الامام جعفر الصادق (ع)امام المسلمين

اشارة

المؤلف: المستشار عبدالحليم الجندي

تحقيق: كمال السيد الطبعة:الاولي

طبع في سنة: 1427 ق / 2006 م

الناشر : نشر انصاريان

مقدمة

عاش الامام الصادق في زمن التحولات الكبري، و شهد زوال حكم دموي رهيب، و قيام حكم غاشم نهض علي جماجم الضحايا. و كان - عليه السلام - في طليعة الذين صنعوا تلك الحقبة الحساسة من التاريخ الاسلامي. و اذا عرفنا «ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم»، أدركنا عمق الدور الهام الذي اضطلع به الامام الصادق في ايقاف حالة التداعي الفكري التي عصفت بالأمة يومذاك. ففي عهده عليه السلام استكملت مدرسة أهل البيت ملامحها و بدأت تخرج العلماء و العباقرة الذين تصدوا لمنازلة زعماء العقائد المنحرفة و الضالة؛ و من ثم تجذير الحالة الاسلامية التي كانت تهتز بشدة. أدرك آلام امته، فانتهج طريقه اللاحب لا يحيد عنه قيد شعرة؛ و تماسك الأمة، و وحدتها تلزمه قاعدة فكرية صلبة، و الصراع الفكري في ذروته، فانطلق الصادق عليه السلام يفجر ينابيع العلم تفجيرا، فسالت أودية علي قدر كيف نجا الامام عليه السلام من براثن حكم قام علي أشلاء مذبحة عاشوراء؟! و كيف أمكنه ان يروض حكما قاسيا لا يعرف للرحمة معني؟! ذلك هو السر في شخصية الامام الصادق عليه السلام. كانت الأرض تهتز تحت قدميه بعنف... الجيوش القادمة من الشرق تحمل رايات سوداء و تبشر بدولة جديدة... شعارها الرضا من آل محمد، و آلاف المؤامرات و الدسائس تحاك في الظلام. و في عصر قلق لا يعرف الثبات، ثبت الامام الصادق عليه السلام و ظل كما هو يشق طريقه بعيدا عن ألاعيب الساسة و مؤامرات ذوي الطموح. أحرق رسائل الذين دعوه للزعامة السياسية. كانت الوقائع مثيرة... مزلزلة، عاصفة... و كان [ صفحه 10] الصادق

عليه السلام مطمئنا؛ لأنه كان يعيش في عالم الحقائق لا الوقائع... كان ينظر الي ماوراء الحوادث، و كان همه الدائم الحفاظ علي كيان الأمة. فالأمة تحتاج الي فكر عميق و قاعدة صلبة، فشمر عن ساعديه وراح يرفع القواعد من البيت. هكذا عاش الصادق... معلما للانسان... حياته حياة الأنبياء، و روحه العظيمة تنطوي علي ذات الأسرار التي انطوت عليها روح محمد و علي و الحسين. الكتاب الذي بين يديك عزيزي القاري، يمثل - في الحقيقة - رحلة في عمق التاريخ و الانسان، ارتأت (مؤسسة أنصاريان) اعادة طبعه و بحلة جديدة بعد اجراء بعض التصحيحات اللازمة فيما يتعلق ببعض الحوادث التاريخية، اضافة الي التخفيف من حدة الاسلوب التبريري الذي يخدش الذوق المنطقي، خاصة في الحقبة التي استوعبت وقائع صدر الاسلام... و من هنا جاء نشر الكتاب تحت عنوان: «طبعة جديدة» كمال السيد [ صفحه 11]

تمهيد

لقد تتلمذ أبوحنيفة و مالك للإمام الصادق، و تأثرا به كثيرا، سواء في الفقة أو في التفكير. و مالك شيخ الشافعي. و الشافعي يدلي إلي أبناء النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بأسباب من العلم و الدم. و قد تتلمذ له أحمد بن حنبل سنوات عشر. فهؤلاء أئمة أهل السنة الأربعة، تلاميذ مباشرون أو غير مباشرين للإمام الصادق. غير أن تعاقب الأئمة الأربعة لأهل السنة، و تقارب مذاهبهم في تعبيرها عن فقه «أهل السنة»، دفعا إلي وجه آخر. فظهرت كتبنا عنهم بين سنتي 1945، 1970 للميلاد. و إلي ذلك فقد تأكد في كتابنا «توحيد الأمة العربية» سنة (1965) أن «وحدة القاعدة القانونية» هي الطريقة المثلي لربط المسلمين، في شتي أقطارهم، بتشريع إسلامي شامل تتضاءل أمامه التشريعات المعاصرة في الغرب و

الشرق. و الفقه «الشيعي» واحد من النهرين اللذين تسقي منهما حضارة الإسلام، و إليه لجأ الشارع المصري في هذا القرن لإجراء إصلاحات ذات بال في نظام الأسرة المصرية. و الإمام جعفر الصادق يقف شامخا في قمة فقه أهل بيت النبي عليه الصلاة و السلام هو في الفقه امام. و المسلمون اليوم يلتمسون في كنوزهم الذاتية مصادر أصيلة للنهضة؛ غير خليطة و لا مستوردة. هو الإمام الوحيد من «أهل البيت» الذي أتيحت له امامة دامت أكثر من ثلث قرن، تمحض فيها مجلسه للعلم، دون أن يمد عينيه الي السلطة في أيدي الملوك. و بهذا التخصص سلم الأمة مفاتح العلم النبوي. و منه يبدأ التأصيل الواضح لمنهج علمي عام للفكر الإسلامي، نقلته أمم الغرب و وصلت الي ما وصلت اليه. و عمل به بين يديه، ثم [ صفحه 12] أعلنه، تلميذه جابر بن حيان أول كيميائي كما تبايع له «أوربا الحديثة»، و هو «منهج التجربة و الاستخلاص»، أي الاعتبار بالواقع و تحكيم العقل، مع النزاهة العلمية. فالإمام الصادق هو فاتح العالم الفكري الجديد، بالمنهج العقلاني و التجريبي، كأصحاب الكشوف الذين فتحوا أرض الله لعباده فدخلوها آمنين. و الإمام الصادق هو الإمام الوحيد في التاريخ الإسلامي، و العالم الوحيد في التاريخ العالمي، الذي قامت علي أسس مبادئه «الدينية و الفقهية و الاجتماعية و الاقتصادية» دول عظمي. و مصر تذكر منها أكبر دولة عرفها التاريخ فيها منذ عهد الفراعنة - الدولة الفاطمية - التي امتد سلطانها من المحيط الأطلسي الي قناة السويس. ولو لا هزيمة جيوشها أمام الأتراك لخفقت أعلامها علي جبال الهملايا في وسط آسيا. و العالم كله مدين لها بمدينة القاهرة. و المسلمون يدينون لها بالجامع الأزهر، الذي

حفظ القرآن و السنة و اللغة العربية، و علومها كافة. و يدينون لتعاليم الإمام بقيام دولة كبيرة في ايران. و مجتمع عظيم بالعراق. و معاهد علمية يتصدرها النجف الأشرف، و شعوب قوية في الهند و باكستان و اليمن و أفغانستان و وسط آسيا و لبنان و سورية و كثير سواها. و هو الإمام الذي علم بالمواقف التي وقفها، قدر ما علم بالمبادي التي أرساها. فالمواقف أعمال. و هي أعلي صوتا من الأقوال. و لقد يعدل الموقف الواحد جهاد عمر كامل، أو مهمة حياة رجل. و هو، بمكانه من «أهل البيت»، و حقه في الخلافة، و امامته للفقهاء بلا استثناء، كان غرضا يطلبه اعظم خلفاء بني العباس ليضيفه الي قوائم القتلي من صناديد القادة، أو الشهداء من «أهل البيت». و كان درسا من السماء أن يسيطر الإمام علي الميزان اذ يلتقيان، فيضعف الطالب عن المطلوب، و يرتفع الإمام الصادق بالخليفة القاتل الي مستوي الحاكم العادل. و المستقبليون الذين يتكلمون اليوم عن الأخذ بأسباب النهضة العلمية، [ صفحه 13] كالسياسيين الذين لا يرون النهضة بالغة شأوها الا أن تكون شاملة لأمور الدين و الدنيا - هؤلاء و أولاء، بحاجة الي الاطلاع علي حياة الإمام الصادق، ليروا مقدار ما تفلح الدعوة الصادقة بالمبادئ الصحيحة، و الخطط الرشيدة، في اقامة دول، و مجتمعات، قوامها الدين و العلم و العدل و الاقتصاد. و الله نحمد: لقد غيرت مصر في سنة 1971 دستورها، و نصت علي أن «الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع» و هي دعوة صادقة لتقوم القوانين المطبقة جميعا علي أساس الشريعة. و بعد: فالكتاب الحالي يبلغ غرضه اذا كان صوتا يدعو الي الوحدة. و المسلمون تجمعهم أصول فكرية واحدة، و

ان اختلفت الفروع أو تعددت الآراء. و في تعدد الآراء ثراء. و لما عرض تلميذ لأحمد بن حنبل تسمية كتاب له «كتاب الاختلاف» قال له «سمه كتاب السعة». ألا: و انه لا صلاح للمسلمين و العرب اليوم في مواجهة التحدي العالمي الا بالوحدة. و العالم الغربي الذي تهز الأفكار المادية و الإلحادية عقائده، و يزعزع الرعب النووي استقراره، بحاجة الي مبادئ الإسلام، و عرض شريعته علميا، كهيئة ما عرضها الإمام الصادق علي ملحدي عصره فكانوا يسلمون، و كمثل ما علم تلاميذه و معاصريه قواعد العلم و الفقه و الاقتصاد التي تكفل للمسلمين النماء الفكري و الاجتماعي و الاقتصادي. و العالم الغربي، الذي يحسب للعالم الإسلامي حساب الطاقة التي خزنتها السماء في الأرض الإسلامية، التي جعلها الله مقرا لبيته العتيق، و حساب المعادن التي تعكس الأقمار الصناعية لمعانها و اشراقها كلما صورت أرض المسلمين، العالم الغربي الذي جمعته الحروب الصليبية في مواجهة العالم الإسلامي، و الذي خططت حدوده الحالية حروب و معاهدات دينية، و ازدهت قاراته الجديدة بعد هجرات تجري في جذورها [ صفحه 14] النوازع الدينية، هذا العالم الغربي جدير بأن يواجهه المسلمون كالبنيان المرصوص. حياة الإمام تنقسم في ترجمتها الي قسمين: الأول عن الرجل، و الثاني عن علمه. و علي ذلك وردت الصورة التي صورنا فيها هذه الحياة في قسمين. كل منهما في ثلاثة أبواب. يدور القسم الأول حول ظهور الإسلام و تألق «علي» و أولاده من «فاطمة الزهراء» في الصدارة من الاشخاص و الأحداث، و البيئة التي نتج فيها الإمام الصادق؛ فتعاونت علي اعداده ظروف الوفاء، أو العداء، لأهل البيت، لتهيئ منه إماما خصيصته تعليم العلم الذي تلقاه عن جديه، و طريقته الأسوة

الحسنة في أعمال حياته، و تحمل التبعات حيث تزوغ الأبصار. و يعرض القسم الثاني من الكتاب تصور المؤلف للعلم الذي علمه الإمام، و المدرسة التي أنتجته، و المنهج العلمي، العالمي، الذي أخذ به العلماء و الفقهاء ، و الرياضيون و الفلكيون و الكيمائيون و علماء الطبيعة الإسلاميون، و نقله عنهم رياضيو الوسيطة في اوربا، ليصير «منهج التجربة و الاستخلاص» الذي يعمل به الفكر المعاصر، بعد إذ ترجم من العربية في جنوب فرنسا و اسبانيا و صقلية و سواها من جامعات أوربا، و سبق إلي التنويه به «روجير بيكون» ثم نسب إلي «فرنسيس بيكون» بعد ثلاثة قرون - و كذلك المنهج السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي الذي نهضت عليه الدول العظمي و المجتمعات الإسلامية التي يباهي بها المسلمون في العصر الوسيط و في العصور الحديثة. و في هذا القسم باب أخير تبدو فبه عدالة التاريخ مصححة لانحراف الأعداء و افتياتهم علي أبناء علي، كما يظهر فيه نصر الله للمسلمين إذ يتحدون. و الله نسأل أن يقينا الزلل. [ صفحه 17]

پاورقي

[1] العرب تسمي ابن العم الشقيق أخا.

[2] روي جميع بن عمير التيمي قال «دخلت مع عمي علي عائشة فسألت: أي الناس كان أحب إلي رسول الله؟ قالت فاطمة. قيل من الرجال؟ قالت زوجها. أن كان ما علمت صواما قواما» و في مسند الإمام أحمد عن علي أنه قال: دخل علي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و أنا نائم، فاستسقي الحسن أو الحسين فقام النبي إلي شاة لنا بكي ء (قليلة اللبن) فحلبها قدرت فجاء الحسن فنحاه النبي فقالت فاطمة: يا رسول الله. كأنه أحبهما قال: لا ولكنه استسقي قبله، ثم قال «أنا و

اياك و هذين، و هذا الراقد، في مكان واحد يوم القيامة». توفيت بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) بستة أشهر و قيل ثلاثة. و قيل بسبعين يوما عن تسع و عشرين سنة أو ثلاثين.

[3] لا يتسع المقام في هذا الباب إلا لبعض أمثال: - قاضاه خصم إلي عمر و ناداه عمر: قم يا أباالحسن. و لا حظ عمر أنه تألم فسأله. فقال «تألمت إذ كنيتني و لم تكن خصمي فلم تسو بيننا». - و قاضاه يهودي - و هو خليفة - في درع - و لم تكن للخليفة بينة. فقضي القاضي ضده، فأسلم اليهودي لما رأي من العدل. - و أودع قرشيان مائة دينار - لدي قرشية علي ألا تدفعها لأحدهما دون الآخر. و لبثا حولا ثم جاء أحدهما وادعي أن الآخر مات. فدفعت إليه المال. ثم جاءها الآخر فأخبرته. فترافعا إلي علي. و عرف علي أن الرجلين مكرا بها. فقال للرجل: أليس قلتما لها لا تدفعي لواحد دون صاحبه؟ قال بلي. قال اذهب فجئ بصاحبك. فذهب و لم يرجع. و هذه اللفتات المرتجلة تصدر عن وحدة فكرية في أمور الإثبات و الإجراءات و إدارة الجلسات و هي دلائل متضافرة علي اقتدار مقطوع القرين «لعقل قضائي» أجمع الصحابة العظماء علي أنه أقضاهم.

[4] الأشتر أول من قال العبارة الشهيرة في شأن معاوية حين سئل: أشهد معاوية بدرا؟ فأجاب: نعم من الجانب الآخر (أي جانب المشركين).

[5] روي الأنباري في تاريخ الأدباء أن سبب وضع علي كرم الله وجهه لهذا العلم ما روي أبوالأسود الدؤلي (67) حيث قال: دخلت علي أميرالمؤمنين علي فوجدت في يده رقعة فقلت ما هذه يا أميرالمؤمنين فقال: إني تأملت

كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الاعاجم) فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ثم ألقي إلي الرقعة و مكتوب فيها (الكلام كله اسم و فعل و حرف فالاسم ما أنبأ عن المسمي و الفعل ما أنبي به و الحرف ما أفاد معني) و قال لي انح هدا النحو و أضف إليه ما وقع عليك و اعلم يا أباالأسود أن الأسماء ثلاثة... ظاهر و مضمر و اسم لا ظاهر و لا مضمر. و إنما يتفاضل الناس يا أباالأسود فيما ليس بظاهر و لا مضمر (أراد بذلك الاسم المبهم) قال وضعت بابي العطف و النعت ثم بابي التعجب و الاستفهام إلي أن وصلت إلي باب ان و أخواتها فكتبتها ماخلا «لكن» فلما عرضتها علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) أمرني بضم (لكن) اليها. و كلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلي أن حصلت ما فيه الكفاية. فقال ما أحسن هذا النحو الذي نحوت فلذا سمي النحو. و ان المرء ليلاحظ أن هذا الفتح العظيم في العلم كان من اهتماماته و هو أمير للمؤمنين، ليس لديه يوم واحد خلا من معركة أو استعداده لمعركة. و ان أباالأسود هو واضع علامات الإعراب في المصحف في أواخر الكلمات بصبغ يخالف لون المداد الذي كتب به المصحف. فجعل علامة الفتح نقطة فوق الحرف. و الضم نقطة إلي جانبه و الكسر نقطة في أسفله و التنوين مع الحركة نقطتين ثم وضع نصر بن عاصم (89) تلميذ أبي الأسود النقط و الشكل لأوائل الكلمات و أواسطها ثم جاء الخليل بن أحمد (175) فشارك في إتمام بقية الإعجام... و الخليل شيعي كأبي الأسود. و هو واضع علم العروض و صاحب المعجم الأول و

واضح النحو علي أساس القياس. فاللغة العربية مدينة لعلي و تلاميذ علي. و كمثلها البلاغة العربية. و يعد علي من ابرز خطباء التاريخ العالمي بخطبه و المناسبات التي دعت إليها.

[6] لم يورث الخليفة الزهراء من أبيها. و قصد إليها مع عمر يذكران لها حديث الرسول في حرمانها من ميراثها. قال أبوبكر: إني سمعته (صلي الله عليه و آله و سلم) يقول (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) ثم قال: و الله إن قرابة رسول الله أحب الي من قرابتي. و إنك أحب الي من عائشة (بنته). قالت: ارايتكما ان حدثتكما حديثا عن رسول الله تعرفانه و تعملان به؟. قالا: نعم. قالت: ألم تسمعا قول الرسول «رضا فاطمة من رضاي و سخط فاطمة من سخطي». قالا: سمعنا. قالت: إني أشهد الله أنكما استخطتماني. و ما أرضيتماني. و لئن لقيت رسول الله لاشكونكما إليه... و خرجا يبكيان. فلقد كانت تبكي.

[7] و منذئذ كانت لعلي شيعته. قال أبان بن تغلب «قلت لجعفر بن محمد (الصادق) جعلت فداك. هل كان أحد من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أنكر علي أبي بكر فعله؟ قال: نعم اثناعشر رجلا من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص و سلمان الفارسي و أبوذر الغفاري، و المقداد بن الأسود و عمار بن ياسر و بريدة الأسلمي. و من الأنصار: أبوالهيثم بن التيهان. و سهل و عثمان ابنا حنيف. و خزيمة بن ثابت و أبي بن كعب. و أبوأيوب الأنصاري.

[8] قرية علي مبعدة ثلاثة ايام من المدينة.

[9] كان أبوسفيان إحدي تبعات معاوية، أرسل معه من دمشق أموالا و أغلالا إلي عمر ليظهره علي الأغلال التي كان أساري المسلمين مقيدين بها في حصون الروم.

فلما رجع أبوسفيان إلي المدينة ذهب إلي عمر بالأغلال و لم يذهب بالمال. فسأله عمر: أين المال؟ قال: كان علينا دين و مؤنة، و لنا في بيت المال حق. فإذا أخرجت لنا شيئا؟ قال عمر: اطرحوه في القيود حتي يأتي بالمال... فأرسل أبوسفيان من جاء بالمال. [

[10] عبد شمس أخوهاشم جد النبي و هما ابنا عبد مناف. و لعبد شمس بنون منهم: حبيب جد عبدالله بن عامر. و منهم أمية أبوحرب والد أبي سفيان، والد معاوية. و منهم أبوالعاص و له أبناء منهم عفان أبوعثمان. و الحكم أبومروان. و مروان كاتب عثمان. و منهم أبوعمر و له أبناء منهم أبومعيط جد الوليد بن عقبة الذي حده عثمان للخمر، و هو وال له. و منهم العاص أبوسعيد أحد ولاة عثمان. و منهم أبوالعيص جد عتاب بن أسيد عامل النبي علي مكة. حيث ولي النبي أعداءه السابقين و لم يول أهله.

[11] شهد صفين مع علي ألفان و ثمانمائة من الصحابة... منهم سبعة و ثمانون من أهل بدر و تسعمائة من الأنصار و من بايعوا بيعة الرضوان.

[12] و جاءه يوما جماعة فأكثروا القول و أطالوا في خلافة علي فرفع إليهم رأسه و قال: إن الخلافة لم تزين عليا ولكن عليا زينها. و مثل الشافعي رأي المسلمين عندما قال رجل «ما نفر الناس علي إلا لأنه كان لا يبالي بأحد» فبهته الشافعي بقوله «كان له أربع خصال لا تكون واحدة منها لإنسان إلا و يحق له ألا يبالي بأحد: انه كان زاهدا، و الزاهد لا يبالي بالدنيا و أهلها. و كان عالما، و العالم لا يبالي بأحد. و كان شجاعا، و الشجاع لا يبالي بأحد. و كان شريفا، و الشريف

لا يبالي بأحد». و أما الخوارج علي جيشه فكانوا ثمانية آلاف دعاهم ليزيل شبهتهم. فأبوا أن يجيئوه إلا أن يقر بالكفر علي نفسه ثم يتوب. فحاربهم و نصره الله عليهم. ثم حاربوا الأمويين و العباسيين. و مع تكفيرهم الكثيرين من جمهور المسلمين بدعوي التهاون في الدين فالمسلمون لا يكفرونهم لانهم متأولون. و أميرالمؤمنين علي يعلم المسلمين ذلك بقوله عنهم: «إخواننا بغوا علينا». وفقه علي في معاملة العدو و في الحرب عنوان علي علم الإمام و حلمه. فهما من علم النبي و حلمه. إذا كانت هند بنت عتبة (أم معاوية) مثلت بجثة أسد الإسلام حمزة يوم أحد، و قال النبي يومذاك «ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا» فلما جاءه يوم فتح مكة «وحشي» قاتل حمزة اكتفي بقوله «ويحك غيب عني وجهك». و عفا عن هند و قال للأعداء «أنتم الطلقاء»، فلقد صنع علي صنيعه (يوم الجمل) عندما ظفر بابن الزبير فاكتفي بأن قال له «لا أرينك بعد اليوم» و ظفر بسعيد بن العاص فأعرض عنه. و ظفر بأهل البصرة فصفح الصفح الجميل.

[13] بنو أمية: معاويه (60 - 41) يزيد (64 - 60) معاوية بن يزيد (ثلاثة اشهر في سنة 64). مروان بن الحكم 65 - 64، عبدالملك بن مروان 86 - 64. الوليد بن عبدالملك 96 - 86، سليمان بن عبدالملك 99 - 96. عمر بن عبدالعزيز 101 - 99، يزيد بن عبدالملك 105 - 101. هشام بن عبدالملك 125 - 105، الوليد بن يزيد 126 - 125. يزيد بن الوليد 126، ابراهيم بن الوليد 126. مروان بن محمد بن مروان 132 - 127 ه.

[14] كان المحرض علي قتل الحسين و أهل البيت شمر بن ذي

الجوشن رقيب ابن زياد علي قائد الجيش. و هو القائل أوقر ركابي فضة و ذهبا فقد قتلت السيد المحجبا قتلت خيرالناس أما و أبا و خيرهم إذ ينسبون نسبا.

[15] اشتركت السيدة زينب أخت الحسين من ابيه و أمه معه في المعركة. و كان أثرها في مصير أهل البيت عظيما. كانت زوجا لابن عمها عبدالله بن جعفر و كان قد أذن لها في الخروج مع الحسين فكانت تمرض المصابين في الصفوف أثناء القتال. و لقد هم شمر بن ذي الجوشن بقتل زين العابدين، فاحتضنته لتقتل معه، فانصرف المجرم مذموما مدحورا. و لما انتهت المعركة اقتيدت بين الأسري إلي ابن زياد في الكوفة و إلي يزيد في دمشق و معها زين العابدين تكلؤه بعناية الله علي يديها لينجب، فيتسلسل منه أئمة أهل البيت الاثنا عشر، بل كل نسل الحسين من الرجال. و كانت مثال الشجاعة و البلاغة العلويتين في وجه ابن زياد و يزيد. و لما أعيد الأسري إلي المدينة أمر يزيد بإبعادها إلي مصر فسارت إليها، فاستقبلها أهل مصر في بلدة بلبيس علي مبعدة عشرات الأميال من الفسطاط، و علي رأس مستقبليها أمير مصر «مسلمة بن مخلد» فعاشت في مصر عاما. ثم ماتت سنة 62. و قبرها في الحي المعروف باسمها و هو من أقدم أحياء القاهرة. و علي مقربة منها حي السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن. جاءت إلي مصر مع زوجها في المائة الثانية للهجرة و لقيها الامام الشافعي و لما مات حملت جنازته إليها فصلت عليها و قالت (رحم الله الشافعي) و يحمل اسم السيدة نفيسة حي معروف بالقاهرة، كما يحمل اسم «الحسين» المسجد الأشهر بالقاهرة و الحي الذي يمجد عاصمة مصر و تتعالي فيه معاهد الجامع الأزهر

و غيره من آثار الدولة الفاطمية و الدولة الأيوبية و دولتي المماليك.

[16] الشاعر محمد إقبال شاعر الهند و باكستان.

[17] و تعلم عليهما صلاح الدين في حربه مع الصليبين يوم أرسل طبيبه إلي الملك رتشارد قلب الأسد قائد الصليبين. و أين من قواعد الحرب الإسلامية قواعدها عند الأوروبيين. إن ابقراط أباالطب اليوناني الذي ورثت اوربا قسمه الشهير كل طبيب قل اداء واجبه بالنزاهة و الأمانة، عدم التعصب - لكن أبقراط علم الأوربيين درسا آخر حين رفض أن يعالج مرضي الطاعون في الجيش الفارسي قائلا إن شرفه يمنعه من معالجة عدو لبلاده!.

[18] قادها سليمان بن صرد الخزاعي احد صحابة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم).

[19] لم تمض أعوام حتي انهارت الدولة الأموية، و نبش العباسيون قبور معاوية و ابنه يزيد و عبدالملك بن مروان فلم يجدوا فيها ما يصنعون فيه مثلة. أما قبر هشام فوجدوا فيه جثة هشام لم تبل بعد، فصنعوا فيها أكثر مما صنع برأس زيد. إذ أمر السفاح بضربها بالسياط و صلبها و حرقها و تذريتها في الهواء.

[20] خرج عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب علي بني مروان سنة 127 في الري بخراسان ثم استسلم لأبي مسلم بعد إذ ظفر الأخير بجيوش بين مروان. و كتب إليه يستعطفه بقوله «من الأسير يديه بلا ذنب إليه و لا خلاف عليه. فان الناس من حوضك رواء و نحن منه ظماء رزقنا الله منك التحنن... فإنك أمين مستودع ورائد مصطنع. و السلام عليكم و رحمة الله» و لم يطلقه أبومسلم، بل أورده حتفه. و قيل سمه.

[21] مالك بن أنس - عبدالحليم الجندي - طبعة دار المعارف ص 238 حيث تفصيل الواقعة.

[22] كان

صاحب فقه و أدب. سأل عن صاحب له فقيل تركناه يريد أن يموت فضحك قوم، فقال: لقد ضحكتم منها عربية! قال عزوجل «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه» يعني يكاد أن ينقض. فوثب أبوعمرو بن العلاء فقبل رأسه و قال «لا نزال و الله بخير مادام مثلك فينا» و أبوعمرو من أئمة اللغة الأولين.

[23] في ضواحي مدينة الحلة العراقية.

[24] يروي مالك أنه استدعاه فدخل فوجد عنده ابن أبي ذؤيب (159) و القاضي ابن سمعان، فسأل مالكا عن حكمه (حكم المنصور) هو عدل أم جور فاستعفاه مالك من الجواب. فسأل ابن سمعان عن حكمه فأثني عليه. فسأل ابن أبي ذؤيب فأجاب: أنت والله عندي شر الرجال... استأثرت بمال الله و رسوله و سهم ذوي القربي و اليتامي و المساكين و أهلكت الضعيف و أتعبت القوي و أمسكت أموالهم. فما حجتك غدا بين يدي الله؟. قال المنصور: ويحك! ما تقول؟. قال: رأيت أسيافا و إنما هو الموت و لابد منه. عاجله خير من آجله. قال مالك: ثم خرجا و جلست. فقال المنصور: أجد رائحة الحنوط عليك؟ قلت: أجل، لما نمي إليك عني مانمي و جاءني رسولك ظننت أنه القتل. قال: أو ماتراني اسعي في أود الإسلام و إعزاز الدين عائذا بالله... يا أبا عبدالله انصرف إلي مصرك راشدا مهديا... و إن احببت ما عندنا فنحن ممن لا يؤثر عليك أحدا. قلت: إن يجبرني علي ذلك أميرالمؤمنين فسمعا و طاعة، و إن يخيرني اخترت العافية... قال: انصرف إلي أهلك معافي مكلوءا. فلما أصبحنا أمر بصرر دنانير في كل صرة خمسة آلاف درهم ثم دعا برجل من شرطته فقال له: تدفع إلي كل رجل منهم صرة. أما مالك إن أخذها فبسبيله، و إن

ردها عليك فلا جناح عليه. و إن كان ابن سمعان ردها. فأتني برأسه و ان أخذها فهي عافيته. و إن أخذها ابن أبي ذؤيب فأتني برأسه و إن ردها عليك فسبيله. قال مالك: أما ابن سمعان فأخذها و سلم. و أما ابن أبي ذؤيب فردها و سلم. و أما أنا فكنت و الله محتاجا إليها فأخذتها. ثم رحل أبوجعفر متوجها إلي العراق. و روي مالك أنه استدعاه يوما و عبيدالله بن طاووس بن كيسان، و كان طاووس فقيه اليمن حتي مات في سنة 106 (طاووس بن كيسان تلميذ ابن عباس جد أبي جعفر). قال أبوجعفر: حدثني حديث أبيك. قال عبيدالله: حدثني أبي أن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه. قال مالك: فضممت ثيابي خوفا من أن يصيبني دمه. فقال المنصور ناولني هذه الدواة... ثلاث مرات. فلم يفعل. قال أبوجعفر: لم لا تناولني؟ قال: أخاف أن تكتب بها معصية فأكون قد شاركتك فيها. قال: قوما عني، ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله منذ ذلك اليوم. و يروي الإمام الشافعي حول أساطين جامع عمرو عن عمه محمد بن علي بن شافع مثل ذلك. عندما قال له ابن أبي ذؤيب أخذت المال من غير حله و جعلته في غير أهله و أن المنصور رد عليه بقوله: و الله لولا أنا لأخذت أبناء الفرس و الروم و الديلم هذا المكان منك. فوالله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك. أما عمرو بن عبيد فكان أبوجعفر المنصور يستقبله بالترحاب و ينشد في نزاهته الشعر (كلكم يمشي رويد. كلكم طالب صيد. غير عمرو بن عبيد) و هو زعيم المعتزلة الذين يطلقون ألسنتهم في الملوك

و الصحابة. دخل عليه فقال له «إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها و اذكر ليلة تتمخض عن يوم لا ليلة بعده» قال الربيع بن يونس حاجب المنصور: يا عمرو غممت أميرالمؤمنين. قال عمرو للمنصور «إن هذا صحبك عشرين سنة لم يرلك عليه أن ينصحك يوما واحدا. و ما عمل وراء بابك بشي ء من كتاب الله و لا سنة نبيه» قال أبوجعفر المنصور: فما أصنع، قلت لك خاتمي في يدك فتعال و أصحابك فاكفني. قال عمرو: لا. أدعنا بعدلك، تتسخ أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة اردد منها شيئا نعلم أنك صادق. و لما مات عمرو كان أول واحد من الرعية، و آخر واحد، ينظم في رثائه الخليفة شعرا. و من أبياته: و إذا الرجال تنازعوا في شبهة وصل الحديث بحجة و بيان و لو ان هذا الدهر أبقي صالحا أبقي لنا عمرا أباعثمان و الجاحظ من تعصبه لزعيمه يقول فيه «إن عبادته تفي بعبادة عامة الفقهاء و المحدثين». و ستبقي صلة المعتزلة بالدولة العباسية طويلا بعد وفاة عمرو و أبي عمرو و أبي جعفر لأن المعتزلة يمدون إلي بني العباس سببا علميا و سببا سياسيا. قالوا: إن واصلا (و هو زعيمهم مع أخي زوجته عمرو ابن عبيد) أخذ أصوله عن أبي هاشم (98) عبدالله بن محمد الحنفية - ابن علي بن أبي طالب و كان أبوهاشم قدريا مثلهم - ينفي القدر - و يضيفون أن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس: 1 - تعلم علي أبي هاشم، 2 - و تلقي منه الوصية بالإمامة بعده - دون بني علي بن أبي طالب - عندما أحس أبوهاشم بدنو أجله إذ دس السم إليه سليمان بن عبدالملك.

[25] لما استخلف أبوجعفر قصد إليه عبدالرحمن

بن زياد بن أنعم المعافري قادما من القيروان و كان زميلا له في عهد الطلب، فعرض عليه المقام ببغداد. و قال له كيف رأيت ما وراء بابنا؟ فأجابه: رأيت ظلما فاشيا و أمرا قبيحا. قال: لعله فيما بعد من بابي. فأجابه: بل كلما قربت استفحل الأمر و غلظ. قال: ما يمنعك أن ترفع ذلك إلينا و قولك مقبول عندنا؟ فأجابه: رأيت السلطان سوقا... و إنما يرفع إلي كل سوق ما ينفق فيها. قال: كأنك كرهت صحبتنا؟ فأجابه: ما يدرك المال و الشرف إلا من صحبتكم. و لكني تركت عجوزا، و إني أحب مطالعتها.

[26] يفضل أحمد بن حنبل ابن أبي ذؤيب علي مالك لمجاهرته بالحق في وجه أبي جعفر. و تقدير الشافعي لابن أبي ذؤيب يتراءي في رأي تلميذه أحمد. و في رواية الشافعي عن عمه في صدده. أما تقدير مالك فكان عن مشاهدة أو مشاركة.

[27] الدانق سدس درهم.

[28] عبدالعزيز بن مروان بن الحكم، عينه عبدالملك علي مصر و أفريقية. و هو الذي بني مدينة حلوان ضاحية الفسطاط - القاهرة. و فيها عاش عمر بن عبدالعزيز زمانا. و جيوش أفريقية هي التي فتحت الأندلس بقيادة طارق بن زياد و موسي بن نصير.

[29] أطلق الخليفة سليمان بن عبدالملك من سجون الحجاج في يوم واحد ثمانين ألفا. منهم ثلاثون ألفا بغير ذنب. و منهم ثلاثون ألف أمرأة.

[30] و تستمر عجلة الطغيان في الدوران. و تتوالي مقاتل الطالبيين توالي الخلفاء العباسيين - ففي بدء عهد المأمون يقتل بالعراق: الحسن و الحسين بن زيد عند قنطرة الكوفة مع ابي السرايا، و الحسن بن اسحق بن علي في وقعة السوس مع أبي السرايا. و محمد بن الحسن بن الحسين يقتل باليمن في أيام أبي السرايا. و علي

بن عبدالله بن محمد يقتل باليمن في أيام أبي السرايا و محمد بن إبراهيم بن اسماعيل (و هو ابن طباطبا) الخارج مع أبي السرايا سنة 199 مطالبين بالبيعة (للرضا من آل محمد). و قد انهزموا بجيش هزثمة بن أعين قائد المأمون سنة 200. و قتلي العلويين علي يد هذا الجيش كثيرون.

[31] و في عهد المعتصم خرج محمد بن القاسم... بن علي بالطالقان فقبض عليه عبدالله بن طاهر و بعث به الي الخليفة. و حبس المعتصم عبدالله بن الحسن... بن جعفر حتي مات في مخبئه. فلما جاء الواثق أمن العلويون بضع سنين، إذ جمعوا ثم حبسوا، عن الانطلاق خارج العاصمة سامرا، فتطامنوا و أطمأنت السلطة. ثم هبت عليهم في أيام المتوكل ريح عاتية من جنون الفزع. فلقد أزال قبر الحسين (عليه السلام) و حرثه حتي لا يزار، و شتت شمل شيعته و فرقهم في النواحي. فمنهم من حبسوا و منهم من تواروا حتي ماتوا في مهربهم - و تناقل الناس أشعارا منسوبة الي ابن السكيت عالم النحو الكبير، و كان يعلم ولدي المتوكل. و في هذه الأشعار: تالله إن كانت أمية قد أتت قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله هذا لعمرك قبره مهدوما أسفوا علي ألا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما! و ربما أراد المتوكل أن يتيقن من صدور هذا الشعر أو من ولاء العالم حين سأله: أيهما أحسن: ولداي (المؤيد و المعتز) أم الحسن و الحسين؟... و لم يرضه جوابه. فأمر بقتله فقتلوه. و لم يلبث المتوكل إلا قليلا حتي قتله ابنه (المنتصر) في مؤامرة! و إنما كانت فظاعة الجريمة الأخيرة قصاصا عجلت به السماء لمقتل عالم آثر الصدق. و لم يصلح للعلويين بال إلا أشهرا بعد

مصرع المتوكل، ليعود البطش بهم الي عنفوانه في أيام المستعين. فمنهم من خرج و خرج الناس معه، كيحيي بن عمر خرج فقتل. و منهم من خرج و لم يخرج الناس معه، فحبس ليموت سنة 271. و هو الحسن بن محمد المعروف بالحرون. و منهم محمد بن محمد جعفر خرج و حبس حتي مات في سامراء ليتتابع سجل الشهداء....

[32] نقف عن السرد، عند أبيات لابن الرومي (384 - 321) من جيميته في رثاء يحيي بن عمر بعد مقتله إذ خرج علي بني العباس في القرن الرابع من جراء ظلمهم: أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتي؛ مستقيم و أعوج أكل أوان للنبي محمد قتيل زكي بالدماء مضرج؟ بني المصطفي كم يأكل الناس شلوكم لبلواكمو عما قليل مفرج أبعد المسمي بالحسين شهيدكم تضاء مصابيح السماء فتسرج؟ أيحيي العلا لهفي لذكراك لهفة يباشر مكواها الفؤاد فينضج لمن تستجد الأرض بعدك زينة فتصبح في أثوابها تتبرج؟ سلام و ريحان و روح و رحمة عليك و محدود من الظل سجسج ألا أيها المستبشرون بيومه أظلت عليكم غمة لا تفرج نظار لكم ان يرجع الحق راجع الي أهله يوما فتشجوا كما شجوا غررتم إذا صدقتمو أن حالة تدوم لكم. الدهر لونان. أخرج أبي الله إلا ان يطيبوا و تخبثوا و ان يسبقوا بالصالحات و يفلحوا لعل قلوبا قد أطلتم غليلها ستظفر منك بالشفاء فتثلج.

[33] ادعي خالد بن عبدالله القسري مالا قبل زيد و أبناء الصحابة. فدعاهم الخليفة هشام بن عبدالملك الي العاصمة و سألهم فأنكروا مزاعمه. فأعادهم الي واليه علي العراق يوسف بن عمر ليستحلفهم. و قيل ان هشاما لم يرد السلام علي زيد فأغلظ له زيد في الكلام. و كان زيد في الذروة

من فقهاء العصر - و لما رجعوا الي الكوفة استحلفهم يوسف فحلفوا، لكنه أبقاهم محبوسين في انتظار رأي هشام. فأمره بإخلاء سبيلهم فخرج زيد من الحبس قاصدا القادسية. و اجتمع اليه شيعة الكوفة و طلبوا اليه الخروج علي الخليفة و تعهدوا بنصره. فخرج اليهم. فجمعوا له أربعة آلاف رجل ثم انفضوا من حوله. فحارب حرب الأبطال حتي استشهد. فكان منهم معه ما كان من آبائهم مع جده أي (فعلوها حسينية) كما قال. ثم خرج ابنه يحيي فقتل سنة 125.

[34] و لما جي ء بزين العابدين (عليه السلام) في أسري كربلاء أقيم علي درج دمشق، فقال له رجل من أهل الشام: الحمد لله الذي قتلكم و استأصلكم و قطع قرن الفتنة. قال زين العابدين: قرأت القرآن؟ قال الرجل: نعم. قال: قرأت ال.حم؟ قال الرجل: نعم. قال: أما قرأت (قل لا اسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي) قال الرجل: فإنكم إياهم؟ قال نعم. و يقصد الامام الآية 23 من سورة الشوري (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا و عملوا الصالحات. قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي و من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور) و أول آيات سورة الشوري (حم).

[35] حج هشام بن عبدالملك في خلافة أبيه، فرأي رجلا ينجفل الناس اليه، و يفسحون في الطواف له، في حين لا يحفل الناس بابن الخليفة، فسأل من هذا؟ و سمع الفرزدق السؤال؛ فأنشد ميميته الطويلة المشهورة في الأدب العربي؛ و مما جاء فيها: هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي الطاهر العلم هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم إذا رأته قريش قال قائلها الي مكارم هذا ينتهي

الكرم ينمي الي ذروة العز التي قصرت عين نيلها عرب الاسلام و العجم يغضي حياء و يغضي من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده انبياء الله قد ختموا الله شرفه قدرا و عظمه جري بذلك له في لوحه القلم و ليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت و العجم ما قال «لا» قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم من معشر حبهم دين. و بغضهم كفر. و قربهم منجي و معتصم من يعرف الله يعرف أولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الأمم و غضب هشام و أرسل زين العابدين (عليه السلام) للفرزدق أربعة آلاف درهم، ردها الفرزدق قائلا: إنما مدحتك بما أنت أهله، وردها الامام قائلا: إنا أهل بيت اذا وهبنا شيئا لا نستعيده.

[36] يقال عن أمها «هند» أكرم الناس أحماء: أما أسماء فزوج جعفر و لها منه عبدالله. و زوج أبي بكر و لها منه محمد. و زوج علي و لها منه يحيي. أما أخواتها فميمونة أم المؤمنين و لبابة زوج العباس عم النبي وجدة خلفاء الدولة العباسية. و سلمي زوج حمزة بطل أحد و شهيدها و عم النبي. و أم الفضل الكبري (أخت أسماء لأمها) أم خالد بن الوليد.

[37] حجت أم فروة متنكرة فاستلمت الحجر بيدها اليسري فقال لها رجل لا يعرفها: يا أمة الله أخطأت السنة! فأجابت: يا هذا إنا عن علمك لأغنياء.

[38] و للقاسم و أبيه أكبر الصلات بأم المؤمنين عائشة، إذ ضمته اليها بعد مقتل أبيه محمد، علي أيدي جند معاوية، و محمد ربيب علي... سيره معها بعد وقعة الجمل الي المدينة في كوكبة من النساء في ملابس الرجال. و كان تسيير أخيها معها كرامة يحفظ بها

أخو الرسول أم المؤمنين. و في بيت عائشة سقي القاسم علمها الذي أراد عمر بن عبدالعزيز تدوينه عن طريقه، و عمر خليفة، حتي لا يضيع علم المدينة، فكتب بذلك الي قاضيه و واليه علي المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.

[39] يقول فيه يحيي بن سعيد (143) تلميذ فقهاء المدينة السبعة (ما أدركنا بالمدينة أحدا نفضله علي القاسم) و ابن حنبل يقول في يحيي (أثبت الناس).

[40] محمد بن المنكدر (130) من معادن الصدق بالمدينة و أشياخ مالك، من بني تيم قبيلة أبي بكر، و هم مشهورون بالرقة و الورع. و هم أجداد الامام جعفر عليه السلام - كان لا يسأل ابن المنكدر أحد عن حديث إلا بكي. و مالك يقول: «كنت إذا وجدت من نفسي قسوة آتي ابن المنكدر فأنظر اليه نظرة فأبغض نفسي أياما». و ابن المنكدر يقول: «كابدت نفسي في ذلك أربعين عاما حتي استقامت». و كان من بني المنكدر إخوة ثلاثة فقهاء: محمد و أبوبكر و عمر أبناء المنكدر.

[41] استعصي علي المسلمين حصن من حصون الروم، فتصدي له فارس ملثم فاقتحمه و تتابع وراءه المسلمون و اختفي الفارس في الجند. و لما سئل ابن المبارك فيما بعد، عن إخفاء نفسه، قال «لأن من صنعت ذلك لأجله - سبحانه - مطلع عليه». و خرج الي الحج فمر بامرأة رآها تخرج غرابا ميتا من حيث ألقي به. فسألها فقالت: انها و زوجها لا يجدان ما يطعمانه. فقال لوكيله: كم معك من نفقة الحج؟ قال: ألف دينار. قال «عد منها عشرين تكفي للعودة الي مرو (عاصمة خراسان) و أعطها الباقي. فهذا أفضل من حجنا هذا العام». و رجع و لم يحج. و كان الرشيد بالرقة يوما و أقبل عليه ابن المبارك. فانجفل الناس خلفه

و رأته أم ولد الرشيد فقالت: هذا و الله الملك. لا ملك هارون الذي يجمع الناس بشرطة و أعوان. و لما مات ابن المبارك جلس الرشيد فتقبل العزاء فيه.

[42] عبدالكريم بن أبي العوجاء هو خال معن بن زائدة الشيباني أحد قواد بني مروان، و كبير من كبار الولاة لأبي جعفر المنصور. و هو الذي أنقذ أباجعفر من الموت يوم الرواندية و أبلي - و أهله بنو شيبان - أعظم البلاء في الدفاع عن بني العباس. و لما قدم ابن أبي العوجاء للقتل للزندقة سنة 161 قال: «لن يقتلوني. لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحللت فيها الحرام و حرمت الحلال» لكن علماء الجرح و التعديل فطنوا اليها جميعا و استبعدوها.

[43] في القرآن مجاز كثير مثل عرض الأمانة علي السموات و الأرض، يفسرها بعض العلماء أنها الطاعة. و مثل يد الله فوق أيديهم يفسرها البعض بأنها القدرة - و هؤلاء المخرجون يبدأون من أن (الله ليس كمثله شي ء) و الآخذون بالتأويل يبدأون من ذلك المبدأ ثم يؤولون الآيات المتشابهة علي اساس الآيات المحكمة، كقوله تعالي (الي ربها ناظرة) يفسرونها علي أساس قوله (لا تدركه الأبصار) فيكون المقصود الرضي عنها. و للمؤولين تفاسير كثيرة منها في غياهب الاهمال و بخاصة تفاسير المعتزلة ، بقي منها الكشاف للزمخشري الفقيه الحنفي؛ و للبلاغة العربية فيه أعظم مكان .

[44] يحدد الصادق عليه السلام الامامة بتشبيه قرآني يفسر وجوبها، إذ يسأل عن حديث الرسول صلي الله عليه و آله و سلم: «من مات و ليس له امام فميتته ميتة جاهلية» هل هي ميتة كفر؟ فيجب: «ميتة ضلال» - و كذلك يحدد جده زين العابدين عليه السلام معني العصمة بحد قرآني إذ يسأل عن معني المعصوم فيقول: «هو من اعتصم بحبل الله المتين

أي القرآن. فلا يفترق الامام عن القرآن الي يوم القيامة. فالإمام يهدي الناس الي القرآن، و القرآن يهدي الناس الي الامام بقوله تعالي «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم...». و يلاحظ أن الذي فتق الكلام في الامامة و فصل و أصل فيها هم تلاميذ الامام. و ربما بدأ الكلام فيها في عهده كما يقول المستشرق رونالدسن. أما التعريفات الوافية فتنسب الي الامام الرضا (202) حفيد الامام الصادق. يقول الامام الرضا عليه السلام: «الامامة منزلة الأنبياء، و وراثة الأوصياء. الإمامة خلافة الله و خلافة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و الامامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عز المؤمنين» و الماوردي من فقهاء أهل السنة يحدد غرضها فيقول: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين و سياسة الدنيا».

[45] الجبر ان الانسان مجبر علي اعماله. و التفويض ان الانسان مخير فيها. و هما نظريتان لمفكرين كانوا أحياء في بدايات حياة الامام عليه السلام - قال بالجبر الجعد بن درهم متأثرا بقول بيان بن سمعان. و قال بالتفويض غيلان الدمشقي و معبد الجهني - و قد قتل الأربعة: الأولان قتلهما خالد بن عبدالله القسري والي بني أمية. و الأخيران قتل الأول منهما هشام بن عبدالملك. أما معبد فقتله الحجاج لاشتراكه عليه في حركة ابن الأشعث. و تابع جهم بن صفوان الجعد. و قد قتله سالم بن أحوز المازني بمرو في أواخر أيام بني أمية. و في حياة الامام الصادق عليه السلام ازدهرت نظرية الإرجاء الي الله، حتي يكون يوم الحساب، فيحاسب الناس علي عملهم مع وجوب قيامهم بالعمل الصالح. قال بها سعيد بن جبير و حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة و مقاتل بن سليمان - و هو

من السابقين الأولين في التفسير - و هؤلاء مرجئة السنة. أما مرجئة البدعة فيرجئون الحساب و لا يوجبون العمل الصالح. و الأولون يقولون ان الله يعاقب مرتكب الكبيرة لكنه قد يغفرها و لا يكفره الناس في الحياة الدنيا لذلك الامل.

[46] يلاحظ أن مدرسة المحدثين ضائقة الصدر بالقياس. و مدرسة المدينة، و علي رأسها مالك، تقدح في أهل العراق لكثرة ابداء الآراء باستعمال القياس. و لئن كان لنا ان نلاحظ تأثر أبي حنيفة الكامل بمنهج الامام الصادق عليه السلام في الاعتبار بالآيات الدالة علي الحقائق (أبوحنيفة - بطل الحرية و التسامح في الاسلام للمؤلف صفحة 178 طبعة المجلس الأعلي للشؤون الاسلامية) أو تأثر مالك بمنهج الامام الصادق في عدم المجازفة بالرأي (مالك بن أنس للمؤلف صفحة 76 و ما بعدها طبعة دار المعارف)، اننا نقطع كذلك بأثره في النهي عن القياس. فلقد نفع النهي القياسيين أنفسهم فضبطوا القياس و تحروا كل الدقة فيه ليتفادوا المجازفة ثم جاء الشافعي فأصله و قعده. و هو القائل «و الاجتهاد القياس». يقول الفخر الرازي «العجيب ان أباحنيفة كان تعويله علي القياس و خصومه يذمونه بسبب كثرة القياسات، و لم ينقل عنه و لا عن أحد من أصحابه انه صنف في إثبات القياس ورقة، و لا انه ذكر في تقريره شبهة؛ فضلا عن حجة، و لا أنه أجاب عن دلائل خصومه في إنكار القياس بل أول من قال في هذه المسألة و أورد فيها الدلائل هو الشافعي». فأبوحنيفة استعمل القياس و الشافعي استعمله و أصله و قعد القواعد للعاملين به. و لقد أفاد الشيعة كثرة ما آل اليهم من السنة و نصوص الحديث فلم يلجأوا للقياس، كما كانت قواعدهم الاخري كافية لبلوغ غرضهم.

و من أسباب الإقبال علي القياس في العراق قلة ما سلموه من نصوص السنة. و انما اتسع فقه أحمد بن حنبل بكثرة السنن التي جمعها و اعتمد أصحابه عليها - مع تعويله علي أصل الصحابة فزاد مصادر الفقه أصلا بتمامه. و القياس الذي يلجأ اليه المجتهدون من أهل السنة هو إلحاق أمر لم يرد في حكمه نص أو إجماع بأمر ورد في حكمه نص أو اجماع لاشتراكهما في المعني الذي شرع هذا الحكم من أجله؛ فثمة أركان أربعة: الأصل و هو النص ، و الفرع و هو الأمر الذي لم يرد في حكمه نص. و المعني: الذي من أجله شرع الحكم. و المطلوب و هو الحكم، و هم يضعون للقياس شروطا: 1 - أن يكون حكم الأصل ثابتا بنص في الكتاب أو السنة أو الاجماع. 2 - أن يكون لحكم الأصل علة يدركها العقل. فمن الأحكام ما هو تنفيذي لا يجوز القياس فيه، كتحديد عدد الركعات، و مقدار الأنصباء في الأموال التي تجب فيها الزكاة، و تحديد عدد الطواف حول الكعبة. فهذه مقدرات لا يقاس عليها لأن العقل لا يدرك علية مقاديرها. و جميع الأحكام إلا قليلا منها، كالتي سبق، يمكن للعقل إدراك المعاني التي شرعت الأحكام لأجلها. 3 - أن يتساوي الفرع و الأصل في المعني الذي شرع حكم الأصل من أجله، و إلا كان القياس فيه مع الفارق. و ان يكون المعني ظاهرا؛ لأنه معرف للحكم الخفي، و الخفي لا يعرف الخفي. 4 - أن لا يكون في الفرع نص أو اجماع يدل علي حكم يخالف القياس. 5 - أن لا يكون حكم الأصل خصوصية من الخصوصيات كاختصاص الرسول بزواج من زدن علي

الأربع. و اختصاص خزيمة بأن تعدل شهادته رجلين. و أن لا تكون العلة قاصرة علي الأصل لا يمكن تعدية حكمها الي الفرع. و بالقياس أمكن أهل السنة البناء علي النصوص و استعمال العلل في تحقيق مقاصد الشارع.

[47] دخل الكميت علي زين العابدين عليه السلام فأنشده قصيدته التي مطلعها: من لقلب متيم مستهام غير ما صبوة و لا أحلام و قال الامام: ثوابك نعجز عنه لكن الله لا يعجز عن مكأفأتك. اللهم اغفر للكميت. ثم قسط علي نفسه و علي أهله أربعمائة ألف درهم؛ أعطاه القسط الأول قائلا: خذ يا أبا المستهل. قال الكميت: لو وصلتني بدانق كان شرفا لي ولكن ان أحببت ان تحسن الي فادفع لي بعض ثيابك، التي تلي جسمك أتبرك بها. فنزع ثيابه و دفعها اليه كلها ثم قال: اللهم ان الكميت جاد في آل رسولك و ذرية نبيك بنفسه حين ضن الناس، و أظهر ما كتمه غيره من الحق فأحيه سعيدا، و أمته شهيدا، و أره الجزاء عاجلا و أجزل له المثوبة آجلا، فإنا قد عجزنا عن مكافأته - قال الكميت فيما بعد: فما زلت أعرف بركات دعائه. و لئن كان عطاء الشعراء جوائز تشجيع لهم، ان تقسيط العطاء آية سخاء في التشجيع، و ارتباط طويل بالمودة بين من قرض الشعر و بين من أجازه. و تعجيل العطاء بالاستدانة درس تعلمه زين العابدين علي جده (صلي الله عليه و آله و سلم) كان يمكث شهرا ما يستوقد نارا، إن هو إلا التمر و اللبن، و مع ذلك لا يرد أحدا يسأله، بل يعطيه اذا كان عنده و إلا وعده. و ذات يوم جاءه رجل. فقال عليه الصلاة و السلام «ما عندي شي ء. ابتع علي

فإذا جاء شي ء قضيناه». قال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه. فكره ما قال عمر. و قال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق و لا تخش من ذي العرش إقلالا. فتبسم صلي الله عليه و آله و سلم. و قال «بهذا أمرت».

[48] و في العصر ذاته كان سعيد بن المسيب أول فقهاء المدينة السبعة يخاف أن يكتب عن العلم. جاءه رجل فسأله عن شي ء فأملاه عليه، ثم سأله عن رأيه فأجابه. و كانوا من كثرة افتائه يسمونه سعيد بن المسيب الجري ء. فكتب الرجل. فقال جلساء سعيد: أتكتب يا أبامحمد؟ فقال سعيد للرجل: ناولنيها، فناوله الصحيفة فخرقها.

[49] لفظ مولد من وجد، غير مسموع من العرب.

[50] الطبعة الأولي - طبعة المجلس الأعلي للشؤون الاسلامية القاهرة - ص 261.

[51] يذكر ابن النديم في الفهرست: «و كان الشافعي شديدا في التشيع. ذكر له رجل يوما مسألة فأجاب فيها. فقال له خالفت علي بن أبي طالب. فقال له: أثبت لي هذا عن علي بن أبي طالب حتي أضع خدي علي التراب و أقول قد أخطأت و أرجع عن قولي الي قوله». و حضر الشافعي ذات يوم مجلسا لأحد الطالبيين فقال: «لا أتكلم في مجلس يحضره أحدهم. هم أحق بالكلام و لهم الرياسة و الفضل».

[52] يقول فيه أحمد بن حنبل: «كل حديث لا يعرفه يحيي بن معين فليس بحديث» و هو من آباء علوم الحديث، و مؤلفاته مراجع فيها - و هي علوم أوصلها الحاكم النيسابوري الي اثنين و خمسين علما، و أوصلها النووي الي خمسة و ستين.

[53] يقول ابن قتيبة عن الجفر في «أدب الكاتب» ان الامام الصادق عليه السلام كتبه، و ان فيه كل ما يحتاجونه الي يوم

القيامة. والي هذا الجفر، و احتوائه علي كل شي ء، يشير أبوالعلاء المعري في شعره: لقد عجبوا لآل البيت لما أتاهم علمهم في جلد جفر فمرآة المنجم و هي صغري تريه كل عامرة وقفر و ربما نسبوا من أجل ذلك الي الامام علوم كشف الغيب أو التنجيم.

[54] نسبة الي مدينة قم في ايران، و هي أقدم المدن التي بدأ فيها الشيعة الإمامية في ايران. و قد نشأت علي أيدي جماعة من الناجين من جيش ابن الأشعث (83).

[55] سعيد بن جبير هو الشهيد الوحيد الذي قتل من الرعب قاتله! سأله الحجاج و هو يقدمه للقتل: أي قتلة تشاء؟ فأجابه: «اختر أنت فالقصاص أمامك». ذلك أن القصاص قتل بقتل. فكان الحجاج بعد استشهاد سعيد يهب من نومه فزعا و هو يقول: مالي و لسعيد بن جبير!! ثم مات بعده بشهر. مات في رمضان و سعيد في شعبان سنة 95. و رفض ابن المسيب أن يبايع لولدي عبدالملك بن مروان - الوليد و سليمان - و تمسك برأيه فأخذوه ليقتلوه، ثم اكتفوا بضربه بالسياط و جردوه من ثيابه و طافوا به. و رفض أن يزوج بنته للوليد بن عبدالملك، و هو ولي عهد عبدالملك، و آثر أن يزوجها تلميذا فقيرا من تلاميذه.

[56] من الطبيعي أن يكون كثرة الشعراء شيعة . فالشعر ضمير الشعوب و صوتها الصداح. و الضمير الاسلامي كله يثقله أو يعذبه أو يهيج قرائحه ما أصاب أهل البيت من ظلم الحكومات، و يخفف عنه ما يعقده حول أهل البيت من أمل... لهم و له. و كلما أحسن الشعب ظلما طلب الرجاء و الاقتداء بابناء النبي عليهم السلام - و بهذا انضاف الي الثبت الحافل السابق ذكره: ابن هانئ الأندلسي؛ و مهيار الديلمي؛ و

أبوفراس الحمداني؛ و الناشئ الصغير؛ و الناشئ الكبير؛ و كشاجم؛ و أبوبكر الخوارزمي؛ و البديع الهمداني؛ و الطغرائي؛ و السري الرفاء؛ و عمارة اليمني. بل أصبح ثناء علي الشاعر أن يقال (يترفض في شعره) أي يتشيع. و للمتنبي و أبي العلاء شعر شيعي. و أما أشراف العلويين فمنهم الشريف الرضي و الشريف المرتضي. و كان الشريف علي الجماني يقول: «أنا شاعر و أبي شاعر و جدي شاعر» و منهم الشريف الشجري. بل كان من الأمويين متشيعون: ابان بن سعيد بن العاص؛ و خالد بن سعيد بن العاص؛ و عمر بن عبدالعزيز؛ و عبدالرحمن أخو مروان بن الحكم؛ و مروان بن محمد السروجي الذي يقول: يا بني هاشم بن عبد مناف أنا منكمو بكل مكان و لئن كنت من أمية إني لبري ء منهمو الي الرحمن و أبوالفرج الاصفهاني (356 - 284) جده السابع مروان بن محمد آخر خلفاء بني مروان؛ و أبوالفرج صاحب «الأغاني» و «مقاتل الطالبيين». و من العباسيين شيعة: المأمون؛ و المعتضد؛ و أحمد بن الموفق. و من الأيوبيين كان: الأفضل بن صلاح الدين. و من الفلاسفة متشيعون: الكندي فيلسوف العرب (246)؛ و الفارابي (339)؛ و ابن سينا (428). و من الوزراء المشهورين: أبوسلمة الخلال - قتله السفاح - و يعقوب بن داود - حبسه المهدي و أفرج عنه الرشيد - و الفضل و الحسن ابنا سهل - قتل المأمون الأول و أصهر الي الثاني ليستل سخيمته؛ و بنو طاهر الخزاعي؛ و وزراء المأمون؛ و أبودلف العجلي؛ و الصاحب بن عباد... الخ.

[57] سأل الترمذي أحمد بن حنبل عن عائشة و الزبير و طلحة فأجاب: «من أنا حتي أقول في أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم! كان

بينهم شي ء الله أعلم به». فأحمد لا يسيغ قدحا في الصحابة لورعه. و هم بأعمالهم و آرائهم أصل من أصوله... حتي انه ليبعث الي يحيي بن معين يقول له: هو ذا تكثر الحديث عن عبدالله بن موسي العبسي و قد سمعته تناول معاوية. و قد أكثر الحديث عنه. فقال يحيي للرسول «اقرأ علي أبي عبدالله أحمد بن حنبل السلام و قل له: أنا و أنت سمعنا عبدالرزاق (بن همام) يتناول عثمان بن عفان. فاترك الحديث عنه، فإن عثمان أفضل من معاوية». و لم يترك أحمد حديث عبدالرزاق.

[58] ربما كان في هذه الفترة الحرجة ما قيل من أنه دخل يوما علي المهدي، فقال المهدي: علي بالسيف و النطع. قال شريك: و لم يا أميرالمؤمنين؟ قال المهدي: رأيتك في منامي كأنك تطأ بساطي و انت معرض عني، فقصصت رؤياي علي من عبرها فقال لي: يظهر لك طاعته و يضمر معصيته. قال شريك: و الله ما رؤياك برؤيا ابراهيم الخليل، و لا معبرك بيوسف عليه السلام. أفبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحي المهدي و قال: اخرج عني، و أبعده. و كان الحقد علي أميرالمؤمنين علي عليه السلام غذاء يوميا علي موائد بني العباس لا تخلو منه واحدة حتي ولو كانت مائدة لخليفة يتشيع هو المأمون. أنبأه عمه ابراهيم بن المهدي - و كان شديد الحقد علي علي عليه السلام - أنه رأي في المقام عليا فمشيا حتي جاءا قنطرة فتقدم لعبورها فأمسكه ابراهيم و قال: أنت تدعي هذا الأمر بامرأة (يقصد أمر الخلافة و فاطمة الزهرا عليهاالسلام و ان عليا يتقدم بزواجه منها). فما رأيت له بلاغة في الجواب... مازادني علي أن قال: سلاما سلاما. فنهره المأمون علي ما افتضح من

عقله الباطن في صورة حلم. قال: لقد أجابك أبلغ الجواب. عرفك أنك جاهل لا يجاب مثلك. قال الله تعالي: «و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما». و لقد نهره أحمد بن أبي دؤاد مرة أخري إذ لم يتوقر في مجلس القضاء، فقال له: «يا ابراهيم اذا نازعت في مجلس الحكم بحضرتنا امرءا فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتا و لا أشرت بيد. و ليكن قصدك أمما. و ريحك ساكنة. و كلامك معتدلا. ووف مجالس الخليفة حقها من التوقير و التعظيم». و كان مغنيا يعربد. نصبه أهله خليفة لمدة عامين في ثورة علي المأمون. ثم عفا عنه المأمون بعد أن ضبطوه يحاول الفرار في ثياب امرأة.

[59] يقصد ابليس، اشارة الي الاية الكريمة - حكاية عن قول ابليس -: «فانظرني الي يوم يبعثون».

[60] كفروا عليا (عليه السلام) لقبوله التحكيم، و رأوا أن الخلافة لابد لها من بيعة الجمهور. و أنها لا تنحصر في بيت معين و برئوا من علي و عثمان و معاوية؛ الأول لقبوله التحكيم، و الثاني لمخالفة سياسة الشيخين أبي بكر و عمر، و الثالث لاستيلائه علي الأمر بالقوة... يأخذون بظاهر العبارة من القرآن، و لا يأخذون من السنة إلا ما يرويه من يتولونهم. و عمدتهم في الأحاديث المروية علي عهد الشيخين. و كل من تعدي حدود الله عندهم فاسق. و لذلك عدوا أشياع معاوية و الذين لم يتبرأوا من علي و عثمان - و هؤلاء جمهور الأمة - خارجين علي الإسلام و استحلوا مالهم و قتلهم، و بهذا نفر الناس منهم.

[61] من أدلة وحدة العلم أو التقارب فيه حديث، من هذه القلة، هو حديث اليمين مع الشاهد؛ و هي مسألة أريق فيها مداد كثير لفقهاء أهل السنة. جاء

في الموطأ رواية محمد بن الحسن: «أخبرنا مالك، أخبرنا جعفر بن محمد، عن أبيه ان النبي صلي الله عليه و آله و سلم قضي باليمين مع الشاهد». قال محمد بن الحسن - ذكر ذلك ابن أبي ذئب عن ابن شهاب قال سألته عن اليمين مع الشاهد فقال بدعة. و أول من قضي فيها معاوية. - و ابن شهاب أعلم عند أهل المدينة بالحديث من غيره. و كذلك ذكر ابن جريح عطاء بن رباح قال: «كان القضاء الأول: لا يقبل إلا شاهدان. و أول من قضي باليمين مع الشاهد عبدالملك بن مروان...». و هذا الحديث وارد في سنن الترمذي و ابن ماجه، و رواه عن ابن عباس مسلم و أبوداود و النسائي و مسند أحمد، و الصحاح الخمسة تذكره موصولا - و تعمل به المدينة و مكة، و قد ذكر ابن جوزي أن رواة الحديث يزيدون عن عشرين صحابيا. و المذاهب الثلاثة تعمل به. و أبوحنيفة لا يعمل به.

[62] و الشافعي الذي يري زين العابدين (عليه السلام) أعلم أهل المدينة، يقول في دفاعه العلمي المجيد عن حجية خبر الواحد في الرسالة - «و في تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها... و لم يزل سبيل سلفنا و القرون بعدهم الي من شاهدنا هذا السبيل... و وجدنا علي بن الحسين (يقصد زين العابدين عليه السلام) يقول: أخبرنا عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «لا يرث المسلم الكافر» فثبتها سنة و يثبتها الناس بخبره سنة. و وجدنا كذلك محمد بن علي بن الحسين (الباقر عليه السلام) يخبر عن جابر عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و عن عبدالله بن أبي رافع عن أبي هريرة فيثبت كل ذلك

سنة. و وجدنا محمد بن جبير بن مطعم، و نافع بن جبير بن مطعم، و يزيد بن طلحة بن ركانة، و محمد بن طلحة بن ركانة، و نافع بن هجير بن عبد يزيد، و أباسلمة بن عبدالرحمن، و حميد بن عبدالرحمن، و طلحة بن عبدالله بن عوف، و ابراهيم بن عبدالرحمن بن عوف و خارجة بن زيد بن ثابت، و عبدالرحمن بن كعب بن مالك، و عبدالله بن أبي قتادة، و سليمان ابن يسار، و عطاء بن يسار، و غيرهم من محدثي أهل المدينة، كلهم يقول: حدثني فلان لرجل من أصحاب النبي عن النبي أو من التابعين عن رجل من أصحاب النبي، فيثبت ذلك سنة». و إنك لتلاحظ ان الشافعي يستند الي رواية زين العابدين و الباقر (عليهماالسلام) فيضع زين العابدين في مقام خاص به، هو الأول، و يضع ابنه الباقر في المقام التالي لأبيه، ثم يجي ء بالأبناء العلماء، للصحابة العظماء، وراء هذين المقامين، و يجي ء بهم مجموعين، ثم يجي ء بفضلاء التابعين بعد هؤلاء جماعات.

[63] روي أحمد بن حنبل أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) في مسنده الأعظم. و روي كذلك مسلم بن الحجاج (261) و سليمان بن الأشعث السجستاني (أبوداود - 275) و محمد بن عيسي الترمذي (279) و محمد بن يزيد بن ماجه (279) و النسائي أحمد بن علي بن شعيب (303) بقية أصحاب الصحاح كما يسميها أهل السنة. و النسائي من شهداء الوفاء لعلي (عليه السلام): خرج من مصر الي الشام فسألوه عن فضائل معاوية - إذ كان قد ألف في فضائل علي - و قيل إنه أجاب: ألا ترضي رأسا برأس حتي تفضل؟ أو قال: لا أعلم له فضيلة. فما زالوا يدفعونه في خصيته حتي أخرجوه من المسجد و

قد أشرف علي الموت فقال: احملوني الي مكة فحمل اليها و توفي هناك.

[64] كان وجود غلاة في الشيعة فرصة للمغرضين، إذ نسبوا عمل الغلاة الي الشيعة كلهم، فأحدثوا بذلك أثرا كاذبا في إفهام الآخرين بدعاوي هم منها براء، مثل ان الامام هو الله ظهورا و اتحادا؛ و هو غلو يبلغ مرتبة الكفر. و لقد أحرق علي (عليه السلام) من ألهوه - بالنار - و تبرأ الصادق من أبي الخطاب الأسدي، و قتله جند أبي جعفر.

[65] الزيدية: أتباع زيد بن علي زين العابدين - أخي الباقر (عليهماالسلام) - قالوا إنه فوض في الامامة قبل ان يستشهد الي محمد بن عبدالله بن الحسن (النفس الزكية). و كان زيد يجيز إمامة المفضول مع وجود الأفضل لمصلحة يراها المسلمون؛ و لهذا أجاز خلافة أبي بكر و عمر، فرفضه شيعة العراق فسموا رافضة. و منذئذ أطلق علي الشيعة الامامية اسم الرافضة. و قيل سموا الرافضة لرفضهم إمامة أبي بكر و عمر. و الأول رأي الشهرستاني، و الأخير رأي أبي الحسن الأشعري. و الشهرستاني من الشيعة و الأشعري من أهل السنة. و زيد يقول ان الأدلة اقتضت تعيين علي (عليه السلام) اماما «بالوصف» لا بالشخص، و يقول ان الشيوخ يختارون «الأفضل» من أولاد علي من فاطمة، عموما، «بالاجتهاد». و من شروط الزيدية أن يجتهد أئمتهم؛ و لذلك كثر فيهم الأئمة المجتهدون. و من شروطهم أن يخرج الامام داعيا لنفسه. و علي هذا الشرط جادل الباقر أخاه زيدا بقوله «علي قضية مذهبك والدك ليس بإمام فإنه لم يخرج قط و لا تعرض للخروج». و من الزيدية اليعقوبية يقولون بولاية أبي بكر و عمر و لا يتبرأون منهما و ينكرون رجعة الأموات. و بقية الزيدية تتوقف في أمر الرجعة... لا يقولون بها

و لا ينكرونها. و ظهرت في المذهب الزيدي مذاهب منها الهادوي و القاسمي و الناصري و الهاروني التي تخالف الأصل في فروع يسيرة و تسير عليه في جملة الفروع و تلتقي بمذاهب أهل السنة، و بخاصة المذهب الهادوي الذي أسسه امام اليمن الإمام الهادي (يحيي بن الحسن بن ابراهيم بن القاسم) صاحب صعدة (289 - 280) و كان أئمة المذهب الهادوي من عظم اتفاقهم مع المذهب الحنفي يرون الأخذ بالمذهب الحنفي إذا لم يجدوا عن الإمام الهادي نصا في المسألة. بل يذهبون الي أبعد من ذلك فيأخذون بأرجح ما في المذاهب الأخري. و الزيدية تري ان كل من دعا لنفسه من أولاد علي و فاطمة (عليهماالسلام)، و كان مستكمل الصفات، وجب اتباعه. و قد كتب لهم النجاح في اليمن و طبرستان الي الجنوب من بحر قزوين. و العرب تسمي بحر قزوين بحر طبرستان. و قد ملك طبرستان الحسن بن زيد... بن الحسن بن علي سنة 250 حتي سنة 270. و كانت ثورة ابن طباطبا في بغداد في أيام المأمون زيدية.

[66] الكيسانية يقولون بإمامة محمد بن الحنفية بعد وفاة أبيه، و ان الحسن و الحسين انم خرجا بإذنه. و من الكيسانية أشياع المختار بن عبيدالله الثقفي. (67). و منهم الهاشمية الذين يقولون إن محمدا أفضي الي ابنه أبي هاشم بالأسرار التي افضي إليه بها أبوه. و لما مات أبوهاشم انقسمت فرقته فرقا؛ واحدة تقول: انه اوصي لأخيه علي، و ان الوصية لا تخرج عنهم حتي «يرجع» محمد بن الحنفية، و واحدة تنقسم الي فرق؛ منها: فرقة تقول: انه اوصي الي معاوية بن عبدالله بن جعفر بي أبي طالب (و قد قتله ابو مسلم الخراساني)، و فرقة تقول: انه اوصي

الي محمد بن علي بن عبدالله بن العباس. و هاتان فرقتان تخرجان الإمامة الي غير ابناء علي، و تفسر اهل البيت تفسيرا يسع غير أبناء علي.

[67] و يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: «و كل من عاداه أو حاربه و أبعضه فإنه عدو لله سبحانه و تعالي و خالد في النار مع الكفار و المنافقين، إلا من ثبتت توبته و مات علي توليه و حبه. فأما الأفاضل من المهاجرين و الأنصار الذين ولوا الإمامة قبله... رأينا رضي إمامتهم و بايعهم و صلي خلفهم و أنكحهم و أكل فيئهم... ألا تري أنه لما برئ من معاوية برئنا منه. و لما لعنه لعناه. و لما حكم بضلال أهل الشام و من كان بينهم من بقايا الصحابة كعمرو بن العاص و عبدالله ابنه، حكمنا أيضا بضلالهم... و الحاصل أننا لم نجعل بينه و بين النبي إلا رتبة النبوة، و أعطيناه كل ماعدا ذلك من الفضل المشترك بينه و بينه. و لم نطعن في أكابر الصحابة الذين لم يحص عندنا أنه طعن فيهم».

[68] و الشيعة تنفي قول القائلين بالصرفة و هو ما يزعمه بعض المعتزلة (النظام) من أن الله صرف المشركين عن أن يحاولوا الإتيان بمثل القرآن. فهذا القول مصيره نفي الإعجاز. و الإعجاز آية الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم).

[69] اما الرواة عموما فيشترط أن يكونوا من الإمامية الاثنا عشرية يروون عن «إمام» عن النبي. وثمة من يقبل رواية غير الإمامي مادام موثقا أي أمينا عند الإمامية. قالوا: «لو كان بعض رجال السند غير امامي مصرحا بالتوثيق أو مصرحا بالمدح لابد من كون الباقي إماميا موثقا».

[70] و الإرسال لا يمنع قبول الحديث عند أهل السنة. كان إبراهيم

النخعي يروي الحديث مرسلا، فيقول له الأعمش: إذا رويت لي حديثا فأسنده. فيجيب: إذا قلت حدثني فلان عن ابن مسعود فهو الذي رواه. و إذا قلت قال عبدالله فغير واحد. و الحسن البصري يقول: «إذا قلت لكم حدثني فلان فهو حديثه، و متي قلت: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فعن سبعين».

[71] الخبر الذي يحصل العلم بصدوره من قرائن داخلية أو يغيرها مطابقة لظاهر القرآن أو معانيه أو لأدلة العقل، حجة معتبرة، لا للشهرة أو الاستفاضة أو التواتر أو أي شي ء آخر، بل للعلم بصدوره الذي هو حجة بنفسه - فالخبر المتواتر أو المعلوم بصدوره لا حاجة لشروط في روايته. و إنما الشروط في خبر الواحد. و قد يعملون بالضعيف إذا اشتهر العمل به بين الأقدمين. أما علامات وضع الحديث فهي كمثلها عند أهل السنة تقريبا. و ليس عجيبا أن تكون السنة التي يتمسك بها الشيعة في مجموعها هي السنة التي يتمسك بها أهل السنة. فاختلاف الروايات و اسنادها او إضافة مصدر الأئمة، لم تدخل في التراث النبوي العظيم ما يغيره. و مشايخ الامامية يوثقون المخطئين في الاعتقاد، و الإمام الصادق (عليه السلام) إذ يقول: «خذوا مارووا. و ذروا مارأوا» يقصد آراءهم. و لقد طالما رفض مجتهدوهم أحاديث ذكرت في كتبهم، و أخذوا بما جاء في صحيحي البخاري و مسلم لتفحصهم أحوال رجالهما.

[72] يشترط الشيعة في المجتهد (1)- العلم باللغة. (2) - بالكلام. (3) - بكتاب الله و السنة. (4) - بطرق الإستنباط. (5) - المسائل المجمع عليها حتي لا يخالفها اجتهاد. (6) - الفطنة و إدراك الحقائق. (7) - العلم بمواطن الخلاف. كل ذلك (8) - و هو إمامي.

[73] آيات الكتاب (6236)

آية علي طريقة عد الكوفيين، كما ورد في التعليق علي المصحف المتداول بمصر من سنة 1337 هجرية ، أحصي بعض فقهاء أهل السنة نحو (140) في العبادات، و (70) في المعاملات، و (70) في الاحوال الشخصية و المواريث، و (20) في الجنايات، و (13) في المرافعات، و (20) في القضاء و الشهادة، و (10) في الاقتصاديات و (10) في المسائل الدستورية، و (25) في المسائل الدولية - و أحاديث أصول الأحكام عندهم نحو (450) بين آلاف الأحاديث أكثرها بيان مجمل أو تفصيل موجز أو تشريع ما سكت عنه.

[74] راجع نحو تقنين جديد للمعاملات و العقوبات من الفقه الإسلامي «من مطبوعات لجنة تجلية مبادئ الشريعة الاسلامية» - عبدالحليم الجندي - طبعة المجلس الأعلي للشؤون الإسلامية الفقرات 42 الي 48.

[75] يذكر الراغب الاصفهاني في المحاضرات من قرون مضت: سئل رجل كان يشهد بالكفر علي آخر عند جعفر بن سليمان فقال: إنه رجل معتزلي، ناصبي . حروري. جبري. رافضي. يشتم علي بن الخطاب، و عمر بن أبي قحافة، و عثمان بن أبي طالب، و أبابكر بن عثمان، و يشتم الحجاج الذي هدم الكوفة علي أبي سفيان، و حارب الحسين بن معاوية يوم القطائف، فقال جعفر: «قاتلك الله ما أدري علي أي شي ء أحسدك؟ أعلي علمك بالأنساب أم بالأديان أم بالمقالات».

[76] أخرجه الترمذي و النسائي عن جابر.

[77] أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم.

[78] أخرجه أحمد بن حنبل بطريقين صحيحين و أخرجه الطبراني.

[79] أخرجه أحمد بن حنبل و آخرون.

[80] أخرجه الحاكم في المستدرك و آخرون ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد علي شرط الشيخين و لم يخرجاه.

[81] أخرجه الحاكم من طريقين عن زيد بن أرقم. و أخرجه مسلم في صحيحه حتي كلمة الحوض

مع خلاف في بعض الكلمات.

[82] مسند أحمد بن حنبل - ابن حجر - كنز العمال - و بهذا المعني في المستدرك.

[83] الصواعق لابن حجر.

[84] أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس.

[85] و من نصوص وصية النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) الصريحة بالإمامة لعلي: عن محمد بن حميد الرازي - و قد وثقه الأئمة: أحمد، و يحيي، و ابن جرير الطبري، و البغوي - عن أبي بريدة «لكل نبي وصي و وارث و ان وصيي و وارثي علي بن أبي طالب» و مثله - بالمعني مروي عن سلمان الفارسي. و قال عليه الصلاة و السلام لفاطمة: «يا فاطمة. أما ترضين أن الله عزوجل أطلع الي أهل الأرض فاختار اثنين أحدهما أبوك و الآخر بعلك». و عن ابن عباس ان الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) قال لها؟: «أما ترضين أني زوجتك أول المسلمين اسلاما و أعلمهم علما و انك سيدة نساء أمتي كما سادت مريم نساء قومها. أن ترضين يا فاطمة ان الله اطلع الي أهل الأرض فاختار رجلين فجعل أحدهما أباك و الآخر بعلك؟». و منها ان النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) يقول عن الحسين (عليه السلام): «ابني هذا إمام ابن أمام أخو إمام أبوأئمة تاسعهم قائمهم».

[86] يقول الشريف المرتضي في كتابه (تنزيه الأنبياء): «قالت الشيعة الامامية: لا يجوز عليهم (الأنبياء) شي ء من المعاصي و الذنوب، كبيرا كان أو صغيرا، لا قبل النبوة و لا بعدها. و يقولون في الأئمة مثل ذلك».

[87] دخل ابراهيم بن هرثمة علي المنصور فتهدده لأنه يمدح أهل البيت. و لما خرج ابراهيم لقي علويا سلم عليه فصاح به: لا تشط بدمي. و في سنة 250 استعانت الجماهير بالجند ضد الشيعة.

و في سنة 363 قتل الكثيرون من أجل اقامة الشيعة لشعائرهم. و في سنة 403 صدر مرسوم بلعن العلويين خلفاء مصر و إنكار نسبهم. و كانت موقعة الكرخ فتكا بأموال الشيعة و أرواحهم و أطفالهم. و في سنة 439 كبست دار الطوسي ببغداد. و في سنة 448 و 449 أحرقت مكتبة الطوسي فترك بغداد الي النجف. و عدوان المالكية علي الشافعي في جامع عمرو مشهور. و طرد المالكية و الحنفية من أجل الشغب في جامع عمرو بعد ذلك بأمر القاضي الحارث بن مسكين معروف. و كذلك فتنة الحنابلة في مجلس الطبري (310) و في عهد البر بهاري و فيما بعده و قد طالما أرهجت بغداد. و من الإزراء بالتعصب المذهبي تتردد علي الألسن سخرية الزمخشري، و هو حنفي اذا سألوا عن مذهبي لم أبح به و أكتمه.. كتمانه لي أسلم فإن حنفيا قلت، قالوا بأنني أبيح الطلي و هو الشراب المحرم و ان شافعيا قلت، قالوا بأنني أبيح نكاح البنت؛ و البنت تحرم و ان مالكيا قلت، قالوا بأنني أبيح لهم أكل الكلاب و هم هم و لقد طالما كفرت جماعة جماعة اخري، بغيا عليها أو تحاملا منها في التعبير عن الخلاف معها. كان نظام الملك (385) وزيرا عظيما، ينشر العلم و ينشئ المدارس، و يعمل للوحدة، و يحاول أن يجمع الخلافتين العباسية و الفاطمية، أي أهل السنة و الشيعة الإسماعيلية، و كان يجتمع لديه علماء الفرق، فدخل عليه عبدالسلام بن محمد القزويني شيخ المعتزلة و عنده أبومحمد التميمي و رجل آخر أشعري، فقال له: أيها الصدر، لقد اجتمع عندك رؤوس أهل الناس. أنا معتزلي و ذلك أشعري و هذا مشبه، و بعضنا يكفر بعضا!! و

في سنة 412 صدر مرسوم في بغداد كفر به الخليفة القادر المعتزلة و أمر باستتابتهم، و قد سبق منهم العمل عند الخلفاء لقهر المحدثين و الفقهاء في عصر المأمون و المعتصم و الواثق. و في حياة الفيروزآبادي الشافعي قامت الفتنة علي الشافعية سنة 479. و في سنة 507 قال قاضي الحنفية بدمشق: لو كان لي من الأمر شي ء لوضعت الجزية علي الشافعية. و في سنة 567 قال أبوحامد الطوسي المقال نفسه في الحنابلة! و في سنة 554 حرقت الأسواق في أصفهان لنزاع الحنفية و الشافعية. و في سنة 469 هاج الحنابلة في بغداد إذ ولي القشيري الوعظ بالمدرسة النظامية. و من قبل ذلك بعام سنة 468 انتقل السمعاني من مذهب أبي حنيفة الي مذهب الشافعي فثار الحنفية بمدينة مرو في خراسان فنفاه سلطانها حقنا لدمه. و في العصر ذاته أمر ابن تاشفين بإحراق كتب الغزالي في احتفال رسمي بمسجد قرطبة! و ذات يوم رأي الوالي الحنفي في بلاد ما وراء النهر في مخرجه للصلاة في الصباح مسجدا للشافعية فقال: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق؟ و في جيلان كان القوم حنابلة إذا قدم عليهم حنفي قتلوه! و جعلوا ماله فيئا للمسلمين! و أما أهل الأندلس فكانوا مالكية يطردون من الأندلس الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي إذا وفد عليها. فإن كان معتزليا فربما قتلوه... و من سد الذريعة أفتي البعض بتعزير من يترك مذهبا لمذهب. و في القرن الثامن من الهجرة فصل من التدريس بمصر أبوالعباس الحنبلي (716) لأنه ذكر أن عمر منع تدوين الحديث، و ان ذلك كان سبب تعارض النصوص في الحديث و خلاف العلماء. و في القرن العاشر علقت علي باب زويلة رأس المولي ظهير

المدين الأردبيلي لأنه قال ان مدح الصحابة ليس بفرض! و في تركيا قتل في عهد السلطان سليم الأول (926) نحو أربعين ألفا من الشيعة. و هكذا تدور رحي البطش في كل اتجاه، لكن لها قانونا لا يتخلف هو ان الباطشين اليوم مبطوش بهم غدا.

[88] أهل السنة لا يكفرون إلا من يجحد فرائض الإسلام لأنه جاحد للأصل. يقول الغزالي: «اعلم ان شرح ما يكفر به و لا يكفر به يستدعي تفصيلا طويلا. فاقنع الآن بوصية و قانون. أما الوصية فان تكف لسانك عن أهل القبلة، ما أمكنك، ماداموا قائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله. و أما القانون فهو أن تعلم أن النظريات قسمان. قسم يتعلق بأصول القواعد و قسم يتعلق بالفروع. و أصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله و برسوله و باليوم الآخر و ما عداه فروع. و اعلم انه لا تكفير في الفروع اصلا، إلا في مسألة واحدة، و هي أن ينكر اصلا دينيا من رسول الله صلي الله عليه و سلم بالتواتر. لكن في بعضها تخطئة ما في الفقهيات...».

[89] في النصف الأول من القرن الحالي جرت «المراجعات» بين شيخ الأزهر و هو الشيخ سليم البشري و بين الامام عبدالحسين شرف الدين الموسوي (1377 - 1290) مدة إقامة الاخير بمصر، و هي مراجعات أطراها الطرفان و ثبت منها التزام المسلمين جميعا أصول الاسلام، وسعة الفقه للخلاف حول الفروع. و من اتساع الفقه للخلاف وجدنا المأمون، المعتزلي الفكر، السني الفقه، يولي عهده عليا الرضا عليه السلام إمام الشيعة. و وجدنا الصاحب بن عباد الذي وزر للدولة البويهية ثمانية عشر عاما من 367 الي 385 وزيرا معتزلي الفكر لدولة زيدية العقيدة، تحكم دولة الخلافة السنية. و وجدنا

الشريف الرضي نائبا للخليفة العباسي. كما وجدنا الدولة الأدريسية دولة سنية يحكمها الأدارسة و هم شيعة من نسل الحسن بن علي عليهماالسلام لكنهم لا يظهرون التشيع. و ابن تومرت يقول إنه - كالأدراسة - من نسل الحسن بن علي عليه السلام و مع ذلك لا يقسر الدولة علي التشيع. و كذلك بني حمود من نسل الحسن بن علي يحكمون دولة سنية و لا يقسرونها علي التشيع... بل سنجد فقهاء عظماء - كالطوسي - حجة في المذهب الامامي و في مذاهب أهل السنة. و في سنة 525 عين الخليفة الفاطمي بمصر قضاة أربعة: ثلاثة من مذاهب السنة و رابعا شيعيا لأن الشعب كان سنيا و الدولة شيعية. و كان الحافظ السلفي (576 - 478) يلقي دروس الشافعية في مدرسة بناها له ابن السلام الوزير الفاطمي. و في النصف الأخير من القرن الحالي أفتي المرحوم الشيخ محمود شلتوت: «ان مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الامامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك. و أن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله و ما كانت شريعته تابعة لمذهب، أو مقصورة علي مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالي يجوز لمن ليس أهلا للنظر و الاجتهاد تقليدهم و العمل بما يقرونه في فقههم. و لا فرق في ذلك بين العبادات و المعاملات». و قال الشيخ شلتوت عن فتواه بعد... «ثم تهيأ لي بعد ذلك - و قد عهد الي بمنصب مشيخة الأزهر - أن أصدرت فتواي في جواز التعبد علي المذاهب الاسلامية الثابتة الأصول المعروفة المصادر المتبعة لسبيل المؤمنين و منها مذهب الشيعة الامامية (الاثنا عشرية)... و ها

هو ذا الأزهر الشريف ينزل علي حكم هذا المبدأ؛ مبدأ التقريب بين أرباب المذاهب المختلفة، فيقرر دراسة هذه المذاهب الاسلامية سنيها و شيعيها دراسة تعتمد علي الدليل و البرهان و تخلو من التعصب لفلان و فلان كما انه اهتم في تكوين مجمع البحوث الاسلامية بأن يكون أعضاؤه ممثلين لمختلف المذاهب الاسلامية»... و الشيخ عبدالمجيد سليم شيخ أسبق للأزهر يقول تحت عنوان (القطعيات و الظنيات): «قد علمنا من استقراء المذاهب الفقهية و آراء الفرق الكلامية ان في كل منها خطأ و صوابا، و لم نعلم مذهبا من المذاهب الإسلامية المعتبرة خطأ كله أو صوابا كله. و اذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي ان تطغي العصبية المذهبية علي المسلمين. و لا ينبغي ان يكون هم الحنفي مثلا هو الانتصار لكل ما جاء في مذهب الحنفية. و لا ان يكون هم الإمامي أو الزيدي هو الانتصار و التعصب لكل ما جاء به الإمامية و الزيدية... و هكذا. بل الواجب علي المسلمين أن يأخذوا بما ظهر بالبرهان صوابه و ان يكون قصاراهم الرغبة الصادقة في الوصول الي الحق دون ان يقيموا و زنا لما سوي الحق... بذلك يصبحون فعلا أمة واحدة».

[90] الشيعة يستدلون علي أن الأذان كان فيه عبارة (حي علي خير العمل) بما هو ثابت بالسند الصحيح عن الامام جعفر عليه السلام «لما هبط جبرائيل علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بالأذان أذن جبرائيل و أقام و عندها أمر رسول الله عليا أن يدعو بلالا فدعاه فعلمه رسول الله الأذان و أمره به» و كان أذان الإمام جعفر عليه السلام هكذا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله الا الله. أشهد

ان لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد ان محمدا رسول الله حي علي الصلاة. حي علي الصلاة حي علي الفلاح. حي علي الفلاح حي علي خير العمل. حي علي خير العمل الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. لا إله إله الله.

[91] و قد تعاقبت التصرفات في صدد الأذان من المسلمين. كان عليه الصلاة و السلام يأمر في فجر رمضان بأذانين أولهما يوقظ الغافلين ليتسحروا، و الثاني للصلاة. و كان أذان الجمعة في عهده يبدأ عندما يجلس علي المنبر. و هو الأذان الوحيد الذي يؤدي من مكان مرتفع بالمسجد أو القرية كسقفه و منارته. فلما كثر الناس في عهد عثمان استحدث نداء آخر علي الزوراء و بقي النداء الأول كما كان - و في عهد هشام بن عبدالملك (125 - 105) اكتفي باذان المنارة. و نقل الأذان الثاني و جعله بين يدي الخطيب. هذا و ليس الكلام القليل بين يدي الخطيب، و لا عند الأذان، ليبطله.

[92] ولي يحيي القضاء في البصرة و عمره نحو عشرين سنة، فاستصغره أهل البصرة، فقال لهم: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي قاضيا علي مكة يوم الفتح، و أنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي قاضيا علي اليمن، و انا أكبر من كعب بن أبي الذي وجه به عمر قاضيا علي البصرة. و كان يحيي حسن التأتي للأمور و منها سياسة القضاء و الخلفاء؛ دخل علي المأمون رجل يشكو وكيلا للمأمون انه اشتري منه جواهر بثلاثين ألف دينار، فقال المأمون: لعل الوكيل اشتري لنفسه أو سلم الشاكي المال... قال الشاكي: فإذن أدعوك الي القاضي الذي نصبته لرعيتك. وجي ء

بيحيي بن أكثم، فقال للمأمون: إنك لم تجعل ذلك مجلس قضاء. قال: قد فعلت. قال: فإني أبدأ بالعامة أولا يصلح المجلس للقضاء... ففتح الباب - وقعد في ناحية من الباب و أذن للعامة، ثم دعي بالرجل، فقال له يحيي: ما تقول؟ قال: أقول ان تدعو بخصمي أميرالمؤمنين. فنادي المنادي، فإذا المأمون قد خرج و معه غلام يحمل مصلي حتي وقف علي يحيي و هو جالس، فطرح المصلي ليقعد عليها، فقال له يحيي: يا أميرالمؤمنين، لا تأخذ علي صاحبك شرف المجلس... فطرح للرجل مصلي آخر، ثم نظر في دعوي الرجل. و طالب الرجل المأمون باليمين فحلفها المأمون. و وثب يحيي بعد فراغ المأمون من يمينه فقام علي رجليه. قال المأمون: ما أقامك؟ قال: إني كنت في حق الله جل و عز حتي أخذته منك، و ليس الآن من حقي أن أتصدر عليك... فأمر المأمون أن يحضر ما ادعي الرجل من المال، فقال له: خذه اليك، و الله يعلم ما دفعت اليك هذا المال إلا خوفا من هذه الرعية لعلها تري اني تناولتك من وجه القدرة، و انها لتعلم الآن اني ما كنت أسمح لك باليمين و بالمال.

