التفسير و المفسرون في العصر الحديث‌

اشارة

نام كتاب: التفسير و المفسرون في العصر الحديث( عبد القادر)
نويسنده: عبد القادر محمد صالح
موضوع: روشها و گرايشهاي تفسيري
تاريخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربي
تعداد جلد: 1
ناشر: دار المعرفة
مكان چاپ: بيروت
سال چاپ: 1424 / 2003
نوبت چاپ: اوّل‌

تقديم‌

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم شكا بعض الناس في أعقاب معارض الكتب، من كثرة الإقبال علي الكتب الدينية و التراثية، تأليفا و قراءة. و قد يكون الإقبال علي هذا الصنف من الكتب سابقا لغيره من الأصناف، لكنه ليس مسرفا كما تذهب الشكوي، فحجم التأليف و النشر في مجال الدرس القرآني ما يزال قليلا جدا قياسا إلي أمة كبيرة في أعدادها و طاقاتها، و قليلا قياسا إلي «الكتاب المقدس»، الكتاب الأكثر نشرا و درسا في العالم. و مع إقرارنا بالقلة النسبية للدرس القرآني، لا نستطيع إلا أن نسلم بأن هذا الدرس أصبح حركة في العصر الحديث، و لا سيما في القرن العشرين الميلادي.
و قد جهد المؤلف في استقصاء كتب التفسير في القرن الماضي، فدرس تفاسير كثيرة تتعدّد في توجّهاتها، كما تتعدّد في أمصار أصحابها، فكان منها الذائع المشهور، و منها الخافت المغمور، و منها بالطبع ما هو ذائع هنا و خافت هناك، فكان تتبع تلك التفاسير علي تعددها عملا مجهدا يحمد المؤلف عليه. و مع توخي الاستقصاء غاب عن الكتاب مجموعة من التفاسير الحديثة، بعضها لم يقع عليه المؤلف، و ضاقت الطبعة الحاضرة عن بعض آخر، فكل ذلك قابل للاستدراك في جزء ثان أو طبعة لا حقة.
و غاب عن الكتاب أيضا مجموعة أخري من التفاسير كانت جديرة بالعرض و الدرس، و يبدو أن المؤلف آثر تجنبها خشية الخوض في جدال مذهبي قد ينجم عنه ضرر علي وحدة الأمة.
و قد عني المؤلف بترجمات المفسرين، و تبيان مناحيهم و توجهاتهم، و لم يقتصر عمله علي العرض و الوصف، و هذا مهم علي كل حال، و إنما جنح إلي التحليل و المناقشة و النقد و التقييم. و لعله يقدم لنا، في مقبل الأيام، نظرا شموليا إلي التفاسير بوصفها حركة تأليف، فيبين لنا، بعد أن عرفنا خصائص كل تفسير، خصائص الحركة في عمومها، و ما ذا يميزها عن حركة التفسير في العصور الخاليات، و مدي تأثير التحديات المستجدة في طبع التفاسير الحديثة بطوابع عامة لم تكن لتظهر من قبل.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 6
هذا عن الكتاب الذي يقدمه عنوانه الصريح، خلافا لكتب كثيرة أضحي النسب بينها و بين عنواناتها واهيا أو معدوما. أما مؤلفه الذي اكتهل، فقد عرفته في أواخر السبعينات من القرن الخالي زميلا علي مقاعد الدرس في الجامعة، فانعقدت بيني و بينه صداقة لا تبلي. كان الأستاذ عبد القادر محمد صالح شعلة من النشاط، كلما لقيته اطلعت علي كتب جديدة يتأبطها، و كلما دخلت معه في حوار خرجت بشذرات لم تكن عندك من قبل.
كان بيننا جوامع كثيرة، لكن لم يكن بيننا تطابق في الآراء، و لا تماثل في التوجهات، فما كان التباين ليحدث بيننا جفوة أو فتورا، بل علي العكس، كان من شأن ذلك أن يديم الحوار بيننا، بغرض التفكير و التمحيص.
كانت نظرته بعيدة دوما، تتجاوز العرض إلي الجوهر و كان منفتحا إلي أبعد الحدود، متقبلا للآخر و إن وقف علي الطرف النقيض، ليس بسبب تردّد في داخله أو تخلخل في بنيته الفكرية، و لكن لإدراكه العميق بأن أحدا، أي أحد، ليس بوسعه ادعاء امتلاك الحقيقة بعد اختتام الوحي، و أن الحوار البناء هو السبيل الوحيد للوصول إلي الحقيقة.
كانت عندنا طموحات علمية كثيرة، في التأليف و التحقيق المشترك، و مرت السنون، و لم نفرغ لإنجاز شي‌ء منها، فأراد- و قد انتهي من تأليف هذا الكتاب- أن يحمل اسمي مع اسمه، و لو علي سبيل التقديم، علي أمل أن نرفد المكتبة العربية بكتاب مشترك في مقبل الأيام. و إني إذ أفخر بأن أقدم للمكتبة العربية هذا الكتاب المهم، أفخر أكثر بأن أقدم المؤلف زميلا و صديقا و أخا، و إنسانا.
د. محمد صالح الآلوسي كلية الآداب- حلب
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 7

المقدمة

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
المقدمة
الحمد للّه الذي أنزل علي عبده الكتاب، و لم يجعل له عوجا، و الصلاة و السلام علي محمد العبد الرسول المبعوث هدي و رحمة للعالمين، فكان نعم المبلغ للرسالة، و نعم المؤدي للأمانة، إنه بالمؤمنين رءوف رحيم ... و بعد، برهان محمد صلي اللّه عليه و سلّم القرآن، و برهان الأنبياء المرسلين قبله العصا التي تشق البحر، أو إحياء الموتي و إبراء الأكمه و الأبرص.
إننا لو أردنا أن نشهد الآن معجزتي موسي و عيسي عليهم السّلام بأم العين لما استطعنا لأنهما رسولان أرسلا إلي قومهما فقط ..
و هنا يجب الملاحظة: أن معجزة موسي عليه السّلام العصا، و منهجه التوراة، و أنّ معجزة عيسي عليه السّلام إحياء الموتي و إبراء الأكمه و الأبرص، و منهجه الإنجيل ... و السرّ في ذلك أنّ معجزة الرسول و برهانه الدّامغ يكونا مناسبين للبيئة الاجتماعية المرسل إليها ... ففي عهدي موسي و عيسي عليهم السّلام ازدهر علم السحر، و ازدهر علم الطّب، فجاءت عصا موسي لتلتهم ما كاد السحرة، و جاءت معجزة عيسي لتخرس دعواهم التقدم في علم الطب.
و لكن كانت معجزة محمد صلي اللّه عليه و سلّم القرآن و منهجه القرآن أيضا.

المعجزة و المنهج: الكتاب «القرآن»:

الكتاب «القرآن» كان الحجة العقلية، و البرهان الأساس الذي قدّمه محمد صلي اللّه عليه و سلّم وثيقة بيان للبشرية- للعرب في جزيرتهم- و للعالمين من بعدهم.
تحدي القرآن العرب أن يأتوا بمثله فسقطوا في التحدي، و تحداهم بعشر سور من مثله فعجزوا، و تحداهم بالسورة الواحدة الوحيدة من مثله فعجزوا أيضا ... و هذا لعمر الحق ذروة التحدي لا سيما إذا كان موجها لأساطين شعراء العرب و العربية، و لأرباب الكلمة و البلاغة ساعتئذ ... و ما زال التحدي مستمرا حتي يرث اللّه الأرض و من عليها.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 8
و قد يسأل سائل: ما السر في كون الكتاب «القرآن» معجزة لمحمد رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم؟
الحق: أن المعجزة العقلية ثابتة خالدة، في حين أن المعجزة الكونية فقط- كأن ينشق البحر، أو ينفلق القمر، أو يحيي الموتي- مؤقتة، فهي حجة علي من شاهدها أو نقلت له نقلا متواترا أفاد اليقين.
لذا كان القرآن المعجزة دليلا عقليا علي صحة دعوي محمد صلي اللّه عليه و سلّم بالنبوة و الرسالة، بل كان القرآن الناقل بالتواتر معجزتي موسي و عيسي و معجزات الرسل الآخرين، فتوجب علي من آمن برسالة محمد و صدق بكتابه المعجز الإيمان بمعجزات الرسل السابقين التي حفظها لنا القرآن.
و لم يكن القرآن حافظا لأخبار الآخرين من الأقوام، و لا حافظا لمعجزات المرسلين السابقين، إنما كان كتاب هداية و رحمة للعالمين و فيه خير العباد، و نظم حياتهم في الأولي و الآخرة.
لهذا و لغيره كان القرآن محلّ اهتمام عظيم من المسلمين في صدر الدعوة الإسلامية، و ازداد الاهتمام فيما بعد، و كتبت المؤلّفات و الدراسات حوله، فمن هذه الدراسات:
اللغوية بأنواعها البلاغية و الصرفية و النحوية ..
ثمّ كان علم القراءات المترافق مع علوم التفسير ... بل لا أظنّ نفسي مجانيّا الحقيقة، و لا مبتعدا عن جادة الصواب إذا قلت: إن كلّ علوم القرآن نشأت بفترة واحدة يتقدم هذا العلم علي غيره خطوة أو أكثر، إلّا أن البحث في علومه و أسراره كانت محل جهد عظيم، و نظر مستمر من قبل العلماء الذين بذلوا ما بذلوا من جهود قلّ نظيرها ...
و لم تمض فترة غير طويلة حتي وجد المسلمون أنفسهم يمتلكون زادا معرفيا ثقافيا و مرجعية شاملة مؤسسة علي الدرس و التمحيص لا علي الهوي و الانفعال ... كل ذلك كان الفضل فيه للقرآن الذي أثّر في النفوس و العقول: هذّب الأولي و ربّاها فإذا بالعقل ينطلق قويا متحركا مبدعا ليضخّ في المكتبة الوليدة ثراء علميا لا مثيل له، فإذا بهذه المكتبة تصبح الرائدة في العالم في فترة قصيرة جدا.
فكانت التفاسير القرآنية أحد أعمدة هذه المكتبة.
و قد تطوّر التفسير الذي ظهرت بواكيره منذ صدر الإسلام الأول حتّي ظهرت دراسات فذة، و أعمال ناضجة علي يد المفسّر القيرواني في إفريقيا، و علي يد ابن جرير الطبري ثم ما تلاهما من دراسات الزركشي في «برهانه» و السيوطي في «إتقانه» و ما بينهما ظهرت كتب و تفاسير عدة أسهمت قديما، و ما زالت تسهم حديثا في تجلية الفهم، و إيضاح ما يحتاج إلي توضيح من الكتاب الكريم.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 9
و وفق سنن اللّه في الحياة، و ما اقتضته من تطورات ثقافية و اجتماعية و من صعدات، و هبطات، و ارتفاعات و وهدات، فتجمد البحث اللغوي، و تقيدت اللغة في فترة من الفترات بأسر القوالب الجامدة. و بحكم عظمة هذه اللغة الشريفة فإنها سرعان ما نفضت عنها الغبار، فانطلقت حيوية قوية في حياتنا المعاصرة. فظهرت دراسات و تفاسير قرآنية ذات اتجاهات مختلفة لاختلاف الينابيع التي يستقي منها أصحابها. فانبري بعض العلماء المخلصين دارسين للتفاسير السابقة و اللاحقة، منقبين، و ممحصين، و مصنفين لاتجاهات هذه الأعمال العلمية التفسيرية، و قدموا بذلك الفائدة الكبري، و النفع الجم، فجزاهم اللّه خيرا عنّا و عن الكتاب الكريم «القرآن العظيم». أخص من هؤلاء بالذكر «الدكتور محمد حسين الذّهبي» صاحب «التفسير و المفسرون». هذا الكتاب كان بحثا تفصيليا في نشأة التفسير و مذاهبه و تطوراته. و فيه درس التفاسير القديمة و الحديثة التي كان آخرها حسب كتابه «تفسير المراغي» المتوفي عام 1945 م.
و قد أردنا من بحثنا هذا أن يسهم إسهاما متواضعا في خدمة الكتاب الكريم، و اللغة العربية الشريفة، إذ درسنا التفاسير الحديثة بأشهرها، و لا ندعي الإحاطة بها ... فتناولنا عددا كبيرا مهما من التفاسير التي لم تكن قد وردت في دراسة العلامة الذهبي رحمه اللّه، إذ أن كتابه قدّم لنيل شهادة العالمية من درجة أستاذ في علوم القرآن سنة (1946) «1». و هذا لا يعني أن عملنا لم يذكر بعض التفاسير التي وردت في «التفسير و المفسرون» للشيخ الذهبي ... لا بل تطرقنا إلي بعض التفاسير الحديثة، و هذا ليس من باب الاستدراك علي المؤلف، إنما أردنا أن نسلط الضوء علي بعض التفاسير الحديثة لأن بعضها كان يؤثر في الآخر ... ثم إننا أكثرنا بعض الشي‌ء من الاقتباسات من هذه التفاسير كي تزداد صورتها إشراقا في ذهن الباحث القارئ. ثم إن عملنا اقتصر في دراسته علي الدراسات القرآنية و التفاسير الحديثة ..
غير أننا قدمنا لهذه الدراسات بفصول عن تاريخ القرآن و علومه، لتشتمل علي العلاقة بين القرآن و لغة العرب و الأحرف السبعة، و كيفية نزول القرآن، و أسباب نزول القرآن منجما، و الدواعي الباعثة لمعرفة أسباب النزول، ثم تناولنا ظاهرة الوحي بالدراسة منوهين إلي أنواعه، و كيفية نزوله و مناقشة الشبه التي ساقها بعض المستشرقين في هذه المسألة.
ثم تمّ تناول نشأة علوم القرآن و الدراسات القرآنية التي وضّحت الفرق بين مكيّة و مدنيّة ... و بعدئذ فرقنا بين مفهومي التفسير و التأويل، ثم سرنا ملاحقين مراحل تطور علم (1) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (1/ 9).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 10
التفسير في عهود الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و الصحابة و التابعين و العلماء من بعدهم، ثم قادنا البحث إلي أنواع التفاسير الحديثة المنتمية إلي اتجاهات و مدارس عامة اجتماعية، و أدبية، و نحوية و بلاغية و صرفية، و حداثية، و صوفية و علمية، أو تلك التي فسرت القرآن بالقرآن، أو التي اختصت بالأحكام الفقهية كتفسير أحكام القرآن للسايس و الصابوني.
لقد بذلنا جهدا في بحث هذا الموضوع الذي تناول هذه التفاسير، محاولين قدر الإمكان دراستها وفق قواعد و عناصر محددة، كنا نخرج عليها أحيانا لاختلاف هذه التفاسير عن بعضها و إن كان أكثرها خضع لهذه العناصر، فلو أردنا أن نمثل بتفسير ابن عاشور: حياة المؤلف و ثقافته و دراساته العلمية، تفسيره و المسألة الفقهية، تفسير ابن عاشور و مسائل العقيدة و علم الكلام، تفسير ابن عاشور و الحديث الشريف، موقفه من المفسرين السابقين، اللغة في تفسير ابن عاشور، مواقفه من الناسخ و المنسوخ ... و غير ذلك.
و أثبتنا بالأمثلة و الشواهد من التفسير موضوع الدراسة. و إذا رأينا الحاجة إلي مناقشة بعض الآراء ناقشناها حسب المستطاع، و أترك للقارئ الحكم علي بعض المعالجات المتضمنة في هذه الدراسة و خاصة مناقشة الدراسات الحديثة الواردة في هذا المجال.
و استفدنا كثيرا من بعض المقدمات النافعة التي وضعها أصحاب التفاسير لتفاسيرهم، و أخصّ بالذكر منهم محمد الأمين الشنقيطي في «الإيضاح بتفسير القرآن بالقرآن»، و مقدمات ابن عاشور في تفسيره، و مقدمات القاسمي في تفسيره و غيرهم.
و حاولت تخريج الأحاديث و ذكر أرقامها ما استطعت إلي ذلك سبيلا. و حاولت عزو بعض نقول المفسرين إلي مصادرهم التي أخذوا عنها بذكر رقم الصفحة من الكتاب الذي أخذوا عنه، و ذلك توثيقا و دفعا للناشطين من الباحثين و القراء للعودة إلي هذه المظان و المراجع إن أرادوا فلعلهم يجدون جديدا.

و ختاما:

لا أدعي أن البحث أتسم بالكمال و الخلوّ من النقص و العيوب.
إنما أقرّ بالنقص سلفا فهذا من طبع البشر أولا ... و ثانيا لم أستطع قراءة هذه التفاسير قراءة شاملة كي يكون البحث علي نحو من الشمولية و الدقة. و لم تتوفر لدي المراجع الوفيرة السهلة التناول، عدا عن ضيق الوقت و الانشغال في مناح أخري من مناح الحياة.
فمن وجد عيبا أو نقصا، أو شرودا علميا عن الحقيقة و الصواب فليراسل الدار الناشرة مشكورا مأجورا إن شاء اللّه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 11
و لا بد لي في هذه الخاتمة أن أسجل خالص شكري لمن أسهم و ساعد في إصدار هذه الدراسة بالتوجيه بالرأي الشفهي أو المكتوب أو تزويدنا ببعض من مراجعه المتوفرة بمكتبته الخاصة و العامة. أو ساعدني بمراجعة البحث و تدقيقه، و أخصّ منهم الأخ عبد المجيد طعمة الحلبي الذي أسهم إسهاما هاما في إعداد مخطط البحث، و جعله مستقرّا علي هذه الحال، عدا عن إسهامه في تقديمه المراجع و المصادر التي لو لا هذه و تلك لكان البحث واجه صعوبات أكثر مما واجهه.
و إني لأرجو اللّه أن يحشرني في زمرة خدم القرآن الكريم يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون إلّا من أتي اللّه بقلب سليم. و ختاما اللّهم اغفر لي و لوالدي و ارحمهما كما ربياني صغيرا، و أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ و أن أعمل صالحا ترضاه، و سلام علي المرسلين و الحمد للّه رب العالمين.
و كتبه: عبد القادر محمد صالح‌

الباب الأول القرآن الكريم لمحة عامّة عن معني الأحرف السبعة، و ظاهرة الوحي، و علوم القرآن و نشأتها، و التفسير و تطوّره.

الفصل الأول القرآن‌

اشارة

- لفظ القرآن و معناه.
- القرآن و لغة العرب.
- دليل نزول القرآن الكريم علي الأحرف السبعة.
- أقوال العلماء في المقصود بالأحرف السبعة.
- ما كل كلمة في القرآن تقرأ علي سبع لغات.
- ابن حجر يجمع بين القولين.
- رأي ابن قتيبة بالأحرف السبعة.
- رأي أبي الفضل الرازي في الأحرف السبعة.
- كيفية إنزال القرآن الكريم.
- الحكمة من نزول القرآن منجما.
- معرفة أسباب النزول.
- ليس كل الآيات لها سبب نزول.
- السبيل إلي معرفة سبب النزول.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 17
القرآن‌

لفظ القرآن و معناه:

القرآن في اللغة مصدر مرادف للقراءة، ثم نقل من معناه اللغوي إلي معناه الاصطلاحي الدال علي الكلام المعجز المنزل علي النبي صلي اللّه عليه و سلّم، قال تعالي: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) «1».
و قال آخرون: القرآن اسم غير مشتق من شي‌ء و هو اسم خاص بكلام اللّه مثل التوراة و الإنجيل، و هو اسم غير مهموز، و لم يؤخذ من قرأت، و لو أخذ من قرأت لكان كل ما أخذ قرآنا، و روي هذا الرأي عن الشافعي، و قال البيهقي: «كان الشافعي يهمز «قرأت»، و لا يهمز القرآن. و يقول: «هو اسم لكتاب اللّه غير مهموز، قال الواحدي: قول الشافعي يعني أنه اسم لكتاب اللّه، يعني أنه اسم غير مشتق» «2».
و قال آخرون: «أنه مشتق من قرنت الشي‌ء بالشي‌ء إذا ضممته إليه فسمّي بذلك القرآن السور و الآيات و الحروف فيه، و منه قيل للجمع بين الحج و العمرة قران، قال: و إلي هذا المعني ذهب الأشعري» «3».
و قال القرطبي: «القرآن بغير همز مأخوذ من القرائن لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضا و يشابه بعضها بعضا، فهي حينئذ قرائن» «4». (1) سورة القيامة، الآيتان: (17، 18).
(2) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، (1/ 278)، ط، دار الجيل (1988) ت محمد أبو الفضل إبراهيم.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 18
قال الزجّاج: و هذا القول سهو، و الصحيح: أن ترك الهمز فيه من باب التخفيف و نقل حركة الهمزة إلي الساكن قبلها؛ و هذا ما أشار إليه الفارسي «1» في الحلبيات.
و توسّع علماء التفسير في توضيح الأسماء التي سمّي بها القرآن الكريم. قال الفارسي في معني قوله تعالي: «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) «2»: أي جمعه في قلبك حفظا، و علي لسانك تلاوة، و في سمعك فهما و علما «3».
و أما الكلام فمشتق من التأثير، يقال: كلّمه إذا أثّر فيه بالجرح، فسمّي الكلام كلاما، لأنه يؤثر في ذهن السامع فائدة لم تكن عنده «4».
و للقرآن أسماء كثيرة سمي بها و هذه المسمّيات تكشف عن الوظائف و الآثار الحسنة لهذا الكتاب الكريم.
أما «النور» فلأنه يدرك به غوامض الحلال و الحرام ... و أما تسميته «هدي» فلأن فيه دلالة بينة إلي الحق، و تفريقا بينه و بين الباطل، و أما تسميته «ذكرا» فلما فيه من المواعظ و التحذير و أخبار الأمم الماضية، و هو مصدر ذكرت ذكرا ...
و أما تسميته «تبيانا»: فلأنه بيّن فيه أنواع الحق، و كشف أدلته. و أما تسميته «إبلاغا» فلأنه لم يصل إليهم حال أخبار النبي صلي اللّه عليه و سلّم و إبلاغه إليهم إلا به. و أما تسميته «مبينا» فلأنه أبان و فرّق بين الحق و الباطل، و أما تسميته «بَشِيراً وَ نَذِيراً» فلأنه بشر بالجنة و أنذر من النار.
و أما تسميته «عزيزا» أي يعجز و يعز علي من يروم أن يأتي بمثله، فيتعذّر ذلك عليه، لقوله تعالي: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلي أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «5». و القديم لا يكون له مثل، إنما المراد أن يأتوا بمثل هذا الإبلاغ و الإخبار و القراءة بالوضع البديع، و قيل المراد بالعزيز نفي المهانة عن قارئه إذا عمل به «6».
و أما تسميته «فرقانا» فلأنه فرّق بين الحق و الباطل، و المسلم و الكافر، و المؤمن (1) الفارسي: هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، توفي سنة (377 ه) ببغداد، و الحلبيات أحد كتبه التي أسماها الحلبيات، إنباء الرواة: (1/ 273).
(2) سورة القيامة، الآية: (17).
(3) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، (1/ 278).
(4) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، (1/ 279).
(5) سورة الإسراء، الآية: (88).
(6) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، (1/ 279).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 19
و المنافق، و به سمي عمر بن الخطاب الفاروق.
و أما تسميته «مثاني» فلأن فيه بيان قصص الكتب الماضية، فيكون البيان ثانيا للأول الذي تقدّمه فيبين الأول للثاني، و قيل: سمي «مثاني» لتكرار الحكم و القصص و المواعظ ... و أما تسميته «وحيا» و معناه تعريف الشي‌ء خفية، سواء كان بالكلام كالأنبياء و الملائكة، أو بإلهام كالنحل، أو إشارة كالنمل؛ فهو مشتق من الوحي و العجلة، لأن فيه إلهاما بسرعة و خفية، و أما تسميته «حكيما» فلأنّ آياته أحكمت بذكر الحلال و الحرام، فأحكمت عن الإتيان بمثلها، و من حكمته أنّ علامته من علمه و عمل به ارتدع عن الفواحش «1» ... و قد ورد قوله تعالي: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) «2». أي: «نظمت نظما رصيفا محكما لا يقع فيه نقص و لا خلل، كالبناء المحكم المرصف» «3».
«و ألفاظ هذا الكتاب بلغت في الفصاحة و الجزالة إلي حيث لا تقبل المعارضة و هذا أيضا مشعر بالقوة و الإحكام» «4».
و أما تسمية القرآن «مصدقا» فإنه صدق الأنبياء الماضين أو كتبهم قبل أن تغير أو تبدّل، و أما تسميته «مهيمنا» فلأنه الشاهد للكتب المتقدمة بأنها من عند اللّه «5».
و أما تسميته «بلاغا» فلأنه كان في الإعلام و الإبلاغ و أداء الرسالة، و أما تسميته «شفاء» فلأنه من آمن به كان له شفاء من سقم الكفر، و من علمه و عمل به كان له شفاء من سقم الجهل «6».
و أما تسميته «رحمة» فإن من فهمه و عقله كان رحمة له «7».
و أما تسميته «قصصا» فلأن فيه قصص الأمم الماضين و أخبارهم. و أما تسميته «مجيدا» و المجيد الشريف، فمن شرفه أنه حفظ عن التغير و التبديل و الزيادة و النقصان، و جعله اللّه معجزا في نفسه عن أن يؤتي بمثله.
و أما تسميته «تنزيلا» فلأنه مصدر نزّلته؛ لأنه منزّل من عند اللّه علي لسان جبريل، (1) الزركشي، البرهان، (1/ 280).
(2) سورة هود، الآية: (1).
(3) الفخر الرازي، التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط (2)، (1997)، (6/ 312).
(4) الرازي، التفسير الكبير، (6/ 313).
(5) الزركشي، البرهان، (1/ 280).
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 20
لأن اللّه تعالي أسمع جبريل كلامه و فهمه إياه كما شاء من غير وصف و لا كيفية نزل به علي نبيّه فأداه هو كما فهمه و علمه «1».
و أما تسميته «بصائر» فلأنه مشتق من البصر و البصيرة، ... و أما تسميته «ذكري» فلأنه ذكّر المؤمنين ما فطرهم اللّه عليه من التوحيد «2».
و الحق: أن ما نقلناه عن الزركشي يؤكد أنّ هذه صفات للكتاب الكريم و ليست أسماء له، و هذه الصفات تؤكد وظيفة القرآن في الحياة الدنيا فهو هاد و هو مذكر، و هو مبين، و هو محكم ... الخ.
و بعض العلماء أوصل تسميات القرآن الكريم «إلي نيف و تسعين اسما، و يبدو أنهم لم يفرقوا بين الأسماء و الصفات، و اعتبروا كلّ لفظة وردت في إطار الدلالة علي القرآن من أسماء القرآن، و هذا أمر مبالغ فيه، و لو اقتصروا علي الأسماء التي استعملها القرآن و أراد بها تسمية القرآن لكان أولي» «3».

