الامام الصادق عليه السلام من المهد الي اللحد

اشارة

عنوان و نام پديدآور : الامام الصادق عليه السلام من المهد الي اللحد/ تاليف: محمد كاظم القزويني

مشخصات نشر : قم: دارالانصار، 1429ق.=1387ش.

مشخصات ظاهري : 735ص.

وضعيت فهرست نويسي : در انتظار فهرستنويسي (اطلاعات ثبت)

شماره كتابشناسي ملي : 1668243

ص: 1

اشارة

الامام الصادق عليه السلام من المهد الي اللحد

تاليف: محمد كاظم القزويني

ص: 2

الاهداء

بسم الله الرحمن الرحيم الي سيدنا و مولانا و امامنا الحجة ابن الحسن المهدي (صلوات الله و سلامه عليه، و عجل الله تعالي فرجه). اهدي هذا الكتاب الذي هو جهد المقل، و بضاعة مزجاة، و كلي أمل و رجاء ان تقع هذه الخدمة الضئيلة موقع الرضا و القبول من الله تعالي و من أوليائه المقربين. و ان يكون نبراسا يزداد به المهتدون هدي، و مشعلا وهاجا ينير الدرب لرواد الحق و الحقيقة، و يكشف لهم الغطاء عن الأبصار كي يلتحقوا بركب السعداء، و قوافل المتقين، ان ربي قريب مجيب. محمدكاظم القزويني

ص: 3

صلاة و دعاء

اللهم صل علي جعفر بن محمد الصادق، خازن العلم، الداعي اليك بالحق، النور المبين. اللهم و كما جعلته معدن كلامك و وحيك، و خازن علمك، و لسان توحيدك، و ولي امرك، و مستحفظ دينك، فصل عليه أفضل ما صليت علي أحد من أصفيائك و حججك، انك حميد مجيد (1) . الامام الحسن العسكري (عليه السلام)

ص: 4


1- 1. مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ص 403.

ديباجه الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم «الحمد لله و سلام علي عباده الذين اصطفي» (1) .

«يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين» (2) .

«اولئك هم خير البرية» (3)

«التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر و الحافظون لحدود الله» (4) .

«قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدي فانما يهتدي لنفسه و من ضل فانما يضل عليها و ما أنا عليكم بوكيل» (5) .

«أفمن يهدي الي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي الا أن يهدي» (6) .

«قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون» (7) .

صدق الله العلي العظيم

ص: 5


1- 2. سورة النمل آية 59.
2- 3. سورة التوبة آية 119.
3- 4. سورة البينة آية 7.
4- 5. سورة التوبة آية 112.
5- 6. سورة يونس آية 108.
6- 7. سورة يونس آية 35.
7- 8. سورة الزمر آية 9.

ص: 6

مقدمة التحقيق

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا يفوق حمد الحامدين، و الصلاة علي سيد الانبياء و المرسلين محمد و آله الطيبين الطاهرين، و لعنة الله علي أعدائهم أجمعين. و بعد: فقد كان المرحوم السيد الوالد (رضوان الله عليه) يرغب في الكتابة عن المعصومين الأربعة عشر (صلوات الله عليهم أجمعين) من المهد الي اللحد... و حالفه التوفيق الالهي فكتب: 1- الامام علي (عليه السلام) من المهد الي اللحد 2- فاطمةالزهراء (عليهاالسلام) من المهد الي اللحد و بدأ بالكتابة عن الامام الحسين (عليه السلام). و بعد فترة رأي في المنام من يقول له: يقول لك الامام الرضا (عليه السلام): أكتب عن الائمة الأربعة من بعدي. و فرح السيد الوالد (طيب الله ثره) بهذه الرؤيد، حيث شملته عناية الامام الرضا من خلال الأمر بالكتابة عن الأئمة الأربعة من بعده.... و نظرا لأهمية موضوع الامام المهدي المنتظر (عجل الله تعالي فرجه الشريف) فقد بدأ بالكتابة عنه (عليه السلام) ثم كتب عن الأئمة الثلاثة الذين قبله... و صدرت الكتب الأربعة كالتالي: 1- الامام الجواد (عليه السلام) من المهد الي اللحد. 2- الامام الهادي (عليه السلام) من المهد الي اللحد. 3- الامام العسكري (عليه السلام) من المهد الي اللحد. 4- الامام المهدي (عليه السلام) من المهد الي الظهور. و بعدها فكر في تأليف موسوعة واسعة حول الامام الصادق (عليه السلام)

ص: 7

يجمع فيها ما يتعلق بحياة الامام و أصحابه و أحاديثه و انجازاته و ما يدور في هذا الفلك. و بالفعل... بدأ العمل و قضي السنوات السبع الأخيرة من حياته المباركة في تأليف هذه الموسوعة و اعدادها. و الي جانبها كتب كتاب: زينب الكبري (عليهاالسلام) من المهد الي اللحد. و موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) موسوعة واسعة جدا، و يقدر أن تبلغ ستين مجلدا، و قد صدرت منها - حتي الآن - ما يقارب الثلاثين مجلدا، و سوف تصدر المجلدات الأخري تباعا ان شاء الله تعالي. و هذا الكتاب هو خلاصة منتخبة من الأجزاء الثلاثة الاولي من موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) مع تنقيحات و اضافات كثيرة... و خاصة ما يتعلق بوفاته (عليه السلام) حيث لم يطبع من قبل. و يتحدث هذا الكتاب عن حياة الامام الصادق (عليه السلام) و سيرته الطيبة و مكارم اخلاقه و معجزاته و علومه و امامته و ظروفه و حكام زمانه و الظروف الصعبة التي مر بها (عليه السلام) في حكومة الطغاة الغاصبين... و غيرها من الامور التي لا يستغني عنها كل من أراد التعرف علي هذا الامام العظيم و حياته المباركة. و قد جاء هذا الكتاب ليسد الفراغ المتعلق بالامام الصادق (عليه السلام) في سلسلة: من المهد الي اللحد. و اسأل الله تعالي أن يتغمد السيد الوالد المؤلف برحمته الواسعة و أن يتفضل عليه بالمزيد من الدرجات ببركة مؤلفاته النافعة و كتبه القيمة... انه ذوالفضل العظيم.

كتبه ولده:

محمدابراهيم الموحد القزويني

في 20 / 4 / 1428 ه

ص: 8

المقدمة

كان البشر - قبل الاسلام - يعيش في متاهات الجهل و البؤس، و الانحراف و الشذوذ الفكري و العقائدي، و التجرد عن العاطفة البشرية و اصول الانسانية و غيرها. قال الله تعالي: «و اذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا و كنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها» (1) . و من الناحية الأخلاقية قال تعالي عنهم: «و اذا بشر أحدهم بالأنثي ظل وجهه مسودا و هو كظيم - يتواري من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه علي هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون» (2) .

«و اذا الموؤدة سئلت - بأي ذنب قتلت» (3) .

«و اذكروا اذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أنت يتخطفكم الناس» (4) .

ص: 9


1- 9. سورة آل عمران آية 103. [
2- 10. سورة النحل آية 58 و 59.
3- 11. سورة التكوير آية 8 و 9.
4- 12. سورة الأنفال آية 26.

و قال الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «و أهل الأرض - يومئذ - ملل متفرقة و أهواء منتشرة، و طرائق متشتتة، بين مشبه لله في خلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير الي غيره...». (1) . و قال (سلام الله عليه): «أرسله علي حين فترة من الرسل (2) ، و طول هجعة من الأمم، و اعتزام من الفتن و انتشار من الامور، و تلفظ من الحروب (3) ، و الدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، علي حين اصفرار من ورقها، و اياس من ثمرها، و غوار من مائها (4) ، قد درست منار الهدي (5) ، و ظهرت أعلام الردي، فهي متجهمة لأهلها (6) ، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة (7) و طعامها الجيفة (8) و شعارها الخوف (9) ، و دثارها السيف (10) ...» (11) .

ص: 10


1- 13. نهج البلاغة / الخطبة الأولي.
2- 14. الفترة: ما بين كل رسولين من رسل الله (عزوجل) من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة (أقرب الموارد).
3- 15. تلظ: تلهب (أقرب الموارد).
4- 16. غار الماء: ذهب في الارض (مجمع البحرين).
5- 17. المنار: علم الطريق (مجمع البحرين). أي انطمست و ذهبت أعلام الهداية و الحق، و ظهرت اعلام الضلال و الباطل.
6- 18. تجهمه: استقبله بوجه كريه. (أقرب الموارد).
7- 19. اي ليست لها نتيجة سوي الفتنة.
8- 20. اشارة الي أن أكل العرب... كان الميتة من شدة الاضطرار.
9- 21. الشعار: ما تحت الدثار من اللباس و هو ما يلي شعر الجسد (مجمع البحرين).
10- 22. الدثار: الذي هو فوق الشعار.(مجمع البحرين).
11- 23. نهج البلاغة / الخطبة 89.

و قال (عليه السلام) أيضا: «ان الله بعث محمدا (صلي الله عليه و آله) نذيرا للعالمين، و أمينا علي التنزيل، و انتم - معشر العرب - علي شر دين،و في شر دار، منيخون (1) بين حجارة خشن و حيات صم (2) ، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب (3) ، و تسفكون دماءكم، و تقطعون ارحامكم، الأصنام فيكم منصوبة،و الآثام بكم معصوبة (4) ...» (5) . و قالت السيدة فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) - في خطبتها و حديثها عن العهد الجاهلي -: «فرأي [النبي] الأمم فرقا في أديانها، عكفا علي نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها.... و كنتم علي شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، و نهزة الطامع، و قبسة العجلان و موطي ء الأقدام، تشربون الطرق، و تقتاتون القد و الورق، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم...» (6) . و لما بعث الله نبيه محمدا (صلي الله عليه و آله) و دعا الناس الي الله كان جزاؤه من ذلك المجتمع أن قالوا له: «تبا لك! شاعر! ساحر! مجنون! كذاب، كهن». «قالوا انما أنت مفتر» (7) .

ص: 11


1- 24. أناخ فلان بالمكان: أقام به (أقرب الموارد).
2- 25. الحيات الصم التي لا تنزجر بالأصوات و كأنها لا تسمع، و هي اخبثها.
3- 26. الجشب: الطعام الغليظ الخشن و الذي ليس معه ادام (مجمع البحرين).
4- 27. عصب الشي ء: شده (أقرب الموارد) و معصوبة: أي مشدودة.
5- 28. نهج البلاغة / الخطبة 26.
6- 29. بحارالأنوار: ج 43.
7- 30. سورة النحل آية 101.

«ان تتبعون الا رجلا مسحورا» (1) . «هل هذا الا بشر مثلكم أفتأتون السحر و انتم تبصرون» (2) . «بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر» (3) . «و يقولون أءنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون» (4) «ام يقولون شاعر نتربص به ريب المنون» (5) . «و قالوا ما هذا الا افك مفتري و قال الذين كفروا للحق لما جاءهم ان هذا الا سحر مبين» (6) . «و قال الكافرون هذا ساحر كذاب» (7) . «ءالقي عليه الذكر من بيننا بل هو كذاب أشر» (8) . «و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون» (9) . و حاربوا رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) محاربة علنية يوم كان في مكة، و رموه بالحجارة، و كتبوا الصحيفة القاطعة ضد بني هاشم، و اضطر سيدنا أبوطالب (عليه السلام) الي أن ينقل عائلته مع النبي و عائلته الي الشعب - و هو أرض في طريق الجبل - و قضوا هناك ثلاث سنين في جو

ص: 12


1- 31. سورة الاسراء آية 47.
2- 32. سورة الأنبياء آية 3.
3- 33. سورة الأنبياء آية 5.
4- 34. سورة الصافات آية 36.
5- 35. سورة الطور آية 30.
6- 36. سورة سبأ آية 43.
7- 37. سورة (ص) آية 4.
8- 38. سورة القمر آية 25.
9- 39. سورة الحجر آية 6.

من الارهاب و أزمة المواد الغذائية، يتوقعون هجوم العدو عليهم ليلا و نهارا. و في خلال ثلاث عشرة سنة آمن به من أهل مكة عدد لا يتجاوز مائة و خمسين انسانا، و كانوا يعانون من الضرب و انواع التعذيب الوحشي من المشركين حتي مات بعضهم تحت التعذيب. و بعد ذلك اتفقت كلمة المشركين و أجمعوا علي قتل رسول الله (صلي الله عليه و آله) فخرج من مكة الي الغار بعد أن أبات خليفته الامام عليا (عليه السلام) علي فراشه، و منه هاجر الي المدينة، و عاش في المدينة المنورة عشر سنوات، تتخللها حروب و غزوات، من غزوة بدر الي احد، الي الأحزاب الي حنين الي خيبر، الي مؤتة، الي تبوك و غيرها. فهناك الضحايا و الأرامل و الأيتام، و الآهات و الدموع و المصائب. و في خلال ثلاث و عشرين سنة انتشر الاسلام، فأسلم من أسلم، و آمن من آمن، حتي وصل الأمر الي: «و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا» (1) . و في خلال هذه الفترة - و هي من المبعث الي الهجرة، الي الوفاة و الشهادة - كانت حياة رسول الله (صلي الله عليه و آله) كلها مشاكل و مآسي، حتي قال: «ما اوذي نبي مثل ما اوذيت» (2) . و نزلت الآيات تخبر بوفاة النبي (صلي الله عليه و آله) و انقلاب الأمور بعده:

ص: 13


1- 40. سورة النصر آية 2.
2- 41. بحارالأنوار: ج 39 ص 56.

«انك ميت و انهم ميتون» (1) . «و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم» (2) . و كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يخبر عن مستقبل أمته فيقول: «... و ستفترق أمتي من بعدي علي ثلاث و سبعين فرقة، فرقة في الجنة و الباقون في النار» (3) . و يخبر عن موقف بعض أصحابه في يوم القيامة. (4) . ثم ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) خاتم النبيين فلا نبي بعده الي يوم القيامة، و شريعته آخر الشرائع فلا شريعة بعدها، و القرآن آخر الكتب السماوية، فلا كتاب بعده. اذن، فلابد و أن تكون شريعته مكملة لجميع الشرائع، و أن يبين الرسول لامته كل ما يحتاجون اليه من الأحكام الشرعية - من الواجبات و المحرمات و غيرهما - و يوضح لهم كل ما أشكل عليهم من المسائل العقائدية سواء في التوحيد أم النبوة أم المعاد أم غير ذلك. فهل ساعدته الظروف علي ذلك؟ و هل أمهله الأجل لأداء هذا الواجب الالهي كما ينبغي؟ ان كتب الحديث تشهد أن كثيرا من الصحابة كانوا يجهلون الأحكام الشرعية التي يكثر الابتلاء بها و الحاجة اليها، فهل أهمل النبي بيان تلك الأحكام؟

ص: 14


1- 42. سورة الزمر آية 30.
2- 43. سورة آل عمران آية 144.
3- 44. سنذكر مصادر هذين الحديثين في المستقبل القريب.
4- 45. سنذكر مصادر هذين الحديثين في المستقبل القريب.

أم بينها لأمته فنسوها؟ في الاجابة علي هذا السؤال نقول: كلا، لم يقصر رسول الله (صلي الله عليه و آله) في تبليغ الأحكام الاسلامية طرفة عين، و لكن الأحكام الاسلامية لم تكن آحادا أو عشرات أو مئات أو الوفا، بل أكثر و أكثر. اننا نجد أن الشريعة الاسلامية - التي تنحصر في العقائد و الأحكام - تحتاج الي عشرات الآلاف من الأحاديث، لكثرة أبواب الفقه، و تعدد فروعها. فكيف يمكن للرسول (صلي الله عليه و آله) - في تلك المدة القصيرة من هجرته الي وفاته - أن ينشر هذه التعاليم و الأحكام في مجتمع تغلب عليه الأمية، و نسبة الذين يعرفون الكتابة فيهم ضئيلة جدا؟ فهل كان من الممكن لهم ضبط تلك الأحاديث و الأحكام؟ و هل يمكن الاعتماد علي القوة الحافظة و الذاكرة في هذه الأمور العظيمة مع احتمال السهو و النسيان، و الزيادة و النقصان؟! و بعد هذا كله: هل يجوز للرسول الله (صلي الله عليه و آله) - و هو أعقل أهل العالم، و أكثرهم حكمة و حنكة - أن يترك بلا وال و لا راع و لا امام، و بلا خليفة يقوم مقامه، و قائد يليق بالقيادة قد توفرت فيه جميع المؤهلات، و لوازم القيادة؟!! أما كان الشرع و العقل و التاريخ يعاتب النبي الأقدس لو لم يعين من بعده من يقوم بأمور المسلمين؟!! أيها القارئ الكريم: ان الاجابة علي هذه الأسئلة تتطلب تأليف مجلدات عديدة من الكتب لاستيعاب البحث و التحقيق. و قد قام علماؤنا (رضوان الله عليهم) - خلال القرون الماضية الي

ص: 15

يومنا هذا - بأداء هذه المسؤولية، و ألفوا تآليف كثيرة قيمة بشتي اللغات، و مختلف المستويات، و بذلوا جهودا عظيمة في استقراء المصادر التاريخية، و جمع المواد، و تنظيم الأدلة و الشواهد، بحيث ما ترك الأول للآخر (1) . و نحن - هنا رعاية للاختصار نشير الي بعض تلك الأدلة و البراهين بصورة موجزة... فنقول:

آية الانذار

قد يصعب استيعاب أقوال المفسرين و المحدثين و المؤرخين الذين ذكروا هذه الواقعة لكثرة أسانيدها، و تواتر طرقها. و اليك الواقعة: لما نزلت آية: «و انذر عشيرتك الاقربين» (2) في مبدأ الدعوة الاسلامية، و قبل انتشار الاسلام في مكة، دعا رسول الله (صلي الله عليه و آله) عشيرته الي دار عمه أبي طالب، و هم يومئذ أربعون رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصون، و فيهم أعمامه: أبوطالب، و حمزة، و العباس، و أبولهب، و في آخر ذلك الاجتماع قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «يا بني عبدالمطلب! اني - والله - ما أعلم شابا في العرب، جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا و الآخرة؛ و قد أمرني الله أن أدعوكم اليه، فأيكم يؤازرني علي أمري هذا؟ فقال علي (و كان أحدثهم سنا): «أنا، يا نبي الله! أكون وزيرك

ص: 16


1- 46. و علي سبيل المثال راجع الجزء الأول من موسوعة الغدير لشيخنا العلامة الأميني (رضوان الله عليه).
2- 47. سورة الشعراء آية 214.

عليه». فأخذ رسول الله برقبة علي و قال: «ان هذا أخي، و وصيي، و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و أطيعوا». فقام القول يضحكون، و يقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع (1) .

النصوص علي خلفاء الرسول

و بعد الهجرة الي المدينة كان الرسول الأقدس (صلي الله عليه و آله) ينتهز كل فرصة لينص علي خلفائه من بعده، و خاصة الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام). فالنصوص الواردة عن الرسول حول الخلافة قد تجاوزت حدود التواتر، هذا عدا ما ضيعته السياسات الحاكمة، أو حرفته الأيدي الأثيمة، أو فسرته القلوب المريضة. و تلك النصوص بعضها مجلمة، و بعضها مفصلة، و بعضها خاصة، و بعضها عامة، و نذكر - هنا - بعض تلك النصوص: 1- «الأئمة بعدي اثناعشر كلهم من قريش» (2) . 2- «بعدي اثناعشر خليفة كلهم من بني هاشم» (3) . 3- «اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله و عترتي» (4) .

ص: 17


1- 48. راجع كتاب الغدير: ج 1.
2- 49. بحارالأنوار: ج 1.
3- 50. ينابيع المودة: ص 358 و ص 445.
4- 51. بحارالأنوار: ج 36 ص 331.

4- «من كنت مولاه فعلي مولاه» (1) . 5- «أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي الا أنه لا نبي بعدي» (2) . 6- «... ان وصيي و الخليفة من بعدي: علي بن أبي طالب، و بعده سبطاي: الحسن و الحسين، تتلوه تسعة من صلب الحسين أئمة أبرار... اذا مضي الحسين فابنه: علي، فاذا مضي علي فابنه: محمد، فاذا مضي محمد فابنه: جعفر، فاذا مضي جعفر فابنه: موسي، فاذا مضي موسي فابنه: علي، فاذا مضي علي فابنه: محمد، فاذا مضي محمد فابنه: علي، فاذا مضي علي فابنه: الحسن فاذا مضي الحسن فبعده ابنه الحجة بن الحسن بن علي...» (3) . و ملخص القول: أن النبي (صلي الله عليه و آله) عين عليا اماما و خليفة و وصيا و وليا للمؤمنين من بعده، و نص علي امامة الأئمة الأحد عشر من ولده، و خلافتهم و وصايتهم و ولايتهم، كما و قد نص كل واحد منهم علي الذي بعده، أو علي كل من يأتي بعده.

الانقلاب علي الأعقاب

و لا تسأل عما جري بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله) من انقلاب الامور، فان الامام عليا كان مشغولا بتغسيل رسول الله، و اذا بجماعة يجتمعون في مكان في المدينة يقال له: سقيفة بني ساعدة، و بعد محاورات

ص: 18


1- 52. بحارالأنوار: ج 37 ص 108 باب أخبار الغدير.
2- 53. بحارالأنوار: ج 37 ص 255 باب أخبار المنزلة.
3- 54. بحارالأنوار: ج 36 ص 284.

و محاولات مريبة نصبوا أبابكر خليفة و بايعوه، و كانت بيعته فلتة - كما قال عمر بن الخطاب - (1) ، و دامت حكومته سنتين و شهورا، و عقد ابوبكر الخلافة من بعده لعمر بن الخطاب، و كانت أيام حكمه عشر سنوات و شهورا ثم جعلها عمر شوري - حسب التفاصيل المذكورة في كتب التاريخ - فصار عثمان خليفة. و قام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع، و صدرت منه أعمال منافية لصميم الاسلام، من التلاعب بأموال المسلمين، و تسفير أجلاء الصحابة، و ضربهم و شتمهم و تسليط الفساق علي رقاب المسلمين، و الاستهانة بالمقدسات الاسلامية، و غير ذلك - مما هو مذكور في محله -. و ثار المسلمون ضد عثمان، و سخطوا عليه، و كانت عائشة و طلحة و غيرهما في طليعة المحرضين علي قتل عثمان، و كانت عائشة تشبه عثمان برجل يهودي اسمه: نعثل، فتقول: اقتلوا نعثلا قتله الله. الي أن قتل عثمان، و كانت ايام حكومته اثني عشرة سنة و شهورا. و في خلال خمسة و عشرين سنة - و هي أيام حكومة هؤلاء الثلاثة - كان خليفة رسول الله الشرعي: الامام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) مسلوب الامكانيات، ممنوعا من التصرف في شؤون الاسلام و المسلمين.

عودة السلطة الي صاحبها الشرعي

و بعد مقتل عثمان... اجتمع المسلمون و الحوا و اصروا علي الامام علي (عليه السلام) للموافقة علي تولي السلطة و استلام زمام المسلمين،

ص: 19


1- 55. بحارالأنوار: ج 30 ص 443.

و لكن الامام كان يعلم ان وراء هذه البيعة ماوراءها، من الفتن و المحن و المآسي و المشاكل، بسبب تصرفات من سبقه من الحكام، و لهذا رفض السلطة قائلا: «دعوني و التمسوا غيري». و لكن المسلمين ازدحموا عليه و وضعوه أمام المسؤولية الشرعية، فوافق - في النهاية - علي قبول السلطة و تسلم مهام القيادة الاسلامية... و قال - في الخطبة الشقشقية -: «أما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لولا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما اخذ الله علي العلماء ان لا يقاروا علي كظة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها علي غاربها و لسقيت آخرها بكأس أولها، و لألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز» (1) . و أخيرا... بايعه المسلمون في جو من الحرية و الديمقراطية الكاملة، دون عنف أو اكراه أو اجبار، أو تهديد بالاحراق بالنار.!!!

الناكثون و القاسطون و المارقون

و لم يمض شهر من البيعة حتي ثارث عائشة - و معها طلحة و الزبير و عبدالله بن الزبير، و نظراؤهم - ضد الامام، و ذهبوا الي البصرة يطالبون بدم عثمان - مع العلم أن عثمان قتل في المدينة لا في البصرة، و بينهما مسافة طويلة - و نكثوا البيعة و خرجوا من طاعة الامام أميرالمؤمنين (عليه السلام). و سار الامام من المدينة المنورة الي البصرة ليمنعهم من الفساد و الافساد، و بذل (عليه السلام) محاولات و جهودا كثيرة كي لا تقع الحرب،

ص: 20


1- 56. نهج البلاغة / الخطبة الشقشقية.

و لكن العصابة كانت مصرة علي القتال، فاشتعلت نار الحرب أول الظهر، و خمدت قبل المغرب بانتصار الامام و علي الأرض خمسة و عشرون ألف قتيل من الطرفين!! و انقضت فترة قصيرة، و قامت الفئة الباغية و علي رأسها معاوية بن آكلة الأكباد ضد الامام (عليه السلام) و اقامت المجزرة الكبري في منطقة صفين و كانت ضحاياها تسعين ألف قتيل أو أكثر!! ثم أعقبتها واقعة النهروان، و قتل فيها أربعة آلاف!! و أخيرا قتلوا الامام عليه أميرالمؤمنين (عليه السلام) في محراب مسجد الكوفة و هو في حال الصلاة.

مؤامرات الظالمين ضد الأئمة الطاهرين

و كما تقدم الكلام: لقد نص الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) علي امامة سبطيه: الامام الحسن و الامام الحسين (عليهماالسلام). و لكن معاوية - الذي حارب الامام عليا - حارب الامام الحسن أيضا. و تخاذل بعض أصحاب الامام الحسن عنه، فاضطر الي ايقاف القتال و الموافقة علي الهدنة حقنا لدماء من بقي من أصحابه و أهل بيته. و عاش الامام الحسن (عليه السلام) في جو من الاضطهاد و الضغط حتي دس معاوية اليه السم، و مضي (عليه السلام) مسموما مظلوما. و عاش الامام الحسين (عليه السلام) بعد أخيه عشر سنوات - و هي البقية من سنوات حكم معاوية - حتي مات معاوية و استولي ابنه يزيد علي منصة الحكم. و استنكف المسلمون أن يدخلوا تحت قيادة رجل متجاهر بالفجور،

ص: 21

و أن يعترفوا بخلافة رجل قضي حياته بين كؤوس الخمور، و اللعب بالقمار و الكلاب و القردة، و من كان يحمل عقيدة الالحاد و الزندقة. فطلب أهل الكوفة من الامام الحسين (عليه السلام) أن يتوجه الي العراق لينقذهم من ذلك النظام الفاسد، و وعدوه بأن ينصروه، فلما لبي طلبهم، و قصد بلادهم انقلبوا ضده، و كانت تلك الفاجعة العظمي المروعة التي لا تبرد حرارتها الي يوم يبعثون و حرقتها لا تفارق القلوب. و كانت الحكومة الأموية في تلك السنوات في أوج قدرتها، و قمة شموخها، و لم يستطع أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام) أن يمارسوا أعمالهم القيادية في تلك العصور السوداء. فالامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) - الذي هو الامام الرابع المنصوص عليه بالامامة من جده رسول الله (صلي الله عليه و آله) - لم يستطع أن يعلن خلافته و امامته، خوفا من تكرار فاجعة كربلاء، و لم يؤمن بامامته الا عدد قليل. و فارق الامام زين العابدين الحياة، و قام ابنه الامام محمد الباقر (عليه السلام) بأعباء الامامة، و استطاع أن ينشر شيئا من الأحكام الشرعية في مجتمعة، لأن الظروف كانت قد تبدلت نسبيا. و فارق الامام الباقر (عليه السلام) الحياة، و نهض ابنه الامام الجعفر الصادق (عليه السلام) بمسؤولية الامامة. و هذا الكتاب يدور حول هذه الشخصية الالهية. و أسأل الله تعالي أن يتفضل علي بالتوفيق للقيام ببعض الواجب و أداء بعض المسؤولية.. و أن يسددني للصواب بمنه و كرمه. انه ولي التوفيق و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 22

الهدف من تأليف الكتاب

دواعي كثيرة، و أهداف عديدة كانت وراء تأليف هذا الكتاب. منها: نشر الشريعة الاسلامية، خدمة للدين، و تقربا الي الله تعالي. و منها: نفض الغبار، و رفع الستار عن بعض جوابن شخصية الامام الصادق (عليه السلام) و عرض بعض عطائه العلمي و الديني للملأ الاسلامي، و انجازاته المقدسة في سبيل نشر المعارف، و تهذيب النفوس، و تطهير القلوب، و ايجاد الوعي فيمن يقبل كلامه من المسلمين. و منها: جلب انتباه الطائفة الشيعية للتعرف علي عظمة امام من أئمتهم الطاهرين، الذي لم تساعده الظروف لنشر علومه و بث معارفه سوي فترة قصيرة من حياته المباركة، لم تتأت هذه الفرصة لغيره من الأئمة (عليهم السلام) فكان هذا العطاء. و كل محتويات هذا الكتاب هو بعض ما ورد حول شخصيته العظيمة، و وعته القلوب، و تناقلته الألسن و الأقلام، و حدث به المحدثون، و سجلته الكتب و المصنفات. و من القطع و اليقين ان الذي فاتنا من تلك الآثار أكثر و أكثر بكثير من

ص: 23

هذا الموجود، فأن أصحاب الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ألفوا آلاف الكتب في خلال معاصرتهم للأئمة، و لكن لم يبق منها الا واحد بالمائة، و البقية تلفت. فكيف لو كانت الامكانات تحت تصرف الامام الصادق (عليه السلام) و كانت الظروف مؤاتية، و الموانع مرتفعة و كانت تلك الكتب المصنفة موجودة؟ اذن، لملأ العالم الاسلامي بالحقائق و العلوم الدينية و المعارف الاسلامية و القيم الاخلاقية، و كانت ثروة فكرية علمية و كنوز ثقافية لا يمكن تثمينها و لا تقييمها. و اذن لكان العالم - اليوم - غير ما هو عليه - الآن - مائة بالمائة، و كانت الحياة علي خلاف حياتنا اليوم من جميع النواحي و الحيثيات. و انما خصصت الطائفة الشيعية بالذكر دون غيرها، لأن بقية المذاهب لم و لن يتفقوا معنا في بعض معتقداتنا، و لعل بعضهم لا يعجبه وجودنا في هذا الكون! فمنذ اربعة عشر قرنا و الهجمات تتوالي علي الشيعة و التشيع من الحكومات و الشعوب بالسيوف و الأقلام. و منذ اربعة عشر قرنا و الشيعة تقدم ضحايا بالنفوس و الأموال. و في خلال هذه القرون أريقت أطنان الدماء، و زهقت ملايين النفوس، و هتكت آلاف الأعراض، و شردت مئات الآلاف من العوائل، ترافقها الآهات و الدموع، و الارامل و الأيتام. و أما أموالهم - المنقولة و غير المنقولة - التي سلبت و نهبت، و صودرت و سرقت، أو هدمت و دمرت فلا يعلم عددها و قيمتها الا الله تعالي.

ص: 24

و من المستحيل احصاء تلك الفجائع و الجرائم، بسبب تباعد الزمان، و وقوعها في مقاطع عديدة من الدهر. و منذ أربعة عشر قرنا و الشيعة تدافع عن معتقداتها بالمنطق السليم، و الحجة الواضحة و البرهان القاطع، و لكن أين الأذن الواعية؟!! و اين الضمائر الحرة؟ و أين من يستمع الي نداء ضميره و وجدانه؟! و في خلال هذه القرون يعلم الله تعالي كم كتب و ألف من مجلدات الكتب، و المصنفات العديدة - بشتي اللغات - ضد الشيعة و التشيع، سوي المحاضرات و الخطب التي ألقيت في صلوات الجمعة و غيرها، و كلها كذب و تهم بلا حساب. و بعض تلك الكتب لم تكتف بالاساءة الي هذه الطائفة المضطهدة فقط، بل و حتي أئمة أهل البيت - آل رسول الله (صلي الله عليه و آله) من أولهم الي آخرهم - لم تسلم ساحاتهم من تلك الأقلام التائهة. لقد انقضي قرنان و نصف من يوم وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آله) الي يوم وفاة الامام الحادي عشر من أئمة أهل البيت: الامام الحسن العسكري (عليه السلام) و الأمويون و العباسيون كانوا يبذلون كل ما يملكون من جهود و طاقات ضد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) و ضد من ينتمي اليهم بنسب أو عقيدة. بدء من السقيفة و توابعها و مضاعفاتها... الي الاضطرابات الداخلية و الحروب الطاحنة التي أججها المناوئون ضد خليفة رسول الله: الامام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام)...، الي المجاوز التي قام بها الأمويون، و المذابح التي أقامها العباسيون و لطخوا بها صفحات التاريخ... و الي يومك هذا. و هذا يعكس مدي المعاناة، و قسوة الحكم، و زيغ الحكام و...

ص: 25

و لم يمت أحد من الأئمة الطاهرين حتف أنفه، و انما قتلوا بالسيف أو السم. سوي ما كانوا يعانونه من الاهانة و السب و الشتم، و تشويه السمعة، و المس بكراماتهم، و الحط من درجاتهم، و استعمال الضغط و الكبت عليهم في حدود الامكان. و في هذا القرن - بالذات - تضاعفت تلك الكتب المعادية، و أكثرها تستقي من كتب الأوائل، و كل واحد - من اولئك الكتاب - كالغريق يتشبث بكل حشيش، و احتجاجاتهم و استدلالاتهم كلها مغالطة و تهريج أو ادعاءات باطلة، منبعثة عن الأهواء يتجلي فيها احقاق الباطل، و ابطال الحق. من العلم أن تلك الشبهات التي يحتجون بها قد أجاب عنها علماء الشيعة منذ قرون، و زيفوها بأقوي دليل مقبول عند الطرفين، و لكن القوم لهم آذان لا يسمعون بها، و أعين لا يبصرون بها، و قلوب لا يفقهون بها «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم». و حينما نريد أن ندافع عن أنفسنا بتزييف تلك الشبهات، أو الاجابة، علي تلك الانتقادات نواجه جماعة تطلب منا السكوت و ضبط النفس!! رعاية للوحدة و الاتحاد!! و يعتبرون دفاعنا - عن مذهبنا - نعرات طائفية، و نشاطات رجعية! الوحدة التي لم تتحقق منذ اربعة عشر قرنا يريد هؤلاء تحقيقها!! و أني لهم! و كيف؟! و المضحك المبكي أنه يطلبون من الشيعة - فقط - المحافظة علي الوحدة المفقودة، و أما غير الشيعة فلهم حرية القلم و حرية الكلام، و الحرية

ص: 26

لجميع التصرفات، و ليسوا مأمورين بالمحافظة علي الوحدة!! و بين كل فترة و أخري تقوم جهات حكومية و غيرها بطبع أو تجديد تلك الكتب المسمومة بكميات هائلة، و ترجمتها الي شتي اللغات، و توزيعها بصورة مجانية. و لا يسمح للكتب الشيعية أن تطبع أو تنشر، أو تدخل في بعض البلاد، و في نفس الوقت يسمح للكتب الفاسدة - أمثال الكتب الشيوعية أو الوجودية أو النشرات المسيحية المضادة للاسلام و المسلمين - أن تدخل البلاد الاسلامية. و في بعض البلاد اسلامية يسمح ببناء الكنائس، و لا يسمح ببناء المساجد للشيعة. و من المؤسف أن بعض الشيعة تسلب منهم غيرة الدين و حمية المذهب، و شرف الاستقلال، و فضيلة الأصالة، و يذوبون في أجواء السياسة، و يثبتون عدم التزامهم بالمبدأ، و اللامبالاة بالمعتقدات و المقدسات. هؤلاء - والله - أضر علي الطائفة الشيعية من كل فرقة و جماعة. و بعض الجماعات الشيعية و الحزبية - المجهولة الاتجاه - قد أثبتوا انسلاخهم عن المذهب، و تجردهم عن القيم، و عدم احتوائهم للشخصية، و كأنهم شعب بلا قائد و لا قيادة، و لا اسس دينية، و لا مبادي ء مذهبية. و منذ عشرات السنين و نحن نعيش أفكارهم و آراءهم و اتجاهاتهم. فهم يتذرعون باسم الدين لضرب الدين، و يخدعون الشبان البسطاء بدعاياتهم الشيطانية، و يوقعونهم في الفخ، و سرعان ما تنكشف الحقيقة لبعض اولئك السذج، فيتخلصون من تلك الألعاب، و يهربون من ذلك الجحيم، و يتضح لهم أن هناك مصالح شخصية، و نوايا خلف الستار،

ص: 27

و الباطن يخالف الظاهر مائة بالمائة. فلا تقوي و لا ورع و لا دين و لا عقيدة، و انما اتجاهات مشبوهة. فالمنكرات المنتشرة في البلاد - من الخمور الي السفور الي القمار الي الربا الي الزنا الي غيرها من المعاصي - لا مانع منها و لا رادع، و لا مكافحة و لا محاربة ضدها. و الشي ء الوحيد الذي يجب القضاء عليه عندهم - بكل وسيلة - هي الشعائر الحسينية من المجالس و مواكب العزاء و اللطم علي الصدور، و زيارة المشاهد المشرفة، و كل ما يتعلق بهذه الامور. و بعضهم يستسلمون للأباطيل، و ينخدعون بالأضاليل بسبب الفراغ العقائدي الموجود عندهم، فتكون النتيجة أنهم يقدمون أنفسهم كبش الفداء، فداء لكراسي أسيادهم. وا أسفاه عليهم!! و لا أسف علي الانسان الذي يسلم زمامه الي الآخرين يسيرونه كيف شاؤوا، فكأن ذلك المسكين بهيمة لا حول لها و لا قوة، و لا كرامة، و لا تملك لنفسها نفعا و لا ضرا!! و كأنه موجود لا يحق له أن يبدي رأيه، أو يحكم عقله. و كأنه عبد مملوك لا يقدر علي شي ء. هذا منطق تلك الجماعات الذي رأيناه و سمعناه منذ عشرات السنين. و قبل أربعين سنة قمت - في العراق - باصدار نشرة فصلية، و سميتها (صوت الشيعة) و ذكرت فيها بعض الجوانب الايجابية للمذهب الشيعي، و لكن - مع كل الأسف - طلبوا مني أن أغير اسم النشرة من (صوت الشيعة) الي (صوت الاسلام)!! و كأن صوت الشيعة ليس من صوت الاسلام، و كأن مبادي ء المذهب

ص: 28

الشيعي تناقض المبادي ء الاسلامية!! قالوا: هذا الاسم حساس! يولد الحساسية!! لا أعلم ما معني الحساس و الحساسية؟! و ما المقصود منهما؟ أليس التشيع من صميم الاسلام أيها الشيعة؟ أليس رسول الله (صلي الله عليه و آله) هو غارس بذرة التشيع؟ أليس هو القائل - للامام علي بن أبي طالب (عليه السلام): «أنت و شيعتك» و «هذا و شيعته» مما هو مذكور في محله؟ فلماذا لم يراع رسول الله (صلي الله عليه و آله) هذه الحساسية؟! و لماذا صدرت منه النعرات الطائفية؟! و لماذا قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله»؟ و لماذا صدرت المئات من الأحاديث عن الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) في فضائل الامام علي و الأئمة من ولده (عليهم السلام)؟ فهل يعتبر - هذا الكلام - تطرفا من الرسول الأقدس؟! و لماذا لم يراع النبي الأطهر (صلي الله عليه و آله) الوحدة؟! فان كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) طائفيا! (حسب مقياسكم) فلماذا لا نتأسي بالرسول، والله تعالي يقول: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (1) . نعم.. أيها القارئ الكريم... هذه مآسي و آلام، و مصائب ابتليت بها الشيعة من الداخل و الخارج، فكيف يرجي للطائفة الشيعية السيادة

ص: 29


1- 57. سورة الاحزاب آية 21.

و الاستقلال، و المجد و الكرامة، و هؤلاء بعض أبنائها؟؟ يقول الشاعر: قومي هم قتلوا أميم أخي فاذا رميت يصيبني سهمي و يقول الآخر: و لكل شي ء آفة من جنسه حتي الحديد سطا عليه المبرد

ص: 30

منهجنا في هذا الكتاب

اشارة

لقد اخترنا في تأليف هذا الكتاب - بعد ذكر المقدمة - أن نفتتح كلامنا بحديث الثقلين، ثم نذكر بعض الأحاديث المروية حول امامة الأئمة الاثني عشر اثباتا لامامة الامام الصادق (عليه السلام) المنصوصة (العامة و الخاصة)، ثم نتحدث عن مولده و والديه ما يختص به (عليه السلام) و ذكر زوجاته و أولاده و بناته. ثم نتحدث عن جوانب من حياة الامام: العائلية و التربوية، و الاقتصادية، و العلمية و الاجتماعية، و الأخلاقية، و عصره و مذهبه و مدرسته و المعاجز التي صدرت منه. ثم استلامه مقاليد الامامة، و قيامه بأعباء القيادة الدينية، و حياته السياسية و موقفه تجاه الحكومتين: الأموية و العباسية. و هكذا موقفه مع الغلاة و الزنادقة و المذاهب المعاصرة له، و ما هناك من صراعات عقائدية، و غيرها. و نختم الكتاب بذكر شهادته (عليه السلام) و وفاته مظلوما صابرا محتسبا مسموما بأمر المنصور الدوانيقي اللعين، و نذكر مدفنه و ما جري عليه قبره الشريف من الهدم و التخريب بمعاول النواصب الظالمين.

ص: 31

كلمة في البداية

اشاره

أيها القاري ء الحر الذكي! نحن علي أعتاب رحلة طويلة، دينية، عقائدية، روحية، علمية، ثقافية، فقهية و لا يخلو طريقنا من شي ء من صعوبة الادراك، و وعورة الفكر. و قبل كل شي ء: يجب أن تعلم بأنني لست خرافيا، و لا ساذجا عاريا عن الفهم، و لا أعتنق ما لا يصدقه العقل السليم، و لا أركض وراء الترهات و الأفكار التائهة. اذن، فلا تحمل كلامي علي الغلو و المبالغة، و لا تعتبرني شاذا في الفكر و العقيدة. اننا نسير في رحاب شخصية مظلومة، مجهولة القدر، في ذروة الشرف و قمة العظمة، و لكن لم يسلم شرفه الرفيع من الأذي. فالرجاء أن تمهلني في هذه المسيرة، و لا تعجل، و لا تحكم علي حكما غيابيا قبل أن نكمل هذه الرحلة. هل صادفت في حياتك أن وقفت علي ساحل بحر؟

ص: 32

تنظر الي البحر، فلا تعلم أبعاده - طولا و عرضا و عمقا - و لا محتوياته، و لا الكائنات التي تعيش في غمرات مياهه، و الا العجائب، من المخلوقات التي تسبح في طبقاته. فأنت تري البحر و لا تري باطنه و لا تعرف عن أعماقه شيئا، و حتي اذا أتيحت لك غواصة فركبتها، و نزلت الي كيلومترات تحت الماء، فأنت لا تزال تغوص في جزء صغير من البحر، فهل تستطيع أن تستوعب البحر كله بما فيه؟! و هل رأيت - نفسك - يوما أمام جبل شاهق، قد ارتفع فوق السحب؟ فهل تعلم ما احتواه ذلك الجبل من المعادن و المواد، من قمته الي تخوم الأرض؟ فاذا قيل لك: ان في هذا الجبل عشرات المعادن، و آلاف المواد المتنوعة المودعة في بطون التراب، فهل تصدق هذا القول أم تكذبه؟ فكيف تصدق و كيف تكذب؟ من الممكن أن تصدق هذا القول لأنه ممكن غير مستحيل، و كيف تكذب شيئا لا تعلمه؟ فهل الجهل بلا شي ء يصير سببا لانكار الشي ء؟ ان الشخصية - الذي يعتبر هذا الكتاب مرآة تنعكس عليها نبذة مما يتعلق بها من أعمال و صفات، و رواة و أقوال، و حكم و أحكام، و حوادث و أحداث - من نوادر الدهر، و من أعاجيب الكون. فلا نبالغ اذا قلنا: بأننا لا نجد في تراجم عظماء التاريخ هذه الكمية من المزايا سوي في عظماء أهل البيت النبوي الطاهر (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 33

و لا نحيد عن الواقع اذا اعتبرنا هذه الشخصية اعجوبة من أعاجيب القدرة الالهية، تلك القدرة التي تجلت في تطهير نفوس اولياء الله، و تزكية أرواحهم و تنزيهها عن الشوائب. و هل من الممكن أن يبلغ البشر هذه المراتب من الفضائل و الكلمات؟!! و هل يمكن أن تكون روح الانسان أطهر من ماء السماء، و أصفي من المرأة؟ و هل يمكن للبشر أن يحمل قلبا واسعا تتلاطم فيه أمواج الصبر و الايمان، و النصيحة و حب الخير للآخرين، و يتفايض علما و فهما و حكمة، و ينشرح صدره، و لا يضيق أمام المكاره و الشدائد التي تشيب النواصي؟ انه الامام جعفر الصادق، بن الامام محمد الباقر، بن الامام زين العابدين، بن الامام الحسين السبط، بن الامام علي بن أبي طالب و ابن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بنت سيد الأنبياء و المرسلين: محمد (صلي الله عليه و عليهم أجمعين). هذا نسبه الأصيل العريق الأطهر الأرفع الأقدس.

ما هي الرابطة بيننا و بين الامام الصادق

و قبل أن ندخل في البحث عن ترجمة حياته نقول: ان الامام الصادق (عليه السلام) عالم من علماء هذه الأمة، و عظيم من عظماء التاريخ، و شخصية لامعة في سماء المعرفة. فهل ترتبط حياتنا الدينية العقائدية الفقهية بهذا الرجل؟ و هل يجب علينا أن نعترف به؟

ص: 34

و هل هناك حكم يفرض علينا و يلزمنا - شرعا - الاقتداء به؟ و هل يجوز لنا أن نتجاهله و لا نقبل أقواله و أحكامه؟ ان العلماء - في هذا العالم - كثيرون، و العظماء في التاريخ يصعب استيعابهم و لكن لا صلة بيننا و بينهم، و لا رابط يربطنا بهم، و لا علاقة لنا بهم، و لا نستفيد من مطالعة تراجمهم سوي الاطلاع علي القضايا التاريخية فحسب، و ليست أقوالهم و أفعالهم علينا حجة من الله تعالي، و لا يجب علينا الخضوع لأحكامهم، و قبول أقوالهم. فهل الامام الصادق هكذا؟ للاجابة علي هذه الأسئلة نقول: نحن بصفتنا مسلمين، و من أمة محمد رسول الله (صلي الله عليه و آله) و نعتقد بالقرآن الكريم بأنه كتاب سماوي نزل من عند الله تعالي علي رسوله الأعظم (صلي الله عليه و آله) لابد لنا من اطاعة اوامره و الانقياد لأحكامه، و التسليم لأقواله، حتي ولو خالفت أحكامه أهواءنا و آراءنا، و اتجاهاتنا، و رغباتنا و تعصباتنا، و الا فكيف نكون مسلمين مؤمنين؟!! يقول تعالي: «فلا و ربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما» (1) .و معني الآية - والله العالم - أن الله تعالي أقسم بذاته المقدسة أن طائفة من الناس لا يكونون مؤمنين، و لا يدخلون في الايمان حتي يجعلوك حكما فيما تنازعوا و تخاصموا، ثم لا يجدوا في قلوبهم ضيقا او شكا فيما قلته و حكمت به، و يسلموا و ينقادوا لحكمك، اذعانا لك و خضوعا لأمرك.

ص: 35


1- 58. سورة النساء آية 65.

و هناك آيات أخري تؤكد علي هذه الحقيقة و هي وجوب طاعة الرسول و أن طاعته طاعة الله تعالي. اقرأ هذه الآيات البينات: «من يطع الرسول فقد أطاع الله» (1) . «انما كان قول المؤمنين اذا دعوا الي الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا» (2) . «و ان تطيعوا الله و رسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا» (3) . «قل أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، فان تولوا فانما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم و ان تطيعوه تهتدوا» (4) . «و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار» (5) . «و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم» (6) . «و من يطع الله و الرسوله و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون» (7) . «و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض.... و يطيعون الله و رسوله أولئك سير حمهم الله» (8) . «و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما» (9) .

ص: 36


1- 59. سورة النساء آية 80.
2- 60. سورة النور آية 51.
3- 61. سورة الحجرات آية 14.
4- 62. سورة النور آية 54.
5- 63. سورة النساء آية 13.
6- 64. سورة النساء آية 69.
7- 65. سورة النور آية 52.
8- 66. سورة التوبة آية 71.
9- 67. سورة الأحزاب آية 71.

«قل أطيعوا الله و الرسول» (1) . «و أطيعوا الله و الرسول لعلكم ترحمون» (2) «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» (3) . «و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و احذروا» (4) . «و أطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا» (5) . هذه نبذة من الآيات القرآنية التي توجب علينا اطاعة الرسول التي هي اطاعة الله تعالي. و الآن نسأل: هل أمر رسول الله (صلي الله عليه و آله) امته أن يأخذوا معالم دينهم - سواء في اصول الدين أم فروعه - من أحد من بعده؟ الجواب: نعم، ان حكمة رسول الله (صلي الله عليه و آله) فرضت عليه أن يبذل كل اهتمامه و جهوده من أجل تأمين الحياة الدينية لأمته، و ضمان حفظها من كل شذوذ و انحراف. و من أولي سنوات بعثته الي آخر يوم - بل آخر ساعة من حياته - كان يركز علي هذا الموضوع، لأهميته القصوي. كيف لا؟ و النبي أحرص الناس علي بقاء الدين الاسلامي و امتداده الي أن ينقرض البشر، و هو الدين الذي بذل النبي لأجله كل غال و نفيس

ص: 37


1- 68. سورة آل عمران آية 32.
2- 69. سورة آل عمران آية 132.
3- 70. سورة النساء آية 59.
4- 71. سورة المائدة آية 92.
5- 72. سورة الأنفال آية 46.

عنده، و تحمل كل أذي و مكروه. و الأحاديث المروية عنه (صلوات الله عليه و آله و سلم) في هذا المجال كثيرة جدا، قد تجاوزت حدود التواتر. و نقتطف حديثا واحدا من أحاديثه (صلوات الله عليه و آله) و نتحدث حوله لعلنا نستطيع - ان شاء الله - أن نؤدي بعض ما يتطلبه هذا الحديث الشريف من الشرح و التفصيل... و اليك الحديث:

ص: 38

حديث الثقلين

اشاره

يعتبر حديث الثقلين من أصح الأحاديث المروية عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أكثرها تواترا في كتب الفريقين، و قد ورد ذكر هذا الحديث في مؤلفات أهل السنة بكمية و كيفية لا نظير لهما، مع اختلاف يسير في كلمات الحديث، مثل قوله (صلي الله عليه و آله): «اني تارك» أو: «تركت» أو: «اني خلقت» أو في بقية كلمات الحديث من الاجمال و التفصيل.. و اليك احدي نصوص الحديث: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله و عترتي: أهل بيتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، ألا و انهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض» (1) .

ص: 39


1- 73. يعتبر هذا الحديث - عند الشيعة - من الأحاديث الصحيحة التي لا مجال للشك فيها، و قد روي هذا الحديث عن ائمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في مؤلفات الشيعة بطرق كثيرة. و أما مصادر هذا الحديث من طرق العامة - سواء في الصحاح أم في كتب الحديث أم اللغة أم التفسير و غيرها - فكثيرة جدا. و قد جمع ما تيسر له من تلك المصادر المرحوم البحاثة العظيم العلامة الجليل السيد ميرحامد حسين الهندي (طاب ثراه) في موسوعته: عبقات الأنوار، و قد لخص تلك المصادر و ترجمها صديقنا المفضال العلامة السيد علي الميلاني في مجلدين.

لماذا رواة حديث الثقلين قليلون؟

ان من القطع و اليقين أن الذين سمعوا هذا الكلام من رسول الله (صلي الله عليه و آله) هم عشرات الآلاف من الصحابة، لأن رسول الله (صلي الله عليه و آله) لم يكتف بذكر هذه الكلمات مرة واحدة في حياته بل ذكرها كرات و مرات، و في مواطن عديدة و مناسبات متعددة، كلما اقتضته الحكمة النبوية، لأن الموضوع في غاية الأهمية القصوي، فهو يعتبر الشريان الحيوي للاسلام، و القلب النابض - الذي لا يسكن - للشريعة الغراء، لأنه مصدر التشريع الاسلامي، و المنبع العذب لأحكام الله تعالي و ضمان للأمة الاسلامية من كل ضلال و انحراف و اختلاف الي يوم يبعثون، و امتداد للحق المحض لا يشوبه باطل أبدا، و ارشاد الي الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه و لا انحراف. بعد هذه المقدمة الموجزة... نتساءل: لماذا يروي هذا الحديث عن نيف و ثلاثين صحابيا فقط و فقط؟ بينما كان المفروض أن يروي عن آلاف الصحابة؟! لماذا تقلص هذا العدد، و هبط من الآلاف الي العشرات؟!! الاجابة علي هذا السؤال تتطلب منا الدخول في حديث مر المذاق، مزعج، مؤسف، يملأ القلب قيحا، و يشحن الصدر غيظا! نعم، كان المفروض أن يروي أكثر الصحانة هذا الحديث و عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية الصحيحة الأخري، و لكن السلطة الحاكمة حكمت علي رواة تلك الأحاديث بالسجن و الخنق و الدفن، و الاعلام الجماعي.

ص: 40

و كل ما روي من الأحاديث النبوية الصحيحة - التي تناقلتها الألسن و الاقلام - انما هي من الأحاديث الهاربة من ذلك الحكم القاسي، أو المتحدية للنظام، أو التي ظهرت بعد زوال تلك الموانع و بعد أن مات أكثر حملة أحاديث الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله و سلم) من الصحابة، أو قتلوا في الحروب و المغازي، و بعد أن فقد أكثر المنابع و المصادر. و اليك شيئا من التفصيل: من الواضح الذي لا شك فيه أن الرسول الصادق المصدق (صلي الله عليه و آله و سلم) نوه بفضائل أهل بيته المعصومين (عليهم السلام) و أشاد بمزاياهم و خصائصهم - التي لا يشاركهم فيها سواهم - طيلة نيف و عشرين سنة. و يمكن أن نقول: ان بدء هذا الأمر كان من يوم نزول قوله تعالي: «و أنذر عشيرتك الأقربين» يوم جمع النبي (صلي الله عليه و آله) بني عبدمناف في وليمة... كما تقدم الكلام عنه. و من ذلك اليوم الي آخر يوم من حياته المباركة كان (صلي الله عليه و آله) ينتهز كل فرصة تمر به لذكر فضائل أهل بيته المعصومين، من النصوص علي امامتهم و خلافتهم و ولايتهم، و ذكر مآثرهم و مناقبهم عند الله تعالي، و الدرجات العلي في الآخرة. فاجتمعت عند المسلمين مواد عظيمة من تلك الأحاديث التي سمعوها أكثر من مرة. و تلك الأحاديث تنقسم الي قسمين: الأول: الأحاديث التي تتطرق الي عظمة أهل البيت (عليهم السلام) بصورة عامة، كقوله (صلي الله عليه و آله): «أهل بيتي» أو «عترتي» أو «ذريتي» أو «الأئمة من بعدي». الثاني: الأحاديث التي تصرح بفضائل كل واحد من أهل البيت

ص: 41

بصورة خاصة، كالأحاديث المروية عنه (صلي الله عليه و آله) في فضائل السيدة فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) و الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و الامام الحسن و الامام الحسين سيدي شباب أهل الجنة، و الأئمة الذين هم صلب الامام الحسين (عليهم السلام) و خاصة: الامام المهدي (عليه السلام) أو الأحاديث التي تتحدث عن الشفاعة في يوم القيامة، و غيرها. و من الطبيعي أن تلك الأحاديث أوجدت رصيدا عظيما لأهل البيت (عليهم السلام) في قلوب المسلمين رجالا و نساء. و بعد وفاة الرسول الأقدس (صلي الله عليه و آله) انقلبت الامور ضد أهل البيت، بدء من يوم السقيفة الي يومنا هذا، فان الحبل لا يزال ممدودا حتي هذه الساعة و ما بعدها و الي يوم يعلمه الله تعالي. و مما لا شك فيه: أن تلك الأحاديث كانت معيارا و مقياسا عند المسلمين، يعرفون بها الحق من الباطل، و لكن السلطة - يومذاك - أوجدت الذبذبة و التشويش و التشكيك في تلك المعايير و المقاييس، فاختلت عند الناس - الا من كان قلبه مطمئنا بالايمان - و ذلك بأساليب متنوعة، منها:

المنع من رواية الأحاديث النبوية

لقد صار الحكم بالمنع البات عن التحدث بأحاديث رسول الله (صلي الله عليه و آله) كما في (تذكرة الحفاظ) للذهبي، قال: ان الصديق [ابابكر] جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: «انكم تحدثون عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) أحاديث تختلفون فيها، و الناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله

ص: 42

شيئا، فمن سألكم فقولوا: «بيننا و بينكم كتاب الله» فاستحلوا حلاله، و حرموا حرامه» (1) . و انت تري أن قوله: «لا تحدثوا عن رسول الله شيئا» هو النهي عن عموم الأحاديث النبوية. و عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب، فقلت: يتقلب لشكوي (2) أو لشي ء بلغه، فلما أصبح قال: أي بنية هلمي بالأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها!!! (3) . هذا، بالرغم من الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) و التي تأمر برواية أحاديثه و تبليغها الي الآخرين، مثل قوله (صلي الله عليه و آله): «نضر الله امراءا سمع مقالتي فوعاها و أداها، فرب حامل فقه الي من هو أفقه منه...» (4) . و قوله: «مثل الذي يتعلم علما ثم لا يحدث به مثل رجل رزقه الله مالا فكنزه، فلم ينفق منه» (5) . و قوله: «من رغب عن سنتي فليس مني» (6) . و سار عمر بن الخطاب علي منهاج أبي بكر، و منع عن تدوين الحديث عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) فمنع اباهريرة و ابن مسعود و اباسعود و اباموسي الأشعري و حبس جماعة من أصحاب النبي منهم:

ص: 43


1- 74. تذكرة الحفاظ: ج 1 ص 3.
2- 75. أي لمرض أو علة.
3- 76. كنز العمال: ج 5 ص 237. البداية و النهاية. تذكرة الحفاظ: ج 1 ص 5.
4- 77. مسند أحمد: ج 1 ص 437 و سنن ابن ماجة: ج 1 ص 4.
5- 78. الجامع لأخلاق الراوي و السامع.
6- 79. الفقيه و المتفقه للخطيب: ج 1 ص 144.

ابوالدرداء و ابوذر و ابن مسعود، و قال لهم: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله، أو: ما هذا الحديث عن رسول الله؟ (1) . و خطب عمر بن الخطاب يوما فقال: ألا لا يبقين أحد عنده كتابا الا أتاني به فأري فيه رأيي، فظنوا أنه يريد النظر فيها ليقومها علي أمر لا يكون فيه اختلاف. فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار. (2) . و كتب الي الأمصار: من كان عنده شي ء فليمحه (3) . و تبع عثمان طريق سلفيه، قال محمود بن لبيد: «سمعت عثمان علي المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثا عن رسول الله لم اسمع به في عهد ابي بكر، و لا عهد عمر» (4) . و سار معاوية علي سيرة هؤلاء و لحقه الحجاج بن يوسف الثقفي!! و لو أردنا الدخول في هذا البحث، لطال بنا الكلام، و تجاوز حدود المقدمة، و لكننا نقول: بالله عليك! أليس من أعجب الأعاجيب، و أفظع الفجائع ان المدعين لخلافة رسول الله (صلي الله عليه و آله) يمنعون الناس عن نقل أقوال نبي الاسلام؟!! و هل بقيت كرامة لرسول الله و لأقواله و أوامره و نواهيه و أحكامه بعد هذا الحكم الجائر القاسي؟! اذن فما هي فائذة بعثة رسول الله اذا كانت أحاديثه و أقواله غير

ص: 44


1- 80. الالماع للقاضي عياض: ص 217 و تذكرة الحفاظ: ج 1 ص 7.
2- 81. طبقات ابن سعد: ج 5 ص 188. و الخطيب البغدادي في تقييد العلم.
3- 82. جامع بيان العلم لابن عبدالبر.
4- 83. طبقات ابن سعد: ج 2 ص 2 و مسند أحمد: ج 1 ص 2.

معترف بها؟! و ما هو المبرر من حرمان المسلمين من بركات تعاليم الرسول الأطهر؟! ان الذين قاموا بهذه الأعمال زعموا أن الأحاديث النبوية تشتبه بالقرآن الكريم، و يلتبس الأمر علي المسلمين، بحيث لا يفرقون بين القرآن و الحديث!! سبحان الله!! أما عرف رسول الله (صلي الله عليه و آله) هذا الخطر الذي يصطلدم بالقرآن؟ فلماذا حدث امته بتلك الأحاديث؟ و لماذا لم يحدث هذا الالتباس في حياة الرسول؟ أما كان المسلمون يقرؤون القرآن في عهد الرسول، و يسمعون حديثه؟ فهل التبس القرآن بالحديث؟ و اين قوله تعالي: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول» و قوله تعالي: «ما آتاكم الرسول فخذوه، و ما نهاكم عنه فانتهوا»؟ و هل القرآن و الحديث في مستوي واحد من البلاغة و الاسلوب و البيان؟!! أليس هناك فرق بين كلام الخالق و كلام المخلوق حتي يلتبس الكلامان علي الناس؟!! فليفرح الكفار و المشركون بهذا التعتيم علي معارف الاسلام. و ليصفق اليهود و النصاري سرورا و ابتهاجا بهذه الخسارة التي أصابت المسلمين، و حرمانهم من تلك الثروات الدينية و العلمية و الفكرية.!

ص: 45

خلاصة البحث حول حديث الثقلين

أيها القارئ الكريم: ان الامام جعفر الصادق (عليه السلام) هو أحد أفراد العترة النبوية الطاهرة التي جعلها رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أحد الثقلين و عدل القرآن، و لهذا فحديثه حديث رسول الله و طاعته طاعة رسول الله و مخالفته مخالفة لرسول الله و ولايته ولاية رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و لهذا يجب علينا - بصفتنا مسلمين و مؤمنين - أن نؤمن بامامة الامام الصادق (عليه السلام) و ولايته المفروضة من الله و رسوله. و كما أن الله تعالي جعل رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر، كذلك جعل الامام الصادق قدوة حسنة لكل مؤمن و مؤمنة يؤمن بالله و رسوله. اذن: يجب علينا ان نتعرف علي حياة هذا الامام العظيم و أن نتخذه قدوة لنا في الحياة لنسعد في الدنيا و الآخرة. و هكذا عرفت - أيها القارئ الكريم - الرابطة التي تربطنا بالامام الصادق (عليه السلام). و الآن... ننتقل الي ذكر بعض ما يتعلق بشخصيته الكريمة و حياته الشريفة.

ص: 46

كلمات عن شخصيته الكريمة

اشارة

1- قال الشيخ المفيد: (كان الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) - من بين اخوته - خليفة أبيه محمد بن علي (عليهماالسلام) و وصيه القائم بالامامة من بعده، و برز علي جماعتهم بالفضل، و كان أنبههم ذكرا، و أعظمهم قدرا، و أجلهم في العامة و الخاصة، و نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان و انتشر ذكره في البلدان و لم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، و لا لقي أحد منهم من أهل الآثار و نقلة الأخبار و لا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبدالله (عليه السلام) فان أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات - علي اختلافهم في الآراء و المقالات - فكانوا أربعة آلاف رجل، و كان له (عليه السلام) من الدلائل الواضحة في امامته ما بهرت القلوب، و أخرست المخالف عن الطعن فيها بالشبهات) (1) .

ص: 47


1- 84. الارشاد: ص 270.

2- و قال الشيخ الطبرسي: (كان أعلم أولاد رسول الله في زمانه بالاتفاق و أنبههم ذكرا و أعلاهم قدرا و أعظمهم مقاما عند العامة و الخاصة، و لم ينقل عن أحد من سائر العلوم ما نقل عنه، و أن اصحاب الحديث قد جمعوا أسامي الرواة عنه من الثقات علي اختلافهم في المقامات و الديانات فكانوا أربعة آلاف رجل) (1) . 3- و قال الشيخ الاربلي: (قال كمال الدين محمد بن طلحة (رحمه الله): هو من عظماء أهل البيت و ساداتهم (عليهم السلام)، ذو علوم جمة و عبادة موفورة، و أوراد متواصلة، و زهادة بينة، و تلاوة كثيرة، يتتبع معاني القرآن الكريم، و يستخرج من بحره جواهره، و يستنتج عجائبه، و يقسم أوقاته علي أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكر الآخرة، و استماع كلامه يزهد في الدنيا، و الاقتداء بهداه يورث الجنة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوة، و طهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرية الرسالة، نقل عنه الحديث و استفاد منه العلم جماعة من الأئمة و أعلامهم، مثل يحيي بن سعيد الأنصاري، و ابن جريح، و مالك بن أنس، و الثوري، و ابن عيينة و...) (2) . 4- و قال الشيخ مصطفي رشدي: (الامام جعفر الصادق (عليه السلام) كان فارس ميدان العلوم، غواص بحري المنطوق و المفهوم، نقل عنه أكثر الناس علي اختلاف مذاهبهم من العلوم ما سارت به الركبان، و انتشر ذكره في سائر الاقطار.

ص: 48


1- 85. اعلام الوري: ص 165، منه حليةالأبرار: ج 2 ص 145 و العوالم: ج 20 ص 102 ح 6.
2- 86. مطالب السئول: ص 81، منه كشف الغمة: ج 2 ص 154.

و البلدان، و قد جمع أسماء من يروي عنه فكانوا أربعة آلاف رجل) (1) . 5 - و في كتاب الموسوعة العربية الميسرة: (جعفر الصادق، أبوعبدالله (765 - 699) سادس أئمة الشيعة الامامية، ولد بالمدينة و عاش زمنا طويلا في العراق، عاصر الدولة الأموية و العباسية و لكنه سلم من اضطهادهما [!!!]، ساق الاسماعيلية الامامة من بعده الي ابنه اسماعيل المتوفي في حياته، و ساقها الاثنا عشرية الي ابنه موسي.... كان عالما حكيما زاهدا متبحرا في علوم الدين، و مما عرف من مبادئة أن الأصل في الأشياء الاباحة حتي يرد فيها نهي، و أنه يجوز نقل الحديث بالمعني... و كان استاذا لجابر بن حيان) (2) . 6 و قي مناقب آل أبي طالب: ينقل عن الصادق (عليه السلام) من العلوم ما لا ينقل عن أحد، و قد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقاة علي اختلافهم في الآراء و المقالات، و كانوا أربعة آلاف رجل. بيان ذلك: أن ابن عقدة مصنف كتاب الرجال لأبي عبدالله (عليه السلام) عددهم فيه. و كان حفص بن غياث اذا حدث عنه قال: حدثني خير الجعافر جعفر بن محمد. و كان علي بن غراب يقول: حدثني الصادق جعفر بن محمد (3) .

ص: 49


1- 87. الروضة الندية - للشيخ مصطفي رشدي المتوفي بعد سنة 1309 ه: ص 12. ط الخيرية بمصر، منه احقاق الحق: ج 12 ص 218.
2- 88. الموسوعة العربية الميسرة: ج 1 ص 634.
3- 89. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 247. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 27.

و فيه أيضا عن حلية أبي نعيم: ان جعفر الصادق (عليه السلام) حدث عنه من الأئمة و الأعلام: مالك بن أنس، و شعبة بن الحجاج، و سفيان الثوري، و ابن جريح، و عبدالله بن عمرو، و روح بن القاسم، و سفيان بن عيينة، و سليمان بن بلال، و اسماعيل بن جعفر، و حاتم بن اسماعيل، و عبدالعزيز بن المختار، و وهب (1) .بن خالد، و ابراهيم بن طحان (2) و آخرين قال: و أخرج عنه مسلم في صحيحه محتجا بحديثه (3) . و فيه أيضا: و قال غيره: و روي عنه مالك: و الشافعي، و الحسن بن صالح، و أبوأيوب السجستاني (4) ، و عمرو بن دينار، و أحمد بن حنبل. و قال مالك بن أنس: ما رأت عين و لا سمعت اذن و لا خطر علي قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلا و علما و عبادة و ورعا (5) .

ص: 50


1- 90. في بحارالأنوار: وهيب.
2- 91. في بحارالأنوار: طهمان.
3- 92. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 247. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 27.
4- 93. في بحارالأنوار: السختياني.
5- 94. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 248. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 28.

النصوص العامة علي امامته

اشاره

النصوص: جمع نص، و هو الكلام الذي لا يقبل التأويل، و النص في اصطلاح أهل العلم: هو اللفظ الدال علي معني غير محتمل للنقيض بحسب الفهم (1) . و النص: ما ازداد وضوحا علي الظاهر بمعني في المتكلم. و هو سوق الكلام لأجل ذلك المعني (2) . و نص القرآن و السنة: ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام (3) . هذه تعاريف لغوية لكلمة (النص) و هناك تعاريف اخري متقاربة مما ذكرنا. بعد هذا نقول: ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) نص علي الائمة من بعده بصورة عامة و بصورة خاصة. و قد كتبنا بحثا حول الامامة و ذكرنا الأحاديث المرتبطة بها في المجلد

ص: 51


1- 95. مجمع البحرين.
2- 96. أقرب الموارد.
3- 97. لسان العرب.

السابع و الثامن من موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) المباركة. و لأجل أن يعلم غيرنا بأن الشيعة لم تنفرد بالاعتقاد بالأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) نذكر هذا الحديث النبوي أولا، ثم نذكر اسماء بعض المصادر الموجودة في كتب العامة ثانيا.

حديث الأئمة اثنا عشر

قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «الأئمة بعدي اثنا عشر، كلهم من قريش» أو «من بني هاشم». لقد ورد هذا الحديث في الصحاح و المسانيد بصور مختلفة، و من المحتمل صدور الحديث في ازمنة متعددة بألفاظ مختلفة، أو أن الأيدي الخائنة تلاعبت بألفاظ الحديث لأسباب يعلمها الله تعالي. و قد ورد هذ الحديث بصورة مجملة، و بصورة مفصلة (1) .

ص: 52


1- 98. و اليك اسماء بعض ائمة الحديث و التاريخ و التفسير، ممن ذكر هذا الحديث: 1- الحافظ مسلم بن حجاج القشيري في «صحيحه» ج 6 ص 6 - 4 - 3 2- الحافظ الطبراني في «المعجم الكبير» ص 56. 3- الحافظ ابن كثير الدمشقي في «البداية و النهاية» ج 6 ص 248 و «تفسير القرآن» ج 7 ص 110 و «قصص الانبياء» ج 1 ص 301. 4- الحافظ أحمد بن حنبل في «مسنده» ج 5 ص 97. 5- بدرالدين أبومحمد بن أحمد العيني في «شرح البخاري» ج 24 ص 281. 6- الشيخ ابراهيم الجويني في «فرائد السمطين» ج 2 ص 154 - 147. 7- أبوعوانه في «السمند» ج 4 ص 395. 8- ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري» ج 13 ص 179. 9- الشيخ محمود أبورية المصري في «أضواء علي السنة المحمدية» ص 210. 10- الحافظ محمد بن عيسي الترمذي في «صحيحه» ج 9 ص 66. 11- البخاري في «صحيحه» ج 9 ص 81 و «التاريخ الكبير» ج 1 قسم 1 ص 12.446- الحافظ ابن الاثير الجزري في «جامع الاصول» ج 4 ص 440. 13- أبوالحجاج يوسف بن الزكي عبدالرحمن بن يوسف المزي في «تحفة الاشراف لمعرفة الاطراف» ج 2 ص 148. 14- أبوبكر البغدادي في «تاريخ بغداد» ج 14 ص 353 و «الكفاية في علم الدراية» ص 73. 15- الحافظ ابن حجر الهيثمي في «الصواعق المحرقة» ص 187. 16- المناوي في «كنوز الحقائق» - حرف الياء -. 17- القندوزي في «ينابيع المودة» ص 444. 18- الحافظ أبونعيم في «حلية الأولياء» ج 4 ص 333. 19- أبوداود السجستاني في «سننه» ج 4 ص 150. 20- السيوطي في «الحاوي للفتاوي» ص 85 و «تاريخ الخلفاء» ص 7 و «ذيل اللئالي» ص 60. 21- القسطلاني في «ارشاد الساري» ج 10 ص 328. 22- أبوداود الطيالسي في «المسند» ص 105 ح 867. 23 - الحافظ نورالدين بن أبي بكر الهيثمي في «مجمع الزوائد» ج 5 ص 190. 24- الحافظ ابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمة» ص 232. 25- الخطيب الخوارزمي في «مقتل الحسين (عليه السلام)» ص 94. 26- أبوسعيد الخركوشي النيسابوري في «شرف النبي (صلي الله عليه و آله)» ص 287. 27- أبوبكر الحضرمي في «رشفة الصادي» ص 17. 28- الطيالسي في «مسنده» ص 259. 29- محب الدين الطبري في «ذخائر العقبي» ص 17. أيها القارئ الكريم: نكتفي بهذا العدد من المصادر، مع العلم ان المصادر لهذا الحديث المذكورة في ملحقات كتاب (احقاق الحق) قد بلغت مائة مصدر. و لو لا خوف الملل من الاطناب و الاسهاب لذكرنا اكثر من هذا.

و من الواضح أن الامام الصادق (عليه السلام) هو أحد افراد

ص: 53

و مصاديق هذا الحديث الشريف لأنه الامام السادس من ائمة أهل البيت (عليهم السلام).

اهمية منصب الامامة

و من الممكن ان يقول قائل: ما هو الداعي الي هذا التفصيل حول هذا البحث؟ و ما الفائدة في ذلك؟ نجيب علي ذلك: ان منصب الامامة يتلو منصب النبوة في الأهمية، و لنا مجال واسع في التحدث عن أهمية منصب الامامة في بحث (النصوص الخاصة) علي امامة الامام الصادق (عليه السلام) في الفصل القادم ان شاء الله.

لماذا لا يعترف علماء العامة بامامة الائمة الاثني عشر؟

و قد يسأل سائل فيقول: اذا كان هذا العدد من علماء العامة قد ذكروا حديث (الأئمة بعدي اثنا عشر) في مؤلفاتهم من الصحاح و السنن و غيرهما، فلماذا لا يعترفون بامامة هؤلاء، و لا يقتدون بهم؟ و نحن نقول في الجواب: يجب توجيه هذا السؤال اليهم أنفسهم: و من الواضح انه لا جواب لهم علي ذلك. بالاضافة الي ان بعض علماء السوء - الذين رووا هذا الحديث - رأوا أنه يفرض عليهم اعتناق مذهب أهل البيت لا المذاهب الأربعة، و هذا لا يعجبهم طبعا و لهذا قاموا بمحاولات فاشلة في توجيه الحديث و تأويله، و تطبيقه علي حكام بني امية أو بني العباس، فرأوا أن هذا العدد لا ينطبق

ص: 54

علي حكام بني امية أقل من ذلك، و لا علي بني العباس لأنهم أكثر من هذا العدد. فقاموا بألعاب شيطانية، فحذفوا سيد العترة، و أبا الأئمة الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من قائمة الأئمة، و هكذا ابنه الامام الحسن المجتبي (عليه السلام) و نصبوا مكانهما معاوية و يزيد، ثم آل مروان، و مع ذلك لم ينطبق العدد عليهم!! و الي هذا المعني اشار أحد علماء العامة الحنفية - و هو القندوزي - حيث قال في كتابه (ينابيع المودة): (قال بعض المحققين: ان الاحاديث الدالة علي كون الخلفاء بعده (صلي الله عليه و آله و سلم) اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان و تصريف الكون و المكان علم ان مراد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) من حديثه هذا: الائمة الاثنا عشر من أهل بيته و عترته، اذ لا يمكن ان يحمل هذا الحديث علي الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر، و لا يمكن ان تحمله علي الملوك الأموية لزيادتهم علي اثني عشر، و لظلمهم الفاحش الا عمر بن عبدالعزيز، و لكونهم غير بني هاشم، لأن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «كلهم من بني هاشم» في رواية عبدالملك عن جابر، و اخفاء صوته (صلي الله عليه و سلم) في هذا القول يرجح هذه الرواية، لانهم لا يحسنون خلافة بني هاشم، و لا يمكن ان يحمله علي الملوك العباسية لزيادتهم علي العدد المذكور و لقلة رعايتهم الآية «قل لا اسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي» و حديث الكساء. فلابد من أن يحمل هذا الحديث علي الأئمة الاثني عشر من أهل بيته و عترته (صلي الله عليه و سلم) لانهم كانوا أعلم أهل زمانهم، و أجلهم

ص: 55

و أورعهم و اتقاهم و أعلاهم نسبا و أفضلهم حسبا و أكرمهم عند الله، و كان علومهم عن آبائهم متصلة بجدهم (صلي الله عليه و سلم) و بالوراثة و اللدنية، كذا عرفهم أهل العلم و التحقيق و أهل الكشف و التوفيق. و يؤيد هذا المعني - أي ان مراد النبي (صلي الله عليه و سلم) الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته - و يشهد و يرجحه حديث الثقلين...) الي آخره (1) .

التصريح النبوي بأسماء الائمة الاثني عشر

اقول: و توجد في الأحاديث النبوية - المروية في كتب العامة - تصريحات بأسماء الأئمة الاثني عشر، و نقتطف منها حديثين فقط: في كتاب ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: في المناقب عن وائلة بن الأسفع بن قرخاب، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: دخل جندل بن جنادة بن جبير اليهودي علي رسول الله (صلي الله عليه و سلم) فقال: يا محمد اخبرني عما ليس لله و عما ليس عند الله و عما لا يعلمه الله. فقال (صلي الله عليه و آله و سلم): أما ما ليس لله فليس لله شريك، و أما ما ليس عند الله فليس عند الله ظلم للعباد، و أما ما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معشر اليهود: ان عزيزا ابن الله. والله لا يعلم انه له ولد بل يعلم انه مخلوقه و عبده. فقال: أشهد ان لا اله الا الله و انك رسول الله حقا و صدقا. ثم قال: اني رأيت البارحة في النوم موسي بن عمران فقال: يا جندل اسلم علي يد محمد خاتم الأنبياء و استمسك بأوصيائه من بعده فقلت: فلله

ص: 56


1- 99. ينابيع المودة: ج 3 ص 106.

الحمد اسلمت و هداني بك. ثم قال: أخبرني يا رسول الله من اوصيائك من بعدك لا تمسك بهم؟ قال (صلي الله عليه و آله و سلم): أوصيائي الاثنا عشر. قال جندل: هكذا وجدناهم في التوراة. و قال: يا رسول الله سمهم لي. فقال: أولهم: سيد الأوصياء أبوالأئمة علي، ثم ابناه الحسن و الحسين فاستمسك بهم و لا يغرنك جهل الجاهلين، فاذا ولد علي بن الحسين زين العابدين يقضي الله عليك و يكون آخر زادك من الدنيا شربة لبن تشربه. فقال جندل: وجدنا في التوراة و في كتب الانبياء: ايليا و شبرا و شبيرا، فهذه اسماء علي و الحسن و الحسين، فمن بعد الحسين و ما اسماؤهم؟ قال: اذا انقضت مدة الحسين فالامام ابنه علي و يلقب بزين العابدين، فبعده ابنه محمد يلقب بالباقر، فبعده ابنه جعفر يدعي بالصادق، فبعده ابنه موسي يدعي بالكاظم، فبعده ابنه علي يدعي بالرضا، فبعده ابنه محمد يدعي بالتقي و الزكي، فبعده ابنه علي يدعي بالنقي و الهادي، فبعده ابنه الحسن يدعي بالعسكري، فبعده ابنه محمد يدعي بالمهدي و القائم و الحجة، فيغيب ثم يخرج فاذا خرج يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما، طوبي للصابرين في غيبته، طوبي للمقيمين علي محبتهم، اولئك الذين وصفهم الله في كتابه و قال: «هدي للمتقين - الذين يؤمنون بالغيب» (1) ثم قال تعالي: «اولئك حزب الله ألا ان حزب الله هم

ص: 57


1- 100. سورة البقرة آية 2 و 3.

المفلحون» (1) . فقال جندل: الحمد لله الذي وفقني لمعرفتهم. ثم عاش الي ان كانت ولادة علي بن الحسين فخرج الي الطائف و مرض و شرب لبنا و قال: أخبرني رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ان يكون آخر زادي من الدنيا شربة لبن، و مات و دفن بالطائف بالموضع المعروف بالكوزارة (2) . و في كتاب (فرائد السمطين) للجويني الشافعي، بسنده عن ابن عباس، قال: «قدم يهودي علي رسول الله (صلي الله عليه و سلم) يقال له: نعثل، فقال له: يا محمد اني اسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين، فان اجبتني عنها أسلمت علي يدك. قال: سل يا اباعمارة! ... الي أن قال: فأخبرني عن وصيك من هو؟ فما من نبي الا و له وصي و ان نبينا موسي بن عمران أوصي الي يوشع بن نون. فقال: نعم، ان وصيي و الخليفة من بعدي: علي بن أبي طالب و بعده سبطاي: الحسن ثم الحسين، يتلوه تسعة من صلب الحسين، أئمة أبرار. قال: يا محمد! فسمهم لي. قال: نعم، اذا مضي الحسين فابنه علي، فاذا مضي علي فابنه محمد، فاذا مضي محمد فابنه جعفر، فاذا مضي جعفر فابنه موسي، فاذا مضي موسي فابنه علي، فاذا مضي علي فابنه محمد، ثم ابنه علي، ثم ابنه

ص: 58


1- 101. سورة المجادلة آية 22.
2- 102. ينابيع المودة: ج 3 ص 100.

الحسن، ثم الحجة بن الحسن، فهذه اثنا عشر أئمة، عدد نقباء بني اسرائيل...» الي آخره (1) . و ختاما لهذا البحث نقول: ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) - الذي كان أشرف الكائنات، و أفضل المخلوقين و أطهر الموجودات، و سيد الأنبياء و المرسلين، و أقرب الخلائق الي الله (عزوجل) - ينبغي أن يكون خلفاؤه و أوصياؤه أيضا يمتازون عن غيرهم من الناس، سواء من ناحية القداسة و النزاهة و التقوي، أم العلم و الأخلاق أم غيرهما من الفضائل، لأنهم يمثلون صاحب الشريعة الرسول الأقدس (صلي الله عليه و آله) و يقومون مقامه، و ينبون منابه. و لا أظن أن عقول العقلاء ترضي و تقبل أن يكون الناس العاديون يمثلون الرسول الأقدس، فهل ترضي أن يكون الخمارون الأنجاس، و الزناؤون الأرجاس، و سفاكوا الدماء المحرمة، و الجبابرة الطغاة، و الخونة الجناة و الجهلة الأغبياء، و الذين يحملون عقيدة الالحاد يمثلون الرسول الأطهر (صلي الله عليه و آله) في قيادة الامة الاسلامية دينا و دنيا و عقيدة؟!! انني استطيع أن أحلف بجميع مقدساتي - يمينا لا حنث فيها - ان التاريخ لم يسجل لأولئك الغاصبين شيئا من الصفات اللازمة الضرورية للامامة و الخلافة، و ان كنت لا تصدق كلامي فهذه كتب التاريخ و الحديث و التراجم قد ملأت الأسواق و المكتبات. و قل أن تجد في تاريخ الحكام الأمويين أو العباسيين من كان يتورع عن شرب الخمور، بل ان بعضهم كان أكثر أوقاته سكرانا!

ص: 59


1- 103. فرائد السمطين للجويني الشافعي: ج 2 ص 133 طبع بيروت.

و قصور اولئك الذين اعتبروا أنفسهم خلفاء رسول الله (صلي الله عليه و آله) كانت بؤرة لأنواع المنكرات، و كأنها حانات الخمارين، أو مكانا لحفلات غنائية ساهرة. هذا سوي اراقة الدماء، و نهب الأموال، و امتصاص دماء الشعوب الفقيرة و غير ذلك. ثم تعال و انظر الي الجانب الآخر... الي حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) خلال قرنين و نصف، من يوم شهادة رسول الله (صلي الله عليه و آله) الي شهادة الامام الحسن العسكري (عليه السلام) سنة 260 هجرية. فانك لا تجد في تراجم حياتهم زلة واحدة، أو خطيئة و لو صغيرة، أو جهلا في الحكم، أو نقصا في العلم، أو سوء في الخلق، أو ضعفا في الدين، أو بخلا بالمال، أو جبنا في النفس أو كسلا في العبادة، أو أي عيب أو نقص أو صفة ذميمة، بالرغم من مراقبة الأعداء لهم في حركاتهم و سكناتهم و جميع تصرفاتهم؛ علهم يجدوا في أقوالهم أو أفعالهم عيبا أو نقصا. و أما سماسرة الحديث، الكذابون الوضاعون فلم تسلم ساحة رسول الله (صلي الله عليه و آله) من أقوالهم و أقلامهم فكيف بساحة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) مع كثرة حسادهم من فاقدي الورع و التقوي و الضمير و الوجدان؟! «اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي فما ربحت تجارتهم و ما كانوا مهتدين» (1) .

ص: 60


1- 104. سورة البقرة آية 16.

مواقف عدائية تجاه الامام الصادق

أيها القارئ النبيه! بعد أن ذكرنا بعض ما يتعلق بحديث الثقلين، و بعض مصادر حديث: «الأئمة بعدي اثنا عشر» تبين لنا - بكل وضوح - ان الامام الصادق (عليه السلام) هو أحد افراد العترة الذين جعلهم الرسول الاطهر (صلي الله عليه و آله) أحد الثقلين: و ان الامام الصادق هو أحد الأئمة الاثني عشر الذين نص عليهم الرسول الأقدس (صلي الله عليه و آله). و هناك أقوال ذكرناها في موسوعتنا (موسوعة الامام الصادق (عليه السلام)) عن بعض مشاهير المحدثين و الحفاظ (من العامة) - خلال اثني عشر قرنا - حول شخصية الامام الصادق و رواياتهم عنه، تحت عنوان (الامام الصادق في كتب العامة). و كان الهدف من سرد تلك الأقوال و الأحاديث هو أن نثبت ان الامام الصادق (عليه السلام) ليس رجلا مجهولا، خاملا، يحتاج الي الاشادة بفضائله، بل كان من أشهر الشخصيات في الأوساط العلمية و الدينية

ص: 61

و لهذا روي غير الشيعة عنه عددا غير قليل من الأحاديث، و أثنوا عليه بمقدار ما وصل اليه ادراكهم. بعد هذا كله، أجلب انتباه القارئ الذكي الي الموقف المتطرف الذي اختاره بعض المحدثين و المؤرخين تجاه هذا الامام العظيم و غيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام). فمنهم: البخاري: صاحب الصحيح المعروف، فانه لم يحتج بأحاديث الامام الصادق و الأئمة الطاهرين من أهل البيت (عليهم السلام)... الا بأحاديث معدودة عن الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقط. قال العلامة البحاثة المرحوم السيد عبدالحسين شرف الدين (رحمه الله) في كتاب (المراجعات): (..... و لا يضره [ابان بن تغلب] عدم احتجاج البخاري، فان له أسوة بأئمة أهل البيت: الصادق و الكاظم و الرضا و الجواد التقي، و الهادي النقي، و الحسن العسكري، اذ لم يحتج بهم، بل لم يحتج بالسبط الأكبر سيد شباب أهل الجنة [الامام الحسن المجتبي]. نعم، اجتج بمروان بن الحكم، و عمران بن حطان، و عكرمة البربري، و غيرهم من أمثالهم) (1) . و جاء في كتاب (النصائح الكافية): (احتج السنة في صحاحهم بجعفر الصادق الا البخاري، علي انه احتج بمن قدمنا ذكرهم (يعني مروان بن الحكم، و عمران بن حطان، و حريز بن عثمان الرحبي و غيرهم) فقد ذكر - قبل ذلك - أن من رواة الصحاح: مروان بن الحكم، القائل - للحسين

ص: 62


1- 105. المراجعات 110.

بن علي -: «انكم أهل بيت ملعونون!!». و عمران بن حطان الخارجي، القائل الأبيات المشهورة يثني بها علي ابن ملجم، و يثلب الامام علي بن أبي طالب. و حريز بن عثمان الرحبي الذي نقل عنه صاحب التهذيب انه كان ينتقص عليا و ينال منه، ثم قال: و أمثال هؤلاء الرواة كثيرون، و لكن هؤلاء الثلاثة - مروان و عمران و عثمان - عنوان و مثال، لأنهم من رواة صحيح البخاري الذي قالوا عنه: انه أصح كتب الحديث. قال: و قد قيل في هذا المعني: قضية أشبه بالمرزئة هذا البخاري امام الفئة بالصادق الصديق ما احتج في صحيحه، و احتج بالمرجئة بمثل عمران بن حطان، أو مروان، و ابن المرأة المخطئة مشكلة ذات عوار، الي حيرة ارباب النهي ملجئة و حق بيت يممته الوري مغذة بالسير أو مبطئة ان الامام الصادق المجتبي بفضله الآي أتت منبئة أجل من في عصره رتبة لم يقترف في عمره سيئة قلامة من ظفر ابهامه تعدل من مثل البخاري مئة أقول: و ما أردي هل رضي وجدان البخاري بهذا التطرف المكشوف المتعمد؟ و هل ارتاح ضميره بالرواية عن جماعة من مشاهير الفساق أمثال المغيرة بن شعبة (أزني ثقيف)؟ و معاريف الكذابين أبي هريرة الذي كان مصنعا للحديث؟!

ص: 63

مع اعراضه عن أحاديث الامام الصادق (عليه السلام)؟ و ما أدري كيف اختلت المقاييس و انقلبت الموازين عند يحيي بن سعيد الذي جعل نفسه من أئمة الجرح و التعديل فقال: «مجالد أحب الي منه، في قلبي منه شي ء»؟ (1) . و أي شي ء كان في قلب يحيي تجاه الامام الصادق؟ لعل الجواب: «في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا»!! و هل يقتدي البخاري بيحيي بن سعيد في كل ما قاله و رآه؟ و من هو مجالد و ما هي مزاياه حتي يكون احب الي يحيي بن سعيد من الامام الصادق؟! اقرأ ما ذكره علماء الرجال فيه: قال الذهبي: «مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني مشهور، صاحب حديث، علي لين فيه. قال ابن معين: لا يحتج به. و قال محمد: يرفع كثيرا ممن لا يرفعه الناس، ليس بشي ء. و قال النسائي: ليس بالقوي. و قال الدارقطني: ضعيف. و قال البخاري: كان يحيي بن سعيد يضعفه. و كان ابن مهدي

ص: 64


1- 106. قال الذهبي في (الكاشف و التهذيب) و العسقلاني في (تهذيب التهذيب): ج 2 ص 103، قال: سئل يحيي القطان عن جعفر بن محمد؟ فقال: «في نفسي منه شي ء». و قال الذهبي في (المغني في الضعفاء) ج 1 ص 134: «جعفر بن محمد ثقة، و لم يخرج له البخاري، و قد وثقه ابن معين و ابن عدي، و أما القطان فقال: «مجالد أحب الي منه».

لا يروي عنه. و قال الفلاس: سمعت يحيي بن سعيد يقول: لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلها عن الشعبي عن مسروق عن عبدالله، فعل، و قيل لخالد الطحان: دخلت الكوفة، فلم لم تكتب عن مجالد؟ قال: لأنه كان طويل اللحية» (1) .

ص: 65


1- 107. ميزان الاعتدال: ج 3 ص 438، و طول اللحية كناية عن نقصان العقل.

كلمة موجزة حول الامامة

اشارة

تعتبر الامامة الأصل الرابع من أصول الدين أو المذهب عند الشيعة الامامية، و المقصود من الامامة هي الولاية العظمي التي تتلو مرتبة النبوة و الرسالة. و قبل أن ندخل في صميم البحث، نذكر ما تيسر حول كلمة: (الامام): الامام: مصدر مثل قيام و صيام، يقال: أمر اماما مثل قام قياما، و صام صياما، و المراد به المعني الاسمي لا المصدري، مثل ازار: لما يترز به. أو: قوام للذي به الأمر، فيكون معني الامام هو المتبوع و المقصود و المقتدي. و قد يطلق هذا الاسم علي امام الجماعة، لأنه المتبع في الصلاة، و هكذا اطلاقه علي الدين و الشريعة و الكتب السماوية كما قال تعالي: «و كل شي ء أحصيناه في امام مبين» (1) و قوله: «و من قبله كتاب موسي اماما و رحمة» (2) .

ص: 66


1- 108. سورة يس آية 12.
2- 109. سورة الاحقاف آية 12.

و يطلق علي الزعيم الديني لأنه المقتدي به لقومه. و في (تاج العروس): «الامام - بالكسر -: كل من ائتم به، من رئيس أو غيره، كانوا علي الصراط المستقيم، أو ضالين، و منه قوله تعالي: «فقاتلوا أئمة الكفر» (1) .و الامام: قيم الأمر، المصلح له، و القرآن، و النبي، و الخليفة لأنه امام الرعية و رئيسهم». و أما الامامة الكبري التي هي الولاية العظمي، فلا تتحقق لأحد الا بتعيين من الله تعالي، استمع الي هذه الآيات الكريمة: «يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض» (2) . «و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا» (3) . «اني جاعلك للناس اماما» (4) . «و اجعلنا للمتقين اماما» (5) . «و اجعل لي وزيرا من أهلي - هارون أخي» (6) . و غيرها من الآيات المشتملة علي كلمة: «جعلنا، و اجعلنا، و جعلناهم» مما يدل بكل صراحة علي أن تعيين الامام الحق يكون من عند الله و نصبه. و الامامة - بالمعني المذكور - هي مفترق الطرق، و معترك الآراء، و من هنا حصل الانشقاق و الاختلاف بين المسليمن، و جالت الأقلام،

ص: 67


1- 110. سورة التوبة آية 12.
2- 111. سورة ص آية 26.
3- 112. سورة الأنبياء آية 73.
4- 113. سورة البقرة آية 124.
5- 114. سورة الفرقان آية 74.
6- 115. سورة طه آية 29 و 30.

و اضطربت الأقوال، و تكونت المذاهب، و وصل أمر المسلمين الي ما هو عليه اليوم! و هذا الاختلاف ليس وليد اليوم حتي يمكن القضاء عليه، بل له جذور و عروق منذ اربعة عشر قرنا، و التفرقة غرست بذورها من يوم وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آله) و آتت اكلها كل حين. و من الواضح: ان رقعة الخلاف و الاختلاف اتسعت خلال هذه القرون اتساعا مؤلما مؤسفا. و يعلم الله تعالي مضاعفات هذا الاختلاف طيلة هذه القرون، من الضحايا في الحروب، و عمليات الاغتيال، و الدماء التي اريقت، و النفوس التي زهقت، و النشاطات التي بذلت من بعض الفئات مما زادت في التنافر و التباغض بين المسلمين. و في طليعة تلك الفئات التي سعت في اشعال النار و النفخ فيها أكثر و أكثر، هم الأموين و العباسيون، و من كان يدور في فلكهم، و يتقرب اليهم بما يرضيهم. و انقرضت تلك الحكومات، و اعقبتها حكومات و حكومات، و ساروا علي ذلك المنوال و كأنهم تواصوا بذلك كي لا ينقطع حبل التفرقة و الاختلاف بين الامة الاسلامية. فالامامة عند الشيعة حلة نسجت خيوطها من القداسة و النزاهة و الطهارة، و مرتبة عالية، و درجة سامية، تالية مرتبة النبوة. و من الصحيح أن نقول: ان المذهب الشيعي يعتبر العدالة حتي في امام لجماعة الذي يقتدي به الناس في الصلاة فقط، و لا تجوز الصلاة - عندهم - خلف انسان لم تحرز عدالته.

ص: 68

فأين هذا من قول غيرنا: الذين يجوزون الصلاة خلف كل بر و فاجر؟! و اين هذا عن قول ابن تيمية الذي لا يشترط في الخليفة سوي الشهادتين فقط؟!! ان ابن تيمية في (منهاج السنة) و أمثاله لم يشترطوا في الخليفة اكثر من الاسلام فقط، فأوجبوا طاعته. فلا مانع - عند ابن تيمية - ان يكون الخليفة طليقا، خمارا، قمارا، زناءا،لواطا، سفاكا للدماء المحرمة ظالما، كذابا، جاهلا بالأحكام، مستهزئا بالمقدسات الاسلامية، يصرح بالالحاد و الزندقة، قائلا: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل أو يمزق القرآن، و يتفخر مخاطبا للقرآن: تهددني بجبار عنيد فها انا ذاك جبار عنيد اذا ما جئت ربك يوم حشر فقل: يا رب مزقني الوليد! أو الذي أراد أن يشرب الخمر مع جاريته المغنية فوق سطح الكعبة تحديا لمقدسات الاسلام و المسلمين، و محاربة علانية لله تعالي، و هتكا لحرماته!! أو الذي قدم جاريته في محراب المسجد لتصلي بالمسلمين صلاة الصبح و هي في حال الجنابة! و اقتدي بها و هو سكران جنب، و أمر المسلمين أن يقتدوا بها صلاتهم. أو الذي كان يسبح في بركة من الخمر، يسبح و يشرب، فاذا خرج من البركة ظهر أثر نقص الخمر في البركة!! و أمثالهم و نظراؤهم من بني امية و بني العباس، كما هو مشهور

ص: 69

و مذكور في كتب التاريخ. نعم، ان الشيعة تعتقد في الامام العصمة من الخطايا و الذنوب، و التنزه عن كل رذيلة أخلاقية، و التجرد عن كل ما ينافي المروءة، و الابتعاد عن كل رجس و شين و عيب. و الاشتمال علي كل فضيلة أخلاقية، بل يجب أن يكون الامام أكثر أهل زمانه علما و عبادة و فضائل و مكارم أخلاقية. فالأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) صرحت و أوجبت و فرضت هذه الشروط في الامامة، بل هي العلائم القطعية التي يميز بها امام الحق من امام الباطل، و قد ذكرنا مصادر كثيرة - للأحاديث الواردة حول هذا الموضوع بالذات - في غضون مجلدات الموسوعة (1) . فالامامة - بهذا المعني - مجمع لجميع الفضائل، فلا تجد فضيلة تتبادر الي الذهن و الفكر الا وجدتها متوفرة في الامام، و هكذا يجب أن يكون الامام، و الا فليس بامام! و أما كلمة (الامام) المستعملة في غير الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فهي بمعني آخر، فمثلا يقال: فلان امام في اللغة أو النحو أو الحديث، أو كما يعبر عن بعض الفقهاء بالامام أو امام الجماعة أو الجمعة و أمثال ذلك، فالمقصود بذلك: المقتدي بأقواله و آرائه، و ليس المقصود أنه صاحب الولاية العظمي، و الامامة الكبري التي هي منصب الهي يتلو منصب النبوة. فان هذه الامامة تثبت بالنص من الرسول الأقدس (صلي الله عليه و آله) و من الامام السابق علي الامام اللاحق. و يمكن أن يقال: ان غير الشيعة لا يعتمدون علي الأحاديث المروية عن

ص: 70


1- 116. موسوعة الامام الصادق (عليه السلام): ج 7 و 8.

أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حول الامامة و شروطها. و نحن حينما نذكر هذه الأحاديث لا نريد أن نفرض عقائدنا علي غيرنا و لا يحق لنا أن نكره أحدا علي اعتناق معتقداتنا (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» (1) . و انما نقصد استعراض احاديثنا مع ما فيها من الأدلة القاطعة، و البراهين الواضحة الدالة علي مدي قيمتها سواء في مقام التشريع، أم لبيان الحقائق في شتي المجالات. و القاري ء له حرية القبول اذا ثبت عنده صدق هذه الأقوال، و اقتنع بصدور هذه الحقائق من مصادرها الصحيحة و منابعها العذبة (و هديناه النجدين» (2) «انا هديناه السبيل اما شاكرا و اما كفورا» (3) . و مما يهون الخطب، و يسهل التفاهم: أن معتقدات الشيعة في الاصول، و احكامهم في الفروع كلها امور متسلسلة و مرتبطة تنتهي الي النبي الأقدس (صلي الله عليه و آله) و القرآن الكريم. و ليست أفكارا متولدة، و آراء متجددة، و عقائد مستوردة، و دعاوي سخيفة، يضطرب أصحابها في تصحيحها و تأويلها، و الدفاع عنها بشتي الحيل، و التشبث بأنواع المغالطة و التزوير. بل كلها واضحة ناضعة، مشفوعة بالدليل القطعي، و البرهان الصحيح، و الحجة القاطعة التي لا تقبل الشك عند المنصف، البعيد عن التعصب الجاهلي، أو العناد البغيض الذي يحول دون قبول الحق.

ص: 71


1- 117. سورة البقرة آية 256.
2- 118. سورة البلد آية 10.
3- 119. سورة الانسان آية 3.

النصوص الخاصة علي امامة الامام الصادق

كلمة في البداية

لقد ذكرنا في كثير من مؤلفاتنا: انه كان من الواجب علي كل امام أن ينص علي الامام الذي من بعده، و يعرفه لشيعته، اتماما للحجة، و كشفا للحقيقة، و لئلا يقع الناس في ظلمة الجهالة، و حيرة الضلالة. و كيف يمكن اهمال هذا التكليف الشرعي، أو الاستخفاف بهذا الحكم الالهي الذي عليه مدار الحق أو الباطل و الايمان و الكفر، و عليه الثواب و العقاب، و الجنة و النار؟!! لأن (من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية) كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). و قد ورد هذا الحديث - في كتب العامة -عن سبعة من الصحابة، و قد وردت اسماؤهم في الصحاح الستة، مما يدل علي صحة رواياتهم عند أصحاب الصحاج، و هم:

ص: 72

1- زيد بن أرقم. 2- عامر بن ربيعة. 3- عبدالله بن عباس. 4- عبدالله بن عمر بن الخطاب. 5- عويمر بن مالك المعروف بأبي الدرداء. 6- معاذ بن جبل. 7- معاوية بن أبي سفيان. و قد وردت رواياتهم كما يلي: عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه و سلم) يقول: «من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية» (1) . و عن معاوية، مرفوعا: «من مات بغير امام مات ميتة جاهلية» (2) . و في لفط آخر: «من مات و لا امام له مات ميتة جاهلية» (3) . و في لفظ آخر: «من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية» (4) . و قال الشيخ علي القاري في (خاتمة الجواهر المضيئة): و قوله (عليه السلام) في صحيح مسلم: «من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية» معناه: من لم يعرف من يجب عليه الاقتداء و الاهتداء به في أوانه (5) .

ص: 73


1- 120. مسند أبي داود - سليمان بن داود الطيالسي المتوفي 204 ه - ص 259.
2- 121. مسند احمد بن حنبل: ج 4 ص 96.
3- 122. صحيح مسلم: ص 29.
4- 123. جامع المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 275، الجمع بين الصحيحين تأليف محمد بن فتوح الحميدي - المتوفي 488 ه -، البريقة المحمودية لأبي سعيد الحنفي - المتوفي 1168 ه - ج 1 ص 116.
5- 124. الجواهر المضيئة: ج 2 ص 457.

و في لفظ آخر: «من مات و لم يعرف امام زمانه فليمت ان شاء يهوديا و ان شاء نصرانيا» (1) . و في لفظ آخر «من مات بغير امام مات ميتة جاهلية» (2) . و في لفظ آخر: «من مات و ليس عليه امام فميتته جاهلية» عن ابن عباس (3) . و عن معاوية بن أبي سفيان: «من مات و ليس عليه امام مات ميتة جاهلية» (4) . و في كنز العمال: «من مات و لا بيعة عليه مات ميتة جاهلية» (5) . أقول: لقد ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة في أكثر من سبعين مصدرا من مصادر أهل السنة، و رواة الحديث - كما ذكرنا - من الصحابة المتفق علي قبول كلامهم عند العامة. أيها القارئ الكريم: بعد أن عرفت شيئا من أهمية الاعتقاد بالامامة، و أن من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية، أي ميتة كفر و ضلال، أما ينبغي لنا ان نطيل الكلام حول هذا الموضوع؟!! و قد مر عليك فيما مضي ان الامامة باقية و مستمرة الي يومنا هذا، و أن الامام في عصرنا الحاضر هو الامام المهدي المنتظر (عليه السلام) الذي سيظهر في يوم يعلمه الله و يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد أن تملأ ظلما و جورا.

ص: 74


1- 125. المسائل الخمسون تأليف محمد بن فخر الرازي - المتوفي 606 ه - مسألة 47 ص 384.
2- 126. شرح نهج البلاغه للمعتزلي - المتوفي 656 ه - ج 9 ص 155، و ج 13 ص 242، و رواه الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 5 ص 218 عن معاوية بن أبي سفيان.
3- 127. مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5 ص 224.
4- 128. مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5 ص 225.
5- 129. كنز العمال للمتقي الهندي - المتوفي 975 ه -: ج 3 ص 103.

و انما أطلنا الكلام حول مصادر هذا الحديث من كتب العامة، توضيحا للحق، و لعل بعض المسلمين لم يعلم بهذه الأحاديث، و لم يطلع علي هذه المصادر الكثيرة التي لا يمكن تكذيبها و تزييفها الا للمعاند الجاحد للحق الذي تشمله هذه الآية «و ان يروا كل آية لا يؤمنوا بها» (1) . و ليت شعري ما يكون موقف أهل السنة تجاه هذه الأحاديث؟ فهل لهم امام في زمانهم يعرفونه و يعترفون به؟ و من هو ذلك الامام؟!! و حاشا نبي العظمة (صلي الله عليه و آله) أن يقصد من كلمة: «امام زمانه» حكام بني امية الطواغيت، أو فراعنة بني العباس. و هل الحكام الذين يحكمون - اليوم - علي البلاد، هم الأئمة الذين من مات و لم يعرفهم، مات ميتة جاهلية؟ لا أظن أن مسلما عاقلا يعتقد هذا. أما عند الشيعة فيعتبر هذا الحديث من الأحاديث الثابتة التي لا يشكون في صحتها، و لهذا كانوا يبذلون جهودا كثيرة في سبيل معرفة امام زمانهم و خاصة بعد وفاة كل امام فانهم كانوا يبحثون عن الامام الذي بعده، حتي لا يموتوا ميتة جاهلية. و أما اليوم: فالشيعة الاثنا عشرية يعتقدون بوجود الامام المهدي (عليه السلام) و يعتبرونه امام زمانهم. و قد ذكرنا بعض ما يتعلق بهذا الموضوع في كتاب (الامام المهدي من المهد الي الظهور).

ص: 75


1- 130. سورة الأعراف آية 146.

النصوص الخاصة

أيها القارئ الكريم: اليك الآن بعض النصوص الخاصة التي تنص علي امامة الامام الصادق (عليه السلام) و أنه الامام و الخليفة بعد أبيه الامام الباقر (عليه السلام): 1- عن سدير الصيرفي قال: سمعت أباجعفر [الباقر] (عليه السلام) يقول: «ان من سعادة الرجل أن يكون له الولد، يعرف فيه شبه خلقه و خلقه و شمائله، و اني لأعرف من ابني هذا شبه خلقي و خلقي و شمائلي» يعني أباعبدالله (عليه السلام) (1) . 2- و عن أبي الصباح الكناني، قال: نظر أبوجعفر [الباقر] (عليه السلام) الي أبي عبدالله (عليه السلام) يمشي فقال: «تري هذا؟ هذا من الذين قال الله (عزوجل): «و نريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين» (2) . و روي الشيخ المفيد هذا الحديث أيضا في الارشاد ص 271. 3- و عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر [الباقر] (عليه السلام) قال: سئل عن القائم (عليه السلام) فضرب بيده علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: «هذا - والله - قائم آل محمد (صلي الله عليه و آله)». قال عنبسة: فلما قبض أبوجعفر (عليه السلام) دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فأخبرته بذلك، فقال: صدق جابر.

ص: 76


1- 131. الكافي ج 1 ص 306، و الآية في سورة القصص آية 5.
2- 132. الكافي ج 1 ص 306، و الآية في سورة القصص آية 5.

ثم قال: لعلكم ترون أن ليس كل امام هو القائم بعد الامام الذي كان قبله؟! (1) . 4- و روي هشام بن سالم، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سئل أبوجعفر (عليه السلام) عن القائم بعده؟ فضرب بيده علي أبي عبدالله (عليه السلام) و قال: هذا والله قائم آل محمد (صلي الله عليه و آله) (2) . 5- و عن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) اذ دخل ابنه جعفر، و علي رأسه ذؤابة و في يده عصا يلعب بها، فأخذه الباقر (عليه السلام) و ضمه اليه ضما، ثم قال: بأبي أنت و أمي! لا تهلو و لا تلعب. ثم قال لي: يا محمد! هذا امامك بعدي. فاقتد به، و اقتبس من علمه، والله انه لهو الصادق، الذي وصفه لنا رسول الله (صلي الله عليه و آله): أن شيعته منصورون في الدنيا و الآخرة و اعداءه ملعونون في الدنيا و الآخرة علي لسان كل نبي. فضحك جعفر (عليه السلام) و احمر وجهه، فالتفت الي أبوجعفر و قال لي: سله. قلت له: يابن رسول الله من أين الضحك؟ قال: يا محمد! العقل (3) من القلب، و الحزن من الكبد، و النفس من الرية، و الضحك من الطحال. فقمت و قبلت رأسه (4) .

ص: 77


1- 133. الكافي: ج 1 ص 307 ح 7.
2- 134. الارشاد ص 271.
3- 135. و في النسخة: الفعل.
4- 136. كفاية الأثر: ص 253. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 15.

6 - و عن همام بن نافع، قال: قال أبوجعفر الباقر (عليه السلام) لأصحابه يوما: «اذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا، فانه الامام و الخليفة بعدي» و أشار الي ابنه جعفر (عليه السلام) (1) (2) . 7 - و عن يونس بن عبدالرحمن، عن عبدالأعلي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ان أبي (عليه السلام) استودعني ما هناك (3) فلما حضرته الوفاة قال: ادع لي شهودا، فدعوت له أربعة من قريش، فيهم نافع مولي عبدالله بن عمر فقال: اكتب: «هذا ما أوصي به يعقوب بنيه (4) «يا بني ان الله اصطفي لكم الدين فلا تموتن الا و أنتم مسلمون» (5) و أوصي محمد بن علي الي جعفر بن محمد، و أمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه الجمعة و أن يعممه بعمامته، و أن يربع قبره، و يرفعه أربع أصابع، و أن يحل عنه أطماره عند دفنه». ثم قال - للشهود -: انصرفوا، رحمكم الله. فقلت له: يا أبت - بعد ما انصرفوا، ما كان في هذا بأن تشهد عليه؟ (6) . فقال: يا بني! كرهت أن تغلب، و أن يقال: انه لم يوص اليه، فأردت أن تكون لك الحجة (7) .

ص: 78


1- 137. في بحارالأنوار: و أشار الي أبي عبدالله (عليه السلام).
2- 138. كفاية الأثر: ص 254. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 15.
3- 139. أي استودعني من مواريث الأنبياء و من الكتب و الصحف و غيرها.
4- 140. و في (اعلام الوري): اكتب: «اوصيك بما أوصي به يعقوب بنيه».
5- 141. سورة البقرة آية 132.
6- 142. أي ما هي الحاجة و ما هو الداعي الي هذا الاستشهاد؟.
7- 143. الكافي، ج 1 ص 307، و ذكره الشيخ المفيد في الارشاد: ص 271 مع اختلاف يسير، و في اعلام الوري: ص 274 مع تغيير يسير.

8 - و عن علي بن الحكم، عن طاهر، قال: كنت عند أبي جعفر [الباقر] (عليه السلام) فأقبل جعفر (عليه السلام) فقال أبوجعفر (عليه السلام): «هذا خير البرية» أو «أخير» (1) .

ص: 79


1- 144. الكافي: ج 1 ص 306 و 307.

نسبه الشريف

اشاره

لقد تلخص مما ذكرنا - من النصوص العامة و الخاصة - أن الامام الصادق (عليه السلام) من العترة، و العترة أحد الثقلين الذين تركهما و خلفهما رسول الله (صلي الله عليه و آله) من بعده، و انه أحد الأئمة الاثني عشر الذين نص رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي امامتهم و خلافتهم و وصايتهم. و قد تمهد لنا الطريق لندخل في الحديث عن تاريخ حياة هذا الامام - الذي لقب من قبل جده رسول الله (صلي الله عليه و آله) ب (صادق آل محمد) - و نبدأ بذكر نسبه الشريف و ما يختص به (عليه السلام):

والده

الامام أبوجعفر محمد الباقر، بن الامام زين العابدين علي بن سيد شباب أهل الجنة، سبط رسول الله، الامام أبي عبدالله الحسين بن الامام أميرالمؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب (عليهم صلوات الله و سلامه). و ما أجدر بالامام الصادق (عليه السلام) أن يفتخر بهذا النسب الأرفع الأقدس و يترنم بقول الفرزدق الشاعر: اولئك آبائي فجئني بمثلهم اذا جمعتنا - يا جرير - الجامع

ص: 80

و من الواضح أن التعرف علي بعض الجوانب من عظمة كل من آبائه الكرام (عليهم السلام) يحتاج الي موسوعة تشتمل علي آيات عظمتهم، و تحتوي علي مواهبهم و مزاياهم و خصائصهم التي لا يشاركهم فيها غيرهم. و عسي الله أن يوفقنا لأداء هذا الواجب و هذه الخدمة، انه ولي التوفيق.

والدته

السيدة المكرمة المعظمة الجليلة: فاطمة، و تكني ام فروة، بنت القاسم ابن محمد بن أبي بكر، و امها: اسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر، و كانت سيدة عالمة فاضلة عارفة بالدين و أحكام الشريعة، و قد روي عن عبدالأعلي قال: رأيت ام فروة تطوف بالكعبة عليها كساء متنكرة فاستلمت الحجر بيدها اليسري فقال لها رجل ممن يطوف: يا أمة الله أخطأت السنة، فقالت: انا لأغنياء عن علمك (1) . و قد أثني الامام الصادق عليها ثناء بليغا في كلمات موجزة حيث قال: «.. و كانت امي ممن آمنت و اتقت و أحسنت والله يحب المحسنين». قال: و قالت امي: قال أبي [الامام الباقر]: «يا ام فروة! اني لأدعو الله لمذنبي شيعتنا في اليوم و الليلة الف مرة، لأنا نحن - فيما ينوبنا من الرزايا - نصبر علي ما نعلم من الثواب، و هم يصبرون علي ما يعلمون» (2) .

ص: 81


1- 145. الكافي: ج 4 ص 428.
2- 146. الكافي: ج 1 ص 472.

ميلاد الامام الصادق

اشارة

مما لا شك فيه أن الامام الباقر (عليه السلام) كان يعيش قمة الفرح و السرور يوم ولادة ولده الامام جعفر الصادق (عليه السلام) و خاصة و أنه كان يعلم - من عند الله تعالي - أن هذا المولود هو الامام من بعده و أنه الحلقة السادسة في سلسلة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) و أنه سوف يقوم باحياء دين جده المصطفي (صلي الله عليه و آله و سلم) و نشر علومه و آثاره، علي نطاق واسع جدا. و يعلم الله تعالي مدي الفرحة التي كانت تغمر قلب السيدة ام فروة والدة الامام الصادق (عليه السلام) و خاصة اذا كان الامام الباقر قد اخبرها بمستقبل هذا المولود و ماله من المنزلة الرفيعة و الدرجة الكبيرة عند الله سبحانه. أما عن تاريخ ميلاد الامام الصادق (عليه السلام) فقد اختلف المؤرخون في سنة الولادة و شهرها و يومها اختلافا شديدا، و ما ادري هل هذا الاختلاف مقصود و متعمد، جاء بقصد التشويش علي هذه الشخصية

ص: 82

أم أنه غير مقصود.؟.. و علي كل تقدير... فالمشهور بين الشيعة أن ولادته (عليه السلام) كانت في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول، و هو اليوم الذي ولد فيه جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). و هذا هو الثابت عند ائمة أهل البيت (عليهم السلام) و أهل البيت ادري بما في البيت. فكما أن الله تعالي اختار يوم السابع عشر من شهر ربيع الأول لولادة نبيه العظيم (صلي الله عليه و آله و سلم) كذلك اختار الله ذلك اليوم لولادة الامام الصادق (عليه السلام) الذي كان أكثر نشرا لدين جده - كما ذكرنا - و اكبر مدافع عن شريعته الخالدة، في ذلك العصر و كل العصور. أما تاريخ سنة ولادته (عليه السلام) فالمشهور بين المؤرخين الشيعة - و أكثر العامة - أنها كانت سنة ثمانين للهجرة، و قيل: سنة ثلاث و ثمانين. والله العالم.

ص: 83

اسمه و ألقابه و كناه

اشاره

اسمه: جعفر. و قد روي أن الامام الصادق (عليه السلام) قال - لضريس الكناسي -: لم سماك أبوك ضريسا؟ قال: كما سماك أبوك جعفرا. قال: انما سماك أبوك - ضريسا - بجهل، لأن لابليس ابنا يقال له ضريس، و ان أبي سماني - جعفرا - بعلم، علي أنه اسم لنهر في الجنة. أما سمعت قول ذي الرمة: أبكي الوليد أباالوليد أخا الوليد فتي العشيره قد كان غيثا في السنين و جعفرا غدقا و ميره (1) و يلقب الامام بالصادق، و لم يلقبه بهذا اللقب أحد من الناس، بل لقبه بذلك جده الصادق المصدق: رسول الله (صلي الله عليه و آله) الذي «ما ينطق عن الهوي - ان هو الا وحي يوحي».

ص: 84


1- 147. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 277.

فقد روي عن الامام علي بن الحسين عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «اذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسموه: الصادق. فانه سيكون في ولده سمي له، يدعي الامامة بغير حقها و يسمي كذابا» (1) .و روي عن أبي خالد الكابلي أنه قال: قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام): من الامام بعدك؟ قال: محمد ابني، يبقر العلم بقرا، و من بعد محمد: جعفر، اسمه عند أهل السماء: الصادق. قلت: كيفر صار اسمه الصادق؟ و كلكم الصادقون؟ قال: حدثني أبي، عن أبيه أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: «اذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فسموه الصادق، فان الخامس من ولده - الذي اسمه جعفر - يدعي الامامة اجتراء علي الله، و كذبا عليه، فهو عند الله: جعفر الكذاب، المفتري علي الله». ثم بكي علي بن الحسين (عليهماالسلام) فقال: «كأني بجعفر (2) و قد حمل طاغية زمانه علي تفتيش أمر ولي الله، و المغيب في حفظ الله». فكان كما ذكر (3) . أقول: المقصود من جعفر الذي ادعي الامامة كذبا هو جعفر الكذاب ابن الامام الهادي (عليه السلام) و قد ذكرنا بعض ما يتعلق به في كتاب

ص: 85


1- 148. علل الشرائع: ص 234.
2- 149. أي: المدعي للامامة كذبا.
3- 150. الخرائج و الجرائح: ج 1 ص 268 ح 12.

(الامام المهدي من المهد الي الظهور). و للأمام الصادق (عليه السلام) ألقاب اخري و ان كانت غير مشهورة، و هي: الفاضل و الطاهر و القائم و الكافل و المنجي... (1) .

كنيته

و يكني: أباعبدالله، و أبااسماعيل، و أبااسحاق. و لكن الكنية الأولي هي اشهر كناه (عليه السلام) و أكثرها ورودا في الروايات و الأحاديث. و لعل ذكر الامام بغير كنيته الشمهورة كان بدافع التقية، لأن الظروف الصعبة التي مرت في فترة من حياة الامام الصادق (عليه السلام) ما كانت تسمح بالتصريح باسمه و كنيته المشهورة، و لهذا كان بعض الشيعة يستعمل بعض الكني غير المشهورة، رعاية للظروف.

شمائله

كان الامام الصادق (عليه السلام) ربع القامة (2) ازهر الوجه، حالك (3) الشعر جعد، أشم الأنف (4) انزع رقيق البشرة، دقيق المسربة (5) علي خده خال أسود، و علي جسده خيلان حمرة (6) (7) .

ص: 86


1- 151. المناقب لابن شهراشوب: ج 4 ص 281.
2- 152. الربعة: الوسيط القامة (أقرب الموارد).
3- 153. الحالك: الشديد السواد (أقرب الموارد).
4- 154. الشمم: ارتفاع قصبة الأنف و حسنها، و استواء اعلاها، و انتصاب الأرنبة. (أقرب الموارد).
5- 155. المسربة - بفتح الميم و ضم الراء -: الشعر وسط الصدر الي البطن. (أقرب الموارد).
6- 156. خيلان: جمع خال: الشامة في البدن. (أقرب الموارد).
7- 157. المناقب لابن شهراشوب: ج 4 ص 281.

أقول: قد صار كتاب حول الامام الصادق (عليه السلام) باللغة الأجنبية اشترك في تأليفه عدد من الشخصيات الغربية، و ترجم الكتاب الي اللغة الفارسية و العربية باسم: (الامام الصادق عند علماء الغرب) و في ذلك الكتاب شرح واف حول شمائل الامام (عليه السلام) و قد تفرد ذلك الكتاب بذكر أشياء كثيرة، و لكنها غير مدعمة بذكر المصادر فلا اعتبار بها.

نقش خاتمه

نقش خاتمه: «الله خالق كل شي ء» (1) . روي عن الامام الرضا (عليه السلام) أنه قال: قاوموا (2) خاتم أبي عبدالله (عليه السلام) فأخذه أبي بسبعة. قال [الراوي]: قلت سبعة دراهم؟ قال: سبعة دنانير (3) . و روي عن صفوان قال: اخرج الينا خاتم أبي عبدالله (عليه السلام) و كان نقشه: «أنت ثقتي فاعصمني من خلقك» (4) . و عن اسماعيل بن موسي قال: كان خاتم جدي. جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فضة كله، و عليه: «يا ثقتي قني شر جميع خلقك» و انه بلغ في الميراث خمسين دينارا، زايد أبي علي عبدالله بن جعفر، فاشتراه أبي (5) .

ص: 87


1- 158. مصباح الكفعمي: ص 523.
2- 159. قاوموا: قدروا قيمته.
3- 160. مكارم الأخلاق: ص 85.
4- 161. مكارم الأخلاق: ص 89.
5- 162. مكارم الأخلاق: ص 91.

و روي عن يونس بن ظبيان و حفص بن غياث، انهما قالا للامام الصادق (عليه السلام): جعلنا فداك! أيكره أن يكتب الرجل في خاتمة غير اسمه و اسم أبيه؟ فقال: في خاتمي مكتوب: «الله خالق كل شي ء» و في خاتم أبي محمد بن علي (عليهماالسلام) - و كان خير محمدي رأيته بعيني -: «العزة لله» و في خاتم علي بن الحسين (عليهماالسلام): «الحمد لله العلي العظيم» و في خاتم الحسن و الحسين (عليهماالسلام): «حسبي الله» و في خاتم أميرالمؤمنين (عليه السلام): «الله الملك» (1) . و عن ابراهيم بن عبدالحميد قال: مر بي معتب و معه خاتم، فقلت له: أي شي ء هذا؟ فقال: خاتم أبي عبدالله (عليه السلام) فأخذت لأقرأ ما فيه، فاذا فيه: «اللهم أنت ثقتي فقني شر خلقك» (2) . و عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: كنت عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فأخرج الينا خاتم أبي عبدالله (عليه السلام) و خاتم أبي الحسن [الكاظم] (عليه السلام) و كان علي خاتم أبي عبدالله (عليه السلام): «أنت ثقتي فاعصمني من الناس» و نقش خاتم أبي الحسن (عليه السلام): «حسبي الله» و فيه وردة و هلال في أعلاه (3) . و قيل: كان نقش خاتمه: «ما شاء الله لا قوة الا بالله، استغفر الله» (4) .

ص: 88


1- 163. الكافي: ج 6 ص 473 ح 2.
2- 164. الكافي: ج 6 ص 473 ح 3.
3- 165. الكافي: ج 6 ص 473 ح 4.
4- 166. الفصول المهمة لأبن الصباغ المالكي: ص 223.

أقول: لا يبعد أن تعدد الروايات و الأقوال حول نقش خاتم الامام الصادق (عليه السلام) يعود الي تعدد خواتيمه، أو أن تلك الكلمات كلها كتبت في فص واحد، و الاحتمال الاول أقرب، والله العالم.

ص: 89

جوانب من حياة الامام الصادق

اشاره

كان الامام الصادق (عليه السلام) يعيش في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، و نحن الآن في أوائل القرن الخامس عشر، و يفصل الزمان بيننا أكثر من اثني عشر قرنا و نصف، و مع هذا الفاصل الزمني كيف يمكن لنا أن ندرس حياة الامام و نحيط بها علما؟! و ما هي الطرق و الوسائل للوصول الي معرفة هذه الشخصية بقدر الامكان؟! من الواضح ان التراث العلمي و الفكري الذي تركه الامام الصادق (عليه السلام) في موسوعات الأحاديث، و المواد التاريخية الموجودة في بطون كتب التواريخ، قد انعكست عليها جوانب من شخصية الامام الصادق و نفسيته و مواهبه و مزاياه، و من هذا المنظار ننظر الي حياة الامام الصادق (عليه السلام) و ما رافقها من الأحداث، و ما تعلق بها من الامور. و لا ابالغ اذا قلت: ان الأقلام تعجز و الألسن تكل، و العقول تضعف عن الاحاطة بشخصية الامام الصادق (عليه السلام) و استيعابها. و كل من كتب أو يكتب، و كل ما كتب أو يكتب فهو بمقدار ما أدركه

ص: 90

الكاتب، و بمقدار ما استوعبه عقله و فكره. و هكذا كل من تحدث أو يتحدث عن تلك الشخصية فهو ينظر من روزنة ضيقة و يتحدث في حدود ادراكه لا ادراك الواقع كله. و مؤلف هذا الكتاب أحد اولئك الكتاب أو المتحدثين عن هذه الشخصية، فهذه الصفحات هي حصيلة جهد انسان لم تساعده الظروف كما يجب، و لم تتوفر عنده المصادر كما ينبغي، فالعجز في ادراك النكات العلمية، و قصور اداة التفكير، و ضعف القلم و البيان آلام يشعر بها الكاتب و لا تفارقه. فما أصنع؟ فقد قيل: ما لا يدرك كله لا يترك كله. أقول - والله المستعان -: استلم الامام الصادق (عليه السلام) مقاليد الامامة، و نهض بأعباء الزعامة و الولاية الكبري، و هو ابن اثنتين و ثلاثين سنة، و بامكاننا أن نضع شخصيته علي طاولة المطالعة و الدراسة و التحليل، في حدود القدرة و الامكان. و هناك نواحي عديدة يمكن لنا أن ننظر من كل ناحية أو زاوية الي تلك الشخصية، علي ضوء الحقيقة و الواقع، لا الوهم و الخيال:

ناحية النسب

من أوضح الواضحات أن الامام الصادق (عليه السلام) ينحدر من أشرف أسرة علي وجه الأرض، و أطهر سلالة عرفها التاريخ، فهو ابن الامام محمد الباقر بن الامام زين العابدين: علي، ابن سيد شباب أهل الجنة، سيدالشهداء، الامام أبي عبدالله الحسين، ابن أميرالمؤمنين، سيد العترة الامام أبي الحسن علي بن أبي طالب و ابن فاطمة الزهراء، سيدة نساء

ص: 91

العالمين، بنت سيد الأنبياء محمد رسول الله (صلوات الله عليهم أجمعين). فهل تعرف في الكون نسبا أشرف و أطهر من هذا النسب؟! و هل تتصور سيادة أو عظمة أفخر و أعلي من هذه السيادة؟! و بناء علي قانون الوراثة الذي له كل الأثر في تكوين الانسان و توجيهه، فاننا نجد أشرف عوامل الوراثة و أزكاها في نسب الامام الصادق (عليه السلام). و من هذا المنطلق أو من هذه الناحية تنكشف لنا ناحية اخري من العوامل في تكوين الانسان، و هو البيت الذي يفتح الانسان فيه عينه، و ينمو و يكبر.

البيت المقدس

فان البيت الذي فتح الامام الصادق (عليه السلام) عينه فيه كان بمنزلة المعبد المغمور بالروحانية و النورانية، بسبب أنواع العبادة و أخلصها، من صلاة و مناجات و تهليلات و تسبيحات، و خشوع و خضوع لله سبحانه، و تلاوة القرآن التي كانت تؤثر في الجمادات فكيف بذوي الأرواح؟!! فينطبق علي ذلك البيت - كل الانطباق - قوله تعالي: «في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه - يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله و اقام الصلاة و ايتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار» (1) . في بيوت كانت لياليها مشرقة متلألأة بالتهجد و البكاء و التضرع بين

ص: 92


1- 167. سورة النور آية 36 و 37.

يدي الخالق الذي عظم في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم. و كيف لا يكونون كذلك؟ و هم أهل بيت النبوة، و معدن الرسالة و مختلف الملائكة، و مهبط الوحي، و قد أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا؟ و في النهار كان ذلك البيت محط آمال المسلمين، و معقد أمانيهم، تتزاحم علي بابه كافة الطبقات، من ارباب الحوائج، و رواد الفضيلة، و هواة العلم و المعرفة، و طلاب الهداية، فيجدون ضالتهم المنشودة، و تتحقق أمانيهم المقصودة، فيرجعون بنفوس مطمئنة، و قلوب صافية زاكية و أفكار مستقيمة، و آراء صائبة، قد وجدوا الحل لمعضلات المسائل، و الجواب الصحيح لمهمات القضايا و الامور الدينية و الدنيوية و الاخروية،قد ارتووا من نمير علم تطفح ضفتاه، و لا يترتق جانباه.