[93] الشيخ زين الدين الجبعي العاملي.

[94] يؤول المعتزلة الألفاظ ليفسروا معاني الآيات طبقا لأصولهم. و علي ذلك أولوا الآيات التي قد تنم عن التشبيه و الجهة الجسمية. و التفسير بالرأي يقوم علي قاعدة كصمام الامان للذين ينهجونه. فبالكتاب آيات محكمات و أخر متشابهات و المحكمة آيات لا يتماري في معناها أحد. فإذا وردت آية متشابهة فسرت علي اساس الآية المحكمة؛ مثل قوله تعالي (الي ربها ناظرة) تفسر علي اساس قوله تعالي (لا تدركه الأبصار) فيكون معناها الرضي عنها و توقع النعمة

من الله. و مثل قوله (أمرنا متر فيها ففسقوا فيها) تفسر علي اساس قوله (ان الله لا يأمر بالفحشاء). و أكثر المؤولين يلجأون للمجاز. و في القرآن كثير منه مثل قوله تعالي (يد الله فوق أيديهم) فمعناها القدرة - و هم ككل المفسرين - يبدأون من أن الله تعالي ليس كمثله شي ء. أما التفسير بالمأثور فتتصدره مدرسة الامام الطبري: يجمع الأقوال و الآثار و يختار بها.

[95] اليك مثلا تفسير «الامام العسكري عليه السلام» للحروف المقطعة مثل (ا. ل. م....) في فواتح السور يراها تنبيها علي ان هذا الكتاب الذي أنزله الله هو هذه الحروف المقطعة. و انه بلغتكم و هجائكم فأتوا بمثله ان كنتم صادقين. و ما يزال هذا التفسير في طليعة تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور.

[96] أصول المعتزلة الخمسة - 1 - التوحيد الذي ينفي عن الذات صفات الاجسام و المكان. و أهل السنة يرون صفات الله خاصة به و أنه تعالي «كما وصف نفسه». فليس في ذلك تشبيه لله بخلقه - 2 - العدل؛ و فحواه ان الله لا يأمر إلا بالحسن و لا ينهي إلا عن القبيح. و ما يفعله الناس عمل من أعمالهم؛ و لذلك يثابون و يعاقبون. و أهل السنة يقولون ان الله خالق العمل؛ و العبد كاسب له - 3 - الوعد و الوعيد (أو الثواب و العقاب) ملازمان للفعل. و أهل السنة يرون التوبة قد يقبلها الله من مرتكب الكبيرة - 4 - المنزلة بين المنزلتين. فمرتكب الكبيرة لا مؤمن و لا كافر بل فاسق و ان كان عقابه أقل من الكافر - 5 - الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مع اشتدادهم في ذلك عندما كانت السلطة

في أيديهم.

[97] (المنهج العلمي المعاصر مستمد من القرآن) للمؤلف مطبعة دار الاتحاد العربي صفحات 11 الي 54.

[98] و الارتباط بين فروع المعرفة أحد «الأساسيات» العلمية، و هي جميعها تستعمل الطريقة التجريبية و تلتزم حقائق الحياة الواقعة و قوانين الكون التي لا تتخلف و لا تدع مجالا للفراغ أو المجازفة أو الصدفة؛ كل شي ء بمقدار. و كل أمر موزون - في الانسان و الحيوان و النبات و الجماد، و فيما بينها، و في العلوم الطبيعية و الرياضية و في العلوم الاجتماعية و الانسانية. و العلميون يستعملون مقولات: الوحدة و التفاضل و التكامل... و اطراد العلل و النتائج. و الآخرون يستعملون مقولات الوحدة، و التناسب و التناسق، و التزاوج و الانسجام، و في الاشياء و الأشكال و الألوان و الأحجام. و يستوي في ذلك الذين يلتزمون بالدين أو الذين يلتزمون بإنكاره. و من الموضوعية «سلطان الإرادة» الإنسانية في التعاقد، أي حريتها، مع تقيدها بالقانون الذي يجتمع عليه الناس. و هذا مظهر الحرية الشخصية و الفكرية التي أتاحها الله لعباده و أمرهم أن يستعملوها لأنها وسيلة للحياة الكريمة و للتقدم. و هو معلم من معالم السبق التشريعي الاسلامي.

[99] بهذا كان علي عليه السلام إمام المفسرين. قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ قال: لا. فتلوت عليه الآية التي في «الفرقان» قال: هذه مكية نسختها آية مدنية «و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا». ورووا ان ابن عباس ناظر عليا في الآية، فقال علي: من أين لك أنها محكمة؟ قال: «تكاثف الوعيد». قال علي: ان الله نسخها بآيتين آية قبلها و آية بعدها في النظم. الأولي قوله تعالي «ان الله لا يغفر ان يشرك به

و يغفر مادون ذلك لمن يشاء. و من يشرك بالله فقد افتري إثما عظيما» و أما التي بعدها في النظم فهي قوله تعالي «ان الله لا يغفر أن يشرك به و من يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا» و المفسرون يضيفون الي الآيات قوله تعالي «و الذين لا يدعون مع الله الها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق» الي قوله تعالي «و يخلد فيها مهانا» ثم استثني بقوله «إلا من تاب و آمن و عمل صالحا». لكم صدق ابن عباس حينما سئل عن علمه و علم ابن عمه علي عليه السلام فقال: كالقطرة الي جوار البحر المحيط. [

[100] كتاب نحو تقنين جديد للمعاملات و العقوبات من الفقه الاسلامي: للمؤلف (طبعة المجلس الأعلي للشؤون الاسلامية سنة 1947 الفقرات 3 الي 73 و الفقرات 93 الي 127).

[101] يقول: «فليست العلوم النبوية مقصورة علي مجرد الخبر، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام، و يجعلون ما يعلم بالعقل قسيما للعلوم النبوية، و هذا خطأ، ان العلم هو علم محمد صلي الله عليه و آله و سلم، و علم في ميراث محمد صلي الله عليه و آله و سلم. و غير هذا العلم لا يكون علما. لقد بين صلي الله عليه و اله و سلم - مختتما دورة الرسالة العظمي - العلوم العقلية التي يتم بها دين الناس علما و عملا، و ضرب الأمثال، فكانت الفطرة بما ينبهها عليه... و لذلك أتي الخبر من السماء - القرآن و الحديث - بهذا يبين الحقائق لا بطريقة خبرية فقط بل (بالمقاييس العقلية)، فبين التسوية بين المتماثلين و التفرقة بين المختلفين». و يضرب ان تيمية أمثالا من الآيات للتسوية بين

متماثلين و التفرقة بين مختلفين، و يقول: «و كذلك أنزل الله سبحانه الميزان في القلوب... لما بينت الرسل العدل و ما يوزن به عرفت القلوب ذلك. فأنزل الله علي القلوب من العلم ما تزن به الأمور حتي تعرف التماثل و الاختلاف و تضع من الآلات الحسية ما يحتاج له في ذلك. كما وضعت موازين النقد و غير ذلك... قال الله تعالي (و السماء رفعها و وضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، و أقيموا الوزن بالقسط و لا تخسروا الميزان) فالميزان هو العدل و هو ما يعرف به العدل. و هو القياس القرآني المنزل، ليتعرف به صحيح الفكر من باطله... بالإضافة الي أن نزن الأمور عامة حسية أو عقلية».

[102] كان داود بن خلف الأصفهاني صاحب المذهب الظاهري شافعيا ثم صار ظاهريا ينكر القياس و يعتمد علي النص وحده. قالوا انه سئل لم تركت مذهب الشافعي قال: قرأت كتاب إبطال الاستحسان للشافعي فوجدت كل الأدلة التي يبطل بها الاستحسان يبطل بها القياس.

[103] أوغست كومت Auguste Comte 1798 - 1857 صاحب الفلسفة الواقعية في القرن الماضي. انتفع بمؤلفات لبنتز و ديكارت و فرنسيس بيكون و القديس توماس الأكويني و روجير بيكون؛ و الأخيران من أكبر من نشروا العلم الاسلامي و تأثروا به... و كثير من كتاباتهما تستعمل تعبيرات اسلامية.

[104] جون ستيوارت مل 1873 - 1806.

[105] ديكارت 1650 - 1596.

[106] يقول جابر: «و كذلك ينبغي إذا ذهب الدهري (القائلون: انما يخلقنا و يهلكنا الدهر - لا الله) يمنع أن يكون العالم مكونا مصنوعا، لأنه لم يشاهد، و لا واحد من الناس، بدء تكوينه، أن يقال له: ما ينكر أن يكون وجود الناس بعد وجود العالم بوقت طويل... و تذكر

كون مدينة أو قصر و لا يذكر أحد من أهل بلده ابتداء بنائه؟ فسلم أن يثبت قدم ذلك بالعلة التي أثبت بها قدم العالم. و اذا قال: انما علمت ان المدينة و القصر التي لم نشاهد، و لا من توفي، ابتداء بنائها، أنها مبنية من قبل، اني رأيت مثلها بني، و لم أر مثل العالم مبنيا - قيل له: ان هذا بعينه ما نقول. و ندفع كونه في طريق الاستدلال - فمن أين قلت: إن كل عالم تشاهده، و ليس له شبيه و لا مثيل، موجود. و ان كل ما لم تشاهده و ليس له شبيه و لا مثيل فليس بموجود! إذ قد بان تقصيرك و تقصير أمثالك عن مشاهدة جميع الموجودات، فأمكن أن يكون أكثر الموجودات مما لم نشاهده».

[107] راجع مقدمة كتاب الدكتور مصطفي نظيف... مدير جامعة (عين شمس) - بالقاهرة - عن الحسن بن الحسن الهيثم البصري أكبر عالم في الرياضيات و الطبيعة في العصور الوسطي. وفد الحسن من العراق الي القاهرة ليعمل مهندسا في خدمة الدولة الفاطمية في عصر الحاكم بأمر الله. و كان من رأيه جواز إقامة آلات علي النيل يحركها تيار مياهه. و الدكتور نظيف يقول: انه ينبغي لنا أن نستبدل بأسماء روجير بيكون و مور ليكوس و دافنشي و كبلر و دلابورثا، اسم الحسن بن الهيثم. فعلي يد الحسن أخذ علم الضوء وجهة جديدة بمنهجه الاسلامي و هو (استقراء الموجودات و تصفح أحوال المبصرات و تمييز خواص الجزئيات و ما يخص البصر في حال الإبصار. و ما هو مطرد لا يتغير و ظاهر لا يشتبه من كيفية الاحساس. ثم نترقي في البحث و المقاييس علي التدرج و الترتيب، مع

انتقاد المقدمات و التحفظ في النتائج. و نجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه و نتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوي. و نتحري في سائر ما نميزه و ننقده طلب الحق لا الميل مع الآراء، فلعلنا ننتهي بهذا الطريق الي الحق الذي يثلج الصدور، و نصل بالتدريج و التلطف الي الغاية التي عندها يقع اليقين. و نظفر مع النقد و التحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف و تنحسم بها مواد الشبهات. فهذا جمع للاستقراء و القياس... و ما هو إلا منهج علماء الرياضيات و الطبيعة المسلمين تابعهم فيه ابن الهيثم و نقله علماء أوربا، ابتداء من الكندي (252) عالم الطبيعة و الفيلسوف، و الرازي (320) جالينوس العرب أو الطبيب الفيلسوف الذي يتخذ الإحساسات بالجزئيات أساسا لكل عمله و يدلل بالكائنات الحية علي وجود الخالق. و ابن سينا (428) الرئيس... أو الفيلسوف الطبيب الذي يمثل فكرة المثل الأعلي في العصور الوسطي كما يقول سارتون. و للأخير صورتان معلقتان علي جدران جامعة باريس، الآن، مع جراح العظام ابن زهر... راجع (الامام الشافعي) للمؤلف - ص 175 - 174، الطبعة الثانية، طبعة المجلس الاعلي للشؤون الاسلامية. يراجع كذلك (المنهج العلمي المعاصر مستمد من القرآن) - للمؤلف - مطبعة دار الاتحاد العربي للطباعة سنة 1976 م حيث تفصيل الأدلة علي أخذ أوربا المنهج العلمي المعاصر عن علماء المسلمين.

[108] يقول أحمد بن حنبل: «أنا أذهب الي كل حديث جاء و لا أقيس عليه» و «سألت الشافعي عن القياس فقال: انما يصار اليه عند الضرورة». و في حالة الضرورة هذه أباح أحمد: «أن يقاس الشي ء اذا كان مثله في كل أحواله. فأما إذا أشبهه في حال و خالفه في حال فأردت أن تقيس عليه فهذا

خطأ. فإذا كان مثله في كل أحواله فما أقبلت به و أدبرت به فليس في نفسي شي ء منه».

[109] الشيخ محمدرضا المظفر.

[110] الحسن و القبيح قضية يمسك بطرفيها الأشاعرة فيقولون ان الشرع وحده هو الذي يعطي الفعل وصفه. و الشيعة، و يتبعهم في ذلك المعتزلة، يقررون انهما و صفان ذاتيان يستقل العقل بإدراكهما. فالصدق و المروءة أمران حسنان. و الكذب و انعدام المروءة أمران قبيحان.

[111] في كتابه إعادة تكوين الفكر الديني في الاسلام: The Reconstruction of Religious Thinking.

[112] في كتاب صنع الإنسانية Making of Humanity.

[113] مات روجير بيكون سنة 1294 و استمرت الجامعات العربية و العرب في الأندلس قرنين بعد ذلك، الي جوار المعاهد التي أنشئت لترجمة علومهم في فرنسا و الأندلس و إيطاليا و ألمانيا. و كان يجبيد اللغة العربية و العبرية، و يمارس التجارب العلمية في الطبيعة و الكيمياء، و قاومه معاصروه لكن البابا شد أزره. و كان جزاؤه السجن في باريس من أجل كتاباته. و هي تعتبر طلائع لكشوف علمية حديثة (كالعدسات و السيارات ذات المحرك البدائي و الطائرات) و هو القائل: «الفلسفة مستمدة من العربية. فاللاتيني - علي هذا - لا يستطيع فهم الكتب المقدسة و الفلسفة إلا اذا عرف اللغة التي نقلت عنها». و من قبل ذلك بقرون - و علي التحديد في سنة 920، طلب ملك الصقالبة الي الخليفة أن يبعث اليه معلمين و فقهاء فصنع. و كان الجغرافيون العرب في أرمينية منذ القرن التاسع للميلاد. كذلك تلقي البابا سلفستر (1003 - 999) علومه بجامع قرطبة، و كان اسمه الراهب جلبير، قبل أن يصير رئيسا لدير رافنا. و هو ناقل العلوم و العربية و الأرقام العربية الي أوربا. و قد

أنشأ مدرسة في ايطاليا و أخري في ريمس بالمانيا لنقل العلوم العربية. و ثابت ان مدرسة الوعاظ في طليطلة نشأت مدرسة لتدريس اللغة العربية سنة 1250 م ثم أمر مجلس فينا سنة 1311 م بتدريس العلوم العربية في باريس و سلامنكا و غيرها. و في سنة 1207 أنشأت جنوه جامعة لنقل الكتب العربية، و في سنة 1209، 1215 قرر المجمع المقدس منع تدريس كتب ابن رشد و ابن سينا لما فيها من حرية فكرية. و في سنة 1296 قرر المجمع اللاهوتي تحريم تدريس الفلسفة العربية و حرمان (كل من يعتقد ان العقل الانساني واحد في كل الناس)... و كان الامبراطور فردريك الثاني قد أنشأ جامعة نابولي لنقل العلوم العربية فوق ما تنقله مدرسة سالرنو المجاورة. و أنشأ العرب المطرودون من اسبانيا مدرسة مونيليه في بروفانس بجنوب فرنسا. و الشريف الأدريسي هو معلم روجار ملك صقلية. صنع له كرة ارضية من فضة، سنة 1153، قبل أن تعرف أوربا ان الأرض كروية. و من الثابت أن فيبر و ناتشي Fibronacci أول عالم اشتغل بعلم الجبر قد رحل الي مصر و سويا في عصر الملك فردريك الثاني ملك صقلية، و ان أدلارد الباثي Adilard of bath درس علي العرب علمي الفلك و الهندسة. و ما هؤلاء إلا طلائع للعصر الذي عاشوا فيه. و في العصر ذاته كانت مدرسة صقلية، و كمثلها مدرسة سالرنو في جنوب ايطاليا و جامعة نابولي التي أنشأها الامبراطور فردريك الثاني تذيع العلوم العربية، و احتل العرب جزر البحر الأبيض ابتداء من كريت سنة 212 الي صقلية سنة 216، أي في النصف الأول من القرن التاسع للميلاد، كما استولوا علي باري و برنديزي في وسط ايطاليا، و

توطدت سيطرتهم علي مقاطعتي كاميينا و أبروزي و أقاموا فيهما امارات عربية. و امتد سلطان عرب الأندلس الي جنوب فرنسا في مقاطعة بروفانس. و حاصروا روما. و كانت ملابس البابا موشاة بالأحروف العربية. و تأثر دانتي بالثقافة العربية واضح في الكوميديا الإلهية. و هو يذكر صلاح الدين الأيوبي و الدوق جود فري (الملك جود فري ملك بيت المقدس في حرب الصلبيين) في كتابه. و كانت السفارات بين الملوك و الأمراء الفرنجة و السلاطين تمد الي اوربا اسباب الحضارة. و كانت كتب ابن رشد و الغزالي أيامئذ تقدم الغذاء العلمي للفكر الأوروبي. و كتابات القديس توماس الأكويني (القديس توما) ناطقة بالتاثر الظاهر أو بالنقل الكامل. و في سنة 1250 أنشأت جماعة الوعاظ في طليطلة - مدرسة لتدريس اللغة العربية و العبرية بقصد تنصير المسلمين كما ألفت الكتب للدفاع عن المسيحية ضد المسلمين. و كان الأسقف ستيفن في باريس يناقش كتب ابن رشد. و في آخر أيام المسلمين بالأندلس أنشئت محاكم التفتيش لمقاومة العلم و الفلسفة اللذين خيف انتشارهما من كتب المسلمين. و في بحر ثمانية عشر عاما من (1499 - 1481) أحرقت هذه المحاكم 220، 10 رجلا أحياء، و شنقت 6860. و عاقبت سبعة و تسعين ألفا. و في سنة 1502 قرر مجمع لاترانا لعن من ينظر في فلسفة ابن رشد، لأنه يقول بحرية العقل . يراجع الفصل الثاني؛ و عنوانه (قوة الحضارة العلمية) من الباب الأول في كتابنا (توحيد الأمة العربية. فقرات 4 الي 18). و أول مرصد فلكي أقيم في أوربا أقامه العرب بأشبيلية و أول مدرسة طبية في أوربا هي التي أقاموها في ساليرت. و منذ سنة 970 كان في غرناطة بأسبانيا 120 مدرسة منها 17

مدرسة كبيرة و 27 مدرسة مجانية يتعلم فيها نبلاء أوربا علوما عربية. و لما سقطت طليطلة في سنة 1085 في أيدي الأسبان أقاموا المدارس لترجمة العلوم العربية فيها و لم يتوقف النقل بل أتيحت له مصادر جديدة بسقوط قرطبة سنة 1236 ثم بسقوط غرناطة سنة 1492. و كان بلاط الفونسو السادس بعد سقوط طليطلة مصطبغا بالثقافة العربية. بل هو أعلن نفسه أمبراطور العقيدتين: المسلمة و المسيحية. و كان الفونسو الخامس الملقب بالحكيم ملك قشتالة من سنة 1252 الي 1284 أكبر دعاة الثقافة العربية. و قد جمع له اليهود كل كتب العرب.

[114] If it had my way, I should burn all books of Aristotle , for the study ofthem can lead to a loss of time , produce eror, increase ignorance.

[115] كان بنوأمية يجعلون للعرب درجة علي الموالي - و سمي العرب الموالي بالعلوج. بل قال جرير: قالوا نبيعكه بيعا فقلت لهم بيعوا الموالي و استغنوا عن العرب و المبرد يقول: «و تزعم الرواة ان الذي أنفت منه جلة الموالي هذا البيت لأنه حطهم و وضعهم». و تزوج أعجمي من عربية من بني سليم فشكاهما محتسب الي والي المدينة (ابراهيم بن هشام صهر الخليفة عبدالملك بن مروان) ففرق بينهما لعدم الكفاءة، و عزر الزوج لأنه ارتكب جريمة! بأن ضربه مائتي جلدة ثم حلق لحيته و شاربه. فقالوا عن الوالي: قضيت بسنة و حكمت عدلا و لم ترث الحكومة من بعيد و ابراهيم بن هشام خال الخليفة هشام بن عبدالملك. و سأل هشام جليسه في فاتحة القرن الثاني للهجرة عن فقهاء الأمصار. قال: من فقيه المدينة؟ قال: نافع مولي ابن عمر. قال: فمن فقيه أهل مكة؟ قال: عطاء بن

أبي رباح. قال: مولي أم عربي؟ قال: مولي. قال فمن فقيه اليمن؟ قال: طاووس بن كيسان. قال: مولي أم عربي؟ قال: مولي. قال: فمن فقيه أهل اليمامة؟ قال: يحيي بن أبي كثير. قال: مولي أم عربي؟ قال: مولي. قال: فمن فقيه أهل الشام؟ قال: مكحول. قال: مولي أم عربي؟ قال: مولي. قال: فمن فقيه أهل الجزيرة؟ قال: ميمون بن مهران. قال: مولي أم عربي؟ قال: مولي. قال: فمن فقيه أهل الجزيرة؟ قال: الضحاك بن مزاحم. قال: مولي أم عربي؟ قال: مولي. قال: فمن فقيه أهل البصرة؟ قال: الحسن و ابن سيرين. قال: موليان أم عربيان؟ قال: موليان. قال: قال فمن فقيه أهل الكوفة؟ قال: ابراهيم النخعي. قال: مولي أم عربي؟ قال: عربي. قال: كادت نفسي تزهق و لا تقول واحد عربي! و من هذا التعصب للعرق و تمييز العرب ثار من عدا العرب في خراسان (ماوراء العراق حتي وسط آسيا) و أجاء أهل خراسان ببني العباس الي الخلافة بشعارين يكمل كل منهما الآخر: 1) إعادة حكم الدين و تولية أهل البيت. 2) مساواة الموالي و العرب. و انطبعت الدولة العباسية في أغلب أمرها. بطابع غير عربي. يقول الجاحظ عن المائة الأولي من عمرها: «دولتهم أعجمية خراسانية، و دولة بني أمية عربية أعرابية». و كان مؤسسو الدولة العباسية يشيرون الي خراسان علي انها (باب الدولة). و في خواتيم المائة الأولي، حاول الرشيد ان يستعيد مقاليد الامور من الفرس فكانت مصارع البرامكة. فلم يلبث الفرس إلا سنين حتي قتلت جيوشهم الأمين - العربي الأب و الأم - و جاءوا بالمأمون الي عرش الخلافة و أمه خراسانية. و شهدت المائة الثانية من عمر الدولة دولا قادمة من خراسان تستقل بممالكها أو تحكم الدولة العباسية كلها: بني سامان (389 - 261) يحكمون في الشرق من

خراسان في (248) و الدولة الصفارية في عهد المعتز (252) ثم بني بويه (423 - 324) يحكمون فارس و الري و اصفهان و الجبل. و لم تنشأ دولة عربية إلا في الموصل و دياربكر و ربيعة، و هي دولة بني حمدان (358 - 317).

[116] يراجع شرح القسم القضائي من هذا العهد في كتابنا (المنهج العلمي المعاصر مستمد من القرآن (160 - 145).

[117] و لما عهد لمحمد بن أبي بكر كان مما جاء في عهده له قوله: «اعلم يا محمد بن أبي بكر أني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي، أهل مصر، و أنتم يا أهل مصر فليصدق قولكم فعلكم و سركم علانيتكم، و لا تخالف ألسنتكم قلوبكم».

[118] فأما حق الله الأكبر عليك فأن تعبده و لا تشرك به شيئا. فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك علي نفسه أن يكفيك أمر الدنيا و الآخرة... و أما حق نفسك عليك... و أما حق اللسان و أما حق السمع... و أما حق بصرك... و أما حق رجليك... و أما حق يدك... و أما حق بطنك... و أما حق فرجك... ثم حقوق الأفعال: و حق الصلاة... و حق الحج... و أما حق الصوم... و أما حق الصدقة... و أما حق الهدي - ثم حق الأئمة... فأما حق سائسك بالسطان... و أما حق سائسك بالعلم... و أما حق سائسك بالملك. ثم حقوق الرعية... فأما حقوق رعيتك بالسلطان... و العلم... بملك النكاح... بملك اليمين. و أما حق الرحم... و أما حق أمتك... و أما حق ولدك... و أما حق أخيك... و أما حق المنعم عليك... و أما حق مولاك الجارية نعمته عليك... و أما حق ذي المعروف عليك... و أما حق المؤذن... و أما حق

إمامك في الصلواتك... و أما حق الجليس... و أما حق الجار... و أما حق الصاحب... و أما حق الشريك... و أما حق المال... و أما حق الغريم المطالب لك... و أما حق الخليط و أما حق الخصم المدعي عليك... و أما حق المستنصح... و أما حق الناصح... و أما حق الكبير... و أما حق الصغير... و أما حق السائل... و أما حق المسؤول... و أما حق من سرك الله به و علي يديه... و أما حق من ساءك القضاء عليه... و أما حق أهل ملتك عامة و أما حق... و أما حق...

[119] لما فتح هولاكو بغداد استفتي العلماء؛ أيهما أفضل: السلطان الكافر العادل أو السلطان المسلم الجائر؟ فجمعوا لذلك بالمدرسة المستنصرية. و كان علي بن طاوس حاضرا، و هو المقدم المحترم. فتناول الفتيا و وضع خطه عليها بتفضيل العادل الكافر علي المسلم الجائر. و وضع العلماء خطوطهم علي ذلك.

[120] اضافه النبي إلي أهل البيت فصلا من النبي في تنازع المهاجرين و الأنصار عليه إذ كان كل من الفريقين يريده واحدا منهم. و كان سلمان في انتسابه لأهل البيت حيث أراد صاحبه صلي الله عليه و آله و سلم. فهو صاحب الرأي بحفر الخندق في يوم غزوة (الأحزاب) و علي هو الذي قتل عمرو بن عبدود فارس العرب يوم ذاك - فلآل البيت في هذه المعركة القدح المعلي. و كان حكيما. إذا خلا به رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لم يبغ أحدا غيره. عينه عمر أميرا علي المدائن عاصمة فارس، فكان يوزع عطاءه علي الناس (خمسة آلاف درهم)، و يعمل الخوص بيده، و يبيعه بثلاثة دراهم، ينفق واحدا و يتصدق بواحد، و يشتري خوصا

جديدا بواحد. و ذات يوم دخلوا عليه دار الإمارة فوجدوه يعجن بيده. قال: بعثنا الخادم في عمل فكرهنا أن نجمع عليه عملين. رآه رجل قادما من الشام فحسبه من ضخامة جسمه حمالا، فأعطاه حملا و قال اتبعني. فحمله و تبعه. و رآه الناس فتسارعوا يحملون حمل الأمير قال: لا... فرجا الرجل، إذ أدرك مقامه، فأبي و قال: لا حتي أبلغ منزلك. وثمة وضع الحمل في مكانه و قال: «اني احتسبت بما صنعت خصالا ثلاثة: اني نفيت عني الكبر، و أعنت رجلا من المسلمين علي حاجته، و إن لم تسخرني سخرت من هو أضعف مني فوقيته بنفسي». فهو يحمل الحمل عن رجل ضعيف. و لا يخزي صاحب الحمل بتعريف نفسه. و ينفي عنهما الكبر و هو أمير فارس! لكنه يحفظ وصية صاحبه صلي الله عليه و آله و سلم فيقول: «أوصاني خليلي ألا يكون متاعي من الدنيا إلاكزاد الركب». و حسبه قول أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) عنه: «من لكم بمثل لقمان الحكيم».

[121] أطلقت الأوصاف من كثير من الحرف علي عظماء الفقهاء الذين يحترفونها (الخصاف - القدوري - الكرابيس - القفال - الصابوني - الحلواني - النعالي - البقالي - الصفار - الجصاص - التبان... الخ) - و قد عمل أئمة أهل السنة الأربعة، و عمل الصحابة التابعون. و من علماء الشيعة؛ نصر بن مزاحم (مؤلف كتاب صفين)، و داود بن أبي يزيد، و داود بن سرحان: كانوا عطارين. و ميثم التمار يبيع التمر، و مؤمن الطاق، و خالد بن سعيد، و محمد بن خالد، و صبيح بن أبي الصباح كانوا صيارفة. و الشيخ آدم كان يبيع اللؤلؤ، و رفاعة بن موسي كان نحاسا، و ابن حدير كان طحانا، و عبدالله

بن ميمون كان قداحا (يبري القداح).

[122] قتله داود بن علي - أمير المدينة لأبي جعفر المنصور - و صادر ما تحت يديه، من أموال كانت أموال الإمام الصادق، في نوبة من نوبات البطش التي اجتاحت المدينة و أهل البيت، بتهمة أنه لم يدل (داود) علي اثنين من العلويين كان يبحث عنهما - و قصد الإمام إلي دار الإمارة يصيح في وجه داود بل يتهدده «قتلت مولاي و أخذت مالي. أما علمت أن الرجل لا ينام علي الحرب»؟ فتنصل داود من المسؤولية و أمر بقتل القاتل فصاح هذا الأخير «يأمرونني بقتل الناس فإذا أمرت بقتلهم قتلوني!».

[123] قارن هذا المجتمع الإسلامي الذي يقول فقهاؤه: «ما المعطي عن سعة بأفضل من الآخذ لو كان محتاجا» بالمجتمع الإنجليزي الذي جاء بعد ذلك بقرون سبعة في عصر الملكة اليزابيث (1603 - 1558) و فيه صدرت قوانين بإعدام المتسولين و أعدم بها المئات.

[124] روي المسعودي في مروج الذهب حادث أبي ذر و كعب الأحبار في مجلس الخليفة عثمان بن عفان. قال: إن أباذر كان في مجلس الخليفة حين (أتي بتركة عبدالرحمن ابن عوف فنضت البدر حتي حالت بين عثمان و الرجل القائم. فقال عثمان إني لأرجو لعبدالرحمن خيرا لأنه كان يتصدق و يقري الضيف و ترك ما ترون. و قال كعب الأحبار: صدقت يا أميرالمؤمنين... فشال أبوذر العصا و ضرب بها رأس كعب. و قال: يابن اليهودي تقول لرجل مات و ترك هذا المال ان الله أعطاه خير الدنيا و خير الآخرة، و تقطع علي الله عهدا بذلك! و أنا سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: «ما يسرني و أدع ما يزن قيراطا»... و قال عثمان لأبي ذر: وار عني

وجهك.

[125] الأئمة الإثنا عشر 1 - علي (اميرالمؤمنين) 2 - الحسن المجتبي، 50 3 - الحسين الشهيد، 61 4 - علي زين العابدين، 94 5 - محمد الباقر، 114 6 - جعفر الصادق، 148 7 - موسي الكاظم ، 183 8 - علي الرضا، 202 9 - محمد الجواد، 220 10 - علي الهادي، 254 11 - الحسن العسكري، 260 12 - محمد المنتظر المهدي. ولد بسامر سنة 256 و اختفي بعد سنة، 260.

[126] من الفرق المغالية - العميرية (أصحاب عمير بن بيان العجلي) عبدوا جعفر الصادق، فتبرأ منهم. وصلبه يزيد بن هبيرة والي بني أمية سنة 128. و منها أتباع أبي الخطاب الأسدي (محمد ابن أبي زينب) - زعيم الخطابية - زعم أن جعفرا إله فتبرأ منه الإمام، فادعي الألوهية لنفسه. و حاربه المنصور و أسره و صلبه في الكوفة - و منها البزيغية (أصحاب بزيغ بن موسي) عبدوا جعفر الصادق، (و المعمرية) أصحاب (معمر بن الخيثم) - الخياط بالكوفة، و هم فرقة من الخطابية يقولون إن النور خرج من جعفر و دخل في ابي الخطاب فصار جعفر ملاكا و أبوالخطاب إلها. و (المفضلية) أصحاب المفضل بن عمر الصيرفي (170) يقولون بإمامة معمر و ألوهية جعفر. (و السرية) أصحاب السري بن منصور (200) يقولون إن السري رسول جعفر، و جعفر هو الله، و السلام و الإسلام. و كانوا في الحج يقولون: لبيك يا جعفر لبيك. و يقول ابن النديم في الفهرست إن أتباع أبي الخطاب أظهرتهم الفرقة الميمونية - أي الاسماعيلية - و يقول النوبختي (310) عن أتباع أبي الخطاب: «خرج من قال بمقالته من أهل الكوفة و غيرهم إلي محمد بن اسماعيل بن جعفر فدخلوا في فرقته و سمي أتباع محمد

بن اسماعيل (اسماعيلية)».

[127] أتي «العمري» مالكا فقال له: يا أباعبدالله. بايعني أهل الحرمين، و أنت تري سيرة أبي جعفر فما تري؟ فقال له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبدالعزيز أن يولي رجلا صالحا؟ قال: لا أدري. قال مالك: لكني أنا أدري؛ إنما كانت البيعة ليزيد (بن عبدالملك) بعده، فخاف عمر إن ولي رجلا صالحا أن لا يكون ليزيد بد من القيام، فتقوم هجمة و يفسد ما لا يصلح....

[128] و في سنة 211 أمر المأمون فنودي «برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير و فضله علي أحد من الصحابة» كما أمر بتفضيل الإمام علي عليه السلام، و أنه أفضل الناس بعد رسول الله، و أوصي أخاه المعتصم بقوله «و هؤلاء بنو عمك من ولد أميرالمؤمنين علي... فأحسن صحبتهم، و تجاوز عن مسيئهم، و أقبل من محسنهم... و صلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها: فإن حقوقهم تجب من وجوه شتي».

[129] خلفاء الدولة الفاطمية: عبيدالله المهدي - مؤسس الدولة - 322 - المنصور 341 - المعز لدين الله 365 - العزيز بالله 386 - الحاكم بأمر الله 412 - الظاهر 427 - المستنصر (487 - 427) ثم تعاقب: الآمر، و الحافظ، فالظاهر، و الفائز، و العاضد؛ و هو الذي أنهي صلاح الدين الدولة الفاطمية بخلعه سنة 567. و بسط الفاطميون سلطانهم علي افريقية من المحيط الأطلسي حتي قناة السويس و الشام. و كانت لهم السلطة في اليمن. ولو لا هزيمة جيوشهم أمام الأتراك بقيادة طغرل بك سنة 451 لبلغوا جبال الهمالايا. و إنما أبقي الأتراك الخلفاء العباسيين لمقاومة الفاطميين. ففي ذي القعدة سنة 450، دخل البساسيري علي رأس إمدادات عسكرية من مصر و خطب في جامع المنصور

للخليفة الفاطمي (المستنصر) أربعين جمعة - و أرسلت عمامة الخليفة العباسي (القائم) إلي القاهرة فبقيت بها أكثر من قرن. و كسر الفاتحون منبر المسجد الجامع، و هم يقولون: «هذا منبر نحس أعلن عليه بغض آل محمد». و لما وردت إلي مصر الأخبار بذلك غني المغنون أمام المستنصر غناء هو في صميمه اعلان «بعدالة التاريخ»: يا بني العباس ردوا ملك الأمر معد (اسم المستنصر) ملككم ملك معار و العواري تسترد و بالنفوذ الفاطمي تقوي الشيعة الإمامية في العراق و فارس، و تقوي الاسماعيلية في فارس.

[130] و كان الخليفتان (المعز و العزيز) يعقدان مجالس للمناظرة بين المسيحين و المسلمين. و من التسامح أذنت الدولة بأعياد الغطاس و رأس السنة و النيروز و سائر أعياد النصاري.

[131] من تلاميذ المدرسة النظامية: السعدي شاعر الفرس الكبير، و عماد الدين الأصفهاني، و بهاءالدين بن شداد - عاملا صلاح الدين - و ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين في أفريقية، و أبواسحق الشيرازي أول أشياخها. و من أشياخ المدرسة و تلاميذها الغزالي صاحب الكتاب الشهير في فضائح «الباطنية».

[132] أصهر الخليفة المستنصر (487 - 427) إلي قائده الأرمني الأصل بدر الجمالي. و لما مات المستنصر كان ولي عهده ابنه «نزار» فولي بدر مكانه ابن أخته «المستعلي» و حبس نزارا ثم قتله، فأصبحت الشيعة في مصر مستعلية. و منها اسماعيلية اليمن و بعض بلاد الشام. و من اسماعيلية اليمن ذهب الدعاة إلي الهند فقامت الاسماعيلية البهرة (و البهرة معناها تاجر) - و أصبح الاسماعيلية في الهند و إيران و الشام نزارية. و للاسماعيلية مركز عظيم في بومباي - و هم يدافعون عن الإسلام حيثما يكونون... يرون الإمامة سبعية تتم بالإمام السابع، و هو إسماعيل. ثم تبدأ دورة جديدة أئمتها

مستورون. و من الاستتار لم يعرف بالضبط كثير من أمورهم. و اتسمت دعايتهم بالسرية مع دقة تنظيمها.

[133] و هم يجعلون للأئمة صفات «باطنية» غير بشرية لا يعرفها الشيعة الآخرون، و تؤخذ عليهم أشعار الشعراء المشهورين منهم مثل ابن هاني الأندلسي الذي يقول للخليفة الفاطمي: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار! و الأخفش يقول للخليفة الآمر: بشر في العين إلا أنه عن طريق العقل نور و هدي جل أن تدركه أعيننا و تعالي أن تراه جسدا و قول شاعر آخر: هذا أميرالمؤمنين بمجلس أبصرت فيه العقل و التنزيلا و إذا تمثل راكبا في مجلس عاينت تحت ركابه جبريلا! و الأمير تميم بن معد يمدح أخاه الخليفة العزيز بالله فيقول: مضي من العلة الأولي التي سبقت خلق الهيلوي و بسط الأرض و المطر.

[134] سبق الفاطميين بمصر (567 - 358) الإخشيديون. و كانوا ينشرون التسامح الديني فيها. و قد خصص المقريزي فصلين للكنائس و الأديرة و حسن التفاهم بين المسلمين و المسيحيين، و بخاصة في الدولة الفاطمية. و لم يعكر صفو هذا التفاهم إلا أيام الحاكم بأمر الله. ثم جاء الظاهر - (427 - 411) فالمستنصر (467 - 427) يعاقب قائده بالقتل لقيامه باضطهاد المسيحيين. و كان أسقف الأشمونين ساويرس يجادل الفقهاء، المسلمين، في أمور الدين. و تولي الخليفة الآمر (من سنة 485 حتي سنة 525) و كان يزور الأديرة و يصادق الرهبان. و من خواص كتابه (أبونجاح) و هو مسيحي. و في هذا الجو، ظهر نوابغ المسيحيين ابتداء من ساويرس بن المقفع (328) و هو مؤلف كتاب الرد علي اليهود و المعتزلة. و رسالة عن التثليث. و أخري في الرد علي النساطرة. و شرح

الإنجيل و تاريخ المجامع الكنسية. و في القرن السادس ظهر أولاد العسال الثلاثة: أبوالفرج و الصفي و أبواسحق. و ظهر المكين جرجس المتوفي سنة 672. و قديما اصطنع عمر بن الخطاب الكتاب من سبي قيسارية. و استعمل أبوموسي الأشعري كاتبا نصرانيا. و كان بنوأمية يستعملون ابن أثال الطيب النصراني و يضعون عنه الجزية.

[135] يراجع كتاب (المنهج العلمي المعاصر مستمد من القرآن) للمؤلف طبعة دار الاتحاد العربي بالقاهرة 1976.

[136] كان فرسان المعبد Templars: Knights of the Temple جنودا محاربين علي ميمنة الجيوش الصليبية في كل الحروب. و كان علي ميسرتها الفرسان الإسبتالية Hospitalars و كلا التنظيمين تنظيم رهبان متقشفين لا يتزوجون. و الأولون عملهم حربي محض ضد المسلمين. و ما تزال كنيسة المعبد في لندن Temple Church شاهدة بعمل فرسان المعبد. و فيالق التبشير، منذئذ، تفد علينا من دول أوربا و امريكا، مستعملة كل الأسلحة، مالية أو علمية أو طبية أو اجتماعية أو سياسية. و كثيرا ما عملت في خدمة الجيوش المحاربة أو عملت الجيوش في خدمتها. أما العالم الشيوعي فيصدر إلي الشرق و الغرب أفكار الملحدين.

[137] للبحث عن الحرية الدينية، وصلت السفينة زهرة الربيع Mayflower براكبيها في 21 ديسمبر سنة 1620 إلي شواطئ أمريكا لينشئوا مستعمرة (انجلترا الجديدة) و يطلق عليهم (الآباء الحجاج). و أعقبهم طلاب «حرية دينية» آخرون بلغوا في السنوات العشر من سنة 1630 إلي 1640 عشرين ألفا. و هؤلاء نواة الولايات المتحدة الأمريكية. أما دول أمريكا الجنوبية فنواتها الاسبان و البر تغاليون... الذين صنعوا بالمسلمين ما صنعوا في القرنين الخامس عشر و السادس عشر للميلاد.

ظهور الاسلام

اشاره

«لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله ليس بفرار. يفتح الله

عزوجل علي يديه» «حديث شريف» [ صفحه 19] الإمام جعفر الصادق نتاج قرن كامل من العظائم يحني لها الوجود البشري هاماته، ويدين بحضاراته. علي رأسها نبي الإسلام عليه الصلاة و السلام. و فيها بطولات الإمام علي إلي جوار النبي، و أثرها في انتصار الإسلام، و مشاركته إبان خلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين سبقوه. و آيات نبوغه تفوقه في السياسة و الإدراة و القضاء و الفقه و التشريع و البيان العربي و العلم بوجه عام، و إجلال جميع المسلمين لمكانته و التفاف شيعته حوله و تفضيلهم له علي سائر الخلفاء الراشدين. ثم قيام الفتنة في أخريات خلافة عثمان و مصرعه و بيعة المسلمين لعلي (عليه السلام)، و تمرد معاوية في الشام، و اشتعال الحرب بين أميرالمؤمنين و بين جيش معاوية، و حركة الخوارج و اغتيال علي (عليه السلام)، و البيعة لابنه الحسن. ثم اضطرار الحسن للصلح مع معاوية حقنا للدماء، و استتباب الأمور للأخير نحو عشرين عاما. و لما آلت الأمور إلي ابنه يزيد استفتح حكمه بمذبحة كربلاء، حيث استشهد الحسين بن علي (عليهماالسلام) أبوالشهداء. و أعقبتها مذبحة الحرة، و مقتل المئات من الصحابة و التابعين، ثم ضربت جيوشه الكعبة بالمنجنيق و مات و جيوشه تقصف الكعبة. فتولي بعده ابنه معاوية، فتنازل عن الخلافة. فانتهز مروان بن الحكم الفرصة للسيطرة علي مقاليد الخلافة و تتابع بعده بنوه. أما أبناء الحسين فانصرفوا الي حمل هموم المسلمين و إعلاء كلمة الدين و القيام في الامة مقام جدهم الإمام «علي بن أبي طالب» و النهوض بتبعات الإمامة بتوفيق الله سبحانه من: علي بن الحسين (زين العابدين) إلي ابنه الإمام (الباقر) إلي حفيده الإمام (الصادق). و الإشارات السريعة إلي كل أولئك، ولو باختصار، هو

موضوع الفصلين الأول و الثاني في هذا الباب، و فيهما مدخل الكتاب. [ صفحه 23]

اخو النبي

اشاره

«أنت أخي و صاحبي» «حديث شريف» أول من آمن بالله و رسوله أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، و علي بن أبي طالب. و اختلفوا في سن علي يومئذ. قال ابن إسحق إن عليا أول من آمن بالله و صدق رسول الله، و هو ابن عشر سنين يومئذ. و روي ابن إسحق كيف اسلم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بعد إسلام خديجة و صلاتها مع النبي بيوم واحد. إذ جاء فوجدهما يصليان. فقال علي: يا محمد ما هذا؟ فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «دين الله الذي اصطفي لنفسه و بعث به رسله. فأدعوك الي عبادة الله و كفر باللات و العزي». فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم. فلست بقاض أمرا حتي أحدث أباطالب. فكره رسول (صلي الله عليه و آله و سلم) أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره. فقال له: «يا علي إن لم تسلم فاكتم». فمكث علي تلك الليلة. ثم إن الله أوقع في قلبه الإسلام. فأصبح غاديا إلي رسول الله حتي جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد؟ فقال «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. و تكفر باللات و العزي، و تبرأ من الأنداد». ففعل علي و أسلم. و كان مما أنعم الله به علي علي أنه ربي في حهجر رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قبل الإسلام. و من رسول الله و خديجة - أول مسلمين - ولدت فاطمة الزهراء. و من أبنائها و من أبناء علي و أبي بكر، أي من أبناء نبي الإسلام، و المسلمين

الثلاثة الأولين، ولد جعفر بن محمد (الإمام الصادق). فعلي بن أبي طالب يجي ء دائما في صدارة أهل الإسلام. [ صفحه 24] و أبوه و أمه في الصدارة كذلك: لقد كفل أبوه محمدا (صلي الله عليه و آله و سلم) و هو ابن ثماني سنين. و خرج به إلي الشام و هو ابن اثنتي عشرة. و هو الذي مثله في الزواج من أم المؤمنين خديجة. و لما ماتت فاطمة بنت أسد (أم علي) نزل النبي في لحدها و ألبسها قميصه - صلي الله عليه و آله و سلم - و قال «لم يكن أحد أبربي بعد أبي طالب منها». و جزي النبي صنيعهما في علي، إذ كفله و هو ابن ست سنين، ثم جعله سابقا في الإسلام. فلما كان النبي يعبد الله في غار حراء كان علي يعبد الله و هو صبي مميز. ثم بسق الفرع و سمق في جوار أخيه [1] و مربيه و علي عين أبيه. و في سنة سبع من البعثة تآمرت قريش علي قتل الرسول. و أبي قومه بنو هاشم. و ظاهرهم بنو عمهم «المطلب بن عبد مناف». فأجمع المشركون من قريش علي إخراجهم من مكة إلي «الشعب». فخرجوا؛ مؤمنهم و كافرهم. فلما عرفت قريش أن رسول الله قد منعه قومه اجمعت ألا تدخل إليهم شيئا، و فرضت عليهم حصارا اقتصاديا قاسيا مدة ثلاث سنين. و كان «أبوطالب» يأمر رسول الله أن يأتي فراشه كل ليلة، حتي يراه من أراد به شرا، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه، فاضطجع علي فراش الرسول، و أمره أن يرقد علي بعض فرشهم فيرقد عليها. حتي إذا أكملوا ثلاث سنين أخبر الله رسوله أن العهد الذي تعاهدته قريش في

صحيفة علقوها بالكعبة قد أكلته الأرضة. فخرجوا من الشعب إلي قريش. و أنبأ أبوطالب قريشا أن الصحيفة قد أكلت، كما أخبره ابن أخيه، و أنبأهم أنه و أهله سيحمونه عن آخرهم. و ذات يوم سأل النبي قومه: أيكم يواليني في الدنيا و الآخرة؟ - و علي جالس - فسكتوا. و قال علي: أنا أو اليك في الدنيا و الآخرة. فكانت هذه أول موالاة من النبي لعلي. [ صفحه 25] و لما حضرت الوفاة أباطالب في السنة العاشرة من المبعث عن بضع و ثمانين، جمع إليه وجوه قريش فقال بين ما قال «... و إني أوصيكم بمحمد فإنه الأمين في قريش، و الصديق للعرب. و هو الجامع لكل ما وصيتكم به... يا معشر قريش كونوا له ولاة...». و النبي يقول «ما زالت قريش كاعة حتي مات عمي أبوطالب». و ماتت خديجة بعد أبي طالب بأيام أو أشهر أو أكثر. و أذن الله للرسول في الهجرة إلي المدينة. و كان قد أمر أصحابه بالهجرة إلي الحبشة ثم إلي المدينة. و لم يبق فيها إلي جواره إلا أبابكر و عليا. و الأول هو الصاحب و الثاني هو «الفدائي الأول». فلقد رأت قريش ذلك فأجمعت علي قتل النبي فبيتوه و رصدوه طول ليلهم ليقتلوه إذا خرج. فأمر عليا أن ينام في فراشه. و دعا ربه أن يعمي علي قريش أثره، و خرج و قد غشي المتآمرين النوم. و كان «الفدائي الأول» قد شارف العشرين من العمر. استبقاه الرسول لأمر يتعلق بحياة الرسول، ليضحي من أجله بحياته. وسلمت الحياتان، لأن الأولي حياة الإسلام، و لأن الثانية سوف تفديها و تحرسها مرة إثر أخري.

اخو النبي

أقام علي بمكة أياما ليرد فيها ودائع كانت

عند الرسول، ثم لحق به في المدينة. فنزل معه بقباء، حيث أقام رسول الله مسجدها، ثم خرج إلي دور أخواله من بني النجار فأقام بها أشهرا بني فيها مسجده، و آخي بين تسعين من المهاجرين و الأنصار علي الحق و المساواة و التوارث ، حتي نزل قوله تعالي «و أولو الأرحام بعضهم أولي ببعض». أما «أبوبكر» فآخي بينه و بين خارجة بن زيد. و أما «عمر» فآخي بينه و بين عتبان بن مالك. و أما «عثمان» فآخي بينه و بين أوس بن ثابت (أخي حسان). أما «علي» فآخي بينه و بين نفسه (صلي الله عليه و آله و سلم). و خاطبه ذات مرة قائلا: «أنت أخي و صاحبي». و في ذلك رواية ابن عباس أن عليا كان يقول «و الله إني لأخو رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و وليه». و هذه هي المؤاخاة الثانية. فالأولي كانت بمكة. [ صفحه 26] ثم خرج المسلمون ليوم «بدر»، فدفع رسول الله الراية إلي علي، و راية أخري لرجل من الأنصار. فهذه أولي معارك الإسلام و كبراها. و كان لعلي دور البطولة في هذه المعركة الحاسمة. ثم قدم الرسول فلذة كبده «لبطل بدر»، فبني بفاطمة الزهراء و هي في الثامنة عشرة [2] . روي ابن الأثير في أسد الغابة «أخبرنا... عن الحارث عن علي فقال: خطب أبوبكر و عمر - يعني فاطمة - إلي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). فأبي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) عليهما. فقال عمر: أنت لها يا علي. فقلت: مالي من شي ء إلا درعي أرهنها. فزوجه رسول الله (صلي الله عليه و آله و

سلم) فاطمة. فلما بلغ ذلك فاطمة بكت. قال: فدخل عليها رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: «ما لك تبكين يا فاطمة! فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما و أفضلهم خلقا و أولهم سلما». أما العلم و الحلم و السلم فهي التي احتاج فيها علي - و هو في فتاء السن - إلي الشهادة بها من النبي لدي زهراء النبي. و أما ميادين الوغي فقد شهدت له فيها رايات «بدر»، و ستشهد له فيها الرايات الأخر: في يوم أحد - أخطر معارك الإسلام - كان علي في الحرس، إلي جوار النبي، حين أصيب النبي في المعركة. و كان طبيعيا أن يصاب علي بستة عشر ضربة، كل ضربة تلزمه الأرض. و كما يقول سعيد بن المسيب سيد التابعين «فما كان يرفعه إلا جبريل (عليه السلام)» فلما اشتد الخطب، و قتل حامل الراية - مصعب بن عمير - دفع الرسول الراية لعلي.... [ صفحه 27] و في يوم الخندق أزفت الآزفة عندما تمكن المشركون من اقتحام الخندق. فاعترضهم علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين، حتي أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها. و كان عمرو بن عبدود - فارس العرب - يريد أن يعرف مكانه يوم الخندق، فنادي من فوق الخيل: هل من مبارز؟ فبرز له علي. قال له عمرو: ما أحب أن أقتلك لما بيني و بين أبيك. و أصر علي و نزل عمرو عن فرسه. و ما أسرع ان قتله علي. وفر الآخرون مذعورين. و في غزوة بني قريظة كانت له راية المسلمين. و في صلح الحديبية كان «محرر» صحيفة الصلح علي بن أبي طالب، يملي عليه رسول الله (صلي الله عليه و آله و

سلم)! فذلك كان أيمن صلح عرفه التاريخ البشري. فلقد اصبح الذين أسلموا بعده و قبل فتح مكة، اكثر ممن أسلموا قبله. و به حفظت دماء الذين بايعوا تحت الشجرة، ليظهر الإسلام علي أعدائه و ييسر فتح مكة. و في غزوة خيبر، قال عليه الصلاة والسلام: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله. ليس بفرار. يفتح الله عزوجل علي يديه». و لما اصبح دعا عليا و قال: «خذ الراية و امض حتي يفتح الله عليك». و حمي الوطيس. و سقط ترس علي. فتناول بابا و تترس به. و لم يزل يقاتل حتي فتح الله عليه. و حمي الله فضائل الإسلام علي يد علي. فلم يره أحد في موقف المنكسر. و لما استشهد في دفاعه عن هذه الفضائل، كان الإسلام ينتصر. و في يوم حنين أعجبت المسلمين كثرتهم، فكادوا ينهزمون. و ثبت الرسول. و قتل علي صاحب راية المشركين و انتزعها منه، و كر المسلمون عليهم فهزموهم بإذن الله. و لما قتل خالد بني خزيمة خطأ و سباهم - و هم مسلمون - بعث الرسول عليا فوداهم و رد إليهم أموالهم و قال لهم: انظروا إن فقدتم عقالا لأدينه. فبهذا أمرني رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). و في السنة التاسعة خرج رسول الله إلي تبوك. و استعمل عليا علي المدينة. فسأل [ صفحه 28] علي النبي في ذلك. فأجابه «إنما خلفتك لما تركت ورائي. فارجع فاخلفني في أهلي، و أهلك، فأنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي...» فكان تخليفه عن هذه الغزوة تقديما له، إذ وضعه موضع هارون من «موسي» (عليه السلام). أي في

منزلة أخ الرسول من الرسول. و تتابع التقديم، إذ نزلت عشر آيات من صدر سورة «براءة» من عهد كل مشرك لم يسلم أن يدخل المسجد الحرام بعد هذا العام. فقالوا للرسول: ابعث بها إلي ابي بكر. - و كان علي الناس في حج البيت الحرام - فقال عليه الصلاة و السلام «لا يؤديها عني إلا رجل من أهل بيتي» و بعث عليا علي ناقته (صلي الله عليه و آله و سلم) فأدرك أبابكر في الطريق. و في كتب السنن أن النبي بعد عودته من حجة الوداع نزل بغدير خم و أعلن أنه يترك القرآن و «عترته» للمسلمين ثم أخذ بيد علي و دعا ربه «اللهم وال من والاه و عاد من عاداه». و لما بعث النبي عليه الصلاة و السلام عليا إلي اليمن قال علي «يا رسول الله تبعثني إلي اليمن و يسألونني عن القضاء و لا علم لي به». فضرب النبي بيده علي صدره ثم قال «اللهم ثبت لسانه و اهد قلبه» قال علي «فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين بعد». و هي خصيصة يدرك جلال اليقين فيها من ولي القضاء.

بين الخلفاء الراشدين

صعدت روح رسول الله إلي الرفيق الأعلي و علي بطل جيوشه غير منازع. و كان قد دربه علي القضاء و الإفتاء. فهاتان الوظيفتان هما أسمي عمل في الدول. و بخاصة في الدولة المسلمة، حيث الحفاظ علي الشريعة و إدارة الدول و سياسة الأمم و استقرار النظم و اطمئنان الجماعة واجبات دينية. و الإفتاء يعدل التشريع في أيامنا هذه. و القضاء هو توزيع العدالة، و العدل صفة الله سبحانه. لقد بعثه إلي اليمن. فقضي. و له قضاء مشهور

عرض علي النبي فاستحسنه. و له [ صفحه 29] السؤال المشهور يومذاك إذ سأل: أكون كالسكة المحماة أو الشاهد يري ما لا يراه الغائب؟ فأجابه عليه الصلاة و السلام «بل الشاهد يري ما لا يراه الغائب». فدل بذلك علي تفويضه في أن يجتهد، و أن يعمل بمقاصد الشريعة... و كان أيامئذ في عنفوان شبابه. فلم يفارقه الاجتهاد العظيم للأمة في كل مناسبة تقتضي الاجتهاد. و بالتربية النبوية في القضاء و الإفتاء نفذ علي إلي صميم الفكر التشريعي في الأمة، أي صميم شريعة الإسلام. فاحتاج أبوبكر و عمر إليه في جوارهما ليشير عليهما، و يقضي، و يفتي. أما فتاواه التشريعية فستبقي مثلا أعلي للفكر الإسلامي في سياسة الدولة و سياسة الناس. إذا اشتهر عمر بأنه المجتهد الأكبر من كثرة ما واجه من ظروف طارئة علي الدولة المنتصرة في الشرق و الغرب، و من طول ما حكم و هو خليفة، و اتساع ما فتح من الفتوح، و اختلاف من أسلم من أهل البلاد المفتوحة، فعلي كان يصحح الكثير من اجتهاداته. - منع عمر تدوين الحديث - مخافة أن يخلط القرآن بشي ء - و بهذا أبطأ التدوين عند أهل السنة قرنا بتمامه. و انفتحت أبواب للجرح و التعديل و للوضع، و للضياع. أما علي فدون من أول يوم مات فيه الرسول. و لعله إذ دون صار مرجع الصحابة بما فيهم عمر. و هذا الاتجاه العلمي للتدوين، يؤازره اتجاه ديني، و فقهي، و سياسي، و اقتصادي، لتوزيع الحقوق. - قال عمر للناس يوما: ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال (مال الصدقة)؟ قالوا: يا أميرالمؤمنين قد شغلناك عن أهلك و ضيعتك فهو لك. فالتفت إلي علي و

قال: ما تقول؟ قال: قد أشاروا عليك. قال عمر: قل. [ صفحه 30] قال علي: لم تجعل يقينك ظنا؟. أتذكر حين بعثك رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ساعيا فأتيت العباس بن المطلب، فمنعك صدقته. فقلت لي: انطلق إلي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فوجدناه خاثرا. فرجعنا ثم غدونا عليه، فوجدناه طيب النفس فأخبرناه بالذي صنع. فقال لك: أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه؟ و ذكرنا الذي كان من طيب نفسه في اليوم التالي فقال: اما انكما أتيتماني اليوم و كان عندي من الصدقة ديناران. فكان الذي رأيتماه من خثوري له. و أتيتماني اليوم و قد وجهتهما غدا (صباح اليوم) فذاك الذي رأيتما من طيب نفسي. - و دعا عمر امرأة فأجهضت ما في بطنها بفزعها فاستشار في الدية. فقال له عثمان و عبدالرحمن: لا عليك. إنما أنت مؤدب. و قال علي: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطآ. و إن لم يجتهدا فقد غشاك. أري عليك الدية. فقال عمر: عزمت عليك ألا تبرح حتي تفرضها علي بني عدي... و هذه الفتوي تعتبر تقدما تحاول أن تبلغه الحضارة المعاصرة، و لا تكاد. - و رأي عمر ذات يوم رجلا مع امرأة علي معصية، فاستشار في أن يقضي بعلمه أم لابد من شهادة غيره؟ قال علي «يأتي بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين». - و لما فتح المسلمون الأمصار طلب الفاتحون لأنفسهم أربعة أخماس الأراضي المفتوحة أخذا بظاهر الآية. فاستشار عمر الصحابة. فاختلفوا. لكن عليا اشار علي عمر بإبقاء الأرض في أيدي أصحابها و تكليفهم الخراج تسد من حصيلته حاجات الدفاع عن الأمة

و الإنفاق علي المحتاجين. و في بقاء الأرض في أيدي أصحابها بقاء لهم أو لمن يجيئون بعدهم، و أثر هذه الفتوي في نشر الإسلام يذكر و يشكر. - و علي صاحب الرأي الشهير بتضمين الصناع ما يتلفونه إلا أن يثبتوا أنه من عمل [ صفحه 31] غيرهم بعد إذ كانوا لا يضمنون لأن يدهم يد الأمين. لكن الزمان تغير فاقتضي تغير الناس التضمين. و في ذلك قول علي: لا يصلح الناس إلا ذاك. و هذا مضرب المثل علي العمل بقصد الشارع من حفظ مصالح المسلمين و توخي المصلحة الإسلامية حيث تكون. - و رفعت إلي عمر قضية رجل قتلته امرأة و خليلها. فتردد هل يقتل الكثيرين بالواحد؟ قال علي أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور هذا عضوا و هذا عضوا، أكنت قاطعهم؟ قال: نعم. قال علي: فكذلك. فكتب عمر إلي عامله أن: اقتلهما فوالله لو اشترك أهل صنعاء كلهم لقتلتهم. - وجي ء عمر يوما بأمراة زنت و أقرت فأمر برجمها. لكن عليا قال: لعل بها عذرا. ثم سألها: ما حملك علي ما فعلت؟ قالت: كان لي خليط و في إبله ماء و لبن. و لم يك في إبلي ماء و لا لبن. و ظمئت و استسقيته فأبي ان يسقيني حتي أعطيه نفسي. فأبيت عليه ثلاثا. فلما ظمئت و ظننت نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني. قال علي: «الله أكبر. فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه. إن الله غفور رحيم ». - لقد أمر عمر ألا يفتي أحد بالمسجد و علي حاضر. فجعل القضاء وقفا عليه في ساحة القضاء. - و كان يقول: اللهم لا تنزل بي شديدة إلا و

أبوالحسن إلي جنبي [3] . [ صفحه 32] بل يحيل سائليه علي علي (عليه السلام). و يجيب أذينة العبدي إذ يسأله: من اين أعتمر؟ إيت علي بن أبي طالب فاسأله. بل يقول: لولا علي لهلك عمر. - و لعلي عهده المشهور إلي الأشتر النخعي [4] إذ ولاه مصر. فهو دستور سياسي و ديني و عالمي تتضاءل دونه كل العهود، بما فيه من شمول و تفصيل لقواعد الحكم الصالح. و إليه يرجع كل من أراد نجاحا للحكم بصلاح الدنيا و الدين. و المصريون - مسلمين و مسيحيين - يحفظون قوله فيه لواليه «و اشعر قلبك الرحمة بهم و المحبة لهم. و اللطف بهم. و لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم. فإنهم: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق». - و علي هو الذي يضبط فحوي الشرع و يرفعه إلي مقامه الحق في تعريفه للفقيه فيقول للمسلمين «الا أنبئكم بالفقيه، حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله. و لم يرخص لهم في معاصي الله. و لم يؤمنهم من مكر الله». كان منذ شبابه الذي أنضجته أحداث النزال و الطعان في الميدان - أعبد الناس [ صفحه 33] و أكثرهم في عبادته جمعا مع الله. لا يقطع صلاته و السهام تقع بين يديه يمينا و شمالا. يربط علي بطنه من الجوع في حين يتصدق بأربعة آلاف درهم، و عليه إزار غليظ اشتراه بخمسة دراهم. أما قوته فمن دقيق الشعير، يأخذ قبضة فيضعها في الماء فيصب عليها قدحا فيشربه... و في يده كل مال المسلمين! و لما أصهر عمر إليه في «أم كلثوم» كان يتوسل إلي الآخرة بلحمة النسب. فلقد كان يقول: «لقد أعطي علي بن

ابي طالب ثلاث خصال كل خصلة منها أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة بنت رسول الله، (صلي الله عليه و آله و سلم). و سكناه المسجد مع رسول الله يحل فيه ما يحل له». و علي «باب مدينة العلم». يقول الرسول عليه الصلاة و السلام و «أنا مدينة العلم و علي بابها فمن أراد العلم فليأت بابه». و هو «إمام البلاغة». يجي ء معاوية رجل من الكذبة فيقول له: جئتك من عند أعيا الناس - يقصد عليا - فيجيب معاوية، و هو أعدي الناس لعلي، «ويحك فوالله ما سن الفصاحة للناس غيره». كيف لا؟ و بلاغته من بلاغة النبي... مذ كان فكره من فكره، و كان قد رباه فأحسن تأديبه، حتي ليعيا بلغاء العرب عن فهم المعني النبوي و يراه علي بادي الرأي. شكا العباس بن مرداس للنبي قسمه من الفي ء بقوله: أتجعل نهبي و نهب العبيد كنهب عيينة و الأقرع (و العبيد فرس الشاعر. و عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس من المؤلفة قلوبهم). قال عليه الصلاة و السلام: «يا علي اقطع لسانه». فأخذه علي و مضي. قال العباس: أقاطع أنت لساني يا أباالحسن؟ قال علي: إني لممض فيك ما أمر... [ صفحه 34] ثم مضي به إلي إبل الصدقة و قال له: خذ ما أحببت. و من «نهج البلاغة» يسقي بلغاء العربية و حكماء الإسلام. و من تعليمه وضع النحو العربي. [5] و وضع النحو بتعليم علي يذكر بالمكانة الخاصة لعلي في علوم الإسلام. فالنحو العربي هو الذي حفظ العربية لغة القرآن. و هو امر أصولي للغه، كأصول الفقه. و سنري موقفه المبدع فيها. و كذلك كانت مواقف علي بعد ظهور الإسلام، و في

خلافة سابقيه، تتصدي للأساسيات في الإسلام. لقد كان أطول الراشدين حياة في الإسلام مما يظهر أثره عميقا، عمق الحوادث و العلوم و أثرها في الإسلام، و طويلا لطول المدة التي حييها في المراكز الأولي منذ [ صفحه 35] ظهور الإسلام. و ربما اجمل القول في مكان علي بين المسلمين قول ابن عباس: «لعلي أربع خصال ليست لأحد غيره: هو أول عربي أو أعجمي صلي مع رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و هو الذي كان لواؤه معه يوم الزحف. و هو الذي صبر معه يوم فر غيره. و هو الذي غسله فأدخله قبره». أما عن العلم فيقول ابن عباس «إذا ثبت لنا الشي ء عن علي لم نعدل إلي غيره» و اما عن العدل فيقول ابن مسعود معلم الكوفة و سادس المسلمين «كنا نتحدث أن أقضي أهل المدينة علي». من أجل هذا و كثير غيره، صح عند الشيعة أن النبي أفضي إليه بظاهر الشريعة و خافيها. و أنه أفضي بها إلي من خلفه. و علي في كثير من الأمور هو الأوحد: فالنبي هو الذي رباه و آخاه و أعده للعظائم فصنعها. و عهد إليه في تبليغ آي القرآن... و هي جميعا «خصوصيات» لا يرقي رقيه فيها أحد. أما ما لم يشركه فيه بشر فهو ما أجمعت عليه كتب الشيعة و شاركها فيه كثيرون من علماء أهل السنة منذ القرون الأولي - كالمسعودي و الحاكم و الكنجي - حتي القرون الحديثة - كالالوسي، و هو أن عليا ولد بالكعبة. لقد كان الحسن و الحسين يسميان الرسول أباهما. كما كان الرسول يسميهما ابنيه طول حياته. و لم يناديا عليا بأنه أبوهما إلا بعد أن انتقل رسول الله (صلي

الله عليه و آله و سلم) إلي الرفيق الأعلي.

الشيعة

لعلي - علي ما رأينا - من فضل الله ما سلمه الجميع له و تؤثره من جرائه الشيعة، منذ القرن الأول، أي جيل الصحابة، ثم تلاحق عليه الجيلان التاليان. و هي الأجيال الثلاثة المفضلة بقوله (صلي الله عليه و آله و سلم) «خير القرون قرني - جيلي - ثم الذين يلونهم ثم الذين [ صفحه 36] يلونهم»، و توالت علي تكريمه به جماعة المسلمين إلا من ظلم. و هو موقعه الخاص من النبي و من علوم الإسلام: إذ تتفرع عنه فروع النسب من أهل البيت. و تنبع منه بحار شتي للمعرفة تسقي منها المذاهب كافة، و فيها المتصوفة و المعتزلة، و تفيد منها العلوم كافة، و منها العبادات و المعاملات و الحرب و السلم و السياسة و الاقتصاد و الإدارة. فتطبع بطابعه العلوم الإسلامية عند الشيعة، و تظهر آثاره في علوم أهل السنة. «و الشيعة» كلمة قرآنية: «و إن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم». و التشيع لعلي مكانة للفوز تقررت بالسنة روي السيوطي عن جابر بن عبدالله قال: كنا عند النبي فأقبل علي فقال النبي «و الذي نفسي بيده إن هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة». و عن ابن عباس قال: لما نزلت «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات» قال رسول الله لعلي: «هو أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين». و عن أم سلمة (رض) أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال لعلي عليه السلام: «أنت و اصحابك في الجنة». و في نهاية ابن الأثير ما نصه في مادة (لواقح): و في حديث علي قال له النبي «ستقدم علي الله أنت

و شيعتك راضين مرضيين و يقدم عليك عدوك غضابا مقمحين». و الزمخشري يروي في ربيع الأبرار حديث النبي عن (شيعة ولدك) و هو يتحدث إلي علي. و في مسند ابن حنبل و خصائص النسائي كثير في الدلالة علي شيعة علي. و يخصص المسلمون «الشيعة» بأنهم هم التابعون و المقتدون و المتميزون باتباعهم و اقتدائهم الكامل بالامام علي و الأئمة من بنيه. و ربما كان تعريف ابن حزم للشيعة جامعا مانعا، فهو يقول «من وافق الشيعة في أن عليا (أفضل) الخلق بعد رسول الله و (أحقهم) بالإمامة و ولده من بعده، فهو شيعي، و إن خالفهم فيما عدا ذلك فيما اختلف فيه المسلمون. فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيا». ظهر تفضيل الشيعة لعلي علي جميع الصحابة بمجرد وفاة النبي عليه الصلاة و السلام، إذ دعت إلي ذلك دواع سياسية. فقد اجتمع المهاجرون و الأنصار - و علي [ صفحه 37] مشغول بتجهيز رسول الله لقبره - فبايعوا أبابكر باشارة من عمر. و ثقل علي بطل الإسلام علي أن يمضي الصحابة الأمور دونه، و ثقل علي الزهراء [6] و علي «شيعة علي» من صحابة الرسول. كما رأي البعض أحقية علي بالخلافة [7] . و لكن عليا لم يلبث أن كمل اجماع المسلمين بالبيعة، و جمل خلافة الأول بالمشاركة و المشورة، و تحمل في خلافة الثاني أعباء في أخطر شؤون الدولة و الدين و الناس و الخلافة. و لقد كان كله شجاعة فكر، و براعة فقه، يوم استشاره عمر في غزو الفرس بنفسه و كرر «أخو النبي» نصحه في بلاغة معلمة و أسانيد تتري. قال لعمر بين ما قال: «إن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و

لا قلة. و هو دين الله الذي أظهره... و مكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمه. فإذا انقطع النظام تفرق الخرز و ذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا. و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع. فكن قطبا و استدر الرحي بالعرب. و أصلهم دونك نار الحرب. إنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب [ صفحه 38] من أطرافها و أقطارها حتي يكون ما تدع من الفورات أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإن قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و مطمعهم فيك...». فلنلاحظ هذه الخطة المتعددة الغايات بالحركة الواحدة: أن يبقي قطبا للرحي، و ان يستديرها بالعرب، و أن يجعلهم يحاربون العدو بدلا من الخليفة. و لنلاحظ ذلك الاحتياط في الحرب حتي لا يجد العدو الخليفة غرضا قريبا في متناوله يستميت في إصابته. و لنلاحظ تشبيه الخليفة بنظام العقد الذي يمسكه أن ينتثر. و لنلاحظ الوجازة، و النصاعة، و البلاغة «العلوية»، و مستواها في لسان العرب. و لا ينال من هذه العبقرية في وضع الخطط، ما سيصيبه و المسلمين معه، يوم يستحبون الدعة، بعد ربع قرن عندما آلت إليه المقاليد، و جاء إلي الوجود جيل جديد، فعلت الفتن فيه أفاعيلها. فأتاحت لعلي بدلا من إنفاذ خططه، أن يلقي خطبه الخالدة التي تعتبر مصادر للبلاغة العربية و الحكمة السياسية و الفلسفية علي مر الزمان. فتخص الامام بمقام الصدارة بين خطباء التاريخ لا يرقي إليه أحد. عهد ابوبكر بالخلافة لعمر. و دعا عمر يوم دون الديوان الأخ الأكبر لعلي، عقيل بن أبي طالب، و مخرمة بن نوفل و

جبيرين مطعم، و قال لهم: «أكتبوا الناس علي قدر منازلهم» فكتبوهم مبتدئين ببني هاشم ثم ببني تيم - قبيلة أبي بكر - ثم بني عدي - قبيلة عمر - فقال «وددت أنه هكذا. و لكن ابدأوا بقرابة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) الأقرب فالأقرب حتي تضعوا عمر حيث وضعه الله.» و يوم فضل بعض الناس في العطاء جزاء ما قدموا للإسلام. فلما ذكر له صنيع أبي بكر يوم رفض التفضيل و قال «إنما أسلموا الله. و وجب أجرهم عليه. يوفيهم ذلك في [ صفحه 39] الآخرة. و إنما هذه الدنيا بلاغ» أجاب عمر «لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه..». و يوم فضل أهل بدر علي من عداهم. ثم جعل الباقين درجات. و مع ذلك قدم الأدنين من رسول الله دون نظر إلي جهاد أو سابقة إسلام. ففرض للعباس - عم النبي - اثني عشر ألف درهم. و لأخته صفية عمة النبي و علي - ستة آلاف... و لكل واحدة من زوجات النبي عشرة آلاف. و ميز عائشة فجعل لها اثني عشر ألفا. و يوم فضل الحسن و الحسين إذ فرض لكل واحد شهد بدرا خمسة آلاف، و لأبنائهم ألفين ألفين، الا الحسن و الحسين ابني علي من فاطمة الزهراء ألحقهما بفريضة أبيهما لقرابتهما من رسول الله. ففرض لكل منهما خمسة آلاف... حتي أسامة بن زيد بن حارثة - مولي الرسول - فرض له اربعة آلاف. و أجاب ابنه عبدالله إذ راجعه قائلا «فرضت لي ثلاثة و لأسامة اربعة. و قد شهدت ما لم يشهد أسامة» فقال لابنه «زدته لأنه كان احب إلي رسول الله منك. و لأن اباه كان أحب إلي

رسول الله من أبيك». و عبدالله أخ شقيق لحفصة أم المؤمنين. و لما فرض لعمر بن أم سلمة - أم المؤمنين - أربعة آلاف، و كان من شيعة علي، استعتب البعض الخليفة لحداثته فأجاب «فليأتني الذي استعتب بأم مثل أم سلمة أعتبه». و أم المؤمنين أم سلمة أعلي الأصوات في الدفاع عن علي. و لقد كان عمر نادما يوم عدل إلي رأي أبي بكر و قال «لئن بقيت إلي العام المقبل لألحقن آخر الناس بأولهم و لأجعلنهم رجلا واجدا». و أوصي عمر أن تكون الخلافة لواحد من الستة الذين رشحهم للخلافة. و اجتمع أصحاب الشوري و أدار المداولات عبدالرحمن بن عوف، مذ أعلن أنه لن يكون له في الخلافة أرب. و استجوب الناس حتي استيقن من تحقيقاته ان لكل من علي و عثمان مؤيدين في جماعة المسلمين - فرقي المنبر و جلس مجلس النبي و أخذ بيد علي و قال: هل أنت مبايعي علي كتاب الله و سنة رسوله و فعل أبي بكر و عمر؟ [ صفحه 40] قال علي: اللهم لا. و لكن علي كتاب الله و سنة نبيه و علي جهدي و طاقتي. فأرسل عبدالرحمن يده و قال: هلم إلي يا عثمان. فأخذ بيده و قال: هل أنت مبايعي علي كتاب الله و سنة رسوله و فعل أبي بكر و عمر. قال عثمان: اللهم نعم... قال عبدالرحمن: اللهم اشهد... اللهم اشهد... و بايع عبدالرحمن عثمان. و قام الناس فبايعوا... و بايع علي. و كان في المسلمين يومئذ شبه إجماع علي أن الخلافة آيلة إلي علي (عليه السلام). [ صفحه 41]

ابوالشهداء

اشاره

«هذان ابناي و ابنا بنتي» «اللهم إني أحبهما. فأحبهما. و أحب من أحبهما». (حديث شريف) هما ريحانتاي من الدنيا (حديث شريف) [

صفحه 43] مضت سنوات ست علي عثمان في الخلافة و هو يحدر إلي الثمانين أو منها، أعقبتها ست أخري. منها اربعة تتناهي إلي سمعه فيها و شوشة الشكوي من كل صوب، و منها اثنتان فيهما مراجعة الذين يتحملون المسؤولية معه: غاضبه عبدالرحمن بن عوف الذي اختاره للمسلمين. و غضب هو علي عبدالله بن مسعود و علي أبي ذر - أصدق الناس لهجة - و علي عمار بن ياسر، الذي واعده الرسول و أباه و أمه علي الجنة. و هذان الأخيران، منذ انفجر فجر الإسلام، شيعة لعلي. و نفي عثمان أباذر من المدينة إلي الربذة، [8] لاحتجاجه علي ما صار إليه أمر معاوية و عثمان. في هذه الفترة الأخيرة اجتمع الناس فتذاكروا الأحداث، و كلفوا عليا أن يكلم عثمان كما روي الطبري في أحداث سنة 34. و نصح علي عثمان أغلي النصيحة، و أجابه عثمان بمبرارته في تعيين الولاة من أهله، و مما قال: «إن معاوية عينه عمر». قال علي: «لكنه كان أخوف له من خادمه يرفأ». و استمر الناس في ضيقهم بالأمور، حتي إذا كان الموسم حج الولاة فجمعهم عثمان للمشورة فكانوا - معاوية بن أبي سفيان (الشام) و سعيد بن العاص (الكوفة) و كلاهما ابن عم لعثمان. [9] و عبدالله بن سعد ابن أبي سرح (مصر) و هو أخو عثمان من الرضاع. [ صفحه 44] و عبدالله بن عامر (البصرة) و هو ابن خال عثمان. [10] فلما انصرفوا إلي أقاليمهم رد أهل الكوفة سعيد بن العاص، و طلبوا أن يتولي عليهم أبوموسي الأشعري، فولاه عثمان. و أرسل المصريون في سنة 35 وفدا للعمرة يناظرون عثمان في سياسة ولاته. و كان علي رسول السلام بين الخليفة و بين الناس. و

انضم بعض أهل المدينة إلي الناقدين، و عنفوا علي عثمان بالمسجد. فقنع بالبقاء في داره، و أحاط القوم بالدار. و أقبل بعض بني أمية يحرسونها، لكن الحراسة الحق كانت حراسة أبناء الصحابة: الحسن بن علي، و الحسين بن علي. و عبدالله بن عمر و محمد ابن طلحة و علي إمرتهم عبدالله بن الزبير إذ عينه الخليفة. و أمر الرجال ألا يحاربوا أحدا. و لم يخرج الخليفة للحج و أمر عليه عبدالله بن العباس. و لم يقدم للحج أحد من ولاة عثمان هذا العام، فلم يكن ذلك مفهوما لأحد، الا أن يكون تقصيرا من الولاة... و ليس في المدينة جند. فهي كما يقول الرسول (حرم آمن). و إنما الجند في الأقاليم و بخاصة في الشام حيث معاوية. و لما تلا ابن عباس خطاب الخليفة علي الحجيج لم يخفوا لنصرته... و أصبح عثمان صائما غداة ليلة. بقي يحدث الحرس ألا يقاتلوا، حتي أقبل الثوار وقتلوه. اجتمع أصحاب الرسول بعد مقتل عثمان يشتورون، و فيهم طلحة بن عبدالله و الزبير بن العوام، فأتوا عليا و قالوا: لابد للناس من إمام. فقال لهم و الضيق يغلب علي [ صفحه 45] نفسه «لا حاجة لي في إمرتكم. فمن اخترتم رضيت به» قالوا ما نختار غيرك. و ألحوا، و هو يرفض و يقول: «لأن أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا». قالوا: والله ما نحن منصرفين عنك حتي نبايعك. و لما رأي إلحاح القوم خرج إلي المسجد و بايعه الناس. فصعد المنبر و قال «أيها الناس. عن ملأ و أذن. إن هذا أمركم ليس لاحد فيه حق الا من امرتم. و قد افترقنا امس علي امر و كنت كارها لامركم، فأبيتم إلا أن أكون

عليكم. ألا و إنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح أموالكم معي. و ليس لي ان آخذ درهما دونكم.» و عين أميرالمؤمنين عماله في الأمصار، و توقف بعض الناس في بعض الأمصار، فجمع رجلي شوراه (طلحة و الزبير)، فقال: «إن الأمر الذي كنت أحذركم قد وقع، و افترق المسلمون و سأمسك الأمر ما استمسك. فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي». و كتب إلي الأمصار فأجمعت الطاعة إلا معاوية بن أبي سفيان بالشام، حبس رسول أميرالمؤمنين إليه ثلاثة أشهر، ثم بعث برده يصدره بقوله: من معاوية إلي علي. كأنه ند له! بل طالبه فيه بدم عثمان، كأنما علي هو الذي قتله! و كأنما معاوية صاحب دمه! و هو واحد من تاركيه بالمدينة، للثوار، بلا نجدة! و عبأ معاوية جيشه لقتال الامام. و فيما كان علي (عليه السلام) يتجهز لقتال معاوية أتاه الخبر أن طلحة و الزبير قد نقضا البيعة و انهما، و معهما عائشة و أهل مكة، خالفوه و خرجوا عليه، قاصدين البصرة. فنهد للحرب. و كانت وقعة الجمل حيث انتصر، و ذكر يومذاك الزبير بقول النبي للزبير «لتقاتلنه و أنت ظالم له» فترك الزبير حربه. و ندم طلحة قبل أن يلقي مصرعه. ثم رجع أميرالمؤمنين يسوي حسابه مع جيش الشام بقيادة معاوية، و تلاقي الجيشان في صفين [11] و فيها استشهد عمار بن ياسر، و هو في التسعين من العمر. و فيه قول الرسول «تقتلك الفئة الباغية». و هو ادانة واضحة لمعاوية و جيشه. [ صفحه 46] أما أميرالمؤمنين يومئذ ففيه يقول ابن عباس جوابا لرجل سأله: أكان علي يباشر القتال في صفين؟ «و الله ما رأيت رجلا أطرح لنفسه في متلفة مثل علي، رضي الله تعالي عنه.

و لقد كنت أراه يخرج حاسرا عن رأسه بيده السيف إلي الرجل الدارع فيقتله». تراءت بشائر النصر للبطل الذي تعود النصر. فرفع جيش الشام المصاحف علي أسنة الرماح طالبين تحكيم كتاب الله بينهم، و عرف الامام انها خدعة واراد استمرار القتال فيما اصر قطاع كبير من جيشه علي وقف العمليات الحربية. و تمت خدعة التحكيم باختيار معاوية عمرو بن العاص حكما يمثله، و اختار الذين اوقفوا القتال أباموسي الاشعري، وراود عمرو اباموسي؛ علي أن يخلع كل منهما صاحبه و يتركا الأمر للمسلمين يختارون من يشاءون. فقبل - ثم قدم عمرو أباموسي فخلع صاحبه. فلما جاء دور عمرو ثبت صاحبه...! و انشق من جيش علي الذين فرضوا التحكيم. فحاربهم و انتصر عليهم في «النهروان» و أطلق عليهم المسلمون اسم «الخوارج». و أخذ يعبئ جنده لمنازلة جيش الشام، و بدا علي جنده آثار التعب من القتال، و علي جيش معاوية آثار شرائه للرجال. و انقسم المسلمون فهذا حزب علي، و هذا حزب معاوية! و الذين عاصروا الإسلام منذ ظهوره، كالذين درسوه و الذين صدقوا فيه، يفهمون المرارة في قول أميرالمؤمنين (انزلني الدهر حتي قيل علي و معاوية!). رضي الله عن أميرالمؤمنين و أرضاه. فما كان ذلك ليقع إلا في آخر الزمان الذي قدره الله للخلفاء الراشدين، [12] و في آخر الأيام التي قدرها الله لحياته. [ صفحه 47] لقد طعنه عبدالرحمن بن ملجم في التاسع عشر من رمضان سنة 40، باتفاق بينه و بين زميلين من «الخوارج» أن يقتلوا عليا و معاوية و عمرا. فأصيب معاوية في عجزه. و لم يصب عمرو إذ لم يخرج للصلاة و أناب نائبا عنه فقتل. أمر معاوية بالرجل فقتل. و أمر

عمرو برجله فقتل. لكن أميرالمؤمنين أمر باستبقاء قاتله قائلا - و هو الطعين المشرف - إنه إذا عاش فهو ولي دمه. و إذا مات فإنه ينهي عن المثلة؛ ليعلم الناس الدين، كمثل ما علم العالم جميعه «قوانين الحرب و السلام» في حروبه في «الجمل» سنة 36، و «صفين» سنة 37، و «النهروان» سنة 38. فتداولتها المذاهب الأربعة لتقدمها هدية من فقه الإسلام للقوانين المعاصرة. [ صفحه 48] و انتقل أميرالمؤمنين الي جوار ربه بعد يومين عن 63 عاما، و أربعة أعوام و تسعة أشهر و يوم واحد في خلافة كلها معارك. و لم يوجد بخزائنه إلا ستمائة درهم استبقاها ليشتري بها خادما. بل - و كما لخص حياته سفيان الثوري - «ما بني لبنة علي لبنة و لا قصبة علي قصبة و إن كان ليؤتي بحبوته في جراب». الحبوة الخراج. و كما يقول محمد بن كعب القرظي «سمعت علي بن أبي طالب يقول: لقد رأيتني و أنا أربط الحجر علي بطني من الجوع و إن صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار». و لما قال معاوية لضرار بن ضمرة: صف لي عليا، قال فيما قال: كان - و الله - بعيد المدي. شديد القوي. يقول فصلا. و يحكم عدلا. يتفجر العلم من جوانبه. و تنطق الحكمة من لسانه. يستوحش من الدنيا و زهرتها. و يستأنس بالليل و وحدته. كان - و الله - غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، و من الطعام ما خشن. و كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، و يبتدئنا إذا أتيناه... و نحن - و الله - مع تقريبه لنا و دنوه منا لا نكلمه هيبة له. لا يطمع القوي

في باطله و لا ييأس الضعيف من عدله... يبكي بكاء الحزين و يقول: يا دنيا إلي تعرضت أم إلي تشوفت. فهيهات، هيهات. غري غيري. بايع المسلمون الحسن بن علي أميرا للمؤمنين، فخرج بجيش قوامه أربعون ألفا للقاء جيش معاوية. و تخاذل جنده كهيئة تخاذل الجند بين يدي أبيه. و تبودلت بينهما الرسائل و كانت النتيجة صلحا بعد خلافة دامت ستة أشهر و خمسة أيام (لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين). فذلك قول جده عليه الصلاة و السلام. و دخل المتصالحان الكوفة. فسمي البعض عامهما هذا عام الجماعة. و أسماه الجاحظ (عام فرقة و قهر و جبرية و غلبة). حدث الشعبي قال: شهدت خطبة الحسن (رضي الله عنه) حين صالح معاوية فحمد الله و أثني عليه ثم قال «أما بعد فإن أكيس الكيس التقي. و إن هذا الأمر الذي اختلفت أنا [ صفحه 49] و معاوية فيه، إن كان له فهو أحق به مني، و إن كان لي فقد تركته إرادة لإصلاح الأمة و حقن دماء المسلمين. و إن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلي حين». و عاد الحسن إلي المدينة. و عوتب علي صلحه فقال «اخترت ثلاثا علي ثلاث. الجماعة علي الفرقة. و حقن الدماء علي سفكها. و العار علي النار». و ليس بغير هذا يتكلم الحسن. فلقد كان رجل عبادة و سلام للناس. خرج من ماله مرتين. و قاسم الله ماله ثلاث مرات. و حج عشرين حجة ماشيا من المدينة إلي مكة. و في ربيع الأول سنة 49 ه. شعر بالسم يسري في جسده لتبدأ به سلسلة أئمة أهل البيت الذين يموتون مسمومين علي أيدي بني أمية و بني العباس. فأوصي للحسين.