القرآن و لغة العرب:

قال تعالي: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «4». و قال تعالي: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) «5».
قال الشاطبي: «إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية ...
و إن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين، أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب و جاء القرآن وفق ذلك فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها» «6».
و الملخص النافع في ذلك: «أنّ القرآن الكريم نزل بلسان عربي علي الجملة فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة» «7».
و قال تعالي: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ «8». «مما (1) الزركشي، البرهان، (1/ 281).
(2) المصدر نفسه.
(3) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية. ط (1995)، عن وزارة الأوقاف المغربية، ص (25).
(4) سورة يوسف، الآية: (2).
(5) سورة الشعراء، الآية: (195).
(6) الشاطبي، الموافقات، (2/ 64) دار المعرفة، بيروت، ت د. عبد اللّه دراز.
(7) المصدر نفسه.
(8) سورة فصلت، الآية: (44).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 21
يدل علي أنه عربي و بلسان العرب، لا أنّه أعجمي، و لا بلسان العجم، فمن جهة لسان العرب يفهم، و لا سبيل إلي تطلب فهمه من غير هذه الجهة» «1».
و يوضح الشاطبي مسألة ورود بعض ألفاظ العجم في القرآن أو عدم ورود مثل هذه الألفاظ، فيقول: «إذا كانت العرب قد تكلمت به، و جري في خطابها، و فهمت معناه، فإن العرب إذا تكلّمت به صار من كلامها» «2».
و نقل عبد اللّه دراز عن الآمدي: «اختلفوا في اشتمال القرآن علي كلمة غير عربية فأثبته ابن عباس و عكرمة، و نفاه آخرون، و محلّه أسماء الأجناس لا الأعلام» «3».
و هذا الخلاف حول وجود بعض الألفاظ العجمية في القرآن الكريم «لا ينبغي عليه حكم شرعي، و لا يستفاد منه مسألة فقهية، و إنما يمكن أن توضع فيها مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد.
و قد كفي اللّه مئونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية في الأسماء الأعجمية» «4».
و لعل في كلام القاسم بن سلام أبي عبيد: الذي صدّق القولين- أي القائلين بوجود بعض الألفاظ الأعجمية، و الآخر الذي قال بعدم وجود ألفاظ أعجمية-: «و الصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا، و ذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، إلّا أنها سقطت إلي العرب فعرّبتها بألسنتها، و حوّلتها عن ألفاظ العجم إلي ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن، و قد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق و من قال أعجمية فصادق» «5».
و هناك من يقول: إنّ القرآن نزل بلغة قريش و هذا يجب توضيحه: أي أن قريش كانت تصطفي من كلام العرب أوضحه و أفصحه: «و حكي عن أبي الأسود الدؤلي أنه نزل بلسان الكعبين: كعب بن لؤي جد قريش و كعب بن عمرو جد خزاعة.
و قال أبو عبيد في كتابه: «فضائل القرآن» عن ابن عباس رضي اللّه عنه: نزل بلغة الكعبين:
كعب قريش و كعب خزاعة. قيل: و كيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة.
و فضل «الفراء» لغة قريش علي سائر لغات العرب، لأنهم كانوا يسمعون كلام العرب فيختارون من كل لغة أحسنها فصفا كلامهم» «6». (1) الشاطبي، الموافقات، (2/ 64).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، و الاقتباس من كلام عبد اللّه دراز محقق الكتاب.
(4) المصدر نفسه.
(5) عن محمد فاروق النبهان في المقدمة في الدراسات القرآنية، ص (26).
(6) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 22

دليل نزول القرآن الكريم علي الأحرف السبعة:

أدلة نزول القرآن علي حروف سبعة:
عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم قال: «أقرأني جبريل علي حرف فلم أزل أستزيده حتي انتهي إلي سبعة أحرف» «1».
و أخرج البخاري بإسناده: أن المسور بن مخرمة و عبد الرحمن بن عبد القاريّ حدّثاه:
أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ علي حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فكدت أساوره في الصلاة، فتصبّرت حتي سلّم، فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم، فقلت: كذبت، فإن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم قد أقرأنيها علي غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان علي حروف لم تقرئنيها، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «أرسله، اقرأ يا هشام».
فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «كذلك أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر»، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «كذلك أنزلت، إنّ هذا القرآن أنزل علي سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» «2».
و ساق ابن حجر في الفتح حديثا رواه الطبري من طريق إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال: «قرأ رجل فغير عليه عمر، فاختصما عند النبي صلي اللّه عليه و سلّم فقال الرجل: أ لم تقرئني يا رسول اللّه؟ قال: «بلي»، قال: فوقع في صدر عمر شي‌ء عرفه النبي صلي اللّه عليه و سلّم في وجهه، قال: فضرب عمر في صدره، و قال: «أبعد شيطانا»، قالها ثلاثا. ثم قال: «يا عمر، القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة» «3».

أقوال العلماء في المقصود بالأحرف السبعة:

تكاثرت الآراء في «المراد بالأحرف السبعة علي أقوال كثيرة بلغها أبو حاتم بن حبان إلي خمسة و ثلاثين قولا، و قال المنذري: أكثرها غير مختار» «4».
1- قال ابن حجر في شرحه لقوله صلي اللّه عليه و سلّم: «فاقرءوا ما تيسر منه» أي: من المنزل «5». (1) أخرجه البخاري في (الحديث: 3219).
(2) أخرجه البخاري، في (الحديث: 4992).
(3) ابن حجر، الفتح، ط دار السلام، الرياض، (1997)، (9/ 34).
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 23
و قال ابن حجر: «و فيه إشارة إلي الحكمة في التعدد المذكور، و أنه لتيسر علي القارئ، و هذا يقوي قول من قال: المراد بالأحرف تأدية المعني باللفظ المرادف و لو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام بلسان قريش و كذلك عمر، و مع ذلك فقد اختلفت قراءتهما.
نبّه علي ذلك ابن عبد البر، و نقل عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة «1».
2- و ذهب آخرون- منهم أبو عبيد- إلي أن المراد بالأحرف السبعة اختلاف اللغات، و هو اختيار ابن عطية، و تعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، و أجيب أن المراد أفصحها، فجاء عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «نزل القرآن علي سبع لغات: منها خمس بلغة العجز من هوازن، قال: و العجز: سعد بن بكر و جشم بن بكر، و نصر بن معاوية و ثقيف و هؤلاء كلهم من هوازن، و يقال لهم عليا هوازن، و لهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن، و سفلي تميم، يعني بني دارم «2».
«و هناك رواية أخري عن ابن عباس تقول: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش و كعب خزاعة، و قيل: و كيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة. يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم» «3».
3- و قال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش و هذيل و تيم الرباب، و الأزد و ربيعة و هوازن، و سعد بن بكر» «4»» يريد أبو حاتم أن الأحرف السبعة تعبير عن لغة هذه القبائل، ... بيد أن ابن قتيبة أنكر علي أبي حاتم قوله، و احتجّ بقوله تعالي: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «5». فعلي هذا فتكون اللغات السبع في بطون قريش، و بذلك جزم أبو علي الأهوازي.

ما كل كلمة في القرآن تقرأ علي سبع لغات:

قال أبو عبيد: «ليس المراد أن كل كلمة تقرأ علي سبع لغات، بل اللغات السبع مفرقة فيه، فبعضه بلغة قريش، و بعضه بلغة هذيل، و بعضه بلغة هوازن، و بعضه بلغة اليمن و غيرهم. قال: و بعض اللغات أسعد بها من بعض و أكثر نصيبا، و قيل: نزل بلغة مضر (1) ابن حجر، الفتح، (9/ 34)
(2) المصدر نفسه، (9/ 34، 35).
(3) المصدر نفسه (9/ 35).
(4) المصدر نفسه.
(5) سورة إبراهيم، الآية: (4).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 24
خاصة لقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر، و عين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم هذيل و كنانة و قيس و ضبة و تيم الرباب، و أسد بن خزيمة، و قريش، فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات، و نقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولا بلسان قريش و من جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها علي اختلافهم في الألفاظ و الإعراب، و لم يكلّف أحد منهم الانتقال من لغته إلي لغة أخري للمشقة، و لما كان فيهم من الحمية، و لطلب تسهيل فهم المراد، كل ذلك مع اتفاق المعني. و علي هذا يتنزّل اختلافهم في القراءة كما تقدم، و تصويب رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم كلا منهم.
قلت: و تتمة ذلك أن يقال: إنّ الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعي في ذلك السماع من النبي صلي اللّه عليه و سلّم، و يشير إلي ذلك قول كلّ من عمر و هشام رضي اللّه عنهما في حديث الباب «1». و قد قال ابن عبد البر موضحا المقولة التي تقول: ليس المراد بالأحرف السبعة أن كل لفظة منه تقرأ علي سبعة أوجه. قال ابن عبد البر: «هذا مجمع عليه، بل هو غير ممكن، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ علي سبعة أوجه إلا الشي‌ء القليل مثل: «عبد الطاغوت» «2».
و هناك بعض النقول التي تشير أن القرآن نزل بلغة قريش، ثم سهل علي الأمة أن تقرأه بغير لسان قريش «و ذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام، فقد ثبت أنّ ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة وفقا لحديث أبيّ بن كعب الذي أخرجه مسلم، قال أبيّ:
«كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوي قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعا علي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، و دخل آخر فقرأ سوي قراءة صاحبه، فأمرهما رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فقرءا، فحسّن النبي صلي اللّه عليه و سلّم شأنهما قال: فسقط في نفسي من التكذيب، و لا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا و كأنما أنظر إلي اللّه فرقا، فقال لي: «يا أبيّ، أرسل إليّ أن اقرإ القرآن علي حرف، فرددت إليه أن هوّن علي أمتي»، و في رواية له: «إن أمتي لا تطيق ذلك»، و لأبي داود من وجه آخر عن أبيّ: «فقال لي الملك الذي معي: قل علي حرفين، حتي بلغت سبعة أحرف» «3». (1) سقنا الحديث برقم (4992)، و كلام ابن حجر مأخوذ من الفتح، (9/ 35).
(2) ابن حجر، الفتح (9/ 36).
(3) انظر الفتح، (9/ 31)، و أخرجه مسلم في (الحديث: 1901)، و أخرجه أبو داود في (الحديث:
1478) مختصرا.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 25
و أخرج البخاري بإسناده عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم قال: «أقرأني جبريل علي حرف فراجعته فلم أزل أستزيده و يزيدني حتي انتهي إلي سبعة أحرف» «1».
و علي هذا فهذا الفريق وجّه القول: «أنزل علي سبعة أحرف» «2» أي: أنزل موسعا علي القارئ أن يقرأه علي سبعة أوجه، أي يقرأ بأي حرف أراد منها علي البدل من صاحبه كأنه قال: أنزل علي هذا الشرط أو علي هذه التوسعة و ذلك لتسهيل قراءته، إذ لو أخذوا بأن يقرءوه علي حرف واحد لشق عليهم ..» «3».
و نقل ابن حجر عن ابن قتيبة في أول تفسير المشكل» له:
كان من تيسير اللّه أن أمر نبيّه أن يقرأ كلّ قوم بلغتهم: فالهذلي يقرأ: عتي حين يريد: «حتي حين»، و الأسدي يقرأ «تعلمون» بكسر أوله، و التميمي يهمز و القرشي لا يهمز، قال: و لو أراد كلّ فريق أن يزول عن لغته و ما جري عليه لسانه طفلا و ناشئا و كهلا لشق عليه غاية المشقة، فيسّر عليهم بذلك بمنه، و لو كان المراد أن كل كلمة تقرأ علي سبعة أوجه لقال مثلا: أنزل سبعة أحرف، و إنما المراد أن يأتي في الكلمة وجه أو وجهان أو ثلاثة أو أكثر إلي سبعة. و قال ابن عبد البر: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معني الأحرف:
اللغات، لما تقدم من اختلاف هشام و عمر و لغتهما واحدة» «4». و من خلال الحديث الذي سقناه سابقا. إذ أن هشاما و عمر يتحدثان بلغة واحدة و لو أن الأحرف أريد بها اللغة لما جاز لعمر و هشام أن يختلفا.
و يري ابن عبد البر أن المراد بالأحرف السبعة: سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو: أقبل و تعال، و هلم، ثم ساق أحاديث، و لعل حديث الترمذي أنه صلي اللّه عليه و سلّم قال: «يا جبريل إني بعثت إلي أمة أميين، منهم العجوز و الشيخ الكبير، و الغلام و الجارية، و الرجل الذي لم يقرأ كتابا قط» «5» و هناك حديث أخرجه أحمد في المسند عن أبي بكرة: «كلها كاف كقولك هلم و تعال ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب» «6» و هذه الأحاديث قال عنها ابن حجر أنها تقوي قول القائلين: «إن المعنيّ (1) أخرجه البخاري، في (الحديث: 4991) كتاب: فضائل القرآن.
(2) أخرجه البخاري (الحديث: 4992)، و أخرجه الترمذي في (الحديث: 2943)، و ساقه ابن حجر بالفتح، (9/ 32).
(3) ابن حجر، الفتح (9/ 36).
(4) المصدر نفسه.
(5) أخرجه الترمذي في (الحديث: 2944) و انفرد به.
(6) أخرجه أحمد في المسند، و ساقه ابن حجر في الفتح (9/ 32).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 26
بالأحرف اللغات أو القراءات» «1». و رأينا ما نقله ابن حجر عن ابن عبد البر أنه استدل بهذه الأحاديث علي أن المراد بالأحرف السبعة سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو: أقبل و تعال و هلم. قال ابن حجر: ثم ساق (أي القائل ابن عبد البر) الأحاديث الماضية و منها هذين الحديثين اللذين أخرجهما الترمذي في السنن و أحمد في «المسند».

ابن حجر يجمع بين القولين:

قال ابن حجر: «و يمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد تغاير الألفاظ مع اتفاق المعني، مع انحصار ذلك في سبع لغات».
غير أن ابن حجر يري أن (لاختلاف) القولين فائدة هامة «و هي ما نبّه عليه أبو عمر الداني أن الأحرف السبعة ليست متفرقة في القرآن كلها و لا موجودة فيه في ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية واحدة فإنما قرأ ببعض الأحرف السبعة لا بكلّها، و هذا إنما يتأتّي علي القول بأن المراد بالأحرف اللغات، و أما قول من يقول بالقول الآخر فيتأتي ذلك في ختمة واحدة بلا ريب، بل يمكن علي ذلك القول أن تحصل الأوجه السبعة في بعض القرآن» «2».

رأي ابن قتيبة في الأحرف السبعة:

حمل ابن قتيبة الأحرف علي الوجوه التي يقع بها التغاير في سبعة أشياء:
الأول: ما تتغير حركته و لا يزول معناه و لا صورته مثل: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ «3» بنصب الراء و رفعها.
الثاني: ما يتغير بتغير الفعل مثل باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا. و باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا «4» بصيغة الطلب و الفعل الماضي.
الثالث: ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل كَيْفَ نُنْشِزُها «5» بالراء و الزاي.
الرابع: ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ «6». في قراءة علي: «و طلع منضود». (1) ابن حجر، الفتح، (9/ 36).
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة البقرة، الآية: (282).
(4) سورة سبأ، الآية: (19).
(5) سورة البقرة، الآية: (259).
(6) سورة الواقعة، الآية: (29).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 27
الخامس: ما يتغير بالتقديم و التأخير مثل وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ «1».
السادس: ما يتغير بزيادة أو نقصان كما في التفسير عن ابن مسعود و أبي الدرداء:
وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشي (1) وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّي (2) وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثي «2» هذا في النقصان و أما في الزيادة فكما تقدم في تفسير تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «3» في حديث ابن عباس «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، و رهطك منهم المخلصين» «4».
السابع: ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل: «العهن المنفوش».
في قراءة ابن مسعود و سعيد بن جبير «كالصوف المنفوش» «5».
قال ابن حجر: «و هذا وجه حسن» (أي كلام ابن قتيبة) لكن استبعده قاسم بن ثابت في «الدلائل» لكون الرخصة في القراءات إنما وقعت و أكثرهم يومئذ لا يكتب و لا يعرف الرسم، و إنما كانوا يعرفون الحروف بمخارجها» «6».

رأي أبي الفضل الرازي في الأحرف السبعة:

قال أبو الفضل الرازي: «الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف.
الأول: اختلاف الأسماء من إفراد و تثنية و جمع أو تذكير أو تأنيث.
الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض و مضارع و أمر.
الثالث: وجوه الإعراب.
الرابع: النقص و الزيادة.
الخامس: التقديم و التأخير.
السادس: الإبدال.
السابع: اختلاف اللغات كالفتح و الإمالة و الترقيق و التفخيم، و الإدغام و الإظهار، و نحو ذلك» «7». قلت: (أي ابن حجر): و قد أخذ أي: (الرازي) كلام ابن قتيبة و نقحه. (1) سورة ق، الآية: (19).
(2) سورة الليل، الآيات: (1- 3).
(3) سورة المسد، الآية: (1).
(4) ابن حجر، الفتح، (9/ 37).
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 28

آراء أخري:

إن السبعة الأحرف سبعة أصناف من الكلام، و احتجوا بحديث ابن مسعود عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم. قال: «كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد علي حرف واحد، و نزل القرآن من سبعة أبواب علي سبعة أحرف: زاجر و آمر و حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال، فأحلوا حلاله و حرموا حرامه، و افعلوا ما أمرتم به و انتهوا عما نهيتم عنه و اعتبروا بأمثاله و اعملوا بمحكمه، و آمنوا بمتشابهه و قولوا آمنا كل من عند ربنا» قال ابن حجر: «و إن هذا الحديث أخرجه أبو عبيد و غيره، قال ابن عبد البر: «هذا حديث لا يثبت» لأنه من رواية أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن ابن مسعود و لم يلق ابن مسعود، و قد ردّ قوم من أهل النظر منهم أبو جعفر أحمد بن أبي عمران. قلت: و أطنب الطبري في مقدمة تفسيره في الرد علي من قال به، و حاصله أنه يستحيل أن يجتمع في الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة» «1». إلا أن ابن حبان صحح حديث «نزل القرآن من سبعة أبواب علي سبعة أحرف ...». قال ابن حجر:
«في تصحيح ابن حبان نظر لانقطاعه بين أبي سلمة و ابن مسعود.
«و قد أخرج الحديث البيهقي من وجه آخر عن الزهري عن أبي سلمة مرسلا، و قال هذا مرسل جيد «2»، لكن البيهقي وجه دلالة الحديث باتجاه آخر عند ما قال: «إن صح (أي الحديث) فمعني قوله في هذا الحديث سبعة أحرف أي: سبعة أوجه كما فسرت في الحديث» «3».

رأي الإمام الطبري في الأحرف السبعة:

لا علاقة بين القراءات السبع و الأحرف السبعة، إنما اقتصار الصحابة علي هذه القراءات جاء علي سبيل التيسير و الترخيص، قال الطبري: «و صار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر ممّا خيّر فيه علي خصلة واحدة، لأن أمرهم بالقراءة علي الأوجه المذكورة لم يكن علي سبيل الإيجاب بل علي سبيل الرخصة. قلت: (أي ابن حجر):
و يدل عليه قول صلي اللّه عليه و سلّم في حديث الباب «فاقرءوا ما تيسر منه» و قد قرر الطبري ذلك تقريرا أطنب فيه و وهّي من قال بخلافه، و وافقه علي ذلك جماعة منهم أبو العباس بن عمار في «شرح الهداية» و قال: أصح ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلّها، و ضابطه ما رافق رسم المصحف فأما ما خالفه مثل «إن تبتغوا (1) ابن حجر، الفتح، (9/ 37).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، (9/ 39).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 29
فضلا من ربكم في مواسم الحج» و مثل «إذا جاء فتح اللّه و النصر» فهو من تلك القراءات التي تركت- إن صحّ سندها- في إثبات كونها قرآنا، و لا سيما و الكثير مما يحتمل أن يكون من التأويل الذي قرن إلي التنزيل فصار يظنّ منه «1».

الخلاصة في مسألة القراءات السبع و الأحرف السبعة:

علي الراجح الغالب أن القراءات السبع غير الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، و كلمة القراءات السبع هي التي أوجدت ذلك اللبس في المصطلحات و القراءات ليس منحصرة بسبع قراءات فهناك أكثر من ذلك «2».
و قال أبو شامة: «ظن قوم أنّ القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث و هو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة» «3».
«غير أن ابن مجاهد «4» شيخ قراء عصره في بغداد ... حاول أن يضبط القراءات الكثيرة التي انتشرت في البلاد الإسلامية، و كان بعضها ليس موثّقا فحاول أن يجمع القراءات و أن يستخرج منها ما كان ثابتا عن طريق الرواية المتواترة بنقل الثقات من القرّاء، فاعتمد سبع قراءات و وثّقها، و ثبت لديه أن قرّاءها عرفوا بالثقة و الضبط و الأمانة؛ و عرفت هذه القراءات بالقراءات السبع. و تحديد القراءات بسبع قراءات جاءت علي غير قصد، و من دون إرادة، و كان يمكن أن يكون أكثر من ذلك أو أقل، و أدي هذا العدد إلي التباس كبير لدي كثير من الناس بين الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، و القراءات السبع التي اعتمدها ابن مجاهد في القرن الثالث و اختارها من القراءات الكثيرة التي شاعت في عصره» «5».

مكي بن أبي طالب القيسي يجزم أن الأحرف السبعة غير القراءات السبع:

قال مكي بن أبي طالب: «هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم، و صحّت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ...» ثم قال: «و أما من ظن أن قراءة (1) ابن حجر، الفتح، (9/ 39).
(2) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (265).
(3) ابن حجر، الفتح (9/ 39).
(4) ابن مجاهد: أحمد بن موسي بن العباس أبو بكر البغدادي، عرف بابن مجاهد المقرئ، ولد سنة (245 ه) و توفي في (323 ه) من تصانيفه: الحجة في القراءات السبعة، القراءة الصغيرة، القراءة الكبيرة و كتاب الشواذ في القراء ... الخ».
(إسماعيل باشا البغدادي، هدية العارفين و أسماء المؤلفين و آثار المصنفين، ص (59) و عدّ هذا من مكملات كشف الظنون. و أعطي رقم الجزء الخامس).
(5) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (265).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 30
هؤلاء القرّاء كنافع و عاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث «نزل القرآن علي سبعة أحرف». قد غلط غلطا عظيما ...» قال: «و يلزم من هذا أنّ من خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهم و وافق خط المصحف أن لا يكون قرآنا، و هذا غلط عظيم، فإن الذين صنّفوا القراءات من الأئمة المتقدمين، كأبي عبيد القاسم بن سلام، و أبي حاتم السجستاني، و أبي جعفر الطبري و إسماعيل بن إسحاق و القاضي قد ذكروا أضعاف هؤلاء ... و كان الناس علي رأس المائتين بالبصرة علي قراءة أبي عمرو و يعقوب، و بالكوفة علي قراءة حمزة و عاصم، و بالشام علي قراءة ابن عامر، و بمكة علي قراءة ابن كثير، و بالمدينة علي قراءة نافع، و استمروا علي ذلك.
فلما كان علي رأس الثلاث مائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي و حذف يعقوب قال:
و السبب في الاقتصار علي السبعة مع أن في أئمة القرّاء فيهم من هو أجلّ منهم قدرا، و مثلهم أكثر من عددهم أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف- علي ما يسهل حفظه، و تنضبط القراءة به، فنظروا إلي من اشتهر بالثقة و الأمانة و طول العمر في ملازمة القراءة، و الاتفاق علي الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إماما واحدا» «1».
و قال أبو طالب القيسي: «و إذا كان المصحف قد كتب علي لغة قريش علي حرف واحد ليزول الاختلاف بين المسلمين في القرآن، و لم ينقّط و لم يشكّل فاحتمل التأويل لذلك.
و إذا كان المصحف بلا خلاف كتب علي حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن و علي لغة واحدة- أي لهجة واحدة- و القراءة التي يقرأ بها، و لا يخرج شي‌ء منها عن خط المصحف، فليست هي إذا السبعة الأحرف التي نزل بها القرآن كلها، و لو كانت هي السبعة كلها، و هي موافقة للمصحف، لكان المصحف قد كتب علي سبع قراءات، و لكان عثمان قد أبقي علي الاختلاف الذي كرهه. و إنما جمع الناس علي المصحف ليزول الاختلاف، فصحّ من ذلك أن الذي يقرأ به الأئمة، و كل ما صحت روايته مما يوافق خط المصحف، إنما هو كلّه حرف من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، و وافق لفظها علي اختلافه خط المصحف، و جازت القراءة بذلك إذ هو غير خارج عن خط المصاحف التي وجه بها عثمان إلي الأمصار، و جمعهم علي ذلك و سقط العمل بما يخالف خط المصحف من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن بالإجماع علي خط المصحف» «2». (1) ابن حجر، الفتح، (9/ 40). و انظر الإتقان للسيوطي، (1/ 224).
(2) مكي بن طالب القيسي، ص (31، 32) مع تصرف قليل غير مخل بالمعني الذي أراده المؤلف.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 31
«و صفوة القول: إن الخلاف قائم بين العلماء في تفسير المقصود بالأحرف السبعة، و الأقوال و الآراء التي سقناها كلها محتملة و ممكنة. «و يبدو أن المتأخرين حاولوا تقريب الأمر و رجحوا أن يكون المراد بتعدد الأحرف تيسير الأداء القرآني و تيسير التلاوة علي العرب بحيث تتمكن القبائل العربية المختلفة من القراءة باللغة التي تستطيع النطق بها، من حيث التفخيم و الإمالة و الإظهار و الإدغام، و المهم في ذلك كلّه التيسير علي الأمة بحيث لا يكلّف المسلم بما لا يطيق بشرط ألا يؤدي ذلك إلي تغيير في المعاني، فالأداء اللفظي تحكمه استعدادات موروثة أو قابليات فطرية، و لا يؤثر ذلك في سلامة النّص القرآني، و لا في المعاني المستنبطة منه، و يؤكد هذا المعني ما رواه الترمذي عن أبي بن كعب أنه لقي الرسول صلي اللّه عليه و سلّم جبريل فقال:
«يا جبريل إني بعثت إلي أمة أميين، منهم العجوز و الشيخ الكبير و الغلام و الجارية و الرجل الذي لم يقرأ كتابا قط» فقال يا محمد: إن القرآن أنزل علي سبعة أحرف» «1».