ناحية التربية

و اذا نظرنا الي شخصية الامام من ناحية التربية - التي هي احدي العوامل في تكوين الانسان و توجيهه - فلا أراني بحاجة الي التحدث عن هذا الموضوع، فان الامام الصادق، بل و جميع الأئمة (عليهم السلام) في غني عن التربية و المربي، فان الله تعالي أفاض عليهم الكمال، فلا مكان للنقص فيهم حتي يتم ذلك النقص بالتربية! و فيما يلي نذكر بعض الجوانب - من حياة الامام - العائلية و التربوية و الاقتصادية و العلمية و السياسية و غيرها.

ص: 93

حياة الامام الصادق العائلية

في عصر الامام زين العابدين

أدرك الامام الصادق (عليه السلام) خمسة عشر سنة من حياة جده الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) (1) . و من الطبيعي انه سمع الشي ء الكثير من جده الامام السجاد. و منها - كما ورد في مقدمة الصحيفة السجادية -... ان الامام الصادق (عليه السلام) قال - لابنه اسماعيل -: «قم يا اسماعيل! فأتني بالدعاء الذي أمرتك بحفظه و صونه». فقام اسماعيل، فأخرج صحيفة كأنها الصحيفة التي دفعها الي يحيي بن زيد، فقبلها ابوعبدالله، و وضعها علي عينيه و قال: «هذا خط أبي، و املاء جدي (عليهماالسلام) بمشهد مني...». مما يستفاد أنه كان يحضر مجلس جده الامام زين العابدين (عليه السلام) و يستمع الي أحاديثه و أماليه.

ص: 94


1- 168. بناء علي ولادة الامام الصادق سنة 80 و وفاة الامام السجاد سنة 95 من الهجرة.

و قد ذكرنا أحاديث الامام الصادق (عليه السلام) المروية أو المسندة أو المتعلقة بالامام زين العابدين (عليه السلام) في البحث عن الأئمة (صلوات الله عليهم) في الجزء العاشر من الموسوعة.

في عصر الامام محمد الباقر

ان شخصية الامام محمد الباقر (عليه السلام) تستحق كل تقدير و اكبار، كما تستحقه شخصيات الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم أجمعين). و تستحق تلك الشخصية أن يؤلف عنها موسوعة كما كتبنا موسوعة عن ابنه الامام الصادق (عليه السلام). و نسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لتحقيق هذه الأمنية، و تأليف موسوعة عن الامام الباقر (عليه السلام) خدمة للدين، و نشرا للمعرفة. عاش الامام الصادق (عليه السلام) تحت ظل والده الامام الباقر أربعا و ثلاثين سنة، و كما هو المفروض: ان الامام اللاحق يكون صامتا مع وجود الامام السابق، و لا يتصرف في شي ء من الشؤون الخاصة بتصرف الامام، و كذلك كان الامام الصادق (عليه السلام). و قد روي الامام الصادق عن والده أحاديث كثيرة جدا ذكرناها في طيات اجزاء موسوعة الامام الصادق (عليه السلام). كما ذكرنا للامام الباقر (عليه السلام) مواعظ و نصائح خاصة موجهة الي ولده الامام الصادق (عليه السلام). و كان الامام الصادق (عليه السلام) يرافق أباه في حله وتر حاله، في سفره و حضره.

ص: 95

و قد نص الامام الباقر (عليه السلام) علي امامة ولده الامام الصادق (عليه السلام) و قد ذكرنا بعضها في بداية الكتاب. و ترشدنا الأحاديث الي ان الامام الصادق (عليه السلام) كان يرافق أباه الامام الباقر (عليه السلام) كما يرافق التلميذ استاذه، و كثيرا ما كان الوالد يهدي الي الولد أفضل المواعظ، و أغلي النصائح، و أشرف التجارب و أحسن دروس الحكم و المعرفة. و ليس معني ذلك ان الامام الصادق (عليه السلام) كان يجهل تلك الامور، فقد يكون سرد المواعظ و النصائح من امام الي آخر من قبيل: «اياك أعني فاسمعي يا جارة». و قد ورد في الحديث ان النبي (صلي الله عليه و آله) قال لجبرئيل: «عظني» مع العلم ان النبي كان أعلم من جبرئيل، و لم يكن بحاجة الي أن يسمع من جبرئيل أشياء بديهية واضحة، كقول جبرئيل له: «عش ما شئت فانك ميت، و احبب من شئت فانك مفارقه، و اعمل ما شئت فانك لاقيه» (1) فهذه قضايا و امور يعلمها كل أحد. و لكن الحكمة تقتضي ان لا يستنكف رسول الله (صلي الله عليه و آله) - و هو الرجل الكامل - من الاستماع الي المواعظ و النصائح، حتي لا يستنكف غيره من قبول موعظة أو نصيحة يسمعها أو يقرؤها.

ص: 96


1- 169. الكافي: ج 3 ص 255 ح 17.

حياة الامام الصادق التربوية

اشاره

ان المعلمين و المدرسين و الأساتذة الذين يدرسون في المدارس و الكليات لا يهتمون - علي الأكثر - الا بتدريس المواد التي كلفوا بتدريسها، كالعلوم و الرياضيات، و التاريخ و الجغرافيا و الكيمياء و الفيزياء و أمثال ذلك، و لا يهتمون بالنواحي المعنوية و تزكية النفوس، و بث روح الأخلاق و الفضيلة في الطلاب. و انما يقوم بهذه الامور الرجال الالهيون، الذي يؤمنون بالله و باليوم الآخر، و يعملون لله، و طلبا لمرضاته، لا للراتب، و لا اسقاطا للتكليف، و لا رئاء و لا سمعة. و من الواضح أن المربي يجب أن يكون عارفا باصول التربية و فنونها، و ان يكون له المام كبير بعلم النفس، و البلاغة، حتي يورد الكلام بما يقتضي الحال، فتكون النتيجة قطعية و مضمونة اذا كانت النفس مستعدة للقبول، و اذا لم يكن هناك مانع نفسي كالعناد و الجحود و أمثال ذلك من موجبات الضلالة و الانحراف. بعد هذه المقدمة الوجيزة نقول:

ص: 97

ان الامام الصادق (عليه السلام) كان يري أن من وظائف الامام الشرعية هي تربية المجتمع البشري بصورة عامة، و المجتمع الاسلامي بصورة خاصة، و المجتمع الشيعي بصورة أخص. فاذا كان الامام لا يجد آذانا صاغية واعية الا عند شيعته - المعتقدين بامامته المحسوبين عليه بسبب انتمائهم اليه - فان ذلك كان يدفعه الي تضاعف الاهتمام بأداء الواجب الديني و الأخلاقي المقدس الملقي علي عاتقه، تجاه الخط الموالي له، المتجارب معه. و كما لا يخفي ان التدريس قد يكون علميا و قد يكون عمليا، و بعبارة اخري: قد يكون التعليم باللسان و البيان، و قد يكون بتجسيم الموضوع في الأفعال. فقد يأمر الاستاذ تلميذه بحسن الخلق، و يذكر له شرف هذه الفضيلة عند الله و عند الناس، في الدنيا و في الآخرة. و قد يعلم الاستاذ حسن الخلق عمليا، فتظهر من الاستاذ الأخلاق الطيبة، و الصفات الكريمة في لقاءاته مع الأفراد، من السلام الحار، و بشاشة الوجه، و رحابة الصدر، و الاحترام اللائق، و المجاملة، و رعاية العواطف، و أمثال ذلك مما يطول الكلام بذكرها. فاذا رأي التلميذ من استاذه هذه الصفات - التي يحبها كل قلب سليم، و يستحسنها كل ذي طبع صحيح - فمن الطبيعي انه يتعلم ذلك، لأن الطبيعة سراقة. أيها القارئ الكريم: كانت الاصول التربوية عند الامام الصادق (عليه السلام) تشمل القسمين كليهما، فكان (عليه السلام) يأمر بمكارم الأخلاق، و الصفات الحميدة، و تصدر منه تلك الأخلاق و الصفات.

ص: 98

و لا ابالغ اذا قلت: ان مئات الأحاديث الواردة في موسوعتنا - موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) - تشمل أحد القسمين أو تشملهما معا. و القارئ النبيه سوف ينتبه الي هذه النقاط و النكات أثناء مطالعته للأحاديث الموجودة هناك. و لأجل أن لا يخلو هذا البحث من المثال نذكر - هنا - بعض النماذج، من هذه الاحاديث: أما القسم الأول: و هو التربية باللسان و البيان فاليك ما يلي:

هذا أدب جعفر

1- روي عن زيد الشحام قال: قال لي ابوعبدالله (عليه السلام): «أقرأ - علي من تري أنه يطيعني منهم، و يأخذ بقولي - السلام، و اوصيكم بتقوي الله (عزوجل) و الورع في دينكم، و الاجتهاد لله، و صدق الحديث، و أداء الأمانة، و طول السجود، و حسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلي الله عليه و آله). أدوا الأمانة الي من ائتمنكم عليها، برا أو فاجرا، فان رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان يأمر بأداء الخيط و المخيط. صلوا عشائركم، و اشهدوا جنائزهم، و عودوا مرضاهم، و أدوا حقوقهم، فان الرجل منكم اذا ورع في دينه، و صدق الحديث، و أدي الأمانة، و حسن خلقه مع الناس قيل: «هذا جعفري» فيسرني ذلك، و يدخل علي منه السرور، و قيل: «هذا أدب جعفر». و اذا كان علي غير ذلك، دخل علي بلاؤه و عاره، و قيل: «هذا أدب جعفر».

ص: 99

فوالله لحدثني أبي (عليه السلام): ان الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للأمانة (1) و أقضاهم للحقوق، و أصدقهم للحديث، اليه وصاياهم و ودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول [العشيرة]: من مثل فلان؟ انه لآدانا للامانة و أصدقنا للحديث (2) .

هكذا تكون الصلاة

2- و عن حماد بن عيسي قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام) يوما: يا حماد تحسن ان تصلي؟ قال: فقلت: يا سيدي أنا احفظ حريز في الصلاة. [قال] فقال: لا عليك [يا حماد] قم فصل. قال: فقمت بين يديه متوجها الي القبلة فاستفتحت الصلاة فركعت و سجدت. فقال: يا حماد لا تحسن ان تصلي! ما أقبح بالرجل [منكم] يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فلا يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة!! قال حماد: فاصابني في نفسي الذل فقلت: جعلت فداك فعلمني الصلاة. فقام أبوعبدالله (عليه السلام) مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا علي فخذيه، قد ضم أصابعه و قرب بين قدميه حتي كان بينهما [قدر] ثلاث أصابع منفرجات، و استقبل باصابع رجليه جميعا [القبلة] لم

ص: 100


1- 170. أي: اكثرهم اداء للأمانة.
2- 171. الكافي: ج 2 ص 636 ح 5.

يحرفها عن القبلة و قال بخشوع: (الله اكبر) ثم قرأ الحمد بترتيل و «قل هو الله أحد» ثم صبر هنيئة بقدر ما يتنفس و هو قائم ثم [رفع يديه حيال وجهه و] قال: (الله اكبر) و هو قائم ثم ركع، و ملأ كفيه من ركبتيه منفرجات و رد ركبتيه الي خلقه ثم استوي ظهره حتي لو صب عليه قطرة [من] ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره، و مد عنقه و غض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل فقال: (سبحان ربي العظيم و بحمده) ثم استوي قائما فلما استمكن من القيام قال: (سمع الله لمن حمده) ثم كبر و هو قائم و رفع يديه حيال وجهه ثم سجد، و بسط كفيه مضمومتي الاصابع بين يدي ركبتيه حيال وجهه فقال: (سبحان ربي الأعلي و بحمده) ثلاث مرات و لم يضع شيئا من جسده علي شي ء منه، و سجد علي ثمانية أعظم: الكفين، و [عيني] الركبتين و أنامل ابهامي الرجلين، و الجبهة، و الأنف، و قال (1) : سبع منها فرض [يسجد عليها و هي التي ذكرها الله (عزوجل) في كتابه و قال: «و ان المساجد لله فلا تدعوا مع الله احدا] (2) و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و الابهامان]، و وضع الانف علي الارض سنة [و هو الارغام]، ثم رفع رأسه من السجود فلما استوي جالسا قال: (الله اكبر) ثم قعد علي فخذه الايسر قد وضع قدمه الأيمن علي بطن قدمه الايسر و قال: (استغفر الله ربي و أتوب اليه) ثم كبر و هو جالس و سجد الثانية و قال كما قال في الأولي و لم يضع شيئا من بدنه علي شي ء منه في ركوع و لا سجود و كان مجنحا و لم يضع ذراعيه علي الارض فصلي ركعتين علي هذا و يداه مضمومة الاصابع و هو جالس في

ص: 101


1- 172. بعد الفراغ من الصلاة، لأن الكلام يبطل الصلاة، و يحتمل أن الصلاة كانت تعليمية و لم ينو الامام نية الصلاة.
2- 173. سورة الجن آية 18.

لا... للبطالة

3 - و عن عبدالرحمن بن الحجاج، قال: كان رجل أصحابنا بالمدينة، فضاق ضيقا شديدا و اشتدت حالته، فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): اذهب، فخذ حانوتا في السوق، و ابسط بساطا، و ليكن عندك جرة من ماء، و ألزم باب حانوتك. قال: ففعل الرجل، فمكث ما شاء الله. قال [الراوي]: ثم قدمت رفقة (1) من مصر، فألقوا متاعهم، كل رجل منهم عند معرفته (2) و عند صديقه، حتي ملأوا الحوانيت، و بقي رجل منهم لم يصب حانوتا يلقي فيه متاعا. فقال له أهل السوق: هاهنا رجل ليس به بأس، و ليس في حانوته متاع، فلو ألقيت متاعك في حانوته. فذهب اليه فقال له: القي متاعي في حانوتك؟ فقال له: نعم. فألقي متاعه في حانوته، و جعل يبيع متاعه، الأول، فالأول، حتي اذا حضر خروج الرفقة بقي عند الرجل شي ء يسير من متاعه، فكره المقام عليه. فقال - لصاحبنا -: اخلف هذا المتاع عندك، تبيعه و تبعث الي بثمنه؟ قال [الراوي]: فقال: نعم.

ص: 102


1- 174. التهذيب: ج 2 ص 81 ح 301.
2- 175. الرفقة: الجماعة ترافقهم في سفرك. (أقرب الموارد).

فخرجت الرفقة، و خرج الرجل معهم، و خلف المتاع عنده، فباعه صاحبنا و بعث بثمنه اليه. قال: فلما أن تهيأ خروج رفقة مصر من مصر، بعث اليه ببضاعة فباعها، و رد اليه بثمنها. فلما رأي ذلك الرجل أقام بمصر، و جعل يبعث اليه بالمتاع، و يجهز عليه. قال: فأصاب، و كثر ماله و أثري (1) . أقول: لعل الحديث يحتاج الي شي ء من التوضيح: كان التجار القادمون من المصر الي المدينة، يعرفون بعض أصحاب الحوانيت، فكان كل تاجر يجعل بضاعته - التي جاء بها من مصر - عند من يعرفه من أهل السوق ليبيعها، و لكن احد اولئك التجار لم يعرف أحدا حتي يجعل بضاعته عنده ليبيعها، فارشده بعض الناس الي ذلك الرجل الذي أمره الصادق (عليه السلام) أن يأخذ حانوتا في السوق و يفرشه بالبساط. فذهب التاجر الي ذلك الرجل و اتفق معه أن يجعل بضاعه في حانوته حتي يبيعها. فباع الرجل بضاعة التاجر، و بقي منها شي ء، و ما أحب ذلك التاجر أن يمكث في المدينة أكثر من ذلك، فاتفق من الرجل علي أن يبقي المتاع عنده و يبيعه، و يبعث بثمنه الي مصر. و خرج التاجر الي مصر، و باع الرجل البضاعة، و ارسل الثمن الي مصر، فجعل التاجر يرسل البضائع الي الرجل، و الرجل يبيعها، و يرسل

ص: 103


1- 176. اي عند من يعرفه.

الثمن الي التاجر، و يأخذ اجرته المتفق عليها. فمكث التاجر في مصر يبعث المتاع الي هذا الرجل، فأصاب الرجل أموالا و ثروة كبيرة من هذا الطريق و ببركة ارشاد الامام الصادق (عليه السلام) اياه.

التقية في حكومة الظالمين

4- و عن أبي بصير، قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: «اتقوا الله، و عليكم بالطاعة لائمتكم، قولوا ما يقولون، و اصمتوا عما صمتوا، فانكم في سلطان من قال الله تعالي: «و ان كان مكرهم لتزول منه الجبال» (1) (يعني بذلك ولد العباس). فاتقوا الله، فانكم في هدنة (2) صلوا في عشائرهم، و اشهدوا جنائزهم، و أدوا الأمانة اليهم، و عليكم بحج هذا البيت، فأدمنوه، فان في ادمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم و أهوال يوم القيامة» (3) .

الدعاء لحل المشاكل

5 - روي عن الطيالسي قال: جئت من مكة الي المدينة، فلما كانت علي ليلتين من المدينة، ذهبت راحلتي و عليها نفقتي و متاعي و أشياء كانت للناس معي. فأتيت أباعبدالله (عليه السلام) فشكوت اليه، فقال: ادخل المسجد فقل:

ص: 104


1- 177. الكافي: ج 5 ص 309 ح 25.
2- 178. سورة ابراهيم آية 46.
3- 179. الهدنة: بمعني المصالحة و السكون (أقرب الموارد).

«اللهم اني أتيتك زائرا لبيتك الحرام، و ان راحلتي قد ذهبت، فردها علي» فجعلت أدعو، فاذا منا ينادي علي باب المسجد: يا صاحب الراحلة اخرج فخذ راحلتك، فقد آذيتنا منذ الليلة، فأخذتها و ما فقدت منها خيطا واحدا (1) .

العفة الجنسية و الورع عن المحارم

6- و عن مهزم قال: كنا نزولا بالمدينة، و كانت جارية لصاحب المنزل تعجبني و اني أتيت الباب فاستفتحت، ففتحت لي الجارية، فغمزت ثديها، فلما كان من الغد دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: يا مهزم أين كان أقصي أثرك اليوم؟ فقلت له: ما برحت المسجد. فقال: أما تعلم ان أمرنا الا بالورع؟! (2) . و هناك رواية مشابهة لهذه الرواية مروية عن ابراهيم بن مهزم الأسدي و جاء فيها قول الامام الصادق (عليه السلام) له: «أما عملت أن ولايتنا لا تنال الا بالورع؟!» (3) . و في رواية ثالثة مشابهة، مروية عن أبي كهمس، و لعله كنية ابراهيم ابن مهزم، و ان لم يصرح به أحد من علماء الرجال (4) .

ص: 105


1- 180. أمالي الطوسي: ج 2 ص 280. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 162.
2- 181. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 638 ح 42. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 107.
3- 182. بصائر الدرجات: ص 263 ح 2.
4- 183. بحارالأنوار ج 47 ص 101.

قضاء حوائج المؤمنين

7- و عن سكين بن عمار، عن رجل من أصحابنا يكني أباأحمد قال: كنت مع أبي عبدالله (عليه السلام) في الطواف يده في يدي اذ عرض لي رجل له الي حاجة فأومأت اليه بيدي فقلت له: كما أنت حتي أفرغ من طوافي (1) ، فقال لي أبوعبدالله: ما هذا؟ قلت: أصلحك الله رجل جاءني في حاجة. فقال لي: مسلم هو؟ قلت: نعم. فقال لي: اذهب معه في حاجته. فقلت له: أصلحك الله فأقطع الطواف؟ فقال: نعم. قلت: و ان كنت في المفروض؟ قال: نعم و ان كنت في المفروض. قال: و قال أبوعبدالله (عليه السلام): من مشي مع أخيه المسلم في حاجته كتب الله له ألف ألف حسنة و محي عنه ألف ألف سيئة و رفع له ألف ألف درجة (2) .

ص: 106


1- 184. بحارالأنوار ج 47 ص 71.
2- 185. أي قف مكانك و الزمه حتي افرغ من الطواف.

نعم... لطلب العلم لا... لهتك استار الناس

8- عن عمرو بن جميع قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام): من جاءنا يلتمس الفقه و القرآن و تفسيره فدعوه، و من جاءنا يبدي عورة (1) قد سترها الله فنحوه. فقال له رجل من القوم: جعلت فداك والله انني لمقيم علي ذنب منذ دهر اريد أن أتحول عنه الي غيره فما أقدر عليه. فقال له: ان كنت صادقا فان الله يحبك و ما يمنعه أن ينقلك منه الي غيره الا لكي تخافه (2) .

لا تظهر فقرك للناس فتهون عليهم

9- عن مفضل بن قيس بن رمانة قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فذكرت له بعض حالي، فقال: يا جارية هات ذلك الكيس، هذه أربعمائة دينار وصلني بها أبوجعفر (3) فخدها و تفرج بها. قال: فقلت: لا والله - جعلت فداك - ما هذا دهري (4) و لكن أحببت أن تدعو الله (عزوجل) لي. قال: فقال: اني سأفعل و لكن اياك أن تخبر الناس بكل حالك فتهون

ص: 107


1- 186. الكافي: ج 4 ص 414 ح 7.
2- 187. العورة: كل ما يستحيي منه و يسوء صاحبه أن يري ذلك منه (مجمع البحرين) و الظاهر أن المراد هتك أستار الناس.
3- 188. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 44 ح 4.
4- 189. المراد بأبي جعفر: المنصور الدوانيقي.

عليهم (1) .

لا تكن حائكا

10- عن أبي اسماعيل الصيقل الرازي، قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و معي ثوبان فقال لي: يا أبااسماعيل تجيئني من قبلكم أثواب كثيرة و ليس يجيئني مثل هذين الثوبين اللذين تحملهما أنت. فقلت: جعلت فداك تغزلهما ام اسماعيل و أنسجهما أنا. فقال لي: حائك؟ قلت: نعم. قال: لا تكن حائكا. قلت: فما أكون؟ قال: كن صيقلا (2) .و كانت معي مائتا درهم فاشتريت بها سيوفا و مرايا عتقاء (3) و قدمت بها الري و بعتها بربح كثير (4) .

اتق الله... و لا تعجل

11- و عن جرير بن مرازم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) اني اريد العمرة فأوصني. فقال: اتق الله و لا تعجل.

ص: 108


1- 190. أي ليس هذا من عادتي و همتي، فان الدهر يقال للهمة و العادة.
2- 191. الكافي: ج 4 ص 21 ح 7.
3- 192. صقل السيف صقلا و صقالا أي جلاه، و يقال لمن يعمل ذلك: الصيقل. (الصحاح).
4- 193. عتقاء: جمع عتيقة، و مرايا جمع مرآة و المقصود: اشتريت مرايا عتيقة قد زال عنها الزيبق، فصقلتها بالزيبق، و قدمت الي الري.

فقلت: أوصني! فلم يزدني علي هذا، فخرجت من عنده من المدينة فلقيني رجل شامي يريد مكة فصحبني، و كان معي سفرة فأخرجتها و أخرج سفرته و جعلنا نأكل، فذكر أهل البصرة فشتمهم، ثم ذكر أهل الكوفة فشتمهم ثم ذكر الصادق (عليه السلام) فوقع فيه، فأردت أن أرفع يدي فاهشم أنفه و احدث نفسي بقتله أحيانا، فجعلت اتذكر قوله: «اتق الله و لا تعجل» و أنا أسمع شتمه، فلم أعد ما أمرني (1) .

المال الحلال خير من المال الحرام

12- و روي أن رجلا دخل علي الصادق (عليه السلام) و شكا اليه فاقته. فقال له (عليه السلام): طب نفسا فان الله يسهل الأمر. فخرج الرجل، فرأي (2) في طريقه هميانا فيه سبعمائة دينار فأخذها (3) و انصرف الي أبي عبدالله (عليه السلام) و حدثه بما وجد، فقال له: اخرج و ناد عليه سنة، لعلك تظفر بصاحبه، فخرج الرجل و قال: لا انادي في الأسواق، و في مجمع الناس، و خرج الي سكة (4) في آخر البلد، و قال: من ضاع له شي ء؟ فاذا رجل كانه ميت في جانب قال له: ذهب مني سبعمائة دينار في شي ء كذا و كذا. قال: معي ذلك، فلما رآه، و كان معه ميزان فقال: لا تخرج، فوزنها، فكان كما كان لم تنقص، فأخذ منها سبعين دينارا و أعطاها الرجل، فأخذها و خرج الي أبي عبدالله (عليه السلام)،

ص: 109


1- 194. التهذيب: ج 6 ص 363 ح 1042.
2- 195. بحارالأنوار: ج 47 ص 34.
3- 196. في بحارالأنوار: فلقي.
4- 197. في بحارالأنوار: فأخذ منه ثلاثين دينارا.

فلما رآه تبسم و قال: يا هذه هاتي الصرة فاتت (1) بها فقال: هذا ثلاثون، و قد أخذت سبعين من الرجل، و سبعون حلالا خير من سبعمائة حرام (2) .

هذه الطريقة الموعظة

13- و عن الشقران (3) مولي رسول الله (صلي الله عليه و آله): خرج العطاء أيام أبي جعفر و ما لي شفيع، فبقيت علي الباب متحيرا، و اذا أنا بجعفر الصادق (عليه السلام) فقمت اليه فقلت له: جعلني الله فداك أنا مولاك الشقران (4) فرحب بي، و ذكرت له حاجتي فنزل و دخل و خرج و أعطاني من كمه فصبه في كمي ثم قال: «يا شقران (5) الي الحسن من كل أحد حسن و انه منك أحسن لمكانك منا، و ان القبيح من كل أحد قبيح و انه منك أقبح» وعظه علي جهة التعريض لأنه كان يشرب (6) .

اياك أنت تكون فحاشا أو صياحا

14- و قال سماعة بن مهران: دخلت علي الصادق (عليه السلام) فقال لي مبتدئا: يا سماعة ما هذا الذي بينك و بين جمالك في الطريق؟!! اياك أن تكون فاحشا أو صياحا. قال: والله لقد كان ذلك لأنه ظلمني، فنهاني (عليه السلام) عن مثل ذلك (7) .

ص: 110


1- 198. السكة: الزقاق. (مجمع البحرين).
2- 199. و في بعض النسخ (فاتي بها) أو (فأتيت بها).
3- 200. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 709 ح 4. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 117.
4- 201. في بحارالأنوار: الشقراني.
5- 202. في بحارالأنوار: الشقراني.
6- 203. في بحارالأنوار: الشقراني.
7- 204. مناقب آل ابي طالب: ج 4 ص 236. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 349.

حياة الامام الصادق الاقتصادية

لا يستغني الانسان في حياته من المال، لتأمين حياته الاقتصادية من مأكله و ملبسه و مسكنه، و امرار معاشه بصورة عامة. فهناك من يؤمن حياته الاقتصادية بطرق غير مشروعة، و لا يبالي من أين وصل اليه المال و اين صرفه أ و لكن اولياء الله يهتمون بهذه الناحية كاهتمامهم بالعبادات، فان طلب الرزق الحلال يعتبر عندهم عبادة يتقربون بها الي الله تعالي. و الحياة الاقتصادية للأئمة الطاهرين (عليهم السلام) كانت مركزة علي هذه النواحي الشرعية، فتراهم يهتمون بالزراعة، و تأمين جانب من حياتهم الاقتصادية، و يعتبرون الانتاج الزراعي أطهر و أحل الأرزاق. و ربما استثمروا أموالهم عن طريق التجارة، لا حرصا علي جمع المال، و انما لأجل طلب المعيشة عن طريق الحلال، و تأمين ما يحتاجون اليه، استغناء عن الناس. و هذا العمل له تأثير عجيب في سمعة الرجل القيادي، بأن لا يكون كلا علي المجتمع و لا تنحصر معيشته علي التبرعات أو الهدايا أو الحقوق

ص: 111

الشرعية و أمثال ذلك، بل يكون قائما بذاته في حياته الاقتصادية، و لا يحتاج الي أحد. و من هذا المنطلق كان الامام الصادق (عليه السلام) يقوم في هذه الامور بنفسه، فتراه تارة يحضر في مزرعته، و يسقي الأرض، و يتصبب عرقا، أو يكيل التمر بيده، و أمثال ذلك. أضف الي ذلك انه (عليه السلام) قدوة و اسوة للمسلمين، من ذلك العهد الي يوم يبعثون، و عمله حجة عند من يعتقد بامامته، فكان يتعب جسمه في هذا السبيل كي يقتدي به شيعته في استثمار الأرض و استخراج بركاتها كي يعيشوا حياة طيبة سعيدة، من ناحية الاستغناء علي الناس، و تحصيل المعاش و الرزق الحلال، و حفظ ماء الوجه. و اليك بعض الأحاديث التي تؤكد ما ذكرناه: 1- عن محمد بن عذافر، عن أبيه قال: دفع الي أبوعبدالله (عليه السلام) سبعمائة دينا و قال: يا عذافر اصرفها في شي ء، أما علي ذاك ما بي شره (1) و لكن أحببت أن يراني الله (عزوجل) متعرضا لفوائده. قال عذافر: فربحت فيها مائة دينار، فقلت له في الطواف: جعلت فداك، قد رزق الله (عزوجل) فيها مائة دينار، فقال: أثبتها في رأس مالي (2) . و رويت هذه الرواية بصورة اخري و هي: عن محمد بن عذافر عن أبيه قال (3) : أعطي أبوعبدالله (عليه السلام) أبي ألفا و سبعمائة دينار فقال

ص: 112


1- 205. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 224. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 128.
2- 206. ما بي شره: أي حرص.
3- 207. الكافي: ج 5 ص 77 ح 16.

له: اتجر بها ثم قال: أما انه ليس لي رغبة في ربحها و ان كان الربح مرغوبا فيه و لكني أحببت أن يراني الله (جل و عز) متعرضا لفوائده. قال: فربحت له فيها مائة دينار ثم لقيته فقلت له: قد ربحت لك فيها مائة دينار. قال: ففرح أبوعبدالله (عليه السلام) بذلك فرحا شديدا فقال لي: أثبتها في رأس مالي. قال: فمات أبي و المال عنده فأرسل الي أبوعبدالله (عليه السلام) فكتب: عافانا الله و اياك ان لي عند أبي محمد ألفا و ثمانمائة دينار أعطيته يتجر بها فادفعها الي عمر بن يزيد، قال، فنظرت في كتاب أبي فاذا فيه لأبي موسي (1) عندي ألف و سبعمائة دينار و أتجر له فيها مائة دينار، عبدالله ابن سنان و عمر بن يزيد يعرفانه (2) . 2- و عن أبي عمرو الشيباني قال: رأيت أباعبدالله (عليه السلام) و بيده مسحاة و عليه ازار غليظ يعمل في حائط له و العرق يتصاب عن ظهره فقلت: جعلت فداك أعطني أكفك. فقال لي: اني احب أن يتأذي الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة (3) . 3- و عن محمد بن مرازم، عن أبيه أو عمه قال: شهدت أباعبدالله (عليه السلام) و هو يحاسب وكيلا له و الوكيل يكثر أن يقول: والله ما خنت والله ما خنت، فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): يا هذا خيانتك

ص: 113


1- 208. ضمير «قال» راجع الي ابن عذافر كما يظهر من آخر الحديث حيث قال (عليه السلام): «ان لي عند أبي محمد».
2- 209. يعني به أباعبدالله (عليه السلام) فان ابنه موسي (عليه السلام) و لعله كتب هكذا تقية (مرآة العقول).
3- 210. الكافي: ج 5 ص 76 ح 12.

و تضييعك علي مالي سواء، لأن الخيانة شرها عليك. ثم قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): لو أن أحدكم هرب من رزقه لتبعه حتي يدركه، كما أنه ان هرب من أجله تبعه حتي يدركه، من خان خيانة حسبت عليه من رزقه و كتب عليه وزرها (1) .2- و عن معتب قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام) - و قد تزيد السعر بالمدينة -: كم عندنا من طعام؟ قال: قلت: عندنا ما يكفينا أشهر كثيرة. قال: أخرجه و بعه. قال: قلت له: و ليس بالمدينة طعام. قال: بعه. فلما بعته قال: اشتر مع الناس يوما بيوم. و قال: يا معتب اجعل قوت عيالي نصفا شعيرا و نصفا حنطة فان الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة علي وجهها و لكني احب أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة (2) . 5- و عن عبدالأعلي مولي آل سام قال: استقبلت أباعبدالله (عليه السلام) في بعض طرق المدينة في يوم صايف شديد الحر فقلت: جعلت فداك! حالك عند الله (عزوجل) و قرابتك من رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أنت تجهد لنفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبدالأعلي خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك (3) .

ص: 114


1- 211. الكافي: ج 5 ص 76 ح 13.
2- 212. الكافي: ج 5 ص 304 ح 4.
3- 213. الكافي، ج 5 ص 166 ح 2.

6- و عن ابن بكير، عن بعض أصحابنا قال: كان أبوعبدالله (عليه السلام) ربما أطعمنا الفراني و الأخبصة (1) ثم يطعم الخبز و الزيت فقيل له: لو دبرت أمرك حتي تعتدل، فقال: انما نتدبر بأمر الله (عزوجل) فاذا وسع علينا وسعنا و اذا قتر علينا قترنا (2) . 7- و عن داود بن سرحان قال: رأيت أباعبدالله (عليه السلام) يكيل تمرا بيده، فقلت: جعلت فداك لو أمرت بعض ولدك أو بعض مواليك فيكفيك. فقال: يا داود انه لا يصلح المرء المسلم الا ثلاثة: التفقة في الدين و الصبر علي النائبة و حسن التقدير في المعيشة (3) (4) . 8- و عن هارون بن عيسي قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام) لمحمد ابنه: يا بني كم فضل معك من تلك النفقة؟ قال: أربعون دينارا. قال: اخرج فتصدق بها. قال: انه لم يبق معي غيرها. قال: تصدق بها فان الله (عزوجل) يخلفها، أما عملت أن لكل

ص: 115


1- 214. الكافي: ج 5 ص 74 ح 3.
2- 215. الفرني: خبز غليظ مستدير. أو خبزة مصعنبة مضمومة الجوانب الي الوسط، تشوي ثم تروي سمنا و لبنا و سكرا. الأخبصة: جمع الخبيص: طعام معمول من التمر و السمن. (اقرب الموارد).
3- 216. الكافي: ج 6 ص 279 ح 1.
4- 217. التفقه في الدين هو تحصيل البصيرة في العلوم الدينية. و النائبة: المصيبة. و تقدير المعيشة: تعديلها بحيث لا يميل الي طرفي الاسراف و التقتير، بل يكون قواما بين ذلك كما قال الله (عزوجل). (الوافي).

شي ء مفتاحا و مفتاح الرزق الصدقة فتصدق بها، ففعل. فما لبث أبوعبدالله (عليه السلام) عشرة أيام حتي جاءه من موضع أربعة آلاف دينار فقال: يا بني أعطينا لله أربعين دينارا فأعطانا الله أربعة آلاف دينار (1) . 9- و عن الحسين الجمال قال: شهدت اسحاق بن عمار يوما و قد شد كيسه و هو يريد أن يقوم فجاءه انسان يطلب دراهم بدينار فحل الكيس فأعطاه دراهم بدينار قال: فقلت له: سبحان الله ما كان فضل هذا الدينار؟ فقال اسحاق: ما فعلت هذا رغبة في فضل الدينار و لكن سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: من استقل قليل الرزق حرم الكثير (2) . و رويت هذه الرواية بصورة اخري، و هي: عن الحسن بن بسام الجمال قال: كنت عند اسحاق بن عمار الصيرفي فجاء رجل يطلب غلة بدينار و كان قد اغلق باب الحانوت و ختم الكيس فأعطاه غلة بدينار فقلت له: ويحك يا اسحاق ربما حملت لك من السفينة ألف ألف درهم. قال: فقال لي: تري كان لي هذا، لكني سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: من استقل قليل الرزق حرم كثيره، ثم التفت الي قال: يا اسحاق لا تستقل قليل الرزق فتحرم كثيره (3) . 10- و روي عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: ما توسل الي أحد بوسيلة و لا تذرع بذريعة أقرب له الي ما يريده مني من رجل سلف اليه مني يد أتبعتها اختها و أحسنت ربها، فاني رأيت منع الأواخر يقطع لسان

ص: 116


1- 218. الكافي: ج 5 ص 87 ح 4.
2- 219. الكافي: ج 4 ص 9 ح 3.
3- 220. الكافي: ج 5 ص 311 ح 30.

شكر الأوائل، و لا سخت نفسي برد بكر الحوائج (1) و قد قال الشاعر: و اذا بليت ببذل وجهك سائلا فابذله للمتكرم المفضال ان الجواد اذا حباك بموعد أعطاكه سلسا (2) بغير مطال و اذا السؤال مع النوال قرنته رجح السؤال و خف كل نوال (3) 11- و عن اسماعيل بن جابر قال: أتيت أباعبدالله (عليه السلام) و اذا هو في حائط له (4) بيده مسحاة و هو يفتح بها الماء و عليه قميص شبه الكرابيس كأنه مخيط عليه، من ضيقه (5) .

ص: 117


1- 221. الكافي: ج 5 ص 318 ح 56.
2- 222. قال العلامة المجلسي (طاب ثراه): قوله (عليه السلام): «و أحسنت ربها» أي تربيتها بعدم المنع بعد ذلك العطاء، فان منع النعم للأواخر يقطع لسان شكر المنعم عليه علي النعم الأوائل، و لما ذكر أنه يحب اتباع بالنعمة بين أنه لا يرد بكر الحوائج أيضا أي الحاجة الاولي التي لم يسأل السائل قبلها (بحارالأنوار: ج 47 ص 39).
3- 223. السلس: السهل اللين المنقاد. (أقرب الموارد).
4- 224. الكافي: ج 4 ص 24 ح 5.
5- 225. الحائط: البستان (أقرب الموارد).

حياة الامام الصادق العلمية

لا أراني بحاجة الي التحدث عن شرف العلم، و فضيلة المعرفة، فلا أبالغ اذا قلت: ان البشر بفطرته يحب العلم و يحترمه. و نري - اليوم و قبل اليوم - ملايين الأماكن قد تأسست باسم المدارس و الجامعات و المعاهد العلمية علي وجه الكرة الأرضية، و يصرف لأجلها - في كل يوم - ملايين الأموال علي اختلاف نقود البلاد. و تبذل - في هذ السبيل - كميات هائلة من الجهود و الطاقات، بالاضافة الي صرف الأعمار، و كل ذلك في سبيل تحصيل العلم، و نشر الثقافة و المعرفة. و الدين الاسلامي في طليعة الأديان التي تحث علي التعلم و التعليم، و يضع بونا شاسعا، و فرقا عظيما بين العالم و الجاهل، كما قال تعالي: «قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون» (1) و غيرها من الآيات الشريفة.

ص: 118


1- 226. الكافي: ج 5 ص 76 ح 11.

و قد روي عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) انه قال: «طلب العلم فريضة علي كل مسلم و مسلمة» (1) . و لا شك أن قيمة العلم بقيمة فائدته، فكلما كانت فائدة العلم أعلي و أغلي و أهم كان ذلك العلم أشرف و أعظم. و من الواضح أن أوجب الأشياء في حياة الانسان هي معرفة الخالق و الايمان به، فتكون النتيجة أن علم التوحيد هو أهم العلوم و أشرفها، و أعلاها و أغلاها. و هذا العلم يسمي ب (علم الكلام) و العلماء المتخصصون بهذا الفن يقال لهم: (المتكلمون). و هذا العلم يشمل اثبات الصانع و توحيده و عدله، و ما يدور في هذا الفلك، من التحدث عن الصفات السبيلة و الثبوتية لله تعالي، و غير ذلك من المباحث التي تحدث عنها الامام الصادق (عليه السلام) في هذا الموضوع. ثم يأتي بعد ذلك التحدث عن العدل و النبوة و الامامة و المعاد، و يعبر عنها ب (اصول الدين) و هي امور عقائدية، لا يجوز فيها التقليد، بل يجب الاعتقاد بها عن دليل صحيح، و برهان قاطع، و حجة ثابتة. ان اصول الدين بمنزلة الاسس للبناء، و فروع الدين بمنزلة البناء نفسه، فاذا كانت الاسس قوية و رصينة كان البناء قويا و متينا، و اذا كانت الاسس ضعيفة كان البناء متضعضعا، سريع الانهيار. ان اصول الدين هي أساس العقيدة الاسلامية، و من الواضح: وجوب الاهتمام بالأساس أكثر من الاهتمام بالبناء.

ص: 119


1- 227. سورة الزمر آية 9.

و من المؤكد أن العلم الذي حث عليه القرآن الكريم و النبي العظيم، و الأئمة الطاهرون (صلوات الله عليهم أجمعين) هو علم الدين، و كل ما يمت الي الدين بصلة. و ليس المقصود علم الهندسة و الرياضيات، و الفيزياء و الكيمياء، أو الصنائع و المهن كالخياطة و النجارة، أو ما يعبر عنه - في زماننا - بالتكنولوجيا، و أمثال ذلك. لأن هذه العلوم لا ترتبط بالدين ارتباطا مباشرا. و ليس معني ذلك سلب فضيلة تلك العلوم، و عدم الاعتراف بنفاستها و شرفها. نعم، يمكن استخدام هذه العلوم في حقل الدين و القضايا الاسلامية، فعند ذلك يمكن اضافتها الي العلوم الدينية بعنوان ثانوي. و هذا البحث يحتاج الي شرح و تفصيل و هو خارج عن موضوع هذا الكتاب. و خلاصة القول: ان الدين هو المركز الأصلي للعلوم، و كل علم يدور في هذا الفلك فهو من الدين، و الا فلا. و كان الامام الصادق (عليه السلام) يحض أصحابه علي طلب العلم بصورة لا مثيل لها، و لا يكتفي بالحث علي تحصيل العلم، بل يأمر - الي جانب ذلك - بالتخلق بالأخلاق الفاضلة كالحلم و الوقار و التواضع، و ينهي عن طلب العلم لأهداف شيطانية كالرياء و المفاخرة و المجادلة. و يركز علي طلب العلم من منابع شريفة، و مصادر نظيفة موثوق بها، فان المعلم له كل التأثير علي التلميذ فيما يلقي عليه: من الحق أو الباطل، و يتفاعل التلميذ بما يتعلمه و يتلقاه من الاستاذ، سواء كان صلاحا أم فسادا، و هدي أم ضلالة.

ص: 120

و لهذا السبب انتشر الصلاح و الفساد، و الهدي و الضلال في المجتمعات البشرية. و قد امتازت تعاليمه (عليه السلام) الثقافية بمزايا كثيرة: منها: انه (عليه السلام) أمر أصحابه بتأليف الكتب، و كتابة الأحاديث التي يسمعونها، و الأخبار التي يروونها، و الأمور التي يتعلمونها، حفظا للأحاديث عن الضياع، و صيانة لها عن التحريف و التغيير. و من الواضح أن تأليف الكتب يعتبر أحسن وسيلة لنقل العلوم و الحقائق، أو الآراء و الأفكار، من جيل الي جيل، بل الي الأجيال القادمة و القرون الآتية، كما تحقق كل هذا، فهي بمنزلة الكنوز التي يتركها السلف للخلف، امتدادا للانتفاع من تلك الكنوز التي لا يمكن تثمينها، لأنها لا تنفد. و لهذا قال (عليه السلام): «اكتبوا، فانكم لا تحفظون حتي تكتبوا». و قال: «احتفظوا بكتبكم، فانكم سوف تحتاجون اليها» (1) . انظر الي هذه التعاليم التي هي أغلي من الدنيا و ما فيها. فلو لا تلك الأحاديث التي دونت في تلك العصور، و لو لا الكتب التي ألفها المحدثون و الرواة في شتي المواضيع الدينية لكنا - نحن - اليوم نعيش في ظلمات الجهل و الحيرة، و كنا نعاني من حرمان عظيم، و فقر شديد من حيث الثقافة الدينية. فسلام الله علي الامام الصادق الذي أمر شيعته بتأليف الكتب، و رحمة الله علي الرواة و المحدثين الذين جمعوا الأحاديث و دونوها حتي

ص: 121


1- 228. بحارالأنوار: ج 1 ص 177.

وصلت الينا. و لهذا السبب صنف اربعمائة رجل من أصحابه اربعمائة كتاب (كل واحد كتابا) و سمي كل كتاب أصلا، حتي عرفت بالأصول الأربعمائة. و أما بقية المؤلفات التي صنفها الأصحاب في شتي المواضيع فانها تتجاوز المئات، بل و تبلغ الآلاف. و منها: أنه (عليه السلام) أمر أصحابه بنشر العلوم، و تعليم الجاهل، و تنبيه الغافل، فهو يريد من أصحابه أن يقدموا انتاجات و انجازات تبقي من بعدهم، و تسري الي غيرهم.

ص: 122

علم الامام

لقد ذكرنا في كتاب (الامام الهادي (عليه السلام) من المهد الي اللحد) كلمة موجزة حول علم الامام، و من المناسب ان ننقل تلك الكلمة هنا لعلها لا تخلو من فائدة، و يمكن ان قاري ء هذا الكتاب لم يطلع علي تلك الكلمة الموجزة: ان من جملة خصائص أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هي العلوم التي امتازوا بها عن غيرهم: من العلماء و الحكماء و كافة طبقات البشر، و قد تواترت مئات الأحاديث - من هذا النوع - عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و الأئمة (عليهم السلام) مما يدل علي مدي اطلاعهم علي شتي العلوم و الفنون، بحيث لا يمكن تكذيبها أو التشكيك فيها. و قد ألف الكثيرون من علمائنا - علي مر القرون - مؤلفات عديدة حول علم الامام. و قد اتخذ أعداء أهل البيت هذه الحقيقة وسيلة للتهريج ضد الشيعة فكانوا - و لا يزالون - يشنون الغارات بأقلامهم المسمومة، و يقولون: ان الشيعة تعتقد بأن الأئمة يعلمون الغيب، و لا يعلم الغيب الا الله.

ص: 123

أقول: ان الشيعة يعتقدون بأن علم الغيب خاص بالله تعالي، و لا يعلم الغيب الا هو (عزوجل)، و لكنه سبحانه يظهر علي علم الغيب من ارتضاه من أوليائه. و كل من نسب علم الغيب - بالاستقلال - الي الأنبياء أو الأئمة فهو جاهل. و كل من نسب هذه العقيدة الي الشيعة فهو كذاب مفتر ضال. و قد ذكرنا شيئا يتعلق بهذا الموضوع في كتاب (الامام المهدي (عليه السلام) من المهد الي الظهور) ص 185، و ذكرنا بأن الامام أميرالمؤمنين (عليه السلام) لما أخبر عما يجزي علي البصرة من صاحب الزنج و الاتراك قال له بعض أصحابه: لقد اعطيت - يا أميرالمؤمنين - علم الغيب!. فقال الامام: ليس هو بعلم الغيب، و انما هو تعلم من ذي علم...» الي آخر كلامه (عليه السلام). من الواضح: أننا لو أردنا أن نتحدث عن علم الامام، و أن نستعرض الآيات و الروايات حول هذا البحث لاحتجنا الي تأليف موسوعة حول هذا الموضوع. و لكننا نذكر لمحة خاطفة، و كلمة موجزة لئلا يخلو هذا الكتاب من هذه الفائدة، فنقول: ان العلوم التي تحصل للناس علي نوعين: الأول: العلوم التي تحصل عن طريق التعلم من الغير، كالدراسة و المطالعة أو التجارب أو الاستنباط و ما شابه ذلك، و هذا العلم يسمي بالعلم الاكتسابي، لأن صاحبه اكتسبه، و تعلمه بطرق طبيعية. الثاني: العلوم التي تحصل لبعض الأفراد عن طريق الالقاء و الالهام و القذف في القلوب، و يقال لها: العلم اللدني. و الي هذا النوع جاءت الاشارة في القرآن الكريم في آيات متعددة،

ص: 124

منها في قصة النبي يوسف (عليه السلام) حيث قال (تعالي): 1- «و يعلمك من تأويل الأحاديث» (1) . 2- «و لنعلمه من تأويل الأحاديث» (2) . 3- «ذلكما مما علمني ربي» (3) . 4- «و انه لذو علم لما علمناه» (4) . 5- و في قصة الخضر: «آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما» (5) . 6- و في قصة داود (عليه السلام): «و علمناه صنعة لبوس لكم» (6) . 7- «و آتاه الله الملك و الحكمة و علمه مما يشاء» (7) . 8- «و لقد آتينا داود و سليمان علما» (8) . 9- «و زاده بسطة في العلم» (9) . 10- و في قصة سليمان (عليه السلام): «علمنا منطق الطير» (10) . 11- «ففهمناها سليمان و كلا آتينا حكما و علما» (11) . 12- و في قصة لوط (عليه السلام): «و لوطا آتيناه حكما و علما» (12) .

ص: 125


1- 229. بحارالأنوار: ج 2 ص 152.
2- 230. سورة يوسف الآيات 68،37،21،6.
3- 231. سورة يوسف الآيات 68،37،21،6.
4- 232. سورة يوسف الآيات 68،37،21،6.
5- 233. سورة يوسف الآيات 68،37،21،6.
6- 234. سورة الكهف آية 65.
7- 235. سورة الأنبياء آية 80.
8- 236. سورة البقرة آية 251.
9- 237. سورة النمل آية 15.
10- 238. سورة البقرة آية 247.
11- 239. سورة النمل آية 16.
12- 240. سورة الأنبياء آية 79.

13- و في قصة عيسي (عليه السلام): «و اذ علمتك الكتاب و الحكمة و التوراة و الانجيل» (1) . 14- «و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم» (2) . 15- و في قصة لقمان (عليه السلام): «و لقد آتينا لقمان الحكمة» (3) . 16- «و قد آتيناك من لدنا ذكرا» (4) . ... الي غيرها من الآيات التي تشير الي العلوم التي تلقاها الأنبياء من عند الله تعالي، لا بالدراسة و لا بالمطالعة و لا بالتجارب و لا بأمثالها، و انما قذف الله في قلوبهم تلك العلوم. و صريح هذه الآيات أن الله تعالي علم يوسف (عليه السلام) تفسير الأحلام، و علم داود (عليه السلام) كيفية صناعة الدرع، و علم الله سليمان بن داود (عليه السلام) منطق الطيور، بل و منطق بقية الحيوانات كالنمل، - كما صرح بذلك القرآن الكريم في قصة الهدهد و قصة النملة التي «قالت يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم... فتبسم ضاحكا من قولها» - و هكذا ألهمه الله حكم الزرع الذي نفشت (5) فيه غنم القوم، و القصة مشهورة مذكورة في كتب التفاسير و غيرها. و هكذا علم الله عيسي بن مريم (عليه السلام) الاسم الأعظم، الذي كان يبري ء به الأكمه و الأبرص و يحيي الموتي، و يخلق من الطين كهيئة

ص: 126


1- 241. سورة الأنبياء آية 74.
2- 242. سورة المائدة آية 110.
3- 243. سورة آل عمران آية 49.
4- 244. سورة لقمان آية 12.
5- 245. سورة طه آية 99.

الطير، و ينفخ فيه فتكون طيرا باذن الله. و استطاع النبي عيسي أن يخبر الناس بما يأكلون من الطعام و بما يدخرونه في بيوتهم. و هنا سؤالان: السؤال الأول: كيف يتحقق هذا «الالقاء» الي الأنبياء؟ الجواب: ان معرفة كيفية القاء تلك العلوم الي الأنبياء، و الاحاطة بأنواعها و أقسامها و أبعادها خارجة عن نطاق عقولنا، و لا يجب علينا أن نعرف ذلك، فالله تعالي يعلم كيف يلهم أنبياءه و أولياءه تلك العلوم. السؤال الثاني: ان هذه الآيات المذكورة تتحدث عن علوم الأنبياء، فما وجه علاقتها بالأئمة الطاهرين (عليهم السلام)؟ الجواب: أولا: أن لقمان لم يكن نبيا، كما في التفسير عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ملخصا: «لم يكن لقمان نبيا و انما كان عبدا صالحا، آتاه الله الحكمة، فنام نومة، فأعطي الحكمة، فانتبه يتكلم بها» (1) . ثانيا: و هكذا الخضر لم يكن نبيا، و لكن الله تعالي علمه من لدنه علما، و لهذا أقام الجدار الذي كان تحته كنز لغلامين يتيمين في المدينة، و غير ذلك - كما هو مذكور في القرآن الكريم -. ثالثا: ان رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) - الذي كان خاتم النبيين و سيد المرسلين و قد أرسله الله الي الناس كافة، و الي جميع البشر الذين يسكنون علي الكرة الأرضية - لابد ان يعلمه الله جميع ما يحتاج اليه

ص: 127


1- 246. نفشت الابل: اذا تفرقت فرعت بالليل من غير علم راعيها. و نفشت الغنم: انتشرت ليلا فرعت (لسان العرب).

البشر، سواء في العقائد أم الأحكام الشرعية. و قد كانت الحكمة تقتضي أن يتكلم عن أمور أخري، كالطب، و خواص الأشياء و علاج الأمراض أو الاخبار عن الماضي أو المستقبل، و عما يجري من الوقائع و الفتن و الملاحم و أمثال ذلك، تثبيتا لنبوته، و تقوية لعقائد أمته، و اتماما للحجة. و خلاصة القول: ان الحكمة الالهية اقتضت أن يكون الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) عالما بكل ما يحتاج اليه البشر من أصول الدين و فروعه، و غير ذلك من العلوم، و أن لا يجهل شيئا من الامور التي يسأله الناس عنها. بعد ثبوت هذه الحقيقة، و انطلاقا من هذه النقطة، يسهل علينا أن نعتقد بأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) - الذين نص عليهم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و جعلهم خلفاءه، و أمر الناس أن يأخذوا معالم دينهم، و الأحكام الشرعية منهم - لابد أن تتوفر فيهم العلوم بالأحكام الالهية الواقعية، امتدادا لأثر خط الرسالة، و ابقاء علي خط الاسلام، و اتماما للحجة علي العباد. و الا، فما الفائدة من أن يأمر النبي أمته أن يأخذوا الأحكام الاسلامية من اناس لا يعلمون جميع الأحكام أو يجهلون ما يحتاج اليه الناس؟! و لهذا لا توجد - في حياة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) - كلمة: «لا أعلم، لا أدري» في جواب السائل عنهم حول المسائل الشرعية، و غيرها من المواضيع. و يجب أن يكونوا هكذا، و نحن لا نعتقد بامامة امام يجهل الأحكام الشرعية و لا يعلم الأوامر الالهية.

ص: 128

هذا بالنسبة للأحكام الشرعية، و أما بالنسبة لبقية العلوم كالطب و النجوم و خواص الأشياء، أو الاخبار عن الماضي أو المستقبل، أو الاطلاع علي الامور الغيبية، فان آلاف الأحاديث تشهد بوجود هذه الخصائص عند النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و الأئمة (عليهم السلام). فما المانع أن يفيض الله هذه العلوم علي قلب من يشاء من عباده؟. و العجب أن المنجمين حينما يخبرون عن الخسوف أو الكسوف، أو كثرة الجفاف أو الأمطار الغزيرة في بعض المناطق، لا يقول أحد - في حقهم - أنهم يعلمون الغيب، بل و لا يستغرب أحد من اطلاعهم علي هذه الامور، مع العلم أنهم يخبرون عما خفي علي الناس، و أن علومهم اكتسابية، قد تخطي ء و قد تصيب. و لكن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و الأئمة (عليهم السلام) اذا أخبروا عن المستقبل بصورة عامة، أو أخبروا عن موت انسان أو حادثة خاصة تتعلق ببعض الأفراد، تري بعض الناس يستغربون من ذلك، و لا يعجبهم أن يصدقوا هذه الاخبارات، مع العلم أننا نعتقد بأن علومهم و اطلاعهم من عند الله، لا من عند أنفسهم. نعم، ان آلاف الأحاديث تشهد بأن علوم الأئمة (عليهم السلام) لم تقتصر و لم تنحصر بالأحكام الفقهية، بل زودهم الله بكافة العلوم، و كشف لهم الغطاء عن كل شي ء. و لعل قائلا يقول: و ما الفائدة من تلك العلوم - التي توفرت في أئمة أهل البيت - في حين أن المسلمين لم يستفيدوا منها كما ينبغي؟ الجواب: و ما الفائدة من الأطباء اذا كان المرضي لا يراجعونهم، و لا يستفيدون منهم، و لا ينتفعون من علومهم، و لا يتداوون عندهم؟!!

ص: 129

نعم، ان الله تعالي أفاض علي الأئمة الطاهرين جميع العلوم و الفنون، و لكن أكثر المسلمين استبدلوا الذنابا بالقوادم، و العجز بالكاهل (1) و تركوا العين الصافية، و شربوا من السواقي الملوثة، و فضلوا أن يعيشوا جهالا، و يموتوا ضلالا، و لا يأخذوا العلوم من أهل البيت رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). لماذا؟ لأن الظروف السياسية، و المطامع الشخصية، و دناءة النفوس، و ضعف الادراك، و سوء الرأي فرضت عليهم ذلك!! فان كان هناك تقصير فهو من الناس، لا من الأئمة الطاهرين، لأن الأئمة جعلوا حياتهم وقفا للناس، و كانوا كالشمس يشرقون علي البر و الفاجر. و لا يبخلون عن تعليم الناس، و اراءة الطريق لهم في حدود الامكان، و لكن مع رعاية الحكمة، و رعاية الظروف و رعاية الجدارة و الاستحقاق و الأهلية في السائل. و لهذا تري الامام أميرالمؤمنين عليا (عليه السلام) يعلم خواص أصحابه علم المنايا و البلايا و لكن بصورة خاصة. و هكذا بقية الأئمة (عليهم السلام) كانوا يخبرون خواص أصحابهم ببعض الاخبارات أو يعلمونهم بعض العلوم بصورة سرية، مع التأكيد علي الكتمان، رعاية للمصالح. و لو وجد الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) الأهلية في مجتمعاتهم،

ص: 130


1- 247. مجمع البيان: ج 4 ص 315.

و ساعدتهم الظروف لملأوا العالم بأنواع العلوم، و أضاؤوا الكون بأنوار المعارف. و لكن المجتمعات لم تكن ناضجة و لائقة للاستفادة من علومهم، و الاستضاءة بأنوارهم. هذا علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) يشير الي صدره المبارك المقدس، و يقول: «ان هاهنا لعلما جما لو أصبت له حملة» (1) . و حينما يقول: علي المنبر، و بمسمع من الجماهير المتجمهرة حوله -: «سلوني قبل أن تفقدوني» لم يسأله أحد عن علاج الأمراض الصعبة، أو علل الشرائع و فلسفة الأحكام، أو عن الروح و عن عالم الأرواح، و أسرار الكون و الطبيعة، و عما وراء الطبيعة، أو أشياء أخري من هذا القبيل. و انما يسأله السائل و يقول: أخبرني كم شعرة في رأسي و لحيتي؟!!. و من الواضح أن هذا سؤال مستهزي ء لا متعلم. فهل يجدر بالامام أن ينشر أرقي علومه، و أنفس ذخائره في ذلك المجتمع مع ذلك المستوي الثقافي المنحط و العقلية السافلة؟!. و ختاما لهذا البحث نذكر مقطوعة من احدي خطب الامام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) لتكون أحسن شاهد و أوضح دليل علي المواضيع التي ذكرناها في هذا البحث، قال (عليه السلام). «... والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه و مولجه، و جميع شأنه لفعلت و لكن أخاف أن تكفروا في برسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). ألا، و اني مفضية الي الخاصة ممن يؤمن ذلك منه.

ص: 131


1- 248. هاتان الجملتان مقتبستان من خطبة السيدة الزهراء (سلام الله عليها) و المقصود من هذين المثالين هو أن القوم سلموا الأمور العظيمة و المناصب الخطيرة الي غير أهلها، بعد أن سلبوا تلك المناصب من أصحابها الشرعيين، ذوي الكفاءة و اللياقة و الخبرة و البصيرة.

و الذي بعثه بالحق نبيا، و اصطفاه علي الخلق، ما انطق الا صادقا، و لقد عهد الي بذلك كله، و بمهلك من يهلك، و منجي من ينجو، و مآل هذا الأمر. و ما أبقي شيئا يمر برأسي الا أفرغه في اذني، و أفضي به الي...» (1) . أيها القارئ الكريم: و نواصل الحديث عن علم الامام و مصادره... فنقول: ان الالهام أو الالقاء ما هو الا أحد مصادر علومهم (عليهم السلام) و ليست علومهم منحصرة بذلك، بل هناك مصادر أخري لعلومهم المتنوعة، كما صرحوا - هم بذلك في أحاديث كثيرة، منها كلام الامام الباقر و الامام الصادق (عليهماالسلام) في حديث أبي بصير و غيره (2) . و خلاصة بعض تلك الأحاديث هي: ان عندهم الجامعة، و هي صحيفة من الجلد، طولها سبعون ذراعا، مطوية كالأقشمة التي تطوي، و هذه الجامعة باملاء رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و خط الامام أميرالمؤمنين (عليه السلام). و عندهم الجفر، و هو وعاء من جلد (3) فيه عليم النبيين و الوصيين، و علم العلماء الذين مضوا من بني اسرائيل. و عندهم: مصحف سيدتنا فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) حجمه ثلاثة أضعاف حجم القرآن، و قد ذكرنا بعض ما يتعلق بهذا المصحف في كتاب (فاطمة الزهراء من المهد الي اللحد). و عندهم: علم ما كان، و ما هو كائن الي يوم القيامة.

ص: 132


1- 249. أي: لو وجدت من يكون اهلا له.
2- 250. نهج البلاغة: خطبة 174.
3- 251. الكافي: ج 1 ص 265 - 238.

و عندهم: العلم بما يحدث و يتجدد في كل يوم و ليلة. و في ليلة القدر من كل سنة، تنزل الملائكة و الروح فيها باذن ربهم من كل أمر فيجتمعون بامام ذلك الزمان، و يخبرونه بكل أمر، و بجميع مقدرات الخلائق. و عندهم: الاسم الأعظم، الذي يستطيعون أن يعرفوا به كل شي ء، و أن يعلموا به كل شي ء من المعاجز و غيرها، و فيه الكفاية.

ص: 133

تنوع علوم الامام الصادق

اشارة

أيها القارئ الكريم: لقد ذكرنا أن علوم الامام الصادق (عليه السلام) لم تنحصر في جانب واحد كالفقه مثلا، بل لابد و ان يتوفر في الامام جميع العلوم بكافة أنواعها و أقسامها، و لذلك تجد شتي الأحاديث في مواضيع متفرقة، و فنون عديدة، و علوم كثيرة. و لا تسأل عن معرفته (عليه السلام) بالكون و ما فيه و عن معرفته بالعالم السفلي، و ما أودع الله فيه من الأسرار و الحكمة و آيات القدرة، و الخواص و المنافع، فذلك ما يدهش العقل!! و أما الكيمياء - و هي معرفة المعادن و تفاعلها مع العناصر الأربعة: الماء و الهواء و النار و التراب - و الفيزياء - و هي تفاعل العناصر بعضها مع بعض أو مع غيرها - فالأحاديث قد وردت فيها أيضا. بالاضافة الي أنه ليس من وظائف الأئمة (عليهم السلام) أن يأتوا بالمخترعات أو يوجهوا القلوب نحو التكنولوجيا - من الفيزياء و الكيمياء و أمثالهما - بل اختارهم الله تعالي لهداية البشر الي ما فيه سعادة الدنيا و الآخرة.

ص: 134

و المعامل و المصانع و الأجهزة الميكانيكية - علي اختلاف أنواعها و أقسامها - لا تجلب السعادة الي البشرية، و انما تمهد للبشر الانتاج الأكثر في مدة أقصر، و تسهل له قطع المسافات الطويلة في المدة القليلة، و كل ما هناك من وسائل الراحة - كالانارة و التبريد و التدفئة و أمثالها - فانما هي من مظاهر التمدن التي نعيشها نحن في الحال الحاضر. فهل هيأت هذه الأجهزة و الوسائل السعادة للبشر؟! و هل أن مئات الملايين من البشر الذين يعيشون في البلاد الصناعية سعداء؟! فلا فقر و لا حرمان، و لا أمراض، و لا مأساة، و لا فجائع و لا جرائم و لا سرقة و لا اختطاف و لا اغتصاب، و لا انتحار، و لا ضياع، و لا قصف و لا تدمير، و لا حوادث السير برا و بحرا و جوا؟؟!! و لاسحق الحقوق، و لا تفكك الاسر، و لا انسلاخ عن الانسانية، و لا تجرد عن العاطفة، و لا و لا...؟! ان المسلم لا ينتظر - من اولياء الله الذين اختارهم الله لهداية البشر - أن يخترعوا الوسائل المبيدة للبشر كالمدافع، و الصواريخ النووية، و القنابل الذرية و الهيدروجينية و الكيمياوية و العنقودية، التي لا تبقي و لا تذر و تهلك الحرث و النسل، و تفني العباد و البلاد، و تجر الويلات علي الكرة الأرضية و من عليها!! ان اولياء الله جاؤا رحمة للعباد، لا نقمة علي البلاد، و لا عذابا علي الخلائق. و ليس معني ذلك انهم لا يعرفون هذه الفنون، و لا يعلمون تفاعل الواد الطبيعية و آثارها... كلا، بل المقصود أن مسؤؤليتهم الألهية ليست في هذه المجالات.

ص: 135

هذا... و قد تكرر منا القول بأن الحكومات المناوئة كانت تبذل قصاري جهدها من أجل منع الناس من الاستضاءة بانوار علوم الأئمة (عليهم السلام) و الحيلولة دون انتشار المعارف الالهية و العلوم المتنوعة.. و كل ما وصل الينا من العلوم و المعارف الالهية، فانما صدر في ظروف قصيرة، كان الائمة الطاهرون (عليهم السلام) يجدون فيها بعض الحرية ليفيضوا علي الناس مما رزقهم الله سبحانه. اقرأ هذا الحديث: عن المفضل بن عمر: أن المنصور قد كان هم بقتل أبي عبدالله (عليه السلام) غير مرة فكان اذا بعث اليه و دعاه ليقتله، فاذا نظر اليه هابه و لم يقتله، غير أنه منع الناس عنه، و منعه من القعود للناس، و استقصي عليه أشد الاستقصاء، حتي أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينة، في نكاح أو طلاق أو غير ذلك فلا يكون علم ذلك عندهم، و لا يصلون اليه فيعتزل الرجل أهله. فشق ذلك علي شيعته و صعب عليهم، حتي ألقي الله (عزوجل) في روع المنصور أن يسأل الصادق (عليه السلام) ليتحفه بشي ء من عنده، لا يكون لأحد مثله، فبعث (عليه السلام) اليه بمخصرة (1) كانت للنبي (صلي الله عليه و آله) طولها ذراع، ففرح بها فرحا شديدا، و أمر أن تشق له أربعة أرباع و قسمها في أربعة مواضع، ثم قال له: ما جزاؤك عندي الا أن اطلق لك، و تفشي علمك لشيعتك و لا أتعرض لك، و لا لهم، فاقعد غير محتشم و أفت الناس، و لا تكن بلد أنا فيه، ففشي العلم عن الصادق (عليه السلام) (2) .

ص: 136


1- 252. و في رواية: جلد ثور، مملوء علما.
2- 253. المخصرة: - بكسر الميم -: أو كل ما أمسكه الانسان بيده من عصا و نحوها (مجمع البحرين).

الامام الصادق و العلم بالقرآن

اشاره

أيها القارئ الكريم: لقد ذكرنا - في بداية الكتاب - حديث الثقلين و تحدثنا عنه بشي ء من التفصيل... و في حديث الثقلين دلالة واضحة علي أن العترة الطاهرة هم عدل القرآن و هم الذين يعرفون تفسيره و تأويله و ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه.. و في هذا الفصل نذكر بعض الأحاديث التي تدل علي علم الامام الصادق (عليه السلام) بالقرآن و علومه و اسراره: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم فقال له: أليس الله حكيما؟ قال: بلي هو احكم الحاكمين. قال: فأخبرني عن قول الله عزوجل: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني و ثلاث و رباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة» (1) أليس هذا فرض؟ قال: بلي. قال: فاخبرني عن قوله عزوجل: «و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين

ص: 137


1- 254. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 238. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 180.

النساء و لو حرصتم فلا تميلوا كل الميل» (1) .أي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب، فرحل الي المدينة، الي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: يا هشام في غير وقت حج و لا عمرة؟! قال: نعم - جعلت فداك - لأمر اهمني، ان ابن ابي ألعوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شي ء. قال (عليه السلام): و ما هي؟ قال: فأخبره بالقصة. فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): أما قوله عزوجل: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني و ثلاث و رباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة» يعني في النفقة. و أما قوله: «و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة» يعني في المودة. قال: فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب و أخبره، قال: والله ما هذا من عندك (2) . و دخل عمرو بن عبيد - فقيه أهل البصرة - علي الامام الصادق (عليه السلام)وقرأ: «ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه» (3) و قال: أحب أن اعرف الكبائر من كتاب الله. فقال (عليه السلام): نعم يا عمرو. ثم فصله بأن الكبائر: الشرك بالله.. الي آخر الحديث، فخرج

ص: 138


1- 255. سورة النساء آية 3.
2- 256. سورة النساء آية 129.
3- 257. الكافي: ج 5 ص 362 ح 1.

عمرو و له صراخ من بكائه و هو يقول: هلك من سلب تراثكم و نازعكم في الفضل و العلم (1) . و روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال - ابتداء منه -: والله اني لأعلم ما في السماوات و ما في الأرض و ما في الجنة و ما في النار، و ما كان و ما يكون الي أن تقوم الساعة. ثم سكت (عليه السلام) ثم قال: أعلمه عن كتاب الله، أنظر اليه هكذا - ثم بسطه كفه و قال -: ان الله يقول: فيه تبيان كل شي ء (2) (3) . و قال (عليه السلام): ان الله بعث محمدا نبيا فلا نبي بعده، انزل عليه الكتاب فختم به الكتب فلا كتاب بعده، احل فيه حلاله و حرم فيه حرامه، فحلاله حلال الي يوم القيامة، و حرامه حرام الي يوم القيامة، فيه نبأ ما قبلكم، و خبر ما بعدكم، و فصل ما بينكم، ثم أومأ بيده الي صدره و قال: نحن نعلمه (4) . و عن هشام بن الحكم قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) بمني عن خمسمائة حرف من الكلام، فأقبلت أقول: يقولون كذا و كذا، قال: فيقول لي: قل كذا. فقلت: هذا الحلال و الحرام و القرآن: أعلم انك صاحبه و اعلم الناس به، فهذا الكلام من أين؟ فقال (عليه السلام): يحتج الله علي خلقه بحجة لا يكون عنده كل ما يحتاجون اليه؟؟!! (5) .

ص: 139


1- 258. سورة النساء آية 31.
2- 259. بحارالأنوار: ج 47 ص 216.
3- 260. هذا اقتباس من قوله سبحانه: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي ء» سورة النحل آية 89.
4- 261. بحارالأنوار: ج 47 ص 35.
5- 262. بحارالأنوار: ج 47 ص 35.

الفهم الخاطئ للقرآن نتيجة الانحراف عن أهل البيت

روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: قوله (عزوجل): «اهدنا الصراط المستقيم» يقول: أرشدنا الصراط المستقيم، أرشدنا للزوم الطريق المؤدي الي محبتك، و المبلغ الي جنتك من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك. فان من اتبع هواه و اعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس (1) تعظمه و تصفه، فأحببت لقاءه من حيث لا يعرفني، لأنظر مقداره و محله. فرأيته في موضع قد احدق به خلق من غثاء العامة، فوقفت منتبذا عنهم، مغشيا بلثام، انظر اليه و اليهم. فما زال يراوغهم حتي خالف طريقهم و فارقهم، و لم يقر. فتفرقت العوام عنه لحوائجهم، و تبعته اقتفي أثره، فلم يلبث ان مر بخباز فتغفله، فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معاملة. ثم مر - من بعده - بصاحب رمان، فما زال به حتي تغفله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت - في نفسي -: لعله معاملة. ثم أقول: و ما حاجته الي المسارقة؟!! ثم لم ازل اتبعه حتي مر بمريض فوضع الرغيفين و الرمانتين بين يديه و مضي. و تبعته حتي استقر في بقعة من صحراء، فقلت له: يا عبدالله لقد سمعت بك و احببت لقاءك، فلقيتك لكني رأيت منك ما شغل قلبي، و اني

ص: 140


1- 263. بحارالأنوار: ج 47 ص 35.

سائلك عنه ليزول به شغل قلبي. قال: ما هو؟ قلت: رأيتك مررت بخباز و سرقت منه رغيفين، ثم بصاحب الرمان فسرقت منه رمانتين؟! فقال لي: قبل كل شي ء... حدثني من أنت؟ قلت: رجل من ولد آدم، من امة محمد (صلي الله عليه و آله و سلم). قال: حدثني ممن أنت؟ قلت: رجل من أهل بيت رسول الله. قال: أين بلدك؟ قلت: المدينة. قال: لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؟ قلت: بلي. قال: فما ينفعك أصلك مع جهلك بما شرفت به، و تركك علم جدك و أبيك لأن تنكر ما يجب أن يحمد و يمدح فاعله؟!! قلت: و ما هو؟ قال: القرآن كتاب الله. قلت: و ما الذي جهلت؟ قال: قول الله عزوجل: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسيئة فلا يجزي الا مثلها» (1) . و اني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات، فلما تصدقت بكل واحد منها كانت أربعين

ص: 141


1- 264. الغثاء: أرذال الناس و سقطهم (لسان العرب).

حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي لي ست و ثلاثون. قلت: ثكلتك أمك، أنت الجاهل بكتاب الله، أما سمعت الله عزوجل يقول: «انما يتقبل الله من المتقين» (1) ؟!! انك لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، و لما دفعتهما الي غير صاحبهما بغير أمر صاحبهما، كنت انما اضفت أربع سيئات الي أربع سيئات، و لم تضف أربعين حسنة الي أربع سيئات. فجعل يلاحيني (2) فانصرفت و تركته (3) . أيها القارئ الكريم: قد ذكرنا - في بداية الكتاب - حديث الثقلين و أن الضمان الوحيد لعدم الضلال و الانحراف هو التمسك بالقرآن و العترة الطاهرة معا. و من الواضح أن محاولة فهم القرآن عن غير طريق أهل البيت (عليهم السلام) تجر الانسان الي المتاهات و الضلالات، و تدفعه الي ارتكاب المحرمات و السيئات. و قضية هذا الشيخ المنحرف، و فهمه الخاطي ء للقرآن تعتبر من الصغائر بالنسبة الي الأخطاء الكبيرة و الانحرافات العريضة العميقة التي غيرت مسيرة الامة الاسلامية بسبب الابتعاد عن القيادة الشرعية المتمثلة في الأئمة الطاهرين من أهل البيت (عليهم السلام). و لا سبيل للخلاص... الا بالعودة الي من أمر الله و رسوله بالتمسك و الاقتداء بهم، و أنهم كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق و هوي و غوي.

ص: 142


1- 265. سورة الأنعام آية 160.
2- 266. سورة المائدة آية 27.
3- 267. لاحاه: نازعه (أقرب الموارد).

الامام الصادق و علم الفقه

اشارة

روي عن سماعة بن مهران قال: أخبرني الكلبي النسابة قال: دخلت المدينة و لست أعرف شيئا من هذا الأمر، فأتيت المسجد فاذا جماعة من قريش فقلت: أخبروني عن عالم أهل هذا البيت؟ فقالوا: عبدالله بن الحسن. فأتيت منزله فاستأذنت، فخرج الي رجل ظننت أنه غلام له، فقلت له: استأذن لي علي مولاك، فدخل ثم خرج فقال لي: ادخل فدخلت فاذا أنا بشيخ معتكف شديد الاجتهاد، فسلمت عليه. فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا الكلبي النسابة. فقال: ما حاجتك؟ فقلت: جئت أسألك. فقال: أمررت بابني محمد؟ قلت: بدأت بك. فقال: سل.

ص: 143

فقلت: أخبرني عن رجل قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء؟ فقال: تبين برأس الجوزاء (1) و الباقي وزر عليه و عقوبة. فقلت في نفسي: واحدة. فقلت: ما يقول الشيخ في المسح علي الخفين؟ فقال: قد مسح قوم صالحون، و نحن أهل البيت لا نمسح. فقلت في نفسي، ثنتان. فقلت: ما تقول في أكل الجري أحلال هو أم حرام؟ فقال: حلال الا أنا أهل البيت نعافه. فقلت في نفسي: ثلاث. فقلت: فما تقول في شرب النبيذ؟ فقال: حلال الا أنا أهل البيت لا نشربه. فقمت فخرجت من عنده و أنا أقول: هذه العصابة تكذب علي أهل هذا البيت. فدخلت المسجد فنظرت الي جماعة من قريش و غيرهم من الناس فسلمت عليهم، ثم قلت لهم: من أعلم هذا البيت؟ فقالوا: عبدالله بن الحسن. فقلت: قد أتيته فلم أجد عنده شيئا. فرفع رجل رأسه فقال: ائت جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فهو أعلم أهل هذا البيت. فلامه بعض من كان بالحضرة. فقلت: ان القوم انما منعهم من ارشادي اليه - أول مرة - الحسد.

ص: 144


1- 268. بحارالأنوار: ج 47 ص 238.

فقلت له: ويحك اياه أردت. فمضيت حتي صرت الي منزله فقرعت الباب، فخرج غلام له فقال: ادخل يا أخا كلب. فوالله لقد أدهشني، فدخلت و أنا مضطرب و نظرت فاذا شيخ علي مصلي بلا مرفقة و لا بردعة (1) فابتدأني بعد أن سلمت عليه. فقال لي: من أنت؟ فقلت في نفسي: يا سبحان الله! غلامه يقول لي بالباب: ادخل يا أخا كلب و يسألني المولي من أنت؟! فقلت له: أنا الكلبي النسابة، فضرب بيده علي جبهته و قال: كذب العادلون بالله و ضلوا ضلالا بعيدا و خسروا خسرانا مبينا. يا أخا كلب: ان الله (عزوجل) يقول: «و عادا و ثمودا و أصحاب الرس و قرونا بين ذلك كثيرا» (2) أفتنسبها أنت؟ فقلت: لا، جعلت فداك. .... الي أن قال: فقلت له: أخبرني عن رجل قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء؟ فقال: ويحك أما تقرأ سورة الطلاق؟ قلت: بلي. قال: فاقرأ، فقرأت «فطلقوهن لعدتهن و أحصوا العدة» (3) . قال: أتري هاهنا نجوم السماء؟ قلت: لا.

ص: 145


1- 269. برأس الجوزاء: أي بعدد الكواكب التي علي رأس الجوزاء المعروفة في السماء و هي ثلاثة (مرآة العقول).
2- 270. المرفقة: المتكأ و المخدة (أقرب الموارد) و البرذعة - بالذال و الدال -: الحلس الذي يلقي تحت الرحل (مجمع البحرين) و المقصود هنا: بلا مخدة و لا فراش.
3- 271. سورة الفرقان آية 38.

قلت: فرجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا؟ قال: ترد الي كتاب الله و سنة نبيه (صلي الله عليه و آله و سلم)، ثم قال: لا طلاق علي طهر من غير جماع، بشاهدين مقبولين. فقلت في نفسي: واحدة. ثم قال: سل. قلت: ما تقول في المسح علي الخفين؟ فتبسم ثم قال: اذا كان يوم القيامة و رد الله كل شي ء الي شيئه و رد الجلد الي الغنم فتري أصحاب المسح أين يذهب وضوؤهم؟!! فقلت في نفسي: ثنتان. ثم التفت الي فقال: سل. فقلت: أخبرني عن أكل الجري؟ فقال: ان الله (عزوجل) مسخ طائفة من بني اسرائيل، فما أخذ منهم بحرا فهو الجري و الزمار و المار ما هي و ما سوي ذلك، و ما أخذ منهم برا فالقردة و الخنازير و الوبر (1) و الورل (2) و ما سوي ذلك. فقلت في نفسي: ثلاث. ثم التفت الي فقال: سل و قم. فقلت: ما تقول في النبيذ؟ فقال: حلال.

ص: 146


1- 272. سورة الطلاق آية 1.
2- 273. الوبر: دويبة كالسنور اصغر منه، كحلاء اللون، حسنة العينين، لها ذنب قصير جدا. (أقرب الموارد).

فقلت: انا ننبذ فنطرح فيه العكر (1) و ما سوي ذلك و نشربه. فقال: شه شه (2) تلك الخمرة المنتنة. فقلت: جعلت فداك فأي نبيذ تعني؟ فقال: ان أهل المدينة شكوا الي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) تغيير الماء و فساد طبايعهم، فأمرهم أن ينبذوا، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له، فيعمد الي كف من التمر فيقذف به في الشن (3) فمنه شربه و منه طهوره. فقلت: و كم كان عدد التمر الذي [كان] في الكف؟ فقال: ما حمل الكف. فقلت: واحدة أو ثنتان؟ فقال: ربما كانت واحدة و ربما كانت ثنتين. فقلت: و كم كان يسع الشن؟ فقال: ما بين الأربعين الي الثمانين الي ما فوق ذلك. فقلت: بالأرطال؟ فقال: نعم أرطال بمكيال العراق. ثم نهض (عليه السلام) و قمت، فخرجت و أنا أضرب بيدي علي الأخري و أنا أقول: ان كان شي ء فهذا، فلم يزال الكلبي يدين الله بحب آل هذا البيت حتي مات (4) .

ص: 147


1- 274. في المصدر: و الورك: و الصحيح ما أثبتناه و الموافق للوافي. و الورل: دابة علي خلقة الضب الا انه أعظم منه يكون في الرمال و الصحاري (أقرب الموارد).
2- 275. العكر: دردي الزيت و دردي النبيذ و نحوه مما خثر - أي ثخن و اشتد - و رسب. (مجمع البحرين).
3- 276. شه شه: كلمة استقذار و استقباح (مجمع البحرين).
4- 277. الشن: القربة الخلق الصغيرة يكون الماء فيها أبرد من غيرها (أقرب الموارد).

و عن معاوية بن عمار قال: ماتت اخت مفضل بن غياث فأوصت بشي ء من مالها: الثلث في سبيل الله، و الثلث في المساكين، و الثلث في الحج، فاذا هو لا يبقي ما يبلغ ما قالت. فذهبت أنا و هو الي ابن أبي ليلي [القاضي] فقص عليه القصة فقال: اجعلوا ثلثا في ذا، و ثلثا في ذا، و ثلثا في ذا. فأتينا ابن شبرمة فقال أيضا كما قال ابن أبي ليلي. فأتينا أباحنيفة فقال كما قالا. فخرجنا الي مكة فقال لي: سل أباعبدالله (عليه السلام) - و لم تكن حجت المرأة - فسألت اباعبدالله (عليه السلام) فقال لي: ابدأ بالحج فانه فريضة من الله عليها، و ما بقي اجعله بعضا في ذا و بعضا في ذا. قال: فقدمت فدخلت المسجد و استقبلت أباحنيفة و قلت له: سألت جعفر بن محمد عن الذي سألتك عنه، فقال لي: ابدأ بحق الله أولا فانه فريضة عليها، و مابقي فاجعله بعضا في ذا و بعضا في ذا. قال: فوالله ما قال [أبوحنيفة] لي خيرا و لا شرا. و جئت الي حلقته و قد طرحوها و قالوا: قال ابوحنيفة: ابدأ بالحج فانه فريضة الله عليها. قال: فقلت: هو - بالله - قال كذا و كذا؟! فقالوا: هو خبرنا هذا (1) . أيها القارئ الكريم: معني الحديث أن أباحنيفة حينما علم أن جوابه علي السؤال كان خطأ و أن الصحيح هو ما قاله الامام الصادق (عليه السلام) اسرع الي تلامذته و أخبرهم بالحكم دون أن يذكر لهم أنه أخذه من

ص: 148


1- 278. الكافي: ج 1 ص 348 ح 6.

الامام الصادق (عليه السلام) فظن التلامذة أن أباحنيفة عدل عن رأيه السابق و ما حكم به قبل ذلك، و لم يعلموا أنه أخطأ في الفتوي حينما افتي في دين الله علي هواه، ثم تدارك الأمر بعد ذلك. و أقول: هل يجوز أن يفتي الانسان في دين الله علي هواه؟! و يعلم الله تعالي كم من الأحكام التي صدرت من أبي حنيفة و أمثاله... و كانت علي خلاف حكم الله و رسوله، و نفذت و أخذ بها الناس و لا زالوا يأخذون بها الي هذا اليوم، و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!! فمن المسؤول عن ذلك كله؟؟! و عن حبيب الخثعمي قال: كتب أبو جعفر المنصور الي محمد بن خالد - و كان عامله علي المدينة - أن يسأل أهل المدينة عن الخمسة في الزكاة من المائتين كيف صارت وزن سبعة و لم يكن هذا علي عهد رسول الله (صلي الله عليه و آله)؟ و أمره أن يسأل - فيمن يسأل -: عبدالله بن الحسن و جعفر بن محمد (عليهماالسلام). قال: فسأل أهل المدينة فقالوا: أدركنا من كان قبلنا علي هذا. فبعث الي عبدالله بن الحسن و جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فسأل عبدالله بن الحسن فقال كما قال المستفتون من أهل المدينة. قال: فقال: ما تقول [أنت] يا أباعبدالله؟ فقال: ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) جعل في كل أربعين اوقية اوقية فاذا حسبت ذلك كان علي وزن سبعة و قد كانت وزن ستة و كانت الدراهم خمسة دوانيق. قال حبيب: فحسبناه فوجدناه كما قال، فأقبل عليه عبدالله بن الحسن فقال: من أين أخذت هذا؟

ص: 149

قال: قرأت في كتاب امك فاطمة. قال: ثم انصرف، فبث اليه محمد بن خالد: ابعث الي بكتاب فاطمة (عليهاالسلام). فأرسل اليه أبوعبدالله (عليه السلام) [الجواب] اني انما أخبرتك أني قرأته و لم اخبرك أنه عندي. قال حبيب: فجعل محمد بن خالد يقول لي: ما رأيت مثل هذا قط (1) . أقول: معني الحديث - و خلاصة سؤال المنصور الدوانيقي - أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) فرض في زكاة كل مائتي درهم خمسة دراهم، و لكنها صارت سبعة دراهم في عصر المنصور... لماذا؟ و كان جواب الامام الصادق (عليه السلام) أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) جعل محور الزكاة علي الاوقية لا علي الدراهم، و الاوقية وزن معلوم و هو أربعون درهما، و الدرهم خمسة دوانيق. و صرح الامام الصادق (عليه السلام) أن سبعة دراهم في هذا الزمان تساوي خمسة دراهم في زمن رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فالتغير حدث في وزن الدراهم لا في الاوقية - التي جعل حكم الزكاة عليها -. و بعد هذا الجواب الكافي و الوافي من الامام الصادق (عليه السلام) قال الراوي: «فحسبناه فوجدناه كما قال» أي بعد المقارنة بين وزن الدراهم في زمن رسول الله (صلي الله عليه و آله) و وزنها في زماننا هذا وجدنا ان خمسة دراهم علي عهد النبي تساوي - بالفعل - سبعة دراهم في عصرنا، كما قال الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 150


1- 279. الكافي: ج 7 ص 63 ح 22.

الامام الصادق و علم الغيب

اشاره

بعد أن ذكرنا كلمة خاطفة عن علم الامام (عليه السلام) و اطلاعه عن الماضي و الحال و المستقبل يسهل علينا قبول الروايات و الأحاديث التي تصرح باخبار الامام الصادق (عليه السلام) عن قضايا بعد وقوعها كالحوادث التي حدثت في عصور قبل التاريخ، و لم تذكر حتي في الكتب السماوية و لم يعلم بها أحد، أو أخبر بها قبل وقوعها، فحدثت في عصره، و بعد عصره بمرور القرون، من الملاحم و الفتن و غيرها. و كان يخبر بعض الناس باقتراب أجله، أو بما يرزقه الله من البنين و البنات، فكان الأمر يقع كما أخبر به. و قد ذكرنا - في الجزء العاشر من الموسوعة - اخبار الامام الصادق (عليه السلام) عن الامور و القضايا المتعلقة بالامام المهدي (عليه السلام) من علائم ظهوره و نهضته و انجازاته، و غيرها. و ذكرنا في ترجمة كل من زيد بن علي و أبي مسلم الخراساني و الخلال و النفس الزكية و أبيه و أخيه و غيرهم ما فيه العجب. كل هذه الامور من بركات علم الامامة الذي كان الامام الصادق

ص: 151

(عليه السلام) معدنه و ينبوعه، و عيبته و مخزنه و وعاءه. فكان (عليه السلام) يخبر بعض أصحابه بما حدث و وقع له من الامور التي لم يشهدها الامام بل و لم يحضرها أحد الا الله تعالي. و كثيرا ما كان يخبر بعض أصحابه عن ضمائرهم، أي كان أحدهم يتفكر حول شي ء و لم ينطق به فكان الامام يخبره و يجيبه. و ليس هذا عجيبا... فقد ذكرنا ان عيسي بن مريم (عليهماالسلام) كان يخبر الناس بما يأكلون و ما يدخرون في بيوتهم من الطعام - كما صرح القرآن الكريم بذلك -. و الانبياء و الائمة (عليهم السلام) يستلهمون علومهم من الله سبحانه. و كانت هذه الاخبارات من أدلة امامته عند من كان يشك في ذلك. و أما المعتقد بامامته فكانت هذه الاخبارات تزيده ايمانا و تثبيتا. و فيما يلي نذكر بعض الأحاديث التي وردت في اخبار الامام الصادق (عليه السلام) عن ضمائر الناس و حالاتهم الخاصة.

الامام يجيب قبل السؤال

1- عن عائذ الاحمسي قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و أنا اريد أن أسأله عن صلاة الليل فقلت: السلام عليك يابن رسول الله. فقال: و عليك السلام، اي والله انا لولده و ما نحن بذوي قرابته - ثلاث مرات قالها - (1) .

ص: 152


1- 280. الكافي: ج 3 ص 507 ح 2، علل الشرايع: ص 373 ح 1.

ثم قال من غير أن أسأله: اذا لقيت الله بالصلوات الخمس المفروضات لم يسألك عما سوي ذلك (1) . 2- و روي عن اسماعيل بن مهران قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) اودعه و كنت حاجا في تلك السنة، فخرجت، ثم ذكرت شيئا أردت أن أسأله عنه، فرجعت اليه و مجلسه (2) غاص بالناس، و كان ما أسأله عنه بيض طير الماء فقال لي من غير سؤالي: الأصلح أن لا تأكل [بيض طير الماء] (3) . 3- و عن هشام بن أحمد قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و أنا أريد أن أسأله عن المفضل بن عمر، و هو (عليه السلام) في ضيعة له، في يوم شديد الحر، و العرق يسيل علي خده، فيجري علي صدره. فابتدأني فقال: نعم - والله الرجل المفضل بن عمر. نعم - والله الذي لا اله الا هو - الرجل المفضل بن عمر الجعفي. حتي احصيت بضعا و ثلاثين مرة يقولها و يكررها. (4) . 4- و عن شهاب بن عبد ربه قال: أتيت أباعبدالله (عليه السلام) أسأله فابتدأني فقال: ان شئت فسل - يا شهاب - و ان شئت اخبرناك بما جئت له. قلت: أخبرني، جعلت فداك.

ص: 153


1- 281. حينما خاطب السائل الامام بقوله: يابن رسول الله. اكد الامام علي ذلك بقوله:«اي والله انا لولده...» و معني الحديث هو اثبات انتسابه الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و نفي القرابة التي ليست من الولادة.
2- 282. الكافي: ج 3 ص 487 ح 3.
3- 283. في بحارالأنوار: و منزله.
4- 284. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 752 ح 68، و ما بين المعقوفتين اثبتناه من بحارالأنوار: ج 47 ص 119.

قال: جئت لتسأل عن الجنب يغرف الماء من الحب بالكوز فيصيب يده الماء. قلت: نعم. قال: ليس به بأس. قال (عليه السلام): و ان شئت سل، و ان شئت اخبرتك؟ قلت له: أخبرني. قال: جئت تسأل عن الجنب يسهو و يغمر يده في الماء قبل أن يغسلها. قلت: و ذاك، جعلت فداك. قال: اذا لم يكن أصاب يده شي ء فلا بأس بذاك. سل و ان شئت اخبرتك. قلت: أخبرني. قال (عليه السلام): جئت لتسألني عن الجنب يغتسل فيقطر الماء من جسمه في الاناء، أو ينضح الماء من الارض فيقع في الاناء. قلت: نعم، جعلت فداك. قال: ليس بهذا بأس كله. فسل و ان شئت أخبرتك. قلت: أخبرني. قال: جئت لتسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة اتوضأ منه أو لا؟ قلت: نعم. قال: فتوضأ من الجانب الآخر، الا أن يغلب علي الماء الريح. و جئت لتسأل عن الماء الراكد من البئر.

ص: 154

قال: فما لم يكن فيه تغيير أو ريح غالبة. قلت: فما التغيير؟ قال: الصفرة، فتوضأ منه، و كلما غلب عليه كثيرة الماء فهو طاهر (1) . 5- و عن محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة قال: سألت جعفر بن محمد (عليه السلام) فقلت له: يابن رسول الله في نفسي مسألة اريد أن أسألك عنها؟ فقال: ان شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسألني، و ان شئت فسل. قال: قلت له: يابن رسول الله و بأي شي ء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي؟ فقال: بالتوسم و التفرس، أما سمعت قول الله (عزوجل): «ان في ذلك لآيات للمتوسمين» (2) و قول رسول الله (صلي الله عليه و آله): «اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله»؟ قال: فقلت له: يابن رسول الله فأخبرني بمسألتي. قال: أردت أن تسألني عن رسول الله لم لم يطق حمله علي (عليه السلام) عند حط الأصنام من سطح الكعبة مع قوته و شدته و ما ظهر منه في قلع باب القموص بخيبر (3) و الرمي به الي ورائه أربعين ذراعا و كان لا يطيق حمله أربعون رجلا، و قد كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يركب الناقة و الفرس و الحمار، و ركب البراق ليلة المعراج، و كل ذلك دون علي في القوة و الشدة؟

ص: 155


1- 285. بحارالانوار: ج 47 ص 68.
2- 286. بحارالأنوار: ج 47 ص 69.
3- 287. سورة الحجر آية 75.

قال: فقلت له: عن هذا - والله - أردت أن أسألك يابن رسول الله فأخبرني. فقال: ان عليا (عليه السلام) برسول الله تشرف و به ارتفع و به وصل الي أن أطفأ نار الشرك و أبطل كل معبود من دون الله (عزوجل)، و لو علا[ه] النبي (صلي الله عليه و آله) لحط الأصنام لكان بعلي مرتفعا و شريفا و واصلا الي حط الأصنام، و لو كان ذلك كذلك لكان أفضل منه (1) ، ألا تري أن عليا (عليه السلام) قال: «لما علوت ظهر رسول الله شرفت و ارتفعت حتي لو شئت أن أنال السماء لنلتها»؟!! أما عملت أن المصباح هو الذي يهتدي به في الظلمة، و انبعاث فرعه من أصله؟!! و قد قال علي (عليه السلام): «أنا من أحمد كالضوء من الضوء!». أما علمت أن محمدا و عليا (صلوات الله عليهما) كانا نورا بين يدي الله (عزوجل) قبل خلق الخلق بألفي عام؟! و أن الملائكة لما رأت ذلك النور رأت له أصلا قد تشعب منه شعاع لا مع فقالت: الهنا و سيدنا ما هذا النور؟ فأوحي الله (تبارك و تعالي) اليهم: هذا نور من نوري، أصله نبوة و فرعه امامة، أما النبوة فلمحمد عبدي و رسولي، و أما الامامة فلعلي حجتي و وليي، و لو لا هما ما خلقت خلقي. أما علمت أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) رفع يد علي (عليه السلام) بغديرخم حتي نظر الناس الي بياض ابطيهما فجعله مولي المسلمين و امامهم؟

ص: 156


1- 288. القموص: جبل بخيبر عليه حصن أبي الحقيق اليهودي. (القاموس).

و قد احتمل الحسن و الحسين (عليهماالسلام) يوم حظيرة بني النجار فلما قال له بعض أصحابه: ناولني أحدهما يا رسول الله قال: نعم الراكبان و أبوهما خير منهما، و أنه (صلي الله عليه و آله) كان يصلي بأصحابه فأطال سجدة من سجداته، فلما سلم قيل له: يا رسول الله لقد أطلت هذه السجدة، فقال (صلي الله عليه و آله): [نعم] ان ابني ارتحلني فكرهت أن اعاجله حتي ينزل، و انما أراد بذلك (صلي الله عليه و آله) رفعهم و تشريفهم، فالنبي (صلي الله عليه و آله) امام و نبي و علي امام ليس بنبي و لا رسول، فهو غير مطيق لحمل أثقال النبوة. قال محمد بن حرب الهلالي: فقلت له: زدني يابن رسول الله. فقال: انك لأهل للزيادة، ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) حمل عليا علي ظهره يريد بذلك أنه أبو ولده و امام الأئمة من صلبه، كما حول رداءه في صلاة الاستسقاء و أراد أن يعلم أصحابه بذلك أنه قد تحول الجدب خصبا (1) قال: قلت له: زدني يابن رسول الله. فقال: احتمل رسول الله (صلي الله عليه و آله) عليا يريد بذلك أن يعلم قومه أنه هو الذي يخفف عن ظهر رسول الله ما عليه من الدين و العداة و الأداء عنه من بعده. قال: فقلت له: يابن رسول الله زدني. فقال: احتمله ليعلم بذلك أنه قد احتمله و ما حمل الا لأنه معصوم لا يحمل وزرا، فتكون أفعاله عند الناس حكمة و صوابا، و قد قال النبي

ص: 157


1- 289. أي لكان أميرالمؤمنين (عليه السلام) أفضل من رسول الله (صلي الله عليه و آله) و هذا لا يكون.

(صلي الله عليه و آله) لعلي (عليه السلام): يا علي ان الله (تبارك و تعالي) حملني ذنوب شيعتك ثم غفرها لي، و ذلك قوله (عزوجل): «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر» (1) و لما أنزل الله (عزوجل) عليه «... عليكم أنفسكم» (2) قال النبي (صلي الله عليه و آله): «أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم، و علي نفسي و أخي، أطيعوا عليا فانه مطهر معصوم لا يضل و لا يشقي» ثم تلا هذه الآية: «قل أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فان تولوا فانما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم و ان تطيعوه تهتدوا و ما علي الرسول الا البلاغ المبين» (3) . قال محمد بن حرب الهلالي: ثم قال [لي] جعفر بن محمد: أيها الأمير (4) لو أخبرتك بما في حمل النبي عليا عند حط الأصنام من سطح الكعبة من المعاني التي أرادها به لقلت: ان جعفر بن محمد لمجنون! فحسبك من ذلك ما قد سمعت، فقمت اليه و قبلت رأسه [و يديه] و قلت: الله أعلم حيث يجعل رسالته (5) .

الامام يعاتب رجلا دخل عليه و هو جنب

6- قال أبوبصير: اشتهيت دلالة الامام، فدخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و أنا

ص: 158


1- 290. تجدب المكان: انقطع عنه المطر فيبست أرضه فهو جدب. و خصب المكان: كثر فيه العشب و الخير فهو خصب. (المنجد).
2- 291. سورة الفتح آية 2.
3- 292. سورة المائدة آية 105. و في معاني الأخبار: و لما أنزل الله (تبارك و تعالي) عليه «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم».
4- 293. سورة النور آية 54.
5- 294. أي: يا أمير المدينة.

جنب، فقال: يا أبامحمد! ما كان لك فيما كنت فيه شغل؟ تدخل علي امامك و أنت جنب؟ فقلت: جعلت فداك! ما عملته الا عمدا. قال: أو لم تؤمن؟ قلت: بلي و لكن ليطمئن قلبي. قال: فقم - يا أبامحمد - فاغتسل (1) . و جاءت هذه الرواية بصورة اخري و هي: عن بكر بن محمد قال: خرجنا من المدينة نريد منزل أبي عبدالله (عليه السلام) فلحقنا أبوبصير، خارجا من زقاق، و هو جنب، و نحن لا نعلم، حتي دخلنا علي أبي عبدالله (عليه السلام). قال: فرفع (عليه السلام) رأسه الي أبي بصير فقال: يا أبامحمد! أما تعلم أنه لا ينبغي لجنب أن يدخل بيوت الأنبياء و الأوصياء؟ قال: فرجع أبوبصير، و دخلنا (2) . الرواية بصورة اخري أيضا: روي أبوبصير قال: دخلت المدينة، و كانت معي جويرية (3) فأصبت منها، ثم خرجت الي الحمام، فلقيت أصحابنا الشيعة، و هم متوجهون الي جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فخفت أن يسبقوني و يفوتني الدخول اليه، فمشيت معهم حتي دخلت الدار، فلما مثلت بين يدي أبي عبدالله (عليه السلام) نظر الي ثم قال: يا أبابصير! أما علمت أن بيوت الأنبياء

ص: 159


1- 295. بحارالأنوار: ج 38 ص 79.
2- 296. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 226. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 129.
3- 297. بصائر الدرجات: ص 261 ح 23.

و أولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب؟! فاستحييت، فقلت له: يابن رسول الله! اني لقيت أصحابنا فخشيت أن يفوتني الدخول معهم، و لن أعود الي مثلها. و خرجت (1) .

الامام يخبر عن مقدار الأموال و أصحابها

7- عن محمد بن سنان، أن رجلا قدم علي أبي عبدالله (عليه السلام) من خراسان، و معه صرر من الصدقات، معدودة مختومة، و عليها اسماء أصحابها مكتوبة. فلما دخل الرجل، جعل أبوعبدالله (عليه السلام) يسمي أصحاب الصرر، و يقول: أخرج صرة فلان، فان فيها كذا و كذا. ثم قال: أين صرة المرأة التي بعثتها من غزل يدها؟ أخرجها، فقد قبلناها. ثم قال - للرجل -: أين الكيس الأزرق؟ - و كان فيما حمل اليه كيس أزرق؟ فيه ألف درهم، و كان الرجل قد فقده في بعض طريقه. فلما ذكره الامام استحيي الرجل و قال: يا مولاي! اني فقدته في بعض الطريق. فقال له: تعرفه اذا رأيته؟ فقال: نعم. فقال: يا غلام أخرج الكيس الأزرق. فأخرجه، فلما رآه الرجل عرفه، فقال له الامام: انا احتجنا الي ما

ص: 160


1- 298. جارية شابة.

فيه، فأحضرناه قبل و صولك الينا. فقال الرجل: يا مولاي! اني ألتمس الجواب بوصول ما حملته الي حضرتك. فقال له: ان الجواب كتبناه و أنت في الطريق (1) .

الامام يخبر الرجل عما حدث له

8- روي عن عبدالرحمن بن كثير: أن رجلا منا دخل يسأل عن الامام بالمدينة، فاستقبله رجل من ولد [الامام] الحسن فدله علي محمد بن عبدالله [بن الحسن] فصار اليه، و سائله هنيهة، فلم يجد عنده طائلا (2) . فاستقبله فتي من ولد [الامام] الحسين فقال له: يا هذا! اني أراك تسأل عن الامام؟ قال: نعم. قال فأصبته؟ قال: لا. قال: فان أحببت أن تلقي جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فافعل. فاستدله [سأله عن الطريق] فأرشده اليه، فلما دخل عليه قال له: «هذا (3) انك دخلت مدينتنا هذه، تسأل عن الامام، فاستقبلك فتي من ولد الحسن فأرشدك الي محمد بن عبدالله، فسألته، و خرجت، فان شئت أخبرتك بما سألته عنه و ما رده عليك و ذكر، ثم استقبلك فتي من ولد

ص: 161


1- 299. الارشاد: ص 273.
2- 300. مشارق انوار اليقين: ص 91. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 155.
3- 301. الطائل: الطول و الطائل بمعني، و هو الفضل و القدرة و الغني و السعة. (مجمع البحرين).

الحسين، و قال لك: ان أحببت أن تلقي جعفر بن محمد فافعل». قال: صدقت، قد كان كل ما ذكرت و وصفت (1) .

الامام يخبر عن وقوع المعصية عند نهر بلخ

9- عن هارون بن رئاب، قال: كان لي أخ جارودي (2) فدخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال لي: ما فعل أخوك الجارودي؟ قلت: صالح، هو مرضي عند القاضي، و عند الجيران، في الحالات كلها، غير أنه لا يقر بولايتكم!! فقال: ما يمنعه من ذلك؟ قلت: يزعم أنه يتورع!! قال: فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ؟! فقلت - لأخي - حين قدمت عليه: «ثكلتك امك! دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فسألني عنك، فأخبرته أنك مرضي عند الجيران، و عند القاضي، في الحالات كلها، غير أنه لا يقر بولايتكم». فقال: ما يمنعه من ذلك؟ قلت: يزعم أنه يتورع! فقال: أين كان ورعة ليلة نهر بلخ؟ قال: أخبرك أبوعبدالله بهذا؟ قلت: نعم. قال: أشهد أنه حجة رب العالمين!

ص: 162


1- 302. أي: يا هذا. فهو منادي قد حذف منه حرف النداء.
2- 303. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 770 ح 91.

قلت: أخبرني عن قصتك؟ قال: نعم، أقبلت من وراء نهر بلخ، فصحبني رجل معه وصيفة، فارهة الجمال. فلما كنا علي النهر قال لي: «اما أن تقتبس لنا نارا فأحفظ عليك، و اما أن أقتبس نارا فتحفظ علي. فقلت: اذهب و اقتبس، و أحفظ عليك! فلما ذهب، قمت الي الوصيفة، و كان مني اليها ما كان!! والله ما أفشت، و لا أفشيت لأحد، و لم يعلم بذلك الا الله» [فدخله رعب]. فخرجت من السنة الثانية و هو معي، فأدخلته علي أبي عبدالله (عليه السلام) فذكرت الحديث، فما خرج من عنده حتي قال بامامته (1) . أقول: و قد روي هذا الخبر بصورة اخري و هي: جاء رجل الي أبي عبدالله (عليه السلام) و كان له أخ جارودي، فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): «كيف أخوك؟» قال: جعلت فداك! خلفته صالحا. قال: «و كيف هو؟». قال: قلت: هو مرضي في جميع حالاته، و عنده خير، الا أنه لا يقول بكم! قال: و ما يمنعه؟ قلت: جعلت فداك! يتورع من ذلك!! قال: فقال [الامام] لي: اذا رجعت اليه، فقل له: «أين كان ورعك

ص: 163


1- 304. من أتباع زياد بن المنذر الجارودي العبدي الذي لعنه الامام الصادق (عليه السلام).

ليلة نهر بلخ أن تتورع». قال: فانصرفت الي منزلي، فقلت لأخي: ما كانت قصتك ليلة نهر بلخ؟! أن تتورع من أن تقول بامامة جعفر (عليه السلام) و لا تتورع من ليلة نهر بلخ؟!! قال: و من أخبرك؟ قلت: ان أباعبدالله (عليه السلام) سألني، فأخبرت أنك لا تقول به تورعا!! فقال لي: قل له: أين كان ورعك ليلة نهر بلخ؟ فقال: يا أخي أشهد أنه كذا (كلة لا يجوز أن تذكر) (1) . قال: قلت: ويحك! اتق الله! كل ذا؟ ليس هو هكذا. قال: فقال: ما علمه؟ والله ما علم به أحد من خلق الله الا أنا و الجارية و رب العالمين! قال: قلت: و ما كانت قصتك؟ قال: خرجت من وراء النهر، و قد فرغت من تجارتي، و أنا اريد مدينة بلخ، فصحبني رجل معه جارية له حسناء، حتي عبرنا نهر بلخ، فأتيناه ليلا، فقال لي الرجل (مولي الجارية): «اما أحفظ عليك و تقدم أنت و تطلب لنا شيئا، و تقتبس نارا، أو تحفظ علي و أذهب أنا». قال: فقلت: «أنا أحفظ عليك، و اذهب أنت».

ص: 164


1- 305. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 617 ح 17. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 156.

قال: «فذهب الرجل، و كنا الي جانب غيضة (1) فأخذت الجارية، فأدخلتها الغيضة، و واقعتها، و انصرفت، الي موضعي، ثم أتي مولاها، فاضطجعنا، حتي قدمنا العراق، فما علم به أحد». و لم أزل به حتي سكن، ثم قال به [بامامته]. و حججت من قابل، فأدخلته اليه، فأخبره بالقصة، فقال [الامام]: «تستغفر الله فلا تعود» فاستقامت طريقته (2) .

الامام يرفض قبول المال الذي اخذ من غير رضي صاحبه

10- عن شعيب العقرقوفي، قال: دخلت أنا و علي بن أبي حمزة و أبوبصير علي أبي عبدالله (عليه السلام) و معي ثلثمائة دينار، فصببتها قدامه، فأخذ منها أبوعبدالله قبضة لنفسه، و رد الباقي علي، و قال: يا شعيب! رد هذه المأة دينار الي موضعها الذي أخذتها منه! قال شعيب: فقضينا حوائجنا جميعا، فقال لي أبوبصير: يا شعيب! ما حال هذه الدنانير التي ردها عليك أبوعبدالله (عليه السلام)؟ قلت: أخذتها من عروة أخي، سرا منه، و هو لا يعلمها. فقال لي أبوبصير: يا شعيب! أعطاك أبوعبدالله - والله - علامة الامامة. ثم قال لي أبوبصير، و علي بن أبي حمزة: يا شعيب! عد الدنانير. فعددتها، فاذا هي مائة دينار، لا تزيد دينارا و لا تنقص دينارا (3) .

ص: 165


1- 306.: تقول فيه و تغلو كل ذا؟.
2- 307. الغيضة: الأجمة: و هي مغيض ماء يجتمع فيه الشجر. (مجمع البحرين).
3- 308. بصائر الدرجات: ص 269 ح 16. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 75.

الامام يلمح الي موت الرجل في شهر ربيع

11- عن اسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ان لنا أموالا و نحن نعامل الناس، و أخاف ان حدث حدث أن تفرق أموالنا. قال: فقال: اجمع أموالك في كل شهر ربيع. [قال علي بن اسماعيل:] فمات اسحاق في شهر ربيع (1) .

الامام يرفض قبول الجارية المعتدي عليها

12- عن الحسين بن أبي العلاء، و علي بن أبي حمزة، و أبي بصير قالوا: دخل رجل من أهل خراسان علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له: جعلت فداك [ان] فلان بن فلان بعث معي بجارية و أمرني أن أدفعها اليك. قال: لا حاجة لي فيها، و انا أهل بيت لا يدخل الدنس بيوتنا. فقال له الرجل: والله - جعلت فداك - لقد أخبرني أنها مولدة بيته، و أنها ربيبته في حجره. قال: انها قد فسدت عليه. قال: لا علم لي بهذا. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): و لكني أعلم أن هذا هكذا (2) . و روي أن رجلا خراسانيا أقبل الي أبي عبدالله فقال (عليه السلام)

ص: 166


1- 309. كشف الغمة: ج 2 ص 189.
2- 310. مناقب آل ابي طالب: ج 4 ص 243.

له: ما فعل فلان؟ قال: لا علم لي به. قال: لكني اخبرك به، انه بعث بجارية معك و لا حاجة لي فيها. قال: و لم؟ قال: لأنك لم تراقب الله فيها، حيث عملت ما عملت ليلة نهر بلخ حيث صنعت ما صنعت، فسكت الرجل و علم أنه أخبره بأمر قد فعله (1) .

الامام يخبر رجلا عما خلفه من المال

13- في حديث عن [ابن أبي حمزة] أنه قال الصادق (عليه السلام): نعلم أنك خلفت في منزلك ثلاثمائة درهم، و قلت: اذا رجعت أصرفها أو أبعث بها الي محمد بن عبدالله الدعبلي. قال: والله ما تركت في بيتي شيئا الا و قد أخبرتني به (2) .

الامام يخبر عن مذبحة فخ قبل وقوعها

14- عن النضر بن قرواش قال: أكريت جعفر بن محمد (عليه السلام) من المدينة الي مكة فلما ارتحلنا من بطن مر قال لي: يا نضر اذا انتهيت الي فخ فأعلمني، قلت: أو لست تعرفه! قال: بلي، و لكن أخشي أن تغلبني عيني، فلما انتهينا الي فخ دنوت من المحمل فاذا هو نائم فتنحنحت فلم ينتبه، فحركت المحمل فجلس فقلت: قد بلغت، فقال: حل محملي، فحللته ثم قال: صل القطار فوصلته، ثم تنحيت به عن الجادة

ص: 167


1- 311. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 243.
2- 312. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 610 ح 5. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 97.

فأنخت بعيره فقال: ناولني الأداوة و الركوة، فتوضأ و صلي، ثم ركب فقلت له: جعلت فداك رأيتك قد صنعت شيئا أفهو من مناسك الحج؟ قال: لا، و لكن يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة تسبق أرواحهم أجسادهم الي الجنة (1) .

الامام اعطي علم المنايا و البلايا

15 - عن مفضل بن عمر قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: اعطيت خصالا ما سبقني اليها أحد من قبلي: علمت المنايا و البلايا و فصل الخطاب فلم يفتني ما سبقني، و لم يعزب عني ما غاب عني، و ابشر باذن الله تعالي و أؤدي عنه، كل ذلك من من الله مكنني فيه بعلمه (2) . أقول: قوله: «ما سبقني...» أي من عامة الناس.

الامام يعاتب رجلا علي سوء خلقه مع والدته

16- عن ابراهيم بن مهزم قال: خرجت من عند أبي عبدالله (عليه السلام) ليلة ممسيا فأتيت منزلي بالمدينة، و كانت امي معي، فوقع بيني و بينها كلام، فأغلظت لها، فلما أن كان من الغد صليت الغداة، و أتيت أباعبدالله (عليه السلام) فلما دخلت عليه قال لي مبتدئا: يا أبامهزم مالك و الوالدة أغلظت في كلامها البارحة، أما علمت أن بطنها منزل قد سكنته، و أن حجرها مهد قد غمزته، و ثديها وعاء قد شربته؟!! قال: قلت: بلي.

ص: 168


1- 313. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 224. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 127.
2- 314. مقاتل الطالبيين: ص 290. منه بحارالأنوار: ج 48 ص 170.

قال: فلا تغلظ لها (1) .

الامام ينهي رجلا عن مجالسة السفلة

17- عن ابن أبي يعفور قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فاستأذن عليه رجل حسن الهيئة فقال: اتق السفلة. [قال الراوي]: فما تقارت بي الأرض حتي خرجت، فسألت عنه فوجدته غاليا (2) . أقول: توضيح الحديث أن الرجل بمجرد ان دخل علي الامام الصادق (عليه السلام) ابتدأه الامام بقوله: «اتق السفلة» أي: احذرهم و لا تجالسهم، فلما خرج من عند الامام (عليه السلام) لم تستقر الارض بالراوي، أي أنه لم يستطع أن يستقر في مكانه، بل خرج خلف ذلك الرجل يسأل عنه الناس ليعرف حاله، فأخبروه أنه من الغلاة المنحرفين، و بهذا عرف الراوي معني كلام الامام الصادق (عليه السلام) حينما نهي ذلك الرجل عن مجالسة السفلة و ذلك لأنهم كانوا السبب في غلوه و انحرافه عن الصراط المستقيم.

الامام يحدث رجلا عما صنع به الوالي

18- التمس محمد بن سعيد من الصادق (عليه السلام) رقعة الي محمد بن أبي حمزة الثمالي في تأخير خراجه، فقال (عليه السلام): قل له: سمعت جعفر بن محمد يقول: «من أكرم لنا مواليا فبكرامة الله تعالي

ص: 169


1- 315. بصائر الدرجات: ص 286 ح 1. منه بحارالأنوار: ج 26 ص 148.
2- 316. بصائر الدرجات: ص 263 ح 3. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 72.

بدأ، و من أهانه فلسخط الله تعرض، و من أحسن الي شيعتنا فقد أحسن الي أميرالمؤمنين، و من أحسن الي أميرالمؤمنين فقد أحسن الي رسول الله، و من أحسن الي رسول الله فقد أحسن الي الله، و من أحسن الي الله كان - والله - معنا في الرفيع الأعلي». قال: فأتيته و ذكرته فقال: بالله سمعت هذا الحديث من الصادق (عليه السلام)؟ فقلت: نعم. فقال: اجلس، ثم قال: يا غلام ما علي محمد بن سعيد من الخراج؟ قال: ستون ألف درهم. قال: امح اسمه من الديوان، و أعطاني بدرة و جارية و بغلة بسرجها و لجامها. قال: فأتيت أباعبدالله (عليه السلام) فما نظر الي تبسم فقال: يا أبامحمد تحدثني أو احدثك؟ فقلت: يابن رسول الله منك أحسن. فحدثني والله الحديث كأنه حاضر معي (1) .

الامام يخبر عن مدفنهم قبل موتهم

19 عن محمد الاصبهاني قال: كنت قاعدا مع معروف بن خربوذ بمكة و نحن جماعة فمر بنا قوم علي حمير معتمرون من أهل المدينة، فقال لنا معروف: سلوهم هل كان بها خبر؟ فسألناهم، فقالوا: مات عبدالله بن الحسن، فأخبرناه بما قالوا، قال: فلما جاوزوا مر بنا قوم آخرون فقال لنا

ص: 170


1- 317. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 594 ح 553. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 300.

معروف: فاسألوهم هل كان بها خبر؟ فسألناهم فقالوا: كان عبدالله بن الحسن أصابته غشية و قد أفاق، فأخبرناه بما قالوا، فقال: ما أدري ما يقول هؤلاء و اولئك؟ أخبرني ابن المكرمة - يعني أباعبدالله (عليه السلام) - أن قبر عبدالله بن الحسن و أهل بيته علي شاطي ء الفرات. قال: فحملهم أبوالدوانيق فقبروا علي شاطي ء الفرات (1) .

الامام يخبر أن الزوجة المعتدية تموت بعد ثلاثة أيام

20- روي عن الحسين بن أبي العلاء، قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) اذ جاءه رجل (أو مولي له) يشكو زوجته و سوء خلقها، قال فأنني بها. فأتاه بها، فقال [الامام] لها: ما لزوجك يشكوك؟ قالت: فعل الله به و فعل. فقال لها: ان ثبت علي هذا لم تعيشي الا يسيرا. قالت: لا أبالي أنت لا أراه أبدا. فقال [الامام] له: خذ بيد زوجتك، فليس بينك و بينها الا ثلاثة أيام!! فلما كان اليوم الثالث دخل عليه الرجل، فقال (عليه السلام): ما فعلت زوجتك؟ قال: قد والله دفنتها الساعة. قلت: ما كان حالها؟

ص: 171


1- 318. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 235. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 179.

قال (عليه السلام): كانت معتدية، فبتر الله عمرها، و أراحه منها (1) .

الامام يخبر رجلا عما حدث به نفسه

21- عن جعفر بن هارون الزيات قال: كنت أطوف بالكعبة فرأيت أباعبدالله (عليه السلام) فقلت في نفسي: هذا هو الذي يتبع، و الذي هو الامام و هو كذا و كذا؟ قال: فما عملت به حتي ضرب يده علي منكبي، ثم أقبل علي و قال: «أبشرا منا واحدا نتبعه انا اذا لفي ضلال و سعر» (2) . (3) . 22- و عن عمر بن يزيد قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) ليلة من الليالي، و لم يكن عنده أحد غيري، فمد رجله في حجري فقال: اغمزها يا عمر! قال: فغمزت رجله، فنظرت الي اضطراب في عضلة ساقيه فأردت أن أسأله الي من الأمر من بعده، فأشار الي فقال: لا تسألني في هذه الليلة عن شي ء فاني لست اجيبك (4) . الرواية بصورة اخري: عن عمر بن يزيد قال: كنت عند أبي عبدالله و هو وجع فولاني ظهره، و وجهه الي الحائط فقلت في نفسي: ما أدري ما يصيبه في مرضه، و ما سألته عن الامام بعده، فانا افكر في ذلك، اذ حول وجهه الي فقال: ان الأمر ليس كما تظن، ليس علي من وجعي هذا بأس (5) .

ص: 172


1- 319. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 472 ح 376. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 151.
2- 320. الخرائج و الجرائج: ج 2 ص 610 ح 6.
3- 321. سورة القمر آية 24.
4- 322. بصائر الدرجات: ص 260 ح 21. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 70.
5- 323. بصائر الدرجات: ص 255 ح 1.

أيها القارئ الكريم: كانت هذه مجموعة منتخبة من الأحاديث التي تصرح بأن الامام الصادق (عليه السلام) اخبر عن نوايا بعض الناس و افعالهم و ما صدر منهم و ما سيتعرضون له و ما شابه ذلك، و هناك أحاديث أخري في هذا المجال ذكرناها في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) و هي بمجموعها تؤكد علي حقيقة واحدة و هي ان الامام الصادق (عليه السلام) مؤيد من عند الله تعالي و متصل بالعالم الأعلي و أن الله سبحانه منحه هذه الصلاحيات و المؤهلات - التي يمنحها للأنبياء و أوصيائهم - لتكون دليلا علي الامامة و الولاية الشرعية الحقة، في مقابل الامامة الباطلة المزعومة التي يدعيها الآخرون.

ص: 173

الامام الصادق و علم الطب و التشريح

أيها القارئ الكريم: نذكر لك - في هذا الفصل - بعض الأحاديث المروية عن سيدنا و مولانا الامام الصادق (عليه السلام) حول علم الطب و تشريح جسم الانسان، لا ثبات ما سبق ذكره من تنوع علوم الامام الصادق (عليه السلام) و أن هذا الامام كان آية من آيات الله العظيمة و حجة من حجج الله البالغة و معدنا من معادن العلوم الالهية... 1- عن الحسن بن علي بن النعمان، عن بعض أصحابنا قال: شكوت الي أبي عبدالله (عليه السلام) الوجع فقال لي: اذا أويت الي فراشك فكل سكرتين. قال: ففعلت فبرئت، فخبرت بعض المتطببين - و كان أفره (1) أهل بلادنا - فقال: من أين عرف أبوعبدالله (عليه السلام) هذا؟ هذا من مخزون علمنا، أما انه صاحب كتب فينبغي أن يكون أصابه في بعض كتبه (2) .

ص: 174


1- 324. بصائر الدرجات: ص 259 ح 14.منه بحارالأنوار: ج 47 ص 70.
2- 325. الفاره: الحاذق بالشي ء (مجمع البحرين).

2- عن الربيع - صاحب المنصور العباسي - قال: حضر أبوعبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليهماالسلام) مجلس المنصور يوما، و عنده رجل من الهند يقرأ كتب الطب، فجعل أبوعبدالله الصادق جعفر بن محمد (عليهماالسلام) ينصت لقراءته، فلما فرغ الهندي قال له: يا أباعبدالله! أتريد مما معي شيئا؟ قال: لا، فان ما معي خير مما معك! قال: و ما هو؟ قال: اداوي الحار بالبارد، و البارد بالحار، و الرطب باليابس، و اليابس بالرطب، و أرد الأمر كله الي الله (عزوجل) و أستعمل ما قاله رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أعلم ان المعدة بيت الداء، و الحمية هي الدواء، و اعود البدن ما اعتاد. فقال الهندي: و هل الطب الا هذا؟ فقال الصادق (عليه السلام): أفتراني عن كتب الطب أخذت؟ قال: نعم. قال: لا، والله ما أخذت لا عن الله سبحانه، فأخبرني أنا أعلم بالطب أم أنت؟ فقال الهندي: بل أنا. قال الصادق (عليه السلام): فأسألك شيئا؟ قال: سل. قال (عليه السلام): أخبرني - يا هندي - لم كان في الرأس شؤون؟ (1) .

ص: 175


1- 326. الكافي، ج 6 ص 333 ح 5.

قال: لا أعلم. قال: فلم جعل الشعر عليه من فوقه؟ قال: لا أعلم. قال: فلم خلت الجبهة من الشعر؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كان لها تخطيط و أسارير؟ (1) . قال: لا أعلم. قال: فلم كان الحاجبان من فوق العينين؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جعلت العينان كاللوزتين؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جعل الأنف فيما بينهما؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كان ثقب الأنف في أسفله؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جعلت الشفة و الشارب من فوق الفم؟ قال: لا أعلم. قال: فلم احتد السن، و عرض الضرس، و طال الناب؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جعلت اللحية للرجال؟ قال: لا أعلم.

ص: 176


1- 327. الشؤون: هي مواصل قبائل الرأس و ملتقاها، (مجمع البحرين).

قال: فلم خلت الكفان من الشعر؟ قال: لا أعلم. قال: فلم خلا الظفر و الشعر من الحياة؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كان القلب كحب الصنوبر؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كانت الرية قطعتين، و جعل حركتها في موضعها؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كانت الكبد حدباء؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كانت الكلية كحب اللوبيا؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جعل طي الركبتين الي خلف؟ قال: لا أعلم. قال: فلم تخصرت القدمان؟ قال: لا أعلم. فقال الصادق (عليه السلام): لكنني أعلم. قال: فأجب! قال الصادق (عليه السلام): كان في الرأس شؤون، لأن المجوف اذا كان بلافصل أسرع اليه الصدع، فاذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد. و جعل الشعر من فوقه لتوصل - بوصوله - الأدهان الي الدماغ و يخرج بأطرافه البخار منه، و يرد الحر و البرد الواردين عليه.

ص: 177

و خلت الجبهة من الشعر لانها مصب النور الي العينين. و جعل فيها التخطيط و الأسارير ليحتبس العرق - الوارد من الرأس - عن العين، قدر ما يميطه الانسان عن نفسه، كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه. و جعل الحاجبان من فوق العينين ليرد عليهما من النور قدر الكفاية.. ألا تري - يا هندي - أن من غلبه النور جعل يده علي عينيه ليرد عليهما قدر كفايتهما منه؟ و جعل الأنف فيما بينهما ليقسم النور قسمين، الي كل عين سواء. و كانت العين كاللوزة، ليجري فيها الميل بالدواء [الاكتحال] و يخرج منها الداء، و لو كانت مربعة، أو مدورة ما جري فيها الميل، و ما وصل اليها دواء، و لا خرج منها داء. و جعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المنحدرة من الدماغ، و يصعد فيه الأراييح (1) الي المشام، و لو كان علي أعلاه لما انزل داء، و لا وجد رائحة. و جعل الشارب و الشفة فوق الفم ليحتبس ما ينزل من الدماغ عن الفم، لئلا يتنغص علي الانسان طعامه و شرابه، فيميطه عن نفسه. و جعلت اللحية للرجال ليستغني بها عن الكشف في المنظر، و يعلم بها الذكر من الانثي. و جعل السن حادا، لأن به يقع المضغ، و جعل الضرس عريضا لأن به يقع الطحن و المضغ، و كان الناب طويلا ليسند الأضراس و الأسنان

ص: 178


1- 328. أسارير: هي خطوط تجتمع في الجبهة و تتكسر. (مجمع البحرين).

كالاسطوانة في البناء. و خلا الكفان من الشعر لأن بهما يقع اللمس، فلو كان فيهما شعر ما دري الانسان ما يقابله و يلمسه. و خلأ الشعر و الظفر من الحياة لأن طولهما سمج (1) و قصهما حسن، فلو كان فيهما حياة لألم الانسان بقصهما. و كان القلب كحب الصنوبر، لأنه منكس، فجعل رأسه دقيقا ليدخل في الرية فتروح عنه ببردها، لئلا يشيط (2) الدماغ بحره. و جعلت الرية قطعتين، ليدخل بين مضاغطها، فيتروح عنه بحركتها. و كانت الكبد حدباء لتثقل المعدة، و يقع جميعها عليها، فيعصرها، ليخرج ما فيها من البخار. و جعلت الكلية كحب اللوبيا، لأن عليها مصب المني، نقطة بعد نقطة، فلو كانت مربعة أو مدورة احتبست النقطة الاولي الي الثانية، فلا يلتذ - بخروجها - الحي، اذا المني ينزل من فقار الظهر الي الكلية، فهي [الكلية] كالدودة تنقبض و تنبسط، ترميه أولا فأولا الي المثانة كالبندقة من القوس. و جعل طي الركبة الي خلف، لأن الانسان يمشي الي بين يديه، فتعتدل الحركات و لو لا ذلك لسقط في المشي. و جعلت القدم مخصرة، لأن الشي ء اذا وقع علي الأرض جميعه ثقل كثقل حجر الرحي، فاذا كان علي حرفه (3) رفعه الصبي و اذا وقع علي وجهه صعب نقله علي الرجل.

ص: 179


1- 329. الموجود في كتب اللغة: أرايح و اراويح - جمع ريح - و أما أراييح فلم أظفر بها فلعلها جمع رائحة.
2- 330. سمج: الذي تكرهه النفس لقبحه. (مجمع البحرين).
3- 331. شوط القدر و شيطها اذا أغلاها. (لسان العرب).