و قال: «إذا مت فادفني مع جدي ما وجدت لذلك سبيلا». لكن مروان بن الحكم والي معاوية علي المدينة منع من تنفيذ الوصية، فدفن الحسن بالبقيع. و سيدفن معه في قبره أئمة أهل البيت الرابع و الخامس و السادس. فأكرم بها بقعة فيها أميرالمؤمنين الحسن، و علي زين العابدين - ابن الحسين - و ابنه محمد الباقر، و ابن الباقر: «جعفر الصادق». لما توفي الحسن كبر أهل الشام، فقالت فاختة بنت قريظة لمعاوية: أعلي موت ابن فاطمة تكبر؟ قال: ما كبرت شماتة بموته و لكن استراح قلبي. و قاله له ابن عباس: و الله يا معاوية لا تسد حفرته حفرتك و لا يزيد عمره في عمرك. و طلب معاوية البيعة لنفسه من محمد بن مسلمة فقال له «لعمري يا معاوية ما طلبت إلا الدنيا و لا اتبعت الا الهوي. و لئن كنت نصرت عثمان ميتا لقد خذلته حيا. و نحن و من قبلنا من المهاجرين و الأنصار أولي بالصواب». و لما دخل سعد بن أبي وقاص علي معاوية قال: السلام عليك ايها الملك. قال معاوية: ما كان عليك يا أباإسحق ان قلت أميرالمؤمنين؟ كتب معاوية إلي عماله بنسخة واحدة «انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا و أهل بيته فامحوء من الديوان و أسقطوا عطاءه» و أمر من يأتمرون بأمره ألا يرووا [ صفحه 50] أحاديث فضائل علي وشيعته، ثم تمادي، فكلف ولاته أن يلعنوا عليا و من أحبه علي المنابر. فكتبت إليه أم المؤمنين أم سلمة تقول «إنكم تلعنون الله و رسوله علي منابركم لأنكم تلعنون عليا و من أحبه و أشهد أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أحبه». و لما دانت الدنيا لمعاوية قيل له: قد بلغت ما

بلغت. فلو كففت عن الرجل؟ فقال «لا و الله حتي يربو عليها الصغير و يهرم الكبير». و لو عاش بضع سنين بعد عام موته لشهد انهيار دولته و انتهاء أسرته - أما الذين جاءوا بعده فسيشهدون صعود الشمس في السماء معلنة حق علي، مؤذنة بظهور أهل بيت النبي - صلوات الله عليهم اجمعين. جعل معاوية الخلافة ميراثا لابنه يزيد، بالسيف علي رؤوس أبناء الصحابة جهرة، و بالرعب في قلوب المستضعفين، و بالمال في جيوب الطامعين! أما الحسين بن علي فلم يستدرج و لم يستضعف و أبي أن يبايع ليزيد. و أما عبدالرحمن بن ابي بكر فقال لمعاوية كلمته الخالدة في خلافته و خلافة ابنه و من جاءوا بعده: إنهم جعلوها (هر قلية كلمات مات هرقل قام هرقل). و عبدالرحمن بن أبي بكر هو جد «جعفر الصادق» من ناحية أمه و أمها. كان رأي محمد بن مسلمة و سعد بن أبي وقاص أن معاوية، صاحب ملك... ولكن ملك معاوية كان بصلح مشروط. فلما خرج علي الشروط، أمسي حقا لكل مجتهد أن يقول فيه باجتهاده، في المرة الأولي و المرة الآخرة. و لقد قال أميرالمؤمنين علي قوله فيه. و كشف الله لحكمة الإمام وجه الحق فيما صار إليه أمر معاوية و أمور المسلمين. فحسبنا و حسبه قول علي فيه - و قد اسلفناه - بل قول النبي لعمار عن جيش معاوية «تقتلك الفئة الباغية». أما عمرو فلأئمة السنة فيه ما يكفيه، و حسبه قول الشافعي فيه، حول أساطين جامعه، حيث راح الشافعي يروي بعد قرن و نصف قرن في (جامع عمرو) بفسطاط مصر، دخول ابن عباس علي عمرو، و هو ابن بضع و ثمانين، و قول عمرو: أصبحت و قد ضيعت من ديني

كثيرا و أصلحت من دنياي قليلا، فلو كان الذي أصلحت هو الذي [ صفحه 51] أفسدت و الذي أفسدت هو الذي أصلحت لقد فزت... فعظني بعظة انتفع بها يا ابن عباس. قال ابن عباس: هيهات. قال عمرو: ابن بضع و ثمانين و تقنطني من رحمة الله! ثم رفع يديه و قال: اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك. فخذ مني حتي ترضي. قال ابن عباس: هيهات يا أبا عبدالله. تأخذ جديدا و تعطي خلقا. قال: من لي منك يا ابن عباس. ما أرسل كلمة إلا أرسلت نقيضها! و المسلمون يتناقلون قول الشافعي في جامع عمرو عن عمرو: قدم ابن عمامة علي عمرو فألفاه صائما و قد أحضر اخوانه طعاما. و صلي صلاة فأتقنها. ثم اتي بمال فأمر بتفريقه. قال ابن عمامة: يا أبا عبدالله و أتاك مال أنت به أحق من غيرك ففرقته. بم ذاك يا أبا عبدالله؟ قال: ويحك يا ابن عمامة فلو كانت الدنيا مع الدين أخذناها و إياه. ولو كانت تنحاز عن الباطل أخذناها و تركناه. فلما رأينا ذلك كذلك خلطنا عملا صالحا و آخر سيئا عسي أن يرحمنا الله. و سمع العالم الشافعي في جامع عمرو يهتز تحتانا إلي أبناء علي في الحجاز فينشد: يا راكبا قف بالمحصب من مني واهتف بقاعد خيفها و الناهض إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي

ريحانة النبي في كربلاء

انتهي عصر معاوية بعد ملك طال تسعة عشر عاما و ثلاثة اشهر و خمسة أيام [13] ليبدأ [ صفحه 52] عصر يزيد (64 - 61) فكان أفسد حكم. وقع فيه أفظع ظلم، و أعمق جرح في قلوب أهل الإسلام. أنهاه الله بإنهاء عمره و انقطاع عقبه و عقب أبيه من سجل الدولة التي سعيا

لها كل ذلك المسعي! و سيخلفه ابنه معاوية بن يزيد. فيعلن أنه و أهله لا يستحقون الخلافة. و يعتزل بعد نحو أشهر ثلاثة. فكان اعتزاله من تلقاء نفسه و عباراته و هو يعتزل، شهادتين بالفعل و بالقول، من نفس بني أمية، بأنهم جائرون. أنهي يزيد سنوات حكمه بتجريد جيش علي المدينة يسفك دماء اهلها و ينتهك حرمها، في وقعة الحرة سنة 63. ليقتل فيها ثمانين من صحابة الرسول. فلم يبق بعدهم علي ظهر الأرض بدري واحد! و قتل من قريش و الأنصار ثمانمائة! و من الموالي و التابعين و سائر الناس عشرة آلاف، ثم لفظ آخر أنفاسه و جيشه يحاصر الكعبة بعد أن أحرقها! و أي نهاية لبشر افظع من هذه النهاية! بل أي نهاية لدولة ابلغ في الدلالة علي غضب السماء! فما كان حرق الكعبة و لا قتل الصحابة و ذبح الآلاف إلا تتابعا للأحداث التي بدأ بها السنوات الثلاث، و ختاما طبيعيا للبداية الفظيعة لحكمه، و جزاء له و لدولته. ينزله بها و بنفسه. لقد استفتح حكمه بمذبحة كربلاء في يوم عاشورا! في العاشر من المحرم سنة 61. فوقع فيها ما لا عين رأت و لا اذن سمعت، مثله أو قريبا منه، من استشهاد أبي الشهداء: الحسين بن علي الذي دعا له النبي «اللهم إني أحبه. فأحب من يحبه»، و الذي عظمه الخلفاء الراشدون و الناس جميعا علي مدار العصور. و هو القدوة في عطائه و عبادته و تواضعه و شجاعته في كل موقف: في «الجمل» و «صفين» و «النهروان» إلي جوار أميرالمؤمنين علي و في فتح أفريقية. و خراسان. و جرجان. و القسطنطينية. متصدرا جيوش المسلمين. كان بقية الرسول (صلي الله عليه و آله

و سلم). و كانت آمال الأمة فيه آمالها في بقية الرسول. و كان أبعد الناس عن أن يستخلف علي المسلمين يزيد... يزيد الصقور، و يزيد [ صفحه 53] الخمور، كما لقبه معاصروه. فلم يكن أحد ليأمل شيئا من عهد يزيد، إلا دنيا يصيبها أو أموالا يجمعها. و لذلك رفض الحسين أن يبايعه. و دعا أهل الكوفة الحسين إليهم فبعث اليهم ابن عمه مسلم بن عقيل. و خرج في أثره. فقتل عبيدالله بن زياد والي الكوفة مسلما. و تخاذل أهل الكوفة عن نصرة الحسين. فمضي حتي بلغ (كربلاء) علي مبعدة خمسة و عشرين ميلا من الكوفة و في ركبه ثمانية عشر رجلا من أهل بيته و ستون من شيعته. هنالك لقيهم جيش عبيدالله بن زياد، علي رأسه عمر بن سعد بن ابي وقاص، فأعلن لهم الحسين أنه لا يريد الحرب، و خيرهم بين العودة الي الحجاز أو اللحاق ببعض الثغور. و رفض ابن زياد إلا أن ينزل فيه ما صنعاه بأهل المدينة، بعد عامين، من استرقاق الرجال و النساء. و حاول ابن بنت رسول الله أن يسير بأهله في أرض الله الواسعة، فسدت الجيوش أمامه كل الطرق، و انقضت عليه سهام الآلاف و سيوفهم، و هو يحارب كالأسد. و تسيل جراحات جسمه و هو في السابعة و الخمسين حتي استشهد [14] . و استشهد رجال أهل البيت جميعا و الرجال الستون الذين يتألف منهم ركبه، إلا غلاما مريضا عاجزا عن الحركة هو ابنه زين العابدين (علي بن الحسين) و ساق المجرمون الحريم. و جهز عبيدالله بن زياد، زينب بنت علي [15] و هذا الابن الوحيد الباقي من ذرية النبي، و من معهما [ صفحه 54] من الحريم مع الرأس التي طالما مسح

عليها و قبل فاها رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، إلي يزيد بن معاوية في دمشق. و أعاد يزيد الوفد إلي المدينة. إن في إنسانية البشر قابلية للفساد كهيئة قابلية المواد للهبوط إلي الأرض بقانون الجاذبية . و الإسلام لذلك يرفع الناس إلي أعلي، إذ يدفع الأنفس إلي ما هو أقوم، بالعبادة اليومية علي مدار الليل و النهار، و تطهير النفس علي مدار العمر. و من الفساد ما يستغلظ فيحوج إصلاحه إلي آية من السماء مثل كسوف الشمس و خسوف القمر. و في استشهاد أبي الشهداء آية من الآيات. كانت كربلاء قارعة رجت الأرض رجا يعيد الإسلام غضا في الأنفس، بما كان فيها من التصميم و الإجماع علي الاستشهاد في سبيله. لقد انقضي بين يوم وفاة النبي و بين كربلاء خمسون عاما، كانت كافية لتدهور إحساس بعض الرجال في أجيال، تدهورا يدفعهم لقتل ابن نبيهم! و هم يصلون عليه! و علي آله الذين يقتلونهم! و لقد كرروا يوم «الحرة» ما فعلوه منذ عامين في كربلاء، كما صنعوه مرة ثالثة إذ قصفوا الكعبة بالمنجنيق من اعلي جبل أبي قبيس. فالجريمة الأولي تدفع إلي الثانية، فالثالثة و غيرها. و الجرائم يصنعها المجرمون، و تصنع المجرمين. [ صفحه 55] باعوا أنفسهم للشيطان لقاء متاع قليل، لا يلبث أن يزول. قالوا: كان الحسين يستطيع بالمداورة أو المناورة أن يكسب الزمن، أو يستطيع بالاستسلام أن يكسب الحياة، لكنه الذي قال فيه و في أمه و أبيه و جده، إقبال: [16] . هي بنت من! هي زوج من! هي أم من! من ذا يداني في الفخار أباها! و من قبله رفض أبوه رأي المغيرة بن شعبة أن يكسب الزمن بترك معاوية

علي الشام حتي يبايع. فلم يقبل علي أن يناور علي حساب المبادئ. و ناور المغيرة فصار عاملا لمعاوية! الحق أن الحسين قدم للمسلمين الذين تعاقبوا في آثاره علي مدار الزمان حجة بالغة من أهل بيت الرسول، إذ ينفردون في التاريخ بهذه الخصيصة التي لم يماثلهم، أو يقاربهم، فيها أهل بيت آخر في تاريخ الإنسانية: الاستشهاد في سبيل هداية البشر لما هو أقوم. و هي بعض خصائص الرسل. منح الاستشهاد اسما لكربلاء و خلد الأسماء التي تساقط أصحابها كالكواكب المنتثرة من السماء فوق رمال الصحراء، لا لتنطفئ، و لكن لتقدم للبشر دروسا في الدفاع عن الحق. من فئة قليلة، و اثقة في الحق سبحانه، لا تهمها أرواحها، و إنما يهمها العمل الصالح في ذاته. و لا تنظر إلي الساعة التي هي فيها، و إنما تمد ابصارها إلي مستبقل الإنسانية كله، لترتفع بالدنيا إلي مستوي أفكار الأئمة. و لقد صدق الحسين و المسلمين في كل موقف وقفه. و كان عند وصية أبيه له و لأخيه الحسن و هو يجود بأنفاسه الأخيرة (أو صيكما بتقوي الله. و لا تبغيا الدنيا و ان بغتكما) فلم يبتغ الدنيا و اشتري بها الآخرة... فأمسي يقول «إني لا أري الموت إلا سعادة و الحياة مع الظالمين إلا برما». و شملت السماء ابن النبي في كربلاء بمزيد من التأييد بمعان جليلة من جلال الإسلام، تختار منها هنا واقعة منه و واقعة من عدوه: في الأولي أخذ إخذ أبيه فسقي [ صفحه 56] جيش العدو من العين التي نزل عندها و لم يحرم الماء قاتليه. [17] و في الأخري ترك قائدان من قادة جيش ابن زياد، في وطيس المعركة، إلي الجماعة العزلاء حول الحسين، ليستشهدوا في الدفاع عن

سيدالشهداء بين رجاله الذين ماتوا عن آخرهم، و هم يدركون أنهم يخوضون معركة خاسرة بكل المقاييس التي يتقايس بها المتحاربون، مظفرة بمقاييس المؤمنين. ولو عاش هؤلاء الشهداء العظماء، سنوات أو أشهرا أخري، لماتوا كما يموت الآخرون. لكنهم ماتوا شهداء «كربلاء»،ليحيوا في ضمير الزمان كله امثلة للحق، و عناوين علي عظمة الإسلام. كانت كربلاء رسالة من ابن النبي للمسلمين: هي الأولي من نوعها بما تحتويه من دروس لا تحصي، فحسبنا أن نشير إلي البعض منها، و في الدرس الواحد جماع دروس: و أول الدروس يتعلق بالحق ذاته، و في الحق أعظم الدروس: أن لا يقر أحد الباطل. و أن يقدم في سبيل ذلك نفسه، و أن يكون قدوة، و ألا يهاب المكثورون كثرة الظلمة. فالأمم تبقي بالمقاومة و لا تصيبها الهزيمة ان خسرت معركة، ما دامت فيها إرادة النصر، يسعي إيمانها بين يديها لتبلغ غرضها كله، إن لم يكن من فورها، فمرحلة بعد مرحلة. و أول من تعلم علي الحسين بن علي درس سنة 61 كان عبدالله بن الزبير في مقاومته بمكة بعد أعوام عشرة، و هو مكثور بجند عبدالملك بن مروان بعد إذ حرقوا الكعبة، كما حرقها جند يزيد بن معاوية. [ صفحه 57] و تعلم عمر بن عبدالعزيز و علم المسلمين - في مدة خلافته - أن الكلام أو الصياح، ليس الأداة المثلي للإصلاح، و إنما المواقف هي التي تهز وجدان الشعوب، فكان له أعظم المواقف إذ بدأ بنفسه و أهله فضحي. فكانت فيه الأسوة الحسنة. و كلل الله سعيه في أقصر مدة: ثلاثين شهرا كانت كافية لإصلاح دولة أدماها نحو قرن من الفساد، و لإسعاد أمة تنتظر القدوة من حكامها فلا تجدها. و الدرس

الثاني: يتعلق بجزاء السماء و مصير الطغاة و طرائقهم: إنهم يحسبون الدنيا تدوم و لا تدور، و لا يدركون أن (الدهر بالإنسان دوار). كما يقول الشاعر العربي. تركبهم شياطين الشهوة فيخالون أنهم يمسكون كرة الأرض في قبضتهم. يصطنعون اسباب الوثوب علي أعدائهم من حين لآخر، و يتحينون الفرص المواتية، و يختلقون الأعذار الزائفة، ليقطعوا دابر العدو. و كلما جد جيل جدت لهم الأعذار و لم تغنهم النذر... فالذي حاوله فريق معاوية مع علي في صفين و لم يظفر به - من إفناء شيعة علي أو من الإطاحة بخصومه بالسم من الوجود - قد أتاحته ليزيد فرصة في كربلاء. و للطغيان طبيعة و منهج. و من طبيعته أن يعمي و يصم. فلا ينظر و لا يسمع إلا ذاته و أصواته. و أما المنهج فهو الغيلة. مرة واحدة إن أمكنه، و إلا فوثبة. و لكن واحدة ما بعدها. و الذي اقترفه يزيد ليس مجرد سقطة و إنما كانت أم السقطات. فمن بعد كربلاء كانت وقعة الحرة، ثم كان حريق الكعبة... في سنوات ثلاث متعاقبة. فحق عليه جزاء السماء فأوردته حتفه... و السماء تملي للظالم، حتي إذا أخذته لم تفلته. و الدرس الثالث: يتعلق بأهل البيت أنفسهم. 1 - فهم العترة الطاهرة. يدخلون الجنة مع جدهم، بعملهم، فلا يعملون إلا العمل الأصلح. والذي صنعوه في كربلاء هو الذي كان يصنعه جدهم. و الذي صنعه أصحابهم معهم هو الذي كان يصنعه الصحابة - و أعظم به و بهم صنيعا و صناعا. فما هو إلا صفحات جديدة يضيفونها إلي السيرة العطرة. 2 - و هم مثل جميع المسلمين، إن لم يكن قبل جميع المسلمين، مطالبون بالجهاد [ صفحه 58] و التضحية

و ليس فضلهم ليسقط التكليف عنهم، كما يزعم بعض المتصوفة عن رجال من المتصوفين. و هذا درس للمتواكلين الذين لا يقبل الإسلام تواكلهم. 3 - و هم يبلغون الذروة فيما يعملون: إذا حاربوا ماتوا شهداء، و لم يعطوا الدنية أو يستسلموا؛ لأن للمسلمين فيهم، كما كان لهم في جدهم، الأسوة الحسنة. و في بيتهم سمقت المبادئ الكبري. فمنهم يطلب الشهادة. و من هذا كان صغارهم - كالكبار منهم - أبطالا يستشهدون و لا يتراجعون. لقد أذن الحسين لصحبه في أن يفروا تحت جنح الليل و يدعوه وحيدا يواجه مصيره، فلم يقبل ذلك واحد منهم، و لم يرجف المرجفون من خصومهم، حتي اليوم، بأن واحدا منهم قد تردد. بل قال له ابنه علي الأكبر و هو في طريقه الي الكوفة «ألسنا علي الحق» قال «بلي والذي إليه مرجع العباد». قال الفتي «فإذن لانبالي». و الدرس الرابع: يدور حول وحدة العمل الصالح. و فيه يجتمع الحق و الحقيقة في المبدأ و المنتهي و ما بينهما. فإذا كانت الحقيقة أن أبناء الرسول رجال سلم و علم و قيادة، فهم لا يدارءون وراء هذه الحقيقة، فيقعدون عن الجهاد - جنودا - للحق، أو يكتفون دونه بالعلم إذا دعا الداعي إلي الجهاد، أو يوصون بالسلم حيث الحرب واجبة لإعلاء كلمة الله، بل يستمسكون بالحق و يضعون الحقيقة كلها في خدمته. و الحق و الحقيقة و العمل الصالح كل لا ينقسم. و الأهداف العظيمة لا يبلغها الناس إلا باعمال عظيمة و وسائل سليمة. و الدرس الخامس درس في الواجب و أدائه في كل الظروف. و إن وهم المطالب به أنه غير مجد عليه أو علي غيره، فهو لم يصبح واجبا إلا

لأن التكليف به يحقق المصلحة العامة أو الخاصة، إن حالة و إن مؤجلة، منظورة أو غير منظورة. و هو قد اصبح واجبا لأنه فضيلة و إذا لم يكن مجديا في لحظة، أو لرجل، ففي القيام به خير للناس، و للدنيا، في الظرف ذاته أو في ظروف أخري. [ صفحه 59] و الظروف غير المواتية لا تجعل الفضائل غير مواتية. فالفضائل مواتية أبدا، مطلوبة دائما. و إذا كانت القدرة شرط التكليف و الرخص متروكا تقديرها للرجال، فبالمعاناة او التضحية ينسلخ الأقوياء من حالة الضعف و يخلع الناس علي العظماء وصف العظمة. و ما المعاناة و التضحية إلا محاولات للثبات في وجه الخطر، أو لاقتحامه، فهي درجات فضل و أدوات تقدم في معترك الوجود الإنساني، تضيف إلي تياره المتدفق أسباب طهر و نقاء، و أساليب بقاء، منظورة للكثيرين، و إن عمي عنها آخرون. و الدرس السادس: يتعلق بوظيفة التاريخ. فهو يصحح العوج و يصوب الانحراف، بالاستقامة علي الجادة، خضوعا للعدل. و هو قانون السماء. إن الغلام المريض الذي بقي في خيمة ابيه يوم كربلاء (زين العابدين) سيحيا ثلاثة و ثلاثين عاما حتي عام 94، لتتسلسل منه ذرية ترفع أعلام الإسلام عالية في ضمائر البشر. في حين أن الطاغية الذي يرسل كتل النار و الدمار علي البيت العتيق بالحجاز و علي أهل البيت، في صحراء العراق، سيزول ملكه - و ينقطع دابره - بعد ثلاثة سنين بتنازل ابنه عن ذلك الملك، ليزول اسم معاوية بن أبي سفيان، و يزيد بن معاوية من سجل الحوادث، و تخلد آثار أهل البيت ما تعاقب الجديدان، آية من السماء علي أن دول القتلة لن تدوم، و أن هيمنة القتلي ستظل أبدا. و أن دولة الظلم لا

تبقي بمقاييس الزمن إلا ساعة - أما دولة العدل فتبقي إلي قيام الساعة. و أنه تعالي صادق الوعد: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين». و ما أكثر ما كانت الغلبة ببقاء أسباب الانتصار، يتحقق بها النصر في مكان آخر أو زمان آخر، بقوم يحبهم الله فينصرهم مهما كان عددهم، و يحبونه فيجودون بأرواحهم. و الدرس السابع: درس في مبلغ ما تنجح الاستقامة و يفلح الإخلاص: فإذا كان أقرب الخطوط إلي الهدف هو الخط المستقيم و إن كان ترسمه أشد رهقا، فإن استشهاد أبي الشهداء كان الأساس السليم لقيام الصرح العظيم الذي جمع بين عمله و بين اسمه [ صفحه 60] فصيرهما مبدأ يحدث أثره في عمارة الدنيا و إصلاح الجماعة، في شكل قيام دولة، أو غلبة مذهب، أو وجود قدوة، أو ازدهار أمل، في بعث منتظر. بهذا دارت الأفكار الدينية و المذاهب الفقهية للشيعة، سواء الإمامي منها، أو الاسماعيلي، أو الزيدي، في آفاق الحسين العالية، و بلغت أوجها في الفقه العملي القدير علي التطور وفق حاجات البشر، في العبادات و المعاملات و الأخلاق و النهج العلمي. و استمسك المسلمون عموما و الشيعة خصوصا، بالحسين و آله و أبنائه، و اقتدوا ببطولاتهم، و مقولاتهم، فاستخرجوا منها أصولا زخارة، و بنوا عليها فروعا في الدين و الاقتصاد و السياسة و الاجتماع، لتقيم نظما سياسية و علمية و فكرية و اقتصادية متكاملة، هي كالنهر العظيم يجري إلي جوار النهر الذي يسبح في تياره أهل السنة. و النهران يتجاريان، كأنهما البحران يلتقيان، علي أصول الإسلام، و يعملان - كل علي شاكلته - في تدعيم مبادئه. و في استشهاد علي بطعنة خارجي ركبته الشياطين،

و في ظلم معاوية و قومه له، حيا و ميتا، و في استشهاد الحسين و بنيه، و بني أخيه، و من كانوا معه من الشهداء الذين ذكرناهم، و الذين سنذكر البعض منهم، علي ايدي الكثيرين ممن سنري فظائعهم بعد، نمت و ترعرعت عقيدة أهل الإسلام. 1 - أن عليا قبل التضحية دائما، في جوار النبي، و بعده، هو و بنوه. و أنهم ضربوا الأمثال من أنفسهم، لا بمجرد النصيحة أو الفصاحة أو السياسة، و لكن بالدم الذي يتكلم، فتكون له بلاغة الشهادة بين يدي الله سبحانه. فأصبحوا عنوانا علي العدل المفقود، و الأمل المنتظر، و بابا للرجاء في عدل السماء، لتتدارك المسلمين برحمتها و مغفرتها. 2 - أن المسلمين يضيفون إلي حساب الحسين، من حساب بني أمية و عمالهم و سفاحيهم، إذ أرادوا السلطة و المال و شفاء صدور قوم مبطلين. فقطعوا صلتهم بالله [ صفحه 61] يوم قطعوا رأس ابن بنت رسول الله. و في حين يتراءي قتلة أميرالمؤمنين علي «خوارج» - كما تضافرت الأمة علي وصفهم - أو «بغاة» - كما سماهم أميرالمؤمنين نفسه - يتدلي قتلة الحسين إلي أدني درك في جهنم، سفاحين أجراء. و تتعالي بطولات الحسين قدر ما تتعمق الحسرة من أجل استشهاده. فتبرز في إجماع المسلمين عليه بطلا، و في الفكر الشيعي، حيث يضاف جهاده إلي الوصية له بالإمامة. فهذا يوم للحسين وحده. ناله بحقه. و فيه سند لإمامة الأئمة من أبنائه: علي زين العابدين. فمحمد الباقر. فجعفر الصادق. فالباقين من الأئمة. ظلت شجرة العدل، و العلم، و الأمل، تسقي بدماء الشهداء كلما رأت السماء مصلحة للأمة. فلم تلبث الكوفة بعد نحو عام واحد من وقعة الحرة أو ثلاثة أعوام من يوم كربلاء

أن هز ضميرها تقصيرها. فقامت من الفور حركة التوابين سنة 64 [18] بين أهل الكوفة الندامي علي ما فرط منهم من تقصير. و لم تنته حالة الندم بمصرع سليمان بن صرد زعيم التوابين، بل توالت الثورات علي دولة بني امية، بقيام المختار الثقفي ثم عبدالله بن الزبير، و تحرك الخوارج، و قيام الفتن، و منها فتنة ابن الأشعث و قد انضم إليها العلماء. و ثورة زيد بن علي زين العابدين، و خذلان أهل الكوفة له سنة 121 ه. كما خذلوا جده سنة 61 ه. فاستشهد زيد و مثل برأسه [19] الخليفة هشام بن عبدالملك، ثم استشهد ابنه يحيي سنة 125. و كان جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين شجرة باسقة تترعرع في كل [ صفحه 62] ورقة من أوراقها خصيصة من خصائص أهل البيت في عصر جديد للعلم. تعاونت فيه أجيال ثلاثة متتابعة منه و من أبيه وجده. و لما استمسك بإمامته و انصرف الي نهجه التعليمي، أمن جانبه طلاب السلطة، و اتخذوا من زهده فيها شهادة لهم ضد من ينازعونهم. لكنه كان الغرض الذي تنجذب إليه الأنظار: فهو يمثل العقيدة الدينية التي يقاس بفضائلها عمل الحكام في الإسلام، و ما يتبعه من رضي العامة عنهم، أو سخطها عليهم. و هو - بوجه خاص - حجر الزاوية من صرح «أهل والبيت» ترنو إليه أبصار الذين يدعون الخلافة بدعوي أنهم من «أهل البيت». و هو مقيم في المدينة، العاصمة الأولي، و الدائمة، للإسلام، يتحلق فيها المتفقهة، حول علماء الإسلام في مسجد الرسول، يحملون بأيديهم مصابيح السنة، أو يعلنون شرعية الحكومة أو عدمها، و حسن السيرة أو فسادها، و إقرار أهل العلم أو إنكارهم. و هي أمور أساسية، تحرص عليها الدولة

العادلة، و تتجنب الاتهام بمخالفتها أي دولة. و إذا كانت دمشق قد أدارت ظهرها لمدينة الرسول، أو كانت بغداد قد فتحت أبوابها علي العالم، و أوصدتها دون أهل المدينة، فالمسلمون يأتون إلي مدينة الرسول كل عام، رجالا و علي كل ضامر، إذ يحجون إلي البيت العتيق بمكة، ويزورون قبر الرسول و يشهدون آثاره في المدينة. و إذا كان الخليفة المنصور يقول عن نفسه: «إنما أنا سلطان الله في الأرض» فهو يحس وطأة «سلطان الدين و العلم» في المدينة، حيث إمام المسلمين غير منازع «جعفر بن محمد» الذي يصفه الناس - و أبوجعفر المنصور في طليعتهم - «بالصادق». و من أوصافه كذلك: «الطاهر» و «الفاضل» و «الصابر» [ صفحه 63]

بين السلطان و الإمام

اشاره

«السلطان كراكب الأسد» «يهابه الناس، و هو لمركوبه أهيب» أفلاطون [ صفحه 65] آلت الخلافة إلي بني العباس سنة 132 و كان «السفاح» أول خلفائهم. ثم مات فخلفه أبوجعفر المنصور، ليبقي في الخلافة اثنين و عشرين عاما (158 - 136)، وطد فيها أركان الدولة العباسية، و أخضع الخارجين عليها في كل أرجاء «الإمبراطورية». فهي لم تعد دولة دينية كما دعوا لها منذ بثوا دعاتهم من فاتحة القرن. و لم تصر «للرضا من آل محمد» كما كانوا يدعون، بل غصبوا حق أبناء علي، كما كان بنو علي عند قيامها عاجزين عن تولي السلطة، و كان أحقهم بها - و هو جعفر بن محمد - عازفا عنها، عارفا أن مهمته الأولي هي تعليم المسلمين. و جرت الأمور مجراها الطبيعي للحاكمين الجدد، يطوون أضالعهم علي الخوف و الحقد و الحذر، و يشرعون أسلحتهم في كل مكان للدفاع عن دولتهم. و كان ذو و القربي في طليعة الأعداء. فاستعرت

الشحناء بين الأقرباء، ثم سالت الدماء. و جعفر الاصادق، بعزوفه و استعلائه، بعيد عن المذابح. لكن بعده عنها، لا يقيه بطش خليفة حذر، متنمر، تدعوه إلي المواجهة الشرسة ماتوسوس له هواجسه مخافة أهل البيت و شيعتهم. و كان توفيق السماء حليف الإمام في مواجهاته، و إن بقيت الدولة علي حذرها، تنزل بأهل البيت ألوان العذاب و الارهاب و الحبس و القتل لابادتهم. [ صفحه 67]

اهل البيت

اشاره

«إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا». (الأحزاب / 33) [ صفحه 69] اختلف أهل التأويل في صدد «أهل البيت»، و هم يفسرون قوله تعالي في سورة الأحزاب «يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين أمتعكن و أسر حكن سراحا جميلا. و إن كنتن تردن الله و رسوله و الدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما» ثم يوجه الخطاب في الآيات 31، 32، 33، 34 - و في الأخيرتين يقول - لنساء النبي - «و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي و أقمن الصلاة و آتين الزكاة و أطعن الله و رسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا. و اذكرن ما يتلي في بيوتكن من آيات الله و الحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا». و إذ كان التطهير هو الدرجة العليا للبشر، و الاختصاص به بين المسلمين يجعل لأهل البيت حقوقا و امتيازات تؤهل لإمامة الدين، و إمامة الدنيا، أي خلافة الدين و الدنيا، و كان ثمة سنن مروية في تفضيل علي و بنيه و جعلهم من الأمة مجعل الأوصياء أو الأئمة - و هذا شأن لا يسلمه بنوأمية، و لا بنوالعباس، و

لا كثير من قريش - فقد ذهب الفقهاء عموما، و المفسرون خصوصا، مذاهب شتي في تعريف أهل البيت، يمكن تحصيلها فيما يلي: 1 - قال الشيعة: إن أهل البيت هم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام. يؤيدهم في ذلك حديث أم سلمة أم المؤمنين أن النبي أجلس الأربعة حوله علي كساء له وضعه فوق رؤوسهم و أومأ بيده اليمني إلي ربه ثم قال «اللهم هؤلاء أهل البيت. فاذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا». و عن أم سلمة أن الآية نزلت و الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) في بيتها و إنما عندئذ كانت علي [ صفحه 70] باب البيت فقالت: أنا يا رسول الله من أهل البيت؟ و أنه قال «و إنك إلي خير و أنت من أزواج النبي» و عنها أنها قالت: يا رسول الله أدخلني معهم. و أنه قال «إنك من أهلي». 2 - و قال البعض: بل عني الله بذلك أزواج النبي. و الحجة في ذلك توجيه الخطاب إليهن. و نقلوا ذلك عن ابن عباس - تلميذ علي، و شيعته، و عامله - و ذهبوا إلي أن «البيت» أريد به مساكن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم). 3 - و قال فريق: بل إن (أهل النبي) هم أهل بيته. ولو كان أهل البيت هم زوجاته فقط لكان النص (ليذهب عنكن الرجس) لا (عنكم) كما هو النص في الآية. فدخل في ذلك رجال. و أهل النبي - بدلالة السنن التي أشرنا إلي بعضها - هم فاطمة و علي و الحسن و الحسين عليهم السلام؛ و يؤيد ذلك قول الآية (و يطهركم). و هذا يوافق الرأي الأول. 4

- و إذا دخل الرجال فهم - كما قال فريق آخر - بنوهاشم. و البيت يراد به بيت النسب. فيدخل في ذلك أعمام النبي، و فيهم بنوالعباس و بنو أبي طالب. 5 - و يتوسع محيي الدين بن عربي (560) - في الفتوحات المكية - فيدخل «سلمان الفارسي» في أهل البيت. إذ الرسول يقول «سلمان منا أهل البيت» و يضيف ابن عربي أن جميع ما يصدر عن أهل البيت (عليهم السلام) معفو عنهم فيه، فهم مطهرون بالنص، معصومون، و إن توجهت عليهم الأحكام الشرعية. و يذكر البعض قول الرسول «سألت ربي أن لا يدخل النار أحدا من أهل بيتي فأعطانا ذلك» و قوله: يا فاطمة أتدرين لم سميت فاطمة؟ فقال علي: لم سميت؟ قال عليه الصلاة و السلام «إن الله عزوجل قد فطمها و ذريتها من النار يوم القيامة». 6 - و فريق يري أن أبناء علي من الزهراء هم الذرية المقصودة في سورة الطور حيث قوله - جل ثناؤه «و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شي ء» و رووا عن ابن عباس أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته». و بهذا ترتفع ذرية النبي - و هي ذرية علي من الزهراء - فتلتحق بالنبي (صلي الله عليه و آله و سلم). و هذا المعني تفيده الآية 23 من سورة الرعد «جنات عدن يدخلونها و من صلح من [ صفحه 71] آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم» فأهل البيت ذرية داخلة الجنة مع جدها عليه الصلاة و السلام. 7 - و هذا فريق يوسع فيشمل ذوي القربي، و تشمل آل محمد (صلي الله

عليه و آله و سلم)، بقوله تعالي في سورة الشوري: «قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي». و قال قوم إن للنبي قرابة في كل بطن من بطون قريش، و إن كان أخص القرابة هم الذرية. و ظاهر هذه الافراق علي ان ذرية علي من فاطمة من اهل البيت، و ان الخلاف فيما عدا ذلك، و الحقيقة إن الذرية وحدها و عليا و فاطمة هم أهل البيت، بدلالات شتي من الحديث... ثابت منها أن النبي طفق ستة أشهر - بعد نزول آية التطهير - يمر وقت صلاة الفجر علي بيت فاطمة فينادي «الصلاة يا أهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا». فهذا نص، و أنص منه حديث أم سلمة، إذا أفصح عنهم، و استبعد سواهم. و في بعض الروايات أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أدخل عليا و فاطمة وابنيهما تحت الكساء ثم جعل يقول «اللهم إليك لا إلي النار و أنا و أهل بيتي. اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصيتي - و في رواية و حامتي - اللهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا». و سيظل وصف أهل البيت قضية بين بني العباس و بني علي؛ فهو من مسوغات الخلافة و استمرار الرضي عنها. سأل الرشيد يوما الإمام موسي الكاظم بن جعفر الصادق عليهماالسلام: بم قلتم نحن ذرية رسول الله و أنتم بنو علي؟ قال: قال تعالي: «و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هرون و كذلك نجزي المحسنين و زكريا و يحيي و عيسي». و ليس لعيسي أب، و إنما ألحق بذرية الأنبياء من قبل أمه. و كذلك ألحقنا بالنبي من أمنا فاطمة. و زيادة

علي ذلك قال عزوجل: «فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم [ صفحه 72] و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين» و لم يدع رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) عند مباهلة النصاري غير علي و فاطمة و الحسن و الحسين. و لم يكن لوصف أهل البيت كبير خطر، في دنيا الملوك من بني أمية، فلقد قهروا أهل البيت جهارا نهارا، برماحهم، و استقرار الأمور لهم - لكن الدولة في عهد بني العباس قامت علي شعار الدعوة «للرضا من آل محمد» دون تسمية أحد بذاته. و لما أقبلت جيوش خراسان يقودها أبومسلم الخراساني، بالدولة الجديدة، بعد ربع قرن من الإعداد السري، كان مقدمها و انتصارها استجابة لهذا الشعار. كتب أبومسلم الخراساني أيامئذ إلي الإمام جعفر الصادق «إني قد أظهرت الكلمة و دعوت الناس عن بني أمية إلي موالاة (أهل البيت) فإن رغبت فلا مزيد عليك» و أجاب جعفر الصادق معلنا فلسفته «ما أنت من رجالي. و لا الزمان زماني». [20] . و في الوقت ذاته بعث أبوسلمة الخلال - الملقب بوزير آل محمد، و الذي سيصبح وزيرا للسفاح أول خلفاء بني العباس - إلي جعفر الصادق (عليه السلام)، و عبدالله بن... «الحسن»، و عمرو الأشرف، من أبناء علي، مع رجل من موالي أبي سلمة قائلا له: إن أجاب جعفر فلا تذهب إلي غيره، و إن لم يجب فاقصد إلي عبدالله، فإن أجاب فأبطل كتاب عمرو. و ذهب الرسول إلي جعفر فقال: مالي و لأبي سلمة، و هو شيعة لغيري. و وضع الكتاب في النار حتي احترق - و أبي أن يقرأه. قال الرسول: ألا

تجيبه؟ قال: قد رأيت الجواب. [ صفحه 73] ثم مضي الرسول إلي عبدالله. فقرأ الكتاب. و قصد إلي جعفر الصادق ينبئه بورود الكتاب إليه من شيعته بخراسان. قال الصادق له: و متي كان لك شيعة بخراسان؟ أأنت وجهت أبامسلم إليهم؟ هل تعرف أحدا منهم باسمه؟ فكيف يكونون شيعتك و هم لا يعرفونك و أنت لا تعرفهم. قال عبدالله: كأن هذا الكلام منك لشي ء؟ قال الصادق: قد علم الله أني أوجب النصح علي نفسي لكل مسلم. فكيف ادخره عنك؟ فلا تمن نفسك فإن الدولة ستتم لهؤلاء. و ذات يوم دخل علي جعفر الصادق سدير الصيرفي قال: يا أبا عبدالله! ما يسعك القعود. قال لم؟ قال لكثرة أنصارك... مائة ألف. مائتي ألف. فتساءل الإمام عن عدد المخلصين منهم. و أبدي زهدا و بصرا بالعواقب. و إبراهيم الإمام يكتب إلي واحد من دعاته في خراسان (... و إن استطعت ألا تبقي في خراسان من يتكلم العربية فافعل) و هو تعطش للدم في سبيل السلطة، وسفك لدماء العرب خاصة، لا يقول به واحد من ائمة أهل البيت (عليهم السلام). و كان بنوهاشم قد اجتمعوا قبل ذلك بالأبواء - شمال المدينة - و الأوضاع تغلي في خراسان، و الجو يزخر بالنذر، فعلي الذين يرسلون الدعاة إلي خراسان، و الذين تجري الدعوة لهم، أن يتدارسوا أمورهم، ليعرفوا لمن تؤول الأمور. فمثل فرع العباس بن عبدالمطلب عم النبي إبراهيم الإمام (ابن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس)، و أخوه أبوجعفر (المنصور). و عمهما صالح بن علي. و مثل فرع بني علي بن أبي طالب، عبدالله بن الحسين (بن الحسن بن علي) و ابناه محمد و إبراهيم. و محمد بن عبدالله بن... عثمان بن عفان (لأن

أمه من بني الحسن بن علي) و هو أخو عبدالله لأمه. و أجمع الفرعان علي «محمد بن عبدالله بن الحسن» الملقب بالنفس الزكية لورعه الكامل و علمه المشهود به. بل قد تحمس له أبوجعفر، و كان يومئذ يلبس قباء [ صفحه 74] اصفر. و لما حج محمد لقي أباجعفر فبايعه مرة أخري بالمسجد الحرام ذاته، و أمسك أبوجعفر بركابه يومذاك و راح يقول للناس: هذا مهدينا أهل البيت. و إذ لم يكن لبيت الحسين ممثل في اجتماع يوم الأبواء، بعث عبدالله بن الحسن إلي كبيرهم جعفر بن محمد فحضر و اعترض علي بيعة محمد بن عبدالله. قال: لا تفعلوا. فإن هذا الأمر لم يأت بعد. فغضب عبدالله و قال: لقد علمت خلاف ما تقول. و لكن يحملك علي هذا الحسد لابني. قال جعفر: و الله ماذاك يحملني. و لكن هذا و أخوته و أبناؤهم دونكم... إنها والله ما هي إليك و لكن لهم. و إن ابنيك لمقتولان. ثم نهض و توكأ علي يد عبدالعزيز بن عمران الزهري فقال: «أرأيت صاحب القباء الأصفر» - «أباجعفر» - قال نعم: قال: فإنا والله نجده يقتله. قال عبدالعزيز: أيقتل محمدا؟ قال: نعم. قال عبدالعزيز - فيما بعد - فقلت في نفسي (حسده و رب الكعبة). ثم قال عبدالعزيز: ثم والله ما خرجت من الدنيا حتي رأيته قتلهما (محمدا و أباه). قال: فلما قال جعفر (عليه السلام) ذلك، انفض القوم فافترقوا و لم يجتمعوا بعدها . و تبعه أبوجعفر (المنصور) و عبد الصمد (من أعمام أبي جعفر) فقالا: يا أبا عبدالله أتقول هذا؟ قال: نعم. أقول و الله و أعلمه... قالوا: كان أبوجعفر يسميه الصادق لصدق نبوءته. و قالوا: دعا محمد عمرو بن عبيد

زعيم المعتزلة لمبايعته فاعتل عليه و قال: لا أبايع أحدا حتي أختبر عدله. و لقد ظل أبوجعفر المنصور يذكر هذا لعمرو. و كان جعفر الصادق (عليه السلام) إذا رأي محمد بن عبدالله بعد ذلك اغرورقت عيناه و قال: بنفسي هو... ان الناس ليقولون إنه المهدي. و إنه لمقتول. ليس في «كتاب علي» من خلفاء هذه الأمة... [ صفحه 75] بايع أبوسلمة الخلال للسفاح. و لم يبايع لأبي جعفر، الأخ الأكبر، لأن أمه كانت أم ولد بربرية تدعي سلامة. وبدأ حكم بني العباس في سنة 132. و أذيع في الملأ أن محمد بن علي - أباالسفاح - موصي له بوصية من «أبي هاشم» عبدالله بن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب، إذ أحس عبدالله أثر السم الذي سقاه دسيس من الخليفة سليمان بن عبدالملك بن مروان (98) فمال في الطريق إلي حيث مات عند محمد «بالحميمة». وثمة من يعتقد أن الإمامة قد انتقلت بعد استشهاد الحسين إلي أخيه محمد بن الحنفية (امه خولة بنت جعفر من بني حنيفة). و هذه الوصية تغني بني العباس عن الخلاف مع أبناء علي، في أن يكون العباسيون من أهل البيت أو لا يكونون. بهذا صير بنوالعباس محمد بن علي بن عبدالله بن العباس إماما. فلما مات آلت الإمامة إلي ابنه إبراهيم فنودي بأنه «ابراهيم الإمام». فلما قتل ابراهيم بايعوا للسفاح سنة 132.

بين ابناء علي و بني العباس

قضي «السفاح» علي الأحياء من بني أمية و بني مروان، فاستحق في التاريخ لقبه. و أدار وجهه للآخرين. فسأل عبدالله بن الحسن عن ابنه محمد (النفس الزكية) و أخيه إبراهيم، فلما علم باختفائهما سكت عن الطلب حينا، ثم عاجله أجله. و ولي أبوجعفر سنة 136، و ألح في طلبهما، فأعجزاه هربا. و للأقرباء، أو

الأصدقاء، أولوية في سورة السلطة إذا عريت من خشية الله. و أولي الناس بالفتكة البكر منها: الأقرباء إذا خيف أن يصيروا أعداء، و الأصدقاء الذين يحتمل أن يقدروا علي الإيذاء... فالأولون يغري السلطان بهم الحسد أو الحقد أو الخوف من جانبه، لما يعرفون من دخائل يخشاها، أو لما يتضح لهم من عورات، أو فيهم من مطامع، أو استخفاف بالسلطان، الذي رأوه و هو سوقة، أو مطالبة السلطان لهم بإعطائه حقه، أو أكثر من حقه. و الآخرون أحري بالخوف و الحذر، سدا لذريعة [ صفحه 76] الوثوب وانتهاز الفرص. أو شغلا لهم بأنفسهم، أو معالجة من السلطان لما يكابده من الشجن أو الفزع من جراء الحكم، أو من العجز أو الجشع أو ضيق الصدر أو الأفق. و كالسلطان أعوانه. و لا يتوازن في سدة السلطة الا القليلون. و قل ما يتوازنون. و للإمام الصادق (عليه السلام) في ذلك مقولة دالة «إذا كان لك صديق فولي ولاية فأصبته علي العشر مما كان لك عليه قبل ولايته فليس بصديق سوء». قيل لأبي جعفر «لقد هجمت بالعقوبة حتي كأنت لم تسمع بالعفو»! فقال: (لأن بني مروان لم تبل رممهم بعد. و نحن بين قوم قد رأونا بالأمس سوقة و نحن اليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا في نفوسهم إلا بنسيان العفو و استعمال العقوبة). و صاحب السلطة كراكب الأسد (علي ما قال افلاطون) يهابه الناس و هو لمركوبه أهيب. لهذا أخذ بنوالعباس أبناء علي، أخذ ظلوم غشوم، و بطشوا، و غدروا بمن حذروهم من أنصارهم و ذويهم، كعبد الله بن علي عم المنصور، و أبي مسلم الخراساني قائدهم، و أبي سلمة الخلال وزيرهم، بمثل ماغدروا باعدائهم بعد أن أمنوهم. و لما أعطي أبوجعفر المنصور

محمد بن عبدالله أمانا كتب إليه محمد ساخرا (أي أماناتك هو؟ أأمان ابن هبيرة، أو أمان عمك عبدالله أو أمان أبي مسلم)... فقد أعطي أبوجعفر عهودا للكل، و قتل الأول و الثالث و لم يكن قد قتل الثاني بعد. لكنه كان قد حبسه من سبع سنين ليقتله بعد أن يقتل محمد بن عبدالله بن الحسن ذاته. فصير خلافته، كالمسبعة، لا يأمن فيها الصديق، و العدو، و الصياد، و الفريسة! و زاد ضراوة أبي جعفر علي أقربائه أن لواحد منهم في عنقه بيعة، علي ملأ منهم. كانت حرية أن تمنعهم و تمنعه، لولا ما للشهوة من خدر يطيح بالتوازن، فسولت له نفسه أن يتخلص من البيعة بالخلاص ممن بايعه، و ان كان من قبل يمسك بركابه. بل طوعت له شهوته أن يتخلص ممن قد يشهد ضده حتي لايراه الناس أو يسمعوه [ صفحه 77] يحكي لهم ما قد رأي و قد سمع: قال يعقوب بن عربي: (سمعت أباجعفر يقول في ايام بني أمية ما في آل محمد أعلم بدين الله و لا أحق بولاية الأمر من محمد بن عبدالله... و بايع له... و كان يعرفني بصحبته، و الخروج معه... فلما قتل (محمد) حبسني عشرين سنة). طلب أبوجعفر من عبدالله بن الحسن ابنيه محمدا و إبراهيم؛ فأنكر علمه بمكانهما، فجرت بينهما مشادة، و أغلظ كل لصاحبه، و انصرف المنصور من المدينة، فبث الجواسيس يأتونه من كل مكان بأخبار بني الحسن. و في سنة 140 قصد أبوجعفر للحج فنزل بالمدينة، و دعا عبدالله بن الحسن و طالبه بولديه. و كانا يأتيان أباهما معتمين في هيئة الأعراب فيستأذنانه في الخروج فيقول «لا تعجلا حتي تملكا. إن منعكما أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن

تموتا كريمين». و لما لم ينل أبوجعفر منالا انصرف من المدينة و أمر بحبس عبدالله و أهل بيته، فبقوا في السجن ثلاث سنين في دار مروان - دار الإمارة في حكم بني أمية - حتي إذا كانت سنة 144 ولي أبوجعفر المنصور رباح بن عثمان عاملا علي المدينة. و حج في العام ذاته فتلقاه عامله بالربذة فرده إلي المدينة لإشخاص عبدالله بن الحسن و أهل بيته - بما فيهم محمد بن عبدالله... بن عثمان - شاهد البيعة يوم الأبواء - فكانوا خمسة عشر أخذوا في محامل إلي الربذة. و نظر الإمام الصادق (عليه السلام) إليهم و عيناه تهملان حتي جرت دموعه علي لحيته. و اقتيدوا إلي الربذة في الاغلال، و مزقت السياط جسد (محمد بن عبدالله... ابن عثمان) حتي إذا خرج أبوجعفر في محمل، ناداه عبدالله بن الحسن قائلا: يا أباجعفر! و الله ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر... فلوي أبوجعفر رأسه كبرا و لم يعرج. و حمل أهل البيت تلقاء النجف. حتي إذا دخلوا الكوفة حبسوا في قصر كان لابن هبيرة في شرقي الكوفة... و هدم عليهم البيت بعد ستين يوما، فمات الذين لم يموتوا [ صفحه 78] في أثنائها، و دفن الجميع تحت الأنقاض... و شيخهم عبدالله في الخامسة و السبعين! و اعلن محمد بن عبدالله الثورة لليلتين بقيتا من جمادي سنة 145 فاستولي علي المدينة. و خرجت المدينة بأسرها مع محمد. فكان في جيشه علماؤها الفحول. فيهم ابن هرمز شيخ مالك، و ابن عجلان، و ابن أبي سبرة، و عبدالله بن عمر العمري، و مصعب بن ثابت الزبيري. اما مالك فاكتفي في الحرب بفتياه أن بيعة المنصور كانت مكرهة، و من أجلها أصابه ما أصابه [21] من والي أبي جعفر و ابن عمه

سنة 146. و خرج مع محمد موسي و عبدالله ابناء الإمام جعفر الصادق (عليه السلام). و قصد جعفر الصادق (عليه السلام) إلي محمد في مجلس حربه قال: أتحب أن يصطلم أهل بيتك (يستأصل)؟. قال: ما أحب ذلك. قال: فإن رأيت أن تأذن لي، فإنك تعرف علتي. قال محمد: قد أذنت لك. و مضي جعفرالصادق (عليه السلام)، فالتفت محمد إلي ابني جعفر و قال لهما: الحقا بأبيكما فقد أذنت لكما. و التفت الامام فقال: ارجعا فما كنت لأبخل بنفسي و بكما. و وجه المنصور إلي المدينة جيشا بقيادة ابن عمه، و ولي عهده، عيسي بن موسي. و في غرة رمضان ثار إبراهيم أخومحمد و استولي علي أكثر من مكان في إقليم البصرة - ثم استشهد محمد في 14 من رمضان سنة 145 ه. و استشهد إبراهيم [22] عند باخمري [23] لخمس بقين من ذي القعدة، و أرسل رأسه إلي أبي جعفر المنصور. و استولي عيسي بن موسي علي «عين أبي زياد»، و هي ضيعة لجعفر الصادق عليه السلام التي يقتات منها، و يشرك في ثمرها أهل المدينة. [ صفحه 79] و سنري المنصور بعد عامين من انتصار عيسي بن موسي يخلعه من ولاية العهد، و يولي ابنه المهدي سنة 147. و كان قد حبس عمه عبدالله بن علي من سنة 138 في دار تهدم عليه فيموت سنة 147! و عبدالله عمه و قائده المنتصر علي آخر ملوك بني أمية في معركة الزاب. لكنه تمرد عليه، فأرسل إليه جيشا بقيادة أبي مسلم الخراساني، و لجأ عبدالله إلي أخويه سليمان و عيسي فأخذا له عهدا علي المنصور كتبه «ابن المقفع» و فيه (و متي غدر أميرالمؤمنين بعمه فنساؤه طوالق، و دوابه حبس، و عبيده أحرار، و المسلمون في

حل من بيعته) فأما «أبومسلم» فسيدعوه أبوجعفر إلي قصره بعد أمان يعطيه إياه ثم يخرج عليه عبيده فيقتلونه أمامه. و أما عبدالله بن المقفع فسيقتله و الي أبي جعفر سنة 142. فيشفي صدر أبي جعفر. روي الإمام الصادق ما كان بعد أن كان بعد أن هدأت الأحوال... قال: (لما قتل إبراهيم بن عبدالله بباخمري حسرنا عن المدينة - و لم يترك فينا محتلم حتي قدمنا الكوفة. فمكثنا فيها شهرا نتوقع القتل. ثم خرج إلينا الربيع الحاجب فقال: أين هؤلاء العلوية؟ أدخلوا علي أميرالمؤمنين رجلين منكم من ذوي الحجي. فدخلنا إليه أنا و الحسن بن زيد، فلما دخلنا عليه قال: أأنت الذي تعلم الغيب؟. قلت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: أنت الذي يجبي إليه هذا الخراج؟ قلت: إليك يجبي - يا أميرالمؤمنين - الخراج . قال: أتدرون لم دعوتكم؟ قلت: لا. قال: أردت أن أهدم رباعكم، و أروع قلوبكم، و أعقر نخلكم، و أترككم بالسراة... لا يقربكم أحد من أهل الحجاز و أهل العراق. فإنهم لكم مفسدة. [ صفحه 80] قلت له: يا أميرالمؤمنين إن سليمان أعطي فشكر. و ان أيوب ابتلي فصبر. و ان يوسف ظلم فغفر. و أنت من ذلك النسل. فتبسم و قال: أعد علي ما قلت. فأعدت، فقال: مثلك فليكن زعيم القوم. و قد عفوت عنكم و وهبت لكم جرم أهل البصرة. حدثني الحديث الذي حدثتني عن أبيك عن آبائه عن رسوله الله (صلي الله عليه و آله و سلم). قلت: حدثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «صلة الرحم تعمر الديار و تطيل الأعمار و ان كانوا كفارا». قال: ليس هذا. قلت: حدثني

أبي... عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «الأرحام معلقة بالعرش تنادي: اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني». قال: ليس هذا. قلت: حدثني أبي، أن الله عزوجل يقول: «أنا الرحمن خلقت الرحم و شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته و من بتها بتته». قال ليس هذا الحديث. قلت: حدثني أبي... «أن ملكا من الملوك كان بقي من عمره ثلاث سنين فوصل رحمه، فجعلها الله ثلاثين سنة». قال: هذا الحديث أردت. أي البلاد أحب إليك؟ فوالله لأصلن رحمي إليكم. قلنا المدينة. فسرحنا إلي المدينة. و كفي الله مؤنته). في هذا اللقاء دليل علي ما يخشاه من بني علي، و من الصادق (عليه السلام) بالذات. فما يخشاه من بني علي هو فتنة الناس إذ يجتمعون إليهم. أما ما ينعاه علي الصادق و هو الوحيد الباقي ممن يمكن أن يجتمع بنو علي، و الناس، حولهم - فلقد كان خليقا أن تطيب به نفسه لما فيه من مصلحة له... و هو الادعاء علي الصادق بأنه يعلم الغيب. فإنه لم يبايع لأحد يوم الأبواء. بل ذكر أنها (الخلافة) ستكون لصاحب القباء الأصفر و هو أبوجعفر. [ صفحه 81] لكن الصادق (عليه السلام) كان حاسما في رده عليه بأنه لا يعلم الغيب إلا الله. و كان مما يخشاه أن يجبي إلي الصادق خراج بعض الرعية، مما يعطي للإمام، و كان الصادق في ذلك حاسما أيضا، إذ أعلن أن الخراج لا يجبي إلا لأبي جعفر، لانه أميرالمؤمنين. قال: إليك يجبي - يا أميرالمؤمنين - الخراج. و جعل التسليم بإمارة المؤمنين يسبق كلمة الخراج، فهذه العبارة بيعة بتمامها. و الخراج حق من بويع له. و كان انتقال أبي جعفر

من استجوابهم إلي إخبارهم بأسباب دعوتهم، نقلة من الغضب إلي غيره... و من الاستجواب إلي الوعيد، و إلي الاستعلاء. لكن الصادق نقله من عالم الكبرياء المظلم، إلي آيات الله التي تطمئن لها القلوب فجعله - دون أن يشعر - مقارنا في موقفه بمواقف الأنبياء لعله يهتدي بهم، و ذكره كلام ربه جل و علا، و ذكره الشكر و الصبر و المغفرة، و ذيل ذلك كله بأنه من نسل الذين يغفرون و يشكرون و يصبرون. بهذا أمكن الرجل الذي قد قلبه من الصخر أن يبتسم. بل أقبل يسأل أن يتعلم. فحدثه الإمام الأحاديث، واحدا بعد واحد، حتي وقف منها عند حديث طول العمر. فلقد كان يرجو أن يطول عمر دولته، التي يخسر من أجلها في كل يوم آخرته، فظن أنه بهذا الحديث يجد أمانا لنفسه أو تخفيفا لما تكابده. و عندئذ ظهر ضعف نفسه، و جلال شأن المعلم الذي يتعلم عليه. و لم يكد الإمام يأخذ زمام الكلام حتي راح يعلمه درسا من الدروس في البداء؛ و هو: أن القضاء الذي يتوقف علي الشرط يتحقق عند وقوع الشرط. فهذا ملك وصل رحمه فطالت عمره من ثلاث إلي ثلاثين، - و كان أبوجعفر ملكا - و لكم طالت العمر علي ملك بنيه و حفدته. فلقد كان كل خلفاء بني العباس بعده منه، ملكوا خمسة قرون، حتي دمر الظلم دولتهم. إنما كان أبوجعفر يتداول الإمام الصادق بحذر خليق بما للصادق من كرامة عند الله و الناس. و هو صاحب أكبر مدرسة شهدتها حواضر الإسلام في ذلك الزمان: المدينة، و مكة و الكوفة و بغداد و الفسطاط. و كان في الستين من العمر، يروي عنه [ صفحه 82] الآلاف حديث

النبي وفقه الصادق و أبيه و أجداده. و الذين يحسنون الظن بالمنصور لا يتصورون حلمه يطيش فيفقد الأمة الإمام الذي لا ينازعه ملكه. و ربما جاز للذين لا يحسنون الظن، أن يخالفوه يحسب حسابا للأعداد التي لا تحصي من تابعي الإمام. و قد كان أبوجعفر يحسب حساب العلماء. و من بطش الحكام بالعلماء ما يدمر الدول. و من فداء الأتباع ما يستهان فيه بعرين الأسد. لقد اقتحم الفدائيون من أتباع سنان (شيخ الجبل) خيمة صلاح الدين و هو في عسكره ليصيبوه بخناجرهم في وجهه. ظاهر من حديث الإمام أنه حدثه في صلة ذوي الأرحام، و إن كانوا كفارا، فما أحراهم بالصلة إن كانوا غير ذلك. و يظهر مما يرويه الطبري أن أباجعفر كان يود أيامئذ لو نسي الناس ما كان من أهل البيت في حقه، و ما كان منه في حقهم. روي الطبري: لما أتي المنصور برأس إبراهيم بن عبدالله وضعه بين يديه و جلس مجلسا عاما و أذن للناس. فكان الداخل يدخل فيسلم و يتناول إبراهيم فيسي ء القول فيه، و يذكر منه القبيح التماسا لرضي أبي جعفر، و ابوجعفر ممسك متغير لونه... حتي دخل جعفر بن حنظلة البهراني فسلم ثم قال «عظم الله أجرك يا أميرالمؤمنين في ابن عمك و غفر له ما فرط فيه من حقك» فاصفر لون أبي جعفر و أقبل عليه فقال: أباخالد! مرحبا و أهلا. فعلم الناس أن ذلك قد وقع منه... فدخلوا فقالوا مثل ما قاله جعفر بن حنظلة. و ربما دل علي ذلك الميل ما يرويه عيسي به رؤبة: لما جي ء براس ابراهيم فوضع بين يدي ابي جعفر بكي حتي رايت دموعه علي خدي إبراهيم... ثم قال: أما والله إن كنت لهذا لكارها، لكنك

ابتليت بي وابتليت بك. و لقد ترك أبوجعفر الذين تواروا عنه ممن خرجوا مع محمد و إبراهيم، و منهم الحسين بن زيد. و كان الحسين قد تربي في بيت جعفر الصادق بعد قتل زيد. و كان [ صفحه 83] يسمي «ذا الدمعة الكبيرة» لكثرة بكائه علي أبيه و أخيه يحيي. و لم يستجوب المنصور ولدي جعفر الصادق عبدالله و موسي.. و قد خرجا مع محمد، و ترك علماء المدينة، و ترك عيسي بن زيد إذ تواري عنه. و لما قيل له من حرسه أو من المنافقين: ألا تطلبه؟ قال لا. و الله لا أطلب منهم رجلا بعد محمد و إبراهيم: أنا أجعل لهم ذكرا؟ و من ناحية أخري ففقه الإمام الصادق يعلم الناس طاعة الإمام العادل. و الصادق هو القائل: (لا يستغني أهل بلدة عن ثلاثة يفزع إليهم في أمر دنياهم و آخرتهم. فقيه عالم ورع، و أمير خير مطاع، و طبيب بصير ثقة، فإن عدموا ذلك كانوا همجا). و هو فقه في طاعة الخليفة العادل أو الأمير الخير. و أبوجعفر يتمني أن يظهر في الناس كذلك. و الصادق يقول - و لا نحسبه يقصد إلا أباجعفر و أبناء عمه - (ما تثبت الدنيا إلا علي بني العم و المتعاطفين بالبر المتعلقين بالأدب المجتمعين علي التناصر). فهذه يد ممدودة بالسلام من الإمام، و درس للرعية لتسلم العنان لامير خير. و في سنة 147 عزم المنصور و هو راجع من موسم الحج أن يسير الإمام الصادق من المدينة إلي العراق فاستعفاه الإمام فلم يعفه و حمله معه. و لكن الصادق كان يقبل عليه بمقدار فليست دنيا أبي جعفر لتجدر بالمقاربة. و في ذات يوم أرسل إلي الصادق: لماذا

لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس فأجابه «ما عندنا ما نخافك عليه و لا عندك من الآخرة ما نرجوك له. و لا أنت في نعمة فنهنيك عليها. و لا نعدها نقمة فنعزيك عليها. فلم نغشاك»؟ و يجيب أبوجعفر: تصحبنا لتنصحنا. و يجيب الإمام: «من أراد الدنيا فلا ينصحك و من أراد الآخرة فلا يصحبك» فالذي يريد الدنيا يسير في ركب صاحبها فلا يقول كلمة لله. و الذي يريد الآخرة يعتزل مجالس رجل يعجزه عمله و يعميه أمله عن طريق الآخرة. و صدق «جعفر الصادق». [ صفحه 84] دخل عليه سفيان الثوري يوما فقال له: اتق الله فقد ملأت الارض ظلما و جورا فطأطأ رأسه و قال: ارفع حاجتك... قال سفيان: حج عمر فقال للخازن: كم أنفقنا من بيت المال. قال: بضعة عشر درهما. و أري هنا أموالا لا تطيق الجمال حملها... و خرج سفيان. و لما راجع المنصور كاتبه ليقتل سفيان قال له «اسكت يا أنوك (أحمق). فما بقي علي الأرض من يستحي منه غير (مالك) و سفيان». [24] . [ صفحه 85] و إذا كان هذان الإمامان اللذان ليس في الأرض غيرهما، تلميذين في مجلس الإمام الصادق... يلتمسان علمه و يترسمان هديه، فما أحوج الخليفة إلي أن يقارب مجلس الصادق بأن يدعوه إلي مجلسه. الحق أن أباجعفر كان من فزعه من الآخرة و حاجته إلي رضي الرعية صادق [ صفحه 86] الرغبة في التقرب إلي العلماء، و من أجل ذلك كان يرضي منهم ما يصك مسامعه من النقد و إن كان لا يستجيب له. (!) طلب ذلك من صديقه عمرو بن عبيد، و المعافري، [25] فاعتزلاه لكثرة الظلم علي بابه كما قالا له. وهز

ضميره ابي أبي ذؤيب و توعده بجهنم. و كمثله صنع ابن طاووس فقبل استعفاء الصديقين، و أقر صدق ابن أبي ذؤيب [26] فقال له: لو لا أنني أعلم أنك صادق لقطعت عنقك، كما ارتاح لابن طاووس مع رفضه أن يطيعه مخافة أن تؤدي طاعته إلي المشاركة في معصية. و لقد رفض أبوحنيفة أن يجلس للقضاء في دولته بحجة الخوف من أن يظلم الناس إرضاء لحاشية يحب أبوجعفر أن يكرمها. و ما إكرام الحاشية إلا الحكم لمصلحتها فيما ترتكب من مظالم، لحساب صاحب السلطان أو نتيجة إغضائه. و هذا رد فقهي من إمام أهل الرأي يتضمن التنديد بأبي جعفر و صحبته. و صحبة الظالم وجه مشاركة في الحكم، و ربما في الظلم، بتوطيد الأمور للظالم أو بتمكينه أن يبلغ غرضه، أو تقديم مصلحته علي مصلحة المحكومين. و فيها شهادة له في الناس. فهي شركة خاسرة في الدنيا و الآخرة. و الإمام الصادق هو القائل «أيما مؤمن قدم مؤمنا إلي قاض أو سلطان جائر، فقضي عليه بغير حكم الله، فقد شركه في الإثم». [ صفحه 87] و ذات يوم دخل زياد الفندي علي الامام الصادق (عليه السلام) فقال له: وليت لهؤلاء؟ يقصد أصحاب السلطان - قال زياد: نعم... لي مروة و ليس وراء ظهري مال. و إنما أواسي إخواني من عمل السلطان. فقال: «يا زياد. أما إذ كنت فاعلا، فإذا دعتك نفسك إلي ظلم الناس عند القدرة علي ذلك فاذكر قدرة الله عزوجل علي عقوبتك و ذهاب ما أتيت إليهم عنهم، و بقاء ما أتيت إلي نفسك عليك». و في واحد من اللقاءات يقول الصادق (عليه السلام) مخاطبا المنصور «لقد بلغت ثلاثة و ستين، و فيها مات أبي و جدي» ليعلن له

الاستخفاف بالموت الذي يتهدد الناس به، و أن الإمامين اللذين قضيا - زين العابدين و الباقر عليهماالسلام - لم يعمرا أكثر مما عمر، و لكل أجل كتاب... فماذا يهاب؟ إنه يطلق إعلانه بلغة عالية، و في هدوء قادر علي أن يطفئ جذوة رجل خصم، و في توكل علي الله يبلغه مأمنه. فهو إذا واجهه واجهه و الله معه. أرسل إليه المنصور ذات يوم رزام بن قيس يدعوه للقائه، ففصلا عن المدينة، حتي بلغا النجف فنزل الامام عن راحلته فأسبغ الوضوء و صلي ركعتين ثم رفع يديه و هو يقول: «اللهم بك أستفتح، و بك أستنجح، و بمحمد عبدك و رسولك أتوسل. اللهم سهل حزونته و ذلل لي صعوبته و أعطني من الخير أكثر مما أرجو و اصرف عني من الشر أكثر مما أخاف». ثم ركب راحلته حتي إذا بلغا قصر المنصور، أعلم المنصور بمكانه. فلم يحجبه قليلا أو كثيرا، بل تفتحت الأبواب و رفعت الستر. فلما قرب من المنصور قام إليه فتلقاه، و أخذ بيده و ماشاه... حتي انتتهي به إلي مجلسه... ثم أقبل عليه يسأله عن حاله. و ذات يوم عزم المنصور علي حاجبه الربيع بن يونس أن يدعوه، و كانت تبرق في أساريره بوارق الخطر. فلما خرج من اللقاء بسلام، سأل الربيع الإمام الصادق عليه السلام عن الدعاء الذي دعا به ربه، فأكرمه الله في لقاء المنصور. فأخبره به. فالصادق يستحضر رضي بارئ السماء في كل آونة، و تعينه السماء. و مع ذلك السلام الذي نشده الصادق و علمه، يروي الطبري أن المنصور لما عزم [ صفحه 88] الحج - في آخر أيامه - دعا ريطة بنت أبي العباس زوج المهدي، و كان زوجها بالري، فأوصاها

بما شاء و دفع إليها مفاتيح غرفة بها خزانته، و أمرها ألا تسلمها إلي المهدي إلا عندما يجي ء نبأ موت المنصور. فلما مات ذهبت ريطة و المهدي ففتحا الغرفة فإذا بقتلي من بني علي (عليه السلام) في آذانهم رقاع... فيها أنسابهم... و هم بين شيوخ و شباب و أطفال. فلما رأي المهدي ذلك ارتاع. فحفرت لهم مقبرة دفنوا فيها ثم بني عليها دكانا. لم يكن المنصور يكتفي بأن يقول مقالة لويس الرابع عشر بعد ثمانية قرون «أنا الدولة»... ذلك المقال الذي نبذه و استهجنه الساسة و المؤرخون في الشرق و الغرب، بل كان المنصور يدعي دعوي أبعد و أشد. كان يخطب فيقول: «إنما أنا سلطان الله في الأرض» فيجمع في يده ما عجز عنه الأباطرة و البابوات جميعا! فإنما تقاسم الإمبراطور و الكنيسة الأشياء، في القرن التاسع للميلاد، فصار لقيصر ملك الأرض و للكنيسة مملكة السماء. أما أبوجعفر المنصور فادعي في الأرض سلطان السماء. و أي شي ء يستبعد علي صاحب هذه الدعوي!! و المنصور - مع ذلك - ليس إلا واحد من المستبدين الذين يزخر التاريخ بخطاياهم أو ضحاياهم. إليك مثلا واحدا من تاريخ الدولة التي تلقي إليها الديمقراطية الغربية مقاليدها: لقد أرسل (هنري الأول) ملك انجلترا فرسانه يقتلون (توماس) بيكت رئيس أساقفة لندن من أجل خلافه معه في ولاية العهد لابنه في الثلث الأخير من القرن الثاني عشر. و في الثلث الأول من القرن السادس عشر القي (هنري الثامن) ملك إنجلترا (توماس) ولزي رئيس أساقفة يورك في السجن ريثما يصدر عليه حكم الإعدام فمات قبل أن يعدم. ثم أرسل إلي المقصلة (توماس) مور كبير قضاته من أجل خلافهما له في زواجه و طلاقه. [ صفحه

89] و لقد كان فزع المنصور من أجل دولته حريا أن يخرجه عن الاتزان فيستحوذ عليه الشيطان، لولا دور الإمام الصادق (عليه السلام) في كبح جماحه في بعض الاحيان. و الذين يهابون لقاء الملوك ضعفاء عن إخفاء دخائلهم، من البغض أو الحسد أو الخوف. و الذين ليس في قلوبهم من ذلك شي ء يشجعون. أما الأمة فالله معهم. و هو حسبهم... و أين من هذا الذي معه مالك الأرض و السماء، ملوك دولة أو إقليم! من أجل ذلك يشجع الرجال الصدق إذ يستشهدون . و من أجله نظر الصادق إلي المنصور في شجاعة و صدق... فكان يلزمه القصد و النصفة. و المنصور عليم بما يجري في ملكه، و هو يبث جواسيسه في كل مكان... فلم يلبث سنين حتي أصبح يعلم بكاء بنت (مالك بن أنس) من الجوع في داخل الدار، و هي و أبوها يكتمانه إلا علي الله سبحانه! و المنصور هو القائل عن أوتاد حكمه: ما أحوجني إلي أن يكون علي بابي أربعة نفر لا يكون علي بابي أعف منهم. و هم أركان الدولة لا يصلح الملك إلا بهم. أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم. و الآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي. و الثالث صاحب خراج يستقصي و لا يظلم الرعية. ثم عض علي إصبعه السبابة ثلاث مرات يقول: آه آه. قيل ما هو يا أميرالمؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء علي الصحة. و بقي عاضا علي اصبعه و سيعض علي يده يوم القيامة. [ صفحه 91]

الرجلان

«يا بني: إن الذين حولنا لو يعلمون عن علي ما نعلم تفرقوا عنا إلي أولاده». عبدالعزيز بن مروان [ صفحه 93] الحق ان

الاختلاف كان شديدا بين الإمام الصادق (عليه السلام) و بين الخليفة أبي جعفر المنصور: في طبيعتهما و طريقتهما و غاياتهما. هذا صاحب سلطان... فيه شركاء متشاكسون، تركبه هموم الدنيا، و تلبس جلده شياطينها... يترافع لينحني الناس له، و يجمع دنياهم في قبضته. شحيح النفس منقبض اليد، «دوانيقي»، يحسب بالدرهم و الدانق [27] تبدو منه صعقات السلطان عند الفزع... و تحوله مطامعه من الدماثة الي الشراسة، فلا يطمئن له أحد... أقام دولته علي أشلاء الأعداء و فزع الأقرباء؛ و جماجم أهل البيت في خزائنه! أما الإمام فرجل سلم لكل رجل: يتواضع ليرفع الناس كلهم، و لا تستعبده الدنيا قيد أنملة... يعطي و لا يأخذ... و يحيي أنفس الناس بالعطاء السمح من العلم، و الجاه، و المال «ما قال لا قط إلا في تشهده»؛ فهكذا كان أبوه وجده. و الحق كذلك أن المنصور - بنجاحه في إقامة أكبر دولة في التاريخ الوسيط - يعتبر واحدا من ثلاثة لا يعرف لهم التاريخ الاسلامي رابعا، و لا ينزل بهم التاريخ العالمي عن أعظم المؤسسين للدول. أولهم معاوية بن أبي سفيان، وثانيهم عبدالملك بن مروان. مصايرهم متشاكلة. و وسائلهم متشابهة. و خصامهم لأهل البيت أساس دولتهم. و نجاحهم في دنيا السلطة مقطوع القرين: بدأوا علماء، و انتهوا ملوكا طغاة! و الإسلام فضل من الله، يسخر لخدمته من يشاء. [ صفحه 94] ولو مال عن الجادة رجل، فإنما يخذل نفسه و لا يصيب الإسلام بسوء. لقد أخطأ معاوية في إقامة دولته و في حربه. و كان لزاما أن يقوده خطؤه الي أن يجعل الدولة «هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل» فيكون ابنه يزيد أشأم و ألأم خلف لسلف. لكن أحدا لا يتنازع في أن دولته

- و إن لم تمثل دولة الدين - قد انتشرت في البر و البحر و نشرت الإسلام و جاهد في غزواتها الصحابة و بنوهم و العلماء و الفقهاء، بل غزا و جاهد فيها بين جيوش المسلمين أبوالشهداء (الحسين بن علي) في فتح أفريقية و غزو جرجان و طبرستان و القسطنطينية. و معاوية هو الذي مهد لدولة ابن عمه مروان بن الحكم. و عبدالملك بن مروان هو المؤسس الحقيقي للدولة المروانية التي أينعت فروعها بالأندلس و أبقت الإسلام في أوربا ثمانمائة عام، لتهيئ للحضارة الحديثة أن تنطلق من جامعات الأندلس و جوامعها. و هو عم عمر بن عبدالعزيز و صهره. و عمر بن عبدالعزيز الذي كتب لعامله علي المدينة يوم ولي الخلافة: أقسم في ولد فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار فقد طالما تخطتهم حقوقهم. و قال معلنا حق علي و باطل بني أمية و مروان «كان أبي [28] إذا خطب فنال من علي تلجلج. فقلت يا أبت إنك تمضي في خطبتك فاذا أتيت علي ذكر علي عرفت منك تقصيرا؟ قال: أو فطنت الي ذلك؟ يا بني ان الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفرقوا عنا الي أولاده...». لكن أباجعفر كان أثقل الثلاثة حملا. إذا كان معاوية و عبدالملك قد سبقاه ففصلا بين الدين و الدولة و جزءا نظرية الدولة الاسلامية، و كان هو قد سار علي الدرب الذي اختطاه، ان المعارك التي خاضها من أجل دولته كانت أوسع مدي و أشد قسوة. [ صفحه 95] ففزعه من أبي مسلم و جنده لم يكن إلا رجع الصدي لصوت يتصايح في آفاق حياته و أعماق ذاته: أنهم سرقوا الدولة من ابناء علي. و من هنا خوفه المستمر

من انتفاض أهل خراسان الذين جاءوا لمبايعة «الرضا من آل محمد». و أهل البيت أولي منه في أنظار الذين جاءوا به و بأخيه الي السلطة. و خوفه من أعضاء بيته أشد؛ فلقد كان عمه عبدالله بن علي قائد جيش الشام، لكنه خرج عليه، و أخمد فتنته أبومسلم الخراساني، و حتي إذا استسلم - بشروط - حبسه أبوجعفر ليقتله بعد زمن من قتله أبامسلم ذاته. و كان غدر بعيسي بن موسي الذي انتصر علي محمد و ابراهيم فسلبه حقه في ولاية العهد، و ولي ابنه المهدي عهده. فكان غدره كهيئة ما غدر عبدالملك بعمرو بن سعيد الأشدق في ولاية العهد، قائلا: «ما اجتمع فحلان في شول إلا أخرج أحدهما صاحبه». و ما كان نقض معاوية عهده مع الحسن بن علي (عليه السلام)، إلا درس المعلم الأول للرجلين: أن يستعملا الزمن، ينتهزا الفرص، و ان يحركا الحوادث بدهاء، و أن يقطفا الثمار؛ ثمرة فثمرة. و المنصور لا يتردد في إعلان التشابه بينهم و في تعطشه للدم... فيعلن في الناس أن «الملوك ثلاثة: معاويه و كفاه زياده. و عبدالملك و كفاه حجاجه. و أنا... و لا كفاة لي». كأنما لم يكن في ما سفكه كفاية، فكان يريد أن يسفك له دما أكثر سفاحون أصغر! الواقع ان أزمات المنصور الدوانيقي كانت آخذة بخناقه من كل صوب. فهي في نفسه، و في بيته، و في دولته، و في صلته بالأمة؛ ان كانت القوة العسكرية التي أجاءته الي الحكم، قد تخلت عنه بل حملت السلاح ضده، و كانت القوة الفكرية التي قامت عليها الدولة قد صار أصحابها فرائس له، و كانت القوة العصبية (قوة أسرته) تترنح بخروج عمه عبدالله و قتله... و بمغامراته

للاستئثار لبنيه بالخلافة دون سائر أهله. فإذا كان ثمة من أحبه، فإن حبهم كان أقبح من البغض، مذ كانوا يؤلهونه، فيكفرون أنفسهم و يفضحونه، بل كادوا يقتلونه، يوم أحاط الراوندية بقصره فلم يمكنه الله [ صفحه 96] منهم إلا بمساعدة عدو كان يطلب رأسه، هو معن بن زائدة الشيباني. و كان معن حريا أن يقتله في وطيس المعركة. حتي الذي أنجاه كان عدوا له! و في سنة 145 انتفضت خراسان فقتلت جيوشه من أهلها سبعين ألفا و أسرت بضعة عشر ألفا. و لم يكن شغله بالجيوش المحاربة في المشرق أو في جزيرة العرب همه الأول. ففي أفريقية خرج عليه محمد بن الأشعث والي أفريقية، فجرد عليه جيشا بقيادة الأغلب بن سالم، و سيقتل الأغلب بعد سنين سنة 150. و لم ينهزم الخوارج إلا بعد أن خاضوا ثلثمائة و خمسة و سبعين وقعة! و أمام جيش قوامه خمسون ألفا. كل أولئك و هو من شح نفسه، و من اصطحاب جماجم أهل البيت (عليهم السلام) في خزائنه، في أمر مريج... يحسب ان كل صيحة عليه هي العدو، و ان كل خروج عليه يدعو الجميع ليخرجوا... و هم علي خروج قادرون. مع كل ذلك نجح المنصور بالحذر و الغدر و معاجلة الخصوم. فاستبقي دولته لتكون أطول الدول الإسلامية عمرا... و أبعدها في الحضارة العالمية أثرا. لكن التاريخ - و قانون الاستقامة - و طبيعة الأشياء - و قانونها (كل فعل رد فعل، مساو له في المقدار، و مضاد له في الاتجاه) - لم يتركا أبناءه و حفدته دون عقاب. و كأنما كان طول عمر دولته تطويلا للعقاب عليهم و تكثيرا لمن ينزل بهم. كان من لوازم السلطة أو علامات عدم

الثقة بالنفس أو بالغير أن تتراءي من أبي جعفر في لقائه لأهل البيت (عليهم السلام) أو التعامل معهم نزعات المستوفز الحذر، أو مظاهر الاستعلاء عند مواجهة الأعداء، أو من يضعهم في مواضع الأعداء. لكن الإمام «الصادق» (عليه السلام) كان يمسك بالزمام فيرد الخليفة دائما الي حيث يطلب الموعظة، أو العلم. و من إمساك الزمام في أحد هذه اللقاءات إمساك الخليفة ذاته أن يميل علي أهل البيت (عليهم السلام)، فيقول له «لا تقبل في رحمك و أهل الرعاية من أهل بيتك من حرم الله [ صفحه 97] عليه الجنة و جعل مأواه النار. فإن النمام شاهد زور و شريك إبليس في الإغراء بين الناس. فقد قال الله تعالي «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين» و نحن أنصار و أعوان، و للملك دعائم و أركان، ما أمرت بالمعروف و نهيت عن المنكر، و أمضيت في الرعية أحكام القرآن، و أرغمت بطاعتك الله أنف الشيطان. و إن كان يجب عليك في سعة فهمك و كثرة علمك و معرفتك بآداب الله أن تصل من قطعك و تعطي من حرمك، و تفعو عمن ظلمك. فان الكافي ليس بالواصل. إنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها. فصل رحمك يزد الله في عمرك، و يخفف عنك الحساب يوم حشرك.» و يقول المنصور: قد صفحت عنك لقدرك، و تجاوزت عنك لصدقك، فحدثني عن نفسي بحديث أتعظ به و يكون لي زاجر صدق عن الموبقات. و بهذا السؤال انتشل المنصور نفسه من موقع قاطع الرحم، الي موضع المواسي لذوي القرابة، و مكانة طالب الموعظة، فأدلي بها اليه الامام (عليه السلام)؛ قال: «عليك بالحلم فإنه ركن العلم. و أملك

نفسك عند أسباب القدرة، فإنك إن تفعل ما قدرت عليه كنت كمن شفي غيظا وداوي حقدا، و أحب أن يذكر بالصولة. و اعلم أنك إن عاقبت مستحقا لم يكن غاية ما توصف به إلا العدل. و الحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر». تلك آداب الله، و أسباب الحكم الصالح، و ملاك السيطرة للحاكم المسلم علي قلوب الرعية. و من الواضح أن المنصور كان يتظاهر بالاستعلاء إذ يدعي الصفح، و ليس لديه تهمة. ولو كانت عنده تهمة للصادق لما طلب الموعظة اليه. و للملوك سماعات، أو أبواق دعايات منتشرة في الرعية، تلتقط موجات الرضا و الغضب، و الهدوء و القلق، و تبث نظائرها، حسب الحاجة. و النمامون كثر، كخفافيش الليل. و للمنصور جهاز لايني عن استعماله ليروع خصومه، أو ليجعلهم في قبضة يده.... [ صفحه 98] فلقد يدس من أجهزته دسيسا بعد دسيس علي بني الحسن، و الحسين، مثل أن يدعو ابن مهاجر ذات يوم فيقول له: خذ هذا المال و ائت المدينة و الق عبدالله بن الحسن و جعفر بن محمد (الصادق) و أهل بيتهم و قل لهم إني رجل من خراسان من شيعتكم و قد وجهوا اليكم هذا المال. فادفع الي كل واحد منهم علي هذا الشرط... كذا و كذا... فإذا قبض المال فقل اني رسول، و أحب أن تكون معي خطوطكم بقبض ما قبضتموه مني... و ذهب ابن مهاجر. فلما رجع قال له المنصور ما وراءك؟ قال: أتيت القوم و هذه خطوطهم ما خلا جعفر بن محمد. قال لي: يا هذا! اتق الله و لا تغرن أهل بيت محمد، فإنهم قريبو العهد بدولة بني مروان. و كلهم محتاج. فقلت و ما ذاك أصلحك

الله؟ فقال: ادن مني. فدنوت فأخبرني بجميع ما جري بيني و بينك كأنه ثالثنا. قال المنصور: يا ابن مهاجر إنه ليس من أهل بيت نبوة إلا و فيهم محدث، و ان جعفر بن محمد محدثنا اليوم. فالصادق يكشف للمنصور و دسيسه حقائق يعلمونها، و ينبههما علي ألا يورطا أهل البيت من جراء حاجاتهم. يريد لأهله السلامة، و للخليفة الاستقامة، و للأمة الطمأنينة ، و في كل ذلك خير للمنصور. و لقد كان المنصور - نفسه - يجعل الصادق (عليه السلام) حجة من حججه، و إذا فاخر أهل البيت فاخرهم به! كتب اليه محمد بن عبدالله (النفس الزكية) يدعوه ليبايعه، و عيره بأمهات العباسيين لأنهن أمهات ولد... و أم المنصور بربرية تدعي سلامة، يتردد اسمها علي ألسنة الذين فاخروه؛ فتولي المنصور كبره في الرد علي محمد، و لم يدع الفرصة تفوته ليستفيد حجة من مكانة الإمام الصادق. قال فيما قال «و ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أفضل من علي بن الحسين زين العابدين و هو لأم ولد. و لهو خير من جدك حسن بن حسن. و ما كان فيكم بعده مثل محمد بن علي الباقر وجدته أم ولد، و لهو خير من أبيك. و لا مثل ابنه جعفر، وجدته أم ولد، و هو خير منك». [ صفحه 99] و غض المنصور طرفه عن أن أم الولد في شجرة الباقر «شاه زنان» بنت كسري ملك الفرس. و أين منها - بعد إذ أسلمت - سلامة! علي أن اللقاءات - أو الاحتكاكات - بين الرجلين لا تتوقف. فهذا قطبان، لكل منهما عالمه. و هما ضدان لهما مستويان. و الشرف فيهما لرجل الدين و الزهد و العلم. و الملوك أحوج

الي العلماء، من العلماء الي الملوك. و أبوجعفر حريص غدر، يسلط علي الصادق من وقت لآخر، و في مكان بعد آخر، وجوها من التهديد لشخصه و الاتهام لولائه و الإزراء بعلمه. يقول له ذات يوم في لقاء له بالكوفة: أنت يا جعفر ما تدع حسدك و بغيك و فسادك علي أهل البيت من بني العباس، و ما يزيدك الله بذلك إلا شدة حسد و نكد، و ما تبلغ به ما تقدره. فيجيبه الصادق (عليه السلام): «و الله ما فعلت شيئا من ذلك. و لقد كنت في ولاية بني أمية - و أنت تعلم أنهم أعدي الخلق لنا و لكم، و أنه لا حق لهم في هذا الأمر - فوالله ما بغيت عليهم و لا بلغهم عني شي ء مع جفائهم الذي كان لي. و كيف أصنع هذا الآن، و أنت ابن عمي، و أمس الخلق بي رحما... و أكثر عطاء وبرا. فكيف أفعل هذا»! و الصادق (عليه السلام) بهذا يسجل للخليفة بره، و يقدر له أولية ذوي الأرحام عنده في البر بهم، و يقرر له حقه في الخلافة... و ليس للمنصور فوق ذلك طلبات. و بهذا يستل الضغن من صدره، ليدعه في ميدانه الذي يسره الله له. و مع ذلك يعاد المشهد في بغداد، بعد سنة 145، فيستحضره المنصور لمواجهة جديدة. يقول له: يا جعفر. ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلي بن خنيس؟ قال الصادق (عليه السلام): معاذ الله ما كان من ذلك شي ء. قال المنصور: تحلف علي براءتك بالطلاق و العتاق. قال الصادق (عليه السلام): نعم أحلف بالله ما كان من ذلك شي ء. قال المنصور: بل تحلف بالطلاق و العتاق. [ صفحه 100] قال الصادق (عليه السلام): ألا ترضي بيميني: الله لا إله

إلا هو! قال المنصور: لا تتفقه علي. قال الصادق (عليه السلام): و أين يذهب الفقه مني؟ قال المنصور: دع عنك هذا فإني أجمع الساعة بينك و بين الرجل الذي رفع عنك هذا حتي يواجهك. فأتوه بالرجل... قال الصادق (عليه السلام): تحلف أيها الرجل أن الذي رفعته صحيح؟ قال: نعم. ثم بدأ باليمين؛ قال: و الله الذي لا إله إلا هو الغالب الحي القيوم. قال الصادق (عليه السلام): لا تعجل في يمينك فإني استحلفك. قال المنصور: ما أنكرت من هذه اليمين؟ قال الصادق (عليه السلام): ان الله تعالي حي كريم اذا أثني عليه عبده لا يعاجله بالعقوبة. و لكن قل أيها الرجل: أبرأ الي الله من حوله و قوته، و ألجأ الي حولي و قوتي. إني لصادق بر فيما أقول. قال المنصور للرجل: احلف بما استحلفك به أبو عبدالله. قال راوي الخبر: فحلف الرجل. فلم يتم الكلام حتي خر ميتا. فارتعدت فرائص المنصور. و قال للصادق (عليه السلام): سر من عندي الي حرم جدك إن اخترت ذلك. و ان اخترت المقام عندنا لم نأل جهدا في إكرامك. فوالله لا قبلت بعدها قول أحد أبدا. و أين يذهب الفقه من إمام المسلمين (عليه السلام)، و هو الي يوجه اليمين، و من حقه صياغتها! و في الصيغة ما ذكر المفتري بعظم افترائه، و بالخالق سبحانه «و من أظلم ممن افتري علي الله كذبا». و من الإنساني، و من جلال مقام الإمام عند الله و الناس، ان يخر صريعا من يفتري علي الله و علي الامام، في مجلس الخليفة. بهذه الآية هدي جبار السموات جبارا علي الأرض لا يطأطئ رأسه. فإذا حركها عندما يناوشه الذباب سأل حضاره كالمستنكر: لم خلق الله الذباب!!. و كان الصادق

(عليه السلام) حاضرا يوما فأجاب: ليذل الله به الجبابرة. [ صفحه 101] و لئن كان في وجود الذباب في المجلس تذكرة للجبابرة ، ففي سقوط المفتري علي الامام (عليه السلام) بين أيديهم آية ما بعدها آية. و كما يضمن المنصور طاعة الامام بالبغتات يصطنعها من حين لآخر، لا يتورع عن محاولة إفحام الإمام بين علماء العصر، أو تسخير أعظم علماء العراق، لينصب منه شركا يوقع فيه الأمام! و ليس هوي المنصور مع أي منهما. و لا بأس عنده إذا أعجز كل منهما، أو أحدهما، صاحبه. و إن المرء ليلمس خساسة الحيل الظاهرة من المنصور، باتخاذ العلم و الفقه أداة للشر المدبر، و عظماء العلماء وسائل للإساءة للمسالمين الذين يأمن جانبهم. فلنقس عليها فظاعة تدابيره السرية لمن يخشي العواقب منهم، و لندرك جلالة الحق إذ ينتصر علي الحيلة، و جلجلة الحقيقة إذ تظهرها وسيلة أريد بها طمس معالمها، و مكانة الامام الصادق (عليه السلام) في العلم إذ يتواضع أمامه العظماء من الفقهاء، في مجلس علمي يسيطر عليه الخليفة: أقدم المنصور الإمام الصادق (عليه السلام) من المدينة الي العراق و بعث الي أبي حنيفة فقال له: إن الناس قد افتتنوا بجعفر، فهيئ له المسائل الشداد. و يقول أبوحنيفة عن لقائه بعد ذلك: «بعث الي أبوجعفر المنصور و هو بالحيرة، فأتيته. فدخلت عليه و جعفر بن محمد (عليه السلام) جالس عن يمينه. فلما أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر فسلمت عليه، فأومأ الي فجلست. ثم التفت اليه فقال: يا أبا عبدالله هذا أبوحنيفة. قال جعفر (عليه السلام): إنه قد أتانا. ثم التفت الي المنصور و قال: يا أباحنيفة ألق علي أبي عبدالله (الصادق) مسائلك. فجعلت ألقي عليه

فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا. و أهل المدينة يقولون كذا. و نحن نقول كذا. فربما تابعهم. و ربما خالفنا جميعا. حتي أتيت علي أربعين مسألة»... و لقد قال أبوحنيفة في مقام آخر: «ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس». [ صفحه 102] و انما يقصد أبوحنيفة باختلاف الناس الاجتهاد الفقهي للمقارنة بين مذاهب المجتهدين... فأبو حنيفة - و هو الإمام الأعظم عند أهل السنة - يقرر أن الامام الصادق (عليه السلام) أعلم الناس باختلاف الناس في المدينة حيث علم المحدثين، و في الكوفة حيث علم أهل الرأي؛ و كانتا قد بلغتا أوجهما، علي أيدي أبي حنيفة و مالك؛ و هما التلميذان في مجالس الامام الصادق (عليه السلام). و كمثلهما كان إمام العراق الآخر سفيان الثوري. و أبوحنيفة أكبر سنا من جعفر الصادق. ولد قبله بأعوام و سيموت بعده. و كان أبوحنيفة - كما قال مالك - لو حدثك أن السارية من ذهب لقام بحجته. و الجاحظ كبير النقاد يقول بعد مائة عام: «جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه و فقهه و يقال إن أباحنيفة من تلاميذه و كذلك سفيان الثوري. و حسبك بهما في هذا الباب». و الجاحظ يذكر تلاميذ العراق. ولو ذكر تلاميذ المدينة لما نسي مالك بن أنس. بلغ الامام الصادق (عليه السلام) بمسالمته للمنصور بعض آماله لأهل بيته (عليهم السلام)، بقية أيام حياته، بل طوال خلافه أبي جعفر المنصور. فكان ميمون النقيبة بالسلام الذي نشده، و الامان الذي دعا له، و أطال زمانه. و منع كثيرا من الطغيان الذي طالما شكاه أبوه، علي ما سيروي ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة - «ثم لم نزل أهل البيت نستذل و نستضام، و نقضي و نمتهن، و نحرم و نقتل،

و لا نأمن علي دمائنا و دماء أوليائنا، و وجد الكاذبون و الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا... فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة و المكذوبة و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله ليبغضونا الي الناس. و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن. فقتلت شيعتنا بكل بلدة، و قطعت الأيدي و الأرجل علي الظنة. و من يذكر بحبنا و الانقطاع الينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره. ثم لم يزل البلاء، يزداد الي زمان عبيدالله بن زياد قاتل [ صفحه 103] الحسين. ثم جاء الحجاج [29] فقتلهم كل قتلة و أخذهم بكل ظنة و تهمة، حتي ان الرجل يقال له زنديق أحب اليه من أن يقال شيعة علي». و في عصر الباقر (عليه السلام) كان الحسن البصري (110) الجسور (قاضي عمر بن عبدالعزيز و شيخه الذي لا يهاب الخلفاء) إذا روي عن أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) يقول (قال أبوزينب) ليخفي الاسم الذي لا خفاء له! بل كان الشعبي (104) شيخ المحدثين بالعراق يقول: «ماذا لقينا من آل علي إذا أحببناهم قتلنا و إذا أبغضناهم دخلنا النار». و كان طبيعيا من دولة «هرقلية» يكون همها الملك لا الدين أن تعاقب من تتوهم خطره عليها و تترك من تزندق، و أن تزداد الاستهانة بالدين في مقابل السلام الذي تنشده الدولة، و البلهنية التي يؤثرها دعاة الدعة. بدأ ذلك من عهد معاوية و سيستمر استمرار فساد الدولة. و ستستبقيه لتصرف الناس عن الاهتمام بأهل بيت النبي (عليهم السلام)، أو توقع بهم لفرطات تفرط من أحدهم، أو تعزي كذبا اليهم، منتهزة للفرص حينا، أو مفتعلة لها في أغلب الأحيان. كانت الأوامر تصدر من بغداد الي أرجاء الامبراطورية التي تدين