كيفية إنزال القرآن الكريم:

قال تعالي: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2». و قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) «3».
أما كيفية نزول القرآن الكريم، فالأقوال فيه ثلاثة:
أحدها: أنه نزل إلي السماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجما في عشرين سنة أو في ثلاث و عشرين، أو خمس و عشرين علي حسب الاختلاف في مدة إقامته بمكة بعد النبوة.
و القول الثاني: أنه نزل إلي سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، و قيل في ثلاث و عشرين ليلة قدر من ثلاث و عشرين سنة، و قيل: في خمس و عشرين ليلة قدر من خمس و عشرين سنة، في كل ليلة ما يقدّر اللّه سبحانه إنزاله في كل السّنة ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السّنة علي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم.
و القول الثالث: أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات.
و القول الأول أشهر و أصح و إليه ذهب الأكثرون، و يؤيده ما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلي سماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد (1) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (29، 30).
(2) سورة البقرة، الآية: (185).
(3) سورة القدر، الآية: (1).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 32
ذلك في عشرين سنة، قال الحاكم صحيح علي شرط الشيخين» «1».

الحكمة من نزول القرآن منجما:

قد يتساءل الناس، و حقا وقع السؤال من المشركين ساعة نزول القرآن علي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فقالوا: و هلّا نزل جملة كسائر الكتب؟
فقال اللّه تعالي ردا علي سؤالهم: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً يعنون كما أنزل علي من قبله من الرسل، فأجابهم اللّه بقوله: كَذلِكَ أي أنزلناه مفرّقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «2» أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوي للقلب و أشد عناية بالمرسل إليه؛ و يستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه و تجديد العهد به و بما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب العزيز، فحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة؛ و لهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبريل عليه السّلام» «3».
و الحق أنّ اللّه تعالي قادر علي تنزيل القرآن جملة واحدة، و قادر علي تثبيت النبي صلي اللّه عليه و سلّم علي هذه الحال و كل حال. «لكن ليس كل ممكن لازم الوقوع» «4» هذا عدا عن القول أنّ نزول القرآن منجما كان لمواكبة الدعوة الإسلامية و التحديات التي تواجهها، و الأسئلة و الإشكالات التي كان يواجهها النبي صلي اللّه عليه و سلّم، إذ كان القرآن ينزل مسدّدا، و موضحا، و موجها و مثبتا؛ و الآيات الكريمة أوضحت المقاصد من نزوله مفرّقا، قال تعالي: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلي قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) «5»، و قال أيضا: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُديً وَ بُشْري لِلْمُسْلِمِينَ (102) «6».
كذلك فإن «في آيات القرآن أجوبة عن أسئلة؛ فهو سبب من أسباب تفرق النزول، و لأن بعضه منسوخ و بعضه ناسخ، و لا يتأتي ذلك إلّا فيما أنزل مفرّقا، و قال ابن فورك «7»:
«قيل أنزلت التوراة جملة لأنها نزلت علي نبي يقرأ و يكتب- هو موسي- و أنزل القرآن مفرّقا لأنه أنزل علي نبي أمي، و قيل مما ينزل لأجله جملة واحدة أن منه الناسخ و المنسوخ (1) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، (1/ 228).
(2) سورة الفرقان، الآية: (32).
(3) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، (1/ 231).
(4) المصدر نفسه.
(5) سورة الشعراء، الآيات: (192- 195).
(6) سورة النحل، الآية: (102).
(7) ابن فورك: أبو بكر بن محمد بن الحسن بن فورك الأديب المتكلم، الأصولي. ت (406 ه) انظر أنباء الرواة (3/ 110).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 33
و منه ما هو جواب لمن يسأل عن أمور و منه ما هو إنكار لما كان» «1».
وفقا لما سبق يمكن تلخيص أسباب نزول القرآن مفرّقا علي النحو التالي:
1- تثبيت فؤاد النبي صلي اللّه عليه و سلّم.
2- تيسير الحفظ و الفهم.
3- مواكبة الحوادث و التدرج في التشريع.

معرفة أسباب النزول:

لقد ارتبط علم التفسير بعلم أسباب النزول إلي درجة كبيرة، و ألّفت كتب كثيرة، و دراسات عديدة في موضوع أسباب النزول، و من أبرزها ما كتبه علي بن المديني شيخ البخاري، و ما كتبه الواحدي، و ابن حجر العسقلاني، و ما ألفه السيوطي في الموضوع «لباب النقول في أسباب النزول» و علم أسباب النزول يبحث «عن أسباب نزول آية سورة، و وقتها و مكانها و غير ذلك فهو فرع من فروع التفسير» «2».
و أما الفوائد التي يحصلها المفسر من معرفته أسباب النزول يمكن حصرها بما يلي:
أولا: «معرفة وجه الحكمة الباعثة علي تشريع الحكم و لا سبيل إلي ذلك علي وجه الدقة إلا عن طريق معرفة السبب الذي أدّي إلي نزول الحكم.
ثانيا: «تخصيص الحكم عند من يري أن العبرة بخصوص السبب» «3». و أن اللفظ «قد يكون عاما و يقوم الدليل علي تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص علي ما عداه» «4».
ثالثا: و من فوائده فهم معاني القرآن و استنباط الأحكام» «5». إذ أن الوقوف علي السبب يعين علي نحو جليّ واضح علي فهم المراد من النص، قال الواحدي:
«لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف علي قصتها و بيان نزولها، و قالوا: «العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب» «6».
فمن هذا يظهر أهمية علم أسباب النزول للمفسر لأنه لا يمكن للمفسر أن يفسر علي نحو صحيح أو أن يستنبط حكما صحيحا، أو يكتشف الحكمة من تشريع الحكم دون أن (1) الزركشي، البرهان، (1/ 231).
(2) خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير و قواعده، بيروت، دار النفائس، ط (3)، (1994)، ص (99).
(3) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (34).
(4) خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير و قواعده، ص (99).
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 34
يتضح له سبب نزول الآية، و معرفة الأسباب المساعدة علي ربط النص بالواقع.
«و لو أخذنا مطلق المعاني الواردة من بعض الآيات لتغيرت بعض الأحكام، و لكن معرفة السبب الذي أدّي إلي نزول الآية يوجّه الآية لكي تكون كجواب عن سؤال، و إذا عرف السؤال كان الجواب واضحا و خاصا بالسؤال و لا يتعداه إلي غيره» «1» و إذا أردنا أن نستدل بمثال يوضح أهمية معرفة أسباب النزول في فهم النص و إزالة الإشكال لظهر لنا علي نحو بيّن فهما صحيحا دون علم بأسباب ورود النص، قال تعالي: وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «2».
«ففي هذه الآية لو ترك مدلول اللفظ علي إطلاقه لأفاد بجواز الصلاة إلي أية جهة كانت في السفر و الحضر، و هو أمر مخالف لما وقع الإجماع عليه، و يتضح المعني المراد إذا عرف أن هذه الآية نزلت عند ما صلي النبي صلي اللّه عليه و سلّم علي راحلته من مكة إلي المدينة» «3».
«ثم ليس للمفسر من غني عن معرفة أسباب النزول الذي هو فرع من فروع علم التفسير و الذي فيه بيان مجمل، و إيضاح خفيّ، و موجز. و منه ما يكون وحده تفسيرا ففي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير أنه قال: «قلت لعائشة أمّ المؤمنين و أنا يومئذ حديث السن: أ رأيت قول اللّه تعالي: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «4». فما علي الرجل شي‌ء، أ لا يطوف بهما؟ قالت: إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، و كان يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا و المروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم عن ذلك فأنزل اللّه تعالي: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الآية «5».
و يمكن أن نلخص أسباب النزول التي صحت أسانيدها في خمسة أقسام:
الأول: «قسم هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منه علي علمه؛ فلا بد للمفسر من البحث عنه، و هذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالي: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها «6». و منه ما اقتضاه حال خاص نحو: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا (1) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (35).
(2) سورة البقرة، الآية: (115).
(3) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (35).
(4) سورة البقرة، الآية: (158).
(5) خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير و قواعده، ص (66) و الحديث بمعناه أخرجه البخاري في (الحديث: 4495) و (الحديث: 4861)، و أخرجه مسلم (الحديث: 3070)، و أخرجه الترمذي (الحديث: 2965)، و أخرجه النسائي (الحديث: 2967).
(6) سورة المجادلة، الآية: (1).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 35
راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) «1».
الثاني: «قسم هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام، و صور تلك الحوادث لا تبيّن مجملا، و لا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم، أو تقييد، و لكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها، مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت فيه آية اللعان، و مثل حديث كعب بن عجرة التي نزلت فيه آية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذيً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ ... «2» الآية. فقد قال كعب: هي لي خاصة و لكم عامة «3»، و هذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة في فهم معني الآية و تمثيلها لحكمها، و لا يخشي توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة، إذ قد اتفق العلماء، أو كادوا. علي أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص، و اتفقوا علي أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا «4».
الثالث: قسم هو حوادث تكثر أمثالها و لا تختص بشخص واحد، فتنزل الآية لإعلانها، و بيان أحكامها، فكثيرا ما تجد المفسرين و غيرهم يقولون نزلت في كذا و كذا و هم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة، فكأنهم يريدون التمثيل، ففي كتاب التفسير من صحيح البخاري أن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «من حلف علي يمين صبر «5» يقتطع بها مال امرئ لقي اللّه و هو عليه غضبان» فأنزل اللّه تصديق ذلك «6».
و مثله قول اللّه تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا «7» دخل الأشعث ابن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ قالوا: كذا و كذا، قال: فيّ أنزلت، كانت لي بئر في أرض ابن عم لي ... إلخ. فابن مسعود جعل الآية عامة! لأنها جعلها تصديقا للحديث العام، و الأشعث بن قيس ظنها خاصة به، إذ قال فيّ أنزلت، بصيغة الحصر. و هذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص و بعض المفسرين، مع أن القاعدة عند الأصوليين في ذلك أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم لا فائدة في ذكره علي أن ذكره قد يوهم (1) سورة البقرة، الآية: (104).
(2) سورة البقرة، الآية: (196).
(3) الحديث بطوله أخرجه البخاري (الحديث: 4517).
(4) خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير و قواعده، ص (100).
(5) صبر: هنا الصبر الحبس أي من حلف يمينا كاذبة يحبس عليها. و انظر خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير و قواعده، ص (100).
(6) أخرجه البخاري (الحديث: 4549).
(7) سورة آل عمران، الآية: (77).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 36
القاصرين قصد الآية علي تلك الحادثة، لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات «1».
الخامس: قسم يبين مجملات و يدفع متشابهات، مثل قوله تعالي: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «2». فإذا ظن أحد أن «من» هنا لشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصاري، علم أن «من» موصولة و علم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد صلي اللّه عليه و سلّم، و كذلك حديث عبد اللّه بن مسعود، قال: لما نزل قوله تعالي: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «3» شقّ ذلك علي أصحاب رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم و قالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟
ظنوا أن الظلم هو المعصية، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: إنه ليس بذلك أ لا تسمع قول لقمان لابنه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «4».

ما كل الآيات لها سبب نزول:

عند ما نقول بضرورة معرفة المفسر لأسباب النزول، فهذا لا يعني البتة أنّ لكل آية في الكتاب الكريم أسباب نزول، و لا بد لكل آية من حادثة نزلت عليها أو بسببها، أو أنها نزلت جوابا علي سؤال ... لأن القرآن كتاب بيان و هداية فقد يتنزل لسبب واقع فيكشف عن ملابساته و يبين أحكامه. بيد أن هناك آيات تنزلت مقررة لأحكام جديدة أو موضحة لقضايا «و ليست مرتبطة بأي سبب و غايتها تشريع أحكام، و بيان معالم العقيدة الإسلامية، و إقرار مبادئ الإسلام، و مثل هذه الآيات لا تحتاج إلي بيان سبب للنزول و هي كثيرة، و لم يتعرض لها علماء التفسير إلّا في إطار تفسير معانيها المستفادة كما تفهم من الدلالة القرآنية» «5».

السبيل إلي معرفة سبب النزول:

«و يعرف سبب النزول عن طريق النقل الصحيح و لا مجال للاجتهاد في هذا الموطن، و الصحابة هم المؤهلون لمعرفة أسباب النزول، فإذا ورد سبب النزول عن صحابي فيعتد به لأنه لا يعقل أن يجتهد الصحابي فيه أو يورده من غير سماع أو مشاهدة» «6». (1) خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير و قواعده، ص (101).
(2) سورة المائدة، الآية: (144).
(3) سورة الأنعام، الآية: (82).
(4) سورة لقمان، الآية: (13). و انظر خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير و قواعده، ص (101، 102) و الحديث أخرجه البخاري في (الحديث: 4776).
(5) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (36).
(6) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 37
و من باب تقريب موضوع ضرورة معرفة أسباب النزول فإنا نقول:
إن دراساتنا عن الشعر أو قصيدة من الشعر لا يستقيم تمام الاستقامة إلّا إذا عرفنا جو القصيدة و الظروف التي نظمها الشاعر خلالها، فإنّ هذا يظهر لنا أنّ معرفة قصة الآية القرآنية و الأسباب الموحية أو الداعية لنزولها تعين عونا كبيرا علي فهم النص فهما دقيقا، و تسدد بحثه، و تهديه إلي فهم المقصود و إدراكه تماما.
«و نحن من القرآن أيضا إزاء شي‌ء فوق اللغة و قواعدها و آدابها، فإن خلال التعبير في القرآن و إيحاءات المفردات في آياته، و ألوان التصوير في قصصه و لوحاته لترتبط أوثق الارتباط بالوقائع الحية و الأحداث النواطق، و المشاهد الشواخص، كان أبطالها ما انفكوا علي مسرح الحياة يغدون و يروحون فأني للشروح اللغوية الجامدة، و الاصطلاحات البلاغية الجافة أن تستطلع في الوقائع يقين أخبارها، أو تستبطن من الأحداث خفيّ أسرارها، و هي أعيا من أن ترجع في الآذان أصداءها الحلوة العذاب.
و نحن من القرآن آخر الأمر- أمام شي‌ء فوق التاريخ نفسه، فإن وقفنا علي سبب النزول التاريخي لم نكن قد تقصينا كلّ شي‌ء ... و كأي في التاريخ من فجوات ينبغي أن تملأ، و ثغرات ينبغي أن تسد! أمام أسباب النزول- من وجهة النظر الدينية فليس لنا فيها إلّا أن نستوحي الواقع لا صورته، و الإنسان لا شبيهه، و الحق لا صداه، فهل من عجب إذ حرّم العلماء المحققون الإقدام علي تفسير كتاب اللّه لمن جهل أسباب النزول» «1»- و أظن الواحدي «2» غير مبالغ حين قال: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف علي قصتها و بيان نزولها».
و يؤكد الشاطبي في الموافقات في أصول الشريعة في إيضاح المزايا المحصّلة عن معرفة أسباب النزول فيقول:
معرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن. و الدليل علي ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني و البيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا علي معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره علي معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس المخاطب، أو المخاطب أو المخاطب، أو الجميع إذا الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، و بحسب مخاطبين، و بحسب غير ذلك كالاستفهام: لفظه واحد و يدخله أخري من تقرير و توبيخ و غير ذلك، و كالأمر يدخله معني الإباحة و التهديد و التعجيز (1) انظر د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ط، (1982)، ص (129، 130).
(2) الواحدي: علي بن أحمد، و يكني أبا الحسين نحوي، مفسر ت (427 ه). إنباء الرواة (1/ 19).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 38
و أشباهها.
و لا يدل علي معناها المراد إلا الأمور الخارجة و عمدتها مقتضيات الأصول، و ليس كل حال ينقل، و لا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، و إذا فات بعض القرائن الدالة، فات منهم الكلام جملة، أو فهم الشي‌ء منه، و معرفة الأسباب رافعة لكلّ مشكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، و معني معرفة السبب: هو معرفة مقتضي الحال» «1».
و صفوة القول في هذا:
«إن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه، و الإشكالات و مورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتي يقع الخلاف، و ذلك مظنة وقوع النزاع، و يوضح هذا المعني ما روي أبو عبيد بن إبراهيم التيمي قال: خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة و نبيّها واحد و قبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنّا أنزل علينا القرآن فقرأناه، و علمنا فيم نزل، و إنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن و لا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا، قال: فزجره عمر، و انتهره فانصرف ابن عباس، و نظر عمر فيما قال فعرفه»، فأرسل إليه، فقال: أعد عليّ ما قلت فأعاد عليه، فعرف عمر قوله فأعجبه و ما قاله صحيح في الاعتبار، و يتبين فيما هو أقرب، فقد روي ابن وهب عن بكير أن سأله نافع: كيف كان رأي ابن عمر في «الحرورية» «2»؟ قال: يراهم شرار خلق اللّه إنهم انطلقوا إلي آيات نزلت في الكفار فجعلوها علي المؤمنين» فهذا معني الرأي الذي نبّه إليه ابن عباس و هو الناشئ عن الجهل بالمعني الذي نزل فيه القرآن» «3». (1) الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص (347).
(2) الحرورية: هم الخوارج التي حوّلت النصوص عن مقاصدها، و تكفّر من خالفها، و سميت بهذا الاسم لأنها أول نزولها كان بمكان يسمّي «حروراء». انظر مقالات الإسلاميين و اختلاف المصدرين للأشعري، ص (128).
(3) الشاطبي، الموافقات، ج 3، ص (347- 348).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 39

الفصل الثاني الوحي و القرآن‌

اشارة

- ظاهرة الوحي:
- معاني الوحي:
1- الإلهام الغريزي.
2- الإلهام الإرادي.
3- معني الإشارة.
4- الوسوسة.
- كيفية نزول الوحي.
الصورة الأولي: الوحي المباشر.
الصورة الثانية: الكلام من وراء حجاب.
الصورة الثالثة: الوحي عن طريق رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم.
- كيفية نزول الوحي عند السيوطي في الإتقان.
1- مناقشة فكرة الوحي.
2- موقف العلم من مسألة الوحي.
3- الأدلة العقلية علي ثبوت ظاهرة الوحي.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 41
الوحي و القرآن‌

ظاهرة الوحي:

تتراوح كلمة «الوحي» بمعانيها اللغوية بين الإشارة، و الإلهام، و الكلام الخفي، و الكتابة و الرسالة، و ما يوحيه اللّه إلي أنبيائه» «1».
من البديهي أن نقول «لكل فكرة أساس ترتكز إليها». فركيزة الإيمان بالقرآن و بنبوة محمد صلي اللّه عليه و سلّم الإيمان بالوحي، و من لم يؤمن بوجود الوحي فليس من الممكن أن يؤمن برسالة الأنبياء المتصلين باللّه تعالي المتلقين عن اللّه بوساطة الوحي. و هذا «علي غير الطريقة المعتادة بين البشر» «2». و بنمو المقاييس المادية لدي الباحثين و الدارسين في القرن العشرين أصبح الإيمان بمسألة الوحي أمرا غير مقبول بسهولة، إن لم نقل إنهم «يلقون حبالا و عصيا في سبيل المؤمنين» «3».
فما حقيقة الوحي؟
الوحي بالمصطلح الشرعي: أن يعلم اللّه تعالي من اصطفاه من عباده كلّ ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية و العلم، و لكن بطريقة سرّية خفيّة غير معتادة للبشر» «4».

معاني الوحي:

1- معني الإلهام الغريزي: و هو واضح في قوله تعالي: وَ أَوْحي رَبُّكَ إِلَي النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي (1) الفيروزآبادي، المحيط، مادة: وحي. و انظر المعجم المدرسي مادة: وحي.
(2) الزرقاني، مناهل العرفان، بديع السيد اللحام، دمشق، دار قتيبة، ط، (1/ 91).
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 42
مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (68) «1». فكلمة الوحي في هذه الآية تفيد معني التكوين الغريزي الذاتي و هو في إطار الخلق و التكوين. و هذا معني يختلف عن معني «الوحي» الذي نتحدث عنه، و كلمة الخلق و التكوين و التوجيه أدقّ من كلمة الإلهام في هذه الآية، لأن اتخاذ الجبال و الأشجار بيوتا للنحل صفة ذاتية و تكوين غريزي- و الإلهام يغلب عليه تكوين الاستعداد لسلوك غير مألوف. فإذا كان السلوك مألوفا عن طريق التكوين الغريزي لا يسمي «إلهاما»، فلا يقال في الأمور الغريزية إلهام إلا عن طريق تكوين الاستعداد عند الخلق» «2».
2- معني الإلهام الإرادي: و هذا باد في قول اللّه تعالي: وَ أَوْحَيْنا إِلي أُمِّ مُوسي أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) «3».
و واضح من الآية أن كلمة «و أوحينا» لا تقتصر معني الإلهام؛ فالإلهام توجيه خفيّ لا يدرك مصدره، و في هذه الآية توجيه رباني مقترن بأوامر و تعليمات و فيه نهي عن الخوف و تبشير من اللّه بعودته إلي أمه، و أنه سيكون من المرسلين، و لا بد أن أمّ موسي أدركت مصدر هذا الإلهام، و عرفت أنه من اللّه، و لهذا نفذت ما أمرت به و اطمأنّت، و لو لا ذلك لما نفّذت هذا الأمر الذي لا يمكن لأمّ أن تفعله، و كيف يمكن لأم أن تلقي وليدها في اليم لمجرد خاطر عابر لا تعرف مصدره و هو أمر خارج عن نطاق الفطرة، فالفطرة تأبي أن تلقي الأمّ وليدها في اليم» «4».
3- معني الإشارة الآمرة الظاهرة: و هذا باد في قول اللّه تعالي: فَخَرَجَ عَلي قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحي إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (11) «5».
و معني الوحي هنا: أمر يفيد «التوجيه و التعليم و ليس مجرد الإشارة» «6».
4- معني الوسوسة: و هذا في قول اللّه تعالي: وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلي أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ «7». و هذا المعني لغوي، و كلمة الوسوسة ليست دقيقة، فالشياطين يوسوسون حينا، و يأمرون أولياءهم حينا آخر و يزينون لهم فعل الشر، و جاءت في نفس المعني في (1) سورة النحل، الآية (68).
(2) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (45، 46).
(3) سورة القصص، الآية: (7).
(4) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (46). و الآية من سورة النحل.
(5) المصدر نفسه. و الآية من سورة مريم، الآية (11).
(6) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية ص (46).
(7) سورة الأنعام، الآية: (121).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 43
قوله تعالي: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلي بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً «1».
و معظم معاني الوحي الواردة في القرآن الكريم جاءت في معني الوحي المنزل من عند اللّه «و هي الكلمة القرآنية التي ترددت في القرآن في كل آية أراد اللّه بها بيان طريقة توجيه الأمر الإلهي لرسله و أنبيائه و تعليمهم» «2». و وحي اللّه إلي رسوله صلي اللّه عليه و سلّم كان بوساطة الأمين جبريل عليه السّلام «و هو ملك كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثمّ أمين- و هذا النوع كان من أشهر الأنواع، و أكثرها، و وحي القرآن كله من هذا القبيل و هو المصطلح عليه «بالوحي الجليّ» «3» قال اللّه تعالي: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلي قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) «4».
و هذا الوحي «الملك جبريل» كان ينزل علي الرسول صلي اللّه عليه و سلّم أو يظهر له بأشكال أو بأساليب شتّي:
فتارة يظهر للرسول صلي اللّه عليه و سلّم في صورته الحقيقية الملكيّة. و تارة يظهر في صورة إنسان يراه الحاضرون و يستمعون إليه- و هذه صور: «الوحي المباشر»: و في هذا «يبرز معني الإلهام أو النفث في الروع و هو إلقاء المعني الموحي به في القلب، و القلب في نظر القرآن هو مصدر المعرفة و هو موطن الفهم» «5». «و يختلف الوحي المباشر عن الإلهام الغريزي أو الفطري، فالإلهام قد يكون نابعا من الذات و قد يخطئ الإنسان فيه، أو يصيب فلا يعرف مصدره، فلا يلتبس الأمر عليهما، و هو خاص بالأنبياء، و لا يكون لغير الأنبياء بخلاف الإلهام الفطري فقد يكون لغير الأنبياء، و قد يكون إلهام خير، أو إلهام شر، و يختلف مصدره» «6».
و قد يهبط الوحي علي رسول اللّه في صورة إنسان يراه الحاضرون و يستمعون إليه، و تارة يهبط علي الرسول خفية فلا يري و لكن يظهر أثر التغير و الانفعال علي صاحب الرسالة، فيغط و يثقل ثقلا شديدا، و قد يتصبب منه الجبين عرقا في اليوم الشديد البرد» «7». (1) سورة الأنعام، الآية: (112).
(2) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (47).
(3) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 92).
(4) سورة الشعراء، الآيات: (193- 195).
(5) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية ص (50). راجع حديث بدء الوحي الذي رواه البخاري (الحديث: 2).
(6) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية ص (50).
(7) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 92، 93).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 44
و قد يكون وقع الوحي علي الرسول صلي اللّه عليه و سلّم كوقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعه، و ذلك أشدّ أنواعه و ربما سمع الحاضرون صوتا عند وجه الرسول صلي اللّه عليه و سلّم كأنه دوّيّ النحل لكنهم لا يفقهون كلاما، و لا يفقهون حديثا- و قد روي البخاري عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت:
«أول ما بدئ به رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يري رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، و كان يخلو بغار حراء، حتي جاءه الحق و هو في غار حراء فجاء الملك فقال: «اقرأ» «1».
و قد سأل الحارث بن هشام رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم عن الكيفية التي يأتيه الوحي بها فقال:
- يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحيّ؟
- فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشدّه علي، فيفصم عني و قد وعيت عنه ما قال، و أحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول»، قالت عائشة: و لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إن جبينه ليفصم عرقا» «2».

