالحة ودين قويم.

فهذا المثل يبين موقف المؤمن والكافر من الهداية الإلهية، وقد أشار سبحانه إلى مغزى هذا التمثيل في آية أُخرى، وقال: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلى الحَقّ أحَقُّ أن يتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّي إلّاأن يُهَدى فَما لكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون». «1»

هذا التفسير مبني على أنّ التمثيل بصدد بيان موقف الكافر والمؤمن غير انّ هناك احتمالًا آخر، وهو انّ التمثيل تأكيد للتمثيل السابق وهو تبيين موقف الآلهة الكاذبة و الإله الحق.

______________________________

(1) يونس: 35.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 180

النحل 29

التمثيل التاسع والعشرون

اشارة

«وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون* وَلا تَكُونُوا كالّتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوةٍ أَنكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمّةٌ هِي أَرْبى مِنْ أُمّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيّننَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون». «1»

تفسير الآيات

التوكيد: التشديد، يقال أوكدها عقدك، أي شدّه، وهي لغة أهل الحجاز و «الأنكاث»: الانقاض، وكلّ شي ء نقض بعد الفتح، فقد انكاث حبلًا كان أو غزلًا.

و «الدخل» ما أُدخل في الشي ء على فساد، وربما يطلق على الخديعة، وإنّما استعمل لفظ الدخل في نقض العهد، لأنّه داخل القلب على ترك البقاء، وقد نقل عن أبي عبيدة، انّه قال: كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل، وكلّ ما دخله عيب فهو مدخول.

هذا ما يرجع إلى تفسير لغات الآية وجملها.

______________________________

(1) النحل: 91- 92.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 181

وأمّا شأن نزولها فقد نقل عن الكلبي أنّها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار، ثمّ تأمرهنَّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها، واسمها «ريطة» بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، وكانت تسمّى فرقاء مكة. «1»

إنّ لزوم العمل بالميثاق من الأُمور الفطرية التي جُبل عليها الإنسان، ولذلك نرى أنّ الوالد إذا وعد ولده شيئاً، ولم يف به فسوف يعترض عليه الولد، وهذا كاشف انّ لزوم العمل بالمواثيق والعهود أمر فطر عليه الإنسان.

ولذلك صار العمل بالميثاق من المحاسن الأخلاقية التي اتّفق عليها كافة العقلاء.

وقد تضافرت الآيات على لزوم العمل به خصوصاً إذا كان العهد للَّه، قال سبحانه: «وَأَوفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَكانَ مَسْؤولًا» «2».

وقال تعالى: «وَالّذِينَ هُمْ لأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُون». «3»

وفي آية ثالثة: «وَأَوفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ».

«4»

وفيما نحن فيه يأمر بشي ء وينهى عن آخر.

أ: فيقول «أَوفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» فيأمر بالوفاء بعهد اللَّه، أي العهود التي يقطعها الناس مع اللَّه تعالى. ومثله العهد الذي يعهده مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأئمة المسلمين، فكلّ ذلك عهود إلهية وبيعة في طريق طاعة اللَّه سبحانه.

______________________________

(1) الميزان: 12/ 335.

(2) الإسراء: 34.

(3) المؤمنون: 8.

(4) البقرة: 40.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 182

ب: «وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمان بَعْد تَوكيدها» فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين والظاهر اختصاص الأُولى بالعهود التي يبرمها مع اللَّه تعالى، كما إذا قال: عاهدت اللَّه لأفعلنّه، أو عاهدت اللَّه أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد اللَّه.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم اللَّه، سواء أكان للَّه سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيد الأيمان بقوله: بعد توكيدها، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين: قسم يطلق عليه لقب اليمين، بلا عزم في القلب وتأكيد له، كقول الإنسان حسب العادة واللَّه وباللَّه.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين، يقول سبحانه: «لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمان». «1»

ثمّ إنّه سبحانه يعلل تحريم نقض العهد، بقوله: «وَقَد جَعَلتم اللَّه علَيكم كفيلًا انّ اللَّه يعلم ما تَفْعلون» أي جعلتم اللَّه كفيلًا بالوفاء فمن حلف باللَّه فكأنّه أكفل اللَّه بالوفاء.

فالحالف إذا قال: واللَّه لأفعلنّ كذا، أو لأتركنّ كذا، فقد علّق ما حلف عليه نوعاًمن التعليق على اللَّه سبحانه، وجعله كفيلًا عنه في الوفاء لما عقد عليه

______________________________

(1) المائدة: 89.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 183

اليمين، فإن نكث ولم يف كان لكفيله أن يؤدبه، ففي

نكث اليمين، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً، وقال: «وَلاتَكُونُوا كَالّتي نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدِ قُوّة أنكاثاً» مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها و بيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر، ثمّ تنقض ما غزلته، وقد عرفت في قوله ب «الحمقاء» فكذلك حال من أبرم عهداً مع اللَّه وباسمه ثمّ يقدم على نقضه، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلًا، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً، يقول سبحانه: «تَتَّخذون أيمانكم دخلًا بينكم ان تكون أُمّة هي أربى من أُمّة» فقوله «أربى» من الربا بمعنى الزيادة، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه، كما يقول سبحانه: «إنّما يبلوكم اللَّه به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون».

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال و من هو المهتدي. «1»

______________________________

(1) الميزان: 12/ 336.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 184

النحل 30

التمثيل الثلاثون

اشارة

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللَّهِ فأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون* وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون». «1»

تفسير الآيات

«رغد» عيش رغد ورغيد: طيِّب واسع، قال تعالى: «وكلا منها رغداً».

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث:

أ: آمنة: أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم، ولا يشن عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب: مطمئنة: أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه، فالاطمئنان رهن الأمن.

______________________________

(1) النحل: 112- 113.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 185

ج: «يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان»، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى والدليل على ذلك، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب: «وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون». «1» والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الأصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أُخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية، أعني بعث الرسول إليها، كما أشار إليه في الآية الثانية، بقوله: «وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم».

وهؤلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا اللَّه عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية، أعني: الرسول فكذّبوه- كما هو صريح الآية الثانية- وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة

عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي، عن حفص بن سالم، عن الإمام الصادق عليه السلام، انّه قال: «إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها، فلم يزل اللَّه بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

______________________________

(1) يوسف: 82.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 186

ويأكلونها، وهو قول اللَّه: «ضرب اللَّه مثلًا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها اللَّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون»». «1»

وفي رواية أُخرى عن زيد الشحّام، عن الصادق عليه السلام قال: كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شي ء من الطعام تعظيماً له إلّا أن يمصّها، أو يكون إلى جانبه صبي فيمصّها، قال: فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم، ثم قال: إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان اللَّه قد وسع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إلى شي ء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قال عليه السلام: فلمّا فعلوا ذلك بعث اللَّه على أرضهم دواباً أصغر من الجراد، فلم تدع لهم شيئاً خلقه اللَّه إلّا أكلته من شجر أو غيره، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به، فأكلوه وهي القرية التي قال اللَّه تعالى: «ضرب اللَّه مثلًا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها اللَّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون». «2»

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة اللَّه. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت

بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية، فكلّ ذلك كفران لنعم اللَّه.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية، وأشار إليها

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين: 3/ 91، حديث 247.

(2) تفسير نور الثقلين: 3/ 92، حديث 248.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 187

بآيتين:

الأُولى: «فأذاقها اللَّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون».

الثانية: «فَأخذهم العذاب وهم ظالمون».

فلنرجع إلى الآية الأُولى، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو انّه سبحانه جمع في الآية الأُولى بين الذوق واللباس، فقال: «فَأَذاقَهَا اللَّه لِباسَ الجُوعِ» مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم، بأن يقول: «فأذاقها اللَّه طعم الجوع».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني: اللباس، أن يقول: «فكساهم اللَّه لباس الجوع» فلماذا عدل عن تلك الجملتين إلى جملة ثالثة لا صلة لها- حسب الظاهر- بين اللفظين؟

والجواب: انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس، ولذلك قال:

«لباس الجوع والخوف» ولم يقل «الجوع والخوف» لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع، لأنّ الإنسان يذوق الطعام، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش و الخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته، فقال: «فَأَذاقَهُمُ اللَّه لِباس الجوع والخَوف».

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية، و أمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 188

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه، ثمّ أنعم اللَّه عليهم بنعمة عظيمة وهي محمد صلى الله عليه و آله و سلم

فكفروا به وبالغوا في إيذائه، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون: عذّبهم اللَّه بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف، فهو انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله: «أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ». «1»

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلًا: فلأنّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً: لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً: انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبة تماديهم في كفرهم، والسورة مكية إلّا آيات قليلة، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف، لتكون أحوال تلك الأُمم عبرة للمشركين من أهل مكة و ما والاها.

______________________________

(1) القصص: 57.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 189

الإسراء 31

التمثيل الواحد والثلاثون

اشارة

«وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً». «1»

تفسير الآيات

«الغل»: ما يقيد به، فيجعل الأعضاء وسطه، وجمعه أغلال، ومعنى قوله:

«مغلولة إلى عنقك» أي مقيدة به.

«الحسرة»: الغم على ما فاته والندم عليه، وعلى ذلك يكون محسوراً، عطف تفسير لقوله «ملوماً»، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلًا لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شي ء، وهذا كناية عن الإسراف، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

______________________________

(1) الإسراء: 29- 30.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 190

وإن لم يكن منطوقاً، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء، فقد تضمّنته آية أُخرى في سورة الفرقان، وهي: «وَالّذينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً». «1»

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالت: قل له: إنّ أُمّي تستكسيك درعاً، فإن قال: حتى يأتينا شي ء.، فقل له: انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه، فقال ما قالت له، فنزع قميصه فدفعه إليه، فنزلت الآية.

ويقال انّه عليه السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار، وقالوا: إنّ محمداً اشتغل بالنوم و اللهو عن الصلاة «إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر» أي يوسع مرة ويضيق مرة، بحسب

المصلحة مع سعة خزائنه. «2»

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول، قال: تلا أبو عبد اللَّه هذه الآية: «وَالّذينَ إِذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً».

قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال: هذا الإقتار الذي ذكره اللَّه في كتابه، ثمّ قبض قبضة أُخرى، فأرخى كفه كلها، ثمّ قال: هذا الإسراف، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى بعضها، وقال: هذا القوام. «3»

______________________________

(1) الفرقان: 67.

(2) مجمع البيان: 3/ 412.

(3) البرهان في تفسير القرآن: 3/ 173.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 191

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنة إلهية في عالم الكون، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم و انّ كلّ شي ء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به، فالشمس ترسل 450 ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتص رحيق الأزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلًا، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الإفراط والتفريط، فمنع عن الشح، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله: «وَاقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَالأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير». «1»

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية، فمن جانب يصرح النبي صلى الله عليه و آله و سلم

بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب عليه السلام. «2»

ومن جانب آخر يقول الإمام علي عليه السلام: «هلك فيَّ اثنان: محب غال، ومبغض قال». «3»

______________________________

(1) لقمان: 19.

(2) حلية الأولياء: 1/ 86.

(3) بحار الأنوار: 34/ 307.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 192

فالإمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساسي في الإسلام، ولعله بذلك سميت الأُمة الإسلامية بالأُمة الوسط، قال سبحانه: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ». «1»

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام حول الاعتدال نأتي بنصها:

دخل الإمام على العلاء بن زياد الحارثي و هو من أصحابه يعوده، فلمّا رأى سعة داره، قال:

«ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرَّحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة».

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال: «وماله؟» قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال: «عليّ به». فلمّا جاء قال:

«يا عديّ نفسك: لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك! أترى اللَّه أحلّ لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على اللَّه من ذلك».

قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك!

قال: «ويحك، إنّي لست كأنت، إنّ اللَّه تعالى فرض على أئمّة العدل (الحق) أن يقدِّروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره!» «2»

______________________________

(1) البقرة: 143.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 209.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 193

الكهف 32

التمثيل الثاني والثلاثون

اشارة

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأَحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً* كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما

نَهَراً* وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً* وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً* وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً* قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلًا* لكِنّا هُوَ اللَّهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً* وَلَوْلا إِذْدَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلّابِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلداً* فَعَسى رَبّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِفَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً* أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً* وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً* وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً». «1»

تفسير الآيات

«الحف» من حف القوم بالشي ء إذا أطافوا به، وحفاف الشي ء جانباه كأنّهما

______________________________

(1) الكهف: 32- 43.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 194

أطافا به، فقوله في الآية «فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ» أي جعلنا النخل مطيفاً بهما، وقوله: «ما أظن أن تبيد» فهو من باد الشي ء، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

«حسباناً»: أصل الحسبان السهام التي ترمى، الحسبان ما يحاسب عليه، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه، وفي الحديث انّه قال صلى الله عليه و آله و سلم في الريح: «اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً».

«الصعيد» يقال لوجه الأرض «زلق» أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد، كما في قوله سبحانه: «فتركه صلداً» «1».

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها، فهو تمثيل للمؤمن و الكافر باللَّه و المنكر للحياة الأُخروية، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة، والثاني

يركن إلى الدنيا و يطمئن بها، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي:

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم و أنصارهم على فقراء المسلمين، فضرب اللَّه سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى المؤقت وانّه سوف يذهب سدى أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالًا وافراً فأخذ أحدهما حقه منه و هوالمؤمن منهما فتقرب إلى اللَّه بالإحسان والصدقة، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الأخ الغني على الفقير، وقال: «أنا أكثر منك مالًا وأعزّ نفراً»، وما هذا إلّا لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

______________________________

(1) البقرة: 264.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 195

بهما و بين الجنتين زرع وافر، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أُكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء و راح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول: ما أظن أن تفنى هذه الجنة و هذه الثمار- أي تبقى أبداً وأخذ يكذب بالساعة، ويقول: ما أحسب القيامة آتية، ولو افترض صحة ما يقوله الموحدون من وجود القيامة، فلئن بعثت يومذاك، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم، و هذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالًا، و عند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول: كيف كفرت باللَّه سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة، ثمّ رجلًا سوياً، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة، بل إنكار للمعاد، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد اللَّه

لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء اللَّه، فانّ الجنتين نعمة من نعم اللَّه سبحانه، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة اللَّه تبارك و تعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه، وقال: أنا وإن كنت أقل منك مالًا وولداً، ولكن أرجو

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 196

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شي ء، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه و هو يندّد به ويحذّره من مغبة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره، ففي ذلك الوقت استيقظ الأخ الكافر من رقدته، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه، وأخذ يندم على شركه، ويقول: يا ليتني لم أكن مشركاً بربي، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب اللَّه ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز، بقوله: «المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا». «1»

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أُخرى، وقال: «قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ* يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدِّقينَ* أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإِنّا لَمَدِينُونَ* قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون* فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم». «2»

إلى هنا تبيّن مفهوم المثل، و أمّا تفسير مفردات الآية وجملها، فالإمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

______________________________

(1) الكهف: 46.

