قياده الامام الصادق عليه السلام

اشارة

سرشناسه : خامنه اي علي رهبر جمهوري اسلامي ايران - 1318

عنوان و نام پديدآور : قياده الامام الصادق عليه السلام سماحه علي الخامنئي ترجمه محمدعلي آذرشب مشخصات نشر : قم المجمع العالمي لاهل البيت ع : رابطه الثقافه و العلاقات الاسلاميه 1995م = 1416ق = []1374.

مشخصات ظاهري : [117] ص فروست : (المجمع العالمي لاهل البيت ع 32)

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس موضوع : جعفربن محمد(ع ، امام ششم 148 - 80ق -- مقاله ها و خطابه ها

موضوع : خامنه اي علي 1318 - -- پيامها و سخنرانيها

موضوع : امامت -- بررسي و شناخت شناسه افزوده : آذرشب محمدعلي مترجم شناسه افزوده : مجمع جهاني اهل بيت ع

شناسه افزوده : سازمان فرهنگ و ارتباطات اسلامي رده بندي كنگره : BP45 /خ 2ق 9 1374

رده بندي ديويي : 297/9553

شماره كتابشناسي ملي : م 75-10995

مقدمة المجمع

تتميز حياة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام باءنها سلسلة مترابطة الحلقات محكمة البناء، وكانت طبيعة المرحلة التي يعيشها كل امام تفرض عليه موقفاً قد يبدو ظاهرياً يختلف اختلافاً جذرياً عن موقف من سبقه أو لحقه، ك_ما في موقفي الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام. وهذا في الحقيقة ليس اختلافاً، بل هو استجابة لما تمليه الظروف، بحيث يكون الموقف حيال هذه الاستجابة مكملاً للدورالذي كان يقوم به الامام السابق، أو هو ممهد للدور الذي سوف يضطلع به الامام اللاحق. ونتيجة لعدم وضوح الرؤية عند البعض ممن تعرّض لحياة الأئمة بالبحث كانت

تظهر نظريات وتطرح آراء لتحليل واقع وطبيعة الدورالذي كان كل إمام يقوم به، وهذه النظريات والآراء ليس منشاءهاالفهمُ الصحيح المدرك لحقيقة الموقف، بل هو التحليل الخاطئوالدراسة الهامشية التي لا تستند إلي اُسس الامامة والعصمة، بل تبتني علي أسس واهية تتعارض كلياً مع الايمان بالقيادة المعصومة التي كان ينتهجها كل امام بناءً علي ما يفهمه الامام نفسه من ظروفه المحيطة به وطبيعة المرحلة التي تكتنفه، وأيضاً بناءً علي كون موقفه ليس موقفاً تتحكم فيه الأهواء الشخصية أو المصالح الذاتية أوالاستجابات الانفعالية وإنما هو موقف حكيم مدروس بعناية ومسددباللطف الالهي. وهذا التحليل الخاطئ شمل حياة جميع الأئمة، فاءضفي عليهم طابع الاندفاع الانفعالي تارة، كما في موقف الامام الحسين عليه السلام وثورته. أو طابع الركون إلي الهدوء والعزلة عن معترك الحياة السياسية، كما في موقف الامام السجاد عليه السلام. أو طابع الانسجام مع الحكّام الظالمين كما في موقف الامام الصادق عليه السلام. والكتاب الذي بين أيدينا هو محاضرة ألقاها سماحة ولي أمرالمسلمين السيد الخامنئيدام ظله، قبل قيام الثورة الاسلامية المباركة فيإيران، يتعرض فيها لهذه النظريات الخاطئة ويفنّدها باءدلة علمية وتاريخية متينة، ثم هو يطرح طرحاً واعياً ودقيقاً النظرة الصحيحة التي تفسر الموقف الذي كان يتحرك من خلاله كل إمام ليمهد الطريق للامام الذي يليه، حتي وصل الامر إلي الامام الصادق عليه السلام الذي لم تكن قيادته خاضعة للأهواء أو المصالح أو الخوف من الظالمين، بل كان موقفه _ كما ذكرنا _ موقفاً مبدئياً معصوماً، رسمه له اللّه سبحانه ومهّده له آباؤه المعصومون، وطبّقه هو بحنكته السياسية ووعيه الربّاني، ليقود دفّة السفينة الاسلامية إلي شاطئ النجاة والأمان، وليحفظ للمسلمين دينهم وعقيدتهم وفق اسسها المحمدية الصحيحة التي حاولت الأيدي الظالمة

علي امتداد التاريخ طمس معالمها وإطفاء نورها. وانطلاقاً من مسؤولية المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام فإنه يقوم بطبع هذا الكتاب ونشره ليكون نقطة إضاءة في الفكر الاسلاميوالتاريخ الصحيح، وليكشف للمتطلّعين إلي أهل البيت عليهم السلام الوجه الناصع لمسيرتهم المباركة. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

مقدمة المترجم

لهذه المحاضرة قصّة.. والقصّة تبين مشهداً من مشاهد الساحة الايرانية قبل انتصارالثورة الاسلامية بكل ما كان فيها من نشاط اسلامي، ومن تحديات وعقبات. في شهر شوال سنة 1353 هجرية شمسية (1394ه_.ق) دقّ جرس الهاتف في منزل الاستاذ المحاضر بمدينة مشهد. كان علي الخط الاستاذالشهيد الدكتور محمد مفتّح من طهران. بعد تبادل التحايا طلب الشيخ مفتح من صاحب المحاضرة أن يقدم الي طهران في يوم 25 شوال (يوم وفاة الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام) ليلقي محاضرة عن الامام الصادق. كانت ظروف صاحب المحاضرة صعبة آنذاك، بسبب زحمة الاعمال والدروس وكثرة المراجعات من جميع أرجاء ايران. كان يلقيالمحاضرات في مسجد «الامام الحسن» ثم في «مسجد الكرامة» فيمشهد الواقعة شرق ايران، وينتقل منها الي غرب ايران ليحاضر فيهمدان وكرمانشاه. وفي مشهد يدرس التفسير ونهج البلاغة والحديث... اضافة الي دروس تخصصية في الفقه واصول الفقه. كل هذا كان يقوم به في ظروف ضاغطة جدا... ظروف مالية صعبة، وظروف سياسية قاسية... لقد كان يعيش في فقر مدقع دون أن يعلم بذلك أحد، ودون أن يشكو ذلك لأحد. والسلطة كانت تحصيعليه انفاسه وتتابعه وتراقبه بشدّة. أغلقت «مسجد الكرامة» في هذاالعام بالذات، فاكتفي بمسجده الصغير «مسجد الامام الحسن» يواصل فيه نشاطه.. ثم اعتقلته في شتاء ذلك العام. وبذلك دخل سجنه الخامس في قصة يطول ذكرها. في مثل هذه الظروف جاء طلب الشيخ مفتّح

لإلقاء محاضرة عن الامام الصادق عليه السلام، في طهران بمسجد «جاويد» حيث كان الشيخ مفتح يؤم الناس فيه. اعتذر صاحب المحاضرة عن الحضور للاسباب المذكورة، ولعلمه بوجود اساتذة يملأون الفراغ في طهران من مثل الشيخ مفتح نفسه ولكن الشيخ أصرّ.. وأصرّ.. وما كان من المحاضر إلاّ الامتثال. بعد أيام دقّ جرس الهاتف ثانية، وكان الشيخ مفتح علي الخط من طهران وقال: ان الشرطة منعت المحاضرة! تنفس الاستاذ المحاضر الصعداء، وأحسّ بالراحة وحمد اللّه علي ذلك. ولكن الاستاذ مفتح مالبث أن اتصل ثالثة وقال: لقد رُفع المنع والحمد للّه، ولابدّ أن تحضر في الوقت المقرّر. حاول السيد المحاضر أن يعتذر ولكن الشيخ قال له: لقد أعلنا نباء المحاضرة فيالجامعات. حاول المحاضر أن يتعلل بصعوبة الحصول علي تذكرة الطائرة. لكن الشيخ أبدي استعداده لتوفيرها... لابدّ من السفر إذن! في يوم القاء المحاضرة نفسه غادر مشهد، وقبل ساعات من بدئهاوصل طهران واتجه مباشرة الي المسجد. فرح الشيخ كثيراً حينما رآه، وكان هو وما يقرب من مائتي شاب مستعدين للصلاة. وفي اثناء الصلاة التحق عدد آخر من الشباب فاصبحوا بضع مئات. وبعد دقائق تدفقت افواج الطلبة فجاءة علي المسجد، بعد انتهاء الدروس في الجامعة. غصّ المسجد وفناؤه والزقاق المجاور له بالناس.. بدأ السيدالاستاذ يلقي محاضرته وبيده أربعون ورقة كتب فيها مذكرات ترتبط بالمحاضرة. واستمر يتحدث ويتحدث والجالسون منشدّون إليه،وكاءن علي رؤوسهم الطير. واستمرت المحاضرة 3 ساعات، وخلالهاتناول بالشرح بضعا من الورقات الاربعين التي أعدها مذكرات لمحاضرته. واختتم المحاضرة رافعاً الاوراق الاربعين الي الحاضرين مشيراً إلي أنه بيّن قليلاً من كثير مما أعدّه. ولم يمض طويلا علي هذه الحادثة إذ اعتقل الشيخ مفتح ومنع من الصلاة في مسجد «جاويد» فانتقل

بعد الافراج عنه إلي الصلاة فيمسجد قبا» . وهنا لابدّ من التنويه إلي أمر هام وهو: إن السيد الاستاذ حفظه اللّه القي هذه المحاضرة قبل عشرين عاما، وبعدها كانت له مطالعات ودراسات واسعة في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام، وربما عنّت له نظرات جديدة، أو تغيّر رأيه في مساءلة معينة من المسائل المطروحة فيالمحاضرة. وكم كنّا نودّ أن نري رأيه فيها لنحصل علي آخر نظراته قبل أن نقدم علي نقلها إلي اللغة العربية. ولكن عظم المسؤوليات وزحمة الاعمال وتراكمها حال دون ذلك، لذلك نقدمها الي القارئ الكريم كماهي، ففيها من الجديد الشيء الكثير، وفيها من تراثيات الفكرالاسلامي المطروح في ايران قبل انتصار الاسلام ما يهمّ كل متتبع. ويلاحظ في المحاضرة ان السيد الاستاذ يواجه تيارين طالماواجههما في محاضراته ودروسه وهما: التيار اليساري المتحامل علي الاسلام وعلي رموز الاسلام، والذي يصف رجال الاسلام باءنهم لم يتصدوا للدفاع عن المحرومين والمظلومين بل كانوا سنداً للظالمين والمترفين!! والتيار المهزوم القاعد الذي يحاول أن يجد في حياة ائمة الاسلام ما يبرر قعوده وسكونه، وهذان التياران كان لهما ثقلهما فيالساحة الايرانية قبل تنامي الثورة الاسلامية، وكانا يشكلان عقبة أمام العاملين نحو دفع المجتمع علي المسيرة الاسلامية. الدكتور محمد علي آذرشب (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّهَ عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) (وجعلناهم أئمة يهدون باءمرنا وأوحينا اليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاءَ الزكاةِ وكانوا لنا عابدين)

نظرتان خاطئتان

«الحمد للّه والصلاة والسلام علي رسول اللّه وعلي آله ومن اهتدي بهداه» ثمة نظرتان خاطئتان بشاءن الامام الصادق عليه السلام، ناشئتان عن لونين من التفكير; ومن الغريب أنهما علي اختلافهما تتقاربان فيالشكل والمحتوي والمنشاء، بل

يمكن القول ان النظرتين تشتركان فيبعض المحاور اشتراكا تاما: النظرة الاولي: نظرة مدافعة يبديها أولئك الذين يخالون أنهم من أتباع الامام ومواليه.. إنها نظرة شيعة الامام الصادق عليه السلام بالقول، لا بالعمل، وتتلخص بما يلي: إن الامام الصادق عليه السلام توفرت له ظروف لم تتوفر لإمام من قبله ولا من بعده، استطاع أن يستغلها لنشر أحكام الدين، وأن يفتح أبواب مجلسه لطلاب العلم. جلس في بيته، وفتح صدره للمراجعين، وتصدّي للتدريس ونشرِ المعارف، وارتوي كل من قصده من طلاب العلم وناشدي الحقيقة. اشترك في مجلس درسه أربعة آلاف تلميذ، وعن طريق هؤلاء التلاميذ انتشرت علوم الامام الصادق، منها العلوم الدينية: كالفقه والحديث والتفسير، ومنها العلوم الانسانية: كالتاريخ والاخلاق وعلم الاجتماع. وتصدّي الامام لمناقشة المنتمين الي الافكار الدخيلة، والردّ علي الزنادقة والماديين والملحدين، مباشرة أو عن طريق تلاميذه، وقارع أصحاب النحل المنحرفة بقوّة. ولكل مجالٍ من مجالات الدين، ربّي كوكبة من الطلبة والمتخصصين. ويقول أصحاب هذه النظرة أيضا: إن الامام _ وحرصا علي استمرار هذا المشروع العلمي _ اضطر الي عدم التدخل في السياسة،فلم يُقدِم علي أي عمل سياسي، بل وأكثر من ذلك فانه سلك طريقايتماشي مع سياسة خلفاء زمانه لاسترضائهم، ولاستبعاد أية شبهة يمكن أن تحوم حول نشاطه. لذلك لم يجابههم، ومنع أيضا أن يجابههم أحد. وقد تستلزم الظروف أن يذهب اليهم وينال جائزتهم وحظوتهم، وإن حدث أن أساء الحاكم به الظن _ نتيجة حدوث حركة ثورية أو تهمة لفّقها نمّام _ يتجه الامام عليه السلام الي استمالة الحاكم ومجاملته. ويورد اصحاب هذه النظرة شواهد تاريخية، من ذلك رواية ربيع الحاجب وأمثالها، التي تصوّر الامام في مجلس المنصور وهو يبديالاعتراف بالتقصير واعلان الندم، وتنقل عن

الامام عبارات مدح وثناء يبديها تجاه الخليفة المنصور، مما لا يشك الانسان في كذب صدورها عن الامام الصادق عليه السلام تجاه طاغية كالمنصور. هذه العبارات تصور المنصور باءنه كيوسف وسليمان وأيوب، وتطلب منه أن يصبر علي ما يري من اساءات الامام او إساءات بني الحسن: «إن سليمان أعطي فشكر، وإن ايوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر،وأنت من ذلك السنخ [1] . (... هذه نظرة تصور الامام عالما، باحثا، واستاذا كبيرا انتهل من بحرعلمه ابو حنيفة ومالك و... لكنه كان بعيدا كل البعد عن كل مقاومة لعدوان السلطة علي الدين، وعن كل ما تتطلبه مهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر امام السلطان الجائر... كان بعيدا كل البعد عن الثوار من امثال: زيد بن علي ومحمد بن عبداللّه والحسين بن عليشهيد فخ، بل عن الجنود المقاتلين مع هؤلاء الثوار، ولم يكن يبدي أيرد فعل تجاه ما يحل بالمجتمع الاسلامي، ولا يكترث بما كان يكتنزه المنصور من أموال طائلة، ولا بما كان يعاني منه ابناء رسول اللّه فيجبال طبرستان ومازندران، وفي رساتيق العراق وايران من جوع،بحيث لا يجدون ما يسدّ رمقهم، ولا ما يسترهم إذا ارادوا الصلاة جماعة!! ولا يهتمّ بما كان يتعرض له أتباعه من قتل وتعذيب وتشريدوهم صفر اليدين من كل متاع يتنعم به الافراد العاديون من ابناءالمجتمع آنذاك!! في ظن اصحاب هذه النظرة أن الامام الصادق لم يبد أية حساسية تجاه هذا الوضع، بل كان قانعاً باءن ياءتيه من مثل ابن ابي العوجاء،فيقارعه بالحجج والبراهين ويغلبه، ويخرج من بيته مهزوما.. دون أن يؤمن طبعا. هذه هي صورة الامام الصادق كما يرسمها اصحاب النظرة الاولي. النظرة الثانية: يحملها اولئك الذين لا يعترفون بامامة الصادق،وهي نظرة

متحاملة علي الامام تري انه عليه السلام وقف تجاه ماكان يحيق بالمجتمع من ظلم موقف عدم اكتراث. فالمجتمع في زمانه كان يضجّ بالمظالم الطبقية والطغيان السياسي والسيطرة المقيتة علي أموال الناس [2] وانفسهم وأعراضهم، واكثر من ذلك علي عقولهم ونفوسهم وتفكيرهم ومشاعرهم. حتي لم تعد الامة تتمتع باءبسط الحقوق الانسانية، بما في ذلك القدرة علي الانتخاب. مقابل هذا كان الطواغيت يتلاعبون بمقدرات الناس كيف ما شاءوا، ويبنون القصورالفارهة، مثل قصر الحمراء جوار آلاف الخرائب التي يعيش فيهاالبؤساء من عامة الشعب.. في مثل هذا المجتمع المليء باءلوان التعسف والاضطهاد يتجه الصادق الي البحث والدراسة وتربية الطلبة،ويصبّ اهتمامه علي تخريج الفقهاء والمتكلمين..!!. إن كلا النظرتين مجحفتان، لا تقومان علي أساس ولا تستندان الي دليل واقعي. غير أن النظرة الاولي أشد إجحافا واكثر ظلما للامام الصادق عليه السلام لانها صادرة عن لسان من يدعي أنه من شيعته واتباعه. لا أريد أن أنهج هنا اسلوب البحث العلمي المتداول في الدراسات بعرض جميع النصوص الواردة عن حياة الامام الصادق عليه السلام واُقارن بينها من حيث المتن والسند لأخرج بنتيجة، فذلك له مجاله فيمجالس البحث العلمي. اريد هنا أن اطرح نظرة ثالثة مقابل تينِك النظرتين.. واقرن هذه النظرة باءدلة مستقاة من مصادر موجودة بين ايديكم، كي تستطيعوا _مثل حَكَم محايد _ أن تتطلعوا من خلالها الي الوجه الحقيقي للامام عليه السلام.. وقبل أن ادخل في صميم البحث يلزمني أن اُشير الي أن كلاالنظرتين لا تقومان علي أساس صحيح موثوق به. فكما ذكرت أن النظرة الاولي تستند الي عدد من الروايات (اوضحت وضع اسنادها في الهامش). وهذه الروايات تنسجم طبعامع طالبي الراحة ومحبّي العافية، فيتذرّعون بها باعتبارها حجة قاطعة. انها كافية لأن

تكون مبرّراً للانتهازيين من ذوي النفوس الضعيفة المهزوزة. فهذه الروايات تصور الامام باءنه راح يتملّق المنصور لحفظ حياته، مع أنه كان قادراً أن يحتوي الموقف باسلوب حكيم. واذا كان ذلك شاءن القدوة فما بالك بالمقتدي؟ نعتقد أن نصّ هذه الروايات كاف لاثبات زيفها. فالامامُ كان قادراً علي دفع شرّ المنصور عنه بطرق اُخري كما حدث في مواقف عديدة تنقلها روايات موثوقة، فلا دليل إذن علي أن يعمد الامام الي هذا الملق الزائف والثناء الكاذب، ليضفي علي المنصور خصالاً ليست فيه ومكانة لا يستحقها. فمكانة الامامة ارفع من ذلك بكثير دون شك،وأسمي من أن تتلوث بمثل هذه المواقف المنحطّة. ومن حيث السند، فإن تحرّي الدقة في الرواة يكشف لنا عن أشياءكثيرة. ففي عدد من هذه الروايات نري الاسناد ينتهي بالربيع الحاجب. والربيع حاجب المنصور! وما أعدله من راو؟! ويظهر من المصادر أن الربيع كان أقرب الناس الي المنصور، وأكثرهم زلفة لديه.استوزره المنصور سنة 153ه (5 سنوات بعد وفاة الامام الصادق)،أي نال رفعة في المقام.. (ولعلّه نال هذا الترفيع ثمناً لما نسبه للصادق عليه السلام من أكاذيب.) مثل هذا الشخص الذي ثبت اخلاصه ووفاؤه لجهاز الخلافة [3] لايستبعد منه أن يختلق الاكاذيب، فينسب كلام الملَق الي الامام الصادق أو يغيّر كلاماً حادّاً قاله الامام الي كلام تضرّع والتماس. هذاليس بغريب علي هذا الحاجب، لكن الغريب أن يصدق عاقلٌ قولَأحد بطانة الخليفة بشاءن عدو الخليفة، ومقولة تشيّع هذا المفتري، وهيمقولة تشكل جزءاً من المؤامرة الدنيئة. والنظرة الثانية ايضا واهية بالدرجة نفسها الدرجة وغير علمية.انها تشبه أحكام المستشرقين المنطلقة عن غرض أو جهل، ومن روح مادية محضة لا تنسجم اطلاقا مع طبيعة الاحداث الاسلامية. ولقدشاهدنا تلك الاحكام الفجّة التافهة

التي تصدر عن بعض المستشرقين تجاه الاسلام وأئمة اهل البيت عليهم السلام. كقول احدهم [4] عن الامام الحسن المجتبي أنه باع الخلافة بالمال! وقضي عمره بين العطروالمرأة والترف! وقول مستشرق آخر [5] إن الاسلام نقل المجتمع من مرحلة الرقّية الي مرحلة الاقطاع!! والنظرة الثانية التي نتحدث عنها تشترك مع أقوال هؤلاءالمستشرقين في السطحية والتسرّع والمنطلق المادّي. والطريف أن الوثائق التي يعتمد عليها أصحاب النظرة الثانية ليست سوي ما يلفّقه أصحاب النظرة الاولي من أحكام!!