كيفيّات الوحي:

و هنا أنقل كيفية الوحي عند السيوطي ففي ملخص شاف:
ذكر السيوطي في الإتقان كيفية الوحي بقوله:
ذكر العلماء للوحي كيفيات:
إحداها: أن يأتيه الملك مثل صلصلة الجرس كما في الصحيح و في مسند أحمد: عن عبد اللّه بن عمر، سألت النبي صلي اللّه عليه و سلّم: هل تحس بالوحي، فقال: «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما مرة يوحي إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض». قال الخطابي: و المراد أنه صوت متدارك يسمعه و لا يبين له أول ما يسمعه حتي يفهمه بعد، و قيل هو صوت خفق أجنحة الملك. و الحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقي فيه مكانا لغيره، و في الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه، و قيل: إنه كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد و تهديد.
الثانية: أن ينفث في روعه الكلام نفثا، كما قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «إن روح القدس نفث في روعي ...» «3» [أخرجه الحاكم ، و هذا قد يرجع إلي الحالة الأولي أو التي بعدها، بأن يأتيه في إحدي الكيفيتين و ينفث في روعه. (1) أخرجه البخاري في (الحديث: 3) و (الحديث: 4953)، و أخرجه مسلم في (الحديث: 401).
(2) أخرجه البخاري في (الحديث: 2) و (الحديث: 3215).
(3) رواه البغوي.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 45
الثالثة: أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه كما في الصحيح: «و أحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» «1».
الرابعة: أن يأتيه الملك في النّوم، و عدّ قوم من هذا «سورة الكوثر».
الخامسة: أن يكلمه اللّه إما في اليقظة كما في ليلة الإسراء أو في النوم كما في حديث معاذ: «أتاني ربي فقال: فيم يختصم الملأ الأعلي ..» «2».
مناقشة فكرة الوحي: بديهي أن تخضع ظاهرة الوحي لنقاش معمّق خاصة من قبل أصحاب المنهج المادي الذين يجدون صعوبة في الإيمان بالغيب ..، في حين نجد المؤمنين حقا هم المؤمنون بفكرة الوحي لإيمانهم بالغيب لأن الإيمان بالغيب «يمنح الحياة المادية التوازن ... و يفسر بعض مظاهر الحياة، و يضبط مسارها، و يملأ ذلك الفراغ الثقيل في حياة البشر» «3».
أما الرافضون لمسألة الوحي فمنطقهم يستند إلي نكران عالم الغيب لأنه غير مشاهد من قبل الحواس و يقولون: إنهم يحتكمون للعقل، فما أثبته العقل من عالم الحواس أثبتوه، و ما أنكره العقل من عالم الحواس أنكروه ... و لكن السؤال: هل ينكر العقل المنصف وجود عالم الغيب أو عالم الروح؟
الجواب: «لم يستطع العقل أن يقيم الدليل علي عدم وجود عالم الروح، بل إن العقل في معظم الأحيان يسلّم بوجود عالم غير محسوس لا تراه الأبصار، و لا تدركه العقول، إلا أنه لا يتصور الحياة بدونه، و تقوم أدلة و قرائن علي وجود عالم روحيّ أشمل من عامل المادة، و هو عالم غير محدود، يحيط بحياة الإنسان، و يفسر حركته» «4».
ثم من جهة أخري فإن منكري الوحي عند ما يقولون: إنهم يؤمنون بما يثبته العقل منهم «يؤمنون بالعقل علي الطريقة التي يستسيغونها، و بالعلم الذي تواضعوا عليه في اصطلاحهم الحديث و هو «جملة المعارف اليقينية التي أنتجها دستور البحث الجديد في الوجود و كائناته» «5».
و هؤلاء جعلوا «الشك أساسا للبحث و الاستناد إلي القاطع الذي يؤيده الحس دون (1) هو جزء من حديث أخرجه البخاري (الحديث: 2) و (الحديث: 4953).
(2) السيوطي، الإتقان (1/ 128- 129).
(3) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (53).
(4) المصدر نفسه.
(5) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 93).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 46
سواه، فهم يقدمون الشك و يمعنون فيه ثمّ لا يعترفون إلا بالحسيّات، و لا يحفلون بمجرد العقليات» «1». لذا فإن منهجهم قادهم إلي الحال التي أصبحوا فيها «ينكرون ما وراء المادة، و يسرفون في الشكوك إلي أبعد الحدود و يستخفّون بأمر الإلهيات و النبوات و الوحي إلي مدي بعيد» «2».
و سوف نتدرج بمناقشة أدلة الوحي العلمية كي تساق علي نحو عقلي منطقي و كي لا يضيع القارئ في أجزاء البحث.

موقف العلم من مسألة الوحي:

و هي أدلة مهمتها إثبات إمكانية الوحي و تقريبه إلي العقول «3».
و عند ما نقول بالإمكانية يعني هذا أن وجود الوحي لا يناقض أحكام العقل، أي أن وجود ظاهرة الوحي ليس مستحيلا عقليا إنما هو من الممكنات العقلية. «و إمكان الوحي هو الخطوة الأولي في الموضوع، و هو ملحوظ في المقدمة الأساسية من مقدمات الدليل العقلي الآتي» «4» لذا فإن الزرقاني رأي من الصواب و الحق أن تتقدم الأدلة العلمية علي وجود الوحي أو وجوب الإيمان به و تتبوأ مكان الصدارة علي ما سواها من الأدلة «5».
الدليل الأول: التنويم الصناعي، أو التنويم المغناطيسي: و هو من المقررات العلمية الثابتة، كشفه الدكتور «مسمر» الألماني في القرن الثامن عشر، و جاهد هو و أتباعه علي مدي قرن كامل في سبيل إثباته ... فاعترف العلماء به علميا، بعد أن اختبروا به الآلاف المؤلّفة من الخلق و اطمأنوا إلي تجاربه، و أخيرا أثبتوا بوساطته ما يأتي:
1- أنّ للإنسان عقلا باطنا أرقي من عقله المعتاد كثيرا.
2- أنه و هو في حالة التنويم يري و يسمع من بعد شاسع و يقرأ من وراء حجب و يخبر عما سيحدث مما لا يوجد في عالم الحس أقل علامة لحدوثه.
3- أن للتنويم درجات بعضها فوق بعض يزداد العقل الباطن سموا بتنقله فيها.
4- أنه قد يصل إلي درجة تخرج فيها روح الوسيط من جسده و تمثل إلي جانبه غير مرئية، بينما يكون الجسم في حالة تشبه الموت، لو لا علاقة خفية بين الروح و الجسم. (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 93).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، (1/ 94)، بشي‌ء من التصرف.
(4) انظر في مناهل العرفان (1/ 94).
(5) انظر في مناهل العرفان (1/ 94).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 47
5- أثبتوا من وراء ذلك أن هناك روحا.
6- أن الروح مستقلة عن الجسم كل الاستقلال.
7- أن الروح لا تنحلّ بانحلاله.
8- أنها تتصل بالأرواح التي سبقتها إذا تجردت عن المادة» «1».
و يسوق صاحب مناهل العرفان ما رآه بعينه، و سمعه بأذنه، ... علي مرأي و مسمع من جمهور مثقف كبير حضر ليشهد محاضرة مهمة في التنويم المغناطيسي، و إثبات أنه يمكن أن يتخذ سلاحا مسموما لتغيير عقيدة الشخص و دينه:
قام المحاضر- و هو أستاذ في التنويم المغناطيسي- و أحضر الوسيط و هو فتي فيه استعداد خاص للتأثر بالأستاذ، و الأستاذ فيه استعداد خاص للتأثير علي الوسيط. فالأول ضعيف النفس، و الثاني قويّها، و للضعف و القوة وجوه ليس هذا هو موضع بيانها. نظر الأستاذ في عين الوسيط نظرات عميقة نافذة و أجري عليه حركات يسمونها سحبات، فما هي إلا لحظة حتي رأينا الوسيط يغطّ غطيط النائم، و قد امتقع لونه، و همد جسمه، و فقد إحساسه المعتاد، حتي لقد كان أحدنا يخزه بالإبرة وخزات عدة، و يخزه كذلك ثان و ثالث، فلا يبدي الوسيط حراكا، و لا يظهر أي عرض لشعوره و إحساسه بها، و حينئذ تأكدنا أنه قد نام ذلك النوم الصناعي أو المغناطيسي. و هناك تسلّط الأستاذ علي الوسيط يسأله:
ما اسمك؟ فأجابه باسمه الحقيقي. فقال الأستاذ: ليس هذا هو اسمك، إنما اسمك كذا- و افتري عليه اسما آخر- ثم أخذ يقرر في نفس الوسيط هذا الاسم الجديد الكاذب، و يمحو منه أثر الاسم القديم الصادق بوساطة أغاليط يلقنها إياه في صورة الأدلة، و بكلام يوجهه إليه في صيغة الأمر و النهي، و هكذا أملي عليه هذه الأكذوبة إملاء، و فرضها عليه فرضا حتي خضع لها الوسيط و أذعن» «2». ثم يقول الزرقاني موضحا ما حصل بعد كل ذلك:
ثم «أخذ الأستاذ و أخذنا نناديه باسمه الحقيقي المرة بعد الأخري في فترات متقطعة و في أثناء الحديث علي حين غفلة، كل ذلك و هو لا يجيب. ثم نناديه كذلك باسمه الموضوع فيجيب دون تردد و لا تلعثم ... ثم أمر الأستاذ وسيطه أن يتذكر دائما أن هذا الاسم هو اسمه الصحيح حتي إلي ما بعد نصف ساعة من صحوه و يقظه. ثم أيقظه و أخذ يتم محاضرته و نحن نفجأ الوسيط بالاسم الحقيقي فلا يجيب، ثم نفجؤه باسمه الثاني فيجيب، حتي إذا مضي نصف الساعة المضروبة عاد الوسيط إلي حاله الأولي من العلم (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 94- 95).
(2) المصدر نفسه، (1/ 95- 96).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 48
الحقيقي باسمه الحقيقي» «1».
يقول الزرقاني معقبا علي ما سبق:
«و بهذه التجربة أثبت الأستاذ أن المنوّم- بكسر الواو- يستطيع أن يمحو من نفس وسيطه كلّ أثر يريد محوه، مهما كان ثابتا في النفس، كاسم الإنسان عينه، و مهما كان مقدسا فيها كعقائد الدين.
و إنما اختار الأستاذ محو الاسم دون الدين لأمرين:
أحدهما: أن محو الدين عدوان أثيم، و إجرام شنيع، لم تقبله نفسية المحاضر و لا المحاضرين.
ثانيهما: أن الاسم أثبت في نفس صاحبه من دينه، فمحوه أعجب، و منه تعلم أن محو الدين فيها أيسر! و بهذه التجربة أيضا ثبت لي أنا من طريق علمي ما قرّب إليّ الوحي عمليا، و ما جعلني أعلله تعليلا علميا: فالوحي عن طريق الملك عبارة عن اتصال الملك بالرسول اتصالا يؤثر به الأول في الثاني و يتأثر فيه الثاني بالأول، و ذلك باستعداد خاص في كليهما، فالأول فيه قوة الإلغاء و التأثير لأنه روحاني محض، و الثاني فيه قابلية التلقي عن هذا الملك لصفاء روحانيته، و طهارة نفسه المناسبة لطهارة الملك. و عند تسلط الملك علي الرسول ينسلخ الرسول عن حالته العادية، و يظهر أثر التغيير عليه، و يستغرق في الأخذ و التلقي عن الملك، و ينطبع ما تلقاه في نفسه، حتي إذا انجلي عنه الوحي و عاد إلي حالته الأولي وجد ما تلقاه ماثلا في نفسه، حاضرا في قلبه كأنما كتب في صحيفة فؤاده كتابا» «2».
فإذا كان المخلوق قادرا علي أن يؤثر في مخلوق علي نحو ما رأينا من تأثير أستاذ التنويم المغناطيسي علي تلميذه، فهل من الصعب علي مالك القوي و خالقها أن يؤثر في نفس عبد من عباده عن طريق الوحي الملك المرسل إلي ذلك العبد؟ كلا، ثم كلا، لأن اللّه علي كل شي‌ء قدير. ثم أنه الأعلم و الأحكم في اختيار الطريق المثلي للاتصال بعباده المرسل إليهم، و هو الأعلم بالطريقة المؤثرة في نفوس عباده أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) «3». (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 96- 97).
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة الملك، الآية: (14).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 49
الدليل العلمي الثاني: «إن العلم الحديث استطاع أن يخترع من العجائب ما نعرفه و نشاهده و ننتفع به. مثل: (الهاتف- و اللاسلكي- و المذياع ..) و عن طريق أولئك أمكن الإنسان أن يخاطب من كان في آفاق بعيدة عنه و أن يفهمه ما شاء و يرشده إلي ما أراد، فهل يعقل بعد قيام هذه المخترعات المادية أن يعجز الإله القادر، عن أن يوحي إلي بعض عباده ما شاء عن طريق الملك أو غير الملك؟ تعالي اللّه عمّا يقولون علوّا كبيرا.
الدليل الثالث: استطاع العلم أن يملأ أسطوانات أو أشرطة كاسيت أو ما نسميه بالقرص الليزري و بوضع هذه الأدوات في الأماكن المخصصة لها من أجهزتها تؤدي الكلام بدقة و إتقان- فهل يستبعد علي اللّه القادر من أن يملأ نفوسا صافية طيبة بكلام طيب مبارك يهدي به الخلق سبل الرشاد! الدليل الرابع: قرر العلم الحديث أنه شوهد علي بعض الناس أنهم يظهرون بمظاهر روحانية، تعتبر من الخوارق التي لم يكن يحلم بحدوثها العلماء علي حين أن هؤلاء الذين أتوا بتلك الظواهر الخارقة كانوا في حالة ذهول، و قد استحال تعليل ما أتوا به تعليلا ماديا يستند إلي الحس، و قد اختبروا تلك الظواهر، و استحضروا لشهودها أكبر مشعوذي الأرض فشهدوا بأنها ليست من الشعوذة في شي‌ء، و إنما هي أحداث روحانية، لا أثر فيها للمهارة و خفة اليد.
تلك حقيقة من حقائق العلم الحديث الحاضر، يقررون فيها أنه قد يفتح علي بعض الناس في حالة من حالات ذهولهم بانكشافات و ظواهر روحية فكيف يستبعد بجانب هذا الكشف العلمي أن يفتح اللّه علي بعض الممتازين من خلقه بانكشافات علمية عن طريق الوحي، بينما هم من كملة العقول و الأخلاق؟ لقد أسفر الصبح لذي عينين» «1».
و في هذه المناسبة لا بد لنا من التنويه و التذكير أن الشيخ الزرقاني رحمه اللّه لم يكن يريد أن يقرر أن الوحي الذي هو اتصال النبي صلي اللّه عليه و سلّم بالملإ الأعلي- كاتصال المنوّم أو الوسيط في التقويم المغناطيسي أو الصناعي بالأرواح- و إنما أتي الزرقاني بهذا المثال من باب التقريب، أي ليقرب فكرة الوحي إلي عقول الماديين و ليبين لهم: أن التواصل بين الأحياء و الأرواح لا ينكرها العقل العلمي بل أقام العلم الدليل علي حصول مثل هذا التواصل» «2». (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 101).
(2) من كلام بديع السيد اللحام في تحقيقه لمناهل العرفان، (1/ 94). بتصرف.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 50

الأدلة العقلية علي ثبوت ظاهرة الوحي:

إن الدليل العقلي علي وقوع الوحي هو ما أخبر عنه الصادق المعصوم في الأحاديث السابقة التي قد سقناها من القرآن أو من السنة الثابتة في الصحاح ... «فلو لا أن الكلمة وردت إلينا من هذه المصادر، لما كان لها وجود في أفكارنا و لا في أفكار أعداء الإسلام، و من ثم لم يكن ليقوم حولها أيّ بحث، و لم تكن لتفسر بأي نظرية من النظريات أو معني من المعاني لا عندنا نحن المسلمين، و لا عند أولئك الآخرين» «1».
و ما دام المصدر الوحيد لوجود ظاهرة الوحي القرآن و السنة الصحيحة و هما الوثيقتان التاريخيتان الوحيدتان اللتان أكدتا ظاهرة الوحي، فمن غير الصحيح البتة أن «نضرب صفحا عن هذه النصوص عند ما تتولي لنا تفسير هذه الظاهرة و كشف اللثام عنها» «2».
و يعلل البوطي ذلك «لأن كل مفكر يعلم أن الباحث عليه أن يسلك أحد السبيلين: إما أن يضرب صفحا عن حديث التاريخ كله و عن هذه النصوص الواردة جميعها، و عندئذ فليس له أن يتحدث عن شي‌ء اسمه الوحي في حياة رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم أصلا، لأن المفروض أنها كلمة غير موجودة في حياته، و إمّا أن يعتمدها و لا يسعه إنكارها، و عندئذ فإن عليه أن يلقي السمع إلي كل ما تثبته و تنطق به هذه النصوص من الحقائق و الوقائع. و لذلك: صح لنا أن نقول في غير مبالغة و لا تجن علي الحقيقة: إن أولئك الذين يعمدون إلي نصوص القرآن و السنة و نصوص السيرة فيستلون منها كلمة «الوحي» مجردة و مشذّبة عن كل ما يتولي تفسيرها و بيانها من تلك النصوص نفسها، ليرغموا الكلمة علي أن تحمل معاني و تأويلات أخري غير تلك المعاني التي تولّي التاريخ و تولّت النصوص إعطاءها إياها- نقول: إنّ أولئك العابثين لا يعاندون العلم فقط، بل إنهم ليعاندون العقل في أوضح مقتضياته البديهية المسلمة» «3».
فالأحداث و الوقائع المجتمعة بنزول الوحي كما وصلت إلينا بالأسانيد الموثقة كلها تشير إلي عظيم الحكمة، و كبير العناية الإلهية برسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم:
«لقد فوجئ محمد عليه السّلام و هو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، و هو يقول له:
اقرأ «حتي يتبين له أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا مرده إلي حديث النفس المجرد (1) محمد سعيد رمضان البوطي، كبري اليقينيات الكونية، ط (5)، دار الفكر/ دمشق، (1397 ه) ص (201).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، ص (202).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 51
و إنما هو استقبال و تلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس و داخل الذات. و ضمّ الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ- يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي و مبالغة في نفي ما قد يتصور من أن الأمر لا يعدو كونه خيالا داخليا فقط» «1».
«و لقد داخله الخوف و الرعب مما سمع و رأي حتي أنه قطع خلوته في الغار و أسرع عائدا إلي البيت يرجف فؤاده» «2».
من هنا يظهر لكل باحث منصف أو مفكر حر همه الوصول إلي الحقيقة أن الرسول لم يكن تواقا أو مشتاقا هذا الشوق الشديد للرسالة، «و أن ظاهرة الوحي هذه لم تأت منسجمة أو متممة لشي‌ء مما كان قد يتصوره أو يخطر في باله و إنما طرأت طروءا مثيرا علي حياته، و فوجئ بها (بالرسالة) دون أي توقع سابق» «3». «و لا شك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل و التفكير إلي أن تتكون في نفسه- بطريقة الكشف التدريجي المستمر- عقيدة يؤمن بالدعوة إليها ... ثم إن شيئا من حالات الإلهام أو حديث النفس أو الإشراق الروحي أو التأملات العلوية لا تستدعي الخوف و الرعب و اصفرار اللون. يدل علي ذلك القياس اليقيني القائم علي استقراء الحالات و جميع الظروف المشابهة، و ليس ثمة أي انسجام بين التدرج في التفكير و التأمل من ناحية، و مفاجأة الخوف و الرعب من ناحية أخري، و إلا للزم من ذلك أن يعيش عامة المفكرين و المتأملين نهبا لدفعات من الرعب و الخوف المفاجئة المتلاحقة. و أنت خبير أن الخوف و الرعب و رجفان الجسم و تغير اللون- كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلي اصطناعها و التمثيل بها، حتي لو فرضنا! إمكان صدور المخادعة و التمثيل منه عليه السّلام و فرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة من الصدق و الأمانة إلي عكس ذلك تماما» «4».
لقد خشي الرسول علي نفسه عند ما قال لخديجة: «لقد خشيت علي نفسي» أي من الجان، و لكنها طمأنته بأنه ليس ممن يطولهم أذي الشياطين و الجان لما فيه من الأخلاق الفاضلة و الصفات الحميدة. «و قد كان اللّه عزّ و جل قادرا أن يربط علي قلب رسوله و يطمئن نفسه بأن هذا الذي كلّمه ليس إلا جبريل: ملك من ملائكة اللّه جاء ليخبره أنه رسول اللّه إلي الناس- و لكن الحكمة الإلهية الباهرة تريد إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد قبل البعثة، و شخصيته بعدها، و بيان أن شيئا من أركان العقيدة الإسلامية أو (1) محمد سعيد رمضان البوطي، كبري اليقينيات، ص (203).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه، ص (204).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 52
التشريع الإسلامي لم يطبخ في ذهن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم مسبقا، و لم يتصور الدعوة إلي شي‌ء منه مطلقا» «1».
و كذلك فإن جواب ورقة بن نوفل لخديجة التي سألته عما فوجئ به الرسول صلي اللّه عليه و سلّم الذي أكد إنما هو الوحي الإلهي الذي قد نزل علي رسل اللّه السابقين ...
و أما في انقطاع الوحي لفترة طويلة بلغت الأشهر فإن فيه ردا بليغا علي ما قاله «محترفو الغزو الفكري مفسرين به ظاهرة الوحي النبوي من أنه الإشراق النفسي المنبعث لديه من طول التأمل و التفكير و أنه أمر داخلي منبعث من أعماقه «2» ...
هذا فضلا عن أن الرسول كان لا يجيب علي كثير من الأسئلة التي تواجهه منتظرا وحي ربه، فلو كان الأمر إشراقات فليس بإمكانه أن يستدعي هذه الإشراقات النفسية في كل وقت يحتاجه، كأن يستحضر الإشراقات وقت توجه الأسئلة إليه أو في أوقات المحاججة مع خصومه في الدعوة- ثم إن كلام رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم في الحديث مختلف كل الاختلاف عن الذي بلغه للناس علي أنه قرآن. فهل الإشراق النفسي يتباين بين اللحظة و الأخري!!

من الشبه المطروحة حول مسألة الوحي:

1- لما ذا يتنزل الوحي علي محمد رسول اللّه دون أن تبصره عيون الصحابة و هم معه في المجلس نفسه الذي تنزل الوحي فيه علي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم؟
يجيب محمد سعيد رمضان البوطي: «أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن تري بالأبصار، إذ إن وسيلة الإبصار فينا محددة بحد معين، و إلا لاقتضي ذلك أن يصبح الشي‌ء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. علي أن من اليسير علي اللّه جلّ جلاله و هو الخالق لهذه العيون المبصرة أن يزيد في قوة ما شاء منها فيري ما لا تراه العيون الأخري» «3».
يقول مالك بن نبي: «إن عمي الألوان مثلا يقدم لنا حالة نموذجية لا يمكن أن تري فيها بعض الألوان بالنسبة لكل العيون، و هناك أيضا مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر و فوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، و لا شي‌ء يثبت عمليا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون، فقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية أمام تلك الأشعة كما يحدث في حالة الخلية الضوئية الكهربائية» «4». هذا- ناهيك «أن ظاهرة الوحي (1) لمزيد من الاطلاع انظر: محمد سعيد رمضان البوطي، كبري اليقينيات، ص (204، 205).
(2) المصدر نفسه.
(3) محمد سعيد رمضان البوطي، كبري اليقينيات، ص (206، 207).
(4) مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ص (151)، دار الفكر، دمشق، ط 2 (1987).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 53
سيصحبها فيما بعد دلائل حسية يشعر بها بعض من شاهدوها خلال حدوثها» «1».
و قد أشرنا فيما سبق إلي حالات نزول الوحي: مثل صلصلة الجرس و ما رافقها من تفصّد جبين رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم عرقا.
ثم إن استمرار الوحي حقيقة قاطعة أنه ليس ظاهرة نفسية محضة وفق ما أراد المضللون أو المشككون، و هذا يمكن إجماله علي النحو التالي:
1- التمييز الواضح بين القرآن و الحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورا، علي حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه؛ لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة به، بل لأن القرآن موحي به إليه بنفس اللفظ و الحروف بواسطة جبريل عليه السّلام، أما الحديث فمعناه وحي من اللّه عزّ و جل، و لكن لفظه و تركيبه من عنده صلي اللّه عليه و سلّم.
2- كان النبي صلي اللّه عليه و سلّم يسأل عن بعض الأمور فلا يجيب عليها و ربما مرّ علي سكوته زمن طويل حتي إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال، طلب السائل و تلا عليه ما نزل من القرآن في شأن سؤاله، و ربما تصرف الرسول علي وجه معين فتنزل آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه و ربما انطوت علي عتب أو ملامة له.
3- كان الرسول صلي اللّه عليه و سلّم أميا ... و ليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية» «2» ... إذ أن تتابع نزول الوحي جعل الحقائق التاريخية و الاجتماعية تتزاحم في وعيه علما أن هذه المعارف التاريخية و الاجتماعية لم يسبق أن سجلت في صفحة معارفه، بل حتي في معارف عصره، و مناحي اهتمامه ... هذه الحقائق ليست مجرد تعميمات غامضة، و لكنها معلومات محددة تضم تفاصيل هامة عن تاريخ الوحدانية. فقصة يوسف عليه السّلام المفصلة، مثلا، أو التاريخ المفصل لهجرة بني إسرائيل لا يمكن اعتبارهما مجرد اتفاق عارض، بل يجب حتما أن يأخذ لدي محمد صلي اللّه عليه و سلّم صفة الوحي العلوية» «3».
و ما قلناه حول معرفته بقصة يوسف ينسحب علي كل القصص مثل قصة أم موسي و إلقائها وليدها في اليم، و قصة فرعون ... «و لقد كان هذا من جملة الحكم في كونه أميا وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) «4».
لذا كان حقا قول القرآن بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ (1) مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ص (151).
(2) محمد سعيد رمضان البوطي، كبري اليقينيات، ص (208).
(3) مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ص (157).
(4) سورة العنكبوت، الآية: (48).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 54
بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) «1».
4- و لعل ادعاء أي شخص في قضية من القضايا يخضع- عند الناس الذين عايشوه لفترة ليست قصيرة من الزمن- للاختبار و المقارنة بين ادعائه و ماضي حياته، أي أن الناس سيدرسون تاريخه الشخصي هل كان كاذبا أو صادقا في سيرته الذاتية الحياتية؟
فالتاريخ حدثنا حديثا لا مراء فيه جازما بصدق محمد «و هو قبل ذلك صادق مع نفسه، فدراسته الواعية لحالته الغريبة يجب أن يكون نوعا من الدرس الباطني القرآني، لتقضي هذه الدراسة علي أي شك يخايل عينيه» «2» ... إذا صدق الرسول سيدفعه لدفع كل الشكوك التي يمكن أن تبعد عنه حقيقة ما هو فيه. و علي ذلك فإن محمدا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم سيقوم بالدراسة التي ستجزم بحقيقة ما هو فيه وفق منهجين مختلفين:
الأول: ذاتي محض يقتصر علي ملاحظته وجود الوحي خارج الإطار الشخصي.
و الثاني: موضوعي يقوم علي الموازنة الواقعية بين الوحي المنزل، و ما ورد من التفاصيل المحددة في كتب اليهود و النصاري مثلا، و كأنما كان الوحي- أحيانا- يعلمه هذا المنهج الأخير الموضوعي عند ما لا يكون الأمر أمر اقتناعه هو- لأنه اقتنع منذ زمن طويل- بل أمر تأسيس و تربية للذات المحمدية، و لا سيما عند ما يجادل المشركين عن عقيدته، أو وفود النصاري الآتية من أطراف الجزيرة، كوفد نجران الذي أتاه ليناقش معه عقيدة التثليث و في هذا يحدثه الوحي صراحة» «3»:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) «4».
فقال النبي صلي اللّه عليه و سلّم عندئذ: «لا أشكّ و لا أسأل» «5».
من ذلك ظهر لنا النهج الذي سلكناه في تحديد فهمنا لمسألة الوحي في حياة النبي صلي اللّه عليه و سلّم، الذي يمكن أن نلخصه «بأننا نجد أنفسنا أولا أمام خبر يقيني وصل إلينا بالتواتر، طبق شروطه المعروفة، ألا و هو خبر أن النبي صلي اللّه عليه و سلّم قد أوحي إليه» «6». (1) سورة العنكبوت، الآية: (49)، و انظر كبري اليقينيات، ص (208).
(2) مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ص (158).
(3) المصدر نفسه، ص (157، 158).
(4) سورة يونس، الآية: (94).
(5) أخرجه عبد الرزاق و ابن جبير عن قتادة.
(6) محمد سعيد رمضان البوطي، كبري اليقينيات، ص (208).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 55
و بعد أن يجد الباحث الحقيقة ماثلة علي صدق النبي صلي اللّه عليه و سلّم بنزول الوحي عليه، وجدنا هذا الخبر الموحي يقدم لنا وقائع و أحداث كان لا بد من قبولها بالتصديق و الإثبات، بعد أن صدقناه في إثبات أصل الوحي. و لما فرضنا (مع تصديق هذه الوقائع و اعتمادها) أن يكون الوحي شيئا مما يقوله الجاحدون بنبوته عليه الصلاة و السلام، وجدنا هذه الفرضية تستلزم لزوما بينا نتائج باطلة لا يقبلها عقل أي مفكر. فالملهمون و الشعراء لا يقعون فريسة لارتعاد الفرائص و اصفرار اللون عند ما يمارسون شيئا من التفكير، و محمد صلي اللّه عليه و سلّم لا يعقل أن يكون منطويا في وقت واحد علي أدق صفات الأمانة و الصدق و علي أحط مظاهر التدجيل و الكذب و التمثيل. و إذا ظهر بطلان هذه النتائج في ميزان أي عقل سليم ظهر بطلان الفرضية التي استلزمتها. و إذا بطلت تلك الفرضيات، ثبت ما دلت عليه وقائع النصوص نفسها من أن الوحي لم يكن إلّا تلقيا منه عليه الصلاة و السلام لحقيقة خارجة عن كيانه بعيدة عن إرادته، لم يكن مستشرفا لها، و لا متوقعا شيئا منها» «1». (1) محمد سعيد رمضان البوطي، كبري اليقينيات، ص (209).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 57