(2) الصافات: 51-

55.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 197

«واضرب لهم» أي للكفار مع المؤمنين «مثلًا رجلين جعلنا لأحدهما» أي للكافر «جنتين» أي بستانين «من أعناب وحففناهما» أحدقناهما بنخل «وجعلنا بينهما زرعاً» يقتات به «كلتا الجنتين أتت أكلها» ثمرها «لم تظلم» تنقص «منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً» يجري بينهما «و كان له» مع الجنتين «ثمر فقال لصاحبه» المؤمن «وهو يحاوره» يفاخره «أنا أكثر منك مالًا وأعزّ نفراً» عشيرة «ودخل جنته» بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها. «وهو ظالم لنفسه» بالكفر «قال ما أظن أن تبيد» تنعدم «هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي» في الآخرة على زعمك «لأجدنّ خيراً منها منقلباً» مرجعاً «قال له صاحبه و هو يحاوره» يجادله «أكفرت بالذي خلقك من تراب» لأنّ آدم خلق منه «ثم من نطفة ثمّ سوّاك» عدلك وصيّرك «رجلًا». أمّا أنا فأقول «لكنّا هو اللَّه ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت» عند اعجابك بها «ما شاء اللَّه لا قوة إلّا باللَّه». «إن ترن أنا أقل منك مالًا و ولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً» و صواعق «من السماء فتصبح صعيداً زلقاً» أي أرضا ملساء لا يثبت عليهاقدم «أو يصبح ماؤها غوراً» بمعنى غائراً «فلن تستطيع له طلباً» حيلة تدركه بها «وأُحيط بثمره» مع ما جنته بالهلاك فهلكت «فأصبح يقلب كفيه» ندماً وتحسراً «على ما أنفق فيها» في عمارة جنته «وهي خاوية» ساقطة «على عروشها» دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم «ويقول يا ليتني» كأنّه تذكّر موعظة أخيه «لم أُشرك بربي أحداً و لم تكن له فئة» جماعة «ينصرونه من دون اللَّه» عند هلاكها و «ما كان منتصراً» عند هلاكها بنفسه «هنالك» أي يوم

القيامة «الولاية» الملك «للَّه الحقّ». «1»

______________________________

(1) السيوطي: تفسير الجلالين: تفسير سورة الكهف. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 198

الكهف 33

التمثيل الثالث والثلاثون

اشارة

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍأَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَي ءٍ مُقتدراً». «1»

تفسير الآيات

«الهشيم»: ما يكسر و يحطم في يبس النبات، و «الذر» و التذرية: تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها، فعندئذٍ تبتدأ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الأزهار الرائعة، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تك موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

______________________________

(1) الكهف: 45.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 199

على طول السنة ويشاهده الإنسان بأُمّ عينه، دون أن يعتبر بها، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه: «وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض» على وجه يلتف بعضه ببعض، يروق الإنسان منظره، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة، وهذا ما يعبر عنه القرآن، بقوله:

«فأصبح هشيماً» أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات «و كان اللَّه على كلّ شي ء مقتدراً».

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلًا، فما

ظنّك بزينته، فلم يكتب الخلود لشي ء مما يرجع إلى الدنيا، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً، قال سبحانه: «المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا».

نعم الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأُخروية، قال سبحانه: «وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌعِنْدَ رَبِّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا». «1»

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية. «2»

______________________________

(1) مريم: 76.

(2) انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس 25، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد، الآية 20.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 200

الامثال فى القرآن الكريم 249

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يعد من أمثال القرآن قوله: «وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شي ء جدلًا». «1»

والحق انّه ليس تمثيلًا مستقلًا وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله: «ولقد صرّفنا» أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة و مع ذلك «وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شي ءٍ جَدلًا» أي أكثر شي ء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

______________________________

(1) الكهف: 54.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 201

الحج 34

التمثيل الرابع و الثلاثون

اشارة

«يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ* ما قَدَرُوا اللَّهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز». «1»

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية، ويعربون عن عقيدتهم، بأنّه لا خالق في الكون سوى اللَّه سبحانه، و قد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات، قال سبحانه: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم». «2»

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية، وكأنّه سبحانه- بزعمهم- خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الأرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة، يقول سبحانه: «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الواحِدُ القَهّار» «3»، والآية وإن كانت تفصح عن

______________________________

(1) الحج: 73- 74.

(2) الزخرف: 9.

(3) يوسف: 39.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 202

عقيدة المشركين في عهد يوسف إلّا أنّها تماثل إلى حد كبير عقيدة المشركين في مكة، بشهادة انّ الآية نزلت للتنديد بهم والحط من عقيدتهم الفاسدة.

وهناك آيات أُخرى تكشف عن شركهم في الربوبية:

يقول سبحانه: «وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلهةً لَعلَّهُمْ يُنْصَرُون» «1»، فقد كانوا يعبدون آلهتهم في سبيل نصرتهم في ساحات الوغى، قال سبحانه: «وَاتّخذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلهةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً». «2»

فكان الهدف من الخضوع لدى الآلهة هو طلب العزّ منهم في مختلف المجالات، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أنّ مشركي عصر الرسول لم يكونوا موحدين في الربوبية، وإن كانوا كذلك في مجال الخالقية.

وهناك آيات كثيرة تصف الأصنام والأوثان بأنّها لا تملك كشف الضرّ، كما لا تملك النفع والضرّ، ولا النصر في الحرب، ولا

العزة في الحياة، كل ذلك يدل على أنّ المشركين كانوا يعتقدون أنّ في آلهتهم قوة وسلطاناً يكشف عنهم الضرّ ويجلب إليهم النفع، وهذه عبارة أُخرى عن تدبيرهم للحياة الإنسانية، يقول سبحانه: «قُلِ ادْعُوا الّذينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّر عَنْكُمْ وَلا تحْوِيلًا». «3» وقال تعالى: «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرّك».

وقال تعالى «4»: «إِن تَدَعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ» «5». إلى غير ذلك من الآيات التي تبطل تدبير الآلهة المزيفة.

______________________________

(1) يس: 74.

(2) مريم: 81.

(3) الإسراء: 56.

(4) يونس: 106.

(5) فاطر: 14.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 203

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه سبحانه ضرب في المقام أمثالًا أبطل بها ربوبية الأصنام، بالبيان التالي:

أمّا الذباب، فهو عندهم أضعف الحيوانات وأوهنها، ومع ذلك فآلهتهم عاجزون عن خلق الذباب، وإن سلب الذباب منهم شيئاً لا يستطيعون استنقاذه منه.

فقد روي أنّ العرب كانوا يطلون الأصنام بالزعفران و رؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، يقول سبحانه: «يا أَيُّها الناس ضربَ مثل فاستمعوا له انَّ الذينَ تَدعُون مِنْ دُونِ اللَّه» أي يعبدونه والدعاء هنا بمعنى العبادة، كما في قوله سبحانه: «وَقالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِين» «1»، فدعاؤه سبحانه عين عبادته كما أنّ دعاء الآلهة المزيّفة- بما انّها أرباب عند الداعي- عبادة لها.

«لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له» مع صغره وضعفه «وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه» كما عرفت من أنّ الذباب ربما يأكل العسل الموجود على رؤوس الأصنام.

«ضعف الطالب والمطلوب» وفيها احتمالات:

الأوّل: انّ المراد من الطالب و المطلوب هو العابد و المعبود، فالإنسان ضعيف كما هو واضح، وقال سبحانه: «وَخلق الإنْسان ضعيفاً» والمطلوب، أعني: الأصنام مثله لأنّه جماد لا يقدر على شي ء.

______________________________

(1)

غافر: 60.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 204

الثاني: ويحتمل أن يكون المراد من الطالب هو الذباب الذي يطلب ما طليت به الأصنام، والمطلوب هي الأصنام التي تريد استنقاذ ما سلب منها.

الثالث: المراد من الطالب الآلهة فانّهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون على استنقاذ ما سلبهم، والمطلوب الذباب حيث يطلب للاستنقاذ منه، والغاية من التمثيل بيان ضعف الآلهة لتنزيلها منزلة أضعف الحيوانات في الشعور والقدرة.

ثمّ إنّه سبحانه يعود ليبين منشأ اعراضهم عن عبادة اللَّه وانكبابهم على عبادة الآلهة، بقوله: «ما قَدَرُوا اللَّه حقّ قدره انّ اللَّهَ لقويٌّ عَزيز» أي ما نزلوه المنزلة التي يستحقها ولم يعاملوه بما يليق به، فلذلك أعرضوا عن عبادة الخالق وانصرفوا إلى عبادة المخلوق الذي لا ينفع ولا يضر، فلو كان هؤلاء عارفين باللَّه وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، لاعترفوا بأنّه لا خالق ولا رب سواه، وعلى ضوء ذلك لا معبود سواه، ولكن لم يقدروا اللَّه بما يليق به، فلذلك شاركوه أضعف المخلوقات وأذلّهم، مع أنّه سبحانه «هو القويُّ العَزيز» بخلاف الآلهة فانّهم الضعفاء والأذلّاء.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 205

النور 35

التمثيل الخامس والثلاثون

اشارة

«اللَّهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكوة فِيها مِصْباحٌ المِصْباحٌ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوكَبٌ دُرِيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرة مُبارَكةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّه لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثالَ لِلنّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيم». «1»

تفسير الآية

المشكاة: كوّة غير نافذة، وتُتخذ في جدار البيت لوضع بعض الأثاث ومنها المصباح وغيره، وربما تكون الكوّة مشرفة على ساحة الدار وتجعل بينها زجاجة، لتحفظ المصباح من الرياح، ولتضي ء الساحة والغرفة معاً.

ومنه حافظة المصباح، وهي ما تصنع على شكل مخروطي توضع على المصباح لتحفظه من الرياح، وفي أعلاها ثقب يخرج منه الدخان.

«المصباح»: السراج، وهو آلة يتألف من أُمور أربعة:

أ: وعاء للزيت، ب: فتيل يشتعل بالزيت، ج: زجاجة منصوبة عليه، د: آلة التحكم بالفتيل.

______________________________

(1) النور: 35.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 206

ثمّ إنّ أفخر أنواع الزيوت هو المأخوذ من شجرة الزيتون المغروسة في مكان تشرق عليه الشمس من كل الجوانب حيث تكون في غاية الصفاء وسريعة الاشتعال، بخلاف المغروسة في جانب الشرق أو جانب الغرب، فانّها لا تتعرض للشمس إلّافي أوقات معينة.

قال العلّامة الطباطبائي:

والمراد بكون الشجرة لا شرقية ولا غربية، انّها ليست نابتة في الجانب الشرقي، ولا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار، ويضي ء الظل عليها في الطرف الآخر، فلا تنضج ثمرتها، فلا يصفو الدهن المأخوذ منها، فلا تجود الإضاءة. «1»

إلى هنا تم ما يرجع إلى مفردات الآية، فعلى ذلك فالمشبه به عبارة عن مشكاة فيها مصباح و عليها زجاجة، يوقد المصباح من زيت شجرة الزيتون المغروسة المتعرضة للشمس طول النهار على وجه يكاد زيتها يضي ء و لو لم تمسسه نار، لأنّ الزيت

إذا كان خالصاً صافياً يرى من بعيد كأنّ له شعاعاً فإذا مسه النار ازداد ضوءاً على ضوء.

فالمشبه به هو النور المشرق من زجاجة مصباح، موقد من زيت جيد صاف موضوع على مشكاة، فانّ نور المصباح تجمعه المشكاة وتعكسه فيزداد إشراقاً.

وأمّا قوله في آخر الآية: «نور على نور» بمعنى تضاعف النور وأنّ نور الزجاجة مستمد من نور المصباح في إنارتها.

قال العلّامة الطباطبائي:

______________________________

(1) الميزان: 15/ 124.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 207

فأخذ المشكاة، لأجل الدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة وانعكاسه إلى جو البيت.

واعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية للدلالة على صفاء الدهن و جودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله.

وجودة الضياءعلى ما يدل عليه كون زيته يكاد يضي ء ولو لم تمسسه نار.

واعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون نور الزجاجة مستمد من نور المصباح. «1»

هذا هو حال المشبه به، و إنّما الكلام في المشبه أو الممثل له، فقد طبقت كلّ طائفة ذلك الممثل على ما ترومه، وإليك الأقوال.

القول الأوّل: المشبه به هداية اللَّه، إذ قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء.

وأمّا عدم تشبيهها بضوء الشمس مع أنّه أبلغ، فلأجل انّ المراد وصف الضوء الكامل وسط الظلمة، لأنّ الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنّما هو الشبهات التي هي كالظلمات، وهداية اللَّه تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات.

القول الثاني: المراد من النور: القرآن، و يدل عليه قوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبين». «2»

______________________________

(1) الميزان: 15/ 125.

(2) المائدة: 15.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 208

القول الثالث: المراد

هو الرسول، لأنّه المرشد، ولأنّه تعالى قال في وصفه:

«وسِراجاً مُنِيراً». «1» ولعلّ مرجع القولين الأخيرين هو الأوّل، لأنّ القرآن والرسول من شعب هداية اللَّه سبحانه.

القول الرابع: إنّ المراد ما في قلب المؤمنين من معرفة الشرائع، ويدل عليه انّه تعالى وصف الإيمان بأنّه نور والكفر بأنّه ظلمة، فقال: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ للإسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ». «2»

وقال تعالى: «لِتُخْرِجَ الناسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّور» «3». وحاصله انّ إيمان المؤمن قد بلغ في الصفاء عن الشبهات و الامتياز عن ظلمات الضلالات مبلغ السراج المذكور.

وعلى هذا فالتمثيل مفرداً وهو تشبيه الهداية وما يقرب منها بنور السراج، ولا يجب أن يكون في مقابل كل ما للمشبه به من الأُمور موجود في المشبه بخلاف الوجه التالي.

القول الخامس: إنّ المراد هو القوى المدركة ومراتبها الخمس، وهي: القوة الحسّاسة، القوة الخيالية، القوة العقلية، القوة الفكرية، القوة القدسية.

وإليها أشارت الآية الكريمة: «وَكَذلِكَ أَوحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنتَ تَدري ما الكِتابُ وَلا الإِيمانُ ولكِن جعلناهُ نُوراً نهدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادنا». «4»

فإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار، إذ بها تظهر أصناف

______________________________

(1) الأحزاب: 46.

(2) الزمر: 22.

(3) إبراهيم: 1.