فقال له الهندي: من أين لك هذا العلم؟ فقال (عليه السلام): أخذته عن آبائي (عليهم السلام) عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) عن جبرئيل عن رب العالمين (جل جلاله) الذي خلق الأجساد و الأرواح. فقال الهندي: صدقت، و أنا أشهد أن لا اله الا الله، و أن محمدا رسول الله و عبده، و أنك أعلم أهل زمانك (1) . 3- و عن سالم الضرير: ان نصرانيا سأل الصادق (عليه السلام) عن تفصيل الجسم؟ فقال (عليه السلام): «ان الله تعالي خلق الانسان علي اثني عشر وصلا، و علي مائتين و ستة و اربعين عظما، و علي ثلاث مائة و ستين عرقا، فالعروق هي التي تسقي الجسد كله، و العظام تمسكها، و اللحم يمسك العظام، و العصب يمسك اللحم. و جعل في يديه اثنين و ثمانين عظما، في كل يد أحد و أربعون عظما منها: في كفه: خمسة و ثلاثون عظما، و في ساعده اثنان، و في عضده واحد، و في كتفه ثلاثة [فذاك أحد و اربعون عظما]. و كذلك في [اليد] الأخري. و في رجله ثلاثة و اربعون عظما، منها: في قدمة: خمسة و ثلاثون عظما، و في ساقه اثنان، و في ركبته ثلاثة، و في فخذه واحد، و في وركه اثنان، و كذلك في [الرجل] الأخري. و في صلبه ثماني عشر فقارة، و في كل واحد من جنبه تسعة أضلاع،

ص: 180


1- 332. حرف كل شي ء: طرفه و شفيره و حده (أقرب الموارد).

و في عنقه ثمانية، و في رأسه ستة و ثلاثون عظما، و في فيه ثمانية و عشرون، و اثنان و ثلاثون» (1) . 4- و حدث أبوهفان - و ابن ماسويه حاضر -: ان جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: «الطبائع أربع: الدم، و هو عبد، و ربما قتل العبد سيده، و الريح، و هو عدو، اذا سددت له بابا أتاك من آخر، و البلغم، و هو ملك يداري، و المرة، و هي الأرض، اذا رجفت رجفت بمن عليها». فقال [ابن ماسويه]: أعد علي، فوالله لا يحس جالينوس أن يصف هذا الوصف (2) . 5- و عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «ان خرج بالرجل منكم الخراج (3) أو الدمل فليربطه، و ليتداو بزيت أو سمن» (4) . 6 و عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «اذا حككت رأسك فحكه حكا رفيقا، و لا تحكن بالأظفار، و لكن بأطراف الأصابع» (5) . 7- و عن عبدالرحمن بن كثير، قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فدخل عليه مهزم، فقال لي أبوعبدالله (عليه السلام): ادع لنا الجارية تجئنا بدهن و كحل. فدعوت بها، فجاءت بقارورة بنفسج، و كان يوما شديد البرد،

ص: 181


1- 333. الخصال: ص 511 ح 3.
2- 334. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 256.
3- 335. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 259.
4- 336. الخراج: ما يخرج في البدن من القروح. (لسان العرب).
5- 337. الكافي: ج 4 ص 359 ح 6.

فصب مهزم في راحته منها ثم قال: جعلت فداك! هذا بنفسج، و هذا البرد الشديد. فقال: و ما باله يا مهزم؟ فقال: ان متطببينا بالكوفة يزعمون ان البنفسج بارد. فقال: هو بارد في الصيف، لين حار في الشتاء (1) . 8- و عن عمر بن اذينة قال: شكا رجل الي أبي عبدالله (عليه السلام) شقاقا في يديه و رجليه، فقال له: خذ قطنة، فاجعل فيها بانا، وضعها في سرتك. فقال اسحاق بن عمار: جعلت فداك! يجعل البان في قطنة و يجعلها في سرته؟ فقال: أما أنت - يا اسحاق - فصب البان في سرتك فانها كبيرة! قال ابن اذينة: لقيت الرجل بعد ذلك فأخبرني أنه فعله مرة واحدة فذهب عنه (2) . 9- لما قدم أبوعبدالله (عليه السلام) الحيرة ركب دابته و مضي الي الخورنق (3) فنزل فاستظل بظل دابته و معه غلام له أسود فرأي رجلا من أهل الكوفة قد اشتري نخلا فقال للغلام: من هذا؟ فقال له: هذا جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فجاء بطبق ضخم فوضعه بين يديه. فقال (عليه السلام) للرجل: ما هذا؟ فقال: هذا البرني.

ص: 182


1- 338. الكافي: ج 4 ص 365 ح 1.
2- 339. الكافي: ج 6 ص 521 ح 6.
3- 340. الكافي: ج 6 ص 523 ح 2.

فقال: فيه شفاء، و نظر الي السابري فقال: ما هذا؟ فقال: السابري. فقال: هذا عندنا البيض، و قال للمشان: ما هذا؟ فقال الرجل: المشان (1) . فقال (عليه السلام): هذا عندنا ام جرذان و نظر الي الصرفان فقال: ما هذا؟ فقال الرجل: الصرفان. فقال: هو عندنا العجوة و فيه شفاء (2) . أقول: قد ذكرنا من التعليمات الطيبة المروية عن الامام الصادق (عليه السلام) في المجلد الخاص بالطب في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام). و أوردنا فيه الكتاب المعروف ب: توحيد المفضل، و هو من املاء الامام الصادق (عليه السلام) و كتابة تلميذه المفضل بن عمر، و هو كتاب عظيم و جدير بالتدبر و المطالعة.

ص: 183


1- 341. الخورنق: قصر بالعراق للنعمان الأكبر ابن امري ء القيس (أقرب الموارد).
2- 342. المشان: من اطيب الرطب (أقرب الموارد).

الامام الصادق و علم النجوم

أيها القارئ الكريم: و علم النجوم هو الآخر من العلوم التي ألهمها الله تعالي للامام الصادق (عليه السلام) لتكون آية علي تنوع علومه (عليه السلام) و امامته المنصوصة من الله سبحانه. و فيما يلي نذكر بعض ما روي عنه (عليه السلام) في هذا المجال: 1- روي انه دخل يماني علي الامام الصادق (عليه السلام) فقال له: مرحبا بك يا سعد! فقال الرجل: بهذا الاسم سمتني امي، و قل من يعرفني به. فقال: صدقت يا سعد المولي! فقال: جعلت فداك! بهذا كنت القب. فقال: ما صناعتك يا سعد؟ قال: أنا من أهل بيت ننظر في النجوم. فقال: كم ضوء الشمس علي ضوء القمر درجة؟ قال: لا أدري. قال: فكم ضوء القمر علي ضوء الزهرة درجة؟ قال: لا أدري.

ص: 184

قال: فكم للمشتري من ضوء عطارد؟ قال: لا أدري. قال: فما اسم النجوم التي اذا طلعت هاجت البقر؟ قال: لا أدري. فقال يا أخا أهل اليمن! عندكم علماء؟. قال: نعم، ان عالمهم ليزجر الطير، و يقفو الأثر في الساعة الواحدة مسيرة سير الراكب المجد. فقال (عليه السلام): ان عالم المدينة أعلم من عالم اليمن! لأن عالم المدينة ينتهي الي حديث لا يقفو الأثر، و يزجر الطير، و يعلم ما في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس، يقطع اثني عشر برجا، و اثني عشر بحرا، و اثني عشر عالما. قال: ما ضننت أن أحدا يعلم هذا و يدري (1) . 2- و عن هشام الخفاف، قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام): كيف بصرك بالنجوم؟ قال: قلت: ما خلفت بالعراق أبصر بالنجوم مني. فقال: كيف دوران الفلك عندكم؟ قال: فأخذت قلنسوتي عن رأسي فأدرتها. فقال: فان كان الأمر علي ما تقول فما بال بنات النعش و الجدي و الفرقدين لا يرون يدورون يوما من الدهر في القبلة؟ قال: قلت: هذا والله شي ء لا أعرفه، و لا سمعت أحدا من أهل الحساب يذكره!! فقال لي: كم الكسينة من الزهرة جزءا في ضوئها؟

ص: 185


1- 343. الكافي: ج 6 ص 347 ح 15.

قال: قلت: هذا - والله - نجم ما سمعت به، و لا سمعت أحدا من الناس يذكره. فقال: سبحان الله! فأسقطتم نجما بأسره؟ فعلي ما تحسبون؟ ثم قال: فكم الزهرة من القمر جزءا في ضوئه؟ قال: قلت هذا شي ء لا يعلمه الا الله (عزوجل). قال: فكم القمر جزءا من الشمس في ضوئها؟ قال: قلت: لا أعرف هذا. قال: صدقت، ثم قال: ما بال العسكرين يلتقيان، في هذا حاسب، و في هذا حاسب فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، و يحسب هذا لصاحبه بالظفر؟ ثم يلتقيان، فيهزم أحدهما الآخر، فأين كانت النحوس؟ قال: فقلت: لا والله ما اعلم ذلك. قال: فقال: صدقت، ان أصل الحساب حق، و لكن لا يعلم ذلك الا من علم مواليد الخلق كلهم (1) . 3- و عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان بيني و بين رجل قسمة أرض و كان الرجل صاحب نجوم و كان يتوخي (2) ساعة السعود فيخرج فيها و أخرج أنا في ساعة النحوس، فاقتسمنا فخرج لي خير القسمين فضرب الرجل يده اليمني علي اليسري ثم قال: ما رأيت كاليوم قط. قلت: ويل الآخر و ما ذاك (3) ؟ قال: اني صاحب نجوم أخرجتك في ساعة النحوس و خرجت أنا في

ص: 186


1- 344. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 255. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 218.
2- 345. الكافي: ج 8 ص 351 ح 549.
3- 346. أي يتحراه و يطلبه.

ساعة السعود ثم قسمنا فخرج لك خير القسمين. فقلت: ألا احدثك بحديث حدثني به أبي؟ قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): من سره أن يدفع الله عنه نحس يومه فليفتتح يومه بصدقة يذهب الله بها عنه نحس يومه، و من أحب أن يذهب الله عنه نحس ليلته فليفتتح ليلة بصدقة يدفع الله عنه نحس ليلته، فقلت: و اني افتتحت خروجي بصدقة، فهذا خير لك من علم النجوم (1) .

ص: 187


1- 347. قوله: «ويل الاخر» من عادة العرب اذا ارادوا تعظيم المخاطب ان لا يخاطبوه بويلك بل يقولون: ويل الاخر (قاله الرضي).

الامام الصادق و علم الحيوان

عن صفوان الجمال، قال: كنت - بالحيرة (1) - مع أبي عبدالله (عليه السلام) اذ أقبل الربيع و قال: أجب أميرالمؤمنين! [المنصور] فلم يلبث [الامام] أن عاد. قلت: يا مولاي! أسرعت الانصراف! قال: انه [المنصور] سألني عن شي ء، فاسأل الربيع عنه. قال صفوان: و كان بيني و بين الربيع لطف، فخرجت الي الربيع و سألته، فقال: اخبرك بالعجب: ان الأعراب خرجوا يجتنون الكمأة (2) فأصابوا - في البر - خلقا ملقي، فأتوني به، فأدخلته علي الخليفة [المنصور]، فلما رآه قال: نحه، و ادع جعفرا. فدعوته فقال [المنصور]: يا أباعبدالله! أخبرني عن الهواء ما فيه؟ قال: في الهواء موج مكفوف.

ص: 188


1- 348. الكافي: ج 4 ص 6 ح 9.
2- 349. الحيرة: مدينة بقرب الكوفة (أقرب الموارد).

قال: ففيه سكان؟ قال: نعم. قال: و ما سكانه؟ قال: خلق: أبدانهم أبدان الحيتان، و رؤوسهم رؤوس الطير، و لهم أعرفة كأعرفة الديكة (1) و نغانغ كنغانغ (2) الديكة، و أجنحة الطير، من ألوان. أشد بياضا من الفضة المجلوة. فقال الخليفة: هلم الطشت. فجئت بها، و فيها ذلك الخلق، و اذا هو - والله - كما وصفه جعفر، فلما نظر اليه جعفر قال: هذا هو الخلق الذي يسكن الموج المكفوف. فأذن [المنصور] له بالانصراف. فلما خرج (عليه السلام) قال الخليفة: ويلك! يا ربيع! هذا الشجا (3) المعترض في حلقي من أعلم الناس (4) . و في رواية مشابهة عن داود بن كثير الرقي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه لما خرج من عند المنصور نزل الحيرة، فبينا هو بها اذ أتاه الربيع، فقال: أجب أميرالمؤمنين! فركب اليه، و قد كان وجد في الصحراء صورة عجيبة لا يعرف خلقتها، ذكر من وجدها أنه رآها و قد سقطت مع المطر. فلما دخل عليه قال له: يا أباعبدالله! أخبرني عن الهواء...) و ذكر

ص: 189


1- 350. الكمأة، نبات يقال له: (شحم الأرض) يوجد في الربيع تحت الأرض، لا ساق له و لا عرق، لونه يميل الي الغبرة (أقرب الموارد).
2- 351. العرف: لحمة مستطيلة في اعلي رأس الديك (أقرب الموارد).
3- 352. النغنغ: موضع بين اللهاة و شوارب الحنجور. (لسان العرب).
4- 353. الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم و نحوه ثم استعير للهم و الحزن لان الانسان يغص بهما (أقرب الموارد).

نحوه (1) . أقول: قد ذكرنا في كتاب (الامام الجواد من المهد الي اللحد) كلمة حول ما ورد في هذا الحديث و أمثاله، و لا بأس بنقل تلك الكلمة - هنا، و هي: (... و قد رأينا في زماننا في العراق - مرات عديدة - أن السماء امطرت مئات الألوف - بل الملايين - من الضفادع، و كانت كل ضفدعة علي حجم البندقة أو أكبر منها. و في هذه السنة بالذات - 1406 ه - أمطرت السماء في مدينة شادكان - في محافظة خوزستان جنوب ايران - ملايين الضفادع، و امتلأت بها البيوت و البساتين و غيرها. و علي كل حال.. فهذا أمر واقع و حقيقة ثابتة، و ليست نظرية حتي يمكن تكذبيها أو التشكيك فيها. و يمكن أن يقال - في مقام التحليل -: أن الزوابع - جمع زوبعة، و هي هيجان الرياج في الأرض و تصاعدها بصورة مستديرة - تسير بصورة سريعة و تحمل الغبار و ترتفع الي السماء كالعمود، فاذا هبت الزوابع علي الشطوط و البحار، فانها تحمل السحب و الحيوانات المتواجدة علي الماء - من السمك الصغار و الضفادع - و تصعد بها الي الجو، فتبقي بين طيات السحب المتكاثقة، و يمكن أن يعيش السمك بين أطباق الغيوم، لأنها أبخرة الماء). و لعل المخلوق الذي أصابه الأعراب في الصحراء من هذا القبيل، و اما التعبير بالموج المكفوف في الهواء فلعله اشارة الي ما تقدم من الزوابع و ما تحمله من سطوح البحار، والله العالم.

ص: 190


1- 354. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 640 ح 47. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 170.

الامام الصادق و منطق الحيوانات

من الثابت ان الحيوانات لها أصوات - و ان كانت غير مفهومة عندنا - و قد اختلفت الأقوال حول هذه الأصوات، و هل أنها كلمات لها معان... أم لا؟ و بعبارة اخري: هل تستطيع الحيوانات أن تنطق بكلام له معني أم لا؟ و لا أري حاجة الي ذكر تلك الأقوال - التي لا تسمن و لا تغني من جوع - فالقرآن الحكيم أغنانا عن أقوال الناس. اقرأ قوله تعالي - حكاية عن سليمان بن داود (عليهماالسلام) -: «و ورث سليمان داود و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير و اوتينا من كل شي ء ان هذا لهو الفضل المبين - و حشر لسليمان جنوده من الجن و الانس و الطير فهم يوزعون - حتي اذا أتوا علي واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون - فتبسم ضاحكا من قولها...» (1) .

ص: 191


1- 355. دلائل الامامة: ص 143. منه بحارالأنوار: ج 59 ص 340.

و قوله تعالي: «و الطير صافات كل قد علم صلاته و تسبيحه» (1) . و قوله (عزوجل): «و تفقد الطير فقال مالي لا أري الهدهد أم كان من الغائبين» الي أن يقول: «فقال» الهدهد «أحطت بما لم تحط و جئتك من سبا بنبأ يقين - اني وجدت امرأة تملكهم و اوتيت من كل شي ء و لها عرش عظيم - وجدتها و قومها يسجدون للشمس من دون الله و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون». الي أن يقول: «قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين - اذهب بكتابي هذا فألقه اليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون - قالت يا أيها الملأ اني القي الي كتاب كريم» (2) . هذه الآيات كما تراها - أيها القارئ الكريم - تصرح بكل وضوح ان الحيوانات لها منطق و مفهوم، كما في قصة النملة و الهدهد، و تسبيح الطيور و صلاتها. و قد عرفت ان سليمان بن داود (عليهماالسلام) تبسم ضاحكا من قول النملة، و سمع كلام الهدهد حول ملكة سبأ، و فهم كلامه، بل و أمره سليمان أن يذهب بكتابه الي ملكة سبأ. فاذا أمكن يعلم الله (تعالي) بعض عباده منطق الحيوانات - من الطيور و غيرها - فلا عجب اذا كان أوصياء الأنبياء أيضا قد علمهم الله منطق الحيوانات و جميع اللغات المتبادلة بين البشر. و هناك مجموعة من الأحاديث الشريفة التي تؤكد علي هذه الحقيقة،

ص: 192


1- 356. سورة النمل الآيات 19 - 16.
2- 357. سورة النور آية 41.

و قد ذكرنا بعضها في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام)، و هنا نذكر بعض تلك الأحاديث التي تدل علي علم الامام الصادق (عليه السلام) بمنطق الحيوانات من الطيور و غيرها: 1- عن فضيل بن يسار - عن أبي عبدالله (عليه السلام) - قال: كنت عنده (عليه السلام) اذ نظرت الي زوج حمام عنده فهدر الذكر علي الانثي فقال (عليه السلام) لي: أتدري ما يقول؟ قلت: لا. قال: يقول: يا سكني و عرسي ما خلق احب الي منك، الا أن يكون مولاي جعفر بن محمد (عليهماالسلام) (1) . و في رواية اخري عن مغيث قال لأبي عبدالله (عليه السلام) - و رآه يضحك في بيته -: جعلت فداك لست أدري بأيهما أنا أشد سرورا، بجلوسك في بيتي أو بضحكك؟!! قال: انه هدر الحمام الذكر علي الانثي فقال: أنت سكني و عرسي، و الجالس علي الفراش أحب الي منك. فضحكت من قوله. و هذا المعني رواه الفضيل بن يسار - في حديث برد الاسكاف - أن الطير قال: يا سكني و عرسي ما خلق الله خلقا أحب الي منك، و ما حرصي عليك هذا الحرص الا طمعا أن يرزقني الله ولدا منك يحبون أهل البيت (2) . 2- و عن داود بن فرقد قال: كنت جالسا في بيت أبي عبدالله (عليه السلام) فنظرت الي الحمام الراعبي يقرقر طويلا فنظر الي أبوعبدالله (عليه السلام) [طويلا] فقال: يا داود أتدري ما يقول هذا الطير؟

ص: 193


1- 358. سورة النمل الآيات 29 - 20.
2- 359. بصائر الدرجات: ص 362 ح 4. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 85.

قلت: لا والله: جعلت فداك. قال: يدعو علي قتلة الحسين بن علي (صلوات الله عليه)، فاتخذوه في منازلكم (1) . 3 - و عن سليمان بن خالد - عن أبي عبدالله (عليه السلام) - قال: كان معنا أبوعبدالله البلخي، و نحن معه اذا هو بظبي يثغو (2) و يحرك ذنبه، فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): أفعل ان شاء الله، ثم أقبل علينا فقال: علمتم ما قال الظبي؟ قلنا: الله و رسوله و ابن رسوله أعلم. فقال: أنه أتاني فأخبرني أن بعض أهل المدينة نصب شبكة لأنثاه، فأخذها و لها خشفان لم ينهضا، و لم يقويا للرعي، قال: فيسألني أن أسألهم أن يطلقوها، و ضمن لي أن اذا أرضعت خشفيها حتي يقويا أن يردها عليهم. قال: فاستحلفته. فقال: برئت من ولايتكم أهل البيت ان لم أف، و أنا فاعل ذلك [به] ان شاء الله. فقال البلخي: سنة فيكم كسنة سليمان (عليه السلام) (3) و (4) . 4- و عن سالم - مولي أبان بياع الزطي - قال: كنا في حائط (5) لأبي

ص: 194


1- 360. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 217. منه بحارالأنوار، ج 47 ص 124.
2- 361. كامل الزيارات: ص 98 ح 2. منه بحارالأنوار: ج 45 ص 213.
3- 362. الثغاء: صوت الشاة و المعز و ما شاكلها. (لسان العرب).
4- 363. اشارة الي قوله تعالي في قصة سليمان بن داود (عليهماالسلام): «يا أيها الناس علمنا منطق الطير...» الآية.
5- 364. بصائر الدرجات: ص 369 ح 8.

عبدالله (عليه السلام) و نفر معي قال: فصاحت العصافير فقال: أتدري ما تقول؟ فقلنا: جعلنا الله فداك... لا ندري ما تقول. قال: تقول: اللهم انا خلق من خلقك، لابد لنا من رزقك فأطعمنا و اسقنا (1) 5- و عن العلاء بن سيابة قال: جاء رجل الي أبي عبدالله (عليه السلام) و هو يصلي فجاء هدهد، فوقع عند رأسه حين سلم (2) و التفت اليه. فقال: قلت له: جئت لأسألك فرأيت ما هو أعجب. قال: ما هو؟ قلت: ما صنع الهدهد؟ قال: «نعم، جاءني فشكا الي حية تأكل فراخه، فدعوت الله عليها فأماتها...» الي الآخر الخبر (3) . 6 - و روي صفوان بن يحيي عن جابر قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فبرزنا معه فاذا نحن برجل قد أضجع جديدا (4) ليذبحه، فصاح الجدي فقال أبوعبدالله (عليه السلام): كم ثمن هذا الجدي؟ فقال: أربعة دراهم، فحلها من كمه، و دفعها اليه و قال: خل سبيله. قال: فسرنا فاذا بصقر قد أنقض علي دراجة، فصاحت الدراجة. فأومأ أبوعبدالله (عليه السلام) الي الصقر بكمه، فرجع عن الدراجة.

ص: 195


1- 365. الحائط: البستان (أقرب الموارد).
2- 366. بصائر الدرجات: ص 365 ح 20. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 86.
3- 367. في بحارالأنوار: حتي تسلم.
4- 368. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 643 ح 51. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 108.

فقلت: لقد رأينا عجيبا من أمرك. قال: نعم، ان الجدي لما أضجعه الرجل ليذبحه و بصر بي قال: أستيجر بالله و بكم أهل البيت، مما يراد بي، و كذلك قالت الدراجة، و لو أن شيعتنا استقامت لأسمعتهم منطق الطير (1) . 7 - و عن محمد بن عمرو بن ميثم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه خرج الي ضيعة له مع بعض أصحابه، فبينا هم يسيرون اذا ذئب قد أقبل اليه، فما رأي غلمانه أقبلوا عليه، قال: دعوة، فان له حاجة! فدنا منه حتي وضع كفه علي دابته، و تطاول بخرطمه (2) ، و طأطأ رأسه أبوعبدالله (عليه السلام) فكلمه الذئب بكلام لا يعرف، فرد عليه أبوعبدالله (عليه السلام) مثل كلامه، فرجع يعوي. فقال له أصحابه: قد رأينا عجبا. فقال: انه أخبرني أنه خلف زوجته خلف هذا الجبل في كهف، و قد ضربها الطلق (3) .و خاف عليها، فسألني الدعاء لها بالخلاص، و أن يرزقها الله ذكرا يكون لنا وليا و محبا، فضمنت له ذلك. قال: فانطلق أبوعبدالله (عليه السلام) و انطلقنا معه الي ضيعته، و قال: ان الذئب قد ولد له جرو ذكر. قال: فمكثنا في ضيعته معه شهرا، ثم رجع مع أصحابه، فبينا هم

ص: 196


1- 369. الجدي: ولد المعز و هو الذكر في السنة الاولي (أقرب الموارد).
2- 370. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 616 ح 15. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 99.
3- 371. الخرطم: لغة في الخرطوم، و الخراطيم - للسباع - بمنزلة المناقير للطير (لسان العرب) و في بحارالأنوار: «بخطمه».

راجعون، اذا هم بالذئب، و زوجته و جروه يعوون في وجه أبي عبدالله (عليه السلام) فأجابهم. و رأوا أصحاب أبي عبدالله (عليه السلام) الجرو، و علموا أنه قد قال لهم الحق. و قال لهم أبوعبدالله (عليه السلام): تدرون ما قالوا؟ قالوا: لا. قال: كانوا يدعون الله و لكم بحسن الصحابة، و دعوت لهم بمثله، و أمرتهم أن لا يؤذوا لي وليا، و لا لأهل بيتي. فضمنوا لي ذلك (1) . أيها القارئ الكريم: و هناك أحاديث اخري في هذا المجال ذكرناها في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 197


1- 372. الطلق: وجع الولادة (أقرب الموارد).

الامام الصادق و معرفته باللغات

أيها القارئ الكريم: مما لا شك فيه أن الامام هو حجة الله علي الخلق أجمعين، علي اختلاف لغاتهم و قومياتهم، و لهذا لابد أن يكون عارفا بلغاتهم ليسهل عليهم التحدث اليه و السؤال و التعلم منه. و لذلك روي عن أبي الصلت الهروي أنه قال: كان [الامام] الرضا (عليه السلام) يكلم الناس بلغاتهم، و كان - والله - افصح الناس و اعلمهم بكل لسان و لغة، فقلت له يوما: يابن رسول الله اني لأعجب من معرفتك بهذه اللغات علي اختلافها؟!! فقال (عليه السلام): يا أباصلت! أنا حجة الله علي خلقه، و ما كان [الله] ليتخذ حجة علي قوم و هو لا يعرف لغاتهم! أو ما بلغك قول أميرالمؤمنين (عليه السلام): «اوتينا فصل الخطاب»؟ فهل «فصل الخطاب» الا معرفة اللغات؟؟! (1) . و من هذا المنطق - أيها القارئ الكريم - كان الامام الصادق (عليه السلام)

ص: 198


1- 373. دلائل الامامة: ص 119. منه بحارالأنوار: ج 65 ص 72.

عارفا باللغات كلها، بفضل و الهام من الله عزوجل. و اليك بعض النماذج مما يتعلق بهذا المجال: 1- عن محمد بن أحمد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: دخل عليه قوم من أهل خراسان فقال ابتداء من غير مسألة: من جمع مالا من مهاوش (1) أذهبه الله في نهابر (2) . فقالوا: جعلنا فداك لا نفهم هذا الكلام. فقال (عليه السلام): هر مال كه از باد آيد بدم شود (3) . 2- و روي أحمد بن قابوس (4) ، عن أبيه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: دخل عليه قوم من أهل خراسان، فقال - ابتداء قبل أن يسأل -: من جمع مالا يحرسه عذبه الله علي مقداره. فقالوا له: - بالفارسية -! لا نفهم بالعربية. فقال لهم: «هر كه درم اندوزد جزايش دوزخ باشد». و قال (عليه السلام): ان الله مدينتين احداهمها بالمشرق و الاخري بالمغرب، علي كل مدينة سور من حديد، فيها ألف ألف باب من ذهب، كل باب بمصراعين، و في كل مدينة سبعون ألف انسان، مختلفات اللغات، و أنا أعرف جميع تلك اللغات، و ما فيهما و ما بينهما حجة غيري و غير آبائي، و [غير] أبنائي بعدي (5) .

ص: 199


1- 374. بحارالأنوار: ج 26 ص 190 باب: انهم (عليهم السلام) يعلمون جميع الألسن و اللغات و يتكلمون بها. و فيه أحاديث متعدده تؤكد علي هذه الحقيقة.
2- 375. المهاوش: كل ما يصاب من غير حل و لا يدري ما وجهه كالغصب و السرقة و نحو ذلك (أقرب الموارد).
3- 376. النهابر: المهالك. (القاموس).
4- 377. بصائر الدرجات: ص 356 ح 14.
5- 378. في بحارالأنوار: أحمد بن فارس.

3- و عن عبدالحميد الجرجاني قال: أتاني غلام ببيض الأجمة (1) فرأيته مختلفا (2) ، فقلت للغلام: ما هذا البيض؟ قال: هذا بيض ديوك الماء، فأبيت أن آكل منه شيئا، و قلت: حتي أسأل أباعبدالله (عليه السلام) فدخلت المدينة فأتيته فسألته عن مسائلي، و نسيت تلك المسألة، فلما ارتحلنا ذكرت المسألة و رأس القطار (3) بيدي، فرميت الي بعض أصحابي، و مضيت الي أبي عبدالله (صلوات الله عليه) فوجدت عنده خلقا كثيرا، فدخلت فقمت تجاه وجهه، فرفع رأسه الي، و قال: يا عبدالحميد لنا تأتي ديوك هبر. فقلت: أعطيتني الذي اريد، فانصرفت و لحقت بأصحابي (4) . 4 - و عن اسماعيل بن مهران، عن رجل من أهل بيرما (5) قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فودعته، و خرجت حتي بلغت الأعوص (6) ثم ذكرت حاجة لي فرجعت اليه و البيت غاص بأهله، و كنت أردت أن أسأله عن بيوض ديوك الماء فقال لي: «ياتب» (7) يعني البيض «دعانا ميتا» يعني ديوك الماء «بنا حل» يعني لا تأكل. (8) 5 - و قال ابن فرقد: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) و قد جاءه

ص: 200


1- 379. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 753 ح 70. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 119.
2- 380. الاجمة: الشجر الكثير الملتف (أقرب الموارد).
3- 381. كانت حلالا و اذا تساوت طرفاها - كالكرة المستديرة - كانت حراما.
4- 382. القطار من الابل: قطعة علي نسق واحد (أقرب الموارد).
5- 383. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 630 ح 30. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 105.
6- 384.. (معجم البلدان).
7- 385. الأعوص: موضع قرب المدينة (أقرب الموارد).
8- 386. في بحارالانوار: يابت.

غلام أعجمي برسالة، فلم يزل يهذي (1) و لا يعبر حتي ظننت أنه يضجره فقال له: تكلم بأي لسان شئت تحسنه، سوي العربية فانك لا تحسنها، فاني أفهم فكلمه بالتركية، فرد عليه الجواب بمثل لغته، فمضي الغلام متعجبا (2) . 6- و عن عمار بن موسي الساباطي قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام): يا عمار! أبومسلم فظلله و كساه و كسيحه بساطورا. قال: فقلت له: ما رأيت نبطيا أفصح منك بالنبطية. فقال: يا عمار! و بكل لسان (3) . أقول: لا يعلم - بالضبط - من المقصود من أبي مسلم - في هذا الحديث - و لعله اشارة الي الخراساني أو المروزي أو غيره. و قوله (عليه السلام): «و بكل لسان» تعليق علي كلام عمار حيث قال: «ما رأيت نبطيا أفصح منك بالنبطية» فقال الامام: و بكل لسان. أي أنا أفصح من كل قوم بلغتهم و لسانهم. 7- و عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: حدثني رجل من أهل جسر بابل، قال: كان في القرية رجل يؤذيني، و يقول: «يا رافضي» و يشتمني، و كان يلقب بقرد القرية. قال: فحججت سنة من ذلك اليوم، فدخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال - ابتداء -: «قوفه ما نامت». قلت: جعلت فداك! متي؟

ص: 201


1- 387. بصائر الدرجات: ص 354 ح 6. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 81.
2- 388. هذي الرجل: تكلم بغير معقول لمرض أو غيره (أقرب الموارد).
3- 389. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 759 ح 77. بحارالأنوار: ج 47 ص 119.

قال: في الساعة. فكتبت اليوم و الساعة، فلما قدمت الكوفة تلقاني أخي، فسألته عمن بقي، و عمن مات؟ فقال لي: «قوفه ما نامت» و هي بالنبطية: (قرد القرية مات). فقلت له: متي؟ فقال لي: يوم كذا و كذا. [و كان] في الوقت الذي أخبرني به أبوعبدالله (عليه السلام) (1) . أيها القارئ الكريم: و هناك أحاديث اخري مذكورة في هذا المجال، ذكرناها في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 202


1- 390. الاختصاص: ص 289. منه بحارالأنوار: ج 26 ص 191.

الامام الصادق و تعبير الأحلام

عن اسماعيل بن عبدالله القرشي قال: أتي الي أبي عبدالله (عليه السلام) رجل فقال: يابن رسول الله رأيت في منامي كأني خارج من مدينة الكوفة - في موضع اعرفه - و كأن شبحا من خشب أو رجلا منحوتا من خشب علي فرس من خشب يلوح بسيفه و أنا اشاهده، فزعا مرعوبا. فقال له (عليه السلام): انت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته، فاتق الله الذي خلقك ثم يميتك. فقال الرجل: أشهد انك قد اوتيت علما و استنبطته من معدنه. اخبرك يابن رسول الله عما قد فسرت لي: ان رجلا من جيراني جاءني و عرض علي ضيعته، فههمت أن أملكها بوكس كثير (1) لما عرفت أن ليس لها طالب غيري. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): و صاحبك يتوالانا و يبرأ من عدونا؟ فقال: نعم يابن رسول الله، لو كان ناصبيا حل لي اغتياله.

ص: 203


1- 391. بصائر الدرجات: ص 354 ح 7. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 81.

فقال (عليه السلام): اد الأمانة لمن ائتمنك و أراد منك النصيحة، و لو الي قاتل الحسين (عليه السلام) (1) . أقول: و هناك أحاديث كثيرة رويت عن الامام الصادق (عليه السلام) حول تعبير الأحلام، و انما كان المقصود من ذكر هذا الحديث هو التأكيد علي تنوع علوم الامام الصادق (عليه السلام) في جميع المجالات.

ص: 204


1- 392. الوكس: النقص. و أوكس فلان، أي: خسر. (مجمع البحرين).

الامام الصادق تعرض عليه الأعمال

روي عن داود الرقي قال: حججت بأبي عبدالله (عليه السلام) سنة ست و أربعين و مائة، فمررنا بواد من أودية تهامة، فلما أنخنا (1) صاح: يا داود ارحل ارحل. فما انتقلنا الا و قد جاء سيل، فذهب بكل شي ء فيه. و قال (عليه السلام): تؤتي بين الصلاتين حتي تؤخذ من منزلك. و قال (عليه السلام): يا داود ان أعمالكم عرضت علي يوم الخميس، فرأيت فيها صلتك لابن عمك. قال داود: و كان لي ابن عم ناصبي، كثير العيال محتاج، فلما خرجت الي مكة أمرت له بصلة، فأخبرني بها أبوعبدالله (عليه السلام) (2) . أيها القارئ الكريم: في هذا الحديث الشريف نقاط متعددة تتجلي فيها جوانب من عظمة الامام الصادق (عليه السلام): الاولي: علمه (عليه السلام) بالحوادث الطبيعية الآتية، لذلك تراه

ص: 205


1- 393. الكافي: ج 7 ص 293. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 155.
2- 394. أناخ فلان بالمكان: أقام به (أقرب الموارد).

يأمر داود الرقي بمغادرة ذلك الوادي فورا، لعلمه أن السيل سيكتسح المنطقة بعد قليل و يذهب بكل شي ء و يقضي علي كل ذي حياة. و من الواضح أن اخبار الامام عن ذلك لم يكن علي ضوء الاجهزة العلمية أو الحدس و التنبؤ، بل بالالهام الغيبي الالهي. الثانية: علمه (عليه السلام) بالبلايا و القضايا التي سوف تحدث و تتحقق في المستقبل، لذلك أخبر (عليه السلام) داود الرقي بأن السلطات الظالمة سوف تقتحم عليه داره - و هو بين الصلاتين - و تلقي عليه القبض. الثالثة: اخباره (عليه السلام) بأن أعمال الناس تعرض عليه، و أنه عرض عليه ما صدر من داود الرقي تجاه ابن عمه من صلته اياه و احسانه اليه. و مسألة عرض الأعمال علي الامام المعصوم تعتبر من الأمور العقائدية الثابتة في مدرسة أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام) انطلاقا من قوله تعالي: «و قل اعملوا فسيري الله عملكم و رسوله و المؤمنون» (1) . و قد ذكر العلامة البحراني (2) - في تفسير هذه الآية - خمسة و ثلاثين حديثا وردت في التأكيد علي هذه الحقيقة... و ذكر حديث داود الرقي - الذي ذكرناه آنفا - مع اختلاف يسير و هو أن الامام الصادق (عليه السلام) قال له: «يا داود لقد عرضت علي أعمالكم يوم الخميس فرأيت - فيما عرض علي من عملك - صلتك لابن عمك فلان، فسرني ذلك بأني علمت أن صلتك له اسرع لفناء عمره و قطع اجله».

ص: 206


1- 395. بحارالأنوار: ج 47 ص 98 ح 114.
2- 396. سورة التوبة آية 105.

قال داود: و كان لي ابن عم معاند ناصبي خبيث، بلغني عنه و عن عياله سوء حاله، فصككت (1) له نفقة قبل خروجي الي مكة، فلما صرت في المدينة أخبرني أبوعبدالله (عليه السلام) بذلك.

ص: 207


1- 397. تفسير البرهان: ج 4 ص 540 الطبعة الحديثة.

السيرة و السريرة

السيرة: الطريقة، الهيئة، الحالة. و السريرة: ما أسر في القلوب و العقائد، و النيات و غيرها. لا شك أن سيرة الانسان و سريرته أحسن مقياس لمعرفة عقله و علمه و نفسيته و عاداته و غرائزه و دينه و سجاياه، و تظهر السيرة و السريرة في حركاته و سكناته، و تصرفاته و أفعاله و أعماله، و في جميع جوانب حياته. و من هذا المنظار تعرف ماهية الانسان و روحه و شخصيته، و قد يحاول بعض الناس اخفاء هذه الامور، و كتمان هذه الحقائق، و لكنها تظهر و تنكشف بكل وضوح. قال الشاعر: و مهما تكن عند امري ء من خليقة و ان خالها تخفي علي الناس تعلم و لا اريد - هنا - أن أتحدث عن المدلسين و المرائين الذين كانوا و لا يزالون يتظاهرون بالصلاح و الفلاح لاغواء البسطاء و خداع السذج، و لكن الظواهر تخالف الضمائر، و المظاهر تتناقض مع السرائر، ثم لا ينقضي كثير

ص: 208

من الزمان حتي تنكشف هوياتهم، و تفضحهم أعمالهم. و انما المقصود - هنا - التحدث عن الذين يحملون نفوسا طيبة، و سرائر شريفة و نفسيات نزيهة، و ضمائر طاهرة، و قلوب زاكية، و أخص منهم الامام الصادق (عليه السلام) صاحب السريرة الطاهرة و السيرة العطرة التي فاحت رائحتها الزكية و ملأت شذاها العالم من اقصاه الي ادناه. هذا الامام الذي تصاغرت أمامه العظماء و تواضعت بين يديه العلماء. هذا الطود الشامخ الذي تقزمت علي أعتابه الشخصيات، علي اختلاف مذاهبها و مشاربها. هذا البحر الواسع الذي اغترف من منهل علومه الملايين الملايين علي اختلاف الطبقات و المستويات و في مختلف العصور و الأزمنة. نعم... انه الامام الصادق (عليه السلام).. معلم البشرية، معلم الايمان، معلم الاخلاق... مهذب النفوس... و صانع الأجيال.

ص: 209

اخلاق الامام الصادق و سلوكه

كم للأخلاق الحسنة تأثير في رفع قيمة الانسان عند الله تعالي و عند الناس؟! و كم لها تأثير في جلب القلوب، و غرس بذور المحبة فيها؟!! و كم تبقي آثارها في بعض النفوس ما دامت الحياة؟! نعم.. لا شك أن من اهم القيم و اشرف الفضائل النفسية هي الأخلاق الحسنة التي يتخلق بها المؤمن في حياته الفردية و الزوجية و العائلية و الاجتماعية. كما لا شك أن الأخلاق السيئة و الصفات الرذيلة تعتبر بمنزلة الأمراض الخبيثة المعدية، و الجراثيم الضارة التي تلوث فضاء الروح الانسانية و البيت الزوجي و العائلي، بل و تلوث فضاء المجتمع البشري، و تنزل الانسان الي اسفل سافلين و الي مرتبة البهائم و الحيوانات المفترسة التي لا تفهم معني العاطفة، و لا تدرك مفهوم الرحمة و الشفقة و الفضيلة. و بالاضافة الي اهمية الاخلاق بصورة عامة فان الاخلاق الحسنة تعتبر من أهم مقومات القيادة الدينية، سواء في الأنبياء أم في الائمة الطاهرين

ص: 210

(عليهم السلام) - الذين هم ورثة الأنبياء و قدوة الامة - أم في العلماء و الفقهاء أم أي انسان آخر مهما كان وزنه في المجتمع. و لو لا أهمية الأخلاق و لزومها في هذه المجالات لما خاطب الله تعالي نبيه الاكرم (صلي الله عليه و آله) بقوله - عز من قائل: «و انك لعلي خلق عظيم» (1) و لما قال الرسول الأطهر: «انما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق» (2) . و أما بالنسبة الي الامام الصادق (عليه السلام): فكانت الأخلاق الحميدة غرائزه النفسية، و طبيعته الفطرية، فهو صورة طبق الأصل لأخلاق جده رسول الله (صلي الله عليه و آله) و آبائه الطاهرين (عليهم السلام) من لين الجانب، و رحابة الصدر، و طيب القلب، و بشر الوجه و طلاقة المحيا، و حب الخير للناس، و التواضع و الكرم و العطف و العفو و الرحمة و الشفقة، و العاطفة المدهشة التي تشمل البر و الفاجر و حتي الحيوانات، و الصدق و الرفق و الحياء و الوفاء، و غيرها من مكارم الأخلاق التي كانت من مميزاته المشهودة. فالكبرياء و الجبروت و الأنانية و حب الذات و أمثالها - التي لا تفارق حياة العظماء عادة - لا توجد في قاموس الامام الصادق (عليه السلام). انه (عليه السلام) كان يعتبر نفسه - مع خواص أصحابه - كأحدهم، لا يتميز و لا يترفع عليهم، يداعبهم و يمازحهم، و يعود المرضي، و يشيع الجنائز، و يعزي المفجوعين، و يسلي خواطرهم بكلمات تخفف عنهم صدمة الفاجعة.

ص: 211


1- 398. الصك: كتاب كالسجل يكتب في المعاملات (مجمع البحرين).
2- 399. سورة القلم آية 4.

كان يدعو للسجناء و المرضي، أو يعلم الأدعية المهمة لقضاء حوائجهم، و كشف همومهم و توسعة أرزاقهم، و سلامتهم مما يخافون و يحذرون. و لم تسلم شخصيته من الأذي. و كان يحسده الأباعد و الأقارب، فكان يقابل كل اساءة بالاحسان، و يتحمل المكاره و الآلام النفسية، و يعتبرها أشياء طبيعية متوقعة. ان الأخلاق الحسنة، و الصفات الحميدة - التي كان الامام الصادق (عليه السلام) يتمتع بأوفي نصيب منها، و التي كانت جزءا من وجوده - كانت تتجلي و تظهر بأحسن مظاهرها في آدابه و معاشرته مع الناس بصورة عامة، و مع أصحابه و ضيوفه بصورة خاصة و مع أقاربه و عائلته و اسرته و خدمه بصورة أخص، و في أقواله و أفعاله و في جميع حركاته و سكناته، و حله وتر حاله، و غضبه و رضاه، و مع الفقراء و الامراء، و في خلال تعليمه الأحكام، و تربية الأفراد و غير ذلك. و في نفس الوقت كان (عليه السلام) صلبا كالفولاذ - بل أقوي منه - أمام المنحرفين عقائديا. يدعوهم الي سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة، و يجادلهم بالتي هي أحسن. و يراعي مستويات الناس في التحدث و الاحتجاج معهم. قوي الحجة في كل فن يحاج فيه. يزيف كل باطل بأقوي دليل. و ينهار أمامه كل ادعاء سخيف. يفند الأباطيل بلا أي تكلف، فكأنه مسلح بأقوي أنواع الأسلحة المدمرة.

ص: 212

لا يحتاج الي التهريج و المغالطة في الكلام، و لا يستخدم الاساليب الشيطانية في المناظرة و الحوار. يعلوه وقار الامامة، و هيبة الولاية في طيب حديثه و حلو كلامه. و خلاصة القول: كان الامام الصادق (عليه السلام) مركزا للاشعاع الأخلاقي في جميع جوانب حياته بصورة مستمرة. و اليك بعض ما ذكر عنه (عليه السلام) في هذا المجال:

ص: 213

الامام الصادق و الاحسان الي الفقراء

عن اسحاق بن ابراهيم بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) و عنده المعلي بن خنيس اذ دخل عليه رجل من أهل خراسان، فقال: يابن رسول الله أنا من مواليكم أهل البيت، و بيني و بينكم شقة بعيدة و قد قل ذات يدي، و لا أقدر [أن] أتوجه الي أهلي الا أن تعينني. قال: فنظر أبوعبدالله (عليه السلام) يمينا و شمالا، و قال: ألا تسمعون ما يقول أخوكم؟! انما المعروف ابتداء، فأما ما أعطيت بعد ما سئلت، فانما هو مكافاة لما بذل لك من [ماء] وجهه. ثم قال: فيبيت ليلته متأرقا متململا بين اليأس و الرجاء، لا يدري أين يتوجه بحاجته، فيعزم علي القصد اليك، فأتاك و قلبه يجب (1) و فرائصه ترتعد، و قد نزل دمه في وجهه، و بعد هذا فلا يدري أينصرف من عندك بكآبة الرد، أم بسرور النجح، فان أعطيته رأيت أنك قد وصلته، و قد قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة و بعثني بالحق نبيا، لما يتجشم من مسألته اياك، أعظم مما ناله من معروفك.

ص: 214


1- 400. بحارالأنوار: ج 71 ص 373.

قال: فجمعوا للخراساني خمسة آلاف درهم، و دفعوها اليه (1) . و كان (عليه السلام) يحمل - في ظلام الليل - كميات كثيرة من الخبز، و يتوجه بها الي مكان ينام فيه الفقراء و المساكين الذين لا يملكون دارا و مسكنا و مأوي، و قد غمرهم النوم، فيضع عند كل واحد منهم الرغيف و الرغيفين، فاذا استيقظ أي واحد منهم وجد عند رأسه ما يشبع به بطنه، و يسد به الرمق: عن معلي بن خنيس، قال: خرج أبوعبدالله (عليه السلام) في ليلة قد رشت و هو يريد ظلة بني ساعدة فاتبعته، فاذا هو قد سقط منه شي ء، فقال: بسم الله، اللهم رد علينا. قال: فأتيته فسلمت عليه. قال: فقال: معلي؟ قلت: نعم، جعلت فداك. فقال لي: التمس بيدك، فما وجدت من شي ء فادفعه الي. فاذا أنا بخبز منتشر كثير، فجعلت أدفع اليه ما وجدت، فاذا أنا بجراب - أعجز عن حمله - من خبز، فقلت: جعلت فداك، أحمله علي رأسي. فقال: لا، أنا أولي به منك، و لكن امض معي. قال: فأتينا ظلة بني ساعدة، فاذا نحن بقوم نيام، فجعل يدس الرغيف و الرغيفين (2) حتي أتي علي آخرهم، ثم انصرفنا. فقلت: جعلت فداك! يعرف هؤلاء الحق؟ (3) .

ص: 215


1- 401. تجب القلوب: تضطرب. (مجمع البحرين).
2- 402. بحارالأنوار: ج 47 ص 61.
3- 403. تحت ثوب كل واحد منهم.

فقال: لو عرفوه لواسيناهم بالدقة (1) - و الدقة هي الملح -. ان الله (تبارك و تعالي) لم يخلق شيئا الا و له خازن يخزنه الا الصدقة، فان الرب يليها بنفسه. و كان أبي [الامام الباقر] اذا تصدق بشي ء وضعه في يد السائل، ثم ارتده منه، فقبله و شمه، ثم رده في يد السائل!. ان صدقة الليل تطفي غضب الرب، و تمحو الذنب العظيم، و تهون الحساب. و صدقة النهار تثمر المال، و تزيد في العمر. ان عيسي بن مريم (عليه السلام) لما أن مر علي شاطي ء البحر رمي بقرص من قوته في الماء، فقال له بعض الحواريين: يا روح الله و كلمته» لم فعلت هذا، و انما هو من قوتك؟ قال: فقال: فعلت هذا لدابة تأكله من دواب الماء، و ثواب عند الله عظيم (2) . و عن هشام بن سالم قال: كان أبوعبدالله (عليه السلام) اذا اعتم (3) و ذهب من الليل شطره أخذ جرابا فيه خبز و لحم و الدراهم فحمله علي عنقه ثم ذهب به الي أهل الحاجة من أهل المدينة فقسمه فيهم و لا يعرفونه، فلما مضي أبوعبدالله (عليه السلام) فقدوا ذلك فعلموا أنه كان أباعبدالله (عليه السلام) (4) .

ص: 216


1- 404. أي: هؤلاء من الشيعة؟.
2- 405. أي لو كانوا من الشيعة لواسيناهم بكل ما نملك حتي بالملح المدقوق.
3- 406. الكافي: ج 4 ص 8 ح 3.
4- 407. اعتم الرجل: دخل في العتمة - و هي ثلث الليل الاول بعد غيبوبة الشفق. (أقرب الموارد).

و روي أن فقيرا سأل [الصادق (عليه السلام)]، فقال (عليه السلام) لعبده: ما عندك؟ قال: أربعمائة درهم فقال: أعطه اياها، فأعطاه، فأخذها و ولي شاكرا فقال لعبده: أرجعه، فقال: يا سيدي سألت فأعطيت فماذا بعد العطاء؟ فقال له: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «خير الصدقة ما أبقت غني» و انا لم نغنك، فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم، فاذا احتجت فبعه بهذه القيمة (1) . و عن مسمع بن عبدالملك قال: كنا عند أبي عبدالله (عليه السلام) بمني و بين أيدينا عنب نأكله فجاء سائل فسأله فأمر بعنقود (2) فأعطاه، فقال: السائل: لا حاجة لي في هذا، ان كان درهم. قال: يسع الله عليك. فذهب ثم رجع فقال: ردوا العنقود. فقال: يسع الله لك، و لم يعطه شيئا، ثم جاء سائل آخر فأخذ أبوعبدالله (عليه السلام) ثلاث حبات عنب فناولها اياه، فأخذ السائل من يده ثم قال: الحمد لله رب العالمين الذي رزقني. قال أبوعبدالله (عليه السلام): مكانك. فحشا مل ء كفيه عنبا فناولها اياه، فأخذها السائل من يده ثم قال: الحمد لله رب العالمين. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): مكانك. يا غلام أي شي ء معك من الدراهم؟ فاذا معه نحو من عشرين درهما فيما حزرناه (3) أو نحوها فناولها اياه فأخذها ثم قال: الحمد لله هذا منك وحدك لا شريك لك. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): مكانك. فخلع قميصا كان عليه

ص: 217


1- 408. الكافي: ج 4 ص 8 ح 1.
2- 409. بحارالأنوار: ج 47 ص 61.
3- 410. العنقود: ما تراكم و تعقد من حبة العنب في عرق واحد.

فقال: البس هذا. فلبسه ثم قال: الحمد لله الذي كساني و سترني يا أباعبدالله - أو قال جزاك الله خيرا - لم يدع لأبي عبدالله (عليه السلام (الا بذا، ثم انصرف فذهب. قال: فظننا أنه لو لم يدع له لم يزل يعطيه لانه كلما كان يعطيه حمد الله أعطاه (1) . أيها القارئ الكريم: هل تعرف في تاريخ العظماء أمثال هذه الفضائل سوي تاريخ أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؟ نعم، كانت عطاياه (عليه السلام) تقع في مواضعها: في الفقراء و الأرامل و الأيتام و المعوزين، لا المضحكين الذين كانوا يتواجدون في قصور العباسيين، و لا الفساق الفجار الذين كانوا ينالون أعظم الهدايا و الأموال من الحكام بسبب الجرائم التي يرتكبونها، و لا المغنين و المغنيات اللاتي كانت أصواتهن مرتفعة مشفوعة بالعود و المزمار، و بأنواع الألحان و النغم التي كانت تطرب من يسمي بخليفة المسلمين، و يستخفه الطرب، و يغلب عليه الضحك و ربما سقط علي ظهره يفحص برجليه من شدة الضحك!! و لا الشعراء الذين كانوا يسردون الأكاذيب و الاباطيل، و يمسون بكرامة اولياء الله من هجاء أو ذم، و يمدحون الظالمين الاباحيين، السفاكين. كلا... و الف كلا.. حاشا الامام الصادق و هذه القبائح و المخازي التي يندي منها جبين الانسان.

ص: 218


1- 411. حرز الشي ء: قدره بالحدس (أقرب الموارد).

الامام الصادق و الكرم

أما سخاء الامام الصادق (عليه السلام) وجوده و كرمه، فمن المؤسف ان الثروات و الكنوز كانت بأيدي غيره من حكام عصره، فالغنائم و الجبايات و انواع الخراج و الهدايا كانت تحمل اليهم لا الي الأئمة الطاهرين (عليهم السلام). و مع ذلك كله كان الامام الصادق (عليه السلام) أسخي أهل عصره، و أجود أهل زمانه، و هل الجود الا بذل الموجود؟ و تتجلي رحابة صدره، و صفاء سريرته في انفاقه و ضيافته و اطعامه لأصحابه، و احسانه الي المحتاجين و خاصة عطاياه السرية التي كان يرسلها الي بعض الناس في جو من الكتمان، و يحاول أن لا يعرف أحد مصدر ذلك العطاء: روي عن الفضل بن أبي قرة قال: كان أبوعبدالله (عليه السلام) يبسط رداءه و فيه صرر الدنانير فيقول للرسول: اذهب بها الي فلان و فلان، من أهل بيته، و قل لهم: هذه بعث اليكم بها من العراق، قال: فيذهب بها الرسول اليهم فيقول ما قال، فيقولون: أما أنت فجزاك الله خيرا بصلتك

ص: 219

قرابة رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و أما جعفر فحكم الله بيننا و بينه. قال: فيخر أبوعبدالله (عليه السلام) ساجدا و يقول: اللهم أذل رقبتي لولد أبي (1) . و عن أبي جعفر الخثعمي - قريب اسماعيل بن جابر - قال: أعطاني أبوعبدالله (عليه السلام) خمسين دينارا في صرة فقال لي: ادفعها الي رجل من بني هاشم و لا تعلمه أني أعطيتك شيئا. قال: فأتيته فقال: من أين هذه؟ جزاه الله خيرا، فما يزال كل حين يبعث بها فنكون مما نعيش فيه الي قابل: و لكن لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله (2) . أقول: كانت هناك عوامل و اسباب تفرض علي الامام الصادق (عليه السلام) أن يتكلم عن اقربائه ما يقدمه اليهم من الصلة و العطاء، و لعل من أهمها: شدة الاخلاص لله تعالي، بالاضافة الي أن لا يشعر اقرباء الامام بشي ء من الذل و الانكسار و هم يأخذون عطاء الامام... والله العالم.

ص: 220


1- 412. الكافي، ج 4 ص 49 ح 12.
2- 413. تنبيه الخواطر: ص 585. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 60.

الامام الصادق و التواضع

أما تواضعه (عليه السلام) مع أصحابه، و تنزهه عن التكبر و الترفع فقل أن تجد له في تاريخ الشخصيات البارزة مثيلا أو نظيرا. و اليك بعض النماذج التي رويت في هذا المجال: 1- عن عبدالأعلي قال: أكلت مع أبي عبدالله (عليه السلام) فدعا و اتي بدجاجة محشورة، و بخبيص، فقال أبوعبدالله (عليه السلام): هذه [الدجاجة] اهديت لفاطمة [بنت الامام أو زوجته]. ثم قال: يا جارية! ائتينا بطعامنا المعروف. فجاءت بثريد خل وزيت (1) . 2- و عن سليمان بن خالد، عن عامل كان لمحمد بن راشد قال: حضرت عشاء جعفر بن محمد (عليه السلام) في الصيف، فأتي بخوان عليه خبز، و اتي بجفنة فيها ثريد و لحم يفور، فوضع يده فيها، فوجدها حارة، ثم رفعها و هو يقول: «نستجير بالله من النار، نعوذ بالله من النار!

ص: 221


1- 414. أمالي الطوسي: ج 2 ص 290. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 54.

نحن لا نقوي علي هذا فكيف النار؟!». و جعل يكرر هذا الكلام حتي امكنت القصعة [برد الطعام] فوضع يده فيها، و وضعنا أيدينا حتي أمكنتنا (1) فأكل و أكلنا معه. ثم ان الخوان رفع فقال: يا غلام ائتنا بشي ء. فاتي بتمر في طبق، فمددت يدي فاذا هو تمر، فقلت: أصلحك الله! هذا زمان الأعناب و الفاكهة!! قال: انه تمر، ثم قال: ارفع هذا و ائتنا بشي ء، فاتي بتمر [في طبق]، فمددت يدي، فقلت: هذا تمر. فقال: انه طيب (2) . 3- و عن هشام بن سالم قال: دخلنا مع ابن أبي يعفور علي أبي عبدالله (عليه السلام) و نحن جماعة، فدعا بالغداء فتغدينا، و تغدي معنا، و كنت أحدث القوم سنا، فجعلت أقصر و أنا آكل، فقال لي: كل، أما علمت أنه تعرف مودة الرجل لأخيه بأكله من طعامه؟! (3) . 4- و عن عبدالله بن سليمان الصيرفي قال: كنت عند أبي عبدلله (عليه السلام) فقدم الينا طعاما فيه شواء، و أشياء بعده، ثم جاء بقصعة فيها ارز، فأكلت معه، فقال: كل. قلت: قد أكلت. فقال: كل، فانه يعتبر حب الرجل لأخيه بانبساطه في طعامه. ثم حاز لي حوزا (4) بأصبعه من القصعة، فقال لي: لتأكلن ذا بعد ما قد أكلت. فأكلته (5) .

ص: 222


1- 415. المحاسن: ص 400 ح 85. منه بحارالأنوار: ج 66 ص 319.
2- 416. أي قدرنا علي أكله.
3- 417. الكافي: ج 8 ص 164 ح 174.
4- 418. الكافي: ج 6 ص 278 ح 1.
5- 419. حازه: جمعه (أقرب الموارد).

5- و عن أبي الربيع قال: دعا أبوعبدالله (عليه السلام) بطعام، فاتي بهريسة، فقال لنا: ادنوا، فكلوا. قال: فأقبل القوم يقصرون (1) فقال (عليه السلام): كلوا، فانما يستبين مودة الرجل لأخيه في أكله [عنده]. قال: فأقبلنا نغص أنفسنا كما تغص الابل (2) 6- و عن أبي حمزة قال: كنا عند أبي عبدالله (عليه السلام) جماعة، فدعا بطعام مالنا عهد بمثله لذاذة و طيبا، و اوتينا بتمر ننظر فيه الي وجوهنا من صفائه و حسنه، فقال رجل: لتسئلن عن هذا النعيم الذي نعمتم به عند ابن رسول الله (صلي الله عليه و آله). فقال أبوعبدالله (عليه السلام): ان الله (عزوجل) أكرم و أجل من أن يطعمكم طعاما فيسوغكموه ثم يسألكم عنه، و لكن يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد و آل محمد (صلي الله عليه و عليهم) (3) . 7 - و عن محمد بن زيد الشحام قال: رآني أبوعبدالله (عليه السلام) و أنا اصلي، فأرسل الي ودعاني فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من مواليك. قال: فأي موالي؟ قلت: من الكوفة. فقال: من تعرف من الكوفة؟ قال: قلت بشير النبال و شجرة.

ص: 223


1- 420. الكافي: ج 6 ص 279 ح 4.
2- 421. تقاصر عن الامر: انتهي و هو يقدر عليه (أقرب الموارد).
3- 422. الكافي: ج 6 ص 279 ح 6. قوله: «نغص أنفسنا» و في نسخة: «نغص» و في نسخة: «نضفز» و النتيجة واحدة، و هي كثرة الأكل بحيث أن اللقمة كانت تقف في الحلق أو من العض علي الطعام أو أكل اللقم الكبار.

قال: و كيف صنيعتهما [اليك؟] قلت: ما أحسن صنيعتهما الي. قال: خير المسلمين من وصل و أعان و نفع! مابت ليلة قط و لله في مالي حق يسألنيه! ثم قال: أي شي ء معكم من النفقة؟ قلت: عندي مائتا درهم. قال: أرنيها. فأتيته بها، فزادني فيها ثلاثين درهما و دينارين، ثم قال: تعش عندي. فجئت فتعشيت عنده. فلما كان من القابلة (1) لم أذهب اليه، فأرسل الي فدعاني من عنده (2) . فقال: ما لك لم تأتني البارحة؟ قد شفقت علي؟ (3) . فقلت: لم يجئني رسولك. قال: فأنا رسول نفسي اليك ما دمت مقيما في هذه البلدة، أي شي ء تشتهي من الطعام؟ قلت: اللبن. فاشتري - من أجلي - شاة لبونا. قال: فقلت له: علمني دعاء. قال: اكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا من أرجوه لكل خير، و آمن سخطه عند كل عثرة، يا من يعطي الكثير بالقليل، و يا من أعطي من سأله تحننا منه و رحمة، يا من أعطي من لم يسأله و لم يعرفه، صل علي محمد و اهل بيته،

ص: 224


1- 423. الكافي: ج 6 ص 280 ح 3.
2- 424. أي الليلة الأخري.
3- 425. في بحارالأنوار: من غده.

و أعطني بمسألتي اياك جميع خير الدنيا و جميع خير الآخرة، فانه غير منقوص لما أعطيت، و زدني من سعة فضلك، يا كريم». ثم رفع يديه فقال: «يا ذا المن و الطول، يا ذا الجلال و الاكرام، يا ذا النعماء و الجود، ارحم شيبتي من النار» ثم وضع يديه علي لحيته و لم يرفعهما الا و قد امتلأ ظهر كفيه دموعا (1) . 8- و عن عجلان قال: تعشيت مع أبي عبدالله (عليه السلام) بعد عتمة - و كان يتعشي بعد عتمة - فاتي بخل و زيت و لحم بارد، فجعل ينتف اللحم فيطعمنيه و يأكل هو الخل و الزيت و يدع اللحم فقال: ان هذا طعامنا و طعام الأنبياء (عليهم السلام) (2) . 9- نام رجل من الحاج في المدينة فتوهم أن هميانه سرق فخرج فرأي جعفر الصادق (عليه السلام) مصليا و لم يعرفه، فتعلق به و قال له: أنت أخذت همياني. قال: ما كان فيه؟ قال: ألف دينار. قال: فحمله اي داره و وزن له ألف دينار و عاد [الرجل] الي منزله، و وجد هميانه، فعاد الي جعفر (عليه السلام) معتذرا بالمال، فأبي قبوله و قال: شي ء خرج من يدي لا يعود الي، قال: فسأل الرجل عنه، فقيل: هذا جعفر الصادق (عليه السلام) قال: لا جرم هذا فعال مثله (3) . 10- و عن ابن أبي جعفر يعفور قال: رأيت عند أبي عبدالله (عليه السلام)

ص: 225


1- 426. أي خفت علي من التكلف و التعب في ضيافتك؟.
2- 427. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 665 ح 689. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 36.
3- 428. الكافي: ج 6 ص 328 ح 4.

ضيفا فقام يوما في بعض الحوائج فنهاه عن ذلك و قام بنفسه الي تلك الحاجة و قال (عليه السلام): نهي رسول الله (صلي الله عليه و آله) عن أن يستخدم الضيف (1) . 11- و عن يعقوب السراج قال: كنا نمشي مع أبي عبدالله (عليه السلام) و هو يريد أن يعزي ذا قرابة له بمولود له، فانقطع شسع نعل أبي عبدالله (عليه السلام) فتناول نعله من رجل ثم مشي حافيا، فنظر اليه ابن أبي يعفور فخلع نعل نفسه من رجله و خلع الشسع منها و ناوله أباعبدالله (عليه السلام) فأعرض عنه كهيئة المغضب ثم أبي أن يقبله ثم قال: ألا ان صاحب المصيبة أولي بالصبر عليها، فمشي حافيا حتي دخل علي الرجل الذي أتاه ليعزيه (2) .

ص: 226


1- 429. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 274. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 23.
2- 430. الكافي: ج 6 ص 283 ح 1.

الامام الصادق و الاصلاح بين الناس

من جملة الخطوات الرائعة التي قام بها الامام الصادق (عليه السلام) في اصلاح المجتمع هو الاصلاح بين الناس و زرع المحبة و الاخاء بينهم. و قد ابتكر (عليه السلام) - في هذا المجال - اسلوبا لم يسبقه اليه أحد، و لعله لم يلحق به أحد، فقد عين مبلغا من المال - دراهم و دنانير - للاصلاح و فصل الخصومة بين شيعته اذا حصل بينهم خلاف أو نزاع في القضايا المالية، تأليفا لقلوبهم، و دفعا لموجبات العداء و التفرقة بينهم، و هذه فكرة لم يذكرها التاريخ لأحد من عظماء العالم من ملوك و أمراء و زعماء!!: روي ابن سنان، عن أبي حنيفة سائق الحاج قال: مر بنا المفضل و انا و ختني (1) نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة، ثم قال لنا: تعالوا الي المنزل. فأتيناه، فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها الينا من عنده، حتي اذا استوثق كل واحد منا من صاحبه قال: «أما انها ليست من مالي، و لكن أبوعبدالله (عليه السلام) أمرني: اذا تنازع رجلان من أصحابنا في شي ء، أن اصلح بينهما. و افتديهما من ماله» فهذا من مال أبي عبدالله (عليه السلام) (2) .

ص: 227


1- 431. الكافي: ج 6 ص 464 ح 14.
2- 432. الختن: الصهر: و كل من كان من قبل المرأة، مثل الأب و الأخ و هم الأختان هكذا عند العرب، و أما عند العامة فختن الرجل زوج ابنته (لسان العرب).

الامام الصادق و الحلم و الصفح

و اما الحلم و الصفح: فكثيرا ما كان البعض يقابلونه بكلام لا يخلو من خشونة و قساوة، و سوء أدب، و قلة استحياء، فكان (عليه السلام) - مع ما يتمتع به من علو المنزلة، و سمو القدر و جلالة الشأن - يحلم عن اساءتهم، و يصفح عن سوء أدبهم، لا خوفا و لا طمعا، بل اتباعا لقوله تعالي: «خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين» (1) و قوله (عزوجل): «فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليط القلب لا نفضوا من حولك» (2) . و كثيرا ما كان يسمع من المنحرفين، و أصحاب المبادي ء التائهة كلمات استهزاء بالدين، و سخرية بالاسلام و المسلمين، و انكار ضروريات الدين، فكان (عليه السلام) يقابل تلك الترهات و الأباطيل بأصوب جواب و أحسن كلام، مع عفة المنطق، و وقار الدليل، و هيبة الحجة.

ص: 228


1- 433. الكافي: ج 2 ص 209 ح 4.
2- 434. سورة الاعراف آية 199.

و كم سمع و رأي من أبناء عمه كلمات لا تليق به، و لا ينبغي لهم أن يخاطبوه أو ينطقوا بها، أو أعمالا لا ينبغي أن تصدر منهم، فكان موقفه منهم موقف الناصح المشفق، و الأخ العطوف و الأب الرؤف، يتحمل منهم المكاره و يتجلد، بل و يبكي حزنا عليهم أحياء و أمواتا، و يتألم لما أصابهم من النوائب، و يواسيهم في مرارة الحياة، و جشوبة العيش، و كأنه لم يصدر منهم شين، فلا يقابل اساءتهم الا بالاحسان، و يشمل عوائلهم و أراملهم و أيتامهم بعواطفه و ألطافه، و يعتبر نفسه مسؤولا عنهم، و لم يغير سلوكه مع الذين أصابتهم النكبات من اسرته. بل، و حتي مع الخدم الذين كانوا يتهاونون في تنفيذ أوامره، و يبطؤون في قضاء حوائجه كان يقابلهم بالعفو و الصفح، و يحلم عن تكاسلهم في اطاعة أمره. روي عن حفص بن أبي عائشة قال: بعث أبوعبدالله (عليه السلام) غلاما له في حاجة فأبطأ، فخرج أبوعبدالله (عليه السلام) علي أثره لما أبطأ عليه فوجده نائما، فجلس عند رأسه يروحه (1) حتي انتبه، فلما انتبه قال له أبوعبدالله (عليه السلام): يا فلان! والله ما ذاك لك، تنام الليل و النهار، لك الليل و لنا منك النهار (2) . و دخل سفيان الثوري علي الامام الصادق (عليه السلام) فرآه متغير اللون فسأله عن ذلك، فقال: كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت، فدخلت فاذا جارية من جواري - ممن تربي بعض ولدي - قد صعدت في سلم و الصبي معها، فلما بصرت بي ارتعدت و تحيرت و سقط الصبي الي الأرض

ص: 229


1- 435. سورة آل عمران آية 159.
2- 436. يروحه بالمروحة أو شي ء آخر.

فمات، فما تغير لوني لموت الصبي و انما تغير لوني لما أدخلت عليها من الرعب، و كان (عليه السلام) قال لها: أنت حرة لوجه الله لا بأس عليك - مرتين - (1) . و عن الوليد بن صبيح قال: كنا عند أبي عبدالله (عليه السلام) في ليلة اذ طرق الباب طارق فقال للجارية: انظري من هذا؟ فخرجت ثم دخلت فقالت: هذا عمك عبدالله بن علي، فقال: أدخليه و قال لنا: ادخلوا البيت، فدخلنا بيتا آخر، فسمعنا منه حسا ظننا أن الداخل بعض نسائه، فلصق بعضنا ببعض، فلما دخل أقبل علي أبي عبدالله (عليه السلام)، فلم يدع شيئا من القبيح الا قاله في أبي عبدالله (عليه السلام) ثم خرج و خرجنا، فأقبل يحدثنا من الموضع الذي قطع كلامه، [عند دخول الرجل] فقال بعضنا: لقد استقبلك هذا بشي ء ما ظننا أن أحدا يستقبل به أحدا، حتي لقد هم بعضنا أن يخرج اليه فيوقع به. فقال: مه، لا تدخلوا فيما بيننا. فلما مضي من الليل ما مضي طرق الباب طارق، فقال للجارية: انظري من هذا؟ فخرجت، ثم عادت فقالت: هذا عمك عبدالله بن علي، قال لنا: عودوا الي موضعكم، ثم أذن له، فدخل بشهيق و نحيب و بكاء و هو يقول: يابن أخي اغفر لي غفر الله لك، اصفح عن صفح الله عنك. فقال: غفر الله لك [يا عم]! ما الذي أحوجك الي هذا يا عم؟ قال: اني لما آويت الي فراشي أتاني رجلان أسودان غليظان فشدا و ثاقي ثم قال أحدهما [للآخر]: انطلق به الي النار فانطلق بي، فمررت برسول الله (صلي الله عليه و آله) فقلت: يا رسول الله أما تري ما يفعل

ص: 230


1- 437. الكافي: ج 8 ص 87 ح 50.

بي؟ قال: أو لست الذي أسمعت ابني ما أسمعت؟ فقلت: يا رسول الله لا أعود، فأمره فخلي عني، و اني لأجد ألم الوثاق. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): أوص. قال: بم اوصي؟ فمالي من مال، و ان لي عيالا كثيرا و علي دين. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): دينك علي و عيالك الي [عيالي]، فأوصي، فما خرجنا من المدينة حتي مات، و ضم أبوعبدالله (عليه السلام) عياله اليه، و قضي دينه، و زوج ابنه ابنته (1) .

ص: 231


1- 438. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 274. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 24.

الامام الصادق و العفو

لا شك أن العفو يعتبر من شيم الكرام، و هو دليل علي عظمة الانسان و حسن نفسيته و رحابة صدره. و قد ذكرنا - قبل قليل: في فصل: الامام الصادق (عليه السلام) و الحلم و الصفح - بعض ما يندرج تحت عنوان هذا الفصل أيضا. و اليك بعض ما ذكر عن عفوه (عليه السلام): عن مرازم قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام) و هو بمكة: يا مرازم لو سمعت رجلا يسبني ما كنت صانعا؟ قال: قلت: كنت أقتله. قال: يا مرازم ان سمعت من يسبني فلا تصنع به شيئا. قال: فخرجت من مكة عند الزوال في يوم حار، فألجأني الحر [الي] أن صرت (1) الي بعض القباب، و فيها قوم، فنزلت معهم، فسمعت بعضهم يسب أباعبدالله (عليه السلام) فذكرت قوله، فلم أقل شيئا، و لو لا ذلك

ص: 232


1- 439. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 619 ح 19. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 96.

لقتلته (1) . هذا... و قد ذكرنا في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) نماذج من عفوه عمن اساء اليه. و اعجب من ذلك، كان الامام الصادق (عليه السلام) يسأل ربه (عزوجل) ان يغفر لكل من اغتابه أو انتقصه.. أليس هذا من مكارم الأخلاق؟! أليس هذا من أخلاق الأنبياء؟! عن علي بن رئاب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول و هو ساجد: اللهم اغفر لي و لأصحاب أبي، فاني أعلم أن فيهم من ينتقصني (2) .

ص: 233


1- 440. في بحارالأنوار: عبرت.
2- 441. كشف الغمة: ج 2 ص 193. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 145.

الامام الصادق و الصبر

و أما الصبر: فقد صبر (عليه السلام) علي أشياء أمر من الصبر، و يمكننا أن نقسم صبره الي اقسام: فهناك الصبر علي المصيبة: فقد فجع (عليه السلام) بعدد من اولاده كبارا و صغارا فكان صبره علي تلك المصائب يورث الدهشة و التعجب، و كان يتناسي تلك المصائب و كأنها لم تحدث. روي انه كان للصادق (عليه السلام) ابن، فبينا هو يمشي بين يديه اذ غص فمات، فبكي و قال: «لئن أخذت لقد أبقيت، و لئن ابتليت لقد عافيت». ثم حمل الي النساء، فلما رأينه صرخن، فأقسم عليهن أن لا يصرخن، فلما أخرجه للدفن قال: «سبحان من يقتل أولادنا و لا نزداد له الا حبا» فلما دفنه قال: يا بني وسع الله في ضريحك، و جمع بينك و بين نبيك. و قال (عليه السلام): انا قوم نسأل الله ما نحب فيمن نحب فيعطينا، فاذا أحب ما نكره فيمن نحب رضينا (1) .

ص: 234


1- 442. قرب الاسناد: ص 77. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 17.

و عن علاء بن كامل، قال: كنت جالسا عند أبي عبدالله (عليه السلام) فصرخت صارخة من الدار، فقام أبوعبدالله (عليه السلام) ثم جلس فاسترجع و عاد في حديثه حتي فرغ منه ثم قال: انا لنحب أن نعافي في أنفسنا و أولادنا و أموالنا فاذا وقع القضاء فليس لنا أن نحب ما لم يحب الله لنا (1) . و مات ابنه الأكبر: اسماعيل، و قد توفرت فيه الفضائل من العقل و العبادة و الكرم و غير ذلك، بحيث كان بعض الناس يظنون انه الامام بعد أبيه، فكان الامام (عليه السلام) يتجلد في تلك المصيبة و قد غلب صبره علي عاطفة الابوة، و رضاه علي جزعه، بل و كان يشكر الله تعالي علي ما قدر له، بالرغم من الحزن الطويل المسيطر علي قلبه الطاهر. و كيف لا يكون كذلك؟ و هو الذي كان يأمر شيعته بالصبر علي المصائب و المكاره. و عن الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) قال: نعي الي الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ابنه اسماعيل بن جعفر، و هو أكبر أولاده، و هو يريد أن يأكل، و قد اجتمع ندماؤه، فتبسم، ثم دعا بطعامه، و قعد مع ندمائه، و جعل يأكل أحسن من أكله سائر الايام، و يحث ندماءه، و يضع بين ايديهم، و يعجبون منه ان لا يروا للحزن أثرا. فلما فرغ قالوا: يابن رسول الله! لقد رأينا عجبا! اصبت بمثل هذا الأبن و أنت كما نري؟ قال: و مالي لا اكون كما ترون؟ و قد جاءني خبر أصدق الصادقين: أني ميت و اياكم؟

ص: 235


1- 443. بحارالأنوار: ج 47 ص 18 ح 8.

ان قوما عرفوا الموت فجعلوه نصب أعينهم، و لم ينكروا من تخطفه الموت منهم، و سلموا لأمر خالقهم (عزوجل) (1) . أيها القارئ الكريم: و أما المصائب و المكاره التي تحملها من الحكومتين: الاموية و العباسية - طيلة سنوات كثيرة - فقد كانت تشيب منها النواصي، و كان موقفه منها موقف الصابر المحتسب الذي و طن نفسه علي البلاء، و سنذكر بعض تلك القضايا في الفصول القادمة ان شاء الله تعالي.

ص: 236


1- 444. الكافي: ج 3 ص 226 ح 13.

الامام الصادق و الزهد

و أما الزهد فكان من طبعه و طبيعته، فبالرغم من زعامته و مكانته القيادية كانت حياته المادية بسيطة جدا، فلا سرف و لا ترف و لا بذخ. و ربما دخل عليه رجل من شيعته فوجد عليه ثوبا مرقعا، أو ثوبا خشنا قد لبسه ملا صقا لجسده المبارك. و كثيرا ما نجد في حياة أولياء الله الزهد الاختياري، لا الاضطراري، فلا يرغبون الي زخارف الحياة في مأكلهم و ملبسهم و مسكنهم، و غير ذلك من لوازم حياتهم بالرغم من قدرتهم عليها. و السبب في ذلك - والله العالم - ان الانسان الذي يشعر بالنواقص في نفسه يحاول أن يستر تلك النواقص بمتاع الدنيا، و من هذا الطريق يكون لنفسه شيئا يملأ ذلك الفراغ، و يسد ذلك الخلل، فتري الاناقة و التلون و التزين في الملبس و الأثاث و المسكن، و وسائل المعيشة. و أما أولياء الله فلا يشعرون بالنقص في نفوسهم، فلا حاجة لهم الي الأبهة، و الفخفخة في لوازم الحياة. و معني ذلك أنهم يشعرون بالكمال الذي منحهم الله تعالي، فهم -

ص: 237

من ناحية النسب - فوق كل نسب، و من ناحية الحسب لهم اشرف الحسب، و من ناحية المكانة الاجتماعية هم في القمة.. و يملكون قلوب الناس، و من ناحية العلم هم أعلم أهل الأرض في كل شي ء، و في جميع العلوم، و بجميع اللغات. و لا يوجد في أجسامهم و جوارحهم و أخلاقهم ما يشينهم. لهم أعلي مكانة عند الله تعالي، و عندهم الاسم الأعظم الذي يستطيعون به أن يأتوا بالمعجزات، فكل شي ء خاضع لارادتهم. اذن، فمن الطبيعي أن يشعروا بالاستغناء الذاتي، و أن لا يبالوا بزخارف الحياة، و ان لا يهتموا بالمأكل و الملبس و الأثاث و المتاع، الا بمقدار الحاجة و الكفاية و بمقدار ما يلزم في المعيشة. و ان كان غيرهم يبذل نشاطه و جهوده في تحصيل ما تشتهيه نفسه، فذلك بسبب الاحساس بالنقص، و ضيق التفكير، و انصراف النفس عن الامور المعنوية، و الركون الي هذه الدنيا الدنية و زخرفها الزائل. فلقد رأينا الأطفال كيف يفرحون بما يشتري لهم من ألاعيب، و يبكون و يحزنون اذا اخذ ذلك منهم، بينما نري الكبار و العقلاء ينظرون الي تلك الألاعيب بنظر التحقير - بسبب نضوج عقولهم - و يتعجبون من اولئك الأطفال الذين يهتمون بتلك الأشياء التافهة. فمن الصحيح أن نقول: ان النفس اذا تشبعت بالمعنويات فانها لا ترغب في الماديات. و بعبارة اخري: اذا توجه الانسان الي الامور الاخروية سقطت عن عينه الامور الدنيوية فأعرض عنها.

ص: 238

الامام الصادق و البساطة في الملبس

قد ذكرنا أن أولياء الله لا يرغبون الي زخارف الحياة الدنيا، في المسكن و الملبس و المطعم، و لا يتقيدون بالمظاهر المادية، لأنهم يعرفون جيدا أن الماديات زائلة و فانية و أن المعنويات هي الباقية و النافعة. و لذلك تراهم ينتهجون حياة الزهد و البساطة في العيش، و لا يهتمون بالدنيا الا بمقدار الحاجة و الكفاف. فمثلا: تري الائمة الطاهرين (عليهم السلام) كانوا يلبسون ملابس بسيطة بل و خشنة احيانا.. و ربما لبسوا ملابس فاخرة تمشيا مع ظروفهم، لا رغبة الي تلك الملابس أو تلذذا بها.. كل ذلك تأكيدا منهم علي أن الانسان يجب ان لا يقيد نفسه بأغلال الماديات التافهة. و الامام الصادق (عليه السلام) هو من سادة أولياء الله، و من أطهر اسرة علي وجه الأرض، و لهذا كانت سيرته جارية علي الزهد و البساطة.

ص: 239

و فيما يلي نذكر بعض الأحاديث المروية في هذا المجال: عن محمد بن الحسين بن كثير الخزاز، عن أبيه قال: رأيت أباعبدالله (عليه السلام) و عليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه و فوقها جبة صوف و فوقها قميص غليظ فمسستها فقلت: جعلت فداك ان الناس يكرهون لباس الصوف. فقال: كلا، كان أبي محمد بن علي (عليهماالسلام) يلبسها، و كان علي بن الحسين (عليهماالسلام) يلبسها، و كانوا (عليهم السلام) يلبسون أغلظ ثيابهم اذا قاموا الي الصلاة، و نحن نفعل ذلك (1) . و في رواية اخري قال (عليه السلام) للراوي: رأيت أبي يلبسها، و انا اذا أردنا أن نصلي لبسنا أخشن ثيابنا (2) . و دخل بعض أصحاب الامام الصادق (عليه السلام) عليه فرأي عليه قميصا فيه قب قد رقعه (3) فجعل ينظر اليه فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): مالك تنظر؟ فقال: قب ملقي في قميصك. قال: فقال لي: اضرب يدك الي هذا الكتاب فاقرأ ما فيه، و كان بين يديه كتاب أو قريب منه، فنظر الرجل فيه فاذا فيه: «لا ايمان لمن لا حياء له، و لا مال لمن لا تقدير له، و لا جديد لمن لا خلق له» (4) . و عن الحسين بن المختار قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام): اعمل

ص: 240


1- 445. عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 2 ح 1. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 18.
2- 446. الكافي: ج 6 ص 450 ح 4.
3- 447. بحارالأنوار: ج 79 ص 314.
4- 448. القب: ما يدخل في جيب القميص من الرقاع (لسان العرب).

لي قلانس بيضاء و لا تكسرها فان السيد مثلي لا يلبس المكسر (1) . أيها القارئ الكريم: و الي جانب هذه الأحاديث تجد أحاديث اخري تصرح بأن الامام الصادق (عليه السلام) كان أحيانا يلبس ملابس جيدة، مجاراة مع الظرف الذي كان يعيش فيه.. و اليك بعض تلك الأحاديث: روي عن جعفر بن محمد (عليه السلام): انه حج فبينا هو في الطواف و عليه ثوبان رفيعان (2) ، اذ جذب رجل بطرف ثوبه، فالتفت اليه فاذا هو عباد البصري، فقال: يا أباعبدالله تلبس مثل هذه الثياب، في مثل هذا الموضع، و انت من علي (عليه السلام) بالمكان الذي أنت فيه، و قد علمت كيف كان لباسه؟!! فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): ويحك - يا عباد - كان علي (عليه السلام) في زمان يستقيم له فيه ما يلبس، و لو لبست أنا اليوم مثل لباسه لقال الناس: هذا مرائي، مثل عباد!!. فافحم عباد، و تغامز به الناس من حوله، و كان يوصف بالرياء (3) . و عن أحمد بن عمر قال: سمعت بعض أصحاب أبي عبدالله (عليه السلام) يحدث أن سفيان الثوري دخل علي بن أبي عبدالله (عليه السلام) و عليه [علي الامام] ثياب جياد فقال: يا أباعبدالله، ان آباءك لم يكونوا يلبسون مثل هذه الثياب! فقال له: ان آبائي كانوا يلبسون ذلك في زمان مقفر مقتر، و هذا زمان

ص: 241


1- 449. الكافي: ج 5 ص 317 ح 52.
2- 450. الكافي: ج 6 ص 462 ح 3. و لعل المقصود من قوله (عليه السلام): «و لا تكسرها» أي لا يحصل عليها التغيير من الصبغ و ما شابه ذلك.
3- 451. في مستدرك الوسائل: رقيقان.

قد أرخت الدنيا عزاليها (1) ، فأحق أهلها بها أبرارهم (2) . و عن مؤذن علي بن يقطين قال: رأيت علي أبي عبدالله (عليه السلام) - و هو يصلي في الروضة - جبة خز سفر جلية (3) .

ص: 242


1- 452. دعائم الاسلام: ج 2 ص 156. منه مستدرك الوسائل: ج 3 ص 240.
2- 453. العزلاء: مصب الماء من الراوية و نحوها و الجمع عزالي و عزالي. (القاموس). و المعني: ان ظروف الناس كانت صعبة في ذلك الزمان فكان آبائي يلبسون كما يلبس الناس، و اليوم قد تحسنت ظروفهم و ازدهرت امورهم و صاروا في رفاهية من العيش و سعة من الرزق، فنحن نلبس كما يلبسون.
3- 454. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 691 ح 740. منه وسائل الشيعة: ج 3 ص 350.

الامام الصادق و العبادة

و أما العبادة: فكان - علي جلالة قدره و عظم شأنه - في منتهي التذلل لله تعالي في عبادته، و كانت اوقاته لا تخلو من صلاة أو صيام أو ذكر الله تعالي، و كانت له سجدات طويلة، قل أن يستطيع أحد أن يماثله في ذلك. روي عن منصور الصيقل [قال:] حججت فمررت بالمدينة فأتيت [قبر] رسول الله (صلي الله عليه و آله) فسلمت عليه، ثم التفت، فاذا أنا بأبي عبدالله (عليه السلام) ساجدا فجلست حتي مللت، ثم قلت: لاسبحن مادام (1) ساجدا فقلت: «سبحان ربي و بحمده، أستغفر ربي و أتوب اليه» ثلاثمائة مرة و نيفا و ستين مرة، فرفع رأسه، ثم نهض فاتبعته و أنا أقول في نفسي: ان أذن لي، فدخلت عليه ثم قلت له: جعلت فداك أنتم تصنعون هكذا!! فكيف ينبغي لنا أن نصنع؟! فلما [أن] وقفت علي الباب خرج الي مصادف فقال لي: ادخل يا منصور، فدخلت فقال [لي] مبتدئا: يا منصور انكم ان أكثرتم أو أقللتم

ص: 243


1- 455. الكافي: ج 6 ص 452 ح 10.

فوالله لا يقبل الا منكم (1) . و عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: مر بي أبي، و أنا بالطواف - و انا حدث [شاب] - و قد اجتهدت في العبادة، فرآني [ابي] و أنا أتصاف عرقا فقال لي: يا جعفر! يا بني! ان الله اذا أحب عبدا أدخله الجنة، و رضي عنه باليسير (2) . و في رواية اخري قال (عليه السلام): «اجتهدت في العبادة و انا. شاب، فقال لي أبي: يا بني! دون ما اراك تصنع، فان الله (عزوجل) اذا أحب عبدا رضي عنه باليسير» (3) . و عن حفص بن غياث قال: رأيت أباعبدالله (عليه السلام) يتخلل بساتين الكوفة، فانتهي الي نخلة، فتوضأ عندها ثم ركع و سجد، فأحصيت في سجوده خمسمائة تسبيحة، ثم استند الي النخلة فدعا بدعوات، ثم قال: يا حفص انها - والله - النخلة التي قال الله (جل ذكره) لمريم: «و هزي اليك بجذع النخل تساقط عليك رطبا جنيا» (4) . و عن يحيي بن العلا قال: كان أبوعبدالله (عليه السلام) مريضا مدنفا (5) فأمر فاخرج الي مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فكان فيه حتي أصبح، ليلة ثلاث و عشرين من شهر رمضان (6) . و كانت لياله عامرة بتلاوة القرآن، يجلس علي التراب تذللا لله

ص: 244


1- 456. في بحارالأنوار: قدامه.
2- 457. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 762 ح 83. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 120.
3- 458. الكافي: ج 2 ص 86 ح 4.
4- 459. الكافي: ج 2 ص 87 ح 5.
5- 460. الكافي: ج 8 ص 143، و الآية في سورة مريم آية 25.
6- 461. المدنف: المثقل في المرض (مجمع البحرين).

تعالي، و تعظيما لكتابه، يتلو آياته بكل امعان و تدبر، مستحضرا في ذهنه ناسخه من منسوخه، و تنزيله من تأويله، و عامه من خاصه، و يعلم المراد و المقصود به. و تنسجم روحه مع القرآن، و يتوجه قلبه الي خالقه، فكأنه ينسي نفسه و يغفل عنها، و كأنه يسمع القرآن ممن أنزله. و لا عجب في ذلك فانه عدل القرآن، و مع القرآن، و القرآن معه. و قد روي أن الامام الصادق (عليه السلام) كان يتلو القرآن في صلاته، فغشي عليه، فلما افاق سئل: ما الذي اوجب ما انتهت حاله اليه؟ فقال - ما معناه -: ما زلت اكرر آيات القرآن حتي بلغت الي حال كأنني سمعتها مشافهة ممن انزلها (1) . و كان (صلوات الله عليه) يأمر بتلاوة القرآن و خاصة في ليلة الجمعة حيث ورد التأكيد علي قراءة بعض السور القرآنية كسورة ص و الدخان. و روي عن زيد الشحام قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام) - و نحن في الطريق في ليلة الجمعة -: اقرأ فانها ليلة الجمعة - قرآنا. فقرأت: «ان يوم الفصل ميقاتهم أجمعين - يوم لا يغني مولي عن مولي شيئا و لا هم ينصرون - الا من رحم الله» (2) . فقال أبوعبدالله (عليه السلام): نحن - والله - الذي يرحم الله، و نحن - والله - الذي استثني الله، و لكنا نغني عنهم (3) . و ينبغي أن لا نغفل عن نقطة مهمة جدا و هي: ان العبادة لا تنحصر

ص: 245


1- 462. بحارالأنوار: ج 47 ص 53.
2- 463. بحارالانوار: ج 47 ص 58.
3- 464. سورة الدخان الآيات 42 - 40.

معناها بالصلاة و الصيام و الذكر و الدعاء، بل تشمل كل ما يتقرب به الانسان الي الله تعالي من العلم و التقوي و الأخلاق و الأصلاح بين الناس و الاحسان الي الفقراء و ارشاد الجاهل و تنبيه الغافل و تربية الأفراد تربية صحيحة و مقارعة الظالمين و محاربة الضالين المضلين و غيرها. و حياة الامام الصادق (عليه السلام) كلها عبادة، و كلها تقرب الي الله تبارك الله تبارك و تعالي و كلها جهاد و نشاط و نور و معنوية و هداية و ارشاد.

ص: 246

الامام الصادق و المواساة و الايثار

مواساة الاخوان معناها: مشاركتهم و مساهمتهم في الرزق و المعاش. و الايثار: تقديم الغير و تفضيله علي نفسه. و هما خصلتان شريفتان حسنتان، و قليل من يتصف بهما كليهما أو باحداهما. و هما من الصفات المحبوبة المرضية عند الله تعالي، و لو لا ذلك لما قال (عزوجل): «و يؤثرون علي أنفسهم و لو كان بهم خصاصة» (1) . و لو لا ذلك لما انزل الله تعالي الآيات من سورة هل أتي، و خاصة قوله (عز من قائل): «و يطعمون الطعام علي حبه مسكينا و يتيما و اسيرا...» (2) . و من الواضح أن أولياء الله الذين تأدبوا بآداب الله تعالي يتصفون بهذه الصفات الحميدة، بل و يلتزمون بها تقربا الي الله (عزوجل).

ص: 247


1- 465. بحارالأنوار: ج 47 ص 55.
2- 466. سورة الحشر آية 9.

و نجد في تراجم حياتهم الكثير الكثير من هذه الفضائل، و ذلك بسبب طهارة قلوبهم، و شرافة نفوسهم، و قداسة ضمائرهم، لأن نفوسهم الزكية تأبي ان يتفردوا بنعم الحياة و ينظروا الي المحرومين فاقدين لتلك النعم. استمع الي كلام الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «... و لو شئت لاهتديت الطريق الي مصفي هذا العسل، و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القز، و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي الي تخير الأطعمة، و لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص و لا عهد له بالشبع!! أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثي، و أكباد حري؟! أو أكون كما قال القائل: و حسبك داء أن تبيت ببطنة و حولك اكباد تحن الي القد ءأقنع من نفسي بأن يقال: أميرالمؤمنين. و لا اشاركهم في مكاره الدهر؟ أو أكون لهم اسوة في جشوبة العيش؟ فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها...» الي آخر كتابه (عليه السلام) (1) . هذه كلمات سجلت علي صفحات التاريخ، و قد صدرت من عظيم العظماء، و أبي الأئة و سيد العترة، فهو يتحدث عن نفسه بقلمه، و التاريخ يصدق كلامه. فلقد كان أزهد الزاهدين، و حياته يضرب بها المثل في الزهد و المواساة و الايثار. و لا اريد أن اطيل الكلام حول مواساة الامام أميرالمؤمنين و ايثاره

ص: 248


1- 467. سورة الانسان آية 8.

الآخرين علي نفسه و أنه كان يؤثر حتي غلامه قنبر علي نفسه. فهذه الامور مذكورة في محلها بالتفاصيل (1) ، و انما المقصود من هذه المقدمة - هنا - أن أقول: ان الامام الصادق (عليه السلام) هو فرع تلك الشجرة الطيبة، و غصن تلك الدوحة المباركة فلا عجب اذا تجلت في حياته هذه الفضائل، فهو ابنها و وليدها، و فيه نشبت عروقها، و تطبع بها حتي صارت جزء من طبعه و طبيعته. و هذه الأحاديث تصرح بهذه الحقيقة: قال أحد أصحابه له (عليه السلام): جعلت فداك! بلغني أنك كنت تفعل في غلة عين زياد (2) شيئا، و أنا احب أن أسمعه منك. قال: فقال لي: «نعم، كنت آمر - اذا أدركت الثمرة - أن يثلم في حيطانها الثلم، ليدخل الناس و يأكلوا، و كنت آمر في كل يوم أن يوضع عشر بنيات (3) ، يقعد علي كل بنية عشرة، كلما أكل عشرة، جاء عشرة اخري، يلقي لكل نفس منهم مد من رطب، و كنت آمر لجيران الضيعة - كلهم: الشيخ و العجوز و الصبي، و المريض، و المرأة، و من لا يقدر أن يجيي ء فيأكل منها - لكل انسان منهم مد. فاذا كان الجذاذ (4) أوفيت - القوام و الوكلاء، و الرجال - اجرتهم، و أحمل الباقي الي المدينة، ففرقت - في أهل البيوتات و المستحقين -

ص: 249


1- 468. نهج البلاغة: ج 3 ص 70.
2- 469. راجع كتاب (الامام علي من المهد الي اللحد) للمؤلف.
3- 470. عين زياد: اسم بستان خارج المدينة كان للامام الصادق (عليه السلام).
4- 471. البنيات: جمع بنية، و هي النطع يفرش علي الأرض و يوضع عليه التمر.

الراحلتين (1) و الثلاثة، و الأقل و الأكثر علي قدر استحقاقهم، و حصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار، و كان غلتها أربعة آلاف دينار» (2) . أيها القارئ الكريم: لعل بعض كلمات الحديث يحتاج الي شي ء من الشرح... فأقول: كان للامام الصادق (عليه السلام) بستان خارج المدينة يقال له: (عين زياد) فيه نخل كثير، فاذا أدرك التمر كان الامام يأمر بهدم بعض جدران البستان حتي يسهل لكل أحد الدخول الي البستان، و كان يأمر أن يوضع عشر بنيات. أو عشر ثبنات. و المقصود أنه كان يأمر بفرش الأنطاع - جمع نطع - أو الأقداح - جمع قدح - يوضع علي كل نطع عشرة أمداد من التمر، كل مد علي حدة، و يدخل الناس، و يجلسون عند النطع أو القدح و يأكلون فاذا فرغوا جاء عشرة آخرون ليأكلوا، و هكذا. كل هذه الامور في اوائل ادراك التمر حينما يكون رطبا. ثم يأمر الامام أن يحمل الي جيران البستان - الذين لم يستطيعوا الحضور - بعدد أفراد العائلة، لكل واحد منهم مد. فاذا يبس التمر، و صار وقت الجذاذ - أي قص التمر من النخل - أعطي الامام الصادق (عليه السلام) اجرة الأفراد القائمين علي امور بستان، و العمال الذين قاموا بجذاذ النخيل، و بعد ذلك يحمل الباقي من التمر الي المدينة، و يرسل الي بيوت المستحقين حمل ناقة أو ناقتين أو أكثر،

ص: 250


1- 472. أي موسم قصاص التمر من النخيل.
2- 473. الراحلة: الناقة التي تصلح لأن ترحل (مجمع البحرين). و المقصود: حمل الناقة و الناقتين و الثلاثة.

حسب استحقاقهم. ثم يبيع الباقي بأربعمائة دينار، و كان وارد البستان أربعة آلاف دينار، و معني ذلك ان الامام أبقي لنفسه العشر، و أنفق تسعة أعشار من وارد البستان في سبيل الله تعالي. و روي عن حماد بن عثمان قال: أصاب أهل المدينة غلاء و قحط حتي أقبل الرجل الموسر يخلط الحنطة بالشعير و يأكله و يشتري ببعض الطعام و كان عند أبي عبدالله (عليه السلام) طعام جيد قد اشتراه أول السنة فقال لبعض مواليه: اشتر لنا شعيرا فاخلط بهذا الطعام أوبعه، فانا نكره أن نأكل جيدا و يأكل الناس رديا (1) . و عن أبي الهياج بن بسطام قال: كان جعفر بن محمد (عليه السلام) يطعم حتي لا يبقي لعياله شي ء (2) . هذه بعض النماذج الخاطفة اقتطفناها من التاريخ في مجال التحدث عن مواساة الامام الصادق (عليه السلام) للفقراء و المساكين و ايثاره المحرومين علي نفسه و أهله، و هي - بحق - نماذج رائعة تتجلي فيها روح الانسانية و الايمان و الخير و الصلاح.

ص: 251


1- 474. الكافي: ج 3 ص 569 ح 2.
2- 475. الكافي: ج 5 ص 166 ح 1.

الامام الصادق و حقوق الانسان

حينما تقرأ حياة الامام الصادق (عليه السلام) تجد فيها نماذج كثيرة تتجلي فيها العاطفة الانسانية بأجلي صورها.. مما يدل علي النفسية الطاهرة و الروح الصافية للامام الصادق (عليه السلام).. و اليك هذا النموذج: عن مصادف قال: كنت مع أبي عبدالله (عليه السلام) بين مكة و المدينة فمررنا علي رجل في أصل شجرة و قد ألقي بنفسه فقال (عليه السلام): مل بنا الي هذا الرجل فاني أخاف أن يكون قد أصابه عطش، فملنا فاذا رجل من الفراسين (1) طويل الشعر، فسأله: أعطشان أنت؟ فقال: نعم. فقال لي: انزل يا مصادف فاسقه، فنزلت و سقيته، ثم ركبت و سرنا. فقلت: هذا نصراني فتتصدق علي نصراني؟ فقال: نعم اذا كانوا في مثل الحال (2) .

ص: 252


1- 476. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 273. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 23.
2- 477. الفراسين: جمع فرسان، لقب قبيلة.

و عن شعيب قال: تكارينا لأبي عبدالله (عليه السلام) قوما يعملون في بستان له، و كان اجلهم الي العصر، فلما فرغوا قال لمعتب: اعطهم اجورهم قبل أن يجف عرقهم (1) . أقول: معني الحديث ان بعض اصحاب الامام الصادق (عليه السلام) استأجر بعض العمال للعمل في بستان الامام، الي وقت العصر، فلما انتهي الوقت امر الامام غلامه معتب ان يدفع اليهم اجورهم فورا قبل ان يجف عرقهم. و هذا يدل علي منتهي اهتمام الامام (عليه السلام) بحقوق الناس و اموالهم و شؤونهم. بل ان الامام الصادق (عليه السلام) كان يتجنب كل عمل يؤدي الي ايذاء الناس، حتي لو كان ذلك العمل مستحبا شرعا. كما في هذا الحديث: عن حماد بن عثمان قال: كان بمكة رجل مولي لبني امية يقال له: ابن ابي عوانة، له عنادة، و كان اذا دخل الي مكة - أبوعبدالله (عليه السلام) او احد من أشياخ آل محمد - يعبث به (2) . و انه اتي اباعبدالله (عليه السلام) - و هو في الطواف - فقال: يا أباعبدالله ما تقول في استلام الحجر؟ فقال (عليه السلام): استلمه رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). فقال له: ما اراك استلمته؟

ص: 253


1- 478. الكافي: ج 4 ص 57 ح 4.
2- 479. الكافي: ج 5 ص 289 ح 3.

قال (عليه السلام): اكره أن اؤذي ضعيفا او اتأذي. قال: فقال: قد زعمت أن رسول الله استلمه. قال (عليه السلام): نعم، و لكن كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) اذا رأوه عرفوا له حقه، و أنا فلا يعرفون لي حقي (1) .

ص: 254


1- 480. أي: يزعجه و يؤذيه بكلامه.

الامام الصادق و تربية الأفراد

لقد قام الامام الصادق (عليه السلام) بنشر العلم الصحيح، و الفقه النزيه بين الناس، و حثهم علي طلب العلم و المعرفة، و تشجيعهم علي التفقة في امور الدين، و تربية الخط الموالي له أحسن تربية، حتي كون منهم جماعة ممتازة هم مفخرة التاريخ، و انعكست تلك التربية الممتازة علي تصرفاتهم في مختلف شؤون الحياة. و بلغوا الدرجات العالية في الايمان و التقوي و العبادة و العلم و المعرفة و الحكمة و الطهارة النزاهة و الورع... و قد تطرقنا الي ذكرهم بالتفصيل في الأجزاء الخاصة بأصحابه (عليه السلام) و الرواة عنه، من موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 255

الامام الصادق و الفصاحة و البلاغة

و أما الفصاحة و البلاغة فهما من فطرته، و جزء من غريزته و طبعه و طبيعته، لا تنفكان عن كلامه و حديثه، قد تعود لسانه عليهما، فلا ينطلق لسانه الا بهما منذ بدأ بالنطق و التكلم، فالرسائل التي كتبها لشيعته و المواعظ التي وعظ بها أصحابه، و كلماته القصار التي هي كنوز للحكمة و المعرفة، ترشد الانسان الي كل ما يريد، مهما اختلفت اتجاهاته، و تعددت هواياته، فيها أسرار الحياة، و اسلوب المعيشة اقتصاديا و عقائديا، و اجتماعيا و صحيا و غير ذلك. و لا ابالغ اذا قلت: ان الامام الصادق (عليه السلام) لم يترك جانبا من جوانب الحياة الا و عرفه أحسن تعريف، و ذكر له أحسن ما يلزم فعله، و أفضل ما يجب فهمه. و لا يمكن لأكبر فيلسوف، و أعظم مرشد، و أكبر مرب أن يكون انتاجه الأدبي و العلمي بهذا المقدار، مع الانتباه الي أن هذه الكمية من كلماته - الطوال منها و القصار - هي أقل - بكثير - من الواقع، فمن القطع و اليقين ان الكلمات التي لم تسجلها الأدمغة، و لم تحفظها القلوب هي أكثر بكثير مما

ص: 256

وصل الينا. بالاضافة... الي أن ما تعرض له التراث الشيعي، من الحرق و التلف و الابادة - يعتبر من أفظع الفجائع العلمية و الفكرية التي منيت بها الامة الاسلامية.

ص: 257

الامام الصادق و قوة الشخصية و الصلابة

يمكننا أن ندرس شخصية الامام الصادق (عليه السلام) من خلال آلاف الأحاديث و النصوص التاريخية: فالامام الصادق (عليه السلام) انسان، قوي الشخصية و الروح و النفس، أبي الضيم، لا يضعف و لا يلين أمام الحوادث، و قور في الزلازل، صبور في المكاره، ثابت في عقيدته و مبدئه ثبوت الجبال الرواسي، مستقيم، في خطه (الصراط المستقيم) لا ينحرف عنه قيد شعرة مهما كلف الأمر. و ليس معني ذلك الدكتاتورية أو العناد و اللجاج، بل هو الثبات و الاستقامة في العقيدة، المطلوبة من كل أحد. و من الطبيعي أن الاضطرابات التي تحدث في حياة الانسان تترك آثارا غير مطلوبة في روح الانسان و نفسه، من الضعف و الانهيار، و تغيير الاتجاه، و التلون، و ما شابه ذلك. و لكن الامام الصادق (عليه السلام) - الذي كان له أوفر نصيب من الايمان بالله تعالي - لم تؤثر في نفسيته تلك العوامل مهما بلغت في الأهمية.

ص: 258

قوي الايمان بالله (عزوجل) يعتمد علي ربه، و يتوكل عليه في المخاوف و الأخطار التي تهدد حياته، و يستعين بالدعاء و الاستمداد من أقوي مركز للقدرة غير المحدودة، و هي قدرة الله (عزوجل). و من الناحية الاجتماعية: يشعر بالمسؤولية أمام كل صغيرة و كبيرة، و كل نقص و خلل في المجتمع الاسلامي، فتراه يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر قولا و فعلا، و يعظ الحكام و الولاة و القضاة بكل حكمة و حنكة. لا تمنعه هيبة السلطان عن اظهار الحق، و ابطال الباطل، و لا يهمه اذا انخدشت عواطف أصحاب السلطة. و حينما يسأله الطاغوت: منصور الدوانيقي: لماذا خلق الله الذباب؟ يجيبه الامام: ليذل به الجبابرة!! و حينما يدخل عليه القاضي ابن أبي ليلي و أبوحنيفة ينتهز الامام الفرصة ليذكر كل واحد منهما بخطورة القضاء بين الناس و اصدار الفتاوي علي خلاف الموازين الشرعية. و حينما يدعي الي مائدة احد قواد المنصور، و يؤتي بالخمر... تراه (عليه السلام) يقوم فورا و يخرج من دار الرجل، معلنا سخطه علي هذا المنكر.. و اليك الحديث:

ص: 259

الامام الصادق يرفض الجلوس علي مائدة فيها الخمر

عن هارون بن الجهم قال: كنا مع أبي عبدالله (عليه السلام) بالحيرة حين قدم علي أبي جعفر المنصور، فختن بعض القواد ابنا له، و صنع طعاما و دعا الناس، و كان أبوعبدالله (عليه السلام) فيمن دعي، فبينا هو علي المائدة يأكل و معه عدة علي المائدة، فاستسقي رجل منهم ماء، فاتي بقدح فيه شراب [خمر] لهم، فلما أن صار القدح في يد الرجل قام أبوعبدالله (عليه السلام) عن المائدة، فسئل عن قيامه؟ فقال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ملعون من جلس علي مائدة يشرب عليها الخمر». و في رواية اخري: «ملعون ملعون من جلس طائعا علي مائدة يشرب عليها الخمر» (1) . ان هذا الموقف من الامام الصادق (عليه السلام) تتجلي فيه الصلابة و الروح الأبية و النفسية الجرئية التي ترفض مداهنة العصاة و مجاملة الطغاة الذين لا يهمهم سوي الفسق و الفجور و الرذيلة.

ص: 260


1- 481. الكافي: ج 4 ص 409 ح 17.

الامام الصادق في مواجهة الظالمين

اشارة

عن معاوية بن حكيم قال: حدثني عبدالله بن سلمان (1) التميمي قال: لما قتل محمد و ابراهيم ابنا عبدالله بن الحسن صار الي المدينة رجل يقال له: شيبة بن غفال، ولاه المنصور [الدوانيقي] علي أهلها. فلما قدمها، و حضرت الجمعة، صار الي مسجد النبي (صلي الله عليه و آله) فرقي المنبر، و حمد الله و أثني عليه ثم قال: «أما بعد: فان علي بن أبي طالب شق عصا المسلمين! و حارب المؤمنين! و أراد الأمر لنفسه! و منعه من أهله! فحرمه الله عليه امنيته! و أماته بغصته! و هؤلاء ولده يتبعون أثره في الفساد! و طلب الأمر بغير استحقاق له! فهم في نواحي الأرض مقتولون! و بالدماء مضرجون!». قال: فعظم هذا الكلام منه علي الناس، و لم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف، فقام اليه رجل، عليه ازار قومسي سحق (2) فقال:

ص: 261


1- 482. الكافي: ج 6 ص 268 ح 1.
2- 483. في بحارالأنوار: سليمان.

«و نحن نحمد الله، و نصلي علي محمد خاتم النبيين و سيد المرسلين، و علي رسل الله و أنبيائه أجمعين. أما ما قلت من خير فنحن أهله، و ما قلت من سوء فأنت و صاحبك به أولي و أحري. يا من ركب غير راحلته، و أكل غير زاده ارجع مأزورا». ثم أقبل علي الناس فقال: «ألا انبئكم بأخف (1) الناس يوم القيامة ميزانا، و أبينهم خسرانا؟ من باع آخرته بدنيا غيره. و هو هذا الفاسق». فأسكت الناس، و خرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف. فسألت عن الرجل؟ فقيل لي: هذا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم أجمعين) (2) . أقول: و هذا الموقف - هو الآخر - تتجلي فيه الشجاعة بأجلي صورها... و التحدي بأروع مظاهره. فكم هو عظيم أن يقف المؤمن في وجه الطاغية و يرميه بكلمات دامغة تكسر كبرياءه و تقصم خيلاءه و تسحق جبروته، فينقلب صاغرا ذليلا، و لا يتجرأ أن ينطق بحرف واحد؟!

ص: 262


1- 484. في بحارالأنوار: سخين.
2- 485. في بحارالأنوار: بأخلي.

الامام الصادق و الشعر و الشعراء

اشاره

لم يكن من عادة ائمة أهل البيت (عليهم السلام) الدخول في حقل الشعر الا يسيرا نادرا، و ذلك لمسؤولياتهم الكثيرة التي هي أهم من الشعر...، فكان الشعر علي الهامش، فربما قالوا شعرا: و ربما تمثلوا بما قاله بعض الشعراء... و غير ذلك. و قد رويت عن الامام الصادق (عليه السلام) ابيات متفرقة، تتضمن الحكمة و الموعظة و غيرها. فمنها: قوله (عليه السلام): تعصي الاله و أنت تظهر حبه هذا لعمرك في الفعال بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ان المحب لمن يحب مطيع (1) و له (عليه السلام): علم المحجة واضح لمريده و أري القلوب عن المحجة في عمي و لقد عجبت لهالك و نجاته موجودة و لقد عجبت لمن نجا (2)

ص: 263


1- 486. أمالي الطوسي: ج 1 ص 49. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 165.
2- 487. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 275. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 24 و 25.

و روي الأصمعي له (عليه السلام): اثامن (1) بالنفس النفيسة ربها فليس لها في الخلق كلهم ثمن بها يشتري الجنات ان أنا بعتها بشي ء سواها ان ذلكم غبن اذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها فقد ذهبت نفسي و قد ذهب الثمن (2) و قال سفيان الثوري للامام الصادق (عليه السلام): يابن رسول الله اعتزلت الناس؟ فقال: يا سفيان: فسد الزمان و تغير الاخوان، فرأيت الانفراد اسكن للفؤاد. ثم قال: ذهب الوفاء ذهاب امس الذاهب و الناس بين مخاتل و موارب يفشون بينهم المودة و الصفا و قلوبهم محشوة بعقارب (3) و روي سفيان الثوري له (عليه السلام): لا اليسر يطرقنا (4) يوما فيبطرنا و لا لأزمة دهر نظهر الجزعا ان سرنا الدهر لم نبهج لصحته أو ساءنا الدهر لم نظهر له الهلعا مثل النجوم علي مضمار أولنا اذا تغيب نجم آخر طلعا (5) و يروي له (عليه السلام): اعمل علي مهل فانك ميت و اختر لنفسك أيها الانسانا فكأن ما قد كان لم يك اذ مضي و كأن ما هو كائن قد كانا (6)

ص: 264


1- 488. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 275. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 24 و 25.
2- 489. المثامنة: المقاولة في الثمن عند المبايعة. (النهاية).
3- 490. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 275. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 25.
4- 491. بحارالأنوار: ج 47 ص 60.
5- 492. في بحارالأنوار: يطرؤنا.
6- 493. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 276. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 25.

و يروي له (عليه السلام): في الأصل كنا نجوما يستضاء بنا و للبرية نحن اليوم برهان نحن البحور التي فيها لغائصكم در ثمين و ياقوت و مرجان مساكن القدس و الفردوس نملكها و نحن للقدس و الفردوس خزان من شذ عنا فبرهوت مساكنه و من أتانا فجنات و ولدان (1) و ذكروا ان سائلا سأله حاجة فأسعفه (عليه السلام) فجعل السائل يشكره فقال (عليه السلام): اذا ما طلبت خصال الندي و قد عضك الدهر من جهده فلا تطلبن الي كالح أصاب اليسارة من كده و لكن عليك بأهل العلي و من ورث المجد عن جده فذاك اذا جئته طالبا تحب اليسارة من جده (2)

موقف الامام الصادق من الشعر و الشعراء

و قد روي عنه (عليه السلام) التشجيع علي نظم الشعر في أهل البيت (عليهم السلام) - مدحا و رثاء و ذكرا لفضائلهم و مناقبهم و درجاتهم العالية و مقاماتهم السامية عند الله سبحانه -. قال (عليه السلام): «من قال فينا بيت شعر بني الله له بيتا في الجنة» (3) .

ص: 265


1- 494. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 276. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 25.
2- 495. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 276. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 26.
3- 496. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 274. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 24.

و قال (عليه السلام): «ما قال فينا قائل بيت شعر حتي يؤيد بروح القدس « (1) . و قال الامام الرضا (عليه السلام): «ما قال فينا مؤمن شعرا يمدحنا به الا بني الله تعالي له مدينة في الجنة اوسع من الدنيا سبع مرات، يزوره فيها كل ملك مقرب و كل نبي مرسل» (2) . أما موقفه من الشعراء فكان تابعا لنوعية شعرهم، فان كان فيما ذكرناه - و خاصة في رثاء الامام الحسين (عليه السلام) - تلقاه بالقبول و التأييد و الترحيب و الدعاء و العطاء المعنوي و المادي - احيانا - للشاعر، و ان كان في غيره فلا. و فيما يلي نذكر بعض النماذج المقبولة عنده (عليه السلام): عن زيد الشحام قال: كنا عند أبي عبدالله (عليه السلام) و نحن جماعة من الكوفيين فدخل جعفر بن عفان علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقربه و أدناه ثم قال: يا جعفر. قال: لبيك جعلني الله فداك. قال: بلغني انك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) و تجيد. فقال له: نعم جعلني الله فداك. فقال (عليه السلام): قل. فأنشده و من حوله حتي صارت له الدموع علي وجهه و لحيته. ثم قال: يا جعفر والله لقد شهدك ملائكة الله المقربون هاهنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام) و لقد بكوا كما بكينا أو أكثر، و لقد أوجب الله تعالي لك يا جعفر في ساعته الجنة بأسرها و غفر الله لك. فقال: يا جعفر

ص: 266


1- 497. بحارالأنوار: ج 26 ص 231.
2- 498. بحارالأنوار: ج 26 ص 231.

ألا أزيدك! قال: نعم يا سيدي. قال: ما من أحد قال في الحسين (عليه السلام) شعرا فبكي و أبكي به الا أوجب الله له الجنة و غفر له (1) . و عن أبي هارون المكفوف قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال لي: أنشدني فأنشدته، فقال: لا كما تنشدون و كما ترثيه عند قبره. قال: فأنشدته: امرر علي جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية قال: فلما بكي أمسكت انا. فقال: مر، فمررت، قال: ثم قال: زدني زدني. قال: فأنشدته: يا مريم قومي فاندبي مولاك و علي الحسين فاسعدي ببكاك قال: فبكي و تهايج النساء. قال: فلما ان سكتن قال لي: يا أباهارون من أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكي عشرة فله الجنة، ثم جعل ينقص واحدا واحدا حتي بلغ الواحد فقال: من أنشد في الحسين فأبكي واحدا فله الجنة، ثم قال: من ذكره فبكي فله الجنة (2) . و روي عن الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) قال: كنت عند سيدنا الصادق (عليه السلام) اذ دخل عليه أشجع السلمي يمدحه، فوجده عليلا فجلس و أمسك، فقال له سيدنا الصادق (عليه السلام): عد عن

ص: 267


1- 499. بحارالأنوار: ج 26 ص 231.
2- 500. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 574 ح 508.

العلة، و اذكر ما جئت له، فقال له: ألبسك الله منه عافية في نومك المعتري و في أرقك يخرج من جسمك السقام كما أخرج ذل السؤال من عنقك فقال: يا غلام ايش معك؟ قال: أربعمائة درهم. قال: أعطها للأشجع. قال: فأخذها و شكر و ولي. فقال: ردوه. فقال: يا سيدي سألت فأعطيت، و أغنيت فلم رددتني؟ قال: حدثني أبي، عن آبائه، عن النبي (صلي الله عليه و آله) [انه] قال: «خير العطاء ما أبقي نعمة باقية» و ان الذي أعطيتك لا يبقي لك نعمة باقية، و هذا خاتمي، فان اعطيت به عشرة آلاف درهم، و الا فعد الي وقت كذا و كذا، اوفك اياها. قال: يا سيدي قد أغنيتني، و أنا كثير الأسفار، و أحصل في المواضع المفزعة، فتعلمني ما آمن به علي نفسي. قال: فاذا خفت أمرا فاترك يمينك علي ام رأسك، و اقرأ برفيع صوتك: «أفغير دين الله يبغون و له اسلم من في السموات و الأرض طوعا و كرها و اليه يرجعون» (1) . قال الاشجع: فحصلت في واد تعبث فيه الجن، فسمعت قائلا يقول: خذوه. فقرأتها، فقال قائل: كيف نأخذه، و قد احتجز بآية طيبة (2) .

ص: 268


1- 501. كامل الزيارات: ص 210 ح 301.
2- 502. سورة آل عمران آية 83.

ملامح من السيرة الشخصية للامام الصادق

عن الحسن بن راشد قال: كان أبوعبدالله (عليه السلام) اذا صام تطيب بالطيب و يقول: الطيب تحفة الصائم (1) . و عن معاوية بن عمار قال: رأيت أباعبدالله (عليه السلام) يختضب بالحناء خضابا قانيا (2) . و عن عبدالله بن عثمان أنه رأي أباعبدالله (عليه السلام) احفي شاربه (3) حتي الصقه بالعسيب (4) . و عن اسحاق بن عمار قال: حدثني مسلم مولي لأبي عبدالله (عليه السلام) قال: ترك أبوعبدالله (عليه السلام) السواك قبل أن يقبض بسنتين، و ذلك أن اسنانه ضعفت (5) . و عن عمر بن يزيد قال: أتي رجل أباعبدالله (عليه السلام) يقتضيه و أنا حاضر فقال له: ليس عندنا اليوم شي ء و لكنه يأتينا خطر و وسمة (6) فتباع و نعطيك ان شاء الله، فقال له الرجل: عدني، فقال: كيف اعدك و أنا لما لا أرجو أرجي مني لما أرجو (7) .

ص: 269


1- 503. أمالي الطوسي: ص 281 ح 546. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 310.
2- 504. الكافي: ج 4 ص 113 ح 3.
3- 505. بحارالأنوار: ج 47 ص 46.
4- 506. أحفي شاربه: بالغ في أخذه و استقصي قصة (أقرب الموارد).
5- 507. الكافي: ج 6 ص 487 ح 9 و العسيب: منبت الشعر (مجمع البحرين).
6- 508. علل الشرايع: ص 295. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 17.
7- 509. الخطر: نبات يختضب به. و الوسمة: ورق النيل، أو نبات يختضب بورقه (أقرب الموارد).

و روي أن الامام الصادق (عليه السلام) كان يتصدق بالسكر، فقيل له: أتتصدق بالسكر؟! فقال: نعم، انه ليس شي ء أحب الي منه، فأنا أحب أن أتصدق بأحب الأشياء الي (1) . و عن مرازم بن حكيم قال: أمر أبوعبدالله (عليه السلام) بكتاب في حاجة فكتب، ثم عرض عليه و لم يكن فيه استثناء فقال: كيف رجوتم أن يتم هذا و ليس فيه استثناء؟! انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه (2) . أقول: المقصود من الاستثناء هو قول: ان شاء الله، أو: الا أن يشاء الله، و ما في هذا المعني... كما قال تعالي: «و لا تقولن لشي ء اني فاعل ذلك غدا - الا أن يشاء الله» (3) . و هذا يدل علي لزوم تفويض الانسان اموره الي الله سبحانه و تعليقها بالمشيئة الالهية. و الامام الصادق (عليه السلام) - من خلال هذا الحديث الشريف - يؤكد علي ضرورة الالتزام بذكر المشيئة الالهية في العهود و المواعيد و ما نريد أن نقوم به في المستقبل، القريب أو البعيد، حتي في مجال الرسائل و الكتب التي نكتبها الي هذا و ذاك. و في هذا اعظم الدرس علي أن العبد لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا، و أن الامور كلها بيد الخالق العليم، سبحانه و تعالي.

ص: 270


1- 510. الكافي: ج 5 ص 96 ح 5.
2- 511. بحارالأنوار: ج 47 ص 53.
3- 512. الكافي: ج 2 ص 673 ح 7.

الامام الصادق و الحكمة في التصرف

الحكمة في التصرف - أو: التصرف الحكيم: من الامور التي تدل علي سمو عقل الانسان و نضجه و رشده. و القرآن الكريم يدعو الي ذلك بقوله عزوجل: «ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم - و ما يلقاها الا الذين صبروا و ما يلقاها الا ذو حظ عظيم» (1) . من هنا... فان استخدام الطرق السلمية الناجعة - لحل المشاكل أو الوصول الي الهدف - اولي و أولي من استخدام الطرق الخشنة و الحادة... التي يتسرع الناس اليها عادة. و في حياة الامام الصادق (عليه السلام) نقرأ عشرات القصص و الأحاديث التي تحكي تصرف الامام (عليه السلام) مع الناس بالحكمة و الموعظة الحسنة و بالتي هي أحسن.

ص: 271


1- 513. سورة الكهف آية 23 و 24.

و اليك هذا الحديث: عن محمد بن مرازم، عن أبيه قال: خرجنا مع أبي عبدالله (عليه السلام) حيث خرج من عند أبي جعفر المنصور من الحيرة فخرج ساعة أذن له و انتهي الي السالحين في أول الليل فعرض له عاشر كان يكون في السالحين في أول الليل، فقال له: لا أدعك أن تجوز، فألح عليه و طلب اليه، فأبي اباءا - و أنا و مصادف معه - فقال له مصادف: جعلت فداك انما هذا كلب قد آذاك و أخاف أن يردك و ما أدري ما يكون من أمر أبي جعفر (1) و أنا و مرازم (2) أتأذن لنا أن نضرب عنقه، ثم نطرحه في النهر. فقال: كف يا مصادف، فلم يزل يطلب اليه حتي ذهب من الليل أكثره فأذن له فمضي. فقال: يا مرازم هذا خير أم الذي قلتماه؟ قلت: هذا جعلت فداك. فقال: ان الرجل يخرج من الذل الصغير فيدخله ذلك في الذل الكبير (3) . توضيح الحديث: الظاهر أن الامام الصادق (عليه السلام) خرج من عند المنصور الطاغية آخر النهار، و يبدو أن المنصور لم يأذن في الخروج قبل ذلك. فوصل الامام (عليه السلام) في أول الليل الي موضع يسمي ب: السالحين: و كان بمثابة نقطة تفتيش - علي اصطلاح اليوم - فلم يأذن له

ص: 272


1- 514. سورة فصلت آية 34 و 35.
2- 515. أي المنصور.
3- 516. أي نكون معك.

الجمركي أو الشرطي المسؤول هناك في مواصلة الطريق، و كلما الح عليه الامام... رفض ذلك الرجل. فاقترح مصادف - غلام الامام - علي الامام أن يقوم هو و صاحبه مرازم بقتله، كي يتسني لهم السفر... فلم يأذن له الامام (عليه السلام). حتي اذا ذهب من الليل اكثره... أذن لهم بالسفر، فخرجوا. ثم قال الامام (عليه السلام) لمرازم: هذا خير ام الذي قلتماه؟! أي: لقد اردتما قتل الرجل... و من الواضح ان المسألة سوف لا تتوقف عند هذا الحد، بل قد تتطور، و تبحث الحكومة عن خيوط هذه القضية.... و تقوم القيامة علي المنصور اذا عرف القاتل و من كان معه!! ان المنصور كان يلحق الأذي بالامام و الامام لم يفعل شيئا، فكيف اذا اتهم بقتل احد افراد حكومته... تراه ماذا كان يصنع؟! فهل اقتراح قتل الرجل كان افضل... أم التصرف الحكيم الذي حل القضية بلا مشاكل؟!! و لذلك قال (عليه السلام): «ان الرجل يخرج من الذل الصغير فيدخله ذلك في الذل الكبير». بالاضافة الي أن ذلك الرجل لم يفعل ما يستحق به القتل، فكيف يجوز قتله؟!!

ص: 273

الامام الصادق في أرض الغدير

عن حسان الجمال قال: حملت أباعبدالله (عليه السلام) من المدينة الي مكة، فلما انتهينا الي مسجد الغدير نظر في ميسرة المسجد فقال: ذاك موضع قدم رسول الله (صلي الله عليه و آله) حيث قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه» ثم نظر في الجانب الآخر: فقال: هذا موضع فسطاط أبي فلان و فلان و سالم - مولي أبي حذيفة - و أبي عبيدة بن الجراح، فلما أن رأوه رافعا يده قال بعضهم: أنظروا الي عينيه تدوران كأنهما عين مجنون!! فنزل جبرئيل بهذه الآية: «و ان يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر و يقولون انه لمجنون - و ما هو الا ذكر للعالمين» (1) . ثم قال: يا حسان لو لا انك جمالي لما حدثتك بهذا الحديث (2) .

ص: 274


1- 517. الكافي: ج 8 ص 87 ح 49.
2- 518. سورة القلم آية 51 و 52.

الامام الصادق في أرض عرفات

عن عمرو بن أبي المقدام قال: رأيت اباعبدالله (عليه السلام) يوم عرفة بالموقف، و هو ينادي بأعلا صوته: «أيها الناس: ان رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) كان الامام، ثم كان علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم هه». فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه و عن يمينه و عن يساره و من خلفه، اثني عشر صوتا. و قال عمرو: فلما اتيت مني سألت اصحاب العربية عن تفسير: «هه»؟ فقالوا: هه لغة بني فلان: أنا فاسألوني. قال: ثم سألت غيرهم أيضا من أهل العربية، فقالوا مثل ذلك (1) .

ص: 275


1- 519. التهذيب: ج 3 ص 263 ح 746.

هيبة الدولة و هيبة الدين

ان السلاطين - بما لهم من القدرة، و الخدم و الجيش و الامكانات - و رؤساء القبائل و العشائر - بما لهم من أفراد القبيلة و العشيرة - تتوفر فيهم الهيبة و العزة ما دامت لهم السلطة و الرئاسة، فاذا عزلوا عن الحكم أو الرئاسة زالت هيبتهم، لأن الهيبة حالة تورث الاحساس بالخوف في الرائي، فيوقر السلطان أو الرئيس و يعظمه، و هذه هيبة دنيوية اصطناعية، محدودة، مستعارة. لأن تلك الهيبة وليدة التكبر و الابهة، و عدم الانبساط مع الناس، و كثرة الحجاب و الحرس، و كثرة البطش و الفتك بالناس. و قد يستعين هؤلاء بملابسهم الخاصة التي تميزهم عن غيرهم. و لكن ورد في الحديث: «و اذا أردت عزا بلا عشيرة، و هيبة بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية الله الي عز طاعة الله عزوجل» (1) . و هذه الهيبة منحها الله تعالي لأوليائه و في طليعتهم محمد و آل محمد

ص: 276


1- 520. الكافي: ج 4 ص 466 ح 10.

(صلوات الله عليهم أجمعين) و منهم: الامام الصادق (عليه السلام) فانه كان يتمتع بأوفر نصيب من الهيبة و الجلالة، عند الصديق و العدو، و المؤالف و المخالف، بالرغم من تواضعه مع الناس، و انبساطه لهم في الكلام. و بالرغم من خلوه (عليه السلام) عن قدرة السلاطين و جيوشهم و امكاناتهم. و قد ذكرنا في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) في تراجم بعض أصحابه، كيف كانت تستولي عليهم حالة الخوف و الارتباك حينما كانوا يقابلون الامام من هيبته. حتي قال الامام الصادق (عليه السلام) - لعبد الكريم ابن أبي العوجاء -: فما يمنعك من الكلام؟ فقال: اجلال لك، و مهابة، ما ينطق لساني بين يديك، فاني شاهدت العلماء، و ناظرت المتكلمين فما تداخلني هيبة قط مثل ما تداخلني من هيبتك... الي آخر كلامه. نعم، تلك هي الهيبة الذاتية، التي لا تزول، و لا يزيلها التواضع، و حسن الخلق، و الانبساط و البشاشة. تلك هيبة يمنحها الله من يخافه، لأن من خاف الله أخاف الله منه كل شي ء، و من لم يخف الله أخافه الله من كل شي ء.