لبني العباس، و منها مصر؛ أن «لا يقبل علوي ضيعة. و لا يسافر من الفسطاط الي طرف من أطرافها. و أن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد (و الرقيق يومذاك قوة العمل). و إن كانت بين العلوي و بين أحد خصومه فلا يقبل قول العلوي. و يقبل قول خصمه بدون بينة»! و كانوا يسفرون من الأطراف الي العاصمة ليكونوا تحت الرقابة. بل أمر الرشيد ان يضمن العلويون بعضهم بعضا. و كانوا يعرضون علي السلطان كل يوم، فمن غاب عوقب... و كأن «أهل بيت النبي» جالية من العدو أو شرذمة من المشبوهين. [ صفحه 104] و لقد كان يكفي للحيطة أقل القليل من حاكم يريد أن يطمئن. و إنما كان ذلك الكيد سياسة إبادة مستمرة، يشترك في تنفيذها الخلفاء، و الأشياع و الظلمة، تدفع الثائرين الي أن يثوروا، فيؤخذوا بثوراتهم، أو يؤخذ غيرهم بجرائر تنسب اليهم. أما سياسة أهل البيت (عليهم السلام) فواضحة من شعار أبناء علي في كلمة مسلم بن عقيل؛ «إنا أهل بيت نكره الغدر»... قالها عندما عرض عليه البعض قتل عبيدالله بن زياد في إحدي زياراته. فنجا ابن زياد بهذا الشعار ليقتل مسلما فيما بعد. أما شعار حاشية معاوية فكان: «ان لله جنودا من عسل» يقصدون دس السم الي أعدائهم فيه. و لقد طالما استخدم الطغاة السم في تصفية أهل البيت في القرون التالية. فإن لم يكن سم في خفاء فالقتل جهرة. و من الروايات أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) - الاثني عشر - ماتوا مسمومين ما عدا أميرالمؤمنين عليا و أباالشهداء الحسين (عليهماالسلام) - فكانت شهادتهما بالسيف. و في أيام الخليفة الهادي (سنة 169) كان أهل بيت النبي في المدينة يستعرضون كل يوم! لكل واحد منهم كفيل من نسيب

أو قريب. بل ولي عليهم واحد من ذرية عمر بن الخطاب هو عبدالعزيز بن عبدالله. فولي بدوره علي أهل البيت رجلا يقال له عيسي الحائك. فحبسهم الحائك في المقصورة، فثارت لأجلهم المدينة إذ ثاروا، و كسرت السجون و أخرج المسجونون، و بويع للحسين بن علي بن الحسن. فبقي واحدا و عشرين يوما بالمدينة ثم ارتحل الي مكة فأقام بها الي زمن الحج. و كرر التاريخ نفسه في خروج الحسين و من معه من أهل المدينة إذ جاءه الامام موسي الكاظم (عليه السلام) يستقيله من الخروج معه، كما صنع أبوه مع النفس الزكية (محمد بن عبدالله). قال الكاظم للحسين «أحب أن تجعلني في حل من تخلفي عنك». قال: أنت في سعة. قال الكاظم (عليه السلام): «أنت مقتول... و عند الله عزوجل أحتسبكم من عصبة...». و جهز الهادي جيشا لاقاه حيث استشهد في موقع يقال له (فخ) و معه كثير من [ صفحه 105] العلويين. و حملت رأس (الحسين شهيد فخ) الي القائد العباسي بالبشري! مع رؤوس مائة آخرين. و استعرض القائد الرؤوس بالمدينة فقال الامام الكاظم (عليه السلام) عندما عرضوا رأس الحسين: «إنا لله و انا اليه راجعون. مضي و الله مسلما، صالحا، صواما، قواما، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. ما كان في أهل بيته مثله». و كان مع الحسين يحيي بن عبدالله بن الحسين (أخي محمد و إبراهيم، و إدريس ابناء عبدالله بن الحسن) فلما انتهت المعركة استتر، ثم ظهر، فخرج علي الرشيد في بلاد الديلم، و وجه اليه الرشيد جيشا بقيادة الفضل بن برمك حتي استسلم بعهد مكتوب. و مع ذلك استفتي الرشيد العلماء لقتله، فأبي ذلك محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة و صاح: ماذا تصنع لو كان محاربا

و ولي كان آمنا. لكن الرشيد وجد من علماء السوء من أفتاه بقتله، و كان هو أقدر علي النفاق السياسي من مفتيه. أخذ من المفتي ما يملكه، ليصنع هو ما يقدر عليه.. فسجن يحيي و ضيق عليه الخناق حتي مات في سجنه، كمثل ما سيموت في سجن الرشيد الإمام موسي الكاظم و يشهد الرشيد الناس عليه، ليبرئ نفسه من تهمة اغتياله. أما الأخ الرابع إدريس فأفلت هاربا الي مصر، ثم الي المغرب، هناك تمكن الرشيد من دس السم اليه و اغتياله، فأسس ابنه دولة الأدارسة. و سيموت في حبس الرشيد كذلك عبدالله بن الحسن (الأفطس). قتله جعفر بن برمك وزير الرشيد. و سيموت في حبسه محمد بن يحيي بن محمد بن عبدالله بن الحسن، و العباس بن محمد بن عبدالله، و كذلك الحسين ابن... عبدالله بن جعفر. [30] . [ صفحه 106] و في عهد المأمون وجه الي جماعة من آل أبي طالب. فحملوا اليه في مرو عاصمة خراسان و فيهم الامام علي الرضا (بن الكاظم بن الصادق) (عليهم السلام) فخاطبه في أن يكون ولي عهده. فأبي. فتهدده بقوله: «ان عمر جعل الشوري في ستة آخرهم جدك. و قال من خالف فاضربوا عنقه. و لابد من قبولك ذلك» فقبل. و بايع له المأمون و العباس بن المأمون. ثم دعاه المأمون للخطبة فأوجز، و كأنه يتوقع و جازة أيامه. فاكتفي بعد أن حمد الله بقوله (عليه السلام): «إن لنا عليكم حقا برسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). و لكم علينا حق فإذا أديتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم». لكنه مات بعد قليل في ظروف غامضة لا يستبعد منها دس السم كما تؤكد ذلك الشيعة، فموت

علي الرضا (عليه السلام) كان حلا لإشكالات بني العباس سواء من يحبون المأمون، أو الكارهين للرضا، أو للمأمون ذاته [31] . [ صفحه 107] و لا نستطرد للسرد. فليس في تاريخ البشرية، كلها، أسرة شردت و جردت، و ذاقت العذاب و الاسترهاب، مثل أهل البيت النبي (صلي الله عليه و آله و سلم). بدأبهم تاريخ الاسلام مجده. و استمر فيهم بعبرته و عظمتها. قدم أبوهم (عليه السلام) للبشرية أسباب خلاصها بكتاب الله و سنة الرسول. و قدم أهل بيته (عليهم السلام) أرواحهم في سبيل القيم التي نزل بها القرآن و جاءت بها السنة. كانت مصابيحهم تتحطم لكن شعلتهم لا تنطفئ، لتخلد الجهاد و الاستشهاد و الإرشاد، بالمثل العالي الذي كانوه، و الضوء الذي لم تمنع الموانع من انتشاره، و علم فيه أبناء النبي أمته بعض علومه: ان الاستشهاد حياة، للمستشهدين و للأحياء جميعا [32] . [ صفحه 109]

امام المسلمين

اشاره

انت يا جعفر فوق ال مدح و المدح عناء جاز حد المدح من قد ولدته الانبياء [ صفحه 111] قامت الدولة الاسلامية بالمدينة المنورة حيث طبق الدين أكمل تطبيق. فلم تكن العاصمة المناسبة لدول ثلاثة أقامها أصحابها من أجل خلافة الدنيا لا خلافة الدين. و المدينة هي المقر الأمثل لأهل بيت الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) حيث يرتبطون بكل أثر فيها و ترتبط بهم المعاني التي خلد بها الاسلام، و انتصر المسلمون. و السنة هي الشجرة المباركة و فروعها؛ في ثمرها اليانع رحمة و يسر و معرفة، و في ظلالها الوارفة مودة و إيلاف و تواصل. و من هذه العناصر نتج الفكر الرفيع للمجتمع العظيم، يسقي من القرآن و يحيا به. و بالقرآن و السنة، و الفكر الرفيع و الفقه

المحيط، اعتصم أهل البيت (عليهم السلام) في المدينة. فاختصم و إياهم خلفاء الدول الثلاثة الأموية و المروانية و العباسية، و ولاتهم علي المدينة. لكنها ظلت مدرسة السنة و الفقه. و تتابع فيها أئمة أهل البيت (عليهم السلام): زين العابدين، و الباقر، و الصادق. و الفصل الثاني من الباب الحالي مداره مجلس إمام المسلمين جعفر الصادق (عليه السلام)، و أمثال لما يجري فيه من أقوال، و من يشرف بالانتهاء اليه من رجال، ليسوا كسائر الرجال. فهم أئمة الفكر الإسلامي جميعه... من سنن وفقه، و زهد و كلام، و علوم تطبيقية... منذ القرن الثاني للهجرة حتي يرث الله الأرض و من عليها. [ صفحه 113]

في المدينة المنورة

اشاره

«اللهم ان إبراهيم عبدك و خليلك و نبيك. و إنه دعاك لمكة. و إني أدعوك «للمدينة» بمثل ما دعاك لمكة و مثله معه». (حديث شريف) [ صفحه 115] ولي مروان بن الحكم إمرة المدينة لمعاوية سنة 42. و كان مروان طلبة الثوار علي عثمان؛ لو تسلموه لما قتلوا الخليفة - كما قيل - و كان مروان يبحث لنفسه في الفتنة عن مكان. و من أجل ذلك رمي معاوية المدينة به، أو رماه بها، من فور ولايته للسلطة. و هو ابن عمه و ابن عم عثمان. كان معاوية يصرفه عن الإمره ثم يعيده. و آثر مروان و أهله الإقامة بالمدينة في الحالين، علي الذهاب الي دمشق عاصمة بني أمية، حيث الصدارة لغير، و حسن صلاته بأهل المدينة. فلما وقعت مجزرة كربلاء كانت عواطفه مع أهل بلدته. ثم أجاءته الرياح الي حيث نصبه أهله خليفة سنة 64 بعد اعتزال معاوية بن يزيد. ثم خلف مروان ابنه عبدالملك لتبقي خلافته عشرين عاما من سنة 66 الي سنة 86. و في عبدالملك يقول عبدالله

بن عمر: إن لمروان ابنا فقيها فاسألوه. لكنه بعد الخلافة صار ظلوما غشوما: أدخل عليه الأسري ذات يوم فأمر بضرب أعناقهم - دون استجواب! فقال له رجل من أهل الشام كان يعرفه أيام تنسكه - لقد أقست الخلافة قلبك. و كنت رؤوفا! فأجاب: كلا. و لكن أقساه الضغن بعد الضغن. كان يستنكر ضرب جيوش يزيد بن معاوية للكعبة سنة 63 في حصار مكة، حتي إذا ولي الخلافة ضربها الحجاج له في سنة 73! و لما سئل الحسن البصري أن يقول قوله في عبدالملك بن مروان أجاب: ماذا أقول في رجل؛ الحجاج إحدي سيئاته!! و لم يتمهد الملك لابنه الوليد إلا بعد عشرين عاما من حكم عبدالملك، فلقد [ صفحه 116] بويع لابن الزبير بمكة سنة 64 من أهل الحجاز و العراق و مصر، فدارت رحي الحرب، و استمرت بيعة العراق لابن الزبير حتي سنة 71 عندما قتل جند عبدالملك مصعب بن الزبير، و هدموا قصر الخلافة الزبيرية بالكوفة. و في العام التالي استرجع «المدينة» لعبد الملك طارق بن عمر، و في سنة 73 قتل عبدالله بن الزبير، و استسلم للحجاج أهل «مكة». و في حياة الإمام جعفر الصادق كان علي إمرة المدينة أبان بن عثمان حتي سنة 82 حين عزله عبدالملك بهشام بن اسماعيل، الذي ضرب سعيد بن المسيب سنة 85 من جراء رفضه بيعة الوليد و سليمان ابني عبدالملك، و طاف به في المدينة. ثم عزل الوليد هشاما بعمر بن عبد العزيز سنة 87؛ و عمر زوج اخته و هو زوج أخت عمر. و الأربعة حفدة مروان. و أمر الوليد عمر أن يوقف هشاما للناس أمام دار مروان، و لكن عنده مظلمة. فمر الناس

به يلمزونه و يغمزونه. فصاحب المعروف لا يقع و ان وقع وجد متكأ. و كان هشام من كثرة ما أساء الي علي بن الحسين (زين العابدين) (عليه السلام) يقول: ما أخاف إلا من علي زين العابدين - فلو أزري به زين العابدين لحق عليه الدمار من العابدين و من العامة - لكن زين العابدين (عليه السلام) و مواليه و خاصته مروا به لا يتعرضون له بكلمة. فلما مروا و سلم هشام، صاح: الله يعلم حيث يجعل رسالته. ورد عمر بن عبدالعزيز لأهل البيت (عليهم السلام) فدكا. و كان النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قد أعطاها لفاطمة الزهراء (عليهاالسلام) و لم يورثها أبوبكر و عمر لها. فكان اجتهاد عمر بن عبدالعزيز خلافا في الفقه مع أبي بكر و مع جده عمر بن الخطاب. و منع عمر الشعار الأموي الآثم؛ و هو سب علي (عليه السلام)، و زاد إنصافا فاستعاض عنه شعارا تبدو فيه معاني التوبة النصوح و الاستغفار من الذنوب. و هو الآية الكريمة «ربنا اغفر لنا. و لإخواننا الذين سبقونا بالايمان». و كان معاوية قد استحدث نظام القصص ليثني القصاص علي الخلفاء من بني أمية و يزينوا للناس حالهم، فأمرهم عمر ان يقصروا الثناء (علي المؤمنين). [ صفحه 117] و في عمر يقول أحمد بن حنبل «ليس من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبدالعزيز» و يخاطبه كثير - و هو من شعراء الشيعة - بقوله: و ليت و لم تسبب عليا و لم تخف مريبا و لم تقبل مقالة مجرم و صدقت بالقول الفعال مع الذي أتيت فأمسي راضيا كل مسلم و في العام التالي لولاية عمر علي المدينة حج الوليد، و بدا له أن يأمر بتوسعة المسجد، لتدخل فيه حجرات أمهات

المؤمنين و بيت علي، الذي اذن له به النبي، في حين ردم أبواب سائر الصحابة. فنصح بعضهم الخليفة أن يعود الي مقر الملك في دمشق و يصدر أوامره منها بتوسيع المساجد عامة في مكة و المدينة و بيت المقدس، و ان يبني مسجدا بدمشق، و بهذا يتحقق غرضه دون أن يلومه الناس. فرجع الي دمشق و أصدر منها أوامره. و شق الأمر علي أهل المدينة و تظاهروا عليه طالبين ترك (الحجرات) كما تركها صاحب الشريعة. فأصر الوليد و أنفذ، لتنفيذ أمره، بعثة من العمال من بلاد الروم. قال خبيب بن عبدالله بن الزبير لعمر «نشدتك الله يا عمر ان تذهب بآية من آيات الله تقول «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون»... و طعن في بني أمية، و بلغ خبره الوليد بدمشق فأمر بجلده. فجلد. و مضي زمن و مات خبيب. فكان عمر يقول كلما بشره بالجنة أحد: «كيف. و خبيب علي الطريق!». و في سنة 91 حج الوليد فزار المسجد، و خطب علي منبر الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) قاعدا في كبرياء فنفر الفقهاء، و ترضي السادات فاستفز الفقراء. و كان عمر يؤوي بالمدينة من يتهددهم بطش الحجاج في العراق، لكن الوليد ولي الحجاج علي الحج سنة 92، فاستعفاه عمر من مرور الطاغية بمدينة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)، فقبل. و لم يكن عدل عمر مانعا، بل ربما صار مقتضيا، أن يعزله الوليد بعثمان بن حيان المري سنة 93، فأنزل الوالي الجديد النكال بالعلماء، و منهم ناسك المدينة محمد [ صفحه 118] بن المنكدر فقيه بني تيم قبيلة أبي بكر و أخوال جعفر الصادق (عليه السلام)، و قذف أهل

المدينة من فوق المنبر بقوله «أيها الناس إنا وجدناكم أهل غش لأميرالمؤمنين في قديم الدهر و حديثه». و امتدت يد البطش الي أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (وجده عمرو عامل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم)، فأمر بحلق لحيته لولا ان عزل الخليفة الجديد (سليمان بن عبدالملك) عثمان بأبي بكر ذاته سنة 96. و بقي أبوبكر أميرا علي المدينة حتي سنة 101. و اجتمع له القضاء و الامرة عليها في خلافة عمر بن عبدالعزيز. و لما عزله يزيد بن عبدالملك بعد وفاة عمر، بعبد الرحمن بن الضحاك بن قيس عذب الوالي الجديد أبابكر. فلما عزل عبدالرحمن سنة 104، حاقت البأساء و الضراء بعبد الرحمن، حتي صار يلتمس الصدقة من سوء حاله. و في سنة 106 تولي إبراهيم بن هشام بن اسماعيل - و هو خال الخليفة هشام بن عبدالملك - فبقي ابراهيم واليا الي سنة 114. ثم عزل بخالد بن عبدالملك بن الحارث بن أبي العاص، فبقيت له الإمرة حتي سنة 118. و خطب خالد علي منبر الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)، فانتقص أولاد الرسول و أباهم عليا (ع)، فقام اليه داود بن قيس فبرك علي ركبتيه و قال: كذبت كذبت؛ حتي حيل بينهما. ثم عزل بمحمد بن هشام بن اسماعيل أخي إبراهيم فبقي حتي سنة 125. و كما ولي محمد و ابراهيم ابنا هشام، لخؤلتهما لهشام بن عبدالملك، ولي الوليد ابن يزيد إمرة المدينة «خاله» محمد بن يوسف الثقفي، و أمره ان يعذبهما، و ان يقيمهما للناس، و ان يبعث بهما الي والي العراق ليذيقهما الهوان حتي يموتا من العذاب. ففعل. و بقي حتي سنة 126 فعزل بعبد

العزيز ابن (عمر بن عبدالعزيز) ليبقي ثلاث سنوات حتي سنة 129، فيحل محله عبدالواحد بن سليمان بن عبدالملك. و في ولاية عبدالواحد كانت شمس بني أمية في طريقها الي الغروب: لقد طرد [ صفحه 119] الحارث بن سريج عاملهم نصر بن سيار من أقصي الشرق في مرو - و أقبل أبوحمزة «الخارجي» يخرجهم من قلب الاسلام في المدينة سنة 130 بعد وقعة قديد. و فيها قتل من أهل المدينة خلق كثير، و فر عبدالواحد. و سفر الي أبي حمزة، و هو علي أبواب المدينة، السفراء: شيخ بني هاشم عبدالله بن الحسن، و محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان، و كان محسوبا مع بني هاشم لما يجمعه بهم من رحم، و عبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر خال الإمام الصادق (عليه السلام)، و عبدالله بن عمر بن... عمر، و معهم ربيعة الرأي شيخ مالك بن أنس، في رجال آخرين. فعامل أبوحمزة الوفد معاملة الخوارج، للصحابة: عبس و بسر في وجه الأولين حفيدي علي و عثمان. و بشر في وجه الثالث و الرابع - حفيدي الشيخين: أبي بكر و عمر. و قال لهما: و الله ما جئنا إلا لنسير بسيرة أبويكما. قال شيخ بني هاشم و الله ما جئناك لتفضل بين آبائنا، و لكن بعثنا اليك الأمير برسالة، و هذا ربيعة يخبرك بها... أقام أبوحمزه بالمدينة ثلاثة أشهر ثم خرج لقتال جند الشام فانهزم... ثم جاءت دولة بني العباس. و تولي إمرة المدينة للسفاح عمه داود بن علي فقام فخطب فقال: أيها الناس أغركم الإمهال حتي حسبتموه الإهمال؟... و السيف مشهر: حتي يبيد قبيلة فقبيلة و يعض كل مثقف بالهام و يقمن ربات الخدور حواسرا يمسحن عرض ذوائب الأيتام لكن الله عاجله بعد

ثلاثة أشهر فلقي حتفه - و ولي بعده زياد بن عبدالله بن المدان خال السفاح. و أحاط السفاح ببني أمية: دعاهم، و منحهم الأمان، حتي إذا اجتمعوا به أعمل رجاله السيوف فيهم، و كانوا نيفا و ثمانين رجلا. و في سنة 133 قتل عماله من أشياعهم ثلاثين ألفا بالشام. و استدعي عبدالله بن علي، أخو داود، و قائد جيش الشام، الإمام الأوزاعي إمام [ صفحه 120] الشام الي عسكره فسأله: ما تقول في بني أمية؟ قال: لقد كانت بينك و بينهم عهود، و كان ينبغي أن تفوابها. قال: ويحك! اجعلني و إياهم لا عهد بيننا. يقول الأوزاعي «فأجهشت نفسي و كرهت القتل... فذكرت مقامي بين يدي الله فقلت: دماؤهم عليك حرام» فانتفخت عيناه و أوداجه و قال: ويحك لم؟ قلت: قال رسول الله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث: ثيب زان و نفس بنفس و تارك دينه». قال: ويحك أو ليس الأمر لنا ديانة؟ أليس رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قد أوصي لعلي؟ فسكت... و جعلت أتوقع رأسي يسقط. و قال: أخرجوه. فخرجت. و روي عبدالله بن علي رماحه من الدم بما لم يسمع التاريخ بمثله. حتي إذا ولي أبوجعفر المنصور (158 - 136) - عزل زياد بن عبدالله بن المدان عن المدينة بمحمد بن خالد القسري، و أمر بحمل زياد بن عبدالله الي العراق مكبلا بالحديد. ثم عزل محمد بن خالد و ولي مكانه رباح بن عثمان بن حيان سنة 141، و هو ابن عم مسلم بن عقبة (الذي يسميه البعض مجرم بن عقبة - فهو قائد الجيش الذي دمر المدينة و ارتكب الفظائع في معركة الحرة سنة 63) ففاخر الناس

بنقائصه قال: أنا الأفعي ابن الأفعي أنا ابن عثمان بن حيان و ابن عم مسلم بن عقبة المبيد خضراءكم المفني رجالكم. فوثب عليه الناس فحصبوه بالحصي و رموه بالحجارة. و في إمرته اقتحم الجند منازل أهل البيت (عليهم السلام) فأخرجوا منها رجالهم الي السجون. و مرت مواكب أهل البيت في شوارع المدينة و هم في الأصفاد. هزلهم العذاب و الأيام الشداد، ثم سيقوا الي الكوفة، ليودعوا السجن حيث حبسوا - كما [ صفحه 121] يقول المسعودي في مروج الذهب - في سرداب تحت الأرض لا يعرفون الليل من النهار حتي مات أكثرهم، ثم خر عليهم، ليموت تحت أنقاضه الأحياء منهم، و يدفن الذين سبقوهم الي الموت دون أن يعني بهم أحد. و بقي رباح حتي خرج محمد بن عبدالله (النفس الزكية) علي المنصور و قبض الخارجون علي رباح و أدخلوه سجن المدينة هو و أخاه. و لما انتهت الحرب عين المنصور علي المدينة عبدالله بن الربيع الحارثي فبقي حتي سنة 147 ثم عزل. فولي مكانه جعفر بن سليمان بن سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس، فبقي واليا حتي سنة 149. و هو الذي أمر بضرب مالك بن أنس حتي انخلعت كتفه و طافوا به في المدينة. و في ولاية جعفر بن سليمان توفي الامام الصادق (عليه السلام). بهذه الوجازة العجلي لأمر الولاة في نحو قرن من الحكم الأموي و المرواني و العباسي للمدينة، عاش فيه الامام الصادق (عليه السلام)، تتكشف أمور حسبنا أن ننبه علي بعضها الآن: 1 - ففي حكم مروان، لم يكن لأهل البيت (عليهم السلام) بخاصة مشكلة مع الدولة، و إنما كانت المشكلة لأهل المدينة عامة مع العاصمة. أما ثورة زيد بن علي زين العابدين (عليهماالسلام) سنة 121 و ابنه يحيي سنة

125 [33] فكان في أواخر أيام بني مروان . [ صفحه 122] و كذلك كان خروج عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر سنة 127، بعد عامين من استشهاد يحيي بن زيد. و لقد سلم عبدالله نفسه لأبي مسلم الخراساني بعد أن انهزم نصر بن سيار والي خراسان لبني مروان. فقضي أبومسلم عليه بعد ان استسلم. بهذه يمكن القول ان زين العابدين، و ابنه محمدا الباقر (عليهماالسلام) عاشا أكثر من نصف قرن في سلام مع السلطة. و بهذا السلام تبوءا الذروة من الاحترام و الطمأنينة اللذين يمهدان للعلم أن ينتشر، و للقدوة الصالحة ان يشيع هداها، كالشعاع ينشر النور في المدينة و يحمل الدف ء الي الأفئدة الوافدة من شتي الأقطار. 2 - كان الأمراء علي المدينة إما أقرباء للخلفاء في دمشق و الأنبار و الكوفة، و إما صنائع لهم. لكنهم كانوا - عدا عمر بن عبدالعزيز - مستضعفين من الجميع، يعزلون، و يقامون للناس، ليتخذوهم سخريا أو ينكلوا بهم. و في أواخر أيام بني مروان سخر الناس منهم علانية، و اصطدموا بهم، إذا مسوا أميرالمؤمنين عليا (عليه السلام) بسوء. و كان عبدالملك قد أوصي عامله علي المدينة بقوله: «جنبني دماء بني هاشم فإني رأيت آل حرب لما تهجموا عليهم لم ينصروا» - و هو الباطش، الذي تولي له بالعراق الحجاج، و بخراسان المهلب بن أبي صفرة، و بمصر هشام بن اسماعيل و ابنه عبدالله، و باليمن محمد أخو الحجاج، و بالجزيرة محمد بن مروان (أخو عبدالملك). و كل من هؤلاء ظالم فاتك. و لما سئل عبدالله بن المبارك: أبومسلم خير أم الحجاج؟ أجاب: «لا أقول أبومسلم خير من أحد، لكن الحجاج شر منه». 3 - أما في عهد العباسيين - أبناء

العمومة - فقد هبت علي بني علي (عليه السلام) ريح صرصر، من الطغيان المدمر، لتنزل بهم و بأحفاد الصحابة و التابعين الفزع الأكبر، كهيئة ما صنع بنوأمية في كربلاء و الحرة. و طبائع الطغيان واحدة. [ صفحه 123]

اهل المدينة

غاضبت دمشق العراق و الحجاز أيام صيرها معاوية حاضرة بني أمية. و تابعته علي ذلك دولة بني مروان. لكن المدينة بلدة طيبة و شعب كريم. ثار أهلها علي الأمويين بعد كربلاء ثم تركوهم يجلون عنها، علي موثق من أهلها، ألا يدلوا جند يزيد علي عوراتها. رحل الأمويون الي الشام إلا زوج مروان بن الحكم، عائشة بنت عثمان بن عفان، توجهت الي الطائف في حماية «علي زين العابدين عليه السلام». و المدينة واحة في قفر، و الرزق نزر في الصحاري الساخنة، إلا ما يرد الي الناس من تجارة أو عطاء، متقطع كسحائب الصحراء، يجري، و يجف، حسب الشهوات، في دمشق. و أهل البيت (عليهم السلام) تجيئهم حقوقهم في بيت المال أو لا تجي ء، لكنهم ينفقون المال خفية و علانية - ولو كان بهم خصاصة - فعلي زين العابدين (عليه السلام) مصدر من مصادر الرزق المجهولة للناس، لا يعرف إلا بعد أن يموت، فيتفقد الناس المصدر فيعرفونه. و كذلك أبناؤه، يتزعمهم الباقر (عليه السلام)؛ و هو القائل: إن استطعت ألا تقابل أحدا إلا و لك الفضل عليه فافعل. أما ابن عمهم عبدالله بن جعفر بن أبي طالب فكان وثيق العري بالخلفاء. سأله يزيد بن معاوية يوما: كم عطاؤك؟ قال: ألف ألف درهم. قال يزيد: قد أضعفناها لك. قال ابن جعفر: فداك أبي و أمي. و ما قلتها لأحد قبلك. فضاعف يزيد عطاءه مرة ثانية. و لما خرج عبدالله من المجلس، قال جلساء يزيد: تعطي رجلا واحدا أربعة آلاف ألف درهم! قال:

ويحكم إني أعطيتها أهل المدينة أجمعين. فما يده فيها إلا عارية. [ صفحه 124] و الحق ان الفقراء كان لهم في أمواله حق معلوم، فكانوا يستدينون في انتظار ورود عطاء عبدالله بن جعفر من العاصمة. و كان الخلفاء يحجرون علي شباب قريش أن يبرحوا الحجاز إلا بإذن فأمسي سجنا واسعا لمن فيه منهم. و ازداد أهله انعزالا و ارتباطا فتراحموا، و تصاهروا، لتصير المدينة مجتمعا مقطوع القرين، نري فيه: «سكينة بنت الحسين» يبني بها «مصعب بن الزبير» ثم يبني بضرة لها «عائشة بنت طلحة»... أي أطراف يوم الجمل تجتمع في بيت واحد. و اليك أطرافا أخري في أختها فاطمة: ولدتها أم اسحق بنت طلحة. و تزوجها عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان. ويرزقان محمدا. و له بنت من خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير تدعي حفصة. و أم عروة أسماء بنت أبي بكر. فهؤلاء: رسول الله و خمسة من العشرة المبشرين بالجنة علي و أبوبكر و عثمان و طلحة و الزبير يجتمعون في حفصة! أما الإمام الصادق (عليه السلام) فآية من الآيات. جده لأبيه زين العابدين. و زين العابدين و سالم بن عبدالله بن عمر و القاسم بن محمد بن أبي بكر أولاد خالات ثلاثة. هن بنات كسري يزدجرد. و أبوه الباقر ولدته لزين العابدين بنت عمه فاطمة بنت الحسن. و أمه أم فروة بنت «القاسم» بن محمد بن أبي بكر. و قد تزوج أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) أم محمد، أسماء بنت عميس، بعد موت أبي بكر. فصار ربيبه، و ترعرع في كنفه حتي شهد معه الجمل. و كان علي الرجالة. و شهد معه صفين. و ولاه مصر حتي قتلته جيوش معاوية في مصر. و أمها أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر عم القاسم و شقيق عائشة.

شهد اليمامة مع خالد. و قتل محكم اليمامة في الحصن فاقتحمه المسلمون. و بعث اليه معاوية بمائة ألف درهم فردها و قال: لا أبيع ديني بدنياي. و عبدالرحمن هو القائل و هو يرفض البيعة ليزيد: «جعلتموها هرقلية كلما مات [ صفحه 125] هرقل قام هرقل». فجعفر الصادق قد ولده النبي عليه الصلاة و السلام مرتين، و علي مرتين، و الصديق مرتين، ليدل بهذا المجد الذي ينفرد به في الدنيا علي أنه نسيج وحده. و من الناحية الأخري ولده كسري مرتين، ليدل الدنيا - من أعلي مواقعها - علي ان الإسلام للموالي و العرب. فذلك هو الدين الذي جاء به رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)... و الذي دافع من أجله عن المساواة بين المسلمين كافة، أميرالمؤمنين علي (عليه السلام). هكذا وحدت المدينة مجتمعها، و رفعت أبناء الصحابة الي أعلي مقام. و أهل البيت الي صدارة المجتمع، يمدون أنسابهم الي هاماته و أسبابهم الي طبقاته. و ذات يوم أصهر الحجاج الي عبدالله بن جعفر في بنته أم كلثوم، فأبرد اليه الخليفة عبدالملك ليسوغ أباها المهر و يعجل طلاقها، لأنه تجاوز قدره. و هي حجة ظاهرة، قد تخفي حجة حقيقية، إذا كان يخشي أن يمد الحجاج بسبب الي أسرة قد يشمله هداها، أو يأسره الإخلاص لها، أو يبعده عن أن يكون - بجمعه - لعبد الملك، و بقسوته علي من عداه. لكن العلم ظل الخصيصة الكبري «للمدينة». ففيها وضعت القواعد العامة لتطبيق المبادئ الإلهية التي بعثت بها السماء آخر رسلها لإصلاح البشر، و وضعت أسس الدولة و مبادئ الجماعة و انتشر الدين في القارات الثلاث المعروفة؛ لتقدم الحضارة الإسلامية، سياسة و إدارة، و تشريعا، دوليا و

مدنيا و جنائيا، و اقتصاديا، و قواعد علمية، و علوما تطبيقية و رياضية لم تشهدها القرون من قبل، و ستبني عليها الحضارات جميعا، فتكون طريقا للبشرية من جهالات القرون الأولي الي حضارات العصور الحديثة العلمية و الاقتصادية و التشريعية و الاجتماعية. و لما انقضي عهد الرسالة و الراشدين الأربعة، تابعت عاصمة الإسلام - و ان لم تعد عاصمة الدولة - رسالتها بالفقه... و هو في الحضارة الإسلامية كحجارة الأساس في البنيان: ان كانت منه قواعد الفكر الاسلامي كافة، و كانت الحرية الفكرية لحمته [ صفحه 126] و سداه، و الفضيلة الإنسانية مبدأه و منتهاه. و فيه صلاح الناس، و التخفيف عليهم، و فتح أبواب الرجاء لهم، و تمكينهم من التطور لملاحقة حاجات الأعصر، بأداته «الديناميكية» - المحركة - نحو التقدم، و هي اجتهاد الرأي. و في أهل البيت (عليهم السلام) كان النبي مدينة العلم و علي بابها، و ريحانتا الرسول من الدنيا الامام «الحسن» و «الإمام الحسين» يمثلون الجيل الأول. و في الجيل الثاني كان السجاد - من كثرة السجود - أو زين العابدين - من كمال عبادته - و ابناه الباقر وزيد. و كان لزيد مذهبه. أما الجيل الثالث من القرون المضلة فقد تراءي فيه للمسلمين جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، بدر تمام، لجيل كان ختام أجيال. و أما من عدا أهل البيت (عليهم السلام) فقد نهض عنهم الصحابة و أبناؤهم و أحفادهم بعب ء العلم نهضة جديرة بدين يجعل طلب العلم فريضة علي كل مسلم و مسلمة. فاشتهرت بينهم أم المؤمنين عائشة و أم سلمة، و زينب بنت أبي سلمة، و العبادلة الأربعة أبناء العباس، و عمر، و الزبير، و عمرو، و أبوسلمة بن عبدالرحمن بن عوف، و عبدالرحمن بن أبي بكر، و

بنته حفصة و عروة بن الزبير ابن أخت عائشة و ابن أخيها القاسم بن محمد بن أبي بكر، و راويتها عمرة بنت عبدالرحمن، و هؤلاء الثلاثة أعلم الناس بحديث عائشة، و سالم بن عبدالله بن عمر و سعيد بن المسيب و خارجة بن زيد و عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، و أبوبكر بن عبدالرحمن و سليمان بن يسار، و تعلم عليهم جيل جديد؛ فيه محمد بن شهاب الزهري و أبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزم، و محمد بن المنكدر، و محمد بن عبدالله ابنا أبي بكر بن حزم، و ربيعة الرأي، و هؤلاء مشيخة مالك بن أنس. و مالك يعاصر في النصف الثاني من القرن الثاني نهاية الأجيال المفضلة. ثم هو شيخ المدرسة التي نجب فيها محمد بن ادريس الشافعي و تلميذه أحمد بن حنبل. و لقد طالما زاحم التلاميذ أشياخهم في العلم و ان لم يزاحموهم في مكانتهم عند الله و الناس. [ صفحه 127] و من المدينة انطلق الفقه الاسلامي الي العراق، حيث أقام عبدالله بن مسعود زمانا معلما و وزيرا كما سماه عمر، و تعلم عليه تلاميذه و تلاميذ علي (عليه السلام)، كعبيدة، و علقمة، و الحارث. و عن طريق علقمة تعلمت مدرسة النخعيين يتقدمها الأسود و عبدالرحمن، و يتوسط عقدها إبراهيم ابن يزيد شيخ حماد بن أبي سليمان. و في حلقة حماد بالكوفة قضي أبوحنيفة عشرين عاما يتعلم، ليصبح علما علي مدرسة الرأي و القياس الذي قعد قواعده الشافعي فانتشر في كل فروع العالم الاسلامي. و هوي أبي حنيفة مع أبناء علي (عليه السلام) معروف، وصلة فكره بزعماء أهل البيت (عليهم السلام) واضحة، و ان مذهبه ليقارب المذهب الزيدي أكثر مما يقارب المذهب الحنفي غيره من مذاهب أهل

السنة كما قيل. و لقد استشهد زيد - بن زين العابدين (عليه السلام) - سنة 121، و في ذلك العهد جلس أبوحنيفة مجلس حماد بن أبي سليمان بعد وفاته، و شرع يدون بعض مذهبه و كثيرا من الفروع. ثم مكن أبويوسف للمذهب بتولية زملائة القضاء، ليلزموا الناس به، ثم نشره محمد بن الحسن بتدوينه في كتبه الشهيرة. و تدوين الفقه في كتاب «المجموع» قد سبق به زيد مدرسة أبي حنيفة. و لعل أباحنيفة تعلم تدوين الفقه عليه - بل ان الجميع قد قلدوا فيه صنيع أهل البيت أنفسهم ولديهم الكتب فيها العلم، أحاديث و فقها، يتعلمونه كابرا عن كابر. فالحجاز و العراق قد تضامنا في انتاج الفقه، لتتابعهما بعد ذلك شتي الحواضر، في الفسطاط و دمشق و قرطبة و القيروان، و في المغرب و في المشرق، و في الاندلس، و وسط آسيا. و ظاهر من هذا التاريخ أمور: 1 - ان المذاهب الفقهية جميعا بما فيها المذاهب الباقية الي اليوم لأهل السنة، يتصدرها في الظهور مذهب أهل البيت علي يد زيد بن علي زين العابدين. و كذلك يسبق «المذهب الزيدي» مذهب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، الذي تبعه الأئمة من [ صفحه 128] نسله، و صار يسمي مذهب «الإمامية». فالصادق (عليه السلام) صار إماما بموت أبيه الباقر (عليه السلام) في العقد الثاني من المائة الثانية، ثم كانت وفاته بعد استشهاد عمه زيد سنة 121 بسبعة و عشرين عاما سنة 148. أما أبوحنيفة فمات في سجن أبي جعفر المنصور سنة 150. و أما مالك فمات بعد أبي حنيفة بتسعة و عشرين عاما سنة 179. و الشافعي مات بعد أبي حنيفة بأربعة و خمسين عاما سنة 204، و لحق بهم ابن حنبل سنة 241. و أصحاب المذاهب الأخري بين معاصرين لهم

أو لاحقين. 2 - ان الامام «جعفر الصادق عليه السلام» كما سنري، ينهي عن استعمال القياس كمثل ما يرفضه فقهاء المدينة عموما و المحدثون خصوصا. و هم زعماء الفقه في المائة الأولي من الهجرة. و سنري بعد ان نهي «الصادق عليه السلام» عن القياس لا يعارض الاجتهاد، بل إنه ليأمر به، و يبلغ بمنهاجه في الاجتهاد ما لا يبلغه سواه. و سنري ان منهاجه في الاعتبار و الاستخلاص هو منهج الفكر الإسلامي، نقله عن الفكر العالمي. 3 - ان البيئة التي عاش فيها أهل البيت (عليهم السلام) ستين عاما بعد مجزرة كربلاء، كانت منجبة، بظهور العلم و العلماء من الرجال و النساء. فشاركت المرأة في العلم في عهد أمهات المؤمنين، و وجدت الفقيهات في جيل التابعين و تابعي التابعين من أهل السنة، فتصدرت نساء أهل البيت سكينة بنت الحسين (117) رضي الله عنهما، و كانت في الطليعة، تساجل فحول الشعراء، بل الفقهاء. 4 - و في الهدأة الوقور في هذه البيئة ازدهر العلم علي النحو الذي كان حريا بالمدينة، و بأهل البيت، من حفظ لحديث الرسول و تريث في النظر و المناظرة، و تلبث في إبداء الآراء، لما فيها من شبهة المخاطرة، و صدق في خدمة حديث النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بالعمل به و تعليم الناس إياه. و إنما اشتعلت الثورات، و شققت الفلسفات، في العراق. ففيها تعاقبت ثورات [ صفحه 129] التوابين، و الخوارج، و الخارجين - كابن الزبير و ابن الأشعث و الآخرين - و من غليان المراجل هنالك أحدثت المبادئ الهدامة أو الغلواء أو الخصومات آثارها، كمثل ما نسب الي الغلاة الذين تبرأ منهم الشيعة، كما تبرأ الإمام علي (عليه السلام) ممن ألهوه، فحرقهم بالنار. لكن

آراء الغلاة و أعداء الاسلام لم تكن تكاد تفد علي المدينة حتي تخرج منها واهنة أو محطمة. ففي جوها النقي، تفتحت أبواب بيت النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، و تخرج في علومها الأئمة.

زين العابدين

38 - 94 تعاظم بيت زين العابدين (عليه السلام) في عدد أفراده يوما بعد يوم، و قدم «السجاد» لنا ابنه «الباقر»، ثم قدم الباقر ابنه «الصادق» (عليهم السلام). فكانوا مثلا عليا في العزوف عن السلطة و الانصراف الي تعليم الناس العلم الصحيح و العمل الصالح و الأسوة الحسنة. روي عن جابر بن عبدالله و ابن عمر إلي جوار روايته علم أهل البيت و حديثهم عن أبيه الحسين و أم المؤمنين أم سلمة. و سمع ابن عباس... ليروي عنه فيما بعد ابناه عبدالله و الباقر و خلق كثير. و رأي بعيني المريض العاجز عن الاستشهاد، مصير أبيه العظيم، و إخوته و أعمامه و أولادهم يوم كربلاء. و تجلت فيه الفضائل المنبثقة من الورع و الرحمة: يصلي لله في اليوم و الليلة ألف ركعة؛ و لهذا سمي «السجاد». إذا توضأ اصفر لونه و إذا قام أردع من الفرق. و لما سألوه قال: أتدرون من أريد أن أقف بين يديه و من أناجي؟ و مع تألق عبدالله بن جعفر بالمدينة، و هو الصحابي الذي يحرص الخلفاء في دمشق علي ارضائه، و تفريق عبدالله عطاءه الجزل في فقراء المدينة، و استشهاد ابنين له يوم الحرة، و ثالث في كربلاء، و مع انه زوج زينب بنت علي، عمة زين العابدين (عليه السلام)، مع هذا كله كان زين العابدين يحتل مكانه في الصدارة، و يحمل [ صفحه 130] وصفه بجدارة. و في ذلك نص يروي عن مالك بن أنس قال: «سمي زين العابدين لعبادته». علمته المحنة

و الورع الحكمة و حسن الخطاب، فكان في باكورة حياته علي علم عظيم. قال له يزيد يوم أدخل عليه - مريضا - مع نساء أهل البيت (عليهم السلام) الناجيات من كربلاء - أبوك الذي قطع رحمي و جهل حقي و نازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت. قال زين العابدين (عليه السلام): «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها». قال يزيد: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم». قال زين العابدين (عليه السلام): «هذا في حق من ظلم لا من ظلم». [34] . تتابع علي الكذب ولاة الشام و الأمصار من عهد معاوية يشتمون عليا (عليه السلام) بأمر بني أمية، فكان يبقي من كذبهم شي ء في عقول العامة، أو الصبية الذين لا يعلمون. كان عبيدالله بن مسعود من فقهاء المدينة السبعة، و كان معلم عمر بن عبدالعزيز و هو صبي أودعه أبوه أخواله - بني عدي قوم عمر بن الخطاب - بالمدينة. فسمع يوما شتم علي، فقال لعمر: يابني. متي علمت أن الله غضب علي أهل بدر؟ قال الصبي: و هل كان علي في بدر؟ قال عبيدالله: و هل كانت بدر كلها إلا لعلي! فلما ولي عمر الخلافة أبطل شتم أهل البيت (عليهم السلام)، ورد اليهم حقوقهم. و قال رجل من أنصار الأمويين بالشام: دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا علي بغلة [ صفحه 131] لم أر أحسن وجها و لا ثوبا و لا سمتا و لا دابة منه. فسألت فقيل: هذا علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام). فأتيته - و قد امتلأ قلبي له بغضا - فقلت: أنت ابن علي بن أبي طالب؟ قال: أنا ابن ابنه. فقلت: بك و بأبيك أسب عليا. فلما انقضي كلامي

قال: أحسبك غريبا؟ مل بنا الي الدار فان احتجت منزلا أنزلناك، أو الي مال واسيناك، أو الي حاجة عاوناك علي قضائها. فانصرفت من عنده، و ما علي الأرض أحد أحب الي منه. و يروي أنه احترق البيت الذي هو فيه و هو قائم يصلي، فلما انصرف (من الصلاة) قيل له: ما بالك لم تنصرف حين اشتعلت النار؟ قال: اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخري. و أنه لما حج و أراد أن يلبي أرعد، و اصفر و خر مغشيا عليه. فلما أفاق سئل فقال: إني لأخشي أن أقول: لبيك اللهم لبيك. فيقول: لا لبيك و لا سعديك - ثم لبي. فغشي عليه حتي خر عن راحلته... و كان يرحل من المدينة الي مكة فلا يقرع راحلته مرة واحدة! يقول الأصمعي «لم يكن للحسين (رضي الله عنه) عقب إلا من ابنه زين العابدين. و لم يكن لزين العابدين نسل إلا من ابنة عمه الحسن، فجميع الحسينيين من نسله». أما أكبر صدقته فبالليل. يقول: «صدقة السر تطفئ غضب الرب». و مع عظم مكانه كان إذا دخل المسجد تخطي الرقاب حتي يجلس في حلقة زيد بن أسلم، اذا كان هنالك. فيقول له نافع بن جبير بن مطعم: أنت سيد الناس... تأتي تتخطي خلق الله و أهل العلم من قريش حتي تجلس مع هذا العبد الأسود؟ فيجيب: «انما يجلس الرجل حيث ينتفع. و ان العلم يطلب حيث كان». فاذا جلس زين العابدين في المسجد جلس بين القبر و المنبر، و انعقدت حلقة كحلقة أبيه في روضة كرياض الجنة، يقول عنها القائل «اذا دخلت مسجد رسول لله (صلي الله عليه و آله و سلم) فرأيت حلقة كأن علي رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبدالله

مؤتزرا [ صفحه 132] الي أنصاف ساقيه». و لقد يتحدث مع سليمان بن يسار (107) مولي أم المؤمنين ميمونة الي ارتفاع الضحي. فإذا أراد أن يقوما قرأ عليهما عبدالله بن أبي سلمة سورة، فإذا فرغ عبدالله من التلاوة دعوا الله سبحانه. ولقد يدخل ابن شهاب الزهري (124) و صحبه فيسأله فيم كنتم؟ فيجيبه أنهم كانوا يتذاكرون الصوم و أنهم لم يروه واجبا إلا في رمضان فيقول السجاد (عليه السلام) - الصوم علي أربعين وجها. ثم يشرحها له وجها وجها: فمنها ما يجب، و منها ما هو بالخيار أو الإباحة... الخ. و في علمه يقول محمد بن سعد (صاحب الطبقات):«كان زين العابدين ثقة مأمونا كثير الحديث عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، عالما، و لم يكن من أهل البيت مثله» و يقول الزهري: «ما رأيت أفقه من زين العابدين لولا انه قليل الحديث.» و هذه الشهادة بالفقه من الشيخ مالك بن أنس تعلن رأي جيل التابعين. بل ان الزهري يعلن مكانة زين العابدين بين كل الأحياء بقوله: «ما رأيت قرشيا أفضل منه». قصد اليه يوما، و نفسه تكاد تبسل من ذنب ألم به، فرده الامام الي صميم الإسلام؛ قال: «قنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شي ء أعظم من ذنبك». و الشافعي الذي يقول في ابن شهاب الزهري: لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة» يضع زين العابدين (عليه السلام) في أعلي مكان. فيعده أعلم أهل المدينة. كان كثير البكاء من يوم كربلاء. فقيل له في ذلك فقال: «إن يعقوب عليه السلام بكي حتي ابيضت عيناه من الحزن علي يوسف - و لم يتحقق موت يوسف - و قد رأيت بضعة عشر رجلا من أهلي يذبحون في غداة واحدة». و ربما فسر لنا هذا المقال

بعض أسباب انصرافه الي تعليم المسلمين دينهم، لصلاح دنياهم، و إجماع المسلمين علي إجلاله. [35] . [ صفحه 133] و في سنة 94، سنة الفقهاء، مات جمع من فقهاء المدينة: عروة ابن الزبير، و السعيدان: ابن جبير و ابن المسيب، و أبوبكر بن عبدالرحمن. و ارتفعت فيها أو في سنة 95 روح زين العابدين (عليه السلام) الي الرفيق الأعلي... مخلفا أربعة عشر ولدا منهم عشرة رجال كبيرهم محمد، أبوجعفر، المكني بالباقر، و فيهم زيد بن علي.

الباقر

57 - 114 انصرف الامام الباقر (عليه السلام) للعلم بكله. فهذا أول دروس أبيه له. بقر العلم أي تبحر فيه، فسمي الباقر. روي علم أبيه وجديه الحسين و الحسن وجد أبيه - علي - (عليهم السلام) و جادل عبدالله [ صفحه 134] بن عباس. و عنه روي بقايا الصحابة و التابعين. سأل سائل عبدالله بن عمر في مسجد الرسول (صلي الله عليه و آله) فأشار الي حيث يجلس الباقر (عليه السلام) و قال: «اذهب الي هذا الغلام و سله و أعلمني عما يجيبك» فلما عاد اليه بالجواب قال: «انهم أهل بيت مفهمون». و روي عنه الفطاحل: أخوه زيد و ابنه جعفر الصادق، ثم الأوزاعي إمام الشام، و ابن جريح امام مكة، و أبوحنيفة، و عبدالله بن أبي بكر ابن حزم شيخ مالك إمام المدينة، و حجاج بن أرطاة (145)، و مكحول ابن راشد، و عمرو بن دينار (115)، و يحيي بن كثير (129)، و الزهري (124)، و ربيعة الرأي (136)، شيخا مالك، و الأعمش، و جابر الجعفي (128)، و زرارة بن أعين (150)، و الثلاثة الأخيرون من كبار علماء الشيعة و رواة ابنه جعفر الصادق (عليه السلام). يقول محمد بن المنكدر - شيخ مالك بن أنس - في الباقر (عليه السلام): «ما كنت

أري ان مثل علي بن الحسين يدع خلفا يقاربه في الفضل حتي رأيت ابنه محمدا الباقر». و ما هو في سجاياه إلا خليفة «السجاد»، يطوف بالبيت فيركع، و يسجد، فإذا مكان سجوده مبتل بالدموع. يقول عنه الحسن البصري: «ذلك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء». عايش الباقر (عليه السلام) أباه زمانا طويلا، و لم يمتحن محنة أبيه في كربلاء، أو محنة أخيه زيد إذ أخرجه أهل الكوفة و خذلوه، و لم تعتور حياته الامتحانات المتعاقبة التي اعتورت حياة ابنه - الامام الصادق - أو خلافات بني عمومته - أبناء الحسن - أو الإرهاب الفكري أو الفعلي من الخليفة المنصور؛ فأتيح للباقر أن يبلور اتجاه اهل البيت (عليهم السلام) - من نسل الحسين - الي العلم و التعليم، و يبرز فيه العناية بفقه العبادات و المعاملات. و كثر ترديد اسمه مصاحبا لاسم ابنه الإمام الصادق في كتب الفقه الشيعي. و اليه يرجع اصحاب الكلام في العقائد الشيعية، و كثير من الفقه المستنبط من القرآن و السنة. و روي عنه جابر الجعفي أكثر من خمسين ألف حديث، و روي عنه محمد بن [ صفحه 135] مسلم ثلاثين ألفا. و كان عبدالملك بن مروان يعرف له حقه، و هو في صدر شبابه، في حياة أبيه. اليك أمثالا لفكره في السياسة و الفقه و التفسير: - روي الكسائي: دخلت علي الرشيد فقال : هل علمت أول من سن الكتابة علي الذهب و الفضة؟ قلت عبدالملك بن مروان. قال ما السبب؟ قلت: لا أعرف. قال: كانت القراطيس للروم و كان أكثر من بمصر علي دينهم. و كانت تطرز (أبا و ابنا و روحا) و تخرج من مصر تدور في الآفاق. فأمر عبدالعزيز - و

كان عامله علي مصر - بإبطال ذلك، و أن تطرز بصورة التوحيد... مشهدا الله ألا إله إلا هو... فلما وصلت القراطيس الي ملك الروم كتب الي عبدالملك: إن لم يرد هذا الطراز علي ما كان عليه فسينقش علي القراطيس شتم النبي. فاستشار عبدالملك، فلم يجد عند أحد رأيا، فاستشار الباقر (عليه السلام). فقال له: لا يعظم عليك هذا الأمر من جهتين؛ الأولي: أن الله عزوجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم. و الثانية: أن تتهدد من يتعامل بغير دنانيرك. فلما علم ملك الروم أن دنانيره سيبطل التعامل بها إن حوت شتما، كف عما تهدد به. - و في الاحتكار و رفع الأسعار، يقول في مسجد الرسول: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «أيما رجل اشتري طعاما فكبسه أربعين صباحا، يريد غلاء المسلمين، ثم باعه فتصدق بثمنه، لم يكن كفارة لما صنع». - و اليمين عند الشيعة لا تنعقد إلا قسما بالله و أسمائه الحسني و صفاته الدالة عليه صراحة، فمن حلف بغيرها لا يحنث إذا لم يفعل. سئل الباقر (عليه السلام) عن قوله تعالي «و الليل إذا يغشي» «و النجم إذا هوي» و ما الي ذلك، فأجاب: إن لله عزوجل أن يقسم بما شاء من خلقه و ليس لخلقه أن يقسموا إلا به. - و سئل: أبالناس حاجة الي الإمام؟ فأجاب: أجل... ليرفع العذاب عن أهل الأرض. و ذكر قوله تعالي: «و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم». [ صفحه 136] تعاقب علي الخلافة في حياة الباقر (عليه السلام) أربعة من أبناء عبدالملك و زوج ابنته عمر بن عبدالعزيز - خامس الراشدين في مدة خلافته - و كان عمر يتردد علي

الامام الباقر يستنصحه؛ و الباقر يوصيه بالمسلمين أجمعين - فيقول له بين ما يقول: «أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولدا. و أوسطهم أخا. و أكبرهم أبا. فارحم ولدك. وصل أخاك. وبر والدك. فإذا صنعت معروفا فربه» أي تعهده. و كان نشر التشيع لأهل البيت همه. قال سعد الإسكافي: قلت لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): «اني أجلس فأقص و أذكر حقكم و فضائلكم» قال: «وددت لو أن علي كل ثلاثين ذراعا قاصا مثلك». و حج هشام بن عبدالملك في أيام ملكه (125 - 105) فرأي الباقر بالمسجد يعلم الناس في مهابة و جلال، تعاليم الإسلام و آدابه و فرائضه و أحكامه و الناس خشع في مجلسه. و غلبت هشاما غريزة المعاجزة لأهل البيت، فبعث اليه من يسأله: ما طعام الناس و شرابهم يوم المحشر؟ و أجابه الباقر (عليه السلام) بآيات الكتاب الكريم... و استطرد في تعليمه و تعليم من أرسله. و سمعه الحجيج - عامئذ - يقول للناس: «الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا. و أكرمنا به. فنحن صفوة الناس من خلقه و خيرته من عباده و خلفائه. فالسعيد من تبعنا. و الشقي من عادانا». و رجع هشام الي عاصمته... فأرسل في دعوة الباقر (عليه السلام)، و ابنه الصادق (عليه السلام)، الي قصبة الملك في دمشق. يقول الصادق (عليه السلام): «فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثا. ثم أدخلنا في اليوم الرابع». و كأنما أراد هشام أن يظهرهما علي أنه إذا لم تكن له مكانة في جوار البيت العتيق و مسجد الرسول أو كانت الكرامة كلها، في الحج الأكبر، لأهل البيت، فإن له بيتا في دمشق و حجابا و مواعيد. [ صفحه 137]

امام المسلمين

اشاره

ان الله أراد منا شيئا و أراد بنا شيئا. فما أراده بنا

طواه عنا. و ما أراده منا أظهره لنا. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا. الامام الصادق (عليه السلام) [ صفحه 139] ولد الامام الصادق (عليه السلام) في السابع عشر من ربيع الأول سنة 82 علي قول، أو غرة رجب. و في أقوال أخري انه ولد سنة 80 أو سنة 83. و تتابع بعده أبناء الباقر، و لهذا يكني الباقر أباجعفر. أما أخوه الشقيق فعبد الله. و أما أولاد الصادق فإسماعيل و عبدالله - و به يكني أبا عبدالله - و أم فروة من زوجته فاطمة بنت الحسين... بن الحسين بن علي، و موسي (الكاظم) و اسحق و محمد؛ و أمهم أم ولد، تدعي حميدة. و العباس و علي و أسماء من أمهات متفرقات. و اسم جعفر في بيت زين العابدين يذكر بأول الشهداء من بيت أبي طالب. فعلي هو الثاني فيه. و الحسين هو الثالث. أما الأول فجعفر بن أبي طالب قائد جيش مؤتة و شهيدها، الطيار في الجنة، و ذو الجناحين... كما وصفه رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) - و كما روي البخاري و مسلم: قال له رسول الله: «أنت أشبهت خلقي و خلقي». و هو أول زوج لأسماء بنت عميس [36] جدة أم فروة أم: جعفر الصادق (عليه السلام). و لقد مر بنا كيف ولده رسول الله مرتين، و علي مرتين، أبوبكر مرتين، ليدل التاريخ علي انه نسيج وحده، و ان كسري يزدجرد ملك الفرس قد ولده مرتين، ليدل [ صفحه 140] علي ان الإسلام للموالي و العرب. فالباقر - و هو من هو - أكفأ الناس لأم فروة [37] المنحدرة من صلب أبي بكر أول الخلفاء الراشدين، و القاسم بن محمد [38] الذي يرشحه للخلافة

عمر بن عبدالعزيز - خامس الخلفاء الراشدين. و كأنما سلم الباقر ابنه شعار حياته في مقولتين صيرتاه ربانيا من كل وجه؛ الأولي: «شيعتنا من أطاع الله». و الثانية «إن الله خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرن من الطاعات شيئا فلعل رضاه فيه. و خبأ سخطه في معصيته، فلا تحقرن من معصية شيئا فلعل سخطه فيه. و خبأ أولياءه في خلقه، فلا تحقرن أحدا فلعله ذلك الولي». تلقي الصادق (عليه السلام) من أبيه كل ما وعاه قلبه وقرأ كل ما حوته كتبه، و استمع الي علماء العصر، و انتفع بعلوم جده القاسم بن محمد بن ابي بكر (106)، و كان مثلا عاليا للأمة و واحدا من الأعمدة السبعة المسمين «علماء المدينة السبعة». [39] يعلن عمر بن عبدالعزيز أنه «لو لا خوف الفتنة من بني أمية لاستخلفه علي الأمة» و يوصي عمر عماله أن يكتبوا السنن من عنده. فهذا رجل له ورع عمر بن عبدالعزيز، و عنده كل علم المدينة، و انه ليستطيع أن يقول - من صلة علي الوثقي بأبيه محمد بن أبي بكر - إنه أوثق أهل بيته صلة برسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و بأول من تبعه، عليا كان أو أبا [ صفحه 141] بكر، بل بهما معا. و عندما نذكر ان القاسم بن محمد ظل مصدرا للعلم حتي شارف الصادق ربع القرن من حياته، و أن الصادق شهد حلقات عكرمة مولي ابن عباس، (104) و عطاء بن أبي رباح، بمكة حيث كان يجلس ابن عباس، و أن أوامر الولاة في الموسم كانت (لا يفتي الناس إلا عطاء)، كما شهد بالمدينة حلقة عبدالله بن أبي رافع - مولي أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) - الذي أملي علي عليه كتابه الي

معاوية، و حلق خاله عبدالرحمن بن القاسم، و عروة بن الزبير (94) الراوية عن خالته عائشة، و محمد بن المنكدر (130) شيخ مالك، فليس علينا أن نحاول البحث عما تلقاه جعفر بن محمد الصادق في صباه. و لقد كان علم أهل البيت (عليهم السلام) حسبه - فكيف إذا اجتمع اليه علوم هؤلاء، ليملأ بالفقه الشيعي و بالفقه المقارن مدينة الرسول، من يوم مات أبوه و هو بعد في ثلاثينياته. و الصبي من «أهل البيت» لا ينفق صباه في «عمل لا شي» فذلك هو اللهو، أو في «عدم عمل شي ء»، فهذا هو الفراغ... و علي الأجيال المتعاقبة منهم تبعات في تعاقب الإمامة، لا تدع لهم محيصا عن الإحاطة الكاملة بما لدي غيرهم من علم، فوق علمهم، و ما هو إلا القرآن و السنة و السيرة؛ و القرآن كما يقول ابن عباس «في بيتهم نزل»، و السنة من بيتهم صدرت، و السيرة سيرتهم. و اللغة طريق ذلك كله، و هي بعد حصيلته. و إنك لتدرك منزلة جعفر بن محمد (عليهماالسلام) في البيان العربي من تداوله للتفسير في اقتدار علي تخريج المعاني لا قرين له. و سنراه غدا عمدته النصوص في الفقه و الدين، يستخرج منها أعمق المعاني بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، شأن أمراء البيان. و من تكن النصوص عمدته الأولي، فالبلاغة عدته الكبري. و لئن لم يتميز الأطفال أو الصبية في بيت زين العابدين و الباقر بخصوصيات تكبر و تنمو فتبرز إذ هم شيوخ و أئمة، إن بيت زين العابدين ذاته كان «خصوصية» في [ صفحه 142] مجتمع الاسلام... فيه المثل الأعلي من العلم المحيط و الورع الكامل و التفرغ للخدمة العامة، و تعلق القلوب به، و اتجاه الأبصار تلقاءه. علي هذا

درج بيت زين العابدين (عليه السلام)، مع الاستمرار و الاستقرار، فلم يعكر الصفو فيه غير مصرع زيد في سنة 121، بعد إذ خذله أهل الكوفة في ثورته، فمصرع ابنه يحيي. و حمل الصادق الأمانة في ذوي رحمه - منذ صار إماما برحيل الباقر سنة 114 - فكان يحنو علي الأحياء من أبناء عمه زيد، و يأسو جراحات من سقط آباؤهم في الحرب من رجال زيد، فبعث ألف دينار فرقت في ورثتهم. و ليس أحد بحاجة في ترجمة أئمة أهل البيت ليسترسل في وصف خصال من يرث أخلاق الأنبياء و يعلمها. فلنستحضر - و نحن في بيت النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) - ما كان يصنعه النبي، و لنتيقن أن الامام الصادق كان يحاول أن يصنع نظيره. و لنستحضر فعال علي و زهراء النبي، و الحسن و الحسين، و زين العابدين، و الباقر (عليهم السلام)؛ فهي أصول يتلقاها الخلف عن السلف، ليعملوا بها، ثم يعلموا بها. و ربما أجزأ في هذا المقام ذكر أمثال عادية من الحوادث اليومية تصور صميم «الشخصية»... و فيما نذكره دلائل علي كثير لم نذكره. فحياة الامام مدرسة و تطبيقاتها، و العمر أيام تتكرر. و الحياة جماع أعمال يدل بعضها علي البعض الآخر؛ و منها الجزئي الذي يستنبط منه الكلي. و كثيرا ما كان العمل الواحد (رد فعل) عفوي أو فوري، صادرا عن عدة قواعد يجري عليها العقل أو الشعور أن السليقة أو الطريقة - فردود الأفعال شهادات عيان بدخائل الإنسان. 1 - مات بين يدي الامام ولد صغير، فبكي، و قال «سبحانك ربي لئن أخذت لقد أبقيت. و لئن ابتليت لقد عافيت». و حمله الي النساء، و عزم عليهم ألا يصرخن، و قال

«سبحان من يقبض أولادنا و لا [ صفحه 143] نزداد له إلا حبا. إنا قوم نسأل الله ما نحب فيعطينا. فإذا نزل ما نكره فيمن نحب رضينا». فأي قلب، في اطمئنانه و اتزانه، كمثل ذلك الذي يفيض بالشكر، حيث يغيض الصبر عند الغير! 2 - و نهي أهل بيته عن الصعود - فدخل يوما فإذا جارية من جواريه تربي بعض ولده، قد صعدت السلم، و الصبي معها. فلما نظرت الإمام ارتعدت لعصيانها و سقط الصبي من يدها، فمات. فخرج الصادق (عليه السلام) متغير اللون. فسئل عن ذلك فقال: «ما تغير لوني لموت الصبي، و إنما تغير لوني لما أدخلت علي الجارية من الرعب». ثم قال لها بعد ذلك: «أنت حرة لوجه الله. لا بأس عليك». فهذا أمر واحد عادي، تبعته وقائع ثلاثة غير عادية، أعقبها من الإمام تصرفات لا تصدر إلا عن الإمام؛ في كل واحدة منها أنواع فضائل... تبدأ باحترام إنسانية الانسان، و تنتهي بعطاء دونه كل عطاء، يختمه بالكلمة الطيبة - لا بأس - و يبدؤه بأعلي القيم الإنسانية، إذ يمنحها حريتها. 3 - و ذهب مرة يعزي أحد المصابين بفقد ولد، و انقطع في الطريق شسع نعله، فتناوله من رجله و مشي حافيا، فخلع ابن يعفور شسع نعله و قدمه له. فأعرض عنه كهيئة المغضب و قال: لا. فصاحب المصيبة أولي بالصبر عليها... فالإمام (عليه السلام) لا يلقي متاعبه علي من دونه، بل يتحمل الأذي ليتعلم الناس وجوب العمل، و لزوم التحمل، و ليعلم الكبراء أنهم كبراء بما يضربونه من المثل العليا، و ليدرك الجميع أن الصبر علي المصيبة شطر الإيمان. و أحق الناس به من أتيحت الفرصة له. 4 - و ذات يوم دعا للطعام

عابر سبيل لم يقرئه السلام، فراجعه حضاره متسائلين بين يديه: أليست السنة أن يسلم الرجل أولا، ثم يدعي للطعام؟ فأجاب الإمام (عليه السلام): «هذا فقه عراقي فيه بخل». [ صفحه 144] ففقه الامام «علوي» يبدأ بالعطاء... و عملي فيه مبادرة... و اجتماعي يسعي به المعطي الي الآخذ... و إسلامي، إنساني، كله كرامة. لقد ولد في دار شعارها البدار بالعطاء مع الإخفاء... حتي الصدقة يقول فيها الباقر (عليه السلام): «أعط و لا تسم. و لا تذل المؤمن». و في ذلك السنة... و سنري تطبيقات شتي من الإمام لهذا الفقه من المنهج الاقتصادي... 5 - و صحا رجل من الحاج فلم يجد هميانه (الكمر الذي يلفه المحرم حول بطنه و فيه نفقته من النقود) فخرج فوجد الامام الصادق (عليه السلام) يصلي فتعلق به و هو يقول: أنت أخذت همياني... قال الصادق (عليه السلام) كم كان فيه؟ قال: ألف دينار. فأعطاه ألف دينار. و مضي الرجل فوجد هميانه فعاد يعتذر و يرد الألف دينار. فأبي الصادق أن يأخذها و قال: شي ء خرج من يدي فلا يعود. قال الرجل لمن حوله : من هذا؟ قالوا: جعفر الصادق. قال: لا جرم هذا فعال مثله. فإمام المسلمين لا ينعزل عنهم، فلا ينماز منهم، حتي ليخطئ الجاهلون منهم في شخصه. فيعرض عن الجاهلين. و يخف ليخفف كرب المكروب، لا يحزنه و همه أو اتهامه، و انما تحزنه همومه، فيشركه فيها بالصنيع النابه مرة إثر أخري. و الناس أسمع للصوت الذي لا صرير له، و أبصر بالإخلاص الذي لا يتصايح صاحبه به. و الأفضال أفعال تدرك آثارها الحواس الخمس. و لا نستطرد في السرد، ففي كل واقعة سلفت «عدسة» صغيرة تريك العالم الكبير [ صفحه 145] الذي

وراءها، من مناقب كالنجوم و ان كان أصحابها من البشر. هذه سماء تسعي علي الأرض. و هؤلاء بقية النبي عليه الصلاة و السلام، يعيشون في الدنيا!

مجالس العلم

شهد الامام الصادق (عليه السلام) انحدار الناس بعد عصر الخلفاء الراشدين، و رأي بعين الصبي المأمول من أهل بيت الرسول ما صنعه عمر بن عبدالعزيز في خلافته بين سنتي 98، 101 إذ أعاد الدين غضا في نحو من ثلاثين شهرا، و أثبت للدنيا، أن (المدة) كما سمي الناس خلافته، كانت كافية لتعيد الناس الي الاسلام الصحيح عندما يوجد خليفة صادق العزم، يتخذ الخلافة - كما قال - سبيلا الي الجنة. و كان بعض الصالحين يستعجلون عمر ليصنع كل ما صنع في أول يوم ولي الخلافة. قال له ابنه عبدالملك، «يا أبت ما بالك لا تنفذ الأمور، فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي القدور»، لكن عمر كان يتأتي للأمور في رفق و اناة و إصرار. قال: «لا تعجل يا بني ان الله تعالي ذم الخمر مرتين، و حرمها في الثالثة. و إني أخاف أن أحمل الناس علي الحق جملة، فيدفعوه جملة، فتكون فتنة». و بهذا قدر علي أن يرد المظالم و أغني الله الناس علي يديه. فأصبح عمر لا يجد فقراء يوزع المال عليهم في المدينة أو في القرية. لكن الامام «الصادق» (عليه السلام) تعلم من حياة الخليفة الصادق العزم: أن إصلاحاته لم تؤت ثمارها بعد مماته، إذ دمرها الخلفاء الذين جاءوا من بعده، و تتابع الباقون يدمرون. و شهد الامام الصادق ظهور بني العباس و كيف ناقضوا شعارات دولتهم و حكموا حكم الجاهلية. هكذا رأي رأي العيان ان صلاح الأمر لا يكون بتولي السلطة، أو بمجرد إصلاحها [ صفحه 146]

مدة قصيرة أو طويلة. و كل عمر قصير، و انما الصلاح في إصلاح الأمة... فكيفما تكونوا يولي عليكم... و لكل امة الحكومة التي تستحقها... و استيقنت نفسه الصواب فيما صنعه أبوه وجده، و هو أن يعلموا الأمة، فإذا تعلمت صلحت فلم يستضعفها حكامها... و هي عندئذ تأمرهم بالمعروف و تنهاهم عن المنكر و تشركهم تبعاتهم. فالأمة القوية لا تظلم حكامها و لا يظملونها. و بشعار الثقة بالله سبحانه «الله وليي و عصمتي من خلقه» و بنقش الخاتم الذي يعلن مصدر قوته: (ما شاء الله. لا قوة إلا بالله. استغفر الله) قصد الي مجلس العلم، في مسجد النبي أو في داره، يستعمل البعد المكاني، حيث يجلس للتعليم في مدينة الرسول، و البعد الزماني؛ فهو تابعي يعيش في جيل التابعين و تابعي التابعين، و البعد الثالث و هو ارتفاع نسبه الي النبي و علي. أما البعد الرابع فعمق علمه و علم أبيه وجده (عليهم السلام). في هذا المجلس المهيب بالمدينة أو بالكوفة، يجلس رجل ربعة... ليس بالطويل و لا بالقصير... أزهر له لمعان كالسراج... يسعي نوره بين يديه... رقيق البشرة، أسود الشعر جعده، أشم الأنف، أنزع قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهرا، له إشراق، و علي خده خال أسود - المسلمون أيامئذ أحوج اليه ليعلمهم، منهم اليه ليحكمهم... كل ما يحيط به يوحي بالرجاء في فضل الله. فلما طعن في السن ازداد جلالا وسناء و إحياء للأمل. يلبس الملابس التي عناها جده عليه الصلاة و السلام حينما قال: «كلوا و اشربوا و البسوا في غير سرف و لا مخيلة». رآه سفيان الثوري و عليه جبة خز دكناء فقال: يابن رسول الله ما هذا لباسك! فقال: «يا ثوري!

لبسنا هذا لله، ثم كشف عن جبة صوف يلبسها، و قال: و لبسنا هذا لكم». كان جده علي (عليه السلام) يختار الخشن من الثياب... و يلح الجوع عليه فيعلل معدته [ صفحه 147] بقرص شعير. يخيط نعله إن لم يكن مشغولا، أو يتركه لمن يخيطه بأجر اذا انشغل. لكن الزمان يتغير فيغير الصادق (عليه السلام) ليظهر أثر النعمة. و يقول للناس: «إذ أنعم الله علي عبده بنعمة أحب أن يراها عليه لأن الله جميل يحب الجمال». و يقول: «إن الله يحب الجمال و التجمل. و يكره البؤس و التباؤس...». و النظافة من الايمان. فيها الكرامة و السلامة للنفس و للأسرة و للمدينة. فعلي المرء كما يقول الإمام: «أن ينظف ثوبه و يطيب ريحه و يجصص داره و يكنس أفنيته». و ذات يوم رآه «عباد بن كثير البصري» في الطواف فقال له: تلبس هذه الثياب في هذا الموضع و أنت في المكان الذي أنت فيه من علي؟ فأجاب - كما يروي الامام نفسه - «فقلت: فرقبي - نسبة الي (فرقب ) حيث تصنع ثياب كتان أبيض - اشتريته بدينار. و قد كان علي في زمن يستقيم له ما لبس فيه. ولو لبس مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس: هذا مرائي مثل (عباد)...». قيل له يوما: كان أبوك و كان... فما لهذه الثياب المروية (نسبة الي مرو) فأجاب: ويلك فمن «حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق»؟ و إنك لتري آثار النعمة علي مالك و أبي حنيفة، و إجابات مشتقة بدقة من هذه الإجابات، في ردود الرجلين بشأن ملابسهما و أنعم الله عليهما - و كان كلاهما لباسا - فالمذموم من الثياب ما فيه خيلاء، و

المحمود ما كان إظهارا لنعمة الله علي عبده. حتي تلميذه الثالث سفيان الثوري - و هو إمام الزهد و الورع و الحديث و الفقه - قد انتفع بدروس الإمام (عليه السلام) في الملبس فأمسي يقول: الزهد في الدنيا هو بقصر الأمل... ليس بأكل الخشن و لا بلبس الغليظ. أزهد في الدنيا ثم نم. لا لك و لا عليك. إن الرجل ليكون عنده المال و هو زاهد في الدنيا. و ان الرجل ليكون فقيرا و هو راغب فيها. و كان الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) يلبس ما تيسر من الصوف تارة و من القطن تارة و من الكتان تارة. و كانت مخدته من أدم حشوها ليف نخل. و لما قال له رجل يا رسول الله انا [ صفحه 148] أحب ان يكون ثوبي حسنا و نعلي حسنة، أفمن الكبر ذاك؟ قال: «لا. ان الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق و غمط الناس». و لم يعب الصحابة بعضهم علي بعض الملابس من أعلي و أدني. لا يعيب صاحب الخز علي صاحب الصوف و لا صاحب الصوف يعيب علي صاحب الخز. في هذا المجلس تتلمذ للامام جعفر (عليه السلام) و روي عنه - كما يقول أرباب الإحصاءات - أربعة آلاف من الرواة و كتب عنه أربعمائة كاتب؛ كلهم يقول: قال جعفر بن محمد. فأي مجلس كان ذلك المجلس! تتراءي فيه أشياء من رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، بعضها مادي يجري في أصلاب رجل بعد رجل، و بعضه معنوي يتراءي في معانيه و فحوي مقولاته، لكل هؤلاء. ليس بالمجلس لجاجة و لا حجاج عقيم. يقول للتلامذة: «من عرف شيئا قل كلامه فيه. و

إنما سمي البليغ بليغا لأنه يبلغ حاجته بأدني سعيه». إذا سأل سائل عن خلافات الصحابة أجاب: «علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسي». يهتدي بهديه الكبراء في الامتناع عن الجواب في خلاف الصحابة. يقول أحمد بن حنبل إذ يسأل عما كان بين الصحابة: كان بينهم شي ء الله أعلم به. و مع ذلك يعجب و يتساءل عن طلحة و الزبير: أكانا يريدان أعدل من علي؟ و لا يضيع الحق في المجلس: سمع أن أحد الولاة نال من أميرالمؤمنين علي (عليه السلام)...! فوقف الصادق فقال: «ألا أنبئكم بأعلي الناس ميزانا يوم القيامة و أبينهم خسرانا؟ من باع آخرته لغيره. و هذا هو الفاسق». و عرف الناس الفاسق الذي باع آخرته لمن يشتهون أن يقدح لهم في علي بن أبي طالب (عليه السلام). و المقياس عند صاحب المجلس هو الإخلاص لله و الرسول. يقول و يروي عن [ صفحه 149] آبائه عن أميرالمؤمنين علي: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «لا قول إلا بعمل و لا قول و لا عمل إلا بنية. و لا قول و لا عمل و لا نية إلا بإصابة السنة». و القاعدة هي المساواة بين الناس، مساواة فطرية - مهما اختلفت العقائد و الأجناس - يقول: «الناس في آدم مستوون». حتي عبدة النار يقول فيهم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب». و للنساء و البنات عنده المكانة العالية... قياما بوصية جده بالنساء في آخر خطبه عليه الصلاة و السلام - روي الجارود بن المنذر: قال لي أبوعبدالله الصادق (عليه السلام): «بلغني أن لك ابنة فتسخطها. ما عليك منها؟ ريحانة تشمها. قد كفيت رزقها. و قد كان رسول الله أبا بنات». و

أي مثل في الاسلام كمثل رسول الله. و أي نعمة أن يكون للمرء ريحانه أو رياحين! و أي فضل كفضل البنات يكفي رزقهن الله! يقول الصادق (عليه السلام): «إن إبراهيم سأل ربه ابنة تبكيه و تندبه بعد موته». لينبه علي بقاء الوفاء في أفئدة البنات بعد الممات. و من الدروس الأولية في هذا المجلس تعليم الناس أن يسعوا لعمارة الدنيا بالعمل للرزق، و مجانبة الخلائق الفاقرة بالتواكل، أو البطالة. و بهذا المبدأ أصبح المجتمع الشيعي مجتمع العاملين، و بلغ حظه - حيثما كان - من النماء، و الاستغناء، و الانتفاع بما منحه الله للبشر من مواهب، و أتاح لهم من وسائل. جاء مجلس الامام (عليه السلام) يوما جماعة من الزهاد يريدون منه إظهار التقشف و الزهد الكامل. فقال لهم: (حدثني أبي أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «ابدأ بمن تعول. الأدني فالأدني». هذا ما نطق به الكتاب ردا لقولكم... قال العزيز الحكيم «و الذين اذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما». أفلا ترون أن الله تعالي قال غير ما أراكم تدعونني اليه؟... [ صفحه 150] فنهاهم عن الإسراف و نهاهم عن التقتير. فلا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له؛ للحديث الذي جاء عن النبي: (ان اصنافا من أمتي لا يستجاب دعاؤهم: رجل يدعو علي والديه. و رجل يدعو علي غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه و لم يشهد عليه. و رجل يدعو علي زوجته و قد جعل الله تخلية سبيلها بيده. و رجل يقعد في بيته و يقول رب ارزقني، و لا يطلب الرزق، فيقول الله عزوجل: يا عبدي ألم

أجعل لك السبيل الي الطلب... ألم أرزقك رزقا واسعا؟ فهلا اقتصدت كما أمرتك و لم تسرف فيه و قد نهيتك عن الإسراف. و رجل يدعوني في قطيعة رحم...) ثم علم الله عزوجل كيف ينفق فقال: «و لا تجعل يدك مغلولة الي عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا». فهذه أحاديث رسول الله يصدقها الكتاب؛ و الكتاب يصدقه أهله من المؤمنين... و فيهم سلمان الفارسي و أبوذر رضي الله عنهما: فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته حتي يحضر عطاؤه من قابل. فقيل له: يا أبا عبدالله أنت في زهدك تصنع هذا و أنت لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا؟ فكان جوابه انه قال: ترجون لي البقاء و قد خفتم علي الفناء. أما علمتم أن النفس قد تلتاث علي صاحبها ما لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا أحرزت معيشتها اطمأنت. و أما أبوذر فكانت له نويقات و شويهات يحلبها، و يذبح منها اذا اشتهي اللحم، أو نزل به الضيف... و من أزهد من هؤلاء و قد قال فيهما رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ما قال... و لم يبلغا من الزهد أن صارا لا يملكان شيئا البتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم و شيئهم... و يؤثرون علي أنفسهم و عيالهم...). فالإمام (عليه السلام) يريد مجتمعا عاملا، متواصلا، فيه قصد وجد، فبهذا يعين الله من يعين نفسه من عباده. [ صفحه 151]

التلاميذ الأئمة

كان سفيان الثوري إمام العصر في الورع و السنن و الفقه، للعراق كافة. و كانت له في مجابهة الخليفة مواقف لا يمل الحديث فيها. و كان لكثير من رواد المجلس كسفيان مكانة في المسلمين؛

منهم عمرو بن عبيد الذي نشأت علي يديه فرقة المعتزلة، و أبوحنيفة، و محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلي (ترب أبي حنيفة)، و إمام المدينة مالك بن أنس. و أبوحنيفة هو الإمام الأعظم لأهل السنة. و مالك أكبر من تلقي عليه الشافعي علما، و أطولهم في تعليمه زمانا. و الشافعي شيخ أحمد بن حنبل. و كمثلهم كان المحدثون العظماء : يحيي بن سعيد محدث المدينة و ابن جريح و ابن عيينة محدثا مكة. و ابن عيينة و هو المعلم الأول للشافعي في الحديث. فلندع للأئمة وصف مكانهم من الامام - و فيه وصف مجالس علمه. يقول مالك بن أنس: «كنت أري جعفر بن محمد، و كان كثير الدعابة و التبسم. فإذا ذكر عنده النبي اخضر و اصفر. و لقد اختلفت اليه زمانا فما كنت أراه إلا علي ثلاث خصال؛ إما مصليا و إما قائما و إما يقرأ القرآن. و ما رأيته يحدث عن رسول الله إلا علي الطهارة. و لا يتكلم فيما لا يعنيه. و كان من العلماء و العباد و الزهاد الذين يخشون الله. و ما رأيته قط إلا و يخرج و سادة من تحته و يجعلها تحتي». و في مقولة أخري يضيف مالك: «و كان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد، إذا قال (قال رسول الله) اخضر مرة و اصفر أخري حتي ينكره من يعرفه. و لقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الإحرام، كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، و كاد أن يخر عن راحلته. فقلت: يابن رسول الله! أو لابد لك أن تقول! قال: كيف أجرؤ أن أقول لبيك و أخشي أن يقول الله عزوجل: لا لبيك و لا سعديك»... و إنا لنذكر

ما كان يصنعه جده زين العابدين في هذا المقام. [ صفحه 152] و أصبح مالك إذا ذكر النبي اصفر لونه. فإذا تساءل جلساؤه قال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون. و يذكر لهم حال ابن المنكدر [40] ثم يعقب حال جعفر. إنما كان مالك يجد ريح الرسول في مجلس ابن بنته... و يحس، أو يكاد يلمس، شيئا ماديا، يتسلسل من الجد لحفيده، و أشياء غير مادية تملك اللب و القلب: فالرؤية متعة و السماع نعمة... و الجوار - مجرد الجوار - تأديب و تربيب... و في كل أولئك طرائق قاصدة الي الجنة. و صاحب المجلس طهر كله. لا يتحدث عن جده إلا علي الطهارة. يقول: «الوضوء شطر الإيمان». و من أجل ذلك لم يعد الوضوء عنده أو في مذهبه، مجرد وسيلة لغيره - أي للصلاة - بل أمسي مستحبا لذاته كالصلاة المستحبة... يتهيأ به المتوضئ لدخول المساجد، و قراءة القرآن، بل الزوجان ليلة زفافهما، و المسافر الي أهله... و القاضي ليجلس للقضاء، و الإمام الذي يفتي أو يعلم. و ما هو بدع أن يشغف به مالك - و هو الأموي بهواه - فإنما هو حب الرسول و أهل بيته. فحبهم ايمان. و ما كان تعبير مالك إلا حبا، و هو - بعد - التلميذ النجيب لفقهاء بني تيم (قبيلة أبي بكر) سواء كانوا من مواليهم - كربيعة الرأي - أو من أنفسهم كمحمد بن المنكدر، أو أمهم منهم، كالإمام جعفر (عليه السلام). و أبوبكر الصديق يقف في قمة التاريخ العلمي لمصادر مالك باتباعه و اجتهاده و أبنائه و بني تيم. تعلم مالك الكثير من السلوك علي الامام جعفر الصادق (عليه السلام) فكان إذا حدث لا يحدث إلا علي

الطهارة. و يحمي مجلسه ممن يخرجونه عن قصده. كما يكرم [ صفحه 153] تلامذته. بل صار إماما لليسر الذي تتمثل فيه خصائص المدينة. و أمسي عنوانا علي العلم: فإذا خاصم السلطة خاصمها من أجل النزاهة العلمية فحسب. و في منهجه الاحتفال الكامل بالواقع. و في طريقته العمل للرزق، حتي لا يحتاج لأحد؛ مما يعبر عن اقتداء كامل بالإمام الصادق (عليه السلام). و كهيئة الإمام الصادق، لم يجار فقهاء العراق في قولهم أرأيت أرأيت. أي افتراض الفروض و استباق الحوادث و إبداء الرأي فيما لم يحدث حتي سماهم خصومهم (الأرأيتيين). و من رضا الامام (عليه السلام) عن التلميذ كان «الصادق» يشير بإتيان حلقة مالك. روي عنوان البصري أنه كان يختلف الي الامام جعفر يتعلم عليه فغاب الإمام عن المدينة فاختلف الي مالك سنتين ثم عاد الصادق فعاد عنوان الي مجلسه. فنصحه أن يجلس الي مالك. و لقد يدخل الامام المسجد - فيقدم اليه تلميذ من تلاميذه ابن أبي ليلي (148) قاضي الكوفة. فيقول الامام: أنت ابن أبي ليلي القاضي؟ و يجيب: نعم. فينبهه الامام علي جلال خطر القضاء بقوله: «... تأخذ مال هذا و تعطيه هذا. و تفرق بين المرء و زوجه لا تخاف في ذلك أحدا... فما تقول إذا جي ء بأرض من فضة و سماء من فضة ثم أخذ رسول الله بيدك فأوقفك بين يدي ربك فقال: يا ربي هذا قضي بغير ما قضيت!» و اصفر وجه ابن أبي ليلي مثل الزعفران. لكنه خرج من المسجد مزودا بزاد من خشية الله زوده به ابن رسول الله. و لما سئل مرة: أكنت تاركا قولا أو قضاء لرأي أحد؟ أجاب: لا، إلا لرجل واحد؛ هو جعفر بن محمد الصادق. و ابن أبي ليلي قاضي

بني أمية و بني العباس. و هم أعداء الامام. في هذا المجلس بالمدينة، أو بالكوفة في إحدي سفرات الامام جعفر (عليه السلام) الي [ صفحه 154] العراق، دخل أئمة الكوفة مجتمعين: أبوحنيفة و ابن أبي ليلي و ابن شبرمة (144) علي الامام جعفر. فجعل الصادق ينبه أباحنيفة مكتشف أداة «القياس»، علي خطرها في حضور العالمين الآخرين. و في مواجهة هذين يقول الامام الصادق (عليه السلام) لأبي حنيفة: «اتق الله و لا تقس الدين برأيك». و لقد يكون أبوحنيفة في حلقته بالكوفة أو في المدينة فيقف عليها الإمام الصادق، و لا تقع عليه عين أبي حنيفة، فإذا لمحته عيناه هب أبوحنيفة واقفا و هو في مجلس الدرس، فقال: «يابن رسول الله - لو شعرت بك أول ما وقفت ما رآني الله أقعد و أنت قائم» ليشهد الله علي دخيلة نفسه أنها لا تقبل الجلوس و الامام قائم و أبوحنيفة (150 - 80) أكبر عمرا من الامام الصادق (عليه السلام). لكن الصادق يشد أزره بعبارات مشجعة، فيقول له: «اجلس يا أباحنيفة فعلي هذا أدركت آبائي» يريد بذلك إعظام مجالس العلم، و وقوف الجميع و جلوس الاستاذ. انقطع أبوحنيفة الي مجالس الامام طوال عامين قضاهما بالمدينة، و فيهما يقول: «لو لا العامان لهلك النعمان» - و كان لا يخاطب صاحب المجلس إلا بقوله «جعلت فداك يابن بنت رسول الله». و لقد يتحدي الامام الصادق (عليه السلام) في مجلسه أباحنيفة ليختبر رأي صاحب الرأي فيسأل: ما تقول في محرم كسر رباعية الظبي. و يجيب أبوحنيفة: يابن رسول الله لا أعلم ما فيه. فيقول له الامام الصادق (عليه السلام): أنت تتداهي. أولا تعلم أن الظبي لا تكون له رباعية! فإذا جاء ابن شبرمة وحده يسأل عما لم يقع - كدأب تلاميذ أبي حنيفة

و مدرسة الكوفة - لم يتردد الامام في دفعه، بالحسني: ذهب اليه ذات يوم يسأله عن القسامة في الدم فأجابه بما صنع النبي. فقال ابن شبرمة: أرأيت لو أن النبي لم يصنع هذا، كيف كان القول فيه؟ فأجابه: أما ما صنع النبي فقد أخبرتك به. و أما مالم يصنع فلا علم لي به. [ صفحه 155] و الصادق (عليه السلام) عليم بالاختلاف بين آراء الفقهاء، أي بعلم المدينة و علم الشام و علم الكوفة، و هو يروي عشرات الآلاف من الأحاديث، في حين كانت قلة ما سلمه أهل العراق من الحديث آفة علمائه. حتي صوبهم الشافعي في نهاية القرن، بالقوة التي لا نزاع فيها لخبر الواحد، و بوضع قواعد القياس. و الحسن بن زياد اللؤلؤي يعلن رأي صاحبه في إحاطة الامام الصادق فيقول: «سمعت أباحنيفة و قد سئل عن أفقه الناس ممن رأيت فقال: جعفر ابن محمد». و لما استفتي أبوحنيفة في رجل أوصي «للإمام»، بإطلاق الوصف، قال انها لجعفر بن محمد. فهذا إعلان لتفرده بالإمامة في عصره. و لم تكن السنتان اللتان حيي بسببهما النعمان بن ثابت (أبوحنيفة) و لم يهلك، إلا تكملة لسنين سابقة كان يتدارس فيها فقه الشيعة. و من ذلك كان يشد أزر زيد بن علي في ثورته علي هشام بن عبدالملك. و قيل مال الي محمد و ابراهيم (ولدي عبدالله بن الحسن) في خروجهما علي المنصور. و ان قد جاءته امرأة تقول: ان ابني يريد الخروج مع هذا الرجل - في إبان خروج إبراهيم - و أنا أمنعه. فقال لها: لا تمنعيه. و يروي أبوالفرج الأصفهاني عن أبي اسحق الفزاري: جئت الي أبي حنيفة فقلت له: أما اتقيت الله؟ أفتيت أخي بالخروج مع ابراهيم حتي

قتل!! فقال: «قتل أخيك حيث قتل، يعدل قتله لو قتل يوم بدر. و شهادته مع ابراهيم خير له من الحياة». و لئن كان مجدا لمالك ان يكون أكبر أشياخ الشافعي، أو مجدا للشافعي أن يكون أكبر أساتذة ابن حنبل، أو مجدا للتلميذين أن يتلمذا لشيخيهما هذين، إن التلمذة للامام الصادق قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة. أما الامام الصادق فمجده لا يقبل الزيادة و لا النقصان؛ فالإمام (عليه السلام) مبلغ للناس، كافة، علم جده عليه الصلاة و السلام... و الإمامة مرتبته... و تلمذة أئمة السنة له تشوف منهم لمقاربة صاحب المرتبة. لقد يجي ء للمناظرة عمرو بن عبيد (144) زعيم المعتزلة، الذي لم يضحك أبوحنيفة طول حياته بعد أن قال له عمرو إذ ضحك مرة في إبان مناظرته: يافتي [ صفحه 156] تتكلم عن مسألة من مسائل العلم و تضحك؟، و الذي يبلغ من وقاره أن يراه الرائي فيحسبه أقبل من دفن والديه. فإذا انتهي الكلام قال عمرو للإمام: «هلك من سلبكم تراثكم و نازعكم في الفضل و العلم». و يجي ء إمام خراسان عبدالله بن المبارك، و هو إمام فقه، و بطل معارك... تتلمذ للإمام زمانا، و لأبي حنيفة، فتعلم ما جعله يخفي بطولاته في الفتوح «لأن من صنعها لأجله - سبحانه - مطلع عليها». [41] و في الإمام جعفر شعره الذي ورد فيه: أنت يا جعفر فوق ال مدح و المدح عناء إنما الأشراف أرض و لهم أنت سماء جاز حد المدح من قد ولدته الأنبياء فإذا كان الصادق (عليه السلام) في مواجهة مع المنصور، حيث القادة و العلماء يجلسون علي مبعدة منه، فإن مجلس الإمام عن يمينه... حتي ولو دعاه يخوفه. فلقد طالما انتهت اللقاءات بالموعظة

يلقيها الامام من حديث رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و لحديث رسول الله شرف المجلس، و لابن رسول الله شرف من رسول الله. ولو جلس الصادق علي مبعدة أو مقربة من الخليفة، لكان الشرف حيث يجلس. و ربما قربه الخليفة ليلتمس لنفسه القربي الي الناس في الدنيا، و يوم لا تملك نفس [ صفحه 157] لنفس شيئا، و عندما تلتمس الشفاعة. و أبوجعفر المنصور يقر بمكانه من العلم و التقوي مع ضيق صدره بمكانته في الأمة. يقول: «هذا الشجي المعترض في حلقي أعلم أهل زمانه. و إنه ممن يريد الآخرة لا الدنيا». و من نص الإقرار ما يدل علي ان مجلس الصادق للعلم، لم يكن ليسلم من مراقبة أعوان السلطان، و صاحب المجلس شجي معترض في حلقه. و هو قد ينبئ عن أن الفرصة متاحة للإمام ليلقي دروسه، مع الحيطة الواجبة، حتي لا يغص الخليفة بريقه مما ينقل اليه، و ان كان المؤكد ان مجرد وجود الإمام كان فيه الشجي المعترض.