(4) الشورى: 52.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 209

الموجودات، و هذه المراتب الخمس يمكن تشبيهها بالأُمور الخمسة التي ذكرها اللَّه تعالى، و هي: المشكاة، والزجاجة، والمصباح، والشجرة، والزيت.

وعلى هذا فالتمثيل مركباً نظير القول الآتي.

القول السادس: إنّ النفس الإنسانية قابلة للمعارف والإدراكات المجردة، ثمّ إنّه في أوّل الأمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف، فهناك تسمى عقلًا هيولانياً، وهي المشكاة.

وفي المرتبة الثانية يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية. ثم إن أمكنه الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة،

وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت، وإن كانت شديدة القوة فهي الزجاجة التي كأنّها الكوكب الدرّي، وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للأنبياء فهي التي «يكاد زيتها يضي ء ولو لم تمسسه نار».

وفي المرتبة الثالثة يكتسب من العلوم الضرورية العلوم النظرية، إلّاأنّها لا تكون حاضرة بالفعل، ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه، وهذا يسمّى عقلًا بالفعل وهو المصباح.

وفي المرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف حاصلة بالفعل، وهذا يسمّى عقلًا مستفاداً، وهو نور على نور، لأنّ الحكمة ملكة نور و حصول ما عليه الملكة نور آخر. ثم إنّ هذه العلوم التي تحصل في الأرواح البشرية، إنّما تحصل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار.

القول السابع: إنّه سبحانه شبّه الصدر بالمشكاة، والقلب بالزجاجة، والمعرفة بالمصباح، وهذا المصباح إنّما يوقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة. وإنّما شبّه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم، ولكنّه وصفها بأنّها

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 210

لا شرقية ولا غربية لأنّها روحانية، ووصفهم بقوله: «يكاد زيتها يضي ء ولو لم تمسسه نار» لكثرة علومهم وشدة اطّلاعهم على أسرار ملكوت اللَّه تعالى.

القول الثامن: إنّ المراد من «مثل نوره»، أي مثل نور الإيمان في قلب محمد صلى الله عليه و آله و سلم كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صلب عبد اللَّه، والزجاجة نظير جسد محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و المصباح نظير الإيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه.

القول التاسع: إن «المشكاة» نظير إبراهيم عليه السلام، والزجاجة نظير إسماعيل عليه السلام، والمصباح نظير جسد محمّد، والشجرة النبوة والرسالة.

القول العاشر: إنّ قوله: «مثل نوره» يرجع إلى المؤمن. «1»

إنّ المشبه هو نور اللَّه المشرق على قلوب

المؤمنين، والمشبه به النور المشرق من زجاجة، وقوله سبحانه: «يَهدي اللَّه لنوره من يشاء» استئناف يعلّل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان والمعرفة وحرمان غيرهم، ومن المعلوم من السياق انّ المراد بقوله: «من يشاء» هم الذين يذكرهم اللَّه سبحانه بقوله بعد هذه الآية: «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه» «2»، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم. والمعنى انّ اللَّه إنّما هدى المتلبسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر. «3»

وقوله: «يضرب اللَّه الأمثال للناس واللَّه بكلّ شي ء عليم» إشارة إلى أنّ المثل المضروب تحته طور من العلم، وإنّما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبين الحقائق والدقائق، ويشترك فيه العالم والعامي فيأخذ منه كلّ ما قسم له، قال تعالى: «وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلّا العالِمُون». «4»

______________________________

(1) تفسير الفخر الرازي: 23/ 231- 235.

(2) النور: 37.

(3) الميزان: 18/ 125- 126.

(4) العنكبوت: 43. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 211

النور 36

التمثيل السادس والثلاثون

اشارة

«وَالّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَمآنُ ماءً حَتّى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوفّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ». «1»

تفسير الآية

«السراب»: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنّه ماء يجري، و «القيعة»: بمعنى القاع أو جمع قاع، وهو المنبسط المستوي من الأرض، والظمآن هو العطشان.

يشبه سبحانه أعمال الكفار تارة بالسراب كما في هذه الآية، وأُخرى بالظلمات كما في التمثيل الآتي، ولعلّ المشبه في الأوّل هو حسناتهم، وفي الثاني قبائح أعمالهم.

وإليك توضيح التمثيل الوارد في الآية:

قال سبحانه: «وَالّذِينَ كَفَرُوا أَعمالهم» أي ما يعملون من الطاعات ويقدمون من قرابين وأذكار يتقربون بها إلى آلهتهم، مثلها ك «سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء».

______________________________

(1) النور: 39.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 212

فقد وصف الظمآن بصفات عديدة:

الأُولى: حسبان السراب ماءً، كما قال سبحانه: «كَسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء».

الثانية: إذا وصل إلى السراب لم يجده شيئاً نافعاً، كما قال سبحانه «حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً» وإنّما خصّ الظمآن به مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راءٍ، لأن المقصود هو مجي ء الرائي إلى السراب، ولا يجيئه إلّا الظمآن ليرتوي ويرفع عطشه.

الثالثة: عند ما يشرف على السراب لا يجد فيه ماءً، ولكن يجد اللَّه سبحانه عنده، كما قال سبحانه: «وَوَجد اللَّه عنده».

وهذا خبر عن الظمآن، ولكن المقصود منه في هذه الجملة هو الكافر، والمعنى وجد أمر اللَّه ووجد جزاء اللَّه، وذلك عند حلول أجله واشرافه على الآخرة.

فالكافر يتصوّر أنّ ما يقدم من قرابين وأذكار سوف ينفعه عند موته و بعده، وسوف تقوم الآلهة بالشفاعة له، ولكن يتجلّى له خلاف ذلك وانّ الأمر أمر اللَّه لا أمر غيره فلا يجدون أثراً من إلوهية آلهتهم.

فعند ذلك يجدون جزاء أعمالهم، كما يقول سبحانه:

«فَوَفّاهُمُ اللَّهُ حسابهم».

ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله: «وَاللَّهُ سريع الحساب».

وبذلك تبين انّ الآية المباركة لبيان حال الظمآن الحقيقي إلى قوله: «لم يجده شيئاً»، كما أنّها من قوله «ووجد ...» يرجع إلى الظمآن لكن بالمعنى المجازي وهو الكافر.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 213

وحاصل التمثيل هو انّ الطاعة والعبادة والقربات كلها للَّه تبارك وتعالى، فمن قدمها إليه و قام بها لأجله فقد بذر بذرة في أرض خصبة سوف ينتفع بها في لقائه سبحانه.

وأمّا من عبد غيره و قدم إليه القربات راجياً الانتفاع به، فهو كرجاء الظمآن الذي يتصوّر السراب ماءً فيجيئه لينتفع به ولكنّه سرعان ما يرجع خائباً.

إلى هنا تمَّ ما يشترك فيه الظمآن والكافر، أي المشبه به والمشبه، ولكن المشبه، أعني: الكافر الذي شبه بالظمآن فهو يختص بأُمور أُخرى.

أولًا: انّه عند مجيئه إلى الانتفاع بأعماله يجد اللَّه هو المجازي لا غير.

وثانياً: انّه سبحانه يجزيه بأعماله.

وثالثاً: فيوفيه حسابه.

وما ذلك إلّا لأنّ اللَّه سريع الحساب.

وعلى ضوء ما ذكرنا فقد أُريد من الظمآن الاسم الظاهر الظمآن الحقيقي، واريد من الضمائر الثلاثة في «وجد» «وفاه» «حسابه» الظمآن المجازي أعني الكافر الخائب.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 214

النور 37

التمثيل السابع والثلاثون

اشارة

«أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها وَمَنْ لَمْ يَجعلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ». «1»

تفسير الآية

«اللجيّ»: منسوب إلى اللجّة، وهي في اللغة البحر الواسع العميق، ولكنّه استخدم في لازم معناه وهو تردد أمواجه، فانّ البحر كلما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه، وعلى ذلك فيكون المراد من قوله «بحرٍ لجيٍّ» أي بحر متلاطم.

و «السحاب»: عبارة عن الغيوم الممطرة، بخلاف الغيم فهو أعم، وانّما استخدم كلمة السحاب ليكون سبباً لازدياد الظلم.

هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية، وأمّا المقصود فهو كالتالي.

انّه سبحانه شبه في الآية السابقة أعمال الكافرين، لأجل عدم الانتفاع بها بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، ولكنّه تعالى شبّه أعمالهم في هذه الآية بالظلمة وخلوّها من نور الحق ببحر لجيّ فوقه سحابة سوداء ممطرةويعلو ماءه موج فوق

______________________________

(1) النور: 40.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 215

موج، فراكب هذا البحر تغمره ظلمة دامسة لا يرى أمامه شيئاً حتى لو أخرج يده فانّه لا يراها مع قربها منه.

هذا هو المشبه به، و أمّا المشبه فالأعمال التي يقوم بها الكافر باطلة محضة ليس فيها من الحقّ شي ء مثل هذا البحر اللجي المحيط به عتمة الظلام الذي ليس فيه نور.

ثمّ إنّ الآية تشير إلى ظلمات ثلاث.

الأُولى: ظلمة البحر المحجوب من النور.

الثانية: ظلمة الأمواج المتلاطمة.

الثالثة: السحاب الأسود الممطر.

فتراكم هذه الظلمات يحجب كلّ نور من الوصول، وهكذا الحال في الكافر ففي أعماله ظلمات ثلاث يمكن بيانها بأنحاء مختلفة:

النحو الأوّل: الاعتقاد، ظلمة القول، ظلمة العمل.

النحو الثاني: ظلمة القلب، ظلمة البصر، ظلمة السمع.

النحو الثالث: ظلمة الجهل، ظلمة الجهل بالجهل، ظلمة تصوّر الجهل علماً. «1»

ويمكن أن تكون هذه الظلمات المتراكمة

إشارة إلى أمر آخر وهو إصرار الكافر المتزايد على كفره وقبائح أعماله.

ولذلك يصفه سبحانه بقوله: «ومن لم يجعل اللَّه له نوراً فما له من نور».

______________________________

(1) انظر تفسير الفخر الرازي: 24/ 8- 9. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 216

إيقاظ

ثمّ إنّ بعض المؤلفين في أمثال القرآن ذكروا الآية التالية واعتبروها من الأمثال، قال سبحانه: «وَقَالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعام وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلّا رَجُلًا مَسْحُوراً* انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثال فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا». «1»

ولكن الآية رغم ما جاء فيها من لفظ الأمثال ليست من قبيل التمثيل، وإنّما هي بصدد نقل ما وصف به النبي صلى الله عليه و آله و سلم في لسان الكفّار، حيث وصفوه بأنّه يأكل الطعام، و يمشي في الأسواق، فلا يصلح للرسالة.

ثمّ نقموا منه بأنّا سلمنا انّه رسول، ولكنّه لماذا لا ينزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ليتصل إنذاره بالغيب بتوسط الملك؟

ثمّ نقموا منه أيضاً بأنّه لماذا لم يلق إليه كنز من السماء حتى يصرفه في حوائجه المادية، أو لماذا لا تكون له جنّة يأكل منها، ثمّ في الختام وصفوه بأنّه مسحور.

فقال سبحانه اعتراضاً وتنديداً بوصفهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم إيجاباً وسلباً بقوله «انظر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثال» أي انظر كيف وصفوك تارة بأنّك تأكل وتمشي في الأسواق، وأُخرى بعدم اقترانك بملك، وثالثة بالفقر، ورابعة بكونك مسحوراً بتخيّل انّه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب.

وليس هاهنا مشبه ولا مشبه به ولا تمثيل ليبين موقف الرسول، ولأجل ذلك صرّحنا في المقدمة انّه ليس من الأمثال القرآنية.

______________________________

(1) الفرقان: 7- 9.

الامثال فى القرآن

الكريم، ص: 217

العنكبوت 38

التمثيل الثامن والثلاثون

اشارة

«مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَولياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون* إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَي ءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيم* وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُهَا إِلّا العالِمُون». «1»

تفسير الآيات

ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلًا بالذباب تارة، وبيت العنكبوت أُخرى، أمّا الأوّل فقد مضى البحث عنه، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت.

وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول: لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب، وأُخرى يمثل عمله بالمثل التالي: وهو انّ مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت، لأنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا

______________________________

(1) العنكبوت: 41- 43.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 218

يقدر على الدفع.

ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الأرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها.

إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء و يصير خيطاً في غاية الدقة، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سماً يوقف حركاتها، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها. «1»

ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت،

الذي يتألف من حائط هائل، وسقف مضل، وباب ونوافذ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب، و من جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لأدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية، فلو هبّ عليه نسيم هادئ لمزق النسيج، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى ولو وقع على مقربة من نار لاحترق، ولو تراكم عليه الغبار لمزق.

هذا هو حال المشبه به، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع. وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ، لا تخلق ولاترزق، ولا تقدر على استجابة أي طلب.

بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالًا من بيت العنكبوت، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً، ولكن الأصنام والأوثان لا توفر شيئاً للكافر.

______________________________

(1) انظر دائرة معارف القرن الرابع عشر: 6/ 772.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 219

وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله: «وَإِنّ أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت لَو كانُوا يَعْلَمُون».

ثمّ إنّ قوله: «لو كانوا يعلمون» ليس قيداً لقوله: «أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت»، لأنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن، وانّما هو من متمّمات قوله: «اتخذوا» أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً، ربما أعرضوا عنها.

ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أُخرى، وقال: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يدعُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم» والظاهر انّ «ما» في قوله: «ما يدعون» موصولة، أي انّه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار و ما يتخذونه من دونه أرباباً. ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله.

ثمّ قال سبحانه: «وَتِلْكَ الأَمْثال نَضْرِبها لِلنّاس وما يعقلها إِلّا العالمون» أي نذكر تلك الأمثال، وما يفهمها إلّا العلماء العاقلون.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 220

الروم 39

التمثيل التاسع والثلاثون

«وَلَهُ مَنْ

فِي السَّموات وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُون* وَهُوَ الّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّموات وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم* ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا من أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يعْقِلُون». «1»

تفسير الآيات

«القانت»: هو الخاضع، الطائع، فقوله: «كلّ له قانتون» أي خاضعون وطائعون له في الحياة والبقاء والموت والبعث، وبالجملة كلّ ما في الكون مقهور للَّه سبحانه.

ثمّ إنّ هذه الآيات تتضمن برهاناً على إمكان المعاد وتمثيلًا على بطلان الشرك في العبادة، أمّا البرهان فقوله سبحانه: «وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالأَرْض كُلٌّ لَهُ قانِتُون» واللام في قوله «وله» للملكية، والمراد منه الملكية التكوينية، كما أنّ قنوطهم وخضوعهم كذلك، ومفاد الآية انّ زمام ما في الكون بيده سبحانه، والكل مستسلمون لمشيئته سبحانه دون فرق بين الصالحين والطالحين، وذلك لأنّه سبحانه

______________________________

(1) الروم: 26- 28.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 221

هو الخالق الذي يدبر العالم كيفما يشاء، والمربوب مستسلم لربه.