ص: 277

الامام الصادق ينصح أحد القضاة

كان الامام الصادق (عليه السلام) ينتهز الفرص لفتح الحوار مع علماء المذاهب الاخري و قضاتهم، و ذلك محاولة منه لاستمالتهم نحو الحق و ارشادهم الي الصراط المستقيم. و قد ذكرنا - في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) - الكثير من المباحثات و المناقشات التي دارت بين الامام الصادق (عليه السلام) و قضاة العامة و علمائهم، حول الامامة و غيرها. و فيما يلي نذكر هذا الحوار الذي تتجلي فيه قوة الحجة عند الامام (عليه السلام) و عدم الحجة عند الطرف الآخر: عن سعيد بن أبي الخضيب (1) قال: دخلت أنا و ابن أبي ليلي المدينة، فبينما نحن في مسجد الرسول (صلي الله عليه و آله) اذ دخل جعفر بن محمد (عليه السلام)، فقمنا اليه فسألني عن نفسي و أهلي، ثم قال: من هذا معك؟

ص: 278


1- 521. بحارالأنوار: ج 44 ص 139 ضمن حديث 6.

فقلت: ابن أبي ليلي قاضي المسلمين. فقال (عليه السلام) له: أنت ابن أبي ليلي قاضي المسلمين؟ فقال: نعم. ثم قال له: أتأخذ مال هذا فتعطيه هذا؟ و تفرق بين المرء و زوجه و لا تخاف في هذا أحدا؟ قال: نعم. قال: فبأي شي ء تقضي؟ قال: بما بلغني عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: أقضاكم علي بعدي؟ قال: نعم. قال: فكيف تقضي بغير قضاء علي (عليه السلام) و قد بلغك هذا!؟ فما تقول اذا جيي ء بأرض من فضة و سماوات من فضة، ثم أخذ رسول الله بيدك فاوقفك بين يدي ربك و قال: يا رب ان هذا قضي بغير ما قضيت؟!! قال: فاصفر وجه ابن أبي ليلي [حتي عاد مثل الزعفران]. ثم قال لي: التمس لنفسك زميلا، فوالله لا اكلمك من رأسي كلمة أبدا (1) .

ص: 279


1- 522..

أقول: حديث: «اقضاكم علي» رواه جمع كثير من المؤرخين و المحدثين، بالفاظ مختلفة، و اسانيد متعددة: منها: قوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «اقضاكم علي» (1) . و منها قوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «اقضي امتي علي» (2) . و منها: قوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «اقضي امتي علي بن أبي طالب» و غيرها (3) .

ص: 280


1- 523. لقد ذكرت هذه المناظرة في مصادر متعددة، مع اختلاف يسير، و قد جمعناها من مصادر متعددة، راجع التهذيب للشيخ الطوسي: ج 6 ص 220 ح 521، و الاحتجاج: ص 353. و بحارالأنوار: ج 47 ص 334.
2- 524. تاريخ ابن خلدون: ج 1 ص 246.
3- 525. سبل الهدي: ج 11 ص 241.

ابوحنيفة بين يدي الامام الصادق

كان النعمان بن ثابت - المعروف بأبي حنيفة - من المنحرفين عن أهل البيت (عليهم السلام) فكرا و عقيدة و عملا، و لكنه - مع ذلك - كان يستأذن علي الامام الصادق (عليه السلام) و يجلس اليه و يستمع الي حديثه (عليه السلام) و يتعلم منه، ايمانا منه بعظمة الامام و علمه الواسع. و ربما ناظره الامام الصادق (عليه السلام) و حاول ارشاده الي الحق من خلال نهيه عن القياس في الدين و غير ذلك. و ربما استخدم المنصور الدوانيقي اباحنيفة لطرح المسائل الصعبة علي الامام الصادق (عليه السلام) محاولة منه لاطفاء نور الله الذي أبي الا أن يتمه. و اليك بعض ما جاء في هذا المجال: ذكر أبوالقاسم البغار في مسند أبي حنيفة: قال الحسن بن زياد: سمعت أباحنيفة - و قد سئل: من افقه من رأيت؟ - قال: جعفر بن محمد،

ص: 281

لما اقدمه المنصور بعث الي فقال: يا أباحنيفة ان الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له من مسائلك الشداد، فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث الي أبوجعفر - و هو بالحيرة -. فأتيته فدخلت عليه، و جعر جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر (المنصور) فسلمت عليه فأومأ الي فجلست، ثم التفت اليه فقال: يا أباعبدالله هذا أبوحنيفة. قال (عليه السلام): نعم اعرفه. ثم التفت الي فقال: يا أباحنيفة ألق علي أبي عبدالله من مسائلك. فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول: انتم تقولون كذا، و أهل المدينة يقولون كذا، و نحن نقول كذا. فربما تابعنا و ربما تابعهم، و ربما خالفنا جميعا. حتي اتيت علي الأربعين مسألة، فما اخل منها بشي ء. ثم قال أبوحنيفة: أليس أن اعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس؟! (1) . و ذكر أن أباحنيفة اكل طعاما مع الامام الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فلما رفع (عليه السلام) يده من أكله قال: «الحمد الله رب العالمين، اللهم ان هذا منك و من رسولك». فقال أبوحنيفة: يا أباعبدالله اجعلت مع الله شريكا؟! فقال له: ويلك ان الله تعالي يقول في كتابه: «و ما نقموا الا أن اغناهم الله و رسوله من فضله» (2) .

ص: 282


1- 526. المناقب للخوارزمي: ص 48.
2- 527. بحارالأنوار: ج 47 ص 217 عن المناقب ج 3 ص 378.

و يقول - في موضع آخر -: «و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله» (1) . فقال أبوحنيفة: والله لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله و لا سمعتهما الا في هذا الوقت!! فقال أبوعبدالله (عليه السلام): بلي قد قرأتهما و سمعتهما، و لكن الله تعالي أنزل فيك و في اشباهك: «أم علي قلوب أقفالها» (2) . و قال «كلا بل ران علي قلوبهم ما كانوا يكسبون» (3) (4) . (5) . و عن عبدالرحمن بن سالم عن أبيه قال: لما قدم أبوعبدالله (عليه السلام) الي أبي جعفر [المنصور] فقال أبوحنيفة لنفر من أصحابه: انطلقوا بنا الي امام الرافضة نسأله عن أشياء نحيره فيها!! فانطلقوا، فلما دخلوا عليه نظر اليه أبوعبدالله (عليه السلام) فقال: اسألك بالله يا نعمان لما صدقتني عن شي ء أسألك عنه، هل قلت لأصحابك: مروا بنا الي امام الرافضة فنحيره؟!! فقال: قد كان ذلك. قال (عليه السلام): فسل ما شئت،... الي آخر الخبر (6) . و عن عيسي بن عبدالله القرشي قال: دخل أبوحنيفة علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له: يا أباحنيفة! بلغني أنك تقيس؟

ص: 283


1- 528. سورة التوبة آية 74.
2- 529. سورة التوبة آية 59.
3- 530. سورة محمد صلي الله عليه و آله و سلم آية 24.
4- 531. سورة المطففين آية 14.
5- 532. سورة المطففين آية 14.
6- 533. بحارالانوار ج 47 ص 240. عن كنز الفوائد للكراجكي: 196.

قال: نعم. قال: لا تقس فان أول من قاس ابليس حين قال: خلقتني من نار و خلقته من طين. فقاس ما بين النار و الطين، و لو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين و صفاء أحدهما علي الآخر (1) . و عن محمد بن مسلم قال: دخل أبوحنيفة علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له: اني رأيت ابنك موسي يصلي و الناس يمرون بين يديه فلا ينهاهم، و فيه ما فيه. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): ادع لي موسي، فلما جاءه قال: يا بني ان أباحنيفة يذكر أنك تصلي و الناس يمرون بين يديك فلا تنهاهم. قال: نعم يا أبة ان الذي كنت أصلي كان أقرب الي منهم، يقول الله تعالي: «و نحن أقرب اليه من حبل الوريد» (2) . قال: فضمه أبوعبدالله (عليه السلام) الي نفسه و قال: بأبي أنت و أمي يا مودع الأسرار. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): يا أباحنيفة القتل عندكم أشد أم الزنا؟ فقال: بل القتل. قال: فكيف أمر الله في القتل بشاهدين و في الزنا بأربعة؟ كيف يدرك هذا بالقياس؟ يا أباحنيفة: ترك الصلاة أشد أم ترك الصيام؟

ص: 284


1- 534. بحارالأنوار: ج 47 ص 130. عن المناقب: ج 4 ص 226.
2- 535. الكافي: ج 1 ص 58 ح 20.

قال: بل ترك الصلاة. قال: فكيف تقضي المرأة صيامها و لا تقضي صلاتها؟!! كيف يدرك هذا بالقياس؟ ويحك - يا أباحنيفة - النساء أضعف علي المكاسب أم الرجال؟ قال: بل النساء. قال: فكيف جعل الله للمرأة سهما و للرجل سهمين؟ فكيف يدرك هذا بالقياس؟ يا أباحنيفة الغائط أقذر أم المني؟ قال: بل الغائط. قال: فكيف يستنجي من الغائط و يغتسل من المني؟ كيف يدرك هذا بالقياس؟ ويحك - يا أباحنيفة - تقول سأنزل مثل ما أنزل الله؟ قال: أعوذ بالله أن أقوله. قال: بلي تقوله أنت و أصحابك من حيث لا تعلمون. قال أبوحنيفة: جعلت فداك حدثني بحديث نحدث به عنك. قال: حدثني أبي محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن جده الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم أجمعين) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله):«ان الله أخذ ميثاق أهل البيت من أعلي عليين و أخذ طينة شيعتنا منا، و لو جهد أهل السماء و أهل الأرض أن يغيروا من ذلك شيئا ما استطاعوه». قال: فبكي أبوحنيفة بكاء [شديدا] و بكي أصحابه، ثم خرج

ص: 285

و خرجوا (1) . و عن الحارث بن التهيان قال: قال لي ابن شبرمة: دخلت أنا و أبوحنيفة علي جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فسلمت عليه و كنت له صديقا، ثم أقبلت علي جعفر فقلت: امتع الله بك، هذا رجل من أهل العراق له فقه و عقل. فقال له جعفر (عليه السلام): لعله الذي يقيس الدين برأيه؟ ثم أقبل علي فقال: هذا النعمان بن ثابت؟ فقال أبوحنيفة: نعم اصلحك الله تعالي. فقال (عليه السلام): اتق الله و لا تقس الدين برأيك، فان أول من قاس ابليس اذ أمره الله بالسجود، فقال: «أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين». ثم قال له جعفر (عليه السلام): هل تحسن أن تقيس رأسك من جسدك؟ قال: لا. قال: فاخبرني عن الملوحة في العينين، و عن المرارة في الأذنين، و عن الماء في المنخرين، و عن العذوبة في الشفتين، لأي شي ء جعل ذلك؟ قال: لا أدري. قال جعفر (عليه السلام): ان الله (عزوجل) خلق العينين فجعلهما شحمتين و جعل الملوحة فيهما منا منه علي ابن آدم و لو لا ذلك لذابتا، و جعل المرارة في الاذنين منا منه علي ابن آدم و لو لا ذلك القمت الدواب فأكلت دماغه، و جعل الماء في المنخرين ليصعد النفس و ينزل و يجد منه

ص: 286


1- 536. سورة ق آية 16.

الريح الطيبة من الريح الردية، و جعل (عزوجل) العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم لذة طعمه و شربه. ثم قال له جعفر (عليه السلام): أخبرني عن كلمة أولها شر و آخرها ايمان. قال: لا أدري. قال: لا اله الا الله. ثم قال له: أيما عند الله (عزوجل): قتل النفس أو الزنا؟ قال: بل قتل النفس. قال له جعفر (عليه السلام): فان الله تعالي قد رضي في قتل النفس بشاهدين و لم يقبل في الزنا الا بأربعة. ثم قال له: أيما أعظم عند الله: الصوم أم الصلاة؟ قال: لا بل الصلاة. قال: فما بال المرأة اذا حاضت تقضي الصيام و لا تقضي الصلاة؟!! اتق الله يا عبدالله، فانا نحن و أنتم غدا و من خالفنا بين يدي الله (عزوجل) فنقول: قلنا: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) و تقول أنت و أصحابك: حدثنا و روينا، فيفعل بنا و بكم ما شاء الله (عزوجل) (1) . و في رواية اخري: ان الامام الصادق (عليه السلام) قال لأبي حنيفة - لما دخل عليه -: من أنت؟ قال: أبوحنيفة. قال (عليه السلام): مفتي أهل العراق؟ قال: نعم.

ص: 287


1- 537. الاختصاص للشيخ المفيد: ص 189. منه بحارالأنوار: ج 10 ص 204.

قال: بما تفتيهم؟ قال: بكتاب الله. قال (عليه السلام): و انك لعالم بكتاب الله ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه؟ قال: نعم. قال: فأخبرني عن قول الله (عزوجل): «و قدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي و أياما آمنين» (1) أي موضع هو؟ قال أبوحنيفة: هو ما بين مكة و المدينة. فالتفت أبوعبدالله (عليه السلام) الي جلسائه و قال: نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة و المدينة و لا تأمنون علي دمائكم من القتل و علي أموالكم من السرق؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): ويحك يا أباحنيفة ان الله لا يقول الا حقا، أخبرني عن قول الله (عزوجل): «و من دخله كان آمنا» (2) ، أي موضع هو؟ قال: ذلك بيت الله الحرام، فالتفت أبوعبدالله (عليه السلام) الي جلسائه و قال: نشدتكم بالله هل تعلمون أن عبدالله بن الزبير و سعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟ قالوا: اللهم نعم. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): ويحك يا أباحنيفة ان الله لا يقول

ص: 288


1- 538. أمالي الطوسي: ص 645 ح 1338 الطبعة الحديثة.
2- 539. سورة سبأ آية 18.

الا حقا. فقال أبوحنيفة: ليس لي علم بكتاب الله، انما أنا صاحب قياس. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): فانظر في قياسك ان كنت مقيسا أيما أعظم عند الله القتل أو الزنا؟ قال: بل القتل. قال: فكيف رضي في القتل بشاهدين و لم يرض في الزنا الا بأربعة؟ ثم قال له: الصلاة أفضل أم الصيام؟ قال: بل الصلاة أفضل. قال (عليه السلام): فيجب - علي قياس قولك - علي الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، و قد أوجب الله تعالي عليها قضاء الصوم دون الصلاة. [ثم] قال له: البول أقذر أم المني؟ قال: البول أقذر. قال (عليه السلام): يجب علي قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني و قد أوجب الله تعالي الغسل من المني دون البول. قال: انما أنا صاحب رأي. قال (عليه السلام): فما تري في رجل كان له عبد فتزوج و زوج عبده في ليلة واحدة فدخلا بامر أتيهما في ليلة واحدة، ثم سافرا و جعلا امر أتيهما في بيت واحد فولدتا غلامين، فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين و بقي الغلامان، أيهما - في رأيك - المالك و أيهما المملوك؟ و أيهما الوارث و أيهما الموروث؟ قال: انما أنا صاحب حدود!

ص: 289

قال: فما تري في رجل أعمي فقأ عين صحيح، و أقطع (1) قطع يد رجل كيف يقام عليهما الحد؟ قال: انما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء! قال: فأخبرني عن قول الله تعالي لموسي و هارون - حين بعثهما الي فرعون -: «لعله يتذكر أو يخشي» (2) .و «لعل» منك شك؟ قال: نعم. قال: فكذلك من الله شك اذ قال: لعله؟ قال أبوحنيفة: لا علم لي! قال (عليه السلام): تزعم أنك تفتي بكتاب الله و لست ممن ورثه، و تزعم أنك صاحب قياس و أول من قاس ابليس، و لم يبن دين الاسلام علي القياس، و تزعم أنك صاحب رأي و كان الرأي من رسول الله (صلي الله عليه و آله) صوابا و من دونه خطأ، لأن الله تعالي قال: «لتحكم بين الناس بما أراك الله» (3) .و لم يقل ذلك لغيره، و تزعم أنك صاحب حدود و من انزلت عليه أولي بعلمها منك، و تزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء و لخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك، و لو لا أن يقال دخل علي ابن رسول الله فلم يسأله عن شي ء ما سألتك عن شي ء، فقس ان كنت مقيسا. قال أبوحنيفة: لا أتكلم بالرأي و القياس في دين الله بعد هذا المجلس. قال: كلا ان حب الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان

ص: 290


1- 540. سورة آل عمران آية 97.
2- 541. الأقطع: مقطوع اليد.
3- 542. سورة طه آية 44.

قبلك...» الي آخر الحديث (1) . أقول: انما طرح الامام الصادق (عليه السلام) هذه المسائل علي أبي حنيفة ليثبت له عجزه عن استنباط الأحكام الشرعية و جهله بتفسير الآيات القرآنية، و أن الطريق في ذلك كله منحصر في الرجوع الي الامام المعصوم الحق، الذي نص عليه رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و ورث علوم جده المصطفي الأمين. و عن أبي زهير بن شبيب بن أنس، عن بعض أصحابه، قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) اذ دخل عليه غلام من كندة فاستفتاه في مسألة فأفتاه فيها، فعرفت الغلام و المسألة، فقدمت الكوفة فدخلت علي أبي حنيفة، فاذا ذاك الغلام بعينه يستفتيه في تلك المسألة بعينها فأفتاه فيها بخلاف ما أفتاه أبوعبدالله (عليه السلام)، فقمت اليه فقلت: ويلك يا أباحنيفة اني كنت العام حاجا فأتيت أباعبدالله (عليه السلام) مسلما عليه فوجدت هذا الغلام يستفتيه في هذه المسألة بعينها فأفتاه بخلاف ما أفتيته. فقال: و ما يعلم جعفر بن محمد؟!! أنا أعلم منه، أنا لقيت الرجال و سمعت من أفواههم، و جعفر بن محمد صحفي أخذ العلم من الكتب. فقلت في نفسي: والله لأحجن و لو حبوا. قال: فكنت في طلب حجة فجاءتني حجة فحججت فأتيت أباعبدالله (عليه السلام) فحكيت له الكلام فضحك ثم قال: أما في قوله: اني رجل صحفي فقد صدق، قرأت صحف آبائي ابراهيم و موسي. فقلت له: و من له بمثل تلك الصحف؟!! قال: فما لبثت أن طرق الباب طارق - و كان عنده (عليه السلام)

ص: 291


1- 543. سورة النساء آية 105.

جماعة من أصحابه - فقال للغلام: انظر من ذا؟ فرجع الغلام فقال: أبوحنيفة. قال: أدخله. فدخل فسلم علي أبي عبدالله (عليه السلام) فرد عليه السلام، ثم قال: أصلحك الله أتأذن لي في القعود؟ فأقبل (عليه السلام) علي أصحابه يحدثهم و لم يلتفت اليه. ثم قال الثانية و الثالثة فلم يلتفت اليه، فجلس أبوحنيفة من غير اذنه، فلما علم أنه قد جلس التفت اليه فقال: أين أبوحنيفة؟ فقيل: هو ذا، أصلحك الله. فقال: أنت فقيه أهل العراق. قال: نعم. قال: فبما تفتيهم؟ قال: بكتاب الله و سنة نبيه. قال: أباحنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته و تعرف الناسخ و المنسوخ؟ قال: نعم. قال: يا أباحنيفة و لقد ادعيت علما، ويلك ما جعل الله ذلك الا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك و لا هو الا عند الخاص من ذرية نبينا (صلي الله عليه و آله)، و ما ورثك الله من كتابه حرفا، فان كنت كما تقول - و لست كما تقول - فأخبرني عن قول الله (عزوجل): «سيروا فيها ليالي و أياما آمنين» (1) .أين ذلك من الأرض؟ قال: أحسبه ما بين مكة و المدينة.

ص: 292


1- 544. الاحتجاج: ص 360. منه بحارالأنوار: ج 2 ص 287.

فالتفت أبوعبدالله (عليه السلام) الي أصحابه فقال: تعلمون أن الناس يقطع عليهم بين المدينة و مكة فتؤخذ أموالهم و لا يأمنون علي أنفسهم و يقتلون؟ قالوا: نعم. قال: فسكت أبوحنيفة...» الي آخر الحديث و هو قريب من الحديث السابق (1) . و جاء أبوحنيفة اليه ليسمع منه، و خرج الامام يتوكأ علي عصا، فقال له أبوحنيفة: يابن رسول الله ما بلغت من السن ما تحتاج معه الي عصا. قال (عليه السلام): هو كذلك، و لكنها عصا رسول الله اردت التبرك بها. فوثب أبوحنيفة اليه و قال له: اقبلها يابن رسول الله. فحسر أب عبدالله (عليه السلام) عن ذراعه و قال له: والله لقد علمت أن هذا بشر رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و أن هذا من شعره، فما قبلته و تقبل عصا؟! (2) .

ص: 293


1- 545. سورة سبأ آية 18.
2- 546. بحارالأنوار: ج 2 ص 292.

مالك بن أنس بين يدي الامام الصادق

مالك بن أنس - امام المذهب المالكي و فقيه المدينة - كان يستأذن علي حجة الله: الامام الصادق (عليه السلام) و يجلس بين يديه بكل تواضع و ادب، و ينهل من منهل علومه. و له كلمات رائعة يصف بها الامام الصادق (عليه السلام) و يحكي جانبا من سيرته الشريفة و اخلاقه الرفيعة و سلوكه الطيب و شخصيته الالهية الفذة. عن محمد بن زياد الأزدي قال: سمعت مالك بن أنس فقيه المدينة يقول: كنت أدخل الي الصادق جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فيقدم لي مخدة، و يعرف لي قدرا و يقول: «يا ملك اني احبك» فكنت أسر بذلك و أحمد الله تعالي عليه. قال: و كان (عليه السلام) [رجلا] لا يخلوا من احدي ثلاث خصال: اما صائما: و اما قائما، و اما ذاكرا، و كان من عظماء العباد، و أكابر الزهاد

ص: 294

الذين يخشون الله (عزوجل)، و كان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد، فاذا قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) اخضر مرة، و اصفر اخري حتي ينكره من كان يعرفه. و لقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الاحرام، كان كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، و كاد أن يخر من راحلته فقلت: قل يابن رسول الله، و لابد لك من أن تقول. فقال: يابن أبي عامر كيف أجسر أن أقول: لبيك اللهم لبيك و أخشي أن يقول (عزوجل) لي: لا لبيك و لا سعديك (1) . و عن النوفلي قال: سمعت مالك بن أنس الفقيه يقول: والله ما رأت عيني افضل من جعفر بن محمد زهدا و فضلا و عبادة و ورعا. و كنت اقصده فيكر مني و يقبل علي، فقلت له يوما: يابن رسول الله ما ثواب من صام يوما من رجب ايمانا و احتسابا؟ فقال - و كان والله اذا قال صدق: حدثني ابي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): من صام يوما من رجب ايمانا و احتسابا غفر له. فقلت له: يابن رسول الله فما ثواب من صام يوما من شعبان؟ قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): من صام يوما من شعبان ايمانا و احتسابا غفر له (2) .

ص: 295


1- 547. بحارالأنوار: ج 47 ص 28.
2- 548. علل الشرايع: ص 234 ح 4 - أمالي الصدوق: ص 143 ح 3 - الخصال: ص 167 ح 219.

من مناظرات أصحاب الامام الصادق حول الامامة

اشارة

عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبدالله (عليه السلام) جماعة من أصحابه، منهم حمران بن أعين و محمد بن النعمان و هشام بن سالم و الطيار و جماعة فيهم هشام بن الحكم و هو شاب. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟ و كيف سألته؟ فقال هشام: يابن رسول الله اني اجلك و أستحييك و لا يعمل لساني بين يديك. فقال أبوعبدالله: اذا أمرتكم بشي ء فافعلوا. قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة، فعظم ذلك علي فخرجت اليه و دخلت البصرة يوم الجمعة، فأتيت مجسد البصرة فاذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد و عليه شملة سوداء مترز بها من صوف، و شملة مرتد بها و الناس يسألونه، فاستفرجت الناس

ص: 296

فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم علي ركبتي، ثم قلت: أيها العالم اني رجل غريب تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم. فقلت له: ألك عين؟ فقال: يا بني أي شي ء هذا من السؤال و شي ء تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي. فقال: يا بني سل و ان كانت مسألتك حمقاء. قلت: أجبني فيها. قال لي: سل. قلت: ألك عين؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟ قال: أري بها الألوان و الأشخاص. قلت: فلك أنف؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قلت: أشم به الرائحة. قلت: ألك فم؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم. قلت: فلك اذن؟

ص: 297

قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: اميز به كلما ورد علي هذه الجوارح و الحواس. قلت: أو ليس في هذه الجوارح غني عن القلب؟ فقال: لا. قلت: و كيف ذلك و هي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني ان الجوارح اذا شكت في شي ء - شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته - ردته الي القلب فيستيقن اليقين و يبطل الشك. قال هشام: فقلت له: فانما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم. قلت: لابد من القلب و الا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم. فقلت له: يا أبامروان فالله (تبارك و تعالي) لم يترك جوارحك حتي جعل لها اماما يصحح لها الصحيح، و يتيقن به ما شك فيه، و يترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم و شكهم و اختلافهم؟ لا يقيم لهم اماما يردون اليه شكهم و حيرتهم، و يقيم لك اماما لجوارحك ترد اليه حيرتك و شكك؟! قال: فسكت و لم يقل لي شيئا.

ص: 298

ثم التفت الي فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟ فقلت: لا. قال: أمن جلسائه؟ قلت: لا. قال: فمن أين أنت؟ قال: قلت: من أهل الكوفة؟ قال: فأنت اذا هو. ثم ضمني اليه و أقعدني في مجلسه و زال عن مجلسه و ما نطق حتي قمت. قال: فضحك أبوعبدالله (عليه السلام) و قال: يا هشام من علمك هذا؟! قلت: شي ء أخذته منك و ألفته. فقال: هذا والله مكتوب في صحف ابراهيم و موسي (1) . أقول: يبدو أن هشام بن الحكم رأي المصلحة في عدم ذكر اسمه اذ لو صرح بذلك لوقع في الأذي و المحنة من ذلك القاضي المنحرف و من جماعته، فعمل بالتقية وقاية منهم، و يدل علي ذلك سكوت الامام الصادق (عليه السلام) و عدم انكاره عليه لعدم ذكر اسمه لعمرو بن عبيد، و علي كل حال فالرجل من خيرة الرواة الصادقين الثقاة. و عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: اني رجل صاحب كلام و فقه و فرائض و قد جئت لمناظرة أصحابك.

ص: 299


1- 549. بحارالأنوار: ج 47 ص 20 ح 16.

فقال أبوعبدالله (عليه السلام): كلامك من كلام رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و من عندي. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): فأنت اذا شريك رسول الله؟ قال: لا. قال: فسمعت الوحي عند الله (عزوجل) يخبرك؟ قال: لا. قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)؟ قال: لا. فالتفت أبوعبدالله (عليه السلام) الي فقال: يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم. ... ثم قال لي: أخرج الي الباب فانظر من تري من المتكلمين فأدخله. قال: فأدخلت حمران بن أعين و كان يحسن الكلام، و أدخلت الأحول و كان يحسن الكلام، و أدخلت هشام بن سالم و كان يحسن الكلام، و أدخلت قيس بن الماصر و كان عندي أحسنهم كلاما، و كان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين (عليهماالسلام). فلما استقر بنا المجلس - و كان أبوعبدالله (عليه السلام) قبل الحج يستقر أياما في جبل في طرف الحرم في فازة (1) له مضروبة -. قال: فأخرج أبوعبدالله (عليه السلام) رأسه من فازته فاذا هو ببعير

ص: 300


1- 550. الكافي: ج 1 ص 169 ح 3.

يخب فقال: هشام و رب الكعبة (1) . قال: فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له، قال: فورد هشام بن الحكم و هو أول ما اختطت لحيته، و ليس فينا الا من هو أكبر سنا منه. قال: فوسع له أبوعبدالله (عليه السلام) و قال: ناصرنا بقلبه و لسانه و يده. ثم قال: يا حمران كلم الرجل، فكلمه فظهر عليه حمران. ثم قال: يا طاقي كلمه، فكلمه فظهر عليه الأحول. ثم قال: يا هشام بن سالم كلمه، فتعارفا (2) ثم قال أبوعبدالله (عليه السلام) لقيس الماصر: كلمه. فكلمه. فأقبل أبوعبدالله (عليه السلام) يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي. فقال للشامي: كلم هذا الغلام - يعني هشام بن الحكم -. فقال: نعم، فقال لهشام: يا غلام سلني في امامة هذا، فغضب هشام حتي ارتعد، ثم قال للشامي: يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟ فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه.

ص: 301


1- 551. الفازة: مظلة بين عمودين (مجمع البحرين).
2- 552. يعني: هذا الراكب هشام: و قوله: «يخب» من الخبب و هو نوع من العدو. و قوله الآتي: «فظننا... الي آخره» أي: ظننا أنه يريد بقوله هشام، رجلا من ولد عقيل.

قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال: أقام لهم حجة و دليلا كي لا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألفهم، و يقيم أودهم و يخبرهم بفرض ربهم. قال: فمن هو؟ قال: رسول الله. قال هشام: فبعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)؟ قال: الكتاب و السنة. قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب و السنة في رفع الاختلاف عنا؟ قال الشامي: نعم. قال: فلم اختلفنا أنا و أنت و صرت الينا من الشام في مخالفتنا اياك؟ قال: فسكت الشامي. قال أبوعبدالله (عليه السلام) للشامي: مالك لا تتكلم؟ قال الشامي: ان قلت: لم نختلف كذبت و ان قلت: ان الكتاب و السنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه، و ان قلت: قد اختلفنا و كل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا - اذا - الكتاب و السنة. الا أن لي عليه هذه الحجة. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): سله تجده مليا. فقال الشامي: يا هذا من أنظر للخلق أربهم أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم. فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم و يقيم أودهم و يخبرهم بحقهم من باطلهم؟ قال هشام: في وقت رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أو الساعة؟

ص: 302

قال الشامي: في وقت رسول الله: رسول الله، و الساعة من؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشد اليه الرحال و يخبرنا بأخبار السماء [و الأرض]، وراثة عن أب عن جد. قال الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال هشام: سلمه عما بدا لك. قال الشامي: قطعت عذري فعلي السؤال. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): يا شامي، اخبرك كيف كان سفرك و كيف كان طريقك؟ كان كذا و كذا، فأقبل الشامي يقول: صدقت، أسلمت لله الساعة. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): بل آمنت بالله الساعة، ان الاسلام قبل الايمان و عليه يتوارثون و يتناكحون، و الايمان عليه يثابون. فقال الشامي: صدقت، فأنا الساعة أشهد أن لا الا الا الله و أن محمدا رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و أنك وصي الأوصياء...» الي آخر الحديث (1) .

ص: 303


1- 553. أي لم يغلب أحدهما علي الآخر. (الوافي).

استجابة دعاء الامام الصادق

اشاره

ليس من الغريب أن يستجيب الله تعالي دعاء المؤمن، و يقضي حوائجه، و خاصة بعد الانتباه الي الآيات التي يأمر الله تعالي فيها عباده بالدعاء و التضرع اليه، و يعدهم الاجابة بقوله: «ادعوني أستجب لكم» (1) . و الفرق - بين الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام) و بين غيرهم - عظيم و كبير، لأن أولياء الله. أولا: لا يحجب دعاؤهم عن الله تعالي، لأن الذنوب هي التي تحبس الدعاء، و أولياء الله منزهون معصومون عن الذنوب، فمن الطبيعي أن تكون دعواتهم مقرونة بالاستجابة من الله تعالي، و ذلك لمكانتهم و قربهم من الله (عزوجل). ثانيا: ان أولياء الله يعلمون المصالح الربانية، و الحكم الالهية، فيدعون اذا اقتضت الحكمة الالهية، و الا فهم مستسلمون حتي يجري قضاء

ص: 304


1- 554. الكافي: ج 1 ص 171 ح 4.

الله و قدره، لأن في ذلك القضاء و القدر مصالح مكتومة، قد تظهر للناس، و قد تبقي مكتومة في مخزون علم الله تعالي. و علي هذا الأساس: دعا الامام الصادق (عليه السلام) لبعض الناس، و دعا علي بعضهم و استجاب الله دعاءه للناس و عليهم، و الأمثلة كثيرة ذكرناها في موسوعتنا - موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) -. و استجابة دعاء الامام الصادق (عليه السلام) - المعصوم، الذي لم يعص الله طرفة عين - ليست بعجيبة، خاصة و أنه مزود بالاسم الأعظم الذي هو الكل في الكل، من المستحيل أن يرد دعاء أحد اذا أقسم سعلي الله بالاسم الأعظم. و ربما استجاب الله دعاء الامام فورا، و ربما استجاب الله دعاءه بعد فترة قصيرة من الزمن كالدعاء لبعض أصحابه بكثرة المال و الولد و الحج خمسين مرة. و فيما يلي نذكر نماذج من استجابة دعائه (عليه السلام) فورا:

التوسل بالامام الصادق للشفاء

عن سدير الصيرفي قال: جاءت الي أبي عبدالله (عليه السلام) فقالت له: جعلت فداك، أبي و امي و اهل بيتي نتولاكم. فقال لها أبوعبدالله (عليه السلام): صدقت، فما الذي تريدين؟ قالت له المرأة: جعلت فداك يابن رسول الله، اصابني وضح في عضدي (1) ، فادع الله ان يذهب به عني. قال أبوعبدالله (عليه السلام): اللهم انك تبرئ الأكمه و الأبرص و تحيي

ص: 305


1- 555. سورة غافر آية 60.

العظام و هي رميم، ألبسها من عفوك و عافيتك ما تري أثر اجابة دعائي. فقالت المرأة: والله لقد قمت و ما بي منه قليل و لا كثير (1) . أيها القارئ الكريم: ان هذه المرأة كانت تؤمن بأن الشفاء بيد الله تعالي، و لكنها في نفس الوقت ادركت - بفطرتها السليمة - أن التوسل الي الله تعالي بالامام الصادق الطاهر المعصوم (عليه السلام) هو خير ضمان لشفائها من المرض الذي اصابها. و لهذا فقد جاءت اليه تسأله الدعاء و الشفاعة الي الله سبحانه لشفائها. و لم يخيب الامام الصادق (عليه السلام) ظنها و رجاءها و لم يرفض طلبها، و لم يقل لها: هذا شرك، هذا كفر، هذا حرام - كما تزعم الفرقة الضالة - بل استجاب لها و لبي طلبها فورا، و استجاب الله دعاء الامام فورا و قبل ان تقوم المرأة من مقامها. و هذا المعني هو المستفاد من القرآن الكريم، حيث قال عز من قائل: «و لو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما» (2) .فجعل التوسل بالرسول و دعاء الرسول لهم سببا للمغفرة و الاستجابة. و من الواضح أن أهل بيت رسول الله (عليهم السلام) لهم نفس المنزلة و الوجاهة عند الله سبحانه، و التوسل بهم الي الله ضمان وثيق للاستجابة. و روي عن اسحاق و اسماعيل، و يونس بني عمار: انه استحال وجه

ص: 306


1- 556. الوضح: البرص (مجمع البحرين).
2- 557. بحارالأنوار: ج 47 ص 64.

يونس الي البياض (1) فنظر الصادق (عليه السلام) الي جبهته، فصلي ركعتين، ثم حمد الله و أثني عليه، و صلي علي النبي (صلي الله عليه و آله) ثم قال: «يا الله يا الله يا الله، يا رحمن يا رحمن يا رحمن، يا رحيم يا رحيم يا رحيم، يا ارحم الراحمين، يا سميع الدعوات، يا معطي الخيرات، صل علي محمد و علي أهل بيته الطاهرين الطيبين، و اصرف عني شر الدنيا و شر الآخرة، [و أذهب عني شر الدنيا و شر الآخرة] و أذهب عني ما بي فقد غاظني ذلك و أحزنني». قال: فوالله، ما خرجنا من المدينة حتي تناثر [البياض] عن وجهه مثل النخالة و ذهب. قال الحكم بن مسكين: و رأيت البياض بوجهه، ثم انصرف و ليس في وجهه شي ء (2) . أقول: هكذا وجدنا في المصدر، و لعل الأصح: ان الامام أمره أن يصلي ركعتين و يدعو بذلك الدعاء. أو كانت العبارة: «و اصرف عنه» و هكذا بقية الفقرات. و عن بكر بن محمد الأزدي قال: عرض لقرابة لي (3) و نحن في طريق مكة - و أحسبه قال: بالربذة (4) - فلما صرنا الي أبي عبدالله (عليه السلام) ذكرنا ذلك له، و سألناه الدعاء

ص: 307


1- 558. سورة النساء آية 64.
2- 559. البياض: البرص.
3- 560. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 232. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 133.
4- 561. عرض الرجل: جن (أقرب الموارد).

له، ففعل. قال بكر: فرأيت الرجل حيث عرض له، و رأيته حيث أفاق (1) . و عن اسماعيل بن الأرقط - و امه و ام سلمة أخت أبي عبدالله (عليه السلام) - قال: مرضت في شهر رمضان مرضا شديدا حتي ثقلت، و اجتمعت بنوهاشم ليلا للجنازة و هم يرون أني ميت، فجزعت امي علي، فقال لها أبوعبدالله (عليه السلام) خالي: اصعدي الي فوق البيت فابرزي الي السماء و صلي ركعتين فاذا سلمت فقولي: «اللهم انك وهبته لي و لم يك شيئا اللهم و اني أستوهبكه مبتدئا فأعرنيه». قال: ففعلت فأفقت و قعدت، و دعوا بسحور لهم هريسة فتسحروا بها و تسحرت معهم (2) . و عن معاوية بن وهب: صدع ابن لرجل من أهل مرو فشكا ذلك الي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: ادنه مني، قال: فمسح علي رأسه ثم قال: «ان الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا و لئن زالتا ان أمسكهما من أحد من بعده» (3) فبرأ باذن الله (4) . و عن جميل قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فدخلت عليه امرأة و ذكرت أنها تركت ابنها و قد قالت بالملحفة علي وجهه ميتا (5) فقال

ص: 308


1- 562. الربذة: قرية معروف قرب المدينة (مجمع البحرين). و فيها مرقد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) الذي شهد له رسول الله بالجنة و أنه أصدق الصحابة لهجة، و من المؤسف أن السلطات الحاكمة قد غيرت اسم الربذة الي: الواسطة.
2- 563. قرب الاسناد: ص 9. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 63.
3- 564. الكافي: ج 3 ص 478 ح 6.
4- 565. سورة فاطر آية 41.
5- 566. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 232. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 134.

لها: لعله لم يمت فقومي فاذهبي الي بيتك فاغتسلي و صلي ركعتين و ادعي و قولي: «يا من وهبه لي و لم يك شيئا جدد هبته لي». ثم حركيه و لا تخبري بذلك أحدا. قالت: ففعلت، فحركته فاذا هو قد بكي (1) .

التوسل بالامام الصادق لرفع البلاء

روي أن الامام الصادق (عليه السلام) كان تحت الميزاب (2) و معه جماعة، اذ جاءه شيخ فسلم، ثم قال: يابن رسول الله! اني لأحبكم أهل البيت -، و أبرأ من عدوكم، و اني ابتليت ببلاء شديد، و قد أتيت البيت [الكعبة] متعوذا به مما أجد، و تعلقت بأستاره، ثم أقبلت اليك و أنا أرجو أن يكون سبب عافيتي مما أجد. ثم بكي و أكب علي أبي عبدالله (عليه السلام) يقبل رأسه و رجليه و جعل أبوعبدالله (عليه السلام) يتنحي عنه (3) فرحمه و بكي. ثم قال: هذا أخوكم، و قد أتاكم متعوذا بكم، فارفعوا أيديكم. فرفع أبوعبدالله (عليه السلام) يديه، و رفعنا أيدينا، ثم قال (عليه السلام): «أللهم! انك خلقت هذه النفس من طينة أخلصتها، و جعلت منها

ص: 309


1- 567. أي أشارت الي وجهه بالملحفة أو ألقتها، فان في معني القول توسعا يطلق علي معان كثيرة: في النهاية: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال، فتقول: قال بيده أي أخذ، و قال برجله أي مشي، و كل ذلك علي المجاز توسعا... هذا و لعل الصحيح: و قد مالت بالملحفة.
2- 568. الكافي: ج 3 ص 479 ح 11.
3- 569. أي ميزاب الكعبة.

أولياءك و أولياء أوليائك، و ان شئت أن تنحي عنها الأفات فعلت. اللهم! و قد تعوذ [نا] ببيتك الحرام الذي يأمن به كل شي ء، اللهم و قد تعوذ بنا، و أنا أسألك: يا من احتجب بنوره عن خلقه، أسألك - بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين - يا غاية كل محزون و ملهوف و مكروب، و مضطر مبتلي - أن تؤمنه بأماننا مما يجد، و أن تمحو من طينته ما قدر عليها من البلاء، و أن تفرج كربته يا أرحم الراحمين». فلما فرغ من الدعاء انطلق الرجل، فلما بلغ باب المسجد رجع و بكي، ثم قال: «الله أعلم حيث يجعل رسالته» (1) ، والله ما بلغت باب المسجد و بي مما أجد قليل و لا كثير، ثم ولي (2) .

الامام الصادق يدعو علي الناصبي بالهلاك

قال الميثمي (3) : ان رجلا حدثه قال: كنا نتغدي مع أبي عبدالله (عليه السلام) فقال - لغلامه -: انطلق و ائتنا بماء زمزم (4) ، فانطلق الغلام، فما لبث أن جاء و ليس معه ماء، فقال [الغلام] ان غلاما من غلمان زمزم منعني الماء، و قال: تريد لإله العراق؟! فتغير لون أبي عبدالله (عليه السلام) و رفع يده عن الطعام، و تحركت شفتاه، ثم قال - للغلام - ارجع، فجئنا بالماء.

ص: 310


1- 570. أي: تنحي حتي يمنعه من تقبيل رجليه.
2- 571. سورة الانعام آية 124.
3- 572. دعوات الراوندي: ص 204 ح 557. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 122.
4- 573. الميثمي: هو علي بن اسماعيل بن شعيب بن ميثم بن يحيي التمار.

ثم أكل، فلم يلبث أن جاء الغلام بالماء، و هو متغير اللون، فقال [الامام]: ما وراك؟ قال: سقط ذلك الغلام في بئر زمزم، فتقطع، و هم يخرجونه. فحمد الله عليه (1) .

الامام الصادق يدعو علي الوالي بالهلاك

عن ابن سنان قال: كنا بالمدينة حين بعث داود بن علي [والي المدينة] الي المعلي بن خنيس فقتله. فجلس أبوعبدالله (عليه السلام) فلم يأته شهرا. قال: فبعث [الوالي] اليه أن ائتني، فأبي أن يأتيه. فبعث اليه خمس نفر من الحرس فقال: ائتوني به، فان ابي فائتوني به أو برأسه!! فدخلوا عليه و هو يصلي و نحن نصلي معه الزوال فقالوا: أحب داود بن علي. قال (عليه السلام): فان لم اجب؟ قالوا: أمرنا أن نأتيه برأسك؟ فقال: و ما اظنكم تقتلون ابن رسول الله. قالوا: ما ندري ما تقول، و ما نعرف الا الطاعة. قال (عليه السلام): انصرفوا فانه خير لكم في دنياكم و آخرتكم. قالوا: والله لا ننصرف حتي نذهب بك معنا أو نذهب برأسك. قال [الراوي]: فلما علم أن القوم لا يذهبون الا بذهاب رأسه و خاف علي نفسه، قالوا: رأيناه قد رفع يديه فوضعهما علي منكبيه ثم بسطهما،

ص: 311


1- 574. زمزم: اسم بئر بمكة (مجمع البحرين).

ثم دعا بسبابته فسمعناه يقول: الساعة الساعة. فسمعنا صراخا عاليا، فقالوا له: قم. فقال لهم: أما ان صاحبكم قد مات، و هذا الصراخ عليه، فابعثوا رجلا منكم، فان لم يكن هذا الصراخ عليه قمت معكم. قال: فبعثوا رجلا منهم، فما لبث أن اقبل فقال: يا هؤلاء قد مات صاحبكم، و هذا الصراخ عليه. فانصرفوا. فقلت له: جعلنا الله فداك، ما كان حاله؟ قال: قتل مولاي المعلي بن خنيس، فلم آته منذ شهر، فبعث الي أن آتيه، فلما ان كان الساعة لم آته، فبعث الي ليضرب عنقي، فدعوت الله باسمه الأعظم، فبعث الله اليه ملكا بحربة، فطعنه في مذاكيره فقتله. فقلت له: فرفع اليدين ما هو؟ قال: الابتهال. فقلت: فوضع يديك و جمعهما؟ فقال: التضرع. قلت: و رفع الاصبع؟ قال: البصبصة (1) .

الامام الصادق يسأل الله طعاما و لباسا

و عن الليث بن سعد قال: حججت سنة ثلاث عشرة و مائة، فأتيت مكة، فلما صليت العصر رقيت أباقبيس (2) و اذا أنا برجل جالس، و هو

ص: 312


1- 575. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 613 ح 9. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 98.
2- 576. بحارالأنوار: ج 47 ص 66.

يدعو فقال: «يا رب يا رب» حتي انقطع نفسه، ثم قال: «رب رب» حتي انقطع نفسه، ثم قال: «يا الله يا الله» حتي انقطع نفسه، ثم قال: «يا حي يا حي» حتي انقطع نفسه، ثم قال: «يا رحيم يا رحيم» حتي انقطع نفسه، ثم قال: «يا ارحم الراحمين» حتي انقطع نفسه سبع مرات، ثم قال: «اللهم! اني أشتهي من هذا العنب فأطعمنيه، اللهم! و ان بردي قد أخلقا». قال الليث: فوالله ما استتم كلامه حتي نظرت الي سلة مملوءة عنبا، و ليس علي الأرض - يومئذ - عنب، و بردين جديدين موضوعين، فأراد أن يأكل فقلت له: أنا شريكك! فقال لي: و لم؟ فقلت: لأنك كنت تدعو و أنا أومن (1) . فقال لي: تقدم فكل، و لا تخبي ء شيئا. فتقدمت فأكلت شيئا لم آكل مثله قط، و اذا عنب لا عجم (2) له، فأكلت حتي شبعت و السلة لم تنقص. ثم قال لي: خذ أحد البردين اليك. فقلت: أما البردان فاني غني عنهما. فقال لي: توار عني حتي ألبسهما (3) فتواريت عنه، فاتزر بالواحد، و ارتدي بالآخر ثم أخذ البردين اللذين كانا عليه [قبل ذلك] فجعلهما علي يده و نزل، فاتبعته، حتي اذا كان بالمسعي لقيه رجل فقال: اكسني، كساك

ص: 313


1- 577. اسم جبل في مكة يقرب من الكعبة (مجمع البحرين).
2- 578. أي كنت أقول: آمين.
3- 579. العجم: النوي نوي التمر و النبق و كل ما كان في جوف مأكول كالزبيب و ما أشبهه (لسان العرب).

الله. فدفعهما اليه، فلحقت الرجل [السائل] فقلت: من هذا؟ قال: هذا جعفر بن محمد (عليهماالسلام). قال الليث: فطلبته لأسمع منه فلم أجده، فيا لهذه الكرامة ما أسناها! و يا لهذه المنقبة ما أعظم صورتها و معناها!! (1) . قال مؤلف كتاب (كشف الغمة): «حديث الليث مشهور، و قد ذكره جماعة من الرواة و نقلة الحديث. و قد أورد هذا الحديث جماعة من الأعيان، و ذكره الشيخ الحافظ أبوالفرج ابن الجوزي في كتابه (صفة الصفوة) و كلهم يرويه عن الليث، و كان ثقة معتبرا».

التوسل بالامام الصادق لحوائج متعددة

روي أن حماد بن عيسي سأل الامام الصادق (عليه السلام) أن يدعو له ليرزقه الله ما يحج به كثيرا، و أن يرزقه ضياعا (2) حسنة، و دارا حسناء، و زوجة من أهل البيوتات صالحة، و أولاد أبرارا. فقال الصادق (عليه السلام): «اللهم ارزق حماد بن عيسي ما يحج به خمسين حجة، و ارزقه ضياعا حسنة، و دارا حسناء، و زوجة صالحة من قوم كرام، و أولادا أبرارا». قال بعض من حضره: دخلت - بعد سنين - علي حماد بن عيسي في داره بالبصرة فقال لي: أتذكر دعاء الصادق (عليه السلام) لي؟ قلت: نعم.

ص: 314


1- 580. أي ابتعد عني حتي انزع ثيابي و البس هذين البردين.
2- 581. كشف الغمة: ج 2 ص 160. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 141.

قال: هذه داري ليس في البلد مثلها، و ضياعي أحسن الضياع، و زوجتي من تعرفها من كرام الناس، و أولادي: هم من تعرفهم من الأبرار، و قد حججت ثمانيا و أربعين حجة. قال [الراوي]: فحج حماد حجتين بعد ذلك، فلما خرج في الحجة الحادية و الخمسين، و وصل الي الجحفة، و أراد أن يحرم، دخل واديا ليغتسل، فأخذه السيل، و مر به، فتبعه غلمانه فأخرجوه من الماء ميتا، فسمي: حماد غريق الجحفة (1) .

دعاء الامام الصادق لخلاص بعض اصحابه من السجن

عن زيد الشحام قال: اني لأطواف حول الكعبة، و كفي في كف أبي عبدالله (عليه السلام) فقال (عليه السلام) و دموعه تجري علي خديه فقال: يا شحام! ما رأيت ما صنع ربي الي؟ ثم بكي و دعا، ثم قال لي: «يا شحام! اني طلبت الي الهي في سدير و عبدالسلام بن عبدالرحمن، و كانا في السجن، فوهبهما لي، و خلي سبيلهما» (2) . أقول: معني الحديث ان رجلين من أصحاب الامام الصادق (عليه السلام) و هما: سدير، و عبدالسلام بن عبدالرحمن كانا مسجونين، و لا أعلم لماذا و أين كانا مسجونين؟ فدعا الامام لهما، و سأل ربه - في حال الطواف - ان يفرج عنهما، و يخلصهما من السجن، فأستجاب الله دعاء

ص: 315


1- 582. ضياع - جمع ضيعة -: العقار، و الأرض التي يزرع فيها أو يبني عليها.
2- 583. الخرائج و الجرائح: ج 1 ص 304 ح 8. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 116.

الامام فورا، و انكشفت للامام استجابة دعائه، و لهذا قال لزيد الشحام: «ما رأيت ما صنع ربي الي»؟! أي في استجابة دعائه فورا. و عن عبدالحميد بن أبي العلا - و كان صديقا لمحمد بن عبدالله بن الحسين و كان به خاصا - فأخذه أبوجعفر [المنصور الدوانيقي] فحبسه في المضيق زمانا ثم انه وافي الموسم فلما كان يوم عرفة لقيه أبوعبدالله (عليه السلام) في الموقف فقال: يا محمد ما فعل صديقك عبدالحميد؟ فقلت: أخذه أبوجعفر فحسبه في المضيق زمانا، فرفع أبوعبدالله (عليه السلام) يده ساعة ثم التفت الي محمد بن عبدالله فقال: يا محمد قد والله خلي سبيل صاحبك. قال محمد: فسألت عبدالحميد: أي ساعة أخرجك أبوجعفر؟ قال: أخرجني يوم عرفة بعد العصر (1) . و عن يحيي بن ابراهيم بن مهاجر قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): فلان يقرئك السلام و فلان و فلان. فقال: و عليهم السلام. قلت: يسألونك الدعاء. فقال: و مالهم؟ قلت: حبسهم أبوجعفر [المنصور]. فقال: و مالهم و ماله؟ قلت: استعملهم [أي توظفوا بوظائف] فحبسهم. فقال: و مالهم و ماله؟! ألم أنههم؟! ألم أنههم؟! ألم أنههم؟ هم النار، هم النار، هم النار.

ص: 316


1- 584. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 470 ح 372.

قال: ثم قال: اللهم اخدع عنهم سلطانهم (1) . قال: فانصرفت من مكة فسألت عنهم فاذا هم قد اخرجوا بعد هذا الكلام بثلاثة أيام (2) . و عن بكر بن أبي بكر الحضرمي قال: حبس أبوجعفر [المنصور] أبي فخرجت الي أبي عبدالله (عليه السلام) فأعلمته ذلك فقال: اني مشغول بابني اسماعيل، و لكن سأدعو له. قال: فمكثت أياما بالمدينة فأرسل الي أن ارحل فان الله قد كفاك أمر أبيك، فأما اسماعيل فقد أبي الله الا قبضه. قال: فرحلت فأتيت مدينة ابن هبيرة، فصادفت أباجعفر [الدوانيقي] راكبا، فصحت اليه: أبي أبوبكر الحضرمي شيخ كبير، فقال: ان ابنه لا يحفظ لسانه، خلوا سبيله (3) .

دعاء الامام الصادق لخلاص المرأة المؤمنة من السجن

عن بشار المكاري قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) بالكوفة، و قد قدم له طبق رطب طبرزد (4) و هو يأكل، فقال لي: يا بشار ادن، فكل.

ص: 317


1- 585. كشف الغمة: ج 2 ص 190.
2- 586. كناية عن تحويل قلبه عن ضررهم أو اشتغاله بما يصير سببا لغفلته عنهم، و ربما يقرأ - بالجيم و الدال المهملة - بمعني الحبس و القطع (عن مرآة العقول للعلامة المجلسي). و في نسخة: سلطانه.
3- 587. الكافي: ج 5 ص 107 ح 8.
4- 588. كشف الغمة: ج 2 ص 193. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 145.

قلت: هناك الله، و جعلني فداك، قد أخذتني الغيرة من شي ء رأيته في طريقي، أوجع قلبي، و بلغ مني. فقال لي، بحقي لما دنوت فأكلت. قال: فدنوت فأكلت، فقال لي: حديثك؟ (1) . قلت: رأيت جلوازا (2) يضرب رأس امرأة، يسوقها الي الحبس، و هي تنادي - بأعلي صوتها -: «المستغاث بالله و رسوله» و لا يغيثها أحد. قال [الامام]: و لم فعل بها ذاك؟ قال: سمعت الناس يقولون: انها عثرت فقالت: «لعن الله ظالميك يا فاطمة» فارتكب منها ما ارتكب. قال [الراوي]: فقطع [الامام] الأكل، و لم يزل يبكي حتي ابتل منديله و لحيته و صدره بالدموع ثم قال: يا بشار! قم بنا الي المسجد السهلة، فندعوا الله و نسأله خلاص هذه المرأة. قال [بشار]: و وجه [الامام] بعض الشيعة الي باب السطان، و تقدم اليه بأن لا يبرح الي أن يأتيه رسوله، فان حدث بالمرأة حدث صار الينا حيث كنا (3) . قال: فصرنا الي مسجد السهلة، و صلي كل واحد منا ركعتين، ثم رفع الصادق (عليه السلام) يده الي السماء و قال:

ص: 318


1- 589. الطبرزد: نوع من التمر، يسمي به لشدة حلاوته، و الطبرزد: السكر الابلوج (مجمع البحرين).
2- 590. أي: ما هو حديثك، أو حدثنا بحديثك.
3- 591. الجلواز: الشرطي (أقرب الموارد).

«أنت الله (1) ، لا اله الا أنت مبدي ء الخلق و معيدهم، و أنت الله (2) لا اله الا أنت خالق الخلق و رازقهم، و أنت الله لا اله الا أنت القابض الباسط، و أنت الله لا اله الا أنت مدبر الامور، و باعث من في القبور، و أنت وارث الأرض و من عليها. أسألك باسمك المخزون المكنون الحي القيوم، و أنت الله لا اله الا أنت عالم السر و أخفي، أسألك باسمك الذي اذا دعيت به أجبت، و اذا سئلت به أعطيت. و أسألك بحق محمد و أهل بيته، و بحقهم الذي أوجبته علي نفسك أن تصلي علي محمد و آل محمد، و أن تقضي لي حاجتي الساعة الساعة. يا سامع الدعاء، يا سيداه، يا مولاه، يا غياثاه، اسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تصلي علي محمد و آل محمد، و أن تعجل خلاص هذه المرأة، يا مقلب القلوب و الأبصار، يا سميع الدعاء». قال [بشار] ثم خر [الامام] ساجدا، لا أسمع منه الا النفس، ثم رفع رأسه فقال: قم، فقد اطلقت المرأة. قال: فخرجنا جميعا، فبينما نحن في بعض الطريق اذ لحق بنا الرجل الذي وجهناه الي باب السلطان فقال [الامام] له: ما الخبر؟ قال له: لقد اطلق عنها. قال [الامام]: كيف كان اخراجها؟ قال: لا أدري، و لكنني واقفا علي باب السلطان اذ خرج حاجب فدعاها و قال لها: ما الذي تكلمت به؟

ص: 319


1- 592. معني هذه الجملة: ان الامام ارسل رجلا من الشيعة الي باب حاكم الكوفة، و أمره أن لا يبرح مكانه حتي يأتيه رسول الامام، فان حدث شي ء بالمرأة من اطلاق سراح أو غيره فعلي الرجل أن يأتي الي مسجد السهلة و يخبر الامام بذلك.
2- 593. في مزار الشهيد: أنت الله الذي...

قالت: عثرت فقلت: «لعن الله ظالميك يا فاطمة» ففعل بي ما فعل! قال [الرجل] فأخرج [الحاجب] مائتي درهم، و قال: خذي هذه، و اجعلي الأمير في حل!! فأبت [امتنعت] أن تأخذها، فلما رأي [الحاجب] ذلك منها، دخل و أعلم صاحبه [الأمير] بذلك، ثم خرج فقال لها: انصرفي الي بيتك، فذهبت الي منزلها. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): أبت أن تأخذ مائتي درهم؟ قال [الرجل]: نعم، و هي والله محتاجة اليها! فقال [بشار] فأخرج [الامام] من جيبه صرة فيها سبعة دنانير، و قال [لبشار]: اذهب أنت بهذه الي منزلها، فأقرأها مني السلام، و أدفع اليها هذه الدنانير. فقال: فذهبنا جميعا، فأقرأناها منه السلام، فقالت: بالله أقرءني جعفر بن محمد السلام؟ فقلت لها: رحمك الله، والله ان جعفر بن محمد أقرأك السلام. فشهقت، و وقعت مغشية عليها. قال: فصبرنا حتي أفاقت و قالت: أعدها علي [السلام] فأعدناها عليها، حتي فعلت ذلك ثلاثا، ثم قلنا لها: خذي، هذا ما أرسل به اليك، و أبشري بذلك. فأخذته منا، و قالت: سلوه [الامام] أن يستوهب أمته من الله، فما أعرف أحدا أتوسل به الي الله أكبر منه و من آبائه و اجداده (عليهم السلام). قال: فرجعنا الي أبي عبدالله (عليه السلام) فجعلنا نحدثه بما كان منها، فجعل [الامام] يبكي و يدعو لها.

ص: 320

ثم قلت: ليت شعري متي أري فرج آل محمد (صلي الله عليه و آله)؟ قال [الامام]؟ يا بشار؟ اذا توفي ولي الله - و هو الرابع من ولدي - في أشد البقاع بين شرار العباد فعند ذلك تصل الي بني فلان مصيبة سوداء مظلمة، فاذا رأيت ذلك التفت حلق البطان، و لا مرد لأمر الله (1) . (2) .

دعاء الامام الصادق لأحد أصحابه بكثرة المال و الولد

عن بشر بن طرخان قال: لما قدم أبوعبدالله (عليه السلام) الحيرة أتيته فسألني عن صناعتي؟ فقلت: نخاس. فقال: نخاس الدواب؟ فقلت: نعم، و كنت رث الحال (3) . فقال: اطلب لي بغلة فضحاء، بيضاء الأعفاج (4) بيضاء البطن. فقلت: ما رأيت هذه الصفة قط. فقال: بلي. فخرجت من عنده فلقيت غلاما تحته بغلة بهذه الصفة، فسألته عنها

ص: 321


1- 594. في مزار الشهيد: أنت الله الذي...
2- 595. العسكري. و البطان للقتب: الحزام الذي يجعل تحت بطن البعير، و يقال: «التقت حلقتا البطان» للأمر اذا اشتد.
3- 596. بحارالأنوار: ج 100 ص 440.
4- 597. رثت هيئة الشخص و أرثت: ضعفت و هانت. (مجمع البحرين).

فدلني علي مولاه، فأتيته فلم أبرح حتي اشتريتها، ثم أتيت أباعبدالله (عليه السلام) بها فقال: نعم، هذه الصفة طلبت، ثم دعا لي فقال: «أنمي الله ولدك، و كثر مالك» فرزقت من ذلك ببركة دعائه، و نشبت (1) من الأولاد ما قصرت عنه الأمنية (2) . أيها القارئ الكريم: نكتفي بهذا المقدار، و هناك أحاديث اخري وردت في هذا المجال، ذكرناها في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 322


1- 598. الأفضح: الابيض و ليس شديد البياض. و الاعفاج: أي الامعاء (أقرب الموارد).
2- 599. في بحارالأنوار: و قنيت. و القني: الرضا، و اقناه الله: اغناه و ارضاه و اعطاه ما يقتني (أقرب الموارد).

الامام الصادق و ضمان الجنة

قبل كل شي ء... نتساءل: هل يصح أن يضمن الانسان دخول الجنة لأحد؟ الجواب: نعم... و لكن بشرطين: الأول: أن يعلم الضامن بأن المضمون له الجنة سوف لا يرتكب ذنبا يحرم عليه الجنة و يخلده في النار... و العلم بهذا الأمر خاص بالأنبياء و الأوصياء. الثاني: أن يكون الضامن معصوما من الذنب، لأن غير المعصوم لا يعلم ما يكون مصيره؟ فاذا كانت حسناته مقبولة، و سيئاته مغفورة كان من أهل الجنة، و لعل شفاعته تقبل لغيره. و أما اذا كانت حسناته غير مقبولة، و سيئاته غير مغفورة، فمن الواضح أنه من أهل النار، ان لم تتداركه رحمة من الله تعالي. أما المعصومون - من الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام) و الصديقة فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) - فحيث أن حسناتهم مقبولة قطعا، و ليست لهم سيئات فهم من أهل الجنة بلا شك، و يسمح لهم بالشفاعة لغيرهم حسب

ص: 323

المقاييس المعلومة عندهم. اذن: فلا مانع للمعصوم أن يضمن الجنة لمن يشاء، لأنه يعلم علم اليقين أنه من أهل الجنة، و أن شفاعته مقبولة عند الله تعالي. و قد كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يضمن الجنة لبعض الناس، مثلا يقول، «من فعل كذا فانا اضمن له الجنة». و هكذا الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) أيضا كانوا يضمنون الجنة لبعض أصحابهم. و هذا الضمان فرع من فروع الشفاعة المقبولة عند الله (عزوجل). و من هذا المنطلق ضمن الامام الصادق (عليه السلام) الجنة لكثير من شيعته، و اليك بعض النماذج: عن هشام بن الحكم قال: كان رجل من ملوك أهل الجبل يأتي الصادق (عليه السلام) في حجة كل سنة، فينزله أبوعبدالله (عليه السلام) في دار من دوره في المدينة، و طال حجة و نزوله، فأعطي أباعبدالله (عليه السلام) عشرة آلاف درهم ليشتري له دارا و خرج الي الحج. فلما انصرف قال: جعلت فداك اشتريت لي الدار؟ قال: نعم، و أتي بصك فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشتري جعفر بن محمد لفلان بن فلان الجبلي: [اشتري] (1) له دارا في الفردوس، حدها الأول: رسول الله (صلي الله عليه و آله) و الحد الثاني: أميرالمؤمنين، و الحد الثالث: الحسن بن علي، و الحد الرابع: الحسين بن علي» فلما قرأ الرجل ذلك قال: قد رضيت، جعلني الله فداك. قال: فقال أبوعبدالله (عليه السلام): اني أخذت ذلك المال ففرقته

ص: 324


1- 600. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 599 ح 563. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 152.

في ولد الحسن و الحسين، و أرجو أن يتقبل الله ذلك، و يثيبك به الجنة. قال: فانصرف الرجل الي منزله و كان الصك معه، ثم اعتل علة الموت، فلما حضرته الوفاة جمع أهله و حلفهم أن يجعلوا الصك معه، ففعلوا ذلك. فلما أصبح القوم غدوا الي قبره، فوجدوا الصك علي ظهر القبر مكتوب عليه. و في ولي الله جعفر بن محمد (1) . و عن أبي بصير قال: قدم الينا رجل من أهل الشام فعرضت عليه هذا الأمر فقبله، فدخلت عليه و هو في سكرات الموت فقال [لي] (2) : يا أبابصير قد قبلت ما قلت لي [فكيف لي] (3) بالجنة؟ فقلت: أنا ضامن لك علي أبي عبدالله (عليه السلام) بالجنة، فمات، فدخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فابتدأني فقال لي، قد وفي لصاحبك بالجنة (4) . أقول: المقصود من قوله: (... هذا الامر) أي ولاية الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) و امامتهم.

ص: 325


1- 601. ما بين المعقوفتين من بحارالأنوار.
2- 602. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 233. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 134 و فيه: و في لي - والله - جعفر بن محمد بما قال. و في الخرائج و الجرائح: ج 1 ص 303 ح 7: و في لي ولي الله جعفر بن محمد بما وعدني.
3- 603. ما بين المعقوفتين من بحارالأنوار.
4- 604. ما بين المعقوفتين من بحارالأنوار.

الامام الصادق و مواريث الأنبياء

لقد ذكرنا كلمة حول مواريث الأنبياء في كتاب (الامام المهدي من المهد الي الظهور) و نلخص شيئا منها - هنا - فنقول: ليس المقصود من المواريث - هنا - ما يتركه الميت لورثته من المال أو غيره، بل المقصود، هي الأشياء النفيسة القيمة التي تركها الأنبياء للأوصياء من بعدهم، و انتقلت من وصي الي وصي. و هذه المواريث وصلت الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) من الأنبياء الذين كانوا قبله، و بعد وفاة الرسول انتقلت تلك المواريث مع مواريث رسول الله الي الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم الي الامام الحسن ثم الامام الحسين و هكذا الي الامام الصادق و هكذا الي الامام المهدي (سلام الله عليهم أجمعين). و انها تدل علي أولوية الأئمة - من سائر الناس - بالأنبياء و الأوصياء. و نذكر - هنا - بعض الأحاديث كنماذج:

ص: 326

1- قال الامام الصادق (عليه السلام): ان عندي سيف رسول الله، و ان عندي لراية رسول الله المغلبة، [و ان عندي لخاتم سليمان بن داود] (1) ، و ان عندي الطست الذي كان موسي يقرب بها القربان، و ان عندي الاسم الذي كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) اذا وضعه بين المسلمين و المشركين لم يصل من المشركين الي المسلمين نشابة، و ان عندي لمثل الذي جاءت به الملائكة، و مثل السلاح فينا كمثل التابوت في بني اسرائيل - يعني أنه كان دلالة علي الامامة - (2) . 2- و في رواية الأعمش قال (عليه السلام): ألواح موسي عندنا، و عصا موسي عندنا و نحن ورثة النبيين (3) . 3- و قال (عليه السلام): علمنا غابر مزبور (4) ، و نكت في القلوب، و نقر في الأسماع، و ان عندنا الجفر الأحمر و الجفر الأبيض، و مصحف فاطمة (عليهاالسلام)، و ان عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس اليه (5) . 4- و قال (عليه السلام) - و في حديث له -:... ان عندنا سلاح رسول الله (صلي الله عليه و آله) و سيفه و درعه، و عندنا والله مصحف فاطمة، ما فيه آية من كتاب الله، و انه لاملاء [فاطمة بنت] رسول الله (صلي الله عليه و آله) و خطه علي (عليه السلام) بيده، و عندنا والله الجفر، و ما يدرون ما هو؟ أمسك شاة أو مسك بعير؟!

ص: 327


1- 605. بصائر الدرجات: ص 271. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 76.
2- 606. ما بين المعقوفتين أثبتناه من بحارالأنوار.
3- 607. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 276. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 25 و 26.
4- 608. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 276. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 25 و 26.
5- 609. في بحارالأنوار: و مزبور.

ثم أقبل الينا و قال: أبشروا، أما ترضون أنكم تجيئون يوم القيامة آخذين بحجزة علي، و علي آخذ بحجزة رسول الله (صلي الله عليه و آله)؟ (1) . أقول: لقد ذكرنا في كتاب (فاطمة الزهراء من المهد الي اللحد) شرحا موجزا حول مصحف السيدة فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) و أنه ليس في مقابل القرآن الكريم - كما يتهم اعداء أهل البيت الشيعة بذلك بل هو كتاب فاطمة (عليهاالسلام) - فراجع هناك. 5- و عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) ذات يوم جالسا اذ قال: يا أبامحمد هل تعرف امامك؟ قلت: اي والله الذي لا اله الا هو، و أنت هو، و وضعت يدي علي ركبته أو فخذه فقال (عليه السلام): صدقت قد عرفت فاستمسك به. قلت: اريد أن تعطيني علامة الامام. قال: يا أبامحمد ليس بعد المعرفة علامة. قلت: أزداد ايمانا و يقينا. قال: يا أبامحمد ترجع الي الكوفة، و قد ولد لك عيسي، و من بعد عيسي محمد، و من بعدهما ابنتان، و اعلم أن ابنيك مكتوبان عندنا في الصحيفة الجامعة مع أسماء شيعتنا، و أسماء آبائهم و امهاتهم، و أجدادهم و أنسابهم، و ما يلدون الي يوم القيامة. و أخرجها فاذا هي صفراء مدرجة (2) .

ص: 328


1- 610. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 276. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 26.
2- 611. بصائر الدرجات: ص 173 ح 5. منه بحارالأنوار: ج 26 ص 40.

الامام الصادق و الجن

لا أراني بحاجة الي التحدث عن وجود الجن، فهذه حقيقة ثابته لا مجال للشك فيها، و لكن العجب من بعض المسلمين الذين ينكرون وجود الجن، بل و يستهزئون بهذه الحقيقة مع توفر الآيات القرآنية التي بلغت أو تجاوزت تسعا و عشرين آية، تارة باسم الجان كقوله تعالي: «و الجان خلقناه من قبل من نار السموم» (1) أو الجن كقوله تعالي: «يا معشر الجن و الانس» (2) أو الجنة كقوله (عز من قائل): «من الجنة و الناس» (3) . بل و في القرآن سورة تسمي سورة الجن، و آيات عديدة تتحدث عن الجن، كما في سورة الأحقاف: «و اذا صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن...» (4) . أضف الي ذلك الأحاديث الكثيرة التي تصرح بوجود الجن.

ص: 329


1- 612. كشف الغمة: ج 2 ص 190.
2- 613. سورة الحجر آية 27.
3- 614. سورة الانعام آية 130.
4- 615. سورة الناس آية 6.

و انني أظن أن سبب انكار وجود الجن هو عدم امكان رؤية الجن لكل أحد و في كل وقت. نعم، قد يظهر الجن البعض الناس في بعض الأوقات و في ظروف خاصة. و الماديون ينكرون وجود كل ما لا يدركونه بالحواس الخمس، و منه: الجن. و العجب أنهم يؤمنون بالقوة الجاذبية، و الأثير و هم لا يرونهما، و لا يؤمنون بالملائكة و الجن و الروح لأنهم لا يرونها. و المقصود من ذكر هذه المقدمة هو أنك تجد أحاديث تذكر بعض الأحراز و الأدعية للأمن من الجن و دفع شرهم، و قد ذكرناها في كتاب الدعاء من موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) كما أنك تجد بعض الأحاديث التي تصرح باستخدام الامام الصادق و الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) الجن في بعض امورهم و شؤونهم. و قد تسأل: كيف يستطيع الامام الصادق (عليه السلام) أن يستخدم الجن؟ و كيف تطيعه و تنقاد له؟ الجواب: ان الامام الصادق (عليه السلام) هو حجة الله علي الجن و الانس و الخلق أجمعين، فمن الطبيعي أن تطيعه الجن و تنقاد لأوامره. كما أن الملائكة تخدمه أيضا، و كل ذلك يكون باذن الله سبحانه. اننا نجد بعض الناس - من غير المعصومين - يستخدمون الجن لأمورهم، فما تقول في الامام الصادق المؤيد من عند الله سبحانه؟!! هذا... و للبحث مجال آخر، و نحن نكتفي هنا بذكر بعض الأحاديث المرتبطة بالموضع:

ص: 330

عن المفضل بن عمر قال: حمل الي أبي عبدالله (عليه السلام) مال من خراسان مع رجلين من أصحابه، لم يزالا يتفقدان المال حتي مرا بالري، فرفع اليهما رجل من أصحابهما كيسا فيه ألفا درهم، فجعلا يتفقدان في كل يوم الكيس حتي دنيا من المدينة، فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتي ننظر ما حال المال؟ فنظرا فاذا المال علي حاله ما خلا كيس الرازي. فقال أحدهما لصاحبه: الله المستعان، ما نقول الساعة لأبي عبدالله (عليه السلام)؟. فقال أحدهما: انه (عليه السلام) كريم، و أنا أرجو أن يكون علم ما نقول عنده، فلما دخلا المدينة قصدا اليه، فسلما اليه المال فقال لهما: أين كيس الرازي؟ فأخبراه بالقصة، فقال لهما: ان رأيتما الكيس تعرفانه؟ قالا: نعم. قال: يا جارية علي بكيس كذا و كذا، فأخرجت الكيس فرفعه أبوعبدالله (عليه السلام) اليهما فقال: تعرفانه (1) قالا: هو ذاك. قال: اني احتجت في جوف الليل الي مال، فوجهت رجلا من الجن من شيعتنا فأتاني بهذا الكيس من متاعكما (2) . و روي عنه (عليه السلام) أنه قال - في حديث له: ان لنا أتباعا من الجن (3) كما أن لنا أتباعا من الانس، فاذا أردنا أمرا بعثناهم (4) .

ص: 331


1- 616. سورة الاحقاف آية 29.
2- 617. في بحارالأنوار: أتعرفانه.
3- 618. بصائر الدرجات: ص 119 ح 9.
4- 619. الاتباع - جمع تابع - و هو - هنا -: الخادم (أقرب الموارد).

عن عمار السجستاني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كنت أجي ء فأستأذن عليه فجئت ذات ليلة فجلست في فسطاطه بمني فاستؤذن لشباب كأنهم رجال زط (1) و خرج علي عيسي شلقان فذكرني له فأذن لي فقال: يا عمار متي جئت؟ قلت: قبل اولئك الشباب الذين دخلوا عليك و ما رأيتهم خرجوا. قال: اولئك قوم من الجن سألوا عن مسائل ثم ذهبوا (2) . هذا... و قد افرد العلامة المجلسي (طاب ثراه) - في كتابه القيم: بحارالأنوار ج 27 - بابا بعنوان: ان الجن خدامهم يظهرون لهم و يسألونهم عن معالم دينهم. و جاء فيه عن سعد الاسكاف انه جاء الي الامام الباقر (عليه السلام) يريد الدخول عليه... فخرج قوم معتمون بالعمائم يشبهون الزط فلما سأل الامام عنهم قال (عليه السلام) له: اولئك اخوانك من الجن يأتوننا يسألوننا عن حلالهم و حرامهم و معالم دينهم (3) .

ص: 332


1- 620. بحارالأنوار: ج 27 ص 21.
2- 621. الزط: جيل من الهند، جنس من السودان (مجمع البحرين).
3- 622. كشف الغمة: ج 2 ص 199. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 149.

الملائكة في خدمة الامام الصادق

اشارة

عن سليمان بن خالد أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله: «ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون» (1) . قال أبوعبدالله (عليه السلام): أما - والله - لربما و سدنا لهم الوسائد في منازلنا (2) . أقول: الآية الكريمة تحكي نزول الملائكة علي المؤمن بعد الموت و أنها تبشرة بالجنة. و لكن الامام الصادق (عليه السلام) صرح بأن الملائكة تنزل عليه في داره، و تجلس اليه و ربما طرح لهم الوسادة. و قد جاء في أحاديث كثيرة أن الملائكة تخدم أهل البيت (عليهم السلام) و تتقرب الي الله تعالي بولايتهم و البراءة من أعدائهم. و عن عبدالله بن النجاشي قال: كنت في حلقة عبدالله بن الحسن

ص: 333


1- 623. بحارالأنوار: ج 27 ص 20.
2- 624. سورة فصلت آية 30.

فقال: يابن النجاشي: اتقوا الله، ما عندنا الا ما عند الناس. قال: فدخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فأخبرته بقوله، فقال: والله ان فينا من ينكت في قلبه، و ينقر في اذنه و تصافحه الملائكة. فقلت: اليوم، أو كان قبل اليوم؟ فقال: اليوم - والله - يابن النجاشي (1) . و عن الحسين بن العلاء القلانسي: قال أبوعبدالله (عليه السلام): يا حسين - و ضرب بيده الي مساور في البيت - مساور طالما - والله - اتكأت عليها الملائكة، و ربما التقطنا من رغبها (2) .

ص: 334


1- 625. بحارالأنوار: ج 47 ص 33.
2- 626. بحارالأنوار: ج 47 ص 34. و المساور: جمع المسور، و هي متكأ من جلد. و الزغب: صغار الشعر و الريش (أقرب الموارد).

قانون المعجزات

اشاره

توجد في موسوعات الأحاديث، روايات حول معاجز الامام الصادق (عليه السلام) و غيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و قد ذكرنا في كتابنا: (الامام الهادي (عليه السلام) من المهد الي اللحد) كلمة وافية حول قانون المعجزات: و نري من المناسب ان نلخصها و نذكرها هنا بصورة مختصرة، لئلا يصعب علي القارئ الذكي قبول الروايات التي سنذكرها حول معجزات الامام الصادق (عليه السلام) فنقول: للناس - حول الكون و ما فيه - مبدآن، أو مدرستان: الأولي: مدرسة الماديين، و هم الذين يقولون، بأن الكائنات تتكون من المادة، و لا يمكن أن يوجد شي ء من غير المادة، و علي هذا فانهم يؤمنون بالمادة فقط، و لا يؤمنون بغيرها، و المقصود من المادة - هنا - كل ما يحس و يدرك بالحواس الخمس، و هي: الباصرة و السامعة و الشامة و الذائقة و اللامسة. فكل ما يري، أو يسمع، أو يلمس، أو يشم، أو يذاق يعتقدون به، و كل ما كان غير هذه الأمور، و وراء المادة لا يؤمنون به و لا يعتقدونه.

ص: 335

المدرسة الثانية: مدرسة الالهيين، و هم الذين يؤمنون بالغيب. و الغيب: خلاف الشهادة، أي خلاف المحسوس، فينطبق معني الغيب علي ما لا يقع عليه الحس، أي الذي لا يدرك بالحواس، و هو الله تعالي، و آياته الغائبه عن حواسنا، مثل الوحي. و هذا بحث فلسفي لا داعي للخوض فيه، لعدم ارتباطه بالكتاب. و انما ذكرت هذه المقدمة حتي يسهل علينا الدخول في صميم البحث، و هو قانون المعجزات.

ما هي المعجزة؟

لأهل اللغلة تعاريف متعددة للمعجزة و كلها تشير الي معني واحد - مع الاختلاف في التعبير - و هو أن المعجزة فعل خارق للعادة، مقترن بالتحدي، يؤيد الله تعالي به اولياءه - من الأنبياء و الأوصياء - ليكون دليلا علي صدق دعواهم.

المعجزة في القرآن

في القرآن الكريم آيات عديدة تتحدث عن حدوث قضايا خارقة للطبيعة، و يعجز القلم عن تحليلها علي ضوء الطبيعة. 1- منها قوله تعالي - في قصة آدم (عليه السلام) -: «قلنا اهبطوا منها جميعا» (1) . و قوله: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر

ص: 336


1- 627. بحارالأنوار: ج 47 ص 34. و المساور: جمع المسور، و هي متكأ من جلد. و الزغب: صغار الشعر و الريش (أقرب الموارد).

و متاع الي حين» (1) . فان الله تعالي خلق آدم في الجنة، و قال له: «يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة» (2) فلما أكلا من تلك الشجرة أمرهما الله تعالي بالهبوط الي الكرة الأرضية، فكيف كان نزولهما؟ و بأية وسيلة استطاعا أن ينتقلا من سطح كوكب الي سطح كوكب آخر و هو الأرض؟ فهل كانت هناك مركبة فضائية مادية نقلتهما من هناك الي هنا؟. لا أظنك - أيها القاري ء - تجد في ذهنك وسيلة مادية طبيعية لهبوط آدم، كالطائرات، أو المركبات الفضائية. فهل تجد حلا لهذه المسألة سوي أن تقول انهما هبطا بقدرة الله تعالي، لا بالوسائل المادية؟. 2 - و في قصة الطوفان الذي حدث في زمن نوح (عليه السلام) فان الماء قد غمر الكرة الأرضية بكاملها حتي الجبال، و لم يبق حيوان و لا نبات الا مات، سوي من كان مع نوح في السفينة و ما كان معه، و استؤنفت حياة الحيوانات و النباتات من بعد الطوفان. فمن أين جاء هذا الماء؟ و أين نضب الماء؟ فالقرآن الكريم يقول: «قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي

ص: 337


1- 628. سورة البقرة آية 38.
2- 629. سورة البقرة آية 36.

و غيض الماء» (1) . و هنا تأتي عدة من الأسئلة حول تكاثر الماء في المرحلة الأولي من هطول الأمطار و من فوران التنور «و فار التنور» (2) و كيف لم تفتح هذه المياه طريقها الي الأنهار، و منها الي البحار حتي لا تغرق الكرة الأرضية بكاملها، و يغرق من فيها و ما فيها؟ و غير ذلك من الأسئلة. 3- و في قصة ابراهيم الخليل (عليه السلام) حيث أراد قومه أن يحرقوه، فجمعوا الحطب و اشترك في جمع الحطب الرجال و النساء، و أضرموا فيه النار، و وضعوا ابراهيم في المنجنيق و رموه في تلك النار العظيمة «قلنا يا نار كوني بردا و سلاما علي ابراهيم» (3) . فكيف سلبت طبيعية الاحراق من النار؟ و هل تشعر النار بخطاب الله تعالي؟ و هل تملك النار القدرة علي أن تكيف نفسها، فتنقلب حرارتها الي برودة؟ 4- و حينما سأل ابراهيم ربه: «رب أرني كيف تحيي الموتي قال أو لم تؤمن قال بلي و لكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل علي كل جبل منهن جزاء ثم ادعهن يأتينك سعيا» (4) فأخذ ابراهيم أربعة من الطيور، مختلفة الأجناس و قطعهن، و خلط ريشها بدمها، ثم

ص: 338


1- 630. سورة البقرة آية 35.
2- 631. سورة هود آية 44.
3- 632. سورة هود آية 40.
4- 633. سورة الأنبياء آية 69.

فرق أجزاء تلك الطيور علي تسعة أو عشرة جبال ثم دعاهن بقوله: «أجبن باذن الله» فاجتمعت الأجزاء و الأعضاء، و ائتلفت لحومها و عظامها و طارت الي ابراهيم (عليه السلام). 5- و في قصة داود (عليه السلام): (و ألنا له الحديد) (1) جعل الله تعالي الحديد لينا في يد داود كالشمع أو العجين، يعمل به ما يشاء، فلا يحتاج أن يدخله النار، و لا أن يضربه بالمطرقة حتي يلين أو يتمدد، فكان يصنع الدروع - و هي حلقات متواصلة بعضها ببعض - علي هيئة لباس يلبس في الحروب، للتحفظ من الآلات الجارحة كالسيف و السهم و الرمح كي لا تصل الي البدن، و هو أول من صنع الدرع. 6 - و في قصة يونس (عليه السلام) الذي مكث أياما في بطن الحوت «فلو لا أنه كان من المسبحين - للبث في بطنه الي يوم يبعثون» (2) . 7 - و في قصة زوجة ابراهيم أيضا: فقد كانت عجوزا عقيما، و قد بلغت أو تجاوزت من العمر تسعين سنة ثم حملت من ابراهيم، و ولدت ابنها اسحاق، و كان زوجها شيخا كبيرا طاعنا في السن، لا يصلح و لا يقوي علي التناسل. 8 - و في قصة موسي بن عمران (عليه السلام) و انقلاب عصاه ثعبانا تلقف حبالهم و عصيهم، ثم عودتها الي سيرتها الأولي. فكيف انقلبت الخشبة الي حية، و تبدلت ماهيتها، و تكونت فيها الروح و الحياة، و ابتلعت الحبال و العصي، ثم عادت الي سيرتها الأولي؟ فأين صارت الحبال: و أين ذهبت العصي؟.

ص: 339


1- 634. سورة البقرة آية 260.
2- 635. سورة سبأ آيه 10.

9- و في قصة ضربه البحر بالعصا (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا» (1) فانشق الماء و ظهر قعر البحر، و ظهر اثنا عشر طريقا، لكل سبط من أسباط يعقوب طريق، و وقف الماء في جانبي كل طريق «و اذ فرقنا بكم البحر» (2) فقطع موسي بن عمران المسافة من مصر الي لبنان هو و قومه، يمشون علي أرض البحر المتوسط، و بعد أن وصلوا الي الساحل، و خرج آخر من كان مع موسي «فأتبعهم فرعون بجنوده» (3) فلما دخل آخر من كان مع فرعون «فغشيهم من اليم ما غشيهم» (4) أطبق الله عليهم الماء، فغرقوا جميعا «و أغرقنا آل فرعون» (5) . 10- و هكذا في قصة عيسي بن مريم (عليه السلام) الذي ولد من غير أب، و هل يمكن أن يتكون الجنين من غير نطفة الرجل؟. نعم، في القرآن الكريم: «و مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا» (6) و في التفسير: ان جبرئيل تناول جيب مدرعتها، فنفخ فيه نفخة بعيسي حملا كاملا. و علي كل تقدير... هل يمكن تحليل هذه الأمور علي ضوء المادة و الطبيعة؟. 11- و كان عيسي بن مريم (عليه السلام) يبري ء الأكمه (الذي يولد أعمي) و الأبرص، باذن الله، لا بالدواء أو العلاج، و لا باستعمال التعاليم

ص: 340


1- 636. سورة الصافات آية 143 و 144.
2- 637. سورة طه آية 77.
3- 638. سورة البقرة آية 50.
4- 639. سورة طه آية 78.
5- 640. سورة طه آية 78.
6- 641. سورة البقرة آية 50.

الطبية، بل كان ينظر الي المريض أو يمسح علي العضو المريض أو يدعو الله تعالي فيبرأ المريض، و يعود المريض سليما، و هكذا احياؤه الموتي، و هكذا خلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا باذن الله. الي غير ذلك من عشرات أو مئات الآيات التي تتحدث عن أمثال هذه الأمور الخارقة للعادة، و التي لا تفسير لها في قانون الماديات. هذه نبذة من آيات الله البينات، التي تتحدث عن خرق العادة و الطبيعة، فهل يستطيع العم الحديث تحليل هذه القضايا علي ضوء الطبيعة و العادة؟. و ما يقول الجيل الجديد في هذه الوقائع التي صرح بها القرآن الكريم؟. و هل يمكن للجيل الجديد - اذا كان مسلما - أن يشك في كتاب الله تعالي و كلامه؟. أليست هذه الآيات تفرض علينا أن نؤمن بما وراء الطبيعة و العادة؟. مع الانتباه الي قدرة الله تعالي غير المحدودة، و أنه اذا أراد شيئا فانما يقول له كن فيكون و أن الأشياء بارادته - دون أمره - مؤتمرة، و بمشيئة - دون قوله - منزجرة. أما يسهل علينا - عند ذلك - أن نؤمن بقانون المعجزات، لأنها صنع الله تعالي علي أيدي أوليائه المكرمين، الذين زودهم الله بهذه القدرات حتي يصدق الناس أقوالهم، و يعترفوا برسالتهم، و بأنهم من عند الله تعالي؟.

ص: 341

العقل و المعجزة

قد يقول بعض الناس: ان العقل لا يؤمن بقانون المعجزات!!. و نحن نسأل: أي عقل هذا؟ هل هو العقل الطبيعي المادي الذي لا يؤمن بالكتب السماوية، و لا يؤمن بالله و قدرته؟ و لا يؤمن الا بالمادة فقط و فقط؟. ان هذا العقل ليس عقلا، بل هو جهل، و ليس معيارا و مقياسا حتي تقاس عليه القضايا، و تدرك به الحقائق.

موقف الأنبياء من المستهزئين

و يأتي بعض المتفلسفين، و يقول: لا حاجة لنا الي ذكر المعجزات، لأن الجيل الجديد يصعب عليه قبول المعجزة و الايمان بها، و يستهزي ء بها، لأنها خرق للعادة، و لا يؤمن بها العلم الحديث. و نحن نقول: ان الاستبعاد و الاستهزاء ليس دليلا علي نفي الشي ء، فهناك حقائق كثيرة ثابتة، يستهزي ء بها المستهزئون. و استهزاء الجهال بالحقائق و العقائد الصحيحة، و المقدسات ليس بشي ء جديد، فلقد ابتلي أنبياء الله بالمستهزئين، كما يحدثنا القرآن الكريم عن ذلك في آيات كثيرة. فهل نشطب بالقلم الأحمر علي آيات القرآن المشتملة علي ذكر معاجز الأنبياء؟! أو نتنازل عن الحقائق رعاية للجيل الجديد؟. أو ينبغي لنا أن نرفع مستوي أفكار الجيل الجديد المسلم حتي يؤمن

ص: 342

بالحقائق، و يتخلص فكره عن الخضوع للماديات و الطبيعيات، و حتي يعترف بما وراء الطبيعة، و يعتبر قدرة الله تعالي فوق كل طبيعة و مادة و عادة؟!

المعجزات تصدر باذن الله تعالي

و من الواضح أن المعاجز التي صدرت علي أيدي الأنبياء انما صدرت باذن الله تعالي كما قال (عزوجل): «و ما كان لرسول أن يأتي بآية الا باذن الله فاذا جاء أمر الله قضي بالحق و خسر هنالك المبطلون» (1) . و هذه الآية المباركة تدل بكل وضوح علي أن الأنبياء ليس لهم أن يأتوا بالمعجزات من عند أنفسهم أو حسب طلبات الناس منهم، بل الأمر بيد الله تعالي يأتي بالمعجزات علي وجه المصلحة، و الأنبياء يستمدون من قدرة الله تعالي، و ليس لهم استقلال في هذه التصرفات، و لا يقدرون أن يأتوا بشي ء الا باذن الله. و كلمة: «الا باذن الله» - في هذه الآية - تستدعي الانتباه، فان للاذن معان عديدة و قد يأتي الاذن بمعني التيسير و التكوين، كما في قوله تعالي: «تؤتي أكلها كل حين باذن ربها» (2) . و من الممكن أن يكون معني الاذن في هذه الآية - و في كل آية فيها ذكر المعجزة باذن الله - هو التيسير و التكوين، أي أن الله تعالي هو الذي ييسر و يسهل وقوع المعجزة: و خلاصة الكلام: أن الله الذي هو علي كل شي ء قدير، الكون

ص: 343


1- 642. سورة التحريم آية 12.
2- 643. سورة غافر آية 78.

و جميع الكائنات كلها تابعة لارادته، و خاضعة لمشيئته، فاذا أراد شيئا فانما يقول له: كن فيكون. فلا مانع بأن يجعل الله الكائنات مطيعة للنبي، و خاضعة له، يتصرف فيها باذن الله كما تقتضيه الحكمة و المصلحة. و من الواضح أن المعجزة تعتبر خرقا للعادة و الطبيعة، والله تعالي هو خالق الطبيعة، لا يعجز عن تغييرها و تبديلها، و سلب خواصها.

الأوصياء امتداد للأنبياء

ذكرنا هذا الشرح المتواضع - حول معاجز الأنبياء، و امكانها، و صدق وقوعها - مقدمة تمهيدية للبحث الآتي: ان أوصياء الأنبياء لهم أيضا هذه المزية و القدرة لنفس الغرض. فان الذي يدعي أنه وصي نبي، و أنه قائم مقامه لابد و أن يكون له سند و حجة واضحة، و دليل مقنع، حتي يصدقه الناس، فيطيعوا أوامره. و ليست المعجزة خاصة بالأنبياء. فهذا آصف بن برخيا - و هو وصي سليمان بن داود (عليه السلام) - أحضر عرض بلقيس الذي كان طوله ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا، و ارتفاعه ثلاثون ذراعا - من مدينة سبأ في اليمن الي الأردن في طرفة عين، و كان عنده علم من الكتاب، أي حرف واحد من الاسم الأعظم. و أما أئمة أهل البيت الاثنا عشر(عليهم السلام) فقد كانوا أوصياء رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و خلفاءه - حسب الأدلة المذكورة في محلها - و كانوا يملكون أقوي الوثائق و الحجج و البراهين علي امامتهم و صدق كلامهم، و قد توفرت فيهم شروط الامامة بأكملها، و منها: المعجزات.

ص: 344

ان في مطاوي موسوعات الأحاديث كمية وافرة من المعاجز التي صدرت علي أيدي أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و قد تجاوزت حد التواتر، بحيث لا يمكن التشكيك فيها لغزارتها، و لا شك أن تلك المعاجز انما كانت تصدر من الأئمة (عليهم السلام) حسب الظروف و كما تقتضيه الحكمة، ففي بعض الظروف كانت الحكمة تقتضي أن يستعين الامام بالمعجزة، و في ظروف اخري كانت الحكمة و المصالح تتطلب من الامام أن لا يستعين بالمعجزة، بل يتظاهر بأنه عاجز، لا يملك حولا و لا قوة، كل ذلك رعاية للمصالح التي يعلمها الامام و نجهلها نحن. و انما ذكرنا هذا البحث ليكون القاري ء علي علم و بصيرة تجاه بعض الأحاديث المذكورة في هذا الكتاب، و غيره من الكتب التي تتحدث عن معاجز الأئمة الطاهرين (عليهم السلام). و حتي لا ينسبنا أحد الي الغلو، و الاعتقاد بالخرافات، و يقول - فينا -: ان الشيعة تحمل عقائد خرافية في أئمتهم، ما أنزل الله بها من سلطان. هذا... و ينبغي أن نضيف - هنا - كلمة أخري تتميما لذلك البحث... و هي: ان الامام الصادق (عليه السلام) لو أراد - في ذلك الزمان - أن يظهر المعاجز بصورة علنية و يتحدي الطبيعة و العادة، اذن، لقامت عليه القيامة، و نسبوا اليه السحر كما نسبوا الي جده الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) حينما شاهدوا منه المعاجز الخارقة للطبيعة و العادة، كما يحدثنا القرآن الكريم. و المعروف ان عقاب ساحر المسلمين هو القتل، فان المناوئين كانوا ينتظرون و ينتهزون هكذا مناسبات حتي يبرروا قتل الامام علنا.

ص: 345

نعم، كان الامام ربما أظهر معجزة لبعض شيعته، بعد أن يأخذ منه الأيمان المغلظة، و العهود المؤكدة بأن لا يخبر بذلك أحدا، و بعض هؤلاء كان ينكث العهد، و يخبر الناس بذلك، و يجر الويلات علي نفسه، كما ينسب ذلك الي المعلي بن خنيس. و بعضهم ما كان يخبر بذلك أحدا الا بعد وفاة الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 346

الامام الصادق و المعجزات

اشاره

أيها القارئ الكريم: بعد أن أثبتنا أن المعجزة تصدر من الامام كما تصدر من النبي، نذكر - في هذا الفصل - بعض المعجزات التي صدرت من سيدنا و مولانا الامام الصادق (عليه السلام)... و تجد التفصيل في الموسوعة:

يتكلم بالعربية و الحاضرون يسمعونه بلغاتهم

1- روي أن أبان بن تغلب قال: غدوت من منزلي بالمدينة و أنا اريد أباعبدالله (عليه السلام) فلما صرت بالباب خرج علي قوم من عنده لم أعرفهم و لم أر قوما أحسن زيا منهم و لا احسن سيماء منهم، كأن الطير علي رؤوسهم (1) . ثم دخلنا علي أبي عبدالله (عليه السلام) فجعل يحدثنا بحديث، فخرجنا من عنده و قد فهم خمسة عشر نفرا منا متفرقوا الألسن: منها

ص: 347


1- 644. سورة ابراهيم آية 25.

اللسان العربي و الفارسي و النبطي و الحبشي و السقلبي (1) . قال بعض: ما هذا الحديث الذي حدثنا به؟ قال له آخر - من لسانه عربي -: حدثني بكذا بالعربية. و قال له الفارسي: ما فهمت، انما حدثني كذا و كذا بالفارسية. و قال الحبشي: ما حدثني الا بالحبشية. و قال السقلبي: ما حدثني الا بالسقلبية. فرجعوا اليه (عليه السلام) فأخبروه. فقال (عليه السلام): الحديث واحد، و لكنه فسر لكم بألسنتكم (2) . أيها القارئ الكريم: لقد قرأت - في هذا الحديث الشريف - أن رجالا من قوميات مختلفة و لغات متعددة دخلوا علي الامام الصادق (عليه السلام) و حدثهم الامام، و سمع كل واحد منهم حديث الامام بلغته الخاصة به. و من الواضح أن ذلك تحقق عن طريق المعجزة و من خلال قدرة الامامة... تلك القدرة التي زود الله تعالي بها حججه و أولياءه الطاهرين. قد يقول قائل: ان هذا الأمر قد صار من الظواهر المألوفة في عصرنا الحاضر، ففي المؤتمرات التي تعقد في شرق الأرض و غربها و يجتمع فيها الرؤساء و الشخصيات من البلاد المختلفة... تراهم يستمعون الي الخطابات و المقالات بلغاتهم، عبر الجهاز الذي يترجم الكلام الي تلك اللغة... فهل هذا معجزة... أم أنه من التقدم العلمي؟ الجواب: ما نراه اليوم انما هو من التقدم العلمي الذي يزهر به عصرنا

ص: 348


1- 645. كناية عن الوقار و السكينة التي كانت عليهم.
2- 646. السقلبي: نسبة الي السقلب و هو جيل من الناس (القاموس).

الحاضر، و لكن هناك فرق بين هذا و بين معجزة الامام الصادق (عليه السلام) و هو أن أصحاب الامام سمعوا حديث الامام بلغاتهم بصورة مباشرة و من فهم الامام (عليه السلام) لا عبر جهاز خاص.. و هنا بيت القصيد.

يعلم رجلا كيف ينجو من السبع

2 - روي عن عبدالله بن يحيي الكاهلي قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام): اذا لقيت السبع ما تقول له؟ قلت: لا ادري. قال: اذا لقيته فاقرأ في وجهه آية الكرسي و قل: «عزمت عليك بعزيمة الله، و عزيمة محمد رسول الله (صلي الله عليه و آله) و عزيمة سليمان بن داود و عزيمة علي أميرالمؤمنين و الأئمة من بعده». فانه ينصرف عنك. قال عبدالله الكاهلي: فقدمت الكوفة، فخرجت مع ابن عم لي الي قرية فاذا سبع قد اعترض لنا الطريق، فقرأت في وجهه آية الكرسي و قلت: عزمت عليك بعزيمة الله و عزيمة محمد رسول الله و عزيمة سليمان بن داود و عزيمة علي أميرالمؤمنين و الأئمة من بعده الا تنحيت عن طريقنا و لم تؤدنا، فانا لا نؤذيك. قال: فنظرت اليه و قد طأطأ رأسه و أدخل ذنبه بين رجليه و ركب الطريق راجعا من حيث جاء. فقال ابن عمي: ما سمعت كلاما احسن من كلامك هذا الذي سمعته منك.!! فقلت: أي شي ء سمعت؟ هذا كلام جعفر بن محمد.

ص: 349

فقال: أنا أشهد أنه امام فرض الله طاعته. و ما كان ابن عمي يعرف قليلا و لا كثيرا. قال: فدخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) من قابل فأخبرته الخبر، فقال: تري أني لم أشهدكما؟!! بئسما رأيت. ثم قال: ان لي مع كل ولي اذنا سامعة و عينا ناظرة و لسانا ناطقا. ثم قال: يا عبدالله أنا - والله - صرفته عنكما، و علامة ذلك انكما كنتما في البرية علي شاطئ النهر، و اسم ابن عمك مثبت عندنا، و ما كان الله ليميته حتي يعرف هذا الأمر. قال: فرجعت الي الكوفة فأخبرت ابن عمي بمقالة أبي عبدالله (عليه السلام) ففرح فرحا شديدا، و سر به، و ما زال مستبصرا بذلك الي أن مات (1) .

الفاكهة في غير أوانها

3- روي أن داود بن كثير الرقي قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فدخل عليه ابنه موسي و هو ينتفض من البرد، فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في كنف (2) الله، متقلبا في نعم الله، أشتهي عنقود عنب حرشي و رمانة خضراء. قال داود: قلت: سبحان الله هذا الشتاء!! فقال: يا داود ان الله قادر علي كل شي ء، ادخل البستان، فدخلته فاذا شجرة عليها عنقود من عنب حرشي و رمانة خضراء، فقلت: آمنت

ص: 350


1- 647. بحارالأنوار: ج 47 ص 99.
2- 648. بحارالأنوار: ج 47 ص 95.

بسركم و علانيتكم. فقطعتها و اخرجتها الي موسي، فقعد يأكل. فقال (عليه السلام): يا داود والله لهذا فضل من رزق قديم، خص الله به مريم بنت عمران من الافق الأعلي (1) .

تمييز الدراهم الخالصة من المغشوشة

4 - عن شعيب العقرقوني قال: بعث معي رجل بألف درهم فقال: اني احب أن أعرف فضل أبي عبدالله (عليه السلام) علي أهل بيته، ثم قال: خذ خمسة دراهم سوقية (2) فاجعلها في الدراهم، و خذ من الدراهم خمسة فصرها في لبة قميصك، فانك ستعرف فضله. قال: فأتيت بها أباعبدالله (عليه السلام): فنشرها و أخذ الخمسة فقال: هاك خمستك، و هات خمستنا (3) .

احياء الطيور الأربعة

5- روي عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند الصادق (عليه السلام) مع جماعة فقلت: قول الله تعالي لابراهيم: «فخذ أربعة من الطير فصرهن» (4) أو كانت أربعة من أجناس مختلفة؟ أو من جنس واحد؟ قال: أتحبون أن اريكم مثله؟ قلنا: بلي.

ص: 351


1- 649. الكنف: الحرز (مجمع البحرين).
2- 650. بحارالأنوار: ج 47 ص 100.
3- 651. في بحارالأنوار: ستوقة. و الستوق. درهم زيف ملبس بالفضة (مجمع البحرين).
4- 652. بصائر الدرجات: ص 267 ح 9.

قال: يا طاووس. فاذا طاووس طار الي حضرته، ثم قال: يا غراب. فاذا غراب بين يديه، ثم قال: يا بازي. فاذا بازي بين يديه، ثم قال: يا حمامة. فاذا حمامة بين يديه، ثم أمر بذبحها كلها و تقطيعها و نتف ريشها، و أن يخلط ذلك كله بعضه ببعض، ثم أخذ برأس الطاووس فقال: يا طاووس، فرأينا لحمه و عظامه و ريشه، يتميز من غيره حتي ألتزق ذلك كله برأسه، و قام الطاووس بين يديه حيا، ثم صالح بالغراب كذلك، و بالبازي و الحمامة كذلك، فقامت كلها أحيآء بين يديه (1) .

احياء الأخ الميت

6- عن محمد بن راشد، عن جده قال: قصدت الي جعفر بن محمد (عليه السلام) أسأله عن مسألة فقالوا: مات السيد الحميري الشاعر، و هو في جنازته (2) فمضيت الي المقابر فاستفتيته، فأفتاني، فلما أن قمت أخذ بثوبي فجذبه اليه ثم قال: انكم معاشر الأحداث تركتم العلم. فقلت: أنت امام هذا الزمان؟ قال: نعم. قلت: فدليل أو علامة؟ قال: سلني عما شئت اخبرك به ان شاء الله. قلت: اني اصبت بأخ لي و دفنته في هذه المقابر، فأحيه لي باذن الله. قال: ما أنت بأهل لذلك، و لكن اخاك كان مؤمنا و اسمه كان عندنا أحمد.

ص: 352


1- 653. سورة البقرة آية 260.
2- 654. الخرائج و الجرائح: ج 1 ص 297 ح 4. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 111.

و دنا من القبر و دعا، قال فانشق عنه قبره، و خرج الي - والله - و هو يقول: يا أخي اتبعه و لا تفارقه، ثم عاد الي قبره، و استحلفني (عليه السلام) علي أن اخبر به أحدا (1) .

اعادة البردة المسروقة

7 - عن ابراهيم بن عبدالحميد قال: اشتريت من مكة بردة و آليت علي نفسي أن لا تخرج عن ملكي حتي تكون كفني، فخرجت فيها الي عرفة، فوقفت فيها الموقف، ثم انصرفت الي جمع (2) ، فقمت اليها في وقت الصلاة، فرفعتها و طويتها - شفقة مني عليها - و قمت لأتوضأ، ثم عدت فلم أرها فاغتممت لذلك غما شديدا، فلما أصبحت و قمت لأتوضأ، أفضت مع الناس الي مني، فاني والله لفي مسجد الخيف اذ أتاني رسول أبي عبدالله (عليه السلام) فقال لي: يقول لك أبوعبدالله: أقبل الينا الساعة، فقمت مسرعا حتي دخلت اليه و هو في فسطاط، فسلمت و جلست، فالتفت الي - أو رفع رأسه الي - فقال: يا ابراهيم أتحب أني نعطيك بردة تكون كفنك؟ قال: قلت: و الذي يحلف به ابراهيم (3) لقد ضاعت بردتي. قال: فنادي غلامه فأتي ببردة، فاذا هي - والله - بردتي بعينها، وطيي بيدي والله. قال: فقال: خذها يا ابراهيم و احمد الله (4) .

ص: 353


1- 655. أي: كان الامام قد خرج لتشييع جنازة السيد الحميري.
2- 656. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 742 ح 60. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 118.
3- 657. جمع: المزدلفة، و هي المشعر.
4- 658. يقصد من «ابراهيم» نفسه.

أقول: حينما سرقت البردة من هذا الرجل استنقذها الامام الصادق (عليه السلام) من السارق بطريق المعجزة، ثم ردها الي صاحبها كما كانت مطوية بيده.

الاخبار عن حال الميت في القبر

8- عن عروة بن موسي الجعفي قال: قال (أبوعبدالله عليه السلام) [لنا] يوما و نحن نتحدث: الساعة انفقأت عين هشام في قبره. قلنا: و متي مات؟ قال: اليوم، الثالث. قال: فحسبنا موته، و سألنا عنه فكان كذلك (1) .

الاخبار عن عدم موت الام و عن قرب موتها

9- روي عن صفوان قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فأتاه غلام، فقال: ماتت امي. فقال له (عليه السلام): لم تمت. قال: تركتها مسجي عليها! فقام أبوعبدالله (عليه السلام) و دخل عليها، فاذا هي قاعدة فقال لابنها: ادخل الي امك فشهها من الطعام ما شاءت فأطعمها. فقال الغلام: يا اماه ما تشتهين؟ قالت: أشتهي زبيبا مطبوخا.

ص: 354


1- 659. كشف الغمة: ج 2 ص 192. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 147.

فقال له: ائتها بغضارة (1) مملوة زبيبا، فأكلت منها حاجتها، و قال (عليه السلام) له: قل لها: ان ابن رسول الله بالباب يأمرك أن توصين. فأوصت، ثم توفيت، قال: فما برحنا حتي صلي عليها أبوعبدالله (عليه السلام) و دفنت (2) .

يسجد و الناس لا يرونه

10- عن معاوية بن وهب قال: كنت مع أبي عبدالله (عليه السلام) بالمدينة و هو راكب حماره، فنزل و قد كنا صرنا الي السوق أو قريبا من السوق قال: فنزل و سجد و أطال السجود و أنا أنتظره، ثم رفع رأسه. قال: قلت: جعلت فداك رأيتك نزلت فسجدت؟! قال: اني ذكرت نعمة الله علي. قال: قلت: قرب السوق، و الناس يجيئون و يذهبون؟! قال: انه لم يرني احد (3) .

تمييز دنانير الهدية من دنانير الزكاة

11- عن أبي بصير قال: دخل شعيب العقرقوفي علي أبي عبدالله (عليه السلام) و معه صرة فيها دنانير فوضعها بين يديه فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): أزكاة أم صلة؟ فسكت ثم قال: زكاة و صلة.

ص: 355


1- 660. اعلام الوري: ص 276.
2- 661. الغضارة: القصعة الكبيرة (أقرب الموارد).
3- 662. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 614 ح 13. منه بحارالأنوار:ج 47 ص 98.

قال: فلا حاجة لنا في الزكاة [قال:] فقبض أبوعبدالله (عليه السلام) قبضة فدفعها اليه. فلما خرج قال أبوبصير: قلت له:كم كانت الزكاة [من هذه]؟ قال: بقدر ما أعطاني، والله لم يزد حبة و لم ينقص حبة (1) .

النخلة الخاوية تثمر الرطب فورا

12- عن سليمان بن خالد أن أباعبدالله البلخي كان مع الامام الصادق (عليه السلام) فانتهي الي نخلة خاوية قال: «أيتها النخلة السامعة المطيعة لربها أطعمينا مما جعل الله فيك». قال: فتساقط علينا رطب مختلف ألوانه، فأكلنا حتي تضلعنا (2) . فقال البلخي: جعلت فداك سنة فيكم كسنة مريم (3) .

نبع الماء العذب من البئر

13 - عن سليمان بن خالد أيضا، قال: كان معه (عليه السلام) أبوعبدالله البلخي في سفر فقال [الامام] له: انظر هل تري هاهنا جبا؟ فنظر البلخي يمنة و يسرة ثم انصرف، فقال: ما رأيت شيئا. قال (عليه السلام): بلي انظر. فعاد أيضا ثم رجع اليه. ثم قال (عليه السلام) بأعلي صوته: «ألا يا أيها الجب الزاخر السامع

ص: 356


1- 663. بصائر الدرجات: ص 515 ح 2. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 21.
2- 664. اعلام الوري: ص 275.
3- 665. تضلع الرجل: امتلأ ما بين أضلاعه شبعا و ريا (لسان العرب).

المطيع لربه اسقنا مما جعل الله فيك». قال: فنبع منه أعذب ماء، و أطيبه و أرقه و أحلاه. فقال له البلخي: جعلت فداك سنة فيكم كسنة موسي (1) . أقول: لعل قوله: «سنة فيكم كسنة موسي» اشارة الي قوله تعالي: «فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا» (2) .

اخراج الورقة من التمرة

14- روي أن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) اذ دخل عليه المعلي بن خنيس باكيا فقال: و ما يبكيك؟ قال: بالباب قوم يزعمون أن ليس لكم عليهم فضل، و أنكم و هم شي ء واحد، فسكت ثم دعا بطبق من تمر فأخذ منه تمرة فشقها نصفين و أكل التمر و غرس النوي في الأرض فنبتت فحملت بسرا، فأخذ منها واحدة فشقها [نصفين] و أكل و أخرج منها و رقا و دفعه الي المعلي و قال [له]: اقرأ [ه]! فاذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم لا اله الا الله، محمد رسول الله، علي المرتضي، [و] الحسن و الحسين و علي بن الحسين [و عدهم] واحدا واحدا الي الحسن بن علي و ابنه (3) .

الدنانير تنحد من الطلشت

15 - قال بعض أصحابه (عليه السلام): حملت مالا الي أبي عبدالله

ص: 357


1- 666. اشارة الي قوله تعالي: «و هزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا» و الحديث في بصائر الدرجات: ص 274 ح 5.
2- 667. بصائر الدرجات: ص 532 ح 28. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 92.
3- 668. سورة البقرة آية 60.

(عليه السلام) فاستكثرته في نفسي، فلما دخلت عليه دعا بغلام، و اذا طشت في آخر الدار، فأمره أن يأتي به، ثم تكلم بكلام لما أتي بالطشت فانحدرت الدنانير من الطشت، حتي حالت بيني و بين الغلام، ثم التفت الي و قال: أتري نحتاج الي ما في أيديكم؟! انما نأخذ منكم ما نأخذ لنطهركم به (1) .

احياء البقرة الميتة

16- روي عن المفضل بن عمر قال: كنت أمشي مع أبي عبدالله جعفر بن محمد (عليهماالسلام) بمكة [أو بمني]، اذ مررنا بامرأة بين يديها بقرة ميتة، و هي مع صبية لها تبكيان، فقال (عليه السلام) لها: ما شأنك؟ قالت: كنت أنا و صبياني نعيش من هذه البقرة، و قد ماتت، لقد تحيرت في أمري. قال: أفتحبين أن يحييها الله لك؟ قالت: أو تسخر مني مع مصيبتي؟ قال: كلا، ما أردت ذلك، ثم دعا بدعاء، ثم ركضها برجله، و صاح بها، فقامت البقرة مسرعة سوية. فقالت: عيسي بن مريم و رب الكعبة. فدخل الصادق (عليه السلام) بين الناس، فلم تعرفه المرأة (2) .

ص: 358


1- 669. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 624 ح 25. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 102.
2- 670. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 614 ح 12. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 101.

تحرك الجبل من مكانه

17- عن الحسن بن عطية قال: كان أبوعبدالله (عليه السلام) واقفا علي الصفا، فقال له عباد البصري: حديث يروي عنك. قال: و ما هو؟ قال: قلت: حرمة المؤمن أعظم من حرمة هذه البنية. قال: قد قلت ذلك، ان المؤمن لو قال لهذه الجبال: أقبلي أقبلت، قال: فنظرت الي الجبال قد أقبلت فقال لها: علي رسلك (1) اني لم اردك (2) .

الأخذ باذن الأسد

18- عن عبدالغفار بن الحسن قال: قدم ابراهيم بن أدهم الكوفة و أنا معه - و ذلك علي عهد المنصور - و قدمها جعفر بن محمد العلوي، فخرج جعفر (عليه السلام) يريد الرجوع الي المدينة فشيعه العلماء و أهل الفضل من أهل الكوفة، و كان فيمن شيعه: سفيان الثوري، و ابراهيم بن أدهم: فتقدم المشيعون له، فاذا هم بأسد علي الطريق فقال لهم ابراهيم بن أدهم: قفوا حتي يأتي جعفر فننظر ما يصنع؟ فجاء جعفر (عليه السلام) فذكروا له الأسد، فأقبل حتي دنا من الأسد فأخذ باذنه فنحاه عن الطريق، ثم أقبل عليهم، فقال: أما ان الناس لو أطاعوا الله حق طاعته لحملوا عليه أثقالهم (3) .

ص: 359


1- 671. الخرائج و الجرائح: ج 1 ص 294 ح 1. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 115.
2- 672. أي علي مهلك.
3- 673. الاختصاص: ص 325. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 89.

النار في التنور لا تحرق الرجل

19- عن مأمون الرقي قال: كنت عند سيدي الصادق (عليه السلام) اذ دخل سهل بن الحسن الخراساني، فسلم عليه، ثم جلس، فقال له: يابن رسول الله! لكم الرأفة و الرحمة، و أنتم أهل بيت الامامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه؟ و أنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال (عليه السلام) له: اجلس يا خراساني، رعي الله حقك. ثم قال: يا حنيفة! أسجري التنور! فسجرته حتي صار كالجمرة، و ابيض علوه، ثم قال: يا خراساني! قم فاجلس في التنور!! فقال الخراساني: يا سيدي يابن رسول الله لا تعذبني بالنار، أقلني! أقالك الله! قال: قد أقلتك. فبينما نحن كذلك اذ أقبل هارون المكي - و نعله في سبابته - فقال: السلام عليك يابن رسول الله. فقال له الصادق (عليه السلام): ألق النعل من يدك، و اجلس في التنور! قال: فألقي النعل من سبابته، ثم جلس في التنور، فأقبل الامام (عليه السلام) يحدث الخراساني حديث خراسان حتي كأنه شاهد لها، ثم قال: قم يا خراساني، و انظر ما في التنور. قال: فقمت اليه، فرأيته متربعا، فخرج الينا و سلم علينا.

ص: 360

فقال الامام (عليه السلام) له [للخراساني]: كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقال: والله و لا واحدا. فقال (عليه السلام): لا، والله و لا واحدا. [فقال]: أما انا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت (1) .

الاخبار عن حملة الجراد

20- عن ابراهيم بن عبدالحميد، قال: خرجت الي قبا، لأشتري نخلا (2) فلقيته (عليه السلام) و قد دخل المدينة، فقال: أين تريد؟ فقلت: لعلنا نشتري نخلا. فقال: أو أمنتم الجراد؟ فقلت: لا، والله لا أشتري نخلة، فوالله ما مضت الا خمسا حتي جاء من الجراد ما لم يترك في النخل حملا (3) .

ارسال الخضر لانقاذ العطشان في الصحراء

21 - عن داود الرقي، قال: خرج أخوان لي يريدان المزار (4) فعطش

ص: 361


1- 674. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 241. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 139.
2- 675. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 237. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 123.
3- 676. أي أشتري التمر الذي علي النخل قبل جذاذه.
4- 677. اعلام الوري: ص 275.

أحدهما عطشا شديدا حتي سقط من الحمار، و سقط الآخر في يده (1) . فقام، فصلي، و دعا الله و محمدا و أميرالمؤمنين و الأئمة (عليهم السلام) كان يدعو واحدا بعد واحد، حتي بلغ الي آخرهم: جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فلم يزل يدعوه و يلوذ به. فاذا هو برجل قد قام عليه، و هو يقول: يا هذا! ما قصتك! فذكر له حاله. فناوله قطعة عود و قال: ضع هذا بين شفتيه. ففعل ذلك، فاذا هو قد فتح عينيه و استوي جالسا، و لا عطش به، فمضي حتي زار القبر. فلما انصرفا الي الكوفة أتي صاحب الدعاء (2) المدينة، فدخل علي الصادق (عليه السلام) فقال [الامام] له: اجلس، ما حال أخيك؟ أين العود؟ فقال: يا سيدي! اني لما اصبت بأخي اغتممت غما شديدا، فلما رد الله عليه روحه نسيت العود من الفرح! فقال الصادق (عليه السلام): أما انه ساعة صرت الي غم أخيك أتاني أخي: الخضر، فبعثت اليك - علي يديه - قطعة عود من شجرة طوبي! ثم التفت الي خادم له فقال له: علي بالسفط. فأتي به، ففتحه و أخرج منه قطعة العود بعينها، ثم أراها اياه، حتي عرفها، ثم ردها الي السفط (3) .

ص: 362


1- 678. لعل المقصود من المزار - هنا - المدينة المنورة.
2- 679. سقط في يده: أي تحير في أمره.
3- 680. أي ذلك الأخ الذي دعا الله تعالي و استغاث بالنبي و الأئمة (عليهم السلام).

الامام لا يأكل اللحم الحرام

22- عن سعد الاسكاف، [قال:] كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) ذات يوم، اذ دخل عليه رجل من [أهل] الجبل بهدايا و ألطاف (1) فكان - فيما اهدي اليه - جراب من قديد وحش (2) فنثره أبوعبدالله (عليه السلام) ثم قال: خذها فأطعمها الكلاب. فقال الرجل: لم؟ قال: ليس بذكي... فقال الرجل: اشتريته من رجل مسلم، ذكر أنه ذكي. فرده أبوعبدالله (عليه السلام) في الجراب، و تكلم عليه بكلام لم أدر ما هو؟ ثم قال للرجل: قم، فأدخله ذلك البيت، وضعه في زاوية البيت. ففعل، فسمع [الرجل] القديد يقول: يا عبدالله! ليس مثلي يأكله الامام، و لا أولاد الأنبياء لست بذكي! فحمل الرجل الجراب، و خرج [من ذلك البيت] فقال أبوعبدالله (عليه السلام) [له]: «ما قال؟». قال: أخبرني بما أخبرتني به: أنه غير ذكي. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): «أما علمت - يا أباهارون! أنا نعلم ما لا يعلمه الناس؟!». قال: بلي. فخرج و ألقاه علي كلب لقيه (3) .

ص: 363


1- 681. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 240. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 138.
2- 682. ألطاف - جمع لطف: من طرف التحف (أقرب الموارد).
3- 683. قديد وحش: أي كان من لحوم الحيوانات الوحشية.

مسخ الأعرابي ثم اعادته الي حالته الاولي

23- قال علي بن أبي حمزة: حججت مع الصادق (عليه السلام) فجلسنا في بعض الطريق تحت نخلة يابسة، فحرك شفتيه بدعاء لم أفهمه، ثم قال: «يا نخلة! أطعمينا مما جعل الله فيك من رزق عباده». قال: فنظرت الي النخلة و قد تمايلت نحو الصادق (عليه السلام) و عليها أعذاقها، و فيها الرطب قال: ادن فسم و كل، فأكلنا منها رطبا أعذب رطب و أطيبه. فاذا نحن بأعرابي يقول: ما رأيت - كاليوم - سحرا أعظم من هذا!! فقال الصادق (عليه السلام): نحن ورثة الأنبياء، ليس فينا ساحر و لا كاهن، بل ندعوا الله فيجيب، فان أحببت أن أدعوا الله فيمسخك كلبا تهتدي الي منزلك، و تدخل عليهم و تبصبص لأهلك؟ قال الأعرابي - بجهله: بلي. فدعا الله فصار كلبا في وقته، و مضي علي وجهه. فقال لي الصادق (عليه السلام): اتبعه. فاتبعته حتي صار الي حيه، فدخل الي منزله، فجعل يبصبص لأهله و ولده، فأخذوا له العصا حتي أخرجوه. فانصرفت الي الصادق (عليه السلام) فأخبرته بما كان منه، فبينما نحن في حديثه اذ أقبل حتي وقف بين يدي الصادق (عليه السلام) و جعلت دموعه تسيل [علي خديه]، و أقبل يتمرغ في التراب، و يعوي. فرحمه، فدعا الله [له]، فعاد أعرابيا.

ص: 364

فقال له الصادق (عليه السلام): هل آمنت يا أعرابي؟ قال: نعم، ألفا و ألفا!! (1) .

استخراج سبائك الذهب من الأرض

24- عن يونس بن ظبيان و مفضل بن عمر و أبي سلمة السراج و الحسين بن ثوير بن أبي فاختة قالوا: كنا عند أبي عبدالله فقال: عندنا خزائن الأرض و مفاتيحها و لو شئت أن أقول باحدي رجلي أخرجي ما فيك من الذهب لأخرجت. قال: ثم قال باحدي رجليه فخطها في الأرض خطا فانفرجت الأرض، ثم قال بيده فأخرج سبيكة ذهب قدر شبر ثم قال: انظروا حسنا، فنظرنا فاذا سبائك كثيرة بعضها علي بعض يتلألأ فقال له بعضنا: جعلت فداك اعطيتم ما اعطيتم و شيعتكم محتاجون؟ قال: فقال: ان الله سيجمع لنا و لشيعتنا الدنيا و الآخرة و يدخلهم جنات النعيم و يدخل عدونا الجحيم (2) . أقول: قوله (عليه السلام): «... ان الله سيجمع لنا و لشيعتنا الدنيا...» لعل المقصود هو في دولة الامام المهدي المنتظر (عجل الله تعالي فرجه الشريف) حيث تخرج الأرض بركاتها و كنوزها و ذخائرها.

الأعمي ينقلب بصيرا

25- عن أبي بصير قال: تجسست جسد أبي عبدالله (عليه السلام)

ص: 365


1- 684. بحارالأنوار: ج 47 ص 95.
2- 685. الخرائج و الجرائح: ج 1 ص 296 ح 3. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 110.

و مناكبه قال: فقال: يا أبامحمد تحب أن تراني؟ فقلت: نعم جعلت فداك. قال: فمسح يده علي عيني فاذا أنا أنظر اليه. قال: فقال: يا أبامحمد لو لا شهرة الناس لتركتك بصيرا علي حالك، و لكن لا تستقيم، قال: ثم مسح يده علي عيني فاذا أنا كما كنت (1) . و عن أبي بصير أيضا قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام): تريد أن تنظر بعينك الي السماء؟ قلت: نعم، فمسح يده علي عيني فنظرت الي السماء (2) .

تعلم القرآن في ليلة

26- روي أنه كان لأبي عبدالله (عليه السلام) مولي يقال له مسلم، و كان لا يحسن القرآن، فعلمه في ليلة. فأصبح و قد أحكم القرآن (3) .

الرمل يباع بقيمة الذهب

27- و من كراماته (عليه السلام) أن المنصور يوما دعاه، فركب معه الي بعض النواحي فجلس المنصور علي تلال هناك، و الي جانبه أبوعبدالله (عليه السلام) فجاء رجل و هم أن يسأل المنصور ثم أعرض عنه، و سأل الصادق (عليه السلام) فحثي له من رمل هناك مل ء يده - ثلاث مرات -

ص: 366


1- 686. الكافي: ج 1 ص 474 ح 4.
2- 687. بحارالأنوار: ج 47 ص 79.
3- 688. بحارالأنوار: ج 47 ص 78.

و قال له: اذهب و اغل (1) فقال له بعض حاشية المنصور: اعرضت عن الملك و سألك فقيرا لا يملك شيئا؟ فقال الرجل - و قد عرق وجهه خجلا مما أعطاه -: اني سألت من أنا واثق بعطائه، ثم جاء بالتراب الي بيته فقالت له زوجته: من أعطاك هذا؟ فقال: جعفر. فقالت: و ما قال [لك]؟ قال: قال لي: اغل. فقالت: انه صادق فاذهب بقليل منه الي أهل المعرفة، فاني أشم منه رائحة الغني، فأخذ الرجل منه جزءا و مر به الي بعض اليهود فأعطاه فيما حمل منه اليه عشرة آلاف درهم، و قال له: ائتني بباقيه علي هذه القيمة (2) .

احياء المرأة الميتة

28- عن العبدي قال: قالت أهلي لي: قد طال عهدنا بالصادق (عليه السلام) فلو حججنا، و جددنا به العهد. فقلت لها: والله ما عندي شي ء أحج به. فقالت: عندنا كسوة و حلي، فبع ذلك، و تجهز به. ففعلت. فلما صرنا بقرب المدينة مرضت مرضا شديدا حتي أشرفت علي الموت، فلما دخلنا المدينة خرجت من عندها، و أنا آيس منها. فأتيت الصادق (عليه السلام) و عليه ثوبان ممصران (3) فسلمت عليه،

ص: 367


1- 689. بحارالأنوار: ج 47 ص 101.
2- 690. أي: امره بأن يبيع ذلك التراب غاليا.
3- 691. بحارالأنوار: ج 47 ص 156.

فأجابني، و سألني عنها، فعرفته خبرها، و قلت: اني خرجت و قد أيست منها. فأطرق مليا، ثم قال: يا عبدي! أنت حزين بسببها؟ قلت: نعم. قال: لا بأس عليها، فقد دعوت الله لها بالعافية، فارجع اليها، فانك تجدها [قد أفاقت و هي] قاعدة، و الخادمة تلقمها الطبرزد (1) . قال: فرجعت اليها مبادرا، فوجدتها قد أفاقت، و هي قاعدة، و الخادمة تلقمها الطبرزد! فقلت: ما حالك؟ قالت: قد صب الله علي العافية صبا، و قد اشتهيت هذا السكر. فقلت: خرجت من عندك آيسا، فسألني الصادق عنك، فأخبرته بحالك، فقال: لا بأس عليها، ارجع اليها فهي تأكل السكر. قالت: خرجت من عندي و أنا أجود بنفسي، فدخل علي رجل عليه ثوبان ممصران قال: مالك؟ قلت: أنا ميتة، و هذا ملك الموت قد جاء لقبض روحي. فقال: يا ملك الموت! قال: لبيك! أيها الامام! قال: ألست امرت بالسمع و الطاعة لنا؟ قال: بلي، قال: فاني آمرك أن تؤخر أمرها عشرين سنة. قال: السمع و الطاعة. قالت: فخرج هو و ملك الموت من عندي، فأفقت من ساعتي (2) . 29- و عن عيسي بن مهران قال: كان رجل من أهل خراسان من

ص: 368


1- 692. الثوب الممصر: المصبوغ بالمصر أي: الطين الاحمر أو المصبوغ بحمرة خفيفة، و قيل: مصبوغ فيه صفرة قليلة (أقرب الموارد).
2- 693. الطبرزد: هو السكر الأبلوج، و به سمي نوع من أنواع التمر لحلاوته (مجمع البحرين).

ماوراءالنهر (1) و كان موسرا، و كان محبا لأهل البيت، و كان يحج في كل سنة، و قد وظف علي نفسه لأبي عبدالله (عليه السلام) في كل سنة ألف دينار من ماله، و كانت تحته ابنة عم له، تساويه في اليسار و الديانة. فقالت - في بعض السنين -: يابن عم! حج بي في هذه السنة. فأجابها الي ذلك. فتجهزت للحج، و حملت لعيال أبي عبدالله (عليه السلام) و بناته من فواخر ثياب خراسان و من الجوهر و غيره أشياء كثيرة خطيرة، و صير زوجها ألف دينار التي أعدها لأبي عبدالله (عليه السلام) في كيس، و صير الكيس في ربعة (2) فيها حلي [بنت عمه] و طيب. و شخص يريد المدينة، فلما وردها صار الي أبي عبدالله (عليه السلام) فسلم عليه، و أعلمه أنه حج بأهله، و سأله الاذن لها في المصير الي منزله للتسليم علي أهله و بناته. فأذن لها أبوعبدالله (عليه السلام) في ذلك، فصارت اليهم، و فرقت - ما حملت - عليهم، و أقامت يوما عندهم، و انصرفت. فلما كان من الغد، قال لها زوجها: أخرجي تلك الربعة لتسليم الألف دينار الي أبي عبدالله (عليه السلام). فقالت: هي في موضع كذا، فأخذها و فتح القفل، فلم يجد الدنانير، و كان فيها حليها، و ثيابها، فاستقرض ألف دينار من أهل بلده، و رهن الحلي عندهم علي ذلك، و صار الي أبي عبدالله (عليه السلام). فقال (عليه السلام): قد وصلت الينا الألف!!