النظرة الصحيحة

النظرة الثالثة: والآن نبدأ بالنظرة الثالثة بشاءن الامام الصادق،وهي نظرة يمكن أن يستنبطها كل ثاقب نظر بالرجوع الي المصادروالمراجع. وهذا الاستنباط لا يختص بحياة الامام الصادق وحده، بل يشمل كل أئمة اهل البيت، مع الفارق في خصائص عمل كل منهم حسب ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان، وهذا الاختلاف فيالخصائص لا يتنافي مع وحدة روح العمل المشترك وحقيقته ومع وحدة الهدف والمسير. من أجل أن نفهم طبيعة المسيرة العامة لحياة الائمة [6] ، علينا أولا أن نتبين فلسفة الامامة. التيار الذي عرف في مدرسة اهل البيت باسم الامامة، والذي تتكون عناصره الاصلية من أحد عشر شخصاً توالواخلال قرنين ونصف القرن تقريباً، انما هو في الواقع امتداد للنبوة. فالنبي يبعثه اللّه سبحانه بمنهج جديد للحياة، وبعقيدة جديدة،وبمشروع جديد للعلاقات البشرية، وبرسالة الي الانسانية. ويطويحياته في جهاد مستمر، وجهد متواصل، ليؤدي مهمة الرسالة الملقاة علي عاتقه قدر ما يسمح له عمره المحدود. وعملية الدعوة يجب أن تستمر بعده ; كي تبلغ الرسالة أعلي الدرجات المتوخاة في تحقيق الأهداف. ويجب أن يحمل أعباءالمواصلة من هو أقرب الناس إلي صاحب الرسالة في جميع الابعاد;كي يبلغ بالأمانة الي محطة آمنة وقاعدة رصينة ثابتة مستمرة. هؤلاء هم

الائمة وأوصياء النبي. وكل الائمة العظام واصحاب الرسالات كان لهم أوصياء وخلفاء. ومن أجل أن نعرف مهمة الامام،لقد (لا بد أن نعرف مهمة النبي. والمهمة يبيّنها القرآن الكريم إذ يقول: (أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) [7] . هذه إحدي الآيات التي تبين علّة النبوة، وتبين من جهة اُخري مهمة الانبياء. فالانبياء ابتعثوا لبناء مجتمع جديد، ولاقتلاع جذورالفساد، ولاعلان ثورة علي جاهلية زمانهم، وقلب مجتمعاتهم.وعملية التغيير هذه يعبّر عنها الإمام علي عليه السلام في مطلع استلام مهام حكومته بقوله:» .. حتي يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم اسفلكم. [8] . ... انها عملية صناعة مجتمع علي أساس التوحيد والعدل الاجتماعيوتكريم الانسان، وتحريره، وتحقيق المساواة الحقوقية والقانونية بين المجموعات والافراد، ورفض الاستغلال والاستبداد والاحتكار،وافساح المجال للطاقات والكفاءات الانسانية، وتشجيع التعلّم والتعليم والفكر والتفكير.. انها عملية اقامة مجتمع تنمو فيه كل عوامل سموّ الانسان في جميع الابعاد الاساسية، ويندفع الكائن البشري فيه باتجاه مسيرته التكاملية علي ساحة التاريخ. هذه هي المهمة التي بعث اللّه الانبياء من أجلها، ونستنتج من ذلكأن الامامة، باعتبارها امتدادا لمهام النبوة، تتحمل نفس هذه الاعباء.لو أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله عاش 250 عاما، فماذا كان يفعل يا تري؟ وكيف كان يتحرك علي طريق الدعوة، نفس هذه العملية نهض بها الائمة. هدف الامامة هو نفسه هدف النبوة، والطريق هوالطريق، أي إيجاد مجتمع اسلامي عادل، والسعي لصيانة مسيرته الصحيحة. مقتضيات الزمان مختلفة طبعاً، وبنفس النسبة يختلف التكتيكوالاسلوب. النبي صلّي اللّه عليه وآله نفسه كان يعمل في بداية الدعوة باسلوب يختلف عن اسلوبه حين قطع شوطاً من الطريق نحو تحقيق هدفه المنشود. حين كانت الدعوة في بداية الطريق، وكانت محفوفة باءلوان التهديدات

والتحديات تطلّب الامر تدبيراً خاصاً لمواصلة حمل الرسالة، وحين ترسّخت قواعد النظام الاسلامي، وضرب الاسلام بجرانه في الجزيرة العربية اختلف التدبير والاسلوب... والثابت والباقي هو الهدف الاسمي الذي أنزلت الرسالة من اجله.. وهو السعيلايجاد مجتمع يستطيع الانسان فيه أن يطوي مسيرته التكاملية فيجميع الابعاد، وأن تتفجر فيه الطاقات الخيّرة والقوي الكامنة الانسانية، ومن ثم صيانة هذا المجتمع ونظامه الاسلامي. كان أئمة الشيعة يتجهون _ كالنبي _ نحو هذا الهدف نفسه، نحو إقامة نظام عادل اسلامي بنفس الخصائص وعلي نفس المسير. وفي حالة قيام هذا النظام تتجه الجهود نحو صيانة مسيرته واستمرارها. ما الذي تتطلبه اقامة نظام اجتماعي أو مواصلة مسيرة هذا النظام؟تتطلب اولاً ايديولوجية موجّهة وهادية ينبثق عنها ذلك النظام وتصوغه بصياغتها. ثم تحتاج ثانياً الي قوة تنفيذية تستطيع أن تشق الطريق وسط الصعاب والمشاكل والعقبات نحو تحقيق الهدف. نعرف أن ايديولوجية الائمة هي الاسلام. والاسلام رسالة البشرية الخالدة..رسالة تحمل في مضمونها عناصر بقائها وخلودها [9] . وبملاحظة هذه الامور، نستطيع بسهولة أن نفهم المنهج العام لائمة أهل البيت واوصياء النبي الاكرم صلّي اللّه عليه وآله. هذا المنهج ذو جانبين متلازمين: الاول يرتبط بالعقيدة، والثانيبتوفير القدرة التنفيذية والاجتماعية. ففي الجانب الأول تتجه جهودهم وهممهم الي نشر مفاهيم الرسالة وبلورتها وترسيخها، والكشف عن الانحرافات التي تصدر عن المغرضين والمنحرفين، وبيان الاطروحة الاسلامية لما يستجدّ من اُمور، واحياء ما اندثر من معالم الرسالة بسبب اصطدامها مع مصالح ذوي القدرة والنفوذ، وتوضيح ما خفيعلي الاذهان العاديّة من كتاب اللّه العزيز وسنّة نبيّه.. فمهمة الجانب الاول تتلخص إذن بصيانة الرسالة الاسلامية حيّة بنّاءة متحركة علي مرّ الاجيال. وفي الجانب الثاني، كانوا يسعون، وفقا لما تقتضيه الظروف السياسية والاجتماعية والعالمية

في المجتمع الاسلامي، الي إعدادالمقدمات اللازمة لاستلام زمام قيادة الحكم في المجتمع باءنفسهم بشكل عاجل، او التمهيد لكي يستلمها علي المدي البعيد من يواصل مسيرتهم في المستقبل. هذا موجز هدف حياة الائمة الاطهار، وهذه هي الخطوط العامة لاهدافهم. من أجلها عاشوا، ومن أجلها استشهدوا. وإذا كان ما وصلنا من تاريخ حياة الائمة لا يثبت ما ذهبنا اليه،فان عقيدتنا في الائمة كافية لأن تصوّر حياتهم بهذا المنظار لا غير، فمابالك إذا كان التاريخ يشهد بما يقنع كل باحث أن حياة ائمة آل البيت كانت في هذا الاتجاه؟

مراحل مسيرة الامامة

استمرت مسيرة الامامة منذ رحلة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله في شهر صفر سنة 11 هجرية، حتي وفاة الامام الحسن العسكريعليه السلام في ربيع الاول سنة 260ه. وخلال هذه السنين طوت المسيرة اربع مراحل كان للأئمة في كل منها موقف متميز تجاه حكام المجتمع الاسلامي: المرحلة الاولي: مرحلة السكوت، أو مرحلة التعاون مع الحاكم. تميزت هذهِ المرحلة باءن المجتمع الاسلامي الوليد كان محفوفاًباءخطار الاعداء الذين تربّصوا بالاسلام من الخارج بعد أن أحسّوابخطر الرسالة عليهم، وكان هناك أعداد غفيرة من جماعات حديثة العهد بالاسلام لا تطيق أن تري تشتتاً في المجتمع الاسلامي، وكل ثغرة في جسد الامة تشكل تهديداً لأساس المجتمع الاسلامي ووجوده. ومن جانب آخر لم يكن منحني الانحراف قد ارتفع بحيث لم يعدقابلاً للتحمّل بالنسبة لشخص مثل امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام الذي هو أحرص الناس علي سلامة الرسالة وسلامة المجتمع الاسلامي. ولعل هذه الحالة التي حدثت في المجتمع الاسلاميهي التي أشار اليها رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله حين اوصي تلميذه الفذّ بالصبر عند وقوعها. لقد استوعبت هذه المرحلة حياة الامام علي

عليه السلام منذ وفاة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله حتي تولّيه الخلافة. وقد شرح الامام موقفه في هذه المرحلة خلال الكتاب الذي وجههُ الي أهالي مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها إذ جاء فيه: «فاءمسكت يدي، حين رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون الي محق دين محمد صلّي اللّه عليه وآله فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أري فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّأعظم من فوت ولايتكم.. فنهضت في تلك الأحداث [10] . ... حين عزفت عنه الولاية سكت في سبيل الاسلام، وحين واجه المجتمع أخطاراً جسيمة، قام ينافح عن الاسلام والمجتمع الاسلاميهادياً وموجهاً وعاملاً في المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية.وفي نهج البلاغة وسيرة علي عليه السلام ما يدل بيقين علي طبيعة تحرّك الامام خلال هذه الفترة. المرحلة الثانية: مرحلة استلام الحكم. وهذه استغرقت اربعة اعوام وتسعة أشهر من خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام. وبضعة اشهرمن خلافة ولده الحسن عليه السلام. ومع كل ما اكتنف هذه المرحلة من آلام وهموم ومشاكل ومصاعب تكتنف عادة كل حكومة ثائرة،فانها سجلت أنصع الصفحات وأروعها في تاريخ الحكومة الاسلامية،بما قدمته من طريقة انسانية في التعامل، ومن عدل والتزام دقيق باءحكام الاسلام باءبعاده المختلفة في ادارة المجتمع الاسلامي، هذا الي جانب الحزم والصراحة والجرأة في التطبيق واتخاذ المواقف. هذه المرحلة من تاريخ الامامة كانت النموذج الذي دعا ائمة اهل البيت عليهم السلام خلال القرنين التاليين الي تطبيقه في الحياة السياسية والاجتماعية. وأتباع مدرسة اهل البيت منشدّون باستمرارالي تلك الفترة التاريخية، ينشدون استعادتها في حياتهم، ويتخذونهاأساساً في تقويم أنظمة زمانهم. وبهذا المعيار يدينون الأنظمة المنحرفة عن النهج الاسلامي، كماكانت هذه الفترة تجربة ودرساً لحكومة

اسلامية ثورية تماماً في مجتمع عصفت به الأهواء والانحرافات. وكانت حالة المجتمع هذه قد القت عب ءاً ثقيلاً ومسؤولية كبيرة علي الائمة التالين. المرحلة الثالثة: هي التي استوعبت السنوات العشرين بين صلح الامام الحسن عليه السلام سنة 41ه، وشهاة الامام الحسين عليه السلام سنة 61ه. بعد صلح الحسن عليه السلام بدأ نوع من العمل شبه سرّي، هدفه إعادة القيادة الاسلاميّة الي أصحابها الحقيقيين، إذ كان الامر يتطلّب التريّث ريثما تنتهي مدة حكم معاوية، وخلال هذه المدة القصيرة توجهت الجهود البناءة للتمهيد الي المرحلة التالية. [11] . المرحلة الرابعة: هي التي نحتاج الي ان نقف عندها ولو قليلاً، لأنهاهي التي تعنينا في دراسة حياة الامام الصادق عليه السلام. في هذه المرحلة التي استمرت قرابة قرنين، تواصلت مسيرة الامامة ضمن خطة بعيدة المدي لتغيير المجتمع وفق نظرة الاسلام في جميع المجالات،بما في ذلك القيادة السياسية. كانت مفعمة بالانتصارات والانتكاسات، ومقرونة بنجاح باهر في مجال العمل الفكريوالعقائدي، وممتزجة باءلوان الاساليب الرائعة في العمل التكتيكي المناسب، ومزدانة باءسمي وأروع مظاهر الاخلاص والتضحية والتفاني والعظمة الانسانية علي الطراز الاسلامي. هذه المرحلة بدأت من محرم سنة 61 هجرية، بعد استشهاد الامام الحسين بن علي عليهما السلام وبدء امامة علي بن الحسين عليهماالسلام. وفي هذه المرحلة نشط الائمة _ كما ذكرنا _ في الحقل الايديولوجي ومكافحة الانحرافات والتحريفات التي خلّفتها مراكزالقدرة والاذهان الجاهلة، الي جانب العمل علي المدي البعيد لاقامة حكم اسلامي ينتهج القرآن وسنة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله ويتمثّل نموذج حكومة علي عليه السلام. واضح أن تنفيذ منهج ثوري أصيل عميق في مجتمع مرّت عليه سنون من الانحراف الفكري والعملي يستدعي تكتيكاً دقيقاً وتخطيطاًاساسياً. فالمجتمع الاسلامي آنئذ قد مرّت

عليه فترة حكومة معاوية بكل ما فيها من تخدير وتحريف وتزييف وابتعاد عن الروح الرسالية وحرمان من القيادة المبدئية، مما أدّي الي تفاقم خطر الانحراف، حتي إنّ الأمر آل الي مقتل ريحانة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله في كربلاءعلي مسمع ومرآي من هذا المجتمع المرعوب المشلول المهزوم أمام الارهاب الاُموي. لا بدّ إذن من عمل كبير يعيد الي هذا المجتمع معنوياته المفقودة وشخصيته المسحوقة، انها لعملية تغيير كبري يحتاجها هذا المجتمع كييعود مرّة اخري مؤهلا لحمل الرسالة والنهوض باءعباء المسؤولية الثقيلة. لا بد من ثورة كالتي اعلنها رسول اللّه في المجتمع الجاهلي، ثم تولّي قيادة هذا المجتمع انطلاقاً من هذه الثورة. ان إعادة الحياة الثورية وتجديدها عملية لا تقلّ صعوبة وأهمية عن خلق الثورة وإيجادها. عملية التجديد الثوري بحاجة الي ايمان عميق، وعزم راسخ، وعقل مدبر، وفكر يقظ وواع وفعّال. فمن الذي يحمل عبء هذه المسؤولية؟ تلك الفئة التي ما استطاعت أن تسير وراء الامام الحسن عليه السلام وما ارتفعت الي مستوي مناصرة الامام الحسين عليه السلام غير قادرة دون شك علي عملية الإحياء هذه. والاعتماد علي هذه الفئة ليس وراءه الا الفشل والخسران. إن تجربة «التوابين» ثم قيام المختار وابراهيم بن مالك خير دليل علي ما ذهبنا اليه.