ثمّ إنّه سبحانه رتَّب على ذلك مسألة إمكان المعاد، بقوله: «وَهُوَ الّذي يَبْدَؤُا الخَلْق ثُمَّ يُعيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه».

وحاصل البرهان: انّه سبحانه قادر على الخلق من العدم- كما هو المفروض فالقادر على ذلك قادر على الإعادة، إذ ليس هو إعادة من العدم، بل إعادة لصورة الأجزاء المتماسكة وتنظيم المتفرقة، فالخالق من لا شي ء أولى من أن يكون خالقاً من شي ء.

ثمّ إنّ هذه الأولوية حسب تفكيرنا ورؤيتنا، وإلّافالأُمور الممكنة أمام مشيئته سواء، قال علي عليه السلام:

وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء. «1»

ولأجل توضيح هذا المعنى، قال سبحانه: «وَلَهُ المَثَلُ الأَعلى فِي السَّمواتِ وَالأَرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكيم» والمراد من المثل

الوصف، والمراد من المثل الأعلى هو الوصف الأتم والأكمل، الذي له سبحانه، فهو علم كله، قدرة كله، حياة كله، ليس لأوصافه حد.

إلى هنا تم ما ذكره القرآن من البرهان على إمكانية قيام المعاد بحشر الأجسام.

وإليك بيان الأمر الثاني وهو التنديد بالشرك في العبادة من خلال التمثيل الآتي.

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 185.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 222

ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الإنكاري، وحاصله: هل ترضون لأنفسكم أن تكون عبيدكم وإماؤكم شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هؤلاء العبيد والإماء ورضاً منهم، كما تخشون الشركاء الأحرار.

والجواب: لا، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله، فعندئذٍ يقال لكم: كيف تجوزون ذلك على اللَّه، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.

والحاصل: انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الأموال، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل، كأن يكون خالقاً أو مدبراً، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.

فالشي ء الذي لا ترضون لأنفسكم، كيف ترضونه للَّه سبحانه، و هو ربّ العالمين، وإلى ذلك المثل أشار، بقوله:

«ضَرَبَ اللَّه لَكُم مَثلًا مِنْ أَنْفُسكُم» أي ضرب لكم مثلًا متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم «هَل لَكُمْ من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم» فقوله:

«هل لكم» شروع في المثل المضروب، والاستفهام للإنكار، وقوله «ما» في «مما ملكت» إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد و الإماء.

فقوله: «من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء» مبين للشركة، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره، أي شركاء

فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء، و على ذلك يكون من في شركاء، زائدة.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 223

فقوله: «تخافونهم كخيفتكم أنفسكم» بيان للشركة، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الأحرار، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الأحرار، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء.

ثمّ إنّه يتم الآية، بقوله: «كَذلك نُفصّل الآيات لقوم يعقلون»، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 224

فاطر 40

التمثيل الأربعون

اشارة

«وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمن كُلّ تَأْكُلُون لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِليةً تَلْبَسُونَها وَتَرى الفُلكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون». «1»

تفسير الآية

«الفرات»: الماء العذب، يقال للواحد والجمع، قال سبحانه: «وأَسْقَيناكُمْ ماءً فُراتاً»، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.

«الأُجاج»: هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.

«مواخر» من مخر، يقال مخرت السفينة مخراً، إذا شقت الماء بجؤجئها مستقبلة له.

فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والإيمان، أو الكافر والمؤمن.

وحاصل التمثيل: انّ الإيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الأُجاج.

وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع، قال سبحانه: «وَمايَسْتَوي البَحْران هذا عَذبٌ فُراتٌ سائِغٌ شرابهُ وَهذا مِلحٌ أُجاج» بل انّ

______________________________

(1) فاطر: 12.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 225

الكافر أسوأ حالًا من البحر الأُجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين:

أ: يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الإنسان، كما قال سبحانه: «وَمن كلّ تأكُلون لَحماً طَرياً».

ب: يستخرج من كلّ منهما اللآلئ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.

إلى هنا تم التمثيل، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لأجلها السورة، وقال:

«وَتَرى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله لعلّكم تشكرون»، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي، و قال: «وَما يستوي البحران» ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب «وترى الفلك» وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.

مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل، وقال: «وَهُوَ الّذي سَخَّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». «1»

وبذلك يظهر انّ وزان الآية، وزان قوله سبحانه: «ثُمَّ قَسَتْ

قُلُوُبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهي كَالحِجارة أَو أَشَدُّ قَسوةً وانّ مِنَ الحِجارةِ لَمَا يَتفجّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ وَإنّ مِنْها لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإِنّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَما اللَّهُ بِغافلٍ عَمّا تعْمَلُون». «2»

فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم، فهكذا الملح الأُجاج أفضل من الكافر، حيث إنّه يفيد.

______________________________

(1) النحل: 14.

(2) البقرة: 74.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 226

فاطر 41

التمثيل الواحد و الأربعون

اشارة

«وَما يَسْتَوِي الأَعْمى وَالبَصِير* وَلا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِلُّ وَلَا الْحَرُورُ* وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ وَلَا الأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمعٍ مَنْ فِي الْقُبُور». «1»

تفسير الآيات

«الحرور»: شدة حرّالشمس، وقيل: هو السموم. وقال الراغب: الحرور: الريح الحارة.

هذا تمثيل للكافر والمؤمن، أمّا الكافر فقد شبّهه بالصفات التالية:

1. الأعمى، 2. الظلمات، 3. الحرور، 4. الأموات.

كما شبّه المؤمن بأضدادها التالية:

1. البصير، 2. النور، 3. الظل، 4. الأحياء.

وما ذلك إلّالأنّ الكافر لأجل عدم إيمانه باللَّه سبحانه وصفاته وأفعاله، فهو أعمى البصر تغمره ظلمة دامسة لا يرى ما وراء الدنيا شيئاً، وتحيط به نار،

______________________________

(1) فاطر: 19- 22.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 227

قال سبحانه: «انّ جَهَنّم لَمُحيطَةٌ بِالكافِرين» «1»، وظاهر الآية انّ النار محيطة بهم في هذه الدنيا و إن لم يشعروا بها، كما أنّه ميت لا يسمع نداء الأنبياء وإن كان حياً يمشي، وهذا بخلاف المؤمن فانّه يبصر بنور اللَّه يغمره نور زاهر. يرى دوام الحياة إلى ما بعد الموت، فهو في ظلّ ظليل رحمته، وانّه يسمع نداء الأنبياء ويؤمن به.

وبعبارة واضحة: الكافر مجالد مكابر، والمؤمن واع متدبر.

______________________________

(1) التوبة: 49.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 228

يس 42

التمثيل الثاني والأربعون

اشارة

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْجاءَهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْأَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ* قالُوا ما أَنْتُمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلّاتَكْذِبُونَ* قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَما عَلَيْنا إِلّا الْبَلاغُ الْمُبينُ* قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ* قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ* وَجاءَمِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ* إِنّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِنّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ

يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَلي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ* وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ* إِنْ كانَتْ إِلّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ* يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلّاكانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ». «1»

______________________________

(1) يس: 13- 30. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 229

تفسير الآيات

«التعزيز»: النصرة مع التعظيم، يقول سبحانه في وصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم «فَالّذينَ آمَنُوا بهِ وَعَزّروه وَنَصَرُوه» «1».

«طيّر»: تطير فلان وإطيّر، أصله التفاؤل بالطير، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم، فقوله «إِنّا تطيرنا بِكُمْ» أي تشاءمنا بكم.

وبذلك يظهر معنى قوله: «إِنّما طائِرُكُمْ مَعَكُمْ» أي انّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم، أعني: حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم على الباطل.

«الرجم»: الرمي بالحجارة.

«الصيحة»: رفع الصوت.

هذا التمثيل تمثيل إخباري يشرح حال قوم بعث اللَّه إليهم الرسل، فكذبوهم وجادلوهم بوجوه واهية.

ثمّ أقبل إليهم رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى متابعة الرسل بحجة انّ رسالتهم رسالة حقة، ولكنّ القوم ما أمهلوه حتى قتلوه، وفي هذه الساعة عمّت الكاذبين الصيحة فأهلكتهم عامة، فإذا هم خامدون.

هذا إجمال القصة وأمّا تفصيلها:

فقد ذكر المفسرون انّ المسيح عليه السلام بعث إلى قرية انطاكية رسولين من الحواريّين باسم: شمعون ويوحنّا، فدعيا إلى التوحيد وندّدا بالوثنية، وكان القوم وملكهم غارقين في الوثنية.

______________________________

(1) الأعراف: 158.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 230

وناديا أهل القرية بانّا إليكم مرسلون، فواجها تكذيب القوم و ضربهما، فعززهما سبحانه برسول ثالث، واختلف المفسرون في اسم هذا الثالث، ولا يهمنا تعيين اسمه، وربما يقال انّه «بولس». فعند ذلك أخذ القوم بالمكابرة و المجادلة والعناد، محتجين بوجوه واهية:

أ: انّكم بشر مثلنا ولا مزية لكم علينا، و ما تدعون

من الرسالة من الرحمن ادّعاء كاذب، فأجابهم الرسل بأنّه سبحانه يعلم انّا لمرسلون إليكم، وليس لنا إلّاالبلاغ كما هو حق الرسل.

ب: انّا نتشاءم بكم، وهذه حجة العاجز التي لا يستطيع أن يحتج بشي ء، فيلوذ إلى اتهامهم بالتشاؤم والتطيّر.

ج: التهديد بالرجم إذا أصرّوا على إبلاغ رسالتهم والدعوة إلى التوحيدوالنهي عن عبادة الأوثان، وقد أجاب الرسل بجوابين:

الأوّل: انّ التشاؤم والتطير معكم، أي أعمالكم وأحوالكم، وابتعادكم عن الحق، وانكبابكم على الباطل هو الذي يجر إليكم الويل والويلات.

الثاني: انكم قوم مسرفون، أي متجاوزون عن الحد.

كان الرسل يحتجون بدلائل ناصعة وهم يردون عليهم بما ذكر، وفي خضم هذه الأجواء جاء رجل من أقصى المدينة نصر وعزّز قول الرسل ودعوتهم محتجاً بأنّ هؤلاء رسل الحقّ، وذلك للأُمور التالية:

أوّلًا: انّ دعوتهم غير مرفقة بشي ء من طلب المال والجاه والمقام، و هذا دليل على إخلاصهم في الدعوة، وقد تحمّلوا عناء السفر و هم لا يسألون شيئاً.

ثانياً: انّ اللائق بالعبادة من يكون خالقاً أو مدبراً للعالم، ومن بيده مصيره

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 231

في الدنيا والآخرة وليس هو إلّااللَّه سبحانه الذي ينفعني، فكيف أترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ شي ء، وأتوجه إلى عبادة المخلوق (الآلهة المزيفة) التي لا تستطيع أن تدفع عني ضراً ولا تنفعني شفاعتهم؟! فلو اتخذت إلهاً غيره سبحانه كنت في ضلال مبين، فلمّا تم حجاجه مع القوم و عزز الرسل و بين برهان لزوم اتباعهم، أعلن، وقال:

أيّها النّاس «إنّي آمنت بربّكم فاسمَعُون».

ثمّ يظهر من القرائن انّ القوم هجموا عليه و قتلوه، ولكنّه سبحانه جزاه، فأدخله الجنة، وهو فرح مستبشر يود لو علم قومه بمصيره عند اللَّه.

فلمّا تبيّن عناد القوم وقتل من احتج عليهم بحجج قوية نزل عذابه سبحانه، فعمتهم صيحةواحدة أخمدت حياتهم و صيرتهم جماداً.

ففي هذه

اللحظة الحاسمة التي يختار الإنسان الضلالة على الهداية، والباطل على الحقّ، يصح أن يخاطبهم سبحانه، و يقول:

«يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلّاكانوا به يسْتهزءون».

هذه حقيقة القصة استخرجناها بعد الإمعان في الآيات، وقد أطنب المفسرون في سرد القصة، نقلًا عن مستسلمة أهل الكتاب الذين نشروا الأساطير بين المسلمين، نظراء وهب بن منبه، فلا يمكن الاعتماد على كلّ ما جاء فيها. «1»

ثمّ إنّ في الآيات نكات جديرة بالمطالعة:

الأُولى: يذكر المفسرون انّ الرسولين لم يكونا مبعوثين من اللَّه مباشرة، وانّما بعثا من قبل المسيح عليه السلام. مثل الرسول الثالث، ولما كان بعث المسيح بأمر من اللَّه سبحانه، نسب فعل المسيح إليه سبحانه، وقال: «إِذْأرسلنا إليهم اثنين».

______________________________

(1) لاحظ مجمع البيان: 4/ 418- 420.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 232

الثانية: لقد وقفت على أنّ القوم قاموا بالجدال والعناد، فقالوا: ما أنتم إلّابشر مثلنا، والجملة تحتمل وجهين:

الوجه الأوّل: أنتم أيّها الرسل بشر، والبشر لا يكون رسولًا من اللَّه، و على هذا فالمانع من قبول رسالاتهم كون أصحابها بشراً.

الوجه الثاني: انّ المانع من قبول دعوة الرسالة هي عدم توفر أي مزية في الرسل ترجحهم، ويشعر بذلك قوله: «مثلنا» وإلّافلو كان الرسل مزودين بشي ء آخر ربما لم يصح لهم جعل المماثلة عذراً للربّ.

الثالثة: انّ القصة تنم عن أنّ منطق القوة كان منطق أهل اللجاج، فالقوم لما عجزوا عن رد برهانهم التجأوا إلى منطق القوة، بقتل دعاة الحق وصلحائه، وقالوا: «لئن لم تنتهوا لنرجمنَّكم».

الرابعة: انّ التطير كان سلاح أهل العناد والمكابرة، ولم يزل هذا السلاح بيد العتاة الجاحدين للحق، فيتطيرون بالعابد، وغير ذلك.

الخامسة: يظهر من صدر الآيات انّ الرسل بعثوا إلى القرية، وقد تطلق غالباً على المجتمعات الكبيرة والصغيرة، ولكن قوله: «وجاء من أقصى المدينة

رجل» يعرب انّها كانت مدينة ومجتمعاً كبيراً لا صغيراً.

السادسة: انّه سبحانه يصف الرجل الرابع الذي قام بدعم موقف الرسل بأنّه كان من أقصى المدينة، وما هذا إلّالأجل الإشارة إلى عدم الصلة والتواطئ بينه وبين الرسل، ولذلك قدّم لفظ أقصى المدينة على الفاعل، أعني: «رجل»، وقال: «وجاء من أقصى المدينة».