ص: 369


1- 694. الخرائج و الجرائح: ج 1 ص 294 ح 2. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 115.
2- 695. منطقة في أفغانستان.

قال: يا مولاي! و كيف ذلك؟ و ما علم بمكانها غيري و غير بنت عمي؟ قال: مستنا ضيقة، فوجهنا من أتي بها من شيعتي من الجن. فاني كلما اريد أمرا بعجلة أبعث واحدا منهم. فزاد ذلك في بصيرة الرجل، و سر به و استرجع الحلي ممن أرهنه. ثم انصرف الي منزله، فوجد امرأته تجود بنفسها، فسأل عن خبرها فقالت خادمتها: أصابها وجع في فؤادها فهي علي هذه الحالة، فغمضها و سجاها، و شد حنكها و تقدم في اصلاح ما تحتاج اليه من الكفن و الكافور و حفر قبرها، و صار الي أبي عبدالله (عليه السلام)، فأخبره و سأله أن يتفضل بالصلاة عليها. فقام (عليه السلام) و صلي ركعتين و دعا، ثم قال للرجل: انصرف الي رحلك، فان أهلك لم تمت، و ستجدها في رحلك تأمر و تنهي، و هي في حال سلامة. فرجع الرجل، فأصابها كما وصف أبوعبدالله (عليه السلام)، ثم خرج يريد مكة و خرج أبوعبدالله (عليه السلام) للحج أيضا، فبينا المرأة تطوف بالبيت اذ رأت أباعبدالله يطوف، و الناس قد حفوا به. فقالت لزوجها: من هذا الرجل؟ قال: هذا أبوعبدالله. قالت: والله هذا الرجل الذي رأيته يشفع الي الله حتي رد روحي في جسدي. [و لم تكن رأته قبل] (1) .

ص: 370


1- 696. الربعة: جونة العطار. (أقرب الموارد).

الاخبار عن الخيانة المالية

30- عن سدير الصيرفي قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و قد اجتمع علي ماله فأحببت دفعه اليه، و كنت حبست منه دينارا، لكي أعلم أقاويل الناس، فوضعت المال بين يديه. فقال لي: يا سدير خنتنا، و لم ترد بخيانتك ايانا قطيعتنا. قلت: جعلت فداك و ما ذلك؟ قال: أخذت شيئا من حقنا لتعلم كيف مذهبنا. قلت: صدقت جعلت فداك، انما أردت أن أعلم قول أصحابي. فقال لي: أما علمت أن كل ما يحتاج اليه نعلمه، و عندنا ذلك؟!! أما سمعت قول الله تعالي: «و كل شي ء أحصيناه في امام مبين» (1) ؟!! اعلم أن علم الأنبياء محفوظ في علمنا، مجتمع عندنا و علمنا من علم الأنبياء، فأين يذهب بك؟! قلت: صدقت جعلت فداك (2) .

ص: 371


1- 697. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 627 ح 28. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 103.
2- 698. سورة يس آية 12.

مدرسة الامام الصادق

اشاره

ليس المقصود من المدرسة - هنا - البناية المشتملة علي الصفوف و ما فيها من الكراسي و الرحلات و المختبرات و أمثالها. و لا الحلقات الدراسية التي نشاهدها في الحوزات العلمية. بل المقصود من المدرسة - هنا -: ما هو المعروف في الاصطلاح الحديث - في جميع اللغات و الشعوب -: أن كل مجموعة من الأفكار و الأراء المستحدثة التي تتبناها جماعة من الناس تسمي مدرسة، و مؤسس تلك الأفكار يسمي: صاحب المدرسة. و لا نقصد من هذا الاصطلاح - هنا - أن الامام الصادق (عليه السلام) هو مؤسس الأحكام الاسلامية، بل هو ناشر الأحكام الأسلامية بأوسع صورة ممكنة في ذلك العصر. و بعبارة اخري: المقصود هو الخط و النهج الذي كان عليه الامام الصادق (عليه السلام)، و هو نهنج آبائه الأئمة الكرام الطاهرين، و هو خط رسول الله (صلي الله عليه و آله) و نهجه، و هو الاسلام الصحيح، السليم من التلاعب و الزيادة و النقصان.

ص: 372

و لا يوجد في هذا الكلام شي ء من الغلو و المبالغة، فان جميع المسلمين متفقون علي أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان علي الحق الواضح و الصراط المستقيم، لا انحراف فيه و لا اعوعاج و لا شك فيه و لا ضلال. و هكذا الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) - بدء من الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب الي الامام الثاني عشر المهدي المنتظر (سلام الله عليهم أجمعين) - كانوا علي سيرة رسول الله (صلي الله عليه و آله) و سنته. و لا حاجة الي اثبات هذه الحقيقة، فالأئمة الأحد عشر - الذين عاشوا من بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آله) من سنة 11 من الهجرة الي سنة 260 من الهجرة - أي خلال قرنين و نصف - لم يعهد منهم أي انحراف عن الدين، أو مخالفة للاسلام، أو تغيير للشريعة، أو تلاعب بالأحكام، بل ساروا علي نهج رسول الله (صلي الله عليه و آله) و سنته، و لم ينحرفوا عنها قيد شعرة. و من الواضح انهم كانوا في المجتمعات البشرية، و كان المناوئون يراقبون حركاتهم و سكناتهم بكل دقة، لعلهم يجدون فيهم نقطة ضعف، حتي يهرجوا و يطبلوا ضدهم، و يشنعوا عليهم، و لكنهم لم يجدوا فيهم أقل زلة أو عثرة، أو نقطة ضعف. بل وجدوا كل واحد منهم مجمعا للكمالات النفسية، و منبعا للاخلاق الفاضلة، و مظهرا للدين و في ذروة التقوي، و قمة الورع. يتجسد فيهم الاسلام - بجميع معني الكلمة - و ليس لأحد فيهم مهمز و لا لقائل فيهم مغمز. و هذه مجلدات التاريخ تشهد بصدق هذا الكلام. و لا يهمنا بعض الكتب التائهة الساقطة، التي كتبت بدوافع الحقد

ص: 373

و العداء، أو بأقلام أناس مفضوحين مهتوكين، استأجرهم الطواغيت، و اشتروا منهم ضمائرهم ليشوهوا الحقائق و يلبسوا الحق بالباطل، تقربا الي الشيطان الرجيم. نعود الي كلامنا عن مدرسة الامام الصادق (عليه السلام): قال المحقق الحلي في كتابه: المعتبر: «و كانت مدرسته في داره في المدينة، و في المسجد، و اينما وجد، و كان من يرد المدينة من الآفاق - في الموسم [موسم الحج] و غيره - يسأله، و يأخذ عنه، و يهيي ء له المسائل الي أن يتهيأ له الوصول اليه (عليه السلام). و آثر عنه - في علم الكلام - الشي ء الكثير، و روي عنه المفضل بن عمر كتابا يعرف ب (توحيد المفضل) هو أجود كتاب في رد الدهرية...» الي آخر كلامه طاب ثراه.

اصحاب الامام الصادق

لقد تشرفت مجموعة كبيرة و جماعة كثيرة من الناس بالتتلمذ علي يد الامام الصادق (عليه السلام) و الاستنارة بنور علمه و التزود من منهل فضله... و قد بلغ قسم منهم درجات عالية و مراتب سامية في العلم و الفضل و الكمال... و قسم منهم كتبوا الكتب و ألفوا المؤلفات الكثيرة في مختلف العلوم و المعارف. و المعروف أن عدد أصحاب الامام الصادق (عليه السلام) و تلامذته بلغ أربعة آلاف رجل... و لكننا استطعنا - و الحمد لله - أن نحصي أكثر من خمسة آلاف من أصحابه الذين تشرفوا بلقائه و الاستماع الي حديثه...

ص: 374

و قد ذكرنا اسماءهم بالتفضيل في المجلد الخاص بأصحابه في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

مزايا مدرسة الامام الصادق

أقول: و المدرسة قائمة بالاستاذ، و الطلاب و المحل. و تختلف المدارس بعضها عن بعض اختلافا عظيما من حيث الاستاذ المدرس، و من حيث التلاميذ، و من حيث المواضيع التي تدرس، بل و حتي من حيث الزمان و الظروف. و مدرسة الامام الصادق (عليه السلام) - التي كان هو استاذها و مديرها - كانت تمتاز عن غيرها من المدارس، من كل الجهات المذكورة: أما استاذها و مديرها و قطب رحاها فهو ألمع شخصية علمية عالمية في عصره، و في عشيرته، و في المدينة المنورة، و عند كل من تعرف عليه أو تكلم معه، من مختلف البلاد و المستويات. شخصية جمعت علوم الأولين و الآخرين و أحاطت بأحكام الدين «و كل شي ء أحصيناه في امام مبين» (1) . و أما الطلاب - و هم الرواة عنه، و تلاميذه - فقد كان جلهم من خيرة أهل زمانه و عصره، يعرفون مكانة الامام العلمية، و قداسة الامامة فيه، و تحليه بأجمل مكارم الأخلاق، فكان نظرتهم اليه نظرة تعظيم و احترام. فالحلقات الدراسية في الحوزات العلمية يكثر فيها النقاش بين الطلاب و الأساتذة في الدليل أو في موضوع البحث بصورة عامة. و لكن هذه الظاهرة لم تكن في مجلس درس الامام الصادق (عليه السلام) لأن تلامذته - و هم أصحابه - كان أكثرهم يعتقدون بامامته،

ص: 375


1- 699. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 227. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 130.

و يعتبرون كلامه هو الحكم الالهي الذي لا يقبل الجدل، و لا مجال فيه للاجتهاد و ابداء الرأي. نعم، قد كان بعضهم يسأل عن العلة في الحكم، و سؤاله سؤال تعلم و تفهم، و لا سؤال نقاش و جدل. و كان مجلس درسه لا يخلو من غير الشيعة - المعتقدين بامامته - و حتي اولئك كانوا يقبلون كلامه بصفته اسطوانة من أساطين العلم و المعرفة، فلا يسألونه عن مصدر قوله. نعم، ربما كان الامام (عليه السلام) يخبرهم أن ما ذكره لهم قد رواه عن آبائه الطاهرين، عن جده رسول الله (صلي الله عليه و آله). و ما كان هدف اصحاب و تلاميذ الامام الصادق (عليه السلام): الرياء و السمعة و الشهرة، و لا تحصيل شهادة التخرج من تلك المدرسة، كشهادة (الدكتوراه) و (الماجستر) و امثالهما المعروفة في هذا العصر. بل كان هدفهم الأول و الأخير: التعلم، ثم خدمة الدين. و كان الامام يقدم الي أصحابه - في سبيل التعليم - أحسن التعليمات، و أثمن المواعظ و النصائح. كان يأمرهم بالأمانة و الصدق قبل تعلم الحديث، و يأمرهم بالعمل بما يعلمون و ان لا يكتفوا بالعلم دون العمل. و يأمرهم بتعليم الآخرين، و تنبيه الغافلين، و عدم التكبر علي من يعلمونه، و يحثهم علي تحمل المشاق في سبيل تحصيل العلم. و يؤكد عليهم أن يأخذوا العلم من أهله، من المنابع الصافية النظيفة الموثوق بها، لا المشكوك فيها، و لا الملوثة. و يأمرهم باحترام العلماء و توقيرهم، و العناية بشأنهم، بل و العطف عليهم.

ص: 376

التخصص في مدرسة الامام الصادق

اشاره

من مزايا مدرسة الامام الصادق (عليه السلام) - و التي لم يسبق اليها أحد و تعتبر مما تفردت به - هو التخصص. هذا الأمر الذي صار معروفا في العصر الحاضر، في المجالات العلمية و الطيبة و غيرها. فكان للامام الصادق (عليه السلام) تلامذة تخصصوا في بعض العلوم و المعارف، فبلغوا فيها مرتبة عالية و درجة رفيعة. و علي سبيل المثال - لا الحصر - نذكر بعض النماذج:

جابر بن حيان

هذا الرجل الكبير الذي تخصص في علم الكيمياء، و تتلمذ علي يد الامام الصادق (عليه السلام) و وجد الامام فيه الأهلية و القابلية فجعل يزقه من علم الكيمياء زقا... حتي صار يعرف ب: أب الكيمياء، و معلم الكيمياء و استاذ الكيمياء. و له كتب كثيرة في مختلف العلوم من الفلسفة و الأحكام

ص: 377

و خواص الأشياء و الكيمياء و الآلات الحربية و غيرها. و له كتاب ضخم في الطب و رسائل متعددة في الكيمياء و علم المختبرات و غير ذلك. و لا زال بعض كتبه موجودا حتي الآن و بخط يده، و محفوظا في بعض المكتبات العامة في بعض البلاد الغربية. و قد ترجمت كتبه الي اللغة الانجليزية و غيرها من اللغات العالمية. و الجدير بالذكر أن جابر بن حيان يصدر كتاباته كلها بقوله: حدثني سيدي و مولاي جعفر بن محمد. و قد حاز قصب السبق في بعض الاكتشافات و الاختراعات التي قدمها للعالم بعد تجارب كثيرة و جهود كبيرة. و كان محمد بن زكريا الرازي يفتخر بأنه من تلاميذه. هذا... و قد تحدثنا بشي ء من التفصيل - عن هذه الشخصية المتلألأة في سماء العلم و الاسلام - في الجزء الخاص بأصحاب الامام الصادق (عليه السلام) من الموسوعة. و انما ذكرناه هنا بمناسبة التحدث عن التخصص في مدرسة الامام الصادق (عليه السلام).

هشام بن الحكم

هذا العالم الجليل الذي تخصص في علم الكلام و العقائد و كانت له اليد الطولي في الحوار و المناظرة، مع المنحرفين و المخالفين. و كان الامام الصادق (عليه السلام) يرتاح اليه و يستأنس به، و قد منحه و ساما معنويا قيما، هو أغلي من تيجان الملوك و اوسمة المتفوقين،

ص: 378

حينما قال (عليه السلام) له: «ناصرنا بيده و لسانه و قلبه». هذا... و قد ذكرنا بعض مناظراته، في هذا الكتاب، كما قد تحدثنا عنه بالتفصيل في الجزء الخاص بأصحاب الامام الصادق (عليه السلام) من الموسوعة.

محمد بن مسلم

هذا الرجل النابغة في الفقه و الحديث... الذي كان يروي عن الامام الصادق (عليه السلام) ستة عشر ألف حديث!! لقد تخصص هذا الرجل العظيم بعلم الفقه و الحديث، فنال مرتبة سامية في هذا المجال... هذا.. و النماذج التخصصية في مدرسة الامام الصادق (عليه السلام) كثيرة، و قد ذكرناها في أثناء تراجم الرواة و أصحاب الامام، في الأجزاء الخاصة بهم في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 379

من مزايا عصر الامام الصادق

لقد امتاز عصر الامام الصادق (عليه السلام) بمزايا عديدة نشير الي بعضها فيما يلي: 1- ازدهار العلم بسبب تفتح الأذهان. 2- و انتشار الوعي و اليقظة في المجتمع. 3- و الرغبة الملحة الي التزود من المعرفة. 4- و قيام النهضة العلمية في المراكز الدينية، و خاصة في المدينة المنورة بسبب وجود البقية من الصحابة، و بعض التابعين - الذين ادركوا الصحابة - و تابعي التابعين. 5- و كانت همم الرجال متجهة الي العلوم الدينية - و هي الامور العقائدية المسماة ب (علم الكلام) - و الي التفسير و الحديث، و هذه العلوم كانت لها الصدارة، و بقية العلوم - كالنجوم و الطب و امثالهما - كانت في الهامش. 6- و في تلك الظروف تكونت - أو تبلورت أو ظهرت علي منصة الظهور - المذاهب العديدة، و صار لكل مذهب مدرسة خاصة، و منهاجا

ص: 380

يمتاز عن غيره، كالقدرية و الكيسانية و المرجئة و الحشوية و الخوارج و غيرهم، و لكل منها امام يقود تلك الحركة، و له هواة و هم أتباع كل ناعق و يميلون مع كل ريح. و من العجب ان المجتمعات - علي طول التاريخ - لا تخلو من هكذا أفراد و أتباع، الذين يتلونون بكل لون، و ليس لهم اتجاه معين، و يعتنقون كل مبدء عرض عليهم، بلا تفكر أو ترو. أيها القارئ الكريم: و في هذا الجو المليئ بالاتجاهات، و في هذا العصر - الذي ذكرنا بعض مزاياه - ازدهر المذهب الشيعي ببركة الامام الصادق (عليه السلام) و مدرسته العلمية القيمة... و صار يعرف بالمذهب الجعفري. و اليك بعض التفصيل في الفصل القادم:

ص: 381

المذهب الجعفري

لقد اتفق المسلمون علي أن مصدر التشريع الاسلامي هو القرآن الكريم، و السنة النبوية الشريفة. ثم اختلفت الأراء حول الطرق التي تنتهي الي هذين المصدرين و المرجعين: فهناك الكثيرون الذين أخذوا العقائد و الأحكام من اناس لا يوثق بهم، و لا يعتمد عليهيم بل أخذوا منهم - ما أخذوا - بدافع الهوي و التعصب للباطل و الخط المناوئ لأهل البيت فقط، لا بدافع طلب الحق و الحقيقة. و من هنا تكونت المذاهب العديدة، و تفرقت الطرق الكثيرة، بسبب اختلاف الأقوال التي ظن الناس أنها السبل التي تنتهي الي القرآن العظيم و السنة النبوية. و هاك مثالا ليتضح المقصود: ان الله تعالي أمر عباده بالوضوء للصلاة فقال (عز من قائل): «يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الي الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم الي المرافق

ص: 382

و أمسحوا برؤسكم و ارجلكم الي الكعبين» (1) . فتري بعض المسلمين يغسل يديه من المرافق الي رؤوس الأصابع، و بعضهم من رؤوس الأصابع الي المرافق، و بعضهم يمسح الرأس كله، و بعضهم يمسح مقدم الرأس فقط، و بعضهم يغسل القدمين، و بعضهم يمسح علي ظاهر القدمين الي الكعبين فقط، و بعضهم يمسح علي الخفين. و علي هذه فقس ما سواها من أنواع الاختلافات في الأحكام الشرعية. فمن اين جاء هذا الاختلاف؟ فهل أمر الله تعالي و رسوله بهذا الاختلاف في الوضوء؟ أما كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يتوضأ بمرأي من الناس حتي يتعلموا منه؟ فهل كان يمسح رأسهع كله، أو بعضه؟ و هل كان يغسل قدميه أو يمسح عليهما؟ أو كان تارة يغسل و اخري يمسح؟!! و في الصلاة: هل كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يتكتف في الصلاة أو يرسل يديه؟ أنا لا اريد - هنا - أن أتحدث حول كيفية الوضوء الصحيح الذي أمر الله به رسوله، فهذا البحث يحتاج الي شرح و تفصيل، و قد كفانا الفقهاء هذه المهمة في مؤلفاتهم القيمة. و انما ذكرت هذه المسألة الفقهية مثالا لاختلاف المسلمين في القضايا الشرعية. فمن الواضح ان سبب اختلاف الناس في الوضوء - مثلا - هو

ص: 383


1- 700. سورة يس آية 12.

اختلاف الطرق التي أخذوا منها معالم دينهم. و نفس هذا الكلام يجري في جميع القضايا الدينية، المختلف فيها: من اصول الدين و فروعه. فالاختلاف في العقائد الاسلامية، و المسائل الفقهية أيضا سببه اختلاف الطرق التي أخذ الناس منها هذه الأحكام. و هكذا تكونت المذاهب الاسلامية. و أما المذاهب الجعفري فهو المذهب الذي يعبر عنه بالمذهب الشيعي، أو الامامي، باعتبارات متعددة. فالشيعة هم المعتقدون بامامة الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) و خلافته لرسول الله (صلي الله عليه و آله) بلا فصل. و الامامية هم المعتقدون بامامة الأئمة الاثني عشر الذين نص عليهم الرسول الأطهر. و المذهب الجعفري باعتباره في مقابل المذاهب الأربعة عرف بالجعفري. و ليس معني ذلك أن الامام الصادق (عليه السلام) هو المرجع الوحيد للمذهب، بل ان الشيعة تستقي اصول الدين و فروعه من القرآن الكريم، و سنة النبي العظيم (صلي الله عليه و آله) و الأحاديث المروية عن الأئمة الطاهرين، لأنها تنتهي الي الرسول الأكرم، و اخبار عن سنته. و السؤال الآن: كيف اشتهر هذا المذهب باسم الامام جعفر الصادق و لم يشتهر باسم غيره من الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)؟ الجواب: للأسباب التالية: الأول: حرية الكلام.

ص: 384

فقد فسح الامام الصادق (عليه السلام) المجال لأصحاب المبادئ الباطلة و الأفكار المنحرفة ان يجلسوا معه علي طاولة الحوار و المناظرة. و كان (عليه السلام) يراعي معهم آداب المناظرة و اسلوب التفاهم و الحوار القائم علي المنطق و الدليل. و نستطيع أن نعرف شيئا عن ذلك من خلال الحوار الذي جري بين المفضل بن عمر و أحد الملاحدة - و اسمه ابن أبي العوجاء -. فحينما سمع المفضل من ابن أبي العوجاء و صاحبه كلمات الكفر و الالحاد غضب غضبا شديدا و قال له: يا عدو الله! ألحدت في دين الله؟... الي آخره. فقال له ابن أبي العوجاء: «يا هذا ان كنت من أهل الكلام كلمناك، فان ثبتت لك حجة تبعناك، و ان لم تكن منهم فلا كلام لك. و ان كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا، و لا بمثل دليلك تجادل فينا، و لقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، و لا تعدي في جوابنا، و انه الحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق و لا طيش و لا نزق (1) . يسمع كلامنا، و يصغي الينا، و يتعرف حجتنا، حتي اذا استفرغنا ما عندنا و ظننا أنا قطعناه دحض حجتنا بكلام يسير، و خطاب قصير، يلزمنا به الحجة، و يقطع العذر، و لا نستطيع لجوابه ردا، فان كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه» (2) .

ص: 385


1- 701. سورة المائدة آية 6.
2- 702. الخرق: ضعف الرأي، و ان لا يحسن الرجل العمل و التصرف في الامور: النزق: هو الطيش و الخفة عند الغضب. (أقرب الموارد).

ان هذا الكلام - من ذلك الملحد - يكشف عن سيرة الامام الصادق (عليه السلام) مع أصحاب المبادئ المنحرفة، و كيف كان يفسح لهم المجال للحوار و المناظرة.... لعلهم يهتدون. هذا... و سوف نتحدث عن هذا الأمر - بشي ء من التفصيل - في الفصل القادم ان شاء الله تعالي. الثاني: مواجهة الامام مع المذاهب الاخري، فصار قوله أمام اولئك - عند نقلهم له - مذهبا، فصار بعض الناس يعبر عن الشيعة بالجعفرية، و بقي هذا الاسم الي يومنا هذا - في بعض البلاد العربية و غير العربية - يستعمل في حق الشيعة. الثالث: الظروف السياسية (ان صح هذا التعبير) و هي الفترة ما بين سقوط الدولة الاموية، و قيام الدولة العباسية. فان الدولة الأموية كانت علي شفا جرف السقوط و الزوال، و الدولة العباسية تأسست في بادي ء أمرها في العراق، و بين العراق و الحجاز مسافة بعيدة. في هذا المقطع من الزمان خلا الجو من المناوئين للامام الصادق (عليه السلام) و قل الضغط و الكبت، فكانت فرصة ثمينة انتهزها الامام للتعبير عن أهدافه، و نشر علومه، و تربيته جيلا صالحا، و طائفة مثقفة بالثقافة الدينية، و بث الوعي العلمي، و النشاط العملي فيما بينهم. و كان لهذا الدور الكبير الذي قام به الامام الصادق (عليه السلام) اكبر الأثر في تسمية المذهب الشيعي باسمه الشريف. هذا... و لعل هناك اسبابا اخري يجدها الباحثون و المحققون من أهل العلم و المعرفة.

ص: 386

حرية الكلام عند الامام الصادق

لم يكن من السهل الهين لأصحاب المبادي ء الباطلة أن يصرحوا - عند الناس - بعقائدهم المزيفة، و اذا تكلم أحدهم بالباطل، أو سأل سؤالا حول ما يعتقده من الأفكار الضالة كان جزاؤه من المجتمع: اسكت! اخسأ! كافر! مشرك! خبيث! رجس! و أمثال ذلك من كلمات التكفير و التضليل، المنافية لعفة المنطق، و أدب الاحتجاج. فهل هذه الكلمات و أمثالها تحل المشاكل؟!! و هل تعتبر اجابات صحيحة مقنعة علي شبهات أهل الباطل؟!! و هل السب و الشتم هما العلاج لهذه المفاسد؟!! و لكن الامام الصادق (عليه السلام) كان يسمح لهم بالكلام، و يستمع الي أباطيلهم و ترهاتهم، ثم يزيف عقائدهم، و يفند أفكارهم. و لماذا لا يمسح لهم أن يبوحوا بمعتقداتهم و هو يعلم أنه مسلح بأقوي سلاح علمي لابطال تلك المعتقدات و نسفها علميا؟! و لهذا كان (عليه السلام) يعطيهم فرصة الحديث و حرية الكلام. و ستعرف موقف الامام مع أبي شاكر الديصاني الذي كان يحمل

ص: 387

عقيدة المانوية (1) . و هكذا مع نظرائه - كابن أبي العوجاء و ابن المقفع و أمثالهما - من الذين كانوا يعترضون علي المعتقدات الاسلامية، و الأحكام الدينية، و كان اسلوب كلام بعضهم لا يخلو من خشونة و سوء ادب. فكان الامام الصادق (عليه السلام) يسمح لأصحاب المذاهب الباطلة أن يبدوا آرائهم، فكان يستمع الي نقاشهم و اعتراضهم علي الأحكام الاسلامية، ثم يجيب عليها و يفحمهم و يلقمهم الحجر. و ربما أمر الامام الصادق (عليه السلام) بعض تلاميذه أن يقوم بهذه المهمة، فكان الهدف يتحقق. بينما الآخرون لم يكونوا يسمحون للمعترضين أن يتفوهوا بآرائهم، بل كانوا يرمونهم بكلمات منافية لعفة المنطق، و ادب الاحتجاج، - كما ذكرنا قبل قليل.

ص: 388


1- 703. كتاب توحيد المفضل، و قد ذكرناه بالكامل في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

لمحة خاطفة عن المذهب الشيعي و المذاهب الأربعة

اشارة

لماذا ترك الشيعة الأخذ بمذهب الأشعري في اصول الدين، و بالمذاهب الأربعة في فروع الدين، و اكتفوا بمذهب أهل البيت (عليهم السلام)؟ هذا السؤال يطرحه الكثيرون... كما طرحه شيخ الأزهر: الشيخ سليم البشري علي العلامة البحاثة الخبير المرحوم السيد عبدالحسين شرف الدين (رضوان الله عليه) في الحوار الذي اجراه معه حول مذهب الشيعة، فأجابه السيد شرف الدين اجابة كافية، و فيما يلي نذكر السؤال و الجواب: قال الشيخ سليم البشري: 1- «انما أسألك - الآن - عن السبب في عدم أخذكم بمذاهب الجمهور من المسلمين، أعني مذهب الأشعري في اصول الدين، و المذاهب الأربعة في الفروع؟ و قد دان بها السلف الصالح، و رأوها أعدل المذاهب و أفضلها، و اتفقوا علي التعبد بها في كل عصر و مصر، و أجمعوا علي عدالة أربابها و اجتهادهم، و أمانتهم و ورعهم، و زهدهم و نزاهة أعراضهم، و عفة نفوسهم، و حسن سيرتهم، و علو قدرهم علما و عملا!

ص: 389

2- و ما أشد حاجتنا - اليوم - الي وصل حبل الشمل، و نظم عقد الاجتماع بأخذكم بتلك المذاهب تبعا للرأي العام الاسلامي. و قد عقد اعداء الدين ضمائرهم علي الغدر بنا، و سلكوا في نكايتنا كل طريق، أيقظوا لذلك آرائهم، و أسهروا قلوبهم، و المسلمون غافلون، كأنهم في غمرة ساهون، و قد أعانوهم علي أنفسهم، حيث صدعوا شعبهم، و مزقوا - بالتحزب و التعصب - شملهم، فذهبوا أيادي، و تفرقوا قددا، يضلل بعضهم بعضا، و يتبرأ بعضهم من بعض، و بهذا و نحوه افترستنا الذئاب، و طمعت بنا الكلاب. فهل تجدون غير الذي قلناه - هداكم الله - الي نم هذا الشعب سبيلا؟ فقل تسمع، و مر تطع، و لك السلام! (1) . فأجابه السيد بما يلي: 1- «ان تعبدنا - في الاصول - بغير المذهب الأشعري، و في الفروع بغير المذاهب الأربعة لم يكن لتحزب أو تعصب.... لكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقنا الي الأخذ بمذهب الأئمة من أهل بيت النبوة، و موضع الرسالة، و مختلف الملائكة، و مهبط الوحي و التنزيل، فانقطعنا اليهم في فروع الدين و عقائده، و اصول الفقه و قواعده، و معارف السنة و الكتاب، و علوم الأخلاق و السلوك و الآداب، نزولا علي حكم الأدلة و البراهين، و تعبدا بسنة سيد النبيين و المرسلين (صلي الله عليه و آله و عليهم أجمعين). و لو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من آل محمد، أو تمكنا من تحصيل نية القربة لله - سبحانه - في مقام العمل علي مذهب غيرهم،

ص: 390


1- 704. و هم أتباع ماني بن فاتك الفارسي، و قد ظهر في أيام الملك سابور الساساني، و من مبتدعاته أن للعالم أصلين: الظلمة و النور، و هما أزليان، و زعم أن عيسي (عليه السلام) جاء ليبشر بظهور ماني، و قد دان قسم من الجهال بمذهبه، و قد أباح كل ما حرمته الشرائع السماوية.

لقصصنا أثر الجمهور و جرينا علي اسلوبهم، تأكيدا لعقد الولاء، و توثيقا لعري الاخاء، لكنها الأدلة القطعية تقطع علي المؤمن وجهته، و تحول بينه و بين ما يروم. 2- علي أنه لا دليل - للجمهور - علي رجحان شي ء من مذاهبهم، فضلا عن وجوبها، و قد نظرنا في أدلة المسلمين نظر الباحث المحقق بكل دقة و استقصاء، فلم نجد فيها ما يكن القول بدلالته في ذلك الا ما ذكرتموه من اجتهاد اربابها، و أمانتهم و عدالتهم و جلالتهم. و لكنكم تعلمون ان الاجتهاد و الأمانة و العدالة و الجلالة غير محصورة بهم. فكيف يمكن - و الحال هذه - أن تكون مذاهبهم واجبة علي سبيل التعيين؟ و ما أظن أحدا يجرء علي القول بفضلهم (في علم و عمل) علي أئمتنا، و هم أئمة العترة الطاهرة، و سفن نجاة الامة، و باب حطتها، و أمانها من الاختلاف في الدين، و أعلام هدايتها، و ثقل رسول الله و بقيته في امته. و قد قال (صلي الله عليه و آله): «فلا تقدموهم فتهلكوا، و لا تقصروا عنهم فتهلكوا، و لا تعلموهم فانهم أعلم منكم». و لكنها السياسة، و ما ادراك ما اقتضت في صدر الاسلام؟! و العجب من قولكم: «ان السلف الصالح دانوا بتلك المذاهب، و رأوها أعدل المذاهب و أفضلها، و اتفقوا علي التعبد بها في كل عصر و مصر». كأنكم لا تعلمون بأن الخلف و السلف الصالحين من شيعة آل محمد

ص: 391

(و هم نصف المسلمين في المعني) انما دانوا بمذهب الأئمة من ثقل رسول الله (صلي الله عليه و آله) فلم يجدوا عنه حولا، و انهم علي ذلك من عهد علي و فاطمة (عليهماالسلام) الي الآن حيث لم يكن الأشعري و لا واحد من أئمة المذاهب الأربعة و لا آباؤهم، كما لا يخفي. 3- علي أن أهل القرون الثلاثة لم يدينوا بشي ء من تلك المذاهب أصلا، و أين كانت تلك المذاهب عن القرون الثلاثة (و هي خير القرون)؟! و قد ولد الأشعري سنة سبعين و مائتين، و مات سنة نيف و ثلاث مائة. و ابن حنبل ولد سنة أربع و ستين و مائة، و مات سنة احدي و أربعين و مائتين. و الشافعي ولد سنة خمسين و مائة، و توفي سنة مائتين و أربع. و ولد مالك سنة خمس و تسعين، و مات سنة تسع و سبعين و مائة. و ولد أبوحنيفة سنة ثمانين، و توفي سنة خمسين و مائة. و الشيعة يدينون بمذهب الأئمة من أهل البيت (و أهل البيت أدري بالذي فيه). و غير الشيعة يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة و التابعين. فما الذي أوجب علي المسلمين كافة (بعد القرون الثلاثة) تلك المذاهب دون غيرها من المذاهب التي كان معمولا بها من ذي من قبل؟ و ما الذي عدل بهم عن أعدال كتاب الله، و سفرته، و ثقل رسول الله و عيبته، و سفينة نجاة الامة و قادتها، و أمانها، و باب حطتها؟؟! 4- و ما الذي أرتج [أغلق] باب الاجتهاد في وجوه المسلمين بعد أن كان في القرون الثلاثة مفتوحا علي مصراعيه؟ لو لا الخلود الي العجز،

ص: 392

و الاطمئنان الي الكسل، و الرضا بالحرمان، و القناعة بالجهل؟ و من الذي يرضي لنفسه أن يكون (من حيث يشعر أو لا يشعر) قائلا: بأن الله (عزوجل) لم يبعث أفضل أنبيائه و رسله بأفضل أديانه و شرائعه؟ و لم ينزل عليه أفضل كتبه و صحفه، بأفضل حكمه و نواميسه؟ و لم يكمل له الدين، و لم يتم عليه النعمة، و لم يعلمه علم ما كان و علم ما بقي الا لينتهي الأمر في ذلك كله الي أئمة تلك المذاهب فيحتكروه لأنفسهم، و يمنعوا من الوصول الي شي ء منه عن طريق غيرهم؟ حتي كأن الدين الاسلامي - بكتابه و سننه - و سائر بيناته و أدلته - من أملاكهم الخاصة!! و أنهم لم يبيحوا التصرف به علي غير رأيهم؟ فهل كانوا ورثة الأنبياء؟ أم ختم الله بهم الأوصياء و الأئمة؟ و علمهم علم ما كان و علم ما بقي؟ و آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين؟ كلا، بل كانوا كغيرهم من أعلام العلم و رعاته، و سدنته و دعاته!! و حاشا دعاة العلم أن يوصدوا [يغلقوا] بابه، أو يصدوا عن سبيله، و ما كانوا ليعتقلوا العقول و الأفهام، و لا ليسملوا أنظار الأنام، و لا ليجعلوا علي القلوب أكنة، و علي الأسماع وقرا، و علي الأبصار غشاوة، و علي الأفواه كمامات، و في الأيدي و الأعناق أغلالا، و في الأرجل قيودا. لا ينسب ذلك اليهم الا من افتري عليهم، و تلك أقوالهم تشهد بما نقول. 5- هلم بنا الي المهمة التي نبهتنا اليها من لم شعث المسلمين. و الذي أراه أن ذلك ليس موقوفا علي عدول الشيعة عن مذهبهم،

ص: 393

و لا علي عدول السنة عن مذهبهم. و تكليف الشيعة بذلك - دون غيرهم - ترجيح بلا مرجح، بل ترجيح للمرجوح، بل تكليف بغير المقدور، كما يعلم مما قدمناه. نعم، يلم الشعث، و ينتظم عقد الاجتماع بتحريركم مذهب أهل البيت، و اعتباركم اياه كأحد مذاهبكم، حتي يكون نظر كل من الشافعية و الحنفية، و المالكية و الحنبلية - الي شيعة آل محمد (صلي الله عليه و آله) - كنظر بعضهم الي بعض. و بهذا يجتمع شمل المسلمين، و ينتظم عقد اجتماعهم. و الاختلاف بين مذاهب أهل السنة لا يقل عن الاختلاف بينها و بين مذهب الشيعة، تشهد بذلك الالوف المؤلفة في فروع الطائفتين و اصولهما. فلماذا ندد المنددون - منكم - بالشيعة في مخالفتهم لأهل السنة و لم ينددوا بأهل السنة في مخالفتهم للشيعة؟ بل في مخالفة بعضهم لبعض؟ فاذا جاز أن تكون المذاهب أربعة فلماذا لا يجوز أن تكون خمسة؟ و كيف يمكن أن تكون الأربعة موافقة لاجتماع المسلمين، فاذا زادت مذهبا خامسا تمزق الاجتماع، و تفرق المسلمون طرائق قددا؟! وليتكم - اذ دعوتمونا الي الوحدة المذهبية - دعوتم أهل المذاهب الأربعة اليها، فان ذلك أهون عليكم، و لم خصصتمونا بهذه الدعوة؟ فهل ترون اتباع أهل البيت سببا في قطع حبل الشمل؟ و نثر عقد الاجتماع؟ و اتباع غيرهم موجبا لاجتماع القلوب و اتحاد العزائم، و ان اختلفت المذاهب و الآراء، و تعددت المشارب و الأهواء؟! ما هكذا الظن بكم، و لا المعروف من مودتكم للقربي، والسلام (1) .

ص: 394


1- 705. المراجعات: المراجعة رقم 3.

الامام الصادق و المذاهب المعاصرة له

كلمة في البداية

اشارة

قبل أن نتحدث عن المذاهب المعاصرة للامام الصادق (عليه السلام) نطرح هذا السؤال: ما هي أسباب انتشار الأفكار و المذاهب الباطلة؟ الجواب: من الظواهر الاجتماعية الثابتة في المجتمعات الاسلامية أنه كلما ظهرت بوادر الحق خفيت معالم الباطل، و كلما ضعف الحق تقوي الباطل. و التاريخ الاسلامي أصدق شاهد علي هذا القول، بل و حتي التايخ المعاصر أيضا لا يخلو من هذه الظاهرة، فان الفترة التي كان يرتفع فيها صوت الحق بكل حرية، كان صوت الباطل يختنق و يضمحل، و حينما كان يضعف جهاز الدين، و يطارد من قبل السلطات الغاشمة، كان أهل الباطل ينتعشون، و تظهر نواياهم و خفاياهم و نشاطاتهم، لأنهم لا يجدون مانعا و لا رادعا في طريق نشر أهدافهم. فاذا ضعفت السلطة أو تبدل جهاز الحكم حصل تغيير في ذلك الجانب أيضا.

ص: 395

و لقد ذكرنا كثيرا - فيما كتبنا -: أن أهل البيت النبوي الطاهر - و كل من كان يدور في فلكهم - كانوا يعانون من الحكم القائم في تلك العصور أنواع الضغط و الكبت. و كل حاكم من بني امية و بني العباس حينما كان يتربع علي مسند الحكم كان يبذل طاقاته و امكاناته لتطويق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و تقليص نشاطاتهم، و التضييق عليهم بكل ما أمكن، و القضاء عليهم بكل صورة. و في نفس الوقت كان المجال مفتوحا، و الحرية ممنوحة لغيرهم أن يفعل ما يشاء، و أن يقول ما يريد و خاصة اذا انسجم و اندمج مع السلطة الحاكمة، و اتفق معها في أهدافها و أفعالها. فالسلطات - في تلك العصور - كانت تشجع علي انتشار المبادي ء الباطلة في المجتمعات الاسلامية، كالجبرية و المفوضة، و الأشاعرة و المعتزلة، و الغلاة و الملاحدة، و انتشار عقيدة الحلول و التناسخ و غيرها. أليس الحكام هم الذين أمروا بترجمة كتب الفلسفة اليونانية (بما فيها من العقائد الكافرة) الي اللغة العربية، و نشرها في الأوساط الاسلامية؟! أيها القارئ الكريم: انما ذكرنا هذه المقدمة الوجيزة حتي تظهر لنا أسباب انتشار الأفكار الهدامة و العقائد الباطلة في المجتمعات الاسلامية في أوائل القرن الثاني الهجري. فالسبب الأول: هو ازاحة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، و غلق الأبواب في وجوههم، و ايجاد جو من الخوف و الرعب و التهديد لكل من يمت اليهم بصلة، حتي التحدث عنهم، أو التصريح بأسمائهم.

ص: 396

و من الطبيعي أن ابعاد الأئمة (عليهم السلام) عن الساحة معناه افساح المجال لظهور غيرهم من المناوئين الذين كانوا يعترفون بتلك السلطات، و يصححون أخطاءهم، و يبررون جناياتهم، و يعتذرون عن مخازيهم، بل و يطوقونم بهالات من القداسة. و لهذا منحت السلطات لهم المجال الواسع، و فتحت أمامهم الطريق ليتصرفوا ما شاؤا، سواء في القضاء أم الفتوي أم نقل الأحاديث المزيفة، أم تفسير الآيات القرآنية حسب الآراء و الميول و الظروف!! حتي كأن القرآن أداة طيعة بيد الناس، يفسرونه كما أعجبهم. و هذا هو السبب الثاني من أسباب انتشار الأفكار الباطلة، و العقائد الكافرة. أليس الأعتقاد بالتجسيم (بأن الله (عزوجل) جسم) انتشر في المجتمعات الاسلامية، من ذلك العهد الي يومنا هذا؟ و لقد سمعت - مرات - من اذاعة دولة عربية - ليلة عرفة: - «بان الله (تعالي علوا كبيرا) ينزل الي السماء الدنيا»!! و سمعت - أيضا - من بعض مشايخ السوء، في بعض البلاد العربية بأن النبي (صلي الله عليه و آله) رأي ربه - ليلة المعراج - رؤية عين!! مع العلم أن هذه العقيدة مناقضة للتوحيد، و مخالفة لصريح القرآن، اذ يقول (عز من قائل): «لا تدركه الأبصار» (1) و «لن تراني» (2) . هذا بالاضافة الي الأدلة العقلية - حول نفي التجسيم عن الله تعالي - المذكورة في محلها، و الأحاديث الصحيحة حول هذا الموضوع.

ص: 397


1- 706. المراجعات: المراجعة رقم 4.
2- 707. سورة الانعام آية 103.

ان علماء السوء - في تلك العصور - تلاعبوا حتي بعقيدة التوحيد، فكيف بغيرها. و قد ذكر ابن أبي الحديد الكثير من تلك الأباطيل و الكفريات في كتابه (شرح نهج البلاغة) مما يندي منه جبين الاسلام و المسلمين!!! السبب الثالث: حب الظهور و الشهرة بين الناس، و قديما قيل: «خالف تعرف» فالكثير من أصحاب الأفكار و المذاهب المنحرفة كانوا شخصيات مهملة، لا يشار اليهم بالبنان، و لا يعار لهم أي احترام و اهتمام. فكأن عقدة الشعور بالنقص و الحقارة النفسية دفعتهم الي تكوين مذهب خاص، و دعوة الناس الأغبياء البسطاء اليه. و بهذه الطريقة الشيطانية القذرة صار لهم بعض الشهرة و الظهور في الساحة. أيها القارئ: كان المقصود من استعراض هذه الامور - بصورة موجزة - هو بيان بعض أسباب انتشار المذاهب العديدة و الأفكار الباطلة في عصر الامام الصادق (عليه السلام). و كان لكل مذهب من تلك المذاهب أتباع و أفراد ينشرون أفكارهم، و يبثون آراءهم بين السذج و المغفلين من الناس. و من الصحيح أن نقول: ان كل مذهب من تلك المذاهب كان بمنزلة جبهة من جبهات الحرب الباردة ضد خط الامام الصادق (عليه السلام) الذي هو خط جده رسول الله (صلي الله عليه و آله). و هنا تظهر عظمة حكمة الامام الصادق (عليه السلام) في مكافحة تلك المذاهب، و أنواع قدراته الواسعة في تضعيف تلك المبادي ء و تفنيدها و تحطيمها علميا، بالرغم من محدودية امكاناته بحسب الظروف.

ص: 398

و أما المذاهب المعاصرة

اشاره

أيها القارئ الكريم: فيما يلي نستعرض - بصورة موجزة - بعض المذاهب الباطلة المنحرفة المعاصرة للامام الصادق (عليه السلام)، و قد باد بعضها و اندثر و سقط في مزبلة التاريخ - و الحمد لله تعالي - و بعضها الآخر لا زال له أتباع ينعقون له:

المجبرة

لقد كانت الفكرة المنحرفة تصدر من انسان، و تنتقل الي أتباعه، و كان أتباعه يضيفون الي تلك الفكرة اضافات من عند أنفسهم، و كان الهمج من الناس يتقبلون منهم تلك الاباطيل، و كأنها وحي يوحي!! و المصيبة العظمي: أن اولئك الضلال كانوا يفرضون آراءهم و أفكارهم علي ذات الله تعالي أيضا!! فتارة يثبتون له تعالي العلم، و تارة ينفونه عنه. و تارة يثبتون له القدرة، و تارة ينفونها عنه. و هكذا صارت المقدسات الاسلامية، و المعتقدات الدينية خاضعة للأهواء، و محكومة بالآراء التي ما انزل الله بها من سلطان!! و من المذاهب الباطلة - التي صدرت من مصانع الشيطان الرجيم - هو مذهب الجبرية - أو المجبرة - و هم القائلون بالجبر، فهم ينسبون أفعال العبد - من خير أو شر - الي الله تعالي، و يقولون: ليس لنا صنع. أي لسنا مخيرين في أفعالنا التي نفعلها، بل نحن مجبرون بارادة الله و مشيئته، فاذا شاء الله أن نصلي صلينا، و اذا شاء أن نشرب الخمر شربناها.

ص: 399

و استدلوا علي هذا الاعتقاد الباطل بآيات من القرآن، و تأولوها حسب أهوائهم و آرائهم، و فسروها علي خلاف ما اراده الله سبحانه. و هذه العقيدة الفاسدة تنسب الي الأشاعرة. و من الواضح ان المعتنق لهذه العقيدة يبيح لنفسه كل جريمة و معصية من ترك الواجبات و ارتكاب المحرمات. يشرب الخمر، و يزني، و يسرق، ثم يقول: شاء الله أن أسرق فسرقت و شاء الله أن أزني فزنيت، و شاء الله أن لا أصلي فما صليت. و هكذا و هلم جرا. و معني ذلك ان الله (تعالي علوا كبيرا) يشاء أن يسرق السارق، فيسرق بلا اختيار منه، ثم يعذبه الله تعالي يوم القيامة!!! اليس معني ذلك هو اسناد الظلم الي الله؟ تعالي عن ذلك.

الجارودية

و يقال لهم: السرحوبية أيضا، لنسبتهم الي أبي الجارود: زياد بن المنذر، السرحوب، الأعمي، المذموم بالذم المفرط.

الحرورية - الخوارج

و قد تكون هذا المذهب في واقعة صفين، بسبب تحكيم الحكمين. و البحث مفصل، و حيث انهم خرجوا علي الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قيل لهم: خوارج. و حيث ان الحرب التي قتلوا فيها كانت في ارض حروراء قيل لهم:

ص: 400

حرورية و هي موضع بقرب الكوفة.

الكيسانية

هم أتباع محمد بن الحنفية ابن الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هم أول فرقة شذت و انحرفت من الامامية. و أما سبب تسميتم ب (الكيسانية) فقيل: انهم منسوبون الي كيسان غلام الامام أميرالمؤمنين (عليه السلام). و قيل: ان كيسان اسم للمختار بن أبي عبيدة الثقفي، و ان أباه حمله و وضعه بين يدي أميرالمؤمنين (عليه السلام) فجعل الامام يمسح بيده علي رأسه و يقول: كيس كيس. و هذه الفرقة كانت تعتقد بأن الامام بعد الامام الحسين (عليه السلام) هو أخوه محمد بن الحنفية، و أنه المهدي الذي يملأ الله الأرض به قسطا و عدلا، و أنه حي لا يموت، و قد غاب في جبل (رضوي) باليمن. و بالرغم من عدم توفر شرائط الامامة و مؤهلاتها في محمد بن الحنفية فقد قفز علي منصة الظهور جماعة، و نسبوا اليه الامامة، و استدلوا علي امامته بأباطيل و أساطير و ترهات تضحك منها الثكلي. و لا يعلم - بالضبط - سبب تكون هذا المذهب، و من هم الذين تبنوا هذا العمل، و بذلوا المساعي لنشر هذه الفكرة في المجتمع الشيعي يومذاك؟ و ما هي أهدافهم الشيطانية؟ فهل كان مبدأ هذه الفكرة هو محمد بن الحنفية؟ ام ان جماعة من الناس نسبوا اليه ذلك؟ و علي كل تقدير فقد اختمرت هذه الفكرة في بعض الأذهان، و اعتنق

ص: 401

جماعة هذا المذهب. و بعد موت ابن الحنفية اعتقدوا بامامة ولده عبدالله و يكني أباهاشم، و عرفوا بالهاشمية. و دس سليمان بن عبدالملك سما اليه فمات منه بالحميمة من ارض الشام (1) . و الظاهر أن هذا المذهب انقرض و لم يبق من يعتنقه و يعتقد به.

الحيانية

و هم أصحاب حيان السراج، و يزعمون ان الامام بعد علي (عليه السلام) ابنه محمد بن الحنفية، و لا يرون للحسنين (عليهماالسلام) امامة، و منهم الرزامية.

الرزامية

و هم أتباع رزام، ساقوا الامامة بعد أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية الي عبدالله بن العباس بالنص. هو رزام بن مسلم مولي خالد بن عبدالله القسري الكوفي، عده الشيخ من أصحاب الامام الصادق (عليه السلام) و روي الكشي أحاديث تتعلق به.

المرجئة

هذه الكلمة مشتقة من الارجاء بمعني التأخير، و مأخوذة من قوله

ص: 402


1- 708. سورة الاعراف آية 143.

تعالي: «و آخرون مرجون لأمر الله اما يعذبهم و اما يتوب عليهم والله عليم حكيم» (1) . أي مؤخرون موقوفون لما يرد من أمر الله تعالي فيهم (اما يعذبهم و اما يتوب عليهم). و قيل: الارجاء: تأخير حكم صاحب [المعصية] الكبيرة الي يوم القيامة، فلا يحكمون عليه بحكم ما في الدنيا، من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار. و قد تبرأ الامام الصادق (عليه السلام) منهم و لعنهم و نهي المؤمنين عن مجالستهم، كما روي ذلك عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا تجالسوهم - يعني المرجئة - لعنهم الله و لعن [الله] مللهم المشركة الذين لا يعبدون الله علي شي ء من الأشياء (2) (3) .

المفوضة

هذا العنوان أو الاسم ينطبق علي فئات عديدة، فمنهم: المفوضة الذين يزعمون ان الله تعالي خلق محمدا (صلي الله عليه و آله) و فوض اليه أمر العالم، فهو الخلاق للدنيا و ما فيها، و قيل: فوض ذلك الي علي (عليه السلام) أو الأئمة (عليهم السلام) و هذا كفر صريح، و شرك واضح. و هناك معاني اخري للتفويض لا حاجة لنا الي ذكرنا.

ص: 403


1- 709. مقاتل الطالبيين: ص 85.
2- 710. سورة التوبة آية 106.
3- 711. أي علي عبادة من العبادات أو علي ملة من الملل. (مرآة العقول).

و الشي ء المقصود بيانه - هنا - هو التفويض بمعني ان الله تعالي لا صنع له و لا دخل في أفعال العباد، سوي أنه خلقهم و أعطاهم القدرة ثم فوض اليهم أمر الافعال، يفعلون ما يشاؤون بصورة مستقلة، و معني ذلك: عزل الله تعالي عن كل احاطة و تصرف في خلقه، و هذه العقيدة تنسب الي المعتزلة. و لا شك في فساد هذه العقيدة أيضا. و خير الكلام و أصح الاعتقادات هو كلام الامام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: «لا جبر و لا تفويض، بل أمر بين الأمرين». و قد ذكرنا في كتاب (الامام الهادي من المهد الي اللحد) رسالة للامام حول ابطال الجبر و التفويض، و بيان كلام الامام الصادق (عليه السلام).

الخطابية

و هم المنسوبون الي أبي الخطاب، محمد بن مقلاص الأسدي، الأجدع. و كان أبوالخطاب من اصحاب الامام الصادق (عليه السلام) ثم انحرف انحرافا كبيرا و ارتد عن الدين و قال بألوهية الامام الصادق (عليه السلام) و ادعي أنه نبي من قبل الامام، و أنه عرج به الي السماء و... الي آخر اكاذيبه. و تبرأ الامام الصادق (عليه السلام) منه و لعنه و أمر أصحابه بالبراءة منه... فقد روي عن حنان بن سدير - في حديث له - أن الامام الصادق (عليه السلام) قال:

ص: 404

«علي أبي الخطاب لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين، فأشهد بالله أنه كافر فاسق، مشرك، و انه يحشر مع فرعون في أشد العذاب، غدوا و عشيا. ثم قال: أما: والله اني لأنفس علي أجساد اصليت معه النار» (1) . و عن زيد النرسي: قال: لما لبي أبوالخطاب بالكوفة، و ادعي في أبي عبدالله (عليه السلام) ما ادعاه، دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) مع عبيد بن زرارة فقلت له: جعلت فداك! لقد ادعي أبوالخطاب و أصحابه فيك أمرا عظيما: انه لبي ب «لبيك جعفر، لبيك معراج». و زعم أصحابه أن أباالخطاب اسري به اليك، فلما هبط الي الارض من ذلك دعي (2) اليك، و لذلك لبي بك. قال: فرأيت أباعبدالله (عليه السلام) قد أرسل دمعته من حماليق (3) عينيه، و هو يقول: «يا رب! برئت اليه مما ادعي في الأجدع، عبد بني أسد. خشع لك شعري و بشري، عبد لك ابن عبد لك، خاضع ذليل. ثم أطرق ساعة في الأرض، كأنه يناجي شيئا، ثم رفع رأسه و هو يقول: أجل، أجل، عبد خاضع خاشع، ذليل لربه، صاغر، راغم، من ربه خائف و جل، لي - والله - رب أعبده، لا أشرك به شيئا. ماله؟ أخزاه الله، و أرعبه، و لا آمن روعته يوم القيامة.

ص: 405


1- 712. الكافي: ج 2 ص 401 ح 6.
2- 713. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 584 ح 524. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 280.
3- 714. في بحارالأنوار: دعا.

ما كانت تلبية الأنبياء هكذا، و لا تلبية الرسل، انما لبت ب «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك». ثم قمنا من عنده، فقال: يا زيد انما قلت لك هذا لأستقر في قبري، يا زيد استر ذلك عن الأعداء (1) . و عن المفضل بن مزيد (2) قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام) - و ذكر أصحاب أبي الخطاب و الغلاة - فقال لي: يا مفضل لا تقاعدوهم و لا تؤاكلوهم و لا تشاربوهم و لا تصافحوهم و لا تؤاثروهم (3) (4) . و عن عمران بن علي قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: لعن الله أباالخطاب و لعن [الله] من قتل معه و لعن [الله] من بقي منهم و لعن الله من دخل قلبه رحمة لهم (5) . هذا... و قد تحدثنا - بشي ء من التفصيل - عن الفرقة الخطابية في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 406


1- 715. حماليق: باطن أجفان العين (مجمع البحرين).
2- 716. الأصول الستة عشر: ص 192 ح 161. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 378.
3- 717. في بحارالأنوار: مفضل بن يزيد.
4- 718. في بحارالأنوار: بيان: قوله (عليه السلام): «لا تؤاثروهم» بالهمزة علي المفاعلة من الأثر بمعني الخبر، أي لا تحادثوهم و لا تعاوضوهم بالآثار و الأخبار. و في نسخة: «لا توارثوهم» علي المفاعلة من الموارثة، أي لا تواصلوهم بالمصاهرة الموجبة للتوارث.
5- 719. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 586 ح 525. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 296 و فيه: و لا تؤارثوهم.

المغيرية

نسبة الي المغيرة بن سعيد العجلي. و كان المغيرة يسكن الكوفة، و يحمل عقائد منحرفة و آراء باطلة، و يتلاعب بالمقدسات الاسلامية، و يكذب علي الامام محمد الباقر (عليه السلام) و ينسب اليه الأباطيل و الأكاذيب. و قد التف حوله جماعة من الجهلاء الأغبياء و اخذوا بآرائه. و قد لعنه الامام الصادق (عليه السلام) و تبرأ منه. و اليك بعض ما روي في هذا المجال - و التفصيل في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) -: عن عبدالرحمن بن كثير، قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام) - يوما لأصحابه -: لعن الله المغيرة بن سعيد، و لعن الله يهودية كان يختلف اليها، يتعلم منها السحر و الشعبذة و المخاريق (1) . ان المغيرة كذب علي أبي (عليه السلام) فسلبه الله الايمان، و ان قوما كذبوا علي، ما لهم؟ أذاقهم الله حر الحديد! فوالله ما نحن الا عبيد الذي خلقنا و اصطفنا، ما نقدر علي ضر و لا نفع، و ان رحمنا فبرحمته، و ان عذبنا فبذنوبنا، والله ما لنا علي الله من حجة، و لا معنا من الله براءة، و انا لميتون و مقبورون و منشرون و مبعوثون و موقوفون و مسؤولون! ويلهم!

ص: 407


1- 720. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 584 ح 521. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 279.

ما لهم؟ لعنهم الله! فلقد آذوا الله و آذوا رسوله (صلي الله عليه و آله) في قبره، و أميرالمؤمنين، و فاطمة و الحسن و الحسين، و علي بن الحسين، و محمد بن علي (صلوات الله عليهم). و ها أنا ذا بين أظهركم، لحم رسول الله، و جلد رسول الله (صلي الله عليه و آله) أبيت علي فراشي خائفا وجلا، مرعوبا، يأمنون و أفزع، ينامون علي فرشهم و أنا خائف ساهر وجل، و أتقلقل بين الجبال و البراري. أبرأ الي الله مما قال الأجدع البراد، عبد بني أسد: أبوالخطاب لعنه الله. والله لو ابتلوا بنا، و أمرناهم بذلك، لكان الواجب ان لا يقبلوه، فكيف و هم يروني خائفا وجلا؟ أستعدي الله عليهم، و أتبرأ الي الله منهم. أشهدكم: أني امرؤ ولدني رسول الله (صلي الله عليه و آله) و ما معي براءة من الله، ان أطعته رحمني، و أن عصيته عذبني عذابا شديدا، أو أشد عذابه (1) . أيها القارئ الكريم: لعل الحديث يحتاج الي شي ء من الشرح و التفصيل... فنقول: يعتبر الامام الصادق (عليه السلام) نفسه - في هذا الحديث - أحد المسلمين المكلفين بالتكاليف الالهية - بصرف النظر عن مقام الامامة - فهو عبد مخلوق، لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا بصورة مستقلة. و أما قوله: «فلقد آذوا الله...» الي آخره فهو اشارة الي قوله

ص: 408


1- 721. الشعبذة: في الحركة الخفيفة (مجمع البحرين) و الشعوذة: خفة في اليد و أخذ كالسحر يري الشي ء بغير ما عليه أصله في رأي العين. و المخاريق: جمع مخراق، و هو في الأصل: ثوب يلف، و يضرب به الصبيان بعضهم بعضا (لسان العرب). و لعل السحرة و المشعوذين كانوا يستعملون المخاريق في أعمالهم السحرية.

تعالي: «ان الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا» (1) . (فقد ذكر المفسرون - في تفسير الآية -: أن معني قوله: «يؤذون الله»: يخالفون أمره، و يصفونه بما هو منزه عنه، و يشبهونه بغيره. فان الله (عزوجل) لا يلحقه أذي، و لكن لما كانت مخالفة الأمر فيما بيننا تسمي ايذاء، خوطبنا بما نتعارفه. و قيل: معناه: يؤذون رسول الله، فقدم ذكر الله علي وجه التعظيم، اذ جعل أذي رسوله أذي له، تشريفا له و تكريما، فكأنه يقول: لو جاز أن يناله أذي من شي ء لكان ينالني من هذا) (2) . و أما قوله (عليه السلام): «والله لو ابتلوا بنا...» الي آخره فهذا فرض المحال، أي لو أن الله تعالي كان يختبرهم و يمتحنهم بنا، بأن كنا نأمرهم بالغلو لكان الواجب عليهم أن لا يقبلوا قولنا، فكيف و نحن ننهاهم عن ذلك؟ و أما قوله (عليه السلام): «ان أطعته رحمني، و ان عصيته عذبني» فهذا شي ء لا يختص بالامام الصادق (عليه السلام) بل يشمل جميع المكلفين حتي الأنبياء علي فرض صدور المعصية منهم، و قد قيل: «فرض المحال ليس بمحال». عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): روي عن المغيرة أنه قال: اذا عرف الرجل ربه ليس عليه وراء ذلك شي ء. قال: ماله؟ لعنه الله... أليس كلما ازداد بالله معرفة فهو أطوع له؟

ص: 409


1- 722. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 491 ح 403. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 289.
2- 723. سورة الأحزاب آية 57.

أفيطيع الله (عزوجل) من لا يعرفه؟ ان الله (عزوجل) أمر محمدا (صلي الله عليه و آله) بأمر، و أمر محمد (صلي الله عليه و آله) المؤمنين بأمر، فهم عاملون به الي أن يجي ء نهيه، و الأمر و النهي عند المؤمن سواء. قال: ثم قال: لا ينظر الله (عزوجل) الي عبد و لا يزكيه اذا ترك فريضة من فرائض الله، أو ارتكب كبيرة من الكبائر. قال: قلت: لا ينظر الله اليه؟ قال: نعم، قد أشرك بالله. قال: قلت: أشرك؟ قال: نعم ان الله (جل وعز) أمر بأمر، و أمره ابليس بأمر، فترك ما أمر الله (عزوجل) به و صار الي أمر ابليس به فهذا مع ابليس في الدرك السابع من النار (1) . و عن ابن مسكان، عمن حدثه من أصحابنا، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: لعن الله المغيرة بن سعيد انه كان يكذب علي أبي فأذاقه الله حر الحديد، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، و لعن الله من ازالنا عن العبودية لله الذي خلقنا و اليه مآبنا و معاذنا و بيده نواصينا (2) .

ص: 410


1- 724. مجمع البيان: ج 4 ص 370.
2- 725. ثواب الأعمال: ص 294 ح 1. منه بحارالأنوار: ج 71 ص 207.

الامام الصادق في مواجهة الالحاد و الزندقة

اشارة

لقد اجتاحت بعض المدن الاسلامية موجة من اللالحاد و الزندقة، و رواحت ضحية هذه الموجة جماعات من الناس. و السؤال الآن: كيف تولدت فكرة الالحاد و الزندقة في المراكز الاسلامية يومذاك؟ مع العلم انه ينبغي ان يكون الأمر بالعكس، لأن المجتمع الاسلامي ينبغي ان ينشر عقيدة الايمان و التوحيد في الناس، لا الالحاد و الزندقة. انني لا استبعد أن يكون السبب - أو أحد الأسباب - في تكون فكرة الالحاد و الزندقة في ذلك العصر هو: أن الذين ادعوا خلافة رسول الله (صلي الله عليه و آله) كذبا و زورا، و عرفوا أنفسهم أنهم أقرب الخلائق الي الله تعالي، كانت حياتهم كلها فجور و مجون، و اراقة الدماء، و هدر الكرامات، و مصادرة الأموال، و غير ذلك من مظاهر الظلم الفاحش، و الاعتداء المكشوف.

ص: 411

أضف الي ذلك: ضئالة الدينية عند الأكثرية من الناس، و عدم وعيهم للحقيقة، و انخداعهم بالادعاءات الفارغة، فهم كانوا يتصورون أن الخلافة الاسلامية المتجسدة في طواغيت بني امية و فراعنة بني العباس هي الخلافة الصحيحة، و أنهم يمثلون صاحب الشريعة الاسلامية (صلي الله عليه و آله)، في تصرفاتهم الشاذة، و حياتهم المخزية، و أعمالهم المضادة للاسلام، و أن الاسلام القائم في ذلك النظام هو اسلام الخمور و الفجور، و الشذوذ الجنسي، و حصد رؤوس الأبرياء الذين لا ينقادون لتلك السلطة، و غير ذلك. فاذا كانت القيادة الدينية بهذا المستوي النازل المشين، و بهذه الصورة المشوهة القبيحة، فان اساءة الظن تسري و تتجاوز الحدود، حتي يصل الأمر الي أن يشك بعض الناس في وجود الله تعالي. و من الطبيعي ان الذي يشك في الأصل يشك في الفرع قطعا، فالشك في وجود الله (عزوجل) يوجب الشك في النبوة و الأنبياء، و الكتب السماوية، و الأوامر الالهية بطريق أولي. و هكذا انتشرت فكرة الالحاد في ذلك المجتمع الاسلامي لهذا السبب فقط أو مع أسباب اخري. و رافقت فكرة الالحاد موجة عارمة من الاسئلة و الشبهات المختلفة حول التوحيد و ما يتعلق بالتوحيد. و بما أن علماء السوء و فقهاء السلاطين كانوا يجهلون ابسط ادلة التوحيد و اوضح براهين العقيدة... لذلك انهمرت الاسئلة علي الامام الصادق (عليه السلام) - الذي ورث علوم جده رسول الله و آبائه الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) -.

ص: 412

و كان الملاحدة - و من وقع في فخ الشيطان - يقصدون دار العلم و الايمان... دار النبوة و الامامة... دار الامام جعفر الصادق (عليه السلام) و يطرحون علي الامام ما يدور في اذهانهم من اسئلة و شبهات، فكان الامام الصادق (عليه السلام) يستقبلهم برحابة صدر، و يستمع الي اسئلتهم و يجب عليها... و يحاول ارشادهم الي الصراط المستقيم. و قد ذكرنا - في فصل: حرية الكلام عند الامام الصادق (عليه السلام) - بعض ما يتعلق بهذا الموضوع، و الآن نذكر لك - أيها القارئ الكريم - بعض المناظرات التي دارت بين الامام الصادق (عليه السلام) و الملاحدة حول التوحيد و غيره: 1- روي أنا أباشاكر الديصاني وقف ذات يوم في مجلس أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له: انك لأحد النجوم الزواهر، و كان آباؤك بدورا بواهر، و امهاتك عقيلات عباهر، و عنصرك من أكرم العناصر، و اذا ذكر العلماء فعليك تثني الخناصر. خبرنا أيها البحر الزاخر: ما الدليل علي حدوث العالم؟ فقال أبوعبدالله (عليه السلام): من أقرب الدليل علي ذلك ما اظهره لك، ثم دعا ببيضة فوضعها في راحته، و قال: هذا حصن ملموم، داخلة غرقي ء رقيق (1) يطيف به كالفضة السائلة، و الذهبة المائعة، أتشك في ذلك؟ قال أبوشاكر: لا شك فيه. قال أبوعبدالله (عليه السلام): ثم انه ينفلق عن صورة كالطاووس، أدخله شي ء غير ما عرفت؟

ص: 413


1- 726. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 489 ح 400. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 297.

قال: لا. قال: فهذا الدليل علي حدوث العالم. فقال أبوشاكر: دللت - يا أباعبدالله - فأوضحت، و قلت فأحسنت، و ذكرت فأوجزت، و قد علمت أنا لا نقبل الا ما أدركناه بأبصارنا، أو سمعناه بآذاننا، أو ذقناه بأفواهنا، أو شممناه بانوفنا، أو لمسناه ببشرتنا. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): «ذكرت الحواس الخمس و هي لا تنفع في الاستنباط الا بدليل كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح». يريد به (عليه السلام) أن الحواس بغير عقل لا توصل الي معرفة الغائبات، و ان الذي أراه من حدوث الصورة معقول، بني العلم به علي محسوس (1) . 2- و سأل ابن أبي العوجاء، أباعبدالله (عليه السلام): لماذا اختلفت منيات الناس، فمات بعضهم بالبطن و بعضهم بالسل؟ فقال (عليه السلام): لو كانت العلة واحدة امن الناس حتي تجيي ء تلك العلة بعينها، فأحب الله أن لا يؤمن [علي] حال. قال: و لم يميل القلب الي الخضرة أكثر مما يميل الي غيرها؟ قال: من قبل أن الله تعالي خلق القلب أخضر، و من شأن الشي ء أن يميل الي شكله (2) . 3- و جاء ابن أبي العوجاء - و اسمه: عبدالكريم - الي الامام الصادق (عليه السلام) فقال له الامام: ما اسمك؟ فلم يجبه.

ص: 414


1- 727. الغرقي ء: هي القشرة الملتزقة ببياض البيض (أقرب الموارد).
2- 728. الارشاد للشيخ المفيد: ص 281.

و أقبل (عليه السلام) علي غيره، فانكفأ [ابن أبي العوجاء] راجعا الي أصحابه، فقالوا: ما وراءك؟ قال: شر، ابتدأني فسألني عن اسمي، فان كنت قلت: عبدالكريم. فيقول: من هذا الكريم الذي أنت عبده؟ فاما أن اقر بمليك، و اما اظهر مني ما أكتم. فقالوا: انصرف عنا. فلما انصرف، قال أبوعبدالله (عليه السلام): و أقبل ابن أبي العوجاء الي أصحابه محجوجا (مغلوبا) قد ظهر عليه ذلة الغلبة. .... فقال ابن أبي العوجاء - لأصحابه -: أو ليس بابن الذين نكل بالخلق (1) و أمر بالحلق، و شوه عوراتهم، و فرق أموالهم، و حرم نساءهم؟ (2) . أقول: ان اللعين حينما ظهر منه العجز و الذل قال لأصحابه: «أو ليس بابن الذي نكل بالخلق...» الي آخره. و يقصد من كلامه هذا أن الامام الصادق (عليه السلام) هو ابن رسول الله (صلي الله عليه و آله) الذي قتل الكفار و المشركين في الحروب، و أمر الحجاج بحلق رؤوسهم، و أمر المسلمين بالختان، و أمر بالزكاة، و حرم النساء المحارم علي الرجال، و حرم الزنا و حتي النظر الي المرأة الأجنبية بقصد التلذذ.

ص: 415


1- 729. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 256.
2- 730. نكل بفلان: اذا صنع به صنيعا يحذر غيره منه اذا رآه (لسان العرب).

الامام الصادق في مواجهة فكرة الغلو و الغلاة

اشاره

قال الله تعالي: «يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا علي الله الا الحق انما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله و كلمته ألقاها الي مريم و روح منه فآمنوا بالله و رسوله و لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم انما الله اله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات و ما في الأرض و كفي بالله وكيلا» (1) . «قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل» (2) . الغلو: مجاوزة الحد، اما في الزيادة أو في النقيصة، و كل من تجاوز الحد الذي حده الله تعالي - سواء كان التجاوز الي الزيادة أم الي النقصان -

ص: 416


1- 731. مناقب آل أبي طالب. ج 4 ص 257. منه بحارالأنوار. ج 10 ص 201.
2- 732. سورة النساء آية 171.

فهو غال. و أما الآيتان: فالاولي خطاب الي النصاري فقط، أو الي اليهود و النصاري، لأن كل فريق منهما تجاوز الحد في عقيدته في حق المسيح عيسي بن مريم (عليه السلام). أما النصاري فاعتقدوا فيه أنه ابن الله، و بعضهم قال: انه الله، و بعضهم قال: هو ثلاث ثلاثة: الأب و الابن و روح القدس. و اما اليهود فقد غلوا فيه أيضا، فنسبوه الي أب، و طعنوا في نسبه أيضا، فهم - أيضا - تجاوزوا الحد، و هكذا غلوا في عزير كما قال تعالي: «قالت اليهود عزيز ابن الله» (1) . اذن، فمن الصحيح أن يكون المراد بقوله تعالي: «يا أهل الكتاب» اليهود و النصاري، لأنهم اعتقدوا في الله غير الحق، و غلوا في عيسي بن مريم و عزير. و الآية الثانية أيضا نفس المضمون مع اختلاف يسير، و زيادة، و هي النهي عن اتباع أهواء و آراء قوم قد ضلوا من قبل، و هم أسلافهم أي رؤساء الفريقين من اليهود و النصاري الذين اختلقوا و ابتدعوا الآراء و المذاهب، فاتبعهم الناس، فأضلوهم من ناحية العقيدة، و ضلوا عن الطريق المستقيم. بعد هذه اللمحة الموجزة عن الغلو المنهي عنه في القرآن الكريم... نقول: يستفاد من هاتين الآيتين و غيرهما أن فكرة الغلو كانت في الامم الماضية، و كانت الفكرة تصدر من انسان واحد، ثم تنتشر، ثم تصبح مذهبا

ص: 417


1- 733. سورة المائدة آية 77.

و مبدءا بين المعتنقين لها. و لا نستطيع أن نتأكد من أسباب تكون هذه الفكرة، و معرفة الأدلة التي كان أصحابها يستدلون بها، و يجعلونها سهلة القبول عند أتباعهم. و بعد الانتباه الي النهي عن الغلو الوارد في الآيتين (و بصرف النظر عن المخاطبين المقصودين بذلك الخطاب و هم أهل الكتاب) يتضح لنا أن تجاوزا الحدود في مدح الأفراد يعتبر من مصاديق الضلالة، و يصير سببا لاضلال من يتقبلها. و من أشد الأسف أن هذه الفكرة التائهة اختلقها اناس من هذه الامة لدوافع يعلمها الله، و نشروها في المجتمعات الاسلامية، فتقبلها شرذمة من الناس علي خوف من السلطات، و من الجهات الدينية.

اختلاف نوعية الغلو

و كانت نوعية الغلو تختلف في اولئك الأفراد، فبعضهم كان يعتقد في الامام الصادق (عليه السلام) أنه نبي من الأنبياء، و بعضهم يعتقد انه اله، و بعضهم كان يدعي النبوة لنفسه، أو لغيره من أهل زمانه!! و من أعجب العجائب - في ذلك الزمان - اسناد الربوبية الي المخلوقين، مع العلم ان كل مسلم في ذلك العهد - مهما كانت ثقافته الدينية ضئيلة - كان يحفظ سورة التوحيد، و يقرؤها في صلاته، و خاصة قوله تعالي: «لم يلد و لم يولد» و هم كانوا يعلمون بأن الذين نسبت اليهم الربوبية ولدوا و ولدوا، و كان الناس يعرفون آباءهم و أبناءهم، و زوجاتهم و هم يتلون قوله تعالي: «ما اتخذ صاحبة و لا ولدا». فكيف خفيت عليهم هذه الحقائق؟

ص: 418

و كيف التبست عليهم هذه الامور التي كانت من أوضح الواضحات و اقوي المعتقدات؟ و كيف غلبت أباطيلهم عقولهم، بالرغم من الآيات القرآنية؟ و كيف انتصرت كفرياتهم في مقابل معالم الحق، و معتقدات الاسلام و المسلمين. و خلاصة القول: ان من جملة الظواهر العجيبة في القرنين - الأول و الثاني من الهجرة - هو ظهور فكرة الغلو في بعض الناس، و نقصد من الغلو - هنا - اسناد الالوهية و الربوبية الي البشر المخلوق. و من الواضح ان هذه الفكرة تناقض الاسلام الصحيح، بل تعتبر من المبادي ء الهدامة التي لا تنسجم مع التوحيد لأنها هي الشرك الواضح المكشوف، المناقض لوجود الله الواحد الأحد تبارك و تعالي. و الدين الاسلامي يعتبر الغلاة أنجس و ارجس جميع الفرق الضالة الكافرة.

اسباب انتشار فكرة الغلو

و يمكن أن نقول: ان أسباب انتشار هذه الفكرة في المجتمعات الاسلامية لها ثلاثة جذور: الأول: فلسفة الحلول التي انتقلت من العهد الجاهلي و من فلاسفة اليونان، و انتشرت في الجزيرة العربية و غيرها، و بناء علي تلك الفلسفة كان المشركون يعبدون الأصنام معتقدين بان الله (تعالي عما يقول الكافرون علوا كبيرا) قد حل في تلك الأصنام. ثم تبلورت تلك الفلسفة و تطورت و تسرت الي المجتمعات الاسلامية،

ص: 419

فجعل من يدعي الاسلام يعتقد الحلول في بعض أفراد الناس، فاعتقدوا الربوبية في بعض العظماء، حسب الفلسفة الساقطة عندهم. الثاني: الدسيسة أو الدسائس التي قام بها بعض الفاسدين المفسدين لالقاء الشبهات في المجتمعات الاسلامية بدافع التفرقة، و هدم الكيان العقائدي، و التلاعب بالمقدسات، و ايجاد الشك في بعض القلوب. و هذه خطط شيطانية قد تنجح في بعض الظروف، و عند السذج من الناس، و من فاقدي الوعي و الثقافة الدينية. الثالث: الفضائل التي اجتمعت و توفرت في أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من المعاجز و الكرامات، و التخلق بأعلي درجات الأخلاق، فامتازوا عن سواهم بمزايا لا يلحقهم فيها لاحق، و لا يسبقهم سابق، و لا يفوقهم فائق. و حين المقارنة بينهم و بين غيرهم كان يظهر البون الشاسع و الفرق العظيم، و صار هذا سببا لانحراف العقائد في بعض ضعفاء الايمان. و بعبارة اخري: ان من الثابت أن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) كانوا بمنزلة سامية، و مرتبة عالية من السمو و الكمال و الرفعة، و لم ير الناس نظيرا لهم في مزاياهم و خصائصهم. فهم في أعلي جو، و أرفع افق من المواهب، فكأنهم ليسوا من البشر العادي. فالانسانية - بجميع معانيها و مفاهيمها - تجسدت و تمثلت فيهم، من ناحية طهارة النفس و قداسة الروح، و طيب القلب، و سمو الأخلاق و غزارة العلم، و خاصة اخبارهم عن المغيبات و غيرها.

ص: 420

و من الطبيعي: ان المتصف بهذه الصفات تكون له منزلة رفيعة في القلوب من المحبة و التقدير، و هذه الخصائص و المزايا هي التي أجبرت النفوس أن تنحني لهم اجلالا، و تقديسا و تعظيما، علي اختلاف و تفاوت في درجات المحبة و التعظيم، فهناك المعتدل، و هناك المسرف. و الامام الصادق (عليه السلام) لم يكن رجلا عاديا حتي يعتبره الناس عالما من العلماء فقط، أو محدثا من المحدثين فحسب، بل آثار الكمال النفسي كانت تظهر في حركاته و سكناته، و حميد صفاته كان يتجلي في تصرفاته. فلا عجب من تكون فكرة الغلو عند بعض العقيدة، و انتهاء أمرهم الي الانحراف و الضلال و الكفر. و ما ذنب الامام الصادق اذ كان الشواذ من الناس يعتقدون فيه اعتقادا باطلا؟ فهل يكتم علومه؟ و يخفي مواهبه عن الناس، و يغطي جمال فضائله، و يستر نفسياته الزكية، و صفاته الحميدة حتي لا تظهر للناس، فيعتقد فيه بعض الجهلة السفلة اعتقادا لا يليق بالمخلوق؟!! و سنذكر بعض الأحاديث التي تذكر مواقف الامام الصادق (عليه السلام) من اولئك الضالين، و قد ذكرنا - في تراجم بعض أصحابه في الموسوعة - المزيد من التفصيل.

موقف الامام الصادق من الغلاة

و كان الامام الصادق (عليه السلام) يفند أباطيلهم، و يزيف أدلتهم، و يجيب علي أسئلتهم، و يدحض حججهم، فاذا لم يجد منهم التجاوب

ص: 421

و التفاهم كان يقاوم و يكافح تلك الجبهات بكل صرامة و خشونة و بلا هوادة و يعلن براءته منهم، و يتجاهر بلعنهم و الدعاء عليهم، فيدمرهم تدميرا، و يحطم أباطيلهم، و يشوه سمعتهم، و يأمر شيعته و الخط الموالي له بالابتعاد عنهم، و البراءة منهم، بل و لعنهم، بل و ربما أمر بقتلهم - كما في بزيع الحائك -. و كان هذا الموقف الممتاز من الامام الصادق (عليه السلام) ضروريا جدا، فهو في الوقت الذي يحارب تلك المنكرات، في نفس الوقت يبري ء ساحته و مدرسته من اولئك الضالين الذين كانوا يترددون علي دار الامام الصادق كي يظهروا للناس أنهم محسوبون علي الامام، و ينتمون الي مدرسته. فكانت تلك المواقف من الامام نافعة و ناجعة و موفقة، لأن الغلاة - بعد أن تلطخوا بوصمات الخزي و العار - لم يستطيعوا التخلص من آثار اللعن الذي شملهم، و التبري ء الذي طردهم من المجتمعات الشيعية، فكانوا يشعرون أنهم يعيشون عيشة الانعزال و الانفصال عن المجتمعات الشيعية و غيرها بسبب شذوذهم العقائدي. و كان الامام الصادق (عليه السلام) - يتألم من تلك العقائد الكافرة اشد التألم، و تسلبه الراحة و تورثه الأرق و القلق، و يتبرأ من معتنقيها أشد التبري. و اليك بعض الأحاديث المذكورة في هذا المجال. عن خالد بن نجيح الجوان قال: كنا عند أبي عبدالله (عليه السلام) و أنا أقول في نفسي: ليس يدرون هؤلاء بين يدي من هم؟ قال: فأدناني (عليه السلام) حتي جلست بين يديه ثم قال لي: يا هذا ان لي ربا أعبده -

ص: 422

ثلاث مرات - (1) . و عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «لعن الله المغيرة بن سعيد، انه كان يكذب علي أبي، فأذاقه الله حر الحديد، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، و لعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا، و اليه مآبنا و معادنا، و بيده نواصينا» (2) . و عن مالك الجهني، قال: كنا بالمدينة حين اجلبت (3) الشيعة، و صاروا فرقا، فتنحينا عن المدينة ناحية، ثم خلونا، فجعلنا نذكر فضائلهم، و ما قالت الشيعة. الي أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا بشي ء اذا نحن بأبي عبدالله (عليه السلام) واقف علي حمار، فلم ندر من أين جاء فقال: يا مالك! و يا خالد! متي أحدثتما الكلام في الربوبية؟ فقلنا: ما خطر ببالنا الا الساعة، فقال: «اعلما أن لنا ربا يكلؤنا (4) بالليل و النهار، نعبده. يا مالك! و يا خالد! قولوا فينا ما شئتم، و اجعلونا مخلوقين». فكررها علينا مرارا و هو واقف علي حماره (5) . و عن سدير، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ان قوما يزعمون أنكم آلهة! يتلون بذلك علينا قرآنا: «و هو الذي في السماء اله

ص: 423


1- 734. سورة التوبة آية 30.
2- 735. بصائر الدرجات: ص 261 ح 24. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 71.
3- 736. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 489 ح 400. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 297.
4- 737. في بحارالأنوار: اجليت.
5- 738. يكلؤنا: يحفظنا و يحرسنا.

و في الأرض اله» (1) . فقال: يا سدير! سمعي و بصري و بشري و لحمي و دمي و شعري من هؤلاء براء، و بري ء الله منهم، ما هؤلاء علي ديني، و لا علي دين آبائي، والله لا يجمعني الله و اياهم يوم القيامة الا و هو ساخط عليهم. قال: قلت: و عندنا قوم يزعمون أنكم رسل، يقرؤن علينا بذلك قرآنا: «يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعلملوا صالحا اني بما تعلمون عليم» (2) . فقال: يا سدير! سمعي و بصري، و شعري و بشري و لحمي و دمي من هؤلاء براء، و بري ء الله منهم و رسوله، ما هؤلاء علي ديني، و لا علي دين آبائي، والله لا يجمعني الله و اياهم يوم القيامة الا و هو ساخط عليهم. قال: قلت: فما أنتم؟ قال: «نحن خزان علم الله، نحن تراجمة (3) أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله (تبارك و تعالي) بطاعتنا و نهي عن معصيتنا. نحن الحجة البالغة علي من دون السماء و فوق الأرض» (4) . و عن أبان بن عثمان، قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: لعن الله عبدالله بن سبأ، انه ادعي في أميرالمؤمنين (عليه السلام) و كان - والله - أميرالمؤمنين (عليه السلام) عبدا لله طائعا. الويل لمن كذب علينا، و ان قوما يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا،

ص: 424


1- 739. كشف الغمة: ج 2 ص 197. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 148.
2- 740. سورة الزخرف آية 84.
3- 741. سورة المؤمنون آية 51.
4- 742. جمع ترجمان و هو المفسر للسان (مجمع البحرين).

نبرأ الي الله منهم، نبرأ الي الله منهم (1) . و عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «من قال: انا أنبياء فعليه لعنة الله، و من شك في ذلك فعليه لعنة الله» (2) . و عن صالح بن سهل قال: كنت أقول في أبي عبدالله (عليه السلام) بالربوبية، فدخلت عليه، فلما نظر الي قال: «يا صالح! انا - والله - عبيد، مخلوقون، لنا رب نعبده، و ان نعبده عذبنا» (3) . و عن المفضل بن عمر قال: كنت أنا و خالد الجواز، و نجم الحطيم، و سليمان بن خالد علي باب الصادق (عليه السلام) فتكلمنا فيما يتكلم به أهل الغلو، فخرج علينا الصادق (عليه السلام) بلا حذاء، و لا رداء، و هو ينتفض (4) و يقول: يا خالد! يا مفضل، يا سليمان، يا نجم! لا، «بل عباد مكرمون - لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون» (5) . و عن الفضيل بن عثمان الأعور، قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: «اتقوا الله، و عظموا الله، و عظموا رسول الله (صلي الله عليه و آله) و لا تفضلوا علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) أحدا، فان الله (تبارك و تعالي) قد فضله. و أحبوا أهل بيت نبيكم حبا مقتصدا، و لا تغلوا في، و لا تفرقوا، و لا تقولوا ما لا نقول، فانكم ان قلتم و قلنا، و متم و متنا، ثم بعثكم الله

ص: 425


1- 743. الكافي: ج 1 ص 269 ح 6.
2- 744. اختيار معرفة الرجال: ج 1 ص 324 ح 172. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 286.
3- 745. اختيار معرفة الرجال:ج 2 ص 590 ح 540. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 296.
4- 746. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 632 ح 632. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 303.
5- 747. يتنفض: يرتعد و يرتجف.

و بعثنا، فكنا حيث يشاء الله، و كنتم» (1) . أقول: لعل المقصود من الجملات الأخيرة: انكم اذا اتفقتم معنا في العقيدة كنتم معنا في الآخرة، و اذا اختلفتم معنا في العقيدة كان مكانكم غير مكاننا، أي كنتم محرومين عن لقائنا. و عن فصيل بن يسار، قال: قال الصادق (عليه السلام): «احذروا - علي شبابكم - الغلاة، لا يفسدوهم، فان الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله، و يدعون الربوبية لعباد الله. والله ان الغلاة أشر من اليهود و النصاري و المجوس و الذين أشركوا. ثم قال (عليه السلام): الينا يرجع الغالي فلا نقبله. و بنا يلحق المقصر فنقبله فقيل له: كيف ذلك يابن رسول الله؟ قال: لان الغالي: قد اعتاد ترك الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج، فلا يقدر علي ترك عادته و علي الرجوع الي طاعة الله (عزوجل) أبدا، و ان المقصر اذا عرف عمل و أطاع» (2) . و عن اسماعيل بن عبدالعزيز، قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام): يا اسماعيل! ضع لي في المتوضأ ماء (3) .قال: فقمت، فوضعت له، فدخل، قال: فقلت - في نفسي -: أنا أقول فيه كذا و كذا و يدخل المتوضأ [يتوضأ]!! قال: فلم يلبث أن خرج فقال: يا اسماعيل! لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا عبيدا مخلوقين، و قولوا فينا ما شئتم، [فلن تبلغوا]. فقال اسماعيل: و كنت أقول: انه و أقول و أقول (4) .

ص: 426


1- 748. سورة الأنبياء آية 26 و 27. و الحديث في مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 219.
2- 749. قرب الاسناد: ص 61. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 269.
3- 750. أمالي الطوسي: ج 2 ص 264. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 265.
4- 751. المتوضأ: الكنيف و المستراح و الخلاء (مجمع البحرين).

كذبوا علي أهل البيت

أيها القارئ الكريم: ان من جملة الوسائل الشيطانية و الطرق الخبيثة التي استخدمها اعداء رسول الله و آله الطيبين الطاهرين لتشويه سمعتهم و النيل من قدسيتهم و مكانتهم السامية هو الكذاب علي النبي و أهل بيته (عليهم الصلاة و السلام) و نسبة مالا يليق اليهم، و وضع الأحاديث المزورة في فضل أعدائهم الظالمين الغاصبين و نسبتها الي أهل البيت (عليهم السلام). و قد روي عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أنه قال: «قد كثرت علي الكذابة و ستكثر، فمن كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار...» الي آخر الحديث (1) . و قد بذل بنوامية و مرتزقتهم قصاري جهودهم في هذا المجال... و خاصة ضد آل رسول الله المظلومين (صلوات الله علهيم أجمعين). يقول الامام محمد الباقر (عليه السلام) - في حديثه له -:

ص: 427


1- 752. بصائر الدرجات: ص 261 ح 22. منه بحارالأنوار: ج 25 ص 279.

«ثم لم نزل - أهل البيت - نستذل و نستضام، و نقصي و نمتهن، و نحرم و نقتل، و نخاف، و لا نأمن علي دمائنا و دماء أوليائنا. و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا يتقربون به الي أوليائهم و قضاة السوء و عمال السوء، في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث المكذوبة، و ورووا عنا ما لم نقله و لم نفعله، ليبغضونا الي الناس...» (1) . و روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «انا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا و يسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) أصدق البرية لهجة و كان مسيلمة يكذب عليه، و كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) أصدق من برأ الله من بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله) و كان الذي يكذب عليه و يعمل في تكذيب صدقه بما يفتري عليه من الكذب عبدالله بن سبأ لعنه الله... - الي أن قال (عليه السلام) -: لعنهم الله انا لا نخلو من كذاب يكذب علينا أو عاجز الرأي، كفانا الله مؤونة كل كذاب و أذاقهم حر الحديد» (2) . فالامام الصادق (عليه السلام) هو أحد الأئمة الطاهرين الذين لم يسلم من افتراءات الضالين المضلين... فكم من الأحاديث المكذوبة التي نسجتها السنة المخالفين و افواه المعاندين و نسبتها الي الامام الصادق (عليه السلام) و انتشرت في الكتب و الموسوعات؟!!!

ص: 428


1- 753. بحارالأنوار: ج 2 ص 225.
2- 754. بحارالأنوار: ج 44 ص 68.

و الجدير بالذكر أن بعض هذه الأحاديث المزورة قد وضع في عصر الائمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) و لكن الظروف الصعبة و الأجواء الخانقة كانت تمنع آل رسول الله المعصومين من نفي تلك الأحاديث - بصورة علنية - و ردها و تكذيبها و التبري من واضعيها الخائنين. و هذا يعكس جانبا من مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) فالانسان العادي اذا كذب عليه تراه يسرع الي الاعلان عن براءته من ذلك القول أو الفعل... و لكن الامام لم يملك حتي هذا القسط من الحرية!! فو الهفتاه عليكم... يا آل رسول الله!!! وا أسفاه عليكم... ايها المظلومون... المضطهدون!! أيها القارئ الكريم: و اليك هذا الحديث الذي يعرض جانبا من هذه المآسي: عن ميمون بن عبدالله قال: أتي قوم أباعبدالله (عليه السلام) - يسألونه الحديث - من الأمصار، و أنا عنده، فقال لي: اتعرف أحدا من القوم؟ قلت: لا. فقال (عليه السلام): كيف دخلوا علي؟ قلت: هؤلاء قوم يطلبون الحديث من كل وجه، لا يبالون ممن أخذوا. فقال (عليه السلام) لرجل منهم: هل سمعت من غيري من الحديث؟ قال: نعم. قال (عليه السلام): فحدثني ببعض ما سمعت

ص: 429

قال: انما جئت لأسمع منك، لم أجئ احدثك. ... الي أن قال له (عليه السلام): فسمعنا بعض ما اقتبست من العلم حتي نعتد بك ان شاء الله. قال: حدثني سفيان الثوري عن جعفر بن محمد قال: النبيذ كله حلال الا الخمر. ثم سكت. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): زدنا. قال: حدثنا سفيان عمن حدثه عن محمد بن علي [الباقر] أنه قال: من لم يمسح علي خفيه فهو صاحب بدعة، و من لم يشرب النبيذ فهو مبتدع و من لم يأكل الجريث (1) و طعام أهل الذمة فهو ضال..... ... فقال أبوعبدالله (عليه السلام): زدنا. قال: حدثني سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر أنه رأي عليا [عليه السلام] علي منبر بالكوفة و هو يقول: لئن أتيت برجل يفضلني علي أبي بكر و عمر لأجلدنه حد المفتري!!! فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): زدنا. فقال: حدثني سفيان عن جعفر أنه قال: حب ابي بكر و عمر ايمان، و بغضهما كفر!! .... فقال أبوعبدالله (عليه السلام): زدنا. فقال: حدثني نعيم بن عبيدالله عن جعفر بن محمد انه قال: ود علي بن أبي طالب أنه بنخيلات ينبع، يستظل بظلهن و يأكل من حشفهن و لم يشهد يوم الجمل و لا النهروان!!

ص: 430


1- 755. بحارالأنوار: ج 2 ص 217.

و حدثني به سفيان عن الحسن. قال أبوعبدالله (عليه السلام): زدنا. قال: حدثنا عباد عن جعفر بن محمد انه قال: لما رأي علي بن أبي طالب يوم الجمل و كثرة الدماء قال لابنه الحسن: يا بني هلكت. قال له الحسن: يا أبت أليس قد نهيتك عن هذا الخروج؟! فقال علي: يا بني لم ادر أن الأمر يبلغ هذا المبلغ. فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): زدنا. قال: حدثنا سفيان الثوري عن جعفر بن محمد أن عليا - لما قتل أهل صفين - بكي عليهم، ثم قال: جمع الله بيني و بينهم في الجنة. قال [الراوي: ميمون بن عبدالله]: فضاق بي البيت، و عرقت و كدت أن اخرج من مسكي (1) فأردت أن أقوم اليه فأتوطأه (2) ثم ذكرت غمز أبي عبدالله (عليه السلام) فكففت. فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): من أي البلاد أنت؟ قال: من أهل البصرة. قال (عليه السلام): هذا الذي تحدث عنه و تذكر اسمه جعفر بن محمد تعرفه؟ قال: لا. قال (عليه السلام): فهل سمعت منه شيئا قط؟ قال: لا. قال (عليه السلام): فهذه الأحاديث عندك حق؟

ص: 431


1- 756. الجريث: ضرب من السمك يشبه الحيات (مجمع البحرين) و اكله حرام.
2- 757. أي: صوابي و هدوئي.

قال: نعم. قال (عليه السلام): فمتي سمعتها؟ قال: لا احفظ - قال - الا أنها أحاديث أهل مصرنا، منذ دهرنا لا يمترون فيها. قال له أبوعبدالله (عليه السلام): لو رأيت هذا الرجل الذي تحدث عنه فقال لك: هذه التي ترويها عني كذب و قال: لا اعرفها و لم احدث بها، هل كنت تصدقه؟ قال: لا. قال (عليه السلام): لم؟ قال: لأنه شهد علي قوله رجال له شهد أحدهم علي عتق رجل لجاز قوله. فقال (عليه السلام): اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، حدثني أبي عن جدي. قال: ما اسمك؟ قال (عليه السلام): ما تسأل عن اسمي. ان رسول الله قال: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، ثم أسكنها الهواء، فما تعارف منها ثم ائتلف هاهنا، و ما تناكر ثم اختلف هاهنا. و من كذب علينا - أهل البيت - حشره الله يوم القيامة أعمي يهوديا، و ان ادرك الدجال آمن به، و ان لم يدركه آمن به في قبره». يا غلام ضع لي ماء (1) .

ص: 432


1- 758. الوطء: هو الايقاع و الابادة (مجمع البحرين).

ثم غمزني و قال: لا تبرح. و قام القوم فانصرفوا و قد كتبوا الحديث الذي سمعوه منه. ثم انه (عليه السلام) خرج و وجهه منقبض فقال: أما سمعت ما يحدث به هؤلاء؟!! قلت: اصلحك الله، ما هؤلاء و حديثهم؟! قال (عليه السلام): اعجب حديثهم كان عندي: الكذب علي و الحكاية عني ما لم أقل و لم يسمعه عني أحد. و قولهم: لو أنكر الأحاديث ما صدقناه!! ما لهؤلاء؟! لا أمهل الله لهم، و لا أملي لهم. ثم قال (عليه السلام) لنا: ان عليا (عليه السلام) لما أراد الخروج من البصرة قال علي اطرافها... ثم قال: «لعنك الله يا أنتن الأرض ترابا و أسرعها خرابا و أشدها عذابا، فيك الداء الدوي. قيل: ما هو يا أميرالمؤمنين؟ قال: كلام القدر الذي فيه الفرية علي الله، و بعضنا أهل البيت و فيه سخط الله و سخط نبيه (صلي الله عليه و آله) و كذبهم علينا أهل البيت و استحلالهم الكذب علينا» (1) . أقول: الظاهر أن ذم الامام أميرالمؤمنين (عليه السلام) للبصرة و أهلها كان نابعا من سوء تصرفاتهم في ذلك اليوم، حيث خرجوا علي امام زمانهم و شهروا السيوف في وجهه و حاربوه و قتلوا جماعة كبيرة من المؤمنين الذين كانوا معه. بالاضافة الي كذبهم و افتراءهم علي الامام (عليه السلام) - كما قرأت

ص: 433


1- 759. أي: قام (عليه السلام) و ذهب لقضاء الحاجة، و ترك القوم و أعرض عنهم.

شيئا موجزا منه في الحديث السابق -. أما اليوم فالبصرة - و الحمد لله - تعتبر من مراكز الايمان و الولاء لآل رسول الله الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) و قد شب أهلها علي محبة أهل البيت (عليهم السلام) و الدفاع عنهم. و لهم مواقف مشرفة تجاه الشعائر الحسينية و خاصة في أيام عاشوراء و الأربعين.

ص: 434

الحياة السياسية للامام الصادق

السياسة - في اللغة -: التدبير، و الأمر و النهي، و القيام بالأمر، و تولي امور الرعية بما يصلحهم. و في الخبر: «كان بنواسرائيل تسوسهم أنبياؤهم» (1) أي تتولي امورهم كالامراء و الولاة. و خلاصة القول: معني السياسة: ادارة شؤون البلاد، و تدبير امور العباد بما يصلحهم. و لكن السياسة - في زماننا - أخذت طابعا خاصا، و معني آخر غير المعني اللغوي... و هو عدم الالتزام بخط معين، و مذهب خاص، فالسياسي - بهذا المعني - هو الذي يتلون بكل لون حسب الظروف، فهناك الحب المفتعل، أو البغض المزور، أو التظاهر بالديانة، أو ضرب ما يسمي بالدين و مكافحة كل نشاط ديني حتي أن بعضهم قال: القضاء علي الدين دين.

ص: 435


1- 760. بحارالأنوار: ج 47 ص 354 ح 64 ذكرناه ملخصا.

و تارة يري التشجيع علي الامور الدينية، و القضايا الاسلامية. و انما يتلون السياسي بهذه الألوان رعاية للجوانب المادية، و المصالح الشخصية لا الامور الدينية، و القضايا الاسلامية حقيقة. و في بعض البلاد تلعب السياسة دورها حسب الوحي الاستعماري، و أوامر الكفار و المشركين. و حكام تلك البلاد لا حول لهم و لا قوة، بل هم أدواة طيعة لتنفيذ أوامر أسيادهم، و لا يحق لهم أبداء الرأي، أو اظهار النظر، أو التأمل في التنفيذ و التطبيق و الا فان كراسيهم تتضعضع، و كراماتهم تتزلزل!! و السياسة - بهذا المعني - واسعة النطاق، كثيرة المصداق، لا يمكن حدها و عدها. فقد تقتضي السياسة قتل الأبرياء، ثم البكاء و النياحة علي اولئك القتلي الأبرياء و ملاحقة من ساهم في قتلهم. و قد تقتضي السياسة كيل التهم للصالحين ثم تقديس الصالحين المتهمين! و الاشادة بجلالة قدرهم، و عظم شأنهم... و هكذا تكون القضايا السياسية مضحكة و مبكية. مضحكة، لأنها تخالف الواقع، و لها صورة تشبه الحقيقة. و مبكية، لأنها تنزل الفجائع و المذابح و المصائب و المآسي علي البشر المسكين الذي لا يعلم لماذا صار فريسة لتلك الألعاب و ضحية لتلك المساومات. فالسياسة اللعينة - بهذا المعني - لا تنسجم مع الدين الاسلامي ابدا و قطعا، بل الدين الاسلامي يجعل السياسة خاضعة له، بأن تدور في فلكه، لا أن الدين يخضع للسياسة و يفقد مقوماته و معنوياته.

ص: 436

و أولياء الله بعيدون عن هذه الألعاب ابتعاد المشرق عن المغرب، و منزهون عن هذه المخازي و الأقذار. و قد عاب المستشرق (سيكس) علي الامام أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) اصراره علي الأمانة و الشرف، لأنهما لا يتفقان مع السياسة!! (1) . نعم السياسة - عند ائمة أهل البيت (عليهم السلام) - هي ادارة شؤون البلاد، و تدبير امور العباد بما يصلحهم علي ضوء الدين الاسلامي فقط و لا غير، و حسب المقاييس الشرعية الصحيحة فحسب. هذا اذا كانت القدرة بأيديهم (عليهم السلام) و السلطة لهم، و الامور طيعة، و الناس منقادة و الأجواء ملائمة. و اما اذا كان الأمر بالعكس من ذلك - بأن كانوا مسلوبي الامكانيات بسبب استيلاء الظالمين علي منصة الحكم، و التفاف الناس حولهم، و تفرقهم عن اولياء الله، و اضعاف جانبهم - فهناك يتبدل التكليف الشرعي، و يتغير الحكم الالهي. لأن القدرة شرط التكليف، و لا يكلف الله نفسا الا وسعها، فاذا كانت القدرة مسلوبة فأي تكليف يتوجه الي الانسان؟! نعم، قد تكون القدرة - و هي السلطة التنفيذية - مفقودة، و لكن توجد قدرات اخري يمكن استغلالها و استثمارها في سبيل نصرة الحق و خدمة الدين. و ذلك - مثلا - عن طريق تعليم الافراد و تربيتهم تربية ممتازة، بحيث يكون كل فرد منهم مولدا للطاقة العقائدية، و مراكزا للثقافة الدينية. فاذا كان الاستيلاء علي منصة الحكم غير مقدور، فان التفاعل مع

ص: 437


1- 761. مجمع البحرين: مادة: سوس.

الأفكار مقدور، و عملية غسل المخ - في بعض الأفراد - ميسورة، خاصة اذا حصل التجاوب و التفاهم و الشوق و الرغبة الي التعلم، فهناك تكون النتيجة قطعية. و اختار الامام الصادق (عليه السلام) هذا الطريق لنشر العلوم الاسلامية، و الأحكام الدينية، و التعاليم الشرعية، و القيم الأخلاقية، حتي يكون جيلا صالحا، أو يغرس نواة الصلاح و الاصلاح في القلوب، لعلها تؤتي اكلها، و تظهر بركاتها و لو بعد حين. و أما حياته السياسية: فلقد حدثت - في فترة قيامه (عليه السلام) بأعباء الامامة - حوادث، تسمي اليوم ب (السياسة) فكان موقفه - تجاه تلك الحوادث - موقفا مشكورا عليه، فلقد قاوم و قابل تلك الحوادث بكل حكمة و حنكة، و معرفة و بصيرة بالامور، قد يعجز أقوياء الرجال عن الصمود و الثبات أمام تلك الأحداث المزعجة، و يتحير العقلاء عن اتخاذ أي تدبير تجاه تلك القضايا المدهشة. و الحوادث تلك عبارة عن ثورات دامية قام بها بعض العلويين للاطاحة بالنظام الأموي الغاشم في ذلك العهد، انخداعا من العلويين بالوعود الزائفة من بعض العناصر التي ادعت الولاء لهم بألسنتها لا بقلوبها. و كان اولئك العلويون يريدون من الامام الصادق (عليه السلام) أن ينخدع أيضا كما انخدعوا، و ان يجرفه تيار الوعود كما جرفهم، يريدون منه التعاون معهم، و التخلي عما يعلمه من العواقب الوخيمة، و النتائج غير المرضية لتلك الثورات الفاشلة.

ص: 438

لقد عقد العديد من العلويين - يشاركهم اناس آخرون - مؤتمرات و لم يراعوا فيها الحكمة، و لم ينظروا اليها من جميع جوانبها، و لم يتخذوا التدابير اللازمة و لم يدركوا الظروف الملائمة للنهضة و الثورة. فكانت ثوراتهم فاقدة الشروط، غير متكاملة الجوانب، و كأنهم لم يتفطنوا أن قلب النظام القائم ليس بالشي ء الهين، و خاصة اذا كان النظام حاكما علي نصف الكرة الأرضية و ذا امكانات واسعة، و قدرات مترامية الأطراف، يحصد الرؤوس، و يطحن العظام و يزهق الأرواح و يهدر كل كرامة، و لا يقف شي ء أمام جموحه و شراسته، و بطشه و فتكه. و كأنهم لم ينتبهوا الي أن التضحية و بذل النفس عند البشر ليس مستسهلا، لأن غريزة حب الحياة لا تفارق الانسان الي آخر نفس من حياته، الا اذا كان ايمانه بالله أقوي من غريزة حبة للحياة. كل هذه الامور و المقدمات - التي هي من مقومات الثورة - كانت غائبة عن أذهان قادة الثورات، و كل من نظر الي شي ء من جانب واحد خفيت عليه جوانب اخري من ذلك الشي ء! كانت هذه الحقائق واضحة و بديهية عند الامام الصادق (عليه السلام) لأنه كان ينظر الي القضايا من جميع جوانبها، من بدايتها الي نهايتها، و من ظاهرها الي باطنها، و يعرف مقاييس المجتمع. لقد كان تاريخ أسلافه الطاهرين مشفوعا بالمآسي التي جرتها عليهم الوعود الكاذبة، و المواثيق الزائفة. فقد خان الناس جده الاكبر: الامام علي أميرالمؤمنين و عمه الامام الحسن المجتبي و جده الامام الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين). و قد أدرك الامام الصادق (عليه السلام) جده: الامام زين العابدين، و أباه الامام

ص: 439

الباقر (عليهماالسلام) اللذين عاشا فاجعة كربلاء الدامية، و لعله سمع منهما الكثير الكثير عن تلك الفاجعة التي لا مثيل لها في تاريخ البشر. و من الطبيعي ان الاطلاع علي التاريخ يعطي الانسان خبرة و عبرة و بصيرة، و كأنها تجارب مرت في حياته، فكيف اذا كان اماما مزودا بعلم الامامة و مواريث الأنبياء؟! و لقد كانت لبداية تلك الثورات مضاعفات تشغل فكر الامام (عليه السلام) من الحزن و تراكم الهموم و الغموم، فالثورات كانت تبتدي ء بصورة غير مطلوبة، و تنتهي بصورة مؤلمة لأن قادة الثورات كانوا يستجلبون الخط الشيعي، المعتقد بامامة الامام الصادق (عليه السلام) و يعرفون أنفسهم بالقلب النابض النشيط للشريعة الاسلامية، و من الطبيعي انهم - في هذه الصورة - يعتبرون الامام الصادق رجلا يفضل الخمول، و الصلاة و الأذكار، و النظر في الكتب التي ورثها من آبائه علي النهضة لتطهير المجتمع، و تقويض الحكم الغاشم!! هكذا كانوا يفكرون، و يسيئون الظن بالامام المعصوم. و من المؤسف أن يختار اولئك السادة - العلويون - هذه الطرق الخاصة لتحقيق أهدافهم و الوصول الي الحكم. و من المؤسف أيضا أن لا يتفطن اولئك السادة الي ان هدوء الامام الصادق (عليه السلام) المعروف به يعتبر مبدأ حركة كبري، و اعتزاله مجالس السياسة يرمي الي سياسة أعلي، و حكمة أتقن. فليس اعتزاله السياسة أمرا سلبيا، بل ايجابي... و ما يتذكر الا اولو الألباب. و اليك بعض الروايات الواردة في المقام:

ص: 440

عن العيص بن القاسم قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: اتقوا الله و انظروا لأنفسكم، فان أحق من نظر لها أنتم، لو كان لأحدكم نفسان فقدم احداهما و جرب بها استقبل التوبة بالاخري كان، و لكنها نفس واحدة اذا ذهبت فقد ذهبت والله التوبة، ان أتاكم منا آت يدعوكم الي الرضا منا فنحن ننشدكم أنا لا نرضي، انه لا يطيعنا اليوم و هو وحده، فكيف يطيعنا اذا ارتفعت الرايات و الأعلام؟!! (1) . و عن الحارث ابن حصيرة الأزدي، قال: قدم رجل من أهل الكوفة الي خراسان فدعا الناس الي ولاية جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: ففرقة أطاعته و أجابت، و فرقة جحدت و أنكرت، و فرقة و رعت و وقفت. قال: فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا علي أبي عبدالله (عليه السلام) قال: فكان المتكلم منهم: الذي ورع و وقف، و قد كان في بعض القوم جارية فخلا بها الرجل و وقع عليها. فلما دخلنا علي أبي عبدالله (عليه السلام) و كان هو المتكلم فقال له: أصلحك الله قدم علينا رجل من أهل الكوفة فدعا الناس الي طاعتك و ولايتك فأجاب قوم، و أنكر قوم، و ورع قوم و وقفوا. قال: فمن أي الثلاث أنت؟ قال: أنا من الفرقة التي و رعت و وقفت. قال: فأين كان ورعك ليلة كذا و كذا؟!! قال: فارتاب الرجل (2) . و عن عبدالحميد بن أبي الدليم قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام)

ص: 441


1- 762. العراق في ظل العهد الأموي: ص 52.
2- 763. علل الشرايع: ص 577 ح 2. منه بحارالأنوار: ج 46 ص 178.

فأتاه كتاب عبدالسلام بن عبدالرحمن بن نعيم، و كتاب الفيض بن المختار، و سليمان بن خالد يخبرونه أن الكوفة شاغرة برجلها (1) ، و أنه - ان أمرهم - أن يأخذوا أخذوها. فلما قرأ (عليه السلام) كتابهم رمي به. ثم قال: ما أنا لهؤلاء بامام، أما علموا أن صاحبهم السفياني؟ (2) .

ص: 442


1- 764. بصائر الدرجات: ص 264 ح 5. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 72.
2- 765. أي: لم تمتنع من غارة أحد لخلوها (أقرب الموارد).

الحكومات المعاصرة للامام الصادق

ان العمر أغلي، و الوقت أثمن من أن يصرف في سرد هذه الامور التي ينزعج القلم من ذكرها، و يتألم الضمير من مطالعتها، و تورث الأسف في النفس، و الألم في القلب. و لكن اسلوب الكتاب يفرض علينا أن نتحدث عن اولئك الحكام الذين عاصرهم الامام الصادق (عليه السلام) و تجرع منهم أنواع الغصص، و تحمل منهم أنواع الأذي. و لقد عاصرنا - منذ عشرات السنين - الحكومات المنحرفة، المتأخرة، المتوحشة و رأينا مواقفها تجاه الطوائف التي لا تنسجم معها فكريا، أو الفئات التي لا تتحد معها عقائديا أو الأحزاب التي لا تتعاون معها سياسيا. رأينا كيف كانت مواقف تلك الأنظمة سلبية، و كيف كانت نظرة رجالها الي غيرهم نظرة عداء و استخفاف، و كان عداؤهم و حقدهم مركزا علي رؤساء تلك الطوائف، و خاصة الطوائف الدينية، فان السلطات كانت تنزعج من تجاوب تلك لطوائف لرؤسائهم، و احترامهم و انقيادهم

ص: 443

و اطاعتهم لهم. فكانت المحاولات الجهنمية، و النشاطات الخبيثة، و الجهود الكافرة تبذل في سبيل القضاء علي قدسية اولئك الرؤساء، و تدنيس سمعتهم، و كانت المؤامرات تدبر لأجل محو تلك الطائفة عن الوجود بشتي الأساليب، من الابعاد، و التسفير و التشريد، و السجن و الاذلال، و الاعدام بلا محاكمة، و بلا أية تهمة أو مبرر، سوي الدكتاتورية، و سحق حقوق البشر. و لعل القاري ء النبيه يشعر بما ذكرته - هنا - في حياته المعاصرة، و ان الذي يسمي بالقانون لا يعمل به أبدا. و انما القانون الحاكم القائم هو ارادة السلطة و هواها، لا غير. في هكذا أجواء مليئة بالارهاب و الارعاب، و الضغط و الكبت، و هدر الكرامات، و سحق الحقوق كان الامام الصادق (عليه السلام) يعيش هو و شيعته. و قد ذكرنا الجبهات العديدة التي حاربت الامام الصادق (عليه السلام) بشتي الأساليب. و اليك بعض ما يتعلق بهذه المواضيع.

ص: 444

موقف الامام من الحكومتين

اشارة

من الواضح ان الامام الصادق (عليه السلام) كان له موقف خاص تجاه الحكومتين: الأموية و العباسية، ففي الوقت الذي كان يراعي التقية معهم كان له موقف صارم و بلا تقية. و كان يمنع الشيعة من التعاون - بجميع معني الكلمة - مع السلطة، و يعتبر كل تعاون معهم من المحرمات التي تسبب دخول النار يوم القيامة. و السبب واضح جدا، فان الموظف الحكومي يجب عليه تنفيذ الأوامر الموجهة اليه، حتي اذا أمروه بهدم الكعبة و احراق القرآن - و العياذ بالله - فانه لابد له من امتثال الأوامر المفوضة اليه، و لا يستطيع أن يخالف قيد شعرة، لأنه موظف عندهم يتقاضي منهم الرواتب في مقابل تنفيذ الأوامر و التكاليف الحكومية، و علي هذا جرت العادة كما في التاريخ القديم و المعاصر. و من خلال الأحاديث - التي سوف نذكرها - يتضح لنا شي ء من موقف الامام تجاه الحكومتين، و خاصة موقفه تجاه الحكومة الأموية. و قبل الدخول في صميم الموضوع لا بأس بذكر كلمة و جيزة حول موقف المناوئين تجاه الائمة الطاهرين (عليهم السلام) فنقول:

ص: 445

الأئمة الطاهرون و مناوؤهم

اشاره

النزاع و الخلاف بين الخير و الشر، و بين الفضيلة و الرذيلة، و بين الحق و الباطل من أقدم الظواهر البشرية علي وجه الكرة الأرضية. و لا مانع من أن نعتبر مبدأ هذا النزاع من عهد هابيل و قابيل ابني آدم (عليه السلام) كما يقول القرآن الكريم: «اذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين - لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لأقتلك اني أخاف الله رب العالمين.... فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين» (1) . و القرآن الكريم يحدثنا - كثيرا - عن موارد النزاع و الخلاف بين الامم الكافرة و بين أنبياء الله. و في مبدأ البعثة النبوية الشريفة تجلي هذا النزاع بصورة واضحة، فالحروب التي أجج الكفار و المشركون نيرانها كانت منبعثة من هذا المنطلق. و التهم التي وجهها المشركون الي النبي الأقدس (صلي الله عليه و آله)

ص: 446


1- 766. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 641 ح 662. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 351.

- كالسحر و الجنون و أمثالهما - أيضا كانت من نتائج النزاع المذكور. و من الواضح - الذي لا يشك فيه أحد - أن بني امية كانوا في طليعة المحاربين و المقاتلين لرسول الله (صلي الله عليه و آله).. من يوم بدر الي يوم احد، و هكذا و هلم جرا. و توضيحا للمقصود من المناسب أن اذكر - هنا - شيئا من الكتاب الذي كتبه المعتضد العباسي حول معاوية، و تقرر أن يقرأ علي الناس حتي تعرف شيئا من مواقف بني امية تجاه رسول الله و عترته الطاهرة:

كتاب المعتضد العباسي

جاء في تاريخ الطبري: في سنة أربع و ثمانين و مأتين عزم المعتضد بالله علي لعن معاوية بن أبي سفيان علي المنابر و أمر بانشاء كتاب بذلك يقرأ علي الناس فخوفه عبيدالله بن سليمان بن وهب اضطراب العامة و أنه لا يأمن أن تكون فتنة، فلم يلتفت الي ذلك من قوله. و بعد ذكر التفاصيل... ذكر الطبري نص الكتاب، و نحن نلخصه هنا، ذاكرين اهم النقاط التي جاءت فيه. قال - بعد الحمد و الثناء علي الله سبحانه، و الصلاة علي محمد و آله الطيبين، و ما قام به رسول الله من تبليغ الرسالة و النصيحة لامته، و ما خص الله به أهل بيته... -: فجعلهم الله أهل بيت الرحمة و أهل بيت الدين، الذين أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا و معدن الحكمة و ورثة النبوة و موضع الخلافة و أوجب لهم الفضيلة و ألزم العباد لهم الطاعة. و كان ممن عانده و نابذه و كذبه و حاربه من عشيرته: العدد الأكثر و السواد الأعظم، يتلقونه بالتكذيب و التثريب، و يقصدونه بالأذية

ص: 447

و التخويف و يبارزونه بالعداوة و ينصبون له المحاربة، و يصدون عنه من قصده و ينالون بالتعذيب من أتبعه. و أشدهم في ذلك عداوة و أعظمهم له مخالفة و أولهم في كل حرب و مناصبة - لا يرفع علي الاسلام راية الا كان صاحبها و قائدها و رئيسها في كل مواطن الحرب من بدر و احد و الخندق و الفتح -: أبوسفيان بن حرب و أشياعه من بني أمية الملعونين في كتاب الله ثم الملعونين علي لسان رسول الله في عدة مواطن و عدة مواضع، لماضي علم الله فيهم و في أمرهم و نفاقهم و كفر أحلامهم، فحارب مجاهدا و دافع مكابدا و أقام منابذا حتي قهره السيف، و علا أمر الله و هم كارهون، فتقول بالاسلام غير منطو عليه، و أسر الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و المسلمون و ميز له المؤلفة قلوبهم، فقبله و ولده علي علم منه. فمما لعنهم الله به علي لسان نبيه (صلي الله عليه و سلم) و أنزل به كتابا قوله: «و الشجرة الملعونة في القرآن و نخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا» (1) و لا اختلاف بين أحد أنه أراد بها بني امية. و منه: قول الرسول (عليه السلام) و قد رآه مقبلا علي حمار و معاوية يقود به و يزيد ابنه يسوق به: لعن الله القائد و الراكب و السائق. و منه: ما يرويه الرواة من قوله - أبي سفيان -: يا بني عبدمناف تلقفوها تلقف الكرة فما هناك جنة و لا نار. و هذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت الذين كفروا من بني اسرائيل علي لسان داود و عيسي بن مريم ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون.

ص: 448


1- 767. سورة المائدة الآيات 30 - 27.

و منه ما يروون من وقوفه علي ثنية احد بعد ذهاب بصره و قوله لقائده: هاهنا ذببنا محمدا و أصحابه. و منه: الرؤيا التي رآها النبي (صلي الله عليه و سلم) فوجم لها فما رؤي ضاحكا بعدها، فأنزل الله: «و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس» (1) فذكروا أنه رأي نفرا من بني أمية ينزون علي منبره. و منه: طرد رسول الله (صلي الله عليه و سلم) الحكم بن أبي العاص لحكايته اياه، و ألحقه الله بدعوة رسوله آية باقية حين رآه يتخلج، فقال له: كن كما أنت، فبقي علي ذلك سائر عمره. الي ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنة كانت في الاسلام و احتقابه لكل دم حرام سفك فيها أو أريق بعدها. و منه: ما أنزل الله علي نبيه في سورة القدر: «ليلة القدر خير من ألف شهر» (2) من ملك بني امية. و منه: أن رسول الله (صلي الله عليه و سلم) دعا بمعاوية ليكتب بأمره بين يديه فدافع بأمره و اعتل بطعامه، فقال النبي: لا أشبع الله بطنه، فبقي لا يشبع و يقول: والله ما اترك الطعام شبعا و لكن اعياءا. و منه: أن رسول الله (صلي الله عليه و سلم) قال: «يطلع من هذا الفج رجل من امتي يحشر علي غير ملتي» فطلع معاوية. و منه: أن رسول الله (صلي الله عليه و سلم) قال: «اذا رأيتم معاوية علي منبري فاقتلوه». و منه: الحديث المرفوع المشهور أنه قال: «ان معاوية في تابوت من نار

ص: 449


1- 768. سورة الاسراء آية 60.
2- 769. سورة الاسراء آية 60.

في أسفل درك منها ينادي: يا حنان يا منان الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين». و منه: انبراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الاسلام مكانا و أقدمهم اليه سبقا و أحسنهم فيه أثرا و ذكرا: علي بن أبي طالب، ينازعه حقه بباطله، و يجاهد أنصاره بضلاله و غواته، و يحاول ما لم يزل هو و أبوه يحاولانه من اطفاء نور الله و جحود دينه، و يأبي الله الا أن يتم نوره و لو كره المشركون، يستهوي أهل الغباوة، و يموه علي أهل الجهالة بمكره و بغيه، الذين قدم رسول الله (صلي الله عليه و سلم) الخبر عنهما فقال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية تدعوهم الي الجنة و يدعونك الي النار» مؤثرا للعاجلة، كافرا بالآجلة، خارجا من ربقة الاسلام، مستحلا للدم الحرام، حتي سفك في فتنته و علي سبيل ضلالته ما لا يحصي عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله و الناصرين لحقه، مجاهدا لله مجتهدا في أن يعصي الله فلا يطاع، و تبطل أحكامه فلا تقام، و يخالف دينه فلا يدان، و أن تعلو كلمة الضلالة و ترتفع دعوة الباطل، - و كلمة الله هي العليا و دينه المنصور و حكمه المتبع النافذ، و أمره الغالب، و كيد من حاده المغلوب الداحض - حتي احتمل أوزار تلك الحروب و ما اتبعها، و تطوق تلك الدماء و ما سفك بعدها، و سن سنن الفساد التي عليه اثمها و اثم من عمل بها الي يوم القيامة، و أباح المحارم لمن أرتكبها، و منع الحقوق أهلها و اغتره الاملاء و استدرجه الامهال، والله له بالمرصاد. ثم مما أوجب الله له به اللعنة قتله من قتل صبرا من خيار الصحابة و التابعين و أهل الفضل و الديانة، مثل عمرو بن الحمق و حجر بن عدي فمن قتل أمثالهم في أن يكون له العزة و الملك و الغلبة و لله العزة و الملك و القدرة

ص: 450

والله (عزوجل) يقول: «و من يقتل مؤمنا معتمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما» (1) . و مما استحق به اللعنة من الله و رسوله: ادعاؤه زياد بن سمية، جرأة علي الله، والله يقول: «ادعوهم لآبائهم هو أقساط عند الله» (2) و رسول الله (صلي الله عليه و سلم) يقول: «ملعون من ادعي الي غير أبيه و انتمي الي غير مواليه» و يقول: «الولد للفراش و للعاهر الحجر» جهارا و جعل الولد لغير الفراش و العاهر لا يضره عهره، فأدخل بهذه الدعوة من محارم الله و محارم رسوله في ام حبيبة زوجة النبي (صلي الله عليه و سلم) و في غيرها من سفور وجوه ما قد حرمه الله، و أثبت بها قربي قد باعدها الله، و أباح بها ما قد حظره الله، مما لم يدخل علي الاسلام خلل مثله و لم ينل الدين تبديل شبهه. و منه: ايثاره بدين الله و دعاؤه عباد الله الي ابنه يزيد المتكبر الخمير صاحب الديوك و الفهود و القرود، و أخذه البيعة له علي خيار المسلمين بالقهر و السطوة و التوعيد و الاخافة و التهدد و الرهبة، و هو يعلم سفهه و يطلع علي خبثه و رهقه، و يعاين سكرانه (3) و فجوره و كفره، فلما تمكن منه ما مكنه منه و وطأه له، و عصي الله و رسوله فيه طلب بثأرات المشركين و طوائلهم عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الاسلام أشنع منها و لا أفحش مما ارتكب من الصالحين فيها، و شفي بذلك

ص: 451


1- 770. سورة القدر آية 3.
2- 771. سورة النساء آية 93.
3- 772. سورة الاحزاب آية 5.

عبد نفسه و غليله، و ظن أن قد انتقم من أولياء الله و بلغ النوي لاعداء الله، فقال مجاهرا بكفره و مظهرا لشركه: ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل قد قتلنا القوم من ساداتهم و عدلنا ميل بدر فاعتدل لأهلوا و استهلوا فرحا و لقالوا يا يزيد لا تشل لست من خندف ان لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل هذا هو المروق من الدين، و قول من لا يرجع الي الله و لا الي دينه و لا الي كتابه و لا الي رسوله و لا يؤمن بالله و لا بما جاء من عند الله. ثم من أغلظ ما انتهك و عظم ما اخترم: سفكه دم الحسين بن علي و ابن فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه و سلم) مع موقعه من رسول الله (صلي الله عليه و سلم) و مكانه منه و منزلته من الدين و الفضل، و شهادة رسول الله (صلي الله عليه و سلم) له و لأخيه بسيادة شباب أهل الجنة، اجتراء علي الله و كفرا بدينه و عداوة لرسوله و مجاهدة لعترته و استهانة بحرمته، فكأنما يقتل به و بأهل بيته قوما من كفار أهل الترك و الديلم، لا يخاف من الله نقمة و لا يرقب منه سطوة، فبتر اله عمره و اجتث أصله و فرعه، و سلبه ما تحت يده و أعد له من عذابه و عقوبته ما استحقه من الله بمعصيته. هذا الي ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله و تعطيل أحكامه و اتخاذ مال الله دولا بينهم و هدم بيته و استحلال حرامه و نصبهم المجانيق عليه و رميهم اياه بالنيران، لا يألون له احراقا و اخرابا، و لما حرم الله منه

ص: 452

استباحة و انتهاكا و لمن لجأ اليه قتلا و تنكيلا و لمن أمنه الله به اخافة و تشريدا... فانتهوا - معاشر الناس - عما يسخط الله عليكم، و راجعوا ما يرضيه عنكم، و ارضوا من الله بما اختار لكم و الزموا ما أمركم به، و جانبوا ما نهاكم عنه، و اتبعوا الصراط المستقيم و الحجة البينة و السبل الواضحة و أهل بيت الرحمة...، و العنوا من لعنه الله و رسوله، و فارقوا من لا تنالون القربة من الله الا بمفارقته...) الي آخر كتابه (1) . نعم... - أيها القارئ الكريم - هذا أبوسفيان، و هذا معاوية ابنه، و تلك هند زوجته، هؤلاء هم اصول الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن و ذاك يزيد بن معاوية من ثمار تلك الشجرة و فروعها. أليس في القرآن أمثلة حول عناصر البشر؟! «ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء - تؤتي اكلها كل حين باذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون - و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار» (2) . «و اذ قلنا لك ان ربك أحاط بالناس و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن و نخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا» (3) .

ص: 453


1- 773. هكذا في المصدر و لعل الأصح: سكره، و في بحارالأنوار: سكراته.
2- 774. تاريخ الطبري: ج 10 ص 54. و نحوه في بحارالأنوار: ج 33 ص 213 - 203.
3- 775. سورة ابراهيم الآيات 26 - 24.

و ذاك الحكم بن العاص - المستهزي ء برسول الله (صلي الله عليه و آله) الذي لعنه الرسول و لعن من يخرج من صلبه - و ذاك ابنه مروان، و ابناؤه الذين حكموا علي العباد و البلاد. و المصيبة العظمي أنهم محسوبون علي الاسلام و المسلمين!! والله انهم وصمة عار علي جبين تاريخ الاسلام، لأن السلام شي ء، و هم كانوا أشياء اخري. و تجد أن ستة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا معاصرين لهذه العناصر القذرة و الجراثيم الخبيثة، و الامام الصادق (عليه السلام) عاصرهم في النصف الأول من حياته، و عاصر طائفة اخري في النصف الأخير من حياته، و هم العباسيون الذين كانوا أضر و اسوأ من بني امية. و قد بذلوا جهودا كثيرة و عظيمة، و محاولات طويلة و عريضة لتقويض الحكم الأموي و التخلص من شروره، و انقاذ المجتمع الاسلامي من ذلك النظام الفاسد، فكان عدد الذين قتلهم ابومسلم خراساني فقط 800 ألف انسان.

ص: 454

الامام الصادق و التقية

اشاره

قبل كل شي ء... نذكر كلمة موجزة عن التقية... ثم ندخل في صلب الموضوع:

ما هي التقية؟

الجواب: التقية، و التقاة، و التقوي: مصادر، يقال: اتقاه تقاة و تقية: أي حذره و خافه. و التقية: كتمان العقيدة، أو اخفاء الأعمال و الأفعال، أو تركها، اتقاء من شر الأشرار و اجتنابا من المشاكل المتوقعة عند عدم التقية، قال تعالي: «و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله...» (1) . و هذا شي ء يوافق عليه العقل، بل و ينسجم مع الفطرة البشرية. ما هي موارد التقية؟ من الواضح: أن موارد التقية تختلف اختلافا كثيرا، فاذا كان المسلم

ص: 455


1- 776. سورة الاسراء آية 60.