موقف الامام السجاد

والامام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام يقف الآن بعدحادثة عاشوراء علي مفترق طريقين: إما ان يعمد الي دفع أصحابه نحو حركة عاطفية هائجة، ويدخلهم في مغامرة، لا تلبث شعلتها _ بسبب عدم وجود المقوّمات اللازمة فيهم _ أن تخمد وجذوتها أن تنطفئ، وتبقي الساحة بعد ذلك خالية لبنيامية، يتحكّمون في مقدّرات الامة فكرياً وسياسياً.. أو أن يسيطر علي العواطف السطحية والمشاعر الفائرة،

ويعد المقدمات للعملية الكبري،المقدمات المتمثلة في الفكر الرائد والطليعة الواعية الصالحة لإعادة الحياة الاسلامية الي المجتمع، وأن يصون حياته وحياة المجموعة الصالحة لتكون النواة الثورية للتغيير المستقبلي، ويبتعد عن أعين بنيأمية، ويواصل نشاطه الدائب علي جبهة بناء الفكر وبناء الافراد.وبذلك يقطع شوطاً علي طريق الهدف المنشود، ويكون الامام الذييليه أقرب الي هذا الهدف. فاءي الطريقين يختار؟ لا شك أن الطريق الاول هو طريق التضحية والفداء، لكن القائدالذي يخطط لحركة التاريخ، ولمدي أبعد بكثير من حياته، لا يكفي أن يكون مضحّياً فقط، بل لا بد أيضا أن يكون عميقاً في فكره واسعاً فيصدره، بعيداً في نظرته، مدبّراً وحكيما في اموره.. وهذه الشروط تفرض علي الامام انتخاب الطريق الثاني. والامام علي بن الحسين عليه السلام اختار الطريق الثاني مع كل ما يتطلبه من صبر ومعاناة وتحمّل ومشاق، وقدّم حياته علي هذاالطريق (سنة 95 هجرية.) وقد صوّر الامام الصادق عليه السلام وضع الامام الرابع ودوره الرائد بقوله: (ارتدّ الناس بعد الحسين عليه السلام الا ثلاثة: ابو خالد الكابلي، ويحيي بن أم الطويل، وجبير بن مطعم، ثم إن الناس لحقوا وكثروا،وكان يحيي بن أم الطويل يدخل مسجد رسول اللّه صلّي اللّه عليه. [12] (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) وآله ويقول: هذه الرواية تصوّر حالة المجتمع الاسلامي بعد مقتل الحسين عليه السلام. إنها حالة الهزيمة النفسية الرهيبة التي عمّت المجتمع الاسلامي ابان وقوع هذه الحادثة. فماءساة كربلاء كانت مؤشّرا علي هبوط معنويات هذا المجتمع عامة، حتي شيعة اهل البيت. هؤلاء الشيعة الذين اكتفوابارتباطهم العاطفي بالائمة، بينما ركنوا عملياً الي الدنيا ومتاعهاوبريقها.. ومثل هؤلاء كانوا موجودين علي مرّ التاريخ، وليسوا قليلين حتي يومنا هذا. فمن بين الآلاف من مدّعي

التشيّع في زمن الامام السجاد عليه السلام بقي ثلاثة فقط علي الطريق.. ثلاثة فقط لم يرعبهم الارهاب الاُموي ولا بطش النظام الحاكم، ولم يثن عزمهم حبّ السلامة وطلب العافية، بل ظلّوا ملبّين مقاومين يواصلون طريقهم بعزم وثبات. هؤلاء لم ينجرفوا مع تيار المجتمع المنجرّ كالرعاع وراء ارادة الحاكم الظالم، بل كان يقف الواحد منهم وهو يحيي بن ام الطويل فيمسجد المدينة ويخاطب مدّعي الولاء لأهل البيت، معلناً براءته منهم _ كما مرّ _ ويستشهد بما قاله ابراهيم عليه السلام واتباعه لمعارضي. [13] كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء زمانه: أراد ابن ام الطويل بتلاوته هذه الآية المباركة أمام مدّعي الولاءلأهل البيت عليهم السلام أن يعلن الانفصال التام بين الجبهتين: جبهة الرساليين الملتزمين، وجبهة الخلود الي الارض والانحطاط إلي مستوي الأماني الرخيصة والانشدادات المادية التافهة. وهو انفصال يرافق كل الدعوات الإلهية. والامام الصادق عليه السلام عبّر عن هذا الانفصال بين الجبهتين بقوله: «من لم يكن معنا كان علينا» أي من لم يكن في جبهة التوحيد كان في جبهة الطاغوت، وليس ثمة منطقة وسط بين الاثنين، ولا معني للحياد في هذا الانتماء. إن يحيي ابن أم الطويل هذا المسلم والموالي الحقيقي لأهل بيت رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله بصرخته هذه يعلن الانفصال بين الذين يُرضون أنفسهم بالولاء العاطفي بينما هم قابعون في قوقعة مصالحهم الشخصية وغارقون في مستنقع ذاتياتهم الضيقة، وبين اولئك الملتزمين فكراً وعملاً بالامام. هذا الانفصال يعني _ طبعاً _ الترفّع عن الانجرار وراء الأكثرية الضالّة، ولا يعني اهمال هؤلاء الضالين. من هنا اتجهت هذه المجموعة الصالحة الي انتشال من له قابلية التحرر من الإصر والأغلال،وكثرت بالتدريج هذه الفئة المجاهدة الصابرة، والي هذا

يشير الامام الصادق عليه السلام في قوله المذكور آنفا: «ثم إن الناس لحقواوكثروا» . وبذلك واصل الامام السجاد عليه السلام نشاطه. وكان هذا النشاط وبعض المواقف الاخري التي سنذكرها مما ادّي الي استشهاده، واستشهاد بعض المقربين من أتباعه. لم أر في حياة الامام السجاد عليه السلام ما يدل علي مواجهة صريحة مع الجهاز الحاكم، والحكمة كانت تقتضي ذلك _ كما ذكرنا _لأنه لو اتخذ مثل تلك المواقف التي نشاهدها في حياة الامام موسي بن جعفر عليه السلام وبعده من الائمة تجاه حكام عصره لما استطاع أن يحقق ما حققه من دفع عملية التغيير دفعة استطاعت أن توفّر للامام الباقر عليه السلام فرصة نشاط واسع، بل لصُفّي هو والمجموعة الصالحة الملتفّة حوله. في مواقف نادرة نلمس من الامام عليه السلام رأيه الحقيقي من السلطة الحاكمة، ولكن ليس علي مستوي المواجهة، بل علي مستوي تسجيل موقف للتاريخ وليجعل المحيط القريب منه علي قدر من العلم بعمله وحركته. من تلك المواقف، رسالة تقريع صارخة وجهها الامام عليه السلام الي رجل دين مرتبط بجهاز بني أمية هو «محمد بن شهاب الزهري» .ونستطيع أن نفهم من الرسالة أن الامام يخاطب بها الاجيال علي مرّالعصور، لا الزهري. لأن الزهري لم يكن بالشخص الذي يستطيع أن يتحرر من الاغلال التي تشدّه الي موائد بني أمية وقصاعهم ولهوهم ومناصبهم وجاههم. ولم يستطع بالفعل. لقد قضي عمره في خدمتهم،ودوّن كتاباً، ووضع حديثاً ليتزلف اليهم [14] . هذه الرسالة إذن وثيقة توضح موقف الامام من أوضاع زمانه.ونصّها موجود في كتاب «تحف العقول [15] . وثمة وثيقة اخري هي عبارة عن رسالة جوابية وجهها الامام عليه السلام الي عبدالملك بن مروان بعد ان ارسل الثاني رسالة

يعيّر فيهاالامام بزواجه من أمته المحررة، وقصد ابن مروان بذلك أن يبين للامام عليه السلام أنه محيط بكل ما يفعله حتي في اموره الشخصية، كما ارادأيضا ان يذكّر الامام بقرابته منه طمعاً في استمالته. والامام عليه السلام في رسالته الجوابية يوضح رأي الاسلام فيهذه المساءلة، ويؤكد أن امتياز الايمان والاسلام يلغي كل امتياز آخر.ثم باسلوب كناية في غاية الروعة يشير الامام الي جاهلية آباءالخليفة، بل لعله يشير أيضاً الي ما عليه الخليفة بالذات من جاهلية إذيقول له: «فلا لؤم علي امرئ مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية» . وحين قرأ الخليفة الاُموي عبارة الامام عليه السلام أدرك معناهاتماماً، كما أدرك المعني ابنه سليمان إذ قال له: «يا أمير المؤمنين لَشَدَّمافخر عليك علي بن الحسين!!» . والخليفة بحنكته السياسية يرد علي ابنه بما يوحي أنه أعرف من الابن بعاقبة الاصطدام مع إمام الشيعة فيقول له: «يابنيّ لا تقل ذلكفانها ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من بحر، إن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتصنّع الناس. [16] . ونموذج آخر من هذه المواقف ردّ الامام عليه السلام علي طلب تقدم به عبدالملك بن مروان. كان عبدالملك قد بلغه أن سيف رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله عند الامام. فبعث اليه من يطلب منه أن يهب السيف للخليفة، وهدده إن أبي بقطع عطاء بيت المال عنه. فكتب اليه الامام عليه السلام: «اما بعد فان اللّه ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون،إن اللّه لا يحب كل والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: فانظر أيّنا أولي بهذه الآية [17] (خّوان كفور). وفي غير هذه المواقف نري الامام السجاد عليه السلام يتحركبهدوء وباستتار في اتجاه تربية

الافراد وصنع الشخصية الاسلامية وفق مدرسة أهل البيت ومحاربة الانحرافات و... وبذلك قطع في الواقع الخطوة الاساسية الاولي علي طريق تحقيق هدف مدرسة أهل البيت المتمثل بإقامة المجتمع الإسلامي المستظل بحكومة اسلامية صالحة علي نموذج حكومة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله وعلي بن ابي طالب عليه السلام. وكما ذكرنا من قبل لم يسلم الامام عليه السلام واتباعه رغم هذا النهج _ المسالم علي الظاهر _ من بطش الجهاز الاُمويوتنكيله. فمن أتباعه من قتل بشكل فظيع، ومنهم من سجن، ومنهم تشرّد بعيداً عن الأهل والديار، والامام عليه السلام نفسه في مرة واحدة علي الاقل سيق مقيّداً بالاغلال في حالة مؤلمة من المدينة الي الشام، وتعرّض مرات لألوان الأذي والتعذيب. ثم دسّ الخليفة الاُموي الوليد بن عبدالملك له السمّ واستشهد سنة 95 هجرية. [18] .

حياة الامام الباقر

استمرار منطقي لحياة الامام السجاد عليه السلام اصبح اتباع أهل البيت مجموعة متميزة ذات وجود مستقل،ودعوة أهل البيت التي اعترتها وقفة واحتجبت وراء ستار سميكبسبب حادثة كربلاء وما أعقبها من حوادث دموية كوقعة الحرّة وثورة التوابين وبسبب بطش الاُمويين، قد اصبح لها وجود منتشروواضح في كثير من الاقطار الاسلامية خاصة في العراق والحجازوخراسان، وأصبح لها «تنظيم» فكري وعملي. وولّت تلك الايام التيقال الامام السجاد عليه السلام عنها: إن أتباعه ما كانوا يزيدون فيهاعلي عشرين شخصا. واضحي الامام الباقر عليه السلام يدخل مسجد النبي صلّي اللّه عليه وآله في المدينة فيلتف حوله جمع غفير من أهل خراسان وغيرها من اصقاع العالم الاسلامي، يساءلونه عن رأيالاسلام في مختلف شؤون الحياة. ويفد عليه امثال طاووس اليمانيوقتادة بن دعامة وأبو حنيفة وآخرون من أئمة المذاهب الفقهية لينتهلوا من علم الامام أو ليحاجّوه في أمور

مختلفة. وبرز شعراءيدافعون عن مدرسة اهل البيت، ويُعبّرون عن أهدافها، منهم الكميت الذي رسم في هاشمياته أروع لوحة فنية في تصوير الولاء الفكريوالعاطفي لآل بيت رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله. وتناقلت الألسن هذه الروائع الادبية وحفظتها الصدور. ومن جهة أخري فإن خلفاء بني مروان أحسّوا خلال هذه الفترة بنوعٍ من الطماءنينة، وشعروا بالاستقرار بعد أن استطاع عبدالملك بن مروان (ت 86ه_) خلال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاماً أن يقمع كل المعارضين. وقد يعود شعور الخلفاء المروانيين في هذا العصربالأمن والاطمئنان الي أن الخلافة وصلتهم غنيمة باردة، لا كاءسلافهم الذين كدحوا من أجلها مما أدّي الي انشغالهم باللهو والملذات التيتصاحب الشعور بالاقتدار والجاه والجلال. مهما يكن الأمر فإن حساسية خلفاء بني مروان تجاه مدرسة اهل البيت قد قلّت في هذا العصر، وأصبح الامام وأتباعه في ماءمن تقريباًمن مطاردة الجهاز الحاكم. وكان من الطبيعي أن يقطع الامام خطوة رحبة في ظل هذه الظروف علي طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت، ويدفع بالتشيع نحو مرحلة جديدة. وهذا ما يميّز حياة الامام الباقر عليه السلام. ويمكن تلخيص حياة الامام الباقر عليه السلام خلال الاعوام التسعة عشر من امامته (95 _ 114ه_) بما يلي: إن أباه الامام السجاد عليه السلام عندما حضرته الوفاة أوصي أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر ابنائه وعشيرته وسلّمه صندوقاً.. تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم.. وتذكر أن فيه سلاح رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله وقال له: «يا محمد هذاالصندوق فاذهب به الي بيتك. ثم قال: أما إنه لم يكن فيه دينار ولادرهم، ولكنه كان مملوءاً علما. [19] «لعل هذا الصندوق يرمز الي أن الامام السجاد سلّم ابنه محمداً مسؤولية

القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي). ومع بدء الامام وأتباعه بنشاطهم الواسع في بث تعاليم أهل البيت عليهم السلام، يتسع نطاق انتشار الدعوة، ويتخذ أبعاداً جديدة تتعدي مناطقها السابقة في المدينة والكوفة، وتجد لها شيوعاً في اصقاع بعيدة عن مركز السلطة الاُموية، وخراسان في مقدمة تلك البقاع كماتحدثنا الروايات التاريخية. [20] . ان الواقع الفكري والاجتماعي المزري للناس كان يدفع الامام وأتباعه نحو حركة دائبة لا تعرف الكلل والملل من أجل تغيير هذاالواقع والنهوض بالواجب الإلهي إزاء هذا الانحراف. إنهم يرون غالبية الناس قد خضعوا للجو الفاسد الذي أشاعه بنوأمية، فغرقوا الي الأذقان في مستنقع حياة آسنة موبوءة، حتي أضحواكحكّامهم لا يفقهون قولاً، ولا يصيخون لنصيحة سمعاً «إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا. [21] . ومن جهة اخري يرون دراسات الفقه والكلام والحديث والتفسيرتنحو منحي استرضاء الطاغوت الاُموي وتلبية رغباته. ومن هنا فان كل ابواب عودة الناس الي جادة الصواب كانت موصدة لولا نهوض مدرسة اهل البيت بواجبها «وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا [22] . اتجهت مدرسة أهل البيت فيما اتجهت الي تقريع اولئك الذين باعواذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة الي ايقاظ ضمائرهم أو ضمائراتباعهم من عامة الناس. نري الامام يقول للكميت الشاعر مؤنباً: «امتدحت عبدالملك؟» قال: ما قلت له يا إمام الهدي، وإنما قلت ياأسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحرموات، ويا حيّة، والحيّة دُويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر أصمّ.فتبسم الامام وأنشد الكميت بين يديه: من لقلب متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام [23] وبهذه الميمية يضع الحدّ الفاصل بين الاتجاه العلوي والاتجاه الاُموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة.

وعكرمة تلميذ ابن عباس المعروف وصاحب المكانة العلمية المرموقة في المجتمع آنذاك، يذهب لمقابلة الامام، فيؤخذ بهيبة الامام وشخصيته ووقاره ومعنويته وفكره، فيقول له: «يابن رسول اللّه لقدجلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ماأدركني آنفاً» . فقال له الامام: «إنك بين يدي بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه. [24] . ومن الابعاد الاخري لنشاط مدرسة أهل البيت في هذه المرحلة سرد ما أحاط باءهل بيت رسول اللّه وأتباعهم من ظلم واضطهادوقتل وتشريد وتعذيب في محاولة لاستثارة عواطف الناس الميتة،وتحريك ضمائرهم الرخوة، واستنهاض عزائمهم الراكدة، وتوجيههم وجهة ثورية حركية. عن المنهال بن عمر قال: كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر عليه السلام اذ جاءه رجل فقال له: كيف انتم؟ فقال الامام الباقر: أوما آن لكم أن تعلموا كيف نحن؟ إنما مثلنا في هذه الاُمة مثل بني اسرائيل، كان يذبّح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، ألا وإن هؤلاءيذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا. زعمت العرب أن لهم فضلاً علي العجم، فقالت العجم: وبما ذلك؟ قالوا: كان محمد منا عربياً. قالوا لهم:صدقتم. وزعمت قريش أن لها فضلاً علي غيرها من العرب، فقالت لهم العرب من غيرهم: وبما ذاك؟ قالوا: كان محمد قرشياً. قالوا لهم:صدقتم. فان كان القوم صدقوا فلنا فضل علي الناس لأنا ذرية محمد،وأهل بيته خاصة وعترته، لا يشركنا في ذلك غيرنا. فقال له الرجل:واللّه إني لاُحبكم أهل البيت. قال: فاتخذ للبلاء جلبابا، فواللّه إنه لأَسرع الينا وإلي شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدو البلاء ثم بكم، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم. [25] . فما إن بدت علي الرجل علامات الهياج جرّاء استثارات الامام حتي سارع الامام الي رسم الطريق أمامه. إنه طريق

مفروش بالدماءوالدموع، والامام رائد المسيرة علي هذا الطريق يصيبه البلاء أولاًقبل أن يصيب شيعته. وفي دائرة أضيق نري أن علاقة الامام بشيعته تتخذ خصوصيات متميزة، نراه بين هؤلاء الاتباع كالدماغ المفكر بين اعضاء الجسدالواحد، يغذيهم ويمدهم بالحيوية والحركة والنشاط باستمرار. وتتوفر باءيدينا وثائق تبين هذا الارتباط متمثلا باعطاء المفاهيم والتعاليم الصريحة لهؤلاء الاتباع، وبتنظيم مترابط محسوب بينهم. منها وصية الامام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي في اول لقاء له بالامام أن لا يقول لأحد أنه من الكوفة، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة. وبذلك يعلّم هذا التلميذ الجديد، الذي لمس الامام فيه قدرة علي حفظ الاسرار، درس الكتمان.. وهذا التلميذ الكفوء أصبح بعدذلك صاحب سرّ الامام. ويبلغ به الامر مع الجهاز الحاكم أن يقول عنه النعمان بن بشير: كنت ملازما لجابر بن يزيد الجعفي، فلما أن كنّا بالمدينة، دخل علي أبي جعفر عليه السلام فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور، حتي وردنا الأخيرجة (من نواحي المدينة) يوم جمعة فصلّينا الزوال فلمانهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم (أسمر) معه كتاب فناوله، فقبّله ووضعه علي عينيه، واذا هو من محمد بن علي (الباقر) الي جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب. فقال له: متي عهدك بسيّدي؟ فقال:الساعة فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة. قال:ففكّ الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتي أتي علي آخره، ثم أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً، حتي وافي الكوفة. يقول النعمان بن بشير: فلما وافينا الكوفة ليلاً بتّ ليلتي، فلماأصبحت أتيت جابر الجعفي إعظاما له فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علّقها وقد ركب قصبة (كما يفعل المجانين) وهو يقول: أجدمنصور بن جمهور.. أميراً

غير ماءمور، وأبياتاً من نحو هذا فنظر فيوجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً، ولم أقل له، وأقبلت أبكيلما رأيته، واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتي دخل الرّحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، والناس يقولون: جُنّ جابر بن يزيد. فو اللّه ما مضت الأيام حتي ورد كتاب هشام بن عبدالملك الي وإليه أن انظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. فالتفت الي جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا: أصلحك اللّه كان رجلاً له علم وفضل وحديث، وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان علي القصب يلعب معهم. قال:فاءشرف عليه فاذا هو مع الصبيان يلعب علي القصب. فقال: الحمد للّه الذي عافاني من قتله. [26] . هذا نموذجٌ من نماذج الارتباط بين الامام وخاصةِ أتباعه، يوضّح دقّة التنظيم والارتباط، ويبين كذلك نموذجاً لموقف السلطة الحاكمة من هؤلاء الاتباع، ويؤكّد أن الجهاز الحاكم لم يكن غافلاً تماماً عن علاقة الامام باءتباعه المقربين، بل كان يراقب هذه العلاقات ويحاول اكتشافها ومجابهتها [27] . وبالتدريج يبرز جانب المجابهة في حياة الامام الباقر عليه السلام وفي حياة الشيعة ليسجل فصلاً آخر في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام. النصوص التاريخية الموجودة بين أيدينا وهكذا الروايات الحديثية لا تتحدث بصراحة عن حركة مقاومة سياسية حادة ينهض بهاالامام. وهذا يعود الي عوامل كثيرة منها جوّ البطش والتنكيل المهيمن علي المجتمع مما يفرض عنصر التقية بين اتباع الامام الذين هم المطلعون الوحيدون علي حياة الامام السياسية.. ولكن ردود الفعل المتشدّدة التي يبديها العدو تبين عمق العمل الجهادي. فحين يتخذجهاز حاكم مقتدر كجهاز عبدالملك بن مروان، الذي يعتبر اقوي حاكم أموي، ضد الامام