الفصل الثالث نشأة علوم القرآن‌

نشأة علوم القرآن‌

قال تعالي: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) «1».
يقول الزركشي: «إن القرآن إنما أنزل بلسان عربي مبين في زمن أفصح العرب؛ و كانوا يعلمون ظواهره و أحكامه» «2». لأنهم عرب خلّص فصحاء متذوقون لأساليب العرب الرفيعة، «فإذا أشكل عليهم فهم شي‌ء من القرآن سألوا عنه النبي صلي اللّه عليه و سلّم، كسؤالهم لمّا نزل:
وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «3». فقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه! ففسّره النبي صلي اللّه عليه و سلّم بالشرك! و استدلّ عليه بقوله تعالي: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «4»- و كسؤال عائشة- رضي اللّه عنها عن الحساب اليسير فقال: «ذلك العرض، و من نوقش الحساب عذّب» «5»- و كقصة عدي بن حاتم في العقال الذي وضعه تحت رأسه» «6» و غير ذلك.
و لم تكن الحاجة قائمة إلي وضع تفسير للقرآن في عهد الرسول صلي اللّه عليه و سلّم لأن اللّه تعالي آتي رسوله الكتاب و علمه.
أما الصحابة رضي اللّه عنهم فكانوا عربا فصحاء يعلمون الكتاب علي نحو عام و ما استغلق عليهم سألوا عنه رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم- «أما حادثة قصة عدي بن حاتم التي رواها مسلم في صحيحه فإنها حادثة فردية لا تنطبق علي جمهور الصحابة الكرام، لذلك قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم (1) سورة يوسف، الآية: (2).
(2) الزركشي، البرهان في علوم القرآن (1/ 14).
(3) سورة الأنعام، الآية: (82).
(4) سورة لقمان، الآية: (13).
(5) الحديث أخرجه مسلم في (الحديث: 7156).
(6) في ذلك إشارة إلي الحديث الذي رواه مسلم في كتاب الصيام (الحديث: 2528) عن عدي بن حاتم لما نزلت: حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187].
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 60
لحاتم: «إن وسادتك لعريضة»، كناية عن الغفلة، و إن كان القاضي عياض ينكر هذا و يري أن المراد (إنك ضخم)- أو كما ورد في صحيح البخاري «إنك لعريض القفا» «1» و القصة في صحيح مسلم علي النحو الآتي:
لمّا نزلت حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ قال له عدي: يا رسول اللّه إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض، و عقالا أسود أعرف الليل من النهار، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «إن وسادك لعريض، إنما هو سواد الليل، و بياض النهار» «2».
و كما قلنا فإن هذه الحادثة فردية لا تنطبق علي جمهرة الصحابة، كذلك فإن أكثر الصحابة أميون، و لم تكن أدوات الكتابة متيسرة لديهم ... زد علي ذلك أن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم نفسه قد نهاهم أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن، و قال لهم أول العهد بنزول الوحي «لا تكتبوا عني، و من كتب عني غير القرآن فليمحه، و حدثوا عني و لا حرج، و من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» «3». و ذلك حذرا من أن يخلط القرآن بغيره.

علوم القرآن في عهد أبي بكر رضي اللّه عنه و بقية الصحابة الخلفاء و لمحة عن موضوع جمع القرآن:

«لقد ظلّت علوم القرآن تروي بالتلقين و المشافهة علي عهد رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم ثم علي عهد الشيخين أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما.
و في خلافة عثمان رضي اللّه عنه بدأ اختلاط العرب بالأعاجم، و أمر عثمان أن يجتمعوا علي مصحف إمام، و أن تنسخ منه مصاحف للأمصار، و أن يحرق الناس كلّ ما عداها، و الذي يهمنا الآن من هذا أن الخليفة الراشدي الثالث عثمان رضي اللّه عنه- بنسخ المصاحف قد وضع الأساس لما سمّي فيما بعد بعلم رسم القرآن أو علم الرسم العثماني» «4».
«و قد اشتهر أيضا أن عليا رضي اللّه عنه أمر أبا الأسود الدؤلي (ت 69 ه) بوضع بعض القواعد للمحافظة علي سلامة اللغة العربية، فكان عليّ بذلك واضع الأساس لعلم إعراب القرآن» «5». (1) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (119) هامش رقم (4).
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصيام (الحديث: 2528).
(3) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (120)، و الحديث: أخرجه مسلم في (الحديث:
7435)، و أخرجه الترمذي في (الحديث: 2665) ..
(4) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (120).
(5) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 61
«و في وسعنا أن نقول: إن الممهدين لهذا العلم هم:
1- من الصحابة: الخلفاء الأربعة، و ابن عباس، و ابن مسعود، و زيد بن ثابت، و أبي بن كعب، و أبو موسي الأشعري و عبد اللّه الزبير رضي اللّه عنهم.
2- من التابعين: مجاهد و عطاء بن يسار و عكرمة و قتادة و الحسن البصري و سعيد بن جبير و زيد بن أسلّم في المدينة.
3- مالك بن أنس من أتباع التابعين، و قد أخذ عن زيد بن أسلّم.
«هؤلاء هم الواضعون لما نسميه علم التفسير، و علم أسباب النزول، و علم المكي و المدني و علم الناسخ و المنسوخ، و علم غريب القرآن» «1».
إذا يعود الفضل لهؤلاء في تأسيس هذا العلم؛ حتي جاء عصر التدوين في القرن الثاني إذ ظهرت كوكبة من المشتغلين و المصنفين في هذا العلم نذكر أبرزهم: «شعبة بن الحجاج «2»، و سفيان بن عيينة، و وكيع بن الجراح، ثم تلاهم ابن جرير الطبري (ت 310 ه)، أما في علوم القرآن الأخري: علي بن المديني «3»، و أبو عبيد القاسم بن سلّام، في الناسخ و المنسوخ و في القراءات و فضائل القرآن، و محمد بن أيوب الضريس (ت 294 ه) فيما نزل بمكة، و ما نزل بالمدينة، و محمد بن خلف المرزبان، (ت 309 ه):
«الحاوي في علوم القرآن» «4».
و في القرن الرابع: أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: (ت 328 ه) «عجائب علوم القرآن» ... و أبو الحسن الأشعري «المختزن في علوم القرآن» و هو عظيم جدا ... و أبو بكر السجستاني (ت 330 ه) و له في «غريب القرآن» ... الخ.
و في القرن الخامس: علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي، (ت 430 ه) «البرهان في علوم القرآن» و «إعراب القرآن» و «أبو عمرو الداني (ت 442 ه) «التيسير في القراءات السبع».
و في القرن السادس: أبو القاسم عبد الرحمن المعروف بالسهيلي (ت 581 ه)» «5».
و ظهرت مؤلفات في القرن السابع و الثامن و لا سيما «البرهان في علوم القرآن» (1) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (120، 121).
(2) هو محدث البصرة و أمير المؤمنين في الحديث، ت (160 ه).
(3) شيخ أهل الحجاز في التفسير، كوفي، ت (198 ه).
(4) ذكره الفهرست لابن النديم ص (241) و يقع في 27 جزءا، بيروت دار الكتب العلمية، ط (1996).
(5) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (121، 122).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 62
للزركشي. و في القرن التاسع ظهر السيوطي بكتبه المتميّزة مثل «الإتقان في علوم القرآن» «1» و «مفحمات الأقران في علوم القرآن» و «التحبير في علوم التفسير».
و في القرن الأخير: أقبل كثير من العلماء علي تصنيف الكتب حول القرآن و تاريخه و علومه «فألف الشيخ طاهر الجزائري «التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن» و محمد جمال الدين القاسمي «محاسن التأويل»، و محمد عبد العظيم الزرقاني «مناهل العرفان في علوم القرآن» و محمد علي سلامة «منهج الفرقان في علوم القرآن»، و الشيخ طنطاوي جوهري «الجواهر في تفسير القرآن الكريم»، و أديب العربية صادق الرافعي «إعجاز القرآن»، و سيد قطب «التصوير الفني في القرآن»، و «في ظلال القرآن» و مالك بن نبي «الظاهرة القرآنية» و محمد رشيد رضا «تفسير القرآن، الحكيم» و فيه مباحث كثيرة في علوم القرآن و محمد عبد اللّه دراز «النبأ العظيم» و «نظرات جديدة في القرآن» «2».

المكي و المدني من القرآن الكريم:

من المعلوم أن الرسول الكريم صلي اللّه عليه و سلّم قضي قسما من حياته الدعوية في مكة، و قسما آخر في المدينة- لذا فإن العلماء اصطلحوا علي المكي معبرين عن القرآن الذي نزل قبل الهجرة، و اصطلحوا بالمدني علي ما نزل من القرآن الكريم بعد الهجرة، هذا إجمال، و سيأتي تفصيله بعد قليل.
و معرفة القرآن المنزل بمكة و بالمدينة اكتسب ضرورة هامة لأن القرآن واكب المراحل التي قطعها الرسول صلي اللّه عليه و سلّم بدعوته، كما أن المعرفة للمكي و المدني أسهم في تمييز الناسخ من منسوخه، وصولا إلي الحكم النهائي في موضوع من الموضوعات، خاصة أن التشريع الإسلامي نزل متدرجا مواكبا لمسيرة المجتمع الإسلامي، قال أبو القاسم الحسن بن محمد ابن حبيب النيسابوري في كتابه «فضل علوم القرآن»:
«من أفضل علوم القرآن علم نزوله و جهاته و ترتيب ما نزل بمكة ابتداء و وسطا و انتهاء، و ترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة و حكمه مدني، و ما نزل بالمدينة و حكمه مكي و ما نزل بمكة في أهل المدينة، و ما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني و ما يشبه نزول المدني في المكي» «3». (1) هناك تشابه كبير بين الإتقان و البرهان، و هناك عبارات في الإتقان مأخوذة كاملة، و خاصة أقوال العلماء.
(2) انظر د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (125، 126).
(3) الزركشي، البرهان، (1/ 162).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 63
و ورد في الإتقان نقلا عن ابن العربي:
«الذي علمناه علي الجملة من القرآن أن منه مكيا و مدنيا، و سفريا و حضريا، و ليليا و نهاريا و سمائيا و أرضيا، و ما نزل بين السماء و الأرض، و ما نزل تحت الأرض في الغار» «1».
اصطلاحات العلماء في المكي و المدني و فيها ثلاثة اصطلاحات:
الاصطلاح الأول: «أن المكي ما نزل بمكة، و لو بعد الهجرة، و المدني ما نزل بالمدينة». و يدخل في مكة ضواحيها كالمنزل علي النبي صلي اللّه عليه و سلّم بمني و عرفات و الحديبية».
و يدخل في «المدينة» ضواحيها كالمنزل عليه في بدر و أحد.
و هذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزول كما تري. لكن يردّ عليه أنّه غير ضابط، و لا حاصر، لأنه لا يشمل ما نزل بغير مكة و المدينة و ضواحيها، كقوله سبحانه في سورة التوبة: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) «2» فإنها نزلت بتبوك.
الاصطلاح الثاني: أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة و المدني و ما وقع خطابا لأهل المدينة.
و عليه يحمل قول من قال: إن ما صدّر في القرآن بلفظ: «يا أَيُّهَا النَّاسُ» فهو مكي! و ما صدّر بلفظ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فهو مدني، لأن الكفر كان غالبا علي أهل مكة فخوطبوا ب «يا أَيُّهَا النَّاسُ» و إن كان غيرهم داخلا فيهم، و لأن الإيمان كان غالبا علي أهل المدينة.
و هذا التقسيم لوحظ فيه المخاطبون، لكن يردّ عليه أمران:
أحدهما: ما ورد علي سابقة من أنه غير ضابط و لا حاصر، فإن في القرآن ما نزل غير مصدّر بأحدهما نحو قوله تعالي في فاتحة سورة الأحزاب: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) «3» و قوله تعالي في فاتحة سورة المنافقين: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) «4». (1) السيوطي، الإتقان، (1/ 22). المكتبة العصرية، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(2) سورة التوبة، الآية: (42).
(3) سورة الأحزاب، الآية: (1).
(4) سورة المنافقين، الآية: (1).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 64
ثانيهما: إن هذا التقسيم غير مطّرد في جميع موارد الصيغتين المذكورتين، بل إن هناك آيات مدنية صدّرت بصفة «يا أَيُّهَا النَّاسُ» و هناك آيات مدنية صدّرت بصفة «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا». مثال الأولي: سورة النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ «1» و في سورة البقرة:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «2» و مثال الثانية: سورة الحج فهي مكية مع أن في أواخرها:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا «3».
الاصطلاح الثالث: و هو المشهور: «أن المكي ما نزل قبل هجرة رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم إلي المدينة، و إن كان نزوله بغير مكة، و المدني ما نزل بعد هذه الهجرة، و إن كان نزوله بمكة.
و هذا التقسيم كما تري لوحظ فيه زمن النزول و هو تقسيم صحيح سليم، لأنه ضابط حاصر و مطّرد» «4».

فائدة العلم بالمكي و المدني:

من المؤكد أن عددا غير قليل من الفوائد نجنيها إذا عرفنا و ميّزنا بين المكي و المدني من القرآن، و يمكن إجمال بعض الفوائد علي النحو التالي:
1- تمييز الناسخ و المنسوخ، فيما إذا وردت آيتان أو آيات من القرآن الكريم في موضوع واحد، و كان الحكم في إحدي هاتين الآيتين أو الآيات مخالفا للحكم في غيرها، ثم عرف أن بعضها مكي و بعضها مدني، فإننا نحكم بأن المدنيّ منها ناسخ للمكي نظرا إلي تأخّر المدنيّ عن المكي.
2- و من فوائده أيضا معرفة تاريخ التشريع و تدرجه الحكيم بوجه عام، و ذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية بتربية الشعوب و الأفراد ...» «5».
3- و من فوائده أيضا الثقة بهذا القرآن و بوصوله إلينا سالما من التغيير و التحريف» «5» ... و هذا ما يفسّر اهتمام المسلمين بمواطن النزول المكاني و الزماني، مع ما رافق هذا النزول من الأحداث و المناسبات المساعدة علي فهم النص و توجيهه علي نحو سديد.
و أما الطريق الموصلة إلي معرفة المكي و المدني فسبيله النقل عن الصحابة و التابعين، (1) سورة النساء، الآية: (1).
(2) سورة البقرة، الآية: (21).
(3) سورة الحج، الآية: (77).
(4) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 245، 246).
(5) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 246).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 65
إذ لم يرد عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم نقل صحيح في تحديد هذا الأمر، لأن القرآن كان ينزل علي مشهد من جموع الصحابة هنا أو هناك.

عدد السور المكية و المدنية:

بلغ عدد السور المكية وفق ما ذكره الزركشي في «البرهان» و السيوطي في «الإتقان» خمسا و ثمانين سورة، و بلغت السور المدنية وفق هذين المصدرين تسعا و عشرين سورة ...
و وقع الاختلاف في اثنتي عشرة سورة، و لعل سبب الخلاف أن بعض السور نزل بين مكة و المدينة، و إن دلّ هذا علي شي‌ء فإنما يدل علي جدية البحث في هذا المضمار» «1».

خصائص الآيات المكية:

أولا- من حيث الأسلوب:

امتاز أسلوب الخطاب في الآيات المكية بالتعنيف و التهديد و الوعيد و التخويف، نظرا لقساوة قلوبهم، لذا استعمل القرآن: «كلا» للزجر و الردع ... و خاطبهم ب «يا أَيُّهَا النَّاسُ»، و قصّ عليهم قصص الأنبياء السابقين و أممهم. كما أن الآيات المكية قصيرة.

ثانيا- من حيث الموضوع:

حثت الآيات المكية علي تصحيح الإيمان، و نبذ الشرك بأنواعه، و دعت إلي الإيمان بالبعث و النشور و الجنة و النار ... و نددت بعادات المكيين و تقاليدهم الجاهلية، و حقّرت عباداتهم الصّنميّة، و سلوكهم العدواني ضد المرأة، كما امتاز القرآن المكي بخطابه العقلي النقدي لآليات تفكير المكيين المقدّسة لآراء الآباء و الأجداد، و دعاهم لتوظيف العقل الإنساني توظيفا صحيحا يقوم علي التفكير الحر، و المطالبة بالبرهان و العلم و السلطان، و المقارنة و الترجيح ... و الدعوة إلي الفضيلة و مكارم الأخلاق.

خصائص الآيات المدنية:

و كما جاءت الآيات المكية مستجيبة للسمات العامة للمجتمع المكي، معالجة لعقائده و سلوكياته و عاداته و تقاليده ... فالأمر نفسه يقال حول الآيات المدنية، إذ كان المجتمع المدني يختلف بظروفه الداخلية و الخارجية عن المجتمع المكي، ... و هذا بديهي أي أن الخطاب يجب أن يعالج مشاكل المخاطب، ... و إلا كان الكلام لا طائل منه. (1) الزركشي، البرهان، (1/ 194).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 66
لذا فقد «اختلف أسلوب الخطاب القرآني، و اختلفت موضوعاته، و توجه الخطاب إلي أهل المدينة من مؤمنين و منافقين و يهود، مشجعا المؤمنين علي الدفاع عن وجودهم و كيانهم، محذرا المنافقين من مغبة ما يفعلونه في الظلام من غدر، ناصحا إياهم بالتوبة، و التزام طريق المؤمنين» «1». و يمكن إجمال خصائص الآيات المدنية علي النحو التالي:
1- بيان أحكام التشريع: من حدود و إرث و معاملات مادية، و بيان مناهج الحكم، لذا جاءت الآيات المدنية ذات طبيعة تشريعية» «2».
2- وضوح أحكام الجهاد: الذي لم يكن مشروعا في مكة «3».
3- توجيه الخطاب إلي المؤمنين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ .. «4».
و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا «5».
و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (78) «6».

علم الناسخ و المنسوخ:

لقد أنزل اللّه تعالي الكتاب (القرآن) تبيانا لكل شي‌ء و هدي و رحمة، و فرض منه فرائض محكمة، و فرض فرائض أخر نسخها رحمة بعباده، و توسعة عليهم، و تخفيفا، فكل ما أثبته اللّه تعالي من الفرائض أو ما نسخه بالمحصلة في مصلحة العباد و رحمة بهم.
«و أبان اللّه لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، و أن السنة لا ناسخة للكتاب، و إنما هي تبع للكتاب بمثل ما نزل نصا، و مفسّرة معني ما أنزل اللّه منه جملا» «7».
قال تعالي: وَ إِذا تُتْلي عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحي إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) «8». و قال تعالي: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) «9». (1) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (137).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) سورة المائدة، الآية: (90).
(5) سورة آل عمران، الآية: (200).
(6) سورة البقرة، الآية: (278).
(7) الشافعي، الرسالة، ت محمد أحمد شاكر، ط دار الفكر، ص (106).
(8) سورة يونس، الآية: (15).
(9) سورة الرعد، الآية: (39).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 67
قال الشافعي: «في قوله تعالي: ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي: بيان ما وضعت من أنه لا ينسخ كتاب اللّه إلا كتابه، كما كان المبتدئ لفرضه، فهو المزيل المثبت لما شاء منه، جل ثناؤه، و لا يكون ذلك لأحد من خلقه» «1». و قال الشافعي: «بعض أهل العلم- في هذه الآية. يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ «2».-
و اللّه أعلم- دلالة علي أن اللّه جعل لرسوله أن يقول من تلقاء نفسه بتوفيقه فيما لم ينزل به كتابا. و اللّه أعلم- و قيل في قوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يمحو فرض ما يشاء، و يثبت فرض ما يشاء» «2».
و بملاحظة قول الشافعي يظهر أنّ بعض أهل العلم قالوا بنسخ القرآن بالسّنة. و لكن الآية الكريمة: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «4».
«فأخبر اللّه أن نسخ القرآن و تأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله» «5».
و السنة ليست مثل الكتاب، و لا أفضل منه ... أما السنة فتنسخها سنة، «و هكذا سنة رسول اللّه: لا ينسخها إلا سنة لرسول اللّه. و لو أحدث اللّه لرسوله في أمر سنّ فيه غير ما سنّ رسول اللّه لسنّ فيما أحدث اللّه إليه، حتي يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها، مما يخالفها.
و هذا مذكور في سنته صلي اللّه عليه و سلّم «6». و بالمحصلة فإن في الناسخ و المنسوخ ما يدل الكتاب علي بعضه، و السنة علي بعضه» «7».
و من رحمة الإسلام بالعباد، و دقة معرفته بطبائع البشر، تدرجه مع الأحداث و المناسبات و الوقائع، كي لا يفجأ الطبائع البشرية، و يطالبها بتغيير أنماط حياتها التي اعتادها لفترة طويلة من الزمن، و هي ليست مهيأة لتغيير كهذا الذي يريده الدين الجديد (الإسلام) ... و عند ما يتتبع الباحث المراحل المتتالية تترا في مكة و المدينة و ما واكبها من قرآن مكي و مدني، يجد الحاجة مسيسة «إلي علم قرآني يلقي الضوء ساطعا علي هذه الخطوات، و يعين علي تتبعها و رسمها بدقة بالغة، و هو علم الناسخ و المنسوخ الذي يمكننا أن نعدّه ضربا من ضروب التدرج في نزول الوحي، فمعرفتنا بما صح من وجوهه يتيسّر (1) الشافعي، الرسالة، ت محمد أحمد شاكر، ص (107).
(2) المصدر نفسه، و الآية من سورة الرعد، الآية: (39).
(4) سورة البقرة، الآية: (106).
(5) الشافعي، الرسالة، ص (107).
(6) المصدر نفسه، ص (108).
(7) المصدر نفسه، ص (113).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 68
علينا تعيين السابق و المسبوق من النوازل القرآنية، و تظهرنا علي جانب من حكمة اللّه في تربية الخلق، و تقفنا علي مصدر القرآن الحقيقي: و هو اللّه رب العالمين، لأنه يمحو ما يشاء و يثبت و يرفع حكما، و يبدل آخر من غير أن يكون لأحد من خلقه عمل في ذلك و لا شأن، حتي و لا خاتم النبيين نفسه» «1».