في بلد غير اسلامي و خاف علي نفسه من اداء الشعائر الاسلامية، كالصلاة - مثلا - فانه ينبغي أن يصلي في مكان لا يراه من يخاف و يحذر منه! و اذا كان في بلد اسلامي يختلف أهله معه في الفروع الفقهية فهنا أيضا من موارد التقية، كالتكتف في الصلاة أو الاسبال أو المسح علي الرجلين أو غسلهما في الوضوء و أمثال ذلك. و قد تكون التقية من السلطان. و قد يتقي الانسان من أبناء مذهبه، فيكتم رأيه عمن يخشي منه، بل و قد يتقي الانسان من أهله و أولاده و أقربائه، فيخفي عنهم أشياء لو اطلعوا عليها لكانت هناك مشاكل لا تحمد عقباها.

التقية... عقلا و شرعا

و نحن نري أن العقل السليم يفرض علي الانسان أن يراعي التقية في مواردها اللازمة، و اذا أهمل التقية، فحدثت أضرار في الأموال و الأنفس، فان العقلاء يلومونه علي ترك التقية. و أما شرعا: فقد أباح الله تعالي لعباده التقية عند الاحساس بالخطر، أو احتمال وقوع الضرر، فقال (عزوجل): «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين و من يفعل ذلك فليس من الله في شي ء الا أن تتقوا منهم تقاة» (1) و أنت تري الصراحة المكشوفة في الآية بجواز تقية المسلمين من الكفار. و قوله تعالي: «من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره و قلبه مطمئن بالايمان» (2) .

ص: 456


1- 777. سورة غافر آية 28.
2- 778. سورة آل عمران آية 28.

فقد ذكر المفسرون أن قوله تعالي: «الا من اكره و قلبه مطمئن بالايمان» نزل في جماعة، و هم عمار و ياسر أبوه، و امه سمية، و آخرون، و قتل أبوعمار و امه، و أعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقال قوم: كفر عمار. فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): كلا، ان عمارا ملي ء ايمانا من قرنه الي قدمه، و اختلط الايمان بلحمه و دمه. و جاء عمار الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و هو يبكي فقال (صلي الله عليه و آله): ما وراءك؟ فقال: شر، يا رسول الله، ما تركت حتي نلت منك (1) و ذكرت آلهتهم [أصنامهم] بخير!! فجعل رسول الله (صلي الله عليه و آله) يمسح عيني عمار و يقول: «ان عادوا لك فعد لهم بما قلت» فنزلت الآية (2) . قوله تعالي: «الا أن تتقوا منهم تقاة» قال الطبرسي» و المعني الا أن يكون الكفار غالبين، و المؤمنون مغلوبين، فيخافهم المؤمن ان لم يظهر موافقتهم، و لم يحسن العشرة معهم، فعند ذلك يجوز له اظهار مودتهم بلسانه و مداراتهم، تقية منه، و دفعا عن نفسه، من غير أن يعتقد ذلك. و في هذه الآية دلالة علي أن التقية جائزة في الدين عند الخوف علي النفس. و قال أصحابنا: انها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة، و ربما و جبت فيها لضرب من اللطف و الاستصلاح، و ليس تجوز من الأفعال في

ص: 457


1- 779. سورة النحل آية 106.
2- 780. أي ما تركوني حتي ذكرتك بما لا ينبغي.

قتل المؤمن، و لا بما يعلم أو يغلب علي الظن أنه استفساد في الدين. قال الشيخ المفيد: انها قد تجب أحيانا، و تكون فرضا، و تجوز أحيانا من غير وجوب، و تكون في وقت أفضل من تركها، و قد يكون تركها أفضل، و ان كان فاعلها معذورا، معفوا عنه، متفضلا عليه بترك اللوم. و قال الشيخ أبوجعفر الطوسي: ظاهر الروايات يدل علي أنها واجبة عند الخوف علي النفس، و قد روي رخصة في جواز الافصاح بالحق عنده. و روي الحسن: ان مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. ثم دعا بالآخر فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: اني أصم. قالها ثلاثا، كل ذلك يجيبه بمثل الأول، فضرب عنقه. فبلغ ذلك رسول الله فقال: أما ذلك المقتول فمضي علي صدقه و يقينه، و أخذ بفضله، فهنيئا له، و أما الآخر: فقبل رخصة الله، فلا تبعة عليه (1) . أقول: فاذا كانت التقية جائزة أو واجبة علي المسلمين حينما كانوا مغلوبين، و كان الكفار غالبين، كذلك الحكم يجري علي كل أقلية تعيش بين أكثرية ساحقة، تختلف معها في العقيدة.

الشيعة و التقية

و كما يشهد التاريخ فان الشيعة كانوا أقلية من حيث العدد، و ضعفاء

ص: 458


1- 781. تفسير مجمع البيان.

من حيث القدرة و السلطة، كما هم عليه الآن في كثير من البلاد الاسلامية، فما المانع أن يكتموا عقائدهم، و لا يتجاهروا حتي في المسائل الفقهية... تحفظا علي حياتهم، أو دفعا للضرر المحتمل؟؟! و من الواضح ان التقية تختلف درجاتها حسب الأزمنة و الأمكنة و السلطات الحاكمة، فقد كانت التقية تفرض علي بعض الشيعة أن يتجاهلوا مذهبهم، أو يظهروا عدم ارتباطهم بالأئمة الطاهرين (عليهم السلام) نهائيا. و هكذا فرضت التقية علي بعض العلويين ان يخفي نسبه، و أن يغير اسمه و كنيته.

ائمة أهل البيت و التقية

و هكذا فرضت التقية علي بعض الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) - في بعض الظروف - أن يعلنوا براءتهم أو غضبهم أو لعنتهم علي بعض المشاهير و الشخصيات المرموقة من الشيعة دفعا للخطر المتوقع عن اولئك. و مما يبيح لهم هذا العمل هو ما ذكره القرآن الكريم في قصة الخضر و موسي بن عمران (عليه السلام) قال (عزوجل): «فانطلقا حتي اذا ركبا في السفينة خرقها» الي أن يقول: «أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا» و أخيرا يقول الخضر: «و ما فعلته عن أمري» (1) . فان العقل و الشرع يسمحان للأنبياء و الأوصياء بايجاد عيب في أموال الناس، تحفظا عليها من المصادرة و غضب المال كله.

ص: 459


1- 782. مجمع البيان: ج 1 ص 430.

انطلاقا من هذه الآية و من هذه القاعدة، كان ائمة اهل البيت (عليهم السلام) يخبرون بعض أصحابهم بأنا نعيبكم (أي نذمكم) لهدف التحفظ علي دمائكم، أي حتي يبلغ الخبر الي تلك السلطات الغاشمة بأن الامام قد ذم الرجل الفلاني، و هذا يدل علي أنه ليس من الشيعة، و ليس محسوبا علي الامام، و بهذا الأسلوب يدفع الخطر عن ذلك الرجل الشيعي. و هكذا تجري التقية في بيان الأحكام، فان السلطات - من الحكام و القضاة و الفقهاء - كانت تختلف مع الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) في كثير من المسائل الفقهية. و لم يكن من السهل تحدي أقوالهم و فتاواهم، فكان الأئمة الطاهرون ربما أجابوا السائل عن مسائل فقهية بما يوافق آراء اولئك الفقهاء، لا بما يوافق مذهب أهل البيت... و جميع هذه المحاولات التي قام بها الأئمة الطاهرون أو شيعتهم انما كانت لأجل المحافظة علي خط التشيع لأن بقاء الشيعة يعني بقاء الخط الشيعي.

الامام الصادق و التقية

أيها القارئ الكريم: بعد ما ذكرناه عن التقية... يأتي دور التحدث عن الامام الصادق (عليه السلام) و التقية التي كان يمارسها... بسبب الظروف الصعبة التي كان يعيشها هو و شيعته في حكومة الطغاة الظالمين... في هذا المجال... تجد مجموعة من الأحاديث الشريفة التي تعطي صورة صغيرة عن تلك الأجواء الخانقة التي كانت تخيم علي حياة الامام و شيعته... و كيف حافظ الامام علي حياته و حياة أصحابه الأبرار و دفع

ص: 460

عنهم شر الفسقة الفجار... و اليك بعض تلك الأحاديث: 1- عن داود بن الحصين، علي رجل من أصحابنا، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال - و هو بالحيرة في زمان أبي العباس [السفاح] -: اني دخلت عليه و قد شك الناس في الصوم و هو - والله - من شهر رمضان فسلمت عليه، فقال: يا أباعبدالله أصمت اليوم؟ فقلت: لا. و المائدة بين يديه قال: فاذن فكل. قال: فدنوت فأكلت. قال: و قلت: الصوم معك و الفطر معك. فقال الرجل لأبي عبدالله (عليه السلام): تفطر يوما من شهر رمضان؟!! فقال: اي والله، ان افطر يوما من شهر رمضان أحب الي من أن يضرب عنقي (1) . 2- و عن داود الرقي قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك كم عدة الطهارة؟ (2) فقال: ما أوجبه الله فواحدة، و أضاف اليها رسول الله (صلي الله عليه و آله) واحدة لضعف الناس، و من توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له (3) . [قال الراوي]: أنا معه في ذا حتي جاء داود بن زربي و أخذ زاوية من البيت فسأله عما سألته في عدة الطهارة فقال له: ثلاثا. ثلاثا، من نقص

ص: 461


1- 783. سورة الكهف الآيات 82 - 71.
2- 784. الكافي: ج 4 ص 83 ح 9.
3- 785. المقصود من الطهارة - هنا - غسل اعضاء الوضوء.

عنه فلا صلاة له. قال: فارتعدت فرائصي، و كاد أن يدخلني الشيطان، فأبصر أبوعبدالله (عليه السلام) الي و قد تغير لوني فقال: اسكن يا داود، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق. قال: فخرجنا من عنده، و كان بيت ابن زربي الي جوار بستان أبي جعفر المنصور، و كان قد القي الي أبي جعفر أمر داود بن زربي، و أنه رافضي يختلف الي جعفر بن محمد، فقال أبوجعفر [الدوانيقي]: اني مطلع علي طهارته، فان هو توضأ وضوء جعفر بن محمد - فاني لأعرف طهارته - حققت عليه القول و قتلته. فاطلع، و داود يتهيأ للصلاة من حيث لا يراه، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا - كما أمره أبوعبدالله (عليه السلام) - فما تم وضوؤه حتي بعث اليه أبوجعفر المنصور فدعاه. قال: فقال داود: فلما أن دخلت عليه رحب بي و قال: يا داود قيل فيك شي ء باطل، و ما أنت كذلك، قال: قد اطلعت علي طهارتك و ليست طهارتك طهارة الرافضة، فاجعلني في حل. فأمر له بمائة ألف درهم. قال: فقال داود الرقي: ألتقيت أنا و داود بن زربي عند أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له داود بن زربي: جعلني الله فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا و نرجوا أن ندخل بيمنك و بركتك الجنة. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): فعل الله ذلك بك و باخوانك من جميع المؤمنين. فقال أبوعبدالله (عليه السلام) لداود بن زربي: حدث داود الرقي بما مر عليكم، حتي تسكن روعته.

ص: 462

قال: فحدثه بالأمر كله. قال: فقال أبوعبدالله (عليه السلام): لهذا أفتيته، لأنه كان أشرف علي القتل من يد هذا العدو. ثم قال: يا داود بن زربي توضأ مثني مثني و لا تزدن عليه فانك ان زدت عليه فلا صلاة لك (1) . 3- و دخل عليه سفيان الثوري فقال (عليه السلام): انت رجل مطلوب، و للسلطان علينا عيون، فاخرج عنا غير مطرود (2) . 4- و روي عن حماد بن واقد اللحام قال: استقبلت أباعبدالله (عليه السلام) في طريقي فأعرضت عنه بوجهي و مضيت، فدخلت عليه بعد ذلك فقلت: جعلت فداك اني لألقاك فاصرف وجههي كراهة أن اشق عليك. فقال لي: رحمك الله، و لكن رجلا لقيني امس - في موضع كذا و كذا - فقال: عليك السلام يا أباعبدالله. ما احسن و لا اجمل (3) . 5- و روي عن الامام الصادق (عليه السلام): أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: ما وجدتم في كتاب الله (عزوجل) فالعمل لكم به (4) و لا عذر لكم في تركه، و ما لم يكن في كتاب الله (عزوجل) و كان في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، و ما لم يكن فيه سنة مني فمال قال أصحابي

ص: 463


1- 786. أي يغسل أعضاء الوضوء ثلاث مرات.
2- 787. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 600 ح 564. منه بحارالأنوار:ج 47 ص 152.
3- 788. بحارالأنوار: ج 47 ص 29.
4- 789. الكافي: ج 2 ص 218 ح 9. و قوله (عليه السلام): «ما احسن و لا اجمل» أي: لم يفعل حسنا و لا جميلا حيث ترك التقية و سلم علي أمام المخالفين و المناوئين.

فقولوا به، فانما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيها اخذ اهتدي، و بأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، و اختلاف أصحابي لكم رحمة. قيل يا رسول الله: من أصحابك؟ قال: أهل بيتي. قال محمد بن الحسين بن بابويه القمي (رضوان الله عليه): ان أهل البيت لا يختلفون و لكن يفتون الشيعة بمر الحق، و ربما أفتوهم بالتقية فما يختلف من قولهم فهو للتقية، و التقية رحمة للشيعة. و يؤيد تأويله (رضي الله عنه) أخبار كثيرة منها: 6 - ما رواه محمد بن سنان، عن نصر الخثعمي قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: من عرف من أمرنا أن لا نقول الا حقا فليكتف بما يعلم منا، فان سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك منا دفاع و اختيار له (1) . 7- و عن الحسين بن خالد الكوفي، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قلت: جلعت فداك حديث كان يرويه عبدالله بن بكير عن عبيد بن زرارة. قال: فقال (عليه السلام) لي: و ما هو؟ قلت: روي عن عبيد بن زرارة، انه لقي أباعبدالله (عليه السلام) - في السنة التي خرج فيها ابراهيم بن عبدالله بن الحسن - فقال له: جعلت فداك ان هذا قد ألف الكلام و سارع الناس اليه، فما الذي تأمر به؟ قال: فقال: اتقوا الله و اسكنوا ما سكنت السماء و الأرض. قال: و كان عبدالله بن بكير يقول: والله لئن كان عبيد بن زرارة

ص: 464


1- 790. في بحارالأنوار: فالعمل به لازم.

صادقا فما من خروج و ما من قائم. قال: فقال لي أبوالحسن [الرضا] (عليه السلام): ان الحديث علي ما رواه عبيد، و ليس علي ما تأوله عبدالله بن بكير. انما عني أبوعبدالله (عليه السلام) بقوله: «ما سكنت السماء» من النداء باسم صاحبكم [الامام المهدي] و ما سكنت الأرض من الخسف بالجيش (1) . 8- و عن محمد بن بشير و حريز، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: انه ليس شي ء أشد علي من اختلاف أصحابنا. قال: ذلك من قبلي (2) . قال العلامة المجلسي (طاب ثراه): بيان: أي بما اخبرتهم به من جهة التقية و امرتهم به للمصلحة. 9- و عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ما سمعت مني يشبه قول الناس فيه التقية، و ما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه (3) . أقول: يقصد (عليه السلام) ب «الناس»: المخالفين المنحرفين عن الحق. 10- و عن اسحاق بن عمار الصيرفي، قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام)، و كنت تركت التسليم علي أصحابنا في مسجد الكوفة، و ذلك لتقية علينا فيها شديدة، فقال لي أبوعبدالله: يا اسحاق! متي أحدثت هذا الجفاء لاخوانك؟ تمر بهم فلا تسلم عليهم؟

ص: 465


1- 791. الاحتجاج: ص 355. منه بحارالأنوار: ج 2 ص 220.
2- 792. عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 310 ح 75. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 273.
3- 793. علل الشرايع: ص 395 ح 14. منه بحارالأنوار: ج 2 ص 236.

فقلت له: ذلك لتقية كنت فيها. فقال: ليس عليك في التقية ترك السلام، و انما عليك في التقية الاذاعة. ان المؤمن ليمر بالمؤمنين فيسلم عليهم، فترد الملائكة: «سلام عليك و رحمة الله و بركاته أبدا» (1) . 11- و عن عبدالله بن زرارة قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام): «اقرأ مني علي والدك السلام و قل له: اني انما أعيبك دفاعا مني عنك، فان الناس و العدو يسارعون الي كل من قربناه و حمدنا مكانه لادخال الأذي في من نحبه و نقربه، و يرمونه لمحبتنا له و قربه و دنوه منا، و يرون ادخال الأذي عليه و قتله، و يحمدون كل من عبناه نحن، فانما أعيبك لأنك رجل اشتهرت بنا و لميلك الينا، و أنت في ذلك مذموم عند الناس، غير محمود الأثر لمودتك لنا و لميلك الينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك و نقصك، و يكون بذلك منا دافع شرهم عنك، يقول الله (جل وعز): «أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا» (2) هذا التنزيل من عند الله صالحة، لا والله ما عابها الا لكي تسلم من الملك و لا تعطب علي يديه، و لقد كانت صالحة ليس للعيب منها مساغ، و الحمد لله. فافهم المثل - يرحمك الله - فانك والله أحب الناس الي و أحب أصحاب أبي (عليه السلام) حيا و ميتا، فانك أفضل سفن ذلك البحر

ص: 466


1- 794. التهذيب: ج 8 ص 98 ح 330.
2- 795. كشف الغمة: ج 2 ص 197.

القمقام الزاخر. ان من ورائك ملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدي ليأخذها غصبا ثم يغصبها و أهلها. فرحمة الله عليك حيا و رحمته و رضوانه عليك ميتا...» الي آخر الرسالة (1) .

ص: 467


1- 796. سورة الكهف آية 79.

لقب أميرالمؤمنين

اشارة

لقد كان (أميرالمؤمنين) لقبا خاصا للامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لقبه به رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لا يشاركه فيه أحد من أئمة أهل البيت فضلا عن غيرهم. و لكن لما انقلبت الامور يوم السقيفة، و سلبوا عن الامام علي (عليه السلام) كل امكانياته، و أزاحوه عن مسند الحكم و القيادة الاسلامية، سلبوه اختصاص هذ اللقب أيضا، و لقبوا به أنفسهم! و بعد أن كان هذا اللقب خاصا بالامام علي (عليه السلام) صار عاما يطلق علي كل من استولي علي منصة الحكم و القيادة، حتي صار يطلق علي ابن آكلةالأكباد و علي نغله يزيد، و علي من جاء بعده من أرجاس بني امية منابع الفساد، و جراثيم الرذائل. و لما انقرضت الحكومة الاموية الملوثة القذرة، و انتقلت الي بني العباس - الذين كانوا أرجس و أنجس و أخبث من بني امية - تلقبوا أيضا بهذا اللقب المقدس. و معني ذلك ان هذا اللقب صار رمزا للخلافة، و صار علما كل

ص: 468

خليفة كائنا من كان، و بهذا العمل زالت قدسية هذا اللقلب، و تبخرت شرافته و كرامته. و لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) كلمات حول هذا اللقب، تكشف لنا عن حقائق مهمة، و نطلع - من خلالها - علي أسرار و نكات دقيقة. و قد وردت أحاديث كثيرة - مذكورة في الجزء السابع و الثلاثين من بحارالأنوار صفحة 340 - 290 - حول اختصاص هذا اللقب بالامام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) و نقتطف من تلك الأحاديث حديثين بمناسبة المقام: 1- دخل رجل علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين!! فقام [الامام] علي قدميه فقال: مه، هذا اسم لا يصلح الا لأميرالمؤمنين (يعني عليا (عليه السلام)) سماه الله به. و لم يسم به أحد غيره فرضي به الا كان منكوحا، و ان لم يكن به ابتلي به، و هو قول الله في كتابه: «ان يدعون من دونه الا اناثا و ان يدعون الا شيطانا مريدا» (1) . قال: قلت: فماذا يدعي به قائمكم؟ (2) . فقال: يقال له: السلام عليك يا بقية الله، السلام عليك يابن رسول الله (3) .

ص: 469


1- 797. اختيار معرفة الرجال: ج 1 ص 349 ح 221.
2- 798. سورة النساء آية 117. اقول: لعل وجه الاستشهاد بقوله تعالي: «ان يدعون من دونه الا اناثا» هو وجود الشبه بين الرجل المنكوح و المرأة المنكوحة.
3- 799. يقصد ب «القائم»: الامام المهدي المنتظر (عجل الله تعالي ظهوره).

2- و جاء في كتاب مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج 3 ص 55 قوله: «و لم يجوز أصحابنا أن يطلق هذا اللفظ لغيره (أي لغير الامام علي) من الأئمة (عليهم السلام)». و قال رجل - للصادق (عليه السلام) -: يا أميرالمؤمنين. قال: مه، فانه لا يرضي بهذه التسمية أحد الا ابتلي ببلاء أبي جهل (1) . أيها القارئ الكريم: بعد استعراض هذين الحديثين نذكر ما يلي: 1- اننا نجد في أحاديث كثيرة أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يخاطبون طواغيت زمانهم - من مدعي الخلافة - بكلمة: (يا أميرالمؤمنين) و هذا ان دل علي شي ء فانما يدل علي التقية التي كان ينتهجها الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) حقنا لدمائهم و دماء شيعتهم، و لئلا تكون الحجة لأعدائهم عليهم. 2- و في نفس الوقت يظهر لنا - بكل وضوح - أن اولئك الحكام كانوا يرضون بهذا اللقلب لأنفسهم، و قد عرفت أن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «و لم يسم به (أي بهذا اللقب) أحد غيره (أي غير الامام علي) فرضي الا كان منكوحا، و ان لم يكن به ابتلي به». فتكون النتيجة: أن الأئمة (عليهم السلام) - حينما كانوا يخاطبون اولئك الحكام بكلمة: «يا أميرالمؤمنين» - كان من أهدافهم أن يعرفوا اولئك

ص: 470


1- 800. تفسير العياشي: ج 1 ص 276 ح 274. منه بحارالأنوار: ج 37 ص 332.

المدعين للخلافة، و يبينوا ماهيتهم، و يكشفوا الغطاء عن هويتهم، و يظهروا سرائرهم، لأن اولئك المدعين للخلافة كانوا يرضون بهذا اللقب و الخطاب، بل لا يرضون بغيره. فهذا مولانا زين العابدين علي بن الحسين (عليهماالسلام) لما ادخل علي يزيد بن معاوية قال الامام: يا يزيد أتأذن لي بالكلام؟ فقال يزيد: قل، و لا تقل هجرا! (1) . ان يزيد كان يرفض أن يخاطبه أحد باسمه، و لهذا قال - للامام - قل و لا تقل هجرا، أي: لماذا لا تخاطبني ب (يا أميرالمؤمنين)!! و ذكر الطبري في أحوال المعتصم العباسي: «ثم ان المعتصم ركب يوم عيد فقام اليه شيخ فقال له: يا أبااسحاق. فاراد الجند ضربه» (2) لأنه لم يخاطب المعتصم بكلمة: (يا أميرالمؤمنين). أيها القاري ء الكريم: انما ذكرنا هذا البحث مقدمة لبعض الأحاديث التي تتضمن مخاطبة الامام الصادق (عليه السلام) - للسفاح و المنصور أو غيرهما - بكلمة: «يا أميرالمؤمنين» حتي يعرف أن هذا الخطاب من الامام للسفاح و المنصور ليس اعترافا بشرعية خلافتهما، و انما هو بيان للاضطهاد الذي كان الامام يعانيه من اولئك الحكام، حتي اضطر الي أن يخاطبهم بهذا اللقب المغصوب. و من ناحية اخري: يعرفهم للتاريخ و للأجيال القادمة بأن اولئك الحكام كانوا يرضون بهذا اللقب، فليعرف الناس السوابق السيئة المسجلة في ملفات اولئك الفجرة، و أن بيوت الأمويين و العباسيين كانت بؤرا للفساد و أن جميع المنكرات كانت مباحة بين الذكور و الاناث!!

ص: 471


1- 801. لقد ألف السيد ابن طاووس كتابا سماه: اليقين في امرة أميرالمؤمنين، و قد ذكر فيه أكثر من مائتي حديث - من كتب الشيعة و السنة - حول اختصاص هذا اللقب بالامام علي بن أبي طالب (عليهماالسلام) و منها: عن فضيل عن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: يا فضيل... لم يسم به - والله - بعد علي أميرالمؤمنين الا مفتر كذاب، الي يوم الناس. (اليقين ص 92).
2- 802. بحارالانوار: ج 45.

موقف الامام الصادق تجاه الحكومة الأموية

اشاره

كان الامام الصادق (عليه السلام) يكره الحكومة الاموية كراهية شديدة... و ذلك: أولا: لأنتها حكومة غير شرعية... بل باطنة و جائرة و فاسدة، جاءت الي الحكم بالسيف و القوة و الارهاب... لا غير. ثانيا: لأنها تلاعبت بدين الله، و حللت حرام الله و حرمت حلال الله و هتكت حرمة أولياء الله. ثالثا: لأن لها سوابق سيئة و ماض اسود و مواقف حاقدة تجاه الاسلام - من يوم طلوعه - و تجاه نبي الاسلام (صلي الله عليه و آله و سلم). رابعا: لأن ايديها ملطخة بدماء ذرية رسول الله و عترته الطاهرة التي أذهب الله عنها الرجس و طهرها تطهيرا. فكم من الدماء الزاكية التي سفكت بسيف بني امية؟! و كم من المجازر التي وقعت بأمرهم؟!

ص: 472

و كم من المآسي و المصائب التي انصبت علي آل محمد في عهد هذه الشجرة الملعونة؟! و كم... و كم...؟! و في طليعة تلك المجازر و المصائب: فاجعة كربلاء الدامية... التي اقرحت جفون آل رسول الله و اسبلت دموعهم و اذلت عزيزهم و اورثتهم الكرب و البلاء. و اليك شيئا من التفصيل: من الواضح ان الامام الصادق (عليه السلام) ولد في عهد جده: الامام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام). ذك الامام المستضام الذي شاهد فجائع كربلاء و مصائبها، و تحمل من الآلام و الاحزان ما لا تحمله الجبال الرواسي، و انصبت عليه النوائب، و كأنها حلقات متسلسلة: لقد فجع الامام علي بن الحسين (عليه السلام) برجالات اسرته، و علي رأسهم أبوه: الامام الحسين سيد شباب أهل الجنة، و سبط رسول الله (صلي الله عليه و آله) الذي استشهد بأفجع صورة، و أفظع كيفية. ثم توالت عليه المآسي من نهب و سلب و أسر، و أنواع الاهانة، و محاولات عديدة لقتله سواء في كربلاء أم الكوفة أم الشام، و تسيير آل رسول الله (صلي الله عليه و آله) بكيفية تندي منها جبهة الانسانية حياء و خجلا. و الكل يعلم ان تلك الجنايات و الجرائم قام بها أغصان الشجرة اللعونة، من يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، و الدعي بن الدعي: عبيدالله بن زياد، الي عمر بن سعد بن أبي وقاص المطعون في نسبه، الي نظرائهم

ص: 473

و أشباهم في الخزي و العار. لقد حدثت كل تلك الحوادث المزعجة المؤلمة في كربلاء و الكوفة و الشام بمرأي و مسمع من الامام من زين العابدين (عليه السلام). و الامام الصادق حفيد الامام زين العابدين - كما ذكرنا -، و يعلم الله تعالي كم حدث الجد حفيده عما جري عليه في تلك الرحلة المؤلمة؟! و لعل الكثير من الأخبار المروية عن الامام الصادق حول فاجعة كربلاء هو من مسموعاته من جده الامام زين العابدين و أبيه الامام الباقر (عليهماالسلام). أيها القارئ الكريم: انطلاقا من هذه النقاط المذكورة... و غيرها و غيرها... كان الامام الصادق (عليه السلام) يقف من الحكومة الاموية موقف العداء و الكراهية و يحذر الشيعة من التعاون معها، و الانضواء تحت قيادتها الفاسدة. و بهذه الأحاديث يتضح لنا جانب من موقف الامام (عليه السلام) منها:

قصة الرجل التائب

عن علي بن أبي حمزة، قال: كان لي صديق من كتاب بني امية، فقال لي: استأذن لي علي أبي عبدالله (عليه السلام). فاستأذنت له عليه، فأذن له، فلما أن دخل سلم و جلس، ثم قال: «جعلت فداك! اني كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالا كثيرا، و أغمضت في مطالبه» (1) .

ص: 474


1- 803. الكامل: ج 6 ص 452.

فقال أبوعبدالله (عليه السلام): «لو لا أن بني أمية و جدوا من يكتب لهم، و يجبي لهم الفيي ء (1) و يقاتل عنهم، و يشهد جماعتهم. لما سلبونا حقنا، و لو تركهم الناس ما في أيديهم ما وجدوا شيئا الا ما وقع في أيديهم». قال: فقال الفتي: جعلت فداك! فهل لي مخرج منه؟ قال: ان قلت لك تفعل؟ قال: أفعل. قال له: فاخرج من جميع ما اكتبست في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، و من لم تعرف تصدقت به، و أنا أضمن لك علي الله (عزوجل) الجنة. قال: فأطرق الفتي رأسه طويلا، ثم قال: قد فعلت، جعلت فداك! قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتي معنا الي الكوفة، فما ترك شيئا علي وجه الأرض الا خرج منه، حتي ثيابه التي كانت علي بدنه. قال: فقسمت له قسمة (2) و اشترينا له ثيابا، و بعثنا اليه بنفقة. قال: فما أتي عليه الا أشهر قلائل حتي مرض، فكنا نعوده. قال: فدخلت عليه يوما و هو في السوق (3) قال: ففتح عينيه ثم قال لي: يا علي! و في - لي - والله صاحبك. قال: ثم مات، فتولينا أمره، فخرجت حتي دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فلما نظر الي قال: يا علي! و فينا - والله - لصاحبك.

ص: 475


1- 804. أغمضت في مطالبه: أي تساهلت في تحصيله و لم أجتنب فيه الحرام و الشبهات (مجمع البحرين).
2- 805. أي يجمع لهم الخراج.
3- 806. فقسمت: أي أخذت من كل رجل من أصدقائي له شيئا.

قال: فقلت: صدقت، جعلت فداك، هكذا - والله - قال لي عند موته (1) .

التوبة من التعاون مع الظالمين

عن أبي بصير قال: كان لي جار يتبع السلطان، فأصاب مالا، فأعد قيانا (2) و كان يجمع الجميع اليه، و يشرب المسكر، و يؤذيني، فشكوته الي نفسه غير مرة (3) فلم ينته. فلما ألححت عليه قال لي: يا هذا! أنا رجل مبتلي، و أنت رجل معافي، فلو عرضتني لصاحبك (4) رجوت أن ينفذني الله بك. فوقع ذلك في قلبي، فلما صرت الي أبي عبدالله (عليه السلام) ذكرت له حاله، فقال لي: اذا رجعت الي الكوفة سيأتيك فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: دع ما أنت عليه، و أضمن لك علي الله الجنة. فلما رجعت الي الكوفة أتاني فيمن أتي، فاحتبسته عندي حتي خلا منزلي، ثم قلت له: يا هذا! اني ذكرتك لأبي عبدالله: جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فقال لي: «اذا رجعت الي الكوفة سيأتيك، فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: دع ما أنت عليه، و أضمن لك علي الله الجنة».

ص: 476


1- 807. السوق - بفتح السين -: حالة الاحتضار و خروج الروح.
2- 808. الكافي: ج 5 ص 106 ح 4.
3- 809. القيان - جمع قينة -: الاماء المغنيات (مجمع البحرين).
4- 810. أي أكثر من مرة.

قال: فبكي، ثم قال لي: الله (1) ، لقد قال لك أبوعبدالله هذا؟ قال: فحلفت له أنه قد قال لي ما قلت، فقال لي: حسبك و مضي. فلما كان بعد أيام بعث الي فدعاني، و اذا هو خلف داره عريان، فقال لي: يا أبابصير! لا والله ما بقي في منزلي شي ء الا و قد أخرجته، و أنا كما تري! قال: فمضيت الي اخواننا فجمعت له ما كسوته به، ثم لم تأت عليه أيام يسيرة حتي بعث الي: أني عليل، فأتني. فجعلت اختلف اليه، و اعالجه حتي نزل به الموت، فكنت عنده جالسا و هو يجود بنفسه فغشي عليه غشية، ثم أفاق فقال لي: يا أبابصير! قد وفي صاحبك لنا. ثم قبض - رحمة الله عليه - فلما حججت، أتيت أباعبدالله (عليه السلام) فاستأذنت عليه، فلما دخلت قال لي - ابتداء من داخل البيت، و احدي رجلي في الصحن، و الاخري في دهليز داره - يا أبابصير! قد وفينا لصاحبك (2) . أيها القارئ الكريم: قد ذكرنا - في فصل: الامام الصادق (عليه السلام) و ضمان الجنة - أن الامام المعصوم الوجيه عند الله تعالي له أن يضمن الجنة لمن يلتزم بطاعته و تنفيذ أوامره.

ص: 477


1- 811. أي ذكرت مشكلتي عند الامام الصادق (عليه السلام).
2- 812. أي بالله عليك.

حرمة التعاون مع الظالمين

عن ابن ابي عمير، عن داود بن زربي قال: أخبرني مولي لعلي بن الحسين (عليه السلام) قال: كنت بالكوفة، فقدم أبوعبدالله (عليه السلام) الحيرة، فأتيته فقلت له: جعلت فداك! لو كلمت داود بن علي، أو بعض هؤلاء فأدخل في بعض هذه الولايات [الوظائف الحكومية]. فقال: ما كنت لأفعل. قال: فانصرفت الي منزلي، فتفكرت فقلت: ما أحسبه منعني الا مخافة أن أظلم أو أجور، والله لآتينه و لاعطينه الطلاق و العتاق و الأيمان المغلظة أن لا أظلم أحدا و لا أجور، و لأعدلن. قال: فأتيته فقلت: جعلت فداك! اني فكرت في ابائك [امتناعك] علي فظننت أنك انما منعتني و كرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم. و ان كل امرأة لي طالق، و كل مملوك لي حر، علي و علي ان ظلمت أحدا، أو جرت عليه، و ان لم أعدل. فقال: كيف قلت؟ قال: فأعدت عليه الأيمان، فرفع رأسه الي السماء فقال: تناول السماء أيسر عليك من ذلك!! (1) (2) . عن محمد بن عذافر، عن أبيه قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام): يا عذافر انك تعامل أباأيوب و الربيع، فما حالك اذا نودي بك

ص: 478


1- 813. الكافي: ج 1 ص 474 ح 5.
2- 814. أي لا يمكنك الوفاء بتلك الأيمان، و الدخول في أعمال هؤلاء - بغير ارتكاب الظلم - محال، فتناول السماء بيدك أيسر مما عزمت عليه (مرآة العقول).

في أعوان الظلمة؟ قال: فوجم أبي (1) . فقال له أبوعبدالله (عليه السلام) لما رأي ما أصابه -: أي عذافر انما خوفتك بما خوفني الله (عزوجل) به. قال محمد: فقدم أبي فلم يزل مغموما مكروبا حتي مات (2) . عن جهم بن حميد قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام): أما تغشي سلطان هؤلاء؟ قال: قلت: لا. قال: و لم؟ قلت: فرارا بديني. قال: فعزمت علي ذلك؟ قلت: نعم. فقال لي: الآن سلم لك دينك (3) .

ص: 479


1- 815. الكافي: ج 5 ص 107 ح 9.
2- 816. الوجم: الذي اشتد عليه الحزن حتي أمسك عن الكلام. (النهاية).
3- 817. الكافي: ج 5 ص 105 ح 1.

الحكام الامويون المعاصرون للامام الصادق

اشاره

لا أراني بحاجة الي نبش التاريخ، و التحدث عن نواة هذه الشجرة الملعونة في القرآن، و ماضيها المخزي. فالجرائم التي سجلتها في سجل التاريخ متراكمة كتراكم الغيوم، ظلمات بعضها فوق بعض. لا اريد أن ابدأ حديثي من هناك، فانها رحلة طويلة متعبة و مزعجة، بل اكتفي بالتحدث اليسير عن اولئك الفراعنة و الطواغيت الذين عاصروا الامام الصادق (عليه السلام) يجرعونه الغصص. لأن من المناسب - و نحن في مقام التحدث عن حياة الامام الصادق (عليه السلام) السياسية - ان نذكر أسماء الحكام الامويين و العباسيين الذين عاصرهم الامام الصادق (عليه السلام) حسب سنوات ذلك العصر. و من خلال ذكر تعرف - أيها القاري ء الكريم - كيف انتقلت السلطة الي اولئك المدعين للخلافة، و سوف يظهر لنا أنه لم يكن هناك انتخاب

ص: 480

و لا شوري و لا مؤهلات للخلافة، من العلم و التقوي و الورع أو العدالة أو التدبير في امور العباد و البلاد، بل كانت السلطة تنتقل من أحدهم الي الآخر حسب الهوي لا غير، أو بالتلاعب و التزوير ممن عنده خاتم الخليفة الذي كان يختم به الرسائل و غيرها، فكان الرجل يكتب عن لسان الخليفة (!) و ينص بالخلافة علي من يريد و يختم ذلك بخاتم الخليفة و الخليفة لا يعلم ذلك ابدا. و اليك أسماء الحكام الأمويين المعاصرين للامام الصادق (عليه السلام):

عبدالملك بن مروان

اشارة

ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية، امه عائشة بنت معاوية بن المغيرة ابن أبي العاص، فهو اموي بين أمويين. و كان جده المغيرة من أشد الناس عداء لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، فظفر به (صلي الله عليه و آله و سلم) في خروجه لغزوة (حمراء الأسد) فامر بضرب عنقه. و قال ابن كثير: المغيرة جد عبدالملك لأمه، و هو الذي جدع انف حمزة يوم احد. تولي عبدالملك الحكم بعهد من أبيه مروان سنة 65 ه. و بقي في الملك الي سنة 86 ه. و هي سنة وفاته. و كان قبل ولايته يجالس العلماء، و يحفظ الحديث و يتعبد في المسجد و كان متقشفا، و قد انكر علي يزيد بن معاوية حربه لعبدالله بن الزبير، و قال - لبعض من سار في ذلك الجيش -: ثكلتك أمك أتدري الي من تسير؟ الي أول مولود ولد في الاسلام، و من حنكه رسول الله (صلي الله عليه و آله)

ص: 481

و ابن حواريه، و ابن ذات النطاقين. أما والله ان جئته نهارا وجدته صائما، و ان جئته ليلا وجدته قائما، فلو أن أهل الأرض اطبقوا علي قتله لأكبهم الله جميعا في النار. قال ذلك الرجل - الذي خاطبه عبدالملك بهذا -: فلما صارت الخلافة الي عبدالملك وجهنا عبدالملك مع الحجاج حتي قتلناه، أي ابن الزبير. و ذلك أن عبدالملك بن مروان - عندما ولي السلطة - ارسل الحجاج ابن يوسف لحرب ابن الزبير في جيش من أهل الشام، و حوصر ابن الزبير ستة أشهر و سبع عشرة ليلة. و كان الحجاج يرمي الكعبة بالمنجنيق من جبل أبي قبيس. روي ابن عساكر: أن الحجاج لما رمي الكعبة بالمنجنيق أخذ قومه يرمون من أبي قبيس و يرتجزون: خطارة مثل الفنيق المزبد ارمي بها اعواد هذا المسجد فجاءت صاعقة فاحرقتهم، فامتنع الناس من الرمي، و خطب بهم الحجاج فقال: ألم تعلموا أن بني اسرائيل كانوا اذا قربوا قربانا فجاءت نار فأكلته، علموا أنه قد تقبل منهم، و ان لم تأكله النار علموا أن القربان لم يقبل؟!! و لم يزل يخدعهم حتي عادوا فرموا. و دام الحصار و الرمي للكعبة حتي قتل عبدالله بن الزبير في جمادي الآخرة سنة 83 و صلبه الحجاج منكوسا بعد قتله و بعث برأسه الي عبدالملك بن مروان فطيف به في البلاد. و لما أفضي الأمر اليه [عبدالملك] كان المصحف بيده فاطبقه و قال: هذا آخر العهد بك أو هذا فراق بيني و بينك. قال ابن كثير: حج عبدالملك في سنة 75 ه و خطب الناس بخطبة

ص: 482

قال فيها: انه كان من قبلي من الخلفاء يأكلون و يؤكلون، و اني والله لا أداوي أدواء هذه الامة الا بالسيف، و لست بالخليفة المستضعف - يعني عثمان - و لا الخليفة المداهن - يعني معاوية - و لا الخليفة المأبون - يعني يزيد ابن معاوية -. أيها الناس: انا نحتمل منكم ما لم يكن عقد راية، أو وثوب علي منبر، هذا عمرو بن سعيد حقه حقه، قرابته و ابنه، قال برأسه هكذا فقلنا بسيفنا هكذا. و ان الجامعة التي خلعها من عنقه عندي، و قد أعطيت الله عهدا أن لا أضعها في رأس أحد الا أخرجها الصعداء فليبلغ الشاهد الغائب. و عمرو بن سعيد هو المعروف بالاشدق، قتله عبدالملك بيده سنة 69 و قال - بعد أن فرغ من قتله -: كان أبوأمية أحب الي من زهر النواظر و لكن والله ما أجتمع فحلان في شول قط الا أخرج أحدهما صاحبه. و كان قتله لعمرو بن سعيد غدرا لأنه آمنه و حلف له و جعله ولي عهده من بعده. و كان عبدالملك له اقدام علي سفك الدماء، و لما قالت له ام الدرداء: بلغني انك شربت الطلي (1) بعد العبادة و النسك!! فقال: أي والله و الدماء أيضا شربتها. و كانت أول بادرة صدرت منه - و تعتبر منهاجا لسيرته - أنه نهي عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قال: لا يأمرني أحد بتقوي الله الا ضربت عنقه. و هو الذي حمل الحجاج بن يوسف علي رقاب المسلمين عندما ولاه

ص: 483


1- 818. الكافي: ج 5 ص 108 ح 10.

علي الحجاز و العراق. و سئل الحسن البصري عن عبدالملك بن مروان فقال: ما أقول في رجل، الحجاج سيئة من سيئاته. و لما حضرته الوفاة أوصي ولده الوليد، في أخذ البيعة له بالسيف و قال و هو في آخر ساعة من الدنيا: يا وليد حضر الوداع و ذهب الخداع و حل القضاء. فبكلي الوليد. فقال له عبدالملك: لا تعصر عينيك كما تعصر الأمة الوكاء. اذا أنا مت فغسلني و كفني و صل علي و اسلمني الي عمر بن عبدالعزيز يدليني في حفرتي، و أخرج أنت الي الناس و البس لهم جلد نمر. و اقعد علي المنبر، و ادع الناس الي بيعتك فمن مال بوجهه كذا فقل له بالسيف كذا. و تنكر للصديق و القريب، و اسمع للبعيد، و أوصيك بالحجاج خيرا. و بهذا نأخذ صورة عن كيفية أخذ البيعة من الناس لخليفة جديد، يتولي ادارة شؤون الأمة، فهل للأمة اختيار في الانتخاب أم انها مرغمة ليس لها أي رأي؟! و لا يحق لها الاعتراض علي شي ء من ذلك. و المعارض يقتل!! فهل تصح مثل هذه البيعة التي سن نظامها العهد الاموي؟ و هل يصح ان يسمي من يفوز بمثل هذا التعيين الاجباري بأميرالمؤمنين و يكتب ذلك بحروف بارزة؟!! انا لا أدري و لعل هناك من يدري، و الي القاري ء النبيه الحكم. و كان عبدالملك يبتعد عن دماء بني هاشم لا تدينا و لكنه رأي عاقبة آل أبي سفيان السيئة من وراء ذلك، كما يشير في كتابه للحجاج بن يوسف في عدم التعرض لهم، و مع هذا فقد حمل الامام زين العابدين (عليه السلام)

ص: 484

مقيدا من المدينة الي الشام، كما حدث الحافظ أبونعيم في حلية الأولياء (1) . هذا... و لا يسعنا التوسع في البحث عن عبدالملك و اعماله و سوء سيرة عماله في الرعية (2) .

الوليد بن عبدالملك

اشاره

ولي الأمر بعد أبيه يوم الخميس في النصف من شوال سنة 86 ه و هو اليوم الذي مات فيه عبدالملك. و كان الوليد ولي عهده. و بقي واليا الي أن مات يوم السبت في النصف من جمادي الاولي سنة خمس و تسعين. و كانت مدة ولايته تسع سنين و سبعة أشهر و له ست و اربعون سنة. و امة ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي. و كان الوليد له سطوة شديدة لا يتوقف اذا غضب. و كان كثير النكاح و الطلاق، يقال انه تزوج ثلاثا و ستين امرأة غير الاماء، و كان لجوجا، كثير الاكل. و كان يغلب عليه اللحن. و هو الذي بني جامع دمشق، و الذي عرف بالجامع الأموي، و انفق علي ذلك أربعمائة صندوق من الذهب. و في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار. و قيل: كان في كل صندوق ثمانية و عشرون ألف دينار. و قد لامه الناس علي ذلك و أنه انفق من بيت مال المسلمين فخطبهم و قال: انما هذا كله من مالي.!! لأن الأمويين يعدون الاموال التي تجي ء لهم هي ملكهم يتصرفون بها كيف شاءوا. كما أنه زاد في مسجد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)

ص: 485


1- 819. الطلاء: الشراب (لسان العرب).
2- 820. حلية الأولياء: ج 3 ص 135.

و زخرفه و نمقه، و رصعه بالفسيفساء و هي الفص المذهب. و ادخل فيه حجرات ازواج النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و سائر المنازل التي حوله، فقال له حبيب بن عبدالله بن الزبير: انشدك الله أن تهدم آية من كتاب الله «ان الذين ينادونك من وراء الحجرات» (1) .فأمر الوليد بضربه حتي مات!!

استشهاد الامام زين العابدين

و في أيامه توفي الامام زين العابدين علي بن الحسين (عليهماالسلام) مسموما، في الخامس و العشرين من شهر محرم الحرام سنة 95 ه و كان الوليد هو الذي دس اليه السم، و يقال: ان هشام بن عبدالملك هو الذي دس اليه السم بأمر من الوليد. [و مات الوليد] في السنة الثانية 96 ه في النصف من جمادي الآخرة أو الأولي. و كان يدعي نزول الوحي عليه و انه لا يعمل الا بوحي من الله تعالي... (2) .

الامام الصادق يرفض التعاون مع المخالفين

و بعد هلاك الوليد خطط بعض المخالفين من اجل الوصول الي السلطة، و لما رأوا في الامام الصادق (عليه السلام) الشخصية الدينية المرموقة، قرروا أن يتخذوا من شخصيته وسيلة لتحقيق هدفهم المنشود، و لهذا اجتمعوا بالامام (عليه السلام) و طلبوا منه التعاون معهم، فرفض

ص: 486


1- 821. الامام الصادق و المذاهب الأربعة: ج 1 ص 113 - 109.
2- 822. سورة الحجرات آية 4.

الامام ذلك، و رد عليهم... فخرجوا صاغرين. و الآن... اليك هذا الحديث الذي يروي جانبا من القصة: عن عبدالكريم بن عتبة الهاشمي قال: كنت قاعدا عند أبي عبدالله (عليه السلام) بمكة اذ دخل عليه اناس من المعتزلة - فيهم عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء و حفص بن سالم مولي ابن هيبرة و ناس من رؤسائهم - و ذلك حدثان (1) قتل الوليد و اختلاف أهل الشام بينهم فتكلموا و أكثروا و خطبوا فأطالوا، فقال لهم أبوعبدالله (عليه السلام): انكم قد أكثرتم علي فاسندوا أمركم الي رجل منكم و ليتكلم بحججكم [و يوجز]. فأسندوا أمرهم الي عمرو بن عبيد، فتكلم فأبلغ و أطال، فكان فيما قال [أن قال:] قد قتل أهل الشام خليفتهم و ضرب الله (عزوجل) بعضهم ببعض (2) و شتت الله أمرهم فنظرنا فوجدنا رجلا له دين و عقل و مروة و موضع و معدن للخلافة و هو محمد بن عبدالله بن الحسن فأردنا أن نجتمع عليه فنبايعه ثم نظهر معه فمن كان بايعنا فهو منا و كنا منه، و من اعتزلنا كففنا عنه، و من نصب لنا جاهدناه و نصبنا له علي بغيه و رده الي الحق و أهله. و قد أحببنا أن نعرض ذلك عليك فتدخل معنا [فيه] فانه لا غني بنا عن مثلك لموضعك و كثرة شيعتك. فلما فرغ قال أبوعبدالله (عليه السلام): أكلكم علي مثل ما قال عمرو [بن عبيد]؟

ص: 487


1- 823. الامام الصادق و المذاهب الأربعة: ج 1 ص 115 - 113.
2- 824. حدثان الأمر: أوله و ابتداؤه (أقرب الموارد) و المراد سنة قتل الوليد بن عبدالملك الأموي.

قالوا: نعم. فحمد الله و أثني عليه و صلي علي النبي (صلي الله عليه و آله) ثم قال: انما نسخط اذا عصي الله، فأما اذا اطيع رضينا، أخبرني - يا عمرو - لو أن الامة قلدتك أمرها و ولتك بغير قتال و لا مؤونة و قيل لك: و لها من شئت، من كنت توليها؟ قال: كنت أجعلها شوري بين المسلمين قال: بين المسلمين كلهم؟ قال: نعم. قال: بين فقهائهم و خيارهم؟ قال: نعم. قال: قريش و غيرهم؟ قال: نعم. قال: و العرب و العجم؟ قال: نعم. قال: أخبرني - يا عمرو - أتتولي أبابكر و عمر أو تتبرأ منهما؟ قال: أتولاهما. فقال: فقد خالفتهما. ما تقولون أنتم: تتولونهما أو تتبرؤون منهما؟ قالوا: نتولاهما. قال [له]: يا عمرو ان كنت رجلا تتبرء منهما فانه يجوز لك الخلاف عليهما، و ان كنت تتولاهما فقد خالفتهما، قد عهد عمر الي أبي بكر فبايعه و لم يشاور [فيه أحدا ثم ردها أبوبكر عليه و لم يشاور فيه] أحدا ثم

ص: 488

جعلها عمر شوري بين ستة و أخرج منها جميع المهاجرين و الأنصار غير اولئك الستة من قريش و اوصي فيهم شيئا لا أراك ترضي به أنت و لا أصحابك اذا جعلتها شوري بين جميع المسلمين. قال: و ما صنع؟ قال: أمر صهيبا (1) أن يصلي بالناس ثلاثة أيام و أن يشاور اولئك الستة ليس معهم أحد الا ابن عمر [يشاورونه] و ليس له من الأمر شي ء، و أوصي من بحضرته من المهاجرين و الأنتصار ان مضت ثلاثة أيام قبل أن يفرغوا أو يبايعوا [رجلا] أن يضربوا أعناق اولئك الستة جميعا، فان اجتمع أربعة قبل ان تمضي ثلاثة أيام و خالف اثنان أن يضربوا أعناق [اولئك] الاثنين، أفترضون بهذا أنتم فيما تجعلون من الشوري في جماعة من المسلمين؟ قالوا: لا. ثم قال: يا عمرو! دع ذا، أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني الي بيعته ثم اجتمعت لكم الامة فلم يختلف عليكم رجلان فيها فأفضتم الي المشركين الذين لا يسلمون و لا يؤدون الجزية أكان عندكم و عند صاحبكم من العلم ما تسيرون [فيه] بسيرة رسول الله (صلي الله عليه و آله) في المشركين في حروبه؟ قال: نعم. قال: فتصنع ماذا؟ قال: ندعوهم الي الاسلام فان أبوا دعوناهم الي الجزية. قال: و ان كانوا مجوسا ليسوا بأهل الكتاب؟

ص: 489


1- 825. كناية عن الخلاف و الشقاق بينهم.

قال: سواء. [قال: و ان كانوا مشركي العرب و عبدة الأوثان؟ قال: سواء]. قال: أخبرني عن القرآن تقرؤه؟ قال: نعم. قال: اقرأ «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتي يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون» (1) فاستثناء الله (عزوجل) و اشتراطه من الذين اوتوا الكتاب فيهم و الذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟ قال: نعم. قال: عمن أخذت ذا؟ قال: سمعت الناس يقولون. قال: فدع ذا، فان هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟ قال: اخرج الخمس و اقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه. قال: أخبرني عن الخمس من تعطيه؟ قال: حيثما سمي الله، قال: فقرأ «و اعلموا أنما غنمتم من شي ء فان لله خمسه و للرسول و لذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل» (2) . قال (عليه السلام): الذي للرسول من تعطيه؟ و من ذو القربي؟ قال: قد اختلف فيه الفقهاء فقال بعضهم: قرابة النبي (صلي الله عليه و آله)

ص: 490


1- 826. هو صهيب بن سنان الصحابي الذي توفي سنة ثمان و ثلاثين. و دفن بالبقيع. (الاستيعاب).
2- 827. سورة التوبة آية 29.

و أهل بيته، و قال بعضهم: الخليفة، و قال بعضهم: قرابة الذين قاتلوا عليه من المسلمين. قال: فأي ذلك تقول أنت؟ قال: لا أدري. قال: فأراك لا تدري... فدع ذا. ثم قال: أرأيت الأربعة أخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها؟ قال: نعم. قال: فقد خالفت رسول الله (صلي الله عليه و آله) في سيرته، بيني و بينك فقهاء أهل المدينة و مشيختهم فاسألهم فانهم لا يختلفون و لا يتنازعون في أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) انما صالح الأعراب علي أن يدعهم في ديارهم و لا يهاجروا، علي ان دهمه من عدوه دهم (1) أن يستنفرهم فيقاتل بهم و ليس لهم في الغنيمة نصيب، و أنت تقول: بين جميعهم. فقد خالفت رسول الله (صلي الله عليه و آله) في كل ما قلت في سيرته في المشركين، و مع هذا ما تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه الآية: «انما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها... الي آخر الآية» (2) . قال: نعم، فكيف تقسمها؟ قال: اقسمها علي ثمانية أجزاء فاعطي كل جزء من الثمانية جزءا. قال: و ان كان صنف منهم عشرة آلاف و صنف [منهم] رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعلشرة آلاف؟

ص: 491


1- 828. سورة الانفال آية 41.
2- 829. دهمه: غشيه. و الدهم: العدد الكثير (أقرب الموارد).

قال: نعم. قال: و تجمع صدقات أهل الحضر و أهل البوادي فتجعلهم فيها سواء؟ قال: نعم. قال: فقد خالفت رسول الله (صلي الله عليه و آله) في كل ما قلت في سيرته، كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي، و صدقة أهل الحضر في أهل الحضر، و لا يقسمه بينهم بالسوية و انما يقسمه علي قدر ما يحضره منهم، و ما يري، و ليس عليه في ذلك شي ء موقت موظف و انما يصنع ذلك بما يري علي قدر من يحضره منهم. فان كان في نفسك مما قلت شي ء فالق فقهاء [أهل] المدينة فانهم لا يختلفون في أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) كذا كان يصنع. ثم أقبل علي عمرو بن عبيد فقال له: اتق الله، و أنتم أيها الرهط فاتقوا الله فان أبي حدثني - و كان خير أهل الأرض و أعلمهم بكتاب الله (عزوجل) و سنة نبيه (صلي الله عليه و آله) -: أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: من ضرب الناس بسيفه و دعاهم الي نفسه و في المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف (1) .

سليمان بن عبدالملك

ولي الامر بعد أخيه الوليد يوم السبت في النصف من جمادي الآخرة سنة 96 بعهد من أبيه عبدالملك، و بقي واليا الي أن مات يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة 99 ه. و كانت ولايته عامين و تسعة أشهر و أيام، و هو

ص: 492


1- 830. سورة التوبة آية 60.

شقيق الوليد، و أراد الوليد أن يعزل سليمان عن ولاية العهد و يبايع لولده عبدالعزيز فأبي سليمان، فكتب الوليد الي عماله، و دعا الناس الي ذلك. فلم يجبه الا الحجاج و قتيبة بن مسلم. و لهذا غضب سليمان علي آل الحجاج و نكبهم. و قتل قتيبة بن مسلم سنة 96 و عزل عمال الحجاج، و عذب أهله، و أطلق في يوم واحد من المسجونين في سجن الحجاج احدي و ثمانين ألفا من الأسراء، و أمرهم أن يلحقوا بأهاليهم، و وجد في سجن الحجاج ثلاثين ألفا ممن لا ذنب لهم، و ثلاثين ألف امرأة. و سجن يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج، و ادخل عليه و هو مكبل بالحديد فلما رآه سليمان ازدراه فقال: ما رأيت كاليوم قط، لعن الله رجلا أجرك رسنه (1) و حكمك في أمره. فقال له يزيد: لا تفعل يا أميرالمؤمنين فانك رأيتني و الأمر عني مدبر و عليك مقبل. ثم قال سليمان: عزمت عليك لتخبرني عن الحجاج ما ظنك به: أتراه يهوي بعد في جهنم أم قد استقر؟. قال: لا تقل هذا في الحجاج، فقد بذل لكم نصحه، و أحقن دونكم دمه، و أمن وليكم، و أخاف عدوكم، و انه يوم القيامة لعن يمين أبيك عبدالملك، و يسار أخيك الوليد، فاجعله حيث شئت. فقال سليمان: اخرج عني الي لعنة الله. و كان سليمان يأخذ برأي عمر بن عبدالعزيز في بعض أموره يستشيره فيها. و قال له: انه قد ولينا ما تري، و ليس لنا علم بتدبيره فما رأيت من مصلحة العامة فمر به فليكتب. فكان رد الصلاة الي ميقاتها، بعد أن كانوا يؤخرونها الي آخر وقتها.

ص: 493


1- 831. الكافي: ج 5 ص 23 ح 1 - التهذيب: ج 6 ص 148 ح 261.

و قد أجمع المؤرخون علي شدة نهم سليمان و أنه كان يأكل كثيرا يجوز المقدار. و قال بعضهم: كان يأكل مائة رطل، و غير ذلك مما ذكروه. و كان يلبس الثياب الرقاق، و ثياب الوشي، و لبس الناس جميعا الوشي جبابا و أردية و سراويل، و عمائم و قلانس. و البس جميع أهله و حاشيته الوشي. حتي الطباخين و أمر أن يكفن فيه. و كان مجحفا في جباية الأموال. فمن ذلك أنه كتب الي عامله علي خراج مصر - و هو أسامة بن زيد التنوخي -: أحلب الدر حتي ينقطع، و أحلب الدم حتي ينصرم. قال الكندي: فذلك أول شدة دخلت علي أهل مصر. و قد أعجب سليمان بفعل اسامة و قال: هذا أسامة لا يرتشي دينارا و لا درهما. فقال له عمر بن عبدالعزيز: أنا أدلك علي من هو شر من أسامة و لا يرتشي دينارا و لا درهما. فقال سليمان: و من هو؟ قال: هو عدو الله ابليس. فغضب سليمان و قام من مجلسه. و قدم اسامة علي سليمان بما اجتمع عنده من الخراج و قال: يا أميرالمؤمنين اني ما جئتك حتي نهكت الرعية و جهدت، فان رأيت أن ترفق بها و ترفه عليها. و تخفف من خراجها ما تقوي به علي عمارة بلادها فافعل، فانه يستدرك ذلك في العام المقبل. فقال له سليمان: هبلتك أمك. أحلب الدر فاذا انقطع فاحلب الدم. و غضب سليمان علي أعظم قائد فتح الفتوحات العظيمة في بلاد المغرب و هو موسي بن نصير، و كان من رجالات الكوفة العسكريين،

ص: 494

و زهادها المؤمنين! ممن عرف بولائه لأهل البيت و استقامته، و لعل من هذا كان سخط سليمان عليه بعد تلك الأعمال الجليلة و الفتوحات العظيمة، كما هو مشهور. و قد أهمل كثير من المؤرخين عظيم بلائه و جهاده في نشر الاسلام، و اتساع رقعته، و أشادوا بذكر مولاه طارق بن زياد الذي كان تحت امرته و يسير علي مخططاته العسكرية. كانت لموسي هذا مواقف مشهورة، ففتح بلاد المغرب، و غنم أموالا طائلة و كان يوجه ولده عبدالعزيز، و مولاه طارق به زياد لافتتاح المدن، و لكن سليمان وجد علي موسي فقتل ولده عبدالعزيز الذي افتتح في امارته مدائن كثيرة. و كان عبدالعزيز متصفا بالزهد و الصلاح و لكن بعض المؤرخين حاكوا حوله تهمة لا تتفق مع ما يتصف به من الاستقامة و حسن السيرة، و كان قتله سنة 98 ه. قال ابن الأثير: و يعدون ذلك من زلات سليمان. و كان والده موسي قد سخط عليه سليمان و عذبه أنواع العذاب، و ضمنه أربعة آلاف دينار و ثلاثين ألف درهم. و لما قتل ولده عرض رأسه عليه فتجلد للمصيبة و قال: هنيئا له بالشهادة و قد قتلتموه والله صواما قواما. و كان موسي ممن عرف هو و أبوه نصير بولائه لآل محمد، و لقد غضب معاوية عليهم اذ لم يخرج معه لصفين (1) .

ص: 495


1- 832. الرسن: الحبل (مجمع البحرين).

عمر بن عبدالعزيز

أبوحفص عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم، و امه أم عاصم ليلي بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. ولي بعهد من سليمان بن عبدالملك، يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة 99 ه. و بقي واليا الي أن مات يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة 101 ه. و مدة خلافته سنتان و خمسة أشهر و خمسة أيام. و كان أبوه عبدالعزيز المتوفي سنة 86 ه ولي عهد مروان بعد أخيه عبدالملك، و لكنه مات قبله. و كان عمر بن عبدالعزيز يعيش في ترف و بذخ و يبذل الأموال الطائلة في سبيل مأكله و ملبسه، حتي ذكر انه كان يلبس الثوب الذي اشتراه بأربعمائة دينار و يقول: ما اخشنه؟! (1) . و كان قد تقنع بقناع الدين و الصلاح، مقدمة تمهيدية لوصوله الي الحكم و السلطة. و لما تسلم زمام الحكم، كانت الحكومة الاموية مهددة بالسقوط و الانهيار، فالأوضاع الاقتصادية متردية جدا، و الضرائب الباهظة قد اثقلت كاهل الامة، و الحالة الأمنية مفقودة، و القتل و الارعاب قد ساد العباد و البلاد، و الاستيلاء العام من الحكومة قد بلغ اشده. فأسرع الي تبديل سياسة اسلافه، محاولة منه للمحافظة علي حكومته المذبذبة... فأمر بتخفيف الضرائب و الخرائج عن الناس، كما رد فدك الي ولد فاطمة (عليهاالسلام) و منع الناس من لعن خليفة رسول الله:

ص: 496


1- 833. الامام الصادق و المذاهب الأربعة: ج 1 ص 117 - 115.

الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و الذي كان قد ساد علي المنابر و المجامع سبعين سنة!! كما منح بعض الحريات للناس، امتصاصا للنقمة العارمة علي بني امية. هذه الخطوات غطت علي شخصيته المنحرفة، فاغتر الناس باعماله و مدحه المؤرخون و اثنوا عليه... الا أن أئمة اهل البيت (عليهم السلام) كانوا يدركون حقائق الامور بصورة جيدة، بل كانوا يخبرون عنها قبل وقوعها، و ذلك لما ورثوه من رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) من المواريث و العلوم، و لما منحهم الله سبحانه من التوسم «ان في ذلك لآيات للمتوسمين» (1) و لذا ورد ذمه - علي لسانهم - و أنه ملعون. و في هذا المجال نذكر هذين الحديثين: 1- روي ان الامام زين العابدين (عليه السلام) قال لعبدالله بن عطاء: «اتري هذا المترف؟؟ - و اشار الي عمر بن عبدالعزيز - انه لن يموت حتي يلي الناس، فلا يلبث الا يسيرا حتي يموت، فاذا مات لعنه أهل السماء و استغفر له أهل الأرض» (2) . 2- و عن أبي بصير قال: كنت مع الباقر (عليه السلام) في المسجد اذ دخل عمر بن عبدالعزيز و عليه ثوبان ممصران، متكئا علي مولي له، فقال (عليه السلام): ليلين هذا الغلام [أي: سوف يتولي السلطة] فيظهر العدل... ثم يموت، فيبكي عليه أهل الأرض و يلعنه أهل السماء.

ص: 497


1- 834. طبقات الصحابة: ج 5 ص 246.
2- 835. سورة الحجر آية 75.

قال (عليه السلام): يجلس في مجلس لا حق له - أي الخلافة - (1) . أقول: يكفي في ذم عمر بن عبدالعزيز قول الامام الباقر (عليه السلام) - في الحديث المذكور -: «يجلس مجلسا لا حق له» فالخلافة منصب الهي جعله الله تعالي لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و كل من استولي علي هذا المنصب - غصبا و ظلما - فهو غاصب ظالم، حتي لو كان عابدا عادلا، فمن الطبيعي أن يلعنه أهل السماء. قال تعالي: «انما يتقبل الله من المتقين» (2) .

يزيد بن عبدالملك

اشارة

يزيد بن عبدالملك بن مروان أمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية. تولي الحكم بعد عمر بن عبدالعزيز سنة 101 ه. و بقي الي أن مات ليلة الجمعة لأربع بقين من شعبان سنة 105 ه فكانت ولايته أربعة أعوام و شهرا واحدا و يومين. و كان يزيد صاحب لهو و لذة، و هو صاحب حبابة و سلامة و هما جاريتان و كان مشغوفا بهما. و ماتت حبابة فمات بعدها بيسير أسفا عليها. و كان قد تركها أياما يدفنها، لعدم استطاعته فراقها، فعوتب علي ذلك، فدفنها. و يقال انه نبشها بعد الدفن حتي شاهدها (3) .

هشام بن عبدالملك

اشاره

هشام بن عبدالملك بن مروان بن الحكم، ولي الامر بعهد من أخيه

ص: 498


1- 836. بحارالأنوار: ج 46 ص 23.
2- 837. سفينة البحار: ج 1 ص 272.
3- 838. سورة المائدة آية 27.

يزيد بن عبدالملك سنة 105 ه لخمس بقين من شعبان و بقي الي سنة 125 ه و هي سنة وفاته. و كانت مدة ملكه تسع عشرة سنة و سبعة أشهر غير أيام. و أمه بنت هشام بن اسماعيل المخزومي. كان هشام يعد من دهاة بني امية، و قرنوه بمعاوية و عبدالملك. و قد عرف بالغلظة، و خشونة الطبع، و شدة البخل و سوء المجالسة، و كان أحول، و هو الرابع من أولاد عبدالملك الذين تولوا الحكم. و كان شديد البغض للعلويين، حاول الانتقام منهم، و الانتقاص لهم كلما أمكنته الفرصة.

بين هشام و الفرزدق الشاعر

حج هشام قبل أن يلي السلطنة فطاف بالبيت و لم يتمكن من استلام الحجر من شدة الزحام، فنصب له منبر و جلس عليه، و أهل الشام حوله، و بينما هو كذلك اذا أقبل الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فانفرج الناس له و صاروا سماطين، اجلالا و هيبة و احتراما، فعظم علي هشام و غاضه ذلك و قال: من هذا؟! - استنقاصا له - و كان الفرزدق حاضرا فقال: أنا أعرفه. فقال هشام: من هو؟ فأنشأ الفرزدق قصيدته المشهورة التي يقول مطلعها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم الي آخر القصيدة. فغضب هشام و أمر بسجن الفرزدق.

ص: 499

بين هشام و زيد بن علي

و دخل عليه زيد بن الامام علي بن الحسين (عليه السلام) فسلم عليه بالأمرة، فلم يرد السلام اهانة له، و اغلظ في الكلام و لم يفسح له في المجلس. فقال زيد: السلام عليك يا أحول، فانك تري نفسك أهلا لهذا الاسم. فغضب هشام، و جرت بينهما محاورة كان نصيب هشام فيها الفشل، و خرج زيد و هو يقول: ما كره قوم حر السيوف الا ذلوا. و أمر هشامه برده و قال له: اذكر حوائجك. فقال زيد: أما و أنت ناظر علي أمور المسلمين فلا. و خرج من عنده و قال: من أحب الحياة ذل. و مضي زيد الي الكوفة و بها استشهد في الثالث من صفر سنة 121 ه بعد ثورة آزرته فيها مختلف الطبقات. و بعد شهادته (رضوان الله عليه) صلب جسده عريانا منكوسا بأمر من هشام، و بقي الجسد مصلوبا أربع سنين (1) . أيها القارئ الكريم: سيأتيك الحديث عن زيد الشهيد بعد قليل، ان شاء الله تعالي.

بين هشام و الامام الباقر

عن عمارة بن زيد الواقدي قال: حج هشام بن عبدالملك بن مروان سنة من السنين، و كان حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

ص: 500


1- 839. الامام الصادق و المذاهب الأربعة: ج 1 ص 121 و 122.

و ابنه جعفر، فقال جعفر - في بعض كلامه -: «الحمد الله الذي بعث بالحق محمدا نبيا و اكرمنا به، فنحن صفوة الله علي خلقه و خيرته من عباده، فالسعيد من اتبعنا و الشقي من خالفنا، و من الناس من يقول انه يتولانا و هو يتولي اعداءنا و من يليهم من جلسائهم و أصحابهم، فهو لم يسمع كلام ربنا و لم يعمل به». [قال أبوعبدالله:] فأخبر مسيلمة بن عبدالملك أخاه، فلم يعرض لنا حتي انصرف الي دمشق و انصرفنا الي المدينة، فأنفذ بريدا الي عامل المدينة باشخاص ابي و اشخاصي معه، فاشخصنا اليه، فما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ثم اذن لنا في اليوم الرابع، فاذا هو قد قعد علي سرير الملك و جنده و خاصته وقوف علي أرجلهم سماطين متسلحين، و قد نصب البرجاس حذاءه (1) و أشياخ قومه يرمون، فلما دخل أبي و أنا خلفه ما زال يستدنينا حتي حاذيناه و جلسنا قليلا، فقال لأبي: يا أباجعفر لو رميت مع اشياخ قومك الغرض. و انما اراد أن يضحك بأبي، ظنا منه انه يقصر فلا يصيب الغرض لكبر سنه، فيشتفي منه. فاعتذر أبي و قال: اني قد كبرت فان رأيت ان تعفيني، فلم يقبل و قال: لا و الذي اعزنا بدينه و نبيه. ثم أومأ الي شيخ من بني امية أن أعطه قوسك، فتناولها منه أبي و تناول منه الكنانة، فوضع سهما في كبد القوس فرمي وسط الغرض فأثبته فيه، ثم رمي الثاني فشق فوق السهم الأول الي نصله، ثم تابع حتي شق تسعة أسهم فصار بعضهعا في جوف بعض، و هشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك ان قال: اجدت يا أباجعفر فأنت أرمي العرب و العجم،

ص: 501


1- 840. الامام الصادق و المذاهب الأربعة: ج 1 ص 124 - 122.

زعمت انك قد كبرت؟! كلا. ثم ندم علي مقالته و تكنيته له، و كان من تكبره لا يكني أحدا في خلافته، فاطرق اطراقة يرتأي فيه رأيا، و أبي واقف ازاءه و مواجه له، و أنا وراء أبي، فلما طال الوقوف غضب أبي و كان اذا [غضب] نظر [الي] السماء نظر غضبان يتبين الغضب في وجهه، فلما نظر هشام ذلك من أبي قال: اصعد يا محمد، فصعد أبي السرير و صعدت، فلما دنا من هشام قام اليه و اعتنقه و اقعده عن يمينه، ثم اعتنقني و أقعدني عن يمين أبي و اقبل علي أبي بوجهه و قال: يا محمد لا تزال العرب و العجم تسودها قريش مادام فيهم مثلك، و لله درك، من علمك هذا الرمي؟ و في كم تعلمته؟ فقال أبي: قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثني ثم تركته، فلما أراد أميرالمؤمنين (1) مني ذلك عدت اليه. فقال: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت، و ما ظننت أن أحدا في أهل الأرض يرمي مثل هذا، فأين رمي جعفر من رميك؟ فقال (عليه السلام): انا نتوارث الكمال و التمام و الدين، اذا أنزل الله تعالي علي نبيه قوله: «اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا» (2) فالارض - ممن يكمل دينه - لا تخلو، فكان ذلك علامة هذه الامور التي يقصر عنها غيرنا. فلما سمع ذلك انقلبت عينه اليمني فاحولت و احمر وجهه، و كان ذلك علامة غضبة اذا غضب، ثم اطرق هنيهة و رفع رأسه الي أبي و قال: ألسنا بني عبدمناف نسبنا و نسبكم واحدا؟

ص: 502


1- 841. البرجاس: غرض في الهواء يرمي بالسهام. (أقرب الموارد). و الحذو و الحذاء: الازاء و المقابل (لسان العرب).
2- 842. قد ذكرنا - في هذا الكتاب - كلمة حول لقب «أميرالمؤمنين».

اهل البيت هم الأفضل

فقال أبي: و نحن كذلك، و لكن الله (جل ثناؤه) اختصنا بمكنون سره و خالص علمه ما لم يختص احدا غيرنا. فقال: أليس الله بعث محمدا من شجرة عبدمناف الي الناس كافة، ابيضها و اسودها و احمرها؟ فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم و رسول الله مبعوث الي الناس كافة [و ذلك القول الله (تبارك و تعالي): «و لله ميراث السماوات و الأرض» الي آخر الآية] (1) ؟ و من أين اورثتم هذا العلم و ليس بعد محمد نبي، و ما أنتم أنبياء؟!! فقال أبي: من قوله تعالي: «لا تحرك به لسانك لتعجل به» (2) فالذي ابداه فهو للناس كافة، و الذي لم يحرك به لسانه أمر الله تعالي أن يخصنا به دون غيرنا، فلذلك كان يناجي به أخاه عليا دون أصحابه، و أنزل الله تعالي قرآنا فقال: «و تعيها اذن واعية» (3) ، فقال له رسول الله بين أصحابه: «سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي»، و لذلك قال علي بالكوفة: «علمني رسول الله ألف باب من العلم، ينفتح من كل باب ألف باب» خصه رسول الله من مكنون علمه ما خصه الله به، فصار الينا و توارثناه من دون قومنا. فقال له هشام: ان عليا كان يدعي علم الغيب، والله لم يطلع علي غيبه أحدا، فكيف ادعي ذلك؟ و من أين؟ فقال أبي: ان الله أنزل علي نبيه كتابا بين فيه ما كان و ما يكون الي

ص: 503


1- 843. سورة المائدة آية 3.
2- 844. الآية في سورة آل عمران آية 180 و ما بين المعقوفتين من بحارالأنوار.
3- 845. سورة القيامة آية 16.

يوم القيامة في قوله تعالي: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي ء و هدي و موعظة للمتقين» (1) و في قوله تعالي: «و كل شي ء أحصيناه في امام مبين» (2) ، و في قوله: «ما فرطنا في الكتاب من شي ء» (3) ، و في قوله: «و ما من غائبة في السماء و الأرض الا في كتاب مبين» (4) و أوحي الي نبيه أن لا يبقي في غيبه و سره و مكنون علمه شيئا الا ناجاه به، و أمره أن يؤلف القرآن من بعده، و يتولي غسله و تحنيطه و تكفينه من دون قومه، و قال لأهله و أصحابه: «حرام أن تنظروا الي عورتي غير أخي علي، فهو مني و أنا منه، له مالي و عليه ما علي، و هو قاضي ديني و منجز وعدي» و قال لاصحابه: «علي يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله» و لم يكن عند أحد تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله» و لم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله و تمامه الا عند علي، و لذلك قال لأصحابه: «أقضاكم علي» و قال عمر بن الخطاب: لو لا علي لهلك عمر، أفيشهد له عمر و يجحد غيره؟!! فأطرق هشام ثم رفع رأسه و قال: سل حاجتك؟ فقال: خلفت أهلي و عيالي مستوحشين لخروجي. فقال: قد آمن الله وحشتهم برجوعك اليهم، فلا تقم أكثر من يومك، فاعتنقه أبي و ودعه، و فعلت فعله، و نهض و نهضت، و خرجنا الي بابه، فاذا علي بابه ميدان و فيه اناس قعود في آخره، فسأل عنهم أبي فقال الحجاب: هؤلاء القسيسون و الرهبان، و هذا عالم لهم يقعد لهم في كل

ص: 504


1- 846. سورة الحاقة آية 12.
2- 847. سورة النحل آية 89.
3- 848. سورة يس آية 12.
4- 849. سورة الانعام آية 38.

سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم. فلف أبي رأسه بفاضل ردائه و فعلت فعله و أقبل حتي قعد عندهم و قعدت وراء أبي، فرفع الخبر الي هشام، فأمر بعض غلمانه أن يحضره و ينظر ما يصنع، فأتي و معه عدد من المسلمين فأحاطوا بنا.

بين الامام الباقر و عالم النصاري

و أقبل عالم النصاري و قد شد حاجبيه بعصابة صفراء فتوسطنا و قام اليه جميع الحاضرين مسلمين، فتوسط صدر المجلس قعد فيه و أحاطوا به، و أبي و أنا بينهم فأدار نظره فيهم فقال لأبي: أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال أبي: بل من هذه الامة المرحومة. فقال: أبي علمائها أم من جهالها؟ فقال أبي: لست من جهالها؟ فاضطرب و قال: أسألك؟ فقال: سل. قال: من أين ادعيتم ان أهل الجنة يأكلون و يشربون و لا يحدثون و لا يبولون؟ و ما الدليل؟ و هل من شاهد لا يجهل؟ قال أبي: الدليل الذي لا ينكر: مشاهدة الجنين في بطن امه يطعم و لا يحدث. فاضطرب اضطرابا شديدا و قال: كلا... زعمت انك لست من علمائها. فقال أبي: قلت: لست من جهالها. قال: فأسألك عن مسألة اخري.

ص: 505

قال: سل. قال: من أين ادعيتم ان فاكهة الجنة ابدا غضة طرية؟ و ما الدليل من المشاهدات؟ قال: ان الفرات غض طري موجود غير معدوم لا ينقطع. فاضطراب اضطرابا شديدا و قال: كلا... زعمت انك لست من علمائها. فقال أبي: قلت: لست من جهالها. فقال: أسألك عن مسألة أخري؟ قال: سل. قال: أسألك عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من الليل و لا من النهار؟ قال أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر الي طلوع الشمس، يهدأ فيها المبتلي و يرقد فيها الساهر و يفيق فيها المغمي عليه، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين و في الآخرة للعالمين، و جعلها دليلا واضحا و حجة بالغة علي الجاحدين و التاركين. فصاح صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة لأسألنك عنها و لا تهتدي الي الجواب عنها ابدا. قال أبي: فسل انك حانث (1) في قولك. فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد و ماتا في يوم واحد، عمر أحدهما مائة و خمسون سنة، و الآخر خمسون سنة في الدنيا؟

ص: 506


1- 850. سورة النمل آية 75.

فقال أبي: ذلك عزير و عزرة ولدا في يوم واحد، و لما بلغا مبلغ الرجال خمسة و عشرين عاما مر عزير علي حماره بقرية في أنطاكية «و هي خاوية علي عروشها قال أني يحيي هذه الله بعد موتها» (1) و كان الله قد اصطفاه و هداه، فلما قال ذلك غضب الله عليه و أماته مائة عام ثم بعثه علي طعامه و حماره و شرابه و عاد الي داره و اخوه عزرة لا يعرفه. فاستضافه و بعث الي أولاده و أحفاده و قد شاخوا (2) و عزير شاب في سن خمس و عشرين و هو يذكر عزرة بنفسه فيقول له: ما رأيت شابا أعلم بعزير منك فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟ فقال عزير لأخيه: أنا عزير، سخط الله تعالي علي بقول قلته فأماتني مائة سنة ثم بعثني، ليزدادوا بذلك يقينا، ان الله علي كل شي ء قدير، و هذا حماري و طعامي و شرابي الذي خرجت به من عندكم، أعاه لي كما كان بقدرته، فأعاشه الله بينهم تمام الخمسين و قبضه الله و أخاه في يوم واحد. فنهض - عند ذلك - عالم النصاري و قاموا معه فقال: جئتموني بأعلم مني فأقعدتموه بينكم ليفضحني و يعلم المسلمون بأن لهم من يحيط بعلومنا و عنده مالا نحيط به؟!! فلا والله لا كلمتكم و لا قعدت لكم ان عشت سنة. فتفرقوا، و أبي قاعد مكانه، و رفع ذلك الرجل الخبر الي هشام فاذا رسوله بالجائزة و الأمر بانصرافنا الي المدينة من وقتنا فلا نبقي، لأن أهل الشام ماجوا و هاجوا فيما جري بين أبي و عالم النصاري، و فركبنا دوابنا منصرفين.

ص: 507


1- 851. الحنث: أن يقول الانسان غير الحق (لسان العرب).
2- 852. سورة البقرة آية 259.

محاولة يائسة من هشام الاموي ضد الامام الباقر و الامام الصادق

اشارة

و قد سبقنا بريد (1) هشام الي عامل مدين في طريقنا الي المدينة يذكر له: «ان ابن أبي تراب الساحر محمد بن علي و ابنه جعفر الكذابين - بل هو الكذاب الأشر، عليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين الي يوم الدين - فيما يظهران من الاسلام، قد وردا علي فلما صرفتهما الي المدينة مالا الي القسيسين و الرهبان، و تقربا اليهم بالنصرانية، فكرهت النكال بهما لقرابتهما و الرهبان، و تقربا اليهم بالنصرانية، فكرهت النكال بهما لقرابتهما، فاذا مرا بانصرافهما عليكم فليناد في الناس: برأت الذمة ممن باعهما و شارهما و صافحهما و سلم عليهما. و رأي أميرالمؤمنين قتلهما و دوابهما و غلمانهما لارتدادهما، والسلام). فلما ورد البريد الي مدين و شارفناها بعده قدم أبي غلمانه ليشتروا لدوابنا علفا و لنا طعاما، فلما قربوا من المدينة أغلق أهلها الباب في وجوههم و شتموهم و ذكروا بالشتم عليا و قالوا لهم: لا نزول لكم عندنا و لا بيع و لا شراء، فأنتم كفار مشركون. فوقف غلماننا الي الباب حتي انتهينا اليهم، فكلمهم أبي و لين لهم القول، قال: اتقوا الله فلسنا كما بلغكم، فأجابوه بمثل ما أجابوا الغلمان. فقال لهم أبي: هبونا كما قلتم، فافتحوا الباب و بايعونا (2) كما تبايعون اليهود و النصاري و المجوس!! فقالوا: انتم اشر منهم، لأن هؤلاء يؤدون الجزية و أنتم لا تؤدون.

ص: 508


1- 853. من الشيخوخة و هي الهرم و طول العمر.
2- 854. البريد: الرسول (مجمع البحرين).

فقال لهم أبي: افتحوا الباب و خذوا منا الجزية كما تأخذونها منهم!! فقالوا: لا نفتح و لا كرامة، حتي تموتوا علي ظهور دوابكم جياعا و تموت دوابكم تحتكم. فوعظهم أبي فازدادوا عتوا.

لامام الباقر يهدد بنزول العذاب
اشاره

فثني أبي رجله عن سرجه و قال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح، فصعد الجبل المطل علي مدينة مدين و هم ينظرون ما يصنع، فلما صار في اعلاه استقبل بوجهه المدينة و وضع اصبعيه في اذنيه و نادي: «و الي مدين أخاهم شعيبا (الي قوله) بقية الله خير لكم ان كنتم مؤمنين» (1) ، نحن والله بقية الله في أرضه. فأمر الله تعالي ريحا سوداء مظلمة فهبت و احتملت صوته فألقته في أسماع الرجال و النساء و الصيبان و الاماء، فما بقي أحد من اهل مدين الا صعد السطح من الفزع، و فيمن صعد: شيخ كبير السن، فلما نظر الجبل صرخ بأعلي صوته: اتقوا الله يا أهل مدين، فانه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب حين دعا علي قومه، فان لم تفتحوا له الباب نزل بكم العذاب، و قد أعذر من انذر. ففتحوا لنا الباب و أنزلونا، و كتب العامل بجميع ذلك الي هشام، فارتحلنا من مدين الي المدينة في اليوم الثاني، و كتب هشام الي عامله بأن يأخذوا الشيخ و يدفنوه في حفيرة ففعلوا، و كتب أيضا الي عامله بالمدينة أن يحتالوا في سم أبي بطعام أو شراب، و مضي هشام و لم يتهيأ له» (2) .

ص: 509


1- 855. بمعني طلب البيع، أي بيعونا الطعام و غيره.
2- 856. سورة هود الآيات 86 - 84.
زيد الشهيد
اشاره

ابن الامام علي زين العابدين، بن الامام أبي عبدالله الحسين بن الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام). شخصية قد اختلفت حولها الأقلام، و اضطربت - في شأنها - الأقوال... و قد ألف الكثيرون - من علمائنا و غيرهم - في ترجمته كتبا بصورة مستقلة، أو ذكروه ضمن التراجم. فالرجل يعتبر اماما عند طائفة كبيرة من المسلمين منذ اثني عشر قرنا تقريبا، و هم الزيدية، و لكننا لا نكذب اذا قلنا: ان زيدا شي ء و الزيدية شي ء آخر. و قد ذكرنا - في بداية كتابنا هذا - أن الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) قد صرح و نص علي امامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) باسمائهم و أنسابهم، و لم يكن زيد بن علي مذكورا ضمن اولئك الأئمة الطاهرين، و هكذا لم يرد نص من بقية الأئمة علي امامة زيد. نعم قد وردت أخبار عديدة في قتله و صلبه و أمثال ذلك، و لكنها

ص: 510

خالية عن الاعتراف بامامته. و علي كل حال... فقد كان زيد رجلا عابدا زاهدا جليلا ذا شخصية محترمة بين الناس، و كان يعرف ب: حليف القرآن و اسطوانة المسجد - لكثرة صلاته و عبادته - و كان معروفا بالفصاحة و الخطابة و الشجاعة. و قد قام بثورة مسلحة ضد الطاغية: هشام بن عبدالملك الاموي، و كادت الثورة أن تنتصر لو لا تقاعس اهل الكوفة و خذلانهم اياه، مما ادي الي استشهاده. و مما دعاه الي الثورة ضد هشام هو الظلم و الجور الذي انتشر في عهده انتشارا فضيعا،و استخفافه بالمقدسات الاسلامية حتي أن رجلا سب رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) عند هشام فلم يرد عليه و لم ينكر عليه ذلك!!. هذا... و قد ذكرنا - في الموسوعة - بعض ما يتعلق بشخصيته و ثورته و قيامه في الكوفة، و موقفه من الامام الصادق (عليه السلام) و موقف الامام منه و من ثورته و بعد شهادته... و اليك بعض التفصيل: عن عمرو بن خالد قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام): في كل زمان رجل منا أهل البيت، يحتج الله به علي خلقه، و حجة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد، لا يضل من تبعه، و لا يهتدي من خالفه (1) . و عن معتب قال: قرع باب مولاي الصادق (عليه السلام) فخرجت فاذا بزيد بن علي (عليه السلام) فقال الصادق (عليه السلام) لجلسائه: ادخلوا هذا البيت، و ردوا الباب، و لا يتكلم منكم أحد، فلما دخل قام اليه فاعتنقا و جلسا طويلا يتشاوران ثم علا الكلام بينهما فقال

ص: 511


1- 857. دلائل الامامة: ص 109 - 104. منه بحارالأنوار: ج 46 ص 306.

زيد: دع ذا عنك يا جعفر! فوالله لئن لم تمد يدك حتي ابايعك أو هذه يدي فبايعني لأتبعنك و لاكلفنك ما لا تطيق، فقد تركت الجهاد و أخلدت الي الخفض (1) و أرخيت الستر، و احتويت علي مال الشرق و الغرب. فقال الصادق (عليه السلام): يرحمك الله يا عم، يغفر الله لك يا عم [يغفر لك الله يا عم]، و زيد يسمعه و يقول: موعدنا الصبح أليس الصبح بقريب، و مضي. فتكلم الناس في ذلك فقال (عليه السلام): مه لا تقولوا لعمي زيد الا خيرا، رحم الله عمي، فلو ظفر لوفي. فلما كان في السحر قرع الباب، ففتحت له الباب فدخل يشهق و يبكي و يقول: ارحمني يا جعفر، يرحمك الله، ارض عني يا جعفر، رضي الله عنك، اغفر لي يا جعفر، غفر الله لك. فقال الصادق (عليه السلام): غفر الله لك، و رحمك و رضي عنك، فما الخبر يا عم؟ قال: نعم فرأيت رسول الله (صلي الله عليه و آله) داخلا علي و عن يمينه الحسن، و عن يساره الحسين، و فاطمة خلفه، و علي أمامه، و بيده حربة تلتهب التهابا كأنه نار، و هو يقول: ايها يا زيد آذيت رسول الله في جعفر، والله لئن لم يرحمك، و يغفر لك، و يرضي عنك، لأرمينك بهذه الحربة فلأضعها بين كتفيك ثم لأخرجها من صدرك، فانتبهت فزعا مرعوبا، فصرت اليك فارحمني يرحمك الله. فقال: رضي الله عنك، و غفر لك، أوصني فانك مقتول مصلوب

ص: 512


1- 858. امالي الصدوق: ص 436 ح 6. منه بحارالأنوار: ج 46 ص 173.

محرق بالنار، فوصي زيد بعياله و أولاده، و قضاء الدين عنه (1) . و عن عمار الساباطي قال: كان سليمان بن خالد خرج مع زيد بن علي حين خرج، فقال له رجل - و نحن وقوف في ناحية و زيد واقف في ناحية -: ما تقول في زيد هو خير أم جعفر؟! قال سليمان: قلت: والله ليوم من جعفر خير من زيد أيام الدنيا، قال: فحرك دابته و أتي زيدا و قص عليه القصة قال: و مضيت نحوه فانتهيت الي زيد و هو يقول: جعفر، امامنا في الحلال و الحرام (2) . و عن زرارة قال: قال لي زيد بن علي (عليه السلام) و أنا عند أبي عبدالله (عليه السلام): ما تقول يا فتي في رجل من آل محمد استنصرك؟ فقلت: ان كان مفروض الطاعة [نصرته، و ان كان غير مفروض الطاعة] فلي أن أفعل، و لي أن لا أفعل، فلما خرج قال أبوعبدالله (عليه السلام): أخذته والله من بين يديه و من خلفه، و ما تركت له مخرجا (3) . و عن سورة بن كليب قال: قال لي زيد بن علي (عليه السلام): يا سورة كيف علمتم أن صاحبكم علي ما تذكرون؟ قال: فقلت له: علي الخبير سقطت. قال: فقال: هات. فقلت له: كنا نأتي أخاك محمد بن علي (عليهماالسلام) نسأله فيقول: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قال الله (جل وعز) في كتابه، حتي مضي أخوك فأتيناكم آل محمد و أنت فيمن أتيناه فتخبرونا

ص: 513


1- 859. أخلد بالمكان: أقام به. و الخفض: الراحة و السكون (مجمع البحرين).
2- 860. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 224 و 225. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 128.
3- 861. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 652 ح 668.

ببعض، و لا تخبرونا بكل الذي نسألكم عنه، حتي أتينا ابن اخيك جعفرا فقال لنا كما قال أبوه: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قال تعالي. فتبسم و قال: أما والله ان قلت هذا، فان كتب علي (صلوات الله عليه) عنده (1) . و عن أبي بكر الحضرمي قال: ذكرنا أمر زيد و خروجه عند أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: عمي مقتول، ان خرج قتل فقروا في بيوتكم، فوالله ما عليكم بأس. فقال رجل من القوم: ان شاء الله (2) . و عن ابن ابي عبدون، عن أبيه قال: لما حمل زيد بن موسي بن جعفر الي المأمون - و قد كان خرج بالبصرة و أحرق دور ولد العباس [بني العباس] - وهب المأمون جرمه لأخيه علي بن موسي الرضا (عليهماالسلام) و قال له: يا أباالحسن لئن خرج أخوك و فعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن علي فقتل و لو لا مكانك مني لقتلته فليس ما أتاه بصغير. فقال الرضا (عليه السلام): يا أميرالمؤمنين لا تقس أخي زيدا الي زيد ابن علي فانه كان من علماء آل محمد، غضب لله (عزوجل) فجاهد أعداءه حتي قتل في سبيله، و لقد حدثني أبي موسي بن جعفر (عليهماالسلام) انه سمع أباه جعفر بن محمد بن علي (عليهم السلام) يقول: رحم الله عمي زيدا انه دعا الي الرضا من آل محمد و لو ظفر لو في بما دعا اليه، و لقد استشارني في خروجه فقلت له: يا عم ان رضيت ان تكون المقتول المصلوب

ص: 514


1- 862. اختيار معرفة الرجال: ج 1 ص 369 ح 248.
2- 863. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 673 ح 706. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 36.

بالكناسة (1) فشأنك، فلما ولي قال جعفر بن محمد: ويل لمن سمع واعيته [داعيته] فلم يجبه. فقال المأمون: يا أباالحسن اليس قد جاء فيمن ادعي الامامة بغير حقها ما جاء؟. فقال الرضا (عليه السلام): ان زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق، و انه كان أتقي لله من ذلك، انه قال: أدعوكم الي الرضا من آل محمد (عليهم السلام) و انما جاء ما جاء فيمن يدعي ان الله تعالي نص عليه ثم يدعو الي غير دين الله و يضل عن سبيله بغير علم، و كان زيد [بن علي (عليه السلام)] والله ممن خوطب بهذه الآية «و جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم» (2) (3) .

قصة خروج زيد و شهادته

في كتاب الكامل في التاريخ: سنة اثنتين و عشرين و مائة كان زيد واعد أصحابه أول ليلة من صفر، و بلغ ذلك يوسف بن عمر. فبعث الي الحكم، يأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم، يحصرهم فيه، فجمعهم فيه، و طلبوا زيدا في دار معاوية بن اسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، فخرج منها ليلا. و رفعوا الهرادي فيها النيران و نادوا: «يا منصور، أمت أمت». حتي طلع الفجر، فلما أصبحوا بعث زيد القاسم التبعي ثم الحضرمي، و آخر من أصحابه يناديان بشعارهما.

ص: 515


1- 864. كشف الغمة: ج 2 ص 198 و 199. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 148.
2- 865. الكناسة: القمامة. و اسم موضع بالكوفة. (مجمع البحرين).
3- 866. سورة الحج آية 78.

فلما كانا بصحراء عبدالقيس لقيهما جعفر بن العباس الكندي، فحملا عليه و علي أصحابه. فقتل الذي كان مع القاسم التبعي، و ارتث القاسم و أتي به الحكم، فضرب عنقه، فكانا أول من قتل من أصحاب زيد. و أغلق الحكم دروب السوق و أبواب المسجد علي الناس، و بعث الحكم الي يوسف بالحيرة فأخبره الخبر... فسار يوسف الي تل قريب من الحيرة، فنزل عليه و معه أشراف الناس، فبعث الريان بن سلمة الأراني، في ألفين و معه ثلاثمائة من القيقانية رجالة معهم النشاب. و أصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل و ثمانية عشر رجلا. فقال زيد: سبحان الله أين الناس؟. فقيل: انهم في المسجد الأعظم محصورون. فقال: والله ما هذا بعذر لمن بايعنا. ... و أقبل زيد علي جبانة سالم حتي انتهي الي جبانة الصائدين و بها خمسمائة من أهل الشام، فحمل عليهم زيد في من معه و هزمهم. فانتهي زيد الي دار أنس بن عمرو الأزدي. و كان في من بايعه و هو في الدار، فنودي فلم يجبهم. و ناداه زيد فلم يخرج اليه، فقال زيد: ما أخلفكم؟ قد فعلتموها؟ الله حسيبكم. ثم انتهي زيد الي الكناسة فحمل علي من بها من أهل الشام، فهزمهم. ثم سار زيد و يوسف ينظر اليه في مائتي رجل، فلو قصده لقتله. و الريان يتبع أثر زيد بن علي بالكوفة في أهل الشام، فأخذ زيد علي مصلي خالد حتي دخل الكوفة، و سار بعض أصحابه نحو جبانة مخيف بن سليم، فلقوا أهل الشام فقاتلوهم، فأسر أهل الشام منهم رجلا، فأمر به يوسف ابن عمر فقتل.

ص: 516

فلما رأي زيد خذلان الناس اياه قال: يا نصر بن خزيمة أنا أخاف أن يكونوا قد فعلوها حسينية. قال: أما أنا والله لأقاتلن معك حتي أموت، و ان الناس في المسجد فامض بنا نحوهم فلقيهم عبيدالله بن العباس الكندي عند دار عمر بن سعد، فاقتتلوا فانهزم عبيدالله و أصحابه، و جاء زيد حتي انتهي الي باب المسجد فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الأبواب و يقولون، يا أهل المسجد اخرجوا من الذل الي العز، اخرجوا الي الدين و الدنيا فانكم لستم في دين و لا دنيا. فرماهم أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد (1) . و في مقاتل الطالبيين: بعث يوسف بن عمر الريان بن سلمة في خيل الي دار الرزق فقاتلوا زيدا (عليه السلام) قتالا شديدا. و خرج من اهل الشام جرحي كثيرة و شلهم اصحاب زيد من دار الرزق حتي انتهوا الي المسجد الأعظم، فرجع اهل الشام مساء يوم الأربعاء و هم أسوأ شي ء ظنا، فلما كان غداة يوم الخميس دعي يوسف بن عمر الريان ابن سلمة فأنف به فقال له: اف لك من صاحب خيل. و دعا العباس بن سعد المري صاحب شرطته فبعثه الي اهل الشام فسار بهم حتي انتهوا الي زيد في دار الرزق، و خرج اليهم زيد و علي مجنبته نصر بن خزيمة و معاوية بن اسحاق، فلما رآهم العباس نادي: يا اهل الشام الأرض. فنزل ناس كثير. و اقتتلوا قتالا شديدا في المعركة... ثم ان زيدا (عليه السلام) هزمهم، و انصرفوا يومئذ بأسوء حال، فلما كان العشي عبأهم يوسف ثم سرحهم نحو زيد، و اقبلوا حتي التقوا فحمل عليهم زيد فكشفهم ثم تبعهم حتي اخرجهم الي السبخة ثم شد عليهم حتي

ص: 517


1- 867. عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 248 ح 1.

اخرجهم من بني سليم، فأخذوا علي المسناة ثم ظهر لهم زيد فيما بين بارق و بين دواس فقاتلهم قتالا شديدا و صاحب لوائه مني بني سعد بن بكر يقال له: عبدالصمد. قال سعيد بن خيثم: و كنا مع زيد في خمسمائة و اهل الشام أثنا عشر الفا - و كان بايع زيدا اكثر من اثني عشر الفا فغدروا - اذ فصل رجل من اهل الشام - من كلب، علي فرس رائع - فلم يزل شتما لفاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) فجعل زيد يبكي حتي ابتلت لحيته و جعل يقول: أما احد يغضب لفاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله)؟ أما احد يغضب لرسول الله (صلي الله عليه و آله)؟ اما احد يغضب لله؟ قال: ثم تحول الشامي عن فرسه فركب بغلة. قال: و كان الناس فرقتين: نظارة و مقاتلة. قال سعيد: فجئت الي مولي فأخذت منه مشملا كان معه ثم استترت من خلف النظارة حتي اذا صرت من ورائه [أي: من وراء الرجل الذي شتم الزهراء (سلام الله عليها)] ضربت عنقه و انا متمكن منه بالمشمل فوقع رأسه بين يدي بغلته ثم رميت جيفته عن السرج و شد أصحابه علي حتي كادوا يرهقونني، و كبر اصحاب زيد و حملوا عليهم و استنقذوني، فركبت فأتيت زيدا فجعل يقبل بين عيني و يقول: ادركت والله ثأرنا، ادركت والله شرف الدنيا و الآخرة و ذخرها، اذهب بالبغلة فقد نقلتكها. قال: و جعلت خيل اهل الشام لا تثبت لخيل زيد بن علي. فبعث العباس بن سعد الي يوسف بن عمر يعلمه ما يلقي من الزيدية و سأله ان يبعث اليه الناشبة، فبعث اليه سليمان بن كيسان في القيقانية و هم نجارية

ص: 518

و كانوا رماة فجعلوا يرمون أصحاب زيد. و قاتل معاوية بن اسحاق الانصاري يومئذ قتلا شديدا فقتل بين يدي زيد. و ثبت زيد في اصحابه حتي اذا كان عند جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسري، فنزل السهم في الدماغ، فرجع و رجع اصحابه و لا يظن اهل الشام انهم رجعوا الا للمساء و الليل. .... و انطلق ناس من أصحابه فجاؤا بطبيب يقال له: سفيان مولي لبني دواس. فقال له: انك ان نزعته من رأسك مت. قال: الموت ايسر علي مما انا فيه. قال: فأخذ الكلبتين فانتزعه فساعة انتزاعه مات (صلوات الله عليه). قال القوم: اين ندفنه؟ و اين نواريه؟ فقال بعضهم: نلبسه درعين ثم نلقيه في الماء. و قال بعضهم: لا، بل نحتز رأسه ثم نلقيه بين القتلي. قال: فقال يحيي بن زيد: لا والله لا يأكل لحم ابي السباع. و قال بعضهم: نحمله الي العباسية فندفنه فيها. فقبلوا رأيي. قال: فانطلقنا فحفرنا له حفرتين و فيها يومئذ ماء كثير حتي اذا نحن مكنا له دفناه ثم اجرينا عليه الماء، و معنا عبد سندي.... (1) . و قال الكلبي في كتاب جمهرة النسب: «ان زيد بن علي (رضي الله عنهما) أصابه سهم في جبهته فاحتمله أصحابه: و كان ذلك عند السماء. ثم دعوا الحجام فانتزع النشابة و سالت نفسه (رضي الله عنه) (2) .

ص: 519


1- 868. الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 5 ص 245 - 243.
2- 869. مقاتل الطالبيين: ص 97 - 95.

و فيه أيضا.... فدفنوه في ساقية ماء و جعلوا علي قبره التراب و الحشيش و أجروا الماء علي ذلك. و حضر الحجام مواراته فعرف الموضع، فلما أصبح مضي الي يوسف منتصحا له، فدله علي موضع قبره، فاستخرجه يوسف و بعث رأسه الي هشام. فكتب اليه هشام، «أن اصلبه عريانا». فصلبه يوسف كذلك. ففي ذلك يقول بعض شعراء بني امية يخاطب آل أبي طالب و شيعتهم من جملة أبيات: صلبنا لكم زيدا علي جذع نخلة و لم أر مهديا علي الجذع يصلب و بني تحت خشبه عمودا. ثم كتب هشام الي يوسف يأمره باحراقه و تذريته في الرياح. و كان ذلك في سنة احدي و عشرين، و قيل اثنتين و مائة (1) . و في وفيات الأعيان أيضا: و ذكر أبوبكر بن عياش و جماعة من الأخباريين أن زيدا أقام مصلوبا خمس سنين عريانا فلم ير أحد له عورة سترا من الله سبحانه و تعالي له. و قال بعضهم: ان العنكبوت نسج علي عورته و ذلك بالكناسة بالكوفة. فلما كان في أيام الوليد بن يزيد، و ظهر ولده يحيي بن زيد بخراسان و هي واقعة مشهورة. كتب الوليد الي عامله بالكوفة: «أن أحرق زيدا بخشبته». ففعل ذلك، و أذري رماده في الرياح علي شاطي ء الفرات» (2) .

ص: 520


1- 870. وفيات الأعيان: ج 5 ص 122.
2- 871. وفيات الأعيان: ج 6 ص 110 و 111.
بكاء الامام الصادق علي زيد الشهيد

علي مهزم بن أبي بردة الأسدي قال: دخلت المدينة - حدثان صلب زيد (رضي الله عنه) - قال: فدخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فساعة رآني قال: يا مهزم ما فعل زيد؟ قال: قلت: صلب. قال: أين؟ قال: قلت: في كناسة بني أسد. قال: أنت رأيته مصلوبا في كناسة بني أسد؟ قال: قلت: نعم. قال: فبكي حتي بكت النساء خلف الستور. ثم قال: أما والله لقد بقي لهم عنده طلبة ما أخذوها منه بعد. قال: فجعلت افكر و أقول: أي شي ء طلبتهم بعد القتل و الصلب؟ [قال]: فودعته و انصرفت، حتي انتهيت الي الكناسة فاذا أنه بجماعة، فأشرفت عليهم فاذا زيد قد أنزلوه من خشبته، يريدون أن يحرقوه قال: قلت: هذه الطلبة التي قال لي (1) . و عن فضيل الرسان قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) بعد ما قتل زيد بن علي (رحمة الله عليه) فادخلت بيتا جوف بيت فقال لي: يا فضيل قتل عمي زيد؟ قلت: نعم جعلت فداك. قال: رحمه الله، أما انه كان مؤمنا، و كان عارفا، و كان عالما،

ص: 521


1- 872. وفيات الأعيان: ج 6 ص 111.

و كان صدوقا، أما انه لو ظفر لوفي، أما انه لو ملك لعرف كيف يضعها. قلت: يا سيدي ألا انشدك شعرا؟ قال: أمهل، ثم أمر بستور فسدلت، و بأبواب، ففتحت، ثم قال: أنشد فأنشدته: لأم عمرو باللوي مربع طامسة أعلامه بلقع لما وقفت العيس في رسمه و العين من عرفانه تدمع ذكرت من قد كنت أهوي به فبت و القلب شجي موجع عجبت من قوم أتوا أحمدا بخطة ليس لها مدفع قالوا له لو شئت أخبرتنا الي من الغاية و المفزع اذا توليت و فارقتنا و منهم في الملك من يطمع فقال: لو أخبرتكم مفزعا ماذا عسيتم فيه أن تصنعوا؟ صنيع أهل العجل اذ فارقوا هارون فالترك له أودع فالناس يوم البعث راياتهم خمس فمنها هالك أربع قائدها العجل و فرعونها و سامري الامة المفظع و مخدع من دينه مارق أخدع (1) عبد لكع أوكع و راية قائدها وجهه كأنه الشمس اذا تطلع قال: فسمعت نحيبا من وراء الستر. فقال (عليه السلام): من قال هذا الشعر؟ قلت: السيد بن محمد الحميري.

ص: 522


1- 873. أمالي الطوسي: ج 2 ص 284.

فقال: رحمه الله... الي آخر الخبر (1) . و عن حمزة بن حمران قال: دخلت الي الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فقال لي: يا حمزة من أين أقبلت؟ قلت له: من الكوفة. قال: فبكي (عليه السلام) حتي بلت دموعه لحيته. فقلت له: يابن رسول الله مالك أكثرت البكاء؟ فقال: ذكرت عمي زيدا (عليه السلام) و ما صنع به فبكيت. فقلت له: و ما الذي ذكرت منه؟ فقال: «ذكرت مقتله و قد أصاب جبينه سهم فجاءه ابنه يحيي فانكب عليه، و قال له: أبشر يا أبتاه فانك ترد علي رسول الله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (صلوات الله عليهم)، قال: أجل يا بني، ثم دعا بحداد فنزع السهم من جبينه، فكانت نفسه معه، فجي ء به الي ساقية تجري عند بستان زائدة، فحفر له فيها و دفن و أجري عليه الماء، و كان معهم غلام سندي لبعضهم، فذهب الي يوسف بن عمر من الغد فأخبره بدفنهم اياه، فأخرجه يوسف بن عمر فصلبه في الكناسة أربع سنين ثم أمر به فاحرق بالنار و ذري في الرياح، فلعن الله قاتله و خاذله، و الي الله (جل اسمه) أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيه بعد موته، و به نستعين علي عدونا، و هو خير مستعان» (2) . و عن الفضيل بن يسار - في حديث له أنه دخل علي الامام الصادق (عليه السلام) - قال: فأقبل (عليه السلام) يبكي و دموعه تنحدر علي

ص: 523


1- 874. في بحارالأنوار: أجدع.
2- 875. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 569 ح 505. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 325.

ديباجتي خده كأنها الجمان ثم قال: يا فضيل شهدت مع عمي قتال أهل الشام؟ قلت: نعم. قال: فكم قتلت منهم؟ قلت: ستة. قال: فلعلك شاك في دمائهم؟ قال: فقلت: لو كنت شاكا ما قتلتهم. قال [الفضيل]: سمعته و هو يقول: أشركني الله في تلك الدماء، مضي - والله - زيد عمي و أصحابه شهداء، مثل ما مضي عليه علي بن أبي طالب و أصحابه (1) . و عن عبدالله بن سيابة قال - في حديث له أن الامام الصادق (عليه السلام) و صل اليه كتاب فيه خبر مقتل زيد فبكي (عليه السلام) - ثم قال: انا لله و انا اليه راجعون، عند الله تعالي أحتسب عمي، انه كان نعم العم، ان عمي كان رجلا لدنيانا و آخرتنا، مضي والله عمي شهيدا كشهداء استشهدوا مع رسول الله (صلي الله عليه و آله) و علي و الحسن و الحسين (صلوات الله عليهم) (2) . و في كتاب كشف الغمة: قال الصادق (عليه السلام): لأبي ولاد الكاهلي: أرأيت عمي زيدا؟ قال: نعم رأيته مصلوبا، و رأيت الناس بين شامت حنق (3) ، و بين

ص: 524


1- 876. أمالي الصدوق: ص 321 ح 3.
2- 877. أمالي الصدوق: ص 286 ح 1.
3- 878. عيون اخبار الرضا: ج 1 ص 252 ح 6.

محزوق محترق. فقال: أما الباكي فمعه في الجنة، و أما الشامت فشريك في دمه (1) . و عن عبدالرحمن بن سيابة قال: دفع الي أبوعبدالله الصادق جعفر بن محمد (عليهماالسلام) ألف دينار و أمرني ان اقسمها في عيال من أصيب مع زيد بن علي (عليه السلام) فقسمتها فأصاب عبدالله بن الزبير أخا الفضيل الرسان أربعة دنانير (2) . و عن أبي سعيد المكاري قال: كنا عند أبي عبدالله (عليه السلام) فذكر زيد و من خرج معه، فهم بعض أصحاب المجلس يتناوله (3) فانتهره أبوعبدالله (عليه السلام) و قال: مهلا ليس لكم أن تدخلوا فيما بيننا الا بسبيل خير، انه لم تمت نفس منا الا و تدركه السعادة قبل أن تخرج نفسه و لو بفواق ناقة. قال: قلت: و ما فواق ناقة؟ قال: حلابها (4) . و عن الحسن بن علي الوشاء، عمن ذكره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ان الله (عز ذكره) أذن في هلاك بني امية بعد احراقهم زيدا بسبعة أيام (5) . و عن داود الرقي قال: سأل أباعبدالله (عليه السلام) رجل و أنا

ص: 525


1- 879. الحنق: الغيظ. (مجمع البحرين).
2- 880. كشف الغمة: ج 2 ص 204.
3- 881. أمالي الصدوق: ص 275 ح 13.
4- 882. أي: بعض الحاضرين أن يقع فيه و يذكره بسوء، فزجره الامام (عليه السلام) و منعه.
5- 883. معاني الأخبار: ص 392 ح 39. و الحلاب: اللبن الذي تحلبه. و فواق ناقة: قدر ما بين الحلبتين (لسان العرب).

حاضر عن قول الله: «عسي الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا علي ما أسروا في أنفسهم نادمين» (1) .فقال: أذن في هلاك بني اميه بعد احراق زيد بسبعة أيام. (2) . و عن محمد بن علي الحلبي قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام): ان آل أبي سفيان قتلوا الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) فنزع الله ملكهم، و قتل هشام زيد بن علي فنزع الله ملكه، و قتل الوليد يحيي بن زيد (رحمه الله) فنزع الله ملكه، علي قتله ذرية رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) [عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين] (3) .

خلاصة البحث

لقد ذكرنا فيما مضي بعض ما يتعلق بزيد بن علي بن الحسين (صلوات الله عليهم). و لا يخفي - علي القارئ الكريم - ان الروايات الواردة في مدح زيد و شهادته هي اكثر عددا و أصح سندا و أوضح دلالة من الروايات الذامة فهي قليلة جدا و عليها علامة الاستفهام و التقية. و من المؤسف أن بعض المؤرخين من العامة أظهروا عداءهم و بغضهم لأهل بيت رسول الله (صلي الله عليه و آله) من خلال كتابتهم عن زيد و ثورته. فهذا ابن الاثير - المعروف ببغضه و عدائه لأهل البيت - يصف الذين

ص: 526


1- 884. الكافي: ج 8 ص 161 ح 165.
2- 885. سورة المائدة: آية 52.
3- 886. تفسير العياشي: ج 1 ص 325 ح 133.

خرجوا مع زيد بالاراذل و الاوباش، في الوقت الذي يذكر المحقق العلامة المرحوم السيد عبدالرزاق المقرم في كتابه (زيد الشهيد) قائمة باسماء الفقهاء و المحدثين و القضاة و الشخصيات الذين خرجوا مع زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) و كانوا معه. من هنا فالقول الأرجح هو توثيق زيد و تعظيم شأنه، و أن قيامه كان من أجل الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و انه كان يدعو الي الرضا من آل محمد (صلوات الله عليهم). و أما شخصية زيد في الكتب الرجالية المعتبرة عندنا فلا خلاف يعتد به في كونها شخصية معتدلة مستقيمة ممدوحة. و قد ذكرنا - في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) - أقوال العلماء و آراءهم حول زيد، فراجع. أيها القاري ء الكريم: لقد تلخص مما ذكرنا ما يلي: 1- ان خروج زيد الشهيد كان انتصارا لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) - كما سبقت الاشارة اليه - و ذلك ما روي عنه (رضوان الله عليه) قال:شهدت هشاما و رسول الله يسب عنده، فلم ينكر ذلك و لم بغير، فوالله لو لم يكن الا أنا و آخر لخرجت عليه (1) . 2- و ان خروجه كان من اجل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الطلب بثارات الامام الحسين (عليه السلام) و رفع الظلم عن رقاب المسلمين. 3- انه كان يدعو الي الرضا من آل محمد (عليهم السلام) و كان يهدف تسليم السلطة الي الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 527


1- 887. ثواب الأعمال: ص 261 ح 11.

4- ان اهل الكوفة بايعوه ثم غدروا به، كما عبر هو (رحمه الله) حيث قال: «فعلوها حسينية» أي: غدروا بي كما غدروا بالامام الحسين (عليه السلام). و كانت خاتمة حياته الشهادة في سبيل الله سبحانه، فسلام الله عليه يوم ولد و يوم استشهد و يوم يبعث حيا.

كلمة لابد منها

أيها القاري ء الكريم: ان الذين يراجع الكتب التاريخية المفصلة يجد أن أعداء أهل البيت (عليهم السلام) - سواء من الحكام ام غيرهم - كانوا لا يألون جهدا و لا يتركون فرصة تمر عليهم، الا و اغتنموها ضد أهل البيت. كانوا يراقبونهم مراقبة شديدة ليسجلوا عليهم كل ما يرونه في أقوالهم و أفعالهم و سلوكهم لعلهم يجدوا في حياة المعصومين من أهل البيت ثلمة أو عثرة أو خطأ يستطيعوا من خلالها النيل منهم و تشويه سمعتهم، و الوصول الي مرادهم. و عندما فشلوا بالنسبة الي الائمة الطاهرين عدلوا الي أبناء الائمة المعصومين و أحفادهم و من يرتبط بهم من أصحابهم لعلهم يجدوا فيهم مهمزا فينالوا منهم و يهرجوا ضدهم كوسيلة للنيل من قدسية آبائهم و اجدادهم المعصومين (عليهم السلام). و بلغ الأمر أن الحاكم - الأموي أو العباسي - كان يدعو بعض العلويين الي قصره و مجلس لهو و يغريه بالمال ليشاركه في لهوه، أو يأمر باحضار بعضهم - تحت العنف و التهديد - فينال من آبائه و أجداده الطاهرين أمام ندمائه و جلسائه.

ص: 528

و لهذا كان بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يمنع بعض العلويين من مجالسة الحكام و التردد اليهم، لئلا تتحقق اهدافهم الشيطانية. و من أراد تفصيل ما ذكرناه فليراجع المصادر التاريخية لمعرفة ذلك. هذا... و لم تسلم ثورات العلويين - من أبناء المعصومين (عليهم السلام) - من أحاديث الدس و التشوية و التشويش، فالكثير من الروايات الواردة في ذمهم روايات ضعيفة السند و في رواتها اناس وضاعون دجالون مدلسون، و هم معروفون في الكتب الرجالية بذلك. و أما الروايات المعتبرة الواردة في ذمهم فهي قليلة و ينبغي حملها علي التقية، فان الجو السياسي الخانق كان يفرض علي الامام المعصوم ان يذم بعض أصحابه أو يذم بعض أصحاب الثورات للمحافظة علي البقية الباقية من شر الحاكم الجائر، و قد استدل الامام الصادق (صلوات الله عليه) بهذه الآية الكريمة حينما ذم بعض اصحابه ذما شديدا: «أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فاردت أن اعيبها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا» (1) . طبعا... لا يعني كلامنا هذا تبرئة ساحة جميع العلويين من كل شين و باطل، أو تقديس جميع ثوراتهم و حركاتهم ضد الحكومتين الأموية و العباسية، بل المقصود هو الدفاع عن اولئك الذين وردت في مدحهم أحاديث كثيرة، و أنهم نهضوا و ثاروا ضد الظلم و بهدف الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أمثال زيد بن علي و الحسين بن علي شهيد فخ و من أشبههما. أيها القارئ الكريم: كانت هذه لمحة خاطفة عن زيد الشهيد، و قد

ص: 529


1- 888. بحارالأنوار: ج 46 ص 192.

ذكرناها هنا بمناسبة الحديث عن هشام بن عبدالملك، و الآن نعود لنواصل الحديث عن الحكام الامويين المعاصرين للامام الصادق (عليه السلام):

الوليد بن يزيد بن عبدالملك بن مروان

و أمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج الثقفي. ولي الأمر بعد هشام بعهد من يزيد بن عبدالملك، و تربع علي كرسي الحكم يوم الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الاول سنة 125 ه. و قيل لعشر خلون من ربيع. بقي في الحكم الي أن قتل يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر جمادي الآخرة سنة 126 ه. فكانت ولايته سنة واحدة و شهرين. قال ابن حزم: و كان الوليد فاسقا خليعا ماجنا. و قال ابن فضل الله في المسالك: الوليد بن يزيد فرعون ذلك العصر الذاهب، يأتي يوم القيامة فيورد قومه النار و يرد بهم العار، و بئس الورد المورود، رشق المصحف بالسهام، و لم يخش الآثام. و قال القلقشندي: و كان مصروف الهمة الي اللهو، و الاكل، و الشرب، و سماع الغناء. و قال ابن كثير: كان هذا الرجل مجاهرا بالفواحش، مصرا عليها، منتهكا محارم الله (عزوجل) لا يتحاشي من معصية، و ربما اتهمه بعضهم بالزندقة و الانحلال. و اشتدت النقمة علي الوليد، و ثار الناس عليه بقيادة ابن عمه يزيد بن الوليد، و قال له يزيد بن عنبسة: ما ننقم عليك في انفسنا، لكن ننقم عليك انتهاك حرم الله، و شرب الخمر، و نكاح امهات أولاد أبيك، و استخفافك

ص: 530

بأمر الله. و قتل يوم الخميس لليلتين من جمادي الاخرة سنة 126 ه. و حمل رأسه الي يزيد بن الوليد، فأمر أن يطاف به في البلد. و في أيامه قتل يحيي بن زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) و ذلك أنه خرج من الكوفة بعد مقتل أبيه زيد و توجه الي خراسان (1) .

يزيد الناقص

يزيد بن الوليد بن عبدالملك بن مروان. ولي الأمر بعد قتل الوليد سنة 126 ه. و بقي الي أن مات من نفس السنة، و مدة حكمه خمسة أشهر و ليلتان!! و انما سمي بالناقص لأنه نقص الزيادة التي كان الوليد زادها في عطيات الناس، و هي عشرة عشرة، و رد العطاء الي ما كان أيام هشام. و في أيامه اضطرب حبل الدولة أشد مما كان عليه من قبل، و وقع خلاف بين ولاة الأمصار، و ثار أهل حمص، و وثب أهل فلسطين، و وقعت الحرب بين أهل اليمامة و عاملهم، الي غير ذلك من الامور. و مات يزيد و لم يعهد لأحد من بعده. و كان مولاة قطن (و هو الموكل بخاتم الخلافة) قد افتعل عهدا علي لسان يزيد بن الوليد لأخيه ابراهيم بن الوليد، و دعا اناسا فشهدوا عليه زورا (2) .

ص: 531


1- 889. سورة الكهف آية 79.
2- 890. الامام الصادق و المذاهب الاربعة: ج 1 ص 130 - 127.

ابراهيم بن الوليد بن عبدالملك

ابن مروان، و امه ام ولد اسمها: نعمة. ولي الأمر بعد أخيه يزيد بعهد منه زوره الموكل بالخاتم و هو مولاهم قطن. و ذلك في ذي الحجة سنة 126 ه. و لم يتم له الامر لكثرة الثورات و اختلاف الكلمة، و سقوط هيبة الدولة، و كان اتباعه يسلمون عليه تارة بالخلافة و تارة بالامارة. و كانت مدة ولايته ثلاثة أشهر. و قيل شهرين و أيام. و قد خلع نفسه و سلم الأمر لمروان، و ذلك في صفر سنة 127 ه. و قيل: ان مروان قتله بعد أن ظفر به و صلبه و قتل جميع أصحابه، و قيل: غرق في الزاب أو أنه قتل فيه (1) .

مروان الحمار

مروان بن محمد بن مروان بن الحكم - المعروف بالحمار - و امه ام ولد من الاكراد اسمها لبابة، ولي الحكم في صفر سنة 127 ه الي أن قتل ببوصير من أرض مصر لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع سنة 132 ه. و به انتهي الحكم الاموي و انتقل الأمر الي بني العباس. و تفرق الامويون في البلاد، و كانوا طعمة للسيف و زالت دولتهم بعد أن حكمت البلاد احدي و تسعين سنة، و تسعة أشهر. و أول من ولي الحكم من بني العباس هو: أبوالعباس السفاح عبدالله ابن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، بويع في ربيع الآخر سنة 132 ه. و مات في ذي الحجة سنة 136 ه (2) .

ص: 532


1- 891. العقد الفريد: ج 3 ص 194.
2- 892. الامام الصادق و المذاهب الأربعة: ج 1 ص 131.

أيها القاري ء الكريم: كانت هذه لمحة سريعة عن تاريخ الحكام الأمويين (المروانيين)، و قد عرفت أن استيلاءهم علي منصة القيادة الاسلامية لم يكن بانتخاب المسلمين، و لا بالشوري و لا بالمؤهلات اللازمة للخليفة و لا بالنص الشرعي، و لا.. و لا... بل كان يكفي أن يوصي السابق الي اللاحق، و علي المسلمين أن يطيعوا، و الا فهم خوارج، مفسدون، يشقون عصا المسلمين، و يثيرون الفتنة.. و امثال هذه الكلمات التي كانوا يلصقونها بكل من لا يخضع لتلك الأنظمة العفنة.

ص: 533

من هو المهدي الموعود؟

الذين كانت اسماؤهم: (عبدالله) في التاريخ كثيرون لا يحصيهم الا الله تعالي، و من القطع و اليقين أن بعض هؤلاء سمي ابنا له: (محمدا) فصار محمد بن عبدالله. و من جملة هؤلاء هو عبدالله بن الحسن المثني الذي سمي أحد أبنائه محمدا، و هكذا المنصور الدوانيقي الذي كان اسمه ايضا عبدالله سمي أحد أبنائه محمدا. و لعل آلاف الناس - في ذلك الزمان - المسمين بعبدالله سموا أبناءهم محمدا. احتفظ بهذه المقدمة حتي تعرف النتيجة. الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) حول الامام المهدي (عليه السلام) المشهورة عند المسلمين - يومذاك - كانت كثيرة، و نبذة من تلك الأحاديث تعرف نسب الامام المهدي بأنه من ذرية الامام الحسين (عليه السلام). و في بعضها تصريح بسلسلة نسبه، و أنه ابن الامام الحسن بن الامام

ص: 534

علي الهادي بن الامام محمد الجواد بن الامام علي الرضا بن الامام موسي الكاظم، بن الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر، بن الامام علي زين العابدين، بن الامام الحسين بن الامام علي بن أبي طالب (عليهم السلام). و لكن بالرغم من هذه التصريحات من الرسول الأقدس (صلي الله عليه و آله) و الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ظهر علي منصة الظهور حديث مجهول، لا يعرف مصدره و أصله، و عليه علائم الاستفهام، و قد نسبوه الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) انه قال - علي زعمهم -: «المهدي من ولدي، اسمه اسمي، و اسم أبيه اسم أبي». فتكون النتيجة ان الامام المهدي اسمه: محمد بن عبدالله، لا محمد بن الحسن العسكري!! اذن، يحق لكل من كان اسمه عبدالله، و سمي ابنه محمدا أن يعتبر ابنه هو الامام المهدي الذي بشر به القرآن الكريم، و بشرت به الأحاديث. و علي هذا الأساس المنهار، اعتبر عبدالله بن الحسن ابنه محمدا هو الامام المهدي!!! و من مهازل التاريخ أن المنصور الدوانيقي - الذي لم يكن من ذرية رسول الله - سمي ابنه محمدا، و اعتبره المهدي، لأن اسم المنصور: عبدالله!! و أكثر سخرية من ذلك هو أن المنصور بايع ابنه لأنه المهدي!! أيها القاري ء الكريم: انما ذكرنا هذه الكلمة الموجزة، تمهيدا لما ستقرأه - في الفصل القادم - عن مؤتمر الأبواء و عن قيام محمد بن عبدالله المعروف بالنفس الزكية.

ص: 535

مؤتمر الأبواء

اشارة

الأبواء: اسم مكان بين المدينة المنورة و مكة المكرمة، يبعد عن المدينة ثلاثين ميلا فيه قبر السيدة آمنة بنت وهب والدة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم). و قد اجتمع رجال الثورة - من العلويين و العباسيين - في هذا المكان للتشاور حول انتخاب خليفة منهم حتي ينهضوا معه لتأسيس حكومة عادلة بعد تقويض حكومة الأمويين، و ذلك بعد ما قتل الخليفة الاموي: الوليد بن يزيد بن عبدالملك بن مروان، و ضعفت حكومة بني امية و تزلزلت أركانها. و كان فيهم - من العلويين - عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي أبي طالب (عليه السلام) و ابناه محمد و ابراهيم، و محمد الديباج و غيرهم. و من العباسيين: أبوجعفر المنصور، و أخواه أبوالعباس السفاح و ابراهيم، و عمهم صالح بن علي و غيرهم. ثم اتفقوا علي بيعة محمد بن عبدالله و ترشيحه للخلافة، و زعموا أنه المهدي الموعود. و فيما يلي نذكر بعض ما ذكره المؤرخون في هذا المجال:

ص: 536

في كتاب مقاتل الطالبيين: ان جماعة من بني هاشم أجتمعوا بالأبواء، و فيهم: ابراهيم [السفاح] بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس و أبوجعفر المنصور، و صالح بن علي، و عبدالله بن الحسن بن الحسن و ابناه: محمد و ابراهيم، و محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان. فقال صالح بن علي: قد علمتم أنكم الذين تمد الناس أعينهم اليهم، و قد جمعكم الله في هذا الموضع، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه اياها من أنفسكم، و تواثقوا علي ذلك حتي يفتح الله و هو خير الفاتحين. فحمد الله عبدالله بن الحسن، و أثني عليه ثم قال: قد علمتم أن ابني هذا هو المهدي، فهلموا لنبايعه. و قال أبوجعفر [المنصور]: لأي شي ء تخدعون أنفسكم، و والله لقد علمتم ما الناس الي أحد أطول أعناقا، و لا أسرع اجابة منهم الي هذا الفتي - يريد محمد بن عبدالله -. قالوا: قد - والله - صدقت، ان هذا لهو الذي نعلم، فبايعوا جميعا محمدا، و مسحوا علي يده. قال عيسي: و جاء رسول عبدالله بن الحسن الي أبي، أن ائتنا، فاننا مجتمعون لأمر. و أرسل بذلك الي جعفر بن محمد (عليهماالسلام). هكذا قال عيسي. و قال غيره: قال لهم عبدالله بن الحسن: لا نريد جعفرا، لئلا يفسد عليكم أمركم!! قال عيسي [بن عبدالله بن محمد] فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا عليه، و أرسل جعفر بن محمد (عليه السلام) محمد بن عبدالله (الأرقط)

ص: 537

ابن علي بن الحسين، فجئناهم، فاذا بمحمد بن عبدالله يصلي علي طنفسة رحل مثنية، فقلت: أرسلني أبي اليكم لأسألكم لأي شي ء اجتمعتم؟ فقال عبدالله [بن الحسن]: اجتمعنا لنبايع المهدي: محمد بن عبدالله!! قالوا: و جاء جعفر بن محمد، فأوسع له عبدالله بن الحسن الي جنبه، فتكلم بمثل كلامه. فقال جعفر: لا تفعلوا فان هذا الأمر لم يأت بعد، ان كنت تري - يعني عبدالله - أن ابنك - هذا - هو المهدي فليس به، و لا هذا أوانه، و ان كنت انما تريد أن تخرجه غضبا لله، و ليأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر، فانا - والله - لا ندعك و أنت شيخنا، و نبايع ابنك في هذا الأمر. فغضب عبدالله [بن الحسن] و قال: علمت خلاف ما تقول، و والله ما أطلعك الله علي غيبه، و لكن يحملك علي - هذا - الحسد لابني!! فقال: والله ما ذاك يحملني و لكن هذا و اخوته و أبناؤه دونكم. و ضرب بيده علي ظهر أبي العباس [السفاح]. ثم ضرب بيده علي كتف عبدالله بن الحسن، و قال: انها [أي السلطة] - والله - ما هي اليك، و لا الي ابنيك، و لكنها لهم [أي للعباسيين] و ان ابنيك لمقتولان. ثم نهض و توكأ علي يد عبدالعزيز بن عمران الزهري فقال (عليه السلام): أرأيت صاحب الرداء الأصفر؟ - يعني أباجعفر [المنصور] -. قال: نعم. قال: فانا - والله - نجده يقتله (1) .