الباقر عليه السلام كل أسباب الشدّة والحدّة،فإن ذلك يدل دون شك علي إحساس الخليفة بالمخاطر التي تواجهه جرّاء حركة الامام وأتباعه. لو كان الامام منهمكاً فقط بنشاط علمي،لا ببناء فكري وتنظيمي، فان الجهاز الحاكم لم يكن من مصلحته أن يتشدّد مع الامام، لأن ذلك يدفع بالامام وباءتباعه الي موقف ساخط متشدّد كالذي اتخذه الثائر العلوي شهيد فخ الحسين بن علي من السلطة. باختصار، موقف السلطة المتشدّد من الامام الباقر عليه السلام يمكن فهمه علي أنه رد فعل لما كان يمارسه الامام من عمل معارض للسلطة. من الأحداث الهامة في اواخر حياة الامام الباقر عليه السلام استدعاء الامام الي الشام عاصمة الخلافة الاموية. فالخليفة الامويأراد أن يستوثق من موقف الامام تجاه الجهاز الحاكم فاءمر باعتقاله وارساله مخفوراً الي الشام. (وفي بعض الروايات أن الحكم هذا شمل ابنه الشاب أيضا جعفراً الصادق.) يؤتي بالامام الي قصر الخليفة. وهشام أملي علي حاشيته طريقة مواجهة الامام لدي وروده. تقرر أن يبتدئ الخليفة ثم تليه الحاشية بإلقاء سيول التهم علي الامام، وكان يستهدف في ذلك امرين: اولهماإضعاف معنويات الامام وخلق حالة من الانهيار النفسي فيه.والثاني: محاولة إدانة الامام في مجلس يضمّ زعيمي الجبهتين (جبهة الخلافة وجبهة الامامة)، ثم نقل هذه الادانة عن طريق ابواق البلاط كالخطباء ووعاظ السلاطين والجواسيس وبذلك يسجل لنفسه انتصارا علي خصمه. يدخل الامام مجلس الخليفة، وخلاف ما اعتاده الداخلون من السلام علي الخليفة بإمرة المؤمنين، يتوجه إلي كل الحاضرين، ويشيراليهم جميعا ويقول: السلام عليكم.. ودون أن ينتظر الاذن بالجلوس ياءخذ مكانه في المجلس. وهذا الموقف من الامام أضرم نار الحسدوالحقد في قلب هشام.. وبدأ هشام علي الفور يقول: يا محمد بن علي لايزال الرجل منكم قد

شقّ عصا المسلمين، ودعا الي نفسه، وزعم أنه الامام سفها وقلة علم، وجعل يوبّخه [28] . وبعد هشام أخذ أفراد بطانته يرددون مثل هذه التهم والتوبيخ..والامام ساكت في كل هذه المدّة ومطرق بوقار ينتظر فرصة الاجابة..وحين افرغت البطانة ما في كنانتها وخيّم السكوت علي المجلس،نهض الامام وتوجه الي الحاضرين، وبعد أن حمد اللّه واثني عليه وصلي علي نبيه، خاطب المجلس بعبارات قصيرة قارعة بيّن تفاهة هذه البطانة وانقيادها البهيمي كما بيّن فيها مكانته ومكانة أهل البيت وفق معايير اسلامية، واستخف بكل ما يحيط بالخليفة وحاشيته من هيل وهيلمان ومكانة وسلطان، فقال: «ايها الناس! اين تذهبون؟ واين يراد بكم؟ بنا هدي اللّه أولكم،وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجّل، فإن لنا ملكاً مؤجلاً،وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة. يقول اللّه عزّ وجل: والعاقبة للمتقين [29] . عبارات تظلّم وتهكّم وتبشير وتهديد وإثبات وردّ في جمل موجزة ذات وقع مثير تفرض علي سامعها الايمان بحقّانية قائلها.. ولم يكن أمام هشام سبيل سوي الامر بسجن الامام. الامام في سجنه واصل عمله التغييري فاءثّر علي من معه فيالسجن. بلغ الامر هشاما فكَبُر عليه أن يري حدوث مثل ذلك فيعاصمته المحصّنة من التاءثير العلوي. فاءمر أن يؤخذ السجين ومن معه علي مركب سريع (البريد) ويُرسل الي المدينة حيث مسكنه ومحل إقامته، وأمر أن لا يتعامل أحد في الطريق مع هذه القافلة المغضوب عليها ولا يزودها بماء أو طعام. [30] . مرّت ثلاثة أيام من السير المتواصل انتهي خلالها ما في القافلة من ماء وطعام. ووصلوا «مدين» . وأغلق اهل المدينة حسب ما لديهم من أوامر ابواب مدينتهم، وأبوا أن يبيعوا متاعا. اشتد علي أتباع الامام الجوع والعطش. صعد

الامام علي مرتفع يطل علي المدينة ونادي باءعلي صوته: بَقية اللّه خير(يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقية اللّه. يقول اللّه:.)لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ يقول الراوي: وكان بين اهل المدينة شيخ كبير فاءتاهم فقال: ياقوم هذه واللّه دعوة شعيب عليه السلام. واللّه لئن لم تخرجوا الي هذاالرجل بالاسواق لتؤخذنّ من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدّقونيوأطيعوني.. فاني لكم ناصح. استجاب اهل المدينة لدعوة الشيخ فبادروا وأخرجوا الي أبيجعفر واصحابه الاسواق. [31] . وآخر فصل في هذه الرواية يبين أيضاً بطش الخليفة العباسيوتجبّره. فبعد أن فتح اهل المدينة أبوابها للامام وصحبه، كُتب بجميع ذلك الي هشام. فكتب هشام إلي عامله علي مدين ياءمره باءن ياءخذالشيخ فيقتله رحمة اللّه عليه وصلواته. [32] . ومع كل ذلك، يتجنب الامام أيّ مواجهة حادّة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم. فلا يعمد الي سيف، ولا يسمح للأيدي المتسرّعة الي السلاح أن تشهره، ويوجهها توجيهاً حكيماً، وسيف اللسان أيضاً لايشهره إذا لم يتطلب عمله التغييري الاساسي الجذري ذلك. ولايسمح لأخيه زيد، الذي بلغ به الغضب مبلغه وثارت عواطفه أيمّاثورة، أن يخرج (يثور) بل يركز نشاطه العام علي التوجيه الثقافيوالفكري.. وهو بناء اساس ايديولوجي في اطار مراعاة التقية السياسية. ولكن هذا الاسلوب لم يكن يمنع الامام _ كما اشرنا _ من توضيح «حركة الامامة» لأتباعه الخلّص. وإذكاء أمل الشيعة الكبير، وهوإقامة النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحيانا الي إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب علي هذا الطريق.والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد من السبل التي مارسها الامام الباقرعليه السلام مع أتباعه. وهو يشير ايضاً الي تقويم الامام عليه السلام للمرحلة التي يعيشها من الحركة. يقول الحكم بن عيينة:

بينا أنا مع أبي جعفر عليه السلام والبيت غاص باءهله إذ أقبل شيخ يتوكّاء علي عنزة (عكازة) له حتي وقف علي باب البيت فقال: السلام عليك يابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.ثم سكت فقال ابو جعفر: وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته. ثم اقبل الشيخ بوجهه علي أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت حتي أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام. ثم أقبل بوجهه علي الامام وقال: يابن رسول اللّه أدنني منك جعلني اللّه فداك. فواللّه إنيلأحبكم وأحب من يحبكم، وواللّه ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا، وإني لاُبغض عدوكم وأبرأ منه، وواللّه ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍكان بيني وبينه. واللّه إني لأحل حلالكم واُحرّم حرامكم، وانتظرأمركم، فهل ترجو لي جعلني اللّه فداك؟ فقال الامام: إليَّإليَّ، حتي أقعده إلي جنبه ثم قال: «ايها الشيخ، إن أبي عليّ بن الحسين عليه السلام أتاه رجل فساءله عن مثل الذي ساءلتني عنه فقال له أبي عليه السلام: إن تمت ترد علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله وعلي عليّ والحسن والحسين وعلي عليّ بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقرّ عينك، وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين... وإن تعش تري ما يقرّ اللّه به عينك، وتكون معنا في السنام الاعلي» . قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشري: كيف يا أبا جعفر؟ فاءعاد عليه الكلام، فقال الشيخ:اللّه اكبر يا أبا جعفر، إن انا متُ أرد علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله وعلي علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقرُ عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي واُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لوقد بلغت نفسي ههنا، وإن أعش اري ما يقرُ اللّه به عيني، فاكون معكم في السنام

الاعلي؟ ثم اقبل الشيخ ينتحب حتي لصق بالأرض. وأقبل أهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الامام ان يناوله يده فقبّلها ووضعها علي عينه وخدّه، ثم ضمّها الي صدره، وقام فودّع وخرج والامام ينظر اليه ويقول: «من أحبّ أن ينظر الي رجل من أهل الجنة فلينظر الي هذا [33] . مثل هذه التصريحات، تذكي روح الامل في قلوبٍ تعيش جوّالاضطهاد والكبت، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام الاسلامي العادل. تسعة عشر عاماً من إمامة الباقر عليه السلام تواصلت علي هذاالخط المستقيم المتماسك الواضح.. تسعة عشر عاماً من التعليم الايديولوجي، والبناء، والتكتيك النضالي، والتنظيم، وصيانة وجهة الحركة، والتقية، وإذكاء روح الأمل.. تسعة عشر عاماً من مسيرشائك وعر يتطلب كثيراً من الجدّ والجهد. وحين أشرفت هذه الاعوام علي الانتهاء وأوشكت شمس عمره المبارك علي المغيب، تنفّس اعداؤه الصعداء، لأنهم بذهاب هذا القائد الموجّه سوف يتخلّصون من مصدر إثارةٍ طالما قضّ مضاجعهم وسرق النوم من عيونهم. لكنّالامام خيّب آمالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة، حين جعل من وفاته مصدر عطاء، ومنطلق إثارة، ووسيلة توعية مستمرة! لقد وجّه ولده الصادق عليه السلام في اللحظات الاخيرة من حياته توجيهاً يمثل نموذجاً رائعاً من نماذج التقية التي مارسها الامام الباقر عليه السلام والاسلوب الذي استعمله في مرحلته الزمنية الخاصة. في الرواية عن ابي عبداللّه الصادق عليه السلام قال: «قال لي أبي: يا جعفر أوقف ليمن مالي كذا وكذا النوادب تندبني [34] عشر سنين بمني أيام مني. [35] . وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث في حياة الامام الباقر وغفلواعما فيها من دلالات كبيرة. لقد خلّف الامام (800) درهم، وأوصي أن

يخصص جزء منها لمن يندبه في مني.. وندب الامام في مني له معني كبير. إنه عملية إحياء ذلك المصدر الذي كان يشعّ دائماً بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماس والمقاومة. واختيار مني بالذات يعني مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كل أرجاء العالم الاسلامي، خلال فترة الاستقرار الوحيدة فيموسم الحج. فكل مناسك الحج يمرّ بها الحاج وهو في حركة دائبة مستمرة، الاّ في مني، حيث يبيت الليلتين او الثلاث، فيتوفر لديه الوقت الكافي لكي يسمع ويطّلع. وندب الامام في هذا المكان سيثيرالتساؤل عن شخصية هذا المتوفّي، من هو؟ فيحصلون علي الجواب من أهل المدينة الذين عاصروه. انه من أبناء رسول اللّه، واستاذالفقهاء والمحدّثين. ولماذا يندب في هذا المكان؟ الم يكن موته طبيعياً؟من الذي قتله أو سمّه؟ هل كان يشكل خطراً علي الجهاز الاُموي؟ و..و.. عشرات الاسئلة كانت تثار حين يندب الامام في هذا المكان. ثم يحصل السائلون علي الاجابة.. وتنتشر الاخبار في اطراف البلادوأكنافها بعد عودة الحجيج الي أوطانهم. وكان هناك في مواسم الحج من ياءتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه التساؤلات مغتنماً فرصة تجمّع المسلمين، وليبثّ روح التشيّع من خلال أعظم قناة إعلامية آنذاك. هكذا عاش الامام، وهكذا خطط لما بعد وفاته، فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم استشهد في سبيل اللّه ويوم يبعث حيا. توفّي الامام الباقر عليه السلام وهو في السابعة والخمسين من عمره، علي عهد هشام بن عبدالملك، وهو من اكثر ملوك بني اُمية اقتداراً. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة الاُموية آنذاك من مشاكل ومتاعب، فإن ذلك لم يصرفها عن التآمر علي القلب النابض للشيعة،أي الامام الباقر، فاءوعز هشام الي عملائه أن يدُسّوا السم للإمام،وحقق بذلك انتصاره في القضاء

علي أخطر أعدائه.

قيادة الامام الصادق

اشارة

وتحمّل الامام الصادق عليه السلام مسؤولية مواصلة المسيرة فيظروف معقّدة وصعبة للغاية. فالانتفاضات تنشب في طول البلاد وعرضها، والولاة منهمكون بجمع الأموال والثروات الطائلة [36] ، والطاعون والقحط يضرب مناطق واسعة منها خراسان والعراق، والجهاز الحاكم يبطش دون رحمة، ويخلق حالة من الذلّ والخنوع بين الناس. والمنشغلون بالعلوم الاسلامية من فقه وحديث وتفسير لم يكن خطرهم غالباً يقلّ عن خطر الساسة والحكّام، وهم الذين يُفترض بهم أن يكونوا ملاذَالناس وملجاءَهم، كثير من هؤلاء كانوا يدبّجون الفتاوي ليرضواالسلطان والولاة [37] وكثيرٌ منهم كانوا يشغلون أنفسَهم ويشغلون الناسَ بتوافهِ الأمور، ويُثيرون النزاعات الكلامية الفارغة التي لاتمتّ بصلة الي الاسلام والي معاناة الجماهير. مهمة الامام الصادق عليه السلام في هذه الظروف المظلمة هي ماذكرناه بشاءن مهمة الامامة، وتتلخص في طرح الفكر الاسلاميالصحيح، أي تبيين الاسلام كما جاء في القرآن وسنة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله مع مكافحة كل الانحرافات والتشويهات الجاهلة والمغرضة، وكذلك التخطيط لإقامة نظام العدالة الاسلامية، وصيانة هذا النظام في حالة إقامته. كلا المهمتين: المهمة الفكرية والمهمة السياسية، تشكّلان خطراًكبيراً علي النظام الحاكم. ليست المهمة السياسية وحدها تثير سخط السلطة، فالمهمة الفكرية أيضاً تلغي تلك الافكار والمفاهيم المنحرفة التي قدمها السلطان ووعّاظه باسم الدين الي المجتمع. [38] من هنا فإن العملية الفكرية لها الاولوية، لأنها تقضي علي الزيف الديني الذييستند اليه الجهاز الحاكم في مواصلة ظلمه. من جهة اخري فإن الاوضاع السائدة مستعدة للفكر الشيعي الثوري، والحرب والفقروالاستبداد عوامل تغذّي روح الثورة، أضف الي ذلك عامل الاجواءالتي وفّرها نشاط الامام الباقر عليه السلام في المناطق القريبة والنائية. ان الاستراتيجية العامة للامامة هي النهوض بثورة توحيدية علوية. ومتطلّباتها هي: أولاً: إيجاد مجموعة

تحمل فكر الامامة وتهضمه، وتتطلع بشوق الي تطبيقه. وثانياً: إيجاد مجموعة منظّمة مجاهدة مضحّية. وهذه المتطلّبات تستلزم بدورها نشر الدعوة في جميع أرجاءالعالم، وإعداد الارضية النفسية لتقبّل الفكر الاسلامي الثائر في جميع الاقطار، وتستلزم أيضاً دعوة أخري لإعداد افراد مضحّين متفانين يشكلون التنظيم السرّي للدعوة. وهذا هو سرّ صعوبة الدعوة علي طريق الامامة الحقّة. فالدعوة الرسالية التي تستهدف القضاء علي الطاغوت، وعلي التفرعن والتجبّروالعدوان والظلم في المجتمع، وتلتزم بالمعايير الاسلامية، لا بدّ أن تستند الي ارادة الجماهير وقوّتها وإيمانها ونضجها. خلافاً لتلكالدعوات التي ترفع شعار محاربة الطغاة، وهي تمارس في الوقت نفسه أعمال الطغاة والظَلَمة في حركتها، دون أن تتقيّد بمبادئ أخلاقية واجتماعية. فمثل هذه الدعوات لا تواجه صعوبات الدعوات الرسالية الهادفة، وهذا هو سرّ عدم تحقق أهداف حركة الامامة علي المدي العاجل، وهو أيضاً سرّ الانتصار السريع للحركات الموازية لحركة الامامة (مثل حركة العباسيين). الظروف المساعدة والارضية المناسبة التي وفّرها نشاط الامام السابق _ الباقر عليه السلام _ أدّت الي أن يظهر الامام الصادق عليه السلام _ في جوّ العذاب الطويل الذي عاني منه الشيعة _ بمظهر الفجرالصادق الذي ينتظره اتباع أهل البيت في سالف أيامهم. والامام الباقر عليه السلام ذكر بالاشارة والتصريح ما يركز هذا المفهوم. عن جابر بن يزيد الجعفي: «سئل الامام الباقر عليه السلام عن القائم فضرب يده علي ابي عبداللّه عليه السلام وقال: هذا واللّه ولدي قائم آل بيت محمد صلّي اللّه عليه وآله [39] . والقائم هنا طبعاً غير قائم آل محمد في آخر الزمان، وهو المهديعليه السلام الذي تواترت الروايات لدي كل المسلمين أنه يظهر فيآخر الزمان، وأنه الخليفة الثاني عشر من خلفاء رسول اللّه. القائم هنابمعناه اللغوي

ينطبق علي كل من ينهض بوجه الظلم والاستبداد، وهواصطلاح معروف في مدرسة أهل البيت، ولا يعني ذلك أن يكون القائم بالسيف بالضرورة. بل إنه يقوم بهجوم ثقيل خطير، سواء فياسلوب النشاط الفكري او التنظيمي او باءية صورة اُخري تستهدف مقارعة الظالمين ومهاجمتهم. فالامام الباقر عليه السلام يركّز هنا علي مفهوم نهوض الامام الصادق عليه السلام بمسؤولية كبيرة تجاه السلطة القائمة، ولا يركّز علي النتيجة.. بل في رواية اخري يتحدّث بلغة تكاد تكون يائسة من امكان انتصار حركة الامامة علي الوضع السياسي القائم. ومن الروايات التي يركّز فيها الامام الباقر عليه السلام علي الدورالذي سينهض به الامام الصادق عليه السلام ما رواه ابو الصباح الكناني قال: «نظر أبو جعفر الي ابنه أبي عبداللّه فقال: تري هذا؟ هذا ونريد أن نمنّ علي الذين استضعفوا في من الذين قال اللّه تعالي: (الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) [40] . ولعل تصريحات الامام هذه هي التي أشاعت فكرة قيام الامام الصادق وخلافته بين الشيعة، وجعلت اصحاب الباقر والصادق عليهما السلام يترقبون ساعة الصفر بين آونة واُخري. في رجال الشيخ الكشي رواية يمكن أن نفهم منها هذه الحالة السائدة بين اتباع أهل البيت آنذاك: روي ابن مسكان عن زرارة، انهُ ساءل ابا عبداللّه عليه السلام عن رجل من اصحابنا مختفٍ من غرامة. فقال: اصلحك اللّه، ان رجلاً من اصحابنا كان مختفياً من غرامة، فان كان هذا الامر قريباً صبر حتي يخرج مع القائم، وان كان فيه تاءخير صالح غرامةً؟ فقال لهُ ابو عبداللّه عليه السلام: يكون، فقال زرارة: يكون الي سنة؟ فقال ابو عبداللّه عليه السلام: يكون إن شاء اللّه، فقال زرارة: يكون الي سنتين؟ فقال ابو عبداللّه عليه السلام: يكون