كل العلوم

و المجلس مورد عذب كثير الزحام - لكل فيه ما يغنيه - فالإمام (عليه السلام) في مجلسه الرفيع يروي السنة عن آبائه. و ما يقوله يجري عند الشيعة مجري الأصول. فإذا أبدي الرأي في واقعة معينة جعله الشيعة مجعل السنة و التزموها باعتبارها نصا عنه. أما أهل السنة فيأخذونه مأخذ اجتهاد الأئمة. و اللسان العربي علم العلوم. و امام المسلمين إمام في البلاغة العربية، عبر عن اسلوبه أبوعمرو بن العلاء حين قال عن أساليب العربية: «العرب تطيل ليسمع منها و توجز ليحفظ عنها». و عند الصادق (عليه السلام) لكل مقام مقال... يسهب و يستطرد كما ستقرأ بعد، أو يوجز ليحفظ عنه

و يتذوق منه، بحروف لها جرس في الأذن و نغم في الفم؛ كأن يقول: «لا تصل فيما خف، أو شف». و كلاهما كاشف. و يجري علي لسانه الشعر الرفيع مثل الذي يرويه عنه سفيان الثوري: لا اليسر يطرؤنا يوما فيبطرنا و لا لأزمة دهر نظهر الجزعا إن سرنا الدهر لم نبهج لصحبته أو ساءنا الدهر لم نظهر له الهلعا مثل النجوم علي مضمار أولنا إذا تغيب نجم، آخر طلعا [ صفحه 158] أو مثل قوله جوابا لسفيان إذ يسأل: يابن رسول الله لم اعتزلت الناس؟ قال: «يا سفيان قد فسد الزمان و تغير الإخوان فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد»، و أنشد: ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب و الناس بين محاتل و موارب يفشون بينهم المودة و الصفا و قلوبهم محشوة بعقارب و مثل قوله: فلا تجزع و إن أعسرت يوما فقد أيسرت في زمن طويل و لا تيأس فإن اليأس كفر لعل الله يغني عن قليل و لا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولي بالجميل و مثل قوله: لا تجز عن من المداد فإنه عطر الرجال و حلية الآداب فإذا جاءه المناظرون من كل فج عميق، أو التلاميذ الفقهاء، يمثلون أقطار الإسلام، و يجادلون في الأصول أو الفروع، فهو البحر لا تنزفه الدلاء، يروي العقول و يشفي الصدور. فالديصاني، زعيم فرقة ملحدة، و صاحب الإ هليلجة طبيب هندي، و عبدالكريم بن أبي العوجاء [42] عربي ملحد، و عبدالملك مصري يتزندق، و عمر بن عبيد شيخ المعتزلة، و أبوحنيفة إمام الكوفة، و ملك إمام المدينة، و سفيان الثوري، و غيرهم... كل هؤلاء تملأ مجادلاته معهم الكتبب، و لا يضيق صدرا بجدالهم ؛ بل يضرب الأمثال، بمسلكه معهم

و اتساع صدره لهم، علي الحرية الفكرية التي يتيحها [ صفحه 159] الامام (عليه السلام) للناس في مجلسه ، ليفهموا العلم، أو ليؤمنوا عن فهم، دون إكراه أو إعنات، و علي سعة الخلاف الفقهي لكل اتجاهات المسلمين، و علي اليسر و الرحمة في الشريعة... فكل هذه أسباب لنشر الإسلام و خلود فقهه. يقول ابن المقفع - و هو متهم بالمجوسية أو بالزيغ علي الأقل - إذ يومئ الي «الصادق» (عليه السلام) في موضع الطواف: «هذا الخلق ما منهم أحد أوجب له بالإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس». و يذهب ابن أبي العوجاء ليناظره فتعتريه سكتة، فيسأله الامام (عليه السلام): ما يمنعك من الكلام؟ فيقول: «إجلالا لك، و مهابة منك. و ما ينطق لساني بين يديك. فإني شاهدت العلماء و ناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة أحد منهم ما تداخلني من هيبتك». رآه الإمام مرة بالحرم فقال له: ما جاء بك؟ قال: عادة الجسد و سنة البلد. و لنبصر ما الناس فيه من الجنون و الحلق و رمي الحجارة. قال الصادق: أنت بعد علي عتوك و ضلالك يا عبدالكريم؟ فذهب يتكلم. فقال الإمام (عليه السلام): لا جدال في الحج. و نفض رداءه من يده و قال: ان يكن الأمر كما تقول، و ليس كما نقول، نجونا و نجوت. و ان يكن الأمر كما نقول، و ليس كما تقول، نجونا و هلكت. و أي صبر في حرية الفكر كمثل هذا الصبر من الامام الصادق (عليه السلام)؟ و حيث تؤدي المناسك! و إنما ترك الامام رجلا ملحدا سيقتل - بعد - في إلحاده سنة 161. و إذا لم يأخذ الملحدين بالشدة، فتحا لأبواب الهداية لهم، فهو صارم في صدد المغالين في علي (عليه السلام)، أو فيه، ليكفهم

عن غلوائهم؛ و منهم بيان بن سمعان التميمي... كان يعتقد ألوهية علي و الحسن و الحسين (عليهم السلام) ثم محمد بن الحنفية، ثم ابنه أبي هاشم. بل زعموا أنه قال إنه - اي بيانا - المراد بقوله تعالي: «هذا بيان للناس». وادعي المغيرة بن سعيد الانتماء الي الباقر، و صار يؤله عليا ثم جعفر الصادق، و يكفر أبابكر و عمر و من لم يوال عليا. [ صفحه 160] و كذلك كان بشار الشعيري. يقول جعفر الصادق (عليه السلام) لمرازم: «تقربوا الي الله فإنكم فساق كفار مشركون» و يقول له: «إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري و قل له يا كافر يا فاسق أنا بري ء منك». دخل عليه بشار يوما فصاح به: «اخرج عني لعنك الله. و الله لا يظلني و إياك سقف أبدا». فلما خرج قال: «ويحه! ما صغر الله أحد تصغير هذا الفاجر. و الله إني عبدالله و ابن أمته». و يقول عن المغيرة بن سعيد: «لعن الله المغيرة بن سعيد. لعن الله يهودية كان يختلف اليها يتعلم منها الشعر و الشعبذة و المخاريق. فوالله ما نحن إلا عبيد، خلقنا الله و اصطفانا، ما نقدر علي ضرر و لا نفع إلا بقدرته... و لعن الله من قال فينا ما لا نقول في أنفسنا». و يقول (عليه السلام): «من قال إننا أنبياء فعليه لعنة الله و من شك في ذلك فعليه لعنة الله». و ينبه الأذهان علي دسائس خصوم الشيعة بالاختلاق عليهم فيقول: «إنا أهل بيت صادقون لا نعدم من يكذب علينا عند الناس. يريد أن يسقط صدقنا بكذبه علينا». و يقول لخيثمة: «أبلغ شيعتنا أننا لا نغني من الله شيئا، و أنه لا ينال ما عندالله إلا بالعمل، و ان

أعظم الناس يوم القيامة حسرة من وصف عدلا ثم خالفه الي غيره...». و هي مقولات لا تترك مجالا لدعاوي المغالين في جعفر الصادق و آبائه و بنيه من الائمة (عليهم السلام)، و تنفي عنهم ما ادعوه من علم الغيب، فلا يعلم الغيب إلا الله. كما تجعل الأئمة مجعل البشر، و هي آراء أبيه و جده. سأل سائل جده زين العابدين (عليه السلام): متي يبعث علي؟ فأجاب: «يبعث - و الله - يوم القيامة، و تهمه نفسه» أي انه يحاسب يوم الحساب كما يحاسب غيره. و أما تعبير الأحلام فالصادق (عليه السلام) يري أنها (لو كانت كلها تصدق كان الناس كلهم [ صفحه 161] أنبياء، ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة، بل كانت فضلا لا معني لها. فكانت تصدق أحيانا لينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها، أو مضرة يحذر منها. و تكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد). فرؤي الأنبياء حقائق من هدي النبوة. أما رؤي الآخرين فأصداء أفكار تتحرك في باطنهم؛ منها ما يصدقه الواقع و منها ما يكذبه. روي هشام بن الحكم: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبدالله (الامام الصادق) أشياء. فخرج الي المدينة ليناظره فلم يصادفه و قيل له انه خارج بمكة. فخرج الي مكة، و نحن مع أبي عبدالله، فصادفنا في الطواف، و كان اسمه عبدالملك، و كنيته أبو عبدالله. فضرب كتفه كتف أبي عبدالله... فقال له أبو عبدالله: فمن هذا الملك الذي أنت عبده... من ملوك الأرض أو من ملوك السماء؟ و أخبرني عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض. قل ما شئت تخصم... اذا فرغت من الطواف فائتنا. فلما فرغ أتاه الزنديق فقعد بين يديه... قال أبوعبدالله: أيها الرجل!

ليس لمن لا يعلم حجة من يعلم. و لا حجة للجاهل... يا أخا مصر إن الذين يذهبون اليه و يظنون انه الدهر، ان كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم؟ و ان كان يردهم لم لا يذهب بهم؟ - يا أخا مصر لم السماء مرفوعة و الأرض موضوعة؟ لم لا تنحدر السماء علي الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طبقاتها؟ و لا يتماسكان و لا يتماسك من عليها؟ قال الزنديق: أمسكهما الله ربهما و سيدهما... فآمن الزنديق... فقال: اجعلني من تلامذتك... فقال: يا هشام بن الحكم! خذه اليك. فعلمه هشام. فصار يعلم أهل الشام و أهل مصر الإيمان. و يروي هشام (ان زعيم الديصانية و فد علي مجلس الامام فقال له: دلني علي معبودي و لا تسألني عن اسمي. فإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها... فقال: يا ديصاني. هذا حصن مكنون له جلد غليظ. و تحت الجلد الغليظ جلد رقيق. و تحت [ صفحه 162] الجلد الرقيق ذهبة مائعة و فضة ذائبة... فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة. و لا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة. فهي علي حالها، لم يخرج بها مصلح فيخبر عن صلاحها. و لا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها. و لا يدري أللذكر خلقت أم للأنثي. تنفلق عن مثل ألوان الطواويس. أولا تري لها مدبرا؟ فأطرق الديصاني ثم قال: أشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له. و ان محمدا عبده و رسوله. و أنك إمام و حجة من الله علي خلقه. و انا تائب مما كنت فيه. قصد اليه في مجلسه ذات يوم نفر من المعتزلة يطلبون اليه بيعة «محمد بن عبدالله» النفس الزكية. فطلب اليهم

أن يختاروا واحدا منهم ليناظره. فاختاروا زعيم المعتزلة عمرو بن عبيد. و ظاهر ان تاريخ ذلك المجلس كان معاصرا لرفض الامام الصادق (عليه السلام) أن يبايع يوم الأبواء قبل قيام الدولة العباسية سنة 133. فلقد كان عمرو بن عبيد من أنصارها، له صلة خاصة بالمنصور، و اشتهر عنه أنه لم يبايع محمدا و قال انه لم يختبر عدله، و ربما كان ذلك المجلس في إثر مقتل الوليد بن يزيد سنة 126، أو فترة الحروب الأخيرة لبني مروان، التي قامت علي أثرها الدولة العباسية. قال عمرو: قتل أهل الشام خليفتهم و ضرب الله بعضهم بقلوب بعض و شتت أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين و عقل و مروءة و هو محمد بن عبدالله بن الحسن. فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، و قد أحببنا أن نعرض ذلك عليك، فإنه لا غناء لنا عنك لفضلك. قال الصادق (عليه السلام): إنا نسخط اذا عصي الله. فإذا أطيع الله رضينا. أخبرني يا عمرو: لو أن الأمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال و لا مؤنة فقيل لك و لها من شئت، كنت تولي؟ قال عمرو: كنت أجعلها شوري بين المسلمين. قال الصادق: بين كلهم؟ [ صفحه 163] قال: نعم. قال: قريش و غيرهم؟ قال عمرو: العرب و العجم. قال الصادق: يا عمرو! أتتولي أبابكر و عمر أم تتبرأ منهما؟ قال: أتولاهما. قال الصادق: يا عمرو إن كنت رجلا تتبرأ منهما فإنه يجوز الخلاف عليهما. و ان كنت تتولاهما فقد خالفتهما. فقد عمد عمر الي أبي بكر فبايعه و لم يشاور أحدا. ثم ردها أبوبكر عليه و لم يشاور أحدا. ثم جعلها عمر شوري بين ستة فأخرج منها الأنصار. ثم أوصي الناس بشي ء. و ما

أراك ترضي به أنت و لا أصحابك. قال عمرو: و ما صنع؟ قال الصادق (عليه السلام): أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، و ان يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم إلا ابن عمر يشاورونه و ليس له من الأمر شي ء. و أوصي من بحضرته من المهاجرين و الأنصار إن مضت الثلاثة و لم يفرغوا و لم يبايعوا أن يضرب أعناق الستة. و ان اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيام و خلفا اثنان أن يضرب أعناق الاثنين. أفترضون بهذا فيما تجعلون من الشوري في المسلمين؟ قال: لا. قال الصادق: أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعو اليه ثم اجتمعت لكم الأمة و لم يختلف منهم رجلان. أفمضيتم الي المشركين؟ قال: نعم. قال الصادق (عليه السلام): فتفعلون ماذا؟ قال عمرو: ندعوهم الي الاسلام فإن أبوا دعوناهم الي الجزية. قال الصادق: فإن كانوا مجوسا و عبدة النار و البهائم و ليسوا أهل الكتاب؟ قال عمرو: سواء... و بعد محاورة في شأن الجزية و الصدقات أقبل علي عمرو و الناس و قال: «اتق الله [ صفحه 164] يا عمرو. و أنتم أيها الرهط فاتقوا الله. فإن أبي حدثني و كان خير أهل الأرض و أعلم بكتاب الله و سنة رسول الله أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «و من ضرب بسيفه و دعاهم الي نفسه و في المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف».

مع القرآن

كان جده علي (عليه السلام) يقول: «سلوني عن كتاب الله. فوالله ما من آية إلا أنا أعلم بليل نزلت أم بنهار. في سهل نزلت أم في جبل» فلقد كان دائما الي جوار الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم). و

هو باب مدينة العلم. و الامام جعفر يصدر من المنبع ذاته. يقول مثل جده علي: «كان أصحاب محمد يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل. ان القرآن لا يقرأ هذرمة و لكن يرتل ترتيلا. و اذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها و أسأل الله تعالي. و اذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها و تعوذ بالله من النار». للقرآن عنده المقام الأول. يسأل عمن يؤم القوم فيجيب: «أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: يتقدم القوم أقرؤهم للقرآن. فإن كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة. فان كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا. و ان كانوا في السن سواء فأعلمهم بالسنة، و أفقههم في الدين. و لا يتقدمن أحد الرجل في منزله، و صاحب السلطان في سلطانه». و نصوص القرآن حاضرة كلما أراد أن يدلي بحجة. و هو في قمة البلاغة العربية تسعه اللغة، لا يلجأ الي التأويل بديلا من التفسير. فهو في فهم النصوص أنفذ بصيرة لم يعلم له تفسير نوقض فيه. و التفسير بتخريج مجازات القرآن لا يقدر عليه إلا البلغاء. [43] . [ صفحه 165] و من القرآن ينبثق فقه الامام في كل باب: - يسأله سائل عن قوله تعالي «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» فيجيب: «من أخرجها من هدي الي ضلال فقد - و الله - قتلها». - و يجيئه زنديق يسأله عن تفسير قوله تعالي «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني و ثلاث و رباع. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» و قوله تعالي في آخر السورة «و لن تستطيعوا

أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل». فيفحم الامام الزنديق فيقول: «أما قوله (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) فإنما عني النفقة. و أما قوله (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) فإنما عني المودة. فانه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة». - و يقول عن الرزق الذي يحض الله علي الإنفاق منه «و مما رزقناهم ينفقون» فيفسرها «و مما علمناهم يبثون» فالعلم رزق، و إذاعته إنفاق واجب. - و من تعبيره عن حجية القرآن أبدا يسأله السائل: لم صار الشعر و الخطب يمل ما أعيد منهما و القرآن لايمل؟ فيجيب (عليه السلام): «لأن القرآن حجة علي أهل العصر الثاني كما هو حجة علي أهل العصر الأول. فكل طائفة تراه عصرا جديدا. و لأن كل امرئ في نفسه متي أعاده و فكر فيه، تلقي منه في كل مدة علوما غضة، و ليس هذا كله في الشعر و الخطب». - و يقول المفضل: قلت: أخبرني عن قول الله عزوجل «و جعلها باقية في عقبه» قال: «يعني بذلك (الامامة) جعلها في عقب الحسين (عليه السلام) الي يوم القيامة»، فقلت: [ صفحه 166] فكيف صارت الامامة في ولد الحسين دون ولد الحسن و هما جميعا ولدا رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و سبطاه و سيدا شباب أهل الجنة؟ فقال: ان موسي و هارون كانا نبيين مرسلين أخوين فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسي، و لم يكن لأحد أن يقول لم فعل الله ذلك. فإن الإمامة خلافة الله عزوجل جعلها في صلب الحسين دون صلب الحسن لأن الله هو الحكيم في أفعاله. لا يسأل عن فعله و هم

يسألون. - و يعلن الامام (عليه السلام) بوجوب الامامة، فيسأله السائل عن منزلة الأئمة، و من يشبهون؟ فيقول: كصاحب موسي و ذي القرنين... كانا عالمين، و لم يكونا نبيين. [44] . - و في قوله تعالي «يمحو الله ما يشاء و يثبت»، يقول الامام: «و هل يمحو الله إلا ما كان ثابتا. و هل يثبت الله إلا ما لم يكن» و يقول: «لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه» و إنما يقصد استجابة الله لدعاء العباد. و في ذلك قوله: «ما عظم الله بشي ء مثل البداء». - و يسأله عمرو بن عبيد عن الكبائر «من كتاب الله». فيسردها، و يضع في جوار كل كبيرة النص عليها من الكتاب العزيز فهي: [ صفحه 167] الشرك: «ان الله لا يغفر أن يشرك به». اليأس من روح الله: «لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون». عقوق الوالدين: «و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا». قتل النفس: «و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها». قذف المحصنات: «ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة». أكل مال اليتيم: «ان الذين يأكلون أموال اليتامي ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا». أكل الربا: «الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس». الفرار من الزحف: «و من يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا الي فئة فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير». السحر: «و لقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق». الزنا: «و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا». اليمين الغموس:

«ان الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم الله و لا ينظر اليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم». الغلول: «و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة». منع الزكاة: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم». كتمان الشهادة: «و من يكتمها فإنه آثم قلبه». شهادة الزور: «و الذين يشهدون الزور». نقض العهد و قطيعة الرحم: «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل و يفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون». [ صفحه 168] كفران النعمة: «و لئن كفرتم إن عذابي لشديد». بخس الكيل: «ويل للمطففين». و ترك الصلاة (.....) و اللواط: (.....) و قول الزور: (.....) و شرب الخمر: (.....) و البدعة: (.....). - و من علم الامام جعفر (عليه السلام) بالقرآن أخذ القراءات عليه حمزة بن حبيب التيمي. و فيها مد و إطالة وسكت علي الساكن قبل الهمز. - و في صفات الله يقول الامام لعبد الملك بن أعين: «تعالي الله الذي ليس كمثله شي ء و هو السميع البصير. تعالي عما يصفه الواصفون المشبهون لله بخلقه... إن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله عزوجل فانف عن الله تعالي البطلان و التشبيه فلا نفي و لا تشبيه... هو الله الثابت الموجود». و يقول لمن سأله هل رأي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ربه: «نعم لقد رآه بقلبه - أما ربنا جل جلاله فلا تدركه أبصار الناظرين و لا تحيط به أسماع السامعين». و سأله الأعمش، شيخ المحدثين، عن

مكان الله، فقال: لو كان في مكان لكان محدثا. و لما سئل عن استوائه علي العرش قال: انه يعني أنه لا شي ء أقرب اليه من شي ء. سئل عن قوله تعالي «وسع كرسيه السموات و الأرض» فقال: «العرش في وجه هو جملة الخلق و الكرسي و عاؤه. و في وجه آخر هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه و رسله و حججه. و الكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه و رسله و حججه». و سئل عن قوله تعالي: «و كان عرشه علي الماء» و قول البعض ان العرش كان علي الماء و الرب فوقه؟ فأجاب: «كذبوا. من زعم هذا فقد صير الله محمولا، و وصفه بصفة المخلوق، و لزمه أن الشي ء الذي يحمله أقوي منه». و واضح من ذلك نهي الامام (عليه السلام) عن التجسيد و التشبيه و تصحيحه افهام تلاميذه؛ كيوم جاءه يونس بن ظبيان يقول: إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما. [ صفحه 169] يزعم أن الله تعالي جسم! قال الامام: «ويله أما علم ان الجسم محدود متناه. فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة و النقصان. فإذا احتمل الزيادة و النقصان كان مخلوقا!». - و واضح منحي الامام في الاحتجاج بنظام الكون، و نظام الجسم الانساني، و بالعقل و هو درس من جده علي، يلفت النظر الي بديع صنع المبدع جل جلاله؛ و في ذلك قول علي (عليه السلام): أتحسب أنك جرم صغير و فيك انطوي العالم الأكبر؟ - يجي ء الامام رجل من أهل مصر أوصي أخوه للكعبة بجارية مغنية فارهة كانت له، فقيل له ادفعها الي بني شيبة (و فيهم سدانة الكعبة). و اختلف الناس في أداء الوصية. و أخيرا أشاروا

عليه أن يأتي الامام. قال الامام: «ان الكعبة لا تأكل و لا تشرب و ما أهدي اليها فهو لزوارها. فبع الجارية و ناد: هل من محتاج؟ فإذا أتوك فسل عنهم و أعطهم». - و يسأل عن القضاء و القدر فيجيب: «هو أمر بين أمرين: لا جبر و لا تفويض» [45] و يحسم القضية بين الجبرية و القدرية فيقول: «ما من قبض و لا بسط إلا لله فيه مشيئة و رضاء و ابتلاء». [ صفحه 170] يسأل عن الجبر و التفويض: جعلت فداك. أجبر الله العباد علي المعاصي؟ فيجيب: الله أعدل من أن يجبرهم علي المعاصي ثم يعذبهم عليها. فيقول السائل: جعلت فداك ففوض اليهم؟ فيجيبه: لو فوض اليهم لم يحصرهم بالأمر و النهي. فيقول السائل: جعلت فداك فبينهما منزلة؟ فيجيب: «نعم. ما بين السماء و الأرض». و في مجلس آخر يسأله السائل: و ما أمر بين أمرين؟ فيجيب: «مثل ذلك رجل رأيته علي معصية فنهيته فلم ينته. فتركته. ففعل تلك المعصية. فليس، حيث لم يقبل منك فتركته، كنت أنت الذي أمرته بالمعصية». و يقول لسائل آخر: «قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): من زعم أن الله يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب علي الله. و من زعم أن الخير و الشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه. و من زعم ان المعاصي بغير قوة الله فقد كذب علي الله. و من كذب علي الله أدخله النار». و يقول: «إن الله أراد منا شيئا. و أراد بنا شيئا. و ما أراده منا أظهره لنا. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟».

مع أهل الكوفة و أبي حنيفة

و لقد يقول له قائل: إن

لي جارا يزعم أنك تبرأ من أبي بكر و عمر! فيجيب: برئ الله من جارك. يقول سالم: قال لي جعفر: «أيسب الرجل جده؟ أبوبكر جدي». و لقد كان لجده زين العابدين (عليه السلام) ابن أسماه عمر. و يقول أبوحنيفة: «استأذنت عليه فحجبني. و جاء قوم من أهل الكوفة استأذنوا لهم فدخلت معهم. فلما صرت عنده قلت: يابن رسول الله لو أرسلت الي أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)؟ فإني تركت فيها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم!. [ صفحه 171] فقال: لا يقبلون مني. فقلت: و من لا يقبل منك و أنت ابن رسول الله؟ فقال الصادق (عليه السلام): أنت أول من لا يقبل مني، دخلت بغير إذني، و جلست بغير أمري، و تكلمت بغير رأيي، و قد بلغني أنك تقول بالقياس. فقلت: نعم أقول به. فقال: ويحك يا نعمان أول من قاس إبليس حين أمر بالسجود لآدم فأبي و قال: «خلقتني من نار و خلقته من طين». أيهما أكبر يا نعمان؛ القتل أم الزنا؟ قلت: القتل. قال: فلم جعل الله في القتل شاهدين و في الزنا أربعة؟ أيقاس لك هذا؟ قلت لا. قال: فأيهما أكبر؛ البول أو المني. قلت: البول. قال: فلماذا أمر في البول بالوضوء و أمر في المني بالغسل. أيقاس لك هذا؟ قلت: لا. قال أيهما أكبر؛ الصلاة أم الصوم؟ قلت: الصلاة. قال: فلم وجب علي الحائض أن تقضي الصوم و لا تقضي الصلاة؟ أيقاس ذلك؟ قلت: لا. قال: فأيهما أضعف؛ المرأة أم الرجل؟ قلت: المرأة. قال: فلم جعل الله للرجل سهمين في الميراث و للمرأة سهما؟ أيقاس ذلك؟ قلت: لا. قال: و قد بلغني أنك تقرأ آية من كتاب الله «ثم لتسألن

يومئذ عن النعيم» انه الطعام الطيب و الماء البارد في اليوم الصائف. قلت: نعم. قال: لو دعاك رجل و أطعمك و سقاك ماء باردا، ثم امتن عليك. ما كنت تنسبه اليه؟ قلت: البخل. قال: أفبخل علينا؟ قلت: فما هو: [ صفحه 172] قال حبنا أهل البيت». [46] . [ صفحه 173] و المسلمون يرفعون أباحنيفة الي مكانته العليا بين كبار المجادلين من أهل الاسلام، و لا يجدونه ساكتا في يوم من الأيام، كهيئة ما كان في ذلك المقام. فأما تفسير القرآن بما ينفي البخل عن المعطي جل شأنه فحجة الصادق (عليه السلام)فيه لا راد لها. و اما حجاجه بعد طاعة أهل الكوفة فظاهر لأبي حنيفة، إمام الكوفة في الفقه و الأدب الديني و الاجتماعي، الذي دخل و جلس و تكلم دون أن يطيع، ثلاث مرات. أما أسئلته عن القياس فقد وضعت القياس موضع التهمة. و لم يحر أبوحنيفة جوابا. طعم أبوحنيفة يوما مع الامام الصادق (عليه السلام) - فرفع الامام يده حمدا لله ثم قال: اللهم هذا منك و من رسولك. قال أبوحنيفة: يا أبا عبدالله أجعلت مع الله شريكا؟ قال الامام: ان الله يقول في كتابه «و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من فضله». فقال أبوحنيفة «لكأني ما قرأتها قط في كتاب و لا سمعتها إلا في هذا الموقف». و لقد يدخل عليه سفيان الثوري و فيه قول القائل «ما رأيت الغني أذل منه في مجلس الثوري و لا الفقير أعز منه في مجلس الثوري». و الذين يجلون ورع الامام أحمد بن حنبل يشبهونه فيه بسفيان الثوري. و سفيان الثوري يسمي (أميرالمؤمنين في الحديث). و حسبه أن يكون من تلاميذه في الحديث ابن جريح إمام مكة

[ صفحه 174] و الأوزاعي إمام الشام و مالك بن أنس إمام المدينة، و ابن اسحق امام المحدثين في السيرة، و هو فوق كل ذلك إمام عامل... رمي كتاب «المهدي» له في دجلة - و فيه توليته للقضاء - و هرب من السلطان فولي شريكا بدله. و كان سفيان كثير المغاضبة للخلفاء - و لهذا كثر ما كان الخليفة يطلب دمه، و كان يختفي عن عيونه. يستأذن سفيان علي الامام، فلا يرفض الإذن بل يدخله ليعلن له أن ظهوره في المجلس العلمي، و هو مختف، أمر غير سائغ، صيانة للمجلس العلمي من أن يكون مجلس المطلوبين، و حماية للمطلوب ذاته، و حفظا لعلاقة الإمام بالخليفة. و مع ذلك لا يضن الامام عليه بالحكمة. يقول ابن أبي حازم: «كنت عند جعفر الصادق يوما و إذا بسفيان الثوري بالباب فقال: إيذن لي. فدخل. فقال له جعفر: إنك رجل يطلبك السلطان في بعض الأحيان، و تحضر عنده و أنا أتقي السلطان. فاخرج عني غير مطرود. قال سفيان: حدثني حديثا أسمعه و أقوم. قال الامام (عليه السلام): حدثني أبي عن جدي عن أبيه عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «من أنعم الله عليه نعمة فليحمد الله. و من استبطأ الرزق فليستغفر الله، و من حزنه أمر فليقل: لا حول و لا قوة إلا بالله». طلب اليه سفيان يوما أن يعظه، فقال عليه السلام: «يا سفيان لا مروءة لكذوب و لا أخ لملول. و لا راحة لحسود. و لا سؤدد لسيئ الخلق». فقال سفيان: زدني. قال: «يا سفيان ثق بالله تكن مؤمنا. و أرض بما قسم الله تكن غنيا. و أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما. و لا تصحب

الفاجر يعلمك فجوره. و شاور في أمر دينك الذين يخشون الله عزوجل». فاستزاده سفيان فقال: «من أراد عزا بغير عشيرة، و غني بغير مال، فلينتقل من ذل معصية الله الي عز طاعته». [ صفحه 175] فإذا أوصي زرارة عندما ولي القضاء، ذكره حساب السماء، قال: «انه اذا كان يوم القيامة و جمع الله الخلائق سألهم عما عهد اليهم و لم يسألهم عما قضي عليهم». فالقضاء أمانة الله. و اذا كان القاضي يجري عليه قضاء الله فهو مسؤول عما يجري به قضاؤه علي غيره. و يوصي الامام ابنه موسي الكاظم (عليهماالسلام) فيقول: «يا بني! من رضي بما قسمه الله له استغني. و من مد عينيه الي ما في يد غيره مات فقيرا. و من لم يرض بما قسمه الله له اتهم الله في قضائه. و من استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره. يا بني؛ من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته. و من سل سيف البغي قتل به. و من احتفر لأخيه بئرا سقط فيها. و من داخل السفهاء حقر. و من خالط العلماء وقر. و من دخل مداخل السوءاتهم. يا بني؛ إياك أن تزري بالرجال فيزري بك. و إياك و الدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك. يا بني؛ قل الحق لك أو عليك. يا بني: كن لكتاب الله تاليا، و للإسلام فاشيا، و بالمعروف آمرا، و عن المنكر ناهيا، و لمن قطعك واصلا، و لمن سكت عنك مبتدئا، و لمن سألك معطيا، و إياك و النميمة، فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال، و إياك و التعرض لعيوب الناس، فمنزلة المتعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف». و تصبح هذه الوصية تراثا للأئمة بعده. فيعلن الامام الثامن (علي

الرضا عليه السلام) انه: ما ترك هذه الوصية الي ان توفي. و لقد يفد علي المجلس الكميت - شاعر أهل البيت (عليهم السلام) - كما كان يدخل علي زين العابدين (عليه السلام) [47] و الإمام يعرف انبعاث الشاعر، و يخشي عليه من الخيال [ صفحه 176] الصادق في تصوير ظلم يعانيه أهل البيت. و شعر الكميت من أسير الشعر في الأدب العربي - و العيون تنقل للخليفة الخب ء من أي شي ء - فيستأذن الكميت الامام قائلا: جعلت فداك! ألا أنشدك؟ فينبهه الإمام قائلا: «إنها أيام عظام». فيقول الكميت عن القصيدة: إنها فيكم. و يقول الامام: هات. فينشده قصيدته التي مطلعها: ألا هل عم في رأيه متأمل و هل مدبر بعد الإساءة مقبل إلي أن قال: كلام النبيين الهداة كلامنا و أفعال أهل الجاهلية نفعل رضينا بدنيا لا نريد فراقها علي أننا فيها نموت و نقتل و نحن بها مستمسكون كأنها لنا جنة مما نخاف و نعقل فكثر البكاء و ارتفعت الأصوات إلي أن قال: [ صفحه 177] كأن حسينا و البهاليل حوله لأسيافهم ما يختلي المتبقل فلم أر مخذولا أجل مصيبة و أوجب منه نصرة حين يخذل فرفع جعفر الصادق عليه السلام يديه و قال: اللهم اغفر للكميت ما قدم و ما أخر. و ما أسر و ما أعلن. و أعطه حتي يرضي، ثم أعطاه ألف دينار و كسوة. قال الكميت: و الله ما أحببتكم للدنيا، و لو أردتها لأتيت من هي لديه، و لكني أحببتكم للآخرة؛ فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فإني أقبلها لبركتها، أما المال فلا أقبله.

المذهب الجعفري

أخرج الحاكم في تاريخه بالإسناد الي أبي بكر عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «من كتب علي علما

أو حديثا لم يزل يكتب له الأجر ما بقي ذلك العلم أو الحديث». و أجمع أبوبكر أيام خلافته علي تدوين الحديث فجمع خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيرا. قالت عائشة: فغمني تقلبه، فلما أصبح قال لي: «أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك» فجئت بها فأحرقها. و عن الزهري عن عروة أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتي أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فأشاروا عليه أن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما فقال: «اني كنت أريد أن أكتب السنن، و اني ذكرت قوما قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها و تركوا كتاب الله، و اني و الله لا أشوب كتاب الله بشي ء أبدا». لكن عليا (عليه السلام) دون، و خلف في شيعته طريقة (التدوين). فلقد كان علي ثقة من طريقته؛ و هو الذي يقول فيه الرسول: «علي مع القرآن و القرآن مع علي و لن يفترقا حتي يردا علي الحوض». و عنه قال الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم): «يا معشر قريش. و الله ليبعثن الله عليكم رجلا منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضربكم علي الدين»، قال أبوبكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، و لكن ذلك الذي يخصف النعل»؛ و كان علي يخصف نعلا للنبي عند ذلك. [ صفحه 178] و بالتدوين الفقهي استقر المذهب في صدور الحفظة و النقلة، من علي الي بنيه، فبنيهم، و بخاصة زين العابدين و زيد و الباقر و الصادق (عليهم السلام)، ثم عملت مجالس الامام الصادق في نشره كمثل عمل التدوين في استقراره. و أدرك الأئمة الذين تتلمذوا عنده و تلاميذهم أمورا

ترفع مجلس الصادق فوق المجالس، سواء مجالس أهل السنة أو «أهل البيت» منها: 1 - أن الذي يلقي هذا العلم إمام موصي اليه «باسمه» من أبيه. و بهذا ينماز من عمه زيد بن علي صاحب المذهب الزيدي و من غيره من الشيعة. 2 - أن هذا الإمام يقف بين العلماء جميعا في مكان خاص. فالسنة عند الشيعة بعد موته تثبت عن طريقه - إلا ما ندر - فعنه يروي آلاف، و عنهم جاءت الأحاديث المروية في كتبهم. 3 - ان الآراء الفقهية في أصول الدين و أصول الفقه و فروع المعاملات و العبادات سيراها اللاحقون منسوبة اليه. و ربما اقترن به أبوه الباقر، أو أشير الي رأي جده، السجاد، لكن نبع العلم منه هو الأشهر و الأكثر. و إذا لم يعرف التاريخ إماما في السنن من درجته أو إماما في الفقه من مرتبته، فالتاريخ - كذلك - لا يعرف إماما اجتمعت له الإمامتان مثله. 4 - انه الامام الذي يوثقه أئمة المسلمين جميعا، و يستوي في ذلك من أهل السنة أئمة الرأي فهم تلاميذه، و أئمة الحديث فهو في القمة منهم، و روايته للحديث يوثقها واضع الاساس العلمي لقبول الحديث «الشافعي» و علماء الجرح و التعديل كيحيي بن معين و أبي حاتم و الذهبي و ابن حنبل و الآخرين... و تتردد في كتب الصحاح أحاديثه، كما يبايعه إمام أهل البيت الذي سبق بفرقة عظيمة و فقه خالد (عمه زيد بن علي زين العابدين، صاحب المذهب الزيدي)، و يضعه موضع الامامة فيقول: «في كل زمان رجل من أهل البيت يحتج به الله علي خلفه و حجة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل من كان من شيعته و لا يهتدي من خالفه». 5

- ان هذا الامام هو أول و آخر واحد من صلب آبائه و أجداده من الله عليه بهذه [ صفحه 179] الفرصة: أواخر الدولة المروانية المشغولة عنه بتثبيت دعائمها المهتزة، و أوائل عهد الدولة العباسية التي تمد اليه بسبب من السلام أو الخصام، و آصرة من النسب، تخدمانه أو تخدمانها - و هي ترفع شعار أهل البيت و الدفاع عن الدين - و بهذا أتيحت له حرية الجلوس لكل الناس، و التدريس لكل العلوم، و أن تسيل الأباطح الأباطح بأعناق المطي اليه من بقاع العالم، في حقبة مزدهرة من التاريخ العالمي و الاسلامي. 6 - انه الامام الذي طمأن الخلفاء (الملوك) في الدولتين، و كانوا سفاحين غلاظ الأكباد، فهو - كما يقول الشهرستاني و أبونعيم في (الملل و النحل) و (حلية الأولياء): «ما تعرض للإمامة قط و لا نازع في الخلافة أحدا. و من غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط. و من تعلي الي ذروة الحقيقة لم يخف من حط». 7 - انه الامام الذي أتيح له علي مدار ثلث قرن من الزمان بعد وفاة أبيه سنة 114 أن يكون «الإمام»... فامتد به عصر سلام، ضروري لنشر العلم، باطمئنان طالبه، و واهبه، و الدولة التي ينتشر فيها رعاياها. هذه العناصر التي لم تجتمع لواحد من آبائه أو أبنائه جميعا، هي التي سوغت لمن تبع فقهه من الشيعة أن يطلقوا علي مذهبه (المذهب الجعفري). و ما هو في صميمه إلا «مذهب علي عليه السلام». و انما تخول السماء بركاتها لبعض الأسماء في شكل حظوظ. و كان الامام جعفر الصادق عليه السلام جديرا بنعمة السماء قدر ما صدق و كافح في خدمة الاسلام. و ما كان علي بحاجة

الي ما يخلد اسمه. فالإسلام في أعظم أيامه يقرن باسم علي، قدر ما اقترن اسم علي بالنبي و بيت النبي (عليهم السلام). و المذهب يحمل اسمه جعفر لأنه صاحب مدرسة سقيت منه السنة الصحيحة، و مصادر الفقه العظيم، و المنهاج السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي الذي نهجه تابعوه، و روي ذلك كله الآلاف، و روي عنهم أمثالهم. و في الجدود، بمعني الحظوظ، جد و جد، لكنها ليست خبط عشواء: فاسم أمريكا قد خلد اسم امريكو فسپوتشي، لأن أمريكو فسپوتشي كان كاشفا حقيقيا لبعض [ صفحه 180] شواطئها سنة 1499. و لم يغمط حظ الكاشف الثاني حق كرستوفر كولمبس، الكاشف الأول لها في 1492. فاسم كولومبوس ما يزال يجري علي كل لسان علي انه كاشف العالم الجديد. و التاريخ - كله - يقدمه علي فسپوتشي. و لسنا في مقام مقارنات برجال، فعلي و جعفر (عليهماالسلام) فوق المقارنات، بما قدموا للعالم كله - وسيطه و حديثه - من عناصر الحضارة، التي نقلت العالم من جهالات العصور القديمة و ظلمات العصور الوسطي، الي الحضارة المعاصرة، علي عجلات التقدم، يحركها العلم الصحيح، و الاجتهاد الذي لا يتوقف. و كسب الأمم من علم الأئمة (عليهم السلام) كاقتران اسماء أصحاب الكشوف بكشوفهم و أرباب الابتكارات بفتوحهم، ليس صدفة، و لا محض جزاء، و انما هو توفيق من الله للإنسانية و للناس، لتكريم أمم، و رجال، فتحوا أرض الله لعباده، أو مكنوهم من أنعم السماء، أو سنن الأنبياء، ليشجع الشجعان، و يستمر ضوء الفكر الانساني في اشراقه حفزا للعزائم و ظهورا للعلم. و منذ القرن الميلادي الماضي يطلق العلماء أسماء الرجال الذين يسروا للناس أسرار الطبيعة علي مقاييس الطبيعة: الوات نسبة الي Watt و

الفرد نسبة الي Faraday و الأمبير نسبة الي Ampere و الفولت نسبة الي Volta و الأوم نسبة الي Ohm و الهرتز نسبة الي Hertz و رونتجن نسبة الي Rontigen. و هم إنجليزيان و فرنسي و إيطالي و ثلاثة من الألمان. و أين تجربة أو تجارب أو كشف أو كشوف من شريعة بتمامها، و إمام في الصدر من أئمتها، وطأ نصوصها، و أصل أصولها، وقعد القواعد لها، و أقام عليها دولا باقية بقاء الزمان، و مجتمعات خالدة بخلود الاسلام، ينسب المذهب فيها الي صاحبه، فيكون المذهب «الجعفري» أو المذهب «الامامي» المنسوب الي الامام جعفر الصادق (عليه السلام) و الي القول «بإمامة الأئمة الاثني عشر». [ صفحه 183]

المدرسة الكبري

اشاره

يا أهل بيت الله حبكمو فرض من الله في القرآن أنزله كفاكموا من عظيم القدر منزلة من لم يصل عليكم لا صلاة له الشافعي [ صفحه 185] في هذا الباب محاولة لرسم خطوط تقريبية للبنيان العظيم لفكر الشيعة الجعفرية (الاثنا عشرية أو الامامية) الذي كان الامام الصادق (عليه السلام) في طليعة بناته، و الذي يحمل اسمه، و ان شاركت في رفع صرحه مدرسة كاملة من السابقين عليه، و الآخذين إخذه، من تلاميذه و تلاميذهم، بدأت بالنبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، مدينة العلم، و علي بابها، و تتابع فيها الصحابة العظماء، و التابعون و تابعو التابعين؛ و في الأجيال الثلاثة الامام علي و الحسن و الحسين ثم زين العابدين فالباقر فالصادق (عليهم السلام). ثم تتلمذ للإمام الصادق فريق المخضرمين ممن تعلموا علي أبيه أو أبيه وجده، و من الشباب الذين تعاونت قرائحهم في تفتيق الكلام في العقيدة، و تشقيق المعاني في الفقه، ليصبحوا للذين جاءوا بعدهم، حتي اليوم، علامات علي الطريق.

و في مشيخة هذه المدرسة ورد الفصل الأول. و الفصل الثاني يتناول أمورا أساسية في فكر المدرسة، دون حصر لتفاصيله أو تطرق للاختلاف عليه بينهم و بين أهل السنة، أو بينهم و بين فرقهم، حتي لا نخرج من إطار الصورة التي نحاول رسمها، و تنقيتها مما تبرأ منه الشيعة، و تقع التبعات فيه علي الغلاة المطرودين. و قد خصصنا بالبيان في هذا الفصل مسألتين أصوليتين؛ لكل منهما أثر في الفقه - سواء أكان فقه معاملات أم فقه عبادات - فبدأنا «بالحديث» و شروط قبوله وثنينا «بالإمامة». و أضفنا كلمات عن مسائل خلافية بين المذهب الجعفري و بين غيره من المذاهب التي تتقاسم أهل السنة... تخيرناها من شتي مناحي التفكير الفقهي، لتتم أبعاد الصورة للقارئ، و يزداد جانبها الخلفي جلاء: أن الدين واحد عند أهل السنة و الشيعة. [ صفحه 187]

المدرسة الكبري

اشاره

ماذا لقينا من أبناء علي. إذا أحببناهم قتلنا، و إذا عاديناهم دخلنا النار. «الشافعي» [ صفحه 189] أخذ الفروع و الأصول عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) جمع غفير من ثقات الشيعة، و رووا ذلك لمن بعدهم علي سبيل التواتر القطعي، و رواه هؤلاء لمن خلفوهم قرنا بعد قرن. فالصادق يروي علم من قبله، و يروي الأئمة من أبنائه علمه، كما يرويه تلامذته. فهو الحلقة التي تتوسط السلسلة، أو العروة الوثقي بين كتب آبائه و بين ما كتب بعده «الإمامية».

المصحف الخاص أو كتاب الأصول

آلي أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) علي نفسه بعد الفراغ من تجهيز الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) ألا يرتدي إلا للصلاة أو يجمع القرآن، فجمعه مرتبا علي حسب النزول، و أشار الي عامه و خاصه؛ و مطلقه و مقيده؛ و محكمه و متشابهه؛ و ناسخه و منسوخه؛ و عزائمه و رخصه؛ و سننه و آدابه، و نبه علي أسباب النزول فيه. و من جلال شأن هذا الكتاب، قال فيه محمد بن سيرين: «لو أصبت هذا الكتاب كان فيه العلم». فهو كما يظهر من محتوياته مصحف خاص و كتاب أصول من صنع علي (عليه السلام). و الجامعة: كتاب طوله سبعون ذراعا من إملاء النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و خط علي (عليه السلام)؛ فيه ما يحتاجه الناس من حلال و حرام و غيره، حتي ليصل في التفصيل الي أرش الخدش (التعويض عنه). و قد وصفها بذلك الباقر و الصادق (عليهماالسلام)، و شهدها عندهما الثقات من أصحابهما و منهم أبوبصير. قال الصادق (عليه السلام): «أما و الله عندنا ما لا نحتاج الي أحد، و الناس يحتاجون لينا. إن [ صفحه 190] عندنا الكتاب بإملاء

رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و خط علي عليه السلام بيده... صحيفة طولها سبعون ذراعا، فيها كل حلال و حرام». و قال: «ان الجامعة لم تدع لأحد كلاما... فيها الحلال و الحرام. ان أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدهم من الحق إلا بعدا. و ان دين الله لا يصاب بالقياس». قالوا: سميت الجامعة، و الصحيفة، و كتاب علي، و الصحيفة العتيقة. كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) يخطب الناس فيقول: «و الله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا كتاب الله تعالي و هذه الصحيفة - و كانت معلقة بسيفه - أخذتها عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم». و لقد دعا الخليفة أبوجعفر المنصور بكتاب علي هذا، فجاء به الامام الصادق و قرأ فيه ان النساء ليس لهن من عقار الرجل - إذا توفي عنهن - شي ء. و قال أبوجعفر: هذا و الله خط علي و إملاء رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). و أبوجعفر من العلماء كما قال عنه مالك إمام المدينة، و كما أقر له الجاحظ كبير النقاد. فهو قد يقسم لأنه قرأ كتابه قبل ذلك لعلي (عليه السلام)، أو لأن لديه من العلم ما يعرفه أنها باملاء النبي (صلي الله عليه و آله و سلم). و كتاب الديات؛ و هو يغطي ما يسمي في الفقه المعاصر «المسؤولية المدنية» عن الفعل الضار بالجسم... أورد محتوياته ابن سعد في كتابه المعروف بالجامع، و روي عنه أحمد بن حنبل في المسند الأعظم، و ذكره البخاري و مسلم، و رويا عنه.

مصحف فاطمة

و من التراث العلمي عند الشيعة ما يسمي بمصحف فاطمة. حدثوا عن الصادق (عليه السلام) إذ سئل عنه: «ان فاطمة

مكثت بعد رسول الله خمسة و سبعين يوما و كان قد دخلها حزن علي أبيها، و كان جبرئيل يأتيها فيحسن عزاءها ويطيب نفسها، و يخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، و كان علي يكتب ذلك. فهذا مصحف فاطمة». فليس هذا مصحفا بالمعني الخاص بكتاب الله تعالي و إنما هو أحد المدونات. [ صفحه 191]

التدوين

يروي «الصدوق» في (الأمالي) ان رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «المؤمن من إذا مات ترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة سترا بينه و بين النار». و في حياة النبي أو حياة علي، اقتدت بعلي شيعته في التدوين أو قل: هديت لتنفيذ أمر الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم). يقول ابن شهراشوب: «أول من صنف في الاسلام علي بن أبي طالب، ثم سلمان الفارسي ثم أبوذر». و الاثنان شيعة علي. و السيوطي يروي أن عليا و الحسن بن علي (عليهماالسلام) ممن أباحوا كتابة العلم بين الصحابة و فعلوها. و ألف أبورافع مولي الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)، و صاحب بيت المال في خلافة الامام علي بالكوفة، كتاب السنن و الأحكام و القضايا. يقول موسي بن عبدالله بن الحسن: سأل أبي رجل عن التشهد فقال أبي: هات كتاب أبي رافع، فأخرجه فأملاه علينا. أما علي بن أبي رافع فكتب كتابا في فنون الفقه علي مذهب أهل البيت عليهم السلام، أي آراء علي بن أبي طالب، و كانوا يعظمون شأن هذا الكتاب و يحملون شيعتهم عليه. و من الشيعة زيد الجهضمي... حارب مع علي (عليه السلام) و ألف كتابا يحوي خطبه؛ و منهم ربيعة بن سميع له كتاب في زكاة النعم؛ و منهم عبدالله بن الحر الفارسي... له لمعة

في الحديث جمعها في عهد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). و منهم الأصبغ بن نباتة صاحب علي... روي عنه عهده الي الأشتر النخعي. و وصيته الي ابنه محمد بن الحنفية. و منهم سليم بن قيس الهلالي صاحب أميرالمؤمنين (عليه السلام)، له كتاب في الإمامة، و له مكانة عليا في المذهب من حيث الأصول. [ صفحه 192] و ذات يوم كان الحكم بن عيينة عند الباقر (عليه السلام) يسأله فقال: يابني قم فأحضر كتاب علي، فأحضر كتابا مدرجا عظيما ففتحه، و جعل ينظر حتي أخرج المسألة، و قال: هذا خط علي و إملاء رسول الله، و أقبل علي الحكم و قال: «اذهب أنت و سلمة و المقداد حيث شئتم يمينا و شمالا... فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل». و من قبل الامام الباقر وجدت عند الامام زين العابدين الصحيفة المسماة الصحيفة الكاملة. و عن زين العابدين آلت الي الشيعة رسائل عديدة منها رسالة الحقوق، و رسالة الي ابن شهاب الزهري. [48] . و كذلك ألف عمرو بن أبي المقدام جامعا في الفقه يرويه عن الامام زين العابدين (عليه السلام). فلما صارت الامامة للصادق (عليه السلام) حض علي تدوين العلم أيا كان موضوعه، دينيا أو دنيويا، فقه عبادات أو معاملات أو علوما تطبيقية. و كان يقول: «القلب يتكل علي الكتابة». و كان يملي علي تلاميذه، و يجيئهم بالدواة و القرطاس، و يقول: «اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتي تكتبوا». و يلتمس سفيان الثوري اليه ان يحدثه بحديث خطبة الرسول بمسجد الخيف، و يرجوه ليأمر له بقرطاس و دواة ليثبته، فيأمر له، ثم يمليه : «بسم الله الرحمن الرحيم. خطبة رسول الله في مسجد الخيف: نضر الله عبدا

سمع مقالتي فوعاها و بلغها من لم تبلغه. يا أيها الناس! ليبلغ الشاهد منكم الغائب. فرب حامل فقه ليس بفقيه. و رب حامل فقه الي من هو أفقه منه». [ صفحه 193] و كتب عبدالله الحلبي كتابا عرضه علي «الصادق» فصححه و استحسنه. و سنري حفيده الامام العسكري (عليه السلام) يعرض عليه يونس بن عبدالرحمن كتاب (يوم و ليلة) فيصححه و يأمر بالعمل به. و لما غاب «المهدي عليه السلام» في النصف الثاني من القرن الثالث أحوجت «الغيبة» الي الرجوع للمدونات التي تزخر بها خزائن الشيعة؛ إذ لم يكن لديهم إمام ظاهر يسألونه. و كثرت الكتابة عندهم في القرن الرابع. كان أول المستفيدين بالتدوين الباكر أولئك الذين يلوذون بالائمة من أهل البيت (عليهم السلام) فيتعلمون شفاها أو تحريرا، أي من فم لفم أو بالكتابة. فما تناقلته كتب الشيعة من الحديث، هو التراث النبوي - في صميمه - بلغ الشيعة في يسر طوع لعلمهم الازدهار؛ في حين لم يجمع أهل السنة هذا التراث إلا بعد ان انكب عليه علماؤهم قرنا و نصف قرن حتي حصلوا ما دونوه في المدونات الأولي. ثم ظلوا قرونا أخري يجوبون الفيافي و القفار في كل الأمصار، فتطابقت السنة - في مجموعها - عند هؤلاء و أولاء، إلا أمورا لا تتصل بأصل الدين، و خلافات في الفروع ليست بدعا في الأمة. و ربما كان اختلاف مذاهب أهل السنة فيما بينهم و بين أنفسهم أكثر ظهورا في بعض المسائل من خلافهم فيها مع فقهاء الشيعة. و إذا لا حظنا ان من الرواة من قيل انه روي عشرات الآلاف من الحديث عن الامام، تجلت كفاية التراث الموثوق به عند الشيعة لحاجات الأمة. و إذا لا حظنا توثيق الشافعي

و مالك و أبي حنيفة و يحيي بن معين و أبي حاتم و الذهبي للامام الصادق (عليه السلام) - و هم واضعو شروط المحدثين و قواعد قبول الرواية و صحة السند - فمن الحق التقرير بأن حسبنا ان نقتصر علي التفتيش عن رواة السنة عن الامام الصادق (عليه السلام). و الشيعة يكفيهم أن يصلوا بالحديث الي الامام... لا يطلبون اسنادا قبل الامام جعفر (عليه السلام)... بل لا يطلبون إسنادا قبل الأئمة عموما؛ لأن الامام بين أن يكون يروي [ صفحه 194] عن الامام الذي أوصي له، و بين أن يكون قرأ الحديث في كتب آبائه - الي ذلك فإن ما يقوله سنة عندهم، فهو ممحص من كل وجه... فليست روايته للحديث مجرد شهادة به، بل هي إعلان لصحته. و إذ كان مارواه الصادق رواية الباقر و رواية السجاد عن الحسين عن الحسن أو عن علي عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، فهذا يصحح الحديث علي كل منهج. فالثلاثة الأخيرون من الصحابة المقدمين، يروون عن صاحب الرسالة، إذ يروي الحسن و الحسين عن علي عنه. لقد كان منهج علي (عليه السلام) و من تابعه في التدوين خيرا كبيرا للمسلمين، منع المساوئ المنسوبة الي بعض الروايات، و أقفل الباب دون افتراء الزنادقة و الوضاعين. فالسبق في التدوين فضيلة الشيعة. و لما أجمع العلماء بعد زمان طويل علي الالتجاء اليه كانوا يسلمون بهذه الفضيلة - بالاجماع - لعلي و بنيه. و السنة شارحة للكتاب العزيز، و هو مكتوب بإملاء صاحب الرسالة. فهي كمثله حقيقة بالكتابة. إنما كان المحدثون من أهل السنة في القرون الأولي مضطرين لسماع لفظ الحديث من الأشياخ، أو عرضه عليهم، لأن السنن لم تكن مدونة. فكانت الرحلة الي

أقطار العالم لتلقي الحديث علي العلماء وسيلتهم الأكيدة. و لم يغير ذلك النظر انتشار التدوين في نهاية القرن الثاني و منتصف الثالث، و كثرة الحديث المدون في المسانيد و المجاميع و الصحاح التي ألفت بعد تلك الفترة؛ و منها مسند أحمد بن حنبل (241) حوي ثلاثين ألفا دون المكرر، اختارها من ثلاثة أرباع مليون جمعها من أفواه العلماء من أقصي الأرض و أدناها، و حدث بها تلاميذه لينقلوها الي الأجيال التالية. و كان في أواخر أيامه يستوثق لنفسه، فيروي للناس الحديث و يطلب المسند يقرأ فيه. ثم جاءت أجيال تأخذ الحديث من الصحف الموثوق بصحة صدورها من صاحبها [ صفحه 195] دون أن يرتحل اليه. و هذا ما أطلقوا عليه الوجادة [49] - يقولون: وجدنا بخط فلان. و في القرن الرابع اعتبر ابن يونس الصفدي (347) إماما حافظا للحديث و ان لم يرحل. قلنا في كتابنا (أحمد بن حنبل امام أهل السنة): [50] «و البعض من المحدثين لم يكونوا يروون عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) لأنه يحدث بما قرأه في الكتب... سئل أبوبكر بن عياش و هو من أول أشياخ أحمد: لماذا لم تسمع من جعفر، و قد أدركته؟ قال: سألناه عما يحدث من الأحاديث: أشي ء سمعته؟ قال: لا، لكنها رواية رويناها عن آبائنا» و عقبنا ذلك بقولنا: «و الشافعي [51] و يحيي بن معين [52] متفقان علي توثيقه؛ و هو شيخ مالك. و ليس بعد هؤلاء أدلة علي جواز طريقة الامام جعفر (عليه السلام) مع علمه الضخم في كل باب». و في كتابنا (الامام الشافعي) أجملنا الكلام عن موضع الامام من الاسلام كله في كلمات: «الامام جعفر... يمثل صميم الاسلام... يجتمع في نسبه النبي عليه الصلاة

[ صفحه 196] و السلام و أبوبكر و علي. و هو إمام في الدين و الفقه و بحر في العلوم الطبيعية». و هذا البحر، و القطعة من الاسلام و المسلمين الثلاثة الأولين - بل الأربعة الأولين و فيهم أم المؤمنين خديجة - إمام يهتدي بهديه و اجتهاده أئمة أهل السنة كافة. أما الشيعة الامامية، فقول الامام المعصوم يجري عندهم مجري قول النبي من كونه حجة علي العباد. و لقد توسع علماؤهم في اصطلاح السنة الي ما يشمل «قول كل واحد من المعصومين و فعله و تقريره». فالأئمة المعصومون ليسوا - بهذه المثابة - من قبيل رواة السنن، بل هم منصوبون من الله تعالي، علي لسان النبي، لتبليغ الأحكام عن طريق الإلهام، كالنبي بطريق الوحي اليه، و هو خاص به، أو عن طريق التلقي من المعصوم الذي يسبق. أما فعل المعصوم فدليل علي الإباحة، و اما تركه فدليل علي عدم الوجوب. و تآليف الامام الصادق (عليه السلام) كثيرة؛ منها رسالة في شرائع الدين؛ و وصاياه للامام الكاظم؛ و رسالة في الغنائم و وجوب الخمس؛ و توحيد المفضل؛ و كتاب الأهليلجة؛ و كتاب مصباح الشريعة؛ و كتاب مفتاح الحقيقة؛ و رسالة الي أصحابه؛ و رسالة الي أصحاب الرأي و القياس؛ و رسالة لمحمد بن النعمان؛ و أخري لعبدالله بن جندب؛ و رسالة في وجوه المعايش للعباد؛ و وجوه إخراج الأموال؛ و رسالة في احتجاجه علي الصوفية فيما ينهون عنه من طلب الرزق؛ و رسالة حكم قصيرة. و الرسالتان الأخيرتان عملان أساسيان في الاقتصاد و الاجتماع، يدلان علي منهاج الامام في صلاح الدنيا بالعمل و العبادة معا. وثمة الرسائل العلمية المقترنة بجابر بن حيان. أما كتاب الجفر المنسوب الي الامام

الصادق (عليه السلام) - فيقول عنه ابن خلدون (806 - 732 ه) (1406 - 1332 م): «و اعلم ان كتاب الجفر كان أصله ان هارون بن سعيد البجلي - و هو رأس الزيدية - كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق و فيه علم ما سيقع لأهل البيت (عليهم السلام) علي العموم و لبعض الأشخاص منهم علي الخصوص، وقع ذلك لجعفر و نظائره من رجالاتهم علي طريق الكرامة و الكشف الذي يقع لمثلهم. و كان [ صفحه 197] مكتوبا عند جعفر في جلد ثور صغير فرواه عنه هارون البجلي و كتبه و سماه الجفر باسم الجلد الذي كتب عليه، لأن الجفر في اللغة هو الصغير. و صار هذا الاسم علما علي الكتاب عندهم. و كان فيه تفسير القرآن و ما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق (عليه السلام). و هذا الكتاب لم تتصل روايته و لا عرف عينه، و انما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل. ولو صح السند الي جعفر الصادق لكان نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه، فهم أهل الكرامات. و قد صح عنه أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصبح كما يقول». و الروايات متضافرة علي أن الجفر غير (الجامعة). و البعض يقول إن الجفر من مؤلفات علي (عليه السلام) أملاه عليه النبي (صلي الله عليه و آله و سلم). [53] . و هو جفران: الأبيض و هو وعاء من أدم فيه علوم الأنبياء و الوصيين و الذين مضوا من علماء بني اسرائيل، و الأحمر فيه علم الحوادث و الحروب. كان تلاميذ الصادق مدونين كبارا، فلقد عاشوا في عصر نهضة علمية كبري أعجب بها العالم، تبارت فيها يراعات المدونين. و

دارت عجلات التدوين كهيئة مادارت عجلات الطباعة عند ظهور المطبعة... بدأها عمر بن عبدالعزيز علي رأس القرن إذ أمر بتدوين السنة، و تابعها علماء الأمة من أهل السنة. و من بعد وفاة الامام الصادق (عليه السلام) في عام 148، دون أربعة آلاف من التلاميذ في [ صفحه 198] كل علومه، و من جملتها ما يسمي (الأصول الأربعمائة)، و هي أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف من فتاوي الصادق، و عليها مدار العلم و العمل من بعده. و خير ما جمع منها كتب أربعة هي مرجع الإمامية في أصولهم و فروعهم الي اليوم، و هي «الكافي» و «من لا يحضره الفقيه» و «التهذيب» و «الاستبصار». و الكافي - لابي جعفر محمد بن يعقوب الكليني (329) - أعظمها و أقومها، و أحسنها و أتقنها. فيه 16190 حديثا. ألفه الكليني في عشرين سنة. و أما كتاب (من لا يحضره الفقيه) فوضعه ابن بابويه القمي - محمد بن علي بن موسي بن بابويه القمي [54] المقلب (بالصدوق) - (دخل بغداد سنة 350 و مات بالري سنة 381). و فيه 5963 حديثا. و هذا الكتاب أهم مؤلفاته مع أنه ألف ثلاثمائة كتاب. و أما «التهذيب» و «الاستبصار» فوضعهما بعد نحو قرن محمد بن الحسن بن علي الطوسي (460) الملقب ب (شيخ الطائفة)؛ و كان فقيها في مذهبي الشيعة و أهل السنة. و في (التهذيب) 13590 حديثا، و في (الاستبصار) 5511 حديثا. دخل الطوسي بغداد سنة 408 و استقر بها في أيام الشيخ المفيد (محمد بن النعمان 411 - 336) صاحب شرح عقائد الصدوق و أوائل المقالات، و نحو مائتي مؤلف. و تتلمذ الطوسي بعد موت الشيخ المفيد للشريف المرتضي فنجب في مدرسة الشرف، و في

«دار العلم» التي أنشأها، و كان يجري عليه اثني عشر دنيارا في الشهر طوال ملازمته له حتي وفاة المرتضي. و انتفع بكتب المرتضي و الكتب التي حوتها مكتبته. فألف في كل علوم الاسلام، و اجتهد الاجتهاد المطلق؛ فكان حجة في فقه الشيعة و السنة. و من أجل آثاره تدريسه في مجالسه، و أماليه «بالنجف الأشرف» في جوار مشهد أميرالمؤمنين علي (عليه السلام). و بهذا افتتح عصر العلم بالنجف الأشرف فصار صنوا [ صفحه 199] للأزهر الأغر - الذي أقامته دولة من دول الشيعة - و المعهدان هما اللذان حفظا علوم الإسلام. فالطوسي، و الشريفان الرضي و المرتضي، و الشيخان المفيد و الصدوق، و الكليني، قد وصلوا ما انقطع من التأليف منذ عصر الامام الصادق (عليه السلام) حتي منتصف القرن الخامس، ليستمر التيار في التدفق. و الشريفان في مدرسة جدهما صنوان؛ أبوهما أبوأحمد الموسوي (نسبة الي جده الامام موسي الكاظم عليه السلام). و فيه قول ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة للشريف الرضي: كان أبوه أبوأحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العباس و بني بويه. و لقب «بالطاهر ذي المناقب» و لقبه أبونصر بن بويه «بالطاهر الأوحد». ولي نقابة الطالبيين عدة دفعات، كما ولي النظر في المظالم، و حج بالناس مرارا علي الموسم. عاش أبوأحمد طوال القرن الرابع (400 - 304) و كان يستخلف علي الحج ولديه «الرضي» و «المرتضي». و الشريف الرضي (406 - 358) هو شاعر العربية الشهير، و جامع «نهج البلاغة» الأشهر، من خطب أميرالمؤمنين علي (عليه السلام). تولي نقابة (الطالبيين) في حياة أبيه و من بعده، و تولي النيابة عن الخليفة العباسي. فهذه ولاية يتفرد بها في التاريخ، تجمع بين نقابة الطالبيين و بين نيابة الخلافة السنية. و للشريف

الرضي تآليف عظيمة في تفسير القرآن منها (1) تلخيص البيان في معجزات القرآن. (2) حقائق التأويل و متشابه التنزيل. (3) معاني القرآن. كذلك له (4) مجازات الآثار النبوية. (5) خصائص الأئمة. أما الشريف المرتضي (436) فيقول عنه الثعالبي في «يتيمة الدهر» - و هما متعاصران - «انتهت الرياسة اليوم ببغداد الي المرتضي في المجد و الشرف و العلم و الأدب و الفضل و الكرم. و له شعر نهاية في الحسن. و مؤلفاته كثيرة؛ منها أمالي المرتضي - الشافي - تنزيه الأنبياء - المسائل الموصلية الأولي - مسائل أهل الموصل [ صفحه 200] الثانية - مسائل أهل الموصل الثالثة - المسائل الديلمية - المسائل الطرابلسية الأخيرة - المسائل الحلبية الأولية - المسائل الجرجانية - المسائل الصيداوية - و تآليف أخري كبيرة في الفقه و القياس و رفضه. و قد شرح تلميذه الطوسي أكثر من مؤلف له». و من أعظم آثاره إنشاء «دار العلم» ببغداد و رصده الأموال عليها و إجراؤه العطاء علي التلاميذ و إطعامهم و إسكانهم. و كان يتبع «دار العلم» هذه مكتبته التي تحوي أكثر من ثمانين ألف مجلد. و حسبه ان يكون الطوسي من تلاميذه. و في آثار هذا السلف العظيم تتابع ركب العلماء و المؤلفين الفحول يخلدون فقه الاسلام.

مشيخة العلماء

كان مع الكتب التي آلت عن علي (عليه السلام) و معاصريه، مؤلفات، كبيرة أو صغيرة، وضعها من جاءوا بعده، و سير لهذا الثبت الضخم من شيعته من الصحابة و التابعين و تابعي التابعين. فهذا هو التراث التاريخي للشهداء و أشياع الشهداء... لا تكف الأمة عن ترديده، جهرة و خفية، يتصدرهم الصحابة العظماء و اليك بعض الأسماء: سلمان الفارسي (و الذي يطلق عليه سلمان

المحمدي)؛ و أبوذر (أصدق الناس لهجة)؛ و عمار الذي (تقتله الفئة الباغية) و هو في التسعين يحارب مع علي (عليه السلام)؛ و العباس بن عبدالمطلب؛ و أبوأيوب الأنصاري؛ و المقداد بن الأسود الكندي الذي قال لعلي (عليه السلام) يوم بيعة السقيفة: «إن أمرتني ضربت بسيفي و ان أمرتني كففت»، قال (عليه السلام): (اكفف)؛ و خزيمة ذو الشهادتين؛ و أبوالتيهان؛ و عبدالله و الفضل ابنا العباس؛ و بلال بن رباح؛ و هاشم بن عتبة المرقال؛ و ابان و خالد ابنا سعيد بن العاص؛ و أبي بن كعب سيد القراء؛ و أنس بن الحرث بن نبيه؛ و عثمان و سهل ابنا حنيف؛ و بريدة؛ و حذيفة؛ و قيس بن سعد بن عبادة رئيس الأنصار؛ و هند بن أبي هالة - أمه أم سلمة أم المؤمنين؛ و جعد بن هبيرة المخزومي - أمه أم هانئ بنت أبي طالب؛ و جابر بن [ صفحه 201] عبدالله الأنصاري. و سيجري في آثار الصحابة التابعون لهم و تابعو التابعين... فيضيفون الي التراث العظيم آثار رجال عظماء منهم، من أشياع علي (عليه السلام): الأحنف بن قيس؛ سويد بن غفلة؛ الحكم بن عيينة؛ سالم بن أبي الجعد؛ علي بن أبي الجعد؛ السعيدان: ابن جبير و ابن المسيب؛ [55] يحيي بن نظير العدواني؛ الخليل بن أحمد الفراهيدي مؤسس علم العروض؛ و أبومسلم معاذ بن مسلم الهراء مؤسس علم الصرف. و في مدرسة التابعين هذه برز: أبوهاشم (عبدالله بن محمد بن الحنفية ابن أميرالمؤمنين)... و أبوهاشم أول من تكلم في علم الكلام... و من بعده نشأت مدرسة المعتزلة يتزعمها و اصل بن عطاء و عمرو بن عبيد. و بأبي هاشم تبدأ مدرسة المتكلمين من الشيعة. و من جيل التابعين: هشام بن محمد بن السائب الكلبي؛ و أبومخنف الأزدي

المؤرخان. و يتوالي موكب العلم العظيم من عهد علي (عليه السلام)... و تتعالي أصوات الدعاة العظماء للمذهب الشيعي، كالنابغة الجعدي: شهد صفين مع أميرالمؤمنين، و له فيها أشعاره المشهورة، و كان معه عروة بن زيد الخيل؛ و لبيد بن ربيعة؛ و كعب بن زهير صاحب قصيدة «بانت سعاد». و من بعدهم: الفرزدق، و كثير بن عزة من شعراء القرن الأول، ثم الكميت؛ و قيس بن ذريح؛ و السيد الحميري؛ و دعبل الخزاعي؛ و أبوتمام؛ و البحتري؛ [ صفحه 202] وديك الجن؛ و الحسين بن الضحاك؛ و ابن الرومي؛ و الأشجع السلمي. [56] . و علم أهل البيت علم كل الأمة. فأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) في قمة السند عند الجميع من سنة و شيعة. لكن الذين ينقلون عنه - من الشيعة أو السنة - محل تفاوت. فالشيعة لا يقبلون كلمة ممن حارب عليا (عليه السلام) أو ظلمه من الصحابة أو التابعين. و أهل السنة، مع اختلافهم من ناحية شروط الرواية و الراوي، لا يقبل بعضهم ما لا يصل اليه بطريقته، و يتشكك بعضهم في بعض ما يرويه الشيعة لأمور تتعلق بالسند أو [ صفحه 203] بالمتن أو برواية من الشيعة. و في اسناد الشيعة فحول - بكل المقاييس - في العدالة و النزاهة و العلم، تتردد اسماؤهم عالية في «كتب الحديث» و «الصحاح» التي يقوم عليها العلم عند أهل السنة - و الحق أن «جوهر الحديث النبوي» واحد عند هؤلاء و أولاء، مع تعدد الطرق. و من هؤلاء: - الحارث بن عبدالله الهمداني (65) صاحب أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) و خاصته. حديثه في كتب السنن الأربعة: قال ابن سيرين «كان من أصحاب ابن مسعود خمسة يؤخذ عنهم أدركت أربعة منهم وفاتني الحارث، فلم أره.

و كان يفضل عليهم و كان أحسنهم. و يختلف في هؤلاء أيهم أفضل: علقمة و مسروق و عبيدة». - علقمة بن قيس النخعي (62) عم الأسود و أخويه أبناء يزيد. كان من أولياء آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم). و الشهرستاني يعده من الشيعة فهو قد شهد صفين مع أميرالمؤمنين، و استشهد فيها أخوه أبي، و خضب علقمة سيفه من دماء الخوارج، و لم يزل عدوا لمعاوية حتي مات. و مكانة علقمة عند أهل السنة من المسلمات. كان عنده كل علم ابن مسعود. و في بيت علقمة نشأت مدرسة النخعيين، و فيها نجب ابراهيم بن يزيد واسطة العقد في فقه العراق. - ظالم بن عمرو قاضي البصرة لعلي (ابوالأسود الدؤلي) (69). احتج به أصحاب الصحاح الستة. و هو واضع علم النحو... و مكان النحو من اللغة، و مكانة اللغة من القرآن و السنة و كل علوم الأمة، يضعان أباالأسود في أعلي مكان. - عبدالله بن شداد بن الهاد (81). أمه سلمي بنت عميس أخت أسماء أم عبدالله بن جعفر و محمد بن أبي بكر و يحيي بن علي. و هو أخو عمارة بن حمزة لأمه. و حمزة بطل أحد و شهيدها. [ صفحه 204] روي عن علي (عليه السلام) و أمي المؤمنين عائشة و ميمونة. خرج مع القراء أيام ثورة ابن الأشعث فقتل يوم دجيل. احتج بحديثه أصحاب الصحاح و سائر الأئمة أصحاب المسانيد. - سليمان بن صرد الخزاعي (65) كبير الشيعة في عصره، و بطل من أبطال صفين. يحتج به المحدثون. و حديثه عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) بلا واسطة، أو بواسطة الصحابي جبير بن مطعم، موجود في صحيحي البخاري

و مسلم. و حديثه في غيرهما كثير. و هو قائد التوابين الذين نهضوا للثأر لدم الحسين (عليه السلام). و كانوا أربعة آلاف ساروا الي عبيدالله بن زياد و هو في سبعين ألفا، فتلاقوا في موضع يقال له «عين الوردة» حيث استشهد سليمان عن ثلاثة و تسعين عاما و هو يحارب جيش عبيدالله بن زياد. أما عبيدالله بن زياد فقتله ابراهيم بن الأشتر النخعي بيده. - صعصعة بن صوحان العبدي: أسلم في عهد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و لم يره. و هو من مشاهير خطباء العربية الذين خلدت بلاغتهم، فهو تلميذ في مدرسة أميرالمؤمنين (عليه السلام). شهد معه «الجمل» و معه أخواه زيد و سيحان. و كانت الراية بيد سيحان يوم ذاك، فقتل، فأخذها زيد فقتل، فأخذها صعصعة و انتصر. ثم شهد صفين مع أميرالمؤمنين (عليه السلام). روي عن علي و ابن عباس. و نفاه المغيرة بن شعبة والي العراق بأمر معاوية، الي الجزيرة في البحرين فمات - احتج به النسائي. - عمرو بن وائلة - أبوالطفيل - (110) كان صاحب راية المختار ابن عبيد الثقفي. و هو آخر الصحابة موتا. قدم علي معاوية يوما فقال له: كيف وجدك علي خليلك أبي الحسن؟ (يقصد أميرالمؤمنين عليا عليه السلام) فأجاب: كوجد أم موسي علي موسي. و أشكو الي الله التقصير. قال معاوية: كنت فيمن حصر عثمان؟ قال: لا ولكن فيمن حضره. [ صفحه 205] قال معاوية: فما منعك من نصره. قال: فما منعك أنت من نصر عثمان؟ كنت في أهل الشام و كلهم تابع لك فيما تريد. قال معاوية: أو ما تري طلبي لدمه نصرة له؟ قال: إنك لكما قال أبوجعف: لألفينك بعد الموت تطلبني و في حياتي ما زودتني زادا

و حديثه في صحيح مسلم. روي عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و عن علي و ابن مسعود و حذيفة بن اليمان و حذيفة بن سعد و ابن عباس و عمر و معاذ. - إبراهيم بن يزيد النخعي (95) أبوه يزيد بن عمرو بن الأسود النخعي. و أخواله الأسود و ابراهيم و عبدالرحمن ابناء يزيد بن قيس. يؤلفون - مع علقمة بن قيس - مدرسة النخعيين. و ابن قتيبة يعتبر ابراهيم من الشيعة. و روايته في الصحيحين. و عنه يروي حماد بن أبي سليمان. و عن حماد يروي أبوحنيفة. و من فحول القرن الثاني كثيرون نختار منهم بعض الأسماء: - عطية العوفي (111) كان أبوه من أصحاب علي (عليه السلام). و علي هو الذي أعطاه اسمه. ضربه الحجاج 400 سوطا لا متناعه عن سب علي (وحد الجلد مائة!). له ذرية نبلاء من الشيعة؛ منهم الحسين بن الحسن بن عطية الذي ولي القضاء. يحتج به أبوداود و الترمذي. - جابر بن يزيد الجعفي (127). قالوا: إنه كان يؤمن بالرجعة. و أحاديثه في مسلم. و روي عنه النسائي و الترمذي و أبوداود و أخذ عنه شعبة. و من أجل قولهم عنه و وثاقته يروي ابن عبدالحكم عن الشافعي «ان سفيان (ابن عيينة) قال لشعبة: لئن تكلمت في جابر لأتكلمن فيك». - شعبة بن الحجاج (160) أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين. - عبدالرزاق بن همام (210) شيخ أحمد بن حنبل و يحيي بن معين و اسحق بن [ صفحه 206] راهويه. سئل يحيي، و هو استاذ الجرح و التعديل، عن الرواية عن عبد الرزاق مع تشيعه، فقال: لو ارتد عن الاسلام ما تركنا حديثه. و كان عبدالرزاق يتكلم

في عثمان. و ذكر أمامه معاوية مرة فقال: لا تقذروا مجالسنا بذكر ولد أبي سفيان. [57] . - الأعمش - سليمان بن مهران الأسدي الكوفي - (148). يحتج به أصحاب الصحاح الستة. و يروي عنه شعبة و جرير و السفيانان (الثوري إمام الكوفة و ابن عيينة إمام المدينة). بعث اليه هشام بن عبدالملك ليكتب له مناقب عثمان و مساوئ علي. فأخذ القرطاس و أدخلها في فم شاة و قال للرسول: قل له هذا جوابه. قال الرسول: لقد أقسم ان يقتلني إن لم آت بجوابك. فكتب: «أما بعد، فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كان لعلي مساوئ أهل الأرض ما ضرتك. فعليك بخويصة نفسك. و السلام». - ابن لهيعة (174) قاضي مصر. يقول عنه سفيان «عند ابن لهيعة الأصول و عندنا الفروع». - شريك بن عبدالله النخعي القاضي (177). كان يقول «علي خير البشر فمن أبي فقد كفر». سأله الخليفة المهدي يوما: ماذا تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: ما قال فيه [ صفحه 207] جداك العباس و عبدالله. قال ما قالا؟ قال شريك: أما العباس فمات و علي عنده أفضل الصحابة. و كان يري المسلمين يسألونه عما ينزل من النوازل، و ما احتاج هو الي أحد حتي لحق بالله. و أما عبدالله فإنه كان يضرب بين يديه بسيفين، و كان في حروبه سيفا منيعا و قائدا مطاعا. فلو كانت إمامته علي جور كان أول من يقعد عنها أبوك لعلمه و فقهه في أحكام الله. و لم يمض وقت طويل حتي عزل شريك. [58] . - خالد بن مخلد القطواني (213) شيخ البخاري. قال عنه أبوداود: صدوق و لكن يتشيع! - هشيم بن بشير أول أشياخ أحمد بن

حنبل المحدثين (163). [ صفحه 208] - عبدالله بن موسي العبسي (263) من مشايخ بخاري. - معروف الكرخي (200) زعيم الصوفية. وصف ابن حنبل معروفا لابنه عبدالله بن حنبل عندما سأله: هل عنده علم؟ فقال: كان عنده رأس الأمر كله؛ تقوي الله.

التلاميذ من الشيعة

صنف الحافظ أبوالعباس بن عقدة كتابا جمع فيه رجال الصادق (عليه السلام) ورواة حديثه و أنهاهم الي أربعة آلاف. و كتب من أجوبته أربعمائة مصنف. و إنما أمكنه من ذلك انقطاعه المخلص للتعليم عامة و تعليم السنن و الفقه و التفسير خاصة، للشيعة و لغيرهم. كان الرواة من تلامذته و من غيرهم - كما يقول اليعقوبي - يروون عنه فيقولون: قال (العالم). و كثيرا ما جلس في مجلس الامام المخضرمون الي جوار الجيل الجديد من المتفقهة؛ و من الأولين قيس الماصر، و أبان بن تغلب، و مؤمن الطاق. و كثيرا ما درب التلاميذ بين يديه ليصنعوا علي عينيه. يفد علي المدينة وافد من الشام فيعدو الي المجلس و يناقشهم في «وجوب تنصيب الإمام» فيتجارون في جداله حتي يسلم لهم. ثم يعلق الامام الصادق (عليه السلام) علي طريقتهم أو قدرتهم، فيقول لحمران بن أعين «تجري الكلام علي الأثر فتصيب».ثم يلتفت لهشام بن سالم فيقول له «تريد الأثر و لا تعرفه». و يلتفت الي الأحول (الطاقي) و يقول «قياس رواغ تكسر باطلا بباطل، لكن باطلك أظهر». و يقول لقيس الماصر «تتكلم و أقرب ما تكون الي الخبر عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. أنت و الأحول قفازان حاذقان»... و أخيرا يقول لهشام بن الحكم: «يا هشام: لا تكاد تقع... تلوي رجليك. إذا [ صفحه 209] هممت بالأرض طرت. مثلك يكلم الناس. فاتق الزلة...».

و لقد يلاحظ المرء من ذلك تعدد طرقهم و تفاوت علمهم و نفاذ بصر الامام (عليه السلام) الي خصائصهم، و دوره في تصويب و تدريب كل منهم، و هو لا يتركهم دون تشجيع؛ يشير الي زرارة بن أعين و بريد العجلي و أبي بصير المرادي و محمد بن مسلم فيقول: «لو لا هؤلاء لانقطعت آثار النبوة واندرست». و كان في أسرة زرارة الحفاظ المدققون يتصدرهم تلميذا الامام، الحسن و الحسين ابنا زرارة. و الامام يهب الأسرة جلال الذكري في التاريخ فيقول: «لولا أسرة زرارة و نظرائه لا نقطعت أحاديث أبي». و هو إذ يثني علي أسرة زرارة، يشجع النظراء، و ربما لا يتركهم الامام دون تضييف: فالمستشرق رونلدسن يصور بعض مجالس الامام مع تلاميذه فيقول ما تعريبه «و من الوصف الذي نقرؤه عن إكرام جعفر الصادق ضيوفه في بستانه الجميل في المدينة، و استقباله الناس علي اختلاف مذاهبهم، يظهر لنا أنه كانت له مدرسة شبه سقراطية. و قد ساهم تلاميذه مساهمة عظمي في تقدم علمي الفقه و الكلام. و صار اثنان من تلامذته و هما (أبوحنيفة و مالك) فيما بعد من أصحاب المذاهب الفقهية. و أفتوا بالمدينة أن اليمين التي أعطيت في بيعة المنصور لا تعتبر، ما دامت أعطيت بالإكراه. و يروي ان تلميذا آخر من تلامذته و هو «و اصل بن عطاء» رئيس المعتزلة جاء بنظريات في الجدل مما ادي الي اخراجه من حلقة تدريس الامام جعفر، و كان (جابر بن حيان) الكيميائي الشهير من تلامذته أيضا». و اليك بعض الأسماء: «أبان بن تغلب» (141) تلميذ زين العابدين و الباقر و الصادق (عليهم السلام). قال له الباقر (عليه السلام): «اجلس في المسجد و أفت الناس. فأنا أحب

أن يري في شيعتي مثلك». و قال له الصادق (عليه السلام): «ناظر أهل المدينة فأنا أحب أن يكون مثلك من رواتي و رجالي». كان اذا دخل علي الصادق (عليه السلام) عانقه و أمر بوسادة تثني له، و أقبل عليه بكله، و لما مات قال: أما و الله لقد أوجع قلبي موت ابان. [ صفحه 210] روي عن الصادق ثلاثين ألف حديث، و هو - بهذه المثابة - شاهد علي التعاقب و الاستمرار و الشمول في علم أهل البيت (عليهم السلام). يعرف الشيعة بأنهم (الذين اذا اختلف الناس أخذوا بقول علي عليه السلام و اذا اختلف الناس عن علي أخذوا بقول جعفر بن محمد عليه السلام) فهو القائل في جعفر بن محمد: «ما سألته عن شي ء إلا قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم». كان اذا جلس بالمسجد تقوضت اليه الحلق، و أخليت له سارية النبي (صلي الله عليه و آله و سلم). فيجيئه الناس يسألونه فيجيئهم بمختلف الأقوال. ثم يذكر قول أهل البيت (عليهم السلام) و يورد حججه. و من أجل هذا المنهج في التدريس كان الصادق (عليه السلام) يوصي التلاميذ بأن يعبوا من منابعه؛ يقول لأبان بن عثمان: إيت أبان فإنه سمع عني ثلاثين ألف حديث فاروها عنه. فهو لا يتردد في تفضيله حتي ليجعله طبقة بينه و بين سميه في الرواية عنه. و قد احتج بحديثه مسلم بن الحجاج في صحيحه و أصحاب السنن الأربعة. و روي عنه سفيان بن عيينة شيخ الشافعي. و له كتب شتي منها كتاب في الأصول. - ثابت بن دينار (150) - أبوحمزة الثمالي - تلميذ الامام الصادق (عليه السلام) و السدي المفسر. يقول فيه الرضا حفيد الصادق (عليهماالسلام): أبوحمزة في زمانه كلقمان في

زمانه. استشهد بنوه الثلاثة حمزة و نوح و منصور في خروجهم مع زيد بن علي - روي عنه الترمذي. - «مؤمن الطاق» - كما يسميه الشيعة - نسبة الي «طاق المحامل» حيث كان متجره، أو «شيطان الطاق» كما يسميه فقهاء السنة؛ هو: محمد بن علي بن النعمان الأحول. و يقال ان أباحنيفة هو الذي لقبه بشيطان الطاق لمناظرة جرت بين الخوارج و بينه أمام أبي حنيفة. و الراجح ان خصومه سموه كذلك لعبقريته. أما الأمام الصادق (عليه السلام) فيناديه بعبارة بارعة يرضاه الجميع «ياطاقي» أو يقول (صاحب الطاق). كان مناظرا لا يشق له غبار. رآه تلميذ آخر يناظر، و أهل المدينة يضيقون بمناظرته حتي قطعوا آراءه، و هو لا ينكف عن الجدل. فنبهه علي ان الامام ينهاهم عن الكلام. [ صفحه 211] فالتفت اليه و قال: أو أمرك أن تقول لي؟ قال لا، و لكنه أمرني أن لا أكلم أحدا. قال: اذهب فأطعه فيما أمرك. و سمع الصادق (عليه السلام) بالواقعة من التلميذ، فتبسم و قال له: ان صاحب الطاق يكلم الناس فيطير. أما أنت ان قصوك لن تطير. و يروي انه ناظر زيد بن علي في إمامة الصادق (عليه السلام). كان أبوحنيفة يتهمه بالرجعة؛ و هو يتهم أباحنيفة بالقول بالتناسخ. تلاقيا بالسوق يوما و مع صاحب الطاق ثوب يبيعه. قال أبوحنيفة أتبيعه الي حين رجعة؟ قال: إن أعطيتني كفيلا أن لا تمسخ قردا. و لما مات الامام الصادق (عليه السلام) قال له أبوحنيفة: مات إمامك. فأجابه: لكن إمامك لا يموت إلي يوم القيامة. [59] . و له كتاب في مناظراته لأبي حنيفة. - أبان بن عثمان بن أحمر البجلي. يروي عن الصادق ثم عن الكاظم (عليهماالسلام)، و له مؤلفات شتي،

و ذكره ابن حيان في الثقات. و هو علي رأس الستة الذين أجمع الشيعة علي تصحيح ما يصح عنهم و الإقرار بالفقه لهم؛ و هم: أبان، و جميل بن دراج، و عبدالله بن مسكان، و عبدالله بن بكير، و حماد بن عيسي، و حماد بن عثمان. - هشام بن الحكم (179) نشأ بالكوفة و دخل بغداد للتجارة و استقر بها، و لزم الامام الصادق (عليه السلام) ثم صار خصيصا بالإمام الكاظم (عليه السلام) يقول عنه ابن النديم: هو من جلة أصحاب جعفر. و هو من متكلمي الشيعة ممن فتقوا الكلام في «الامامة». عمل مدة من الزمان قيما بمجالس الكلام عند يحيي بن برمك وزير الرشيد. و كان أول أمره من أصحاب جهم بن صفوان ثم انتقل الي القول بالإمامة في شبابه. [ صفحه 212] فكان الصادق (عليه السلام) يدعو له: «لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك». و نفذ هشام الي المعتزلة من خلال (النظام). و ظل أثره قويا في غير المعتزلة حتي ظهر المذهب الأشعري. و هشام هو الذي يقول: ما رأيت مثل مخالفينا عمدوا الي من ولاه الله من سمائه فعزلوه و إلي من عزله الله من سمائه فولوه (يقصد تبليغ علي سورة براءة بدلا من أبي بكر، و قول جبريل للرسول: لا يؤديها عنك إلا أنت أو رجل منك). كان اذا قصد إفحام معارضيه لم يثبت أمامه رجل. سمعه الرشيد في بعض مجالس يحيي بن برمك و كان يحضرها من وراء ستر فقال: «ان لسان هشام أوقع في نفوس الناس من ألف سيف». و لما فتك الرشيد بالبرامكة طلب هشاما فاختفي. فأخذ به خلقا كثيرا ثم أطلقهم بعد ان مات هشام مستترا. و لم تكن مجالس المناظرات

خالية من الخطر. يسأل هشاما سائل ذات يوم: «أما علمت أن عليا نازع العباس (جد الرشيد) - الي أبي بكر؟ فأيهما كان الظالم لصاحبه؟ - قال هشام فيما بعد «قلت في نفسي إن قلت العباس بلغ ذلك الرشيد، و إن قلت عليا ناقضت نفسي» - قال هشام: لم يكن فيهما ظالم. قال السائل أفيختصم اثنان... و هما محقان!! قال هشام: نعم اختصم الملكان الي داود، و ليس فيهما ظالم. و انما أراد أن ينبهاه. كذلك اختصم هذان الي أبي بكر ليعلماه ظلمه». فهو ينجو من المزالق، و يكرم الرجلين، و يفضل عليا علي أبي بكر. و من وصية الامام الصادق (عليه السلام) له قوله: «يا هشام من أراد الغني بلامال، و راحة القلب من الحسد، و السلامة في الدين، فليفزع الي الله في مسألته ان كل له عقل. فمن عقل قنع بما يكفيه. و من قنع استغني. و من لم يقنع لم يدرك الغني أبدا... يا هشام كما تركوا لكم الحكمة اتركوا لهم الدنيا... العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه. إن الزرع ينبت في السهل... من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قبله». و كان يحذره من التشبيه و التجسيم، و قد كانت تبلغه عنه زلات في هذا الشأن. و مع [ صفحه 213] ذلك لا يكف عن تشجيعه. فيستعيده رواية ما وقع منه مع عمرو بن عبيد زعيم المعتزلة. و يستحي هشام. فيقول له الامام (عليه السلام): «إذا أمرتكم بشي ء فافعلوا». فيقول هشام: «بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة، فعظم ذلك علي، فخرجت اليه و دخلت البصرة يوم الجمعة و أتيت المسجد، و إذا بحلقة عظيمة فيها عمرو... و الناس يسألونه... فقعدت في

آخر القوم علي ركبتي. ثم قلت: أيها العالم. اني رجل غريب. تأذن لي في مسألة... قلت: ألك عين؟ قال نعم. فقلت: ألك أنف؟... ألك لسان؟... ألك أذن؟ قال نعم. قلت ألك قلب؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كل ما ورد علي هذه الجوارح و الحواس. قلت: أوليس في هذه الجوارح غني عن القلب. قال: لا. قلت: لابد من القلب و إلا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم. فقلت: يا أبامروان. و الله تعالي لم يترك جوارحك حتي جعل لها إماما يصحح لها الصحيح و تتيقن به مما شكت فيه، و يترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم و شكهم و اختلافهم لا يقيم لهم إماما يردون اليه شكهم و حيرتهم، و يقيم لك إماما لجوارحك ترد اليه شكك و حيرتك؟... فسكت. ثم التفت الي و قال: أنت هشام بن الحكم»... فضحك الامام (عليه السلام) و قال: من علمك هذا؟ قال: شي ء أخذته منك... قال: «هذا و الله مكتوب في صحف إبراهيم و موسي». و ظاهر ان طريقته كانت طريقة الامام في استعمال المحسوسات و الاعتبار بها في الإثبات و استعمال العقل بنزاهة في الاستدلال. و سنعرض لها فيما بعد. بلغت مؤلفات هشام سبعة عشر مؤلفا؛ منها: كتاب «الامامة» و كتاب الوصية و الرد علي من يطلبها، و كتاب الحكمين. - «جابر بن حيان» - أول من استحق في التاريخ لقب كيميائي، كما تسميه أوربا المعاصرة. و هو الذي يشير إليه الرازي (320 - 240) - جالينوس العرب - فيقول «استأذنا أبوموسي جابر بن حيان». و المؤرخون - إلا بعضا من غير المسلمين - متفقون [ صفحه 214] علي تلمذته للإمام، و علي صلته أو

تأثره به في العلم و العقيدة... و أكثرهم علي انه صار بعد موت الامام من الشيعة الإسماعيلية. يقول في كتابه الحاصل: «ليس في العالم شي ء إلا و فيه من جميع الأشياء. و الله لقد و بخني سيدي (يقصد الامام الصادق عليه السلام) علي عملي، فقال: يا جابر لولا أني أعلم أن هذا العلم لا يأخذه عنك إلا من يستأهله و أعلم علما يقينا أنه مثلك، لأمرتك بإبطال هذه الكتب من العلم». و كانت كتب رياضة و كيمياء تسبق العصور بجدتها... قيل انه أخذ علمه عن خالد بن يزيد ثم أخذ عن الامام جعفر (عليه السلام). و هو يشير الي الامام دائما بقوله «سيدي»، و يحلف به، و يعتبره مصدر الإلهام له. يقول في مقدمة كتابه (الأحجار): «و حق سيدي لولا أن هذه الكتب باسم سيدي - صلوات الله عليه - لما وصلت الي حرف من ذلك الي الأبد». ذكر له المستشرق كراوس ناشر كتبه في العصر الحديث أربعين مؤلفا، و أضاف ابن النديم في القرن الرابع للهجرة عشرين كتابا أخري. و ينقل ابن النديم قوله: «ألفت ثلثمائة كتاب في الفلسفة و ألفا و ثلثمائة رسالة في صنائع مجموعة، و آلات الحرب، ثم ألفت في الطب كتابا عظيما ثم ألفت كتبا صغارا و كبارا، و ألفت في الطب نحو خمسمائة كتاب. ثم ألفت في المنطق علي رأي ارسطو طاليس. ثم ألفت كتاب الزيج أيضا نحو ثلثمائة ورقة. ثم ألفت كتابا في الزهد و المواعظ. و ألفت كتبا في العزايم كثيرة حسنة، و ألفت في الأشياء التي يعمل بخواصها كتبا كثيرة. ثم ألفت بعد ذلك نحو خمسمائة كتاب نقضا علي الفلاسفة. ثم ألفت كتابا في الصنعة يعرف بكتب الملك. و كتابا

يعرف بالرياض». و تلاميذ الصادق المشهورون، فيما عدا من سلف ذكرهم، من كبار أهل السنة أشياخ للفقهاء في جميع المذاهب منهم: سفيان بن عيينة؛ و سعيد بن سالم القداح؛ و ابراهيم بن محمد بن أبي يحيي؛ و عبدالعزيز الدراوردي. و قد روي الشافعي عن كل هؤلاء. و جرير بن عبدالحميد؛ و ابراهيم بن طهمان؛ و عاصم بن عمر... بن عمر بن الخطاب؛ [ صفحه 215] و أبوعاصم النبيل (212) شيخ أحمد بن حنبل؛ و أبوعاصم آخر تلاميذ الامام الصادق وفاة، و قد روي عنه كتابا؛ و الكسائي عالم اللغة؛ و عبدالعزيز بن عبدالله الماجشون زميل مالك في الفتيا في موسم الحج؛ و عبدالعزيز بن عمران... بن عبدالرحمن بن عوف؛ و ابن جريح امام مكة؛ و الفضيل بن عياض؛ و القاسم بن معن؛ و حفص بن غياث - و الثلاثة أصحاب أبي حنيفة؛ و منصور بن المعتمر؛ و مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي بمكة؛ و يحيي بن سعيد القطان. و إنما أحدثت السياسة الخلافات بين فقهاء السنة و الشيعة فانتجت وجوها لخلافات فقهية و حديثية. فوجدنا للشيعة رواة ليسوا من رواة الكتب التي يتداولها أهل السنة و منها الصحاح الستة المشهورة. فالشيعة لا يقبلون أحاديث من حاربوا عليا (عليه السلام) أو أخطأوا في حقه. و من الناحية الأخري وجدنا في بعض كتب الحديث لأهل السنة، أوصافا للرواة من الشيعة، تتضح منها جذور هذه الخلافات. و اليك بعض أمثال: - كان الشعبي - شيخ المحدثين بالكوفة علي رأس المائة الأولي - يكذب الحارث الهمداني، صاحب علي (عليه السلام)، فيسلط الله علي الشعبي ثقات أثباتا من الرواة يستخفون به. - و أبان بن تغلب خريج مدرسة السجاد و الباقر و الصادق (عليهم السلام).