الناسخ و المنسوخ و كلام أهل العلم فيه:

لمّا كانت كلمة النسخ من المشترك اللفظي، فإنها أوجدت أرضا للاختلاف و السجال الواسع، إذ النسخ يأتي بمعني الإزالة، و منه قوله تعالي: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ «2». و منه: نسخت الشمس الظل، و نسخ الشيب الشباب «3» ...
و جاءت نسخ بمعني التّحويل «كتناسخ المواريث» لأن تناسخ المواريث هو تحويل الميراث من واحد إلي واحد «4». و أتي النسخ بمعني النقل من موضع إلي موضع و منه «نسخت الكتاب» إذا نقلت ما فيه حاكيا للفظه و خطه. و قد أنكر بعض العلماء هذا الوجه الأخير محتجا «بأن الناسخ لا يأتي بلفظ المنسوخ إنما يأتي بلفظ آخر» «5» و احتج السعدي لمن احتج بهذا الفهم بقوله تعالي: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مع قوله: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) «6» و ما أم الكتاب في نظر السعدي- إلا اللوح المحفوظ أو الكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلا المطهرون» فقد أتي ناسخ القرآن فيه بلفظ المنسوخ فيما نزل من الوحي نجوما من أم الكتاب» «7».
و وفقا لما أوردنا من المعاني اللغوية المتعددة لكلمة النسخ، مع تشابكها مع المعني الاصطلاحي دار الجدل بين العلماء غير أن الراجح أن الاستخدام القرآني لكلمة النسخ استعمل بمعني الإزالة، لذا كان تعريف العلماء للنسخ هو «رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي»- هذا التعريف أدق تحديد اصطلاحي لهذه اللفظة، يتناسق في آن واحد مع لسان العرب الذي يري النسخ إزالة و رفعا» «8». (1) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (259).
(2) سورة الحج، الآية: (52).
(3) الزمخشري، أساس البلاغة، مادة: نسخ.
(4) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (260)، و انظر الزركشي في البرهان، (2/ 29).
(5) المصدر نفسه.
(6) الزخرف، الآية: (4).
(7) انظر، الزركشي في البرهان (2)، و انظر الزمخشري في أساس البلاغة.
(8) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (261).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 69
و لا أريد الإسهاب في موضوع الناسخ و المنسوخ حذرا من توجيه البحث توجيها أصوليا. إنما لا بد من الإشارة السريعة لأهمية الناسخ و المنسوخ عند المفسر الدارس للقرآن. لذا أري مناسبا القول: إن أبا مسلم الأصبهاني لم ينكر النسخ جملة و تفصيلا، إنما قال عن بعض الآيات التي جعلها بعضهم منسوخة «إنها مخصّصة» و احتج بقوله تعالي داحضا رأي من قال بالنسخ: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) «1» «و تجنب استخدام كلمة النسخ كي لا يبطل حكما قرآنيا» «2». غير أن العلماء راحوا يفرقون بين النسخ و التخصيص فعرفوا «التخصيص قصر العام علي بعض أفراده» «3».
و الحق أن النسخ يكون في حكم شرعي استقر لفترة طويلة أو مقيدة من الزمن ثم رفع.
و التخصيص يقع بوساطة الحس و العقل إلي جانب الكتاب و السنة، كقوله تعالي: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «4» خصص قوله صلي اللّه عليه و سلّم: «لا قطع إلا في ربع دينار» «5». أما النسخ «فالدليل فيه شرعي محض» ... و يري د. صبحي الصالح رحمه اللّه أن بعضهم قد توسع في النسخ حتي خلط خلطا يجب تجنبه ... و مبالغات لهم في هذا ما يجب أن يلجوها، و تحملات هم في غني عنها «6».
و صفوة القول في الناسخ و المنسوخ:
«إن الأصل في آيات القرآن الإحكام لا النسخ، إلا أن يقوم دليل صريح علي النسخ فلا مفر من الأخذ به. و ما زال المحققون بالآيات التي قيل إنها منسوخة يبحثونها من وجوهها المختلفة حتي حصروا ما يصلح منها لدعوي النسخ في عدد قليل، و تعقب الآخرون هذا القليل نفسه فآثروا في طائفة منه القول بالإحكام علي القول بالنسخ، فالسيوطي مثلا حصر دعوي النسخ في إحدي و عشرين آية علي خلاف في بعضها «7»، ثم استثني منها آيتي الاستئذان و القسمة فذكر أن الأصح فيهما أنهما محكمتان فصارت الآيات المنسوخة في نظره لا تزيد علي تسع عشرة آية» «8».
في حين أن د. صبحي الصالح يقول: «و لو لا خشية الاستطراد لتعقبناها فوجدنا (1) سورة فصلت، الآية: (42).
(2) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (262).
(3) المصدر نفسه.
(4) سورة المائدة، الآية: (38).
(5) انظر د. صبحي الصالح في مباحث في علوم القرآن، ص (263).
(6) راجع د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (266، 267).
(7) السيوطي، الإتقان، (2/ 37، 38).
(8) المصدر السابق نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 70
الصالح منها للنسخ لا يزيد علي عشر فقط بيد أننا نفضّل أن نحيل القارئ علي ما ذكره السيوطي لعله يكتشف من تلقاء نفسه» «1». و يقيني أن ما يقوله د. صبحي الصالح قريب جدا من الصواب أو هو الصواب. لأنه «لا يمكن تصور النسخ إلا في حالات محدودة حيث يبرز النسخ حقيقة لا يمكن إنكارها كما في حالات نسخ التلاوة، و هذا نسخ حقيقي لا مجال لإنكاره» «2» نعم هذا ما قاله محمد فاروق النبهان صحيح- لكن قوله بنسخ التلاوة حالة لا يمكن إنكارها: نكرها البعض و له فيها توجيه غير هين و لا سهل، إذ الأخبار الواردة بنسخ التلاوة أخبار آحاد، و أخبار الآحاد لا تثبت قرآنا أصلا. أما قول محمد فاروق النبهان «و هناك نسخ حكم سابق بحكم لاحق إذا تعذّر الجمع بين الحكمين» «3» فهو صحيح. و صحيح قوله أيضا: «و لا أظنّ أن توسيع دائرة النسخ في القرآن من الأمور المطلوبة، فالأصل أن يكون كل ما في القرآن خطابا للمكلفين إلا ما ثبت نسخ حكمه» «4».
و من الأهمية القول إن كثيرا من السجالات الحادة حول الناسخ و المنسوخ مردّها إلي علم الكلام الذي ولّد نقاشا في هذا الموضوع و في غيره، دون أن يقدم لنا فائدة تذكر علي الأقل في موضوع النسخ.
و إن كان من كلمة خاتمة في هذا الموضوع: «فإن النسخ موجود لكنه قليل، ... و إن النسخ لا يقع إلا في الأوامر و النواهي، لأنه رفع لحكم شرعي بدليل شرعي ... و أما الأخبار و الغيبيات فلا يتصور وقوع النسخ فيها، لانعدام الفائدة، و عليه لا نسخ في قضايا الإيمان و العقيدة، و حوارات القرآن للمشركين و المخالفين، و من أدخلها في النسخ فقرأ و أدخل فيه ما ليس منه.

علم المحكم و المتشابه:

القرآن الكريم كتاب محكم كلّه، و متشابه كلّه، إذا أردنا بالإحكام إتقانه و صفته اللفظية و المعنوية، و أردنا بالتشابه تشابهه بإحكامه المتقن، و صفته البديعة، و بلاغته الفريدة.
و جاءت كرائم الآيات مؤكدة لهذه المعاني، قال تعالي: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «5»، و قال تعالي: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «6» لذا يمكن (1) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (274).
(2) محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، ص (209).
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) سورة هود، الآية: (1).
(6) سورة الزمر، الآية: (23).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 71
القول: إن بحث المحكم و المتشابه الذي نريده لا علاقة له بهذين النصين إنما المحكم و المتشابه له علاقة بالنص القرآني: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7) «1».
و واضح علاقة المقابلة في هذه الآية الكريمة بين المحكم و المتشابه، و بين الراسخين في العلم و الزائفة قلوبهم و عرّف بعضهم المحكم: «ما أحكمته بالأمر و النهي و بيان الحلال و الحرام» «2». و قيل هو مثل قوله تعالي: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ «3». و قيل في المحكم «هو ما لا يحتمل في التأويل إلا وجها واحدا» «4».
و أما المتشابه فأصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني، كما قال تعالي في وصف ثمار الجنة: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً «5» أي متفق المناظر مختلف الطعوم، و يقال للغامض متشابه ... و المتشابه مثل المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره و شاكله و قيل فيه أقوال أكتفي بذكر بعضها: هو الذي يشبه بعضه بعضا «6» ...
و قيل هو: ما أمرت أن تؤمن به، و تكل علمه إلي عالمه «7».
و قيل هو: ما لا يدري إلا بالتأويل. و لا بد من صرفه إليه كقوله تعالي: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا «8» و قيل هو: «ما يحتمل وجوها، و المحكم ما يحتمل وجها واحدا». و قال بعضهم:
«المتشابه: ما لا يستقل بنفسه إلا بردّه إلي غيره» «9» و يلاحظ أن كل هذه الأقوال متقاربة.

خلاصة في المحكم و المتشابه:

قال تعالي: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «10». ثم (1) سورة آل عمران، الآية: (7).
(2) الزركشي، البرهان، (2/ 68).
(3) سورة البقرة، الآية: (43).
(4) الزركشي البرهان، (2/ 69).
(5) سورة البقرة، الآية: (25).
(6) الزركشي، البرهان، (2/ 69).
(7) المصدر نفسه.
(8) سورة القمر، الآية: (14).
(9) الزركشي، البرهان، (2/ 70).
(10) سورة النحل، الآية: (44).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 72
قال: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) «1». و البيان علي لسان رسوله فالذكر في الآية السابقة سنة رسوله صلي اللّه عليه و سلّم. ثم يكون البيان من خلال الراسخين بالعلم.
و المتشابه سمي كذلك لتداخل المعاني المتضمنة فيه «لأن المعاني إذا دقّت تداخلت، و اشتبهت علي من لا علم له بها، كالأشجار إذا تقارب بعضها من بعض تداخلت أمثالها و اشتبهت؛ أي من لم يمعن النظر في البحث عن منبعث كلّ فن منها، قال تعالي:* وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) «2»، و هو علي اشتباكه غير متشابه، و كذلك سياق معاني القرآن العزيز قد تتقارب المعاني و يتقدم الخطاب بعضه علي بعض، و يتأخر بعضه عن بعض؛ لحكمة اللّه في ترتيب الخطاب و الوجود، فتشتبك المعاني، و تشكل إلا علي أولي الألباب، فيقال في هذا الفن متشابه بعضه ببعض. و أما المتشابه من القرآن العزيز فهو يشابه بعضه بعضا في الحق و الصدق و الإعجاز و البشارة و النذارة و كل ما جاء به و أنه من عند اللّه، فذمّ سبحانه الذين يتبعون ما تشابه منه عليهم افتتانا و تضليلا منهم بذلك يتبعون ما تشابه عليهم تناصرا و تعاضدا للفتنة و الإضلال» «3».
من هذا يظهر «أن المحكم يغنينا عن البحث عنه لأن قراءتنا له كافية لإفهامنا المراد منه».
و خفاء المتشابه جدير أن يشغلنا بنص الشي‌ء، لكي نعرفه، ثم نجتنبه فلا نتبعه كالذين في قلوبهم زيغ علما «أن أكثر العلماء يذهبون إلي أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا اللّه و يوجبون في الآية الوقف علي اسم الجلالة» «4»، و هذه القراءة معتبرة، متواترة.
أما الراسخون بالعلم فقد انتهي علمهم بتأويل القرآن إلي أن قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا «5». غير أن عالما كبيرا مثل أبي الحسن الأشعري كان يري «الوقوف عند وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فهم علي ذلك يعلمون تأويل المتشابه» «6».
و انتصر أبو إسحاق الشيرازي لفهم الأشعري أبي الحسن، «ليس شي‌ء استأثر اللّه (1) سورة القيامة، الآية: (19).
(2) سورة الأنعام، الآية: (141).
(3) الزركشي، البرهان، (2/ 70- 71).
(4) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص 282.
(5) سورة آل عمران، الآية: (7).
(6) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (282).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 73
بعلمه، بل وقف العلماء عليه، لأن اللّه تعالي أورد هذا مدحا للعلماء، فلو كانوا لا يعرفون معناه لشاركوا العامة» «1».

رأي أبي الراغب الأصفهاني:

كان أبو الراغب الأصفهاني القارئ الدارس المدقق في الكتاب الكريم يقف موقفا وسطا، فقسم المتشابه إلي ثلاثة أضرب: «ضرب لا سبيل إلي الوقوف عليه، كوقت الساعة، و خروج الدابة، و نحو ذلك، و ضرب للإنسان أسباب إلي معرفته كالألفاظ الغريبة، و الأحكام المغلقة. و ضرب متردّد بين الأمرين يختص به بعض الراسخين في العلم و يخفي علي من دونهم. و هو المشار إليه بقوله صلي اللّه عليه و سلّم لابن عباس: «اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل» «2».
و يظهر أن اعتدالا واضحا في موقف الراغب من المحكم و المتشابه: «فذات اللّه و حقائق صفاته من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا اللّه، قال تعالي: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) «3».
و أما فواتح السور فقد بقيت من المتشابه المستغلق المعني، و كانت آراء العلماء تتناول «حكمة وجودها لا جوهر معناها ... و الآيات المشكلة الواردة في صفات اللّه تعالي كقوله: الرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوي (5) «4» هي أهم ما يتعلق بهذا الضرب من المتشابه الذي لا سبيل لأحد من البشر إلي الوقوف عليه، و قد أفردها ابن اللبان بكتاب سمّاه «رد المتشابهات إلي الآيات المحكمات» «5».
و قد ذكر الرازي الحكمة من متشابه الصفات، فقال: «إن القرآن يشتمل علي دعوة الخواص و العوام، و طبائع العوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم و لا متحيز، و لا مشار إليه، ظن أن هذا عدم و نفي محض، فيقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة علي بعض ما يناسب ما تخيلوه، و ما توهموه، و يكون ذلك مخلوطا بما يدل علي الحق الصريح، فالقسم الأول: و هو الذي يخاطبون به في أول الأمر- من باب المتشابه- و القسم الثاني: و هو (1) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (282).
(2) السيوطي، الإتقان، (2/ 7، 8).
(3) سورة لقمان، الآية: (34).
(4) سورة طه، الآية: (5).
(5) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (283).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 74
الذي يكشف عن الحق الصريح و هو المحكم» «1».
و الحكمة من المتشابه إقامة الحجة للإنسان علي عجزه و جهالته، و الابتلاء و الاختبار لصفاء العقول و إخلاص النفوس، و المحكم و المتشابه يدفع العالم إلي تحصيل العلوم الكثيرة لفهمه «2».

و للعلماء في متشابه الصفات مذهبان:

«الأول: مذهب السلف: و هو الإيمان بهذه المتشابهات، و تفويض معرفتها إلي اللّه تعالي. سئل الإمام مالك عن الاستواء فقال: «الاستواء معلوم و الكيف مجهول، و السؤال عنه بدعة، و أظنك رجل سوء، أخرجوه عني».
و الثاني: مذهب الخلف، و هو حمل اللفظ الذي يستحيل ظاهره علي معني يليق بذات اللّه، و ينسب هذا المذهب إلي إمام الحرمين «3»، و جماعة من المتأخرين» «4».

نماذج من الآيات القرآنية لتوضيح المذهبين من المتشابه:

قال تعالي: الرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوي (5) «5» وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) «6». وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «7». يا حَسْرَتي عَلي ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «8». وَ يَبْقي وَجْهُ رَبِّكَ «9» يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «10». وَ لِتُصْنَعَ عَلي عَيْنِي «11». وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «12». (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (2/ 324).
(2) و هناك حكم أخري، راجعها في مناهل العرفان للزرقاني (1/ 325) و ما بعدها.
(3) إمام الحرمين: هو عبد الملك بن أبي عبد اللّه بن يوسف بن محمد الجويني الشافعي، العراقي، أبو المعالي، كان شيخ الغزالي، من أعلم أصحاب الشافعي، ت (478 ه).
(4) د. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص (284).
(5) سورة طه، الآية: (5).
(6) سورة الفجر، الآية: (22).
(7) سورة الأنعام، الآية: (18).
(8) سورة الزمر، الآية: (56).
(9) سورة الرحمن، الآية: (27).
(10) سورة الفتح، الآية: (10).
(11) سورة طه، الآية: (39).
(12) سورة آل عمران، الآية: (28).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 75

المعالجة و المناقشة:

«يتفق الجميع من سلف و خلف علي أن ظاهر الاستواء علي العرش هو الجلوس عليه مع التمكن و التميّز، مستحيل لأن الأدلة القاطعة تنزه اللّه عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلي شي‌ء منه، سواء أ كان مكانا يحلّ منه أم غيره، و كذلك اتفق السلف و الخلف علي أن هذا الظاهر غير مراد للّه قطعا، لأنه تعالي نفي عن نفسه المماثلة لخلقه، و أثبت لنفسه الغني عنهم، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ «1» و قال: هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «2». فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضا «3».
و علي كل حال منهج السلف يقوم علي تنزيه اللّه عن هذه الظواهر المستحيلة، و يؤمنون بها بالغيب كما ذكرها اللّه، و يفوضون علم حقائقها إليه، أما الخلف فيحملون الاستواء علي العلو المعنوي بالتدبير من غير معاناة، و مجي‌ء اللّه علي مجي‌ء أمره، و فوقيته علي العلو لا في جهة، و جنبه علي حقه، و وجهه علي ذاته و عينه علي عنايته، و يده علي قدرته، و نفسه علي عفويته، و هكذا يؤولون كل ما ورد من رضي اللّه و حبه و سخطه، و حيائه، بحملها علي أقرب مجاز، و يقولون لا يراد من هذه الألفاظ إلا لازمها «4».
و لا بد في الختام من القول: إنّ مسألة المحكم و المتشابه قد سعّرت نار حرب ثقافية و عقيدية بين متكلمين و محدثين، و سلف و خلف، و الواقع لو أن العقول بحثت الأمر بأناة و وعي و تقي بعيدا عن نار العصبية لعذر كلّ فريق الآخر، لأن النصوص محتملة، و لو لا الاحتمال لكانت محكمة قاطعة، و لما جاز الخلاف في فهمهما ... و قد ذكرت الحكمة من وجود المحتمل المتشابه في القرآن ... و هذا لا يمنع من ترجيح رأي علي آخر وفق أدوات الترجيح المعتبرة ... لذا كان علم المحكم و المتشابه، واحدا من العلوم التي ينبغي للمفسر أن يكون عالما به كي يكون فهمه أقرب للسداد. (1) سورة الشوري، الآية: (11).
(2) سورة فاطر، الآية: (15).
(3) الزرقاني، مناهل العرفان، (2/ 333).
(4) انظر السيوطي في الإتقان، (2/ 12).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 77

الفصل الرابع التفسير و التأويل‌

اشارة

- معني التفسير لغة، و اصطلاحا.
- التفسير في زمن النبي صلي اللّه عليه و سلّم و صحابته الكرام.
- النبي صلي اللّه عليه و سلّم و فهمه للقرآن الكريم.
- تفاوت الصحابة في فهمهم القرآن.
- السنة المفسّرة للقرآن الكريم.
- مناقشة آراء الفريقين.
- التفسير في عهد الصحابة.
- وسائل الاجتهاد في التفسير عند الصحابة.
- التفسير في عهد التابعين.
- طبقة التابعين من أهل المدينة.
- طبقة أهل العراق.
- ترجمة القرآن الكريم.
- رأي الشاطبي في ترجمة القرآن.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 79

التفسير و التأويل‌

بديهي أن لكل خطاب غاية، و إذا انعدمت الغايات أصبحت الأفعال عبثا، و لونا من ألوان اللهو غير المبرر، و الخطاب يبغي غاية من مخاطبه و هي غاية الإفهام و البيان كي يغرس في المخاطبين مفهوما، و ينتزع منهم آخر ... قال تعالي: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ «1»، .. و علة الإرسال بلسان القوم كي يبلغ القوم الفهم المراد من الخطاب.
و علي ذلك فإن المعجزات التي أيّد اللّه تعالي رسله كانت من جنس السائد من العلوم أو المعارف التي يمتلكها قومهم، و إلّا لم تكن هذه المعجزات كافية لإثبات دعوي الرسالة لدي هؤلاء القوم المخاطبين ... فكانت دعوة موسي مؤيّدة بمعجزة العصا التي أكلت ثعابين السحرة، لتشكل خارقة قاطعة، و برهانا بيّنا لكل ذي بصيرة علي صحة ادعائه النبوة، و إحياء عيسي للموتي و إبرائه الأكمه و الأبرص شكلت معجزات و براهين قاطعة علي صحة ادعائه الرسالة و النبوة في وسط اجتماعي تقدم فيه علم الطب ...
تأسيسا علي ذلك، و انسجاما مع نهج الرسل السابقين، كانت معجزة الرسول محمد صلي اللّه عليه و سلّم مناسبة لما كان سائدا في قومه من معارف، إذ كانت اللغة بلغت مرتبة عالية من صحة البيان و بلاغة الأداء، و فصاحة العبارة ... فكان القرآن الكريم الكتاب المعجزة، المنزل بلغة العرب و أساليبها التي تمكنوا منها أحسن التمكن ... جاء القرآن متحديا لهم مخاطبا إياهم بلسانهم: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) «2» يظهر من النص السابق أن القرآن نزل بلغة العرب كي يفهمه العرب، و كي تقوم الحجة عليهم بعجزهم علي أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور أو بسورة، ... و عند ما (1) سورة إبراهيم، الآية: (4).
(2) سورة يوسف، الآيتان: (1، 2).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 80
ينزل القرآن بلسانهم مع تمكنهم من البيان، و سيطرتهم علي اللغة، متحديا أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور أو بسورة. فهذا ذروة التحدي، و هذا قمة الإعجاز.
و لكن معترضا يقول: «ما ذا يتغير فيما لو نزل القرآن بغير لغة العرب؟ فالكلام نفسه قد يقال. و نرد علي المعترض قوله من وجهين:
الوجه الأول: من القرآن الكريم نفسه حيث يقول تعالي: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ «1». و كأني بالقرآن- و هو كلام اللّه، و من أصدق من اللّه قيلا- ينفي عن غير العربية، أيا كانت تلك اللغة قدرتها علي تحمل الأمانة التي أشرنا إليها سابقا، بدليل أن اللسان الأعجمي و بتقرير القرآن نفسه لا يستطيع التفصيل بينما أسند ذلك التفصيل للغة العرب، و ما ظاهرة الإعجاز بكل صورها اللغوية و البيانية إلا دليل علي صحة ما نذهب إليه.
و الوجه الثاني: ما قرره علماء اللغات و الألسنيون من أن لغة العرب من أكثر اللغات العالمية اتساعا في التعبير و أقدرها علي التعامل مع المعاني، و أساليب التعبير ففيها خير شاهد علي ذلك ... من من اللغات حوي أو تعامل في أساليب التعبير بالمنطق نفسه الذي تعاملت به لغة العرب من مجاز و حقيقة، و تشبيه و كناية، و استعارة، و تقديم و تأخير و فصل و وصل و حذف و مضاف و تنوين و بناء، و استخدام الضمائر المنفصلة و المتصلة، المرفوعة منها و المنصوبة، فضلا عن النعت و الحال و التمييز، و عوامل الإعراب ...؟
الخ» «2».
و مع التقدم المدني، و اتساع الساحة العلمية و امتلائها بالغث و السمين، و الخوض بالتفسير من قبل المسلمين و غيرهم، يكون لزاما و علي نحو مستمر جلاء الأفهام، و إزاحة اللثام حول ما يجب أن يكون عليه التفسير و التأويل المتعلق بكتاب اللّه الكريم (القرآن).

معني التفسير لغة، و اصطلاحا:

لقد أوردت اللغة عددا من المعاني لكلمة «تفسير» و ذلك حسب السياقات أو الشي‌ء الذي من أجله وضع اللفظ.
ورد في لسان العرب «الفسر البيان، فسر الشي‌ء يفسره بالضم و الكسر فسرا، و فسّره: (1) سورة فصلت، الآية: (3).
(2) كامل موسي و علي دحروج، كيف نفهم القرآن، ط، بيروت، (1412 ه- 1992 م)، ص (58، 59).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 81
أبانه، و التفسير مثله أي الإبانة، و قوله عزّ و جل: «و أحسن تفسيرا» الفسر كشف المغطّي، و التفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل» «1».
قال ابن فارس: «فسر» الفاء و السين و الراء كلمة واحدة تدل علي بيان شي‌ء و إيضاحه، من ذلك الفسر، يقال فسرت الشي‌ء، و فسّرته، و الفسر و التّفسرة: نظر الطبيب إلي الماء و حكمه فيه» «2». من هذا يبدو أن اللغة أرادت بالتفسير: الكشف عن المغطّي الحسي و المعنوي ... و قد اشتهر لفظ التفسير مقرونا بالقرآن حتي أصبح التفسير علما و فنا إذا أطلق كأن تقول: «اقرأ في التفسير» فيفهم منك أن تقرأ كتابا كاشفا لمعاني الكلمات أو التراكيب القرآنية.

التفسير في الاصطلاح:

تعددت التعاريف الاصطلاحية لتفسير القرآن الكريم، و هذا التعدد و الاختلاف في التعاريف يرجع إلي الأسس التي انطلق منها كل تعريف «فيري بعض العلماء أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد، لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن أن تشبه العلوم العقلية» «3» و يري بعضهم «أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد فيتكلف له التعريف، فيذكر علوما أخري يحتاج إليها في فهم القرآن، كاللغة و الصرف و النحو و القراءات و غير ذلك» «4».
و الحق إن التعاريف كثيرة مشتركة متداخلة، منها ما ذكره الزركشي «هو علم نزول الآية و سورتها و أقاصيصها، و الإشارات النازلة فيه، ثم ترتيب مكيها و مدنيها، و محكمها و متشابهها، و ناسخها، و منسوخها، و خاصها و عامها، و مطلقها و مقيدها، و مجملها و مفسّرها» «5».
و لعل التعريف الذي نقله السيوطي عن أبي حيان أشمل التعاريف و أحسنها فالتفسير:
«علم يبحث عن كيفية النطق بالقرآن و مدلولاتها، و أحكامها الإفرادية و التركيبية، و معانيها (1) ابن منظور، لسان العرب، فسر، (5/ 55)، ط، دار صادر.
(2) ابن فارس، مقاييس اللغة، (4/ 504)، مادة «فسر». ط (1)، دار الجيل، (1411 ه- 1991 م).
(3) كامل موسي و علي دحروج، كيف نفهم القرآن: دراسة في المذاهب التفسيرية و اتجاهاتها، ص (61).
(4) المصدر نفسه.
(5) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، (2/ 148).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 82
التي تحمل عليها حالة التركيب، و تتمات ذلك» «1». و عرّفه الزركشي بأنه علم: يفهم به كتاب اللّه المنزل علي نبيه محمد صلي اللّه عليه و سلّم و بيان معانيه، و استخراج أحكامه و حكمه» «2».
و نقل السيوطي في التحبير تعريفا آخر عزاه إلي أبي حيان و هو «علم يبحث فيه عن أحوال القرآن العزيز من حيث دلالته علي مراده بحسب الطاقة البشرية» و يتناول التفسير ما يتعلق بالرواية و التأويل، أي ما يتعلق بالدراية» «3» ..
ناقش محمد حسين الذهبي هذا التعريف بقوله: «و الناظر لأول وهلة في هذين التفريقين الأخيرين يظن أن علم القراءات، و علم الرسم لا يدخلان في علم التفسير، و الحق أنهما داخلان فيه؛ و ذلك لأن المعني يختلف باختلاف القراءات و القراءتين، كقراءة وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20) «4»، بضم الميم و إسكان اللام، فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ مُلْكاً كَبِيراً بفتح الميم و كسر اللام. و كقراءة حَتَّي يَطْهُرْنَ بالتسكين فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ (يطّهّرن) «5» بالتشديد كما أن المعني يختلف أيضا باختلاف الرسم القرآني في المصحف، فمثلا قوله تعالي: يَمْشِي سَوِيًّا «6» بوصل (أمّن)، يغاير في المعني أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا «7» بفصلها فإن المعني تفيد بل دون الموصولة» «8».
و علي كل حال فإن التعاريف عامة تتفق أن علم التفسير يبحث عن مراد اللّه تعالي بعد بذل الوسع من البشر الذين توفرت فيهم الأهلية لفهم مراد اللّه سبحانه.