إن شاء اللّه، فخرج زرارة فوطّن نفسه علي ان يكون الي سنتين فلم يكن، فقال: ما كنت اري جعفراً الااعلم مما هو. [41] . وعبارة «هذا الامر» في عرف اتباع اهل البيت كناية عن المستقبل الموعود لهم، أي استلام زمام الحكم أو القيام بما يقرّبهم من ذلك كالثورة المسلّحة مثلاً. والقائم هو الذي يقود تلك العملية. وفي رواية اخري يذكر هشام بن سالم، وهو أيضاً من وجوه الشيعة المعروفة، أن زرارة قال له: لا تري علي اعوادها غير جعفر،قال: فلما توفي ابو عبداللّه عليه السلام اتيته فقلت له: تذكر الحديث الذي حدثتني به؟ وذكرته له، وكنت اخاف ان يجحدنيه، فقال: اني واللّه ما كنت قلت ذلك الا برأيي. [42] . من مجموع ما تقدم نفهم أن الامام الصادق عليه السلام كان في نظرأبيه وفي نظر الشيعة مظهر آمال الامامة والتشيّع. وكاءن سلسلة الامامة قد ادّخرته ليجسّد مساعي الامام السجاد والامام الباقرعليهما السلام. كاءنه هو الذي يجب أن يعيد بناء الحكومة العلوية والنظام التوحيدي، يجب أن ينهض نهضة اسلامية أخري. الامامان السابقان طويا المراحل الصعبة الشاقة لهذا الطريق اللاحب، وعليه أن يقطع المرحلة الاخيرة، والظروف _ كما ذكرنا _ قد تهيّاءت، والامام استثمر هذه الظروف لينهض برسالته الجسيمة. منذ بداية استلام المسؤولية حتي الوفاة، قضي 33 عاماً في جهادمتواصل، وخلال هذه الاعوام كانت الظروف في مدّ وجزر، مرّة تتجه لصالح مدرسة اهل البيت، ومرة اخري تعاكسها، مرّة تبعث علي التفاؤل وعلي أن النصر قريب، ومرة اخري تشتدّ الضغوط وتختنق الانفاس، فيخيّل الي أصحاب الامام أن كل الآمال قد تبدّدت.والامام الصادق عليه السلام في كل هذه الاحوال ماسك بدفّة القيادة بعزم وتصميم، يجتاز بالسفينة عبر هذه الامواج

المتلاطمة الممزوجة بالامل والياءس، لا يفكر الا بما يجب قطعه في المستقبل من أشواط،باعثاً الجد والنشاط والايمان في اتباعه للوصول الي ساحل النجاة. ويلزمنا هنا أن نشير الي ظاهرة مؤسفة تواجه كل الباحثين فيحياة الامام الصادق عليه السلام، وهي الغموض الذي يكتنف السنين الاولي لبدايات إمامة الصادق عليه السلام التي اقترنت باءواخر أيام بني اُمية. كانت حياة صاخبة متلاطمة مليئة بالحوادث الجسام، يمكن أن نفهم بعض ملامحها من خلال مئات الروايات. غيرأن المؤرخين والمحدّثين لم يعرضوا لنا هذه الفترة بشكل مرتّب منسجم مترابط، ولابدّ للباحث أن يعتمد علي القرائن، وأن يلاحظ التيارات العامة في ذلك الزمان، ويقرن كل رواية بما حصل عليه من معلومات مسبقة، ليفهم محتوي الرواية وتفاصيلها. ولعلّ أحد أسباب هذا الابهام يكمن في سريّة حركة الامام وأتباعه.. فالتنظيم السرّي القائم علي اُسس صحيحة يجب أن تبقي المعلومات عنه سرية مخفية، وأن لا يطّلع عليها من هو خارج التنظيم.ولا تنتشر هذه المعلومات الا بعد أن تحقق الحركة انتصارها. ومن هناتتوفّر لدينا معلومات وافية عن تفاصيل الاتصالات السرية فيحركة العباسيين، لأن حركتهم انتصرت. ولا شكّ أن حركة أهل البيت لو قُدّر لها أن تنتصر وتستلم زمام الامور لاطّلعنا اليوم علي أسرار تنظيمها الواسع. وثمّة سبب آخر يمكن أن يكون عاملاً في هذا الغموض، هو أن المؤرّخين كانوا يدوّنون عادة ما يرضي السلطان، ولذلك نري فيكتبهم تفاصيل حياة الخلفاء ولهوهم ولعبهم وسهراتهم ومجالس طربهم، بينما لا نري شيئاً يؤبه له بشاءن الثائرين والمظلومين والمسحوقين، لأن مثل هذه المعلومات تحتاج من الباحث أن يتحرّي ويبحث ويخاطر، بينما حياة الخلفاء مادة جاهزة، وغنيمة باردة تكسب الرضا وتستدر العطاء. والمؤرّخون الخاضعون للخلافة العباسية استمروا يكتبون علي هذاالمنوال مدة

خمسمائة سنة بعد حياة الامام الصادق عليه السلام، ومن هنا لا يمكن أن نتوقع العثور علي شيء معتدّ به من المعلومات عن حياة الامام الصادق عليه السلام أو أي إمام من أئمة الشيعة في مثل هذه المصادر. الطريق الوحيد الذي يستطيع أن يهدينا الي الخط العام لحياة الامام الصادق عليه السلام هو اكتشاف المعالم الهامة لحياة الامام من خلال الاصول العامة لفكر الامام وأخلاقه. ثم نبحث في القرائن والأدلّة المتناثرة التاريخية والقرائن الاخري غير التاريخية لنتوصل الي التفاصيل.

معالم حياة الامام الصادق

اشاره

والمعالم الهامة البارزة في حياة الامام الصادق عليه السلام وجدتها من منظار بحثنا تتلخص بما يلي: 1 _ تبيين مساءلة الامامة والدعوة إليها. 2 _ بيان الاحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة أهل البيت عليهم السلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله. 3 _ اقامة تنظيم سرّي ايديولوجي _ سياسي. وطريقة بحثنا أن ندرس كل واحد من هذه المعالم، ونضع في النهاية فهرساً لنشاطات الامام عليه السلام، وأن يكون ذلك قدر المستطاع باُسلوب المؤرّخين لا باُسلوب المحدّثين.

تبيين مسألة الامامة والدعوة اليها

هذا الموضوع يشكل أبرز خصائص دعوة أئمة أهل البيت، منذالسنوات الاولي التي اعقبت رحيل النبي الأكرم صلّي اللّه عليه وآله.كانت مساءلة إثبات إمامة أهل البيت عليهم السلام تشكّل طليعة الدعوة في كل أعصار الامامة.. هذه المساءلة نشاهدها أيضاً في ثورة الحسين بن علي عليهما السلام، ونشاهدها بعد ذلك أيضاً في ثورات أبناء أئمة أهل البيت، مثل زيد بن علي. ودعوة الامام الصادق عليه السلام لم تخرج عن هذا النطاق أيضاً. قبل أن نستعرض وثائق هذا الموضوع، يجب علينا أن نعرف أولاًمفهوم «الامامة» في الفكر الاسلامي. وما معني الدعوة الي الامامة؟ كلمة «الامامة» تعني في الاصل القيادة بمعناها المطلق، وفي الفكرالاسلامي تطلق غالباً علي مصداقها الخاص، وهو القيادة في الشؤون الاجتماعية، الفكرية منها والسياسية. وأينما وردت في القرآن مشتقات لكلمة الامامة (امام، أئمة)، فيرادبها هذا المعني الخاص لقيادة الامة. ففي بعض المواضع يقصد بهاالقيادة الفكرية وفي مواضع اُخري يراد بها القيادة السياسية، اوالاثنتين معا. بعد رحيل النبي صلّي اللّه عليه وآله وظهور الانشقاق الفكريوالسياسي بين المسلمين اتخذت كلمة الامامة والامام مكانة خاصة،لأن مساءلة القيادة السياسية شكّلت المحور الاساس للاختلاف.والكلمة كان لها في البداية مدلولها السياسي اكثر

من أي مدلول آخر،ثم انضمّت اليها بالتدريج معانٍ أخري، حتي أصبحت مساءلة «الامامة» تشكّل في القرن الثاني أهم مسائل المدارس الكلامية ذات الاتجاهات الفكرية المختلفة، وكانت هذه المدارس تطرح آراءهابشاءن شروط الامام وخصائصه، أي شروط الحاكم في المجتمع الاسلامي، وهو معني سياسي للامامة. إن الامامة في مدرسة اهل البيت _ التي يري أتباعها أنهم يمثلون أنقي تيار فكري اسلامي _ لها المعني نفسه، ونظرية هذه المدرسة بشاءن الامامة تتلخص فيما يلي: الامام والزعيم السياسي في المجتمع الاسلامي يجب أن يكون منصوباً من اللّه، بإعلان من النبي. ويجب أن يكون قائداً فكرياًومفسّرا للقرآن وعالماً بكل دقائق الدين ورموزه، ويجب أن يكون معصوماً مبرّاءً من كل عيب خلقي واءخلاقي وسببي. ويجب اءن يكون من سلالة طاهرة نقية و... وبذلك فإن الامامة كانت في العرف الاسلامي خلال القرنين الاول والثاني تعني القيادة السياسية، وفي العرف الخاص باءتباع أهل البيت تعني، اضافة الي القيادة السياسية، القيادة الفكرية والاخلاقية ايضاً. فالشيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون ذلك الفرد متمتعاًبخصائص هي _ اضافة الي قدرته علي ادارة الامور الاجتماعية _مقدرته علي التوجيه والارشاد والتعليم في الحقل الفكري والديني،والتزكية الخلقية. وإن لم تتوفر فيه هذه المقدرة لا يمكن أن يرقي الي مستوي «الامامة الحقة» . وليس بكاف _ في نظرهم _ حسن الادارة السياسية والاقتدار العسكري والفتوحات وأمثالها من الخصائص التي كانت معياراً كافياً لدي غيرهم. فمفهوم الامامة لدي اتباع أهل البيت _ اذن _ يتجه الي اعطاء إمامة المجتمع صفة قيادة ذلك المجتمع في مسيرته الجماعية والفردية. فالامام رائد مسيرة التعليم والتربية وقائد المسيرة الحياتية. ومن هنا كان «النبي» صلّي اللّه عليه وآله إماماً أيضاً، لأنه القائد الفكري والسياسيللمجتمع الذي أقام

دعائمه. وبعد النبي تحتاج الامة الي امام يخلفه ويتحمل عب ء مسؤولياته، (بما في ذلك المسؤولية السياسية). ويعتقدالشيعة أن النبي نصّ علي خلافة علي بن ابي طالب عليه السلام، ثم تنتقل الامامة بعده الي الائمة المعصومين من ولده. [43] . ولا بدّ من الاشارة الي أن تداخل المهام الثلاث للامامة: القيادة السياسية، والتعليم الديني، والتهذيب الاخلاقي والروحي في الامامة الاسلامية ناشيء من عدم وجود تفكيك بين هذه الجوانب الثلاثة فيالمشروع الاسلامي للحياة البشرية. فقيادة الامة يجب أن تشمل قيادتها في هذه الحقول الثلاثة أيضاً. وبسبب هذه السعة وهذه الشمولية في مفهوم الامامة لدي الشيعة كان لا بد أن يعيّن الامام من قبل اللّه سبحانه. نستنتج مما سبق أن الامامة ليست، كما يراها اصحاب النظرة السطحية، مفهوماً يقابل «الخلافة» و «الحكومة» أو منصباً منحصراًبالامور المعنوية والروحية والفكرية، بل إنها في الفكر الشيعي «قيادة الامة» في شؤون دنياها، وما يرتبط بذلك من تنظيم للحياة الاجتماعية والسياسية (رئيس الدولة). وأيضاً في شؤون التعليم والارشادوالتوجيه المعنوي والروحي، وحلّ المشاكل الفكرية وتبيين الايديولوجية الاسلامية. «قيادة فكرية» . وهذه المساءلة الواضحة أضحت _ مع الاسف _ غريبة علي أذهان اكثر المعتقدين بالامامة، ولذلك نري من الضروري عرض بعض النماذج من مئات الوثائق القرآنية والحديثية في هذا المجال: في كتاب «الحجة» من «الكافي» حديث عن الامام علي بن موسي الرضا عليه السلام يذكر فيه بالتفصيل ما يرتبط بمعرفة الامام ووصف الامام، ويتضمّن معاني عميقة ورائعة. من ذلك ما ورد بشاءن الامامة باءنها: «هي منزلة الانبياء، وإرث الاوصياء، ان الامامة خلافة اللّه، وخلافة الرسول، ومقام أميرالمؤمنين عليه السلام وميراث الحسن والحسين عليهما السلام، ان الامامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين،ان

الامامة أسّ الاسلام النامي، وفرعه السامي، بالامام تمام الصلاة والزّكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاءالحدود والاحكام، ومنع الثغور والاطراف. [44] . وحول الامام انه:» «النجم الهادي، والماء العذب، والمنجي من الردي، والسحاب الماطر، ومفزع العباد في الداهية، وأمين اللّه في خلقه، وحجّته علي عباده، وخليفته في بلاده، والداعي الي اللّه، والذاب عن حرم اللّه،ونظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين. [45] . كل ما كان يمارسه النبي صلّي اللّه عليه وآله من مسؤوليات ومهام يتحملها علي عليه السلام والأئمة من ولده. [46] . وفي رواية أخري عن الامام الصادق عليه السلام نري تاءكيداً علي إطاعة «الاوصياء» وتوضّح الرواية أن الاوصياء هم نفسهم الذين عبّر عنهم القرآن باءولي الامر. [47] . مئات الروايات المتفرّقة في الابواب المختلفة تصرّح أن مفهوم الامام والامامة في الفكر الشيعي ما هو الا القيادة وإدارة شؤون الاُمة المسلمة، وأن أئمة أهل البيت عليهم السلام هم الاصحاب الحقيقيون للحكومة. وتدل جميعاً بما لا يقبل الشك علي أن أئمة أهل البيت عليهم السلام في ادّعائهم الامامة كانوا لا يقتصرون بالمطالبة علي المستوي الفكري والمعنوي، بل كانوا يطالبون بالحكومة أيضاً. ودعوتهم علي هذا النطاق الواسع الشامل انما هي دعوة لحركة سياسية عسكرية لاستلام السلطة. هذه الحقيقة ظلت خافية علي الباحثين في العصور التالية [48] ، بينماكانت في فهم اصحاب الائمة والمعاصرين لهم من أوضح الحقائق،حتي أن «الكميت» في احدي قصائده الهاشميات يصف أئمة أهل البيت عليهم السلام باءنهم ساسة يقودون الناس بطريقة تختلف تماماً عن الطريقة التي يمارسها الحكام الظلمة الذين يعاملون الناس كالبهائم. [49] . نعود الي الموضوع الأصلي وهو أن بيت القصيد في دعوة الامام الصادق عليه السلام وسائر

أئمة اهل البيت عليهم السلام كان يدورحول «الامامة» . ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية، أمامنا روايات متضافرة تنقل بوضوح وصراحة عن الامام الصادق عليه السلام ادّعاءه الامامة. وكما سنوضح فيما بعد، أن الامام حين يعلن دعوته هذه كان يري نفسه في مرحلة من الجهاد تستدعي أن يرفض بشكل مباشر صريح حكّام زمانه، وأن يعلن نفسه باءنه صاحب الحق الواقعي، وصاحب الولاية والامامة. ومثل هذا التصدّي يعني عادة اجتياز سائر المراحل الجهادية السابقة بنجاح. ولابدّ أن يكون الوعيالسياسي والاجتماعي قد انتشر في قاعدة واسعة، وأن الاستعدادمحسوس بالقوة في كل مكان، وأن الارضية الإيديولوجية قد توفرت في عدد ملحوظ من الافراد، وان جمعاً غفيراً آمن بضرورة إقامة حكومة الحق والعدل، وأن يكون القائد _ أخيراً _ قد اتخذ قراره الحاسم بشاءن هذه المواجهة الساخنة. وبدون هذه المقدمات فإن اعلان إمامة شخص معين وقيادته الحقة للمجتمع أمر فيه تعجّل ولاجدوي منه. المساءلة الاخري، التي لا بدّ من التركيز عليها في هذا المجال، أن الامام ما كان يكتفي في بعض الموارد باثبات إمامته وحسب، بل يذكرالي جانب اسمه أسماء أئمة الحق من أسلافه أيضاً، أي إنه يطرح فيالحقيقة سلسلة ائمة أهل البيت بشكل متصل غير قابل للتجزئة والانفصال. هذا الموقف يشير الي ارتباط جهاد أئمة أهل البيت عليهم السلام وتواصله من الأزمنة السابقة الي عصر الامام الصادق عليه السلام.ان الامام الصادق عليه السلام يقرر امامته باعتبارها النتيجة الحتمية المترتبة علي إمامة اسلافه، وبذلك يبين جذور هذه الدعوة وعمقها فيتاريخ الرسالة الاسلامية، وارتباطها بصاحب الدعوة الرسول الاكرم عليه أفضل الصلاة والسلام. ولنعرض بعض نماذج دعوة الامام: أروع رواية في هذا الباب عن «عمرو بن أبي المقدام» ، وفيهاتصوير لواقعة عجيبة. في

يوم التاسع من ذي الحجة اذ اجتمع الحجاج في عرفة لأداءمنسك الوقوف، وقد توافدوا علي هذا الصعيد من كل فج عميق.. من أقصي خراسان حتي سواحل الاطلنطي.. والموقف حساس وخطير،والدعوة فيه تستطيع أن تجد لها صدي في أقاصي العالم الاسلامي.انضمّ الإمام عليه السلام الي هذه الجموع الغفيرة المحتشدة، ليوصل اليها كلمته، يقول الراوي: رأيت الامام قد وقف بين الجموع ورفع صوته عالياً ليبلُغ أسماع الحاضرين ولينتقل الي آذان العالمين وهوينادي: «أيها الناس، إن رسول اللّه كان الامام ثم كان علي بن ابي طالب،ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم...» فيناديثلاث مرات لمن بين يديه، وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه، اثنيعشر صوتاً. [50] . ورواية أخري عن «ابي الصباح الكناني» أن الامام الامام الصادق عليه السلام يصف نفسه وأئمة الشيعة باءن لهم «الانفال» و «صفو المال» .. عن ابي الصباح قال: قال لي ابو عبداللّه عليه السلام: «يا أباالصباح، نحن قوم فرض اللّه طاعتنا، لنا الانفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال اللّه في كتابه [51] . و «صفو المال» هو من الاموال ذات القيمة الرفيعة في غنائم الحرب، وكان لا يقسم كما تقسم الغنائم بين المجاهدين، كي لا يستاءثربه أحد دون آخر، ويكون كرامة كاذبة لأحد من الناس، بل إنه يبقي لدي الحاكم الاسلامي يتصرّف به لما يحقق مصلحة عامة المسلمين.وكان الحكام الظلمة يستاءثرون بهذا المال ويجعلونه مختصاً بهم غصباً.والامام يصرّح باءن «صفو المال» يجب أن يكون لهم، وهكذا الانفال.وهذا يعني أنه يعلن نفسه بصراحة حاكماً شرعياً للمسلمين مسؤولاًعن استثمار هذه الاموال وفق ما يراه تحقيقاً لمصلحة الامة. وفي حديث آخر يذكر الامام

الصادق عليه السلام اسماء اسلافه من الأئمة عليهم السلام واحداً واحداً، ويشهد بإمامتهم وبوجوب طاعتهم، وحين يصل الي نفسه يسكت، والمخاطبون يعلمون جيداً أن ميراث العلم والحكم بعد الامام الباقر عليه السلام وصل الي الامام الصادق. وبذلك يعلن الامام عليه السلام حقه في قيادة الامة باُسلوب يجعله مرتبطاً بجدّه علي بن ابي طالب عليه السلام. [52] وفيابواب كتاب الحجة من «الكافي» وكذلك في الجزء 47 من «بحارالانوار» أحاديث كثيرة من هذا القبيل، تتحدث بصراحة أو بكناية عن ادّعاء الامامة والدعوة اليها. ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية أمامنا شواهد عن شبكة منظمة لدعوة الامام عليه السلام في جميع أرجاء العالم الاسلامي، والوثائق الكثيرة المتوفرة في هذا المجال تجعل وجود هذه الشبكة أمراً حتمياً لامراء فيه. وهذه الشواهد تبلغ من الكثرة والوثوق بحيث يمكن أن نستدل بها علي موضوعنا استدلالاً قاطعاً، ولو لم يتوفر حديث صريح واحد في هذا المجال. نحن في هذا المجال أمام ظواهر تاريخية ثابتة: 1 _ ثمة ارتباط منظم فكري ومالي بين الائمة عليهم السلام وأتباعهم، وكانت الأموال تُحمل من اطراف العالم الي المدينة كذلكوالاسئلة الدينية تتقاطر عليها. 2 _ اتساع الرقعة الموالية لآل البيت عليهم السلام خاصة في البقاع الحساسة من العالم الاسلامي. 3 _ تجمّع عدد غفير من المحدثين والرواة الخراسانيين والسيستانيين والكوفيين والبصريين واليمانيين والمصريين حول الامام عليه السلام. فهل إن هذه الظواهر المنسجمة المتناسبة مع بعضها قد حدثت بالصدفة؟ ولا بد أن نضيف أن هذه الظواهر حدثت في ظل سيطرةٍ سياسية كانت جادّةً كل الجدّ في الغاء حتي اسم علي وآل علي عليه السلام، بل وسبّ علي علي المنابر، وتسليط انواع البطش والارهاب علي أتباعهم. فكيف أمكن في مثل هذا