السابعة: انّ قوله: «ومالي لا أعبد الذي فطرني» دليل على أنّ العبادة هي

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 233

الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقية المعبود ومدبريته، وماله من الأوصاف القريبة من ذلك، ولذلك يرى أنّه يعلل إيمانه وتوحيده، بقوله: «مالي لا أعبد الذي فطرني».

كما أنّه يعلل حصر عبادته له وسلبها عن غيره، بعجزهم عن رد ضرّ الرحمن بعدم الجدوى في شفاعتهم.

الثامنة: قلنا أنّ القرائن تشهد بأنّ من قام بالدعوة إلى طريق الرسل من القوم، قتل عند دعوته وجازاه اللَّه سبحانه بأن أدخله الجنة، والمراد من الجنة هو عالم البرزخ لا جنة الخلد التي لا يدخلها الإنسان إلّابعد قيام الساعة.

التاسعة: كما أنّ في كلام الرجل المقتول، بقوله: «يا لَيْت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي» دليلًا على وجود الصلة بين الحياة البرزخية والمادية، حيث أبلغ بلاغاً إلى قومه، وتمنى أن يقفوا على ما أنعم اللَّه عليه بعد الموت، حيث قال: «قيل ادخل الجنّة قال يا ليت قومي يعلمون».

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 234

يس 43

التمثيل الثالث والأربعون

اشارة

«أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين* وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم* قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم». «1»

تفسير الآيات

روى المفسرون أنّ أُبي بن خلف أو العاص بن وائل جاء بعظم بال متفتت، وقال:

يا محمد أتزعم انّ اللَّه يبعث هذا، فقال: نعم، فنزلت الآية «أَوَ لم يَرَ الإِنْسان».

فضرب الكافر مثلًا، وقال: كيف يحيي اللَّه هذه العظام البالية؟

وضرب سبحانه مثلًا آخر، و هو انّه يحييها من أنشأها أوّلًا، فمن قدر على إنشائها ابتداءً يقدر على الإعادة، وهي أسهل من الإنشاء والابتداء، وقد عرفت أنّ إطلاق لفظ الأسهلية إنّما هو من منظار الإنسان، وأمّا الحقّ جلّ و علا فكل الأشياء أمامه سواء.

قال سبحانه: «وَضَرَبَ لَنا مثلًا» أي ضرب مثلًا في إنكار البعث بالعظام

______________________________

(1) يس: 77- 79.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 235

البالية، واستغرب ممن يقول انّ اللَّه يحيي هذه العظام ونسي خلقه «قال من يحيي العظام وهي رميم» ومثل سبحانه بالرد عليه بمثال آخر، وقال: «قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرة وهو بكلّ خلق عليم» من الابتداء والاعادة، وقد مرّ هذا المثل بعبارة أُخرى في قوله: «وَهُوَ الّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ». «1»

______________________________

(1) الروم: 27. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 236

الزمر 44

التمثيل الرابع و الأربعون

اشارة

«وَلَقَدْضَرَبْنا لِلنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون* قُرآناً عَربياً غَيرَ ذي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون* ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُركاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَويانِ مَثلًا الحمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون». «1»

تفسير الآيات

«الشكس»: السي ء الخلق، يقال: شركاء متشاكسون، أي متشاجرون لشكاسة خلقهم.

«سلماً»: أي خالصاً لا يملكه إلّاشخص واحد ولا يخدم إلّاإياه.

هذه الآيات تمثل حالة الكافر والمؤمن، فهناك مشبه ومشبه به.

أمّا المشبّه به، فهو عبارة عن عبد مملوك له شركاء سيئي الخلق متنازعون فيه، فواحد يأمره وآخر ينهاه، و كلّ يريد أن يتفرّد بخدمته، في مقابل عبد مملوك لرجل يطيعه ويخدمه ولا يشرك في خدمته شخصاً آخر.

فهذان المملوكان لا يستويان.

وأمّا المشبه فحال الكافر هو حال المملوك الذي فيه شركاء متشاكسون،

______________________________

(1) الزمر: 27- 29.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 237

فهو يعبد آلهة مختلفة لكلّ أمره ونهيه وخدمته، ولا يمكن الجمع بين الآراء والأهواء المختلفة، بخلاف المؤمن فانّه يأتمر بأمر الخالق الحكيم القادر الكريم.

وهذا المثل وإن كان مثلًا واضحاً ساذجاً مفهوماً لعامة الناس، ولكن له بطن لا يقف عليه إلّا أهل التدبر في القرآن، فهو سبحانه بصدد البرهنة على توحيده التي أشار إليه في قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُون». «1»

وقال سبحانه: «ءَأَربابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الواحِدُ القَهّار». «2»

______________________________

(1) الأنبياء: 22.

(2) يوسف: 39. الامثال فى القرآن الكريم، ص: 238

الزخرف 45

التمثيل الخامس والأربعون

اشارة

«وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِىٍّ فِي الأَوّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبىٍّ إِلّاكانوا بِهِ يَسْتَهْزءُون* فَأَهْلَكْنا أَشدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمضى مَثَلُ الأَوّلِين». «1»

تفسير الآيات

«البطش»: تناول الشي ء بصولة، و ربما يراد منه القوة والمنعة، يذكر سبحانه في هذه الآيات الأُمم الماضية التي بعث اللَّه سبحانه رسله إليهم، فكفروا بأنبيائه وسخروا منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم فأهلكهم اللَّه سبحانه بأنواع العذاب مع مالهم من القوة والنجدة.

هذا هو حال المشبه به، والمشبه عبارة عن مشركي عصر الرسالة الذين كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم فيوعدهم سبحانه بما مضى على الأوّلين، بأنّه سبحانه أهلك من هو أشد قوةومنعة من قريش وأتباعهم فليعتبروا بحالهم، يقول سبحانه: «كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِىٍّ فِي الأَوّلين» أي الأُمم الماضية «وما يأتيهم من نبي إلّا كانوا به يستهزءُون» فكانت هذه سيرة الأُمم الماضية، ولكنه سبحانه لم يضرب عنهم صفحاً فأهلكهم، كما قال:

«فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً ومضى مثل الأوّلين». أي

______________________________

(1) الزخرف: 6- 8.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 239

مضى في القرآن- في غير موضع منه- ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تصير مسير المثل.

وبعبارة أُخرى: انّ كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثلما نزل بالأُمم الغابرة، فقد ضربنا لهم مثَلَهم، كما قال تعالى: «وَكُلًا ضَرَبنا لَهُمُ الأَمْثال». «1»

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما عدّمن أمثال القرآن، قوله سبحانه: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم». «2»

كان المشركون في العصر الجاهلي يعدّون الملائكة إناثاً وبناتاً للَّه تبارك و تعالى، يقول سبحانه: «وَجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً» فردّ عليهم بقوله:

«أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون».

وقال سبحانه: «وَيَجْعَلُونَ للَّهِ البَناتِ سُبحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُون» «3».

فعلى ذلك فالملائكة عند المشركين بنات اللَّه سبحانه.

ثمّ إنّ الآية تحكي عن خصيصة المشركين بأنّهم إذا رزقوا بناتاً ظلت وجوههم مسودة يعلوها

الغيظ والكظم، قال سبحانه: «وَإِذا بشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلًا» أي وصف اللَّه به، وقد عرفت انّهم وصفوه بأنّ الملائكة بنات اللَّه.

______________________________

(1) الفرقان: 39.

(2) الزخرف: 17.

(3) النحل: 57.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 240

«ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم» فليست الآية من قبيل المثل الاخباري ولا الانشائي، وإنّما هي بمعنى الوصف، أي وصفوه بأنّه صاحب بنات، و هم كاذبون في هذا الوصف، فلا يصح عدّهذه الآية من آيات الأمثال.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 241

الزخرف 46

التمثيل السادس والأربعون

اشارة

«فَاسْتَخَفَّ قوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِين* فَلَمّا آسفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقناهُمْ أَجْمَعِين* فَجَعَلْناهُمْ سلفاً وَمَثَلًا للآخِرِين». «1»

تفسير الآيات

«آسفونا»: مأخوذ من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه.

وقال الراغب: الآسف: الحزن و الغضب معاً، وقد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد، و المراد في الآية هو الغضب.

السلف: المتقدم.

انّه سبحانه يخبر عن انتقامه من فرعون وقومه، ويقول: فلمّا آسفونا، أي أغضبونا، وذلك بالإفراط في المعاصي و التجاوز عن الحد، فاستوجبوا العذاب، كما قال سبحانه: «انتقمنا منهم» ثمّ بين كيفية الانتقام، وقال: «فَأَغْرَقناهم أجمعين» فما نجا منهم أحد «فجعلناهم سلفاً و مثلًا للآخرين»، أي جعلناهم عبرة وموعظة لمن يأتي من بعدهم حتى يتّعظوا بهم.

فالمشبه به هو قوم فرعون واستأصالهم، والمشبه هو مشركو أهل مكة وكفّارهم، فليأخذوا حال المتقدمين نموذجاً متقدماً لمصيرهم.

______________________________

(1) الزخرف: 54- 56.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 242

الزخرف 47

التمثيل السابع والأربعون

اشارة

«وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ* وَقالُوا ءالِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون* إِنْ هُوَ إِلّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِوَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِيَخْلُفُونَ* وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيم». «1»

تفسير الآيات

«الصدّ»: بمعنى الانصراف عن الشي ء، قال سبحانه: «يصدّون عنك صدوداً»، ولكن المراد منه في الآية هو ضجة المجادل إذا أحس الانتصار.

«تمترن»: من المرية وهي التردد بالأمر.

ذكر المفسرون في سبب نزول الآيات انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لما قرأ: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُون* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ* لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ». «2»

______________________________

(1) الزخرف: 57- 61.

(2) الأنبياء: 98- 100.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 243

امتعضت قريش من ذلك امتعاضاً شديداً، فقال عبد اللَّه بن الزبعرى يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأُمم؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «هو لكم و لآلهتكم ولجميع الأُمم».

فقال: خصمتك و ربّ الكعبة، ألست تزعم انّ عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيراً، وعلى أُمّه، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد، والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا. «1»

وإلى فرحهم وضجّتهم، يشير سبحانه بقوله: «إذا قومك منه يصدّون» حيث زعموا انّهم وجدوا ذريعة للرد عليه وإبطال دعوته، فنزلت الآية إجابة عن جدلهم الواهي، قال سبحانه:

«ولمّا ضرب ابن مريم مثلًا» أي لما وصف المشركون ابن مريم مثلًا وشبهاً لآلهتهم «إذا قومك منه يصدون» أي أحس قومك في هذا التمثيل فرحاً وجذلًا وضحكاً لمّا

حاولوا إسكات رسول اللَّه بجدلهم، حيث قالوا في مقام المجادلة: «وقالوا ءآلهتنا خير أم هو» يعنون آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى فإذا كان عيسى من حصب النار كانت آلهتنا هيناً.

وبذلك يعلم انّ المشركين هم الذين ضربوا المثل حيث جعلوا المسيح شبهاً و مثلًا لآلهتهم، ورضوا بأن تكون آلهتهم في النار إذا كان المسيح كذلك ازداد فرح المشركين وظنوا انّهم التجأوا إلى ركن ركين أمام منطق النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآيات السابقة إلى القصة على وجه الإجمال، ويجيب

______________________________

(1) الكشاف: 3/ 100. لاحظ سيرة ابن هشام: 1/ 385، وقد ذكرت القصة بتفصيل.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 244

على استدلال ابن الزبعرى

أوّلًا: انّهم ما أرادوا بهذا التمثيل إلّا المجادلة والمغالبة لا لطلب الحق، وذلك لأنّ طبعهم على اللجاج والعناد، يقول سبحانه: «ما ضربوه لك إِلّا جدلًا بل هم قوم خصمون».

وثانياً: انّهم ما تمسكوا بهذا المثل إلّا جدلًا وهم يعلمون بطلان دليلهم، إذ ليس كلّ معبود حصب جهنم، بل المعبود الذي دعا الناس إلى عبادته كفرعون لا كالمسيح الذي كان عابداً للَّه رافضاً للشرك، فاستدلالهم كان مبنياًعلى الجدل وإنكار الحقيقة، وهذا هو المراد من قوله: «ما ضربوه لك إلّا جدلًا بل هم قوم خصمون».

ولذلك بدأ سبحانه يشرح موقف المسيح وعبادته وتقواه و انّه كان آية من آيات اللَّه سبحانه، وقال: «إِنْ هُوَ إِلّاعَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثلًا لِبَني إِسرائيل»، أي آية من آيات اللَّه لبني إسرائيل، فولادته كانت معجزة، وكلامه في المهد معجزة ثانية وإحياؤه الموتى معجزة ثالثة، فلم يكن يدعو قط إلى عبادة نفسه.

ثمّ إنّه سبحانه من أجل تحجيم شبهة حاجته إلى عبادة الناس، يقول: «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَة

في الأَرض يخلفُون» أي يطيعون اللَّه ويعبدونه، فليس الإصرار على عبادتكم وتوحيدكم إلّاطلباً لسعادتكم لا لتلبية حاجة اللَّه، وإلّا ففي وسعه سبحانه أن يخلقكم ملائكة خاضعين لأمره.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى خصيصة من خصائص المسيح، وهي انّ نزوله من السماء في آخر الزمان آية اقتراب الساعة.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 245

إلى هنا تم تفسير الآية، وأمّا التمثيل فقد تبين ممّا سبق حيث شبهوا آلهتهم بالمسيح ورضوا بأن تكون مع المسيح في مكان واحد وإن كان هو النار. فالذي يصلح لأن يكون مثلًا إنّما هو قوله: «ولما ضرب ابن مريم مثلًا» وقد عرفت انّ الضارب هو ابن الزبعرى وأمّا قوله: «وَجَعَلناه مثلًا لبني إِسرائيل» فالمثل فيه بمعنى الآية.

إيقاظ:

ربما عُدّت الآية التالية من الأمثال القرآنية: «وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ وَآمنُوا بِما نُزّلَ على مُحمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ» «1»، والظاهر انّ المثل في الآية بمعنى الوصف لا بمعنى التمثيل المصطلح، أي تشبيه شي ء بشي ء ويعلم ذلك من خلال تفسير الآيات.

تفسير الآيات

«بال» البال: الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال: ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثت به، قال: «كفّر عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالهُم»، وقال: «فَما بال القُرون الأُولى» أي حالهم وخبرهم، و يعبَّر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان، فيقال خطر كذا ببالي. «2»

______________________________

(1) محمد: 2- 3.