يقول فيه الحافظ السعدي: زائغ مجاهر. و يقول فيه الجوزجاني: زائغ مذموم المذهب. و يقول عنه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال: «شيعي جلد. و لكنه صدوق. فلنأخذ صدقه و عليه بدعته». - و علي هذا النحو تجد خالد بن مخلد القطواني (213)، و هو من مشايخ البخاري، يقول عنه ابن سعد، إنه كان مفرطا في التشيع. و يقول عنه ابوداود: صدوق لكنه يتشيع. [ صفحه 216] - و تجد تليد بن سليمان. يقول فيه أبوداود - تلميذ أحمد - رافضي يشتم أبابكر و عمر. فلنا «صدقه» و عليه «بدعته». لكن ابن حنبل يأخذ عنه. و حسب الرجل شهادة ابن حنبل. - و جعفر بن سليمان يقول فيه ابن عدي: «أرجو أنه لا بأس به»، في حين أن أحمد بن حنبل عندما يقال له ان سليمان بن حرب يقول لا تكتبوا حديث جعفر بن سليمان، يرد أحمد: «لم يكن ينهي عنه انما كان جعفر يتشيع» فيبين سبب ظلم سليمان له. - و لقد تجد الراوية يقول بالرجعة، فيضعه يحيي من معين، استاذ الجرح و التعديل و زميل أحمد بن حنبل، لكنك تجد عبدالرزاق بن همام يقول بالرجعة و مع ذلك يروي عنه الأعمش و سفيان و شعبة و ابن حنبل و يحيي نفسه و سفيان بن عيينة شيخ المحدثين بمكة و استاذ الشافعي. و أحمد ابن حنبل صاحب المسند العظيم. - أو تجد زبيد بن الحارث، يقول فيه الجوزجاني: «كان ممن لا يحمد الناس مذاهبهم». و يضيف: «احتملهم الناس لصدق ألسنتهم في الحديث» لذلك يحتج به أصحاب الصحاح و أرباب السنن، و كمثلهم الشعبي و إبراهيم بن يزيد النخعي. و الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب يقول في الجوزجاني: «و أما الجوزجاني

فلا عبرة بحطه علي الكوفيين فالتشيع في عرف الأقدمين هو: أن عليا كان مصيبا في حروبه و ان مخالفه مخطئ، مع عدم تقديم الشيخين. و ربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله. و إذا كان معتقد ذلك ورعا دينا، صادقا، مجتهدا، فلا ترد روايته». و هذا هو الذي جعل روايات الرواة الذين ذكرناهم، و أمثالهم، تتردد في كتب الصحاح و السنن. هكذا كان انقسام الأمة نقمة علي العلم. و كان الوقوف علي أبواب السلاطين نقمة أخري. و الوسائل طيعة، من ترهيب و ترغيب و بث للعيون و الارصاد، و بخاصة علي [ صفحه 217] الشيعة، مما أورث هؤلاء العمل بالتقية. و التقية أو الحذر يوجبان الانطواء أو التباعد. و في عصر الخلافة العباسية كان «مذهب السلطان» مذهب أبي حنيفة في المشرق ، و مذهب مالك بإفريقية في المغرب، في حين كانت المعتزلة تتزعم التجديد و تلتصق بالخلفاء. و كان - الشافعية - كإمامهم - أساتيذ جدل، و كمثلهم كان أهل الظاهر أتباع داود، و قد بدأ شافعيا. و أما المحدثون فقد كانوا يمثلون السلف و الدفاع عن السنة. و كانت خلافات المتفقهة سمة العصر، و مثلهم المالكية. و في القرن الرابع الهجري جاب المقدسي (380) العالم الاسلامي، فذكر أن أهل الأندلس كانوا إذا وقعوا علي معتزلي أو شيعي قتلوه، ثم وصف تناحر الوسط العلمي في عصره بعبارات حادة، قال: «قلما رأيت في بغداد من فقهاء أبي حنيفة إلا رأيت أربعا: الرياسة، مع لباقة فيها، و الحفظ، و الخشية، و الورع. و في أصحاب مالك أربعا: النقل و البلادة و الديانة و السنة. و في أصحاب الشافعي: النظر و الشغب و المروءة و الحمق -

و في أصحاب داود: الكبر و الحدة و الكلام و اليسار. و في الشيعة: البغضة، و الفتنة، و اليسار، و الصيت». أما الصفتان الأوليان اللتان يصف بهما الشيعة فمردهما الي التمسك بمقدساتهم و علومهم في مواجهة المتعصبين الذين لا يكفون عن التناوش معهم من قريب أو بعيد. و اما الصيت، فأي صيت في الأمة أبعد من صيت أهل البيت (عليهم السلام) أو محبيهم! و أما اليسار فمرده الي فتوح الله عليهم، بالعلم الذي طالما علمهم الامام جعفر الصادق (عليه السلام)، في «منهج كامل في الاقتصاد»، سنعرض له فيما بعد. [ صفحه 219]

الدرس الكبير

اشاره

لكن نبي وصي و وارث. و إن وصيي و وارثي علي بن أبي طالب (حديث شريف) [ صفحه 221] أحدث انقسام الأمة بفعل بني أمية أثره في الفقه. و ليس كلام بعض المسلمين في أفراد الصحابة إلا أثر من آثار هذا الانقسام. و من الطبيعي ألا تمتنع الألسنة عما لم تمتنع عنه الأسلحة، و أن تستمر معارك الكلام و إن توقفت رحي الحرب. شق أهل الشام عصا الطاعة لأميرالمؤمنين منذ استخلف. و انتهت يوم «وقعة الجمل» فتنة عمياء. فيومئذ قال محمد بن الحنفية و هو يحمل الراية: هذه و الله الفتنة الكاملة العمياء. و ناداه أميرالمؤمنين (عليه السلام): «هل عندك في جيش مقدمه أبوك، شي ء!». و نفر البطل للقاء أهل الشام في صفين... و رفع جيش معاوية المصاحف. ثم كانت خدعة التحكيم و تمرد الخوارج و هزيمتهم. لكنهم ظلوا يمثلون التعصب العميق لفكر لم يتمرس بالسياسة و تبعات القيادة و حقن الدماء. فلاموا عليا (عليه السلام) لقبوله التحكيم مع معاوية. [60] و عندئذ لم يوالوا عليا و لا من والاه - لكن الدولة لم تؤل اليهم، و لهذا قل

أثرهم في الاتجاه العام للأمة. و انما الذي أحدث أثره العظيم في الأمة خلاف معاوية، إذ ولي الحكم و ألزم ولاته بالطعن في علي، و التنكيل بمن والاه. و نظرت العامة الي مصلحنها العاجلة في توقي الشرور من السلطة. و نظر المتفقهون - و معهم جمهور الأمة - بفقه طابعه [ صفحه 222] الشمول، أنزل الخلفاء الراشدين الأربعة منازلهم. و سبحت ثلة منهم بزوارق السلطة خوفا أو طمعا. و رأي البعض إرجاء إبداء الآراء. و بطش بنوأمية جبارين. فتضاءل عدد الشيعة أو تواري بعضهم تقية، كما قل اتصال أهل البيت (عليهم السلام) بالعامة و فقهاء الجمهور. و استمسك الشيعة بفقههم و روايات الأحاديث من أئمتهم أو عن أئمتهم. و لما قتل معاوية حجر بن عدي، لغضب الصحابي الجليل من القدح في أهل البيت (عليهم السلام)، كان معاوية يقتل استقلال الآراء عن السلطة. ثم كانت المذبحة الكبري بأهل البيت في كربلاء سنة (61) متابعة من يزيد لأبيه في حماية «العرش» الأموي بغير حساب. ثم صفت وقعة الحرة (63) جيل الصحابة من المهاجرين و الأنصار. و فصلت حروب المختار بين عبيدة بين أشياع السلطة و بين علي من جديد. و لم تكن حرب ابن الزبير مع أهل الكوفة، و لا حربهم لبني مروان، إلا أسبابا جديدة لانكماش الشيعة. و الحجاج - والي عبدالملك بن مروان - مصلت سيفه. و كمثله الولاة بعده. في أخريات العهد كان زين العابدين (عليه السلام) قد ملأ الأفق بورعه و علمه و سخائه، و بعده بزغ نجم الباقر (عليه السلام) في سماء المدينة، و أعقبه الصادق (عليه السلام)، ليبدأ إمامة مهد لها أبوه. و مكن لهم أن ينشروا العلم، الانصراف عن السياسة أو المطالبة بالحكم، فأشرق الفجر الجديد. لكن ثورة زيد

بن علي، ثم هجوم الخوارج علي المدينة، ثم هزيمتهم، ثم هزيمة بني مروان أمام العباسيين، ثم مطاردة العباسيين لأبناء علي (عليه السلام)، و قد تضاءلت بالنسبة لها مذابح الأمويين، كل أولئك زاد من القطيعة بين أصحاب السلطة و بين أهل البيت، و الانطواء من الشيعة علي أنفسهم، و الانفصال بين معظم الرواة من أهل السنة و بينهم: فرأينا عامر بن شرحبيل الشعبي (104) شيخ المحدثين في العراق و قاضي بني مروان يقول: «ماذا لقينا من آل علي إذا أحببناهم قتلنا و إن عاديناهم دخلنا النار». [ صفحه 223] و من كثرة ما عمل للخفاء، صار دربا علي معاملة الأمراء: سأله الحجاج كم عطاءك؟ قال: ألفين. فاستدرك الحجاج و قال: ويحك كم عطاؤك؟ قال: ألفان. قال: لم لحنت؟ قال: لما لحن الأمير لحنت، و لما أعرب أعربت... و سمعنا الحسن البصري (110) الجسور، إذ يروي عن علي (عليه السلام)، يقول: «قال أبوزينب» - و لما سأله ابن عياش «ما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي؟» أجاب: «يابن أخي... احقن دمي من هؤلاء الجبابرة، لولا ذلك لسالت بي أعشب». و لما تقطعت بين الشيعة و غيرهم الأسباب، اضمحلت، أو قلت، المشاركة العلمية. و صار هنالك عالمان فقهيان متقاطعان. و لم يكن غريبا في هذه القطيعة أن تقل رواية أهل السنة عن أهل البيت، أو أن نري مالك بن أنس - في المدينة ذاتها - يسأل عن سبب ندرة الرواية منه عن علي و ابن عباس فيجيب: لم يكونا ببلدي (يقصد أن عليا كان بالكوفة و ابن عباس بمكة)، أو نراه يقتصر - فيما يرويه عن الإمام الصادق - علي أحاديث قليلة جدا في الموطأ، و فيه نحو من ألف حديث. [61] . [ صفحه

224] و لما قال البخاري بعد أكثر من مائة عام من قيام الدولة العباسية - عن صحيحه «ما وضعت فيه إلا الصحيح. و ما تركت من الصحاح أكثر»، كان في هذا القول دلالة علي الاحتياط العلمي، و علي أن أحاديث صحاحا قد أغفلت، و أنها أكثر مما تضمنه كتابه من الصحيح. و لعله بهذا يقصد، فيما يقصد ، أحاديث علي و أهل البيت (عليهم السلام) فيما تركه من صحاح. فهو لم يرو أحاديث أهل البيت، في حين احتج بها الجميع [62] وورد الكثير منها في سائر الصحاح [63] و المسانيد. [ صفحه 225] و مع أن الحرب الكلامية و الافتراءات الموجهة للرواة كانت ضروسا فقد وثق الأئمة الفقهاء و المحدثون - أعظم التوثيق - الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، و شرفوا بالرواية عنه، و وقفت المذاهب الأربعة موقف الإجلال له. فكان ذلك إعلانا من أهل العلم أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) للجميع لا للشيعة وحدهم، و أن الحديث متي ثبت عنهم هو حديث جدهم (صلي الله عليه و آله و سلم). كان يوسف بن أبي يوسف يروي عن أبيه عن أبي حنيفة عن «جعفر بن محمد عليهماالسلام» عن سعيد بن جبير عن ابن عمر حديث رسول الله؛ و في الوقت ذاته يروي عن أبيه عن أبيه حنيفة عن اسحاق بن ثابت عن أبيه عن علي بن الحسين حديث رسول الله (عليهم السلام)، مع أن علي بن الحسين (زين العابدين عليه السلام) لم ير جده - و اللقاء من شروط البخاري. و يروي يوسف عن أبيه عن أبي حنيفة عن «جعفر بن محمد» حديث رسول الله - مع أن الصادق حفيد زين العابدين - فهذا أبوحنيفة و من روي عنهم - كمثل مالك و غيره - يروون عن أئمة

أهل البيت، و يأخذون بحديثهم عن رسول الله، مع أنهم لم يلقوه أو لم يكن بينهم و بين الرسول صحابي. و الكتب التي يقوم عليها الفقه الشيعي تروي كلها عن الامام جعفر الصادق أو الأئمة المعصومين (عليهم السلام)... يستوي في ذلك الكتب الأربعة الشهيرة و غيرها. و في ضوء ذلك نستطيع أن نفهم انقسام العلم بانقسام مصادره، و انحسار هذا البحر من بحاره عن الجمهور، باقتصاره علي الشيعة... و لا جرم كانت فيه كفاية لإنتاج هذا التراث، بما فيه عن غزارة، و باعتماده علي النقل و العقل معا، و بإقبال الشيعة - شأن الأقليات جميعها - علي تعميق علومها، و تقوية شعوبها. و ساعدهم انفتاح الفكر و اجتهاد الرأي في تطهير و سطهم العلمي و الاجتماعي ممن ينتسبون، أو ينسبهم [ صفحه 226] الخصوم اليهم، من الغلاة في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، [64] ثم تمييز علمهم من علم المخالفين الذين يتولون غير الامام جعفر و غير أبيه كالزيدية. [65] . [ صفحه 227] أو من علم الذين يتولون غيره و غير أبيه وجده كالكيسانية. [66] . يقول الشيخ المفيد في غلاة الشيعة: «و هم نسبوا أميرالمؤمنين و الأئمة من ذريته (عليهم السلام) إلي الألوهية و النبوة، و وصفوهم في الدين و الدنيا بما تجاوزوا فيه الحد و خرجوا عن القصد. فهم ضلال و كفار». و الإمامية لا يجيزون القدح في الصحابة. فإذا وجد قادحون منهم فآراؤهم فردية، في أفراد من الصحابة... يبديها المتطرفون، و أشباههم موجودون في أهل السنة، ممن قدحوا بطل الإسلام «علي»، و ريحانتي النبي «الحسن» و «الحسين». و القدح «معصية» لا تخرج من الإسلام. و لا يعتبر معصية اجتهاد «مجتهد» تأول فأخطأ. و قد

نظر علماء السنة هذا النظر الأخير الي خلافات المعتركين من الصحابة في الجمل و صفين، فاعتبروها اجتهادات فيها الخطأ و الصواب. و الإمام علي معلم أول للأصول و الفقه و أدب الدنيا و الدين، يقول عن الخوارج الذين كفروه! و طلبوا إليه التوبة!: «إخواننا بغوا علينا». [67] . [ صفحه 228] و الإمامية يقولون إن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أوصي الي اثني عشر إماما بأسمائهم؛ كل منهم يبين خلفه باسمه، إذ يكشفه الله له... أولهم علي الذي أوصي للحسن. و أوصي الحسن للحسين. و تتابعت لزين العابدين و منه للباقر الذي أوصي للصادق. و تتابعت الوصية من الصادق الي ابنه موسي الكاظم (183) فابن الكاظم علي الرضا (203) فابن الرضا محمد الجواد (220) فابن الجواد علي الهادي (254) فابن الهادي الحسن العسكري (260) فابن العسكري محمد المهدي المولود بسامراء سنة (256)، و المختفي بعد عام 260 و المنتظر ظهوره ليملأ الدنيا عدلا.

السنة

يروي الحارث الاعور: قلت يا أميرالمؤمنين إذا كنا عندك سمعنا منك ما يشد ديننا، و إذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة و لا ندري ما هي؟ قال: أو فعلتموها؟... سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يقول «أتاني جبريل فقال: يا محمد ستكون في أمتك فتن. قلت فما المخرج منها؟ فقال كتاب الله». و اذا كان في الكتاب حل لكل مشكلة، فالسنن موضحة و منفذة لأحكامه. و السنن إذ تروي عن جعفر بن محمد الصادق أو عنه عن آبائه أو تروي عن الأئمة عامة لا يوجد فيها صحابي يختلف الشيعة معه. و علي أساس هذه الأحاديث قام فقه الشيعة الإمامية، مرويا عن الامام، فلا

يناقشونه، فكلامه نصوص، أي هو سنة، في غني عن الإسناد، تغني عني الاجتهاد. و في كتبهم - كما قيل - ما يكفي الأمة حتي أرش الخدش. [ صفحه 229] و قد دون علم الأئمة و فقههم في كتبهم؛ و منه علم لدني عن الإمام المعصوم، و منه تفسيرهم للقرآن. [68] و الأئمة - عندهم - قد اختصوا بعلم ما لم ينص عليه و ما لم يعلنه النبي (صلي الله عليه و آله و سلم). و السنة أساسها القرآن. يقول الإمام الصادق: «إذا رويت لكم حديثا فسلوني أين أصله من القرآن». روي يوما نهي النبي «عن القيل و القال و فساد المال و كثرة السؤال» فقيل له: أين هذا من كتاب الله؟ فأجاب: إن الله تعالي يقول: «لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس» و قال تعالي: «و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما» و قال تعالي: «لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم». فهذه أصول قرآنية ثلاثة لحديث واحد في السلوك. و هو عليه الصلاة و السلام لا ينطق عن الهوي. و إذا لم يكشف الإجماع عن رأي الامام، فباب الاجتهاد مفتوح لطلب الحكم الشرعي فيما ليس فيه نص، و العقل - مع الضوابط التي يضعونها من قواعد و أصول - قدير علي أن يبلغ المجتهد طلبه. روي هشام بن سالم قول الصادق «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرعوا» - و في نهج البلاغة جملة من الأصول التي نبه عليها أميرالمؤمنين علي (عليه السلام)، و تكلم فيها الأئمة الباقر و الصادق و الرضا؛ كالكلام عن الناسخ و المنسوخ، و العام و

الخاص، و النوافل و الفرائض، و الرخصة و العزيمة، و المطلق و المقيد، و المحكم و المتشابه، والواجب و غير ذلك. و مما ردده الأئمة الثلاثة قواعد الجمع بين الحديثين المتعارضين، و الترجيح بينهما، و التخيير، و أحكام النسخ، [ صفحه 230] و لزوم رد المتشابه إلي المحكم، و جواز الأخذ بخبر الواحد، و العمل بالظاهر، و منع القياس أو تفسير القرآن بالرأي، و العمل بالاستصحاب، و أصالة الحل و الإباحة، و الطهارة و البراءة و الصحة، و قواعد الفراغ واليد و القرعة. و كلام الامام الصادق في هذه الأبواب كثير. و لهشام بن الحكم كتاب في مباحث الألفاظ، و في الأصول. و كذلك ليونس بن عبدالرحمن كتاب في الاصول. و السنة المتواترة هي التي يتكاثر رواتها و يتفرقون الي حد لا يمكن معه اتفاقهم علي الكذب. و بهذا يتحصل علم قاطع بأنهم لم يجمعهم جامع علي الكذب. و التواتر عن الرسول كالتواتر عن الإمام المعصوم. و الإمام الصادق يقول: «حديثي حديث أبي، و حديث أبي حديث جدي، و حديث جدي حديث الحسين، و حديث الحسين حديث الحسن، و حديث الحسن حديث أميرالمؤمنين، و حديث أميرالمؤمنين حديث رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و حديث رسول الله قوله تعالي». و التعبير بأن حديث الرسول هو قوله تعالي يعدل القول بأن السنة هي الحكمة التي ذكر القرآن ان الرسول يعلمها للمسلمين. و خبر الواحد مقبول لدي جمهور الفقهاء عندهم. و حجتهم في ذلك - علي الجملة - كحجج أهل البيت. [69] . و الصادق لا يري بأسا في رواية الحديث بالمعني. سأله تلميذه: أسمع منك الحديث فأزيد و أنقص؟ فأجاب: «أن تريد معانيه فلا بأس».

و لا يضيقون صدرا بالإرسال من الثقات، بغير معارض، فلقد تقرأ «صحيح فلان [ صفحه 231] عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام». [70] . و يمكن القول إجمالا إن الحديث عندهم صحيح و حسن و موثق و ضعيف. فالحديث الصحيح هو الذي ينقله العدل الضابط عن مثله في جميع الطبقات حتي الإمام المعصوم. و الحديث الحسن هو المتصل السند بالإمام المعصوم. فان انقطع السند لم يعد حسنا. و يشترط أن يكون الراوي ممدوحا من غير معارضة ذم و إن لم تثبت العدالة. فلو ثبتت لكان صحيحا. و الحديث الموثق هو ما دخل في طريقه غير إمامي إذا كان الأصحاب الإمامية يوثقونه. و هنا لا يشترط الاتصال بالإمام المعصوم. و هناك من يشترط أن يتوسط غير الإمامي إماميين. و هناك من يرفضه. و الحديث الضعيف غير هذه الأقسام الثلاثة: و ما لا يبلغ حد التواتر يسمي خبر الواحد. فوصف الواحد يراد به عدم التواتر، و قد يكون عن متعددين. فالخبر المستفيض و المشهور نوع من خبر الواحد؛ المستفيض مارواه أكثر من اثنين، و المشهور ما اشتهر علي الألسن و في الكتب، و إن كان رواية واحد. [71] . [ صفحه 232] أما الشهادة فيقول فيها الإمام الصادق: «لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء و الاوصياء، فمن لم تره بعينيك يرتكب ذنبا و لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر. و شهادته مقبولة و إن كان في نفسه مذنبا». و إذا كان في بعض المذاهب من لا يقبل شهادة أصحاب الصنائع التي يسمونها (دنيئة)، فالإمامية يرون قبول شهادتهم، و الله يقول: «إن اكرمكم عند الله اتقاكم» فليس في

الصناعات شريف و مشروف، و إنما الصناع فيهم من هؤلاء و هؤلاء. و الشيعة - مع هذا - ضائق صدرهم بالطفيليين و المستجدين، فهؤلاء متساهلون في عزة النفس التي أمر الله بها المسلمين. و الصادق يقول: «إن الاجماع لا ريب فيه». و هو عند الإمامية «اتفاق جماعة يكشف اتفاقهم عن رأي المعصوم» فلا يخلو عصر من وجود الإمام ظاهرا أو خافيا. و إذا كان اتفاق جماعة من الإمامية فيخرج غيرهم. و من أجل ذلك عرفت آراء الصادق من خلال اتفاق تلاميذه. و ليست الحجة للإجماع، بل هي لرأي الإمام المعصوم الذي يكشف عنه الإجماع. و الإجماع يثبت بالتواتر و المشاهدة و بخبر الواحد. و ليس اجتماع الرجال شرطا عندهم. و الإجماع من عصر أو عصرين لا يجعل الحكم ضرورة دينية أو مذهبية، بل [ صفحه 233] يكون اجتهاديا يقبل الجدال. أما إجماع الأمة في كل عصر و مصر، من عهد الرسول الي الآن، فيجعل الحكم من ضرورات الدين. و الاجماع من الصحابة يدخل فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فهو الإمام المعصوم. و العقل يكشف عن نظر الإمام ان لم يوجد نص أو إجماع. فالاجتهاد [72] مفتوح أبدا في الظنيات التي ليس فيها دليل من الشرع يفيد اليقين، و ليس للعقل فيها حكم واجب حتم، كخلاف الصحابة في العول في المواريث وعدة الحامل المتوفي عنها زوجها، و كالمعاملات. أما القطعيات فلا اجتهاد فيها كالعقائد الواجبة، و ما ثبت من الاحكام العملية بالتواتر؛ و العقائد كاتصاف الله بالكمال و إرسال الرسل، و انزال الكتب، و البعث و الحساب؛ و الأحكام العملية كالصلاة و الصوم و الحج. و ليس من وسائل اجتهاد الشيعة القياس. فالإمام الصادق (عليه السلام) يقول:

«إن السنة إذا قيست محق الدين». و لما قيل: له أرأيت ان كان كذا و كذا ما يكون القول فيها؟ قال: «ما أجبتك فيه من شي ء فهو عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. لسنا من أرأيت في شي ء» لكن وسائل استعمال العقل مباحة للمجتهد. و الامام الصادق (عليه السلام) يقول: «مامن أمر يختلف فيه اثنان إلا و له أصل في كتاب الله و لكن لا تبلغه عقول الرجال». و آيات الأحكام قليلة، و كمثلها قلة؛ أحاديث أصول الأحكام، [73] فوجب الاجتهاد. [ صفحه 234] و نحن مأمورون بتوظيف العقل، و أحكام السماء تظهر للعقول بالتدريج. كان أصحاب النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) يجتهدون في وجوده، و ازدادت حاجتهم للاجتهاد بعد وفاته، و الدنيا أطوار تحتاج للفقه الذي يطبق عليها حكم الشريعة لتبقي الحياة محكومة بالدين، و تتطور في حدود مقاصد الشارع. و حكم الله في كل مسألة معين، نصب الله دليلا عليه، فمن المجتهدين من يصل اليه و يصيبه، و منهم من لا يصل اليه و يظن غيره... فهو مخطئ معذور... مغفور له خطؤه مادام قد بذل جهده دون هوي. و للمصيب أجران لصوابه و اجتهاده، و للمخطئ أجر واحد علي اجتهاده. فذلك حكمه صلي الله عليه و آله و سلم، و من أجله كانت السماحة التي اتصف بها الصحابة إذ يختلفون. و المنصفون من كل المذاهب يعلنون ان في المذاهب الفقهية المعتبرة خطأ و صوابا. و ليس منها مذهب واحد كله خطأ أو كله صواب. لذلك كان التعصب المطلق آفة الفقهاء. لقد كثرت مخالفات علي لعمر، و نزول عمر عند رأي علي (عليه السلام). و علي هو القائل بأنه

ترك لعمر تنفيذ رأيه (في بيع أمهات الأولاد) في حياة عمر، و لما آل اليه الأمر أنفذ رأيه. فعلمنا أمورا؛ منها: 1 - ان المذهب الشيعي و هو يدور حول آراء علي (عليه السلام)، إنما هو مذهب حيي في حياة الخلفاء الراشدين أنفسهم. فلما آل اليه الأمر و أتيحت له الفرصة التي أتيحت لغيره لتطبيق اجتهاداته أنفذها - و لكن المكان و الزمان ضاقا عليه لانشغاله في الحروب و الفتن، و انحصار سلطانه علي الأرض، و اغتياله علي أيدي الخوارج. 2 - حق الخليفة في إنفاذ رأيه. و من هنا أنفذ عمر رأيه في أمور شتي كما أنفذ أبو [ صفحه 235] بكر رأيه من قبل. و الرأي اجتهاد. 3 - مشروعية الخلاف. و هو درس تعلمه الصحابة من رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، مطلوب من الجميع أن يتعلموه، و أن يعلموا الناس أنه وسيلة التقدم. روي النسائي ان رجلا أجنب فلم يصل. فذكر ذلك للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: أصبت. و أجنب رجل فتيمم وصلي، فذكر ذلك للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: أصبت. و روي البخاري عن عمران بن حصين أنه قال للرجل الذي اعتزل فلم يصل في القوم «فما يمنعك أن تصلي» فقال: أصابتني جنابة و لا ماء. قال: «عليك بالصعيد. فإنه يكفيك». و الآثار في الخلاف بين الصحابة كثيرة جدا. [74] . و الخلاف بين المجتهدين أجل من أن يحصر، و فيه ثراء للفكر، وسعة في الدنيا، و رحمة بالأمة. كان أحمد بن حنبل يري الوضوء من الفصد و الحجامة و الرعاف. فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم

و لم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف «مالك» و «سعيد بن المسيب»؟ و كان مالك يفتي الرشيد أنه لا وضوء عليه إذا هو احتحم. فصلي يوما بعد الحجامة و صلي خلفه «أبويوسف» صاحب «أبي حنيفة» (و هو يري الوضوء من الحجامة). و اغتسل أبويوسف في الحمام، و أخبر بعد صلاة الجمعة أنه كان في بئر الحمام فأرة ميتة فلم يعد صلاته و قال: «نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا». فهؤلاء أئمة المذاهب لا يتسامحون في خلافاتهم فحسب، بل يتجاوزون [ صفحه 236] الخلاف العلمي الي التطبيق العملي. من أجل ذلك يقول أحمد لتلميذه إسحاق بن بهلول إذ ألف كتابا يريد أن يسميه «كتاب الاختلاف»: «سمه كتاب السعة». و يقول عمر بن عبدالعزيز «ما سرني باختلافهم حمر النعم».

الامامة

اشارة

الإسلام دين و دولة. فالدولة تكفل لمبادئ الإسلام التطبيق، و الانتشار، و انتفاع الجماعة و الأفراد به. و بالدين عزة الفرد و الجماعة، و رسوخ أركان الدولة. و الدين للدولة روح للجسد. و هو للفرد دم نقي يجري في عروقه أو هواء صحي يتنفسه. و لا حياة إلا بالدم و التنفس. و كان من آيات الإعجاز الإسلامي أن يبلغ المسلمون الذروة أفرادا أو دولا أو مجتمعات في عصر، أو في أشهر، بل في ساعات، بمجرد إخلاصهم في التمسك بالإسلام. لقد بلغوا ما يدعو اليه السلام في «خلافة» أبي بكر و عمر، و السنين الستة الأولي من «خلافة» عثمان، و في أقل من ثلاثين شهرا في «خلافة» عمر بن عبدالعزيز. و الخلافة الراشدة قيادة مسددة. و لقد بلغ المحاربون مبالغهم، في يوم واحد، هو العاشر من رمضان سنة 1393،

إذ كانوا يقتحمون حصون اسرائيل و هم يهتفون: الله أكبر: الله أكبر. و الإمامة - أو الخلافة - قد تكون خلافة عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في تبليغ الأمور الدينية أو في الولاية السياسية أو فيهما جمعيا . و هي عند الشيعة دينية و سياسية محصورة في أهل البيت (عليهم السلام). لكنها عند جمهور أهل السنة تجوز لأي قرشي عادل، يختاره المسلمون بشوري صحيحة، و بيعة عامة. و لا تبقي الخلافة إلا ما بقي الخليفة قائما بالعدل، فإذا انحرف لم تبق خلافة نبوية بل استحالت سلطة زمنية . و الشافعية و المالكية و الحنابلة يرون القرشي العادل إذا تغلب، فبايعه المسلمون بيعة صحيحة راضين مرضيين، تكون البيعة له صحيحة، و ان تأخرت عن الولاية التي [ صفحه 237] نالها بالغلبة. أما الحنفية فيشترطون سبق البيعة ضمانا للحرية و كفالة للمشورة. و الشيعة الامامية يرون الإمامة ثابتة لاثني عشر إماما بذواتهم لا بالبيعة لهم، و لكن بالوصية اليهم؛ و هم علي و بقية الاثني عشر (عليهم السلام)، و الله يعلن الإمامة لمن قبله فيوصي السلف للخلف. و ليست بيعة الجماعة لهم إلا إعلان رضا المسلمين بهم، و لا ترشيحهم أو اختيارهم. و الشيعة الامامية يرون «واجبا علي الله تعالي» أن ينصب إماما للناس لطفا منه بعباده. و أهل السنة يرون نصب الامام «واجبا علي الناس». أما الخوارج فلا يرون واجبا نصب الامام، بل يرونه «جائزا»، إلا اذا قامت الحاجة اليه فيجب. و هم كالمعتزلة يرون أن الخلافة يصلح لها أصلح رجل في الأمة عربيا أو غير عربي، و يرون أنها تكون بانتخاب حر، و يؤثرون ان ينتخب غير قرشي، لتيسر اقصائه ان أخطأ. يقول الامام

الصادق (عليه السلام): «لا يموت الامام حتي يعلم من يكون من بعده فيوصي له». «أترون الموصي منا يوصي الي من يريد؟ لا و الله. و لكن عهد من الله و رسوله لرجل فرجل، حتي ينتهي الأمر الي صاحبه». و يقول لتلميذ له: «يا أبامحمد ان الله افترض علي امة محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) خمس فرائض؛ الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و ولايتنا. فرخص لهم في أشياء من الفرائض الأربعة، و لم يرخص لأحد من المسلمين في ترك ولايتنا. لا و الله ما فيها رخصة. و قال النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) «من مات و عليه إمام مات ميتة جاهلية». عليكم الطاعة فقد رأيتم أصحاب علي. و من توفيق الامام جعفر، و أبنائه (عليهم السلام)، أنهم لم يطلبوا لأنفسهم خلافة دنيوية. و بهذا يتميز تاريخ الشيعة الامامية من الشيعة الاسماعيلية، التي ستظهر بعد موت الامام بوقت طويل... و التي كان من أهدافها ولاية السلطة، و إقامة الدول. [ صفحه 238] قال سليمان بن خالد للامام الصادق (عليه السلام): إن الزيدية قوم عرفوا و خرجوا و شهدهم الناس، و ما علي الأرض محمدي أحب اليهم منك. فان أردت أن تدنيهم و تقربهم منك فافعل. فأجاب (عليه السلام): «ان كان هؤلاء السفهاء يريدون أن يصدونا عن علمنا الي جهلهم، فلا مرحبا بهم، و ان كانوا يسمعون قولنا و ينظرون أمرنا، فلا بأس». و مع أن «مؤمن الطاق» - تلميذ الامام الصادق (عليه السلام) - ثبط زيدا عن الخروج، «فالصدوق» يروي عن الامام «الكاظم عليه السلام» قول أبيه: «رحم الله عمي زيدا. إنه دعا الي الرضا من آل محمد. ولو ظفر لوفي». فزيد لم يدع لنفسه،

لأن الامامة كانت للباقر (عليه السلام). و انما كان خروجه تجديدا للاستشهاد عندما تدعو دواعيه. يقول الصادق (عليه السلام): «مضي و الله عمي زيد و أصحابه شهداء علي مثل ما مضي عليه الحسين بن علي بن أبي طالب و أصحابه» - بل هو يعلن الاستعداد للاستشهاد، ويراه واجبا من واجبات أهل البيت عامة، و الأئمة خاصة. و أبوبصير يروي عنه قوله «ان الله تعالي أعفي نبيكم أن يلقي من أمته ما لقيت الأنبياء من أممها. جعل ذلك علينا». و الشيعة مجمعون أن عليا (عليه السلام) أولي بالخلافة - من أبي بكر و من عمر و من عثمان - لكن عليا سما عن أن يترك في الأمة صدعا يوم بايع لأبي بكر، و قبل استخلاف أبي بكر لعمر، و بايع لعثمان مع المسلمين. و تسبيب البيعة بأنها كانت لرأب الصدع فيه تسليم بأن ولاية شؤون الدولة يمكن أن تنفصل عن الخلافة الدينية. فلو كانت غير ذلك لما سلم علي (عليه السلام) في أمر يخالف الدين. و طالما صارح الخلفاء الثلاثة برأيه الشجاع، و أجمعوا دائما علي تقديره، و نزلوا عنده - و سيبقي له في ضمير التاريخ و صحفه أنه دخل في إجماع المسلمين. فذلك درس لهم - من دروسه التي لا تكاد تحصي - ليعتصموا بحبل الله جميعا و لا يتفرقوا. و الذين يقولون - من أي فريق - انا عليا (عليه السلام) بايع «مرغما» يتأولون. فعلي أعلي [ صفحه 239] صوتا و مكانا من أن يرغم، أو لا يعلن رأيه، مواجهة. و لما بايع عمر لأبي بكر يوم السقيفة، كان يومئذ - كعلي يوم بايع - يرأب الصدع بين المهاجرين و الأنصار، و هم بين أظهرهم. و لما جعل عمر الخلافة شوري في

الستة بعده، كان مسؤولا عن المسلمين، كما كان أبوبكر يوم استخلفه. و علي (عليه السلام) في طليعة المسؤولين، و كمثله الأئمة من بعده. و الذين ينسبون الي الشيعة ما صنعه أو فهمه الدهماء منهم من قدح في أبي بكر أو في عمر ظالمون. و من الشيعة مفكرون يعلنون أن من تعود البعض من الشيعة أن يلعنوه في احتفالات مآتم عاشوراء - و قد ظهرت بعد موت الامام جعفر الصادق (عليه السلام) بقرن، في عهد دولة بني بويه - هو عمر بن سعد قائد الجيش الذي قتل الحسين (عليه السلام). جاء في كتاب الاستاذ أحمد مغنية عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام): «و قد حورب المذهب الجعفري في عهد العثمانيين و الاتراك... كما أن المفرقين أنفسهم و جدوا في اتفاق الاسمين: عمر بن الخطاب و عمر بن سعد قاتل الحسين، ميدانا واسعا يتسابقون فيه في تشويه الحقائق... يعرف الناس جمعيهم ان الشيعة يعنون عناية تامة في المآتم الحسينية التي تقام أيام عاشوراء و غير عاشوراء من أيام السنة... و الحسين هو موضوع تلك المآتم... و كان طبيعيا أن يكون لعنة اللعنات عمر بن سعد. و من من المسلمين و غير المسلمين لا يلعن عمر بن سعد قاتل ابن بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)؟... لا أنكر وجود أفراد - بالأمس - سواد الشيعة و بسطائهم لا يفرقون بين هذين الاسمين بل لا يعرفون أن في دنيا التاريخ الاسلامي عمرين تقيا و شقيا... و ساعد علي بعد الشقة و توسيع نطاق الفتنة شيوخ جهلة مرتزقة أئمة من كلتا الطائفتين السنية و الشيعية...». و أيا كانت الجهالة أو العصبية فهي بلاء ابتليت من الأمة يتفجر بذاء و خصومات في المناسبات

- و فيما كان يقع بين مذاهب أهل السنة مشابه منها - و المؤكد أن أئمة [ صفحه 240] المذاهب منها براء. و أن الجيل الذي تعلم عليهم بري ء من التعصب أو الافتراء. و أن العلماء الصدق بعيدون عن متابعة السواد و البسطاء. [75] . و فقه المذهب غزير في الإمام مذ فتق الكلام فيها التلاميذ في حياة الامام و بعدها. مستندين الي أحاديث النبي (عليه السلام)، وردت في كتبهم و في كتب أهل السنة ذاتها - و يرتبون عليها نظرية الإمامة. أما أهل السنة فلهم في شأن هذه الأحاديث و جهات نظر أخري حول السند و حول المعني اللازم. اليك «بعض» الأحاديث: يقول عليه الصلاة والسلام: «يا أيها الناس. اني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا... كتاب الله، و عترتي: أهل بيتي» [76] و يقول: «إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء و عترتي أهل بيتي. و لن يفترقا حتي يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما» [77] و يقول: «إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله... و عترتي أهل بيتي» [78] و يقول: «اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزوجل و عترتي... فانظروا كيف تخلفوني فيهما» [79] أو: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب [ صفحه 241] الله و أهل بيتي. و انهما لن يفترقا» [80] - ذلك أنه لما رجع عليه الصلاة و السلام من حجة الوداع نزل بغدير خم يوم 18 ذي الحجة في السنة العاشرة - و الشيعة تعتبره عيدا يسمي عيد الغدير - و كان قد نزل عليه الوحي: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. و ان لم تفعل فما بلغت رسالته.

و الله يعصمك من الناس»، فأمر بدوحات فقممن فقال: «كأني دعيت فأجبت. اني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالي و عترتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض...» ثم قال: «إن الله عزوجل مولاي. و أنا مولي كل مؤمن». ثم أخذ بيد علي و قال: «اللهم وال من والاه و عاد من عاداه». [81] . و ابن حجر في صواعقه يقرر أن لهذا الحديث طرقا كثيرة وردت عن نيف و عشرين صحابيا مع اختلاف في المكان أهو غدير خم أم الطائف أم المدينة. أما طرقه عن أهل البيت فنحو ثمانين طريقا. و في علي قوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «من أحب أن يحيا حياتي و يموت ميتتي و يدخل الجنة التي و عدني ربي فليوال عليا و ذريته من بعده. فانهم لن يخرجوكم من باب هدي و لن يدخلوكم في باب ضلالة». [82] . و في أهل البيت قوله صلي الله عليه و آله و سلم: «ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح. من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق. و إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل. من دخله غفر له» [83] و قوله (عليه السلام): «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق و أهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف». [84] . [ صفحه 242] و الشيعة مؤمنون بأنه لا ينقض حجة هذه الأحاديث علي منزلة أهل البيت و مكانة علي، تأويلها من بعض أهل السنة أو التشكيك فيها من البعض الآخر. و الآخرون يرونها سندا صحيحا في تكريم علي (عليه السلام) و لا يرونها سندا في الإمامة بالمعني الذي يريده الشيعة. و لقد كان الصحابة يجلون

عليا (عليه السلام) كل الإجلال. و الكثرة منهم لا تسلم له بأولوية الخلافة علي سابقيه من الخلفاء. ثم جاء جيل جديد أصبح فيه إنكار هذه الأولولة وسيلة للسلطة لتثبيت شرعيتها، بل طريقا الي أصحاب السلطة، يسلكه من يلتمسون المصلحة أو الجاه أو الراحة. لكن الأمة بقيت علي حب علي و أبنائه (عليهم السلام). و كثرتها ككثرة الصحابة في إجلاله. فالشافعي - أكبر عقل علمي - يضع حب أهل البيت بين فرائض الدين، و يذكر المسلمين بأن الصلاة علي أهل البيت (عليهم السلام) جزء من الصلاة لله. يقول: يا أهل بيت رسول الله حبكمو فرض من الله في القرآن أنزله كفاكمو من عظيم القدر أنكمو من لم يصل عليكم لا صلاة له و الامام أحمد يقول: «ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله من الفضائل ما جاء لعلي» و تشيع أبوحنيفة محل إقرار أو إنكار، و هو القائل: «لو لا السنتان لهلك النعمان» قاصدا مدة دراسته علي الامام الصادق (عليه السلام). و مالك بن أنس من أنبه تلاميذ الأمام جعفر ذكرا. و الأربعة أئمة أهل السنة. أخرج أحمد بن حنبل عن عائشة: «جاء رجل فوقع في علي و عمار عند عائشة. فقالت: أما علي فلست قائلة لك فيه شيئا. و أما عمار فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول فيه: «لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما». و لقد كان عمار من أول حياته في الاسلام، حيث كان في آخر يوم في حياته في [ صفحه 243] الدنيا، مع علي، و في جنده، استشهد في صفين و هو في التسعين... قتلته الفئة الباغية عليه و علي علي معه. و لقد أوصي [85] النبي لعلي أن يغسله صلي الله عليه و

آله و سلم و يجهزه و يدفنه و يفي دينه و ينجز وعده، و يبرئ ذمته و يبين للناس ما اختلفوا فيه. و ما ذلك إلا لأن عليا منه و من أهل بيته حيث هو. من هذه المكانة لعلي كان معه في صفين ثمانون من الصحابة الأحياء كلهم بدري، و هؤلاء من أهل الجنة. أما معاوية فمعه الواهمون أو أهل الدنيا الذين يعدهم و يمنيهم، لتصير الأمور الي ما انتهت اليه في أيامه و ما بعد أيامه. و أما الأمة فجعلت مكان معاوية من علي (عليه السلام)، مثلا سائرا في اللسان العربي: (و أين معاوية من علي). يقول الأحنف بن قيس: دخلت علي معاوية فقدم الي الحار و البارد و الحلو و الحامض مما كثر تعجبي منه. ثم قدم لونا لم أعرف ما هو. فقلت: ما هذا؟ قال: هذا مصارين البط محشوة بالمخ... و قد قلي بدهن الفستق، و ذر عليه بالطبرزد! فبكيت. فقال ما يبكيك؟ قلت: ذكرت عليا (عليه السلام): بينا أنا عنده و حضر وقت الطعام و إفطاره (إذ كان صائما) و سألني المقام. فجي ء له بجراب مختوم. فقلت: ما في الجراب؟. [ صفحه 244] قال: سويق شعير. قلت: خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به؟ قال: لا، و لا أحدهما، و لكني خفت أن يلته الحسن و الحسين بسمن أو زيت. فقلت: محرم هو يا أميرالمؤمنين؟ قال: لا، و لكن يجب علي أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلا يطغي الفقير فقره. فقال معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله. يري الشيعة أهل البيت (عليهم السلام) ثاني الثقلين و أولهما القرآن، و الثقل كل خطير نفيس. و هم عدل القرآن في الأمة، و خلفاء الرسول (صلي

الله عليه و آله و سلم) في الحفاظ علي الشريعة. فللأئمة جميع ماله من المناصب ماعدا رتبة النبوة... ولديهم الكتب التي دون فيها علم النبوة، و فيهم ينحدر الهدي النبوي، و تنحصر الإمامة. و أن الله سبحانه و تعالي يختار للنبوة من يشاء و يختار للامامة من يشاء، و يأمر نبيه بالنص عليه وتنصيبه للناس بعده للقيام بوظائفه، إلا أن الإمام لا يوحي اليه بل يتلقي الأحكام عن النبي مع تسديد السماء له، فهو مبلغ عن النبي، في حين ان النبي مبلغ عن الله جل شأنه. و الإمامية يرون الإمام إنسانا من البشر، لكنه أفضل أهل زمانه، و لا تجوز عبادته، فهذا عمل من خداع إبليس. و ان من هذا شأنه يجب أن يكون معصوما من الخطأ. فالناقص لا يكمل غيره. و وجه الحاجة الي العصمة فيه و في النبي واحد؛ [86] و هو حفظ الأحكام عن الخطأ. و إذ كان ذلك كذلك، فما يرد عن الإمام سنة، سواء أكان رواية عن النبي أم كان رأيه لأنه نص. أما مالا لايرد عن الامام فهو محل للاجتهاد وفق القرآن و السنة و الإجماع و الدليل العقلي. [ صفحه 245] أما ولاية الحكم، فقد رأينا الإمام الصادق و آباءه (عليهم السلام) لم يطلبوها كما لم يطلبها الأئمة من بعده. يقول الكاظم (عليه السلام) لهشام: «كما تركوا لكم الحكمة اتركوا لهم الدنيا». فما أحراهم أن يتركوا للملوك ما يتناحرون عليه. و يعتبر الشيعة الاعتقاد بإمامة الأئمة الاثني عشر من أصول الدين عندهم. و انها «رديفة» التوحيد و النبوة، في حين لا يوافق أهل السنة علي ذلك. لا تكفر الشيعة أهل السنة في إنكارها هذا الأصل... و لا يكفر أهل السنة

الشيعة باعتقادها في الامامة. و انما يشتد الخلاف من جراء الغلو في الأئمة و نسبة أشياء اليهم يختلف في بعضها أهل السنة أنفسهم، كالرجعة، أو القدح في بعض الصحابة، كعمرو و معاوية و المغيرة. أو يختلف فيها الشيعة أنفسهم كولاية المفضول، و النص علي الامام بالاسم لا بالوصف... مما حدا بالأضداد و الأشياع الي تبادل أزمة الثقة. أما الفقهاء فأدخلوا خلافاتهم في إطار ما يختلف فيه المجتهدون. و أما المتعصبون، من كل ملة، فيتقاطعون... و ما يتقاطعون إلا للمصلحة أو للغلواء أو لضيق الأفق. [87] . [ صفحه 246] و مرد عدم التكفير - بين الشيعة و اهل السنة - مع الخلاف في الاعتقاد بالإمامة، [ صفحه 247] الي ان الأصول - كما يقول الشيعة - ثلاثة: التوحيد، النبوة، و البعث - و يكفي من التوحيد الايمان بوحدانية الله تعالي... و يكفي من النبوة الايمان بأن محمدا رسول الله صادق فيما أخبر به معصوم... و يكفي من المعاد الاعتقاد بأن كل مكلف يحاسب بعد الموت. أما الفروع التي هي من ضرورات الدين فهي كل حكم اتفقت عليه المذاهب الإسلامية كافة، من غير فرق بين مذهب و مذهب كوجوب الصلاة... فإنكار حكم من هذه الأحكام إنكار للنبوة و تكذيب لما ثبت في دين الاسلام بالضرورة... [88] . و ضرورات «المذهب الشيعي» نوعان... نوع يعود للأصول و هو الإمامة. فيجب أن يعتقد كل «شيعي» إمامة الاثني عشر إماما. و النوع الثاني يرجع الي الفروع كنفي العول و نفي التعصيب. فمن أنكر فرعا منها كان غير شيعي و ان كان مسلما. و الايمان و الاسلام عند الشيعة مترادفان... يثبتان لمن آمن بالتوحيد، و النبوة، و البعث. و يطلقان

علي معني أخص... هو هذه الأركان، و معها ركن العمل بدعائم الاسلام - و هي الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد - و يزيدون ركنا خامسا هو الاعتقاد بالإمامة، و أنها منصب إلهي كالنبوة، منصوص علي من يليها، و ان الإمام [ صفحه 248] أفضل أهل زمانه، و معصوم. فمن اقتصر علي الأركان الأربعة الأولي مسلم مؤمن. و انما الاعتقاد بالإمامة له أثر في منازل القرب و الكرامة يوم القيامة. يقول الامام محمد الحسين آل كاشف الغطاء: «نعم يظهر أثر التدين بالإمامة في منازل القرب و الكرامة يوم القيامة - أما في الدنيا فالمسلمون بأجمعهم سواء. و بعضهم لبعض أكفاء. و أما في الآخرة فلا شك أن المسلمين تتفاوت درجاتهم و منازلهم حسب نياتهم و أعمالهم. و أمر ذلك و علمه عند الله سبحانه. و لا مساغ للبت به لأحد من الخلق. و الغرض أن أهم ما امتازت به الشيعة عن سائر فرق المسلمين هو القول بإمامة الأئمة الاثني عشر؛ و به سميت هذه الطائفة بالإمامية. إذ ليس كل الشيعة تقول بذلك... و القول بالاثني عشر ليس بغريب عن أصول الاسلام و صحاح كتب المسلمين. فقد روي البخاري و غيره في صحاحه حديث الاثني عشر خليفة بطرق متعددة، فيها بسنده عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم): «أن هذا الأمر لا ينقضي حتي يمضي فيهم اثنا عشر خليفة». [89] . [ صفحه 249] و الشيعة يعتقدون أن الأرض لا تخلو من حجة علي العباد من نبي أو وصي، ظاهر أو مستور، فالامام «المهدي» الثاني عشر «غائب» منتظر. و الامامة منصب ديني لا يجوز التنازل عنه لأنه من الله. و لما

تنازل علي (عليه السلام) للخلفاء السابقين عليه كان التنازل عن الخلافة الدنيوية، وحدها، و بناء علي أسباب. [ صفحه 250]

امور خلافية في الفقه

اشاره

يظهر من استعراض كبريات مسائل الخلاف بين الشيعة و بين مذاهب أهل السنة، في الفقه، أنها لا تمس أصل الدين، و أنها تحتمل الاجتهاد، و تتسع للخلاف عليها، كما اتسعت أمور أمثالها للخلاف بين مذاهب أهل السنة ذاتها - إلا زواج المتعة. فالخلاف فيه يتميز مما عداه: أما الفرائض الدينية فواحدة عندهم و عند أهل السنة. في «الصلاة»: الفروض واحدة لدي أهل السنة ولديهم. و عدد الركعات فيها واحد. اما المندوب عندهم فلا حصر له. و أفضله عندهم «الرواتب». و عددها «علي المشهور» ثمانية للظهر و ثمانية للعصر قبل الفريضة و أربع للمغرب بعد الفريضة و العشاء ركعتان جالسا و يجوز قائما و ثمانية ركعات صلاة الليل و ركعتا الشفع و ركعة الوتر و ركعتا الصبح قبل الفريضة... فالرواتب عندهم كثيرة... و يشترطون القراءة في الصلاة باللغة العربية. و لا يجيزون الترجمة. و يشترطون الجهر بالبسملة. و في «الزكاة» و وجوه البر، لا يختلفون عن جمهور المسلمين. بل هم يضيفون اليها «خمس» الدخل، الذي يجبي للإمام، لإنفاقه في مصارفه الدينية. و في «الصوم»: يرون الكذب علي الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) يفطر الصائم. و في «الحج»: جهاد لا يسقط بالموت بل يؤديه الوارث عن مورثه. و للغير أن يؤديه عنه من مال للموروث قبل أن تقسم التركة. و يكثرون من مظاهر «الروح الإسلامي» في العقود. فيستحبون البدء بالبسملة في كل معاملة، و يحرصون علي الصيغة العربية. و يكرهون معاملة تارك الصلاة و المستهتر. و يحرمون الاتجار بما يترتب عليه فساد المجتمع. و

فيما يلي أنواع خلاف بينهم و بين أهل السنة، لعلها تبين الإطار العام أو المعالم المهمة، للوفاق و للخلاف بين الفريقين. [ صفحه 251]

الجمع بين الصلاتين

المسلمون مجمعون علي جواز الجمع في الحج في جبل عرفة بين الظهر و العصر و في المزدلفة بين المغرب و العشاء للحجاج خاصة - أما غير ذلك فمحل خلاف. فالشيعة يجيزون الجمع مطلقا جمع تقديم و تأخير، لعذر و غير عذر، في السفر و الحضر، و ان كان التفريق عندهم أفضل - إلا إذا حدث حرج. و حجة الشيعة مشتقة من صحاحهم و من تفسير الامام الصادق عليه السلام لقوله تعالي: «أقم الصلاة لدلوك الشمس الي غسق الليل و قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا». فالغسق هو تراكم الليل و اشتداد الظلمة. و بهذا تكون أوقات الصلاة الأربعة ممتدة من الزوال الي نصف الليل. فالظهر و العصر ينتهيان في الغروب. و المغرب و العشاء الي نصف الليل. اما الصبح فقد اختصها الله بقوله: «و قرآن الفجر ان اقرآن الفجر كان مشهودا».

الاذان

كان بلال - مؤذن الرسول - يؤذن لصلاة الصبح فيقول بعد «حي علي الفلاح»: «الصلاة خير من النوم». و أقره الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) علي ذلك. و الشيعة يقولون إن الاذان كان فيه (حتي علي خير العمل) حتي عهد عمر - كما قال الامام الباقر (عليه السلام). و سبب رفعها من الأذان ان المؤذن وجد عمر نائما عند أذان الصبح فأضاف: (الصلاة خير من النوم) - كما أورد الزرقاني في تعليقه علي الموطأ - فاستحسنها عمر [ صفحه 252] فأمر أن تضاف الي أذان الصبح. و أخرج ذلك ابن أبي شيبة. [90] . و علماء الشيعة متفقون علي أن قول «أشهد ان عليا ولي الله» ليس من فصول الأذان و أجزائه. و أن من يأتي به بنية أنه من الأذان فقد

أبدع في الدين، أي أدخل فيه ما هو خارج عنه. و يقول الشيعة إن إسقاط (حي علي خير العمل) كان بأمر من أولي الأمر في عهد عمر، حرصا منهم علي أن تفهم العامة أن الجهاد في سبيل الله هو خير العمل، و أن النداء علي الصلاة بخير العمل مقدمة لفرائضها الخمسة ينافي التحريض المطلوب للجهاد. فخطب عمر فنهي عنه. [91] . [ صفحه 253]

المسح علي الرجلين

اشارة

يختلف الناس في أن مسح القدمين هو الفرض أو الغسل هو الفرض، لأن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) توضأ و مسح علي قدميه. و الشيعة تستدل بمسح الرسول علي قدميه علي ان المسح هو الفرض - و مروي عن ابن عباس انه قال: ما صح عن رسول الله الا غسلتين و مسحتين. و يفسرون الآية «و امسحوا برؤوسكم و أرجلكم» بما يسعفهم في المسح.

الزواج و الطلاق
في الزواج

المهر لا يقدر قلة و لا كثرة، إلا ان يقصر عن التقويم كأن يقول حبة قمح! أما الكثرة ففيها قول الله: «و آتيتم إحداهن قنطارا»، و ان كان يكره تجاوز مهر السنة الذي أصدقه النبي صلي الله عليه و آله و سلم زوجاته؛ و هو خمسمائة درهم. و يجوز النظر الي وجه المطلوب زواجها دون استئذان و مع الوجه الكفين. و ينظرها قائمة وماشية . و للمرأة أن تنظر الي الرجل - و لا يجوز العزل عن المرأة إلا بإذنها. و للمرأة - بكرا أو ثيبا - أن تزوج نفسها ممن تريد إذا بلغت رشدها، و ان كان من المستحسن أن تستأذن وليها في ذلك.

في الطلاق

أما الطلاق الثلاث بفم واحد، فجعله عمر ثلاثا زجرا للناس. و بقي الأمر كذلك ثلاثة عشر قرنا ظهر فيها ما أحوج الي العودة الي الأمر الأول. و الشيعة لم يقبلوا عمل عمر من بادئ الأمر. فالطلاق الثلاث في مجلس واحد [ صفحه 254] يقع مرة واحدة. ولا حلف عندهم بالطلاق علي عمل. و هذان إصلاحان أحدثتهما مصر في سنة 1929. و هم يوجبون حضور شاهدين للطلاق، في حين لا يوجبون حضور شاهدين للزواج. فالزوجية تنشأ دون شهود. لكن الطلاق واجب له الشهود. و المتفقهة الآن من أهل السنة في مصر يستحسنون إيجاب حضور شاهدين للطلاق، بل هذا تعديل مطلوب في مشروع قانون للأحوال الشخصية. و هم يمنعون طلاق المغضب، و المتهيج و المنزعج. و يقررون ان الطلاق الذي أمر به الله رسوله هو الذي يقع إذا خاضت المرأة و طهرت من حيضتها، فأشهد الرجل شاهدين عدلين قشبل أن يجامعها علي تطليقه. ثم هو أحق برجعتها مالم تحض ثلاثا. فإن

مضت ثلاثة قروء قبل أن يراجعها فهي أملك لنفسها. فإن أراد أن يخطبها مع الخطاب خطبها. فإن تزوجها كانت عنده. و ليس للمريض ان يطلق. و له أن يتزوج. فان تزوج و دخل بها فجائز. و ان لم يدخل و مات بطل الزواج. و لا مهر و لا ميراث للزوجة. فلنلاحظ اليسر في الزواج عندهم. و التشدد في الطلاق. و رعاية المرأة في كل حال. و الحرص علي الأسرة.

زواج المتعة: (الي أجل معين)

و الشيعة يسمونه الزواج المؤقت. و يرجعونه الي قوله تعالي: «فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن». و المفسرون متفقون علي ان جماعة من الصحابة العظماء أفتوا بإباحتها؛ منه: ابن مسعود، و أبي بن كعب، و ابن عباس، و جابر بن عبدالله، و عمران بن حصين. بل كانوا و هم يتلون الآية ينطقون بتفسيرها فيقرأون «فما استمتعتم به منهن الي أجل مسمي». فالمشروعية ثابتة و العمل بها ثابت. و إنما يحزم أهل السنة بأنها أبيحت لدواعيها ثم نسخت بأحاديث جازمة. [ صفحه 255] و الشيعة لا يرونها أحاديث ثابتة. و يقولون ان الحلال القطعي الثبوت لا ينفيه تحريم غير قطعي. و هم يقولون ان المتعة سائغة في السفر لطلب العلم و التجارة و الجهاد، فلقد كانت مشروعيتها للسفر و للجهاد. و إنها زواج عادي، لولا انه الي أجل. فالزوجة في زواج المتعة تعد اذا انتهي الأجل، ككل طلاق. و لابد من المهر... و الابن من الزواج هو ابن عادي، له الميراث و النفقة. اما الزوجة فلا نفقة و لا ميراث لها، إلا اذا اشترطت. و ليست النفقة من لوازم الزوجية، فالناشز زوجة و لكنها بلا نفقة. و من النساء من ترث و ليست زوجة، كمن طلقت في مرض الموت،

و مات زوجها قبل مضي سنة. و الثابت أن عمر أعلن تحريم المتعة إذ خطب الناس فقال «متعتان كانتا علي عهد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و علي عهد أبي بكر رضي الله عنه، و أنا أنهي عنهما...» و أنه حرمها و هو بصدد قضية لعمرو بن حريث ثم أطلق النهي. و أهل السنة يقرون ان نهي عمر عنها كان إعلانا لتحريم ثابت قبل ذلك. و لم تقبل الشيعة نهي عمر من بادئ الأمر بل قال علي: «لو لا نهي عمر عن المتعة مازني إلا شفا (قليل أو مشرف علي الهلكة) أو شقي». وثبت عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله: «ثلاث لا أتقي فيهن أحدا متعة الحج و متعة النساء و المسح علي الخفين». و من نوادر يحيي بن أكثم قاضي المأمون أنه سأل شيخا من أهل البصرة: بمن اقتديت في جواز المتعة؟ قال: بعمر. قال: كيف، و كان من أشد الناس فيها؟ قال: إنه صعد المنبر فقال: أيها الناس! متعتان أحلهما الله و رسوله لكم، و أنا أحرمهما عليكم و أعاقب عليهما. فقبلنا شهادته و لم نقبل تحريمه. [92] . [ صفحه 256]

الميراث

للشيعة تفسير في المواريث في صالح البنات، لذواتهن، و لمن يتوسل للميراث بهن. يقول تعالي: «يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد و له أخت فلها نصف ماترك و هو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك و انما كانوا إخوة رجالا و نساء فللذكر مثل حظ الأنثيين». و هم يرون البنت ولدا في اللغة و العرف، و لذلك يعطون البنت دائما، و لا يعطون الأخت أو

الأخ ان كان هناك بنت أو ابن فكلاهما ولد. و هم يسقطون الوصية مادام هناك ولد (ابن أو بنت). و للشيعة قاعدة: ان كل فريضة لم يهبطها الله إلا الي فريضة، تكون مقدمة عند «العول»؛ و كل فريضة، إذا زالت عن فرضها، لم يكن لها إلا ما بقي، تكون مؤخرة. [ صفحه 257] مثال ذلك للزوج النصف فإن هبط له الربع، فإن دخل عليه في التقسيم ما يزيد عن السهام رجع الي الربع المفروض. و لا يزيله عن الفرض شي ء. و مثله الزوجة و الأم. أما البنات و الأخوات فلهن النصف و الثلثان. فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلا ما بقي. فإذا اجتمع ما قدم الله و ما أخر بدئ بما قدم الله فأعطي حقه كاملا. فان بقي شي ء كان لما أخر. و هو تطبيق لحديث ثابت عندهم، أورده الشهيد الثاني [93] - و أورده الحاكم في المستدرك و قال: إنه صحيح علي شرط مسلم - و يستشهد أهل السنة بآيات و يستشهد الشيعة بآيات. و هم ينفردون بما يسمي (الحبوة) للولد الأكبر؛ ملابس أبيه و ثيابه و مصحفه و خاتمه زيادة علي حصته في الميراث - كما ينفردون بعدم توريث الزوجة من عقار الزوج و رقبة الأرض عينا و قيمة، لأخبار وردت عن الأئمة مروية عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم).

متعة الحج

ينوي الحاج إحرامه من ميقاته (أماكن القصد الي البيت الحرام) و المتمتع يأتي مكة و يطوف بالبيت، ثم يقصر و يحل من إحرامه و يقيم بعد ذلك حلالا، ثم يفيض الي المشعر الحرام، ثم يأتي بأفعال الحج بإحرام جديد. و هذان التقصير و الإحلال تيسير بإباحة

محظورات الإحرام في المدة المتخللة بين الإحرامين. و هذا ما كرهه عمر و حرمه قائلا: هي سنة رسول الله لكني أخشي أن يعرسوا بهن - نسائهم - تحت الأراك ثم يروحون بهن حجاجا، فخطب و نهي عن هذه المتعة مع متعة الزواج. و مع ذلك فابن عمر يقول عن عمل أبيه: أرأيت إن نهي عنها أبي، و صنعها رسول الله! أأمر أبي أتبع أم أمر رسول الله؟ و ابن عباس كعلي لا يحرمان ما حرمه عمر. و لما قدم علي من اليمن وجد فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) قد حلت و لبست صبيغا، و اكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: ان أبي أمرني بهذا. فذهب الي [ صفحه 258] رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: صدقت صدقت. و الشيعة لهذا يرون متعة الحج.

التفسير بالتأويل

يروي الشيعة عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أنه قال: «ان للقرآن ظاهرا و باطنا، و لبطنه بطن الي سبعة أبطن» و يروون عن علي (عليه السلام) أنه قال: «ما من آية قرآنية إلا و لها ظاهر و باطن، وحد و مطلع». و يروي هذا البيان عن «سهل التستري»، من المفسرين الصوفيين، و انه أضافه. فالظاهر: التلاوة. و الباطن: الفهم. والحد: حلالها و حرامها. و المطلع: إشراف القلب علي المراد به فقها عن الله عزوجل. قيل له ما الباطن؟ قال: فهمه. و يروون عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: «ان في كتاب الله أمورا أربعة: العبارات و الإشارات، و الحقائق و اللطائف. فالعبارات للعوام. و الإشارات للخواص. و اللطائف للأولياء. و الحقائق لأنبياء الله». و المتتبع لتفسيرات الامام الصادق و أجوبته علي المسائل يجدها تنبع من بحر عميق في فهم القرآن و

اللسان العربي، أمكنه أن يكشف للناس بين الفينة و الفينة ما فيه من شمول و ما بينه و بين السنة من صلة الأصل بفرعه. و بذلك قدر الامام (عليه السلام) أن يفسر القرآن بالقرآن - ففي بيته نزل - و ان يجد للحديث الواحد أصولا عدة، في آيات متفرقة، بمجرد ان يدلي اليه سائل بسؤال! و هو منهج سيتتابع عليه عظماء الأئمة من أهل السنة، و في طليعتهم أحمد بن حنبل. و لا يسوغ لنا أن نعتبر تفسيرات الامام الصادق (عليه السلام) من أضرب التفسير بالرأي أو بالمأثور أو بهما - و هي مصنفة بين عقلي و نقلي و صوفي و رمزي و قصصي... الخ - و في البعض منها تأويل باطني. و ابن عطية من كبار مفسري أهل السنة ينفي صحة نسبة تفسير باطني أو رمزي الي الامام الصادق، و يقول: «... و هذا قول جار علي طريقة الرموز. و لا يصح عن جعفر [ صفحه 259] بن محمد - رضي الله عنه - و لا ينبغي أن يلتفت اليه». اليك مثلا - بين نظائر تجل عن الحصر - لاستعمال اللسان العربي في التفسير: يقول زرارة للامام الصادق (عليه السلام): من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟ و يجيب الامام: لمكان الباء في قوله تعالي «و امسحوا برؤوسكم». يقصد أن الباء للبعضية. و لقد تتابع علي هذا التفسير الائمة في اللغة و الفقه. جاء في المصباح المنير في مادة (بعض) ان الباء في قوله تعالي (و امسحوا برؤوسكم) للتبعيض... و نص علي مجيئها للبعض ابن قتيبة، و أبوعلي الفارسي، و ابن جني. و ذهب الي مجي ء الباء بمعني البعض الشافعي، و هو من أئمة اللسان. و قال بمقتضاه أحمد و

أبوحنيفة. و من استعمال ظاهر اللسان العربي تفسير «الكوثر» بأنه الذرية الكثيرة، في قوله تعالي: «إنا أعطيناك الكوثر». فهي صيغة مبالغة من الكثرة (فوعل)، يؤيد ذلك. الآية التي تجي ء فيما بعد «ان شانئك هو الأبتر»، و الأبتر من لا عقب له. و بهذا ساغ تفسير الشيعة بأن الكوثر هو الذرية. و قد رزق الله النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) الذرية الكثيرة من فاطمة (عليهاالسلام). فهي الكوثر المقصود. و الآخرون يقولون ان الكوثر نهر في الجنة، و غيرهم يؤولونه بأنه النبوة. و لقد أسلفنا طائفة من تفسيرات الامام، كالخوف من عدم العدل بين النساء، و الإنفاق من رزق الله، و رؤية الله جل شأنه، و قتل النفس بإخراجها من الهدي الي الضلال، و التفسيرات التي جعلت أباحنيفة يقول عن آية «و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من فضله»، لكأني ما قرأتها قط في كتاب الله و لا سمعتها إلا في هذا الموقف. و هي جميعا صادرة عن فهم دقيق للسان العربي الذي نزل به القرآن. و التفسير بالظاهر ممن يفهم البلاغة العربية و مجازاتها المتعددة و الاستعارة، و الإيجاز اللفظي، و هو بعض خصائص الإعجاز البياني في القرآن، لا ينفي استعمال العقل، بل فيه مجال واسع له، و لا ينفي القيمة العظيمة لتفسير الزمخشري المعتزلي، و هو حجة في اللغة، و حجة في الجمع بين الظاهر و بين وجوه «الرأي»، بالمعاني [ صفحه 260] الدقيقة و أسرار البلاغة. [94] . و ممن أثارهم الإعجاب به الامام يحيي بن حمزة العلوي (749) صاحب كتاب الطراز. و ما من تفسير ثبت عن إمام عن أهل البيت (عليهم السلام) إلا تلقته العقول بالقبول، لأنه لا

يغاير النص من القرآن و السنة، و إنما يشرحهما في نورانية باهرة، [95] في حين ان المعتزلة يؤولون ليخضعوا المعني لأصولهم الخمسة. [96] و هذا خلاف عظيم بين [ صفحه 261] المؤولين، و بين الامام الصادق و الشيعة الامامية. أما الاسماعيلية، فلهم بعض التأويلات الباطنية التي تهمل المعني الظاهر و تحمل الألفاظ ما لا تحتمله. و الاسماعيلية فرقة شيعية لم تظهر إلا بعد موت الامام جعفر الصادق (عليه السلام) بقرن أو أكثر.

البداء؛ و مفهومه الشائع: الظهور بعد الخفاء

نسب الي الشيعة القول بأن الله يبدو له فيغير ما قرره لظهور طارئ. و أطلقوا علي ذلك لفظ البداء. و الشيعة الامامية لا تقول شيئا بهذا المعني - بل تعتقد ان الله عالم بكل شي ء... و علمه أزلي بما كان و ما يكون. يقول الامام الصادق (عليه السلام): «ما بدا لله في شي ء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له». و سأله منصور بن حازم: هل يكون اليوم شي ء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: «لا... من قال هذا فقد أخزاه الله». قال منصور: ما كان و ما هو كائن الي يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: «بلي قبل أن يخلق الخلق» و يروي عنه (عليه السلام) قوله: «إن الله لم يبد له عن جهل». فجميع الكائنات الممكنة، قبل أن تخلق، قدرها الله تعالي و كتبها بمشيئته و إرادته في اللوح المحفوظ. و الله تعالي يقول: «يمحو الله ما يشاء و يثبت» و كل ما يتعلق به القضاء، و التقدير، لابد له من تعلق الإرادة و المشيئة به. و ما لا يكون قضاؤه و تقديره حتميا مما هو مورد المحو و الإثبات تتعلق المشيئة بمحوه و إثباته. و قد يكون وجوده، و

تكوينه بإرادة الله تعالي، منوطا أي مشروطا، بتحقق أمر آخر. فيكون قد جري في علمه تعالي أن يوجد اذا حصل ما اقتضت المصلحة، التي يعلمها الله، أن تكون شرطا. و الله تعالي يقول: «فقلت استغفروا بكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا» و يقول: «ولو ان أهل القري آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء [ صفحه 262] و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون». و روي أحمد في المسند أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «ان الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. و لا يرد القدر إلا الدعاء. و لا يزيد في العمر إلا البر». و عن أبي سعيد ان النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم و لا قطيعة رحم إلا أعطاه إحدي ثلاث: إما أن يستجيب لدعوته أو يصرف عنه من السوء مثلها أو يدخر له من الأجر مثلها». قالوا: يا رسول الله إذن نكثر. قال: «الله أكثر». و من القضاء علم مخزون لا يطلع الله عليه أحدا... فلا بداء فيه، و قضاء أخبر به ملائكته و رسله، فهذا أيضا لا بداء فيه، و قضاء معبر عنه بلوح المحو و الإثبات؛ و في هذا القسم يرد قول الشيعة بالبداء: «يمحو الله ما يشاء و يثبت». و الشهرستاني ينفي عن الامام جعفر عليه السلام ما ينسب اليه من أقوال في الغيبة و البداء بمعني تغيير إرادة الله.

الرجعة

القول بالرجعة ليس مجمعا عليه في الفكر الشيعي. فمنهم من لا يعتبرها عقيدة، و منهم من يأخذ بها، كما أخذ بعض أهل السنة ببعض أنباء الغيب و حوادث المستقبل

و أشراط الساعة... مثل نزول عيسي من السماء، و ظهور الدجال الذي يظهر قبل الإمام بقليل فيقتله الامام، و خروج السفياني. يقول بعض الشيعة: ان عقيدة البعث أصل مجمع عليه، و انه عندما يؤخذ القول بالرجعة علي انها بعث فلا وجه لنفي العدالة عمن يفهمها كذلك. و يقول الامام محمد حسين آل كاشف الغطاء من أئمة الشيعة (الامامية) المعاصرين: «و ليس التدين بالرجعة في مذهب التشيع بلازم، و لا انكارها بضار، و ان كانت ضرورية عندهم و لكن لا يناط التشيع بها وجودا أو عدما». و يقول: «و حديث الطعن بالرجعة كان هجيري علماء السنة... فكان علماء الجرح [ صفحه 263] و التعديل اذا ذكر بعض العظماء من رواة الشيعة و محدثيهم و لم يجدوا مجالا للطعن فيه لو ثاقته و ورعه و أمانته نبذوه بأنه يقول بالرجعة فكأنهم يقولون يعبد صمنا أو يجعل لله شريكا. و نادرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة معروفة. و أنا لا أريد أن أثبت في مقامي هذا و لا غيره صحة القول بالرجعة و ليس لها عندي من الاهتمام قدر قلامة ظفر...». يقول الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (عقائد الامامية): «من يستغرب الرجعة يكون بمثابة من يستغرب البعث فيقول «من يحيي العظام و هي رميم» فيقال: «قل يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم»، و ينهي بحثه في هذا الصدد بقوله: علي كل حال، فالرجعة ليست من الأصول التي يجب الاعتقاد بها. و انما اعتقادنا بها كان تبعا للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت الذين ندين بعصمتهم من الكذب. و هي من الأمور الغيبية التي أخبروا بها و لا يمتنع وقوعها». و ابن الجوزي الحنبلي يسمي القائلين

بالرجعة في كتابه «تلبيس إبليس» (الرجعية). و لقد أسلفنا تضعيف بعض محدثي أهل السنة للقائين بالرجعة. [ صفحه 265]

المنهج العلمي

اشاره

ان العلم هو علم محمد (صلي الله عليه و آله و سلم)، في ميراث محمد (صلي الله عليه و آله و سلم). (ابن تيمية) [ صفحه 267] في الباب الحالي فصول ثلاثة تحاول تصوير منهج الإمام الصادق (عليه السلام) «العلمي»، و«الحضاري» «السياسي و الاقتصادي»، كما رسم خطوطه بالفعل و بالقول، و كما اقتفي آثاره و بني عليه علماء الاسلام، الفقهاء منهم و الرياضيون و التطبيقيون، مستمتعين بحرية الفكر و البحث التي وردت بها نصوص الكتاب العزيز و أمرت بها السنة. و كان الامام الصادق (عليه السلام) من الأوائل في تعليمها للمسلمين، ممن انتسبوا اليه و ممن أخذوا عنهم... يستوي في ذلك الشيعة و فقهاء أهل السنة. علي هؤلاء الفقهاء و العلماء تعلمت أوربا منهج النزاهة العلمية و الواقعية الذي تبلور في طريقة «التجربة و الاستخلاص»، و الذي أعلنه جابر بن حيان - أول من استحق في العالم لقب كيميائي كما يعبر عنه الأوربيون. و من المنهج الحضاري: المنهج السياسي و الاقتصادي الذي يستهدف عمارة الدنيا بالعدل في الناس، و العمل للحياة، و التكافل بين أعضاء الجماعة، و السعي لاستثمار طاقات الناس و أموالهم - و هي قواعد بلغ بها الفقه الشيعي غايته، ابتداء من منهج أميرالمؤمنين علي، معمولا به في حياته أو خلافته، أو منصوصا في عهده للأشتر النخعي، و كله سياسة و اجتماع و اقتصاد، الي رسالة حفيده زين العابدين في الحقوق، و هي تجري في آثاره، الي برنامج حفيده الصادق العلمي و الحضاري، السياسي و الاقتصادي، يدلي به للناس، و يطبقه بنفسه، و يضع به الأسس لدول

أو مجتمعات، أو جماعات، أو جمعيات، تعمل بمنهاجه لتبلغ أوجها به. و هذه خصيصة لا يجاري الصادق (عليه السلام) فيها عالم من العلماء في التاريخ . و حسبنا في هذا المقام كلمات، كالاشارات، تضمنتها الفصول الثلاثة التي حواها هذا الباب. [ صفحه 268]

التجربة و الاستخلاص

اشارة

أما اذا خرجت من الإنكار الي منزلة الشك، فإني أرجو أن تخرج الي المعرفة. (جعفر الصادق عليه السلام) لو أتيح لي الأمر لحرقت كتب أرسطو كلها، لأن دراستها يمكن أن تؤدي الي ضياع الوقت و إحداث الخطأ و نشر الجهالة. روجير بيكون (1294 ميلادية) لم يكن روجير بيكون في الحقيقة إلا واحدا من رسل العلم الاسلامي و المنهج الاسلامي الي أوربا المسيحية. روبر بريفو [ صفحه 271] أتيحت للإمام الصادق حقبة طويلة للتعليم يتلقاه أو يلقيه. فلم يحبس كمثل ما حبس الكثيرون من أهل بيته، أو يقتل كما قتل عظماؤهم. و لم يصطدم مذهبه الفقهي بمذهب فقهي للسطان. فبنو أمية و بنوالعباس، حتي عهده، لم يكن لهم مذهب فقهي - ان لم تظهر المذاهب «رسميا» إلا في أخريات القرن الثاني للهجرة، عندما صير أبويوسف مذهب أبي حنيفة مذهب السلطان. و استعصمت المدينة بفقهها، ثم ظهر الشافعي في أواخر القرن الثاني. و لم يصطدم الامام بمذهب سياسي للخليفة - إذ لم يظهر اعتناق الدولة للاعتزال إلا في عصر المأمون في مطلع القرن الثالث. و كان الجهميون و القدريون مستضعفين، و لم يكن لمناقشات أصحاب الملل و النحل شأن يستلفت النظر. بهذا أتيح للإمام (عليه السلام) في مجلسه العلمي، و اقتداره الذي يسلم به الجميع... ان يرسي في أمنة و اطمئنان، قواعد «منهج علمي» ما يزال يعبر القرون باعتباره فتحا من الفتوح التي فتحها الله علي البشر. و

فحوي المنهج ان العلم «مشاهدة» و «نزاهة فكرية» في «استخلاص» النتائج لا يقبل الله سواها من عالم أو متعلم. في هذا الفحوي قول الامام (عليه السلام): «اطلبوا العلم، فانه السبب بينكم و بين الله». - و السبب الي الله لا يقوي إلا بقلب خاشع. و من ثم وجب إخلاص النية فيه، و صدق الهمة في تلقيه، و قبول حقائقه دون تلويثها بشوائب الهوي أو الغرض أو المقررات السابقة، أو العوامل الخارجية. [ صفحه 272] و بهذه الخصائص تصبح «النزاهة العلمية» سمتا للعبادة و شأوا للسيادة - يقول الامام (عليه السلام): «الملوك حكام علي الناس و العلم حاكم عليهم... حسبك من العلم أن تخشي الله. و حسبك من الجهل أن تعجب بعلمك». و لتحقيق ذلك يأمر الإمام طالب العلم - من بدء أمره - بالتحلي بخصال، و ينهاه عن نقيضها. يقول (عليه السلام): «لا تطلب العلم لثلاث؛ لترائي به و لا لتباهي به و لا لتماري به. و لا تدعه لثلاث: رغبة في الجهل و زهادة في العلم و استحياء من الناس». و ما المراء أو الإصرار علي عدم المعرفة أو تحقير العلم أو خوف النقد إلا خروق واسعة تتساقط منها كنوز العلماء، و مواهب المتعلمين، و واجب الفرد في أن يتعلم، في أمة فرض رسولها العلم علي كل مسلم و مسلمة. فالعلم في الإسلام طريق للبقاء و التقدم. و يقول لمحمد بن النعمان (مؤمن الطاق)، و هو المناضل الجدل: يابن النعمان: إياك و المراء فإنه يحبط عملك، و إياك و الجدل فإنه يوبقك. و إياك و كثرة الخصومات فإنها تبعدك من الله. و ان من قبلكم كانوا يتعلمون، و انتم تتعلمون الكلام... إنما ينجو من أطال الصمت عن

الفحشاء... إن أبغضكم إلي المترئسون، المشاءون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم. و انما أوليائي الذين سلموا لأمرنا و اتبعوا آثارنا. و ليست البلاغة بحدة اللسان، و لا بكثرة الهذيان، و لكنها إصابة المعني و قصد الحجة... يا بن النعمان... إن أردت أن يصفو لك ود أخيك فلا تمازحنه و لا تجارينه و لا تباهينه. لا تطلع صديقك من سرك إلا علي ما لو اطلع عليه عدوك لم يضرك. فإن الصديق قد يكون عدوك يوما... و من أدوات المنهج طمأنينة المعلم و المتعلم، بالاستغناء عن الناس، فالإمام يحث تلاميذه علي العمل للرزق، و يمدهم بالمال، ليتجروا، و يستغنوا عن الناس ليستمع اليهم الناس، و ليقدروا علي الاستمرار في التلقي و في الإلقاء. و من أدواته التعمق و التخصص. فالعلم لا يعطيك بعضه إلا ان تعطيه كلك، كما [ صفحه 273] يقول أبويوسف: فأبان بن تغلب وزرارة بن أعين متخصصان للفقه . يفتيان الناس في مسجد الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم). و حمران بن أعين حجة في علوم القرآن. و مؤمن الطاق للكلام = علم التوحيد. و هشام بن الحكم للكلام في العقائد و في الإمامة. و أبان بن عثمان للكلام في الاستطاعة و ما اليها. و المنهج شامل: يسأل الإمام (عليه السلام) عن قوله تعالي: «و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا» فيقول: «الحكمة هي المعرفة و التفقه في الدين». و لما جمع للحكمة المعرفة و التفقه في الدين كان يعلم الناس أن الفقه وحده ليس الحكمة و إنما هو درجة فيها. و هو القائل: «تفقهوا في الدين فإن من لم ينفقه منكم فهو اعرابي». و لما جعل مطلق المعرفة بعض الحكمة فتح الباب لكل

أنواع العلوم. فليست المعرفة قاصرة علي العلم الديني. فهذا ينفيه نصه علي التفقه في الدين معها. و انما قصد الامام (عليه السلام) العلم عموما؛ و منه العلوم التطبيقية و الفلسفات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية التي كان لها في مجالس الامام الصادق (عليه السلام) مكان، هو أول مكان تلقاه في حلقة إمام للدين في مدارس الاسلام... كمكان جابر بن حيان، و هذه التفرقة بين ألوان المعرفة يوجبها المنهج العلمي علي الدارسين. و هذا الجمع لشتي العلوم إيذان بتطبيق المنهج الإسلامي في فنون العلم العالمي كما سنري بعد. و للمنهج - بعد - شعار من حب رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و تقدير أصحابه «محمد رسول الله و الذين معه»، فلا يقبل العلم من رجل، أو يقبل العلم علي رجل، قصر إيمانه عن صيانتهم. [ صفحه 274] و النص علي العقل و استعماله مستمد من القرآن الذي طالما خاطب فطرة البشر «لتعتبر» بما تدركه الحواس من آيات الله، و تتدبرها، و تستصحبها، لتري آلاءه علي عباده، و تشهد تقديره و تدبيره، فتقنعهم بوجوده و وحدانيته و قدرته، فتصبح الدليل ما بعده دليل. [97] . و كما استعمل الصادق (عليه السلام) العقل، استعمل الحرية، التي منحها القرآن للإنسان: لا يكره الناس علي أن يكونوا مؤمنين، و لا يستعمل في جدالهم إلا التي هي أحسن. و لا في وعظهم إلا الموعظة الحسنة... حتي ثبوت الألوهية لا يرضاه الله بإكراه. و العقل لا يعمل إلا حرا. و اذا أكره تعطل أو انحرف. و الجدال بعنف تعسف. و للعقل كرامة. و الكرامة هي الحرية. و الاعتبار بالآثار و الأشياء الميحطة بالناس، بالمشاهدة و الاستخلاص، ثم الحرية و الأمانة في

التفكير و التقدير، أي النزاهة الفكرية، هما صميم المنهج. و هو لا يتجلي قدر ما يتجلي في الدلالة علي الله جل ثناؤه. اليك مثلا من زنديق تحداه بقوله: كيف يعبد الله الخلق و لم يروه؟ قال الصادق (عليه السلام): رأته القلوب بنور الإيمان. و أثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، و أبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب و إحكام التأليف. ثم الرسل و آياتها. و الكتب و محكماتها. و اقتصر العلماء علي ما رأوه من عظمته دون رؤيته. فلنلاحظ أنه يبدأ بآثار الله التي يراها الناس في نور الايمان، و يثبتها العقل و البصر، ثم يثني بالرسل اللافتين انظار الناس الي آيات الله، و بالنصوص المحكمة التي جاءوا بها. و أخيرا يذكر ما يحصله العلم المحدود بما يراه العلماء من آثار ذلك. لكن الزنديق يستمر: أليس هو قادرا أن يظهر لهم. فيعرفوه فيعبد علي يقين؟ قال الصادق (عليه السلام): «ليس للمحال جواب». قال الزنديق: فمن أين أثبت أنبياء و رسلا؟ [ صفحه 275] قال الصادق (عليه السلام): «إنا لما أثبتنا أن لنا خلقا صانعا متعاليا عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيما، لم يجز أن يشاهده خلقه أو يلامسوه... ثبت أن له سفراء في خلقه و عباده يدلونهم علي مصالحهم...». و مثلا مما يروي محمد بن سنان: «حدثني المفضل بن عمر قال: كنت ذات يوم بين القبر و المنبر - قبر الرسول بالمدينة - و أنا أفكر فيما خص به الله تعالي سيدنا محمدا (صلي الله عليه و آله و سلم)... إذ جاء ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه... فخرجت من المجلس محزونا متفكرا فيما بلي به الاسلام و أهله من كفر هذه العصابة و تعطيلها.