الجوّ خلق قاعدة شعبية عريضة موالية لآل البيت تطوي آلاف الاميال للوصول الي الحجاز والمدينة لتتلمذ علي أئمة أهل البيت عليهم السلام وتاءخذ عنهم فكر الاسلام فيالحياة الفردية والاجتماعية، وتتحدث معهم في موارد كثيرة وعن مسائل الثورة علي الوضع الفاسد، أو بعبارة الروايات، تتحدث معهم عن مسائل القيام والخروج؟!! فلو كان دعاة أهل البيت يقتصرون في حديثهم علي علم الأئمة عليهم السلام وزهدهم، فلماذا يدور الحديث في وسط هؤلاء الاتباع دائماً عن الثورة المسلحة؟ ألا يدلّ كل هذا علي وجود شبكة منظمة للدعوة الي إمامة أهل البيت عليهم السلام بالمعني الكامل للامامة، أي الفكرية والسياسية؟ وهنا يطرح سؤال عن سبب سكوت التاريخ عن وجود مثل هذه الشبكة المنظمة في دعوة أهل البيت عليهم السلام، لماذا لم يذكر التاريخ صراحة شيئاً عنها؟ والجواب ما أشرنا اليه سابقاً، يكمن في التزام أصحاب الأئمة بالمبدأالحركي الحكيم المسمّي بالتقية، الذي يحول دون نفوذ أي عنصر أجنبيفي تنظيم الامام. كما يكمن أيضاً في عدم استطاعة الحركة الجهادية الشيعية من تحقيق أهدافها ومن استلام زمام الحكم. لو أن بني العباس لم يستولوا علي السلطة لبقيت دون شك كل نشاطاتهم السرية وذكريات دعوتهم، مرّها وحلوها، حبيسة فيالصدور، دون أن يعلم بها أحد ودون أن يسجلها التاريخ. ومع ذلك، ليست قليلة هي الروايات التي تصرّح الي حدّ مابوجود دعوة واسعة لإمامة أهل البيت عليهم السلام. ونكتفي برواية تقول: قدم رجل من أهل الكوفة الي خراسان، فدعا الناس الي ولاية جعفر بن محمد عليهما السلام، ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت، وفرقة ورعت ووقفت... ثم تقول الرواية: فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا علي أبي عبداللّه عليه السلام فكان المتكلم منهم،الذي ورع ووقف. فقال:

أصلحك اللّه، قدم علينا رجل من أهل الكوفة فدعا الناس الي طاعتك وولايتك، فاءجاب قوم وأنكر قوم وورع قوم ووقفوا. قال الامام عليه السلام: فمن أي الثلاث أنت؟قال: من الفرقة التي ورعت ووقفت. قال: فاءين كان ورعك ليلة كذاوكذا (وذكّره بسقوطه في موقف شهواني)، فارتاب الرجل [53] . الداعية كما تري من أهل الكوفة، ومنطقة الدعوة خراسان، واسم الرجل مكتوم، ودعوته الي إمامة جعفر بن محمد الصادق عليهماالسلام وولايته وطاعته. ثمة وثائق أخري تبين محتوي دعوة ائمة اهل البيت عليهم السلام وشيعتهم الي الامامة، تعرضها المناقشات والمجادلات بينهم وبين خصومهم السياسيين (الامويين والعباسيين). هذه المنازعات كانت تدور احياناً بلغة الاستدلال الكلامي والديني، وأحياناً بلغة الادب الرفيع المتمثل بالشعر. وكان كل الحِجاج يقوم علي أساس إثبات حق الامامة السياسية والحكم لأئمة اهل البيت عليهم السلام، ومقارعة المتربّعين ظلماً وغصباً علي كرسي حكومة المسلمين. ان عصر الامام الصادق عليه السلام _ لمعاصرته حركة بني العباس وانتصار هذه الحركة _ كان مفعما بهذا اللون من الحِجاج. كان شعراء بني العباس يحاولون اثبات حق الحكم لبني العباس استناداً الي الادلة نفسها التي يقدمها عادة الطامعون الي السلطة والمتشبثون بكرسي الحكم. ويقف شعراء الشيعة مقارعين لحججهم مستدلّين علي زيف الحكم العباسي من منطق اسلامي، يقوم علي أساس رفض الظلم والاجرام والخيانة بحق الامة الاسلامية. وللحِجاج الشعري بين العباسيين والعلويين أهمية في هذا المجال، لماكان ينهض به الشعر آنئذ من دور كبير في التعبير عن العواطف والافكار، ولما كان يؤديه في القاعدة الشعبية من تاءثير. يذكر صاحب كتاب «العباسيون الاوائل» دور الادب في القرنين الاول والثانيفيقول: «.. كان الادب يؤثر في النفوس ويكسب عواطف الناس وميولهم الي هذه الفئة أو تلك،

وكان الشعراء والخطباء بمثابة جريدة العصر،يعبّر كل منهم عن رأي سياسي ويدافع عن حزب معين، مبرزاً الدليل تلو الدليل علي صحة دعواه، مفنّداً آراء الخصوم بكلام مؤثروأسلوب بليغ [54] . شعراء البلاط العباسي كانوا يجتهدون في اثبات حق العباسيين فيالخلافة، باعتبار ارتباطهم بالنبي عن طريق العمومة، مستدلين علي ذلك باءن الارث لا ينتقل الي أبناء البنت مع وجود الاعمام. فالخلافة بعد النبي من حقّ العباس عم النبي ومن بعده أبناؤه من بني العباس: قال مروان بن أبي حفصة: أنّي يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام وقال ابان بن عبدالحميد اللاحقي: فاءبناء عباس همُ يرثونه كماالعمُلابنِالعم فيالارث قدحجب منطلقين من عاطفة الشعور بالظلم للرد علي هذه الأدلّة، بالمنطق نفسه، وأحياناً بمنطق آخر للاستدلال علي حق أئمة أهل البيت فيالامامة. من ذلك استدلالهم بحديث غدير خم كقول السيد الحميري: من كنت مولاه فهذا له مولي فلم يرضوا ولم يقنعوا ويردّ محمد بن يحيي بن أبي مرّة التغلبي علي استدلال الشاعرالعباسي بشاءن وراثة الاعمام فيقول: لِمَ لا يكون وإن ذاك لكائن لبني البنات وراثة الاعمام للبنت نصف كامل من ماله والعم متروك بغير سهامِما للطليق وللتراث وإنماصلّي الطليق مخافة الصمصامِويري دعبل أن كل ما حلّ باءهل البيت عليهم السلام من مصائب إنما هو لأنهم ورثوا النبي، فتكالب علي هذا الارث الطامعون،وأضرّوا بمن له الحق في الامامة: أضرّ بهم إرث النبي فاءصبحواتساهم فيهم خِيفة ومنون دعتهم ذئاب من أمية وانتحت عليهم دراكاً أزمة وسنون وعاثت بنو العباس فيالدين عيثة تحكّم فيها ظالم وخؤون وسَمّوارشيداً ليس فيهم لرشده وها ذاك ماءمون وذاك أمين فما قبلت بالرشد منهم رعاية ولاللولي بالأمانة دين وليس من العسير علي الباحث في العصر

العباسي الاول أن يجدمئات النماذج من المحاورات والمناظرات السياسية بلغة الشعر في هذاالمجال. وكان شعراء الشيعة وخصومهم يقيمون الحجج علي دعواهم.وليس من المهم أن نعرف في هذه المواجهة مقدار صحة هذه الحجج واستقامتها، ولكن من المهم أن نعرف المحورَ الذي يدور حوله النزاع،والحقَ الذي يدعيه الجانبان. هناك حق يدعيه كل جانب، وهذا الحق هو وراثة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله في الحكم وفي قيادة المسلمين. ليس النزاع بين الجانبين العلوي والعباسي في وراثة الخصال الاخلاقية والمعنوية والفكرية للنبي صلّي اللّه عليه وآله. ليس الخلاف في أحقية هذا أو ذاك في وراثة هذه الخصال. لأن هذه الخصال لاتشكّل حقاً يتنازع عليه فريقان. النزاع حول «حق» يدّعيه الجانبان.وقد رأينا أن الشعراء في زمن الامام الصادق عليه السلام يدافعون عن حق الامام في قيادة الامة المسلمة وفي حكم المجتمع الاسلامي،ويخوضون حرباً ضدّ من ليست لهم صلاحية حكومة المسلمين،ولذلك شواهد كثيرة في شعر القرن الثاني الهجري. وقبل أن نختتم هذا القسم من المناسب أن نشير الي لغة حِجاج أخري، هي لغة الرسائل. هذه الرسائل الاحتجاجية كانت تتضمن من جهة أهداف الفرقاء بشكل واضح دون لبس، وكانت تجد لها من جهة أخري صديً شعبياً بعد انتشار مضمونها، وتاءثيراً قوياً علي الأنصار والخصوم. نذكر من ذلك رسالة محمد بن عبداللّه بن الحسن ذي النفس الزكية الي المنصور العباسي. هذا العلويّ الثائر يذكربصراحة ووضوح أنه يطلب نزع الخلافة من خصومه لتكون في ابناءعلي عليهم السلام، يقول: «وإن أبانا علياً كان الوصيَ وكان الامامَ، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟ [55] . ويبدو أن هذا الاستدلال أورده العلوي ردّاً علي استدلال العباسيين في وراثتهم الخلافة، لأن بني العباس لم تكن لهم حجة سوي

هذا الارث المزعوم، فاءراد أن يسدّ عليهم الطريق ويردّ عليهم بنفس منطقهم. ويلاحظ في العبارة أن ذا النفس الزكية يركّز علي إمامة عليعليه السلام انطلاقاً من فهمه لمعني الامامة، ثم يركّز علي طبيعة دعوة البيت العلوي التي يمثلها هذا الثائر.

بيان الأحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة أهل البيت عن رسول الله

هذا النشاط يمكن ملاحظته أيضاً في حياة الامام الصادق عليه السلام بشكل متميّز عما نراه في حياة بقية أئمة آل البيت عليهم السلام،حتي سمّي فقه الشيعة باسم «الفقه الجعفري» . حتي الذين يغضّون الطرف عن النشاط السياسي للامام الصادق عليه السلام يجمعون علي أن الامام كان يدير أوسع، أو واحدة من أوسع الحوزات الفقهية في زمانه. والذي بقي مستوراً عن أعين أغلب الباحثين في حياة الامام، هو المفهوم السياسي ومفهوم المواجهة لهذا اللون من نشاطات الامام، وهذا ما سنتعرض له الآن. لا بدّ أن نذكر أولاً، أن منصب الخلافة في الاسلام له خصائص متميزة تجعل الحاكم متميّزاً عن الحكام في أنظمة الحكم الاخري.فالخلافة ليست جهازاً سياسياً فحسب، بل هي جهاز سياسي _ ديني.وإطلاق لقب الخليفة علي الحاكم الاسلامي يؤيد هذه الحقيقة، فهوخليفة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله في كل ما كان يمارسه الرسول من مهام دينية ومهام قيادية سياسية في المجتمع. والخليفة في الاسلام يتحمل المسؤوليات السياسية والمسؤوليات الدينية معاً. هذه الحقيقة الثابتة دفعت الخلفاء الذين جاءوا بعد الخلفاءالأولين والذين كانوا ذوي حظ قليل في علوم الدين، أو لم يكن لهم منه حظ أصلاً، دفعتهم الي سدّ هذا النقص عن طريق رجال دين مسخّرين لهم. فاستخدموا فقهاء ومفسّرين ومحدّثين في بلاطهم،ليكون جهازهم الحاكم جامعاً أيضاً للجانبين الديني والسياسي. والفائدة الاخري من وجود وعّاظ السلاطين في الجهاز الحاكم،هي إن الحاكم الظالم المستبد كان قادراً

متي ما أراد أن يغيّر ويبدّل أحكام الدين وفقاً للمصالح. وكان هؤلاء الماءجورون يقومون بهذه العملية ارضاء لأولياء نعمتهم، تحت غطاء من الاستنباط والاجتهادينطلي علي عامة الناس. الكتّاب والمؤرخون المتقدمون ذكروا لنا نماذج فظيعة من اختلاق الحديث ومن التفسير بالرأي كانت يد القوة السياسية فيها واضحة،وسنشير الي جانب منها في اقسام حديثنا التالية. هذا العمل الذياتخذ غالباً في البداية (حتي أواخر القرن الهجري الاول) شكل وضع رواية أو حديث، راح تدريجياً ياءخذ طابع الفتوي. ولذلك نري فيأواخر عصر بني أمية وأوائل عصر بني العباس ظهور فقهاء كثيرين استفادوا من أساليب رجراجة في أصول الاستنباط، ليصدرواالاحكام وفق أذواقهم التي كانت في الواقع أذواق الجهاز الحاكم. هذه العملية نفسها اءُنجزت اءيضاً في حقل تفسير القرآن. فالتفسيربالرأي اتجه غالباً الي إعطاء مفاهيم عن الاسلام لا تقوم علي أساس سوي ذوق المفسّر ورأيه المستمدّ من ذوق الجهاز الحاكم وإرادته. من هنا انقسمت العلوم الاسلامية: الفقه والحديث والتفسير منذأقدم العصور الاسلامية الي تيارين عامين: التيار الاول: تيار مرتبط بجهاز الحكومة الظالمة الغاصبة، ويتميزبتقديم الحقيقة في موارد متعددة قرباناً علي مذبح «المصالح» التي هيفي الواقع مصالح الجهاز الحاكم، ويتميز أيضاً بتحريف أحكام اللّه لقاءدراهم معدودات. والتيار الثاني: التيار الاصيل الامين الذي لا يري مصلحةً أرفع وأسمي من تبيين الاحكام الإلهية الصحيحة، وكان يصطدم _ شاء أم أبي _ في كل خطوة من خطواته بالجهاز الحاكم ووعاظ السلاطين،ولذلك اتجه منذ البدء اتجاهاً شعبياً في إطار من الحيطة والحذر. انطلاقاً من هذا الفهم نعرف بوضوح أن اختلاف «الفقه الجعفري» مع الفقهاء الرسميين في زمن الامام الصادق لم يكن اختلافاً فكرياًعقائديا فحسب، بل كان اختلافاً يستمد وجوده من محتواه الهجوميالمعارض أيضاً. أهم أبعاد هذا

المحتوي إثبات خواء الجهاز الحاكم، وفراغه من كل مضمون ديني، وعجزه عن ادارة الشؤون الفكرية للاُمة، وبعبارة أخري، عدم صلاحيته للتصدّي لمنصب «الخلافة» . والبعد الآخرتشخيص موارد التحريف في الفقه الرسمي.. هذه التحريفات القائمة علي أساس فكر «مصلحي» في بيان الاحكام الفقهية ومداهنة الفقهاءللجهاز الحاكم. والامام الصادق عليه السلام بنشاطه العلمي وتصدّيه لبيان أحكام الفقه والمعارف الاسلامية، وتفسير القرآن بطريقة تختلف عن طريقة وعّاظ السلاطين قد اتخذ عملياً موقف المعارضة تجاه الجهاز الحاكم. الامام عليه السلام بنشاطه هذا قد يلغي كل الجهاز الديني والفقهي الرسمي الذي يشكّل أحد أضلاع حكومة الخلفاء، ويفرّغ الجهاز الحاكم من محتواه الديني. ليس باءيدينا سند ثابت يبين التفات الجهاز الاُموي الي هذاالمحتوي المعارض لما قام به الامام الصادق عليه السلام من نشاط علمي فقهي. ولكن أغلب الظن أن الجهاز الحاكم العباسي _ وخاصة في زمن ا لمنصور الذي كان يتمتع بحنكة وذكاء وتجربة اكتسبها من صراعه السياسي الطويل مع الحكم الاموي قبل وصوله الي السلطة _كان يعي المسائل الدقيقة في نشاطات البيت العلوي. وكان الجهازالحاكم العباسي يفهم الدور الفاعل الذي يستطيع أن يؤديه هذاالنشاط العلمي بشكل غير مباشر. والتهديدات والضغوط والمضايقات التي كانت تحيط بنشاطات الامام الصادق عليه السلام التعليمية والفقهية من قبل المنصورالمنقولة إلينا في روايات تاريخية كثيرة ناتجة من هذا الالتفات الي حساسية المساءلة. وهكذا اهتمام المنصور بجمع الفقهاء المشهورين فيالحجاز والعراق في مقرّ حكومته _ كما تدل علي ذلك النصوص التاريخية العديدة _ فإنهُ ناشئ عن هذا الالتفات أيضاً. في حديث الامام عليه السلام وتعاليمه لأصحابه ومقرّبيه كان يستند الي «خواء الخلفاء وجهلهم» ليستدلّ علي أنهم في نظر الاسلام لا يحق لهم أن يحكموا. ونحن نشهد هذه

الصيغة من الهجوم علي الجهازالحاكم بوضوح وصراحة في دروسه الفقهية. يروي عنه قوله عليه السلام: «نحن قوم فرض اللّه طاعتنا وأنتم تاءتمّون بمن لا يُعذر الناس بجهالته.» [56] . أي إن الناس انحرفوا بسبب جهل حكّامهم وولاة امورهم،وسلكوا سبيلاً غير سبيل اللّه. وهؤلاء غير معذورين لدي اللّه. لأن اطاعة هؤلاء الحكام كانت عملاً انحرافياً، فلا يبرّر ما يستتبعها من وقوع في الانحرافات. [57] . في تعليمات الأئمة عليهم السلام قبل الامام الصادق عليه السلام وبعده نري أيضاً تركيزاً علي ضرورة اقتران القيادة السياسية بالقيادة الفكرية والايديولوجية. ففي رواية عن الامام علي بن موسي الرضاعليه السلام عن جدّه الامام محمد الباقر عليه السلام قال: «إنما مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني اسرائيل، أينما دار التابوت دار الملك(تاءمل بدقة المعني الرمزي في التعبير) وأينما دار السلاح فينا دارالعلم.. وفي رواية أخري: حيثما دار السلاح فينا فثم الامرُ (الحكم.» [58] . ويساءل الراوي الامام: فيكون السلاح مزايلا (مفارقا) للعلم؟ قال الامام: لا. أي إن قيادة المجتمع المسلم يجب أن تكون في من بيده السلاح والعلم معا. الامام عليه السلام إذن يري أن علم الدين وفهم القرآن بشكل صحيح شرط من شروط الامامة، ومن جهة أخري فهو بنشاطه العلمي، وجمع عدد غفير من مشتاقي علوم الدين حوله، وتعليمه الدين بشكل يختلف تماماً عن الطريقة المعتادة لدي العلماء والمحدثين والمفسرين المرتبطين بجهاز الخلافة، يثبت عملياً أصالة المحتوي الدينيلمدرسته، وزيف الظاهر الديني الذي يتقمّصه جهاز الخلافة ومن لفّلفّه من علماء بلاطه. وعن هذا الطريق المهاجم المتواصل العميق الهادئ يضفي علي جهادهِ بعداً جديداً. وكما ذكرنا من قبل، فإن الحكّام العباسيين الاوائل الذين قضواسنين طوالاً قبل تسلّمهم السلطة في نفس أجواء

الجهاد العلوي وإلي جانب انصار العلويين، كانوا علي علم بكثير من الخطط والمنعطفات،وكانوا متفهّمين لدور الهجوم والمواجهة الذي يؤدّيه هذا النشاط فيالفقه والحديث والتفسير أكثر من أسلافهم الأمويين. وقد يكون هذاالسبب هو الذي دفع المنصور العباسي في مواجهاته مع الامام الصادق عليه السلام أن يمنع الامام زمناً من الجلوس في حلقات التدريس وعن تردّد الناس عليه. حتي أن المفضل بن عمر يقول: «ان المنصورقد كان همّ بقتل ابي عبداللّه عليه السلام غير مرّة، فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فإذا نظر اليه هابه ولم يقتله، غير انه منع الناس عنه ومنعهُ من القعود للناس، واستقصي عليه اشد الاستقصاء، حتي انه كان يقع لأحدهم مساءلة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك فلايكون علم ذلك عندهم، ولا يصلون اليه فيعتزل الرجل وأهله، فشق ذلك علي شيعته وصعب عليهم.» [59] .