(2) مفردات الراغب: 67 مادة بال.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 246

إنّ هذه الآيات بشهادة ما تليها تبين حال كفّار قريش و مشركي مكة الذين أشعلوا فتيل الحرب في بدر. فقال: «انّ الّذين كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ اللَّه» أي منعوا الآخرين من الاهتداء بهدى الإسلام، فهؤلاء أضلّ أعمالهم، أي أحبط أعمالهم وجعلها هباءً منثوراً.

فلا ينتفعون من صدقاتهم وعطياتهم إشارة إلى غير واحد من صناديد قريش الذين نحروا الإبل في يوم بدر و قبله.

فيقابلهم المؤمنون كما قال: «وَالّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَآمنوا بِما نزّل على محمّد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ».

فلو انّه سبحانه أضلّ أعمال الكافرين وأحبط ما يقومون به من صدقات، لكنّه سبحانه من جهةأُخرى جعل صالح أعمال المؤمنين كفارة لسيئاتهم وأصلح بالهم.

فشتان ما بين كافر وصاد عن سبيل اللَّه، يحبط عمله.

ومؤمن باللَّه و بما نزل على محمد، يكفر سيئاته بصالح أعماله.

ومن هذا التقابل علم مكانة الكافر والمؤمن، كما علم نتائج أعمالهما.

ثمّ إنّه سبحانه يدلّل على ذلك بأنّ الكافرين يقتفون أثر الباطل

ولذلك يضل أعمالهم، وأمّا المؤمنون فيتبعون الحقّ فينتفعون بأعمالهم، وقال: «ذلك بأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ».

وفي ختام الآية الثانية، قال: «كذلِكَ يضرب اللَّه للنّاس أمثالهم» أي كذلك يبين حال المؤمن والكافر و نتائج أعمالهما و عاقبتهما.

وعلى ذلك فالآية ليست من قبيل التمثيل، بل بمعنى الوصف، أي كذلك يصف سبحانه للناس حال الكافر والمؤمن و عاقبتهما. فليس هناك أي تشبيه

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 247

وتنزيل، وإنّما الآيات سيقت لبيان الحقيقة، فالآية الأُولى تشير إلى الكافر و نتيجة عمله، والآية الثانية تشير إلى المؤمن و مصير عمله، و الآية الثالثة تذكر علة الحكم، وهو انّ الكافر يستقي من الماء العكر حيث يتبع الباطل والمؤمن ينهل من ماء عذب فيتبع الحقّ.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 248

محمد 48

التمثيل الثامن و الأربعون

اشارة

«مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍغَير آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ لِلشّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصفىً وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِوَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمعاءَهُمْ». «1»

تفسير الآية

«آسن» يقال: أسن الماء، يأسن: إذا تغير ريحه تغيراً منكراً، وماء غير آسن: أي غير نتن.

«الحميم»: الماء الشديد الحرارة.

قوله: «مثل الجنة» أي وصفها وحالها، وهو مبتدأ خبره محذوف، أي جنة فيها أنهار. فلو أردنا أن نجعل الآية من آيات التمثيل فلابدّ من تصور مشبه و هو الجنة الموعودة، ومشبه به وهو جنة الدنيا بما لها من الخصوصيات.

ولكن الظاهر انّ الآية صيغت لبيان حال الجنة ووصفها وسماتها، وهي كالتالي:

______________________________

(1) محمد: 15.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 249

1. فيها أنهار أربعة وهي عبارة عن:

أ: «أنهار من ماء غير آسن» أي الماء الذي لا يتغير طعمه ورائحته ولونه لطول البقاء.

ب: «أنهار من لبن لم يتغير طعمه»، ولا يعتريها الفساد بمرور الزمان.

ج: أنهار من خمر لذة للشاربين، فتقييد الخمر بكونه لذة للشاربين احتراز عن خمر الدنيا، و قد وصف القرآن الكريم خمر الجنة في آية أُخرى، وقال: «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأسٍ مِنْ مَعِين* بَيضاءَ لَذّةٍ للشّارِبينَ* لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُون». «1» فقوله:

«لذّة للشاربين» أي ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة، فقوله: «لا فيها غول»، أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها، وقوله: «ولا هم عنها ينزفون» أي يسكرون. وبذلك يمتاز خمر الآخرة على خمر الدنيا.

د: أنهار من عسل مصفّى وخالص من الشمع.

وهذه الأنهار الأربعة لكلّ غايته و غرضه: فالماء للارتواء، و الثاني للتغذّي، والثالث لبعث النشاط والروح، والرابع لإيجاد القوة في الإنسان.

2. وفيها وراء ذلك من كلّ الثمرات، كما قال

سبحانه: «وَلَهُمْ فيها مِنْ كُلّ الثَّمرات» فالفواكه المتنوعة تحت متناول أيديهم لا عين رأتها و لا أُذن سمعتها ولا خطرت على قلب بشر.

3. وفيها وراء هذه النعم المادية، نعمة معنوية يشير إليها بقوله: «وَمَغْفِرة مِنْ رَبّهِم».

______________________________

(1) الصافات: 45- 47.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 250

الامثال فى القرآن الكريم 283

وبذلك تبيّن لنا وصف الجنة وحال المتقين فيها، بقي الكلام في تبيين حال أهل الجحيم ومكانهم، فأشار إليه بقوله:

«كمن هُوَ خالِدٌ في النّار» هذا وصف أهل الجحيم، وأمّا ما يرزقون فهو عبارة عن الماء الحميم لا يشربونه باختيارهم وإنّما يسقون، ولذلك يقول سبحانه: «وسقوا ماءً حميماً» الذي يقطّع أمعاءهم كما قال: «فقطّع أمعاءهم».

وعلى كلّ تقدير، فلو قلنا: إنّ الآية تهدف إلى تشبيه جنة الآخرة بجنة الدنيا التي فيها كذا وكذا فهو من قبيل التمثيل، وإلّافالآية صيغت لبيان وصف جنة الآخرة وانّ فيها أنهاراً وثماراً ومغفرة.

والظاهر هو الثاني، فالأولى عدم عدّهذه الآية من الأمثال القرآنية وإنّما ذكرناها تبعاً للآخرين.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 251

الفتح 49

التمثيل التاسع والأربعون

اشارة

«هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهيداً* مُحَمّدٌ رَسُولُ اللَّه وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شطأهُ فَآزره فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وَعَدَ اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجراً عَظِيماً». «1»

تفسير الآيات

«السيماء»: العلامة، فقوله: «سيماهم في وجوههم»، أي علامة إيمانهم في وجوههم.

شطأ الزرع: فروخ الزرع، وهو ما خرج منه، وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه إشطاء، وهو ما يعبر عنه بالبراعم.

«الأزر»: القوة الشديدة، آزره أي أعانه وقوّاه.

«الغلظة»: ضد الرقة.

______________________________

(1) الفتح: 28- 29.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 252

«السوق»: قيل هو جمع ساق.

القرآن يتكلم في هاتين الآيتين عن النبي تارة و أصحابه أُخرى:

أمّا الأوّل فيعرّفه بقوله: «هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهيداً» والضمير «ليظهره» يرجع إلى دين الحقّ لا الرسول، لأنّ الغاية ظهور دين على دين لا ظهور شخص على الدين، والمراد من الظهور هو الغلبة في مجال البرهنة والانتشار، وقد تحقّق بفضله سبحانه و سوف تزداد رقعة انتشاره فيضرب الإسلام بجرانه في أرجاء المعمورة، ولا سيما عند قيام الإمام المهدي المنتظر عليه السلام.

يقول سبحانه في هذا الصدد: «محمّد رسول اللَّه» أي الرسول الذي سوف يغلب دينه على الدين كله، وقد صرح باسمه في هذه الآية، إلّا أنّه أجمل في الآية الأُولى، و قال: «أرسل رسوله».

إلى هنا تمّ بيان صفات النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسماته، و أمّا صفات أصحابه فجاء ذكرهم في التوراة و الإنجيل.

أمّا التوراة فقد جاء فيها وصفهم كالتالي:

1.

«والّذين معه أشداء على الكفّار»، الذين لا يفهمون إلّامنطق القوة، فلذلك يكونون أشداء عليهم.

2. «رُحماء بَينهم» فهم رحماء يعطف بعضهم على بعض، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى «1»

______________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل: 4/ 270 و 268 و 274.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 253

3. «تراهم ركّعاً سُجّداً»، هذا الوصف يجسّد ظاهر حالهم و انّهم منهمكون في العبادة، فلذلك يقول: «تراهم ركعاً سجداً»، أي تراهم في عبادة، التي هي آية التسليم للَّه سبحانه.

ومع ذلك لا يبتغون لعبادتهم أجراً وإنّما يأملون فضل اللَّه، كما يقول: «يبتغون فضلًا من اللَّه ورضواناً»، ولعل القيد الأخير إشارة إلى أنّ الحافز لأعمالهم هوكسب رضاه سبحانه.

ومن علائمهم الأُخرى انّ أثر السجود في جباههم، كما يقول: «سيماهم في وجوههم من أثر السجود» فسيماهم ووجوههم تلمح إلى كثرة عبادتهم وسجودهم وخضوعهم للَّه سبحانه، وهذه الصفات مذكورة أيضاً في الإنجيل.

إنّ أصحاب محمد لم يزالوا يزيدون باطّراد في العدة والقوة وبذلك يغيظون الكفار، فهم كزرع قوي وغلظ وقام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.

ولم يزالوا في حركة دائبة ونشيطة، فمن جانب يعبدون اللَّه مخلصين له الدين بلا رياء ولا سمعة، و من جانب آخر يجاهدون في سبيل اللَّه بغية نشر الإسلام ورفع راية التوحيد في أقطار العالم.

فعملهم هذا يغيظ الكفار ويسرّ المؤمنين، قال سبحانه: «ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفّار».

فالمجتمع الإسلامي بإيمانه وعمله وجهاده وحركته الدؤوبة نحو التكامل يثير إعجاب الأخلّاء وغيظ الألدّاء.

ثمّ إنّه سبحانه وعد طائفة خاصة من أصحاب محمّد صلى الله عليه

و آله و سلم مغفرة وأجراً

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 254

عظيماً، وذلك لأنّ المنافقين كانوا مندسّين في صفوف أصحابه، فلا يصح وعد المغفرة لكلّ من صحب النبي صلى الله عليه و آله و سلم ورآه وعاش معه وقلبه خال من ا لإيمان، ولذلك قال سبحانه: «وَعَدَ اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات مِنْهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْراً عظيماً» فكلمة «منهم» تعرب عن أنّ المغفرة لا تعم جميع الأصحاب بل هي مختصة بطائفة دون أُخرى.

وما ربما يقال من أنّ «من» بيانية لا تبعيضية غير تام.

لأنّ من البيانية لا تدخل على الضمير، ويؤيد ذلك قوله: «وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ لاتَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ». «1»

والحاصل: انّه لا يمكن القول بشمول أدلة المغفرة والأجر العظيم لقاطبة من صحب النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع أنّهم على أصناف شتى

فمن منافق معروف، عرّفه الذكر الحكيم بقوله: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُون». «2»

إلى آخر مختف لا يعرفه النبي صلى الله عليه و آله و سلم، قال سبحانه: «وَمِنْ أَهْلِ المَدينَة مَرَدُوا علَى النِّفاق لا تعلَمهم نَحنُ نَعْلَمهم».

إلى ثالث يصفهم الذكر الحكيم بمرضى القلوب، ويقول: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلّاغُرُوراً». «3»

إلى رابع سمّاعون لنعق كل ناعق فهم كالريشة في مهب الريح يميلون تارة

______________________________

(1) التوبة: 101.

(2) المنافقون: 1.

(3) الأحزاب: 12.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 255

إلى المسلمين وأُخرى إلى الكافرين، يصفهم سبحانه بقوله «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلّاخَبالًا وَلأوضَعُوا خِلِالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمين». «1»

إلى خامس خالط العمل الصالح بالسيّ ء يصفهم سبحانه بقوله: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً». «2»

إلى سادس أشرفوا على الارتداد، عرّفهم الحق سبحانه بقوله: «وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ

الحَقِّ ظَنَّ الجاهِليةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأَمْرِمِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ». «3»

إلى سابع يصفه القرآن فاسقاً، و يقول: «يا أَيّها الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنُوا أن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِين». «4»

والمراد هو الوليد بن عقبة صحابي سمي فاسقاً، وقال تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِين». «5»

إلى ثامن يصفهم الذكر الحكيم مسلماً غير مؤمن و يصرح بعدم دخول الإيمان في قلوبهم، و يقول: «قالَتِ الأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلمّا يَدْخُلِ الإِيمانِ فِي قُلُوبِكُم». «6»

إلى تاسع أظهروا الإسلام لأخذ الصدقة لا غير، وهم الذين يعرفون بالمؤلّفة

______________________________

(1) التوبة: 47.

(2) التوبة: 102.

(3) آل عمران: 154.

(4) الحجرات: 6.

(5) التوبة: 96.

(6) الحجرات: 14.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 256

قلوبهم، قال: «إِنّما الصّدقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِين وَالعامِلِينَ عَلَيْها وَالمُؤلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ». «1»

إلى عاشر يفرون من الزحف فرار الغنم من الذئب، يقول سبحانه:

«يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبار* وَمَنْ يُوَلِّهْم يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّامُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحيّزاً إِلى فئِةٍ فَقَدْ باءَبِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمأْواهُ جَهَنَّمُ وَبئسَ المَصير». «2»

وكم نطق التاريخ بفرار ثلة من الصحابة من ساحات الوغى، يقول سبحانه عند ذكر غزوة أُحد: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» «3»، ولم يكن الفرار مختصاً بغزوة أُحد بل عمّ غزوة حنين أيضاً، يقول سبحانه: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِين». «4»

هذه إلمامة عابرة بأصناف الصحابة المذكورة في القرآن الكريم، أفيمكن وعد جميع هذه الأصناف بالمغفرة؟!

مضافاً إلى آيات أُخرى تصف أعمالهم.

نعم

كان بين الصحابة رجال مخلصون يستدر بهم الغمام، و قد وصفهم سبحانه في غير واحد من الآيات التي لا تنكر.

والكلام الحاسم: انّ وعد المغفرة لصنف منهم لا لجميع الأصناف، كما أنّ عدالتهم كذلك.

______________________________

(1) التوبة: 60.

(2) الأنفال: 15- 16.

(3) آل عمران: 153.

(4) التوبة: 25.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 257

الحديد 50

التمثيل الخمسون

اشارة

«اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَينَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَالأَولادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرُور». «1»

تفسير الآية

«الكفّار»: جمع الكافر بمعنى الساتر، والمراد الزارع، ويطلق على الكافر باللَّه لستره الحق، والمراد في المقام الزارع، لأنّه يستر حبّه تحت التراب ويغطّيها به، يقول سبحانه: «كَزَرْعٍ ... يُعْجِبُ الزُّرّاعَ». «2»

«هيج»: يقال: هاج البقل يهيج، أي أصفرّ، والمراد في قوله: «ثُمّ يهِيج» أي ييبس «فتراه مصفرّاً» أي إذا قارب اليبس.