ص: 538


1- 893. الامام الصادق و المذاهب الأربعة:ج 1 ص 131 و 132.

قال له عبدالعزيز: أيقتل محمدا؟ قال: نعم. قال: فقلت - في نفسي -: حسده و رب الكعبة. قال: ثم والله ما خرجت من الدنيا حتي رأيته قتلهما. قال: فلما قال جعفر ذلك انفض القوم فافترقوا، و لم يجتمعوا بعدها. و تبعه [أي: الامام] عبدالصمد، و أبوجعفر [المنصور] فقالا: يا أباعبدالله أتقول هذا؟ (1) . قال: نعم: أقوله - والله - و أعلمه (2) . و عن علي بن عمرو، عن ابن داحة أن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال لعبدالله بن الحسن: ان هذا الأمر والله ليس اليك، و لا الي ابنيك، و انما هو لهذا - يعني السفاح - ثم لهذا - يعني المنصور - ثم لولده من بعده، لا يزال فيهم حتي يؤمروا الصبيان، و يشاوروا النساء. فقال عبدالله: والله يا جعفر ما أطلعك الله علي غيبه، و ما قلت هذا الا حسدا لا بني. فقال: لا والله ما حسدت ابنك، و ان هذا - يعني أباجعفر - يقتله علي أحجار الزيت ثم يقتل أخاه بعده بالطفوف و قوائم فرسه في الماء. ثم قال (عليه السلام) مغضبا يجر رداءه فتبعه أبوجعفر و قال: أتدري ما قلت يا أباعبدالله؟ قال: اي والله أدريه، و انه لكائن.

ص: 539


1- 894. أي نجد في الكتب الموجودة عندنا ان المنصور يقتل محمد بن عبدالله.
2- 895. أي أتقول: بأن السلطة ستكون للعباسيين؟.

قال: فحدثني من سمع أباجعفر يقول: فانصرفت لوقتي فرتبت عمالي و ميزت اموري، و تمييز مالك لها...) الي آخره (1) . أيها القاري ء: سوف نتحدث عن محمد بن عبدالله بن الحسن (النفس الزكية) في فصل قادم ان شاء الله.

ص: 540


1- 896. مقاتل الطالبيين: ص 140. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 276.

الامام الصادق و العباسيون

اشاره

عندما لاحت علامات سقوط دولة بني امية و استعد العباسيون للثورة حاول ثوار بني العباس أن يستميلوا الامام الصادق (عليه السلام) اليهم كي يدعو الناس اليهم و يصوت باسمهم. الا أن الامام الصادق (عليه السلام) كان يدرك جيدا أن هؤلاء لا يصلحون للحكم، و أنهم - ان تسلموا السلطة - فسوف يستأثرون بالحكم و يرتكبون ابشع الجرائم و أفجع المآسي من أجل المحافظة علي كراسيهم، و لهذا رفض (عليه السلام) أن يتعاون معهم بأي وجه. و قد أخبر (عليه السلام) عن سيرتهم في دولتهم الآتية... فقد روي حماد بن عثمان عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ولد المرداس (1) من تقرب منهم أكفروه و من تباعد منهم أفقروه و من ناواهم قتلوه (2) و من تحصن منهم أنزلوه و من هرب منهم أدركوه، حتي تنقضي

ص: 541


1- 897. مقاتل الطالبيين: ص 172. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 160.
2- 898. ولد المرداس كناية عن العباس و هذا التعبير للتقية و الاخفاء، و الوجه فيه أن عباس بن مرداس السلمي صحابي شاعر فلعل المراد ولد سمي ابن المرداس. (مرآة العقول).

دولتهم (1) . و فيما يلي نذكر بعض ما جري بين الامام (عليه السلام) و رجال الثورة العباسية في بداية الثورة كما نذكر عرضا خاطفا عن تصرفات الثوار العباسيين قبل استلامهم الحكم و بعده:

ابوسلمة الخلال

و اسمه: حفص بن سليمان، و هو الذي عرض الخلافة علي الامام الصادق (عليه السلام) فأبي و امتنع و أخبره ان السلطة ستكون لأبي العباس السفاح ثم لأخيه المنصور ثم لأولاده من بعده... و قد تسأل: لماذا رفض الامام قبول الخلافة؟ الجواب: اولا: لأن خلافته و امامته ثابتة من الله سبحانه، و بنص من رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لا بترشيح من أبي سلمة الخلال و غيره. و من الذي منح اباسلمة حق توزيع الخلافة علي هذا و ذاك؟!! و ما هي شرعية أبي سلمة؟! و هل له الولاية للتصدي لهذا الأمر الخطير؟!! كلا... و ألف كلا. اذن: الامام الصادق (عليه السلام) هو الامام و هو الخليفة الشرعي لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) بأمر من الله لا من هذا و ذاك. ثانيا: لأنه (عليه السلام) كان يعلم - بعلم الامامة الالهي - ان السلطة ستكون لبني العباس... و بالتحديد لأبي العباس السفاح ثم لأخيه...

ص: 542


1- 899. ناواهم أي عاداهم.

و أولاده - كما ذكرنا قبل قليل -. اذن: كل نشاط و محاولته من الآخرين للوصول الي السلطة ستكون فاشلة... كالهواء في الشبك. ثالثا: لأنه (عليه السلام) كان يعلم أن هؤلاء لا يريدونه الا ليكون جسرا لهم للوصول الي السلطة، لم كان يتمتع به (عليه السلام) من مكانة سامية بين الناس، فمنهم من يعتقد بامامته و منهم من يعتقد بصلاحه و عبادته. فالجميع سوف يصوتون باسمه، و يتسلم الامام السلطة ثم يتآمر العباسيون عليه و يقتلونه و يستبدون بالحكم من بعده. فلماذا يجعل الامام الصادق (عليه السلام) نفسه و شخصيته وسيلة لوصول الآخرين الي الحكم ممن لا شرعية له و لا اهلية؟!! و قد يقول قائل: كان بامكان الامام (عليه السلام) أن يقوم بتصفية خصومه - بعد أن تستقر له الامور -. الجواب: كلا... ان الامام الصادق (عليه السلام) - كجده الاكبر الامام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) - لا يبيع دينه بدنياه، فلا يقوم بالأعمال المتعارفة عند الحكام و الرؤساء من تصفية الخصوم و القضاء علي كل من قد يشكل وجوده خطرا عليه. لأن هذه العاب شيطانية و اعمال ارهابية، و تصرفات محرمة لا توافق عليها الشريعة الاسلامية. اذن: الأفضل أن يرفض الامام قبول السلطة المقترحة عليه... منذ البداية. أيها القاري ء الكريم: بعد هذه الكلمة الموجزة... نذكر بعض ما ذكره

ص: 543

المؤرخون حول وصول العباسيين الي الحكم: في كتاب الفرح بعد الشدة: ان أباسلمة الخلال لما قوي الدعاة، و شارفوا العراق، و قد ملكوا خراسان و ما بينها و بين العراق، استدعي بني العباس فسترهم في منزله بالكوفة، و كان له سرداب فجعل فيه جميع من كان حيا - في ذلك الوقت - من ولد عبدالله بن العباس، و فيهم السفاح و المنصور [الدوانيقي] و عيسي بن موسي. و هو يراعي الأخبار. و كان الدعاة يأمرون بقصده اذا ظهروا و غلبوا علي الكوفة ليصرفهم الامام فيسلمون الأمر اليه. فلما أوقع قحطبة و ابن هبيرة الوقعة العظيمة علي الفرات، و غرق قحطبة، و انهزم ابن هبيرة و لحق بواسط و تحصن بها، و دخل ابنا قحطبة الكوفة بالعسكر كله، قالوا لأبي سلمة: «أخرج الينا الامام». فدافعهم، و قال: لم يحضر الوقت الذي يجوز فيه ظهور الامام. و أخفي الخبر عن بني العباس، و عمل علي نقل الأمر عنهم الي ولد فاطمة (رضي الله عنهم) و كاتب جماعة منهم، فتأخروا عنه، و ساء ظن بني العباس، فاحتالوا حتي أخرجوا مولي لهم أسود كان معهم في السرداب، و قالوا له: اعرف لنا الأخبار. فصار يعرفهم أن قحطبة غرق، و ان ابن هبيرة انهزم، و ان ابني قحطبة قد دخلا الكوفة بالعسكر منذ كذا و كذا. فقالوا: اخرج، و لا تعرض لا بني قحطبة، و أعلمها بمكاننا، و مرهما أن يكسبا الدار علينا، و يخرجانا. فخرج المولي - و كان حميد بن قحطبة عارفا به - فتعرض له، فلما رآه أعظم رؤيته و قال: ويلك! ما فعل سادتنا، و أين هم؟

ص: 544

فخبره بخبرهم، و أدي اليه رسالتهم. فركب في قطعة من الجيش - و أبوسلمة غافل - فجاء حتي ولج الدار، و أراه الأسود السرداب فدخل و معه نفر من الجيش فقال: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته. فقالوا: و عليكم السلام. فقال: أيكم ابن الحارثية؟ و كانت [الحارثية] ام أبي العباس [السفاح] عبدالله بن محمد بن علي ابن عبدالله. و كان ابراهيم بن محمد الذي يقال له: الامام. لما بث الدعاة قال لهم: «ان حدث بعدي حدث فالامام ابن الحارثية، الذي معه العلامة، و هي: «و نريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين - و نمكن لهم في الأرض - الي قوله -: ما كانوا يحذرون» (1) . قال: فلما قال ابن قحطبة: أيكم ابن الحارثية؟ ابتدره أبوالعباس [السفاح] و أبوجعفر [الدوانيقي] كلاهما يقول: أنا ابن الحارثية. فقال ابن قحطبة: فأيكما معه العلامة؟ فقال أبوجعفر [الدوانيقي]: فعلمت أني قد اخرجت من الأمر، لأنه لم يكن معي علامة. فقال أبوالعباس: «و نريد أن نمن...» و تلا الآية، فقال له حميد بن قطحبة:

ص: 545


1- 900. الكافي: ج 8 ص 341 ح 539.

السلام عليك يا أميرالمؤمنين و رحمة الله و بركاته، مد يدك. فبايعه، ثم انتضي سيفه و قال: بايعوا أميرالمؤمنين!! فبايعه اخوته و بنو عمه و عمومته، و الجماعة الذين كانوا معه في السرداب، فأخرجه الي المنبر بالكوفة، و أجلسه عليه، فحصر [عجز] أبوالعباس عن الكلام، فتكلم عنه عمه: داود بن علي. فقام دونه عمه علي المنبر بمرقاة. و جاء أبوسلمة، و قد استوحش و خاف، فقال حميد: يا أباسلمة! زعمت أن الامام لم يقدم بعد؟! فقال أبوسلمة: انما أردت أن ادفع بخروجهم الي أن يهلك مروان، و ان كانت لهم كرة لم يكونوا قد عرفوا بها فيهلكوا، و ان هلك مروان أظهرت أمرهم علي ثقة. فأظهر أبوالعباس قبول هذا العذر منه، و أقعده الي جانبه، ثم دبر عليه بعد مدة حتي قتله. و قد دار هذا الخبر علي غير هذا السياق، فقالوا: قدم أبوالعباس السفاح و أهله علي أبي سلمة سرا، فستر أمرهم، و عزم أن يجعلها شوري بين ولد علي و العباس، حتي يختاروا منهم من أرادوا. ثم قالوا: خاف ان يتفق الأمر فعزم أن يعدل بالأمر الي ولد الحسن و الحسين (رضي الله عنهم) و هم ثلاثة: 1- جعفر بن محمد بن علي بن الحسين. 2- و عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. 3- و عمر بن علي بن الحسين.

ص: 546

و وجه بكتبهم مع رجل من مواليهم من ساكني الكوفة، فبدأ بجعفر ابن محمد، فلقيه ليلا، فأعلمه أني رسول أبي سلمة، و ان معه كتابا اليه. فقال: ما أنا و أبوسلمة؟ و هو شيعة لغيري! فقال له الرسول: تقرأ الكتاب، و تجيب عنه بما رأيت. فقال جعفر - لخادمه -: قرب من السراج، فقربه، فوضع عليه كتاب أبي سلمة فأحرقه. فقال [الرسول]: ألا تجيب عنه؟ فقال: قد رأيت الجواب!! ثم أتي [الرسول] عبدالله بن الحسن، فقبل كتابه، و ركب الي جعفر، فقال جعفر: أمر جاء بك - يا أبامحمد - لو أعلمتني لجئتك!؟ فقال: و أي أمر هو؟! مما يجل عن الوصف! فقال: و ما هو؟ قال: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني الي الأمر، و يراني أحق الناس به! و قد جاء به شيعتنا من خراسان! فقال له جعفر (رضي الله عنه): و متي صاروا شيعتك؟ أنت وجهت أبامسلم الي خراسان، و أمرته بلبس السواد؟ أتعرف أحدا منهم باسمه و نسبه؟ قال: لا. قال: كيف يكونون شيعتك و انت لا تعرف واحدا منهم، و لا يعرفونك؟ فقال عبدالله: هذا الكلام منك لشي ء. فقال جعفر: قد علم الله تعالي اني اوجب النصح علي نفسي لكل

ص: 547

مسلم، فكيف أدخره عليك؟ فلا تمنين نفسك الاباطيل، فان هذه الدولة ستتم لهؤلاء القوم، و ما هي لأحد من ولد أبي طالب، و قد جاءني مثل ما جاءك. فانصرف [عبدالله] غير راض بما قال له. و أما عمر بن علي بن الحسين، فرد عليه الكتاب، و قال: لا أعرف من كتبه! قال: و أبطأ أبوسلمة علي أبي العباس و من معه، فخرج أصحابه يطوفون بالكوفة فلقي حميد بن قحطبة و محمد بن صول أحد مواليهم، فعرفاه، لأنه كان يحمل كتب محمد بن علي، و ابراهيم بن محمد اليه، فسألاه عن الخبر، فأعلمهما أن القوم قد قدموا، و انهم في سرداب، فصارا الي الموضع، فسلما عليهم، و قالا: أيكما عبدالله؟ فقال المنصور و أبوالعباس: كلانا عبدالله. فقالا: أيكما ابن الحارثية؟ فقال أبوالعباس: أنا. فقالا: السلام عليك يا أميرالمؤمنين و رحمة الله و بركاته. و دنوا فبايعوه، و احضروه الي المسجد الجامع، فصعد علي المنبر، فحصر و تكلم عنه عمه داود بن علي. و قام دونه بمرقاة (1) .

ابومسلم الخراساني

و اسمه: عبدالرحمن - و قيل: عثمان، و قيل: ابراهيم - بن مسلم الخراساني، و هو من رجال الثورة العباسية و اعمدتها الرئيسية... و قد قاد

ص: 548


1- 901. سورة القصص آية 5 و 6.

الجيوش و العساكر من خراسان الي العراق و كان له دور كبير في نجاح الثورة.. و لكن المنصور العباسي قضي عليه و قتله حينما احس بخطر وجوده علي حكومته!!. و كان الامام الصادق (عليه السلام) قد اخبر عن مستقبل أبي مسلم قبل سنوات عديدة من قيام الثورة. فقد روي عن بشير النبال قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) اذ استأذن عليه رجل فأذن له، ثم دخل فجلس. فقال له أبوعبدالله (عليه السلام): ما أنقي ثيابك هذه و ألينها!! قال: هي لباس بلادنا، ثم قال: جئتك بهدية، فدخل غلام و معه جراب فيه ثياب فوضعه، ثم تحدث ساعة، ثم قام. [ف] قال أبوعبدالله (عليه السلام): ان بلغ الوقت و صدق الوصف فهو صاحب الرايات السود من خراسان يتقعقع (1) . ثم قال لغلام قائم علي رأسه: الحقه فاسأله ما اسمك؟ فقال: عبدالرحمن. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): عبدالرحمن والله - ثلاث مرات - [هو] هو و رب الكعبة. قال بشير: فلما قدم أبومسلم جئت حتي دخلت عليه، فاذا هو الرجل الذي دخل علينا (2) . و وصف المدائني أبامسلم فقال: «كان قصيرا أسمر جميلا، حلوا نقي البشرة، أحور العين عريض الجبهة، حسن اللحية وافرها، طويل

ص: 549


1- 902. الفرج بعد الشدة: ص 347.
2- 903. القعقعة: حكاية صوت السلاح و نحوه. (مجمع البحرين).

الشعرة طويل الظهر، قصير الساق و الفخذ. خافض الصوت، فصيحا بالعربية و الفارسية، حلو المنطق، رواية للشعر، عالما بالأمور، لم ير ضاحكا و لا مازحا الي في وقته. و لا يكاد يقطب في شي ء من أحواله. تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور. و تنزل به الحوادث الفادحة. فلا يري مكتئبا. و اذا غضب لم يستفزه الغضب... قتل في دولته: ستمائة ألف صبرا. فقيل لعبدالله بن المبارك: «أبومسلم خير أو الحجاج؟». قال: «لا أقول ان أبامسلم كان خيرا من أحد، و لكن الحجاج كان شرا منه». و ذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار - في باب (الأسنان و ذكر الصبا و الشباب) - أن أبامسلم نهض للدعوة و هو ابن ثماني عشرة سنة، و قتل و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة.... و لما ظهر بخراسان، كان أول ظهوره بمرو يوم الجمعة لتسع بقين - و قال الخطيب: لخمس بقين - من شهر رمضان، سنة تسع و عشرين و مائة. و الوالي بخراسان يومئذ نصر بن سيار الليثي، من جهة مروان بن محمد. آخر ملوك بني أمية. فكتب نصر الي مروان: «أري جذعا ان يثن لم يقو ريض عليه، فبادر قبل أن ينثني الجذع» و كان مروان مشغولا عنه بغيره من الخوارج، بالجزيرة الفراتية و غيرها - منهم الضحاك بن قيس الحروري - و غيره فلم يجبه عن كتابه. و أبومسلم يوم ذاك في خمسين رجلا...

ص: 550

فانتظر ابن سيار ما يكون من مروان. فجاءه جوابه و هو يقول: انا حين وليناك خراسان، و الشاهد يري ما لا يري الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك. فقال نصر حين أتاه الجواب: قد أعلمكم أن لا نصر عنده. ثم كتب ثانيا: فأبطأ عنه الجواب: و اشتدت شوكة أبي مسلم، فهرب نصر من خراسان و قصد العراق، فمات في الطريق بناحية ساوة... و في يوم الثلاثاء - لليلتين بقينا من المحرم سنة اثنتين و ثلاثين و مائة - و ثب أبومسلم علي علي بن جديع بن علي الكرماني، بنيسابور فقتله بعد أن قيده و حبسه، و قعد في الدست و سلم عليه بالامرة و صلي و خطب و دعا للسفاح أبي العباس، عبدالله بن محمد أول خلفاء بني العباس. و صفت له خراسان و انقطعت عنها ولاية بني أمية. ثم سير العساكر لقتال مروان بن محمد. و ظهر السفاح بالكوفة، و بويع بالخلافة ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر. و قيل: الأول - سنة اثنتين و ثلاثين و مائة، و قيل غير هذا التاريخ. و تجهزت العساكر الخراسانية و غيرها، من جهة السفاح لقصد مروان بن محمد. و مقدمها عبدالله بن علي - عم السفاح - فتقدم مروان الي الزاب، النهر الذي بين الموصل و اربيل. و كانت الوقعة علي كشاف - بضم الكاف و هي قرية هناك - و انكسر عسكر مروان و هرب الي الشام. فتبعه عبدالله بجيوشه، فهرب الي مصر... فاستقل السفاح بالخلافة و خلا له الوقت من منازع. و كان

ص: 551

السفاح كثير التعظيم لأبي مسلم لما صنعه و دبره. و لما مات السفاح... و تولي الخلافة أخوه أبوجعفر المنصور... صدرت من أبي مسلم أسباب و قضايا غيرت قلب المنصور عليه، فعزم علي قتله. و بقي حائرا بين الاستبداد برأيه في أمره و الاستشاره. فقال يوما لسلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي: ما تري في أمر أبي مسلم؟. قال: «لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا» (1) . فقال: حسبك يابن قتيبة، لقد أودعتها أذنا واعية. و كان أبومسلم قد حج، فلما عاد نزل الحيرة التي عند الكوفة... فلم يزل المنصور يخدعه بالرسائل حتي أحضره اليه. و رتب المنصور له جماعة يقفون وراء السرير الذي خلف أبي مسلم. فاذا عاتبه لا يظهرون، فاذا ضرب يدا علي يد ظهروا و ضربوا عنقه. ثم جلس المنصور، و دخل عليه أبومسلم فسلم فرد عليه و أذن له في الجلوس، و حادثه ثم عاتبه. و قال: فعلت و فعلت. فقال أبومسلم: «ما يقال هذا لي بعد سعيي و اجتهادي و ما كان مني». فقال له: يابن الخبيثة انما فعلت ذلك بجدنا و حظنا، و لو كان مكانك أمة سوداء لعملت عملك، ألست الكاتب الي تبدأ بنفسك قبلي؟ ألست الكاتب تخطب عمتي آسية و تزعم أنك ابن سليط بن

ص: 552


1- 904. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 645 ح 54. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 109.

عبدالله بن العباس؟، لقد ارتقيت - لا أم لك - مرتقي صعبا. فأخذ أبومسلم بيده يعركها و يقبلها و يعتذر اليه. فقال له المنصور، و هو آخر كلامه: قتلني الله ان لم أقتلك. ثم صفق باحدي يديه علي الأخري. فخرج اليه القوم و خبطوه بسيوفهم، و المنصور يصيح: اضربوا قطع الله أيديكم. و كان أبومسلم قد قال عند أول ضربة: استبقني يا أميرالمؤمنين لعدوك. قال: لا أبقاني الله أبدا اذا، و أي عدو أعدي منك؟. و لما قتله أدرجه في بساط. فدخل عليه جعفر بن حنظلة فقال له المنصور: ما تقول في أمر أبي مسلم؟. فقال: يا أميرالمؤمنين، ان كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم أقتل ثم أقتل. فقال المنصور: وفقك الله، ها هو في البساط. فلما نظر اليه قتيلا قال: يا أميرالمؤمنين، عد هذا اليوم أول خلافتك. فأنشد المنصور: فألقت عصاها و استقرت بها النوي كما قر عينا بالاياب المسافر (1)

ابوالعباس السفاح

و اسمه: عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، و كنيته أبوالعباس، و أمه ريطة بنت عبيدالله بن عبدالله بن عبدالمدان بن الديان الحارثي، بويع يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول:

ص: 553


1- 905. سورة الأنبياء آية 22.

و قيل: يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 132 ه. و لما بويع أبوالعباس صعد المنبر في اليوم الذي بويع فيه، و كان حييا، فارتج عليه، فأقام مليا لا يتكلم، فصعد داود بن علي، فقام دونه بمرقاة، فحمد الله و أثني عليه و صلي علي محمد، و قال: أيها الناس! الآن تقشعت حنادس الفتنة، و انكشف غطاء الدنيا، و أشرقت أرضها و سماؤها، و طلعت الشمس من مطلعها، و عاد السهم الي النزعة، و أخذ القوس باريها، و رجع الحق الي نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة بكم، و الرحمة لكم، و التعطف عليكم. ألا و ان ذمة الله و ذمة رسوله و ذمة العباس لكم أن نسير، فنحكم في الخاصة و العامة منكم بالكتاب الله و سنة رسوله. و انه والله أيها الناس! ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولي به من علي بن أبي طالب، و هذا القائم خلفي!! فاقبلوا - عباد الله - ما آتاكم بشكر، و احمدوه علي ما فتح لكم... الي آخر كلامه. ثم نزل فتكلم أبوالعباس، فحمد الله و أثني عليه، و صلي علي محمد، و وعد من نفسه خيرا ثم نزل. و ولي أبوالعباس الكوفة داود بن علي، فكان أول من ولاه أبوالعباس، و وجه بأخيه أبي جعفر [المنصور] الي خراسان لأخذ البيعة علي أبي مسلم، فصار الي مرو في ثلاثين فارسا، فلم يحتفل به أبومسلم، و لم يلتقه، و استخف به، فأنصرف واجدا عليه، و شكاه الي أبي العباس، و أعلمه ما نال منه، و كثر عليه في بابه. فقال أبوالعباس: فلما الحيلة فيه، و قد عرفت موضعه من الامام و من ابراهيم، و هو صاحب الدولة و القائم بأمرها؟

ص: 554

... و قدم عبدالله بن علي دمشق في شهر رمضان سنة 132، فحاصرها، و استغاث الناس، و وجهوا اليه بيحيي بن بحر يطلب لهم الأمان، فخرج اليه، فسأله الأمان، فأجابه الي ذلك، فدخل فنادي في الناس الأمان، فخرج خلق من الخلق.... و صار عبدالله بن علي الي المسجد الجامع، فخطبهم خطبة مشهورة يذكر فيها بني أمية و جورهم و عداوتهم، و أنهم اتخذوا دين الله هزوا و لعبا، و يصف ما استحلوا من المحارم و المظالم و المآثم، و ما ساروا به في أمة محمد من تعطيل الأحكام و ازدراء الحدود و الاستئثار بالفي ء، و ارتكاب القبيح، و انتقام الله منهم، و تسليط سيف الحق عليهم، ثم نزل. و يقال ان أباالعباس كتب اليه: خذ بثأرك من بني أمية، ففعل بهم ما فعل، و وجه فنبش قبور بني أمية، فأخرجهم و أحرقهم بالنار، فما ترك منهم أحدا، و لما صار الي رصافة أخرج هشام بن عبدالملك، و وجده في مغارة علي سريره، قد طلي بماء يبقيه، فأخرجه، فضرب وجهه بالعمود، و أقامه بين العقابين فضربه مائة و عشرين سوطا، و هو يتناثر، ثم جمعه فحرقه بالنار. و قال عبدالله عند ذلك: ان أبي - يعني علي بن عبدالله - كان يصلي يوما، و عليه ازار و رداء، فسقط الرداء عنه، فرأيت في ظهره آثار السياط، فلما فرغ من صلاته قلت: يا أبه! جعلني الله فداءك، ما هذا؟ فقال: ان الأحول، يعني هشاما، أخذني ظلما، فضربني ستين سوطا، فعاهدت الله ان ظفرت به أن أضربه بكل سوط سوطين.... .... و قدم عبدالله بن الحسن بن الحسن علي أبي العباس، و معه

ص: 555

أخوه الحسن بن الحسن بن الحسن، فأكرمه أبوالعباس، و بره، و آثره و وصله الصلات الكثيرة، ثم بلغه عن محمد بن عبدالله أمر كرهه فذكر ذلك لعبدالله بن الحسن، فقال: يا أميرالمؤمنين! ما عليك من محمد شي ء تكرهه، و قال له الحسن بن الحسن أخو عبدالله بن الحسن: يا أميرالمؤمنين! أنتكلم بلسان الثقة و القرابة أم علي جهة الرهبة للملك، و الهيبة للخلافة؟ فقال: بل بلسان القرابة. فقال: أرأيت، يا أميرالمؤمنين، ان كان الله قضي لمحمد أن يلي هذا الأمر، ثم أجلبت، و أهل السموات و الأرض معك، أكنت دافعا عنه؟ قال: لا! قال: فان كان لم يقض ذلك لمحمد، ثم اجلب محمد، و أهل السموات و الأرض معه، أيضرك محمد؟ قال: لا والله! و لا القول الا ما قلت. قال: فلم تنغص هذا الشيخ نعمتك عليه، و معروفك عنده؟ قال: لا تسمعني ذاكرا له بعد اليوم. ... و اعتل أبوالعباس، و توفي يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 136 ه، و هو ابن ست و ثلاثين سنة، و صلي عليه اسماعيل بن علي - و قيل عيسي بن علي - و دفن في الأنبار في قصره، و كانت ولايته أربع سنين و تسعة أشهر (1) . أيها القارئ الكريم: قد ذكرنا - في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) - بعض التفاصيل عن أبي العباس السفاح و ما قام به بعد الثورة، و قد اختصرنا الكلام هنا، لعدم الحاجة الي التفصيل.

ص: 556


1- 906. وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 3 ص 145.

الامام الصادق في العراق

لقد قام السفاح و المنصور الدوانيقي - من حيث لا يشعران - بخدمة كبيرة للامام الصادق (عليه السلام) و الامامة و التشيع، و ذلك بسبب جلب الامام من المدينة المنورة الي العراق (الحيرة و الكوفة) مرات عديدة. و لقد كانت للامام الصادق (عليه السلام) شعبية عظيمة عند أهل العراق، و بالاخص مدينة الكوفة ذات التاريخ الطويل العريض، و لو لا جلب الامام الي هاتين البلدتين لما كان الامام يتجشم و عثاء الطريق، و صعوبة السفر اليهما بصورة مكررة. فلقد كانت الكوفة مقر خلافة الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و كان أكثر جيوشه في حروبه: في البصرة و صفين و النهروان من أهل الكوفة. و لقد ربي الامام أميرالمؤمنين (عليه السلام) عددا غير قليل من أجلاء أصحابه تربية أهلتهم لتلقي العلوم الخاصة منه (عليه السلام)

ص: 557

بالاضافة الي علومهم الدينية كالفقه و التفسير و غيرهما. و لهذا امتازوا علي غيرهم من الناس علي مر القرون. فصارت الكوفة عاصمة الشيعة و التشيع، و مركز انطلاقهم. و لقد ركز معاوية بن أبي سفيان جهوده للقضاء علي الشيعة و آثارهم في الكوفة، فارسل اليهم دعيا من الأدعياء، و هو زياد بن أبيه - بعد أن استلحقه معاوية بأبيه أبي سفيان، في قضية يخجل القلم عن سردها، من اعتراف أبي مريم السلولي - القواد، صاحب حانة الخمارين - بمجيي ء أبي سفيان الي الحانة، و طلبه من القواد احضار بغية ليقضي معها ليلته فجورا، فجاء اليه ب (سمية) أم زياد و هي ذات بعل، و حملت بزياد من أبي سفيان، و بعد سنوات صار زياد، الشبل الاعز لأبي سفيان، و أخا لمعاوية، فسبحان من يجمع الأشباه -!! و من الطبيعي: أن يفرح زياد بذلك الاستلحاق، لأنه عرف الرجل الذي وضعه في رحم امه، بعد أن كان مجهول الأب، و استراح من عقدة الحقارة التي كانت لا تفارقه. و جزاء لاحسان معاوية! صار زياد عميلا من عملائه، ينفذ أوامره، و يطبق تعاليمه ضد الشيعة و التشيع، و لهذا أقام المجارز و المذابح في الشيعة، و قام بأعمال وحشية شوه بها سمعة تاريخ الاسلام، و سود وجهه في الدنيا و الآخرة، و تجرد عن الانسانية، و تعري عن العاطفة البشرية، حتي صار محسوبا علي الحيوانات المفترسة، و الوحوش الكاسرة، و سجل اسمه في طليعة الجناة المجرمين، و السفاكين، و اكتسب أوفي نصيب من دناءة النفس و خساسة الطبع، و قساوة القلب.

ص: 558

و لا عجب!! فكل اناء بالذي فيه ينضح. ان الذي يتولد من أبوين - كأبي سفيان و سمية - ينبغي أن يكون هكذا، و العجب اذا لم يكن هكذا. أتعجبين من سقمي؟ صحتي هي العجب و مات زياد، و مات معاوية، و جاء يزيد الي الحكم، فكان عبيدالله بن زياد (الدعي بن الدعي) من عملائه، و أرسله يزيد من البصرة الي الكوفة، و ارتكب ابن زياد أفجع حادثة، و أعظم فاجعة لا مثيل لها في تاريخ الاسلام، بأن قتل سيد شباب أهل الجنة، و ريحانة رسول الله (صلي الله عليه و آله) و سبطه: الامام الحسين بن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليهماالسلام). و سبي عقائل النبوة، و مخدرات الرسالة بكيفية بلغت الذروة في القساوة و الخشونة و الفظاظة و الاهانة. ... و هكذا بين كل فترة و اخري كان يقفز رجل علي منصة الحكم في الكوفة فكانت تتغير الظروف و الأجواء، فمثلا: لقد حكم المختار بن عبيدة الثقفي الكوفة سنة و نصفا، يطلب بدم الامام الحسين (عليه السلام) و يتتبع قتلته، و يقتلهم، حتي قتل منهم ثمانية عشر الفا، كما هو المشهور، فصار جو الكوفة جوا شيعيا. ثم حكم مصعب بن الزبير الكوفة، فقتل المختار، و تبدل الجو. ثم حارب عبدالملك بن مروان مصعب بن الزبير فقتله. و هكذا و هلم جرا... كان التشيع بين صعود و نزول، و قوة و ضعف، يظهر و يخفي بين كل آونة و اخري، و لكن اصول التشيع و جذوره كانت موجودة، تتقوي تارة و تضعف اخري.

ص: 559

و في عصر الامام الباقر و الامام الصادق (عليهماالسلام) أخذ العلم و الثقافة الدينية في الازدهار و الانتشار. و من الصحيح أن نقول: ان نهضة علمية، أو ثورة عقائدية قامت في ذلك المجتمع بسبب الوعي و اليقظة بين الناس، و من الطبيعي: ان مجتمعا كهذا يشعر بالتعطش الي المعرفة، و يزعجه الفراغ في معلوماته، فتكثر فيه الرغبة الملحة الي الارتواء من منابع العلوم، و التزود من أساطين العلم. و كان علم الحديث في طليعة العلوم التي يكثر الطلب عليها. و الامام الصادق (عليه السلام) أكبر شخصية علمية، و أعظم المحدثين، و أصدقهم و أطهرهم، لأنه يروي عن آبائه الطاهرين، و أجداده المعصومين (عليهم السلام) و ربما بلغ سند الحديث الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) أو الي الله تعالي. و لهذا ازدحمت الجماهير علي الامام الصادق (عليه السلام) تستضيي ء بنور علمه. و في هذا المجال يحدثنا محمد بن معروف الهلالي، فيقول: (مضيت الي الحيرة، الي جعفر بن محمد (عليه السلام) فما كان لي فيه حيلة من كثرة الناس، فلما كان اليوم الرابع رآني، فأدناني...) الي آخر كلامه (1) . و في رواية اخري له يقول: (مضيت الي الحيرة الي أبي عبدالله (عليه السلام) في وقت السفاح، فوجدته قد تداك الناس عليه، ثلاثة أيام متواليات، فما كان لي في حيلة، و لا قدرت عليه من كثرة الناس،

ص: 560


1- 907. تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 349.

و تكاثفهم عليه...) الي آخر كلامه الذي يشبه الحديث المتقدم مع اضافات و زيادات (1) . و المقصود من ذكر هذا الكلام هو بيان تهافت الناس علي الامام و اجتماعهم عنده لكسب المعارف الدينية، و الأحكام الالهية. فلا عجب اذا كان أهل الكوفة - يومذاك - يلتفون حول الامام الصادق (عليه السلام) ليأخذوا العلم الصحيح من ينبوعه، و الحقائق من معادنها. و كان الامام ينتهز تلك الفرصة الذهبية ليفيض عليهم شيئا من علومه و معارفه في شتي المواضيع، و مختلف العلوم. فتخرج منهم عدد كبير، و طائفة عظيمة من المحدثين و الفقهاء و المتكلمين و المفسرين الذين قدموا للاسلام و المسلمين خدمات يذكرون و يشكرون عليها، و بقيت تلك الآثار القيمة الي يومنا هذا، مصادر موثوقة، و منابع صافية، و اصول معتمدة. و قد ذكرنا - في الموسوعة في تراجم أصحابه - عددا هائلا من أهل الكوفة، مما يدل علي كثرة تلاميذه و أصحابه من رواد المعرفة، و هواة الحقيقة. كما يدل علي مدي نشر الامام علومه في تلك الأرجاء، و مدي اهتمامه بتثقيف أصحابه ثقافة دينية، عقائدية، أخلاقية، انسانية، اسلامية، فأشرق تاريخهم بتلألؤ حياتهم المليئة بالفضائل و القيم. و قد ذكرنا - في غضون تلك التراجم - بعض النقاط الضرورية ذات الأهمية القصوي، و التي تجلب انتباه القاري ء الي أسرار و حكم

ص: 561


1- 908. فرحة الغري: ص 59.

في تصرفات الامام، و شؤون حياته في الكوفة بصورة خاصة، بحيث يظهر لنا ما أسسه الامام و بناه، سواء في الحقل العقائدي الشيعي، أم الحقول الأخري التي لها كل الصلة بالدين. حتي صارت الكوفة المركز الثاني من مراكز الاشعاع الشيعي، بسبب كثرة العلماء و المحدثين، و استمرت الي فترات طويلة. و قد اشتهر عن الحسن بن علي بن زياد الوشاء - الذي كان من أصحاب الامام الرضا و الامام الهادي (عليهماالسلام) - قوله.... «فأني أدركت في هذا المسجد [مسجد الكوفة] تسعمائة شيخ، كل يقول: حدثني جعفر بن محمد...» (1) . هذا... و في فترة من تواجد الامام الصادق (عليه السلام) في الحيرة، فرضت الحكومة العباسية رقابة مشددة علي الامام و منعت الناس من الدخول عليه و السؤال منه، و ذلك في محاولة يائسة منها الي تفريق الناس عن الامام (عليه السلام) الا أن بعض الناس كانوا يتشبثون بمختلف الوسائل في سبيل الوصول الي دار الامام و السؤال منه. و الحديث التالي شاهد علي ما نقول: عن هارون بن خارجة قال: كان رجل من أصحابنا طلق امرأته ثلاثا، فسأل أصحابنا، فقالوا: ليس بشي ء (2) . فقالت امرأته: لا أرضي حتي تسأل أباعبدالله (عليه السلام) و كان بالحيرة اذ ذاك أيام أبي العباس.

ص: 562


1- 909. الأصول الستة عشر: ص 131. منهما بحارالأنوار: ج 47 ص 93.
2- 910. رجال النجاشي: ص 28.

قال: فذهبت الي الحيرة و لم أقدر علي كلامه، اذ منع الخليفة الناس من الدخول علي أبي عبدالله (عليه السلام) و أنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، فاذا سوادي (1) عليه جبة صوف يبيع خيارا، فقلت له: بكم خيارك هذا كله؟ قال: بدرهم. فأعطيته درهما، و قلت له: أعطني جبتك هذه فأخذتها و لبستها، و ناديت: من يشتري خيارا؟. و دنوت منه (2) فاذا غلام من ناحية ينادي: يا صاحب الخيار! فقال (عليه السلام) لي - لما دنوت منه -: ما أجود ما احتلت! أي شي ء حاجتك؟ قلت: اني ابتليت، فطلقت أهلي في دفعة ثلاثا، فسألت أصحابنا فقالوا: ليس بشي ء، و ان المرأة قالت: لا أرضي حتي تسأل أباعبدالله (عليه السلام). فقال: ارجع الي أهلك، فليس عليك شي ء (3) (4) . و في مجال الاشارة الي الضغط و الكبت الذي كان يتعرض له الامام الصادق (عليه السلام) من طواغيت عصره... روي هشام بن سالم، عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: «لوددت اني

ص: 563


1- 911. أي هذا الطلاق غير صحيح.
2- 912. منسوب الي السواد و معناه: احد الفلاحين و المزارعين.
3- 913. أي دنوت من الامام أو بيت الامام.
4- 914. أقول: من الثابت عند الشيعة الامامية - تبعا للأئمة الطاهرين (عليهم السلام) - عدم وقوع الطلاق ثلاثا في طلقة واحدة، بل لابد أن تكون بينها رجعتان. ام المذاهب الاخري فبعضها تقول برأي الشيعة و بعضها تجوز ذلك، و التفصيل موكول الي الكتب الفقهية.

و اصحابي في فلاة من الأرض حتي نموت، أو يأتي الله بالفرج» (1) . و لكن: «فان مع العسر يسرا - ان مع العسر يسرا» (2) فقد ارتفع الضغط عن الامام (عليه السلام) بعد فترة، و تحسنت الظروف، و عاد الناس المتعطشون الي الحق و العلم ليلتفوا حول الامام الصادق (عليه السلام) و ينهلوا من منهله العذب الصافي... و هكذا... يأبي الله الا أن يتم نوره...

ص: 564


1- 915. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 642 ح 49. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 171. و قوله (عليه السلام): «فليس عليك شي ء» أي يحق لك الرجوع اليها.
2- 916. بحارالأنوار: ج 47 ص 60.

الامام الصادق و المنصور الدوانيقي

اسمه: عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، يكني أباجعفر، و يلقب بالدوانيقي، ولد سنة خمس و تسعين، و بويع له سنة ست و ثلاثين و مائة، و مات سنة ثمان و خمسين و مائة. كان المنصور طاغوتا من طواغيت عصره، و فرعونا من فراعنة زمانه و كان أشد الناس حقدا و عداء لآل الرسول (عليهم السلام). و لقد طالت أيام حكومته، و اشتري ضمائر الناس بالأموال، في مقابل تنفيذ خططه الجهنمية، و أقام المذابح و المجارز الرهيبة، فكأنه حيوان مفترس شرس، مجنون في صورة البشر، لا يفهم معني العاطفة، و لا يدرك مفهوم الرأفة و الرحمة. كان الامام الصادق (عليه السلام) مبتلي بهذا الوحش الكاسر طيلة اثني عشرة سنة. يقال: ان ابن سينا الحكيم الفيلسوف كان يخاف من الجاموس و يهرب منه، و لما سألوه عن السبب قال: عقله أقل مني، و قوته أكثر مني، فلماذا لا أخاف منه؟!

ص: 565

و هكذا كان المنصور! لقد صار رجلا مقتدرا يحكم علي العباد و البلاد، و حياة الناس و مماتهم بين شفتيه، و لا يخاف من الله تعالي، و لا يهمه الا المحافظة علي كرسي الحكم فقط، فلا مانع عنده ان يقتل بالظنة و التهمة، و اراقة الدماء عنده كاراقة الماء علي الأرض، و قد ماتت الانسانية في نفسه. و طالما أمر باحضار الامام الصادق (عليه السلام) في مجلسه كرارا و مرارا، في المدينة المنورة و في الربذة، و في الحيرة و في الكوفة، و في بغداد. و في كل مرة كان عازما علي قتل الامام و لكن الله تعالي كان يحفظ الامام من شر ذلك الطاغية لأنه (عليه السلام) كان يقرأ بعض الأدعية و يستعين بالله و يسأله دفع شر ذلك الشرير، فكان الله يحفظه من شر ذلك الرجس. و تارة كان الامام يقابل المنصور بكلمات حكيمة تخفف فيه سورة الغضب و شعلة الحقد، كقوله: «ان أيوب ابتلي فصبر، و ان يوسف ظلم فغفر، و ان سليمان اعطي فشكر». فكان المنصور يهدأ غضبه و ينزل عن جبروته و كبريائه، و يغير منطقه مع الامام، فيتبدل اسلوبه، و يحترم الامام، و يمدحه، و ربما اعتذر من احضاره، أو سأله عن حوائجه أو قدم له هدية مالية، و أمثال ذلك. و تارة كان بعض الحساد أو المناوئين يكتبون التقارير الكاذبة المليئة بالتهم و الافتراءات ضد الامام الصادق (عليه السلام) - مثل أنه يجمع

ص: 566

الأسلحة و الأموال و يأخذ البيعة من الناس للقيام ضد المنصور - و يرفعون تلك التقارير الي المنصور فيجن جنونه و يتفجر غيضا و حقدا علي الامام (عليه السلام) و يستدعيه و يواجهه بكلمات حادة و قاسية. و بعد ذلك يتضح له كذب تلك التقارير و براءة الامام منها... فيعتذر من الامام. و الأحاديث في هذا المجال كثيرة، و قد ذكرناها - بالتفصيل - في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) و نقتطف منها ما يلي: عن صفوان بن مهران الجمال قال: قد رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم الي أبي جعفر المنصور - و ذلك بعد قتله لمحمد و ابراهيم ابني عبدالله بن الحسن - أن جعفر بن محمد بعث مولاه المعلي بن خنيس لجباية الأموال من شيعته، و أنه كان يمد بها محمد بن عبدالله. فكاد المنصور أن يأكل كفه علي جعفر غيظا، و كتب الي عمه داود بن علي - و داود اذ ذاك أمير المدينة - أن يسير اليه جعفر بن محمد، و لا يرخص له في التلوم (1) و المقام. فبعث اليه داود بكتاب المنصور و قال له: اعمد في المسير الي أميرالمؤمنين في غد و لا تتأخر. قال صفوان: و كنت بالمدينة يومئذ، فأنفذ الي جعفر (عليه السلام) فصرت اليه فقال لي: تعهد راحلتنا فانا غادون في غد ان شاء الله [الي] العراق. و نهض من وقته، و أنا معه الي مسجد النبي (صلي الله عليه و آله) و كان ذلك بين الاولي و العصر، فركع فيه ركعات، ثم رفع يديه

ص: 567


1- 917. سورة الانشراح آية 5 و 6.

فحفظت يومئذ من دعآئه: «يا من ليس له ابتداء و لا انقضاء، يا من ليس له أمد و لا نهاية، و لا ميقات و لا غاية، يا ذالعرش المجيد، و البطش الشديد، يا من هو فعال لما يريد، يا من لا يخفي عليه اللغات، و لا تشتبه عليه الأصوات، يا من قامت بجبروته الأرض و السماوات، يا حسن الصحبة، يا واسع المغفرة، يا كريم العفو، صل علي محمد و آل محمد، و احرسني - في سفري و مقامي، و في حركتي و انتقالي - بعينك التي لا تنام و اكنفني بركنك الذي لا يضام. اللهم اني اتوجه في سفري هذا بلا ثقة مني لغيرك، و لا رجاء يأوي بي الا اليك، و لا قوة لي اتكل عليها، و لا حيلة ألجا اليها الا ابتغاء فضلك، و التماس عافيتك، و طلب فضلك، و اجراؤك لي علي أفضل عوائدك عندي. اللهم و أنت أعلم بما سبق لي في سفري هذا مما احب و اكره، فمهما أوقعت عليه قدرك فمحمود فيه بلاؤك، منتصح فيه قضاؤك و أنت تمحو ما تشاء و تثبت و عندك ام الكتاب. اللهم فاصرف عني فيه و مقادير كل بلاء، و مقضي كل لأواء، و ابسط علي كنفا من رحمتك و لطفا من عفوك، و تماما من نعمتك حتي تحفظني فيه بأحسن ما حفظت به غائبا من المؤمنين و خلفته، في ستر كل عورة، و كفاية كل مضرة و صرف كل محذور، و هب لي في أمنا و ايمانا و عافية و يسرا و صبرا و شكرا، و أرجعني فيه سالما الي سالمين يا أرحم الراحمين». قال صفوان: سألت أباعبدالله الصادق (عليه السلام) بأن يعيد

ص: 568

الدعاء علي فأعاده و كتبته. فلما أصبح أبوعبدالله (عليه السلام) رحلت له الناقة، و سار متوجها الي العراق حتي قدم مدينة أبي جعفر، و أقبل حتي استأذن فأذن له. قال صفوان: فأخبرني بعض من شهده عند أبي جعفر، قال: فلما رآه أبوجعفر قربه و أدناه، ثم استدعا قصة الرافع علي أبي عبدالله (عليه السلام) يقول في قصته: ان معلي بن خنيس - مولي جعفر بن محمد - يجبي له الأموال من جميع الآفاق و أنه مد بها محمد بن عبدالله. فدفع اليه القصة فقرأها أبوعبدالله (عليه السلام) فأقبل اليه المنصور فقال: يا جعفر بن محمد ما هذه الأموال التي يجبيها لك معلي ابن خنيس؟ فقال أبوعبدالله (عليه السلام): معاذ الله من ذلك يا أميرالمؤمنين!! قال له: تحلف علي براءتك من ذلك؟ قال: نعم أحلف بالله أنه ما كان من ذلك شي ء. قال أبوجعفر [المنصور]: لا بل تحلف بالطلاق و العتاق. فقال أبوعبدالله: أما ترضي يميني بالله الذي لا اله الا هو؟! قال أبوجعفر: فلا تتفقه علي! فقال أبوعبدالله (عليه السلام): فأين تذهب بالفقه مني يا أميرالمؤمنين!؟ قال له: دع عنك هذا، فاني أجمع الساعة بينك و بين الرجل

ص: 569

الذي رفع عنك حتي يواجهك، فأتوا بالرجل و سألوه بحضرة جعفر. فقال: نعم هذا صحيح، هذا جعفر بن محمد، و الذي قلت فيه كما قلت. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): تحلف أيها الرجل أن هذا الذي رفعته صحيح؟ قال: نعم. ثم ابتدأ الرجل باليمين فقال: والله الذي لا اله الا هو الطالب الغالب، الحي القيوم. فقال له جعفر (عليه السلام): لا تعجل في يمينك، فاني أنا أستحلف. قال المنصور: و ما أنكرت من هذه اليمين؟ قال: ان الله تعالي حيي كريم يستحيي من عبده - اذا أثني عليه - أن يعاجله بالعقوبة، لمدحه له، و لكن قل يا أيها الرجل: أبرأ الي الله من حوله و قوته، و ألجأ الي حولي و قوتي اني لصادق بر فيما أقول (1) . فقال المنصور للقرشي: احلف بما استحلفك به أبوعبدالله (عليه السلام)، فحلف الرجل بهذه اليمين، فلم يستتم الكلام، حتي أجذم و خر ميتا.

ص: 570


1- 918. تلوم في الأمر: تمكث و انتظر (لسان العرب).

فراع أباجعفر [المنصور] ذلك، و ارتعدت فرائصه فقال: يا أباعبدالله سر من غد الي حرم جدك ان اخترت ذلك، و ان اخترت المقام عندنا لم نأل في اكراك و برك، فوالله لاقبلت عليك قول أحد بعدها أبدا (1) . و روي عن الرضا، عن أبيه (عليهماالسلام) قال: جاء رجل الي جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فقال [له]: انج بنفسك، فهذا فلان بن فلان قدوشي بك الي المنصور، و ذكر أنك تأخذ البيعة لنفسك علي الناس، لتخرج عليهم. فتبسم و قال: يا عبدالله! لا ترع [لا تخف] فان الله اذ أراد اظهار فضيلة كتمت، أو جحدت، أثار عليها حاسدا باغيا يحركها حتي يبينها، اقعد معي حتي يأتي الطلب، فتمضي معي الي هناك، حتي تشاهد ما يجري من قدرة الله التي لا معدل لها عن مؤمن. فجاء الرسول، و قال: أجب أميرالمؤمنين!! فخرج الصادق (عليه السلام) و دخل، و قد امتلأ المنصور غيظا و غضبا، فقال له: أنت الذي تأخذ البيعة لنفسك علي المسلمين، تريد أن تفرق جماعتهم، و تسعي في هلكتهم، و تفسد ذات بينهم؟. فقال الصادق (عليه السلام): ما فعلت شيئا من هذا. قال المنصور: فهذا فلان، يذكر أنت فعلت كذا، و أنه أحد من دعوته اليك. فقال: انه لكاذب. قال المنصور: اني احلفه، فان حلف كفيت نفسي مؤنتك.

ص: 571


1- 919. هذه اليمين تسمي ب: يمين البراءة، و قد ذكر الفقهاء أنها لا تجوز الا في مقام دفع التهمة و الأمن من شر الحاكم الظالم، أما في الخلافات الاخري - كالخلافات الزوجية و العائلية و غيرها - فلا تجوز. و الامام الصادق (عليه السلام) فرض هذه اليمين علي ذلك الرجل لكي يدفع (عليه السلام) عن نفسه القتل الذي كان يواجهه بسبب تهمة التخطيط لقلب نظام الحكم.

فقال الصادق (عليه السلام): انه اذا حلف كاذبا باء باثم. فقال المنصور - لحاجبه -: حلف هذا الرجل علي ما حكاه عن هذا - يعني الصادق (عليه السلام) -. فقال له الحاجب: قل: والله الذي لا اله الا هو. و جعل يغلظ عليه اليمين. فقال الصادق (عليه السلام): لا تحلفه هكذا، فاني سمعت أبي، يذكر عن جدي رسول الله (صلي الله عليه و آله) أنه قال: «ان من الناس من يحلف كاذبا فيعظم الله في يمينه، و يصفه بصفاته الحسني فيأتي تعظيمه لله علي اثم كذبه و يمينه، فيؤخر عنه البلاء». و لكن دعني احلفه باليمين التي حدثني بها أبي، عن جدي، عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) أنه لا يحلف بها حالف الا باء باثمه. فقال المنصور: فحلفه - اذن - يا جعفر. فقال الصادق (عليه السلام) للرجل: قل: ان كنت كاذبا عليك فقد برئت من حول الله و قوته و لجأت الي حولي و قوتي. فقالها الرجل. فقال الصادق (عليه السلام): اللهم ان كان كاذبا فأمته. فما استتم كلامه حتي سقط الرجل ميتا، و احتمل، و مضي به، و سري عن المنصور (1) ، و سأله عن حوائجه، فقال (عليه السلام): ليس لي حاجة الا الي الله، و الاسراع الي أهلي، فان قلوبهم بي متعلقة. فقال المنصور: ذلك اليك، فافعل منه ما بدا لك. فخرج من عنده مكرما، قد تحير فيه المنصور و من يليه، فقال

ص: 572


1- 920. مهج الدعوات: ص 201 - 198. منه بحارالأنوار: ج 94 ص 294.

قوم: ماذا؟ رجل فاجأه الموت، ما أكثر ما يكون هذا! و جعل الناس يصيرون الي ذلك الميت (1) ينظرون اليه، فلما استوي [وضع] علي سريره، جعل الناس يخوضون في أمره، فمن ذام له و حامد، اذ قعد [الميت] علي سريره، و كشف عن وجهه و قال: يا أيها الناس! اني لقيت ربي بعدكم، فلقاني السخط و اللعنة، و اشتد غضب زبانيته علي للذي كان مني الي جعفر بن محمد الصادق، فاتقوا الله، و لا تهلكوا فيه كما هلكت. ثم أعاد كفنه علي وجهه، و عاد في موته، فرأوه لا حراك به، و هو ميت، فدفنوه، و بقوا حائرين في ذلك (2) و عن الربيع صاحب أبي جعفر المنصور، قال: حججت مع أبي جعفر المنصور، فلما صرت في بعض الطريق قال لي المنصور: يا ربيع! اذا نزلت المدينة فاذكر لي جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام)! فوالله العظيم لا يقتله أحد غيري، احذر أن تذكرني به!». قال: فلما صرنا الي المدينة أنساني الله (عزوجل) ذكره، قال: فلما صرنا الي مكة قال لي: يا ربيع! ألم آمرك أن تذكرني بجعفر بن محمد اذا دخلنا المدينة؟». قال: فقلت: نسيت ذلك يا مولاي يا أميرالمؤمنين!! قال: فقال لي: «اذا رجعت الي المدينة فاذكرني به، فلابد من

ص: 573


1- 921. سري عنه: كشف عنه ما كان يجده من الغضب (أقرب الموارد).
2- 922. في بحارالأنوار: و جعل الناس يخوضون في أمر ذلك الميت.

قتله، فان لم تفعل لأضربن عنقك!». فقلت: نعم، يا أميرالمؤمنين! ثم قلت لغلماني و أصحابي: اذكروني بجعفر بن محمد اذا دخلنا المدينة ان شاء الله تعالي. قال: فلم يزل غلماني و أصحابي يذكروني به في كل وقت و منزل ندخله و ننزل فيه، حتي قدمنا المدينة، فلما نزلنا بها دخلت الي المنصور فوقفت بين يديه و قلت له: يا أميرالمؤمنين!! جعفر بن محمد!! قال: فضحك، و قال لي: نعم، اذهب - يا ربيع - فائتني به، و لا تأتني به الا مسحوبا!! قال: فقلت له: يا مولاي! يا أميرالمؤمنين! حبا و كرامة، و أنا أفعل ذلك طاعة لأمرك!! قال: ثم نهضت، و أنا في حال عظيم من ارتكابي ذلك! قال: فأتيت الامام الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) و هو جالس في وسط داره، فقلت له: جعلت فداك ان أميرالمؤمنين! يدعوك اليه. فقال لي: السمع و الطاعة!! ثم نهض و هو معي يمشي، قال: فقلت له: يابن رسول الله انه أمرني أن لا آتيه بك الا مسحوبا!! قال: فقال الصادق: امتثل - يا ربيع - ما أمرك به!! فأخذت بطرف كمه أسوق اليه، فلما أدخلته اليه رأيته و هو جالس علي سريره و في يده عمود حديد يريد أن يقتله به، و نظرت الي

ص: 574

جعفر (عليه السلام) و هو يحرك شفتيه [فلم أشك أنه قاتله، و لم أفهم الكلام الذي كان جعفر يحرك شفتيه به] (1) فوقفت أنظر اليهما. قال الربيع: فلما قرب منه جعفر بن محمد قال له المنصور: ادن مني! يابن عمي. و تهلل وجهه، و قربه منه، حتي أجلسه معه علي السرير، ثم قال: يا غلام! ائتني بالحقة (2) فأتاه بالحقة، فاذا فيها قدح الغالية (3) فغلفه منها بيده، ثم حمله علي بغلة و أمر له ببدرة (4) و خلعة، ثم أمره بالانصراف. قال: فلما نهض من عنده، خرجت بين يديه حتي وصل الي منزله، فقلت له: بأبي أنت و امي يابن رسول الله!! اني لم أشك فيه أنه ساعة تدخل عليه يقتلك، و رأيتك تحرك شفتيك في وقت دخولك عليه؟ فما قلت؟ قال لي: نعم، يا ربيع! اعلم أني قلت: «حسبي الرب من المربوبين، حسبي الخالق من المخلوبين، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي الله، لا اله الا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم، حسبي الذي لم يزل حسبي، حسبي، حسبي، حسبي الله و نعم الوكيل. اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، و اكنفني بركنك الذي لا يرام،

ص: 575


1- 923. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 763 ح 84. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 172.
2- 924. ما بين المعقوفتين من بحارالأنوار.
3- 925. وعاء من خشب، و قد تصنع من العاج (أقرب الموارد).
4- 926. الغالية: ضرب من الطيب مركب من مسك و عنبر و كافور و دهن البان و عود (مجمع البحرين).

و احفظني بعزك و اكفني شره بقدرتك، و من علي بنصرك، و الا هلكت و أنت ربي. اللهم اني أجل و أجبر مما أخاف و أحذر، اللهم اني أدرؤك (1) في نحره، و أعوذ بك من شره، و استعينك عليه و استكفيك اياه. يا كافي موسي فرعون، و محمد (صلي الله عليه و آله) الأحزاب، الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل. و اولئك الذين طبع الله علي قلوبهم و سمعهم و أبصارهم، و اولئك هم الغافلون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فأغشيناهم هم فهم لا يبصرون» (2) . و روي ان المنصور استدعي الامام الصادق (عليه السلام) للمرة الخامسة الي بغداد. كما ورد ذلك عن محمد بن الربيع الحاجب قال: قعد المنصور أميرالمؤمنين يوما في قصره القبة الخضراء - و كانت قبل قتل محمد و ابراهيم تدعي الحمراء - و كان له يوم يقعد فيه يسمي ذلك اليوم: يوم الذبح، و كان أشخص جعفر بن محمد (عليه السلام) من المدينة، فلم يزل في الحمراء نهاره كله، حتي جاء اليل، و مضي أكثره، قال: ثم دعا أبي: الربيع، فقال: يا ربيع انك تعرف موضعك مني، و انه يكون الي الخبر و لا تظهر عليه امهات الأولاد، و تكون أنت

ص: 576


1- 927. البدرة: عشرة آلاف درهم (مجمع البحرين).
2- 928. لعل الأصح: أدرؤ بك.

المعالج له. فقال: قلت له: يا أميرالمؤمنين ذلك من فضل الله علي و فضل أميرالمؤمنين، و ما فوقي في النصح غاية. قال: كذلك أنت، صر الساعة الي جعفر بن محمد بن فاطمة!! فائتني علي الحال الذي تجده عليه، لا تغير (1) شيئا مما [هو] (2) عليه. فقلت: انا لله و انا اليه راجعون، هذا والله هو العطب (3) ، ان أتيت به علي ما أراه من غضبه قتله، و ذهبت الآخرة، و ان لم آت به و اذهبت (4) في أمره قتلني، و قتل نسلي، و أخذ أموالي، فميزت (5) بين الدنيا و الآخرة، فمالت نفسي الي الدنيا. قال محمد بن الربيع: فدعاني أبي و كنت أفظ (6) ولده و أغلظهم قلبا، فقال لي: امض الي جعفر بن محمد فتسلق علي حائطه، و لا تستفتح عليه بابا (7) ، فيغير بعض ما هو عليه، و لكن انزل عليه نزولا، فأت به علي الحال التي هو فيها. قال: فأتيته و قد ذهب الليل الا أقله، فأمرت بنصب السلاليم (8) و تسلقت عليه الحائط فنزلت عليه داره، فوجدته قائما يصلي، و عليه

ص: 577


1- 929. مهج الدعوات ص 184.
2- 930. لعل الأصح: لا يغير.
3- 931. ما بين المعقوفتين من البحار.
4- 932. العطب: الهلاك (لسان العرب).
5- 933. في بحارالأنوار: و ادهنت.
6- 934. في بحارالأنوار: فخيرت.
7- 935. الفظ: الغيظ الجانب، السي ء الخلق، القاسي، الخشن الكلام. (أقرب الموارد).
8- 936. أي لا تطرق عليه الباب ليفتحه.

قميص، و منديل قد ائتزر به، فلما سلم من صلاته. قلت له: أجب أميرالمؤمنين. فقال: دعني، أدعو و ألبس ثيابي. فقلت له: ليس الي تركك و ذلك سبيل. قال: فأدخل المغتسل فاطهر (1) . قال: قلت: و ليس الي ذلك سبيل فلا تشغل نفسك، فاني لا أدعك تغير شيئا. قال: فأخرجته حافيا حاسرا في قميصه و منديله، و كان قد جاوز (عليه السلام) السبعين (2) . فلما مضي بعض الطريق، ضعف الشيخ فرحمته فقلت له: اركب. فركب بغل شاكري (3) كان معنا، ثم صرنا الي الربيع فسمعته [المنصور] و هو يقول له: ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل، و جعل يستحثه استحثاثا شديدا، فلما أن وقعت عين الربيع علي جعفر بن محمد و هو بتلك الحال بكي. و كان الربيع يتشيع فقال له جعفر (عليه السلام): يا ربيع أنا أعلم ميلك الينا، فدعني اصلي ركعتين و أدعو، قال: شأنك و ما تشاء. فصلي ركعتين خففهما ثم دعبا بعدهما بدعاء لم أفهمه، الا أنه دعاء طويل، و المنصور في ذلك كله يستحث الربيع، فلما فرغ من دعائه

ص: 578


1- 937. السلم - بالضم -: المرقاة، و هو ما يرتقي عليه، سواء كان من خشب أو حجر أو مدر، جمعه سلالم و سلاليم. (أقرب الموارد).
2- 938. أي أغتسل استعدادا للقتل، لأن المحكوم عليه بالقتل يغتسل قبل تنفيذ الحكم، و يسقط تغسيله بعد القتل.
3- 939. هذا رأي محمد بن الربيع، و الصحيح أن الامام الصادق (عليه السلام) فارق الحياة قبل السبعين.

علي طوله، أخذ الربيع بذراعيه فأدخله علي المنصور، فلما صار في صحن الايوان، وقف ثم حرك شفتيه بشي ء، ما أدري ما هو، ثم أدخلته فوقف بين يديه، فلما نظر اليه قال: و أنت يا جعفر ما تدع حسدك و بغيك، و افسادك علي أهل هذا البيت من بني العباس!! و ما يزيدك الله بذلك الا شدة حسد و نكد، ما تبلغ به ما تقدره!!. فقال له: والله يا أميرالمؤمنين ما فعلت شيئا من هذا، و لقد كنت في ولاية بني امية، و أنت تعلم أنهم أعدي الخلق لنا و لكم، و أنهم لا حق لهم في هذا الأمر فوالله ما بغيت عليهم، و لا بلغهم عني سوء، مع جفائهم الذي كان بي، فكيف يا أميرالمؤمنين أصنع الآن هذا؟ و أنت ابن عمي و أمس الخلق بي رحما و أكثرهم عطاء و برا، فكيف أفعل هذا؟! فأطرق المنصور ساعة، و كان علي لبد (1) و عن يساره مرفقة جرمقانية (2) ، و تحت لبده سيف ذوفقار، كان لا يفارقه اذا قعد في القبة قال: أبطلت و أثمت (3) ، ثم رفع ثني الوسادة فأخرج منها اضبارة (4) كتب، فرمي بها اليه و قال: هذه كتبك الي أهل خراسان تدعوهم الي نقض بيعتي، و أن يبايعوك دوني. فقال: والله يا أميرالمؤمنين ما فعلت، و لا أستحل ذلك، و لا هو

ص: 579


1- 940. الشاكري: معرب چاكر بالفارسية و معناه الأجير و المستخدم. (أقرب الموارد).
2- 941. اللبد: الصوف. (أقرب الموارد).
3- 942. المرفق و المرفقة: المتكأ و المخدة، و الجرامقة: قوم في الموصل و الشام تنسب اليهم المرافق. (أقرب الموارد).
4- 943. أبطلت: جئت بالباطل، و أثمت: وقعت في الاثم أي الذنب.

من مذهبي، و اني لمن يعتقد طاعتك علي كل حال (1) ، و قد بلغت من السن ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته، فصيرني في بعض جيوشك (2) ، حتي يأتيني الموت فهو مني قريب. فقال: لا و لا كرامة... ثم أطرق و ضرب بيده الي السيف، فسل منه مقدار شبر، و أخذ بمقبضه، فقلت: أنا لله، ذهب - والله - الرجل. ثم رد السيف، ثم قال: يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة و مع هذا النسب أن تنطق بالباطل، و تشق عصا المسلمين؟ تريد أن تريق الدماء، و تطرح الفتنة بين الرعية و الأولياء. فقال: لا والله يا أميرالمؤمنين ما فعلت، و لا هذه كتبي و لا خطي، و لا خاتمي. فانتضي من السيف ذراعا فقلت: انا لله، مضي الرجل، و جعلت في نفسي ان أمرني فيه بأمر أن أعصيه، لأنني ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفرا، فقلت: ان أمرني ضربت المنصور، و ان أتي ذلك علي و علي ولدي، و تبت الي الله (عزوجل) مما كنت نويت فيه أولا. فأقبل يعاتبه و جعفر يعتذر، ثم انتضي السيف كله الا شيئا يسيرا منه فقلت: انا لله، مضي والله الرجل، ثم أغمد السيف و أطرق ساعة ثم رفع رأسه. و قال: أظنك صادقا! يا ربيع هات العيبة (3) من موضع كانت فيه

ص: 580


1- 944. الاضبارة: الحزمة من الصحف. (أقرب الموارد).
2- 945. هذا الكلام منه صدر علي وجه التقية من ذلك الطاغوت الدوانيقي.
3- 946. في نسخة: حبوسك.

في القبة، فأتيته به فقال: أدخل يدك فيها - فكانت مملوة غالية - وضعها في لحيته. و كانت بيضاء فاسودت. و قال: احمله علي فاره (1) من دوابي التي أركبها، و أعطه عشرة آلاف درهم، و شيعه الي منزله مكرما، و خيره - اذا أتيت به الي المنزل - بين المقام عندنا فنكرمه و الانصراف الي مدينة جده رسول الله (صلي الله عليه و آله). فخرجنا من عنده و أنا مسرور فرح بسلامة جعفر (عليه السلام) و متعجب مما أراد المنصور، و ما صار اليه من أمره. فلما صرنا في الصحن قلت له: يابن رسول الله اني لأعجب مما عمد اليه هذا في بابك، و ما أصارك الله اليه من كفايته و دفاعه، و لا عجب من أمر الله (عزوجل)، و قد سمعتك تدعو عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو، الا أنه طويل، و رأيتك قد حركت شفتيك هاهنا - أعني الصحن - بشي ء لم أدر ما هو. فقال لي: أما الأول فدعاء الكرب و الشدائد لم أدع به علي أحد قبل يومئذ، جعلته عوضا من دعاء كثير أدعو به اذا قضيت صلاتي، لأني لم اترك أن أدعو ما كنت أدعو به (2) . و أما الذي حركت به شفتي فهو دعاء رسول الله (صلي الله عليه و آله) يوم الأحزاب حدثني به أبي، عن أبيه، عن جده، عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال:

ص: 581


1- 947. العيبة: وعاء من ادم يكون فيها المتاع (لسان العرب).
2- 948. دابة فارهة أي نشيطة قوية. (مجمع البحرين).

لما كان يوم الأحزاب كانت المدينة كالاكليل (1) ، من جنود المشركين، و كانوا كما قال الله (عزوجل): (اذا جاؤكم من فوقكم و من أسفل منكم و اذا زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا - هنالك ابتلي المؤمنون و زلزلوا زلزالا شديدا) (2) ، فدعا رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) بهذا الدعاء، و كان أميرالمؤمنين (صلوات الله عليه) يدعو به اذا أحزنه أمر، و الدعاء: «اللهم احرسني بعينك التي لا تنام... الي آخر الدعاء. قال: فقلت: يابن رسول الله، لقد كثر استحثاث (3) المنصور لي و استعجاله اياي و أنت تدعو بهذا الدعآء الطويل متمهلا كأنك لم تخشه!؟. قال: فقال لي: نعم، قد كنت أدعو به بعد صلاة الفجر، بدعاء لابد منه، فأما الركعتان فهما صلاة الغداة خففتهما و دعوت بذلك الدعاء بعدهما. فقلت له: أما خفت أباجعفر و قد أعد لك ما أعد؟! قال: خفية الله دون خيفته، و كان الله (عزوجل) في صدري أعظم منه. قال الربيع: كان في قلبي ما رأيت من المنصور و من غضبه و حنقه (4) علي جعفر و من الجلالة له في ساعة ما لم أظنه يكون في

ص: 582


1- 949. أي ما أمهلني ابنك أن أدعو به.
2- 950. الاكليل: شبه عصابة مزينة بالجوهر (أقرب الموارد) و المقصود أن المدينة كانت مطوقة بالأعداء المحاربين مع خيولهم و رماحهم و سيوفهم.
3- 951. سورة الاحزاب آية 10 و 11.
4- 952. الاستحثاث: الطلب السريع المتعاقب.

بشر، فلما وجدت منه خلوة، و طيب نفس، قلت: يا أميرالمؤمنين رأيت منك عجبا. قال: ما هو؟ قلت: يا أميرالمؤمنين رأيت غضبك علي جعفر غضبا لم أرك غضبته علي أحد قط، و لا علي عبدالله بن الحسن و لا علي غيره من كل الناس، حتي بلغ بك الأمر أن تقتله بالسيف، و حتي أنك أخرجت من سيفك شبرا ثم أغمدته، ثم عاتبته، ثم أخرجت منه ذراعا، ثم عاتبته ثم أخرجته كله الا شيئا يسيرا، فلم أشك في قتلك له، ثم انحل (1) ذلك كله، فعاد رضي، حتي أمرتني فسودت لحيته بالغالية التي لا يتغلف (2) منها الا أنت، و لا يغلف منها ولدك المهدي، و لا من وليته عهدك، و لا عمومتك، و أجزته و حملته و أمرتني بتشييعه مكرما! فقال: ويحك يا ربيع، ليس هو مما ينبغي أن يحدث به، و ستره أولي، و لا احب أن يبلغ ولد فاطمة (عليهاالسلام) فيفخرون و يتيهون (3) بذلك علينا، حسبنا ما نحن فيه، و لكن لا أكتمك شيئا، انظر من في الدار فنحهم. قال: فنحيت كل من في الدار. ثم قال لي: ارجع و لا تبق أحدا، ففعلت، ثم قال لي: ليس الا أنا و أنت، والله لئن سمعت ما ألقيته اليك من أحد لأقتلنك و ولدك و أهلك أجمعين، و لآخذن مالك.

ص: 583


1- 953. في بحارالأنوار: و خيفته.
2- 954. في بحارالأنوار: ثم انجلي.
3- 955. تغلف بالطيب: اذا لطخ لحيته به و أكثر منه (مجمع البحرين).

قال: قلت: يا أميرالمؤمنين اعيذك بالله. قال: يا ربيع قد كنت مصرا علي قتل جعفر، و لا أسمع له قولا، و لا أقبل له عذرا، و كان أمره - و ان كان ممن لا يخرج بسيف - أغلظ عندي و أهم علي من أمر عبدالله بن الحسن (1) ، و قد كنت أعلم هذا منه و من آبائه علي عهد بني امية، فلما هممت به في المرة الاولي تمثل لي رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاذا هو حائل بيني و بينه، باسط كفيه، حاسر عن ذراعيه قد عبس و قطب في وجهي، فصرفت وجهي عنه، ثم هممت به في المرة الثانية و انتضيت من السيف أكثر مما انتضيت منه في المرة الاولي فاذا أنا برسول الله (صلي الله عليه و آله) قد قرب مني و دنا شديدا و هم بي أن لو فعلت لفعل، فأمسكت ثم تجاسرت و قلت: هذا بعض أفعال الرئي (2) ، ثم انتضيت السيف في الثالثة فتمثل لي رسول الله (صلي الله عليه و آله) باسطا ذراعيه، قد تشمر و احمر و عبس و قطب حتي كاد أن يضع يده علي فخفت والله لو فعلت لفعل، و كان مني ما رأيت، و هؤلاء من بني فاطمة (صلوات الله عليهم) و لا يجهل حقهم الا جاهل لا حظ له في الشريعة، فاياك أن يسمع هذا منك أحد. قال محمد بن الربيع: فما حدثني به أبي حتي مات المنصور، و ما حدثت أنا به حتي مات المهدي، و موسي، و هارون و قتل محمد [الامين] (3) .

ص: 584


1- 956. تاه: أي تكبر (مجمع البحرين) و يتيهون: يتكبرون.
2- 957. أي بالرغم من اعتزال الامام عن السياسة و سكوته فهو أعظم خطرا من عبدالله بن الحسن و نهضته.
3- 958. الرئي: الجني يراه الانسان (لسان العرب).

أيها القارئ الكريم: هذه المعجزات و القضايا الغيبية كان يراها المنصور بعينيه، فلا يهتدي الي الحق و لا يؤوب الي رشده و لا يتوب من ذنبه... و لئن هدأ قليلا فانما كان خوفا علي نفسه و حياته و كرسيه... ثم يعود الي نواياه السيئة... و قد روي أنه استدعي الامام الصادق (عليه السلام) للمرة السابعة أيضا، كما تقرأ ذلك في الحديث الآتي: روي عن محمد بن عبدالله الاسكندري أنه قال: كنت من جملة ندماء أميرالمؤمنين!! المنصور أبي جعفر، و خواصه، و كنت صاحب سره من بين الجميع. فدخلت عليه يوما فرأيته مغتما، و هو يتنفس نفسا باردا، فقلت: ما هذه الفكرة يا أميرالمؤمنين!!؟ فقال لي: يا محمد! لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون، و قد بقي سيدهم و امامهم. فقلت له: من ذلك؟ قال: جعفر بن محمد الصادق. فقلت له: يا أميرالمؤمنين! انه رجل أنحلته العبادة، و اشتغل بالله عن طلب الملك و الخلافة. فقال: يا محمد! و قد علمت أنك تقول به و بامامته، و لكن الملك عقيم، و قد آليت علي نفسي أن لا امسي عشيتي هذه أو أفرغ منه!! قال محمد: والله لقد ضاقت علي الأرض برحبها. ثم دعا سيافا و قال له: اذا أنا أحضرت أباعبدالله الصادق، و شغلته بالحديث،

ص: 585

و وضعت قلنسوتي عن رأسي فهو العلامة بيني و بينك، فاضرب عنقه!!. ثم أحضر أباعبدالله (عليه السلام) في تلك الساعة، و لحقته في الدار، و هو يحرك شفتيه فلم أدر ما هو الذي قرأ؟ فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار، فرأيت أباجعفر المنصور، و هو يمشي بين يديه (عليه السلام) حافي القدمين، مكشوف الرأس، قد اصطكت أسنانه، و ارتعدت فرائصه، يحمر ساعة و يصفر اخري، و أخذ بعضد أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) و أجلسه علي سرير ملكه، و جثا (1) بين يديه، كما يجثو العبد بين يدي مولاه، ثم قال له: يابن رسول الله! ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟... ما دعوتك! و الغلط من الرسول! ثم قال: سل حاجتك. فقال: أسألك أن لا تدعوني لغير شغل. قال: لك ذلك، و غير ذلك! ثم انصرف أبوعبدالله (عليه السلام) سريعا، و حمدت الله (عزوجل) كثيرا. و دعا أبوجعفر المنصور بالروايح (2) و نام، و لم ينتبه الا في نصف الليل، فلما انتبه كنت عند رأسه جالسا، فسره ذلك، و قال لي: لا تخرج حتي أقضي ما فاتني من صلاتي!! فاحدثك بحديث.

ص: 586


1- 959. مهيج الدعوات: ص 192. منه بحارالأنوار: ج 94 ص 288.
2- 960. جثا الرجل: جلس علي ركبته أو قام علي أطراف أصابعه. (اقرب الموارد).

فلما قضي صلاته أقبل علي و قال لي: لما أحضرت أباعبدالله الصادق، و هممت به ما هممت من السوء، رأيت تنينا (1) قد حوي بذنبه جميع داري و قصري، و قد وضع شفتيه: العليا في أعلاها، و السفلي في أسفلها، و هو يكلمني بلسان طلق ذلق، عربي مبين: يا منصور! ان الله (تعالي جده) (2) قد بعثني اليك، و أمرني ان أنت أحدثت في أبي عبدالله الصادق حدثا فأنا أبتلعك و من في دارك جميعا. فطاش عقلي، و ارتعدت فرائصي، و اصطكت أسناني. قال محمد بن الاسكندري: قلت له: ليس هذا بعجيب يا أميرالمؤمنين!! فان أباعبدالله وارث علم النبي (عليه السلام) و جده أميرالمؤمنين (عليه السلام) و عنده من الأسماء، و سائر الدعوات التي لو قرأها علي الليل لأنار، و لو قرأها علي النهار لأظلم، و لو قرأها علي الأمواج في البحور لسكنت. قال محمد: فقلت له - بعد أيام -: أتأذن لي يا أميرالمؤمنين!! أن أخرج الي زيارة أبي عبدالله الصادق (عليه السلام)! فأجاب، و لم يأب. فدخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و سلمت و قلت له: أسألك - يا مولاي - بحق جدك محمد رسول الله (صلي الله عليه و آله) أن تعلمني الدعاء الذي كنت تقرؤه عند دخولك علي أبي جعفر المنصور.

ص: 587


1- 961. في بحارالأنوار: الدواويج: جمع دواج علي وزن رمان و هو اللحاف الذي يلبس (أقرب الموارد).
2- 962. التنين: الحية العظيمة (أقرب الموارد).

قال: لك ذلك. ثم قال لي: يا محمد! هذا الدعاء حرز جليل، و دعاء عظيم، حفظته عن آبائي الكرام (عليهم السلام) و هو حرز مستخرج من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكم حميد...» الي آخر الحديث (1) . و عن رزام بن مسلم مولي خالد بن عبدالله القسري قال: ان المنصور قال لحاجبه: اذا دخل علي جعفر بن محمد فاقتله، قبل أن يصلي الي، فدخل أبوعبدالله (عليه السلام) فجلس، فأرسل الي الحاجب فدعاه، فنظر اليه و جعفر (عليه السلام) قاعد [عنده] قال: ثم قال له: عد الي مكانك، قال: و أقبل يضرب يده علي يده، فلما قام أبوعبدالله (عليه السلام) و خرج دعا حاجبه، فقال: بأي شي ء أمرتك؟ قال: لا والله ما رأيته حين دخل، و لا حين خرج، و لا رأيته الا و هو قاعد عندك (2) . و عن علي بن ميسر قال: لما قدم أبوعبدالله (عليه السلام) علي أبي جعفر [المنصور] أقام أبوجعفر مولي له علي رأسه و قال له: اذا دخل علي فاضرب عنقه. فلما دخل أبوعبدالله (عليه السلام) نظر الي أبي جعفر، و أسر شيئا فيما بينه و بين نفسه، لا يدري ما هو ثم أظهر: «يا من يكفي خلقه كلهم، و لا يكفيه أحد، اكفني شر عبدالله بن علي». قال: فصار أبوجعفر لا يبصر مولاه، و صار مولاه لا يبصره، فقال

ص: 588


1- 963. الجد - هنا -: العظمة، و منه قوله تعالي: «و أنه تعالي جد ربنا» أي عظمته (أقرب الموارد).
2- 964. مهج الدعوات: ص 201. منه بحارالأنوار: ج 94 ص 298.

أبوجعفر: يا جعفر بن محمد! لقد عييتك! (1) في هذا الحر، فانصرف. فخرج أبوعبدالله (عليه السلام) من عنده. فقال أبوجعفر - لمولاه -: ما منعك أن تفعل ما أمرتك به؟ فقال: لا والله ما أبصرته، و لقد جاء شي ء فحال بيني و بينه. فقال له أبوجعفر: «والله! لئن حدثت بهذا الحديث أحدا لأقتلنك» (2) . و عن الامام علي بن موسي بن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام) قال: أرسل أبوجعفر الدوانيقي الي جعفر بن محمد (عليهماالسلام) ليقتله و طرح له سيفا و نطعا و قال للربيع: اذا أنا كلمته ثم ضربت باحدي يدي علي الاخري، فاضرب عنقه. فلما دخل جعفر بن محمد (عليهماالسلام) و نظر اليه من بعيد (فحرك - خ ل) يحرك شفتيه و أبوجعفر علي فراشه، قال: مرحبا و أهلا بك يا أباعبدالله، ما أرسلنا اليك الا رجاء أن نقضي دينك، و نقضي ذمامك (3) . ثم ساء له مساءلة لطيفة عن أهل بيته، و قال: قد قضي الله دينك، و أخرج جائزتك. يا ربيع! لا تمضين ثالثة حتي يرجع جعفر الي أهله. فلما خرج قال له الربيع: يا أباعبدالله أرأيت السيف؟ انما كان وضع لك، و النطع، فأي شي ء رأيتك تحرك به شفتيك؟

ص: 589


1- 965. كشف الغمة: ج 2 ص 191. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 183.
2- 966. أي أتعبتك.
3- 967. الكافي: ج 2 ص 559 ح 12.

قال جعفر (عليه السلام): نعم يا ربيع، لما رأيت الشر في وجهه، قلت: «حسب الرب من المربوبين، و حسبي الخالق من المخلوقين، و حسبي الرازق من المرزوقين، و حسبي الله رب العالمين حسبي من هو حسبي، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي الله لا اله الا هو، عليه توكلت، و هو رب العرش العظيم» (1) . و عن عنبسة بن مصعب قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: أشكو الي الله (عزوجل) وحدتي و تقلقلي (2) بين أهل المدينة حتي تقدموا و أراكم و آنس بكم، فليت هذه الطاغية أذن لي فأتخذ قصرا في الطائف فسكنته و أسكنتكم معي و أضمن له أن لا يجيي ء من ناحيتنا مكروه أبدا (3) . و قال الامام الصادق (عليه السلام): قال لي رجل: أي شي ء قلت حين دخلت علي أبي جعفر (4) بالربذة. قال: قلت: «اللهم انك تكفي من كل شي ء و لا يكفي منك شي ء فاكفني بما شئت و كيف شئت و من حيث شئت و أني شئت» (5) . و روي عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: لما دفعت الي أبي جعفر المنصور، انتهرني و كلمني بكلام غليظ ثم قال لي: يا جعفر

ص: 590


1- 968. الذمام: الحق و الحرمة، لأن نقضه يوجب الذم. (أقرب الموارد).
2- 969. عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 304 ح 64. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 162 مع اختلاف يسير.
3- 970. التقلقل: الحركة و الاضطراب (لسان العرب) و في بعض النسخ: تقلقي، و القلق: الانزعاج (لسان العرب).
4- 971. الكافي: ج 8 ص 215 ح 261.
5- 972. المقصود بأبي جعفر: المنصور الدوانيقي.

قد علمت بفعل محمد بن عبدالله الذي تسمونه (1) النفس الزكية و ما نزل به، و انما أنتظر الآن أن يتحرك منكم أحد فالحق الكبير بالصغير. قال: فقلت: يا أميرالمؤمنين حدثني محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن الحسين بن علي، عن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) أن النبي (صلي الله عليه و آله) قال: ان الرجل ليصل رحمه و قد بقي من عمره ثلاث سنين فيمدها الله الي ثلاث و ثلاثين سنة، و ان الرجل ليقطع رحمه و قد بقي من عمره ثلاث و ثلاثون سنة فيبترها الله تعالي الي ثلاث سنين. قال: فقال لي: والله لقد سمعت هذا من أبيك؟ قلت: نعم. حتي رددها علي ثلاثا، ثم قال: انصرف (2) . و روي عن الأعمش أن المنصور حيث طلبه، فتطهر و تكفن و تحنط، قال له: حدثني بحديث سمعته أنا و أنت من جعفر بن محمد في بني حمان. قال: قلت له: أي الأحاديث؟ قال: حديث أركان جهنم. قال: قلت: أو تعفيني؟ قال: ليس الي ذلك سبيل. قال: قلت: حدثنا جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: لجهنم سبعة أبواب، و هي الأركان، لسبعة فراعنة.

ص: 591


1- 973. الكافي: ج 2 ص 559 ح 11.
2- 974. في بحارالأنوار: يسمونه.

ثم ذكر الأعمش: نمرود بن كنعان - فرعون الخليل - و مصعب بن الوليد - فرعون موسي - و أباجهل بن هشام، و الأول، و الثاني، و السادس يزيد قاتل ولدي، ثم سكت. فقال لي: الفرعون السابع؟ قلت: رجل من ولد العباس يلي الخلافة، يلقب بالدوانيقي اسمه المنصور!! قال: فقال لي: صدقت، هكذا حدثنا جعفر بن محمد. قال: فرفع رأسه، و اذا علي رأسه غلام أمرد، ما رأيت أحسن وجها منه، فقال: ان كنت أحد أبواب جهنم، فلم استبقي هذا؟ و كان الغلام علويا حسينيا، فقال له الغلام، سألتك يا أميرالمؤمنين بحق آبائي الا عفوت عني، فأبي ذلك. و أمر المرزبان به، فلما مد يده، حرك شفتيه بكلام لم أعلمه، فاذا هو كأنه طير قد طار منه. قال الأعمش: فمر علي بعد أيام فقلت: أقسمت عليك بحق أميرالمؤمنين لما علمتني الكلام. فقال: ذاك دعاء المحنة لنا أهل البيت، و هو الذي دعا به أميرالمؤمنين (عليه السلام) لما نام علي فراش رسول الله (صلي الله عليه و آله)، ثم ذكر الدعآء. قال الأعمش: و أمر المنصور في رجل بأمر غليظ فجلس في بيت لينفذ فيه أمره، ثم فتح عنه فلم يوجد، فقال المنصور: أسمعتموه يقول شيئا؟ فقال الموكل: سمعته يقول: «يا من لا اله غيره فأدعوه، و لا رب

ص: 592

سواه فأرجوه نجني الساعة». فقال: والله لقد استغاث بكريم فنجاه (1) . و عن عبدالله بن الفضل بن الربيع عن أبيه قال: حج المنصور سنة سبع و أربعين و مائة، فقدم المدينة و قال للربيع: ابعث الي جعفر ابن محمد من يأتينا به متعبا، قتلني الله ان لم أقتله. فتغافل الربيغ عنه لينساه، ثم أعاد ذكره للربيع، و قال: ابعث من يأتينا به متعبا، فتغافل عنه. ثم أرسل الي الربيع رسالة قبيحة أغلظ [عليه] (2) فيها، و أمره أن يبعث من يحضر جعفرا، ففعل. فلما أتاه قال له الربيع: يا أباعبدالله اذكر الله فانه قد أرسل اليك بما لا دافع له غير الله. فقال جعفر: لا حول و لا قوة الا بالله. ثم ان الربيع أعلم المنصور بحضوره، فلما دخل جعفر عليه أوعده و أغلظ له، و قال: أي عدو الله!! اتخذك أهل العراق اماما يجبون (3) اليك زكاة أموالهم، و تلحد في سلطاني، و تبغيه الغوائل! قتلني الله ان لم أقتلك. فقال له: يا أميرالمؤمنين ان سليمان اعطي فشكر، و ان أيوب ابتلي فصبر، و ان يوسف ظلم فغفر، و أنت من ذلك السنخ (4) .

ص: 593


1- 975. بحارالأنوار: ج 47 ص 206.
2- 976. بحارالأنوار: ج 47 ص 309 ح 29.
3- 977. هذه الزيادة وردت في بحارالأنوار.
4- 978. في بحارالأنوار: يبعثون.

فلما سمع ذلك المنصور منه قال له: الي و عندي يا أباعبدالله، انت البري ء الساحة، السليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك الله من ذي رحم أفضل ما جزي ذوي الأرحام عن أرحامهم، ثم تناول يده فأجلسه معه علي فراشه، ثم قال: علي بالطيب فاتي بالغاية فجعل يغلف لحية جعفر (عليه السلام) بيده (1) حتي تركها تقطر. ثم قال: قم في حفظ الله و كلاءته. ثم قال: يا ربيع ألحق أباعبدالله جائزته و كسوته. انصرف أباعبدالله في حفظه و كنفه فانصرف. قال الربيع: و لحقته فقلت له: اني قد رأيت قبلك ما لم تره، و رأيت بعدك ما لا رأيته، فما قلت يا أباعبدالله حين دخلت؟ قال: قلت: «اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، و اكنفني بركنك الذي لا يرام، و اغفر لي بقدرتك علي و لا أهلك و أنت رجائي، اللهم أنت أكبر و أجل مما أخاف و أحذر، اللهم بك أدفع في نحره و أستعيذ بك من شره» ففعل اله بي ما رأيت (2) . و عن كتاب كنز الفوائد للكراجكي قال: جاء في الحديث أن أباجعفر المنصور خرج في يوم جمعة متوكئا علي يد الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فقال رجل يقال له رزام مولي خالد بن عبدالله: من هذا الذي بلغ من خطره ما يعتمد أميرالمؤمنين علي يده؟

ص: 594


1- 979. أقول: هذه الجملة ليست مدحا للمنصور الدوانيقي ابدا، بل معناها ان الحاكم المقتدر عليه ان يتحلي بالصبر و العفو عن مخالفيه.
2- 980. الغالية: نوع من الطيب مركب من مسك و عنبر و عود و دهن. و التغلف بها: التلطخ (النهاية).

فقيل له: هذا جعفر بن محمد الصادق (صلي الله عليه). فقال: اني والله ما علمت، لوددت أن خد أبي جعفر نعل لجعفر. ثم قام فوقف بين يدي المنصور، فقال له: أسأل يا أميرالمؤمنين؟ فقال المنصور: سل هذا. فقال: اني اريدك بالسؤال. فقال له المنصور: سل هذا. فالتفت رزام الي الامام جعفر بن محمد (عليه السلام) فقال: أخبرني عن الصلاة و حدودها. فقال له الصادق (عليه السلام): للصلاة أربعة آلاف حد لست تؤاخذ بها. فقال: أخبرني بما لا يحل تركه، و لا تتم الصلاة الا به؟ فقال أبوعبدالله (عليه السلام): «لا تتم الصلاة الا لذي طهر سابغ، و تمام بالغ، غير نازع، و لا زائغ (1) ، عرف فوقف، و أخبت فثبت، فهو واقف بين اليأس و الطمع و الصبر و الجزع، كأن الوعد له صنع، و الوعيد بن وقع، بذل غرضه، تمثل عرضه (2) ، و بذل في الله المهجة، و تنكب اليه المحجة، غير مرتعم بارتعام (3) ، يقطع علائق الاهتمام بعين من له قصد، و اليه وفد، و منه استرفد. فاذا أتي بذلك كانت هي الصلاة التي بها امر، و عنها اخبر، فانها

ص: 595


1- 981. كشف الغمة: ج 2 ص 158 و 159. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 182. و ذكره الأندلسي في «العقد الفريد» و الاصفهاني في «الترغيب و الترهيب».
2- 982. الزيغ: الميل (أقرب الموارد).
3- 983. في بحارالأنوار: غرضه.

هي الصلاة التي تنهي عن الفحشاء و المنكر». فالتفت المنصور الي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: يا أباعبدالله لا نزال من بحرك نغترف و اليك نزدلف (1) ، تبصر من العمي، و تجلو بنورك الطخياء (2) ، فنحن نعوم في سبحات قدسك و طامي (3) بحرك (4) . و كتب المنصور الي جعفر بن محمد (عليهماالسلام): لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟. فأجابه: «ليس لنا ما نخافك من أجله، و لا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، و لا أنت في نعمة فنهنئك، و لا تراها نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عندك؟». قال: فكتب [المنصور] اليه: تصحبنا لتنصحنا. فأجابه (عليه السلام): «من أراد الدنيا لا ينصحك، و من أراد الآخرة لا يصحبك». فقال المنصور: والله لقد ميز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممن يريد الآخرة و انه ممن يريد الآخرة لا الدنيا (5) . أقول: الظاهر أن هذه المراسلة و المكاتبة بين الامام الصادق (عليه السلام) و الطاغية كانت في بداية حكم المنصور و قبل أن يستفحل امره

ص: 596


1- 984. الرعام: حدة النظر. رعم الشي ء: رقبه و رعاه (أقرب الموارد).
2- 985. ازدلف: تقدم و تقرب (أقرب الموارد).
3- 986. الطخياء: الليلة المظلمة (أقرب الموارد).
4- 987. طما البحر: امتلأ (أقرب الموارد).
5- 988. فلاح السائل: ص 23. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 185.

و يغويه جبروته و يسكره طغيانه، حيث كان للامام (عليه السلام) بعض الحرية في عدم التقية منه. و عن الربيع صاحب المنصور قال: قال المنصور يوما لأبي عبدالله (عليه السلام) - و قد وقع علي المنصور ذباب فذبه عنه، ثم وقع عليه فذبه عنه، ثم وقع عليه فذبه عنه - فقال: يا أباعبدالله! لأي شي ء خلق الله (عزوجل) الذباب؟ قال [الامام]: ليذل بن الجبارين!! (1) . و قال له أبوجعفر المنصور: اني قد عزمت علي أن أخرب المدينة، و لا أدع بها نافخ ضرمة (2) . فقال [الامام]: يا أميرالمؤمنين!! لا أجد بدا من النصاحة لك، فاقبلها ان شئت أولا. قال: قل. قال: انه قد مضي لك ثلاثة أسلاف: أيوب ابتلي فصبر، و سليمان اعطي فشكر، و يوسف قدر فغفر، فاقتد بأيهم شئت. قال: قد عفوت!! و قيل له (عليه السلام): ان أباجعفر المنصور لا يلبس - منذ صارت الخلافة اليه - الا الخشن، و لا يأكل الا الجشب (3) . فقال: يا ويحه! مع ما قد مكن الله له من السلطان، و جبي اليه من الأموال؟!

ص: 597


1- 989. كشف الغمة: ج 2 ص 208. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 184.
2- 990. علل الشرايع: ص 496 ح 1. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 166.
3- 991. الضرمة: النار (أقرب الموارد) أي لا أدع بها أحدا.

فقيل له: انما يفغل ذلك بخلا، و جمعا للأموال. فقال: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما له ترك دينه (1) . و عن عبدالله بن أبي ليلي قال: كنت بالربذة مع المنصور، و كان قد وجه الي أبي عبدالله (عليه السلام) فاتي به، و بعث الي المنصور فدعاني، فلما انتهيت الي الباب سمعته [المنصور] يقول: «عجلوا علي به، قتلني الله ان لم أقتله!! سقي الله الأرض من دمي ان لم أسق الأرض من دمه» فسألت الحاجب: من يعني؟ قال: جعفر بن محمد. فاذا هو قد اتي به مع عدة جلاوزة، فلما انتهي الي الباب - قبل أن يرفع الستر - رأيته قد تململت شفتاه عن رفع الستر، فدخل. فلما نظر اليه المنصور قال: مرحبا يابن عم! مرحبا يابن رسول الله!! فما زال يرفعه حتي أجلسه علي وسادته، ثم دعا بالطعام، فرفعت رأسي، و أقبلت أنظر اليه و يلقمه جديا (2) باردا، و قضي حوائجه، و أمره بالانصراف. فلما خرج قلت له: «قد عرفت موالاتي لك، و ما قد ابتليت به في دخولي عليهم، و قد سمعت كلام الرجل [المنصور] و ما كان يقول، فلما صرت الي الباب رأيتك قد تململت شفتاك، و ما أشك أنه

ص: 598


1- 992. الجشب من الطعام: الغليظ الخشن (مجمع البحرين).
2- 993. كشف الغمة: ج 2 ص 203. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 184. و معني كلام الامام (عليه السلام): ان المنصور ترك دينه من أجل الاستمتاع بملذات الدنيا - و منها في المأكل و الملبس - و لكنه حرم نفسه من هذه اللذة بدافع البخل و الحرص علي المال.

شي ء قلته، و رأيت ما صنع بك، فان رأيت أن تعلمني ذلك فأقوله اذا دخلت عليه». قال: نعم، قلت: «ما شاء الله، ما شاء الله، لا يأتي بالخير الا الله، ما شاء الله، ما شاء الله، لا يصرف السوء الا الله، ما شاء الله، ما شاء الله، كل نعمة فمن الله، ما شاء الله، ما شاء الله لا حول و لا قوة الا بالله» (1) . مناقب آل أبي طالب: قال الربيع الحاجب: أخبرت الصادق بقول المنصور: «لأقتلنك، و لأقتلن أهلك حتي لا ابقي علي الأرض منكم قامة سوط (2) و لاخربن المدينة حتي لا أترك فيها جدارا قائما». فقال [الامام]: لا ترع من كلامه، و دعه من طغيانه، فلما صار بين السترين سمعت المنصور يقول: أدخلوه الي سريعا، فأدخلته عليه فقال [المنصور]: «مرحبا بابن العم النسيب، و بالسيد القريب» ثم أخذ بيده، و أجلسه علي سريره، و أقبل عليه، ثم قال: أتدري لم بعثت اليك؟ فقال: و أني لي علم الغيب؟ قال: أرسلت اليك لتفرق هذه الدنانير في أهلك، و هي عشرة آلاف دينار. فقال [الامام]: ولها غيري. فقال: أقسمت عليك يا أباعبدالله. لتفرقها علي فقراء أهلك. ثم عانقه بيده، و أجازه و خلع عليه، و قال: يا ربيع أصحبه قوما يردونه الي المدينة.

ص: 599


1- 994. الجدي: هو الذكر من أولاد المعز (مجمع البحرين). أي لحم الجدي.
2- 995. كشف الغمة: ج 2 ص 195. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 183.

قال [الربيع]: فلما خرج أبوعبدالله قلت له (أي للمنصور): يا أميرالمؤمنين! لقد كنت من أشد الناس عليه غيظا، فما الذي أرضاك عنه؟. قال: يا ربيع! لما حضرت الباب رأيت تنينا عظيما يقرض أنيابه، و هو يقول - بألسنة الأدميين -: ان أنت أشكت (1) ابن رسول الله لأفصلن لحمك من عظمك، فأفزعني ذلك، و فعلت به ما رأيت (2) . و عن بشير النبال قال: كنت علي الصفا و أبوعبدالله (عليه السلام) قائم عليها، اذ انحدر و انحدرت في أثره. قال: و أقبل أبوالدوانيق علي جمازته (3) و معه جنده علي خيل و علي ابل، فزحموا أباعبدالله (عليه السلام) حتي خفت عليه (عليه السلام) من خيلهم، فأقبلت اقيه بنفسي و اكون بينهم و بينه بيدي. قال: فقلت في نفسي: يا رب عبدك و خير خلقك في أرضك، و هؤلاء شر من الكلاب، قد كانوا يعتنونه. قال: فالتفت الي و قال: يا بشير. قلت: لبيك. قال: ارفع طرفك لتنظر. قال: فاذا - والله - واقية من الله أعظم مما عسيت أن اصفه. قال: فقال: يا بشير انا اعطينا ما تري، و لكنا امرنا أن نصبر فصبرنا (4) .

ص: 600


1- 996. أي من طوله طول السوط.
2- 997. أشكت: أي أدخلت الشوك في جسده. مبالغة في ايصال الأذي.
3- 998. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 231. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 178.
4- 999. الجماز: البعير الذي يركبه المجمز (أقرب الموارد). [

المنصور الدوانيقي يقتل ذرية رسول الله

لقد بذل المنصور السفاك قصاري جهده من أجل القضاء علي ذرية رسول الله و أولاد الامامين الحسن و الحسين (عليهماالصلاة و السلام). و قد ادي ذلك الي تشرد العلويين و انتشارهم في البلاد و اختفائهم في البراري و الجبال... عدا الذين ظفر بهم و قضي عليهم. و اليك بعض التفصيل: عن أبي منصور المطرز قال: سمعت الحاكم أباأحمد محمد بن محمد بن اسحاق الأنماطي النيسابوري يقول - باسناد متصل ذكره محمد -: انه لما بني المنصور الأبنية ببغداد جعل يطلب العلوية طلبا شديدا و يجعل من ظفر به منهم في الاسطوانات المجوفة المبنية من الجص و الآجر. فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه، عليه شعر أسود، من

ص: 601

ولد الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فسلمه الي البناء الذي كان يبني له، و أمره أن يجعله في جوف اسطوانة و يبني عليه، و وكل به من ثقاته من يراعي ذلك، حتي يجعله في جوف اسطوانة بمشهده. فجعله البناء في جوف اسطوانة، فدخلته رقة عليه و رحمة له، فترك في الاسطوانة فرجة منها الروح (1) و قال للغلام: لا بأس عليك، فاصبر فاني ساخرجك من جوف هذه الاسطوانة اذا جن الليل. و لما جن الليل جاء البناء في ظلمته و أخرج ذلك العلوي من جوف تلك الاسطوانة و قال له: اتق الله في دمي و دم الفعلة الذين معي، و غيب شخصك، فاني انما اخرجتك في ظلمة هذه الليلة من جوف هذه الاسطوانة لأني خفت - ان تركتك في جوفها - أن يكون جدك رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يوم القيامة خصمي بين يدي الله عزوجل. ثم أخذ شعره بآلات الجصاصين كلما امكن و قال له: غيب شخصك و انج بنفسك و لا ترجع الي امك. قال الغلام: فان كن هذا هكذا فعرف امي أني قد نجوت و هربت، لتطيب نفسها و يقل جزعها و بكاؤها، ان لم يكن لعودي اليها وجه. فهرب الغلام، و لا يدري أين قصد من أرض الله، و لا الي أي بلد وقع.

ص: 602


1- 1000. مستدرك الوسائل: ج 9 ص 452.

قال ذلك البناء: و قد كان الغلام عرفني مكان امه و أعطاني العلامة، فانتهيت اليها في الموضع الذي كان دلني عليه، فسمعت دويا كدوي النحل من البكاء، فعلمت أنها امه، فدنوت منها و عرفتها خبر ابنها و اعطيتها شعره، و انصرفت (1) . أيها القارئ الكريم: ان قضية هذا العلوي هي واحدة من مئات أو من آلاف القضايا المؤلمة التي تعرض لها ذرية رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) علي يد المنصور الطاغية و غيره من الطغاة و الجبابرة الظالمين. فهل هذا جزاء رسول الله في أهل بيته؟!! و هل هذا معني قوله تعالي: «قل لا أسئلكم عليه أجرا الا المودة في القربي»؟!!

ص: 603


1- 1001. الروح: نسيم الريح (أقرب الموارد).

المنصور يأمر باحراق دار الامام الصادق

عن المفضل بن عمر، قال: وجه أبوجعفر المنصور الي الحسن بن زيد - و هو واليه علي الحرمين - أن احرق علي جعفر بن محمد داره. فألقي النار في دار أبي عبدالله فأخذت النار في الباب و الدهليز، فخرج أبوعبدالله (عليه السلام) يتخطي النار، و يمشي فيها و يقول: «انا ابن أعراق الثري، أنا ابن ابراهيم خليل الله» (1) . أيها القارئ الكريم: كان الامام الصادق (عليه السلام) يقتحم السنة النار الملتهبة، و يمشي فيها و يخمدها برجليه الكريمتين.. و يقول: أنا ابن أعراق الثري، أنا ابن ابراهيم خليل الله. و كأنه يقول لأولئك الطغاة: أنا من نسل تلك الأمجاد الشامخة و البطولات القاهرة و الأنوار الزاهرة... التي أراد الظالمون القضاء عليها... فأبي الله عليهم ذلك. أنا من نسل النبي ابراهيم الذي اراد طاغية زمانه احراقة بالنار

ص: 604


1- 1002. بحارالأنوار: ج 47 ص 306.

و القضاء عليه، فقذفه في النار لكي لا يبقي منه أثر... فجعل الله النار عليه بردا و سلاما... و بقي ابراهيم شامخ الرأس، يتحدي الطغاة... أنا من ذرية ابراهيم.. أنا ابن الجذور المتأصلة في التاريخ... أنا ابن الاصول الثابتة في الأرض. أنا ابن الأمجاد المرتفعة في عمق سماء العظمة. و هيهات.. هيهات.. أن يستطيع المنصور - و غيره من الفراعنة - القضاء علي حجج الله علي الخلق. هيهات.. هيهات.. أن يطفؤا نور الله الذي أبي الا أن يتمه. بل... يبقي العظماء.. و يخسأ الظالمون. يبقي الأبرار.. و يندحر الأشرار.

ص: 605

جاسوس المنصور في المدينة

عن صفوان بن يحيي، عن جعفر بن محمد بن الأشعث، قال: قال لي: أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الأمر، و معرفتنا به - و ما كان عندنا منه ذكر، و لا معرفة شي ء مما عند الناس -؟ (1) . قال: قلت له: و ما ذاك؟ قال: ان أباجعفر - يعني أباالدوانيق - قال لأبي - محمد بن الأشعث -: يا محمد! ابغ لي رجلا له عقل يؤدي عني. فقال له أبي: قد أصبته لك، هذا فلان بن مهاجر: خالي [أخو امي]. قال: فأتني به: قال: فأتيته بخالي. فقال له أبوجعفر. يابن مهاجر! خذ هذا المال، و أت المدينة، و أت عبدالله بن الحسن بن الحسن، و عدة من أهل بيته، فيهم: جعفر بن محمد، فقل

ص: 606


1- 1003. الكافي: ج 1 ص 473 ح 2.

لهم: اني رجل غريب من أهل خراسان، و بها شيعة من شيعتكم وجهوا اليكم بهذا المال. و ادفع الي كل واحد منهم علي شرط كذا و كذا، فاذا قبضوا المال، فقل: اني رسول، و أحب أن يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم. فأخذ المال، و أتي المدينة، فرجع الي أبي الدوانيق - و محمد بن الأشعث عنده - فقال له أبوالدوانيق: ما وراءك؟ قال: أتيت القوم، و هذه خطوطهم بقبضهم المال، خلا جعفر بن محمد، فاني أتيته و هو يصلي في مسجد الرسول (صلي الله عليه و آله) فجلست خلفه، و قلت حتي ينصرف، فأذكر له ما ذكرت لأصحابه، فعجل و انصرف، ثم التفت الي فقال: يا هذا! اتق الله، و لا تغر أهل بيت محمد، فانهم قريبوا العهد بدولة بني مروان، و كلهم محتاج. فقلت: و ما ذاك؟ أصلحك الله. قال: فأدني رأسه مني، و أخبرني بجميع ما جري بيني و بينك حتي كأنه كان ثالثنا. قال: فقال له أبوجعفر [الدوانيقي]: يابن مهاجر! اعلم أنه ليس من أهل بيت نبوة الا و فيه محدث، و ان جعفر بن محمد: محدثنا اليوم و كانت هذه الدلالة سبب قولنا بهذه المقالة (1) . هذا... و قد رويت هذه الرواية بصورة اخري و هي: عن مهاجر ابن عمارا الخزاعي، قال: بعثني أبوالدوانيق الي المدينة، و بعث معي

ص: 607


1- 1004. أي سبب تشيعنا، و اعتناقنا مذهب أهل البيت بعد أن كنا في غفلة عنه.

بمال كثير، و أمرني أن أتضرع لأهل هذا البيت، و أتحفظ مقالتهم. قال: فلزمت الزاوية التي مما يلي القبلة (1) فلم أكن أتنحي منها في وقت الصلاة، لا في ليل و لا في نهار. قال: و أقبلت أطرح - الي السؤال (2) الذين حول القبر - الدراهم، و من هو فوقهم، الشي ء بعد الشي ء، حتي ناولت شبابا من بني الحسن و مشيخة، حتي ألفوني و ألفتهم في السر. قال: و كنت كلما دنوت من أبي عبدالله [الصادق] يلاطفني و يكرمني، حتي اذا كان يوما من الأيام - بعد ما نلت حاجتي ممن كنت اريد من بني الحسن و غيرهم - دنوت من أبي عبدالله (عليه السلام) و هو يصلي فلما قضي صلاته التفت الي و قال: تعال يا مهاجر! - و لم أكن أتسمي باسمي، و لا اكني بكنيتي - فقال: قل لصاحبك: يقول لك جعفر: كان أهل بيتك الي غير هذا منك أحوج منهم الي هذا!! تجي ء الي قوم شباب محتاجين، فتدس اليهم، فلعل أحدهم يتكلم بكلمة تستحل بها سفك دمه، فلو بررتهم و وصلتهم، و أنلتهم و أغنيتهم كانوا الي هذا أحوج، مما تريد منهم. قال: فلما أتيت أباالدوانيق قلت له: جئتك من عند ساحر كان من أمره كذا و كذا. فقال: صدق، والله لقد كانوا الي غير هذا أحوج، و اياك أن يسمع هذا الكلام منك انسان (3) .

ص: 608


1- 1005. الكافي: ج 1 ص 475 ح 6.
2- 1006. في بحارالأنوار: مما يلي القبر، و لعله الأصح.
3- 1007. السؤال - علي وزن رمان -: جمع سائل.

محاولة اغتيال الامام الصادق

عن قيس بن الربيع، قال: حدثني أبي الربيع قال: دعاني المنصور يوما قومنا: أما تري ما هو هذا يبلغني عن هذا الحبشي؟ قلت: و من هو يا سيدي؟ قال: جعفر بن محمد، والله لأستأصلن شأفته (1) ، ثم دعا بقائد من قواده، فقال: انطلق الي المدينة في ألف رجل، فاهجم علي جعفر بن محمد، و خذ رأسه و رأس ابنه موسي بن جعفر، في مسيرك، فخرج القائد من ساعته حتي قدم المدينة، و أخبر جعفر بن محمد فأمر فاتي بناقتين، فأوثقهما علي باب البيت و دعا بأولاده موسي، و اسماعيل، و محمد و عبدالله، فجمعهم و قعد في المحراب، و جعل يهمهم. قال أبونصر (2) : فحدثني سيدي موسي بن جعفر أن القائد هجم عليه، فرأيت أبي و قد همهم بالدعاء، فأقبل القائد و كل من كان معه قال: خذوا رأسي هذين القائمين، فاجتزوا رأسهما، ففعلوا و انطلقوا

ص: 609


1- 1008. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 646 ح 55. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 172.
2- 1009. الشأفة: الأصل، و قولهم استأصل الله شأفته، أي أذهبه، و معناه: أزاله من أصله. (أقرب الموارد).

الي المنصور، فلما دخلوا عليه اطلع المنصور في المخلاة (1) التي كان فيها الرأسان، فاذا هما رأسا ناقتين. فقال المنصور: و أي شي ء هذا؟ قال: يا سيدي ما كان بأسرع من أن دخلت البيت الذي فيه جعفر ابن محمد، فدار رأسي و لم أنظر ما بين يدي، فرأيت شخصين قائمين خيل الي أنهما جعفر و موسي ابنه فأخذت رأسيهما. فقال المنصور: اكتم علي. فما حدثت به أحدا حتي مات. قال الربيع: فسألت موسي بن جعفر (عليه السلام) عن الدعاء؟ فقال: سألت أبي عن الدعاء فقال: هو دعاء الحجاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، و اذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا، و جعلنا علي قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرأ، و اذا ذكرت ربك في القرآن وحده و لوا علي أدبارهم نفورا، اللهم اني اسألك بالاسم الذي به تحيي و تميت و ترزق و تعطي و تمنع، يا ذا الجلال و الاكرام، اللهم من أرادنا بسوء من جميع خلقك فاعم عنا عينه، و اصمم عنا سمعه، و اشغل عنا قلبه، و اغلل عنا يده، و اصرف عنا كيده، و خذه من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و من تحته و من فوقه، يا ذالجلال و الاكرام». قال موسي (عليه السلام): قال أبي (عليه السلام): انه دعاء الحجاب من جميع الأعداء (2) .

ص: 610


1- 1010. في بحارالأنوار: قال أبوبصير.
2- 1011. المخلاة: ما يوضع فيه العلف و يعلق في عنق الدابة لتعتلفه. (أقرب الموارد).

و روي أن أباخديجة روي عن رجل من كندة - و كان سياف بني العباس - قال: لما جاء أبوالدوانيق بأبي عبدالله (عليه السلام) و اسماعيل، أمر بقتلهما و هما محبوسان في بيت فأتي - عليه اللعنة - الي أبي عبدالله (عليه السلام) ليلا فأخرجه و ضربه بسيفه حتي قتله. ثم أخذ اسماعيل ليقتله فقاتله ساعة ثم قتله، ثم جاء اليه فقال: ما صنعت؟ قال: لقد قتلتهما و أرحتك منهما. فلما أصبح اذا أبوعبدالله (عليه السلام) و اسماعيل جالسان. فاستأذنا. فقال أبوالدوانيق للرجل: ألست زعمت أنك قتلتهما؟ قال: بلي، لقد عرفتهما كما أعرفك، قال: فاذهب الي الموضع الذي قتلتهما فيه فانظر، فجاء، فاذا بجزورين منحورين، قال: فبهت و رجع فأخبره فنكس رأسه [و عرفه ما رأي] (1) فقال: لا يسمعن هذا منك أحد. فكان كقوله تعالي في عيسي [بن مريم] «و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم» (2) . أقول: و روي قريب منه، عن عبدالأعلي بن أعين عن رزام بن مسلم (3) .

ص: 611


1- 1012. مهج الدعوات: ص 214. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 204.
2- 1013. ما بين المعقوفتين غير موجود في بحارالأنوار.
3- 1014. الخرائج و الجرائح: ج 2 ص 626 ح 27، و الآية في سورة النساء آية 157. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 102.

الامام الصادق يفحم المنصور

روي أن أباعبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه الصلاة و السلام) استحضره المنصور في مجلس غاص (1) بأهله، فأمره بالجلوس، فأطرق [المنصور] مليا، ثم رفع رأسه و قال له: يا جعفر! ان النبي (صلي الله عليه و آله) قال - لأبيك علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوما -: «لو لا أن تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصاري في المسيح لقلت فيك قولا، لا تمر بملأ الا أخذوا من تراب قدميك، يستشفون به». و قال علي (عليه السلام): «يهلك في اثنان: محب مفرط، و مبغض مفرط». فالاعتذار منه أن لا يرضي بما يقول فيه المفرط، و لعمري: ان عيسي بن مريم (عليه السلام) لو سكت عما قالت فيه النصاري لعذبه الله.

ص: 612


1- 1015. بحارالأنوار: ج 47 ص 204.

و قد نعلم (1) ما يقال فيك من الزور و البهتان، و امساكك عمن يقول ذلك فيك و رضاك به سخط الديان. زعم أوغاد الشام (2) و أوباش العراق (3) أنك حبر الدهر و ناموسه (4) و حجة المعبود و ترجمانه، و عيبة (5) علمه و ميزان قسطه و مصباحه، الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة الي فضاء النور، و أن الله (تبارك و تعالي) لا يقبل - من عامل جهل حقك في الدنيا - عملا، و لا يرفع له - يوم القيامة - وزنا. فنسبوك الي غير حدك و قالوا فيك ما ليس فيك. فقل، فان أول من قال الحق: لجدك، و أول من صدقه عليه: أبوك (عليه السلام) فأنت حري بأن تقتص (6) آثارهما، و تسلك سبيلهما! فقال أبوعبدالله (عليه السلام): «أنا فرع من فروع الزيتونة (7) و قنديل من قناديل بيت النبوة، و سليل الرسالة و أديب السفرة (8) ،

ص: 613


1- 1016. غاص: ممتلي ء.
2- 1017. لعل الأصح: تعلم.
3- 1018. الوغد: الضعيف العقل، الأحمق، الرذل الدني ء (لسان العرب).
4- 1019. الأوباش: الاخلاط و السفلة (أقرب الموارد).
5- 1020. الحبر: العالم، و قيل: الصالح من العلماء. و الناموس: صاحب السر، المطلع علي باطن أمرك (أقرب الموارد).
6- 1021. العيبة: كالصندوق.
7- 1022. تقصص أثره: تتبعه (أقرب الموارد).
8- 1023. اشارة الي قوله تعالي: «يوقد من شجرة مباركة زيتونة».

و ربيب الكرام البررة، و مصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور، و صفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين الي يوم الحشر». فالتفت المنصور الي جلسائه فقال: قد أحالني علي بحر مواج لا يدرك طرفه، و لا يبلغ عمقه، تغرق فيه السبحاء و بحار فيه العلماء و يضيق بالسامع عرض الفضاء. هذا الشجا (1) المعترض في حلوق الخلفاء، الذي لا يحل قتله، و لا يجوز نفيه. و لو لا ما تجمعني و اياه من شجرة مباركة - طالب أصلها، و بسق فرعها (2) ، و عذب ثمرها، بوركت في الذر، و تقدست في الزبر - لكان مني اليه ما لا يحمد في العواقب، لما يبلغني من شدة عيبه لنا، و سوء القول فينا!! فقال أبوعبدالله (عليه السلام): لا تقبل - في ذي رحمك، و أهل الدعة من أهلك - قول من حرم الله عليه الجنة، و جعل مأواه النار، فان النمام شاهد زور، و شريك ابليس في الاغراء بين الناس. و قد قال الله (تبارك و تعالي): «يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ...» الآية (3) . و نحن لك أنصار و أعوان، و لملكك دعائم و أركان، ما أمرت بالمعروف و الاحسان و أمضيت في الرعية أحكام القرآن،

ص: 614


1- 1024. اديب - اسم مفعول - بمعني المؤدب و من تعلم الأدب، و الأدب: محاسن الأخلاق و السنن و الآداب، و السفرة بمعني السفير و هو المبعوث و الرسول، فقوله (عليه السلام): «اديب السفرة» معناه من تأدب بآداب رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و اخلاقه، و قد روي عن النبي الأكرم أنه قال: «أنا أديب الله، و علي أديبي».
2- 1025. الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم و نحوه ثم استعير للهم و الحزن لان الانسان يغص بهما (أقرب الموارد).
3- 1026. أي ارتفعت أغصانها.

و أرغمت - بطاعتك - أنف الشيطان. و ان كان يجب عليك - في سعة فهمك، و كرم حلمك، و معرفتك بآداب الله - أن تصل من قطعك، و تعطي من حرمك، و تعفو عمن ظلمك. فان المكافي ء ليس بالواصل، انما الواصل من اذا قطعت رحمه وصلها. فصل، يزد الله في عمرك، و يخفف عنك الحساب يوم حشرك. فقال أبوجعفر المنصور: قد قبلت عذرك لصدقك، و صفحت عنك لقدرك، فحدثني عن نفسك بحديث أتعظ به، و يكون لي زاجر صدق عن الموبقات. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): «عليك بالحلم فانه ركن العلم، و املك نفسك عند أسباب القدرة، فانك ان تفعل كل ما تقدر عليه كنت كمن شفي غيظا، أو أبدي حقدا أو يحب أن يذكر بالصولة. و اعلم أنك ان عاقبت مستحقا لم يكن غاية ما توصف به الا العدل، و لا أعلم حالا أفضل من حال العدل، و الحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر». فقال أبوجعفر المنصور: وعظت فأحسنت، و قلت فأوجزت، فحدثني عن فضل جدك علي بن أبي طالب (عليه الصلاة و السلام) حديثا لم تروه العامة. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): حدثني أبي، عن جدي: أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال:

ص: 615

«ليلة اسري بي الي السماء فتح لي في بصري غلوة (1) كمثال ما يري الراكب، خرق الابرة مسيرة يوم، و عهد الي ربي في علي ثلاث كلمات، فقال: يا محمد. فقلت: لبيك ربي! فقال: ان عليا امام المتقين، و قائد الغر المحجلين، و يعسوب المؤمنين، و المال يعسوب الظلمة، و هو الكلمة التي ألزمتها المتقين، و كانوا أحق بها و أهلها، فبشره بذلك». قال: فبشره النبي (صلي الله عليه و آله) بذلك. فقال: يا رسول الله! و اني اذكر هناك؟. فقال: نعم، انك لتذكر في الرفيع الأعلي. فقال المنصور: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (2) .

ص: 616


1- 1027. سورة الحجرات آية 6.
2- 1028. الغلوة: رمية سهم، أبعد ما يقدر عليه، و يقال: هي قدر ثلاثمائة ذراع الي أربعمائة (أقرب الموارد).

موقف المنصور من آل الحسن

قد ذكرنا - في فصل: مؤتمر الأبواء - ان رجالا من بني العباس و بني الامام الحسن (عليه السلام) اجتمعوا هناك و بايعوا محمد بن عبدالله بن الحسن بن الامام الحسن المجتبي (عليه السلام) - المعروف بالنفس الزكية - علي أن يكون الخليفة بعد انتصار الثورة. و لكن الامور انقلبت بعد ذلك، و حدث ما اخبر عنه الامام الصادق (عليه السلام) من أن الحكم سيكون لبني العباس لا لبني الحسن (عليه السلام). و لما تسلم بنوالعباس الحكم، و قفز أبوالعباس السفاح الي منصة الرئاسة، اختفي محمد و ابراهيم ابنا عبدالله بن الحسن، عن أعين الناس، و اخفي و الدهما مكانهما. يقول البعض: ان هذه الغيبة كانت خوفا من السفاح ان يغدر بهم. و يقول آخرون: ان عبدالله بن الحسن كان يري بأن الوقت المناسب لم

ص: 617

يحن بعد للثورة، و أن علي ولديه أن ينتظرا حتي ذلك الحين. و يحتمل أن تكون الغيبة - بالاضافة الي ما ذكر - تأكيدا منهم علي أن هذا هو المهدي الموعود الذي اخبرت الأحاديث ان له غيبة، و سوف يظهر بعدها. و علي أي حال... فقد حاول السفاح أن يكتشف المخبأ الذي يختفي فيه النفس الزكية و اخوه ابراهيم... لكنه فشل في ذلك، و كان يخشي أن يقوما ضده و يثورا عليه. حتي هلك السفاح، و ما حكم الا قليلا... فقفز أخوه المنصور الدوانيقي الي الحكم، و بدأ بتصفية خصومه السياسيين و كل من يخاف منه علي حكمه. و كان اختفاء محمد و ابراهيم يشغل فكره و يقوض مضجعه و يسلبه راحته. و قد جند المنصور طاقاته و عبأ رجاله و بذل الأموال الطائلة لهذا و ذاك.. علي ان يظفر بمحمد و ابراهيم أو يعرف المكان الذي يختبئان فيه... و لكن محاولاته باءت بالفشل. و في هذا المجال ذكر المؤرخون الكثير الكثير، و قد ذكرنا تفاصيل ذلك في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام). و كان المنصور يلح علي عبدالله بن الحسن - والد محمد و ابراهيم - علي أن يخبره بمكان ولديه، فكان يبدي عدم معرفته بذلك. ثم ان المنصور استدعي - في بغداد - عقبة بن سلم الأزدي و سلم اليه كتابا و اموالا و هدايا و أمره بالمسير الي المدينة المنورة و التقرب الي عبدالله بن الحسن و ملاطفته و تقديم الكتاب و الهدايا اليه، علي أنها من شيعته

ص: 618

بخراسان، و هم يسألونه عن يوم قيام ولده و خروجه علي المنصور. و استطاع هذا الشيطان ان يدخل الي قلب عبدالله بن الحسن و أن يطلع منه علي بعض الأسرار. ثم عاد الي المنصور و أخبره بالحقائق... و حج المنصور تلك السنة و اصدر أوامره الي واليه علي المدينة: رياح بن عثمان بن حيان المري بالقاء علي آل الامام الحسن (عليه السلام). و الآن نذكر مختصرا مما ذكره المؤرخون في هذا المجال: جاء في تاريخ الكامل لابن الأثير: قال علي بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان هاهنا من بني الحسين فليدخل. فدخلوا من باب المقصورة و خرجوا من باب مروان. ثم قال: من هاهنا من بني الحسن فليدخل. فدخلوا من باب المقصورة و دخل الحدادون من باب مروان، فدعا بالقيود فقيدهم و حبسهم، و كانوا: عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي، و الحسن و ابراهيم ابني الحسن بن الحسن، و جعفر بن الحسن بن الحسن، و سليمان و عبدالله، ابني داود بن الحسن بن الحسن و محمد و اسماعيل و اسحاق بني ابراهيم بن الحسن بن الحسن، و عباس بن الحسن بن الحسن بن علي، و موسي بن عبدالله بن الحسن بن الحسن. فلما حبسهم لم يكن فيهم علي بن الحسن بن الحسن بن علي العابد.

ص: 619

فلما كان الغد بعد الصبح اذ قد أقبل رجل متلفف، فقال له رياح: مرحبا بك، ما حاجتك؟ قال: جئتك لتحبسني مع قومي، فاذا هو علي بن الحسن بن الحسن، فحسبه معهم. و كتب المنصور الي رياح أن يحبس معهم محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالديباج، و كان أخا عبدالله بن الحسن بن الحسن، لأن أمهما جميعا فاطمة بنت الحسين بن علي [عليهماالسلام] فأخذه معهم. ثم سار المنصور لوجهه، فلما حج و رجع لم يدخل المدينة و مضي الي الربذة، فخرج اليه رياح الي الربذة فرده الي المدينة و أمره باشخاص بني الحسن اليه و معهم محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان أخو بني الحسن لأمهم، فرجع رياح فأخذهم و سار بهم الي الربذة، و جعلت القيود و السلاسل في أرجهلم و أعناقهم، و جعلهم في محامل بغير وطاء. و لما خرج بهم رياح من المدينة وقف جعفر بن محمد [عليه السلام] من وراء ستر، يراهم و لا يرونه و هو يبكي و دموعه تجري علي لحيته و هو يدعو الله، ثم قال: والله لا يحفظ الله حرميه بعد هؤلاء. و لما ساروا كان محمد و ابراهيم ابنا عبدالله يأتيان كهيئة الأعراب فيسايران أباهما و يستأذنانه بالخروج، فيقول: لا تعجلا حتي يمكنكما ذلك. و قال لهما: ان منعكما أبوجعفر - يعني المنصور - أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين. فلما وصلوا الي الربذة ادخل محمد بن عبدالله العثماني علي المنصور

ص: 620

و عليه قميص (1) و ازار رقيق، فلما وقف بين يديه قال: ايها يا ديوث! قال محمد: سبحان الله! لقد عرفتني بغير ذلك صغيرا و كبيرا! قال: فممن حملت ابنتك رقيه؟ - و كانت تحت ابراهيم بن عبدالله ابن الحسن - و قد أعطيتني الأيمان أن لا تغشني و لا تمالي ء علي عدوا، أنت تري ابنتك حاملا و زوجها غائب و أنت بين أن تكون حانثا أو ديوثا! و ايم الله اني لأهم برجمها! قال محمد: أما أيماني فهي علي ان كنت دخلت لك في أمر غش علمته، و أما ما رميت به هذه الجارية فان الله قد أكرمها بولادة رسول الله (صلي الله عليه و آله) اياها، و لكني ظننت حين ظهر حملها أن زوجها ألم بها علي حين غفلة. فاغتاط المنصور من كلامه و أمر بشق ثيابه عن ازاره، فحكي أن عورته قد كشفت، ثم أمر به فضرب خمسين و مائة سوط، فبلغت منه كل مبلغ و المنصور يفتري عليه لا يكني، فأصاب سوط منها وجهه، فقال: ويحك اكفف عن وجهي! فان له حرمة برسول الله (صلي الله عليه و آله)، فأغري المنصور فقال للجلاد: الرأس الرأس! فضرب علي رأسه نحوا من ثلاثين سوطا و أصاب احدي عينيه سوط فسالت، ثم اخرج و كأنه زنجي من الضرب، و كان من أحسن الناس، و كان يسمي الديباج لحسنه. فلما اخرج وثب اليه مولي له فقال: ألا أطرح ردائي عليك؟ قال: بلي جزيت خيرا! والله ان لشقوق ازاري أشد علي من الضرب.