اقامة تنظيم سري إيديولوجي _ سياسي

مرّ بنا أن الامام الصادق عليه السلام قاد في أواخر العصر الاُموي شبكة إعلامية واسعة استهدفت الدعوة الي إمامة آل علي عليه السلام وتبيين مساءلة الامامة بشكلها الصحيح. وهذه الشبكة نهضت بدورمثمر وملحوظ في أقاصي بقاع العالم الاسلامي، وخاصة فيالعراق وخراسان لنشر مفاهيم الامامة. ونشير هنا الي جانبٍ صغير من هذهِ المساءلة. مساءلة التنظيمات السرية في الحياة السياسية للامام الصادق عليه السلام وباقي الأئمة من أهم المسائل وأكثرها حساسية، وهي في الوقت نفسه من أغمض فصول حياتهم وأشدّها إبهاما. وكما ذكرنا، لا يمكن أن نتوقع وجودوثائق صريحة في هذا المجال، حيث لا يمكن أن نتوقع من الامام أوأحد أصحابه أن يعترف صراحة بوجود هذه التنظيمات _ السياسية _الفكرية. فهذا مما لا يمكن الكشف عنه. الشيء المعقول هو أن الامام ينفيبشدّة وجود مثل هذا

التنظيم السري، وهكذا أصحابه، ويعتبرون ذلك تهمة وسوء ظن فيما لو تعرّضوا لاستجواب جهاز السلطة. هذه هي خاصية العمل السري، والباحث في حياة الأئمة عليهم السلام أيضاً من حقّه أن لا يقتنع بوجود مثل هذا التنظيم دون دليل مقنع. اذن فلا بدّ أن نبحث عن القرائن والشواهد والحوادث التي تبدو بسيطة لاتلفت نظر المطالع العادي، لنبحث عن دلالالتها في هذا المجال. بهذااللون من التدقيق في حياة الأئمة عليهم السلام خلال قرنين ونصف القرن من حياتهم يستطيع الباحث أن يطمئن الي وجود مثل هذه التنظيمات التي تعمل تحت قيادة الأئمة عليهم السلام. ما المقصود بالتنظيم؟ ليس المقصود به طبعاً حزباً منظماً بالمفهوم المعروف اليوم، ولا يعني وجود كوادر منظمة ذات قيادات اقليمية مرتبطة ارتباطاً هرمياً، فلم يكن شيء من هذا موجوداً ولا يمكن أن يوجد. المقصود بالتنظيم وجود جماعة بشرية ذات هدف مشتركتقوم بنشاطات متنوعة تتجه نحو ذلك الهدف، وترتبط بمركز واحدوقلب نابض واحد ودماغ مفكر واحد، وتسود بين أفرادها روابط عاطفية مشتركة. هذه الجماعة كانت في زمن الإمام علي عليه السلام (أي خلال السنوات الخمس والعشرين بين وفاة الرسول الاكرم وبيعته للخلافة)كان يجمعها الايمان باءحقية الامام علي عليه السلام في الخلافة، وكانت تعلن وفاءها الفكري والسياسي للامام، غير أنها كانت تحذو حذوالإمام علي عليه السلام في عدم إثارة ما يزلزل المجتمع الاسلاميالوليد، كما كانت تنهض بما كان ينهض به الامام علي عليه السلام فيتلك السنوات من مهام رسالية تستهدف صيانة الاسلام ونشره،ومحاولة الحدّ من الانحرافات. واتخذت لولائها هذا اسم «شيعة علي» ،ومن وجوههم المشهورة: سلمان وعمار وأبو ذر واُبي بن كعب والمقدادوحذيفة وغيرهم من الصحابة الأجلاّء. ولدينا شواهد تاريخية تثبت أن هؤلاء كانوا يشيعون بين

الناس فكرهم بشاءن إمامة علي عليه السلام بشكل حكيم. وعملهم هذا كان مقدمة لالتفاف الناس حول الامام وإقامة الحكم العلوي. بعد أن استلم الامام علي عليه السلام مقاليد الاُمور سنة 35هجرية، كان حول الامام علي صنفان من الناس: صنف عرف الامام ومكانته وفهم معني الامامة وآمن بها، وهم شيعته الذين تربّوا علي يد الامام بشكل مباشر أو غير مباشر. وعامة الناس الذين عاشواأجواء تربية الامام ونهجه ولكنهم لم يكونوا مرتبطين فكرياً وروحياًبالجماعة التي ربّاها الامام تربية خاصة. ولذلك نجد بين اتباع الامام صنفين من الافراد بينهما تفاوت كبير:صنف يضم عماراً ومالكاً الاشتر وحجرَ بن عدي وسهلَ بن حنيف وقيسَ بن سعد وامثالهم، وصنف من مثل ابي موسي الاشعري وزيادبن أبيه ونظرائهم. بعد حادثة صلح الامام الحسن عليه السلام كانت الخطوة الهامة التي اتخذها الامام نشر فكر مدرسة اهل البيت، ولمّ شتات الموالين لهذا الفكر، إذ اتيحت الفرصة لحركة أوسع بسبب اضطهاد السلطة الاُموية. وهكذا كان دائماً، فالاضطهاد يؤدي الي انسجام القوي المضطهدة وتلاحمها وتجذّرها بدل تبعثرها وتشتتها. واتجهت استراتيجية الامام الحسن عليه السلام الي تجميع القوي الاصيلة الموالية، وحفظها من بطش الجهاز الاُموي، ونشر الفكر الاسلاميالاصيل في دائرة محدودة، ولكن بشكل عميق، وكسب الافراد الي صفوف الموالين، وانتظار الفرصة المؤاتية للثورة علي النظام وتفجيرأركانه، وإحلال الحكم العلوي مكانه.. وهذه الاستراتيجية في العمل هي التي جعلت الامام الحسن عليه السلام أمام خيار واحد وهوالصلح. ومن هنا نري أن جمعاً من الشيعة برئاسة المسيب بن نجية وسليمان بن صرد الخزاعي يقدمون علي الامام الحسن عليه السلام بعد حادثة الصلح في المدينة، حيث اتخذها الامام قاعدة لعمله الفكريوالسياسي بعد عودته من الكوفة، ويقترحون عليه إعادة قواهم وتنظيماتهم العسكرية

والاستيلاء علي الكوفة والاشتباك مع جيش الشام، والامام يستدعي هذين الاثنين من بين الجمع، ويختلي بهماويحدثهما بحديث لا نعرف فحواه، يخرجان بعده بقناعة تامة بعدم جدوي هذه الخطة. وحين يعود الاثنان الي من جاء معهما يفهمانهم باقتضاب أن الثورة المسلحة مرفوضة، ولا بدّ من العودة الي الكوفة لاستئناف نشاط جديد فيها. [60] . هذه حادثة مهمة لها دلالات كبيرة حدت ببعض المؤرخين المعاصرين الي اعتبار ذلك المجلس الحجر الاساس في إقامة التنظيم الشيعي. والواقع أن الخطوة الاُولي لإقامة التنظيم الشيعي لو كانت حقاً قداتخذت في ذلك اللقاء بين الامام الحسن عليه السلام والرجلين القادمين من العراق، فإن مثل هذه الخطوة قد أوصي بها الامام عليعليه السلام من قبل حين أوصي المقرّبين من اصحابه بقوله: «لو قدفقدتموني لرأيتم بعدي أشياء يتمنّي أحدكم الموت مما يري من الجوروالعدوان والأثَرَة والاستخفاف بحق اللّه والخوف علي نفسه، فاذاكان ذلك: _ فاعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا.. _ وعليكم بالصبر والصلاة. _ والتقية. واعلموا أن اللّه عزّوجل يبغض من عباده (التلوّن) لا تزولوا عن (الحق وأهله) فإن من استبدل بنا هلك، وفاتته الدنيا وخرج منها آثما.» [61] . هذا النص الذي يرسم بوضوح الوضع الماءساوي في العصرالاموي، ويوجه المؤمنين الي التلاحم والتعاضد والتنسيق والانسجام يعتبر أروع وثيقة من وثائق الجهاز التنظيمي في حركة آل البيت عليهم السلام. وهذا المشروع التنظيمي يتبلور في شكله العملي فياللقاء بين الامام الحسن عليه السلام واثنين من الشيعة الخلّص. وممالا شك فيه أن أتباع أهل البيت لم يكونوا جميعاً مطّلعين علي هذاالمشروع الدقيق. ولعل هذا يبرّر ما كان يصدر من بعض صحابة الامام الحسن عليه السلام من اعتراض وانتقاد. وكان المعترضون يواجهون قول الامام الذي

مضمونه: «...من يدري، لعله اختبار لكم ونفعٌ زائلٌ لأعدائكم...» . وفي هذه الاجابة إشارة خفية الي سياسة الامام وتدبيره. [62] . خلال الاعوام العشرين من حكومة معاوية بكل ما احاط فيهاالبيت العلوي من إعلام مكثّف مضاد، بلغ درجة لعن الامام أميرالمؤمنين عليه السلام علي منابر المسلمين، وبكل ما شهدتها من انسحاب الامامين الحسن والحسين عليهما السلام من ساحة النشاط العلني المشهود، لا نري سبباً في انتشار فكر أهل البيت واتساع القاعدة الشيعية في الحجاز والعراق سوي وجود هذا التنظيم. ولنلقِ نظرة علي الساحة الفكرية في هذه المناطق بعد عشرين عاماًمن صلح الامام الحسن عليه السلام. في الكوفة نري رجال الشيعة من ابرز الوجوه وأشهرها. وفي مكة والمدينة بل وفي المناطق النائية نري أتباع أهل البيت مثل حلقات مترابطة يعرف بعضها ما يلمّ بالبعض الآخر. حين يستشهد بعد اعوام أحد رجال الشيعة وهو «حجر بن عدي» ترتفع أصوات الاعتراض في مناطق عديدة من البلادالاسلامية، علي رغم الارهاب المفروض علي كل مكان، ويبلغ الحزن والاسي بشخصية معروفة في خراسان أن يموت كمداً بعد إعلان الاعتراض الغاضب. [63] . وبعد موت معاوية ترد علي الامام الحسين عليه السلام آلاف الرسائل تدعوه أن ياءتي الي الكوفة لقيادة الثورة. وبعد استشهادالامام يلتحق عشرات الآلاف بمجموعة «التوّابين» ، أو ينخرطون فيجيش المختار وإبراهيم بن مالك ضد الحكم الاموي. ومن حق الباحث في التاريخ الاسلامي أن يساءل عن العوامل الكامنة وراء شيوع هذا الفكر والتحرّك الموالي لآل البيت عليهم السلام. هل يمكن أن يتم دون وجود نشاط مكثّف محسوب منظّم متحد في الخطة والهدف؟! الجواب: لا طبعاً. فالإعلام الهائل، الذي وجهته السلطة الاُموية عن طريق مئات القضاة والولاة والخطباء، لا يمكن إحباطه

وإفشاله دون إعلام مضاد مخطط مرسوم، ينهض به تنظيم منسجم موحَّد غيرمكشوف. وقبيل وفاة معاوية تزايد نشاط هذا الجهاز العلوي المنظّم وتصاعدت سرعة عمله. حتي أن والي المدينة يكتب الي معاوية مامضمونه: «أما بعد، فإن عمر بن عثمان (عيْن والي المدينة علي الحسين عليه السلام اخبرنا باءن رجالاً من العراق وبعض شخصيات الحجازيترددون علي الحسين بن علي، وتدور بينهم احاديث حول رفع راية التمرّد والعصيان... فاكتبوا لنا ماذا ترون.» [64] . بعد واقعة كربلاء وشهادة الامام الحسين عليه السلام تضاعف النشاط التنظيمي لشيعة العراق علي أثر الصدمة النفسية التي اءُصيبوابها في مقتل الامام الحسين عليه السلام، حيث بوغتوا بهذه الجريمة التي سلبتهم قدرة الالتحاق بركب الحسين وأهل بيته في كربلاء. وكان هذا التحرّك مؤطّراً بالألم والحسرة والأسف. يقول الطبري: فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس في السرّ من الشيعة وغيرها الي الطلب بدم الحسين،فكان يجيبهم القوم بعد القوم والثغر بعد الثغر، فلم يزالوا كذلك حتي مات يزيد بن معاوية. [65] . وحقاً ما تقوله مؤلّفة جهاد الشيعة إذ تعلّق علي قول الطبريبالقول: وظهرت جماعة الشيعة بعد مقتل الامام الحسين عليه السلام كجماعة منظمة، تربطها روابط سياسية وآراء دينية، لها اجتماعاتهاوزعماؤها، ثم لها قواتها العسكرية، وكانت جماعة «التوّابين» اول مظهر لذلك كله. [66] . ويبدو، من دراسة أحداث التاريخ ورأي المؤرخين في تلك البرهة الزمنية، أن الشيعة كانوا يتولّون مسؤولية القيادة والتخطيط، أماالقاعدة العريضة الساخطة علي بني امية، فكانت أوسع من المجموعة الشيعية المنظمة، وكانت هذه القاعدة تنضمّ الي كل حركة ذات صبغة شيعية. من هنا فإن المتحركين ضدّ بني اُمية، وإن رفعوا شعارات شيعية، لاينبغي أن نتصورهم جميعا باءنهم في

عداد الشيعة، أي في عداد الجهازالتنظيمي لأئمة أهل البيت عليهم السلام. انطلاقاً مما سبق، أودّ التاءكيد علي أن اسم الشيعة بعد شهادة الامام الحسين عليه السلام اُطلق فقط علي المجموعة التي كانت لها علاقة وثيقة بالامام الحق، تماماً كما كان الحال في زمن امير المؤمنين عليه السلام. هذه المجموعة هي التي عمدت بعد صلح الامام الحسن عليه السلام الي تاءسيس التنظيم الشيعي باءمر الامام، وهي التي نشطت في كسب الافراد الي التنظيم ودفع أفراد اكثر، لم يرتفعوا في الفكر والنضج العملي الي مستوي الانخراط في التنظيم، نحو ا لتيار العام للحركة الشيعية. والرواية التي اوردناها عن الامام الصادق عليه السلام في بداية هذا الحديث، والتي تذكر أن عدد المؤمنين بعد حادثة عاشوراء لم يتجاوز الثلاثة أو الخمسة، إنما تقصد أفراد هذه المجموعة الخاصة.. أيهؤلاء الذين كان لهم الدور الرائد الواعي في مسيرة حركة التكامل الثورية العلوية. وعلي اثر النشاط المتستر الهادئالذي قام به الامام السجاد عليه السلام توسعت قاعدة هذه المجموعة، والي هذا يشير الامام الصادق عليه السلام في الرواية المذكورة: «ثم لحق الناس وكثروا» . وسنري أن عصر الامام السجاد والامام الباقر والامام الصادق عليهم السلام شهد تحرّك هذا الجمع تحرّكاً اثار الرعب والفزع في قلوب الحكام الظالمين، ودفع هؤلاء الحكام الي ردود فعل قاسية. وبعبارة موجزة، فإن اسم الشيعة في القرنين الاول والثانيالهجريين وفي زمن الأئمة عليهم السلام ما كان يُطلق علي الذين يحبّون آل بيت النبي عليهم السلام أو المؤمنين بحقهم وبصدق دعوتهم فقط،من دون اشتراك في مسيرتهم الحركية. بل إن الشيعة كانوا يتميزون بشرط أساسي وحتمي، وهو عبارة عن الارتباط الفكري والعمليبالامام، والاشتراك في النشاط الفكري والسياسي، بل والعسكريالذي يقوده لإعادة

الحق الي نصابه، وإقامة النظام العلوي الاسلامي.هذا الارتباط هو نفسه الذي يطلق عليه في قاموس التشيع اسم «الولاية» . جماعة الشيعة كانت تطلق في الواقع علي أعضاء حزب الامامة..هذا الحزب الذي كان يتحرّك بقيادة الامام عليه السلام، وكان يتخذمن الاستتار والتقية خندقاً له مثل كل الاحزاب والتنظيمات المضطهدة التي تعيش في جو الارهاب. هذه خلاصة النظرة الواقعية لحياة الأئمة عليهم السلام، وخاصةً الامام الصادق عليه السلام. وكما ذكرنا من قبل لا يمكن أن يكون لمثل هذه المساءلة دلائل صريحة، إذ لا يمكن أن نتوقع من بيت سرّي أن يحمل لافتة تقول: «هذا بيت سرّي» ! وكذلكلا يمكن أن نطمئن الي النتيجة دون قرائن حاسمة. من هنا ينبغي أن نتَتبّع القرائن والشواهد والاشارات. من العبارات العميقة التي تلفت نظر الباحث المدقق في الروايات المرتبطة بحياة الأئمة عليهم السلام، أو في كلام مؤلّفي القرون الاسلامية الاولي، عبارة «باب» و «وكيل» و «صاحب السر» وهي عبارات تطلق علي بعض اصحاب الائمة. فمثلاً، يقول ابن شهرآشوب المحدث الشيعي الشهير في سيرة الامام السجاد عليه السلام: «وكان بابه يحيي بن ام الطويل» وفي سيرة الامام الباقر عليه السلام يقول: «وكان بابه جابر بن يزيد الجعفي» ، وفي ترجمة الامام الصادق عليه السلام يقول: «وكان بابه محمد بن سنان» . وفي «رجال الكشي» ترد حول زرارة وبريد و محمد بن مسلم وأبي بصير عبارة: «مستودع سرّي» . وفيكتب الحديث تروي عن الامام الصادق عليه السلام عبارة «وكيل» بشاءن المعلّي بن خنيس. وكل واحد من هذه التعبيرات، إن لم تكن صادرة عن الامام، فإنها دون شك حصيلة دراسة موسعة في حياة الائمة، نهض بها المؤلفون الشيعة القدامي. واختيار هذه التعبيرات العميقة علي

أي حال ينطلق من معالم بارزة في حياة أئمة اهل البيت عليهم السلام. ولو تاءملنا في هذه التعبيرات لألفينا أن كل واحد منهايدل علي وجود جهاز فعّال مستتر وراء النشاط الظاهري للائمة عليهم السلام.