فدخلت علي مولاي (عليه السلام)، منكسرا فقال: مالك؟ فأخبرته. فقال: بكر علي غدا... فلما أصبحت غدوت فاستؤذن لي فجلست و قمت بين يديه فقال: إن الشكاك جهلوا الأسباب و المعاني في خلقه. و قصرت أفهامهم عن تأمل الصواب و الحكمة، فخرجوا بقصر علومهم الي الجحود... فهم في ضلالهم و تجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء و فرشت بأحسن الفرش... و وضع كل شي ء من ذلك موضعه... فجعلوا يترددون فيها يمينا و شمالا... محجوبة أبصارهم عنها... و الإنسان كالمالك لهذا البيت... ففي هذه دلالة علي ان العالم مخلوق بتقدير و حكمة و نظام و ملاءمة. و أن الخالق له واحد. و هو هنا يدلل بما تلمسه الحواس علي لزوم وجود ما لا تلمسه، فهو يستعمل العقل و الواقع معا. و يروي ابن بابويه القمي (381): «كان ابن أبي العوجاء و ابن المقفع يلاحظان الجمع الذي كان يطوف بالكعبة فقال ابن المقفع لأصحابه: لا واحد من هؤلاء يستحق اسم الانسانية إلا هذا الشيخ الجالس - و أشار الي جعفر بن محمد (عليه السلام) - فقام ابن أبي العوجاء الي الشيخ، و تحدث معه ثم رجع الي صاحبه و قال: ما هذا ببشر، ان كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهرا، أو يتروح إذا شاء باطنا، فهو هذا... ظل يحصي لي قدرة الله التي في نفسي، و التي لم أستطع رفضها، حتي ظننت أن الله قد نزل بيني و بينه. [ صفحه 276] و نزول الله بين الامام و بين ملحد، باعتراف الملحد، آية باقتدار المنهج علي بلوغ غرضه، و قدرة مجادل جمع الآيات الربانية حججا بين يدي منكر أخذته حجة الأمر الواقع فأبلس. فاذا تصدي الإمام (عليه السلام) للمغالطين أزري بالسفسطات،

و صدمهم - كدأبه - «بالواقع»، فبهتتهم - كأن لم يشهدوها قبل - حقائق الأمر الواقع. طلب واحد من تلاميذه بيانا عن قول أبي شاكر الديصاني - زعيم الفرقة الديصانية - و هي طائفة ملحدة تنعم بحرية العقيدة في بلدان الإسلام - ان في القرآن ما يدل علي ان الإله ليس واحدا، ففيه: «و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله» فأجاب الامام بقوله: قل له ما اسمك في الكوفة فيقول: فلان. فقل له ما اسمك في البصرة؟ فيقول: فلان. فقل له فكذلك: ربنا في السموات إله و في الأرض اله و في البحار إله و في كل مكان إله. و في كتاب الإهليلجة المروي عن طريق المفضل بن عمر يوظف الجدل العلمي، في تنبيه الشكاك علي أنهم في بداية الطريق نحو المعرفة يقول: «أخبرني هل رقيت الي الجهات كلها و بلغت منتهاها؟... فهل رقيت الي السماء التي تري أو انحدرت الي الأرض السفلي فجلت في أقطارها... فما يدريك لعل الذي أنكره قلبك هو بعض مالم تدركه حواسك و لم يحط به علمك... أما إذ خرجت من الإنكار الي منزلة الشك فإني أرجو أن تخرج الي المعرفة». فلنلاحظ أنه يجادل الرجل بأن يرتفع من الإدراك المادي الي حيث يفكر، و انه يرفع المفكر الي حيث يستيقن، فيطالب الشاك بمزيد من التجربة المحسوبة الملموسة. ليصل من الشك الي المعرفة، و هي مراحل العلم الذي يصل اليه الناس بوسائل مأمونة و مجربة. و هذا المنهج «الواقعي» القائم علي النزاهة الفكرية و الحرية العقلية هو الآن منهج [ صفحه 277] عالمي، يدين بن الجميع للقرآن و أصول الفكر الإسلامي علي ما سنري فيما بعد. [98] . ففي

حين استخلص علماء العالم القديم من اليونان «نظريات» عمموها ليخضعوا لها نتائج الاستنباط، و فرضت سيادة الفكر الأرسطي علي العقل في أوربا منطق النظريات و العمومات، و قاومت الكنيسة في تاريخها القديم حرية التفكير، نري القرآن ينبه «العقل» علي الاعتبار بالمحسوس التي يتمثل في «الواقع» و ان يرفض الاستسلام للعموميات التي تحكم مقدما أي أمر واقع، و يرشد الإنسان الي توظيف فكره بحرية. بل نري الامام الصادق (عليه السلام) يعتبر «التقليد» مذلة عقلية «و استعبادا للنفس»، و يحاجج في ذلك قرآنيا، و يفسره تفسيره الرائع. عن أبي بصير عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) في معني «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله» قال: «أما و الله ما دعوهم الي عبادة، ولو دعوهم ما أجابوهم، و لكن أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون». و في تعبير آخر يقول؛ عن أبي بصير عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام)؛ اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دول الله قال (عليه السلام): «و الله ما صاموا لهم و لا صلوا، لكن [ صفحه 278] أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فاتبعوهم». فالاتباع دون فهم، في الحلال و الحرام، أو غيرهما، ترك لزمام النفس في قبضة الغير، و إهدار لحريتها و قدرتها، و تلك عبادة لغير الله، و ليس بعد ذلك كفر. و ليس أبلغ من هذه العبارات في الدعوة للحرية الفكرية و الحث علي الاجتهاد و توظيف العقل. يقول الشافعي عن مكانة علي في علوم الاسلام: «كان علي كرم الله وجهه قد خص بعلم القرآن و الفقه لأن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) دعا له. و أمره ان يقضي بين الناس. و كانت قضاياه ترفع

الي النبي فيمضيها». و لقد آلي علي نفسه بعد الفراغ من تجهيز الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) ألا يرتدي إلا للصلاة أو يجمع القرآن - كما أسلفنا - فجمعه مهتما بأمور «أصولية» في الشريعة و فقهها تتعلق بالمحكم و المتشابه، أي بما لا يحتمل الاجتهاد و ما يحتمله، و بالنصوص التي نسخت و التي هي واجبة التطبيق، و بالمطلق منها و الذي يحتمل التخصيص، و العزائم و الرخص، و بالفروض و المندوبات، و فيها المحرم و المكروه، و ما هو تهذيب للأمة من فضائل و آداب. [99] . [ صفحه 279] و في «نهج البلاغة» طائفة من أصول الفقه التي ينبه عليها أميرالمؤمنين (عليه السلام) و هذه و تلك أساسيات في أصول الفقه. و الأصول أدلة في طريق أو نهج. و لا إمامة إلا بمنهج. و الفقه السني يعتبر الشافعي أول من اتجه الي تجلية أصول الفقه في كتابه (الرسالة) و قد وضعه، و الناس يتحلقون حوله، في جوار الكعبة بعد سنة 184. وليس غريبا ان نجد النبوغ الشافعي يتلاقي و أمورا أساسية أهمت من بادئ الأمر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أو تجد أفكارا «علوية» أو آراء «شيعية» تظهر بقوة في مذهب الشافعي و آرائه. و الشافعي من ابناء عمومة النبي و علي، يباهي بحب أهل البيت (عليهم السلام) و يتحدي به، و هو إمام في اللسان العربي، له لغة خاصة تعلنها قواميس اللغة... طوعت له إمامته فيها أن يفهم القرآن فهم الذين نزل فيهم. و اتصال اللغة و البلاغة بالفقه في الاسلام أساسي، لأن الفقه فهم للقرآن؛ و القرآن عربي. فالشافعي في استنباطه للأصول من القرآن كان موجها بفهم عربي عميق للكتاب الكريم، الذي صنعت

علي أسسه العقلية الاسلامية. يقول أحمد بن حنبل - و هو الإمام الرابع لأهل السنة في الفقه، فوق أنه إمام في اللغة: «الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، و اختلاف الناس، و المعاني، و الفقه». و هذه هي الأمور الأساسية في كل فقه. و سواء انبثقت الأصول من اهتمامات علي (عليه السلام)، في جوار قبر النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بالمدينة غداة عروج النبي الي الرفيق الأعلي، أو ممن نحوا ذلك النحو من الشيعة، أم انبثقت من «رسالة الشافعي» في جوار البيت الحرام بمكة... و سواء اطلع الشافعي علي كتب لأهل البيت (عليهم السلام) أو علي آرائهم، أم لم يطلع، فالأصول قرآنية المبدأ و المنتهي، مشتقة من نصوص القرآن و السنة و منهاجهما و أسلوبهما. و من ذلك شرفها في الفكر الديني و العلمي. و حرية التفكير توجب «الاجتهاد» علي أساس العلم كما يقرر الشافعي في «رسالته»، مع النزاهة الفكرية الكاملة، غير المقيدة إلا بما تثق بوجوده، و تحقيق المناط [ صفحه 280] و تنقيحه، و التدقيق في الفرع و في الأصل؛ و السند، فيما ليس قطعي الورود في السنة أو قطعي الدلالة فيها أو في الكتاب العزيز... و مع اتخاذ الأهبة. و هذه كلها أمور يوجبها القرآن و السنة. و الحضارة العالمية مدينة بهذا المنهج للإسلام بما طور من فكر الأمم التي دانت به، في أربعة عشر قرنا، و من أساليبها، و وسائلها العلمية، حتي صبغ فكرها، في شكله و موضوعه، صبغة الله... و من أحسن من الله صبغة! و كما ارتفع العرب درجات بالإسلام انتفع به كل الأمم ممن أسلموا، و ممن لم يسلموا. و من هنا كان الاسلام خيرا للعالم كله.

فتلك خصائص رسالته العالمية، و الأبدية. و السمو، و الطريق اليه مفتوحة حتي يرث الله الأرض و من عليها. و ما تقدم الإنسانية إلا حاصل دفع الله الناس بعضهم ببعض، و أخذ بعضهم بيد البعض - و من أجل ذلك اختص الفقه الاسلامي بميزة القدرة علي إحداث التطور و مواكبته، مع اليسر و حفظ الدين، «بالاجتهاد» الذي أمر به الله علي أصول القرآن و السنة. [100] . أعلن علي عليه السلام تمسكه «بالاجتهاد» إذ تولي إمارة المؤمنين بعد عمر ابن الخطاب. و من أجل ذلك وحده، لم يبايع له عبدالرحمن بن عوف. و أعلن عثمان التزامه بأن «يتبع» عمل السابقين فجعل عبدالرحمن يبايع له. «فالاجتهاد» شعار من شعارات «علي» من بادئ الأمر، و شعارات الشيعة من بعده، و من ذلك لم يصخ عظماؤهم الي ذلك الصوت البغيض الذي أعلن إقفال باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري، لتنفتح أبواب التقليد، و تخبو شعلة الفكر، بل شهد الشيعة في القرن الرابع ذاته نهضة شاملة تتراءي في أعمال عظمائهم. فالعقل أصل؛ [ صفحه 281] و الأصل لا يتعطل. و ما الاجتهاد إلا الحرية الفكرية في استخلاص النتائج، و النزاهة العلمية أو الاعتبار «بالواقع و الصحيح». و هاتان العجلتان اللتان تحملان موكب الفكر الإنساني المنجب، هما شعار مجالس الامام الصادق (عليه السلام) كما سلف البيان؛ بل هما أساس ما استخلصه تلميذه جابر بن حيان، من تجاربه العلمية، و عنه انتقل الي أوربا المنهج التجريبي، أو منهج «التجربة و الاستخلاص» كما يسمي في العصور الحديثة. و من نزاهة المنهج في الفقه، كان الإقرار بضعف الإنسان. فليس الاجتهاد مقابلا للحقيقة، و انما هو أحسن أداة توصل المرء اليها. يقول أبوحنيفة: «علمنا هذا رأي فمن

جاءنا بأحسن منه كان أولي بالصواب منا». و لما قال الشافعي (الاجتهاد بالقياس) و إنهما اسمان لمعني واحد، و استطرد فقعد له القواعد، ليجري علماء أهل السنة في مضماره، صلي الأصوليون من أهل السنة بعده في حلبة الفكر العالمي، منذ القرن الثاني للهجرة، و التاسع للميلاد، فوضعوا القواعد التي لم يبدأ في تعريفها الأوربيون إلا بعد ثمانية قرون تحت عناوين اطراد العلة... و انها اذا توفرت ثبت الحكم، أو قانون اطراد الحوادث لوجود «نظام» في الكون، أو تناسق تخضع له الأشياء، طردا و عكسا، باطراد أسبابها و ملابساتها فيها. و هذا ما قرره الأصوليون المسلمون عند تماثل العلل لاستنباط الأحكام. غير أن الأصوليين المسلمين فاقوا في تمحيصهم «جون ستيوارت مل» في أبحاثه. إذ تعمقوا في مسالك العلة، و دققوا في الاستقراء و الاستنباط، مع الاحتياط الكامل و النزاهة الفكرية المثلي. فكان عندهم لكل ركن من أركان «القياس» أبحاثه، و ضمانات صحته، باتساع الاختبار و امتحان الاستخلاص، و ايجاب أن تجمع الأصل «المقيس عليه» و «الفرع» «المقيس» «علة»، لتنتج ثمرة القياس و هي «الحكم». و أولي الأصوليون العلة و تخريجها اهتماما منقطع النظير، فشرطوا لها مسالك نقلية من نص أو إجماع، أو عقلية من تحقيق المناط بوجود العلة، و تنقيح المناط بحذف ما لا يدخل في الاعتبار، و بطرائق السبر و التقسيم و الطرد، لحصر الأوصاف التي تصلح [ صفحه 282] للعلية، و استبعاد ما لا يصلح منها، و مقارنة الأوصاف للحكم، و دوران العلة مع المعلول وجودا و عدما الخ... مع تكامل اختبار الوقائع و سلامة النتائج ثم قبولها. كل أولئك دون تأثير لمقررات أو نظريات سابقة. و مع التقرير بأن ما يصل اليه المجتهد

ليس الحقيقة و إنما هو الراجح بغلبة الظن، فإن اجتهادا آخر قد يغيره. و الاجتهاد مفتوح. و قانونه الحرية. فإذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران. و اذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. و علي هذا التحديد أخذ المنهج التجريبي في الوجود: تمحيص الواقعة و الاستخلاص بحرية و نزاهة. و القرآن يحوي جميع صور الاستدلالات العقلية؛ و منها قياس الأولي و في هذه الصور تبرز طريقة الاعتبار بآيات الله المادية الواقعية المحيطة بالناس و التي تحسها حواسهم. و كذلك كانت طريقة الأنبياء في الاستدلال علي الله بلفت النظر الي آياته أو بقياس الأولي، و هو ما يكون الحكم المطلوب فيه أولي بالثبوت من الصورة المذكورة في الدليل الدال عليه - و كان أحمد بن حنبل يستعمل هذا القياس، و هو القائل إنه لا يصار الي القياس إلا عند الضرورة. و ابن تيمية يجعل للفطرة مكانها في الميزان الذي تعرف به الأحكام، و يروي ان معرفة الاختلاف و التماثل أمر فطري. و استعماله ضروري. و الميزان عنده هو العدل، و ما يعرف به العدل... و انه هو القياس العقلي القرآني. [101] . [ صفحه 283] و الوزير الصنعاني (840) صاحب كتاب (ترجيح أساليب القرآن علي أساليب اليونان)، يذكر ان أئمة أهل البيت لم يعرفوا المنطق (اليوناني و الإرسططاليسي) و لم يصوغوا أدلتهم علي التوحيد في صور منطقية. و انما في «منهج قرآني أساسه الاعتبار». و ان الامام عليا (عليه السلام) لم يعرفه في خطبه و مواعظه، و ان الأئمة قدموا أدلة التوحيد من غير ترتيب مقدمات المنطق و لا تقاسيم المتكلمين. و يقرر الوزير الصنعاني أن أسلوب المسلمين أرجح و أحجي من أسلوب المناطقة: «فهذا أسلوب الأنبياء

و الأولياء و الأئمة و السلف في النظر. و خالفهم بعض المتكلمين و أنواع المبتدعة فتكلفوا و تعمقوا و عبروا عن المعاني الجلية بالعبارات الخفية». و الذين ينكرون القياس، من أهل السنة، كداود (270) امام أهل الظاهر و ابن حزم (456)، أو من المعتزلة كالنظام (ابراهيم بن سيار شيخ الجاحظ)، يعتمدون علي النص وحده - و قد أسعفتهم النصوص في إقامة مذهب بتمامه. و لم تخذلهم قدرتهم الفقهية في استخراج الفقه باستعمال كليات الشريعة في الاجتهاد. فدل هؤلاء علي أن نصوص الكتاب و السنة تجعل كليات الشرع و قواعده كافية «للعقل» ليبلغ بالفقه الاسلامي مبالغه، فيحقق أن الله تعالي ما فرط في الكتاب من شي ء. فلكل واقعة حكم. و علي المجتهد طلبه بالعقل و النقل معا. و الشافعي من حرصه علي العمل بهما معا، يندد «بالاستحسان». و يسميه تلذذا. مع ان الاستحسان في جملة أمره استعمال لنص خاص أو قاعدة متعلقة «بالواقعة» [ صفحه 284] المطلوب لها الحكم. [102] . و أهل القياس مجمعون علي ان المنهي عنه هو الاجتهاد في مقابل النص القطعي، أو إطلاق العنان لاستخراج الأحكام دون تقيد بالنصوص الخاصة أو العامة. و هم يجمعون علي قياس العلة و يختلفون فيما عداه. و من المعاني الجامعة التي تترد في أبواب الاجتهاد أن أحكام الشريعة جميعا - حتي في الأعمال غير التعبدية - فيها معني تعبدي... أي حق لله، يطاع فيه الله و يعبد. فمن أحسن بيعه و شراءه و إجارته و إعارته، أو قضاءه أو فتواه... الخ فهو يطيع الله و يستحق ثوابه. و من ساءت معاملته فهو خاسر في أمرين، قضاء الناس ضده، و غضب الله عليه، لأنه يعصي الله فيما عمل

من عمل غير صالح. و من ثمة تأثير الجانب الروحي أو الوازع الديني في الحياة الواقعة، و في الدراسة العلمية، و في طلب الأحكام الفقهية، في المجتمع الاسلامي، و هو امتياز لا تبلغه الأمم الأخري أو مجتمعاتها. و في منهج الاعتبار بالواقع أو بالآثار الدالة علي المطلوب «واقعية» أدني الي التصديق من مجازفات الفكر. و في الواقع المادي ضمان أن لا يبعد الاستخلاص من الملموس و المحسوس بالحواس الخمس. و هذه الواقعية أو النزاهة الفكرية تسبق واقعية «أوغست كومت» [103] بقرون عشرة، و عقلانية «ديكارت» بقرون تسعة، كما تسبق «جون سيتوارت مل» [104] في نظرية اطراد العلل بقرون عشرة. و بهذه القرون [ صفحه 285] يقاس سبق الحضارة الاسلامية. والي جوار المشاهدة الواقعية و التحقيق النزيه و الاستخلاص الصادق، يضيف الفقه الاسلامي ضمانا جديدا هو اعتبار الاجتهاد سعيا لبلوغ الحق لا بلوغا له. فثمة عوامل أخري قد تكون موجودة أو قد يدركها عقل آخر فتجعله أدني الي السداد، أو تجعله يصل الي السداد. و هذا الاحتمال الذي يلازم الاجتهاد يحتمل تداخل العناصر. فالنتائج نسبية حتي تقطع التجربية بأنها لا تتخلف أبدا... و هي في الفقه تبقي نسبية حتي تبلغ الحكم الذي شرعه الشارع - فشرع الله هو الثابت... الذي يقصده المجتهدون. و ربما كان الكلام المنقول عن «جابر بن حيان» أوضح كلام في الدلالة علي المنهج التجريبي الذي تعلمه في مجلس الامام أو من كتب الامام (عليه السلام). يخاطب جابر الامام في مقدمة كتابه الأحجار بقوله: «و حق سيدي - لو لا ان هذه الكتب باسم سيدي - صلوات الله عليه - لما وصلت الي حرف من ذلك الي الأبد». و يقول جابر في كتابه الخواص

عن طريقته: «اتعب أولا تعبا واحدا. و اعلم. ثم اعمل. فإنك لا تصل أولا. ثم تصل الي ما تريد». و في كتابه السبعين يقول: «من كان دربا (مجربا) كان عالما حقا. و من لم يكن دربا لم يكن عالما. و حسبك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدرب يحذق و غير الدرب يعطل». و يحصر جابر طريقته في عبارته المأثورة: «عملته بيدي، و بعقلي، و بحثته حتي صح، و امتحنته فما كذب». و في هذا المقام يقول استاذ الفلسفة الاسلامية في جامعة القاهرة، د. زكي نجيب محمود: «... فلو شئت تلخيصا للمنهج الديكارتي [105] كله لم تجد [ صفحه 286] خيرا من هذا النص الذي أسلفناه عن جابر». و يري الصيدلي المعاصر د. محمد يحيي الهاشمي ان «الواقعية» هي التي سوغت لجابر أن يقسم القياس أو الاستدلال و الاستنباط الي ثلاثة أقسام - المجانسة و مجري العادة و بالآثار - و من دلالة المجانسة دلالة الأنموذج كمن يريك بعض الشي ء دلالة علي كله، و هو استدلال غير قاطع إذ الأنموذج لا يوجب وجود شي ء من جنسه يساويه تماما في الطبيعة و الجوهر. و كذلك دلالة مجري العادة فإنه - كما يقول جابر - «ليس فيه علم يقين واجب اضطراري برهاني اصلا، بل علم إقناعي يبلغ ان يكون: أحري و أولي و أجدر لا غير، لكن استعمال الناس له و تقبلهم فيه و استدلالهم به و العمل في أمورهم عليه أكثر كثيرا جدا... و ليس في هذا الباب علم يقين واجب. و انما وقع منه تعلق و استشهاد الشاهد علي الغائب، لما في النفس من الظن و الحسبان فان الأمور (ينبغي أن تجري علي نظام و

مشابهة و مماثلة) فانك تجد أكثر الناس يجرون أمورهم علي هذا الحسبان و الظن». يقول جابر: «... و بالجملة فليس لأحد أن يدعي انه ليس في الغائب إلا مثل ما شاهد... إنما ينبغي له أن يتوقف حتي يشهد البرهان بوجوده من عدمه...». فهو ينقد القياس من الناحية المنطقية أو الرياضية ليترك المجال مفتوحا للحقائق القاطعة التي تثبت بالتجارب. و حسبك دليلا علي دقة طريقة التدليل بآثار الأشياء، أن تجدها احدي المسلمات في المعامل و الجامعات، في القارات جميعا، منذ بدأ الأخذ بطريقة التجربة و الاستخلاص حتي اليوم. و ستبقي أبدا. و عندما توضع آراء جابر [106] في القرن الثاني للهجرة الي جوار آراء «الحسن بن [ صفحه 287] الهيثم» (430 - 354) بعد أكثر من قرنين، و قد عمل في خدمة الدولة الفاطمية، و هي دولة من دول الشيعة، و له 47 كتابا في الرياضيات و 58 كتابا في الهندسة، تتأكد لنا طريقة التجربة و الاستخلاص التي سلكها الامام الصادق (عليه السلام) و أتقن العمل بها و وصفها جابر و الحسن. و قد أحسن الحسن التعبير عنها بمنهج علمي واضح الفحوي محدد العبارات. [107] . [ صفحه 288] و يشهد بها من أهل أوربا درايير في كتابه (النزاع بين العلم و الدين) فيقول: «كان الأسلوب الذي توخاه المسلمون سبب تفوقهم في العلم. فإنهم تحققوا أن الأسلوب النظري لا يؤدي الي التقدم. و ان الأمل في معرفة الحقيقة معقود بمشاهدة الحوادث ذاتها. و من هنا كان شعارهم في أبحاثهم هو (الاسلوب التجريبي). و هذا الأسلوب هو الذي أرشدهم الي اكتشاف علم الجبر و غيره من علوم الرياضة و الحياة. و إننا لندهش حينما نري في مؤلفاتهم من

الآراء العلمية ما كنا نظنه من ثمرات العلم في هذا العصر». و القارئ يلاحظ في هذا المقام أمورا؛ منها: الأول: أن جابرا يقرر - إذ يقسم بالإمام (عليه السلام) - استرشاده في طريقته هذه به. و ان علمه منه هو سبب توفيقه. ولو كان قد تلقي الطريقة عنه دون لقاء له لما نقص الفضل. فذلك شأن العلماء في كل زمان. الثاني: ان ممارسة جابر لطريقته مع إقرار الامام (عليه السلام) له، قد ضبطتها مدارسة أبي حنيفة للإمام. إذا انبهت القياسين علي وجوب ضبط طريقة القياس بوضع حدود له و استبعاد ما ليس منه. [108] . [ صفحه 289] و ظاهر من قبول أبي حنيفة لنهي الامام عن القياس و عدم مجادلته للامام بكلمة، أن أباحنيفة أدرك أن النهي عن القياس نهي عن القول في الدين بالرأي، و ليس مقصودا به النهي عن الاجتهاد و استعمال العقل. و ظاهر أن الإمام بلغ مراده من أبي حنيفة و ممن تابعوه في القياس. فلم يقل أحد منهم في الدين برأيه. و التزم القائلون بالقياس كل الدقة، بعد إذ جاء الشافعي و فصل شروطه تفصيلا. الثالث: انه يظهر من محاورة الامام (عليه السلام) لأبي حنيفة يوم استأذن عليه فحجبه فدخل مع أهل الكوفة التي سلف ذكرها أمران: 1 - ان الأحكام التي ذكرها الامام لأبي حنيفة، وارد فيها نصوص، مما يجعل لتحريم القول في الدين بالرأي أو مطلق القياس حجة مسلمة. 2 - ان الإمام ذكر أباحنيفة بقياس إبليس، إذ أعلن انه يخرج عن طاعة الله برأيه. فكان رأيه عصيانا صريحا، لأمر صريح، و خروجا علي نص وارد علي سبيل الجزم. و ليس عجيبا و إنما هو التواتر علي استعمال العقل، أن يقرر أئمة أهل السنة جميعا

أن باب الاجتهاد مفتوح إذا لم يكن ثمة نص، و ان يجمع علماؤهم أن أحدا لا يقول الكلمة الأخيرة فيه، و أن يكون هذا منهج الفقه الشيعي الذي دأب عليه علماؤه. يقول ابن إدريس (598) من فقهاء الشيعة المتقدمين: «اذا فقدت الثلاثة - الكتاب و السنة و الإجماع - فالمعتمد عند المحققين التمسك بدليل العقل». و من فحولهم المحقق نجم الدين الحلي (676) يقسم الدليل العقلي قسمين؛ الأول: يتعلق بالخطاب - و فحواه و لحنه و دليله -، و الثاني: ما ينفرد العقل بالدلالة عليه لحسنه أو قبحه. و الشهيد الأول محمد بن مكي (786) يوسع في القسم الأول و يفصل في القسم الثاني فيزيد البراءة الأصلية، و ما لا دليل عليه، و الأخذ بالأقل عند التردد بين الأكثر و الأقل، و الاستصحاب. [ صفحه 290] و ربما أجمل التفصيل في قول بعض المتأخرين [109] من الاصوليين عن الدليل العقلي: إنه كل حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعي. فالدليل العقلي يوجب القطع. و ليس بعد القطع حجة. بالعقل أدرك الإنسان وجود ربه، ودان بالرسالات، و أدرك المعاني و العلل، و قدر علي تمييز القبيح و الحسن بفطرة البشر. فالقبح مفسدة و الحسن مصلحة. [110] و ما يدركه العقل منهما هو حكم عقلي يستقل الإنسان بتقريره. و ما يستقل العقل بتقريره من مصلحة أو مفسدة هو مصلحة أو مفسدة شرعية. و علي كليهما تدور الأحكام. فالشرع هاد للبشر، و البشر مفطورون علي استعمال نعمة الشارع. و لا يمنع هذا التأييد الشرعي للعقل أو التأييد العقلي للشرع، أن توجد بعض مصالح يراها الشرع و لا يفطن لها العقل العادي فيتردد أمامها بظنه. و اذا كان أصل استعمال العقل يسع

كل وسائل النظر، فالفقيه ملزم بالاحتياط - و هو أول ما تستوجبه النزاهة العقلية - لوجود احتمال التزاحم و التعارض. فلا تجوز المجازفة بالتحليل و التحريم مع وجود هذا الاحتمال... و إنما يلجأ الفقيه لاستخراج الحكم، عند عدم ظهور النص، الي استعمال العقل، و بقواعد يمليها العقل و النقل، مثل وجوب دفع الضرر المحتمل، و مثل عدم العقاب بلا بيان. و العقل إذ يقرر قبح العقاب بلا بيان، يسوغ للمكلف أن يصنع ما يراه عند عدم البيان؛ و بتعبير آخر تصبح الإباحة هي الأصل. و الحرية هي الأصل، حتي تتقيد بنص. يقول الامام الصادق (عليه السلام): «كل شي ء لك حلال حتي تعلم أنه حرام بعينه». و من هنا اتسع مجال النشاط الإنساني. فلا حرام إلا ما حرم الله. [ صفحه 291] و النص نقطة الثبات، أو حجر الزاوية في الفقه. فلا اجتهاد مع وروده. و التزام فحواه أو التزام مقاصد الشارع التي ينطق النص بها، أو يدل علي معناها مجموع النصوص، لا يدخل بالمصلحة أو بالقياس شيئا علي الشرع ليس منه. و الامام الصادق (عليه السلام) يفتح أبواب رحمة الله و يرفع الحرج و يبيح الرخص. يقول: «الوضوء نصف الايمان». و يقول: «إنه توبة من غير استغفار». و مع هذا سئل عن رجل يكون معه الماء في السفر و يخاف قلته؟ فقال: «يتيمم بالصعيد و يستبقي الماء». و يقول (عليه السلام): «من خاف عطشا فلا يهريق قطرة. و ليتيمم بالصعيد. فالصعيد أحب الي». سئل عن رجل ليس معه ماء و الماء عن يمين الطريق و يساره غلوتين أو نحو ذلك (الغلوة مسافة مرمي السهم)؟ فقال: «لا آمره أن يغرر بنفسه فيتعرض له لص أو سبع». و سئل عن

رجل يمر بالركية (البئر) و ليس معه دلو. قال: «ليس عليه أن يدخل الركية، لأن رب الماء هو رب الأرض. فليتيمم. إن الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». و يقول: ان أباذر قال: يا رسول الله هلكت. جامعت أهلي علي غير ماء. فقال (صلي الله عليه و آله و سلم): «يا أباذر يكفيك الصعيد عشر سنين». و سئل عن رجل به القروح و الجراحات فيجنب؟ قال: لا بأس بأن يتيمم و لا يغتسل. و الفقهاء يقولون: إن نفي الحرج في الشريعة من باب الرخصة لأن تحمل الألم و المشقة غير منهي عنه. و نفي الضرر من باب العزيمة لأن الضرر منهي عنه. يقول تعالي: «و لا تلقوا بأيديكم الي التهلكة». يقول الامام الصادق (عليه السلام): «لا صلاة إلا الي القبلة»، فقيل له: أين حد القبلة. قال: «ما بين المشرق و المغرب كله قبلة» و يشرح ذلك قوله: «يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم وجه القبلة». و الفقهاء يصرحون بالإذن لمن يشك في الدليل بأن يستعمل قواعد الشرع من [ صفحه 292] أصول الحل و الطهارة و التخبير و استصحاب الحال - و معناه استدامة ما كان ثابتا، و نفي ما كان منفيا - فمن شك في قيامه بالوضوء قبل أن يصلي فعليه أن يتوضأ. لأن الوضوء شرط واجب قبل الصلاة، و الحال قبل الوضوء للصلاة حال تقتضي الوضوء. و من توضأ ثم شك في نقض الوضوء فهو علي وضوء. و من شك في أنه توضأ بعد أن دخل في الصلاة قطعها و توضأ، ليحرز شرط الصلاة. فإن شك بعد إتمام الصلاة فليس عليه أن يعيدها. فقد فرغ منها. لكن عليه أن يتوضأ لصلاة تالية

لأنه لم يبدأها و لم ينته منها. أي لم يتجاوز الشي ء الذي شك فيه الي غيره. سئل الامام الصادق (عليه السلام) عن رجل شك في الأذان، و قد دخل في الإقامة؟ قال: يمضي. قيل له: شك في الإقامة، و قد كبر؟ قال: يمضي... و في التكبير، و قد قرأ؟ قال: يمضي... و في القراءة، و قد ركع؟ قال: يمضي... و في الركوع، و قد سجد؟ قال: يمضي... الي ان قال: «اذا خرجت من شي ء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشي ء». يقول: «اذا شككت في شية من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكك بشي ء. انما الشك اذا كنت في شي ء لم تجزه». و سئل عن رجل يشك كثيرا في صلاته، فقال فيما قال: «ان الشيطان خبيث معتاد لما عود. فليمض أحدكم في الوهم» أي لا يحفل به... و بني الفقهاء علي ذلك قاعدة: (لا شك لكثير الشك). يقول الامام الصادق (عليه السلام): «من كان علي يقين ثم شك فلا ينقض اليقين بالشك». و هذا اعلان عن دليل استصحاب الحال، و اعتماد الواقع و الظاهر كمن استأجر ارضا و شاع أمره في الناس يعامل معاملة المستأجر، و لا يقبل منه ادعاء الملك إلا بدليل. و تتعاون مع هذا الأصل أصول أخري مثل أصل البراءة و الإباحة حتي يرد منع الشارع. و يستثني الفقهاء الشيعة من المنع من القياس في حالتين: 1 - حالة العلة المنصوصة... و كثير ما هي في الكتاب و السنة. 2 - حالة مفهوم الأولوية، كقول أف للوالدين اذ نهي الله عنها، فمن باب أولي ما هو أشد. [ صفحه 293] و يفرعون علي العمومات و المبادئ الكلية الواردة في النصوص و الإجماع...

كمثل قواعد الوفاء بالعقود، و درء الحدود بالشبهات، و جواز كل شرط إلا أن يحل حراما أو يحرم حلالا. و علي هذه الكليات مدار الفقه. و الاجتهاد بها واجب. و بالاجتهاد بلغ الفقه الشيعي ما بلغه فقه أهل السنة؛ كل علي شاكلته. ندب الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) عليا (عليه السلام) الي اليمن. فسأله الامام: أكون كالسكة المحماة أو الشاهد يري ما لا يري الغائب؟ - أي اجتهد رأيي فيما بين يدي مما ليس بين يديك - قال عليه الصلاة و السلام: «بل الشاهد يري ما لا يراه الغائب». فهو يأذن له أن يجتهد، أو يأمره أن يجتهد. و يقول ابن مسعود للقضاة و المفتين و المجتهدين: «من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله. فان لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضي به نبيه (صلي الله عليه و آله و سلم). فإن جاء أمر ليس في كتاب الله و لم يقض به نبيه فليقض بما قضي به الصالحون - فإن جاء أمر ليس في كتاب الله و لم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه. فإن لم يحسن فليقم و لا يستحي». و الشيعة في اجتهادهم يعملون بأصل الاحتياط الواجب، مع العلم بالتكليف الملزم، و أصل التخبير اذا تردد الفعل بين الوجوب و الحرمة. و يرون الحسن و القبح أمرين «عقليين» ثابتين بالعقل. و ما أمر الشارع و نهيه في صددهما إلا لأن العقل يأمر بهما. فلا حاجة إذن لسؤال الشرع ابتداء، بل يسأل العقل. فعدم العلم بالنهي كاف للحل. و لا تحتاج الإباحة لدليل ، و انما يحتاج ادعاء عكسها الي دليله. فالاختراعات الحديثة مباحة استنادا الي ما ثبت شرعا من

أن كل شي ء مطلق حتي يرد فيه نهي. و الجواز في التصرف مطلق لا يقيده إلا التثبت من حق الغير. فالمعاملات، أية كانت، صحيحة مالم تزاحم حقا عاما أو خصا أو يوجد نص أو معني يحرمها. [ صفحه 294] و في كثير من الأحيان، يكون عمل الفقيه مجرد تحكيم النصوص بعضها علي بعض، مثل قوله تعالي: «و ما جعل عليكم في الدين من حرج»، و قول الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم): «لا ضرر و لا ضرار» و قاعدة «ان الله يأمر بالعدل و الإحسان» و هذه أمثال للأدلة الحاكمة علي أدلة سواها. فالعمل بها ليس تخصيصا للنص بالمصلحة، و انما هو حكومة نص علي نص. أي رفع اليد علي الكتاب و السنة بدليل منهما - أيضا - مجعول في ظرف خاص يزاحم الدليل الآخر أو يحكم عليه. و الشيعة إذ يبنون فهمهم علي ان الله يأمر بالفعل لمصلحة، و ينهي عن الفعل لمفسدة، لا يعتبرون مخالفا للأمر و النهي من يوجد في حالة اضطرار، و انما يشترطون أن تكون المخالفة علي قدر الضرورة، و ارتفاع المسوغ حالة انتهاء الاضطرار، أو عند تجاوز المقدار. يقول تعالي «و ما جعل عليكم في الدين من حرج» و «يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر» و «يريد الله ان يخفف عنكم». و بالانتفاع بهذه الرخص يظهر ان الاضطرار نسبي. بل يظهر انه ليس إلا خيار، و فيه إرادة. و الإجبار هو ما يعدم الاختيار بما يزيل من القدرة - و هي شرط التكليف. فالمضطر في الواقع «يختار» الفعل لعامل خارجي أو داخلي (نفسي)... كمن لا يملك إلا ثوبا واحدا يلبسه ليستره (و يختار) أن

يبيعه ليأكل، إذ يؤثر العري علي الجوع إذا لم يقدر أن يواجه جوعه بطريق آخر. و لا عجب أن تتآمر كثرة الأوربيين بالصمت عن مناهج العلم الحديث المنقولة من نهج المسلمين، كدأبهم في التنكر لآباء العلوم الرياضية و الهندسية، و المهد الذي نشأت فيه. فذلك استمرار للحرب الصليبية، و إخضاع للحقائق العلمية للتعصب الديني المتأصل في الحضارة الأوروبية. فهم لا يذكرون أن فيثاغورس و ارخميدس و إقليدس آباء الرياضيات ألقوا الدروس و تلقوها في مدرسة الإسكندرية بمصر - و لا يذكرون أنهم لم يعرفوا كتاب إقليدس المسمي (الأساسيات) أو (العناصر) إلا عن [ صفحه 295] نسخة عربية. و لا يذكرون أن أوروبا المعاصرة أخذت عن العلم الاسلامي المنهج العلمي المعاصر، أي منهج التجربة و الاستخلاص. يقول الشاعر محمد إقبال [111] إن دبرنج Dubring يقول: «ان آراء روجير بيكون أصدق و أوضح من آراء سلفه... و من أين استمد روجير بيكون دراسته العلمية؟ من الجامعات الاسلامية في الأندلس». و يقول بريفو [112] Robert Briffault: «إنه لا ينسب الي روجير بيكون (1294) [113] و لا [ صفحه 296] الي سميه الآخر فرانسيس بيكون (1626) أي فضل في اكتشاف المنهج التجريبي في [ صفحه 297] أوربا. و لم يكن روجير بيكون في الحقيقة إلا واحدا من رسل الحضارة الاسلامية و المنهج الاسلامي الي أوربا المسيحية. و لم يكف بيكون عن القول بأن معرفة العرب و علمهم هما الطريق الوحيد للمعرفة... و لقد انتشر منهج العرب التجريبي في عصر بيكون و تعلمه الناس في أوربا يحدوهم الي هذا رغبة ملحة». و يضيف: «انه ليس هناك وجهة نظر من وجهات العلم الأوربي لم يكن للثقافة الاسلامية عليها تأثير اساسي، و

ان أهم أثر للثقافة الاسلامية هو تأثيرها في العلم الطبيعي و الروح العلمي و هما القوتان المميزتان للعلم الحديث». ثم يضيف: «ان ما يدين به علمنا للعرب ليس ما قدموه لنا من اكتشاف نظريات مبتكرة غير ساكنة. ان العلم مدين للثقافة الاسلامية بأكثر من هذا. فقد أبدع اليونان المذاهب و عمموا الأحكام. لكن طرق البحث و جمع المعرفة الوضعية و تركيزها و مناهج العلم الدقيقة و الملاحظة المفصلة العميقة و البحث التجريبي كانت كلها غريبة عن المزاج اليوناني... ان ما ندعوه بالعلم ظهر في أوربا نتيجة لروح جديدة في البحث، و لطرق جديدة في الاستقصاء... طريقة التجربة و الملاحظة و القياس. و لتطور الرياضيات، صورة لم يعرفها اليونان. و هذه الروح و هذه المناهج أدخلها العرب الي العالم الأوربي». [ صفحه 298] أو كما يقول المستشرق المعاصر برنارد لويس : «ان أوربا القرون الوسطي تحمل دينا مزدوجا لمعاصريها العرب. و هم الواسطة التي انتقل بها الي اوربا جزء كبير من ذلك التراث الثمين. كما تعلمت أوربا من العرب طريقة جديدة وضعت العقل فوق السلطة، ونادت بوجوب البحث المستقل و التجربة. و كان لهذين الأساسين الفضل الكبير في القضاء علي العصور الوسطي و الإيذان بعصر النهضة». و روجير بيكون يعلن تأثره المنهج العربي و رفضه للمنهج الأرسطي الذي سيطر علي الفكر الأوروبي من جراء الفساد في بعض استنتاجاته في العلوم الطبيعية فيقول: «لو أتيح لي الأمر لأحرقت كل كتب أرسطو، لأن دراستها يمكن أن تؤدي الي ضياع الوقت و الوقوع في الخطأ و نشر الجهالة». [114] . و كما قال (غوستاف لوبون) بعد ستة قرون من وفاة بيكون: «أدرك العرب بعد لأي أن التجربة و المشاهدة

خير من أفضل الكتب. و لذلك سبقوا اوربا الي هذه الحقيقة. فالمسلمون أسبق الي نظام التجربة في العلوم». [ صفحه 299]

في السياسة و الاجتماع

اشاره

«و إنما عماد الدين و جماع المسلمين و العدة اللأعداء العامة من الأمة. فليكن صغوك لهم. و ميلك معهم» «علي بن أبي طالب عليه السلام» [ صفحه 301] لم تكن خلافة أميرالمؤمنين علي هادئة أو هانئة. ولو هدأت لحمل الناس علي الجادة بعلمه و عدله، و شجاعة رأيه و زهده. و الزهد آية علي صدق الولاة، و سبيل معبدة لهم الي أنفس الرعية. فالشجاعة تروعها. أما الزهادة فتقنعها. و علي (عليه السلام) إمام الزاهدين و المتقشفين من الصحابة. أجمع عليه العلماء، و الفقهاء و البلغاء و أبطال الحروب و الحكماء، و كل محب لأهل بيت النبي (صلي الله عليه و آله و سلم). و الصوفية يمدون اليه بالأسباب، فيضعونه في قمتهم، كما يصرح بذلك: الشبلي، و الجنيد، و سري السقطي، و أبويزيد البسطامي، و معروف الكرخي. و هم يسندون اليه الخرقة التي يتخذونها شعارا لزهدهم. و أحمد بن حنبل - و الصوفية يعتبرونه من أئمتهم - يقول إنه: «ما اجتمعت لأحد من الفضائل بالأسانيد الصحاح ما اجتمع لعلي»، يقابله الجاحظ زعيم المعتزلة - أي في الطرف الأقصي من الخصومة لأحمد - و مع ذلك يتلاقي الطرفان في «علي» حيث يقول الجاحظ: «لا يعلم رجل من أهل الأرض: متي ذكر السبق في الاسلام و التقدم فيه، و متي ذكرت النخوة و الذب عن الاسلام، و متي ذكر الفقه في الدين، و متي ذكر الزهد في الأمور التي يتناحر الناس عليها، كان مذكورا في هذه الخلال كلها، إلا علي». و المعتزلة يمدون اليه أسبابهم الفكرية عن طريق حفيده

أبي هاشم بن محمد بن الحنفية. و في مكان بعيد جدا من المعتزلة يقف محيي الدين بن عربي، من فلاسفة المتصوفة، ليقول: «علي من أصحاب العلم و ممن يعلمون من الله ما لا يعلمه غيره»، و يقول السراج الطوسي: «لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) من بين جميع أصحاب [ صفحه 302] رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم (خصوصية) بمعاني جليلة و إشارات لطيفة و ألفاظ مفردة و عبارات و معان للتوحيد و المعرفة و الايمان و العلم، و غير ذلك، و خصال شريفة تعلق و تخلق بها أهل الحقائق من الصوفية». و لقد طالما افتتن بشخصيته الناس؛ و منهم المستشرقون الذين يتحدثون عنه، علي طريقتهم في الإيضاح عن آرائهم، مثل كارادي فو، حيث يتصوره «ذلك البطل المتوجع المتألم، و الفارس الصوفي، و الامام ذو الروح العميق القرار، التي يكمن في مكامنها سر العذاب الإلهي». و إذا ذكرت كلمة (الإمام) مطلقة، انصرفت الي علي بن أبي طالب (عليه السلام) دون سائر الصحابة. و لم يكن النهج العلمي الذي أوجزنا الإشارة اليه، قبل، إلا استعمالا لأصول تهدي الي معرفة حكم الشرع و دليله، لبلوغ «السعادة في الدنيا و الآخرة». و كان طبيعيا، و قد تضافرت في رسم حدود هذه السعادة، و ضوابطها، و العلاقات الهادية اليها نصوص القرآن و السنة أن تجلي الامام علي (عليه السلام) في هذا المجال، و ان يتخلف لنا من حياته و سنوات حكمه علي قصرها و انحسار سلطته فيها، مواقف معلمة و نصوص شارحة، و ان يتتابع في نسقها أعمال الأئمة من بنيه ليتشكل منها «مذهب سياسي و اجتماعي و اقتصادي» متكامل: فتري الحسن (عليه السلام) يضرب مثلا في العطاء و حقن الدماء. و نري الحسين

(عليه السلام) مثلا يضرب مثلا للجهاد في حروب الأمة و للاستشهاد في سبيل الحق. و نري الائمة الثلاثة بعدهما يفصلون القواعد للمجتمع العظيم، و الدولة المثلي، و الاسرة الفاضلة، و الانسان الذي ينشد. و كان لزاما، ان تكون بين تعاليمهم تعاليم دستورية و اقتصادية و اجتماعية. فالامام علي، و الأئمة من عقبه، بناة دول، و حماة مجتمعات، ازدهرت فيها الأسرة و صلح بها الرجل و المرأة، و استغني الناس فيها بكدهم وكدحهم. [ صفحه 303]

في الدولة و قواعدها

لم يكد أميرالمؤمنين (عليه السلام) يتلقي البيعة حتي اطلق كلماته كالصواعق رجوما للمنحرفين، و كالبوارق المتألقة بآمال المصلحين، في منهاجه السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي الجامع.

المساواة اساس الدولة

لقد خطب في اليوم التالي لمبايعته فقال: «أما بعد ألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار و فجروا الأنهار و ركبوا الخيول الفارهة و اتخذوا الوصائف الرقيقة و صار ذلك عليهم عارا و شنارا، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه و أصرتهم الي حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك و يستنكرون و يقولون حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا». فلما كان الغد غدا الناس لقبض حقوقهم. فأمر كاتبه عبيدالله بن أبي رافع أن يبدأ بالمهاجرين. و أعطي كل من حضر منهم ثلاثة دنانير، ثم ثني بالأنصار، ثم سائر الناس كلهم... سوي بينهم الأحمر فيهم و الأسود. فقال له سهل بن حنيف: هذا غلامي أعتقته بالأمس. قال: نعطيه كما نعطيك ثلاثة دنانير. و قد تخلف عن هذه القسمة طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و عبدالله بن عمر و سعيد بن العاص و مروان بن الحكم. و قال علي (عليه السلام): «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان و كل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق قديم لا يبطله شي ء، و الله لو تزوج به النساء و ملك به الإماء لرددته. فإن في العدل سعة. و من ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق». و لما جاءته امرأتان فسوي بينهما، قالت إحداهما: إني امرأة من العرب، و هذه أعجمية! فقال: «إني لا أري لبني اسماعيل في هذا الغني فضلا علي بني اسحق». و غضب البعض مما يصنع أميرالمؤمنين (عليه السلام). و كتب عمرو بن العاص الي [

صفحه 304] معاوية يقول: «ما كنت صانعا فاصنع...». و دعي البعض في السر الي رفض علي لمساواته بينهم و بين الأعاجم. و لما بلغه ذلك صعد المنبر متقلدا سيفه و قال: «... ليس لأحد عندنا فضل إلا بطاعة الله و طاعة الرسول... قال الله تعالي «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثي و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم». ثم صاح بأعلي صوته: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن توليتم فإن الله لا يحب الكافرين»... في هذه الأيام الأولي، وضع منهاجه الدستوري: المساواة في الحقوق، و العدل بين الناس. و منهاجه الاقتصادي: المساواة في العطاء بين فئات الشعب. و منهاجه الاجتماعي: ليس في الاسلام شريف و مشروف، و لا أحمر و أسود، و لا عربي و أعجمي و انما أكرم الناس أتقاهم. و كان عدله (عليه السلام) مع الذين حاربوه أو كفروه أو قتلوه دروسا في الفقه: روي الغزالي في المستصفي أن قضاته استشاروه في شهادة الخوارج بالبصرة فأمر بقبولها، كما كانت تقبل قبل خروجهم عليه، لأنهم إنما حاربوا علي تأويل. و في رد شهادتهم تعصب و إثارة خلاف... حتي قاتله عبدالرحمن بن ملجم نهي عن المثلة به. و بالمساواة التي هي خصيصة الإسلام الأولي، بعد التوحيد، هرع أبناء البلاد - من غير العرب - الي اعتناق الاسلام. ثم اختار كثير منهم الانضمام تحت لواء الشيعة. و لما سادت الدعوة لأهل البيت (عليهم السلام) في خراسان أقبلت جيوشها تقيم دولة الدين علي انقاض بني أمية و بني مروان. و كانت الدعوة الي «الرضا» من «أهل البيت» و المساواة بين «الموالي و العرب»، شعار الدولة التي أقامها أبومسلم الخراساني و التي [ صفحه 305] سرقها

بنوالعباس من بني علي (عليه السلام)، كما أوضحنا قبل. [115] . [ صفحه 306] و لقد و هم الذين نسبوا أسباب التشيع في خراسان الي ما زعموه من تشابه تتابع الخلافة النبوية و الدينية في بيت الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)، و توارث الملك عند الفرس في الدولة الكسروية، و حكم كسري «بالحق الآلهي». فلقد ترك الفرس دين كسري بتمامه الي الإسلام و قواعده. إنما كانت تفرقة الولاة و الحكام بين العجم و بين العرب سببا لتصبح المساواة صيحة التجمع منهم علي أميرالمؤمنين علي و بنيه (عليهم السلام). و كان أهل البيت مضطهدين، تهوي اليهم الأفئدة. و كانوا شجعانا يستشهدون. فاجتمع علي ايجاب الانضمام اليهم الدين و العقل و المصلحة. و هي دوافع كافية للجهاد ضد بني أمية. [ صفحه 307] أما زعم الزاعمين ان إصهار الحسين (عليه السلام) الي الفرس في أم زين العابدين كان سببا لتشيعهم، فينقضه ان ابني عمرو و أبي بكر اصهرا اليهم في اختين لها، و مع ذلك لم يتعصب الفرس لأبويهما. لا مراء، كان طلب المساواة هو الباعث علي التشيع لعلي (عليه السلام)، من قوم سلبت حقوقهم في المساواة... و هم في قمة المجتمع العلمي و الديني يحملون مسؤوليات الدين الجديد مع العرب. و الدول العظيمة، و الحروب الدامية، و تغيير التاريخ، لا يحدثها الغضب من أجل النسب. و انما تحدثها المبادئ الخالدة و البطولات الرائعة و ابتغاء مستقبل أفضل. و تفسير التاريخ علي أساس النسب تفسير أوربي يدفع المستشرقين اليه سوابق «الزواج السياسي» بين ملوكهم و «حروب الوراثة» بين دولهم.

العدل، و نزاهة الحكم

في حياة علي (عليه السلام) و مبادئه، و خطبه و قضائه، عن هذين، مالا نظير له في أي عصر، و المقام يضيق عن الاستقصاء.

فحسبنا ان نقف قليلا عند فقرات من عهده لمالك بن الحارث (الأشتر النخعي)، فهذا عهد مقطوع القرين في شكله و موضوعه، في التراث العالمي و الاسلامي، و بخاصة في السياسة الاسلامية، و الحكم الصالح، سواء في صياغته أو محتوياته. و هذا العهد يضع اسم علي (عليه السلام) في ذروة المؤسسين للدول (واضعي الدساتير) حيث يتكلم عما يسمي في الدساتير العصرية بالمقومات الأساسية، و واجبات الولاة نحو الأمة، و طريقة قيامهم بحقوق الجماعة، بالتفصيل اللازم. و التنبيه علي مل ء الفراغ، فيما سكت عنه، بالرجوع الي اصل الشريعة: القرآن و السنة. و لقد تتابعت علي هذا العهد شروح الأئمة من بعد. فرأينا لزين العابدين في رسالة الحقوق تفصيلات جديدة يقتضيها الزمان، و شهدنا الامام جعفر الصادق يضيف التطبيق ، و التفصيل الدقيق، لما تضمنته رسالة زين العابدين و عهد علي (عليهماالسلام) - [ صفحه 308] فيجعل من تنفيذهما و شروحه لهما، عهدا جديدا للمسلمين و للشيعة، تبلغ به مجتمعاتهم أو دولهم مبالغها كلما التزموهما أو قاربوا الالتزام بهما. يبدأ «عهد علي» بتحديد مهمة الوالي (حين ولاه مصر، جباية خراجها و جهاد عدوها و إصلاح أهلها و عمارة بلادها) فهو قد جمع له ولاية الخراج و ولاية الحكم و قال: «و اعلم ان الرعية طبقات. لا يصلح بعضها إلا ببعض. و لا غني ببعضها عن بعض؛ فمنها جنود الله، و منها كتاب العامة و الخاصة، و منها قضاة العدل. [116] و منها عمال الانصاف و الرفق. و منها أهل الجزية و الخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس. و منها التجار و أهل الصناعات. و منها الطبقة السفلي من ذوي الحاجة و المسكنة. و كلا قد سمي الله سهمه. و وضع

علي حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه (صلي الله عليه و آله و سلم) عهدا منه عندنا محفوظا. فالجنود بإذن الله حصون الرعية؛ و زين الولاة؛ و عزالدين؛ و سبل الأمن؛ و ليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله تعالي لهم من الخراج... ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة و العمال و الكتاب، لما يحكمون من المعاقد و يجمعون من المنافع و يؤتمنون عليه من خواص الأمور و عوامها. و لا قوام لهم جميعا إلا بالتجار و ذوي الصناعات... ثم الطبقة السفلي من أهل الحاجة و المسكنة الذين يحق رفدهم و معونتهم. و في الله لكل سعة. و علي الوالي حق بقدر ما يصلحه»... أما ولاية الإدارة عامة، و العمال و الكتاب خاصة، فيقول عنها: «فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله و رسوله و لإمامك. و أطهرهم جيبا و أفضلهم حلما، ثم الصق بذوي المروءات. ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما... و لا تحقرن لطفا تتعاهدهم به و ان قل... و ليكن آثر جندك عندك من واساهم [ صفحه 309] في معونته... و ان أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد بظهور مودة الرعية...». و أما عن العدالة، و قوامها القضاء، فيبدأ المشترع العظيم - في التعبير الأوربي - الكلام فيها عن القانون الواجب التطبيق فيقول: «و أردد الي الله و رسوله ما يضلعك من الخطوب و يشتبه عليك من الأمور. فقد قال الله تعالي لقوم أحب إرشادهم «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فان تنازعتم في شي ء فردوه الي الله و

الرسول» - فالرد الي الله الأخذ بمحكم كتابه، و الرد الي الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة». و يقرن القانون الإلهي بالقاضي كما يتطلبه الاسلام، فيقول: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، و لا تمحكه الخصوم، و لا يتمادي في الزلة، و لا يحصر عن الفي ء الي الحق اذا عرفه، و لا تشرف نفسه علي طمع، و لا يكتفي بأدني فهم دون أقصاه؛ أوقفهم في الشبهات، و آخذهم بالحجج، و أقلهم تبرما بمراجعة الخصم، و أصبرهم علي تكشيف الأمور، و أصرمهم عند اتضاح الحكم... ممن لا يزهيه اطراء و لا يستميله إغراء. و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه و أفسح له في البذل ما يزيح علته و تقل حاجته الي الناس. و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع في غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك». و لئن كانت رسالة عمر الي أبي موسي الأشعري قد جمعت جمل الأحكام في كلمات مختصرة، لا يجد محق عنها معدلا، ان عهد علي (عليه السلام) للأشتر كان في زمان مختلف، فجاء جامعا، بل مضيفا - في الموضوع الذي وردت فيه رسالة عمر - أمورا شتي يحتاجها زمان علي و كل زمان بعده. و ورود القانون، و الدعوي، و اختيار القاضي، و سلوكه، و طريقة القضاء، و استقلال القضاء، في فقرتين بين فقرات ذلك العهد، مظهر من مظاهر شموله و اتساع نطاقه، و أسباب خلوده. أما الإدارة العامة - عمال الوالي - ففيهم يقول أميرالمؤمنين (عليه السلام): [ صفحه 310] «انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختيارا و لا تولهم محاباة و أثرة... و توخ منهم أهل التجربة و الحياء من

أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام، فإنهم أكرم أخلاقا و أصح أعراضا ... ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم علي استصلاح أنفسهم، و غني لهم عن تناول ما تحت أيديهم، و حجة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك... ثم تفقد أعمالهم...». و أما الكتاب ففيهم قوله: «ثم انظر في حال كتابك، فول علي أمورك خيرهم و اخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك و أسرارك، بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ... ثم لا يكن اختيارك إياهم علي فراستك و استقامتك و حسن الظن منك... و لكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم في العامة أثرا...». ثم يقول عن الضعفة: «و تعهد أهل اليتم و ذوي الرقة في السن ممن لا حيلة، له و لا ينصب للمسألة نفسه... و اجعل لذوي الحاجات منك مجلسا عاما... فلا تكونن منفرا و لا مضيعا. فإن في الناس من به العلة و له الحاجة. و قد سألت رسول صلي الله عليه و آله و سلم حين وجهني إلي اليمن كيف أصلي بهم، فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم و كن بالمؤمنين رحيما».

الشوري و العناية بالعامة

في بداية العهد إلي الأشتر أمران؛ الأول: خاص بالأشتر، و الثاني: خاص بالعامة و الخاصة. و الأمران عصريان في كل عصر، و مطلوبان في كل مكان، و من كل الحكام: أما الأول، ففيه قوله له: «إن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم. و إنما يستدل علي الصالحين بما يجري بهم علي ألسنة عباده... فاملك هواك، و شح بنفسك عما

لا يحل لك... و أشعر [ صفحه 311] قلبك الرحمة للرعية و المحبة لهم و اللطف بهم. و لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين و إما نظير لك في الخلق... يفرط منهم الزلل و تعرض لهم العلل، و يؤتي علي أيديهم في العمد و الخطأ. فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحب و ترضي أن يعطيك الله...». [117] . و قوله: «و إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلي عظم ملك الله فوقك... فطن الله يذل كل جبار و يهين كل مختال. أنصف الله و أنصف الناس من نفسك و من خاصة أهلك و ممن لك فيه هوي. و ليس شي ء أدعي إلي تغيير نعمة الله و تعجيل نقمته من إقامة علي ظلم...». و يقول عن الشوري: «و لا تدخلن في مشورتك من يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر. و لا جبانا يضعفك عن الأمور و لا حريصا يزين لك الشر، بالجور، فإن البخل و الجبن غرائز شتي يجمعها سوء الظن بالله... و الصق بأهل الورع و الصدق... ثم رضهم علي أن لا يطروك... و لا تنقص سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة...». و أما الثاني، ففيه قوله: «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق. و أعمها في العدل و أجمعهالرضي الرعية. فإن سخط العامة يجحف برضي الخاصة. و إن سخط الخاصة يغتفر مع رضي العامة. و ليس أحد من الرعية أثقل علي الوالي مؤنة في الرخاء، و أقل معونة في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف، و أقل شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع،

و أخف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. و إنما عماد الدين و جماع المسلمين، و العدة للأعداء، العامة من الأمة. فليكن صغوك لهم و ميلك معهم». بأبي أنت و أمي يا أميرالمؤمنين! إن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)يقول: «اطلعت في الجنة [ صفحه 312] فوجدت أكثر أهلها الفقراء» و أنت في طليعة أهل الجنة. تحب أكثر أهلها عددا في الحياة الدنيا؛ و من أجل ذلك تكرم العامة، و هم كثرة الأمة، و تؤثر منها الفقراء. و لقد كنت دائما قدوة. و أردت الخاصة علي أن تكون قدوة، و حذرتها من مطامعها و مزالقها. ولو حذرت، للزمت الجادة، و صلح أمر هذه الأمة. إن من يضع دستورا في العصر الحديث خليق بأن يرتوي من عهدك و يروي الأمة من ينابيعك، في تطبيع الشريعة، و سيادة القانون، و استقلال القضاء، و أمانة الولاة، و نزاهة الإدارة، و احترام العامة، و إلزام الخاصة أن تكون قدوة في الأمة. يقول ابن المقفع في شأن الخاصة بعد مائة عام، في كتابه لأبي جعفر: «و قد علمنا علما لا يخالطه الشك أن عامة قط لم تصلح من قبل نفسها. و لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها... و حاجة الخواص إلي الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلي خواصهم و أعظم من ذلك». و يتصدي الإمام زين العابدين في «رسالة الحقوق» بالشرح الشامل، و التفصيل الطويل، لسلوك الجماعات و الأفراد و ما يجب لها شرحا و تفصيلا تقتضيهما حالة الناس و ظروف الزمان في النصف الثاني من القرن، عصر كربلاء و الحرة و ضرب الكعبة و الدولة الهرقلية و تغير الناس. و استقصاء السجاد فيها للأحكام

مظهر لتحمله مسؤولية تعليم المسلمين أمور دينهم و شؤون دنياهم؛ فهي تبدأ بحقوق الله عزوجل... و أكبرها ما أوجبه الله تعالي من حقه. فجعل للجوارح حقوقا و لأفعالها حقوقا: «ثم تخرج الحقوق منك إلي غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، و أوجبها عليك حق أئمتك ثم حقوق رعيتك ثم حقوق رحمك. فهذه حقوق يتشعب منها حقوق. فحقوق أئمتك ثلاثة... و حقوق رعيتك ثلاثة... و حقوق رحمك كثيرة متصلة... [ صفحه 313] فأوجبها عليك حق أمك ثم حق أبيك... ثم حق مولاك المنعم عليك ثم...». [118] . و تطرقت رسالة الحقوق للعلاقات الحكومية و القضائية و الاجتماعية التي تنظم الجماعة الإسلامية، فنظمت آدابها و التزاماتها و الخليقة و القانونية بالتفصيل. و ربما أجزأ في تقريب منهاجها إلي الألباب مثل ننقله منها عن معاملة السلاطين حيث يقول: «و أما حق سائسك بالسلطان فأن تعلم أنك جعلت له فتنة. و أنه مبتلي فيك بما جعله الله له عليك من السلطان. فعليك أن تخلص له في النصيحة. و لا تماحكه و قد بسطت يده عليك. فتكون سبب هلاك نفسك و هلاكه... و تلطف لعطائه مايكفه عنك دون أن يضر بدينه. و تستعين عليه في ذلك بالله فلا تعانده... فإنك إن فعلت ذلك عققته و عققت نفسك و عرضتها للمكروه».

الحكام

تابع الإمام الصادق عمل آبائه في التنبيه علي قواعد الحكم الصالح و منها حقوق [ صفحه 314] العامة - و هي جسم الجماعة - بنصوص دستورية يوجزها، لتحفظ عنه و تنقل منه... يقول: «أفضل الملوك من أعطي ثلاث خصال: الرحمة و الجود و البذل». و يقول: «ليس للملوك أن يفرطوا في ثلاثة: حفظ الثغور و تفقد المظالم و اختيار

الصالحين لأعمالهم». و ما هي إلا أركان الدولة الثلاثة: الجيش و القضاء و الإدارة. أو مبادئ الحكم الثلاثة: المنعة في الخارج بالجيش. و العزة في الداخل بالعدل. و الحكم الصالح بالإدارة الحسنة. و الرسول يقول: «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم» و هو مقال موجه للعامة و الخاصة في أمة خصيصتها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و أول المسؤولين عنهما الولاة و العلماء و القادرون. و الصادق يقول لكل هؤلاء «خير الناس أكثرهم خدمة للناس»، يقول للحكام: «كفارة عمل السلطان قضاء حاجات الإخوان» و يقول: «المستبد برأيه موقوف علي مداحض الزلل» (العثرات). و هي مقولة تنطق بها سجلات الطغيان، حيثما كان، و في جميع الحقب. فالزلة الواحدة تزعزع قوام الطاغية أو المتعصب أو المتحكم. فهو كالواقف علي قدم واحدة. و تعاليم الصادق في العدل و الرفق بالرعية مقولات دستورية في الأمة. يقول: «ما أوسع العدل و إن قل» و يقول: «أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم». و يقول لوالي المنصور علي الأهواز إذ استنصحه: «... فاعلم أن خلاصك و نجاتك في حقن الدماء و كف الأذي عن أولياء الله و الرفق بالرعية. و الثاني حسن المعاشرة مع لين في غير ضعف. و شدة في غير عنف... و إياك و السعاة و أهل النمائم... و لا تستصغرن من حلو و فضل طعام في بطون خالية ... إياك يا عبدالله أن تخيف مؤمنا». تلك دروس جده صلي الله عليه و آله و سلم؛ و هو القائل: «سبعة يظلهم الله يوم القيامة؛ إمام عادل...» فبدأ بالعدل. [ صفحه 315] بل يقول عليه الصلاة و السلام: «عدل السلطان يوما

يعدل عبادة سبعين سنة...». و الدنيا قدم تدوم، و الدولة قد تقوم، مع العدل و الكفر. لكنها لا تبقي مع الظلم، و إن كان الظلم واقعا علي غير مسلم. و الله تعالي يقول في محكم كتابه: «كونوا قوامين لله شهداء بالقسط. و لا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوي». [119] . يقول الإمام الصادق: «من نكد العيش السلطان الجائر و الجار السوء و المرأة البذيئة». فالسطان الجائر أذي دائم، و منكر مستمر، تضيق الدنيا به، و إن رحبت، كما يضيق المكان - علي رحبه - بالجار السوء، و تضيق الحياة - و إن طالت أو اتسعت - مع المرأة الطويلة اللسان. و الإمام يبدأ بالسلطان الجائر لأن أذاه يفسد الدنيا و إن صلحت، و الأسرة و إن هنؤت. و إذا عم العدل احتمل الناس همومهم حيث هم. و من فساد السلطان أن يتولي سدته المتكبرون؛ و المتعالون في دخيلتهم منحطون. يقول الصادق: «ما من أحد يتيه إلا من ذلة وجدها في نفسه». و من ذلك ينحي عن الرياسات من يجرون أزرهم خيلاء، فهؤلاء لا ينتفعون بتجربة من أنفسهم، و إلا لما تكبروا علي الناس، أو من غيرهم، و إلا لما غرهم الغرور. يقول: «لا يطمع القليل التجربة المعجب برأيه في الرياسة». و يقول: «من طلب الرياسة هلك». فإذا ولي الحاكم فليخش الله في الناس، و ليعلم أن فيهم ضعفا، و أنه مطالب بالعفو و الصفح الجميل. يقول الإمام: «أولي الناس بالعفو أقدرهم علي العقوبة. و أنقص الناس عقلا من ظلم من دونه، و لم يصفح عمن اعتذر إليه». [ صفحه 316] و الناس مطالبون بأن يمحضوا النصح بإخلاص. و ليس الإخلاص

مجرد النية الحسنة أو البدار بالكلام، و إنما هو الفكر الجاد، و تقليب الأمور علي وجوهها، و الاستماع إلي المخالفين. فالإمام يقول: «لا تكن أول مشير. و إياك و الرأي الفطير». و كثيرا ما تأذي الناصح بنصحه، و ركبت المنصوح شياطين غلوائه. و قد يستفيد الظنة المتنصح. و ينبه الإمام الأمة علي ألا تشتري الراحة بالرياء إذ «المؤمن يداري و لا يماري» كما يقول. و ينبه الناس - و منهم الحكام - علي أن يسارعوا إلي الخيرات بإصلاح عيوبهم، و إعلانها دون تأثم أو تحرج. و الناس يمدون أيديهم إلي من يصارحم بمصاعبه، فيشركونه في متاعبه. يقول «أنفع الأشياء للمرء سبقه الناس إلي عيب نفسه و أشدها مؤنة إخفاء الفاقة...». و كما يقول: «من لم يتفقد النقص في نفسه دام نقصه. و من دام نقصه فالموت خير له». و لعل أنفع الناس للمرء، من يهدي إليه عيوبه، بأن ينبه عليها.

المجتمع الجعفري

الإمام مبلغ عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم علمه. و هذا العلم أجناس و أنواع، نشير في هذا المقام إلي بعض منها في السياسة و الاجتماع، و الاقتصاد، و هو حسب أي مجتمع ليقيم دولة راسخة الأركان، و أمة تعمل كخلية النحل، لا مجرد جمعية للإصلاح أو جماعة متطلعة للتقدم، كالجمعيات و الجماعات التي تزخر بها المجتمعات في العصور الحديثة، بقصد إصلاح جزئي أو الدعوة لمبادئ معينة. و كثير من المبادئ التي تحدثنا عنها قبل، و التي سنتحدث عنها بعد، شذرات من دروس، متداولة عن الإمام، لو حاولنا جمعها كنا كمن يجمع مصابيح السماء. و قد يكفي في هذا المقام ذكر بعض توجيهات الإمام «لشيعتنا» كما يقول. أو «للجعفري» الجدير بالانتسات

للإمام، كما يسمي تابعيه. و إذ كانت هذه التوجيهات إشارات إلي مؤهلات الانتساب إليه، فهي تقطع بأنه كان [ صفحه 317] يعد «دعاة» يدعون لمجتمع يدين بمبادئه. و هذه المبادئ، مضافة إلي الفقه المدني و الجزائي و نظرية الإمامة، كافية لإقامة مذهب متكامل تقوم علي قواعده «دولة» تكفل الجزاء و الثواب. فالقاعدة القانونية، مع العقيدة الدينية و النظريات الخلقية، كالماء الذي يسقي البذور الصالحة التي تنتظر الزمن لتشق الأرض و تظهر، في حماية الدولة. و لقد كلل الله بالنجاح سعيه. و ظهرت دول و مجتمعات ازدهرت في العالم، مع اصطناع التغييرات التي تستدعيها حاجات السلطان و الزمان و المكان، أو الدعاية للدولة، كما كان الشأن في الدول و المجتمعات الاسماعيلية كالفاطميين المنتسبين إلي اسماعيل بن الإمام جعفر (عليه السلام). و أحدثت هذه المبادئ آثارا باهرة في المجتمعات الشيعية، في أمم إسلامية أو غير إسلامية، أنمت التمسك الديني بفضائل الإسلام، و أمكنت من الدفاع عنه بقوة و إيمان، و أبدعت عبقريتها الاقتصادية التي طالما حضت عليها تعاليم الإمام. فالتعاليم الصادرة عن الإمام الصادق ليست مجرد أصول فقهية أو فروع علمية كما هو دأب الأئمة من أهل السنة. بل هي تتعدي ذلك المجال إلي كل مجال للناس فيه نشاط سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي... و من أجل ذلك العموم في رسالة الإمام و مقامه في الإسلام، كان شعور أبي حنفية و مالك و سفيان الثوري و عمرو بن عبيد و نظرائهم أو المقاربين لهم أنهم في مجلسه تلامذة. و اعتبار الأمة أنهم هنالك كذلك و ان كانوا أئمة. و من نفاذ البصيرة، و عظمة الطريقة، و جلال السمت، و اتساع العلم، كان اعتراف خصوم المسلمين أنفسهم بأنه - بين

الحجيج جميعا - الفرد العلم. أما المبادئ الفقهية و مبادئ العقيدة و السياسة فقد تكلمنا عنها. و تبقي كلمات، كالإشارات، عن المبادئ الخلقية و الاجتماعية التي انتخبنا بعضها، لتدل علي اتجاه بها نحو تكوين مجتمع قوي و إعداد الدعاة له... [ صفحه 318] أوصي الإمام المفضل بن عمر بخصال يبلغهن من وراءه من «شيعة أهل البيت». «أن تؤدي الأمانة إلي من ائتمنك. و أن ترضي لأخيك ما ترضاه لنفسك. و اعلم أن للأمور أواخر فاحذر العواقب. و أن للأمور بغتات فكن منها علي حذر. و إياك و مرتقي جبل سهل إذا كان المنحدر وعرا». و أوصاهم: «صلوا عشائركم. و اشهدوا جنائزهم. و عودوا مرضاكم. و أدوا حقوقهم. فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه و صدق الحديث و أدي الأمانة و حسن خلقه مع الناس قيل (هذا جعفري) و يسرني ذلك. و إذا كان غير ذلك دخل علي بلاؤه و عاره. و قيل هذا أدب (جعفر)! فو الله إن الرجل كان يكون في القبيلة من (شيعة علي) فيكون زينها. آداهم للأمانة. و أقضاهم للحقوق. و أصدقهم. يحمل إليه وصاياهم و ودائعهم. تسأل العشيرة عنه و يقال: (من مثل فلان؟)». و أوصاهم: «أوصيكم بتقوي الله و اجتناب معاصيه. و أداء الأمانة لمن ائتمنكم. و حسن الصحبة لمن صحبتموه. و أن تكونوا لنا دعاة صامتين». فهو بهذا يربط إحسان العمل بالانتساب لأهل البيت و يضع القواعد المثلي للمجتمع. دخل عليه المفضل بن قيس ذات يوم يسأله الدعاء، و كما قال: «فشكوت إليه بعض حالي و سألته الدعاء فقال: يا جارية هاتي الكيس... فقال: «هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن بها». قلت: ما أردت هذا الكيس، و لكن أردت

الدعاء لي. قال: «و لا أدع الدعاء لك. و لكن لا تخبر الناس بكل ما أنت فيه فتهون عليهم». هكذا تتابع منه العطاء غير المطلوب، و الدعاء المطلوب، و النصح الواجب. فهو معلم في المقام الأول. أعطي فأغني. ثم نصح، ليقبل النصح منه. و الأعمال أعلي صوتا من الأقوال. و هو يزيد العلاقة بين أصحابه وثاقة: [ صفحه 319] قال يوما لبعض أصحابه: ما بال أخيك يشكوك؟ قال: يشكوني إذ استقصيت عليه حقي. فقال مغضبا: «كأنك إذا استقصيت حقك لم تسئ؟ أرأيت ما حكي الله عن قوم يخافون سوء الحساب؟ أخافوا أن يجور عليهم؟ و لكن خافوا الاستقصاء. سماه الله سوء الحساب. فمن استقصي فقد أساء». أرأيت - إلي مدي ما يستنبط الإمام من النص؟ و إلي مقدار ما يدخل في نفوس أمته من الإحساس الرقيق بمتاعب بعضهم، كالجسم تتداعي أعضاؤه بإدراك مرهف و تكافل كامل؟ ذلك ادب جده صلي الله عليه و علي آله. و الإمام يعلمهم أن تكون لهم اليد العليا بالابتداء بالعطاء. و في السؤال رهق. و الصلة تفقد رونقها، و ربما قيمتها، إن لم تكن فيها مبادرة: دخل عليه رجل من خراسان؛ قال: لقد قل ذات يدي و لا أقدر علي التوجه إلي أهلي إلا أن تعينوني... فنظر الإمام للجالسين، و قال: أما تسمعون ما يقول أخوكم؟... إنما المعروف ابتداء. فأما ما أعطيت بعد ما سأل فإنما هو مكافأة لما بذل من ماء وجهه... و قد قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «و الذي فلق الحبة وبرأ النسمة و بعثني بالحق نبيا لما يتجشم أحدكم من مسألته إياك أعظم مما ناله من معروفك...» فجمعوا له خمسمائة درهم.

و بهذا اشترك الجميع في أداء الواجب. و هو القائل «أغني الغني ألا تكون للحرص أسيرا». و التنبيه علي الإرهاق في الاستقصاء. و علي انعدام فضل المسؤول علي السائل، خصيصتان إسلاميتان ترفعان قدر الجماعة - بما فيهما من مؤالفة و تكافل. و التعبيرات العالية عنهما تعبيرات إمام. قال مصادف: «كنت عند أبي عبدالله فدخل رجل فسأله الإمام: كيف خلفت إخوانك؟ فأحسن الثناء عليهم. فسأله: كيف عيادة أغنيائهم علي فقرائهم؟ قال الرجل: قليلة: قال الإمام: كيف مساعدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال قليلة. قال الإمام: فكيف يزعم هؤلاء أنهم (شيعتنا)»؟ [ صفحه 320]

الجهاد

اشارة

يقول أبوالدرداء: «من رأي أن الغدوة إلي العلم ليست بجهاد فقد نقص في عقله و دينه» و الصادق لا يكتفي بالتعليم بل يحض علي الجهاد بالنفس و المال و يقول للمسلمين: «الجهاد واجب مع إمام عادل. و من قتل دون ماله فهو شهيد». و يري الانحياز إلي الظالمين تمكينا لهم. و الجهاد مع العادلين تثبيتا للاسلام. سأل يوما عبدالملك بن عمرو: «لم لا تخرج إلي هذه الديار التي يخرج إليها أهل بلادك؟ - أي تجاهد مع الولاة - قال عبدالملك: أنتظر أمركم و الاقتداء بكم. قال الإمام: اي و الله لو كان خيرا ما سبقونا إليه. قال عبدالملك: إن الزيدية يقولون: ليس بيننا و بين جعفر خلاف إلا أنه لا يري الجهاد. قال الإمام: «أنا لا أري الجهاد...؟ بلي و الله. إني أراه. لكني أكره أن أدع حلمي إلي جهلهم». و لقد كان عظيما جهاد جده الحسين في جيوش معاوية، بل جهاد الحسين ضد معاوية نفسه، إذ يخاطبه بقوله: «ثم سلطته (زيادا) علي العراقيين يقطع أيدي المسلمين و أرجلهم و يصلبهم علي جذوع النخل...

فكتبت إليه أن اقتل كل من كان علي دين علي، فقتلهم و مثل بهم بأمرك...». أمر كربلاء فملحمة في الإسلام. فإذا كان الجهاد للدفاع عن الإسلام إذا ما تهدده العدو، أو حين يغزو أرض المسلمين عدو، فذلك فرض عين علي كل فرد، ولو كان تحت إمرة أمير جائر. سئل الإمام الرضا عن الرجل يرابط تجاه العدو... كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام لا عن هؤلاء (يقصد الحكام الظلمة). و المرابطة في الثغور إن كانت للاستطلاع فلها مدة. و هي مستحبة. و إذا كانت لملاقاة العدو فهي واجبة. و الرجل المسلم كف ء لرجلين عند اللقاء يقول الامام الصادق: «من فر من رجلين فقد فر و من فر من ثلاثة فلم يفر». و الجهاد لغير الدفاع... أي لمجرد الغزو، فرض كفائي، قال الصادق: «جاء رجل إلي [ صفحه 321] رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: إني راغب في الجهاد نشيط. فقال له (صلي الله عليه و آله و سلم) «فجاهد في سبيل الله» قال الرجل: إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي و يكرهان خروجي. قال النبي: «أقم مع والديك. و الذي نفسي بيده لأنسك بهما يوما و ليلة خير من جهاد سنة». و الامام بهذا يعلم الناس إيثار الوالدين بالرعاية. فهما النواة التي تزدوج لتصنع الأسرة. و هي بدورها نواة الأمة. و التمكين لهذه تكوين لتلك. أما إذا احتيج للرجل لكفاءة خاصة فيه فالجهاد فرض عين عليه. و الصادق يعلم المسلمين قوانين الإسلام في الحروب فيقول: «إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي و لم يكن معك محمل فأرسله و لا تقتله» و يعلن أن «إطعام الأسير حق علي من أسره.

و إن كان يراد من الغد قتله. فإنه ينبغي أن يطعم و يسقي و يرفق به، كافرا كان أو غيره». و يعلم المسلمين «أن رسول الله كان إذا بعث سرية دعا أميرها فأجلسه إلي جنبه و أجلس أصحابه بين يديه ثم قال: سيروا باسم الله و علي سبيل الله... و لا تغدروا. و لا تغلوا. و لا تمثلوا. و لا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها. و لا تقتلوا شيخا فانيا. و لا صبيا. و لا امرأة». و ينهي الصادق عن قتل الرسل، أو قتل الرهائن، أو استعمال السم، حتي في حرب المشركين. فإذا كانت حرب فلتكن حربا نظيفة، أي إسلامية. و لنتذكر في هذا المقام قول «علي» و هو يبعث الجند للقتال: «لا تقاتلوهم حتي يبدأوكم. فإنكم بحمدالله علي حجة. و ترككم إياهم حتي يبدأوكم حجة أخري عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبرا و لا تجهزوا علي جريح. و لا تهيجوا النساء بأذي... إن كنا لنؤمر بالكف عنهن و هن مشركات...». و قول الصادق «نهي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أن يلقي السم في جهاد المشركين... و عن قتل النساء و الولدان في دار الحرب. و عن الأعمي. و الشيخ الفاني... و ما بيت عدوا قط في ليل...». [ صفحه 322] و قول الصادق لإحسان معاملة أهل الذمة «إن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قبل الجزية من أهل الذمة علي ألا يأكلوا الربا و لا لحم الخنزير، و لا ينكحوا الأخوات و بنات الأخ و بنات الأخت. فمن فعل ذلك منهم فقد برئت منه ذمة الله و ذمة رسوله». فعلي المسلمين ألا يتعرضوا

لأهل الذمة بسوء. بل إن عليهم أن يدافعوا عنهم، ماداموا لا ينشرون الدعوة ضد الإسلام، و لا يتظاهرون بارتكاب المنكرات، و لا يؤون إليهم أعداء الإسلام. و كل من له كتاب كاليهودي و النصراني، أو شبه كتاب، كالمجوس، فهو ذمي، إذا قبل شروط الذمة و التزم بها. فإذا لم يلتزم فحكمه حكم الحربي.

في المجتمع و دعائمه

الأسرة

إذا رتبت تعاليم الإمام تصدر تعاليمه للناس قوله «أصل الرجل دينه و تقواه. الناس في آدم مستوون» و هذه المساواة الفطرية تسبقها البنوة لآدم، ثم يبلغها أغراضها حدب القوي علي الضعيف، و العالم علي الجاهل، و الذي أتيحت له الفرصة علي من لم تتح له. و لما سأل الإمام رجلا: من سيد هذه القبيلة فأجاب: أنا. قال الإمام: لو كنت سيدهم ما قلت أنا. و لما فصل المكرمات المطلوبة من الناس قال: «المكارم عشر: صدق الناس، و صدق اللسان، و أداء الأمانة، وصلة الرحم، و قري الضيف، و إطعام السائل، و المكافأة علي الصنائع، و التذمم للجار، و التذمم للصاحب. و رأسهن الحياء». فهو يبدأ بالصدق الأمانة. ثم يتبعها صلة الرحم و لها عنده أعلي مقام. فبها قيام الأسرة - و هي نواة المجتمع الإسلامي - بتنظيمها القانوني الذي لا نظير له في، أمم غير أمة الإسلام. [ صفحه 323] يقول: «خمسة لا يعطوا شيئا من الزكاة. الأب و الأم و الوالد و الزوجة و المملوك. لأنهم عياله و لازمون له» فالانفاق علي هؤلاء فرض. و الصدقات مع وجوبها و تعميمها و الحث عليها، لا تستحق للناس إلا أن يكتفي ذوو الأرحام. يقول الإمام: «لا صدقة و ذو رحم محتاج». ولو ظن واصل الرحم أنه يضع المعروف في غير موضعه -

و للمعروف دائما موضع - فالإمام يقول له: «لا تقطع رحمك و إن قطعك». وقع كلام بينه و بين عبدالله بن الحسن (و ربما كان ذلك من جراء يوم الأبواء، و سلف القول فيه) و كان عبدالله اكبر أهل البيت سنا، فأغلظ عبدالله القول. فلم يرد الصادق. ثم افترقا ثم تلاقيا علي باب المسجد. فابتدره الصادق يقول «كيف أمسيت يا أبامحمد»؟ (فهو أبومحمد المهدي - النفس الزكية - و إبراهيم و الباقين، من بني عبدالله بن الحسن). و قال عبدالله كالمغضب: بخير. قال الصادق: يا أبامحمد. أما علمت أن صلة الرحم تخفف الحساب؟ ثم تلا قوله «والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب» فقال عبدالله: فلا تراني بعدها قاطعا رحما. يقول الصادق: إن رجلا أتي النبي فقال: يا رسول الله إني لي أهلا قد كنت أصلهم و هم يؤذونني و قد أردت رفضهم. فقال له رسول الله: «إن الله يرفضكم جميعا» قال الرجل: كيف أصنع؟ قال: «تعطي من حرمك و تصل من قطعك و تعفو عمن ظلمك. فإذا فعلت ذلك كان الله عزوجل لك عليهم ظهيرا». و كان الإمام يصلي عن ولده في كل ليلة ركعتين، و عن والده في كل يوم ركعتين... يقول في صدد الصلاة عن الميت: إنه ليكون في ضيق فيوسع عليه ذلك الضيق، ثم يؤتي فيقال له خفف الله عنك ذلك الضيق لصلاة فلان أخيك عنك. و ربما أجمل منهاج الصادق في القول و العمل للناس عامة، كلمات له يتناقلها الناس في كل مكان: «خير من الصدق قائله، و خير من الخير فاعله». [ صفحه 324] فهنا فضائل كثيرة مجتمعة. هي الخير، و صنعه،

و إمكان القتداء بصانعه، و إعلان لرأي الإمام بأن الإيمان عقيدة و عمل، و أن العمل الصالح يحول الفكر المجرد، إلي فعل نافع أو أمر واقع؛ و العمل هو الوسيلة المنجحة إذا جري مجري الأصول. و الصادق يروي عن علي (عليهماالسلام): «سمعت رسول الله يقول: عليكم بسنتي، فعمل قليل في سنة خير من كثير في بدعة». و الإمام يري أن «رأس الحزم التواضع» و أن التواضع هو «الرضي بأن تجلس من المجلس بدون شرفك و أن تسلم علي من لقيت. و أن تترك المراء و إن كنت محقا». و يقول: «من أكرمك فأكرمه و من لم يكرمك فأكرم نفسك عنه». و يضيف إلي ذلك: «إنك لن تمنع الناس من عرضك إلا بما تنشره عليهم من فضلك». و هذا الفضل بعض المعروف. أما عن تمام المعروف فيقول: «المعروف لا يتم إلا بثلاثة: تعجيله، و تصغيره و ستره». يقول: «العافية نعمة يعجز عنها الشكر» بل يقول: «المعروف زكاة النعم». و الله تعالي يقول «و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها». فما أكثر ما يستحق الناس من المعروف عند المسلم الصادق. و السخاء سمو، ولو من الجاهل. يقول (عليه السلام): جاهل سخي أفضل من ناسك بخيل. فلنتصور مجتمعا يسود فيه السخاء... و يعم العطاء، و يتواتر المعروف، ليتعاون الناس في دنياهم... و تستوثق القربي فيهم، فتزداد لحمة الأسرة وثاقة، ثم تلتزم الجماعة و الأفراد بالمكارم العشرة التي نص عليها الإمام! إنه المجتمع الإسلامي!. لنقرأ وصية الإمام لعبدالله بن جندب لنلمس مواقع الجمال و الكمال في هذا المجتمع. «لا تكن بطرا في الغني و لا جزعا في الفقر. و لا تكن فظا غليظا يكره الناس قربك. و لا تكن واهنا

يجفوك من عرفك. و لا تشار من فوقك. و لا تسخر ممن دونك. و لا تنازع الأمر أهله. يا ابن جندب: لا تتصدقن علي أعين الناس يزكوك. فإنك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك. و لكن إذا أعطيت بيمينك فلا تطلع عليها شمالك. فإن الذي تتصدق له سرا يجزيك علانية. فقد علم ما تريد». [ صفحه 325]

الأخوة

كان طبيعيا أن تمتد هذه المبادئ السياسية و الاجتماعية، الموجهة للأفراد، إلي بيئتهم، و أن يكون المقام العظيم للأصحاب و الصحبة... و هي القرابة التي يختارها المرء لنفسه و لا تفرض عليه من أسلافه. و الصحبة أداة منجحة للتكافل و التكامل. و بها تجتمع «الخلية الأولي» للجماعة الهادفة. و لعل في اهتمام الإمام بالصحبة و الأخوة دليلا علي اتجاه نحو إيجاد مجتمع أو جماعات تتآخي في التشيع. و بمثل هذه الجماعات قامت الدول الشيعية علي نظم مشهورة في الدعوة لها، خافية أو معلنة، و بخاصة نظم الدعوة الاسماعيلية. و كما حفلت مجالس الإمام و مقولاته بوصف (الجعفري) و بعبارة (شيعتنا)، حفلت بتوكيد أسباب التعاون بين الاخوان. هو أولا يجعل المودة بينهم من الدين فيقول: «من حب الرجل دينه حبه إخوانه» ثم ينتقل من الوضع الديني إلي الاجتماعي فيقول: «و طن نفسك علي حسن الصحبة لمن صحبت. و حسن خلقك و كف لسانك و اكظم غيظك. أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه و لا يعرف حق جاره. ليس منا من لم يحسن مجاورة جاره». و قديما قيل لأبي الأسود الدؤلي تلميذ «علي»: «بعت دارك»؟ قال «بعت جاري» و قيل: «الرفيق قبل الطريق». و الإمام الصادق يقول: «أيسر حق من حقوق الإخوان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

و أن تكره لأخيك ما تكره لنفسك و أن تتجنب سخطه و تتبع مرضاته و تطيع أمره و تعينه بنفسك و مالك و لسانك و يدك و رجلك. و أن تكون عينه و دليله و مرآته. و لا تشبع و يجوع. و لا تروي و يظمأ. و لا تلبس و يعري. و أن تبر قسمه. و تجيب دعوته. و تعود مريضه. و تشهد جنازته. فإذا علمت أن له حاجة تبادر إلي قضائها و لا تلجئه إلي أن يسألكها». فكل وجه من الوجوه المشار إليها أداة تراحم... تمكن للأخوة الإسلامية. و كل [ صفحه 326] تفريط، مهما قل أمره، أو ضاق زمنه، تنقص من الأخوة الإسلامية. فإذا أطال المسلم قطيعة أخيه، فهي إحدي الكبر. فالمجتمع المتقاطع، هو كالمجتمع بين أعداء... أو كالجزر المتنازحة في اليم، حدود كل منها مصالحها. يقول النبي عليه الصلاة و السلام: «هجرة الرجل أخاه سنة كسفك دمه». و ما أدق نصح الإمام في معاشرة الناس: «لا تفتش الناس فتبقي بلا صديق. المؤمن يداري و لا يماري. مجاملة الناس ثلث العقل». و هو ينهي عن الظنة. فالظنين متهم. يقول: «ضع أمر أخيك علي أحسنه. و لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير محملا». أما من فرط حيث تجب اليقظة فلا يلو من إلا نفسه - يقول الإمام: «من كتم سره كانت الخيرة بيده» و يقول: «لا تثقن بأخيك كل الثقة فإن سرعة الاسترسال لاتقال» و يقول: «صدرك أوسع لسرك» و «سرك من دمك فلا تجره في غير أوداجك». و يقول: «من خان لك خانك. و من ظلم لك سيظلمك. و من نم إليك سينم عليك». و لما

سئل عن الرجل العدل قال: «من غض طرفه عن المحارم و لسانه عن المآثم و كفه عن المظالم». و الإخوان - عند الإمام - هم المواسون، فهم بين ثلاثة: «مواس بنفسه و آخر مواس بماله و هما الصادقان في الإخاء، و آخر يأخذ منك البلغة و يريدك لبعض اللذة فلا تعده من أهل الثقة». و الإمام يأمر بالرفق بالناس. فينبه الذين يتطاولون ليتطامنوا. فيقول: «من الجور قول الراكب للراجل: (الطريق)» فهو الراكب، و بيده الزمام، و الطريق للناس كافة. و كفي الراجلين أنهم يمشون. و كفاه أنه فوق ظهر. يقول الإمام عليه السلام «لا تسم الرجل صديقا، سمة معرفة، حتي تختبره بثلاثة: تغضبه فتنظر غضبه أيخرجه عن الحق إلي الباطل. و عند الدينار و الدرهم. و حتي تسافر معه». و يقول: «ثلاثة لا تعرف إلا في مواطن: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، و لا [ صفحه 327] الشجاع إلا عند الحرب. و لا الأخ إلا عند الحاجة» و من التبذل تنقص الكرامة. يقول: «لا تمار فيذهب بهاؤك. و لا تمزح فيجترأ عليك. و لا جهل أضر من العجب». و الغضب عند الإمام مفتاح كل شر، بما فيه من ذبذبة للذات و زعزعة للتوازن، فعنده أن «من ظهر غضبه ظهر كيده»، بل إن «من لم يملك غضبه لم يملك عقله» في حين أن «المؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق و إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل». و يهتف الإمام بالشيعة: «يا شيعة محمد. ليس منا من لم يملك نفسه عند الغضب، و يحسن صحبة من صاحبه، و مرافقة من رافقه، و مخالفة من خالفه». و أي أدب للنفس و العقل كمثل ذلك الذي

يعبر عنه الإمام بإحسان المخالفة! - و ما هو إلا الحلم و الأناة، قرظهما رسول الله للمنذر إذأتاه، و في وفد عبدالقيس، فقال له «فيك خلتان يحبهما الله عزوجل: الحلم و الأناة». و في عبارات تأخذ شكل ثلاثيات، قليلة العدد جليلة الفحوي، يجمع الإمام آلاف الرذائل المدمرة في ستة أصحاب خرق. هم كالجيوب المخروقة للمجتمع لا تبقي و لا تذر: و هم المرائي و الكسلان و المسرف و المنافق و الحاسد و الظالم، تشتعل بنقائصهم نيران الرذالات جمعاء، و إذ يتكاثرون في كل مكان، بالعدوي و التناتج، و يستهين الناس بخطرهم علي أنفس الأفراد و مقومات الجماعة و قوة الدولة... مع أن أخطارهم السلبية تتوازن في ضررها مع أعظم الإيجابيات فتفقد الأمم تماسكها. و جمعها في صعيد واحد، و إجمالها في كلمات، آية علي نفاذ البصيرة و إحسان البيان. يقول الإمام: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده. و ينشط إذا كان الناس عنده. و يحب أن يحمد بما لم يفعل. و للكسلان ثلاث علامات: يتواني حتي يفرط. و يفرط حتي يضيع. و يضيع حتي يأثم. و للمسرف ثلاث علامات: يشتري ما ليس له. و يأكل ما ليس له. و يلبس ما ليس له. [ صفحه 328] و للمنافق ثلاث علامات: إذا حدث كذب. و إذا وعد أخلف. و إذا اؤتمن خان. و للحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب. و يتملق إذا شهد. و يشمت بالمصيبة. و للظالم ثلاث علامات: يعصي من فوقه. و يعتدي علي من دونه. و يظاهر الظالمين. و لكل واحدة من هذه العلامات شعب يبلغ العلم بها أكثر من ألف باب.