ص: 621


1- 1029. بحارالأنوار: ج 10 ص 216 ح 18.

و كان سبب أخذه أن رياحا قال للمنصور: يا أميرالمؤمنين أما أهل خراسان فشيعتك، و أما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب، و أما أهل الشام فوالله ما علي عندهم الا كافر، و لكن محمد بن عبدالله العثماني لو دعا أهل الشام ما تخلف عنه منهم أحد. فوقعت في نفس المنصور، فأمر به فاخذ معهم، و كان حسن الرأي فيه قبل ذلك. ثم ان أباعون كتب الي المنصور: ان أهل خراسان قد تغاشوا (1) عني وطال عليهم أمر محمد بن عبدالله. فأمر المنصور بمحمد بن عبدالله بن عمرو العثماني فقتل، و أرسل رأسه الي خراسان، و أرسل معه من يحلف أنه رأس محمد بن عبدالله و أن أمه فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) فلما قتل قال أخوه عبدالله بن الحسن: انا لله و انا اليه راجعون! ان كنا لنأمن به في سلطانهم ثم قد قتل منا في سلطاننا! ثم ان المنصور أخذهم و سار بهم من الربذة فمر بهم علي بغلة شقراء، فناداه عبدالله بن الحسن: يا أباجعفر ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر! فأخسأه أبوجعفر و ثقل عليه و مضي، فلما قدموا الي الكوفة قال عبدالله لمن معه: أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية؟ قال: فلقيه الحسن و علي ابنا أخيه مشتملين علي سيفين فقالا له: قد جئناك يابن رسول الله فمرنا بالذي تريد. قال: قد قضيتما ما عليكما و لن تغينا في هؤلاء شيئا فانصرفا. ثم ان المنصور أودعهم بقصر ابن هبيرة شرقي الكوفة، و أحضر المنصور محمد بن ابراهيم بن الحسن، و كان أحسن الناس صورة، فقال له: أنت الديباج الأصغر؟

ص: 622


1- 1030. في تاريخ الطبري: قميص و ساج، أي طيلسان أخضر.

قال: نعم. قال: لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحدا! ثم أمر به فبني عليه اسطوانة و هو حي فمات فيها. و كان ابراهيم بن الحسن أول من مات منهم، ثم عبدالله بن الحسن فدفن قريبا من حيث مات، فان يكن في القبر الذي يزعم الناس أنه قبره و الا فهو قريب منه. ثم مات علي بن الحسن. و قيل: ان المنصور أمر بهم فقتلوا، و قيل: بل أمر بهم فسقوا السم، و قيل: وضع المنصور علي عبدالله من قال له ان ابنه محمدا قد خرج فقتل فانصدع قلبه فمات، والله أعلم. و لم ينج منهم الا سليمان و عبدالله ابنا داود بن الحسن بن الحسن بن علي، و اسحاق و اسماعيل ابنا ابراهيم بن الحسن بن الحسن، و جعفر بن الحسن، و انقضي أمرهم (1) .

ص: 623


1- 1031. في تاريخ الطبري: قد تقاعسوا.

الامام الصادق يبكي لما جري علي آل الحسن

قال [الحسين بن زيد]: اني لواقف بين القبر و المنبر، اذ رأيت بني الحسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الربذة، فأرسل الي جعفر بن محمد فقال: ما وراءك؟ قلت: رأيت بني الحسن يخرج بهم في محامل. فقال: اجلس. فجلست. قال: فدعا غلاما له: ثم دعا ربه كثيرا، ثم قال لغلامه: «اذهب، فاذا حملوا فأت فاخبرني». قال: فأتاه الرسول فقال: قد اقبل بهم. فقام جعفر (عليه السلام) فوقف وراء ستر شعر أبيض من ورائه، فطلع بعبدالله بن الحسن، و ابراهيم بن الحسن و جميع أهلهم، كل واحد منهم معادله مسود. فلما نظر اليهم جعفر بن محمد (عليهماالسلام) هملت عيناه، حتي جرت دموعه علي لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا أباعبدالله!

ص: 624

والله لا تحفظ لله حرمة بعد هذا، والله ما وفت الأنصار و لا أبناء الأنصار لرسول الله (صلي الله عليه و آله) بما أعطوه من البيعة علي العقبة. ثم قال جعفر (عليه السلام): حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن النبي (صلي الله عليه و آله) قال له: «خذ عليهم البيعة بالعقبة» فقال: كيف آخذ عليهم؟ قال: «خذ عليهم يبايعون الله و رسوله». قال ابن الجعد [أحد رواة الخبر] - في حديثه -: «علي أن يطاع الله فلا يعصي». و قال الآخرون [من الرواة]: «علي أنت تمنعوا رسول الله و ذريته مما تمنعون منه أنفسكم و ذراريكم». قال [الامام]: «فوالله ما وفوا له حتي خرج من بين أظهرهم، ثم لا أحد يمنع يد لامس، اللهم فاشدد وطأتك علي الأنصار» (1) .

ص: 625


1- 1032. الكامل لأبن الأثير: ج 5 ص 521.

رسالة مواساة من الامام الصادق الي عبدالله بن الحسن

اشارة

عن عطية بن نجيح بن المطهر الرازي، و اسحاق بن عمار الصيرفي قالا - معا -: ان أباعبدالله جعفر بن محمد (عليهماالسلام) كتب الي عبدالله بن الحسن (رضي الله عنه) - حين حمل هو و أهل بيته - يعزيه عما صار اليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، الي الخلف الصالح و الذرية الطيبة من ولد أخيه و ابن عمه: أما بعد: فلئن كنت [قد] تفردت أنت و أهل بيتك - ممن حمل معك - بما أصابكم، ما انفردت - بالحزن و الغيظ و الكآبة، و أليم وجع القلب - دوني. و لقد نالني من ذلك - من الجزع و القلق، و حر المصيبة - مثل ما نالك، و لكن رجعت الي ما أمر الله (جل جلاله) به المتقين، من الصبر و حسن العزاء، حين يقول - لنبيه (صلي الله عليه و آله الطيبين):

ص: 626

«و اصبر لحكم ربك فانك بأعيننا» (1) . و حين يقول: «فاصبر لحكم ربك و لا تكن كصاحب الحوت» (2) . و حين يقول لنبيه (صلي الله عليه و آله) - حين مثل بحمزة: «و ان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين» (3) فصبر رسول الله (صلي الله عليه و آله) و لم يعاقب. و حين يقول: «و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك و العاقبة للتقوي» (4) . و حين يقول: «الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله و انا اليه راجعون - اولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة و أولئك هم المهتدون» (5) . و حين يقول: «انما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب» (6) . و حين يقول لقمان لابنه: «و اصبر علي ما أصابك ان ذلك من عزم الامور» (7) . و حين يقول عن موسي: «قال موسي لقومه استعينوا بالله و اصبروا ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين» (8) .

ص: 627


1- 1033. مقاتل الطالبيين: ص 148. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 304.
2- 1034. سورة الطور آية 48.
3- 1035. سورة القلم آية 48.
4- 1036. سورة النحل آية 126.
5- 1037. سورة طه آية 132.
6- 1038. سورة البقرة آية 156 و 157.
7- 1039. سورة الزمر آية 10.
8- 1040. سورة لقمان آية 17.

و حين يقول: «الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر» (1) . و حين يقول: «ثم كان من الذين آمنوا و تواصوا بالصبر و تواصوا بالمرحمة» (2) . و حين يقول: «و لنبلونكم بشي ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات و بشر الصابرين» (3) . و حين يقول: «و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و منا ضعفوا و ما استكانوا والله يحب الصابرين» (4) . و حين يقول: «و الصابرين و الصابرات» (5) . و حين يقول: «و اصبر حتي يحكم الله و هو خير الحاكمين» (6) و أمثال ذلك من القرآن كثير. و اعلم - أي عم و ابن عم - أن الله (جل جلاله) لم يبال بضر الدنيا لوليه ساعة قط و لا شي ء أحب اليه من الضر و الجهد و الأذي (7) مع الصبر. و أنه - (تبارك و تعالي) - لم يبال بنعم الدنيا لعدوه ساعة قط،

ص: 628


1- 1041. سورة الأعراف آية 128.
2- 1042. سورة العصر آية 3.
3- 1043. سورة البلد آية 17.
4- 1044. سورة البقر آية 155.
5- 1045. سورة آل عمران آية 146.
6- 1046. سورة الأحزاب آية 35.
7- 1047. سورة يونس آية 109.

و لو لا ذلك ما كان أعداؤه يقتلون أولياءه و يخوفونهم، و يمنعونهم، و أعداؤه آمنون، مطمئنون، عالون ظاهرون. و لو لا ذلك ما قتل زكريا، و احتجب يحيي (1) ظلما و عدوانا، في بغي من البغايا. و لو لا ذلك ما قتل جدك: علي بن أبي طالب (عليه السلام) - لما قام بأمر الله (جل و عز) - ظلما، و عمك الحسين بن فاطمة (صلي الله عليهما) اضطهادا و عدوانا. و لو لا ذلك ما قال الله (عزوجل) في كتابه: «و لو لا أن يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون» (2) . و لو لا ذلك لما قال - في كتابه -: «أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين - نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون» (3) . و لو لا ذلك لما جاء في الحديث: «لو لا أن يحزن المؤمن لجعلت للكافر عصابة من حديد لا يصدع رأسه أبدا». و لو لا ذلك لما جاء في الحديث: «ان الدنيا لا تساوي عند الله (جل و عز) جناح بعوضة». و لو لا ذلك ما سقي كافرا منها شربة من ماء. و لو لا ذلك لما جاء في الحديث: «لو أن مؤمنا علي قلة جبل لا بتعث الله له كافرا أو منافقا يؤذية».

ص: 629


1- 1048. في بحارالأنوار: و البلاء.
2- 1049. في بحارالأنوار: و لو لا ذلك لما قتل زكريا، و يحيي بن زكريا.
3- 1050. سورة الزخرف آية 33.

و لو لا ذلك لما جاء في الحديث: «انه اذا أحب الله قوما أو أحب عبدا صب عليه البلاء صبا، فلا يخرج من غم الا وقع في غم». و لو لا ذلك لما جاء في الحديث: «ما من جرعتين أحب الي الله (عزوجل) أن يجرعهما عبده المؤمن في الدنيا، من جرعة غيظ كظم عليها، و جرعة حزن عند مصيبة صبر عليها بحسن عزاء و احتساب». و لو لا ذلك لما كان أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) يدعون علي من ظلمهم بطول العمر، و صحة البدن، و كثرة المال و الولد. و لو لا ذلك ما بلغنا أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان اذا خص رجلا بالترحم عليه، و الاستغفار، استشهد. فعليكم - يا عم، و ابن عم، و بني عمومتي و اخوتي - بالصبر و الرضا و التسليم، و التفويض الي الله (جل و عز) و الرضا و الصبر علي قضائه، و التمسك بطاعته، و النزول عند أمره. أفرغ الله علينا و عليكم بالصبر، و ختم لنا و لكم بالأجر و السعادة، و أنقذكم و ايانا من كل هلكة، بحوله و قوته، انه سميع قريب، و صلي الله علي صفوته من خلقه محمد النبي و أهل بيته» (1) .

ص: 630


1- 1051. سورة المؤمنون آية 55 و 56.

ثورة النفس الزكية

اشاره

هو محمد بن عبدالله بن الحسن بن الامام الحسن السبط الزكي (صلوات الله عليه) و يعرف بالنفس الزكية. قام بالثورة ضد المنصور الدوانيقي في الثامن و العشرين من شهر جمادي الثانية عام مائة و خمسة و أربعين هجرية، في المدينة المنورة. و استولي علي المدينة بكل سهولة، ثم خرج الي المسجد النبوي الشريف و صعد المنبر و القي خطبته الاولي، و دعا الناس الي بيعته بالخلافة. و جاء أهل المدينة الي مالك بن أنس يستفتونه في بيعة محمد و الخروج معه، و قالوا له: ان في اعناقنا بيعة لأبي جعفر [المنصور]. فقال: انما بايعتم مكرهين، و ليس علي مكره يمين. فأسرع الناس الي بيعة محمد، و كانوا يخاطبونه: يا أميرالمؤمنين (!!!) و لم يتخلف عن بيعته من وجوه الناس الا نفر قليل، و منهم مالك بن أنس الذي افتي بجواز بيعته!!

ص: 631

و وصل الخبر الي المنصور الدوانيقي... فاستولي عليه الخوف و القلق، و قام باجراء اتصالات مكثفة مع مختلف الشخصيات، و جعل يستشير هذا و ذاك فيما يجب القيام به لاجهاض تلك الثورة. و أخيرا... ارسل الدوانيقي جيشا الي المدينة المنورة بقيادة عيسي بن موسي بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، و اعطاه كافة الصلاحيات لمحاربة محمد بن عبدالله بن الحسن. هذا... و اشتعلت نار الحرب بين العسكرين خارج المدينة، صباح اليوم الرابع عشر من شهر رمضان المبارك من نفس السنة. و وضعت الحرب أوزارها بعد العصر من نفس ذلك اليوم، و انتهي الأمر بقتل محمد بن عبدالله و أصحابه الذين ثبتوا معه، عدا الذين تفرقوا عنه قبل نشوب الحرب. و كانت حصيلة هذه الحرب مئات القتلي و الجرحي من الفريقين... و امسي المساء و الارض محمرة بالدماء التي غطت ساحة المعركة. و لا تسأل عن الأرامل و اليتامي التي تمخضت عنهم هذه الحرب... فالله أعلم بهم. هذه خلاصة الخلاصة لثورة النفس الزكية، و قد ذكرنا عنها تفاصيل كثيرة في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

موقف الامام الصادق من الثورة

سبق ان ذكرنا بأن الامام الصادق (عليه السلام) حذر عبدالله بن الحسن - والد النفس الزكية - من أخذ البيعة لولده و التخطيط للثورة ضد العباسيين، لا دفاعا عن العباسيين و لا اعترافا بحكومتهم، بل لأنه (عليه السلام)

ص: 632

كان يعلم - بعلم الامامة - ان الله تعالي لم يقدر لبني الحسن (عليه السلام) ان يتسلموا الحكم، فلماذا تراق الدماء دون نتيجة؟! فالامام الصادق (عليه السلام) اشفاقا علي بني عمه - و علي الناس الذين سوف تطحنهم رحي الحرب - كان ينصحهم بعدم التورط في هذه المحنة التي لا تبقي و لا تذر. الا أنهم اصروا علي موقفهم، و اتهموا الامام الصادق (عليه السلام) بالحسد!! و لما ثار محمد بن عبدالله بن الحسن ترك الامام الصادق (عليه السلام) المدينة المنورة و ذهب الي أرض له بالفرع (1) فلم يزل هناك مقيما حتي قتل محمد، و اطمأن الناس و عاد الأمن و الأمان، فعاد (عليه السلام) الي المدينة (2) . أيها القاري ء الكريم: اليك الآن بعض الأحاديث التي رويت عن الامام الصادق (عليه السلام) حول النفس الزكية و ثورته، و بعض ما جري بينه و بين الامام (عليه السلام) - مع رعاية الاختصار -: عن فضيل بن سكرة قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: يا فضيل أتدري في أي شي ء كنت أنظر قبيل؟ قال: قلت: لا. قال: كنت أنظر في كتاب فاطمة (عليهاالسلام) ليس من ملك يملك [الأرض] الا و هو مكتوب فيه باسمه و اسم أبيه و ما وجدت لولد الحسن فيه

ص: 633


1- 1052. اقبال الاعمال: ص 578. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 298.
2- 1053. الفرع: موضع بين مكة و المدينة (لسان العرب).

شيئا (1) . و عن فضيل بن يسار و بريد بن معاوية و زرارة أن عبدالملك بن أعين قال لأبي عبدالله (عليه السلام): ان الزيدية و المعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبدالله فهل له سلطان؟ فقال: والله ان عندي لكتابين فيهما تسمية كل نبي و كل ملك يملك الأرض، لا والله ما محمد بن عبدالله في واحد منهما (2) . و عن معلي بن خنيس قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) اذ أقبل محمد بن عبدالله فسلم ثم ذهب فرق له أبوعبدالله (عليه السلام) و دمعت عيناه فقلت له: لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع؟ فقال: رققت له لأنه ينسب الي أمر ليس له، لم أجده في كتاب علي (عليه السلام) من خلفاء هذه الامة و لا من ملوكها (3) . و عن علي الصائغ، قال: لقي أباعبدالله (عليه السلام) محمد بن عبدالله بن الحسن، فدعاه محمد الي منزله فأبي أن يذهب معه، و أرسل معه اسماعيل و أومأ اليه أن كف - و وضع يده علي فيه و أمره بالكف - فلما انتهي الي منزله أعاد اليه الرسول يسأله اتيانه (4) ، فأبي أبوعبدالله (عليه السلام) و أتي الرسول محمدا فأخبره بامتناعه، فضحك محمد ثم قال: ما منعه من اتياني الا أنه ينظر في الصحف، قال: فرجع اسماعيل فحكي لأبي عبدالله (عليه السلام) الكلام فأرسل أبوعبدالله (عليه السلام) رسولا

ص: 634


1- 1054. كشف الغمة: ج 2 ص 162. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 5.
2- 1055. الكافي: ج 1 ص 242 ح 8.
3- 1056. الكافي: ج 1 ص 242 ح 7.
4- 1057. الكافي: ج 8 ص 395 ح 594.

من قبله اليه، و قال: ان اسماعيل أخبرني بما كان منك و قد صدقت، اني أنظر في الصحف الاولي صحف ابراهيم و موسي، فسل نفسك و أباك هل ذلك عندكما؟ قال: فلما أن بلغه الرسول سكت فلم يجب بشي ء فأخبر الرسول أباعبدالله (عليه السلام) بسكوته، فقال أبوعبدالله (عليه السلام): اذا أصاب وجه الجواب قل الكلام (1) . و عن ابن جمهور القمي في كتاب الواحدة أن محمد بن عبدالله بن الحسن قال لأبي عبدالله (عليه السلام): والله اني لأعلم منك، و أسخي و أشجع، فقال له: أما ما قلت: انك أعلم مني، فقد أعتق جدي و جدك ألف نسمة من كد يده فسمهم لي! و ان أحببت أن اسميهم لك الي آدم فعلت. و أما ما قلت: انك أسخي مني فوالله ما بت ليلة و لله علي حق يطالبني به. و أما ما قلت: انك أشجع مني فكأني أري رأسك و قد جي ء به و وضع علي حجر الزنابير، يسيل منه الدم الي موضع كذا و كذا. قال: فحكي ذلك لأبيه فقال: يا بني آجرني الله فيك، ان جعفرا أخبرني أنك صاحب حجر الزنابير (2) .

ص: 635


1- 1058. في بحارالأنوار: ليأتيه.
2- 1059. بصائر الدرجات: ص 158 ح 12. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 270.

خاتمة

قرأت كتابا لأحد المؤلفين يتحدث فيه عن محمد بن عبدالله - المعروف بالنفس الزكية - و ثورته، و يصفه بالرجولة و البطولة و يثني عليه أحسن الثناء، ثم يقيس ثورته بنهضة سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام). و في الحقيقة يجب أن أقول: ان المؤلف ارتكب خطأ كبيرا في هذه المقايسة و المقارنة... و ذلك من جوانب عديدة نشير الي بعضها فيما يلي: 1- ان الامام الحسين (عليه السلام) كان اماما معصوما متصلا بالعالم الأعلي.... و كان يسير وفق مخطط الهي أمره الله به - عبر رسوله (صلي الله عليه و آله و سلم) -. بينما محمد بن عبدالله هذا، لم يكن اماما و لم يكن معصوما... و لهذا فالفرق بينه و بين الامام الحسين (عليه السلام) كبير جدا. 2- ان الامام الحسين (عليه السلام) اطاع جده المصطفي (صلي الله عليه و آله و سلم) في كل ما قام به - كما صرحت بذلك الأحاديث الشريفة - بينما محمد النفس الزكية لم يؤمر - من قبل احد المعصومين - بالخروج، بل ذكرنا أن الامام الصادق (عليه السلام) نهاه عن الخروج و نصحه و وعظه... فلم ينفعه ذلك. 3- ان الحق الشرعي كان يتمثل و يتجسد - يومذاك - في الامام الصادق (عليه السلام) فاذا كان محمد بن عبدالله يريد النهضة لله سبحانه، كان عليه ان لا يتحرك خطوة واحدة الا بأمر الامام المعصوم.. و لكنه - و مع كل الأسف - دعي الي نفسه، و عرف نفسه انه المهدي الموعود الذي بشرت به الأحاديث الشريفة. و أن علي الناس أن يبايعوه.

ص: 636

بل جعلوا يخاطبونه قائلين: يا أميرالمؤمنين!!! فسكت و لم ينه عن ذلك... مع العلم أن هذا الاسم خاص بالامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) - كما في صحيح الأحاديث -. و قد ذكرنا كلمة موجزة عنه. و قد قرأت أن الامام الصادق (عليه السلام) ترك المدينة المنورة و خرج الي الفرع، ليكون بعيدا عن الأحداث... و هذا العمل بنفسه يدل علي أن الامام الصادق (عليه السلام) لم يؤيد الثورة و لم يقف الي جانبها... و الخلاصة... ان علينا ان ننظر الي الحوادث التاريخية نظرة تأمل و تدبر، لا نظرة عاطفية سطحية... و يجب أن نعتبر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) المقياس الأول و الأخير لمعرفة الحق و أهله..

ص: 637

ص: 638

الامام الصادق ينعي نفسه

روي عن شهاب بن عبد ربه قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام): «كيف أنت اذا نعاني اليك محمد بن سليمان؟». قال: فلا والله ما عرفت محمد بن سليمان، و لا علمت من هو؟ قال: ثم كثر مالي و عرضت تجارتي بالكوفة و البصرة، فاني يوما بالبصرة عند محمد بن سليمان - و هو والي البصرة - اذ ألقي الي كتابا و قال لي: يا شهاب، أعظم الله أجرك و أجرنا في امامك جعفر بن محمد. قال: فذكرت الكلام فخنقتني العبرة، فخرجت فأتيت منزلي و جعلت أبكي علي أبي عبدالله (عليه السلام) (1) . و روي أن الامام الصادق (عليه السلام) دخل - ذات يوم - علي المنصور الدوانيقي فتكلم، فلما خرج من عنده أرسل الي جعفر بن محمد فرده، فلما رجع حرك شفتيه بشي ء فقيل له: ما قلت؟ قال: قلت: «اللهم انك تكفي من كل شي ء و لا يكفي منك شي ء فاكفنيه».

ص: 639


1- 1060. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 228. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 131.

فقال له: ما يقرك (1) عندي؟ فقال له أبوعبدالله: قد بلغت أشياء لم يبلغها أحد من آبائي في الاسلام (2) ، و ما أراني أصحبك الا قليلا، ما أري هذه السنة تتم لي. قال: فان بقيت؟ قال: ما أراني أبقي. قال: فقال أبوجعفر. احسبوا له. فحسبوا فمات في شوال (3) .

ص: 640


1- 1061. أعلام الوري: ج 1 ص 522.
2- 1062. و في نسخة: ما يبرك.
3- 1063. قوله (عليه السلام): «قد بلغت اشياء» الظاهر أنه تصحيف، و الصحيح: «قد بلغت سنا لم يبلغها أحد من آبائي» لأن الامام عاش 65 أو 67 سنة، و لم يعمر أحد من آبائه الكرام هذا العمر.

الامام الصادق طريح الفراش

اشارة

عن هشام بن سالم قال: مرض أبوعبدالله (عليه السلام) مرضا شديدا حتي خفنا عليه، فقال: ما علي من مرضي هذا بأس. قال: ثم سكت ما شاء الله، ثم اعتل علة خفيفة فأقبل يوصينا، ثم قال (1) : أدخل علي نفرا من أهل المدينة حتي أشهدهم. فقلت: يا أبت ليس عليك بأس. فقال: يا بني ان الذي جاءني فأخبرني أني لست بميت في مرضي ذلك، هو الذي أخبرني أني ميت في مرضي هذا (2) . و في السنوات الأخيرة من حياته (عليه السلام) لم يبق منه الا الهيكل العظمي فقط... فكان قد ذبل و ضعف و نحل جسمه. لقد ذوبته الأحزان و المحن، و ما لا قاه من الأذي و الاضطهاد، و التشريد و التخويف.

ص: 641


1- 1064. كشف الغمة: ج 2 ص 165.
2- 1065. هكذا وجدنا في المصدر و الظاهر أن هنا سقطا و الصحيح: «ثم قال لابنه موسي...» بدليل قوله (عليه السلام): «يا بني» و قول ولده: يا ابت.

روي محمد بن الحسن بن زياد العطار عن أبيه قال - في كلام له -:... فدخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و هو مريض فوجدته علي سرير مستلقيا عليه، و ما بين جلده و عظمه شي ء...) الي آخر الخبر (1) . و لما دس اليه السم ازداد ضعفا و نحولا، و صار طريح الفراش علي اعتاب الآخرة، و جعل يوصي وصاياه. و روي أنه دخل عليه بعض أصحابه في مرضه الذي توفي فيه و قد ذبل فلم يبق الا رأسه، فبكي فقال (عليه السلام): لأي شي ء تبكي؟ فقال: كيف لا أبكي و أنا أراك علي هذه الحال؟!! قال (عليه السلام): لا تفعل فان المؤمن تعرض كل خير (2) ان قطع أعضاؤه كان خيرا له،و ان ملك ما بين الشرق و الغرب كان خيرا له (3) . و بهذه الكلمات الذهبية عبر الامام الصادق (عليه السلام) عن رضاه بقضاء الله و قدره، في السراء و الضراء، و الشدة و الرخاء.

ص: 642


1- 1066. اثبات الهداة: ج 5 ص 394 ح 114.
2- 1067. بحارالأنوار: ج 47 ص 348.
3- 1068. هكذا في المصدر، و لعل الصحيح: فان المؤمن يتعرض لكل خير.

الامام الصادق يوصي وصاياه

وصيته في النياحة عليه

عن محمد بن مهران بن محمد قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) أوصي أن يناح عليه سبعة مواسم فأوقف لكل موسم مالا ينفق (1) . أيها القارئ الكريم: يعتبر البكاء و العزاء علي الميت من الامور المستحبة في الاسلام، كما أنه تعبير عاطفي يدل علي رقة القلب و رهفة الاحساس و سلامة النفس من الغلظة و الفضاضة. و لا يتنافي البكاء مع الصبر، بأي وجه، ذلك لأن الصبر دليل الرضا بقضاء الله و قدره، و البكاء - كما قلنا - دليل الرحمة و العاطفة، و لا تنافي بين الأمرين. و لذلك حينما مات ابراهيم بن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) - و له من العمر سنة و نصف - بكي عليه رسول الله بكاء شديدا،

ص: 643


1- 1069. منتهي الآمال للقمي: ج 2 ص 243 عن مشكاة الأنوار.

و كانت الدموع تنهمر علي خديه كالمطر، فظن بعض الصحابة - ممن لا زالت فيه رواسب الجاهلية الخشناء - أن هذا البكاء يتنافي مع الصبر. و حينما سئل (صلي الله عليه و آله) عن ذلك قال: (... تدمع العين و يحزن القلب و لا نقول ما يسخط الرب و انا بك - يا ابراهيم - لمحزونون) (1) . و روي عن الامام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنه قال: بكي رسول الله عند موت بعض ولده، فقيل له: يا رسول الله تبكي و أنت تنهانا عن البكاء؟! فقال: لم انهكم عن البكاء،... و انما هي رقة و رحمة يجعلها الله في قلب من شاء من خلقه، و يرحم الله من يشاء، من خلقه، و انما يرحم من عباده الرحماء (2) . و عنه (عليه السلام) قال: رخص رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) في البكاء عند المصيبة و قال: «النفس مصابة و العين دامعة و العهد قريب، فقولوا ما ارضي الله، و لا تقولوا الهجر» (3) . و قد ذكر المؤرخون أنه (صلي الله عليه و آله و سلم): 1- بكي علي جده عبدالمطلب (4) . 2- و بكي علي عمه أبي طالب (5) . 3- و بكي علي امه آمنة بنت وهب (6) .

ص: 644


1- 1070. التهذيب: ج 9 ص 144 ح 602.
2- 1071. الاستيعاب: ج 1 ص 57.
3- 1072. بحارالأنوار: ج 82 باب التعزية و المأتم ص 101.
4- 1073. بحارالأنوار: ج 82 باب التعزية و المأتم ص 101.
5- 1074. الطبقات الكبري: ج 1 ص 95.
6- 1075. الطبقات الكبري: ج 1 ص 99.

4- و بكي علي فاطمة بنت أسد (1) . 5- و بكي علي خديجة بنت خويلد (2) . 6- و بكي علي عثمان بن مظعون (3) . 7- و بكي علي جعفر بن أبي طالب (4) و قال: «علي مثل جعفر فلتبك البواكي» (5) . 8- و بكي علي زيد بن حارثة و عبدالله بن رواحة (6) . 9- و بكي علي سعد بن الربيع - و قد قتل يوم احد - و سمع النسوة يبكين، فدمعت عيناه (صلي الله عليه و آله و سلم) و ما نهاهن عن شي ء من البكاء (7) . 10- و بكي علي عمه حمزة بن عبدالمطلب، بل شجع علي البكاء عليه حينما سمع النساء يبكين علي قتلاهن، فذرفت عيناه و بكي و قال: «لكن حمزة لا بواكي له» فجاءت نساء بني عبدالأشهل فبكين علي عم رسول الله، فلما سمعهن خرج اليهن فقال: «ارجعن يرحمكن الله، فقد آسيتن بأنفسكن» (8) . هذا قليل من كثير... من بكاء رسول الله و عزائه علي الشهداء

ص: 645


1- 1076. الطبقات الكبري: ج 1 ص 94.
2- 1077. ذخائر العقبي: ص 56.
3- 1078. المناقب للخوارزمي: ص 253.
4- 1079. الاستيعاب: ج 3 ص 1055.
5- 1080. ذخائر العقبي: ص 218.
6- 1081. أنساب الأشراف للبلاذري: ج 2 ص 43.
7- 1082. الاستيعاب: ج 2 ص 546.
8- 1083. المغازي: ج 1 ص 330.

و الصالحين، و المؤمنين و المؤمنات. و من هذا المنطق... تجد الامام الصادق - حفيد رسول الله و خليفته الشرعي السادس - يأمر باقامة العزاء و النياحة عليه - سبع سنوات - في موسم الحج، حيث يجتمع الناس من كل فج عميق، و يخصص (عليه السلام) ما لا ينفق علي اقامة العزاء عليه. فتراه (عليه السلام) يأمرهم بالبكاء عليه، لأنه فارق الحياة مسموما مظلوما صابرا محتسبا. و قد سبقه الي هذه الوصية والده العظيم الامام محمد الباقر (عليه السلام) حيث اوصي بالنياحة عليه عشر سنوات في موسم الحج أيضا في مني، و خصص مالا ينفق علي اقامة العزاء عليه. و من هذا المنطلق أيضا... تجد الشيعة - و هم أتباع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) - يقيمون مجالس العزاء و النياحة علي ائمة أهل البيت (عليهم السلام) في ايام وفياتهم و أحزانهم و استشهادهم، في كل عام، و ينفقون أموالا طائلة في سبيل اقامة العزاء و اطعام الطعام... و بناء الحسينيات و المآتم، و غير ذلك. و ما ذاك كله الا اقتداء بالائمة الطيبين الطاهرين من أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام) و احياء لأمرهم، و تعظيما لهم و لشعائرهم التي هي من شعائر الله تعالي: «و من يعظم شعائر الله فانها من تقوي القلوب» (1) . هذا... و لئن وردت بعض الأحاديث التي تنهي عن النياحة علي الميت، فهي اما ضعيفة السند و لا يصح الاستناد اليها و الاستدلال بها، و اما

ص: 646


1- 1084. السيرة النبوية: ج 2 ص 99.

محمولة علي التقية لأنها موافقة للمذاب الباطلة المنحرفة عن الحق... و اما بمعني النهي عن الجزع الذي قد يتنافي مع الصبر، و ليس بمعني النهي عن البكاء. و انما ذكرنا هذه الكلمة الموجزة حول البكاء و النياحة علي الميت... ردا علي ما تنشره الفرقة الضالة من السموم و الشبهات المضللة، و منها حرمة البكاء علي الميت... فانتبه جيدا - أيها القارئ الكريم - و احذر شياطين الانس أن يخدعوك أو يضلوك... والله العاصم.

وصيته في تغسيله

قال الامام موسي بن جعفر (عليهماالسلام): فيما أوصاني به أبي أن قال: «يا بني اذا أنا مت فلا يغسلني أحد غيرك، فان الامام لا يغسله الا الامام، و أعلم أن عبدالله أخاك سيدعو الناس الي نفسه فدعه فان عمره قصير». فلما [ان] مضي غسلته كما أمرني، و ادعي عبدالله الامامة مكانه، فكان كما قال أبي و ما لبث عبدالله يسيرا حتي مات (1) . و قد روي أن الملائكة تحض عند تغسيل الامام المعصوم و تعين الامام - الذي بعده - علي تغسيل جثمان ذلك الامام و تجهيزه و دفنه (2) . و بناء علي هذا... فلا شك أن الملائكة أعانت الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) علي تغسيل جثمان والده الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 647


1- 1085. سورة الحج آية 32.
2- 1086. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 224.

وصيته علي الامام من بعده

كان الامام الصادق (عليه السلام) ينتهز كل فرصة مناسبة للنص علي امامة الامام من بعده و أنه ولده الامام موسي الكاظم (عليه السلام). فقد روي علي بن جعفر قال: سمعت أبي جعفر بن محمد (عليهماالسلام) يقول - لجماعة من خاصته و أصحابه -: «استوصوا بموسي ابني خيرا، فانه أفضل ولدي و من اخلف من بعدي، و هو القائم مقامي و الحجة لله عزوجل علي كافة خلقه من بعدي» (1) . هذا... و قد جرت العادة علي أن يؤكد الامام المعصوم علي الامام من بعده، قبيل وفاته أيضا، كما صدر ذلك من الامام علي أميرالمؤمنين و الامام الحسن و الامام الحسين و سائر الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين). و الامام الصادق (عليه السلام) قام بنفس الدور... علي الصعيد الخاص و العام. أما علي الصعيد الخاص فقد كان يؤكد علي امامة ولده الامام موسي الكاظم (عليه السلام) للزائرين و الداخلين عليه: فقد روي يزيد بن اسباط قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) - في مرضته التي مات فيها - فقال لي: يا يزيد اتري هذا الصبي؟ اذا رأيت الناس قد اختلفوا فيه فاشهد علي بأني اخبرتك. ان يوسف انما كان ذنبه عند اخوته - حتي طرحوه في الجب - الحسد له، حين أخبرهم انه رأي أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر و هم له ساجدون.

ص: 648


1- 1087. بحارالأنوار: ج 27 ص 289 باب: أن الامام لا يغسله الا الامام.

و كذلك لابد لهذا الغلام من أن يحسد. ثم دعا (عليه السلام) - موسي و عبدالله و اسحاق و محمدا و العباس و قال لهم - [مشيرا الي ولده موسي]: «هذا وصي الأوصياء، و عالم علم العلماء، و شهيد علي الأموات و الأحياء». ثم قال: يا يزيد «ستكتب شهادتهم و يسألون» (1) . هذا علي الصعيد الخاص. و أما علي الصعيد العام فقد فرضت الظروف الصعبة علي الامام أن يستخدم طريقة معينة للاعلان عن وصيه و خليفته من بعده. و هذه الطريقة ترشد الأذكياء من شيعته الي الامام من بعده. فماذا فعل الامام؟ الجواب: انه أوصي الي خمسة أشخاص... هم: 1- المنصور الدوانيقي. 2- محمد بن سليمان - والي المدينة -. 3- عبدالله بن الامام الصادق. 4- الامام موسي الكاظم (عليه السلام). 5- حميدة المصفاة - زوجة الامام الصادق -. أما الأول و الثاني فمن الواضح لدي أهل البصيرة و المعرفة ان ذكرهما انما هو من باب التقية... لا غير. و أما السيدة حميدة فهي امرأة، و مقام الامامة خاص بالرجال. يبقي ولده عبدالله و ولده موسي (عليه السلام) و الأول كانت فيه عاهة و الامامة لا تعهد الي ذي عاهة.

ص: 649


1- 1088. بحارالأنوار: ج 48 ص 20.

فيتعين أن يكون الوصي هو ولده الامام موسي بن جعفر (عليه السلام). لذلك روي أن أباحمزة الثمالي - حينما سمع نبأ استشهاد الامام الصادق (عليه السلام) - سأل عن وصيه؟ فأخبروه. فقال: الحمد لله الذي لم يضلنا: دل علي الصغير، و من علي الكبير، و ستر الأمر العظيم. و اليك الرواية بالتفصيل. روي عن داود بن كثير الرقي قال: وفد من خراسان وافد يكني أباجعفر (و اجتمع اليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالا و متاعا و مسائلهم في الفتاوي و المشاورة)، فورد الكوفة [فنزل] و زار [قبر] أميرالمؤمنين (عليه السلام) و رأي في ناحية رجلا و حوله جماعة، فلما فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء و يسمعون من الشيخ فسألهم عنه، فقالوا: هو أبوحمزة الثمالي. قال: فبينما نحن جلوس اذ أقبل أعرابي، فقال: جئت من المدينة و قد مات جعفر بن محمد (عليهماالسلام) فشهق أبوحمزة و ضرب بيده الأرض، ثم سأل الأعرابي، هل سمعت له بوصية؟ قال: أوصي الي ابنه عبدالله، و الي ابنه موسي، و الي المنصور. فقال أبوحمزة: الحمد لله الذي لم يضلنا: دل علي الصغير، و من علي الكبير، و ستر الأمر العظيم. و وثب الي قبر أميرالمؤمنين فصلي و صلينا. ثم أقبلت عليه و قلت له: فسر لي ما قلته؟

ص: 650

فقال: بين أن الكبير ذو عاهة و دل علي الصغير بأن أدخل يده مع الكبير، و ستر الأمر بالمنصور حتي اذا سأل المنصور: من وصيه؟ قيل أنت. قال الخراساني: فلم أفهم جواب ما قاله، و وردت المدينة، و معي المال و الثياب و المسائل، و كان فيما معي درهم - دفعته الي امرأة تسمي شطيطة - و منديل، فقلت لها: أنا أحمل عنك درهم؟!! فقالت: ان الله لا يستحيي من الحق، فعوجت الدرهم و طرحته في بعض الأكياس. فلما حصلت بالمدينة سألت عن الوصي فقيل [لي] عبدالله ابنه، فقصدته فوجدت بابا مرشوشا مكنوسا عليه بواب، فأنكرت ذلك في نفسي و استأذنت و دخلت بعد الاذن، فاذا هو جالس في منصبه، فأنكرت ذلك أيضا. فقلت: أنت وصي الصادق (عليه السلام) الامام المفترض الطاعة؟ قال: نعم. قلت: كم في المائتين من الدراهم زكاة؟ قال: خمسة دراهم. قلت: فكم في المائة؟ قال: درهمان و نصف. قلت: و رجل قال لامرأته: أنت طالق بعدد نجوم السماء [هل] تطلق بغير شهود؟ قال: نعم، و يكفي من النجوم رأس الجوزاء ثلاثا. فعجبت من جواباته و مجلسه. و قال: احمل الي ما معك؟ قلت: ما معي شي ء [و] جئت الي قبر النبي (صلي الله عليه و آله)

ص: 651

فلما رجعت الي بيتي اذا أنا بغلام أسود واقف، فقال: سلام عليك. فرددت عليه السلام. قال: أجب من تريده، فنهضت معه، فجاء بي الي باب دار مهجورة، و دخل و أدخلني فرأيت موسي بن جعفر (عليهماالسلام) علي حصير الصلاة، فقال لي: يا أباجعفر [اجلس] و أجلسني قريبا، فرأيت دلائله، أدبا و علما و منطقا. و قال لي: احمل ما معك، فحملته الي حضرته فأومي بيده الي الكيس [الذي فيه درهم المرأة]، فقال لي: افتحه، ففتحته، و قال لي: أقلبه فقلبته فظهر درهم شطيطة المعوج، فأخذه بيده و قال: افتح تلك الرزمة (1) .ففتحتها، فأخذ المنديل منه بيده و قال: - و هو مقبل علي -: ان الله لا يستحيي من الحق، يا أباجعفر اقرأ علي شطيطة السلام مني و ادفع اليها هذه الصرة. و قال لي: أردد ما معك الي من حمله و ادفعه الي أهله، و قل: قد قبله و وصلكم به. و أقمت عنده و حادثني و علمني، و قال لي: ألم يقل لك أبوحمزة الثمالي بظهر الكوفة - و أنتم زوار أميرالمؤمنين - كذا و كذا؟ قلت: نعم. قال: كذلك يكون المؤمن اذا نور الله قلبه كان علمه بالوجه. ثم قال لي: قم الي ثقاة أصحاب الماضي (2) فسلهم عن نصه.

ص: 652


1- 1089. بحارالأنوار: ج 48 ص 20، و الآية في سورة الزخرف آية 19.
2- 1090. الرزمة: ما شد في ثواب واحد (أقرب الموارد).

قال أبوجعفر الخراساني: فلقيت جماعة كثيرة منهم شهدوا بالنص علي موسي (عليه السلام). ثم مضي أبوجعفر الي خراسان. قال داود الرقي: فكاتبني من خراسان، أنه وجد جماعة - ممن حملوا المال - قد صاروا فطحية، و أنه وجد شطيطة علي أمرها تتوقعه يعود. قال: فلما رأيتها عرفتها سلام مولانا عليها، و قبوله منها دون غيرها و سلمت اليها الصرة، ففرحت و قالت لي: أمسك الدراهم معك، فانها لكفني. فأقامت ثلاثة أيام و توفيت [الي رحمة تعالي] (1) .

وصيته الاخلاقية لابنه موسي

روي عن بعض أصحاب الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: دخلت علي جعفر و موسي بين يديه و هو يوصيه بهذه الوصية، فكان مما حفظت منها أن قال: يا بني أقبل وصيتي و احفظ مقالتي فانك ان حفظتها تعيش سعيدا، و تموت حميدا: يا بني من رضي بما قسم له استغني، و من مد عينه الي ما في يد غيره مات فقيرا، و من لم يرض بما قسمه الله له اتهم الله في قضائه، و من استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره، و من استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه. يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، و من سل سيف البغي قتل به، و من احتفر لأخيه بئرا سقط فيها، و من داخل السفهاء حقر،

ص: 653


1- 1091. المراد بالماضي هنا: الامام الصادق (عليه السلام).

و من خالط العلماء وقر، و من دخل مداخل السوء اتهم. يا بني اياك ان تزري بالرجال فيزري بك، و اياك و الدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك. يا بني قل الحق لك أو عليك تستشان من بين أقرانك (1) . يا بني كن لكتاب الله تاليا، و للسلام فاشيا، و بالمعروف آمرا، و عن المنكر ناهيا، و لمن قطعك واصلا، و لمن سكت عنك مبتدئا، و لمن سألك معطيا. و اياك و النميمة فانها تزرع الشحناء في قلوب الرجال. و اياك و التعرض لعيوب الناس فمنزلة التعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف. يا بني اذا طلبت الجود فعليك بمعادنه فان للجود معادن، و للمعادن أصولا و للأصول فروعا، و للفروع ثمرا، و لا يطيب ثمر الا بأصول، و لا أصل ثابت الا بمعدن طيب. يا بني ان زرت فزر الأخيار و لا تزر الفجار، فانهم صخرة لا يتفجر ماؤها، و أرض لا يظهر عشبها. قال علي بن موسي: فما ترك هذه الوصية الي أن توفي (2) .

ص: 654


1- 1092. الخرائج و الجرائح: ج 1 ص 328 ح 22. اثبات الهداة: ج 5 ص 487 ح 46.
2- 1093. قوله (عليه السلام): «تستشان» أي يكون لك شأن و وجاهة.

الامام الصادق ساعة الاحتضار

عن سالمة مولاة أبي عبدالله (عليه السلام) قالت: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) حين حضرته الوفاة، فأغمي عليه فلما أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي بن الحسين - و هو الأفطس - سبعين دينارا، و أعطوا فلانا كذا و كذا، و فلانا كذا و كذا، فقلت: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة [يريد أن يقتلك] (1) ؟ فقال: ويحك أما تقرأين القرآن؟ قلت: بلي. قال: أما سمعت قول الله عزوجل: «و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب» (2) . فقال: أتريدين علي أن لا أكون من الذين قال الله تبارك و تعالي: «و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون

ص: 655


1- 1094. حلية الأولياء: ج 3 ص 195.
2- 1095. هذه الزيادة وردت في رواية بحارالأنوار: ج 47 ص 2.

سوء الحساب»؟ نعم يا سالمة ان الله خلق الجنة و طيبها و طيب ريحها و ان ريحها لتوجد من مسيرة ألفي عام و لا يجد ريحها عاق و لا قاطع رحم (1) . و عن أبي بصير قال: دخلت علي ام حميدة اعزيها بأبي عبدالله (عليه السلام)(فبكت و بكيت لبكائها ثم قالت: يا أبامحمد لو رأيت أباعبدالله (عليه السلام) عند الموت لرأيت عجبا، فتح عينيه، ثم قال: أجمعوا لي كل من بيني و بينه قرابة، قالت: فلم نترك أحدا الا جمعناه. قالت: فنظر اليهم ثم قال: «ان شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة» (2) . و قال الامام موسي بن جعفر (عليه السلام): انه لما حضر أبي الوفاة قال لي: «يا بني انه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة» (3) .

ص: 656


1- 1096. سورة الرعد آية 21.
2- 1097. الكافي: ج 7 ص 55.
3- 1098. المحاسن: ج 1 ص 159 ح 225.

الامام الصادق يفارق الحياة

أيها المؤمنون: عظم الله اجوركم في مصيبة امامكم... هذه المصيبة الاليمة التي ابكت ملائكة السماوات. ان الملائكة تبكي علي المؤمن اذا مات، فكيف لا تبكي علي امام المؤمنين و حجة الله علي العالمين؟!! كيف لا تبكي علي خليفة رسول الله و حفيده و ناشر علومه و محيي دينه المبين؟!! كيف لا تبكي علي هذه المصيبة العظمي الت حلت بالاسلام و المسلمين؟!! و علي هذه الخسارة الكبري التي مني بها الناس أجمعون؟!! كيف لا تبكي علي هذا الامام الذي عاشق مظلوما و مضي مسموما؟!! لقد قضي الامام الصادق (عليه السلام) حياته بالخوف و الشدة، و التشريد و التهديد. فيوما استدعي الي بغداد، و خاطبه المنصور الطاغية بكلمات لا تليق بمقامه (عليه السلام)!!

ص: 657

و يوما ابعد الي الحيرة و الكوفة!! و يوما احرقوا داره!! و يوما تسلقوا عليه بيته و اخذوه سحبا الي المنصور، بلا عمامة و لا رداء!! و يوما شاهد بني عمومته يقادون الي السجن و قد اثقلتهم السلاسل و القيود!! و كم مرة تآمر عليه الطاغية و اراد قتله؟!! و كم مرة جرد السيف ليضرب عنقه؟!! و كم...؟ و كم...؟ و لم يهدأ له بال حتي دس اليه السم، و ترك احشاءه تتقطع. و الآن... و الآن...قد اشرفت شمس وجوده علي الغروب. و اقتربت حياته المباركة من النهاية. ها هو طريح الفراش، و قد احاط به أهله و أولاده... ينظرون الي الوالد الرحيم و الأب الكريم و الامام العظيم.. و هو علي اعتاب الآخرة.. و حان الفراق.. و دقت ساعة الصفر... و كاني بالامام (عليه السلام) يفتح عينه و يديرها في وجوههم، مودعا اياهم بنظرة ملؤها المحبة و الحنان.. انها النظرة الأخيرة.. انه الوداع الأخير..

ص: 658

و داعا يا أهلي و أولادي.. و داعا يا شيعتي و أصحابي.. فهذا الفراق و اللقاء عند الصراط للشفاعة. و كأني به (عليه السلام) يستقبل القبلة بجسمه المتعب النحيف.. مسبلا يديه...مادا رجليه. و لحيته البيضاء الشريفة تستقبل السماء. و شفتاه الكريمتان تتمتمان.. و لسانه يلهج بذكر الله: أشهد أن لا اله الا الله، و أشهد أن محمدا رسول الله. و يغمض عينيه الغائرتين... بكل هدوء. و دقات قلبه الكبير..تتوقف شيئا فشيئا. و كأني بالنداء الالهي يهتف به: «يا أيتها النفس المطمئنة - ارجعي الي ربك راضية مرضية - فادخلي في عبادي - و ادخلي جنتي» (1) . فتستسلم الروح لبارئها. و يفارق الامام الحياة، ليلتحق بآبائه الطاهرين و أجداده المعصومين... في مقعد صدق عند مليك مقتدر. و انا لله و انا اليه راجعون.

ص: 659


1- 1099. الكافي: ج 3 ص 270 ح 15.

كيفية شهادته

أيها القارئ الكريم: الشهادة في سبيل الله ظاهرة مألوفة في حياة الأنبياء و الأوصياء و الأولياء. فالذي يحمل رسالة الارشاد و الاصلاح لابد و أن يتعرض للأذي و الاضطهاد من السفهاء أو أصحاب المطامع و المصالح و الأهواء... و بالتالي قد تنتهي حياته بالقتل... اما بالسيف أو السم أو غيرهما. هذا... و قد ثبت عن ائمة أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام) أنهم لا يموتون ميتة طبيعية، بل بالشهادة... بالسيف أو السم... فقد روي عن الامام الحسن المجتبي (عليه السلام) أنه قال - في خطبته بعد شهادة أبيه الامام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) -: «لقد حدثني حبيبي جدي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أن الأمر يملكه اثنا عشر اماما من أهل بيته و صفوته، ما منا الا مقتول أو مسموم» (1) .

ص: 660


1- 1100. سورة الفجر الآيات 30 - 27.

و قال الامام الصادق (عليه السلام): «والله ما منا الا مقتول شهيد» (1) . و قال الامام الرضا (عليه السلام): «ما منا الا مقتول» (2) . و الدليل علي أن الامام الصادق (عليه السلام) فارق الحياة مسموما هو: 1- الأحاديث العامة التي تصرح و تؤكد علي أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ما منهم الا مسموم أو مقتول. 2- ما ذكره العلماء و المؤرخون من أن الامام الصادق (عليه السلام) مضي مسموما. و اليك بعض ما ذكروه في هذا المجال: قال الشيخ الصدوق: (... و الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) سمه أبوجعفر المنصور فقتله...) (3) . و روي ابن شهرآشوب: عن أبي جعفر القمي قال: سمه المنصور، و دفن في البقيع (4) . و قال الطبري الامامي: سمه المنصور فقتله و مضي (5) . و قال الكفعمي: و توفي (عليه السلام)... مسموعا في عنب (6) .

ص: 661


1- 1101. بحارالأنوار: ج 27 ص 217.
2- 1102. بحارالأنوار: ج 27 ص 209.
3- 1103. بحارالأنوار: ج 27 ص 214.
4- 1104. الاعتقادات للصدوق: ص 109.
5- 1105. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 280.
6- 1106. دلائل الامامة: ص 110.

و قال ابن الصباغ المالكي: يقال انه مات بالسم في أيام المنصور (1) . و قال المحدث المتبحر الشيخ عباس القمي: «... توفي الامام الصادق (عليه السلام) في شهر شوال سنة 148 ه بالعنب المسموم الذي اطعمه المنصور...» (2) .

ص: 662


1- 1107. المصباح: ص 691.
2- 1108. الفصول المهمة: ص 219.

ما بعد الشهادة

ارتفعت أصوات البكاء من دار الامام الصادق (عليه السلام) فعلم الناس أن الامام قد فارق الحياة، فأقبلوا مسرعين أفواجا افواجا، الي دار الامام (عليه السلام) يقدمون التعازي الي اولاده (عليه السلام) و يشاركونهم في البكاء و العزاء و يواسونهم في هذه المصيبة الأليمة. و هكذا النساء اقبلن الي دار الامام (عليه السلام) ليشاركن عائلة الامام الصادق (عليه السلام) في الحزن و البكاء. و ما مضي من الوقت الا قليل حتي امتلأت دار الامام الصادق (عليه السلام) بالناس، فما كنت تسمع الا صرخات الرجال و عويل النساء. و هذا امر طبيعي... لأن الامام الصادق (عليه السلام) كان محبوبا عند الناس و له مكانة واسعة في القلوب، و يعترف بفضله الصديق و العدو، و القريب و البعيد، و المؤالف و المخالف... فلا عجب اذا انفجر الناس بالبكاء في مصيبة استشهاد هذا الامام العظيم. لقد فقدوا بحرا من العلم، و طودا من الحلم، و كتلة من الفضائل

ص: 663

و المواهب. لقد فقدوا شيخ الأئمة، و استاذ الفقهاء، و قدوة العلماء. فقدوا خليفة رسول الله بالحق... الذي كان يمثل رسول الله في اقواله و أفعاله، و أخلاقه و سيرته، و حركاته و سكناته. هذا... و الذي اقرح قلوبهم و هيج احزانهم اكثر فأكثر هو أن الامام لم يمت ميتة طبيعية، لم يمت حتف انفه... بل مات علي أثر السم الذي دسه اليه المنصور السفاك اللعين... فقضي (عليه السلام) نحبه مسموما مظلوما صابرا محتسبا... فانا لله و انا اليه راجعون، و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

ص: 664

مراسم التغسيل و التكفين

قال الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) بتنفيذ وصايا أبيه المسموم المظلوم و تجهيزه. و أول ما قام به هو تغسيل جثمانه (عليه السلام). و هناك رواية تقول: ان الامام الصادق (عليه السلام) كان قد اوصي معاوية بن عمار بتغسيله. و هذه الرواية غير صحيحة... لأنها ضعيفة السند - اولا -. و لأنها مخالفة لما ثبت أن الامام لا يغسله الا الامام - ثانيا -. و لأنها منافية للحديث الذي ذكرناه قبل قليل، أن الامام الصادق (عليه السلام) أوصي ولده الامام الكاظم (عليه السلام) بتغسيله، دون غيره - ثالثا -. و الصحيح هو أن الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) غسل جثمان والده الكريم، - حسب وصيته (عليه السلام) -. ثم قام بتكفينه.

ص: 665

قال (عليه السلام) «أنا كفنت أبي في ثوبين شطويين (1) كان يحرم فيهما و في قميص من قمصه و في عمامة كانت لعلي بن الحسين (عليهماالسلام) و في برد اشتراه بأربعين دينارا» (2) . و بعد ذلك تقدم الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) و صلي علي جثمان أبيه، لأن «الامام لا يصلي عليه الا الامام» و اصطف خلفه اولاد الامام الصادق (عليه السلام) و من حضر هناك من بني هاشم و غيرهم.

ص: 666


1- 1109. منتهي الآمال: ج 2 ص 243.
2- 1110. شطا اسم قرية بناحية مصر تنسب اليها الثياب الشطوية (مجمع البحرين).

موكب التشييع

انتشر خبر وفاة الامام الصادق (عليه السلام) فعطلت الأسواق و اغلقت المحلات و اجتمعت الجماهير الغفيرة - من المدينة المنورة و ضواحيها - للمشاركة في تشييع جثمان الامام (عليه السلام). جميع الطوائف، و مختلف الطبقات و المستويات حضروا للتشييع. الصديق و العدو، المؤالف و المخالف، القريب و البعيد... كلهم جاؤا للتشييع، و ذلك لأن الامام الصادق (عليه السلام) كان يتمتع بمكانة اجتماعية سامية - كما ذكرنا في فصل الوفاة - و كان الجميع ينظرون الي الامام بنظرة الاكبار و التجليل: فالشيعي يعتقد فيه أنه الامام المعصوم الطاهر الذي فرض الله طاعته علي الناس و قرن طاعته بطاعة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). و غير الشيعي يعتقد فيه أنه العالم الزاهد العابد المتصف بمكارم الأخلاق و جميل السجايا و الصفات. و لهذا... فالجميع اشتركوا في التشييع، فكان موكبا مهيبا محاطا بهالة من القداسة و العظمة و الهيبة.

ص: 667

... و اخرج الجثمان الشريف من دار الامام، وسط صرخات الناس و بكائهم... و اشترك اولاد الامام الصادق (عليه السلام) في موكب التشييع، و كانوا ينظرون الي جثمان والدهم العظيم محمولا علي الأكتاف، فكانت تهيج أحزانهم و تنهمر دموعهم. و كان الناس قد احاطوا بأولاد الامام، يشاركونهم في الحزن و البكاء. و نظر أبوهريرة الأبار العجلي - و هو من أصحاب الامام - الي جثمان الامام محمولا علي سريره... فهاج به الحزن و ارسل دموعه علي خديه... و أنشد يقول: أقول و قد راحوا به يحملونه علي كاهل من حامليه و عاتق أتدرون ماذا تحملون الي الثري ثبيرا ثوي من رأس علياء شاهق غداة حثي الحاثون فوق ضريحه ترابا و أولي كان فوق المفارق أيا صادق ابن الصادقين ألية بآبائك الأطهار حلفة صادق لحقا بكم ذو العرش قسم في الوري فقال تعالي الله رب المشارق نجوم هي اثنا عشرة كن سبقا الي الله في علم من الله سابق (1)

ص: 668


1- 1111. الكافي: ج 1 ص 475 ح 8.

المثوي الأخير

... و وصل موكب التشييع الي البقيع الغرقد... فاشتد بكاء الناس - و خاصة أولاد الامام - و هم يعيشون اللحظات الأخيرة مع الامام الذي عاشوا معه و انسوا به و استمعوا الي حديثه و سعدوا بالنظر اليه. و ها هو الجثمان المقدس... سيواري الثري بعد قليل... و يغيب الامام الصادق (عليه السلام) غيبة ابدية!! ... و توجهوا بالجثمان الشريف نحو بقعة أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام) و كانوا قد حفروا القبر للامام في تلك البقعة المقدسة. يالها من بقعة طاهرة... ما أعظمها و أشرفها! و يالها من تربة زاكية... ما أطهرها و أقدسها!! و يالها من روضة كريمة... ما اعلاها و اسماها! روضة تضم أربعة من حجج الله علي الخلق أجمعين. و تربة تحتضن أربعة من الائمة الطيبين الطاهرين. و بقعة يرقد فيها أربعة من أبناء رسول الله المعصومين: 1- الامام الحسن المجتبي سيد شباب أهل الجنة.

ص: 669

2- الامام علي بن الحسين زين العابدين. 3- الامام محمد بن علي باقر علوم الأولين و الآخرين. و ها هو الامام جعفر الصادق... يلتحق بأبيه و جده و عم جده، و يرقد بجوارهم. (صلوات الله عليهم أجمعين). قال شيخنا الكليني: «و دفن بالبقيع في القبر الذي دفن فيه أبوه و جده و الحسن بن علي (عليهم السلام)» (1) . و قال ابن الصباغ المالكي: «و قبره بالبقيع، دفن في القبر الذي فيه أبوه و جده و عم جده، فلله دره من قبر ما اكرمه و أشرفه» (2) . و قال المسعودي: «و كانت علي القبر رخامة قد كتبت عليها اسماؤهم الشريفة علي الترتيب» (3) . و في نفس هذه البقعة الشريفة مرقد السيدة الطاهرة: فاطمة بنت أسد، زوجة شيخ البطحاء و مؤمن قريش و حامي الرسول: سيدنا أبي طالب (سلام الله عليه) و والدة بطل الاسلام و خليفة الرسالة و عميد الامامة و سيد العترة: الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه). و يزعم بعض المخالفين أن هذا قبر السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها الصلاة و السلام). و هذا القول غير صحيح، بل الصحيح أنها (سلام الله عليها) اوصت أن تدفن سرا و يخفي موضع قبرها، لأنها كانت ناقمة علي رجال السلطة الغاصبة الحاكمة يومذاك، و لهذا اوصت زوجها الامام عليا أميرالمؤمنين

ص: 670


1- 1112. بحارالأنوار: ج 47 ص 332 ح 24.
2- 1113. الكافي: ج 1 ص 472.
3- 1114. الفصول المهمة: ص 219.

(عليه السلام) بأن لا يشهدا جنازتها و لا الصلاة عليها و لا تشييعها... و نفذ الامام علي (عليه السلام) جميع وصاياها بلا استثناء. و لهذا فقبرها الشريف كان و لا يزال مجهولا و سوف يبقي مجهولا الي الأبد... ليكون وثيقة خالدة علي سخطها و مظلوميتها (سلام الله عليها). و ما ادعاه المخالفون - من تعيين موضع قبرها بالبقيع - ليس الا محاولة يائسة منهم علي محو هذه المظلومية و غسل هذا الظلم و الجفاء و الغدر الذي صدر من رجال السلطة تجاه بنت رسول الله و سيدة نساء العالمين. و هيهات... هيهات... أن يتحقق ذلك.

ص: 671

ما بعد الدفن

اشارة

يعلم الله تعالي مدي الحزن و الألم الذي كان يعتصر قلوب اولاد الامام الصادق (عليه السلام) و خاصة حينما استقر الجثمان الشريف في القبر و اسرجوا عليه اللبن و اهالوا عليه التراب. حقا انها ساعة أليمة... و موقف حزين جدا. لقد غاب عنهم والدهم العزيز، العطوف الرحيم، الذي كان يغمرهم بعطفه و حنانه و يشملهم برعايته و عنايته. لقد غاب الامام الذي ملأ الدنيا بعلومه و معارفه! لقد غاب المعلم الذي تخرج علي يديه الوف العلماء و الفقهاء و المفسرون و المحدثون و غيرهم. لقد غاب المربي الذي ربي الوف الناس علي الايمان و الاخلاق و الكمالات. لقد غاب الطود العظيم الذي كان كتلة من المواهب و الفضائل. لقد غاب الامام الذي كان قمة في النزاهة و التقوي و العصمة و الطهارة.

ص: 672

لقد غاب الكريم الذي كان يغدق علي الفقراء و يحسن الي المساكين و يأخذ بيد الضعفاء و يساعد المحتاجين. لقد غاب المجاهد الذي عاش حياة العقيدة و الجهاد، و تحمل انواع الأذي و الاضطهاد في سبيل الله تعالي، و في سبيل الرسالة الدينية التي كان يحملها. لقد غاب الصابر المحتسب الذي صبر علي البلايا و المحن... بكل صمود و رباطة جأش... و الآن... و الآن... عليهم أن يعودوا الي الدار... و لكن: كيف؟! كيف و قد فقدوا الوالد الكريم. و الدار بعده موحشة!! و كل شبر من الدار يذكرهم بذلك الأب العزيز الذي فقدوه. هنا حجرته... هنا مصلاه... هنا كان يلتقي بأصحابه و يفيض عليهم من علومه... هنا... هنا... و هكذا... و هنا حديث يرويه الشيخ الكليني... فيقول: لما قبض أبوجعفر [الباقر] (عليه السلام) أمر أبوعبدالله (عليه السلام) بالسراج في البيت الذي كان يسكنه، حتي قبض أبوعبدالله (عليه السلام) ثم أمر أبوالحسن (عليه السلام) بمثل ذلك في بيت أبي عبدالله (عليه السلام) حتي اخرج به الي العراق ثم لا أدري ما كان (1) .

ص: 673


1- 1115. مروج الذهب للمسعودي: ج 3 ص 297.

اصداء الشهادة

اشاره

انتشر خبر استشهاد الامام الصادق (عليه السلام) في البلاد، و وصل الخبر الي المدن التي يتواجد فيها الشيعة بكثرة، كالكوفة و البصرة و غيرهما... فاحترقت القلوب و جرت الدموع، و ساد الحزن و الحداد علي تلك البلاد. روي عن داود بن كثير الرقي قال: اتي اعرابي الي ابي حمزة الثمالي [في الكوفة] فسأله [أبوحمزة] خبرا؟ فقال [الأعرابي]: توفي جعفر الصادق (عليه السلام). فشهق [أبوحمزة] شهقة و اغمي عليه، فلما افاق قال: هو اوصي الي أحد...» الي آخر الخبر و قد تقدم (1) .

ص: 674


1- 1116. زيادة توضيحية منا.

موقف الدوانيقي من استشهاد الامام

أما المنصور الدوانيقي فقد استخدم الألعاب الشيطانية التي يستخدمها الرؤساء في موت خصومهم، فهو من جهة يدرك مدي الخسارة التي لحقت بالامة الاسلامية بوفاة سيدنا و مولانا الامام الصادق (عليه السلام). و من جهة اخري يشعر بالراحة النفسية و يتنفس من اعماقه... لوفاة الامام، لأنه كان يخشي منه علي حكومته الفانية. لذلك تراه يذرف دموع التماسيح، في وفاة الامام الصادق (عليه السلام) محاولة منه لتغطية الجريمة النكراء التي قام بها حينما أمر بدس السم الي الامام (عليه السلام). و هذه ألعاب معروفة في عالم السياسة و السياسيين. و في نفس الوقت تراه يكتب الي واليه علي المدينة المنورة بأن يضرب عنق خليفة الامام الصادق (عليه السلام) و الامام الذي نص عليه من بعده. فانظر الي التناقض في تصرفات هذا الطاغوت!! عن أبي أيوب النحوي قال: بعث الي أبوجعفر المنصور في جوف الليل فدخلت عليه و هو جالس علي كرسي، و بين يديه شمعة و في يده كتاب، فلما سلمت عليه رمي الكتاب الي و هو يبكي و قال: هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات. فانا لله و انا اليه راجعون - ثلاثا - و أين مثل جعفر؟! ثم قال لي: أكتب فكتبت صدر الكتاب، ثم قال: أكتب: ان كان أوصي الي رجل بعينه فقدمه و اضرب عنقه. قال: فرجع الجواب اليه: انه قد أوصي الي خمسة نفر و أحدهم أبوجعفر

ص: 675

المنصور و محمد بن سليمان و عبدالله و موسي [بن جعفر] و حميدة. فقال المنصور: ليس الي قتل هؤلاء سبيل (1) . قال العلامة المجلسي (طيب الله ثراه): كان الامام (عليه السلام) يعلم - بعلم الامامة - أن المنصور سيقتل وصيه، فأشرك هؤلاء النفر ظاهرا فكتب اسم المنصور اولا. لكن الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) هو الذي كان مخصوصا بالوصية دونهم، و كان أهل العلم يعرفون ذلك. كما مضي في رواية أبي حمزة الثمالي (2) .

ص: 676


1- 1117. بحارالأنوار: ج 47 ص 4، و ما بين المعقوفتين زيادات توضيحية منا. و قد ورد الحديث في الخرائج و الجرائح: ج 1 ص 328 ح 22 مع اختلاف يسير.
2- 1118. الكافي: ج 1 ص 310 ح 13.

تاريخ شهادته

قال الشيخ الكليني: مضي (عليه السلام) في شوال من سنة ثمان و أربعين و مائة و له خمس و ستون سنة (1) . و قال الشيخ الطبرسي: مضي (عليه السلام) في النصف من رجب، و يقال في شوال سنة ثمان و أربعين و مائة (2) . و جاء في كتاب جنات الخلود: كان وفاته يوم الأحد و في قول آخر يوم الاثنين في 25 من شهر شوال (3) . أقول: المشهور بين الشيعة الامامية أنه (عليه السلام) توفي في الخامس و العشرين من شهر شوال سنة ثمان و أربعين و مائة للهجرة. و في هذا اليوم - من كل عام - تقام عشرات الآلاف من المجالس و المآتم في المساجد و الحسينيات و البيوت و المجامع، في البلاد الشيعية و غيرها، و يرقي السادة الخطباء المنابر و يتحدثون عن الامام الصادق (عليه السلام)

ص: 677


1- 1119. جلاء العيون: ص 523.
2- 1120. الكافي: ج 1 ص 472.
3- 1121. اعلام الوري: ص 159.

و فضائله الزاهرة و مناقبه الباهرة و مواقفه الشريفة و حياته الزاخرة بالعطاء و الخيرات و الكرامات. و يختمون حديثهم بذكر جانب مما جري عليه (عليه السلام) من المصائب و المحن و التي ختمت بشهادته مسموما مظلوما، بأمر المنصور الدوانيقي اللعين. كما تخرج مواكب العزاء الي الشوارع العامة، و يشترك فيها مختلف الطبقات من الناس و هم يرتدون الملابس السوداء و يرفعون الأعلام السوداء و يلطمون علي صدورهم و يرددون الأشعار الحزينة المنظومة في هذه المناسبة الأليمة.

ص: 678

زيارة الامام الصادق

تعتبر زيارة القبور من المستحبات المؤكدة في الاسلام، و قد وردت في شأنها أحاديث كثيرة مذكورة في كتب المسلمين، من الصحاح و غيرها. كما قد وردت أحاديث صحيحة كثيرة تؤكد علي استحباب زيارة مراقد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، سواء في المدينة المنورة أم في العراق أم في ايران. فقد روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «اذا حج أحدكم فليختم حجه بزيارتنا، لأن ذلك من تمام الحج» (1) . و قال الامام الرضا (عليه السلام): «ان لكل امام عهدا في عنق أوليائه و شيعته، و ان من تمام الوفاء بالعهد و حسن الاداء: زيارة قبورهم، فمن زارهم، رغبة في زيارتهم و تصديقا بما رغبوا فيه - كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة» (2) . و عن أبي عبدالله الحراني قال: قلت لأبي عبدالله [الصادق] (عليه السلام):

ص: 679


1- 1122. جنات الخلود: ص 29.
2- 1123. عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 262 ح 28.

ما لمن زار قبر الحسين (عليه السلام)؟ قال: من أتاه و زاره و صلي عنده ركعتين كتبت له حجة مبرورة، فان صلي عنده أربع ركعات كتبت له حجة و عمرة. قلت: جعلت فداك، و كذلك لكل من زار اماما مفترضة طاعته؟ قال: و كذلك كل من زار اماما مفترضة طاعته (1) . و عن زيد الشحام قال: قلت لأبي عبدالله [الصادق] (عليه السلام): ما لمن زار أحدا منكم؟ قال: كمن زار رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) (2) . و بخصوص زيارة الامام الصادق (عليه السلام) وردت أحاديث شريفة... منها: عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «من زارني غفرت له ذنوبه و لم يمت فقيرا» (3) . و قال الامام الحسن العسكري (عليه السلام): «من زار جعفرا و أباه لم يشتك عينه و لم يصبه سقم و لم يمت مبتلي» (4) . من هنا... فقد دأب المؤمنون علي زيارة مرقده الشريف، منذ وفاته و شهادته و حتي هذا اليوم. و هناك زيارة جامعة للأئمة الطاهرين المدفونين في البقيع... و هي: «السلام عليكم أئمة الهدي، السلام عليكم أهل التقوي، السلام عليكم أيها الحجج علي أهل الدنيا، السلام عليكم أيها القوام في البرية

ص: 680


1- 1124. الكافي: ج 4 ص 567 ح 2.
2- 1125. التهذيب: ج 6 ص 79 ح 156.
3- 1126. التهذيب: ج 6 ص 79 ح 157.
4- 1127. التهذيب:ج 6 ص 78 ح 153 و 154.

بالقسط، السلام عليكم أهل الصفوة، السلام عليكم آل رسول الله، السلام عليكم أهل النجوي. أشهد أنكم قد بلغتم و نصحتم و صبرتم في ذات الله، و كذبتم و اسيئ اليكم فغفرتم، و أشهد أنكم الأئمة الراشدون المهتدون و أن طاعتكم مفروضة، و أن قولكم الصدق، و أنكم دعوتم فلم تجابوا و أمرتم فلم تطاعوا، و أنكم دعائم الدين و أركان الأرض، لم تزالوا بعين الله ينسخكم من أصلاب كل مطهر و ينقلكم من أرحام المطهرات. لم تدنسكم الجاهلية الجهلاء، و لم تشرك فيكم فتن الأهواء، طبتم و طاب منبتكم. من بكم علينا ديان الدين، فجعلكم في بيوت اذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه، و جعل صلواتنا عليكم رحمة لنا و كفارة لذنوبنا، اذ اختاركم الله لنا و طيب خلقنا بما من علينا من ولايتكم، و كنا عنده مسمين بعلمكم، معترفين بتصديقنا اياكم. و هذا مقام من أسرف و أخطأ و استكان و أقر بما جني و رجي بمقامه الخلاص، و أن يستنقذه بكم مستنقذ الهلكي من الردي. فكونوا لي شفعاء، فقد وفدت اليكم اذ رغب عنكم أهل الدنيا، و اتخذوا آيات الله هزوا...» الي آخر الزيارة (1) .

ص: 681


1- 1128. التهذيب:ج 6 ص 78 ح 153 و 154.

القبر المهدوم

لقد كانت - و لا تزال - روضة أهل البيت المقدسة في البقيع مهوي أفئدة المؤمنين يتوافدون اليها افواجا أفواجا من شرق الأرض و غربها - و خاصة في موسم الحج - و يتشرفون بزيارة الائمة الطاهرين (عليهم السلام) المدفونين في البقيع...تقربا الي الله و رسوله، و اداء لبعض الواجب الذي فرضه الله تعالي عليهم بقوله: «قل لا أسئلكم عليه أجرا الا المودة في القربي» (1) . فكانت زيارة أبناء رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) تعبيرا عن الولاء و المحبة، و من مصاديق «المودة» التي جعلها الله أجرا لرسالة نبيه المصطفي (صلي الله عليه و آله و سلم). و بمرور الأيام... تم بناء تلك البقعة الطاهرة... فصارت عليها قبة شامخة و بناء رائع و حرم شريف و هيبة و جلالة تتجلي فيها العظمة الالهية و القدسية الربانية...

ص: 682


1- 1129. مفاتيح الجنان للقمي.

و كيف لا تكون كذلك و هي روضة من رياض الجنة و من البيوت التي اذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه...؟!! و كان البناء علي قبور الأنبياء و الأولياء ظاهرة مألوفة عند جميع المسلمين علي اختلاف مذاهبهم و مشاربهم، و يعتبرونه نوعا من تعظيم الشعائر الالهية.. التي قال الله عنها: «و من يعظم شعائر الله فانها من تقوي القلوب» (1) . و كانت مراقد الأنبياء و الأولياء كثيرة في بلاد المسلمين - من العراق و الحجاز و الاردن و مصر و سوريا و فلسطين و ايران و المغرب الأقصي و غيرها - و عليها القباب العالية و المآذن الشامخة و الأبنية الرفيعة. و لم ينكرها أحد من أئمة المذاهب الأربعة و لا من علماء المسلمين و فقهاء الشريعة. فقد كان أحمد بن حنبل - امام المذهب الحنبلي - يعيش في بغداد و نصب عينيه قبر أبي حنيفة و عليه بناء مشيد، و لم ينه عن ذلك. بل كان الشافعي يزور قبر أبي حنيفة. كما أنه لم ينكر أحمد من أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) البناء علي القبور. فقد كان البناء علي مرقد سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) منذ عصر الامام الصادق (عليه السلام) أو قبله، و لم ينكره الامام و لم ينه عنه، و لم ينكره غيره من الأئمة الطاهرين (عليهم السلام). و كلما انهدم البناء... أسرع المؤمنون الأبرار الي تشييده من جديد... علي أحسن ما يرام.

ص: 683


1- 1130. سورة الشوري آية 23.

و في عصر هارون العباسي بنيت قبة مشيدة علي مرقد خليفة رسول الله الامام علي أميرالمؤمنين (صلوات الله عليه). و علي كل حال... فان سيرة المسلمين كانت و لا تزال جارية علي البناء علي مراقد أولياء الله الصالحين. و لكن... و مع الأسف الشديد... حينما استولي الوهابيون علي الحرمين الشريفين في الحجاز، أسرعوا الي هدم القباب المشيدة علي قبور أولياء الله الصالحين... زاعمين أن البناء علي القبور حرام... و لنا أن نتساءل: هل جهل ائمة المذاهب الأربعة هذا الحكم... و علمه هؤلاء؟ انهم يدعون أنهم علي مذهب أحمد بن حنبل... فلماذا لم يحرم امام الحنابلة البناء علي القبور؟؟ و كيف خفي هذا الحكم علي المسلمين طوال هذه القرون المتمادية؟؟ و هل خص الله تعالي الوهابيين بمعرفة حرمة البناء علي القبور... دون غيرهم؟؟!! أم نسخ حلال محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) علي أيديهم؟؟!! اذن: ما معني: «حلال محمد حلال الي يوم القيامة»؟؟!! أيها القارئ الكريم: و في اليوم الثامن من شهر شوال لعام 1342 ه امتدت الأيدي الأثيمة فهدمت القبة النوراء و البناء المشيد علي مرقد الائمة المعصومين الأربعة: الامام الحسن المجتبي و الامام زين العابدين و الامام الباقر و الامام الصادق (صلوات الله عليهم أجمعين) و سووا تلك القبور المقدسة مع الأرض، و هتكوا حرمتها، و لم يحفظوا لها قدسية و لا كرامة... و تركوا

ص: 684

تلك البقعة الطاهرة بلا ظلال و لا ضياء و لا فراش و لا بناء و لا حرمة و لا احترام!!!.. فلا سقف يظلل علي رؤوس الزوار، و لا شي ء يقيهم الحر و البرد و المطر! فهل هذا جزاء رسول الله في عترته و أهل بيته؟!! و هل هذا أجر الرسالة؟؟! ألم يكف ما لاقاه آل رسول الله - في حياتهم - من الأذي و الظلم و الاضطهاد و التشريد و التخويف و السبي و القتل... حتي جاء هؤلاء ليكملوا المشوار؟!! و لقد أجاد السيد محسن الأمين... حيث قال: لم يكف ما صنعت بهم أعداؤهم زمن الحياة و ما اعتداه المعتدي حتي غدت بعد الممات خوارج في الظلم بالماضين منهم تقتدي هدمت ضرائح فوقهم قد شيدت معقودة من فوق أشرف مرقد و قال الآخر: لمن القبور الدارسات بطيبة عفت بها أيدي الشقا آثارا قبر تعالي شأنه بالمجتبي ال حسن الزكي فصار فيه منارا و علي السجاد و وري عنده من كان زين العابدين فخارا و الباقر البحر الخضم بجنبه بدر يشع علي الوري أنوارا و الصادق العلم المعظم قد ثوي طودا بدا للمؤمنين شعارا قل للذي افتي بهدم قبورهم أن سوف تصلي في القيامة نارا اعلمت أي مقابر هدمتها هي للملائك لا تزال مزارا

ص: 685

هذا... و لا زال الأمر علي ما كان عليه... حتي الآن!! فالقبور مهدومة، و كرامة الأئمة الطاهرين مهدورة، و حرمة آل رسول الله مهتوكة، و وصية رسول الله في أهل بيته متروكة... و لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم. و اننا - و عبر هذه السطور - نوجه النداء الي العالم الاسلامي و ندعوا المسلمين الأحرار في كل مكان الي أن يهبوا يدا واحدة و بصوت واحد و يطالبوا السلطات المسؤولة للسماح ببناء هذه الروضة المقدسة و القبور الطاهرة و المراقد المقدسة، و اعادة الكرامة المسلوبة منها عشرات السنين. و من الله التوفيق... و هو المستعان.

ص: 686

بعض ما قيل في رثائه

اشارة

للسيد محسن الأمين: يا بدورا قد غالها الخسف لكن لم تزل في الهدي بدورا تماما حاولت نقصها العدي فأبي الرحمن الا لنورها الاتماما حر قلبي لسادة أزكياء في الطوامير خلدوا أعواما أرهقوا الطفل و المراهق منهم بالملمات يقظة و مناما أرضعوا طفلهم لبان الرزايا و اعدوا له الحسام فطاما قتلوهم و ما رعوا لرسول الله الا في آله و ذماما يا جبالا حلما تفوق الرواسي و سجالا نعمي تعم الأناما و ليوثا غلبا اذا طاشت الأحلام في الروع لم تطش أحلاما لم يمت حتف أنفه من امام منكم عاش بينهم مستضاما ما كفاها قتل الوصي و شبليه و أبنائهم اماما اماما و التعدي علي الميامين حتي لم تغادر من تابعيهم هماما و رمت جعفرا رزايا أرتنا بأبيه تلك الرزايا الجساما بأبي من بني النبي اماما جرعته بنوالطليق الحماما بأبي من أقامه الله للعلم و للحلم غاربا و سناما

ص: 687

بأبي من بكي عليه المعادي و الموالي له بكاء الأيامي بأبي من أقام حيا و ميتا عمد الدين و الهدي فاستقاما بأبي من عليه جبريل حزنا في السماوات مأتما قد اقاما يا حمي الدين ان فقدك أوري في حشي الدين جذوة و ضراما و من المؤمنين أسهر طرفا و من الكاشحين طرفا أناما كنت للدين مظهرا و منارا و لأهليه جنة و عصاما كان بيت الهدي بهديك معمورا و قد سامه الضلال انهداما لا مقام لأهل يثرب فيها يوم أبكيت يثربا و المقاما أيها البدء و الختام لهذا الكون طبتم بداية و ختاما ان تساموا ضيما فعما قليل يدرك الثأر ثائر لن يضاما ملك تخضع الملوك لديه و اليه يلقي الزمان الزماما علم للهدي به الله يمحون كل غي و يمحق الآثاما و به الله يملأ الأرض عدلا و به يكشف الكروب العظاما محييا دين جده محكما بالبيض و السمر شرعه احكاما حي مولي جبريل جهرا ينادي في السماوات باسمه اعظاما بك يا كافي المهمات لذنا فرقا فاكفنا الطغاة الطغاما نشتكيهم اليك في كل يوم فالي ما نشكو اليك الي ما (1) و له أيضا: تبكي العيون بدمعها المتورد حزنا لثاو في بقيع الغرقد

ص: 688


1- 1131. سورة الحج آية 32.

تبكي العيون دما لفقد مبرز من آل أحمد مثله لم يفقد أي النواظر لا تفيض دموعها حزنا لمأتم جعفر بن محمد الصادق الصديق بحر العلم مصباح الهدي و العابد المتهجد رزء له أركان دين محمد هدت و ناب الحزن قلب محمد رزء أصاب المسلمين بذلة و هوي له بيت العلي و السؤدد رزء له تبكي شريعة أحمد و تنوح معولة بقلب مكمد عم الضلال لفقد هاديها و قد فقد الرشاد بها لفقد المرشد رزء تهون له المصائب كلها رزء له غاض الندي و خلا الندي رزء بقلب الدين اثبت سهمه ورمي حشاشة قلب كل موحد ثلم الهدي و الدين منه ثلمة حتي القيامة ثلمها لم يسدد ماذا جنت آل الطليق و ما الذي جرت علي الاسلام من صنع ردي كم انزلت مر البلاء بجعفر نجم الهدي مأمون شرعة أحمد كم شردته عن مدينة جده ظلما تجشمه السري في فدفد كم قد رأي المنصور منه عجائبا و رأي الهدي لكنه لم يهتد هيهات ما المنصور منصور بما يأتي و لا هو للهدي بمسدد لم يحفظوا المختار في أولاده و سواهم من أحمد لم يولد لم يكف ما صنعت بهم أعداؤهم زمن الحياة و ما اعتداه المعتدي حتي غدت بعد الممات خوارج في الظلم بالماضين منهم تقتدي هدمت ضرائح فوقهم قد شيدت معقودة من فوق أشرف مرقد (1)

ص: 689


1- 1132. المجالس السنية: ج 5 ص 514.

زوجات الامام الصادق

اشاره

تزوج الامام الصادق (عليه السلام) بعدد من الحرائر، و اشتري بعض الجواري، و اليك بعض التفصيل: 1- السيدة فاطمة بنت الحسين بن الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فهي بنت عم الامام. و قيل: فاطمة بنت الحسين الأثرم بن الامام الحسن بن الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) (1) . 2- ام حميدة، أو حميدة المصفاة البربرية. 3- ام وهب بن وهب ابي البختري. 4- ام سالمة. و غيرهن.

ص: 690


1- 1133. المجالس السنية 6 ج 5 ص 516.

حميدة المصفاة البربرية

هي حميدة المصفاة، ابنة صاعد البربري، و يقال: انها أندلسية، ام ولد، تكني لؤلؤة... (1) . و روي أن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتي اديت الي، كرامة من الله لي و الحجة من بعدي» (2) . و عن عيسي بن عبدالرحمن، عن أبيه قال: دخل ابن عكاشه بن محصن الأسدي علي أبي جعفر [الباقر] - و كان أبوعبدالله (عليه السلام) قائما عنده - فقدم اليه عنبا فقال: حبة حبة، يأكله الشيخ الكبير و الصبي الصغير، و ثلاثة و أربعة يأكله من يظن أنه لا يشبع، و كله حبتين حبتين، فانه يستحب. فقال لأبي جعفر (عليه السلام): لأي شي ء لا تزوج أباعبدالله فقد أدرك التزويج؟. قال: - و بين يديه صرة مختومة - فقال: أما انه سيجي ء نخاس (3) من أهل بربر فينزل دار ميمون، فنشتري له - بهذه الصرة - جارية. قال: فأتي لذلك ما أتي. فدخلنا يوما علي أبي جعفر (عليه السلام) فقال: ألا اخبركم عن

ص: 691


1- 1134. كشف الغمة: ج 2 ص 161.
2- 1135. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 323.
3- 1136. الكافي: ج 1 ص 477 ح 2، هكذا وجدنا في المصدر و لعل الأصح: «من الله لي و للحجة من بعدي».

النخاس الذي ذكرته لكم؟ قد قدم، فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرة منه جارية. قال: فأتينا النخاس فقال: قد بعت ما كان عندي الا جاريتين مريضتين احديهما أمثل من الأخري (1) . قلنا: فأخرجهما حتي ننظر اليهما. فأخرجهما فقلنا: بكم تبيعنا هذه المتماثلة؟ قال: بسبعين دينارا. قلنا: أحسن. قال: لا أنقص من سبعين دينارا؟ قلنا له: نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت و لا ندري ما فيها. و كان عنده رجل أبيض الرأس و اللحية، قال: فكوا وزنوا. فقال النخاس: لا تفكوا فانها ان نقصت حبة من سبعين دينارا لم ابايعكم. فقال الشيخ: ادنوا، فدنونا و فككنا الخاتم و وزنا الدنانير فاذا هي سعبون دينارا لا تزيد و لا تنقص. فأخذنا الجارية فأدخلناها علي أبي جعفر (عليه السلام) و جعفر قائم عنده فأخبرنا أباجعفر بما كان، فحمد الله و أثني عليه ثم قال لها: ما اسمك؟ قالت: حميدة. فقال: حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة، أخبريني عنك أبكر أنت أم ثيب؟

ص: 692


1- 1137. النخاس: بياع الدواب و الرقيق (القاموس).

قالت: بكر... فقال: يا جعفر خذها اليك. فولدت خير أهل الأرض موسي بن جعفر (عليهماالسلام) (1) .

ص: 693


1- 1138. قوله: «أمثل من الاخري»، أي: أقرب الي البرء و أفضل و أحسن، و كذا المتماثلة، قال في القاموس: تماثل العليل: قارب البرء، و الأمثل: الافضل (مرآة العقول).

اولاده و بناته

اشاره

كان للامام الصادق (عليه السلام) سبعة أولاد، و هم: 1- اسماعيل الأمين (1) . 2- عبدالله الأفطح. 3- الامام موسي الكاظم (عليه السلام). 4- اسحاق. 5- محمد، الديباج. 6- العباس. 7- علي العريضي (2) . و في (كشف الغمة): 8- و يحيي (3) .

ص: 694


1- 1139. الكافي: ج 1 ص 476 ح 1.
2- 1140. في كشف الغمة ج 2 ص 161: اسماعيل الأعرج.
3- 1141. مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 280.

و ثلاث بنات، و هن: 1- ام فروة و هي التي زوجها من ابن عمه، الخارج مع زيد بن علي بن الحسين. 2- اسماء. 3- فاطمة الصغري. و الآن نتحدث عن بعض أولاده (عليه السلام) و بعض القضايا المرتبطة به:

اسماعيل بن الامام الصادق

اشاره

كان اسماعيل اكبر أولاد الامام الصادق (عليه السلام) و كان رجلا كريما شجاعا جليلا، يحبه الامام الصادق (عليه السلام) لفضائله و فواضله، و يرشده و يوجهه. و كان بعض الشيعة يظن أن اسماعيل هو الامام بعد أبيه - لما اشتهر بينهم أن الامامة في الولد الأكبر اذا لم تكن فيه عاهة - و لميل أبيه اليه و اكرامه له... فكان الامام الصادق (عليه السلام) ينفي ذلك. و قد روي ان اسماعيل بن عمار عرض دينه علي الامام الصادق (عليه السلام) فقال: أشهد أن لا اله الا الله و أن محمدا رسول الله و أنكم... - و جعل يذكر الأئمة بعد واحدا حتي انتهي الي الامام الصادق... ثم قال -: و اسماعيل من بعدك. فقال الامام: «أما اسماعيل فلا» (1) .و عن عمرو بن ابان قال: ذكر أبوعبدالله (عليه السلام) الأوصياء،

ص: 695


1- 1142. كشف الغمة: ج 2 ص 161.

و ذكرت اسماعيل، فقال: «لا والله - يا أبامحمد - ما ذاك الينا، ما هو الا الي الله، ينزل واحدا بعد واحد.» (1) . و كان الامام الصادق (عليه السلام) قد نص علي امامة ولده الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) من بعده عند بعض شيعته في حياة اسماعيل، و لهذا كان الفضلاء من أصحاب الامام الصادق (عليه السلام) لا يعتقدون بامامة اسماعيل و لا بامامة أخيه عبدالله الأفطح - الذي كان أكبر أولاد الامام الصادق حين وفاة الامام - بسبب آفة العضو الموجودة فيه. و هناك قضية حدثت لاسماعيل بن الامام الصادق (عليه السلام) و رجل آخر نذكرها للعبرة و الموعظة: عن حماد بن عيسي، عن حريز قال: كانت لاسماعيل بن أبي عبدالله (عليه السلام) دنانير و أراد رجل من قريش أن يخرج الي اليمن فقال اسماعيل: يا أبت ان فلانا يريد الخروج الي اليمن و عندي كذا و كذا دينارا فتري أن أدفعها اليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبوعبدالله (عليه السلام): «يا بني أما بلغك أنه يشرب الخمر؟!» فقال اسماعيل: هكذا يقول الناس. فقال: «يا بني لا تفعل»، فعصي اسماعيل أباه و دفع اليه [الي شارب الخمر] دنانيره فاستهلكها [أتلفها] و لم يأته بشي ء منها. فخرج اسماعيل و قضي أن أباعبدالله (عليه السلام) حج، و حج اسماعيل تلك السنة فجعل يطوف بالبيت و يقول: اللهم أجرني و أخلف علي. فلحقه أبوعبدالله (عليه السلام) فهمزه [دفعه أو عصره] بيده من

ص: 696


1- 1143. بحارالأنوار: ج 47 ص 261.

خلفه فقال له: «مه يا بني فلا والله مالك علي الله حجة، و لا لك أن يأجرك و لا يخلف عليك و قد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته». فقال اسماعيل: يا أبت اني لم أره يشرب الخمر انما سمعت الناس يقولون. فقال: «يا بني ان الله (عزوجل) يقول في كتابه: «يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين» (1) يقول: يصدق الله و يصدق للمؤمنين، فاذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم و لا تأتمن شارب الخمر فان الله (عزوجل) يقول في كتابه: «و لا تؤتوا السفهاء أموالكم» (2) ، فأي سفيه أسفه من شارب الخمر؟!! ان شارب الخمر لا يزوج اذا خطب، و لا يشفع اذا شفع، و لا يؤتمن علي أمانة، فمن ائتمنه علي أمانة فاستهلكها [أتلفها] لم يكن للذي ائتمنه علي الله أن يأجره و لا يخلف عليه» (3) .

وفاة اسماعيل

و مات اسماعيل في حياة الامام الصادق (عليه السلام) فكان موته فتنة عقائدية عند ضعفاء العقيدة. و كان الامام الصادق (عليه السلام) يعلم - بعلم الامامة - ان ذوي القلوب المريضة سيقومون بأعمال شيطانية مضللة، و لهذا قام الامام بأعمال لعلها كانت غير مألوفة في ذلك الزمان: فقد كشف الامام الصادق عن وجه ولده اسماعيل بمرأي من الناس،

ص: 697


1- 1144. بصائر الدرجات: ص 491 ح 4.
2- 1145. سورة التوبة آية 61.
3- 1146. سورة النساء آية 5.

مرات عديدة، و أراهم ان اسماعيل ميت، و دفنه في البقيع. كل ذلك اتماما للحجة، و دفعا للشبهة، و قد شهدت ذلك المشيعون الذين حضروا تشييع جنازة اسماعيل... و اليك بعض التفصيل: روي عن زرارة بن أعين أنه قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و عن يمينه سيد ولده موسي (عليه السلام) و قدامه مرقد مغطي فقال لي: يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي، و حمران، و أبي بصير، و دخل عليه المفضل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني باحضاره، و لم يزل الناس يدخلون واحدا اثر واحد، حتي صرنا في البيت ثلاثين رجلا. فلما حشد المجلس (1) قال: يا داود اكشف لي عن وجه اسماعيل، فكشفت عن وجهه فقال أبوعبدالله (عليه السلام): يا داود أحي هو أم ميت؟ قال داود: يا مولاي هو ميت، فجعل يعرض ذلك علي رجل رجل حتي أتي علي آخر من في المجلس و انتهي عليهم بأسرهم، كل يقول: هو ميت يا مولاي، فقال: اللهم اشهد. ثم أمر بغسله و حنوطه، و ادراجه في أثوابه. فلما فرغ منه قال للمفضل: يا مفضل احسر عن وجهه. فحسر عن وجهه فقال: أحي هو أو ميت؟ فقال: ميت. قال: اللهم اشهد عليهم، ثم حمل الي قبره، فلما وضع في لحده قال: يا مفضل اكشف عن وجهه و قال للجماعة: أحي هو أم ميت؟ قلنا له: ميت، فقال: اللهم اشهد، و اشهدوا فانه سيرتاب المبطلون، يريدون اطفاء نور الله بأفواههم. - ثم أومأ الي موسي (عليه السلام) - والله متم نوره و لو كره المشركون.

ص: 698


1- 1147. الكافي: ج 5 ص 299 ح 1.

ثم حثونا عليه التراب، ثم أعاد علينا القول فقال: الميت المحنط المكفن المدفون في هذا اللحد من هو؟ قلنا: اسماعيل، قال: اللهم اشهد، ثم أخذ بيد موسي (عليه السلام) و قال: هو حق، و الحق معه و منه، الي أن يرث الله الأرض و من عليها (1) . و روي عن سعيد بن عبدالله الأعرج قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام): لما مات اسماعيل أمرت به و هو مسجي أن يكشف عن وجهه فقبلت جبهته و ذقنه و نحره، ثم أمرت به فغطي، ثم قلت: اكشفوا عنه، فقبلت أيضا جبهته و ذقنه و نحره، ثم أمرتهم فغطوه، ثم أمرت به فغسل، ثم دخلت عليه و قد كفن فقلت: اكشفوا عن وجهه، فقبلت جبهته و ذقنه و نحره، و عوذته، ثم قلت: ادرجوه (2) . فقلت: بأي شي ء عوذته؟ قال: بالقرآن (3) . و عن اسماعيل بن جابر قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) حين مات ابنه اسماعيل الاكبر فجعل يقبله و هو ميت فقلت: جعلت فداك أليس لا ينبغي أن يمس الميت بعدما يموت و من مسه فعليه الغسل؟ فقال: أما بحرارته فلا بأس، انما ذاك اذا برد (4) . و خرج الامام الصادق (عليه السلام) فتقدم السرير بلا حذاء و لا رداء (5) .

ص: 699


1- 1148. أي اجتمع فيه الناس.
2- 1149. بحارالأنوار: ج 48 ص 21.
3- 1150. أدرجوه - أي لفوه.
4- 1151. اكمال الدين: ص 71. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 247.
5- 1152. التهذيب: ج 1 ص 429 ح 1366.

و لما انزلوه في القبر جاء (عليه السلام) فقعد ثم قال: «رحمك الله و صلي عليك» و لم ينزل في قبره و قال: هكذا فعل النبي (صلي الله عليه و آله) بابراهيم (عليه السلام) (1) . و في كتاب الغيبة للنعماني: من مشهور كلام أبي عبدالله (عليه السلام) عند وقوفه علي قبر اسماعيل: «غلبني الحزن لك علي الحزن عليك، اللهم اني وهبت لاسماعيل جميع ما قصر عنه، مما افترضت عليه من حقي، فهب لي جميع ما قصر عنه فيما افترضت عليه من حقك» (2) . و عن عنبسة بن بجاد العابد، قال: لما مات اسماعيل بن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) و فرغنا من جنازته، جلس الصادق جعفر بن محمد (عليهماالسلام) و جلسنا حوله و هو مطرق، ثم رفع رأسه فقال: أيها الناس ان هذه الدنيا دار فراق، و دار التواء لا دار استواء، علي أن لفراق المألوف حرقة لا تدفع،و لوعة لا ترد، و انما يتفاضل الناس بحسن العزاء، و صحة الفكرة، فمن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، و من لم يقدم ولدا كان هو المقدم دون الولد، ثم تمثل (عليه السلام) بقول أبي خراش الهذلي يرثي أخاه: و لا تحسبي أني تناسيت عهده و لكن صبري يا اميم جميل (3) هذا... و قد وردت أحاديث في شأن اسماعيل ذكرناها في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 700


1- 1153. الكافي: ج 3 ص 204 ح 5.
2- 1154. الكافي: ج 3 ص 193 ح 3.
3- 1155. كتاب الغيبة للنعماني: ص 327 ح 7. منه بحارالأنوار: ج 48 ص 23.

الفتنة العقائدية

أيها القارئ الكريم: بالرغم من كل التدابير اللازمة التي قام بها الامام الصادق (عليه السلام) في وفاة ولده اسماعيل، و بالرغم من كل الشواهد الواضحة علي وفاته... قام بعض الناس بالتشكيك في موت اسماعيل، محاولين اثبات امامته بعد أبيه، و بذلك أحدثوا فتنة عقائدية و مزيدا من الانشقاق في صفوف المؤمنين و المسلمين. فكانت النتيجة تكوين مذهب جديد، منشعب عن مذهب الشيعة و منفصل عنه، و هو مذهب الاسماعيلية، و قد انقسم الي قسمين: 1- ظاهرية، و هم المعروفون بالبهرة. 2- و باطنية، و هم المعروفون بالآغاخانية. و هم منتشرون في بلاد الهند و باكستان و شرق افريقيا و بلاد اخري. و هم يعترفون بامامة ستة من ائمة أهل البيت، و لا يعترفون بامامة الستة الآخرين (صلوات الله عليهم أجمعين). و لهم أحكام ما انزل الله بها من سلطان، و أحكامهم الفقهية تختلف عن فقه الشيعة الامامية اختلافا كثيرا. هذا و لو أردنا أنت نتحدث عنهم بالتفصيل لطال بنا الكلام.

عبدالله بن الامام الصادق

اشارة

و يلقب بالأفطح و انما لقب به لأنه كان أفطح الرأس أو الرجلين، أي عريض الرأس أو عريض الرجلين - أي القدمين -. كان الامام الصادق (عليه السلام) يعلم - بعلم الامامة - ان المنصور

ص: 701

الدوانيقي سيحاول قتل الامام الذي يقوم بعده (عليه السلام) و لهذا لم تسمح له الظروف أن يعلن لكل الناس ان الامام بعده هو ابنه: موسي بن جعفر (عليه السلام) تحفظا علي حياة ولده من كيد الظالمين. و لكنه اتخذ التدابير اللازمة بهذا الشأن، حتي لا يلتبس الأمر علي شيعته فقد نص علي امامة ولده: موسي بن جعفر (عليه السلام) لخواص شيعته ممن يثق بهم، و سوف نذكر تلك النصوص في الفصل القادم في ترجمة الامام موسي بن جعفر (عليه السلام). و كان قد اشتهر بين الشيعة حديث الامام الصادق (عليه السلام): «ان الأمر [الامامة] في الكبير، ما لم تكن فيه عاهة» (1) . و كان عبدالله الأفطح - يوم توفي ابوه الامام الصادق (عليه السلام) - أكبر أولاد أبيه فاشتبه الأمر علي بعض الشيعة فظنوا أنه الامام بعد أبيه، لأنه أكبر أولاده، و جهلوا ان الامامة انما تكون في الولد الأكبر اذا لم تكن به عاهة (أي كان مستوي الخلقة من غير تشويه) و عبدالله كان ذا عاهة لأنه كان أفطح الرأس أو الرجلين - كما تقدم الكلام عن ذلك -. و تنسب اليه انحرافات عقائدية كما ذكر الشيخ المفيد في (الارشاد) حيث قال: (و كان عبدالله بن جعفر أكبر اخوته بعد اسماعيل، و لم تكن منزلته عند أبيه كمنزلة غيره من ولده في الاكرام، و كان متهما بالخلاف علي أبيه في الأعتقاد، و يقال: انه كان يخالط الحشوية، و يميل الي مذهب المرجئة. و ادعي - بعد أبيه - الامامة، و احتج بأنه أكبر اخوته الباقين، فاتبعه علي قوله جماعة من أصحاب أبي عبدالله [الصادق] (عليه السلام) ثم

ص: 702


1- 1156. بحارالأنوار: ج 47 ص 245.

رجع أكثرهم بعد ذلك الي القول بامامة أخيه موسي [الكاظم] (عليه السلام)، لما تبينوا ضعف دعواه، و قوة أمر أبي الحسن [الكاظم] و دلالة حقه، و براهين امامته. و أقام [ثبت] نفر يسير منهم علي أمرهم و دانوا بامامة عبدالله بن جعفر، و هم الطائفة الملقبة ب (الفطحية). و انما لزمهم هذا اللقلب لقولهم بامامة عبدالله، و كان أفطح الرجلين...) الي آخره (1) . و قال الكشي: الفطحية: هم القائلون بامامة عبدالله بن جعفر بن محمد (عليه السلام).... و الذين قالوا بامامته عامة مشائخ العصابة و فقهائها، مالوا الي هذه المقالة، فدخلت عليهم الشبهة لما روي عنهم (عليهم السلام) انهم قالوا: «الامامة في الأكبر من ولد الامام اذا مضي». ثم منهم من رجع عن القول بامامته لما امتحنه بمسائل من الحلال و الحرام لم يكن عنده فيها جواب، و لما ظهر منه من الأشياء التي لا ينبغي أن تظهر من الامام. ثم ان عبدالله مات بعد أبيه بسبعين يوما، فرجع الباقون - الا شذاذ منهم - عن القول بامامته الي القول بامامة أبي الحسن موسي [الكاظم] (عليه السلام)، و رجعوا الي الخبر الذي روي أن الامامة لا تكون في الأخوين بعد الحسن و الحسين (عليهماالسلام). و بقي شذاذ منهم علي القول بامامته، و بعد أن مات قالوا بامامة أبي الحسن موسي [الكاظم] (عليه السلام) (2) .

ص: 703


1- 1157. الكافي: ج 1 ص 285 ح 6.
2- 1158. الأرشاد: ص 285.

الامام موسي بن جعفر

اشاره

هو الامام السابع من ائمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين نص عليهم رسول الله (صلي الله عليه و آله)

ولادته

عن أبي بصير قال: حججنا مع أبي عبدالله (عليه السلام) في السنة التي ولد فيها ابنه موسي (عليه السلام)، فلما نزلنا الأبواء (1) وضع لنا الغداء، و كان اذا وضع الطعام لأصحابه أكثر و أطاب، قال: فبينا نحن نأكل اذا أتاه رسول حميدة فقال له: ان حميدة تقول: قد أنكرت نفسي و قد وجدت ما كنت أجد اذا حضرت ولادتي، و قد أمرتني أن لا أستبقك بابنك هذا. فقال أبوعبدالله (عليه السلام) فانطلق مع الرسول، فلما انصرف قال له أصحابه: سرك الله و جعلنا فداك فما أنت صنعت من حميدة؟ قال: سلمها الله، و قد وهب لي غلاما و هو خير من برأ الله في خلقه، و لقد أخبرتني حميدة عنه بأمر ظنت أني لا أعرفه، و لقد كنت أعلم به منها. فقلت: جعلت فداك و ما الذي أخبرتك به حميدة عنه؟ قال: ذكرت أنه سقط من بطنها حين سقط واضعا يديه علي الأرض، رافعا رأسه الي السماء، فأخبرتها أن ذلك أمارة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و أمارة الوصي من بعده.

ص: 704


1- 1159. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 524 ح 472.

فقلت: جعلت فداك و ما هذا من أمارة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و أمارة الوصي من بعده؟ فقال لي: انه لما كانت الليلة التي علق فيها بجدي أتي آت جد أبي بكأس فيه شربة أرق من الماء و ألين من الزبد و أحلي من الشهد و أبرد من الثلج و أبيض من اللبن، فسقاه اياه و أمره بالجماع، فقام فجامع، فعلق بجدي و لما أن كانت الليلة التي علق فيها بأبي أتي آت جدي فسقاه كما سقي جد أبي و أمره بمثل الذي أمره فقام فجامع، فعلق بأبي، و لما أن كانت الليلة التي علق فيها بي أتي آت أبي فسقاه بما سقاهم و أمره بالذي أمرهم به فقام فجامع فعلق بي، و لما أن كانت الليلة التي علق فيها بابني أتاني آت كما أتاهم، ففعل بي كما فعل بهم فقمت بعلم الله و اني مسرور بما يهب الله لي، فجامعت فعلق بابني هذا المولود، فدونكم فهو والله صاحبكم من بعدي. ان نطفة الامام مما أخبرتك، و اذا سكنت النطفة في الرحم أربعة أشهر و انشي ء فيها الروح بعث الله (تبارك و تعالي) ملكا يقال له: حيوان، فكتب علي عضده الأيمن «و تمت كلمت ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم» (1) و اذا وقع من بطن امه وقع واضعا يديه علي الأرض رافعا رأسه الي السماء فأما وضعه يديه علي الأرض فانه يقبض كل علم لله أنزله من السماء الي الأرض و أما رفعه رأسه الي السماء فان مناديا ينادي به من بطنان العرش من قبل رب العزة من الافق الأعلي باسمه و اسم أبيه يقول: يا فلان بن فلان اثبت تثبت، فلعظيم ما خلقتك، أنت صفوتي من خلقي، و موضع سري، و عيبة علمي، و أميني علي وحيي، و خليفتي

ص: 705


1- 1160. الأبواء: جبل بين مكة و المدينة، و عنده بلد ينسب اليه (لسان العرب).

في أرضي، لك و لمن تولاك أوجبت رحمتي، و منحت جناني، و أحللت جواري، ثم و عزتي و جلالي لأصلين من عاداك أشد عذابي، و ان وسعت عليه في دنياي من سعة رزقي. فاذا انقضي الصوت - صوت المنادي - أجابه هو واضعا يديه رافعا رأسه الي السماء يقول: «شهد الله أنه لا اله الا هو و الملائكة و اولو العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم» (1) قال: فاذا قال ذلك أعطاه الله العلم الأول و العلم الآخر و استحق زيارة الروح في ليلة القدر. قلت: جعلت فداك الروح ليس هو جبرئيل؟ قال: الروح هو أعظم من جبرئيل، ان جبرئيل من الملائكة و ان الروح هو خلق أعظم من الملائكة (عليهم السلام)، أليس يقول الله (تبارك و تعالي): «تنزل الملائكة و الروح» (2) (3) . و في رواية اخري عن أبي بصير قال: كنت مع أبي عبدالله (عليه السلام) في السنة التي ولد فيها ابنه موسي (عليه السلام) فلما نزلنا الأبواء وضع لنا أبوعبدالله (عليه السلام) الغداء و لأصحابه و أكثره و أطابه، فبينا نحن نتغدي اذ أتاه رسول حميدة أن الطلق قد ضربني، و قد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا. فقام أبوعبدالله فرحا مسرورا، فلم يلبث أن عاد إلينا، حاسرا عن ذراعيه ضاحكا سنه فقلنا: أضحك الله سنك، و أقر عينك، ما صنعت حميدة؟

ص: 706


1- 1161. سورة الأنعام آية 115.
2- 1162. سورة آل عمران آية 18.
3- 1163. سورة القدر آية 4.

فقال: وهب الله لي غلاما، و هو خير من برأ الله...» الي آخر الخبر المتقدم مع اختلاف يسير (1) . و عن منهال القصاب قال: خرجت من مكة و [أنا] اريد المدينة، فمررت بالأبواء و قد ولد لأبي عبدالله، موسي (عليهماالسلام) فسبقته الي المدينة، و دخل بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثا، فكنت آكل في من يأكل فما آكل شيئا الي الغد حتي أعود فآكل، فمكثت بذلك ثلاثا أطعم حتي أرتفق (2) ثم لا أطعم شيئا الي الغد (3) . و روي عن يعقوب السراج قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و هو واقف علي رأس أبي الحسن موسي و هو في المهد، فجعل يساره طويلا، فجلست حتي فرغ، فقمت اليه فقال لي: ادن من مولاك فسلم [عليه]، فدنوت فسلمت عليه فرد علي [السلام] بلسان فصيح، ثم قال لي: اذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس، فانه اسم يبغضه الله، - و كان ولدت لي ابنه سميتها بالحميراء - فقال أبوعبدالله (عليه السلام): «انته الي أمره ترشد»، فغيرت اسمها (4) .

والدته

عن هشام بن أحمر، قال: أرسل الي أبوعبدالله (عليه السلام) في يوم شديد الحر فقال لي: اذهب الي فلان الافريقي فاعترض جارية عنده

ص: 707


1- 1164. الكافي: ج 1 ص 385 ح 1.
2- 1165. بصائر الدرجات: ص 460 ح 4. منه بحارالأنوار: ج 48 ص 2.
3- 1166. المرتفق: الممتلي ء. ارتفق الاناء: امتلأ (أقرب الموارد).
4- 1167. المحاسن: ج 2 ص 192 ح 1556 الطبعة الحديثة. منه بحارالأنوار: ج 48 ص 4.

من حالها كذا و كذا و من صفتها كذا [و كذا]. و اتيت الرجل فاعترضت ما عنده فلم أر ما وصف لي فرجعت اليه فأخبرته، فقال: عد اليه فانها عنده. فرجعت الي الافريقي، فحلف لي: ما عنده شي ء الا و قد عرضه علي. ثم قال: عندي وصيفة مريضة محلوقة الرأس، ليس مما تعرض. فقلت له: اعرضها علي، فجاء بها متوكئة علي جاريتين تخط برجليها الأرض، فأرانيها فعرفت الصفة. فقلت: بكم هي؟ فقال لي: اذهب بها اليه فيحكم فيها، لأنها والله قد أردتها منذ ملكتها فما قدرت عليها. و لقد أخبرني الذي اشتريتها منه أيضا أنه لم يصل اليها. و حلفت الجارية أنها نظرت الي القمر وقع في حجرها. فأخبرت أباعبدالله (عليه السلام) بمقالته، فأعطاني مائتي دينار، فذهبت بها اليه فقال الرجل: هي حرة لوجه الله ان لم يكن بعث الي بشرائها من المغرب، فأخبرت أباعبدالله (عليه السلام) بمقالته، فقال أبوعبدالله (عليه السلام): يابن أحمر [اما] انها تلد مولودا ليس بينه و بين الله حجاب (1) . هذا... و قد تقدم الكلام حولها مختصرا في فصل زوجات الامام الصادق (عليه السلام).

ص: 708


1- 1168. الكافي: ج 1 ص 310 ح 11.

النص علي امامته

روي عن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): خذ بيدي من النار، من لنا بعدك؟ فدخل عليه أبوابراهيم (عليه السلام) - و هو يومئذ غلام - فقال: هذا صاحبكم، فتمسك به (1) . و عن معاذ بن كثير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: أسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها. فقال: قد فعل الله ذلك. قال: قلت: من هو - جعلت فداك -؟ فأشار الي العبد الصالح (2) و هو راقد فقال: هذا الراقد - و هو غلام - (3) . و عن عبدالرحمن بن الحجاج - في حديث - قال: دخلت علي جعفر ابن محمد في منزله فاذا هو في بيت كذا - في داره، في مسجد له - و هو يدعو و علي يمينه موسي بن جعفر يؤمن علي دعائه. فقلت له: جعلني الله فداك قد عرفت انقطاعي اليك و خدمتي لك، فمن ولي الناس بعدك؟ فقال: ان موسي قد لبس الدرع و ساوي عليه. فقلت له: لا أحتاج بعد هذا الي شي ء (4) .

ص: 709


1- 1169. اعلام الوري: ص 309.
2- 1170. الكافي: ج 1 ص 307 ح 1.
3- 1171. من ألقاب الامام الكاظم (عليه السلام).
4- 1172. الكافي: ج 1 ص 308 ح 2.

و عن المفضل بن عمر قال: ذكر أبوعبدالله (عليه السلام) أباالحسن (عليه السلام) - و هو يومئذ غلام - فقال: هذا المولود الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة علي شيعتنا منه. ثم قال لي: لا تجفوا اسماعيل (1) (2) . أقول: قوله (عليه السلام): «... لم يولد فينا مولود أعظم بركة...» لعله باعتبار كثرة نسله بالنسبة الي غيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد جاء في بعض التواريخ ان أولاده و بناته تجاوزوا الستين، و قد انتشروا في البلاد الاسلامية و كانوا سببا لنشر الاسلام الصحيح المتمثل في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بشكل واسع في أرجاء المعمورة. و الظاهر ان هذا الأمر لا يحدث لغيره (عليه السلام). و لعل هناك بعض البركات التي كانت لوجوده (عليه السلام) و قد خفيت علينا أو أخفاها الظالمون والله العالم. و عن ابراهيم الكرخي قال: دخلت علي أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليهماالسلام) و اني لجالس عنده، اذ دخل أبوالحسن موسي بن جعفر (عليهماالسلام) و هو غلام، فقمت اليه فقبلته و جلست فقال أبوعبدالله (عليه السلام): يا ابراهيم أما انه صاحبك من بعدي، أما ليهلكن فيه أقوام، و يسعد فيه آخرون، فلعن الله قاتله و ضاعف علي روحه العذاب، أما ليخرجن الله من صلبه خير أهل الأرض في زمانه سمي

ص: 710


1- 1173. الكافي: ج 1 ص 308 ح 3.
2- 1174. «لا تجفوا اسماعيل» بالتخفيف من الجفاء نقيض الصلة، اي أنه و ان لم يكن اماما لكنه ابن امامكم، و لابد من اكرامه و احترامه و رعايته... (مرآة العقول).

جده، و وارث علمه، و أحكامه و فضائله [و] معدن الامامة، و رأس الحكمة يقتله جبار بني فلان، بعد عجائب طريفة، حسدا له، و لكن الله (عزوجل) بالغ أمره، و لو كره المشركون، يخرج الله من صلبه تكلمة اثني عشر اماما مهديا، اختصهم الله بكرامته و أحلهم دار قدسه، المنتظر للثاني عشر منهم كالشاهر سيفه بين يدي رسول الله (صلي الله عليه و آله) يذب عنه. قال: فدخل رجل من موالي بني امية فانقطع الكلام، فعدت الي أبي عبدالله (عليه السلام) احدي عشر مرة اريد منه أن يستتم الكلام، فما قدرت علي ذلك، فلما كان قابل السنة الثانية دخلت عليه و هو جالس فقال: يا ابراهيم هو المفرج للكرب عن شيعته، بعد ضنك شديد، و بلاء طويل و جزع و خوف، فطوبي لمن أدرك ذلك الزمان، حسبك يا ابراهيم. قال ابراهيم: فما رجعت بشي ء أسر من هذا لقلبي، و لا أقر لعيني (1) . و روي أن الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) تكلم يوما بين يدي أبيه (عليه السلام) فأحسن، فقال له: يا بني الحمد لله الذي جعلك خلفا من الآباء، و سرورا من الأبناء، و عوضا عن الأصدقاء (2) . أقول: النصوص المروية حول امامة الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) كثيرة، و قد ذكرناها في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام).

فتنة الواقفية

الواقفية: هم الذين وقفوا علي امامة الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) و لم يعتقدوا بالامام الذي بعده، و قد تكونت فكرة الوقف بعد

ص: 711


1- 1175. الكافي: ج 1 ص 309 ح 8.
2- 1176. اكمال الدين: ص 334 ح 5. منه بحارالأنوار: ج 48 ص 15.

استشهاد الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) في السجن و كان وراء تكونها اسباب مادية دنيوية. و قد انقرضت هذه الفرقة و سقطت في مزبلة التاريخ، و الحمد لله تعالي. و كان الامام الصادق (عليه السلام) قد أخبر بعض أصحابه عن هذه الفرقة و أنها سوف تتكون في المستقبل، و تبرأ منها و اكد علي انحرافها و ضلالها. و قد ذكرنا بعض الأحاديث المرتبطة بها في موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) كما تحدثنا عنها - بشي ء من التفصيل - في كتابنا: (الامام الجواد (عليه السلام) من المهد الي اللحد).

اسحاق بن الامام الصادق

قال الشيخ المفيد: كان اسحاق بن جعفر من أهل الفضل و الصلاح و الورع و الاجتهاد، و روي عنه الناس الحديث و الآثار، و كان ابن كاسب - اذا حدث عنه - يقول: حدثني الثقة الرضي: اسحاق بن جعفر. و كان اسحاق يقول بامامة أخيه موسي (عليه السلام) (1) . و روي عن أبيه النص بالامامة علي أخيه موسي (عليه السلام) و كان من شهود وصية موسي بن جعفر لابنه علي بن موسي (عليهماالسلام) (2) . و روي عن أبيه النص بالامامة علي أخيه موسي (عليه السلام) و كان من شهود وصية موسي بن جعفر لابنه علي بن موسي (عليهماالسلام). و عده الشيخ الطوسي من أصحاب الامام الصادق (عليه السلام) و عده البرقي من أصحاب الامام الباقر و الامام الصادق و الامام الكاظم (عليهم السلام).

ص: 712


1- 1177. عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 127 ح 4. منه بحارالأنوار: ج 48 ص 24.
2- 1178. الارشاد: ص 286.

و هو زوج السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الامام الحسن المجتبي (عليه السلام) المدفونة في مدينة القاهرة في مصر. و قد اخبر الامام الرضا (عليه السلام) ان اسحق هذا يموت قبل محمد ابن جعفر الصادق (عليه السلام) كما روي ذلك عن الحسن بن علي الحذاء قال: حدثني يحيي بن محمد بن جعفر قال: مرض أبي مرضا شديدا فأتاه أبوالحسن الرضا (عليه السلام) يعوده و عمي اسحاق جالس يبكي، قد جزع عليه جزعا شديدا. قال يحيي: فالتفت الي أبوالحسن (عليه السلام) فقال: مما يبكي عمك؟ قلت: يخاف عليه ما تري. قال: فالتفت الي أبوالحسن (عليه السلام) قال: لا تغتمن فان اسحاق سيموت قبله. قال يحيي: فبرأ أبي محمد و مات اسحاق (1) .

محمد الديباج بن الامام الصادق

قال الشيخ المفيد: و كان محمد بن جعفر سخيا شجاعا، و كان يصوم يوما و يفطر يوما، و يري رأي الزيدية في الخروج بالسيف. و روي عن زوجته خديجة بنت عبدالله بن الحسين أنها قالت: ما خرج من عندنا محمد يوما قط في ثوب فرجع حتي يكسوه، و كان يذبح كل يوم كبشا لأضيافه. و خرج علي المأمون في سنة تسع و تسعين و مائة بمكة و اتبعته الزيدية

ص: 713


1- 1179. الارشاد: ص 286.

و الجارودية، فخرج لقتاله عيسي الجلودي، ففرق جمعه، و أخذه و انفذه الي المأمون. فلما وصل اليه اكرمه و ادني مجلسه منه و وصله، و أحسن جائزته، فكان مقيما معه بخراسان يركب اليه في موكب من بني عمه و كان المأمون يحتمل منه ما لا يحتمل السلطان من رعيته. و روي ان المأمون أنكر ركوبه اليه في جماعة من الطالبيين الذين خرجوا علي المأمون في سنة مائتين، فآمنهم، فخرج التوقيع اليهم: «لا تركبوا مع محمد بن جعفر، و اركبوا مع عبدالله بن الحسين» فأبوا أن يركبوا، و لزموا منازلهم، فخرج التوقيع: «اركبوا مع من احببتم» فكانوا يركبون مع محمد بن جعفر اذا ركب الي المأمون، و ينصرفون بانصرافه. و ذكر عن موسي بن سلمة انه قال: «اتي الي محمد بن جعفر فقيل له: ان غلمان ذي الرياستين قد ضربوا غلمانك علي حطب اشتروه». فخرج متزرا ببردين، معه هراوة و هو يرتجز و يقول: «الموت خير لك من عيش بذل». و تبعه الناس حتي ضرب غلمان ذي الرياستين، و أخذ الحطب منهم، فرفع الخبر الي المأمون، فبعث الي ذي الرياستين فقال له: ائت محمد بن جعفر، فاعتذر اليه، و حكمه في غلمانك. قال: فخرج ذوالرياستين الي محمد بن جعفر - قال موسي بن سلمة -: فكنت عند محمد بن جعفر جالسا حتي (حين) أتي، فقيل له: هذا ذو الرياستين: فقال: لا يجلس الا علي الأرض. و تناول بساطا كان في البيت فرمي به هو و من معه ناحية و لم يبق في البيت الا وسادة جلس عليها

ص: 714

محمد بن جعفر، فلما دخل عليه ذو الرياستين وسع له محمد علي الوسادة، فأبي أن يجلس عليها، و جلس علي الأرض، فاعتذر اليه و حكمه [جعله حكما] في غلمانه. و توفي محمد بن جعفر بخراسان مع المأمون، فركب المأمون ليشهده، فلقيهم و قد خرجوا به، فلما نظر الي السرير نزل فترجل و مشي حتي دخل بين العمودين [عمودي السرير] فلم يزل بينهما حتي وضع، فتقدم و صلي عليه، ثم حمله حتي بلغ به القبر، ثم دخل قبره فلم يزل فيه حتي بني عليه، ثم خرج فقام علي القبر حتي دفن... (1) . و روي عن اسحاق بن موسي قال: لما خرج عمي محمد بن جعفر بمكة، و دعا الي نفسه، و دعي بأميرالمؤمنين، و بويع له بالخلافة دخل عليه الرضا (عليه السلام) و أنا معه فقال له: يا عم لا تكذب أباك، و لا أخاك، فان هذا أمر لا يتم. ثم خرج و خرجت معه الي المدينة، فلم يلبث الا قليلا حتي أتي الجلودي فلقيه فهزمه، ثم استأمن اليه، فلبس السواد و صعد المنبر فخلع نفسه و قال: ان هذا الأمر للمأمون. و ليس لي فيه حق، ثم اخرج الي خراسان فمات بجرجان (2) . أقول: و لمحمد بن جعفر تاريخ مفصل مذكور في كتاب مقاتل الطالبيين و غيره من كتب التراجم.

ص: 715


1- 1180. عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 206 ح 7.
2- 1181. الأرشاد: ص 286.

العباس بن الامام الصادق

قال الشيخ المفيد: كان فاضلا نبيلا (1) .

علي العريضي بن الامام الصادق

قال الشيخ المفيد: و كان علي بن جعفر (رضي الله عنه) راوية للحديث، سديد الطرق شديد الورع، كثير الفضل، و لزم أخاه موسي (عليه السلام) و روي عنه شيئا كثيرا من الأخبار (2) . و ذكره الشيخ الطوسي في أصحاب الامام الباقر و الامام الصادق و الامام الكاظم و الامام الرضا (عليهم السلام) و قال:... جليل القدر، ثقة، و له كتاب المناسك، و مسائل لأخيه موسي الكاظم ابن جعفر (عليه السلام) سأله عنها. و قال النجاشي: علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، أبوالحسن، سكن العريض - من نواحي المدينة - فنسب اليها، له كتاب في الحلال و الحرام يروي تارة غير مبوب و تارة مبوبا...) الي آخر كلامه. أقول: لقد ذكرنا شيئا من ترجمة علي بن جعفر في كتاب (الامام الجواد (عليه السلام) من المهد الي اللحد) و ذكرنا بعض الأحاديث الدالة علي جلالة قدره، و مخالفته لهواه، و خضوعه للحق. و قد اتفقت كلمات المحدثين و الرجاليين علي مدحه و توثيقه و الاشادة

ص: 716


1- 1182. عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 207 ح 8.
2- 1183. الارشاد: ص 287.

بفضله و جلالة قدره (1) . و الحديث الآتي يكشف عن جانب من ايمان هذا الرجل و تقواه و تواضعه: عن أبي عبدالله الحسن بن موسي بن جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر [الامام الجواد] (عليه السلام) بالمدينة و عنده علي بن جعفر و أعرابي من أهل المدينة جالس، فقال لي الأعرابي: من هذا الفتي؟ - و أشار بيده الي أبي جعفر (عليه السلام) -. قلت: هذا وصي رسول الله (صلي الله عليه و آله). فقال: يا سبحان الله، رسول الله قد مات منذ مأتي سنة و كذا و كذا سنة، و هذا حدث كيف يكون هذا [وصي رسول الله]؟؟!! قلت: هذا وصي علي بن موسي، و علي وصي موسي بن جعفر، و موسي وصي جعفر بن محمد، و جعفر وصي محمد بن علي، و محمد وصي علي بن الحسين، و علي وصي الحسين، و الحسين وصي الحسن، و الحسن وصي علي بن أبي طالب، و علي بن أبي طالب وصي رسول الله (صلوات الله عليهم أجمعين). قال: ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر فقال: يا سيدي يبدأني ليكون حدة الحديد بي قبلك. قال: قلت: يهنئك هذا عم أبيه. قال: فقطع له العرق. ثم أراد أبوجعفر (عليه السلام) النهوض فقام علي بن جعفر (عليهماالسلام)

ص: 717


1- 1184. الارشاد: ص 287.

فسوي له نعليه حتي يلبسهما (1) . و عن علي بن اسباط و غيره، عن علي بن جعفر بن محمد قال: قال لي رجل أحسبه من الواقفة: ما فعل أخوك أبوالحسن؟ قلت: قد مات. قال: و ما يدريك بذلك؟ قلت: اقتسمت أمواله و انكحت نساؤه و نطق الناطق من بعده. قال: و من الناطق من بعده؟ قلت: ابنه علي. قال: فما فعل؟ قلت له: مات. قال: و ما يدريك أنه مات؟ قلت: قسمت أمواله و نكحت نساؤه و نطق الناطق من بعده. قال: و من الناطق من بعده؟ قلت: أبوجعفر ابنه. قال: فقال له: أنت في سنك و قدرك و ابن جعفر بن محمد (2) تقول هذا القول في هذا الغلام؟ قال: قلت: ما أراك الا شيطانا، قال: ثم أخذ بلحيته فرفعها الي السماء، ثم قال: فما حيلتي ان كان الله رآه أهلا لهذا، و لم ير هذه الشيبة لهذا أهلا؟!! (3) .

ص: 718


1- 1185. و ذكره الخزرجي في (خلاصة تذهيب التهذيب): ج 2 ص 244، و ابن حجر في (تهذيب التهذيب): ج 7 ص 258، و الذهبي في (ميزان الاعتدال): ج 3 ص 117.
2- 1186. اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 728 ح 804. منه بحارالأنوار: ج 47 ص 264.
3- 1187. في بحارالأنوار: و أبوك جعفر بن محمد.

كلمة الختام

أيها القارئ الكريم: لقد قضينا معك رحلة ممتعة في رحاب سادس أئمة أهل البيت و محيي سنن جده المصطفي و ناشر علوم جده المرتضي و مربي الرجال الأبطال و معلم الأجيال... البحر الزاخر و البدر الباهر و العلم الناطق... الامام جعفر الصادق (صلوات الله عليه)... و استطعنا - من خلال هذا الكتاب - أن نقدم لك - أيها القارئ الكريم - صورة مصغرة عن هذه الشخصية الالهية العظيمة... و لا نشك أبدا في أن شخصية الامام الصادق (عليه السلام) أعلي و أعلي من أن تعرفها الأقلام و يحوم حولها الكتاب... و كيف لا تكون كذلك و الامام الصادق حجة الله علي خلقه... و خليفة الله و خليفة رسوله...؟!! و أني للانسان الضعيف الناقض أن يبلغ تلك القمة الشاهقة؟!! أني له...؟!! و علي كل حال... فكل الذي أرجوه أن يكون هذا الكتاب خطوة نافعة في مجال التعرف علي الامام الصادق (عليه السلام)... و اذا أردت المزيد من التعرف علي هذه الشخصية الالهية...

ص: 719

فراجع موسوعة الامام الصادق (عليه السلام) التي يقدر أن تبلغ ستين مجلدا ان شاء الله تعالي... و ما هذا الكتاب الا لمحة خاطفة و خلاصة منتخبة مما ورد في تلك الموسوعة عن حياة الامام (عليه السلام). و اسأل الله تعالي أن يتفضل علي بالقبول بفضله و كرمه... و يجعل هذه الصفحات ذخيرتي ليوم الجزاء... انه اكرم الأكرمين و ذو الفضل العظيم. و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و صلي الله علي محمد و آله الطيبين الطاهرين المعصومين.

ص: 720

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.