مستودع السر

إذا لم يكن لأحدٍ «سرُّ» فليس له مستودع سر. فما هو هذا السر فيحياة الائمة؟ ما هذا الذي لا يتحمله أصحاب الأئمة عامة، بل ثمة نفرمعدود له لياقة وصلاحية تحمّله، وبذلك نال شَرفَ اسم «مستودع السر» ؟! ولقد راحت الذهنية المتاءخرة البعيدة عن واقع الاحداث وتمحيصها تفسّر هذا السر باءنه «سر الإمامة» . كما راحت تفسّر سرّالامامة باءنه الاسرار الغيبية والقدرة علي الخوارق والمعاجز. أنا أؤمن بقدرة هذه الصفوة المقدسة من أهل البيت، الذين اختارهم اللّه لمواصلة مهمة حمل الرسالة وتبليغها بعد رسول اللّه، أن يحملوا مثل هذه القدرة ومثل هذه العلوم، كما أؤمن باءن تحلّيهم بهذه القوي والعلوم لا يتنافي أصلاً مع نظرة الاسلام الي الانسان والنواميس الطبيعية وسنن الكون. ولكن هذه القوي والعلوم ليست هي «سر الامام» . فمثل هذه القوي والعلوم أوضح دليل علي الامامة وعلي صدق دعوي الامام. لماذا يكتم الامام هذه الامور ويوصياصحابه بكتمانها في روايات كثيرة، تضافرت حتي أصبحت الكتب الحديثية الشيعية تتضمن باباً يحمل عنوان: «باب الكتمان؟» [67] لا بدّ أن يكون هذا السرّ مما لو شاع لشكل خطراً كبيراً علي الامام وأصحابه،وهذا شيء غير الغيبيات والخوارق. هل السرّ هو معارف أهل البيت؟ هل هو رؤية مدرسة أهل البيت للاسلام وفقهها وأحكامها؟ لا ننكر أن معارف مدرسة أهل البيت كانت تنشر في عصر الاضطهاد الاُموي والعباسي وفق منهج الحكمة والتدبير، لكي لا يخوض فيها كلّ من هبّ ودبّ، ولكن هذه المعارف لا يمكن

أن تكون هي سرّ الامام. فمع كل ما أحاط بهذه المعارف من اختصاص، كانت تدرس في مئات الحوزات الفقهية والحديثية في عددمن كبريات مدن الصقع الاسلامي آنذاك، كان الشيعة يتناقلون هذه المعارف ويشرحونها ويتداولونها. بعبارة أخري كانت هذه المعارف خاصة لا سريّة. واختصاصها يعني أن رواجها كان محدوداً بالدائرة الشيعية، لكنهاكانت تصل الي غير الشيعة أيضاً في ظروف خاصة. لم تكن أبداًمحدودة باءفراد معدودين من أصحاب الأئمة وخافية علي غيرهم. الحق أن الاسرار هي ما يتعلّق بالمعلومات المرتبطة بالجهازالتنظيمي للامام.. بالجهاز الذي يخوض معتركاً سياسياً باتجاه هدف ثوري.. بالتكتيك الذي ينتجهه الجهاز... بالعمليات التي ينفذها..باءسماء ومهام اعضاء الجهاز.. بمصادر التمويل.. بالاخبار والتقاريرالمتعلّقة بالاحداث الهامة.. هذه وأمثالها من الاسرار التي لا يجوز أن يطّلع عليها سوي القائد والكوادر المسؤولة. ربما تحين الظروف المناسبة عاجلاً أم آجلاً لإعلان هذه الاسرار وكشفها، ولكن قبل أن تحين تلك الظروف لا يمكن أن يطلع علي هذه الاسرار سوي من يرتبط عمله مباشرة بها، وهم «مستودع السر» . وكل تسريب لهذه المعلومات الي أوساط الشيعة فإنه يفتح ثغرة تسرّبها الي الاعداء،وهو خطاء كبير لا يغتفر، خطاء قد يؤدّي الي انهدام الجهود والاعمال والمجموعة المنتظمة. ومن هنا نفهم ما يعنيه الامام عليه السلام إذيقول: «ليس الناصب لنا حرباً باءعظم مؤنة علينا من المذيع عليناسرّنا. فمن اذاع سرّنا الي غير اهله لم يفارق الدنيا حتي يعضهُ السلاح.» [68] .

الباب والوكيل

في الارتباطات السرية بين الامام عليه السلام والشيعة قد يتطلب الامر ايصال بعض المعلومات الي الشيعة عن طريق «واسطة» ، وهذاتدبير معقول وطبيعي. العيون المتلصصة علي كشف ارتباطات الامام عليه السلام تترصّد التقاءاته باءتباعه في موسم الحج في مكة والمدينة حين تؤمها القوافل

من أقاصي العالم، وقد يؤدي رصد هذه اللقاءات الي اكتشاف خيوط الجهاز المركزي لتنظيم الامام، لذلك نري أن الامام عليه السلام كان يُبعد عنه بعض الافراد بلهجة لينة أحياناً،ومعاتبة تارة أخري. يقول لسفيان الثوري مثلاً: «أنت رجلٌ مطلوب وللسطان علينا عيون فاخرج عنا غير مطرود.» [69] . ويترحّم الامام عليه السلام علي شخص صادفه في الطريق وأعرض بوجهه عنه، ويذم شخصاً آخر رآه في ظروف مشابهة فسلّم عليه باحترام واجلال [70] مثل هذه الظروف تستلزم وجود فرد يكون واسطة بين الامام عليه السلام وبين من يحتاج الي معلومات تصل اليه من الامام، وهذاالواسطة هو «الباب» ، ويجب أن يكون من أخلص أتباع الامام،وأقربهم اليه، وأغناهم بالمعلومات والخطط. يجب أن يكون مثل «نحلة» إذا عرفت الحشرات المضرّة ما تحملهُ من عسل قَطّعتهاوأغارت علي شهدها. [71] وليس صدفة أن نري تعرّض هؤلاء «الابواب» غالباً للمطاردة وأقسي ألوان البطش والتنكيل. إن يحيي بن ام الطويل «باب» الامام السجاد عليه السلام يُقتل بشكل شنيع [72] وجابر بن يزيد الجعفي باب الامام الباقر عليه السلام يتظاهر بالجنون ويشيع عنه ذلك فينجّيه من القتل الذي صدر الأمر به من الخليفة قبل أيام من اشتهار جنونه. ومحمد بن سنان، باب الامام الصادق عليه السلام، يتعرّض لطرد ظاهري من الامام رغم أن الامام أبدي رضاه عنه في مواضع أخري وأثني عليه، وما ذلك إلاّلتعرّض محمّد بن سنان لمثل هذه الأخطار. كما أن إعلان الامام براءته من راوٍ معروف مشهور حظي بإعلان رضا الامام عليه السلام مراراًيعود علي الاقوي الي تكتيك تنظيمي. مثل هذا المصير يواجهه «الوكيل» أيضاً. مسؤول جمع الأموال المرتبطة بالامام وتوزيعها، يملك أيضاً كثيراً من الاسرار وأقلّها اسماءالدافعين والقابضين، وليست هذه

المعلومات بالتي يستهين بها أعداءالامام، وأفضل دليل علي ذلك مصير المعلّي بن خنيس وكيل الامام الصادق عليه السلام في المدينة، وتعبيرات الامام القائمة علي أساس التقية بشاءن المفضّل بن عمر وكيل الامام في الكوفة. هذه العناوين الثلاثة (الباب، الوكيل، صاحب السر) التي نجدمصاديقها في وجوه بارزة من رجال الشيعة تلقي ظلالاً علي واقع الشيعة وارتباطهم بالامام والحركة التنظيمية الشيعية. يمكننا بهذه النظرة أن نفهم الشيعة باءنهم مجموعة من العناصرالمنسجمة الهادفة النشطة المتمركزة حول محور مقدس يشعّ بتعاليمه وأوامره علي القاعدة، والقاعدة ترتبط به وتنقل اليه المعلومات وتضبط مشاعرها وتسيطر علي عواطفها بتوصياته الحكيمة، وتلتزم التزاما دينياً باءساليب العمل السرّي، مثل حفظ الاسرار، وقلّة الكلام، والابتعاد عن الاضواء والتعاون الجماعي والزهد الثوري.

پاورقي

[1] هذا المضمون نقل في ثماني عبارات اخري، دون ذكر السند اصلاً، وثمة رواية اُخري فيها سلسلة رواة غير ان الراوي الاصلي غير معلوم لانه لا يوجد بين الرواة من كان حاضرا في مجلس المنصور.وتوجد رواية واحدة فقط ينقلها الراوي عن الامام الصادق عليه السلام مباشرة بسند غيرموثوق به. (راجع: البحار، ج 47 ص 182 رواية 28 باب 6، وقاموس الرجال ج 9 ص 509).

[2] حين مات المنصور كان في خزانته من الاموال النقدية ستمائة مليون درهم واربعة عشر مليون دينار(عصر الازدهار ص 60 _ 70).

[3] هو ثاني وآخر وزراء المنصور. كان رجلاً ذا دهاء وتدبير وله هيبة وفصاحة.. بقي في منصب الوزارة حتي آخر حياة المنصور (سنة 158ه_). ويكفيه دليلا علي وفائه للمنصور ولبني العباس أنه أنقذالخلافة العباسية من انفجار كاد يقضي عليها اثناء احتدام الخلاف بين مدّعي وراثة المنصور. فقد زوّر وصية علي لسان المنصور في آخر لحظات حياته تاءمر جميع

حكام الولايات بالبيعة للمهدي ابن المنصور، فما كان من طلاب الخلافة الا الاستسلام. (راجع: عصر الازدهار ص 59 _70).

[4] فيليب حتي، تاريخ العرب.

[5] بطورشفسكي، الاسلام في ايران.

[6] من وفاة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله حتي وفاة الامام الحسن العسكري عليه السلام.

[7] الحديد: 25).

[8] نهج البلاغة خ 16، لما بويع في المدينة، وفيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول اليه احوالهم.

[9] من تلك الخصائص تشريع النظام وفق المتطلبات الاساسية الثابتة للانسان، والمرونة التي تسمح باستقطاب العناصر العلمية والمنطقية من كل مكان ومن كل نوع. (مع الاحتفاظ بالاتجاه المبدئيللرسالة وبشرط الانسجام مع نظرة الرسالة الي الكون والحياة).

[10] الرسالة 62 من نهج البلاغة.

[11] شرحت بالتفصيل طبيعة هذه الفترة في محاضرات متعددة مستنداً الي الوثائق التاريخية المتوفرة.

[12] بحار الانوار، ط: الاسلامية، ج 46 ص 144. وفي رواية اخري أضيف جابر بن عبداللّه الانصاريالي هؤلاء الثلاثة. وفي رواية اخري بدل جابر بن عبداللّه ورد ذكر سعيد بن المسيب المخزومي. وفيرواية اخري أضيف الي هؤلاء جميعا سعيد بن جبير، وبدلاً من جبير بن مطعم ذكر اسم محمد بن جبير بن مطعم (رجال الكشي، ط: مصطفوي، ص 115)، ويري العالم الرجالي المعاصر المحقق الشوشتري أن اسم جبير بن مطعم في هذا الحديث محرّف من حكيم بن جبير بن مطعم: (قاموس الرجال، ج 9، ص 399).

[13] الممتحنة: 4.

[14] راجع: أجوبة مسائل جار اللّه، للسيد شرف الدين العاملي، ص 59 و60، وكذلك: دراسات فيالكافي والصحيح، ص 261.

[15] تحف العقول عن آل الرسول 272 _ 277 ط: جماعة المدرسين _ قم.

[16] بحار الانوار ج 46 ص 165، ط: بيروت، نقلاً عن الكافي ج 5 ص 344.

[17] المصدر نفسه ص 95.

[18] حياة الامام السجاد عليه السلام

بابعادها الجهادية وما اكتنفها من احداث من اروع مقاطع حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام وتحتاج الي مقال مستقل.

[19] بحار الانوار 46: 229 باب 4. عن البصائر 4: 44.

[20] من ذلك رواية ابي حمزة الثمالي يقول: «حتي أقبل ابو جعفر عليه السلام وحوله اهل خراسان وغيرهم يساءلونه عن مناسك الحج» (بحار الانوار 46: 357 ط: بيروت)، وانظر حديث أحد علماءخراسان مع عمر بن عبدالعزيز، وفيه اكثر من عبرة ودلالة. (بحار الانوار 46: 366).

[21] من حديث للامام الباقر عليه السلام في ارشاد الشيخ المفيد: 284، وبحار الانوار 46: 288.

[22] بحار الأنوار 46: 288.

[23] المناقب 4: 207 وهذه الميمية من هاشمياته وفيها يخاطب أئمة اهل البيت عليهم السلام فيقول: ساسة لا كمن يري رِعية الناسِ سواء ورِعية الانعام وهو بيت له دلالته الكبيرة.

[24] بحار الانوار 46: 258.

[25] بحار الانوار 46: 360 رواية 1 _ باب 100 نقلاً عن امالي الطوسي: 95.

[26] بحار الانوار 46: 282 _ 283 نقلاً عن الكافي 1: 396.

[27] يؤيد هذه الحقيقة، اضافة الي قضية جابر ونظائرها، رواية عبداللّه بن معاوية الذي يسلّم الامام الباقر عليه السلام رسالة تهديد من حاكم المدينة (بحار الانوار 46: 246. الباب 16 الرواية 34).

[28] بحار الانوار 46: 263 رواية 63 باب 5.

[29] بحار الانوار 46: 264 الباب 16 الرواية 63.

[30] ويروي أنه أشاع بين اهالي المدن الواقعة علي الطريق أن محمد بن علي وجعفر بن محمد تنصّراوخرجا من الاسلام (بحار الانوار 46: 306). وشبيه ذلك ما وقع لمولانا وهو من زعماء الحركة الاسلامية المناهضة للاستعمار البريطاني في منتصف القرن التاسع عشر. فقد أشاعوا عنه أنه وهابي.وكانت هذه التهمة كافية لاسقاط هذا الرجل المناضل من أعين الناس البسطاء السذّج.

الوهابية كانت مقرونة في اذهان الناس بتلك العصابة التي روّعت حجاج بيت اللّه واستباحت دماء المسلمين في الحجاز.. فكانت كريهة لديهم ومقيتة. وتهمة الوهابية الصقت بهذا الرجل فتقبلتها الاذهان الساذجة دون أن تساءل عن مبرر هذه التهمة وعن امكان أن يكون رجل مناضل مثل مولانا معتنقالفكرة جاء بها الانجليز الي العالم الاسلامي (راجع كتاب: المسلمون في حركة تحرير الهند (بالفارسية)ط آسيا) حين اري موقف الناس من الامام الباقر عليه السلام بعد اتهامه بالنصرانية في ذلكالزمان وموقفهم من مولانا بعد اتهامه بالوهابية في القرن الماضي اتعجّب من وحدة المواقف،واردّد ما ==يقوله الشاعر العربي: الناس كالناس والايام واحدة.

[31] بحار الأنوار 46: 264.

[32] بحار الانوار 46: 313.

[33] بحار الانوار 46: 362 _ 363.

[34] هكذا في الأصل، ولعل الصحيح: لنوادب يندبنني.

[35] بحار الانوار 46: 220.

[36] خالد بن عبداللّه القسري والي العراق كان عائده السنوي ثلاثة عشر مليوناً. وكتب اليه الخليفة أن لا يبيع غلّته قبل بيع غلّة الخليفة. فصعد خالد المنبر، وذكر أن قوماً يتهمونه بالتلاعب بالاسعار،ولعن من يتلاعب بالاسعار (ويقصد بذلك الخليفة وكان عليه واجداً). وامرأة هشام كان لها ثوب خيوطه من الذهب، ومرصع بالمجوهرات القيّمة، وقد ثقل وزنه حتي ما كانت تقدر علي أن تمشي به.ولم يستطع أحد أن يضع له قيمة. وهشام نفسه كان له بساط من الحرير والذهب طوله 100 ذراع وعرضه 50 ذراعا. (ابن ايرج 5 / 220، وبين الخفاء والخلفاء ص 28 و56).

[37] من ذلك فتوي الحسن البصري في عدم جواز الخروج علي الحجاج بن يوسف، ذلك الطاغية الذيسفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة قائلاً: أري أن لا تقاتلوه، فانها إن تكن عقوبة من اللّه فما أنتم برادّي عقوبة اللّه باءسيافكم،

وإن يكن بلاء فاصبروا حتي يحكم اللّه وهو خير الحاكمين (نظرية الامامة لدي الشيعة الاثني عشرية، د. احمد محمود صبحي، ص 23).

[38] مع كل الانحرافات التي عصفت بالمجتمع كان الايمان بالدين يسيطر علي الافكار والقلوب، والظلمة الطغاة استغلوا هذا الايمان، فقدموا للمجتمع مفاهيم منحرفة باسم الدين تضمن بقاءهم واستمرارظلمهم وتحكمهم. من ذلك اضفاء صفة القدسية علي «البيعة» . فكلما تمادي الخليفة في غيّه وظلمه لاتجوز معصيته ولا الثورة عليه لان له في الاعناق بيعة! وكان لهذا المفهوم دوره الكبير في خلق حالة من الخضوع والخنوع أمام الجهاز الحاكم.

[39] بحار الانوار 47: 13، باب 3 الرواية 6، ط بيروت.

[40] بحار الانوار 47: 13، باب 3 الرواية 4 عن الارشاد: 289.

[41] رجال الكشي: 158 ط: مصطفوي.

[42] رجال الكشي:156 _ 157 ط: مصطفوي.

[43] راجع تفاصيل ادلة هذه المساءلة في مظانها.

[44] اصول الكافي.

[45] المصدر نفسه «عبارات متفرقة مختارة من النص» .

[46] جري له من الفضل مثل ما جري لمحمد صلّي اللّه عليه وآله (... ولقد حملت علي مثل حمولته...) وكذلك يجري لأئمة الهدي واحدا بعد واحد.. الكافي، ج 1: 196.

[47] الكافي، 1: 187، 7 و1: 189، ح 16.

[48] في العقود الاخيرة صدرت عن المستشرقين والعلماء المسلمين الشيعة والسنّة كتابات تصوّر الدورالسلبي للأئمة تجاه مساءلة الحكم، او الدور المحايد، او المداهن، بل الدور البعيد كل البعد عن السياسة.راجع مثلا: نظرية الامامة لدي الشيعة، والتشيع والتصوف، والامام الصادق والمذاهب الاربعة،والعباسيون الاوائل.

[49] الغدير 2: 187 _ 212.

[50] البحار، 47: 58، ح 107.

[51] البحار، 23: 199، ح 32. كذلك راجع الرواية 20 من نفس الباب.

[52] الكافي 1: 186.

[53] البحار، 47: 72 عن بصائر الدرجات 5: 66.

[54] د. فاروق عمر، العباسيون الاوائل: 104.

[55] تاريخ

الطبري 6: 195.

[56] الكافي 1: 186، ح 3.

[57] القرآن الكريم يدين أيضاً باءساليب متعددة هذا اللون من الاتّباع المؤدي الي الضلال، ويردّ كل عذريتوسل به التابعون في انحرافهم. راجع سورة البقرة: 167، الشعراء: 91 _ 102، سباء: 31 _ 33،النساء: 97.

[58] الكافي، 1: 238).

[59] المناقب، ابن شهرآشوب: 238 ط: بيروت.

[60] المعني نفسه جاء في كتاب الشيخ راضي آل ياسين، صلح الامام الحسن عليه السلام:31 _ 32ط: بيروت.

[61] تحف العقول: 115. ط 2.

[62] هذا الوضع يمكن مقارنته وتشبيهه الي حد ما بوضع المجتمعات المعاصرة التي تحكمها الانظمة الحزبية.

[63] مات الربيع بن زياد الحارثي غماً لمقتل حجر، وذكر ذلك ابن الاثير في الكامل 3: 195، وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدي... وذكر ذلك في الاستيعاب، واُسد الغابة، والدرجات الرفيعة،وغيرها. صلح الحسن عليه السلام: 338.

[64] ثورة الحسين: 118، نقلاً عن اعيان الشيعة والاخبار الطوال).

[65] الطبري 7: 46، نقلا عن د. سميرة مختار الليثي، جهاد الشيعة: 28.

[66] د. سميرة الليثي، جهاد الشيعة: 27.

[67] رجال الكشي: 380 ط مصطفوي.

[68] رجال الكشي: 380، ط مصطفوي.

[69] مناقب ابن شهرآشوب 4: 248.

[70] الكافي 2: 219.

[71] هذا التعبير مقتبس من أحد نصوص الامام عليه السلام.

[72] قطعت رجله وهو حي ثم قتل. للتعرف علي هذه الشخصية الكبيرة راجع: رجال الكشي وسائركتب الرجال.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.