التفسير في زمن النبي صلي اللّه عليه و سلّم و صحابته الكرام‌

تمهيد:

العرب أمة أمية لا تقرأ و لا تحسب، و القرآن نزل بلغتهم، و الشعر كان منتشرا بينهم، و الأمثال يتداولونها مستقاة من تجاربهم في الحياة. (1) السيوطي، التحبير في علم التفسير، ص (37، 38).
(2) السيوطي، الإتقان، (2/ 174).
(3) السيوطي، التحبير في علم التفسير، ص (37).
(4) سورة الإنسان، الآية: (4).
(5) سورة البقرة، الآية: (222).
(6) سورة تبارك، الآية: (22).
(7) سورة النساء، الآية: (109).
(8) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (2/ 15)، ط إحياء التراث العربي.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 83
و كلامهم في أصله يشتمل علي الحقيقة و المجاز، و التشبيه و الاستعارة، و الكناية، و التصريح و الإطناب و الإيجاز ... و معجزة سيدنا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم مثل باقي المعجزات جاءت مناسبة لحال العرب (القوم الذين خاطبهم القرآن، بلغتهم: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) «1».
و ما قيل من أن القرآن حوي ألفاظا أو كلمات ليست عربية فهذا إن وجد فهو قليل من جهة و من جهة أخري فإن هذا الكلام القليل أصبح عربيا بحكم الاستعمال، و لأنه جري علي سنن لغة العرب. علي ما قاله ابن فارس ما كان من الكلام علي سنن العرب فهو من كلام العرب و إن لم تقله العرب.

النبي صلي اللّه عليه و سلّم و فهمه للقرآن الكريم:

النبي واحد من العرب، تنزّل عليه القرآن بلغته (التي هي لغة قومه العرب): و لما كان هذا الكتاب معجزة للنبي صلي اللّه عليه و سلّم و حجة له علي غيره يصدق ادعائه الرسالة و النبوة فكان «طبيعيا أن يفهم النبيّ صلي اللّه عليه و سلّم القرآن جملة و تفصيلا، بعد أن تكفّل اللّه تعالي له بالحفظ و البيان إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «2» ... كما كان طبيعيا أن يفهم أصحاب النبي صلي اللّه عليه و سلّم القرآن في جملته، أي بالنسبة لظاهره و أحكامه، أما فهمه تفصيلا و معرفة دقائق باطنه، بحيث لا يغيب عنهم شاردة، و لا واردة، فهذا غير ميسور بمجرد معرفتهم للغة القرآن، بل لا بد لهم من البحث و النظر، و الرجوع إلي النبي صلي اللّه عليه و سلّم فيما يشكل عليهم فهمه! و ذلك لأن القرآن فيه المجمل و المشكل و المتشابه، و غير ذلك مما لا بد من معرفته من أمور أخري يرجع إليها» «3». صحيح إن الصحابة كانوا يفهمون الكثير من القرآن، و لكنه كان يشكل عند بعضهم فحادثة وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ «4» أحد الشواهد علي ذلك، ثم إن بعض آيات القرآن عامة بحاجة إلي تخصيص، لذا فإن سؤال الصحابة النبيّ صلي اللّه عليه و سلّم كان يكشف لهم عن التخصيص، و عن بيان المجمل، و توضيح المشكل، و المتشابه و غير ذلك ... في حين كان النبي مسددا بالوحي بتبليغ نصّ القرآن، و فهمه القرآن، لذا كان النبي صلي اللّه عليه و سلم محيطا بكل تفسير و فهم للقرآن في محكمه و متشابهه، و عامه و خاصه، و محكمه و متشابهه ... الخ، لأن اللّه تعالي اختصه بالرسالة و عليه أن يبلغها الناس فآتاه اللّه (1) سورة إبراهيم، الآية: (4).
(2) سورة القيامة، الآيات: (17- 19).
(3) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (1/ 33).
(4) سورة البقرة، الآية: (187).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 84
القرآن و فهمه، لذا كان كلام رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم في تفسيره القرآن، أو تخصيصه لعامه، أو تقييده لمطلقه من الدين و حجة علي العباد، إن لم يعملوا فيه كانوا مخالفين لهدي اللّه و رسوله.

تفاوت الصحابة في فهمهم القرآن:

صحيح أن جيل الصحابة الكرام مشهود له علي العموم بالخيرية المطلقة، خيرية الاستقامة علي الدين، و الخيرية في فهم الدين، بيد أن الباحث في تاريخ الصحابة رضي اللّه عنهم يجد تفاوتا بين هذا الصحابي و ذاك في فهم معاني القرآن. بل قد يكون هذا النص غامضا أو تلك الكلمة من النص غامضة يغيب عنه معناها و فهمها، و يبين أحدهم له. و السبب أن الصحابي الواحد قد تغيب عنه مفردة من مفردات العربية الكثيرة العدد، غير أن العربية بمفرداتها جميعا لا تغيب عن مجموع العرب من الصحابة الفطناء، أما مجموع العربية فقد تغيب عن الصحابي الواحد.
أخرج أبو عبيدة في الفضائل عن أنس، أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قرأ علي المنبر وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (31) «1» فقال: «هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟» ثم رجع إلي نفسه، فقال: «إن هذا لهو التكلف يا عمر» «2». و ما روي من أن عمر كان علي المنبر فقرأ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلي تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) «3» ثم سأل عن معني التخوّف، فقال له رجل من هذيل: التخوّف عندنا التنقص، ثم أنشده:
تخوّف الرحل منها تامكا قردا كما تخوّف عود النبعة السّفن «4»
عندئذ قال عمر مقولته المشهورة المذكّرة المنبّهة لأهمية حفظ أشعار العرب لفهم الكتاب الكريم: «أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم» «5».
و ما أخرجه أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات حتي أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، و الآخر يقول: أنا ابتدأتها» «6». (1) سورة عبس، الآية: (31).
(2) الشاطبي، الموافقات، (2/ 87).
(3) سورة النحل، الآية: (47).
(4) الشاطبي، الموافقات، (2/ 87، 88). و التامك: السنام. القرد: الذي تجعّد شعره، فكان كأنّه وقاية للسنام. النبع: شجر للقسي و السهام. و السفن: كل ما ينحت به غيره.
(5) الشاطبي، الموافقات، (2/ 88).
(6) السيوطي، الإتقان، (2/ 113).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 85
من هذا يظهر أن الصحابة رضوان اللّه عليهم لم يكونوا علي سويّة واحدة في فهم القرآن و بيان معانيه، «فقد كانوا يتفاوتون في العلم بلغتهم فمنهم من كان واسع الاطلاع فيها ملما بغريبها، و منهم دون ذلك، و منهم من كان يلازم النبي صلي اللّه عليه و سلّم فيعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه غيره. أضف إلي هذا و ذاك أن الصحابة لم يكونوا في درجتهم العلمية و مواهبهم العقلية سواء، بل كانوا مختلفين في ذلك اختلافا عظيما» «1».
هذا إذا تذكرنا أن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم كان يعلّم الصحابة التلاوة و الفهم و يوجّه فهمهم و يصحح إدراكهم لدلالات القرآن و مقاصده «و كان النبي صلي اللّه عليه و سلّم يبيّن المجمل، و يميّز الناسخ من المنسوخ، و يعرّفه أصحابه فعرفوه، و عرفوا سبب نزول الآيات، و مقتضي الحال منها منقولا عنه». و في هذا بيان أن معرفة اللغة العربية ليست كافية لمعرفة معاني القرآن الكريم، بل كانوا محتاجين إلي توجيه الرسول صلي اللّه عليه و سلّم لفهومهم.
و يمكننا أن نوجز القول: إن تفسير القرآن في عهد الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و الصحابة كان يستمد مصادره من:
1- القرآن الكريم: أي ما ورد من آيات القرآن المفسّرة لآيات أخري، لأن القرآن الكريم قد يجمل في مكان و يبيّن في مكان آخر، و ما جاء مطلقا قد يقيد في مكان ثان، و ما كان عاما قد يخصص في آية أخري و هكذا. و لنتمعّن بعض الأمثلة.
قال تعالي في سورة العنكبوت: الم (1) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) «2» ... و المعني أن الناس لا يتركون دون فتنة: أي ابتلاء و اختبار لأجل قولهم آمنّا بل إذا قالوا: آمنّا فتنوا: أي امتحنوا و اختبروا بأنواع الابتلاء، حتي يتبين بذلك الابتلاء الصادق في قوله آمنا من غير الصادق.
يقول الشنقيطي: «و هذا المعني الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر من كتاب اللّه كقوله تعالي: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّي يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتي نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) «3» و قوله تعالي: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) «4». و هناك آيات أخر استشهد بها الشنقيطي علي أنها آيات (1) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون (1/ 36).
(2) سورة العنكبوت، الآيتان: (1، 2).
(3) سورة البقرة، الآية: (214).
(4) سورة آل عمران، الآية: (142).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 86
موضحة لآية العنكبوت «1».
و من ذلك قوله تعالي: فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «2» فسرتها الآية في سورة الأعراف: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) «3».
و من تفسير القرآن حمل المطلق علي المقيد، «ما نقله الغزالي عن أكثر الشافعية من حمل المطلق علي المقيد في صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب، و مثل له بآية الوضوء و التيمم، فإن الأيدي مقيدة في الوضوء بالغاية في قوله تعالي: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ «4» و مطلقة في التيمم في قوله تعالي في الآية نفسها: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ فقيدت بالتيمم بالمرافق أيضا «5».
و من الأدلة علي تفسير القرآن حمل العام علي الخاص:
قال تعالي: حافِظُوا عَلَي الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطي «6» فالصلاة الوسطي مخصصة من عموم الصلاة علي رأي من قال بهذا الرأي.
من تفسير القرآن بالقرآن الجمع بين ما يتوهّم أنه متعارض أو متناقض «كخلق آدم من تراب في بعض الآيات، و من طين في غيرها، و من حمأ مسنون، و من صلصال، فإن هذا ذكر للأطوار التي مر بها آدم من مبدأ خلقه إلي نفخ الروح فيه.
و من تفسير القرآن بالقرآن حمل بعض القراءات علي غيرها، فبعض القراءات تختلف مع غيرها في اللفظ و تتفق في المعني، فقراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه «أو يكون لك بيت من ذهب» تفسر لفظ الزخرف في القراءة المشهورة أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ «7».
كذلك فإن إحدي القراءات تساعد علي فهم قراءة أخري و ذلك مثل قوله تعالي في آية اختلف اللفظ و اتفق المعني: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) «8». فسرتها القراءة الأخري: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلي ذكر اللّه) لأن السعي عبارة (1) الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، (4/ 229). بيروت، دار إحياء التراث، ط (1996).
(2) سورة البقرة، الآية: (37).
(3) سورة الأعراف، الآية: (23). انظر التفسير و المفسرون لمحمد حسين الذهبي، (1/ 38).
(4) سورة المائدة، الآية: (6).
(5) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (1/ 38، 39).
(6) سورة البقرة، الآية: (238).
(7) سورة الإسراء، الآية: (93).
(8) سورة الجمعة، الآية: (9).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 87
عن المشي السريع، و هو و إن كان ظاهر اللفظ إلا أن المراد منه مجرد الذهاب» «1».

المصدر الثاني لتفسير القرآن: النبي صلي اللّه عليه و سلّم:

من المعلوم أن القرآن تنزل علي الرسول محمد صلي اللّه عليه و سلّم من اللّه تعالي، و أوحي إلي رسوله فهم القرآن، لذا فإن الصحابي «إذا أشكلت عليه آية من كتاب اللّه، رجع إلي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم في تفسيرها فيبين له ما خفي عليه، لأن وظيفته البيان كما أخبر اللّه بذلك في كتابه حيث قال: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «2»، و كما نبه علي ذلك رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فيما رواه أبو داود بسنده أن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب و مثله معه، لا يوشك رجل شبعان علي أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، و ما وجدتم فيه من حرام فحرموه ...» «3».
كما أن السنة النبوية حفلت بالكثير من النصوص النبوية المفسّرة لبعض آي القرآن مثل: ما رواه الترمذي و ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم:
«صلاة الوسطي صلاة العصر» «4».
و أخرج البخاري عن ابن مسعود قال: «لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك علي الناس فقالوا: يا رسول اللّه، و أيّنا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون، أ لم تسمعوا ما قال العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «5»؟ إنما هو الشرك» «6».
و من المناسب التنويه، أن السنة المفسّرة وضع فيها ما ليس منها، مثل ما أصاب الأحاديث الأخري، و قد فصل العلماء ذلك، و ردّ المحدثون الروايات الكاذبة، و أشاروا إلي الصحيحة منها، و هذا معروف في صحاح السنة.
و يمكن القول: إن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم بيّن للصحابة ما أشكل عليهم فهمه لأنه مبلّغ معلم، و وظيفته البيان، علما أن العرب كانت بوجه عام تعرف معاني القرآن، الذي نزل بلغتها و هذا لا يعني أن يوجد إشكال في بعض الأخبار حول المراد من آية من هذه الآيات- و واضح من الأمثلة السابقة أن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم أرشد إلي الآيات المفسرة إلي آيات أخري. (1) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، ج 1، ص (40).
(2) سورة النحل، الآية: (44).
(3) أخرجه أبو داود في (الحديث: 4436).
(4) أخرجه مسلم في (الحديث: 1425)، و أخرجه الترمذي في (الحديث: 181).
(5) سورة لقمان، الآية: (13).
(6) أخرجه البخاري في (الحديث: 4776).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 88

السنة المفسّرة للقرآن الكريم:

لقد سقنا سابقا بيان الرسول صلي اللّه عليه و سلّم في تحديده الصلاة الوسطي، فقال في الصلاة الوسطي صلاة العصر.
و من السنة المفسّرة لقوله تعالي: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثي وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ «1» هو ما أخرجه البخاري بإسناده عن ابن عمر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه: لا يعلم ما في غد إلا اللّه، و لا يعلم ما يغيض في الأرحام إلا اللّه، و لا يعلم متي يأتي المطر إلا اللّه، و لا تدري نفس بأي أرض تموت و لا يعلم متي تقوم الساعة إلا اللّه» «2».
و يلاحظ من هذه البيانات النبوية أن السنة جاءت مفسرة للقرآن إذا بينت المقصود بالصلاة الوسطي، و أرشدت إلي المقصود من قوله تعالي: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثي و علاقة ذلك بالغيب، و من السنة المفسّرة لكتاب اللّه الكريم، ما أخرجه الترمذي عن علي قال: سألت رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم عن يوم الحج الأكبر فقال: «يوم النحر» «3».
و جليّ للقارئ أن هذه النصوص النبوية تبين بألفاظ نبوية مفسّرة لآيات قرآنية، و في حين كانت الإرشادات النبوية السابقة تشير إلي الآيات القرآنية المفسّرة لآيات قرآنية أخري.
و الأمر الذي ينبغي الإشارة إليه أن بعض العلماء كان يقول إن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم بيّن للصحابة كل معاني القرآن و استدل بقوله تعالي: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «4» «و البيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن، كما يتناول بيان ألفاظه» «5».
و استدلوا بما أخرجه الإمام أحمد و ابن ماجة عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: «من آخر ما نزل آية الربا، و إن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم قبض قبل أن يفسرها» و هذا يدل بالفحوي علي أنه كان يفسر لهم كلّ ما نزل و أنه إنما لم يفسر هذه الآية لسرعة موته بعد نزولها و إلا لم يكن للتخصيص بها وجه» «6».
و أبرز القائلين بتفسير الرسول لكل معاني القرآن ابن تيمية و آخرون» «7». (1) سورة الرعد، الآية: (8).
(2) أخرجه البخاري في (الحديث: 4697).
(3) أخرجه الترمذي في (الحديث: 3088).
(4) سورة النحل، الآية: (44).
(5) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (1/ 49).
(6) المصدر نفسه، (1/ 50).
(7) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 89
و ذهب فريق آخر إلي القول إن النبي صلي اللّه عليه و سلّم لم يبين لأصحابه إلا القليل من معاني القرآن، و استدلوا بما أخرجه البزار عن عائشة قالت: ما كان رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم يفسر شيئا من القرآن إلّا آيا بعدد، علّمه إياهن جبريل».
و استدلوا بقولهم: «لو كان رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم بيّن لأصحابه كل معاني القرآن لما كان لتخصيصه ابن عباس بالدعاء له بقوله: «اللهم فقهه في الدين، و علّمه التأويل» فائدة لأنه يلزم من بيان رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم لأصحابه كل معاني القرآن استواؤهم في معرفة تأويله فكيف يخص ابن عباس بهذا الدعاء» «1».

مناقشة آراء الفريقين:

واضح أن كلا من الفريقين غالي فيما ذهب إليه، فقول الفريق الأول مستدلا بآية سورة النحل: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ... تشير إلي أن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم بيّن ما أشكل عليهم فهمه من القرآن، لا كل معانيه ما أشكل منها، و ما لم يشكل» «2».
و أما استدلالهم بأن الرسول قبض و لم يفسّر آية الربا لا يدل علي أنه صلي اللّه عليه و سلّم كان يبيّن لهم كل معاني القرآن، فلعل هذه الآية مما أشكل علي الصحابة، فكان لا بد من الرجوع فيها إلي النبي صلي اللّه عليه و سلّم شأن غيرها من مشكلات القرآن» «3».
أما أدلة الفريق الثاني الذي نفي تفسير الرسول لكل معاني القرآن» و أثبت أن الرسول لم يفسر إلا آيات قليلة معدودة، فباطل أيضا لأن الحديث الذي أخرجه البزار عن عائشة منكر غريب، لأن راوي الحديث محمد بن جعفر الزبيري مطعون فيه، قال البخاري عنه:
«لا يتابع في حديثه» «4».
و أما استدلالهم بدعاء الرسول لابن عباس بأن «يعلمه اللّه التأويل» فلا يصح لأن دعاء رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم لابن عباس لا يفيد أن الرسول لم يبين إلا القليل، و إن كان يوحي أن الرسول لم يبيّن كل معاني القرآن» «5».
و الحق أن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم بيّن الكثير من معاني القرآن لأصحابه كما تشهد بذلك كتب الصحاح، و لم يبيّن كل معاني القرآن، و أن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم لم يفسّر للصحابة ما يرجع فهمه إلي (1) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون (1/ 51).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، (1/ 52).
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه، (1/ 53).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 90
معرفة كلام العرب لأن القرآن نزل بلغتهم، و لم يفسر لهم ما تتبادر الأفهام إلي معرفته و هو الذي لا يعذر أحد بجهله، ... و لم يفسر لهم ما استأثر اللّه بعلمه كقيام الساعة، و حقيقة الروح و غير ذلك من كل ما يجري مجري الغيوب التي لم يطلع اللّه عليها نبيه» «1».

التفسير في عهد الصحابة:

الصحابة عرب فصحاء خلّص، و كانوا يجتهدون الرأي في فهم القرآن ما لم يتيسر لهم نقل عن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم أو لم يجدوا آية قرآنية تفسر أخري.
أما ما ورد من النصوص القرآنية التي تحتاج إلي لغة عربية لفهمها فكان ذلك ميسرا للصحابة دونما جهد لأنهم «عرب خلّص يعرفون كلام العرب و مناحيهم في القول، و يعرفون الألفاظ العربية في الشعر الجاهلي الذي هو ديوان العرب، كما يقول عمر رضي اللّه عنه «2».

وسائل الاجتهاد في التفسير عند الصحابة:

الاجتهاد هو بذل واسع في فهم النصوص، و الاجتهاد له وسائله التي يستعان بها لولوج بابه و من أهم وسائل الصحابة:
1- معرفة اللغة العربية و أسرارها- و معرفة عادات العرب- و معرفة أحوال اليهود و النصاري في جزيرة العرب وقت نزول القرآن- قوة الفهم، وسعة الإدراك.
فمعرفة العربية تساعد علي فهم الآيات لأنها نزلت عربية البيان، و معرفة العادات تعين علي فهم الآيات ذات الصلة بالعادات، و ذلك مثل: إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ «3» و قوله تعالي: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها «4». لا يمكن فهمه إلّا لمن عرف عادات العرب.
و معرفة أحوال اليهود و النصاري تساعد علي فهم الآيات النازلة بصددهم، و تعين علي الرد عليهم. و أما قوة الفهم وسعة الإدراك فهذه نعمة ينعم اللّه علي من يشاء من عباده، و هنا تفاوت الصحابة بمعرفتهم بالقرآن لتفاوتهم في امتلاك الأدوات المساعدة علي الاجتهاد.
و قد اشتهر بعض المفسرين من الصحابة: الخلفاء الأربعة، و ابن مسعود، و ابن عباس، و أبيّ بن كعب، و زيد بن ثابت، و أبو موسي الأشعري، و عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهم. (1) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (1/ 54).
(2) المصدر نفسه، (1/ 58).
(3) سورة التوبة، الآية: (37).
(4) سورة البقرة، الآية: (189).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 91
و هناك من الصحابة من تكلم في التفسير لم تكن لهم الشهرة التي كانت للصحابة العشرة الأوائل في التفسير، كأنس بن مالك، و أبي هريرة و عبد اللّه بن عمر، و جابر بن عبد اللّه، و عبد اللّه بن عمرو بن العاص، و عائشة رضي اللّه عنهم. و أما أكثر الصحابة تفسيرا، و رواية عنه في مجال تفسير القرآن فهو علي رضي اللّه عنه «و السبب راجع إلي تفرغه عن مهام الخلافة مدة طويلة، دامت إلي نهاية خلافة عثمان و تأخر وفاته إلي زمن كثرت فيه حاجة الناس إلي من يفسر لهم ما خفي عنهم من معاني القرآن، و ذلك ناشئ عن اتساع رقعة الإسلام، و دخول كثير من الأعاجم في دين اللّه مما كاد يذهب بخصائص اللغة العربية» «1».

التفسير في عهد التابعين:

إن مرحلة التفسير الأولي التي بدأت في عهد الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و الصحابة رضي اللّه عنهم هي التي أسست لعلم التفسير، و هذه الفترة انتهت «بانصرام عهد الصحابة» لتفتح الباب لعهد جديد، و مرحلة جديدة من مراحل تفسير القرآن، و هذه المرة عن التابعين رضي اللّه عنهم الذين تتلمذوا للصحابة فتلقوا غالب معلوماتهم عنهم، و كما اشتهر بعض أعلام الصحابة بالتفسير و الرجوع إليهم في استجلاء بعض ما خفي من كتاب اللّه اشتهر أيضا بالتفسير أعلام من التابعين، تكلموا في التفسير، و وضحوا لمعاصريهم خفيّ معانيه» «2».
و كان هؤلاء التابعون منتشرين في الأمصار الإسلامية «فنشأت في مكة طبقة من المفسرين، و في المدينة طبقة ثانية، و في العراق ثالثة.
طبقة أهل مكة: «و كانوا أعلم الناس بالتفسير علي ما نقله السيوطي عن ابن تيمية أنه قال: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد و عطاء بن أبي رباح، و عكرمة مولي ابن عباس، و سعيد بن جبير، و طاوس».
أما «مجاهد بن جبر» «3» فقد كان أوثق من روي عن ابن عباس، و لذا يعتمد علي تفسيره الشافعي و البخاري و غيرهما من أقطاب العلم و الدين» «4».
و أما «عطاء بن أبي رباح» «5» و «سعيد بن جبير» «6» فقد كان كل منهما ثقة ثبتا في الرواية عن ابن عباس، و قال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير، (1) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (1/ 64).
(2) الإتقان، (2/ 1233). و انظر مقدمة ابن تيمية (61).
(3) مجاهد بن جبرت (104 ه).
(4) الزرقاني، مناهل العرفان، (2/ 26).
(5) عطاء بن رباح ت (114 ه).
(6) سعيد بن جبير ت (95 ه).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 92
و مجاهد، و عكرمة، و الضحاك. و قال قتادة: أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، و كان سعيد بن جبير أعلمهم بالمناسك أو بالتفسير. و قال أبو حنيفة:
ما لقيت أحدا أفضل من عطاء، و أما عكرمة مولي ابن عباس: فقد قال العلامة الشعبي:
«ما بقي أحد أعلم بكتاب اللّه من عكرمة» «1».
و قال عكرمة: كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل «2»، و يعلمني القرآن و السنن».
و منهم طاوس ابن كيسان الحميري «3»:

طبقة التابعين من أهل المدينة:

زيد بن أسلم «4»: و أخذ عنه الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة. و منهم أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي «5»- و منهم محمد بن كعب القرظي «6»- الذي قال فيه ابن عودة: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي».