و «الحطام» بمعنى كسر الشي ء، قال سبحانه: «لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ». «3»

______________________________

(1) الحديد: 20.

(2) الفتح: 29.

(3) النمل: 18.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 258

فالآية تتضمن أمرين:

الأمر الأوّل: ترسيم الحياة الدنيا والمراحل المختلفة التي تمر على الإنسان:

أ: اللعب، ب: اللهو، ج: الزينة، د: التفاخر، ه: التكاثر في الأموال والأولاد.

والأمر الثاني: تشبيه الدنيا بداية ونهاية بالنبات الذي يعجب الزارع طراوته ونضارته، ثمّ سرعان ما يتحول إلى عشب يابس تذروه الرياح.

ثمّ استنتج من هذا التمثيل: انّ الحياة الدنيا متاع الغرور، أي وسيلة للغرور و المتعة، يغتر بها المخلدون إلى الأرض يتصورونها غاية قصوى للحياة، ولكنّها في نظر المؤمنين قنطرة للحياة الأُخرى لا يغترّون بها، بل يتزودّون منها إلى حياتهم الأُخروية.

هذا هو ترسيم إجمالي لمفهوم الآية، والتمثيل إنّما هو في الشق الثاني منها، فلنرجع إلى تفسير كلّ من الأمرين.

إنّ حياة الإنسان من لدن ولادته إلى نهاية حياته تتشكل من مراحل خمس:

المرحلة الأُولى اللعب

واللعب هو محل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال، وهي تقارن حياة الإنسان منذ نعومة أظفاره وطفولته، ويتخذ ألواناً مختلفة حسب تقدم عمره، وهو أمر محسوس عند الأطفال.

المرحلة الثانية: اللهو

واللهو ما يشغل الإنسان عمّا يهمه، وهذه المرحلة تبتدئ حينما يبلغ ويشتد

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 259

عظمه، فتجد في نفسه ميلًا و نزوعاً إلى الملاهي وغيرها.

المرحلة الثالثة: حب الزينة.

والزينة نظير ارتداء الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية، وجنوحه إلى كل جمال وحسن.

المرحلة الرابعة: التفاخر.

إذا تهيّأ للإنسان أسباب الزينة يأخذ حينها بالمفاخرة بالإحساب والأنساب، وما تحت يديه من الزينة.

المرحلة الخامسة: التكاثر في الأموال و الأولاد.

وهذه المرحلة هي المرحلة الخامسة التي يصل فيها الإنسان إلى مرحلة من العمر يفكر في تكثير الأموال والأولاد، ويشيب على ذلك الإحساس.

ثمّ إنّ تقسيم المراحل التي تمر على الإنسان إلى خمس، لا يعني انّ كلّ هذه المراحل تمر على الإنسان بلا استثناء، بل يعني انّها تمر عليه على وجه الإجمال، غير انّ بعض الناس تتوقف شخصيتهم عند المرحلتين الأُوليين إلى آخر عمره، فيكون اللعب واللهو أهم مائز في سلوكهم، كما أنّ بعضهم تمر عليه المرحلة الثالثة والرابعة فيحرص على ارتداء الملابس الفاخرة والتفاخر بما لديه من أسباب.

روي عن الشيخ البهائي انّ الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب سني عمر الإنسان ومراحل حياته، فيتولّع أوّلًا باللعب وهو طفل أو مراهق، ثمّ إذا بلغ واشتد عظمه تعلّق باللهو و الملاهي، ثمّ إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية وتوله للحسن

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 260

والجمال، ثمّ إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالإحساب والأنساب، ثمّ إذا شاب سعى في تكثير المال والولد. «1»

هذا ما يرجع إلى بيان حال الدنيا من حيث المراحل التي تمر بها.

الأمر الثاني: أي التمثيل الذي يجسد حال الدنيا ويشبهها بأرض خصبة يصيبها مطر غزير، فتزدهر نباتها على وجه يعجب الزرّاع، ولكن سرعان ما تذهب طراوتها وتفارقها فيصيبها الإصفرار واليبس وتذروها الرياح في كلّ الأطراف وتصبح كأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً، و عند ذلك تتجلّى الحقيقة أمام الإنسان وانّه اغتر بطراوة هذه الروضة.

وهكذا حال الدنيا فيغتر الإنسان بها ويخلد إليها، ولكن سرعان ما تسفر له عن وجهها وتكشف عن لثامها، وعلى أية حال فالآية تهدف إلى

تحقير الدنيا وتعظيم الآخرة.

______________________________

(1) الميزان: 19/ 164.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 261

الحشر 51

التمثيل الواحد و الخمسون

اشارة

«لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ* كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم». «1»

تفسير الآيات

«الحصن»: جمعه حصون، والقرى المحصنة التي تحيطها القلاع المنيعة التي تمنع من دخول الأعداء.

البأس والبأساء: الشدة.

الوبال: الأمر الذي يخاف ضرره.

الآية تصف حال بني النضير من اليهود الذين أجلاهم الرسول وقد تآمروا على قتله، وكيفية المؤامرة مذكورة في كتب التاريخ، فأمرهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالجلاء وترك الأموال و قد كانوا امتنعوا من تنفيذ أمر الرسول، و كان المنافقون يصرّون عليهم بعدم الجلاء وانّهم يناصرونهم عند نشوب حرب بينهم وبين المسلمين، فبقي بنو النضير أياماً قلائل في قلاعهم لا يجلون عنها بغية وصول إمدادات تعزّز قواهم.

______________________________

(1) الحشر: 14- 15.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 262

فالآيات تشرح حالهم بإمعان وتخبر بأنّهم «لا يقاتلونكم» معاشر المؤمنين جميعاً إلّافي قرى محصنة، أي لا يبرزون لحربكم خوفاً منكم، وإنّما يقاتلونكم متدرّعين بحصونهم، أو «من وراء جدر»، أي يرمونكم من وراء الجدر بالنبل والحجر.

«بأسهم بينهم شديد»، والمراد من البأس هو العداء، أي عداوة بعضهم لبعض شديدة، فليسوا متّفقي القلوب، ولذلك يعقبه بقوله: «وقلوبهم شتى»، ثمّ يعلل ذلك بقوله: «ذلك بأنّهم لا يعقلون».

ثمّ يمثّل لهم مثلًا، فيقول: إنّ مثلهم في اغترارهم بعددهم وعدّتهم وقوتهم «كمثل الذين من قبلهم»، و المراد مشركو قريش الذين قتلوا ببدر قبل جلاء بني النضير بستة أشهر، ويحتمل أن يكون المراد قبيلة بني قينقاع حيث نقضوا العهد فأجلاهم رسول اللَّه بعد رجوعه من بدر.

فهؤلاء «ذاقوا وبال أمرهم»، أي عقوبة كفرهم ولهم عذاب أليم.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 263

الحشر 52

التمثيل الثاني و الخمسون

اشارة

«كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِي ءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ». «1»

تفسير الآية

هذه الآية أيضاً ناظرة إلى قصة بني النضير، فلمّا تآمروا على النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بالجلاء، ولكنّ المنافقين وعدوهم بالنصر، فقالوا لهم: «لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم».

ولكن كان ذلك الوعد كاذباً، ولذلك يقول سبحانه: «واللَّه يشهد انّهم لكاذبون» وآية كذبهم: «لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُون». «2»

ولقد صدق الخُبر الخبر، فأجلاهم الرسول بقوة وشدة، فما ظهر منهم أي نصر ومؤازرة و دعم، فكان وعدهم كوعد الشيطان، إذ قال للإنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بري ء منك إنّي أخاف اللَّه ربّ العالمين، بمعنى انّه أمره بالكفر ولكنّه تبرّأ منه في النهاية.

وهل المخاطب في قوله: «اكفر» مطلق الإنسان الذي ينخدع بأحابيل

______________________________

(1) الحشر: 16.

(2) الحشر: 12.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 264

الشيطان و وعوده الكاذبة ثمّ يتركه و يتبرّأ منه، أو المراد شخص معين؟ وجهان.

فلو قلنا بالثاني، فقد وعد الشيطان قريشاً بالنصر في غزوة بدر، كما يحكي عنه سبحانه، و يقول «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنّي أَرى ما لَا تَرَوْنَ إِنّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقابِ». «1»

وهناك قول ثالث، و هو انّ الشيطان وعد عابداً من بني إسرائيل اسمه برصيصا حيث انخدع بالشيطان و كفر، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه. ذكر المفسرون انّ برصيصا عبد اللَّه زماناً من الدهر

حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم و يعوّذهم فيبرأون على يده، و انّه أُتِي بامرأة في شرف قد جنّت و كان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتى وقع عليها، فحملت، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها، فأخبره بالذي فعل الراهب و انّه دفنها في مكان كذا، ثمّ أتى بقية إخوتها رجلًا رجلًا فذكر ذلك له، فجعل الرجل يلقى أخاه، فيقول: واللَّه لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل، فأمر به فصلب، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان، فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك، أُخلصك مما أنت فيه؟ قال: نعم، قال: اسجد لي سجدة واحدة، فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة، فقال: اكتفي منك بالإيماء فأُوحى له بالسجود، فكفر باللَّه، وقتل الرجل. «2»

______________________________

(1) الأنفال: 48.

(2) مجمع البيان: 5/ 265.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 265

الحشر 53

التمثيل الثالث و الخمسون

اشارة

«لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّه وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ». «1»

تفسير الآية

«الخشوع»: الضراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح على عكس الضراعة، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح.

ويؤيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الأصوات و الأبصار، و يقول:

«وخشعت الأصوات»، «خاشعة أبصارهم»، «أبصارهم خاشعة».

ولو أردنا أن نُعرّفه، فنقول: هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق.

و «التصدع»: التفرق بعد التلاؤم.

إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين:

أحدهما: انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، مع ما له من الغلظة والقسوة

______________________________

(1) الحشر: 21.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 266

وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل، لتأثّر وتصدّع من خشية اللَّه، فإذا كان هذا حال الجبل، فالإنسان أحقّ بأن يخشع للَّه إذا تلا آياته.

فما أقسى قلوب هؤلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون بسماع القرآن واستماعه وتلاوته.

ثانيهما: انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور، و من جملتها الجبال فلها نوع من الإدراك والشعور، كما قال سبحانه: «وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ». «1»

فعلى هذا، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى و تصدّع من خشية اللَّه، غير انّه لم ينزل عليه.

وعلى كلا المعنيين، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه شي ء بشي ء، بل من قبيل وصف القرآن و بيان عظمته بما يحتوي من الحقائق والأُصول، وإنّها على الوصف التالي: «لو أنزلناه على جبل لصار كذا و كذا».

نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه، وهو انّه سبحانه

يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن بالجبل والحجارة، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة، بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الأنهار أو تهبط من خشية اللَّه، فلأجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان بلحاظ المعنى التزامي لها.

______________________________

(1) البقرة: 74.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 267

الجمعة 54

التمثيل الرابع والخمسون

اشارة

«مَثَلُ الّذينَ حُمِّلُوا التُّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمِين». «1»

تفسير الآية

«الأسفار»: السَّفر: كشف الغطاء، ويختص ذلك بالأعيان نحو سَفَرَ العمامة عن الرأس، و الخمار عن الوجه، إلى أن قال: والسِّفْر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق و جمعه أسفار. «2»

ذكر المفسرون انّه سبحانه لما قال: إنّه بعثه إلى الأُميّين أخذت اليهود الآية الذريعة لإنكار سعة رسالته، وقالوا: إنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم، فعند ذلك نزلت الآية و شبّهتهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا ينتفع منها، إذ جاء في التوراة نعت الرسول والبشارة بمقدمه والدخول في دينه.

مضافاً إلى أنّه يمثل حال من يفهم معاني القرآن ولا يعمل به ويعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، و المراد من قوله «حُمِّلُوا» أي كلّفوا بالقيام بها، و قيل:

______________________________

(1) الجمعة: 5.

(2) مفردات الراغب: مادة «سفر».

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 268

ليس هو من الحمل على الظهر، وإنّما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان، ولذا قيل للكفيل: الحميل، والمراد والذين ضمنوا أحكام التوراة، ثمّ لم يحملوها، أي لم يأدّوا حقها ولم يحملوها حق حملها، فهؤلاء أشبه بالحمار، كما قال: «كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسْفاراً».

وانتخب الحمار من بين سائر الحيوانات لما فيه من الذل و الحقارة ما ليس في غيره بل والجهل و البلادة، مضافاً إلى المناسبة اللفظية الموجودة بين لفظ الأسفار والحمار.

فعلى كلّ تقدير فالآية تندّد باليهود، وفي الوقت نفسه تحذر عامة المسلمين في أن لا يكون حالهم حال اليهود، في عدم الانتفاع بالكتاب المنزل الذي فيه دواء كلّ داء وشفاء لما في الصدور.

وللأسف الشديد أصبح القرآن بين المسلمين مهجوراً، إذ يتبرك به في

العرائس، أو يجعل تعاويذ للأطفال، أو زينة الرفوف، أو يقرأ في القبور إلى غير ذلك ممّا أبعد المسلمين عن النظر في القرآن بتدبّر.

ثمّ إنّه سبحانه يصف اليهود المكذبة للقرآن و آياته، بقوله: «بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوم الظالِمين».

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 269

التحريم 55

التمثيل الخامس والخمسون

اشارة

«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَمَعَ الدّاخِلين». «1»

تفسير الآية

إنّ إحدى الأساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الأخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوئ الأخلاق، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الأنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء اللَّه.

ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسول صلى الله عليه و آله و سلم اللّتين اشتركتا في إفشاء سره، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح و لوط، فواجهتا العذاب الأليم.

يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول:

«وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ

______________________________

(1) التحريم: 10.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 270

عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبير». «1»

وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب:

1. انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً، كما يقول سبحانه: «وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً»، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه و غيره.

2. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته، فحدّثت به زوجة أُخرى، كما يقول سبحانه: «فلمّا نبّأت به»، و المفسرون اتفقوا على أنّ الأُولى منهما هي حفصة و الثانية هي عائشة.

وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، مع أنّ واجبها

كان كتم هذا السر.

3. انّه سبحانه أخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم به، كما يقول سبحانه: «وأظهره اللَّه عليه» أي أطلعه اللَّه عليه.

4. انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت، و كان صلى الله عليه و آله و سلم قد علم جميع ذلك و لكنّه أخذ بمكارم الأخلاق، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها، والتغافل من خلق الكرام، و قد ورد في المثل: «ما استقصى كريم قط».

5. لما أخبر رسول اللَّه حفصة بما أظهره اللَّه عليه سألت، وقالت: من أخبرك بهذا؟ فأجاب الرسول: نبّأني العليم الخبير، كما يقول سبحانه: «فلمّا نبّأها به

______________________________

(1) التحريم: 3.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 271

قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير».

وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة، لأجل ما كسبت قلوبهما من الآثام، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فاعلما انّ اللَّه يتولّى حفظه ونصرته، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه، وصالح المؤمنين وخيارهم يؤيدونه، وبعدهم ملائكة اللَّه من أعوانه. كما يقول سبحانه: «ان تتوبا فقد صغت قلوبكما» أي مالت إلى الإثم، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي، فانّ اللَّه مولاه وجبرئيل و صالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.

هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية، حيث إنّ حفظ الأمانة من واجب الزوجة حيال زوجها، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند اللَّه سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق: إمّا التوبة لأجل الإثم، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه، لأنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح

المؤمنين.

وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما. إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد: ما بغت امرأة نبي قط، و إنّما كانت خيانتهما في الدين.

قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس: إنّه مجنون، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.

وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الأربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.

وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب اللَّه، ولم يقفن على أنّ

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 272

مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح، قال سبحانه: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ» «1»، وقال سبحانه مخاطباً بني آدم: «يا بَنِي آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ». «2»

ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع مالم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح، فلا تكون مجالسة الرسول دليلًا على العدالة ولا على النجاة، وأصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمام اللَّه سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.

______________________________

(1) المؤمنون: 101.

(2) الأعراف: 35.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 273

التحريم 56

التمثيل السادس والخمسون

اشارة

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلّذِينَ آمَنُوا امرأتَ فِرْعَون إِذْ قالَتْ رَبِّ ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنّةِ وَنَجِّني مِنْ فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّني مِنَ الْقَومِ الظّالِمين* وَمَرْيم ابْنَتَ عِمْرانَ الّتي أحصَنَت فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقت بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتين». «1»

تفسير الآيات

«الحصن»: جمعه حصون وهي القلاع، ويطلق على المرأة العفيفة، لأنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أُخرى.

القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع، قوله: «كُلٌّ لَهُ قانِتُون» أي خاضعون.

لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أُخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والإيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، فقد بلغت من الإيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من اللَّه سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة، فقد آمنت بموسى لمّا رأت معاجزه

______________________________

(1) التحريم: 11- 12.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 274

الباهرة ودلائله الساطعة، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون و قد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس.

هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا و زخارفها أيّة أهمية، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها:

«ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين».

فقولها: «عندك»، يهدف إلى القرب من رحمة اللَّه، وقولها: «في الجنة» يبين مكان القرب.

فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائمة.

ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلًا آخر للمؤمنات مريم ابنة عمران، ويصفها بقوله: «ومريم ابنة عمران التي

أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين».

ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية:

1. «أحصنت فرجها» فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها، كما يعرب عنه قوله سبحانه: «وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً» «1»، وفي سورة الأنبياء قوله: «وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا». «2»

______________________________

(1) النساء: 156.

(2) الأنبياء: 91.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 275

2. «فنفخنا فيه من روحنا»: أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء اللَّه العظام.

وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الأنبياء، قال سبحانه: «وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِين».

وهناك اختلاف بين الآيتين، فقد جاء الضمير في سورة الأنبياء مؤنثاً فقال:

«فنَفخنا فيها من روحنا» و في الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً «فنفخنا فيه من روحنا».

وقد ذكر هنا وجه وهو:

إنّ الضمير في سورة الأنبياء يرجع إلى مريم، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه «فيها» أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس مؤنثة.

أقول: هذا لا يلائم ظاهر الآية، لأنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لأجل صيانة فرجها، فيجب أن يعود الجزاء إليها، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم.

3. «صدَّقت بكلمات ربّها وكتبه»: ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة، والكتب: الكتب النازلة، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.

4. «وكانت من القانتين»: أي كانت مطيعة للَّه سبحانه، ومن القوم المطيعين للَّه الخاضعين له الدائمين عليه، وقد جي ء بصيغة المذكر تغليباً، يقول

الامثال فى القرآن الكريم،

ص: 276

سبحانه: «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعين». «1»

ونختم البحث بذكر ثلاث روايات:

1. روى الطبري، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله و سلم». «2»

2. أخرج الحاكم، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله و سلم، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص اللَّه علينا من خبرهما في القرآن «قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة»». «3»

3. أخرج الطبراني، عن سعد بن جنادة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللَّه زوجني في الجنة: مريم بنت عمران، وامرأة فرعون، وأُخت موسى». «4»

______________________________

(1) آل عمران: 43.

(2) مجمع البيان: 5/ 320.

(3) الدر المنثور: 8/ 229.

(4) الدر المنثور: 8/ 229.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 277

الملك 57

التمثيل السابع والخمسون

اشارة

«أَمَّنْ هذا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَه بَل لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ* أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْههِ أَهْدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيم». «1»

تفسير الآيات

«لجّ»: من اللجاج: التمادي و العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه.

«عُتُوّ»: التمرّد.

«النفور»: التباعد عن الحقّ.

«مكب»: من الكبو، و هو إسقاط الشي ء على وجهه، قال سبحانه: «فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم فِي النّار». ومنه قوله: «إنّ الجواد قد يكبو» أي قد يسقط، والمراد هنا بقرينة مقابله: «يمشي سوياً»، أي من يمشي ووجهه إلى الأرض لا الساقط. وقال الطبرسي:

أي منكساً رأسه إلى الأرض، فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله.

وأمّا الآيات فقد جاءت بصيغة السؤال بين الضالين الذين لجّوا في عتو ونفور وظلّوا متمسّكين بالأوثان والأصنام، وبين المهتدين الذين يمشون في جادة

______________________________

(1) الملك: 21- 22.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 278

التوحيد ولا يعبدون إلّا اللَّه القادر على كلّ شي ء.

فمثل هؤلاء مثل من يمشي على أرض متعرجة غير مستوية يكثر فيها العثار، وبالتالي يسقط الماشي مكباً على وجهه، ومن يمشي على جادة مستوية مستقيمة ليس فيها عثرات، فيصل إلى هدفه بسهولة.

فالاختلاف بين هاتين الطائفتين ليس في كيفية المشي، وإنّما الاختلاف في طريقهم حيث إنّ طرق الكفّار ملتوية متعرجة فيها عقبات كثيرة، وطريق المهتدين مستقيمة لا اعوجاج فيها، فعاقبة المشي في الطريق الأُوّل هو الانكباب على الأرض، وعاقبة المشي في الطريق الثاني هو الوصول إلى الهدف، فتأويل الآية: أفمن يمشي على طريق غير مستقيم بل متعرج ملتو مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي على صراط مستقيم بقامة مستقيمة.

قال العلّامة الطباطبائي: والمراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب ونفور من الحقّ، كمن يسلك سبيلًا و هو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر، فليس هذا

السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم، فيرى موضع قدمه و ما يواجهه من الطريق على استقامة، وما يقصده من الغاية، وهؤلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحقّ على علم به، فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به، ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك. «1»

______________________________

(1) الميزان: 19/ 360- 361.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 279

خاتمة المطاف

ربما عدّ غير واحد ممّن كتب في أمثال القرآن، الآية التالية منها:

«وَما جَعَلْنا أَصحابَ النّارِ إِلّا مَلائكةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُم إلّافِتْنةً لِلّذينَ كَفَرُوا ليَستَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزدادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرتابَ الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُول الّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكافِرُون ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلّ اللَّهُ مَن يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَمايَعْلمُ جنودَ رَبِّكَ إِلّاهُوَ وَماهِيَ إِلّاذِكرى لِلبَشر». «1»

تفسير الآية

لمّانزل قوله سبحانه «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ* و ما أدراكَ ما سَقَرُ* لا تُبْقِي ولا تَذَرُ* لواحَةٌ للبشرِ* عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ». «2»

قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم انّ خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم «3» الشجعان، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم.

______________________________

(1) المدثر: 31.

(2) المدثر: 26- 30.

(3) الدهم: الجماعة الكثيرة.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 280

فقال أبو أسد الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، فأكفوني أنتم اثنين، فنزلت هذه الآية: «وَما جعلنا أصحاب النّار إلّا ملائكة»، أي جعلنا أصحاب النار ملائكة أقوياء مقتدرون وهم غلاظ شداد، يقابلون المذنبين بقوة، وهم أمامهم ضعفاء عاجزون، ويكفي في قوتهم انّه سبحانه يصف واحداً منهم بقوله:

«عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى . «1»

فالكفّار ما قدروا اللَّه حقّ قدره وما قدروا جنود ربّهم، وظنوا انّ كلّ جندي من جنوده سبحانه يعادل قوة فرد منهم.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر الوجوه التالية سبباً لجعل عدتهم تسعة عشر:

1. «فتنةللذين كفروا».

2. «ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب».

3. «يزداد الّذين آمنوا إيماناً».

4. «لا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون».

5. «وَليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد اللَّه بهذا مثلًا».

وإليك تفسير هذه الفقرات:

أمّا الأُولى: فيريد انّه سبحانه لم يجعل عدتهم تسعة عشر إلّا للإفتتان والاختبار،

قال سبحانه: «واعلموا انّما أموالكم وأولادكم فتنة» أي يختبر بهم الإنسان، فجعل عدتهم تسعة عشر يختبر بها الكافر والمؤمن، فيزداد الكافر حيرة واستهزاءً ويزداد المؤمن إيماناً وتصديقاً، كما هو حال كلّ ظاهرة تتعلق بعالم الغيب. يقول سبحانه: «وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ

______________________________

(1) النجم: 5- 6.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 281

إيماناً فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُون». «1»

ولا تظن انّ عمله سبحانه هذا يوجب تعزيز داعية الكفر، وهو أشبه بالجبر وإضلال الناس وجه ذلك انّ الاستهزاء والابتعاد عن الحقّ أثر الكفر الذي اختاره على الإيمان، فهذا هو السبب في أن تكون الآيات الإلهية موجبة لزيادة الكفر والابتعاد عن الحقّ، والدليل على ذلك انّ هذه الآيات في جانب آخر نور وهدى وموجباً لزيادة الإيمان و التصديق.

وأمّا الثانية: أي استيقان أهل الكتاب من اليهود والنصارى انّه حقّ وانّ محمّداً رسول صادق حيث أخبر بما في كتبهم من غير قراءة ولا تعلم.

وأمّا الثالثة: وهي ازدياد إيمان المؤمنين، وذلك بتصديق أهل الكتاب، فإذا رأوا تسليم أهل الكتاب و تصديقهم يترسخ الإيمان في قلوبهم.

وأمّا الرابعة: أعني قوله: «ولا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون»، فهو أشبه بالتأكيد للوجه الثاني والثالث.

وفسره الطبرسي بقوله: وليستيقن من لم يؤمن بمحمد ومن آمن به صحةنبوته إذا تدبّروا وتفكّروا.

وأمّا الخامسة: وهي تقوّل الكافرين ومن في قلوبهم مرض بالاعتراض، بقولهم:

ماذا أراد اللَّه بهذا الوصف والعدد، وهذه الفقرة ليست من غايات جعل عدتهم تسعة عشر، وإنّما هي نتيجة تعود إليهم قهراً، ويسمّى ذلك لام العاقبة، كما في قوله سبحانه:

«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً» «2»، ومن المعلوم

______________________________

(1) التوبة: 124- 125.

(2)

القصص: 8.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 282

انّ فرعون لم يتخذه لتلك الغاية وإنّما اتخذه ليكون ولداً له، كما في قول امرأته:

«لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُون» «1»، و لكن ترتبت تلك النتيجة على عملهم شاءوا أم أبوا.

وهكذا المقام حيث أخذت الطائفتان أي الذين في قلوبهم مرض والكافرين بالاستهزاء، وقالوا: «ماذا أراد اللَّه بهذا مثلًا».

وقد فسر قوله: «الّذين في قلوبهم مرض» بالمنافقين، كما فسروا الكافرين بالمتظاهرين بالكفر من المشركين، غير انّ هنا سؤال، و هو انّ السورة مكية ولم تكن هناك ظاهرة النفاق و إنّما بدأت بالمدينة.

ولكن لا دليل على عدم وجود النفاق بمكة، إذ ليس الخوف سبباً منحصراً للنفاق، فهناك علل أُخرى وهي الإيمان لأجل العصبية والحمية أو غير ذلك. يقول العلّامة الطباطبائي: لا دليل على انتفاء سبب النفاق في جميع من آمن بالنبي بمكة قبل الهجرة وقد نقل عن بعضهم انّه آمن ثمّ رجع أو آمن عن ريب ثمّ صلح.

على أنّه تعالى يقول: «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِالْعالَمِين* وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقين» «2». «3»

ثمّ إنّه سبحانه يختم الآية بقوله: «كذلك يضل اللَّه من يشاء و يهدي من يشاء»، أي الحقائق الناصعة والآيات الواضحة تتلقاها القلوب المختلفة تلقياً

______________________________

(1) القصص: 9.

(2) العنكبوت: 10- 11.

(3) الميزان: 20/ 90.

الامثال فى القرآن الكريم، ص: 283

مختلفاً يهتدي بها فريق و يضل بها آخر حسب ما يشاء سبحانه، وليست مشيئته سبحانه خالية عن الملاك والسبب، فهدايته وإضلاله رهن اهتداء الإنسان من هداياته العامة، فمن استهدى بها تشمله هدايته الثانية، وهي التي وردت

في هذه الآية، ومن أعرض عنها فيشمله إضلاله سبحانه بمعنى قطع فيضه عنه.

الآية ليست من الأمثال

ومع ما بذلنا من الجهد في تفسير الآيات، فالظاهر انّها ليست من قبيل التمثيل لما عرفت من أنّه عبارة عن تشبيه شي ء بشي ء وإفراغ المعنى المعقول في قالب محسوس لغاية الإيضاح، ولكن الآيات لا تمت إليه بصلة وإنّما هي بصدد بيان سبب جعل الزبانية تسعة عشر وانّ لها آثاراً خاصة.

وعلى ذلك فقوله سبحانه: «ماذا أَرادَ اللَّه بِهذا مَثَلًا»، أي ماذا أراد اللَّه به وصفاً، فالمثل في هذه الآية نظير ما ورد في سورة الفرقان حيث بعد ما ذكر انّ المشركين وصفوه بأنّه رجل مسحور، قال: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثالَ» «1»، أي انظر كيف وصفوك، فليس مطلق الوصف تمثيلًا.

تم الكتاب- بحمد اللَّه سبحانه- بيد مؤلّفه جعفر السبحاني

وقد لاح بدر تمامه في شهر جمادى الآخرة من شهور عام 1420

من الهجرة النبوية على هاجرها آلاف الثناء والتحية

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين

______________________________

(1) الفرقان: 9.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.