المرأة

في فقه الإمام عناية بالغة بالنساء في الزواج و

الطلاق و الميراث... و هي دعائم الأسرة و قوائم المجتمع. و قد عرضنا لبعضه... قبل. لكن اهتمامه الاجتماعي بالأسرة أو بالمرأة لايقف عند الحكم الفقهي و إنما يتعداه إلي الترغيب و التهذيب بالنصح الدؤوب. فمرآة المجتمع العظيم الأسرة السعيدة، و زينتها و حليتها المرأة الصالحة. و هي نصف الناس، و أم الجميع. يقول الإمام : «اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم و النساء». و يقول: «البنات حسنات و البنون نعم. الحسنات يثاب عليها. و النعم مسئول عنها». و إذا كان البنات حسنات يلقي بهن المرء بارئه، فيزدنه درجات، فالإمام يجعل للأمهات درجة في طاعة أوامرهن، فيأمر بالمبادرة بطاعة الأم، إذا دعا الأبوان. و يلقي علي الأم في دارها واجب استثمار الزمن في خدمة الأسرة و الأمة. و يفرض علي المجتمع واجب إحصان أفراده بالتيسير في المهور. و علي المرأة واجب التعاون في إنجاح الزوجية بالوفاء بحق الزوج. و يجمع بين حسن التبعل و بين حسن الجوار. فيقول: «الشؤم في المرأة كثرة صداقها و عقوق زوجها - و في الدار ضيق ساحتها و شر جيرانها». يقول عليه الصلاة و السلام: «علموا أبناءكم السباحة و الرماية و نعم لهو المرأة في بيتها المغزل». فهن مطالبات ألا يفتحن الأبواب للشيطان بالفراغ... مطالبات بأن يعملن ما يجمل بهن. و المرأة التي تمسك المغزل بيد، و تهز مهد الطفل بيد، تضم بين ذراعيها أسرة [ صفحه 329] سعيدة. و لقد كان النساء آخر ما أوصي به صلي الله عليه و آله و سلم. يقول الإمام: «صلاح حال التعايش علي مكيال ثلثاه فطنة و ثلثه تغافل». و هذه الأثلاث تتردد في مضامين ثلاثيات شتي. تجتمع و تفترق. لكنها كلها أركان لسعادة المجتمع الكبير

الذي هو الأمة، و الصغير الذي هو الأسرة. و قد سلف علينا في ثلاثية سابقة كيف قرن نكد الزوجية، بالنكد في الجيرة و السلطان الجائر. و هنا يستلفت الأنظار إلي ما يجب من إحسان العشرة، بالسلوك الرفيع و الإنفاق اللازم، و احترام الذات حيث يقول: «إن المرء يحتاج في منزله و عياله إلي ثلاث خلال يتكلفها، و إن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة، وسعة بتقدير، و غيرة بتحصن». ثم يقول ليبين أثر المرأة في سلام الأسرة: «ثلاث من ابتلي بهن كان طائح العقل: نعمة مولية، و زوجة فاسدة، و فجيعة نجيب». فهو يضع فسادها في منزلة بين المنزلتين؛ النعمة الضائعة، و الفجيعة الحالة. في حين يقدمها عند صلاح حالها علي فلذة الكبد و الصديق الصافي إذ يقول: «الأنس في ثلاثة: الزوجة الموافقة، و الولد البار، و الصديق الصافي». و الرجل رأس الأسرة، لا يلقي مقاده أو مقادها إلي الزوجة، و إلا غرقت السفينة. يقول الإمام: «ثلاثة من استعملها فسد دينه و دنياه: من ساء ظنه، و أمكن من سمعه، و أعطي قياده حليلته». و في هذه الثلاثية تجتمع سلبيات خلقية ثلاثة في دنيا الرجل. فتحل الأشباح محل الأشياء، و الأصداء محل الأصوات، و النساء محل الرجال. و ليس هذا عالم المسلمين. و في ثلاثية أخري نري تصنيفا من نوع خاص: «النساء ثلاثة: واحدة لك. و واحدة عليك ولك. و واحدة عليك. أما التي لك فهي العذراء. و التي لك و عليك فهي الثيب. أما التي عليك فهي المتبع التي لها ولد من غيرك». و إنما ينبه الإمام الرجال ليزداد برهم بمن يمكن أن تكون لهم أو عليهم، كي يتكلفوا لها خصالا نص عليها:

معاشرة جميلة وسعة بتقدير و غيرة بتحصن. [ صفحه 330]

العلم

أينما ذهبت في سيرة الإمام فثم وجه العلم، و التعويل علي العلماء، و التمسك بالخلق العلمي و أساليبه: يقول لعنوان البصري: «اسأل العلماء ما جهلت و إياك أن تسالهم تعنتا و تجربة. و إياك أن تعمل برأيك شيئا. و خذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا. و اهرب من الدنيا هربك من الأسد...». و يقول لحمران بن أعين: «العمل الدائم القليل، علي اليقين، أفضل عند الله من العمل الكثير، علي غير يقين». و هذان القولان لعنوان و حمران نصيحتان نابعتان من منهج الإمام في الفقه و أصوله. فهو يلتزم الأشياء الثابتة و النصوص الواضحة. لأنها نقطة الارتكاز. و ينصح بعدم المجازفة في طريق غير مؤكدة، يقول: «العامل علي غير بصيرة كالسائر علي غير الطريق لا تزيده سرعة السير إلا بعدا». و من المنهج حسن التلقي و حسن الأداء فهو لا يحب المحال و العنت كما قال لعنوان: «الجهل نقص في الدين و الخلق و معاملة الناس»، أو كما قال: «الجهل في ثلاث: الكيد، و شدة المراء، و الجهل بالله». و يقول: «ثلاثة يستدل بهن علي إصابة الرأي: حسن اللقاء و حسن الاستماع و حسن الجواب». أما البلاغة فهي «ليست بحدة اللسان و لا بكثرة الهذيان و لكنها إصابة المعني و قصد الحجة». و قديما قيل: البلاغة الإيجاز. و قيل: من البلاغة حسن الاستماع. و الصادق ينبه العلماء و الأدباء و كل صاحب موهبة، علي أن «من أدب الأديب دفن أدبه». إنما الطريق القاصدة طريق التقوي و الاجتهاد و التأمل. يقول: «كثرة النظر في العلم [ صفحه 331] تفتح العقل، و كثرة النظر بالحكمة

تلقح العقل». و يقول: «من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، و المعارضة قبل أن يفهم، و الحكم بما لا يعلم». و يقول: «الرجال ثلاثة عاقل و أحمق و فاجر: العاقل إن كلم أجاب. و إن نطق أصاب. و إن سمع وعي. و الأحمق إن تكلم عجل، و إن حدث ذهل، و إن حمل علي القبيح فعل. و الفاجر إن ائتمنته خانك و إن حدثته شانك». و من إجلاله وظيفة المعلم يقول: «أربعة ينبغي لكل شريف ألا يأنف منها. أو لها خدمته لمن تعلم منه...». و «العلم جنة... و العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس. و الله ولي من عرفه. العاقل غفور و الجاهل ختور... و من خاف العاقبة تثبت فيما لا يعلم. و من هجم علي أمر من غير علم جدع أنف نفسه». و «أكمل الناس عقلا أحسنهم خلقا». و «الخشية طريق العلم. و العلم شعاع المعرفة و قلب الإيمان. و من حرم الخشية لا يكون عالما».

الدعاء

منهج أهل البيت في إصلاح الدنيا هو المعرفة. و أولها معرفة الخالق جل شأنه بالعقل، و تثبيت الفهم بالخشوع و التقوي. فليس في غيرهما قناعة أو جدوي. يقول عليه الصلاة و السلام: «أعوذ بالله من علم لا ينفع و قلب لا يخشع و نفس لا تشبع». و في ذات يوم ذهب قوم يقولون للإمام الصادق: ندعو. فلا يستجاب لنا! فأجاب «لأنكم تدعون من لا تعرفونه» فمعرفة الله مطهرة للحياء. وصلة و ثقي بين الرجاء و الرضي و بين الدعاء و الاستجابة. و الدعاء تزكية للنفس و سبيل لها إلي خالقها - بإخلاص تام - فهو ترياق من نفس الإنسان، و معراج إلي رضاء السماء بالالتجاء الكامل إلي

الله، و الانفصال في وقت الدعاء و حواليه عن الرذيلة. فإذا تعددت أوقاته، تكرر الانفصال مما يشين. وازداد [ صفحه 332] العبد قربا، و أوقات قرب، من خالقه سبحانه. بالتكرار، و إخلاص النية. - و من أجل ذلك يبرز الدعاء في منهج الشيعة و مؤلفاتهم كالصحيفة السجادية - نسبة إلي السجاد زين العابدين و فيها عشرات الأدعية. و البعض يسميها مزامير أهل البيت - و مصباح التهجد و مختصر المصباح و هما من مؤلفات الطوسي. و من ضروب التربية العصرية الإيحاء إلي الذات... و في الدعاء إيحاء ورجاء، و توجه إلي الله، وسعي لمرضاته. و للأئمة دعوات مأثورة، تحويها صحف مشهورة، و لها مناسبات معلومة، و أوقات تمارس فيها... في الأصباح و الأمسية و الأيام و الليالي و الشهور... كأدعية ليلة الجمعة، أو رجب أو شعبان أو رمضان. و للصادق أدعية تتردد في كتب الصوفية. فيها الإيحاء العميق بالفضائل إلي نفس من يدعو، في موقف يعلم أن الله حاضره. و أنه المرجو سبحانه. فهي أداة إصلاح نفساني منقطع النظير، فوق أنها نداء، يتعالي نحو السماء، في التماس المغفرة. يقول (الشعبي) شيخ المحدثين من أهل السنة: «عجبت ممن يقنط و معه الممحاة». قيل و ما الممحاة؟ قال: الاستغفار. و لقد كان الصادق يدعو الله في كل أوقاته؛ و منها لقاءاته مع أبي جعفر حيث كان يدعو الله قبل أن يدخل عليه. فيثبت الله جنانه و يحيل بطش الجبابرة إلي ما يشبه طنين الذباب. و من المأثور عنه قوله: «إن الدعاء يرد القضاء. و إن المؤمن ليذنب فيذهب بذنبه الرزق». [ صفحه 333]

المنهج الاقتصادي

اشاره

«ليس خيركم من ترك آخرته لدنياه و لا دنياه لآخرته. خيركم من أخذ من هذه لهذه».

(حديث شريف) [ صفحه 335] ليس المنهج السياسي أو الاجتماعي - و منهما الاقتصادي - إلا متابعة للمنهج العلمي من الواقعية و إعمال العقل و العمل للتقدم، وفق حاجات الزمن و اختلاف الأقاليم... علي أساس المساواة بين الناس، و عمارة الدنيا بالعدل و إحسان القيام علي مرافقها. و المنهجان - سواء العلمي أو السياسي الاجتماعي - ينبعان من القرآن و تطبيقات السنة. و هما وجهان لعملة واحدة هي القيم الإسلامية. فكل ما أبعد من هذه القيم لا يكون إسلاميا و إن انتظم مسلمين. فالمسلمون لا يصلحون إلا أن يلتزموا قيم دينهم. و قد أصلها الإمام علي، و تابعه فيها الأئمة من بنيه. و من القيم الاجتماعية السليمة ننشأ القيم الاقتصادية البناءة. و لذلك تتجلي الوحدة الموضوعية بين الدين و السياسة و الاقتصاد و الوحدة الفنية بين علمي المالية و الاقتصاد و بينهما و بين فن الإدارة، في عهد أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب للأشتر النخعي. و سنري بعض المقولات فيه تكاد تكتب في النصف الثاني من القرن العشرين للميلاد بأيدي المصلحين الاقتتصاديين العالميين. فهي عصرية أبدا لأنها إسلامية خالصة. يقول: «و تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم. لأن الناس عيال علي الخراج و أهله... و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في جباية الخراج. لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد، و لم يستقم أمره إلا قليلا... و لا يثقلن عليك شي ء خففت به المؤنة عليهم فإنهم ذخر يعود عليك في عمارة [ صفحه 336] بلدك و تزيين ولايتك،

مع استجلابك حسن ثنائهم و تبجحك باستفاضة العدل فيهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عول فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم». أما عن «نشاط الأفراد» في التجارة و الصناعة و الزراعة و الخدمات، و البيع و الشراء. و عن حرية التجارة و الانتقال و العمل كأداة للإنتاج، ففيها التعبير العلمي الرفيع عن التاجر و العامل، إذ يسميهما «المضطرب بماله» و «المترفق ببدنه». و فيها التأييد التيسير و الإشراف و المتابعة من السلطة و التعاون بين الراعي و الرعية حيث يقول: «ثم استوص بالتجار و ذوي الصناعات و أوص بهم خيرا؛ المقيم منهم، و المضطرب بماله، و المترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، و أسباب المرافق، و جلابها من المباعد و المطارح... فإنهم سلم لا تخاف بائقته. و تفقد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا... وشحا قبيحا و احتكارا للمنافع. فامنع من الاحتكار...». أما الطبقة الأخري، و هي التي تمثل اليد السفلي، لعجزها، و لأنها تأخذ من اليد العليا لاقتدارها، فأوامره في صددها قاطعة. يقول: «ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم و المساكين و المحتاجين و أهل البؤس و الزمني. فإن في هذه الطبقة قانعا و معترا... و اجعل لهم قسما من بيت مالك...». و لقد سلف القول عن المنهج السياسي لدي أميرالمؤمنين... و هو المساواة التامة بين المسلمين في العطاء و حقوق بيت المال و ترك الأرضين في أيدي أصحابها بعد الفتح... و غير ذلك مما يكشف لنا منهاجه الاقتصادي بتمامه. و فيما أو ضحناه إشارة إلي مالم نعرض له بتوضيح. و النظريات تكشفها كليات. و الكليات و الجزئيات

و التطبيقات ينتظمها جميعا أصل ثابت من قول الرسول: «ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته و لا آخرته لدنياه. و لكن خيركم من أخذ من هذه لهذه». [ صفحه 337]

العمل

العمل عند الشيعة قوة الإنتاج الكبري. و من أجل ذلك كان العمل للمعاش فرضا علي المؤمن ليحيا في هذه الدنيا، و لا يجوع فيها و لا يعري، أو تجرفه القوي، أو يحرفه الفراغ و اللهو، أو تفسده طراوة الدعة - و أول ما ينبغي له البدء بتقوية النفس و تبرئتها من الشح و الطمع، و حثها علي طلب الحلال. يقول الإمام (عليه السلام): «مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب العطشان منه ازداد عطشا» و «أربعة تذهب ضياعا؛ الأكل بعد الشبع و السراج في القمر، و الزرع في السبخة، و الصنيعة عند غير أهلها». أما المؤمن فهو «من طاب مكسبه، و حسنت خليقته، و وضحت سريرته، و أنفق الفضل من ماله، و أمسك الفضل من كلامه، و كفي الناس شره، و أنصف الناس من نفسه. و هو حسن المعونة، خفيف المؤنة، جيد التدبير لمعاشه، و لا يلسع من جحر مرتين». ثم يضع الإمام الضوابط للسعي في الحياة و تحصيل المعايش فيقول: «ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع، و دون طلب الحريص الراضي بدنياه، المطمئن إليها. أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفف. و ترفع بنفسك عن منزلة الواهن الضعيف. و تكسب ما لابد منه للمؤمنين». و هو إذ يوصي بالإجمال في الطلب، ينادي بالحكمة في الإنفاق. فيقول «إن السرف يورث الفقر، و إن القصد يورث الغني». و تدبير المعاش أساسي ليجتمع للمرء مال يكفي نفسه، و يفضل منه علي غيره، و يؤدي به واجبه في

الدين و الدنيا. و من أجل ذلك كان الصادق يعمل بيده، و يتجر، و ينفق أمواله علي الناس، و هو الإمام القدوة، ليوجه أنظار شيعته للعمل في الحياة الدنيا، كي يقدروا علي أعباء الحياة و أداء الزكاة وصلة الرحم و الإنفاق علي المحتاجين. و لا يمكن المرء من كل ذلك إلا رزق يحصله من دأبه. يقول الإمام عليه السلام: «من لم يكن فيه خصلة من ثلاث لم يعد نبيلا؛ من لم يكن له عقل يزينه أو جدة تعينه أو عشيرة تقصده». [ صفحه 338] و الصحابة العظماء كانوا يعملون ليعيشوا. و ما أكثر ما عمل «علي عليه السلام» ليعيش. و هو تراث أهل البيت الذين لا يضيعون الزمان سدي. يقول الإمام عليه السلام: «الأيام ثلاثة: يوم مضي لا يدرك. و يوم الناس فيه فينبغي أن يغتنموه. و غد في أيديهم أمله» و ما الاغتنام إلا بالعمل الصالح للنفس و للناس. أما من قعد يلتمس عطاء الآخرين فيده هي السفلي... و مثله مثل القاعد عن العبادة... أو كالذي ينتظر الذهب و الفضة تساقطان من السماء. يقول عن القاعدين: «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر». و الشيعة في كل مجتمعاتهم يدأبون كدأب آبائهم أو أشد، و يتقلبون في البلاد بتجاراتهم، كهيئة ما كانوا يتقلبون في الأيام الاولي، مع الزام صاحب المال المسؤولية عن طريقة كسبه او ابواب إنفاقه... يقول يحيي بن معاذ «مصيبتان لم يسمع بمثلهما في الأولين و الآخرين للعبد في ماله عند موته: يؤخذ منه كله. و يسأل عنه كله». و هم إلي جوار إيجابهم العمل يوجبون الاستقلال فيه، و عدالة توزيع الرزق منه، فلا يجوزون الشركة المطلقة بين اثنين في كل نشاطهما... و شرط الشركة وجود رأس المال.

و هم يسمون الشركة بدونه «شركة أبدان» و لا يصححونها؛ لأن كل إنسان مستقل بجهده، و منافع جهده له. فإذا أخذ من الآخر اخذ ما لا يستحق - و في هذا حض علي الاستقلال الشخصي، و السعي الخاص، حتي لا يكون أحد كلا علي غيره. و كمثلهم الشافعي لا يجوز هذه الشركة. فلكل ما سعي. و هم أعداء للتواكل. جاء أميرالمؤمنين عليا عليه السلام العلاء الحارثي فقال: يا أميرالمؤمنين أشكو إليك أخي عاصما. لبس العباءة و تخلص من الدنيا. قال: علي به. فلما جاء قال: «يا عدو نفسه. لقد استهام بك الخبيث (الشيطان). أما رحمت أهلك و ولدك. أتري الله أحل لك الطيبات و هو يكره أن تأخذها. أنت أهون علي الله من ذلك». قال: يا أميرالمؤمنين؛ هذا أنت في خشونة ملبسك و جشوبة مأكلك! قال: «ويحك إني لست كأنت. إن الله قد فرض علي أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس». [ صفحه 339] و لكم كان رقيقا صاحب هذا الملبس الخشن إذا عامل الضعفاء... ولو كانوا غير ناس، أو كانوا من الأعداء: كان يوصي من في يده إبل الصدقة ألا يحول بين ناقة و فصيلها، و أن لا يبالغ في حلبها خشية أن يضر ذلك بوليدها، و أن لا يركب ناقة و يدع غيرها، بل يسوي في الركوب بينها و بين صاحباتها. و لما حال بينه و بين الماء جند معاوية، حاربهم عليه فأجلاهم عنه. ثم سقاهم منه! اسوة بجنده!

المضطرب بماله و المترفق بيده. أو: التجارة و الصناعة

إذا كانت الحضارة الغربية لم تفطن إلي أن العمل أداة الإنتاج الأولي إلا في العصور الأخيرة، فلقد طالما أعلنت ذلك السماء. و العمل التجاري أو اليدوي ميراث الأنبياء. و من عمل الصحابة تعلم

الناس جلال قدر المضطرب بماله أو المترفق بيده، أو ببدنه، كما يعبر أميرالمؤمنين (عليه السلام). و الصادق عليه السلام يمسك المسحاة و يعمل في بستان له، و حبات العرق تنساب كالبلور المذاب، علي الجبين المزهر! فيهيب به تابع له: جعلت فداك. أعطني المسحاة أكفك. فيجيبه: «إني أحب أن يتأذي الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة». و كان عندئذ يلبس قميصا و يفتح الماء بالمسحاة و يقول: «إني لأعمل في بعض ضياعي ولي ما يكفيني ليعلم الله عزوجل أني أطلب الرزق الحلال». و كان النبي عليه الصلاة و السلام يتناوب ركوب راحلته و يقول لزميليه في السفر (علي و أبي لبابة) حينما أرادا أن يستمر راكبا في نوبتهما: «ما أنتما بأقوي علي المشي مني. و ما أنا بأغني عن الأجر منكما» و كان ينزل عن بغلته ليركب من يأخذ بزمامها معه. و يقول لمن يريد حمل شي ء بدلا منه: «صاحب الشي ء أولي بحمله». أما أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) فيحمل لأهله التمر و البلح في ثوبه و يقول: لا ينقص الكامل من كماله ماجر من نفع إلي عياله ويروي «علي» أن الزهراء أجرت الرحي حتي أثرت الرحي بيدها. و قمت البيت [ صفحه 340] حتي اغبرت ثيابها. و أو قدت القدر حتي اسودت ثيابها، و أصابها من ذلك ضر. و يقول عطاء: إن كانت فاطمة لتعجن حتي أن قصتها لتصيب الجفنة. و أي عظمة في الدنيا كعظمة اليد العليا، و هي تعمل لبناية الدنيا فتعطي. لقد قبل رسول الله اليد التي تحمل المسحاة يوم أقبل من تبوك. فلقيه سعد الأنصاري فنظر إلي يد سعد و قال: «ما هذا الذي أكتب يديك»؟ فقال: يا رسول الله أضرب بالمر و المسحاة فأنفقه علي

عيالي، فقبل رسول الله يده و قال: «هذه يد لا تمسها النار». و لما أعطي الرسول اليد العاملة أمانا من النار، جعل العمل عبادة، و إن ورد النص علي العمل البدني، فما هي إلا إشارة لكل عمل. و هو عليه الصلاة و السلام القائل «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي الجبل فيجي ء بحزمة حطب علي ظهره فيبيعها، و يستغني، خير له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه». و هو عليه الصلاة و السلام - و علي آله - ينبه علي قيمة الوقت و الالتزام بالواجب، و البدء بالعمل النافع فيقول: «إن قامت الساعة و في يد أحدكم فسيلة فليغرسها. و إن استطاع ألا تقوم الساعة حتي يغرسها فليغرسها». و أي جلال كجلال رسول الله و هو يعمل بيده. من أجل تحرير شيخ من أشياخ الشيعة العظماء. ليحفظ الشيعة لأنفسهم و للدنيا معهم، ذلك الدرس العظيم: أن العمل و الحرية صنوان. و أن كلا منهما وسيلة للآخر. أرسل النبي صلي الله عليه و آله و سلم علي بن أبي طالب إني خليسة مولاة سلمان الفارسي، و كانت قد اشترته بثلثمائه درهم من أعراب حملوه إلي يثرب. و مكث معها ستة عشر شهرا حتي قدم النبي يثرب، فسميت المدينة، فأتاه سلمان فأرسل النبي عليا إلي خليسة، بعد إذ أسلمت، لتعتق سلمان. قالت: قل للنبي إن شئت أعتقته، و إن شئت فهو لك. قال صلي الله عليه و آله و سلم: «أعتقيه أنت» فأعتقته. فغرس لها رسول الله ثلثمائة فسيلة. [ صفحه 341] و كان عليه الصلاة و السلام يقول: «سلمان منا أهل البيت». [120] . مع أن الإمام الصادق يري إنفاق المال في البر تجارة مربحة فيقول: «إني لأملق

أحيانا فأتاجر مع الله بالصدقة فيربحني و أتسع» أي أنه يوجب الإنفاق في حالي اليسر و الإملاق، و يري علاجا للفقر أن يتعامل مع الله بعطائه للفقراء، فهو في الوقت ذاته يشجع الناس علي العمل. و المجتمع الشيعي مجتمع العاملين لا يتسع للمتسولين؛ و الإمام الصادق - من جراء ذلك - يؤثر عطاء الذين لا يسألون الناس علي الذين يسألون. ولو قام أهل الإسلام بواجب الإنفاق لما افتقر مسلم واحد. فالعمل بكل أموال الأمة [ صفحه 342] يجعل الحبة الواحدة مائة حبة؛ ذلك تقدير العزيز الحكيم في تشريعه. و الصدقة تربي أو علي الأقل لا تنقص. يقول عليه الصلاة و السلام: «ما نقصت صدقة من مال» بل يقول: «إنما ترزقون بضعفائكم». و العمل في الصناعة و التجارة مدرسة الدنيا، و وسيلة لعمارتها بالكسب الحلال، و أداء حق المال؛ و هو محل إكبار المسلمين أجمعين... يتراءي في كثير من أسماء جلة الفقهاء. [121] . و الصادق هو القائل: «الشاخص في طلب الحلال كالمجاهد في سبيل الله» و القائل: «إني لأري الرجل فيعجبني فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا (لا) سقط من عيني». و يقول الإمام الباقر: «الصدقة لا تحل لمحترف و لا لذي مرة سوي». فالمحترف غني بحرفته، و ذو القوة غني باقتداره علي العمل. و الرسول عليه الصلاة و السلام يقول: «ملعون من ألقي كله علي الناس». سأل إبراهيم بن أدهم (162) تلميذه شقيق البلخي (195)؛ و هما الزاهدان الشهيران: ما بدء أمرك الذي أبلغك هذا؟ قال شقيق: مررت ببعض الفلوات فرأيت طائرا مكسور الجناحين في فلاة من الأرض، فقلت أنظر من أين يرزق هذا. فقعدت بحذائه، فإذا بطير أقبل و في منقاره جرادة، فوضعها في

منقار الطير مكسور الجناحين. فقلت في نفسي: إن الذي قيض هذا لهذا قادر أن يرزقني حيث كنت. فتركت التكسب و اشتغلت بالعبادة. [ صفحه 343] قال إبراهيم: و لم لا تكون أنت الطير الصحيح الذي أطعم الطير العليل حتي تكون أفضل منه؟ أما سمعت عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أن «اليد العليا خير من اليد السفلي». و خرج الإمام الصادق يسعي للرزق في يوم صائف شديد الحر، فقالوا: يابن رسول الله هذه حالك عند الله عزوجل، و قرابتك من رسول الله، و أنت تجهد نفسك في هذا اليوم! فقال لمن استنكر ذلك: «خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك». و لما أخبروه يوما عن رجل يقول: لأقعدن و لأصلين و لأعبدن الله قال: «هذا أحد الذين لا يستجاب لهم». و لا بأس أن يجد العامل في عمله بعض مشقة. فما هي إلا زيادة في الفضيلة فيه أو الهناءة به. جاءه من يرجوه ليدعو الله ألا يجعل رزقه علي أيدي العباد، فأجابه: «أبي الله عليك ذلك. آلي الله الا أن يجعل رزق العباد بعضهم من بعض، ولكن ادع الله أن يجعل رزقك علي أيدي خيار خلقه. فإنه من السعادة. و لا يجعله علي أيدي شرار خلقه. فإنه من الشقاوة». و الصادق بهذا التنبيه، يلفت النظر إلي أن التعامل يقتضي وجود طرفين، و السعيد من صلح طرفه الآخر. و هو فوق ذلك، يكمل نقصا لدي كثير من الصالحين الذين يفوتهم أن خوض الغمرات للرزق، مع النجاة من ارتكاب الإثم في تحصيله، درجة أعلي في الفضل - بل هو يبصرهم بالمكروه الذي يلقاه الناس، إذ يبتغون غضارة العيش أو نضارة الحياة. يقول: «ليس من

أحد و إن ساعدته الدنيا بمستخلص غضارة عيش إلا من خلال مكروه». و الغضارة نضارة و وضاءة و صلاح بال... لا يمكن أن تكون بمعدي عن المكاره، و منها الإيجابي الذي يستوجب النضال، و منها سلبي، يتراءي فيما يفقده المرء من ذات نفسه بإضعاف قدرته علي التحمل، أو منعها من العلم، أو مصير ذاته إلي الترهل. و منها [ صفحه 344] ما يتقاضاه الناس من أعراض الناضرين إذ يمسون أغراضا لسهام الكلام. و إنما ينضر الله عبد سمع مقال الرسول و وعاه أسلوبا في الحياة، و ما هو إلا الجد و أداء الواجب، و الاقتصاد في مظاهر الرفاه؛ و هو أقوم و أسلم. و ينضر الإمام وجه العمل ذاته ليزيد العامل قوة، و يزيد الأداء أناقة، و صلات المتعاملين وثاقة، حيث يقول: «كل ذي صناعة مضطر إلي ثلاث خصال يجتلب بها الكسب: أن يكون حاذقا بعمله؛ مؤديا للأمانة؛ مستميلا لمن استعمله». و لما ختم الخصال الثلاث بالاستمالة، كان يوجه من استعمل غيره أو استعمله غيره؛ ليدخل قلب عميله في حسابه. فهذا درس إسلامي اجتماعي في المحبة، مثلما أنه درس اقتصادي في إحسان الصناعة و وثاقة العلاقة و لباقة الأخذ و لياقة العطاء. و الحياة كلها أخذ و عطاء.

التجارة

روي المعلي بن خنيس تابع الإمام: [122] رآني أبو عبدالله، و قد تأخرت عن السوق فقال: اغد إلي عزك. قال معاذ: قلت لأبي عبدالله هممت أن أدع السوق قال: «إذن يسقط رأيك و لا يستعان بك علي شي ء». و قال لمن ترك التجارة: «لا تتركها فإن تركها مذهبة للعقل. اسع علي عيالك. و إياك أن يكونوا هم السعاة عليكم». و سأل عن تلميذ له: ما حبسه

عن الحج؟ فقيل: قل شيئه. فاستوي جالسا - و كان [ صفحه 345] متكئا - و قال: «لا تدعوا التجارة فتهونوا». و كسب المال من حله و إنفاقه في محله واجبان علي المسلم. و التجارة ممارسة و تعامل، أي مران علي الشؤون العامة و الخاصة. و التاجر أعلي عينا بالأمور، و أقدر علي مديد العون الآخرين - و في الاضطراب في الأسواق إثراء للجماعة، و تخطيط مشترك للمعايش، و هو قبل ذلك امتحان مستمر للنزاهة و البعد عن المحرمات. و عناية الشيعة بتوضيح الحلال و الحرام في التجارة ظاهرة في نصوص الفقه. فالمحرم مما يكتسب به، أنواع: 1 - الأعيان النجسة كالخمر. 2 - الآلات المحرمة... كآلات القمار. 3 - ما يقصد به المساعدة علي المحرم كبيع السلاح لأعداء الدين. 4 - ما لا ينتفع به كالمسوخ. 5 - الأعمال المحرمة كالغناء عدا المغنية لزف العرايس، إذا لم تغن بالباطل و يدخل عليها الرجال، و النوح بالباطل، أما بالحق فجائز، و هجاء المؤمنين، و تعليم السحر و الكهانة. 6 - الأجرة علي القدر الواجب من تغسيل الأموات. و لا بأس بالرزق من بيت المال، و كذا علي الأذان. أما جوائز الظالم فمحرمة إن علمت بعينها، و الولاية من العادل جائزة... و ربما وجبت. و الولاية من الجائر محرمة، إلا مع الخوف، - فلو تيقن التخلص من المأثم و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر استحبت. و كما يعمل الإمام بيده ليتعلم الناس، يتجر بماله ليعلمهم دروسا في التجارة - بالتطبيق العملي الذي تشهده الملايين فتتعلم. و هو أجدي عليها من أن تعطي ملايين تنفقها و لا تتعلم. دعا يوما مولاه مصادف، فأعطاه ألف دينار و

قال له: تجهز حتي تخرج إلي مصر فإن [ صفحه 346] عيالي قد كثروا. فتجهز بمتاع، و خرج مع التجار حتي إذا دنوا من مصر، استقبلتهم عير خارجة منها، فسألوهم عن المتاع الذي يحملونه ما حاله في مصر، و ما متاع العامة؟ فعلموا منهم أن ليس بمصر منه شي ء. فتحالفوا علي ألا ينقصوا من ربح دينار دينار... و وسع عليهم في الربح. ثم فصلت العير عن مصر إلي المدينة بالكسب العميم. و دخل مصادف علي مولاه و معه كيسان في كل منهما ألف دينار. و قال: جعلت فداك. هذا رأس المال و هذا الربح. قال الصادق: سبحان الله تحلفون بالله علي قوم ألا تبيعوا أو يربح الدينار دينارا! ثم أخذ واحدا من الكيسين فقال: هذا رأس مالي و لا حاجة لنا في الربح. ثم قال: «يا مصادف. مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال». هكذا بورك لمصر في متاع الإمام. لكن الإمام يقبض درهما من أموال مصر... أن قد أساء البيع الوكلاء.. مذ كانوا محتكرين. و لا «يحتكر إلا خاطئ». و هذا أول الدروس. و هي كثيرة؛ منها: أن زيادة الجهد واجبة عند كثرة العيال. و أن ترك ما فيه شبهة هو الحق، و أن النظر إلي الأمة كلها واجب؛ و هو أوجب علي العلماء و الرعاة. كان إذا جاع الناس صنع صنيع آبائه، فأخذ جرابا فيه الخبز و اللحم و الدراهم علي عاتقه، فذهب إلي ذوي الحاجات من أهل المدينة فقسمها فيهم و هم لا يعرفونه. حتي إذا مات افتقدوه فعلموا أنه «الإمام الصادق عليه السلام». و ما جاع قادر إلا ذكر البطون الخاوية. و في سعة أرزاق الحمقي عبرة للعقلاء. يقول الإمام: «إن الله تعالي

وسع أرزاق الحمقي ليعتبر العقلاء و يعلموا أن الدنيا لا ينال ما فيها بعمل و لا حيلة». و «كم من طالب للدنيا لم يدركها. و مدرك لها قد فارقها. فلا يشغلنك طلبها عن عملك. و التمسها من معطيها و مالكها. فكم من حريص علي الدنيا قد صرعت... ما الدنيا؟ هل الدنيا إلا اكل أكلته أو ثوب لبسته أو مركب ركبته؟». و لا تعاب القلة، و إنما تعاب الرذيلة. و منها التظاهر و الإعلان الكاذب. و الصدق صفة المتعاملين مع الله. و القليل مع الصدق كثير. و من ثمة بركات الله في النفس [ صفحه 347] و العقل و المال، للصادقين. و الصادق، يعد بهذا كله في كلمته الجامعة «من أراد الله بالقليل من عمله أظهر الله منه أكثر مما أراد». يقول لمن ساعد - بغير أجر - في عمل لم يجد صاحبه ما لا ليكري من يساعده فيه «أما أنك إن تساعد أخاك أحب إلي من طواف أسبوع في البيت». و تري من ذلك بروز «العمل الصالح» في أبواب العبادة، و تقديمه بين النوافل. و الصادق يخصص بعض ماله للإصلاح أيا كان وجهه. تشاجر رجلان علي ميراث فمر بهما المفضل بن عمر - صاحب الإمام - فدعاهما إلي منزله، فأصلح بينهما بأربعمائة دينار من جيبه، حتي إذا استوثق كل منهم من صاحبه، قال المفضل: إنها ليست من مالي، إن الإمام أمرني إذا رأيت اثنين من أصحابنا يتنازعان أن أصلح بينهما من ماله.

المال

هذه القوة الكبري للإنتاج و هي العمل، تعاونها قوة أخري هي المال، شريطة أن يستعمل. فإذا لم يستعمل تنقصته الزكاة عاما بعد عام حتي تقضي عليه. و من أجل ذلك صار مباحا

الاتجار في مال اليتيم لحسابه حتي لا يأكله الزمن - و إنما يستعمل المال في التجارة و في الصناعة و الزراعة و سائر الوجوه. فلا يكنز و لا يؤخذ عليه ربا، بل يتواصل المسلمون فيه بالمعروف. سئل الصادق: لم حرم الله الربا؟ و أجاب: «لئلا يتمانع الناس المعروف». و المعروف مطلوب في العلاقات العادية و المالية و بين جميع المتعاملين، في القروض و نظرة الميسرة أو المشاركة في مخاطر الاتجار أو الاستصناع و المزارعة و الخدمات، وسواها، لتجري الأرزاق لهم، من الله، علي أيديهم. و أول الواجبات في المال أن يكون أداة تعمير للدنيا باستثماره، و للأنفس بمشاركة المحتاجين إليه، سواء للعمل به أو للعيش منه، و ألا يكون وسيلة للاستعلاء، و إنما [ صفحه 348] وسيلة للتواصل... يتأدي بها المسلم إلي العمل الصالح. و من الأوليات في هذه الواجبات الاقتصاد و الترفق: يقول الإمام (عليه السلام): «أيما أهل بيت أعطوا حظهم من الرفق فقد وسع الله عليهم في الرزق. و الرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال». و الرفق لا يعجز عن شي ء. و التبذير لا يبقي معه شي ء. و في القليل كفاية من القناعة. و الكثير لا يغني مع السرف... و في المعني ذاته يقول الصادق: «ضمنت لمن اقتصد الا يفتقر» و إنما يفتقر من يتجاوز الحدود، و يبعثر قواه، و يخسر أشياءه. و بالرفق في الأمور تجري الحياة بين الناس علي نسق مقبول. يقول الإمام عليه السلام: «من كان رفيقا في أمره نال ما يريده من الناس». و الله تعالي يحب الرفق في الأمر كله.

العبادة و انفاق المال

يكاد أكثر ما جمع من تعاليم الإمام في الأبواب الاجتماعية و الاقتصادية، يتجه بفحواه شطر هذا الوجه

من وجوه العبادة. و الله تعالي يصف المتقين في محكم كتابه، في أول صفحاته ، بأنهم «الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون». و كل نعمة رزق. يقول الرسول الاكرم (صلي الله عليه و آله و سلم): «نعمتان مغبون فيهما أكثر الناس. الصحة و الفراغ». فهاتان نعمتان يسأل عنهما الإنسان. و الإمام (عليه السلام) يقول: «المعروف زكاة النعم». فالمعروف زكاة واجبة لمجرد الفراغ من التبعات و السلامة من المرض. و من التطبيق الإسلامي للإنفاق و وجوهه المادية و المعنوية يظهر أنه العبادة الإسلامية الشاملة لكل الناس، و لكل شي ء ولكل ساعة في الحياة يتاح فيها مديد [ صفحه 349] بالمودة للغير، باعطاء أو قبول العطاء، و الإقراض أو الاقتراض، و دفع الأذي، أو مجرد المعونة، بالفعل أو القول، أو العمل المادي، أو بمجرد الكف عن الأذي، و ما إلي ذلك من أبواب التعاون بين أفراد المجتمع... سواء بالمال أو بالسعي أو بالجاه أو بمجرد الاهتمام. و اهتمام المسلم بما أهم المسلم هو الذي يهب المقرور دفئا، و المكروب برءا، و المنكوب طمأنينة. يقول صاحب الشريعة: «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم». و لما حصرت الشريعة الفرائض رحمة من الله بعباده المكلفين، أطلقت المندوبات، لتتيح لهم أن يتطوعوا بالعمل الصالح كيفما قدروا و حيثما وفقوا - و بخاصة في إنفاق المال - ثم أكثرت الحض عليه، ثم جعلته ممكنا للجميع، و في وجوه النشاط الإنساني جميعها. يقول الإمام للصادق (عليه السلام): «ليعن بعضكم بعضا فإن أبانا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم كان يقول: «إن معونة المسلم خير و أعظم أجرا من صيام شهر و اعتكافه شهرا في المسجد الحرام» و

إياكم و إعسار أحد من إخوانكم المسلمين فإن أبانا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم كان يقول «ليس لمسلم أن يعسر مسلما. و من أنظر مسلما أظله الله يوم القيامة بظله حيث لا ظل إلا ظله...». و ذات يوم قال رجل: إن بيني و بين رجل منازعة في أمر و إني أريد أن أتركه فيقال لي إن تركك ذلة. فقال الإمام: «إن الذليل هو الظالم». فهو لا يري الترك عيبا، إنما العيب بالظلم، أيا كان مصدره، التارك أو المتروك له. و دخل عليه عمار الساباطي فقال له: يا عمار إنك رب مال كثير فتؤدي ما افترض عليك الله من الزكاة؟ قال: نعم. قال: فتخرج الحق المعلوم من مالك؟ قال: نعم. قال: فتصل قرابتك؟ قال: نعم. قال: فتصل إخوانك. قال: نعم. قال: «يا عمار إن المال يفني. و البدن يبلي. و العمل يبقي. و الديان حي لا يموت. يا عمار. ما قدمت فلم يسبقك. و ما أخرت فلن يلحقك». [ صفحه 350] و الأيادي قروض، و الإمام يعد بالرد المضاعف ، و يعلن فضل من أعطي، و يؤثر عليه فضل الآخذ. و العرف لا يذهب بين الله و الناس. قال له تلميذ: إني لا أتغدي أو أتعشي إلا و معي اثنان أو ثلاثة، أو أكثر. فأرضاه الإمام بالجزاء الموعود، و أعلن له أن فضلهم يفوق فضله. قال: «فضلهم عليك أكثر من فضلك عليهم. إذا دخلوا عليك دخلوا بالرزق الكثير». [123] . و الإمام يحض علي دوام التواصل، إذ يجعل النعمة التي يخولها المعطي للآخذ نعمة تتكرر إذ تشكر، لتتكرر. يقول «اشكر من أنعم عليك. و أنعم علي من شكرك. فإنه لا إزالة لها

إذا شكرت و لا إقالة لها إذا كفرت». و البخل قبض القادر يده عن العطاء و نفسه عن الأمل. فذلك داء البخلاء. و الإمام الذي يوجب السخاء عند إقبال الدنيا و حين يفيض الخير، يوجب الرجاء و الصبر عند إدبارها. فالدنيا تدور. يقول (عليه السلام): «عجبت لمن يبخل بالدنيا و هي مقبلة عليه أو يبخل بها و هي مدبرة عنه. فلا الإنفاق مع الإقبال يضره. و لا الإمساك مع الإدبار ينفعه». ففيم يقف البخلاء دورة المال أو نعمة الرجاء! و الصادق يروي عن جده أميرالمؤمنين (عليهماالسلام): «قيل يا نبي الله. أفي المال حق سوي الزكاة! قال: نعم؛ بر الرحم إذا أدبرت، وصلة الجار المسلم. فما أقر بي شبعان و جاره المسلم جائع. ثم قال: مازال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه». و في كل مشاركة فضل. يقول صفوان بن يحيي - من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) - جاءني عبدالله بن سنان، قال: هل عندك شي ء؟ قلت: نعم، فبعثت ابني يشتري لحما بدرهم، فقال: أين أرسلت ابنك، فأخبرته، فقال: رده. عندك زيت؟ قلت: نعم. قال: هات [ صفحه 351] فإني سمعت أبا عبدالله «الصادق» يقول: «هلك امرؤ احتقر لأخيه ما يحضره. و هلك امرؤ احتقر لأخيه ما قدمه إليه». و الجود بالموجود جود. و في التكليف رهق. و في كل إرهاق أذي. و السمح لا يؤذي، و لا يحس الأذي فيما هو طبيعي. و من السماحة في الأخذ و العطاء ينتشر التواصل، بأي شي ء و في كل شي ء. فالإمام (عليه السلام) لا يتكلف لأحد، و يعلن فضل الطاعم علي صاحب الطعام. قال هشام بن سالم: دخلنا علي أبي عبدالله و نحن جماعة، فتغدينا و تغدي معنا، و

كنت أحدث القوم سنا، فكنت أقصر و اتآكل، فقال لي: «كل. أما علمت أنه تعرف مودة الرجل لأخيه بأكله طعامه». يقول الإمام لأضيافه: «أشدهم حبا لنا أكثرهم أكلا عندنا». و كانت «عين زياد» ضيعة له فجعلها له و للناس... يأمر وكيله بأن يثلم في كل حيطان الضيعة ثلما ليدخل الناس فيأكلوا، و يأمر كل يوم بعشر ثبنات يقعد علي كل واحدة منها عشرة يطعمون... كلما قام عشرة جاء عشرة... يلقي لكل منهم بعض الرطب. أما الذين لا يجيئون من جيران الضيعة فلكل منهم مد يرسل إليه، حتي إذا جاء أوان قطع الثمار أعطي الوكلاء العمال أجورهم عنه، و أمر الإمام بالباقي فحمل إلي المدينة ففرق في أهلها، كل حسب استحقاقه. يقول ابن أبي طيفور: رأيت عند أبي عبدالله ضيفا، فقام يوما في بعض حوائجه فنهاه و قام بنفسه إلي هذه الحاجة و قال: «نهي رسول الله عن استخدام الضيف».

اداء حقوق الآخرين في المال

و إذا واسي الصادق أعطي فأغني: سأله فقير فأعطاه ألف درهم، فلما مضي الرجل أمر خادمه ليرجعه. قال الخادم: يا سيدي سئلت فأعطيت. فماذا بعد العطاء؟ قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «خير الصدقة ما أبقت غني»، و قال للرجل: «إنالم نغنك، فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم». [ صفحه 352] و لا مرية في أنه لم يغن الرجل ليأكل، و إنما أغناه بالمال ليعمل. فالعطاء ليس طعاما يعطي، و إنما هو فرصة عمل بالتعبير الاقتصادي المعاصر... أي تمكين من اداة إنتاج تحفظ إنسانية الإنسان و تزيد ثراء الجماعة. و العطاء وفاء بحقوق، و ليس مجرد أريحية. فأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) هو القائل «إن الله فرض علي الأغنياء في

أموالهم ما يكفي الفقراء فإن جاعوا أو عروا فبظلم الأغنياء» و القائل: «الفقر هو الموت الأكبر». و سئل الباقر عن الزكاة تجب في مواضع لا يتمكن السائل من أدائها فيها فأجاب: «اعزلها فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن. و لها الربح». و يقول الصادق: «إن الله عزوجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم - ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم. إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عزوجل... و لكن أتوا من منعهم حقهم. ولو أن الناس أدوا حقوقهم كانوا عايشين بخير». و بنص عنه: «إن الله تبارك و تعالي شرك بين الفقراء الأغنياء في الأموال. فليس لهم أن يصرفوا إلي غير شركائهم». و علي أساس هذه النصوص يتساءل الفقهاء: هل الفقير شريك في ملك العين (في خصوص الزكاة)، أو أن له (مجرد حق) فيها. فالبعض علي أنه شريك بمقدار حصته، و البعض علي أنه صاحب حق فيها؛ و هو مقدار نصيبه. و صاحب النصيب من لا يملك مؤنة سنة له و لعياله. و الأغنياء من يملكون ذلك المقدار. يقول الإمام الصادق: «تحرم الزكاة علي من يملك قوت سنة». و لا يدع الإمام الناس - فقراء أو أغنياء - دون تنبيههم علي أصل الداء، و هو الطمع. فيعالنهم بمقولة من مقولاته التي تتناقلها الأجيال: «إن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك». و لحقوق الفقراء علي الأغنياء عند الشيعة مصدر آخر زاخر، فوق مصدر الزكاة، و هو خمس المكاسب. و الله تعالي يقول: «واعلموا أن ما غنمتم من شي ء فأن لله [ صفحه 353] خمسه و للرسول و لذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل». و الشيعة تفسر الآية

تفسيرا يسع أكثر مال يكتسب، إذ يدخل فيه خمس أرباح التجارات و الصناعات و الإجارات و العمل و الوظائف و الهدية و الوصية و أرباح مالك المنجم و المدخرات من الكسب الحرام إذا اختلط بالحلال و لم يتميز، فإن تميز أخرج كله، و اللؤلؤ المستخرج و المواريث التي لم يؤد عنها الخمس... و ذلك بعد أن يستنزل المكلف مؤنة الحفظ و مؤنة الذين يعولهم و مركبه و مسكنه و نفقات أضيافه لمدة سنة كاملة، و مازاد عن ذلك ففيه الخمس. كتب رجل إلي الإمام الباقر: أخبرني عن الخمس أهو علي جميع ما يستفيده الرجل من قليل أو كثير... و كيف ذلك؟ فكتب الإمام بخطه: «الخمس بعد المؤنة». و لا يحمل الخمس إلي غير بلده إلا مع عدم وجود المستحق فيه. و يجوز أن تخص به طائفة واحدة. و الأحوط قسمته. و الفقهاء يقررون أن للإمام نصف الخمس و أن نصفه الباقي ليتامي آل النبي و مساكينهم و فقرائهم و أبناء السبيل منهم. و الآن - حيث الإمام غائب - فالأقوال كثيرة في توزيع حق الإمام. و ربما جاز من تعددها اختيار الإنفاق علي المصالح التي تحفظ للأمة دينها و شريعتها. و الرسول عليه الصلاة و السلام يكلف المسلمين أن يقصدوا بالبر الفقراء، و أن يتطهروا بين الفقراء، و يتقوا الله تقوي الفقراء. يقول (صلي الله عليه و آله و سلم): «من اراد الله فليطلبه عند الفقراء».

كنز المال

أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) هو الذي ذكر عمر بخثور نفس رسول الله حتي وزع مالا كان عنده (صلي الله عليه و آله و سلم)... و أعلن ساعة استخلافه أن الدولة ليس لها في المال إلا أن تقسمه في المسلمين

متساويين - فرقي المنبر يقو للمسلمين عن نفسه: «... إلا و إنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح أموالكم معي. و ليس لي أن آخذ درهما دونكم». [ صفحه 354] جي ء ذات مساء بمال افاءه الله علي المسلمين، فأشار إليه و قال: اقسموه. قالوا: أمسينا فأجرجه إلي غد. قال: تقبلون لي أن أعيش إلي غد؟ قالوا ما بأيدينا ذلك. قال: فلا تؤخروه. فقسموه من فورهم. و لما بعث أبوموسي إلي عمر من العراق ألف ألف درهم فرقها ففضلت فضلة فاختلفوا أين يضعها، خطب عمر الناس قائلا: أيها الناس قد فضلت لكم فضلة بعد حقوق الناس، فقال صعصعة - و هو بعد غلام شاب، أسلم في حياة النبي و لم يره - و قال: «يا أميرالمؤمنين إنما يتشاور الناس فيما لم ينزل فيه قرآن. و أما ما نزل به قرآن فضعه مواضعه التي وضعه الله عزوجل فيها». فقال عمر: «صدقت. أنت مني و أنا منك». فقسمه بين المسلمين. و صعصعة - كما أسلفنا - بطل «يوم الجمل» إلي جوار أميرالمؤمنين علي (عليه السلام). استشهد أخواه و هما يحملان الراية، ثم حملها صعصعة و انتصر. و أبوذر أب من آباء الشيعة العظماء، و سيرته درس تحتفي به مجالسهم و أمالي كبرائهم... ينبه الناس من قديم علي خطر الفقر و اقترانه بالكفر، و تعريضهما العقيدة و الوطنية و وحدة الجماعة للدمار؛ فيقول: «إذا ذهب الفقر إلي بلد، قال الكفر خذني معك». و لقد حرم كنز المال بحبسه عن المسلمين في بيوت الأموال، أو حرمانهم منه و تعريضهم للافتقار، فأوجب علي الدولة توزيع المال في أصحاب الحق فيه من الرعية، و حرم النعيم علي من يعيش بين الجياع. فإذا كان اخوة

المسلم في عيشة راضية فالنعيم يباح. و لما أرسل إليه عثمان مائتي دينار مع رسول يقول: هذه من مال عثمان، و هو يقول لك إنها من صلب ماله ما خالطها حرام. قال أبوذر: هل أعطي أحدا من المسلمين مثلما أعطاني؟ قال: كلا. قال: قال: اذهب أنت و الدراهم. إنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم، و لست في حاجة إلي المال. قال الرسول: اصلحك الله إني لا أري في بيتك قليلا و لا كثيرا. فرفع أبوذر الوسادة، و أراه قرصين من خبز الشعير و قال: بل عندي [ صفحه 355] هذان و إني لغني بهما و ثقتي بالله. و مر أبوذر بمعاوية و هو يبني قصر الخضراء فصاح به: «من أين لك هذا؟ إن كنت بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة، و إن كنت بنيتها من مالك فهي الإسراف». فشكاه معاوية إلي عثمان. و ظاهر من هذا النهج، النحو الاقتصادي الذي ينحوه الشيعة من تداول المال و عدم كنزه عن الأمة ولو كان في يد الدولة، و وجوب تقسيمه في المسلمين أو العمل به لهم، و الاستكثار من طرحه في التداول [124] . [ صفحه 356]

التعاون

العنصر الثالث في الاقتصاد - كما هو ظاهر من تعاليم الإمام في فصول هذا الباب - هو التعاون. و ليس كمثله «منظم داخلي» أو «محرك ذاتي» للنشاط الفردي أو القومي. و لقد مر بنا أنه واجب «قانوني» يخرج من الإيمان من بات شبعان و جاره جائع. كما أسلفنا القواعد الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي شرعها الإسلام و شرحها الإمام، ليخلف للأمة منهاجه الذي اعتزت به الأمة فبلغت شأوها العالي بالمنهج العلمي، العصري أبدا، و المنهج الاجتماعي

الذي جعلها كالبنيان المرصوص، و المنهج الاقتصادي الذي يستعمل العلم و العمل و المال في تعاون مأمور به، أي في تكافل كامل. و لئن مرت بها فترات مظلمة، إن مردها إلي الخروج علي قواعد المنهج. و إنما عصمتها في الرجوع إلي الأمر الأول. [ صفحه 357]

الخاتمه (إلي الرفيق الأعلي

اشاره

«الحمد لله لم يخرجني من الدنيا حتي بينت للناس جميع ما تحتاج إليه». (الإمام جعفر الصادق عليه السلام) [ صفحه 359] كان الإمام في لقاءاته الأخيرة مع الخليفة (أبي جعفر المنصور) يقول له: «لا تعجل، لقد بلغت الرابعة و الستين و فيها مات أبي و جدي». فلقد كان يحس باقتراب يومه، و يلتمس من ذلك قوة عند اللقاء... تؤيده في الصدام معه و الثبات في وجهه ، و الدفاع عن حقوق الله و الناس عنده، و تذكيره بالآخرة. و هو إلي ذلك يهيئ الدولة، و الناس، لما بعد موته. و الناس الذين يتساءلون متي نصر الله، يولون وجوههم شطر الإمام عليه السلام، مذ قطع المنصور أسباب الأمل في الأمان و الاطمئنان، بالنكال يصبه علي من عارضه، و خص أهل البيت بكفل زاخر من عذابه. فما الكثيرون عنه إليهم. و لم يكن باقيا من مشيختهم إلا الإمام الصادق... تهوي إليه الأفئدة من بعيد و قريب، و يتزاحم عليه التلامذة من أشياخ العلماء. و مضت الأيام، و الناس بين البأساء و النعماء، و الفزع و الرجاء... و الإمام في دروسه و مجالسه يرسي مبادئه للأجيال القادمة، و يهدي بالقول و العمل، و بمجرد أن به حياة. و جاء ذلك اليوم الذي قال فيه، و هو رخي البال: «الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتي بينت للناس جميع ما تحتاج إليه». و هو إفصاح

عن اكتمال المذهب الشيعي في تعاليمه، و نظام الدولة الشيعية، إن أمكن أن تظهر، و المجتمع الشيعي في كل حال. و إن شئت قلت مقاله (المجتمع الجعفري)، أو مقال الفقهاء: مجتمع «الشيعة الإمامية». و جاءت ساعة الموت... و هو في تمام صحوه، و أهل البيت حافون من حوله: قالت زوجه «حميدة» أم الإمام موسي الكاظم، و كانت من البربر، لرجل من اصحابه: [ صفحه 360] لو رأيت أبا عبدالله عند الموت، لرأيت عجبا: فتح عينيه ثم قال: «إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة». أما رواية الإمام موسي الكاظم فنصها: لما حضرت أبي الوفاة قال لي «يا بني لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة». فهذا إمام تنتهي إمامته، يعهد لإمام تبدأ أيامه... فينبهه و الناس... علي حقهم في شفاعة أهل البيت، و واجبهم لينالوها، بإقامة عمود الدين. و تضيف مولاته «سالمة» ساعة الموت حسنات فتقول: «اغمي عليه. فلما أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي (بن علي بن الحسين) سبعين دينارا، و أعطوا فلانا كذا، و فلانا كذا. قلت: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟ قال: أتريدون ألا أكون من الذين قال عنهم الله عزوجل «و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب»؟ نعم، يا سالمة. إن الله خلق الجنة و طيب ريحها، و لا يجد ريحها عاق و لا قاطع رحم. أجل؛ كان الإمام قطعة من صميم الإسلام. جده عليه الصلاة و السلام «خلقه القرآن»، أما هو فخلقه «سنة جده». وجده يعلن سنته حيث يقول: «أفضل الصدقة علي ذي الرحم الكاشح». و يقول إن أول الواجبات في المال بعد الزكاة: «بر الرحم إذا أدبرت». فالإمام في ساعة الموت يوصي

لمن يليه، و يذكر الشفاعة... و الصلاة... و صلة الرحم... و هو يريح رائحة الجنة. صعدت روح الإمام إلي الرفيق الأعلي في شوال 148، لتترك المنصور في الفزع الأكبر. فلقد غابت عن الدنيا أسباب سلام يثق بها، ولاح في السماء نجم جديد... بإمام جديد... ليس له به عهد. و المنصور ليس الرجل الذي ينتظر حتي ينكشف له أمر فيه غرر، بل هو يبتدر الخطر. قال أبوأيوب الجوزي: بعث إلي أبوجعفر المنصور في جوف الليل، فدخلت عليه [ صفحه 361] و هو جالس علي الكرسي و بين يديه شمعة، و في يده كتاب. فلما سلمت عليه رمي الكتاب إلي، و هو يبكي، و قال: «هذا ابن سليمان (والي المدينة) يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات. فإنا لله و إنا إليه راجعون». قالها ثلاثا، ثم قال: و أين مثل جعفر؟ ثم قال: اكتب. فكتبت صدر الكتاب، ثم قال: «اكتب إن كان قد أوصي إلي رجل بعينه فقدمه و اضرب عنقه». هكذا يأمر بقتل من يجهله، و يحرمه حق المحاكمة، لمجرد أن من فحوي الوصية لرجل بعينه أنها رسالة للأمة تعلن الإمام الجديد! لكن الله كف بطش المنصور. فرجع الجواب إليه أن الإمام أوصي إلي خمسة هم: أبوجعفر المنصور و ابن سليمان، و عبدالله و موسي و حميدة. و الأخيرون ولدا الإمام و زوجه. فليس هنا وصي بعينه. و الأولان أبوجعفر ذاته، و واليه. و ليس إلي قتل هؤلاء من سبيل! و ما كانت وصية «الصادق» للمنصور و واليه إلا توصية لهما بالأمة، و تذكيرا لهما بأنهما ملاقيا الله مثله. و المنصور أجدر خلق الله بأن يذكره الناس بالموت، و أن يذكروه عند الموت، إن محبين له و إن

مبغضين. و لما قرن الإمام أباجعفر بابنيه و زوجه، كان يذكره أن يخاف الله فيهم و في ذوي رحمه. كان المنصور يسابق الموت إلي من تتم الوصية إليه وحده. ففوتت عليه وصية الإمام بغيا، لم يمنعه من مقارفته تساقط دمعه، أو أن يسترجع الله مرات ثلاث، و كأنه يجعل الدمع مدادا لأمر يهتبل الفرصة لإصداره، ليقطع رأس إمام جديد من أهل البيت يطاف بها في المدائن. و أنسته شياطين الفزع و الطمع أن يذكر ما علمه الصادق من صلة الرحم، و ازداد نسيانا يوم لا أحد ينسي! و جري المهدي و الرشيد في أثر المنصور يهتدون به، و يدسون الجواسيس ليعرفوا [ صفحه 362] من يجتمع إليه الناس بعد موت الإمام. سأل سائل موسي الكاظم، فقال (عليه السلام): «إذا هدأت الرجل و انقطعت الطريق فأقبل» و سأله آخر فقال له: «سل تخبر. و لا تذع. فإن أذعت فإنه الذبح». بل كان هشام بن سالم ينبه زملاءه الشيعة حتي لا يقعوا في حبائل المنصور. و ظاهر من ذلك أن المجالس العظيمة. التي كانت تنعقد في حياة الإمام الصادق، قد ولي زمانها. ولي الإمامة موسي الكاظم بعد أبيه فتتابع في حياته عهد الهادي ثم عهد الرشيد. و اقتصر - كما سيقتصر الأئمة من بعده - علي العلم و إمامة الدين، دون أن يمدوا عينا أو فكرا إلي الخلافة الدنيوية. و مع هذا حبس الرشيد الإمام الكاظم حتي سنة 183. ثم أمر فأدخل الناس السجن ليروه ميتا... ليس به آثار قتل. و الشيعة يقولون: مات مسموما. و خلف الكاظم في الإمامة ابنه علي الرضا. حتي إذا صار المأمون خليفة ولاه عهده... علي رغمه، سنة 201، و أمر ابنه و بني العباس

بمبايعته... فصنعوا، و زوجه من بنته «أم حبيب» في سنة 202. كما زوج ابنه محمدا الجواد بنته «أم الفضل». إلا أن عليا الرضا مات سنة 203 فجأة! مسموما... في أكلة عنب - كما يقولون - في أثناء عودته في ركب المأمون من مرو إلي بغداد! و في رحلة العودة هذه، و في ركب المأمون ذاته، قتل وزيره الذي دبر له كل أمره (الفضل بن سهل)، و كان شديد التشيع. و توجه محمد الجواد بزوجته إلي المدينة - بعيدا من بغداد. فلما ولي المعتصم أشخصه إليها. فقدمها لليلتين بقيتا من المحرم سنة 220. و في نهاية السنة مات. و الناس تقول في موته ماقالوه عن موت أبيه وجده و ما سيقولونه في موت ابنه علي الهادي. بعد أن صار إمام استقدمه الخليفة إلي العسكر في «سر من رأي» حيث قصر الخلافة. فلما مات الهادي سنة 254، قام بالإمامة ابنه الحسن الخالص (العسكري) حتي سنة 260... عام وفاته، ليخلفه ابنه محمد آخر الأئمة الأثني عشر... الذي اختفي عن الانظار، و الناس ينتظرون ظهوره... و هو عند الشيعة الإمامية [ صفحه 363] «المهدي المنتظر». [125] . بهذا التاريخ يختم الأئمة الاثنا عشر حقبة من الزمن علموا فيها المسلمين العلم الذي آل إليهم عن آبائهم - عن طريق الإمام الصادق عليه السلام - بعيدين عن السلطة، مدركين جلال ما يقدمون للأمة، من تراث جدهم (صلي الله عليه و آله و سلم)... يعضون عليه بالنواجذ، و يطهرونه من الزيف، و يتبرأون ممن غلوا فيهم. [126] . أقامت الأمم الإسلامية الدول تتري... في القارات الثلاث في العالم المعروف، [ صفحه 364] منتسبة إلي أهل البيت من أبناء الحسين أو أبناء عمومتهم، و مجتمعات مزدهرة، و

حضارات يضرب بها الأمثال... في العراق، و اليمن، و خراسان، و إيران و أفغانستان، و باكستان، و الهند، و لبنان، و سورية، و الكويت، و البحرين، و شرق أفريقية، و كثير سواها. ففي المغرب أقام الدولة الإدريسية إدريس بن إدريس بن عبدالله (أخي الشهداء الثلاثة محمد و إبراهيم و يحيي أبناء عبدالله بن الحسن) و كان قد فر إلي المغرب الأقصي عن طريق مصر سنة 172 هاربا من بطش الرشيد. و قد بعث إليه الرشيد من سمه. و في المشرق قامت دولة أخري علي يد الحسن بن زيد بن... الحسن (270 - 250) و أعقبه فيها أخوه؛ و هما فقيهان زيديان. و قامت الدولة الساسانية بخراسان؛ عاصمتها بخاري. و أقام أئمة الشيعة الاسماعيلية دولة كبري في أفريقية و آسيا (الدولة الفاطمية). ثم قامت الدولة الإمامية الكبري في إيران حيث بقيت العقيدة الإمامية و الفقه الإمامي عقيدة و شريعة حتي اليوم. و سيطرت الدولة البويهية (447 - 324) علي الخلافة العباسية بتمامها، و وضعت مراسم التشيع و أعياده... فجعلت يوم كربلاء مأتما قوميا، و يوم الغدير عيدا إسلاميا. و أمر معز الدولة بن بوبه، فكتب علي المساجد في بغداد: «لعن الله معاوية ابن أبي سفيان، و لعن من غصب فدكا، و من منع أن يدفن الحسن في قبر جده عليه السلام، و من نفي أباذر الغفاري. و من أخرج العباس من الشوري» فحكه الناس. فاكتفي بأن أمر أن يكتب علي المساجد: «لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم» و أمر ألا يذكر في اللعن إلا معاوية. و تحول بنو بويه عن زيديتهم، و سلكوا مسلكا إماميا. و ولوا الشريف أباأحمد نقابة الطالبيين

و إمارة الحج، بل ولوا ابنه الشريف الرضي النيابة عن الخلافة العباسية. و مع ذلك كان بين حين و آخر، يشعر بالسخط، فيجري علي لسانه الشعر الذي يمجد [ صفحه 365] الخلافة الاسماعيلية: أإلي المجد إن ذل غلام في غمده المشرفي ألبس الذل في ديار الأعادي و بمصر الخليفة العلوي! فهذا زعيم إمامي يفاخر بخليفة اسماعيلي. و هو في الوقت ذاته قد ولي نيابة الخليفة السني.

عدالة السماء

و الدول - كالكائنات الحية و كالأفراد و المجتمعات - تشتق قانونها من أسباب وجودها، و تلتزمه قتبقي و تسلم، أو تخرج عليه فتفقد سببا أو أكثر من أسباب تقدمها و نمائها، و ربما فقدت سبب بقائها. و كلما أصابها السقم رجعت إلي سبب وجودها تلتمس السلامة. لقد نشأت الدولة الإسلامية و المجتمع الإسلامي علي قواعد الإسلام في السنة الأولي للهجرة، فأخضعت دول العالم المعروف في بضعة عشر عاما، من حياة النبي و أصحابه، و أقامت المجتمع الأفضل الذي صنع علي يد الرسول و علي عينه... و كلما أبعد المسلمون من هذا الفضل، قل الشبه في الصورة عنه في الأصل. و كلما فكروا في العودة إلي الأمر الأول ولوا وجوههم شطره. و ما هو إلا عمل النبي و آله و صحبه. فكل عمل أو بحث لإقامة الدولة المثلي لمجتمع مسلم، يتجه بالطبيعة إلي أيام النبوة، و العمل بالقرآن و السنة. و آل النبي هم أقرب الرجال إلي الصميم من ذلك و إلي قلوب الأمة. و هم أرفع شعار يمكن تحريك الجموع به... فهم أهل النبي و القرآن و السنة جميعا؛ لا بالعرف وحده، و إنما بسيرتهم التي ليس لها في التاريخ نظير. و الإمام الصادق (عليه السلام) يتوهج كالنجم

الثاقب في هذه السماء. فهو مدرسة العلم مع الزهادة في السلطة. و هو إمام فقه في الدين و العلم... و صاحب مناهج للدنيا، و معلم [ صفحه 366] للإصلاح و التشريع و السياسة و الاقتصاد؛ و هي الوسائل المحركة للتقدم في جميع الأمم. فلا عجب أن كانت دعوات الإصلاح، و دعاءات الرجاء، في كل العصور، تتلمس في علمه المدون، و سيرته التي يمجدها المسلمون، ذكريات فضائل تمشي علي الأرض، و تطبيقات مفلحة، لتعاليم كفيلة بإقامة حكم صالح يرد الحكام إلي الدين، و يعيد الدين غضا في أنفس الناس كما كان في أفئدة السلف الصالح. و يتراءي مصداق هذه الحقيقة «للقانون الطبيعي» للإسلام، أو للطبيعة الدينية للمجتمع المسلم، في قيام الدولة العباسية بدعوي «تصحيح التاريخ» و بشعار «الدعوة إلي الرضا من آل محمد». فلما أجهضت هذه الدولة مبادئها بخعت نفسها. فصارت ملكا عضوضا خيراته للملوك. فلم يك معدي عن إعادة التصحيح بالعودة إلي رسالة النبي و تعاليمه و آله. و إنما انحرفت الدولة الإسلامية في تجاربها التي أقامتها الدول الأموية و المروانية و العباسية لغصبها حقوق أهل البيت، و نصبها العداء لهم، في موجة انصراف الحكام، عن مصالح الأمة و شريعتها، إلي شهواتهم. فتصحيح التاريخ يبدأ بإقرار حق علي و أبناء النبي و العمل بالشريعة. و التاريخ خاضع لقانون الطبيعة أو قانون الحركة (لكل فعل رد فعل... مساوله في المقدار، و مضاد له في الاتجاه). و الحقائق الكبري في التاريخ، كالظواهر العظمي في الطبيعة، لا تخفي. و الذي يخفي الحرارة أو البرودة لا يبغته الغليان أو التجمد، أو رعدة الحمي أو رعشة البرد. و الذي يخفي الضغط الجوي لا يأخذه الأنفجار أخذ الفجاءة. «و عمر بن عبدالعزيز»

«و المأمون» هما الانفجاران المحتومان في دولتي بني مروان و بني العباس، لأنهما الممثلان الصادقان للضمير الإسلامي، في الدولة أو الجماعة أو الأفراد، أو في العلم أو الحكم أو العدل أو الجهاد، علي رأس المائة الأولي و رأس المائة الثانية. [ صفحه 367] أما عمر فنما في أكناف بيت طالما حاول طمس فضائل علي. فلما شب عن الطوق أصبح يعلن للناس إسرار أبيه له أن الناس لو عرفوا فضائل علي لانصرفوا إليه عن دولتهم، حتي إذا ولي إمرة المدينة أبطل سب علي علي المنابر. و كان عمر يرزح تحت الرقابة الشديدة من الخليفة الوليد، و السباق المجنون من الحجاج لظلم بني علي، مع استرضاء بني مروان للحجاج، حتي ليعزل الوليد عمر بن عبدالعزيز (رضي الله عنه)، لإرضاء الحجاج بن يوسف الثقفي!! فلما ولي عمر الخلافة، أقسم أن يتخذها طريقا إلي الجنة... فرد لأهل البيت مظالمهم، و أعاد لهم «فدكا». و بعث إليهم عشرة آلاف دينار ليعوضهم عما سلبهم سابقوه. و كانت الشهور الثلاثون - مدة خلافته - تلقي علي كاهل رجل هزل الورع جسده، أعباء الدين و الدنيا... يدرك أن أيامه معدودات، و يتهمه أهله بأنه يوشك أن يخرج الخلافة منهم إلي بني علي. [127] . بل أعلن عمر أنه لو استطاع لعهد بالخلافة لمن كان مثله، فقال: «لو كان لي من الأمر شي ء لاستخلفت أعيمش بني تيم القاسم بن محمد بن أبي بكر». و هو العليم أن محمدا ترعرع في حجر «علي» قبل أن يستخلف، و أنه حارب معه معاوية. فلما ولاه مصر، باء بدمه رجال معاوية. فهو عدو بني أمية من كل وجه. و أن «القاسم» همزة الوصل بين أبي بكر و بين «أهل البيت»... بنته أم فروة تحت جناح الباقر، و ابنهما «جعفر

الصادق» في عنفوان صباه، أمل تتجه الأبصار تلقاءه. و أما «المأمون» فعبقري العلم، سواء العلم الديني، من أصول و فقه و دين و حديث، أو العلم العام، و فيه التاريخ و الفلسفة و العلوم التطبيقية و الرياضية و الفلكية حيث له في [ صفحه 368] جوار قصره مرصد يرصد فيه النجوم. و هو بطل حروب و «رجل دولة» كبير؛ لا يعرف التاريخ - من عهد اليونان و الرومان حتي الآن - ملكا بلغ مبالغه في كل أولئك مجتمعا... و هو يقف في القمة من الدولة العباسية... فمن بعده بدأ الانحدار. و كانت الأعوام السبعون التي انصرفت من عمرها و انحرفت في إبانها تشير إلي الحاجة إلي عقل عبقري فيه إنصاف؛ ليحدث عودا علي بدء. فأعلن تشيعه... بل عهد من بعده لإمام الشيعة في عصره... بل زوجه و ابنه من بنتين له. [128] . و لقد كان حقيقا أن يبلغ غرضه لو لا أن الإمام «عليا الرضا» مات فجأة... كمثل ما كان السياسيون في العهد العباسي يموتون فجأة! ولو لا أن المأمون رأي أن يأمن في سربه انتقاضات أهله... بعد إذ حاربوه بجيوشهم لمدة عامين، من جراء تشيعه، لكان قد ولي عهده، بعد علي الرضا، زوج بنته الأخري، الإمام التاسع محمدا الجواد. و كانت خلافة المأمون تمثل حكما يحاول أن يستقر علي «أساس ديني». و هذا ظاهر في عهده لعلي الرضا... و علي «أساس علمي»، و هذا ظاهر في عمله لإلزام الناس برأي المعتزلة... و علي «سند سياسي»، ليقدر علي مقاومة تيارات تتناوشه من شتي الجهات - سياسية كالوافدة من الفرس و الروم، أو عائلية كنزاعات أهله، أو فكرية كالقضايا التي آلت إلي المسلمين من مواريث

اليهودية و المسيحية. يحمل ألوية الجدال فيها المعتزلة... و المأمون من كبرائهم. و لما فقد الذين جاءوا بعده قدرتهم علي التوازن بين الزوابع، آلت الدولة إلي الترك. و تتابع تقسيمها أقاليم و دولا. و لم يعد للدين في الدول الجديدة الكلمة العليا. بل أصبحت للمعايش و الأرزاق و مداراة الحكام. و بهذا دب التدهور في الأفراد، [ صفحه 369] و المجتمعات و الدولة، و أفسدت الدولة الفرد و أفسد الفرد - بدوره - الدولة. و من تصحيح التاريخ للأشياء، كانت أول دولة استقلت عن بني العباس في القرن الثاني دولة إدريس بن إدريس بن عبدالله في المغرب، فدولة الحسن بن زيد في المشرق. و تتابعت الدول في القرن الثالث بخراسان، و مصر، و أفريقيا، و في اليمن، حيث ملك القاسم بن إبراهيم (286 - 246)، و إليه تنسب الزيدية القاسمية. ثم الهادي بن القاسم، و إليه ينسب الهادوية. و بقيت دولة الشيعة باليمين حتي إعلان الجمهورية سنة 1962 للميلاد. و في القرن الرابع قامت دولة بني بويه 1055 - 945 - 447 - 324 و هي شيعة زيدية في العراق و فارس حيث عاصمتهم شيراز. و قام الحمدانيون في العراق و الشام 358 - 317. و هم شيعة إمامية يذكر الإسلام لهم الدفاع عنه ضد غزوات الإمبراطورية الرومانية من بيزنطة. و تدين لهم الأمة العربية بأحسن أشعار أبي الطيب المتنبي، و بشعر أبي فراس الحمداني، و فلسفة الفارابي فيلسوف المسلمين - المعلم الأول عند العرب - أو المعلم الثاني في العالم، حيث أرسطو هو المعلم الأول. و في القرن الخامس، كان بنو حمود بالأندلس (447 - 407)، و هم من أبناء الأدارسة - و في القرن السادس، كان ابن تومرت

(... بن عبدالرحمن... بن محمد بن الحسن بن علي) مؤسس دولة الموحدين، و كانت خطبة الجمعة عندهم تشتمل علي الصلاة عليه باعتباره (الإمام المرحوم المهدي المعلوم)، و إن كانت دولته و دولة الأدارسة أو بني حمود، أو الدولة الفاطمية، تحكم شعوبا سنية. و لا شك أن كبري الدول التي أقامها الشيعة كانت الدولة الفاطمية (الاسماعيلية). [ صفحه 370]

الاسماعيلية

[و يلقبون - في مراجع أهل السنة - القابا أخري؛ أهمها «الباطنية».] قامت الدولة الفاطمية (نسبة إلي فاطمة الزهراء) في المغرب ثم مصر منتسبة إلي «اسماعيل» ابن الإمام جعفر الصادق، و كانت قد مات في حياة الصادق (عليه السلام). و الاسماعيلية ينفون ذلك. و منهم من يقول إن أباه ادعي موته اتقاء لأذي أبي جعفر المنصور له. و في أواخر القرن، كان عبدالله بن ميمون القداح (198) من أتباع الخطابية، ينشر دعوة لنفسه بالبلاد. فأجابه حمدان بن الأشعث - قرمط - ثم مات القداح، فخلفه أبناؤه و دعوا لأنفسهم باعتبار أنهم من ولد عقيل. ثم هرب أحفاده إلي المغرب في أفريقية. و بجهدهم أو جهد (منصور اليمن - ابن حوشب - 266) في بلاد المغرب ظهر عبيدالله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية سنة 298 لتبقي دولة عظمي حتي سنة 567. فتحت جيوشها فسطاط مصر في 17 شعبان سنة 358 (969 - 7 - 7) . و في ليلة الفتح وضع جوهر الصقلي قائد الجيش حجر الأساس لمدينة القاهرة. و تم بناؤها في رمضان سنة 371. افتتح الأزهر للصلاة في الشهر ذاته و هو يوافق يونيو - يوليو سنة 972. و في صفر سنة 365 عقد القاضي ابوعلي الحسن بن النعمان أول حلقاته في الجامع الأزهر، فكان أول مدرس فيه - فدرس للناس

مختصر أبيه في فقه آل البيت (عليهم السلام). و في سنة 366 عين أبوعلي بن النعمان قاضيا للقضاة. فعرفت مصر هذه الوظيفة لأول مرة. هكذا نشأ الأزهر معهدا شيعيا. ثم صار جامعة لكل علوم الإسلام. و هكذا نشرت الدولة الفاطمية ألوية الإسلام و علوم الشيعة في مصر و الشام و الحجاز و وسط آسيا، و أقامت مدينه القاهرة، و أنشأت الجامع الأزهر، و خطب لها في مكة و المدينة علي المنابر. [ صفحه 371] و في سنة 450 خطب لها الخطباء علي منابر بغداد مدة عام تقريبا. [129] . و عليها خرجت طائفة الدروز التي ألهت «الحاكم بأمر الله» فقاتلهم المصريون فهربوا إلي الشام سنة 408. أما «الحاكم بأمر الله» فقد شاركت في قتله أخته «ست الملك» لاضطهاده رعيته و فساد آرائه - كما قيل. و كانت أمها جارية رومية قبطية من سراري الخليفة العزيز بالله. و كان التسامح الديني من تقاليد هذه الدولة حتي صار حديث التاريخ. و لقد عين العزيز بالله أرسانيوس، و أريسطيس، «خالي ست الملك» بطريقين للأسكندرية و لبيت المقدس. فقوي نفوذ النصاري في الدولة. و كان وزيره يعقوب بن كلس يهوديا اسلم. و هو الذي نظم التدريس في الأزهر. [130] . أما الاسماعيلية في المشرق، فعلا نجمهم علي يد الحسن بن الصباح. و قد أمضي [ صفحه 372] سنوات بمصر اتصل في إبانها بالخليفة المستنصر، فدعا له بعد إذ عاد إلي إقليم فارس. ثم دعا من بعده لابنه نزار. و في سنة 1483 استولي علي قلعة آلموت. ثم اشتد ساعده باصفهان. و سيطر الحسن بن الصباح بأساليب السياسة العادية و غير العادية علي أقاليم كبيرة في فارس. فقتل أتباعه الوزير نظام

الملك (485 - 408) - منشئ المدرسة النظامية في بغداد [131] - و في سنة 500 قتلوا الوزير فخرالدين كما قتلوا من فقهائها الشافعية المشهورين: أباالمظفر الخجندي سنة 496، و تلميذه أباجعفر المشاط سنة 498، و أباالمحاسن ابن إسماعيل الروياني سنة 502. و كان يقول: «لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها». و لا مراء في أن الخلاف بين الاسماعيلية و بين المدرسة النظامية راجع إلي الخصومة الشديدة التي تتبدي في الصحيفة 67 من كتاب «سياسة نامه» الذي يدين بوجوده «لنظام الملك»، و فيها وجوب الطعن في «الروافض» و وصفهم بأنهم مارقون عن الدين. و لما صار الحسن بن الصباح داعي الدعاة للنزارية الفاطمية، أبي أن يدعي الإمامة، حتي توفي سنة 518. فخلفه آخرون؛ انتسب واحد منهم إلي نسل «نزار» الفاطمي... [132] . [ صفحه 373] و في سنة 654 استولي هولاكو علي معاقلهم فقصدوا إلي الشام و الهند. و في الشام حالفوا الرهبان الصليبيين فترة، و خالفوا صلاح الدين فترة، و دخل أتباعهم خيمته في عسكره و طعنوه بخناجرهم. و منهم الفدائيون الذين قتلوا أمير طرابلس الصليبي (الكونت ريمون). و يمتاز الاسماعيلية بالتنظيم و الدعاية السريين. و أنهم يطورون أمورهم. و من التطور، و مراعاة مقتضي الحال، وجد التباين في تعاليمهم من وقت لآخر، لكن الأصل الأصيل عندهم هو أن الإمام المعصوم من نسل محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق. و عندهم أن من قام بالطهارة و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و الولاية، لكنه عصي الإمام، فطاعته غير مقبولة. [133] . و هم يذهبون إلي أن لكل ظاهر «باطنا»، و أن تأويل الباطن من عند الله، اختص به علي بن أبي طالب. و من

ذلك يقولون بمشاركة علي للنبي. و يستدلون بقصة موسي مع الرجل الصالح، في «سورة الكهف». و يفسرون القرآن بطريقة خاصة. و يقولون إن نور [ صفحه 374] الله حل بالإمام. و من تعاليمهم ما تأثر بفلسفات الأقدمين. و للشيعة الاسماعيلية في العصور الحديثة مواقف مشهورة في الدفاع عن الإسلام و نشره. كانت الدولة الفاطمية أكبر دول العالم، قوة عسكرية و فكرية، في العصور الوسطي. تتمثل فيها وحده المسلمين و سماحة الدين. [134] . و فيها أثبتت وحدة القاعدة القانونية في الأمة، بل وحدة الدين في المذاهب، اقتدارها علي أن تجمع المسلمين في دولة واحدة، هي أعظم الدول حضارة في القارات المعروفة في ذلك الزمان، عاصمتها مصر - القاهرة، و جامعتها الأزهر. سعد فيها المسلمون و المسيحيون و اليهود و الذميون، حتي غزاها من الداخل انقسام شعوبها، و قيام إمارات شتي، وسفه الوزراء، و ضعف الخلفاء. [ صفحه 375] و أغري غزو شعوبها أنفسهم في داخلها، بانقسامهم و تفككهم، الصليبين، ليقوموا بالغزو الخارجي. و صدهم المسلمون مرات، حتي إذا ادلهم الخطب، استعانت الدولة الشيعية في مصر بالدولة السنية في دمشق و علي رأسها السلطان نورالدين محمود (569) استاذ صلاح الدين (589) ليثبت أهل مصر و الشام أن الإسلام واحد و إن اختلفت المذاهب. و لما وحد صلاح الدين إمارات المسلمين في بضع سنين من الموصل إلي حلب و دمشق و القاهرة، استقام له المحور القوي، فنهد للقاء الصليبيين. و نصره الله في حطين. و هذا درس في الوحدة مطلوب إلي المسلمين أن يتدارسوه. و المجتمع الإسلامي يمتاز علي المجتمعات المعاصرة بأنه مجتمع ديني الاساس بأطوار تاريخه و طبيعته، و بأن تعاليم القرآن و السنة هي غذاؤه

اليومي، و هواؤه النقي، الذي يتنفسه المسلمون: العائلة فيه محكومة بقوانين دينية و تقاليد إسلامية، في الزواج و الطلاق و الأبوة و البنوة و النفقة و الحضانة و سائر علاقات الأسرة. و الفرد فيه واقف بين يدي الله علي مدار ساعات النهار و زلفا من الليل. و المجتمع كله مفروض عليه - فرض وجوب - و الفرد مفروض عليه - فرض كفاية - أن يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر... أي يتكافل في دفع كل خروج علي الدين. بهذا صار الحفاظ علي الإسلام و قيمه مسؤولية قانونية و عامة، و أصبح التمييز بين الحلال و الحرام حجر الأساس في المجتمع، و في علاقات الأفراد و الأسرة. و أمسي لزاما علي كل دولة إسلامية أن تتأخي أواخي الدين، و هي تنظر إلي المصالح المادية و السياسية، لها، و الناس. و لقد بقي الأمر كذلك طوال القرون العشرة التي كانت فيها الدول الإسلامية مستقلة، تتعلم علومها الحضارة الغربية، حتي إذا اضمحلت، ران الظلام السياسي و الركود الاقتصادي علي القلوب. فانتقلت شمس الحضارة من الشرق إلي الغرب في [ صفحه 376] أوربا، و بدأت العصور الحديثة و حضارتها الأوربية في الظهور، منذ ختام القرن الخامس عشر للميلاد. و لم يكن مصادفة، و إنما كان لزاما للتحلل و التقاطع و التخاذل، أن يبدأ طرد العرب - في ذلك القرن - من اسبانيا، و أن تكون محاولات طردهم معاصرة للثورات الدينية في المسيحية، و للإرهاب الديني في دولها، و أن يكون نصيب المسلمين من هذا الإرهاب فوق ما يتصور البشر، من العذاب و التقتيل و التحريق و التنصير، بل قتل من يتنصر بدعوي عدم الإخلاص في التنصر!! و في ظلمات

الجهالة و التخلف بهرت المقهورين حضارة أوربا، فلم تبق لهم ذاتهم، و لم يصيروا أوربيين، و عجزوا عن صد الغزو الأوربي، في حين قدر آباؤهم علي دفع الغزو الصليبي لأنهم كانوا أقرب إلي القيم الإسلامية. و تلاحق التدهور حتي بداية النهضة الحديثة للمسلمين... حتي إذا أخذت الشعوب الإسلامية بأسباب العلم، نظرت إلي داخلها تلتمس القوة من ذاتها. فاستشعرت حقائق القوة في طاقاتها. و عادت تلتمس الأسباب في صميم حضارتها، و في تمسكها بعقيدتها، التي اشتقت منها منهجها العلمي؛ و هو الذي صار «المنهج العلمي العالمي» الذي نقلته عنها أوربا منذ القرون الوسطي. [135] . و التاريخ معلم كبير. و أول علومه؛ أن كثيرا من صفحاته تتكرر، و أنه خطاب مستمر، مفتوح السجل لكل ذي بصر. و يعلمنا التاريخ أن الوحدة هي التي تصنع النصر - سواء أكانت وحدة شاملة، كمثل ما كان الأمر في الصدر الأول، أم كانت وحدة للحرب، كما صنع الخليفة الفاطمي «الشيعي»، و سلطان دمشق «السني»، لرد غائلة الصليبيين، أم وحدة القوي كما صنع صلاح الدين ليعيد بيت المقدس للمسلمين.... [ صفحه 377] كل أولئك صيحات عالية بأن الإسلام واحد، كلما جد خطر. و أن الاعتصام به مصدر الظفر. و لما اتحد العرب، و تجمع المسلمون، بعد العاشر من رمضان سنة 1393 حني العالم هاماته لهم. و يعلمنا التاريخ أن أمتنا بلغت شأوها كلما استمسكت بعقيدتها و التزمت تعاليمها، و أن التقصير في جانب الدين كالخرق الواسع، لا يبقي علي شي ء مهما يجمع الناس. و المصلحون الاجتماعيون و السياسيون، الذين تعمي أبصارهم عن هذه الحقيقة، يضربون في حديد بارد. إنه تعالي يقول: «و يريكم آياته. فأي آيات الله تنكرون. أفلم يسيروا في الأرض

فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم». و العمل بالقيم الإسلامية داع إلي سن القانون الاسلامي الموحد لتجري أمور المسلمين، و معاملاتهم كافة، و عقوباتهم إذا انحرفوا عن الجادة، علي نسق واحد، يسموبهم في معاملاتهم كل يوم، و يمنع الجريمة، و ينتشل الهلكي من أعماق السجون. و يصون المعني التعبدي في كل حكم فقهي، و الجانب الإنساني، في كل حكم جنائي. و لا جرم إن تقنين الفقه الإسلامي و العمل به هو الإسهام الأعظم منا في الحضارة المعاصرة، و بأعظم ما نملك من القيم، و نحن قادرون علي ذلك باستعمال مصادرنا العلمية. و أين من شرع الله قوانين البشر! و الخطر اليوم يملأ الأفق: لقد تطرقت إلي الأرض العربية و الإسلامية الدعوات الإلحادية و المادية المدمرة للقوي الذاتية للأمة، يؤيدها امتياز القوة، و المال المبذول بسخاء، و التكنولوجيا التي تخطف البصر، و رفع الاستعمار الفكري و السياسي و الاقتصادي أعلامه عالية! [ صفحه 378] و ما التبشير الديني، الأوربي و الأمريكي في بلدان المسلمين إلا وجه واحد من وجوهه. أما الغزو الداخلي للاسلام - من داخل مجتمعات المسلمين - فشر مكانا و أنفذ أثرا. و الأوربيون - من كل معسكر - يسلطون علينا أسبابه. إن التاريخ يعلمنا أن وجود إسرائيل في الأرض التي كان الصليبيون يحتلونها - بالذات - ليس مصادفة؛ بل هو فكر غربي قديم... أقام بالفعل، و بالقوة، دولة صليبية، - هنا - في هذا المكان. و إنما يكرر الفكر الأوربي نفسه، بعد سبعة قرون، بغرس دولة «يهودية»، بدلا من دولة «صليبية»، في القلب، من جسم العرب. و إسرائيل دولة «دينية» مد الغرب إلينا بها مخالبه. و الدفاع ضد دولة دينية يهودية يقتضي

الالتجاء إلي القيم الدينية، و إن لم يستلزم إقامة دولة دينية. و لقد طالما استعملت أوربا الأسلحة الدينية ضد المسلمين. [136] . إن الحضارة الأوربية - من شرق و غرب - تحسب حساب «قوة عربية إسلامية» في مفترق الطرق إلي العالم، و في ملتقي المصالح للدول العظمي، و أنها قوة بشرية هائلة. يزخر ارضها بأسباب القوة، و تنصع صحاريها بالمعادن، فتضي ء في صور الأقمار الصناعية الدائرة حول الأرض ليل نهار. و الحضارة الأوربية تحسب حسابا آخر لاجتماع المسلمين علي «المبادئ» التي [ صفحه 379] سادوا بها كلما اجتمعوا. و الحضارة الأوربية، أو الأمريكية، و إن كانت ذات منهاج وثني، راسخة الجذور في الفكر الديني. [137] لقد كانت «الحرب الصليبية» صيحة التجمع لشعوب أوربا المشتتة في العصور الوسطي، و كانت معاهدة «و ستفاليا» راسمة حدود دولها الحالية من (1648)... و هي نصفان: نصف «ديني» لإرضاء البروتستانت - و نصف سياسي «لمنع الحروب الدينية» - بعد منح حرية العقيدة. و هذه المجتمعات و الدول في أوروبا و أمريكا، آخذة الآن في العودة إلي الدين، و إلي التكتل تحت أسماء أو صور مختلفة، كالحلف أو المعاهدة أو المنظمة أو المؤتمر؛ و منها السياسي و الاقتصادي و العلمي و الاجتماعي. فما أحرانا أن نتحد علي تسامح الإسلام و قيمه العالية... لنبقي و نقوي. ألا و «إن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.