طبقة أهل العراق:

و منهم مسروق بن الأجدع «7»، و منهم قتادة بن دعامة السدوسي «8»، و منهم التابعي المشهور المعروف بسعة علمه، و شدة تقواه و ورعه أبو سعيد الحسن البصري، قال ابن سعد فيه: «كان ثقة مأمونا و عالما جليلا، و فصيحا جميلا، و تقيا نقيا حتي قيل إنه سيد التابعين» «9».
و منهم عطاء بن أبي مسلم الخراساني «10». (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (1/ 26- 27).
(2) الكبل: القيد، القاموس المحيط: كبل.
(3) طاوس بن كيسان الحميري، ت (106 ه).
(4) زيد بن أسلم ت (136 ه).
(5) رفيع بن مهران الرياحي ت (90 ه).
(6) محمد بن كعب القرظي، ت (120 ه).
(7) مسروق بن الأجدع ت (63 ه).
(8) قتادة بن دعامة ت (118 ه).
(9) الزرقاني، مناهل العرفان (1/ 28).
(10) عطاء بن أبي مسلم ت (135 ه).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 93

تطوّر الأوضاع التفسيريّة:

هؤلاء أهم أعلام التابعين من المفسرين العلماء، و قد استمدوا علومهم من القرآن من الصحابة الكرام رضي اللّه عنهم. و عن التابعين أخذ تابعو التابعين، و هكذا حتي وصل إلينا و بهذا صنف العلماء التفاسير كما فعل سفيان بن عيينة، و وكيع بن الجراح، و شعبة بن الحجاج، فكان ذلك توطئة أو إرهاصا لظهور عالم مفسر كبير هو محمد بن جرير الطبري، الذي يوشك المفسرون جميعا من بعده أن يكونوا عالة عليه- و إن كان محمد الفاضل بن عاشور يري أن الذين يجعلون محمد بن جرير الطبري نتاج حركة التطور التفسيري فإنهم «يقطعون بذلك اتصال سلسلة التطور في الأوضاع التفسيرية بين القرن الأول و القرن الثالث بإضاعة الحلقة من تلك السلسلة التي تمثل منهج التفسير في القرن الثاني، لأن تفسير ابن جرير الطبري ألف في أواخر القرن الثالث، و صاحبه توفي في أوائل القرن الرابع، و الحال أن الحلقة التي يتم بها اتصال السلسلة، و ضاعت عن الكاتبين المحدثين في تاريخ التفسير من المستشرقين، و غير المستشرقين، هي حلقة إفريقية تونسية، بالوقوف عليها يتضح كيف تطوّر فهم التفسير عما كان عليه في عهد ابن جريج، إلي ما أصبح عليه في تفسير الطبري، و يتضح لمن كان الطبري مدينا له بذلك المنهج الأثري النظري الذي درج عليه في تفسيره العظيم.
و إنما نعني بهذا تفسيرا جليلا من صميم آثار القرن الثاني و هو أقدم التفاسير الموجودة اليوم علي الإطلاق ألف بالقيروان و روي فيها و بقيت نسخته الوحيدة بين تونس و القيروان، و هو الذي يعتبر مؤسس طريقة التفسير النقدي، أو الأثري النظري، التي سار عليها بعده ابن جرير الطبري و اشتهر بها هو تفسير «يحيي بن سلام التميمي البصري الإفريقي» المتوفي سنة (200 ه)- و هو تفسير يقع في ثلاثين جزءا من التجزئة القديمة أي في ثلاثة مجلدات ضخمة، مبني علي إيراد الأخبار مسندة ثم تعقبها بالنقد و الاختيار، فبعد أن يورد الأخبار المروية مفتتحا بقوله: «قال يحيي» و يجعل مبني اختياره علي المعني اللغوي، و التخريج الإعرابي، و يتدرج من اختيار المعني إلي اختيار القراءة التي تتحاشي و إياه، مشيرا إلي اختياراته في القراءة بما يقتضي أن له رواية- أو طريقا- لا يبعد أن تكون راجعة إلي قراءة أبي عمرو بن العلاء البصري لأن يحيي بن سلام بصري النشأة ... و قد نص ابن الجزري علي أن هذا الكتاب سمع من مؤلفه بإفريقية و شهد بأنه كتاب ليس لأحد من المتقدمين مثله» «1».
و إذا سلّمنا برأي ابن عاشور: أمكن القول إن يحيي بن سلام التميمي البصري (1) محمد الفاضل بن عاشور، التفسير و رجاله، تونس، دار سحنون، ط (1998- 1999) ص (34، 35، 36).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 94
مؤسس طريقة التفسير الأثري النظري في القرن الثاني، و محمد بن جرير الطبري هو ربيب تلك الطريقة و ثمرة ذلك الغراس» «1» و هو من الأئمة المجتهدين في الفقه و الحديث، ...
و شارك البخاري في كثير من شيوخه، و هو من رجال التاريخ و المعرفة الواسعة المفننة بالأحداث و الرجال.
و كان لتفسير الطبري الشهرة الواسعة إذ نقل إلي الفارسية في القرن الرابع، و اعتني به دارسو المشرقيات اعتناء زائدا، لأن هذا التفسير قد اكتسب علي يد مؤلفه الطبري «صبغة جديدة بحق، لعلها هي التي سمحت له أن يختار الدلالة علي صيغة كلمة ما كان يختارها متعاطو التفسير من قبله، و هي كلمة التأويل فسمّي تفسيره باسم «جامع البيان عن تأويل القرآن» و التزم كلمة التأويل في ترجمة كل فصل من فصوله» «2». و حاول بمنهجية علمية جادة التوفيق بين المعقول و المنقول بنقد الرواية و مقارنتها مع أشباهها أو مع ما يتقاطع معها.
و هكذا شق علم التفسير طريقه، و هذا الطريق كان له منعطفات و وديان و صعدات.
خاصة أن التفسير بالمأثور لقي نقدا شديدا عبر مسيرة التفسير لاختلاط مصطلح الأثر بالأخبار الواهية، أو بما ورد من واهنات أهل الكتاب، غير أن بعض العلماء انبري بقوة للذّود عنه ممحصا و منقرا و أبرزهم الإمام البخاري الذي عاصر الطبري، الذي شاركه ببعض أشياخه كما ذكرنا سابقا.
راح البخاري العالم الناقد البصير يتحري ألفاظ اللغة و صحة استعمالاتها و أصولها الاشتقاقية، و ينقر عن صحة الأقوال المنقولة المنسوبة إلي الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و الصحابة رضي اللّه عنهم، متخذا علم الإسناد وسيلة إلي ذلك. و ألّف البخاري علي هذا المنهج تفسيرا مستقلا لم يصل إلينا هو «التفسير الكبير» ... و لكن الذي وصل إلينا من عمل البخاري القسم المتضمن للتفسيرات النبوية، و آراء و أقوال الصحابة، و نقولاتهم عن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و هذا القسم أودعه البخاري في كتابه «الجامع الصحيح». و بهذا الصنع مهّد البخاري لأهل الأثر و النظر الطريق للتقارب ... إذ حصر الأحاديث المعتد بها في التفسير فحكم علي ما وراءها بالطرح و عدم الاعتداد» «3».
ثم جاءت علي إثر هذه المسيرة حركة اعتزالية فكرية ثقافية جارفة أفرزت علماء و مفسرين أسهموا في دفع التفسير و التأويل قدما «و لكن نزعة من العصبية الغالية قد أوغلت (1) محمد الفاضل بن عاشور، التفسير و رجاله، ص (39).
(2) المصدر نفسه، ص (40).
(3) المصدر نفسه، ص (52).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 95
بهم في مسالك التعسف كلما كانت المحامل الواضحة التي يستدعيها السياق و يقتضيها التركيب مخالفة لمذاهبهم الكلامية في المعاني الاعتقادية، و نزعة من الغرور الذميم أركبتهم مركب ادّعاء أن آلة التأويل وقف عليهم، لا يحسن غيرهم أن يتعاطاها» «1».
و ما من حركة ثقافية يطيش بها الغرور، أو تتقاذفها أهواء الاستبداد بالرأي إلّا و تحوي في داخلها بذور فنائها و ضعفها ... و مصداقا لذلك:
«فإنه لم يكد لواء النبوغ في تقرير نكت البلاغة القرآنية يعقد علي مجالس الشريف الرضي المتوفّي في (436 ه) حتي نجم في أفق أهل السنة فتي شافعي أشعري من عباقرة علماء العربية هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفي سنة (471 ه) تمرّس بكتب أبي علي الفارسي و تخرّج علي طريقته في النحو» «2» ثم تسلق سلم البيان و البلاغة ليكون مبلور نظرية الإعجاز بجدارة- مستثمرا ما قاله المعتزلة و الباقلاني مخرجا لنا كتابه دلائل الإعجاز «فبين فيه جهات الحسن البلاغي و علله، و ضبطها في قوالب محكمة من التعبير فجاء عمله عملا أساسيا منهجيا» «3».
ثم كان من الوالجين باب التأويل و البلاغة و التفسير: الإمام الزمخشري، و القاضي أبو محمد بن عبد الحق بن عطية الغرناطي الأندلسي. و قد أنتج كل منهما أعمالا فائقة النفع في البلاغة و التأويل القرآني: تفسير ابن عطية، و كشاف الزمخشري.
و قد كان تفسير ابن عطية «يمثل صولة الغالب العنيد علي المنهزم المتراجع» «4».
و المقصود غلبة السنة علي الاعتزال، ... و لقد قوي تفسير ابن عطية بما أضيف إليه من عاملي قوة بيانية يرجعان إلي شبابه و عروبته، فإن الشباب أفاده قريحة متقدة و نظرة حادة، يتناول بهما موضوعه في قوة و سرعة و متانة و إلهام» «5». في حين كان تفسير الزمخشري الكشاف اتسم «بالشيخوخة و العجمة، فإن أسلوبه البياني قد جاء متثاقلا كزا ترهقه كلفة الصناعة مع نبوة الطبع، و لذلك فلا يدع أن يوصف تفسيره بأنه «محرر» لا سيما و قد دفع الشبه، و خلّص الحقائق، و حرّر ما هو محتاج إلي التحرير، و قد نوّه بذلك في مقدمته» «6».
و هكذا تسير حركة التفسير قدما حتي وصلنا إلي القرن الرابع، إذ بدأت حدة الاعتزال (1) محمد الفاضل بن عاشور، التفسير و رجاله، ص (53).
(2) المصدر نفسه، ص (58).
(3) المصدر نفسه، ص (59).
(4) المصدر نفسه، ص (75).
(5) المصدر نفسه، ص (75).
(6) المصدر نفسه، ص (75، 76).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 96
تخف و تنكسر بظهور أحد الأئمة المشاهير الذي أسس لأصول فهم الإسلام متفقا مع الحكمة الصافية المهذبة من الشطط، عند ما ألّف بين أهل الفقه و أهل الحديث و أهل التصوف- فما كدنا أن نصل إلي القرن السادس الهجري إلا و أصبحت الثقافة الإسلامية راسخة القواعد، متينة البنيان، «تتراص فيه المعارف الحكمية و المعارف الدينية، و تشد فيه الفلسفة الشرعية علي أنها خادمة لها، كما هو مذهب الأشعري، لا علي أنها مسيطرة عليها كما كان مذهب المعتزلة» «1».
إن ذلك أذن بمولد مفسّر عظيم: إنه الإمام الرازي، و كانت طريقته تقوم علي إدراك الرازي «ما في القرآن من أسرار حكمية، و بث ما تضمنه من مطالب فلسفية و علوم طبيعية، و إنما هي طريقته الكلامية المختارة المتبعة لمنهج الغزالي، و إمام الحرمين و الباقلاني و أبي إسحاق الأسفراييني، و الإمام أبي الحسن الأشعري» «2».
ثم تتالت التفاسير القرآنية الأخري كتفسير البيضاوي الذي درج معتمدا علي تفسيرين عظيمين هما «الكشاف» للزمخشري، و «التفسير الكبير» للفخر الرازي فجعل اعتماده في بيان الألفاظ و التراكيب و تحليل المباني لاستخراج نكت المعاني علي تفسير الكشاف، و اعتمد في إبراز روح الحكمة القرآنية و عرض نظرياتها من نواحي الفلسفة و أصول الدين و أصول الفقه علي المرجع في ذلك و هو تفسير الإمام الرازي» «3».
و عند ما نقول: إن البيضاوي اعتمد علي تفسيري «الكشاف و الكبير» لا يعني هذا أنه قلدهما دون أن يأتي بجديد، بل إن قيمة تفسير البيضاوي تأتي من كونه اعتمد الاختصار، و دقة التعبير، و التزام المصطلح العلمي، و الإشارة إلي ما يتفرع عن التعبير من معان يكتفي بحضورها في الذهن عن ذكرها ... بذلك عظم صيت الكتاب، و طار ذكره و أقبل الناس عليه إذ وجدوا فيه الضالة المنشودة من التفسير العلمي علي الطريقة التحليلية اللفظية، التي عظمت بها من قبل شهرة تفسير الكشاف» «4».
ثم تتابعت التفاسير مثل تفسير ابن عرفة و تفسير أبي السعود و الشهاب الألوسي الذي أخرج كتابه التفسير المشهور «روح المعاني» الذي جمع بين علم التصوف و الذوق و تحليل المعاني و دلالة التركيب. (1) محمد الفاضل بن عاشور، التفسير و رجاله، ص (81).
(2) المصدر نفسه، ص (87).
(3) المصدر نفسه، ص (107).
(4) المصدر نفسه، ص (113).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 97

ترجمة القرءان الكريم‌

المعني الاصطلاحي للترجمة:

ساق الزرقاني تعريفا بسيطا صحيحا للترجمة:
«هي التعبير عن معني كلام في لغة بكلام آخر من لغة أخري مع الوفاء بجميع معانيه و مقاصده» «1» و التعريف واضح غير أن قوله: «مع الوفاء بجميع معانيه و مقاصده» يحتاج إلي المزيد من الإيضاح.
أي: أن الترجمة الصحيحة يجب أن تنقل الكلام نقلا إلي لغة أخري مغايرة مستوفية جميع المعاني و المقاصد المحتملة، لأن إهمال أي مقصد أو معني محتمل يعتبر تحجيم للنص الأصلي المنقول، و تنقيص من سعة دلالته ... بخلاف التفسير: فلا يشترط فيه الوفاء بكل معاني الأصل المفسّر و مقاصده، بل يكفي فيه البيان و لو من وجه» «2».

أنواع الترجمة:

تقسم الترجمة إلي معنيين: حرفية، و تفسيرية:
فالترجمة الحرفية: هي التي تراعي فيها محاكاة الأصل في نظمه و ترتيبه. فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه. و بعضهم يسمي هذه الترجمة ترجمة لفظية. و بعضهم يسميها:
مساوية» «3».
و الترجمة التفسيرية هي التي لا تراعي فيها تلك المحاكاة أي: محاكاة الأصل في نظمه و ترتيبه، بل المهم فيها حسن تصوير المعاني و الأغراض كاملة ... و سميت تفسيرية لأن حسن تصوير المعاني و الأغراض جعلها تشبه التفسير و ما هي بتفسير» «4».
أما الترجمة التفسيرية: فإنها تعتمد المعني الذي يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه، ثم يصبّه بواديه من اللغة الأخري» «5».
و لا بأس من ضرب الأمثلة علي كلا النوعين من الترجمة:
قال تعالي: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلي عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً «6» (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (2/ 125).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه. (125، 126).
(5) المصدر نفسه، (126).
(6) سورة الإسراء، الآية: (29).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 98
فإنك إذا أردت ترجمتها ترجمة حرفية أتيت بكلام من لغة الترجمة، يدل علي النهي عن ربط اليد في العنق و عن مدها غاية المد مع رعاية ترتيب الأصل و نظامه بأن تأتي بأداة نهي أولا، يليها الفعل المنهي عنه، متصلا بمفعوله، و مضمرا فيه فاعله، و هكذا. و لكن هذا التعبير الجديد قد يخرج أسلوب غير معروف و لا مألوف في تفهيم المترجم لهم ما يرمي إليه الأصل من النهي عن التقتير و التبذير. بل قد يستنكر المترجم لهم هذا الوضع الذي صيغ به هذا النهي و يقولون: ما باله ينهي عن ربط اليد بالعنق. و عن مدها غاية المد؟! و قد يلصقون هذا العيب بالأصل ظلما، و ما العيب إلا فيما يزعمونه ترجمة للقرآن من هذا النوع» «1».
«أما إذا أردت ترجمة هذا النظم الكريم ترجمة تفسيرية فإنك بعد أن تفهم المراد، و هو النهي عن التقتير و التبذير في أبشع صورة منفّرة منها، تعمد إلي هذه الترجمة فتأتي منها بعبارة تدل علي هذا النهي المراد، في أسلوب يترك في نفس المترجم لهم أكبر الأثر في استبشاع التقتير و التبذير. و لا عليك من عدم رعاية الأصل في نظمه و ترتيبه اللفظي ..» «2».

شروط لا بد من توافرها في الترجمتين الحرفية و التفسيرية:

كي ننتج ترجمة تفسيرية أو حرفية لا بد من الشروط التالية:
أولها: معرفة المترجم لأوضاع اللغتين لغة الأصل، و لغة الترجمة.
ثانيها: معرفة لأساليبهما و خصائصهما.
ثالثها: وفاء الترجمة بجميع معاني الأصل و مقاصده علي وجه مطمئن.
رابعها: أن تكون صيغة الترجمة مستقلة عن الأصل، بحيث يمكن أن يستغني عنه، و أن تحل محله، كأنه لا أصل هناك و لا فرع» «3».

في الترجمة الحرفية بعد الشروط السابقة لا بد من أمرين:

أحدهما: وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية للمفردات التي تألّف منها الأصل حتي يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيره من الأصل، كما هو ملحوظ في معني الترجمة الحرفية.
ثانيهما: تشابه اللغتين في الضمائر المستترة، و الربط التي تربط المفردات لتأليف التراكيب. سواء في هذا التشابه ذوات الروابط و أمكنتها. و إنما اشترطنا هذا التشابه، لأن (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (2/ 126).
(2) المصدر نفسه، (2/ 126، 127).
(3) المصدر نفسه، (2/ 127).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 99
محاكاة هذه الترجمة لأصلها في ترتيبه تقتضيه» «1».
و يري الزرقاني: أن الترجمة الحرفية مستحيلة لعدم تساوي مفردات اللغة الأصل مع اللغة المنقول إليها. و قال بعضهم هي ممكنة في بعض الكلام دون بعض.
أما الترجمة التفسيرية: فممكنة «لأن المعاني المرادة من لغة الأصل واضحة فيها غالبا و لهذا اعتمدوا عليها في الترجمات الزمنية و فضّلها المترجمون و المشتغلون بالترجمات علي الترجمة الحرفية «2».

التفسير و الترجمة:

لقد اختلفت الآراء حول فائدة ترجمة المعاني القرآنية، كما أن الخلاف كان شديدا حول جواز و حرمة ترجمة المعاني القرآنية ... أي ترجمة التفاسير.
و كي يكون الأمر واضحا لا بد من بيان معني الترجمة لغة و اصطلاحا.

معني الترجمة و دلالتها:

دلالة كلمة الترجمة في اللغة العربية تنحصر في أربعة معان:
أولها: تبليغ الكلام لمن لم يبلغه، و منه قول الشاعر:
إنّ الثمانين- و بلّغتها-* قد أحوجت سمعي إلي ترجمان ثانيها: تفسير الكلام بلغته التي جاء بها. و منه ما قيل في ابن عباس: أنّه ترجمان القرآن.
و لعل الزمخشري في كتابه أساس البلاغة يقصد هذا المعني إذ يقول: «كل ما ترجم عن حال الشي‌ء فهو تفسير له» «3».
ثالثها: تفسير الكلام بلغة غير لغته: و جاء في لسان العرب و في القاموس أن الترجمان هو المفسر للكلام، و قال شارح القاموس ما نصه: «و قد ترجمه و ترجم عنه إذا فسّر كلامه بلسان آخر» «4». (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (2/ 127).
(2) المصدر نفسه.
(3) الزمخشري، أساس البلاغة، مادة «فسر». ص (473)، ط، دار صادر، (1992 م).
(4) ابن منظور، اللسان، مادة: رجم.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 100
رابعها: نقل الكلام من لغة إلي أخري: التّرجمان بالضم و الفتح، هو الذي يترجم الكلام أي ينقله و الجمع تراجم» «1».

التأويل:

أصله من أوّل الكلام تأويلا و تأوّله: دبّره و قدّره، و فسّره» «2».
فإذا كان التفسير هو الكشف و البيان، فإن التأويل هو:
«عبارة عن احتمال يقصده دليل يصير به أغلب علي الظن من المعني الذي يدل عليه الظاهر» «3» و يوضح الغزالي دور التأويل في توجيه النص بقوله عن التأويل إنه «يشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلي المجاز، و كذلك تخصيص العموم بردّ اللفظ عن الحقيقة إلي المجاز ...» «4».
و يضرب الغزالي بعض الأمثلة:
مسألة تأويل آية مصارف الزكاة: قال قوم: قوله تعالي: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ «5». الآية نص في التشريك فالصرف إلي واحد إبطال له. و ليس كذلك عندنا- [أي عند الشافعية] بل هو عطف علي قوله تعالي: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا «6»- إلي قوله: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ. يعني أن طمعهم في الزكاة مع خلوهم عن شرط الاستحقاق باطل، ثم عدّد شروط الاستحقاق ليبين مصرف الزكاة، و من يجوز صرف الزكاة إليه، فهذا محتمل، فإن منعه فللقصور في دليل التأويل لا لانتفاء الاحتمال» «7».
و يمكن القول: إن التأويل إرجاع للنص و تعبير له، يقول الشافعي في التأويل: إنه إرجاع لفظ النص و تعبيره إلي واحد من تلك المعاني المحتملة في النص و لا يكون ذلك إلا بدليل» «8». (1) ابن منظور، اللسان، مادة رجم.
(2) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، «أول».
(3) الغزالي، المستصفي، 1/ 245. دار إحياء التراث العربي، ص (1) (1997 م).
(4) المصدر نفسه.
(5) سورة التوبة، الآية: (60).
(6) سورة التوبة، الآيتان: (58، 59).
(7) الغزالي، المستصفي، (1/ 249).
(8) الشافعي، الرسالة.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 101

الفرق بين التفسير و التأويل:

التفسير كما أسلفنا سابقا بيان و توضيح و كشف ... و هو: بيان وضع اللفظ إمّا حقيقة أو مجازا كتفسير الصراط بالطريق.
أما التأويل: فهو «إخبار عن حقيقة المراد» و التفسير إخبار عن دليل المراد؛ لأن اللفظ يكشف عن المراد، و الكاشف دليل، مثاله قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) «1» تفسير: أنه من الرصد. يقال رصدته. و تأويله: التحذير من التهاون بأمر اللّه سبحانه، و المشهور عند المتأخرين: أن التفسير هو: بيان المعاني التي تستفاد بالعبارة، و التأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة» «2».

رأي الشاطبي في ترجمة القرآن:

قال الشاطبي: «للغة العرب، من حيث هي ألفاظ دالة علي معان مطلقة، و هي الدلالة الأصلية، و الثاني من جهة كونها ألفاظا و عبارات مقيدة، دالّة علي معان خادمة و هي الدلالة التابعة، فالجهة الأولي هي التي تشترك فيها الألسنة، و إليها تنتهي مقاصد المتكلمين، و لا تختص بأمة دون أخري. فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام، تأتي له ما أراد من غير كلفة، و من هذه الجهة يمكن في لسان الإخبار عن أقوال الأولين من ليسوا من أهل اللغة العربية، و حكاية كلامهم، و يتأتي في لسان العجم حكاية أقوال العرب و الإخبار عنها و هذا لا إشكال فيه.
و أما الجهة الثانية: فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية و ذلك الإخبار، فإن كلّ خبر يقتضي في هذه الحالة أمورا خادمة لذلك الإخبار، بحسب المخبر و المخبر عنه و المخبر به، و نفس الإخبار في الحال و المساق، و نوع الأسلوب من الإيضاح و الإخفاء و الإيجاز و الإطناب و غير ذلك».
ثم قال الشاطبي:
«بهذا النوع الثاني اختلفت العبارات و كثير من أقاصيص القرآن، لأنه يتأتي مساق القصة في بعض السور علي وجه، و في بعضها علي وجه آخر، و في ثالثة علي وجه ثالث و هكذا تقرر فيه من الإخبار، و لا بحسب النوع الأول إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في (1) سورة الفجر، الآية: (14).
(2) خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير و قواعده. ص (520)، ط (3)، (1994 م).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 102
بعض، و نصّ عليه في بعض. و ذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال و الوقت «1» وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا «2».
... ثم قال الشاطبي:
«و إذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير- أي الدلالة التابعة- أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم، فضلا عن أن يترجم القرآن و ينقل إلي لسان غير عربي، إلّا مع فرض استواء اللسانية في استعمال ما تقدم تمثيله و نحوه. فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب، أمكن أن يترجم أحدهما إلي الآخر، و إثبات مثل هذا بوجه بيّن عسير، و قد نفي ابن قتيبة إمكان الترجمة في القرآن يعني علي هذا الوجه الثاني.
فأما علي الوجه الأول فهو ممكن، و من جهته صح تفسير القرآن و بيان معناه للعامة، و من ليس له فهم يقوي علي تحصيل معناه، و كان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام، فصار هذا الاتفاق حجة في صحة الترجمة علي المعني الأصلي» «3».
و من هذا يظهر أن كلام الشاطبي المالكي له وزنه الفقهي و العلمي يقضي بجواز ترجمة القرآن مع الدليل و البرهان ... إذا كان كلام الشاطبي واضح البيان في إجازة نقل المعاني الأصلية للقرآن دون التابعة، و علي هذا فإن إطلاق الشاطبي لفظ «ترجمة القرآن» علي ما أدي تلك المعاني الأصلية وحدها، إطلاق لغوي محض لا نخالف فيه، بل هو أمر يشجع إليه.

موقف الشاطبي من الترجمة الحرفية:

لا يوافق الشاطبي علي الترجمة الحرفية للقرآن و لا في النصوص الأدبية و له في ذلك عدة حجج أكتفي بذكر واحدة كونها كافية في هذا المجال:
«إن القرآن أنزل بلسان العرب فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة ... ثم قال: «فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهمه، و لا سبيل إلي تفهمه من غير هذه الجهة». و ذلك برهان يدل علي أن ترجمة القرآن في نظره، لا يمكن أن تفي بهداياته و مقاصده. و أن طالب فهمه لا طريق له إلا أن ينتقل هو إلي القرآن و لغته فيدرسه علي ضوء علي ما تقرر من قواعد هذه اللغة و أساليبها، و لا سبيل إلي هذه الدراسة طبعا إلا بحذف (1) الشاطبي، الموافقات، (2/ 44، 45).
(2) سورة مريم، الآية: (64).
(3) الشاطبي، الموافقات، (2/ 44، 45)، بشي‌ء من التصرف.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 103
هذه اللغة و علومها» «1».
من ذلك يظهر جواز الترجمة التفسيرية للمعاني لأن التفاسير لا علاقة لها بالإعجاز إنما بيان للمقاصد و المعاني، و تمكّن من نشر المعارف و العلوم القرآنية في الأمم الأخري، مع التأكيد أن ترجمة المعاني ليست قرآنا و ليس لها خصائص القرآن، و ليست هي ترجمة كل المعاني التي فهمها القرآن- و قد أجاز عدد ضخم من علماء الأزهر في العصر الحديث ترجمة المعاني القرآنية إلي لغات أخري بشروط» «2». (1) الزرقاني، مناهل العرفان، (2/ 61- 64). بيروت، إحياء التراث، (1945).
(2) أسماء العلماء الذين أجازوا ترجمة معاني القرآن إلي لغات أخري مبثوثة في كتاب «كيف نفهم القرآن» لعلي دحروج و كامل موسي، ص (147)، ط (1992 م).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 105

الباب الثاني الدراسات القرآنية الحديثة

اشارة

الفصل الأول: التفسير العام.
الفصل الثاني: التفسير المنهجي.
الفصل الثالث: التفسير الموضوعي.
الفصل الرابع: التفسير الأدبي الاجتماعي.
الفصل الخامس: التفسير الفقهي.
الفصل السادس: التفسير الإشاري.
الفصل السابع: التفسير البلاغي.
الفصل الثامن: التفسير الحداثي.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 107

الفصل الأوّل التفسير العام‌

اشارة

أولا: التفسير عند محمد الطاهر بن عاشور.
ثانيا: التفسير عند جلال الدين القاسمي.
ثالثا: التفسير عند محمد علي الصابوني.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 109

أولا: تفسير التحرير و التنوير لمحمد الطاهر بن عاشور

محمد الطاهر بن عاشور 1296- 1393 ه 1879- 1973 م صاحب «التحرير و التنوير تفسير قرآن كريم»:

محمد الطاهر ابن عاشور: رئيس المفتين المالكيين بتونس و شيخ جامع الزيتونة و فروعه بتونس، مولده و وفاته و دراسته في جامع الزيتونة، عيّن في 1932 م شيخا للإسلام مالكيا.
و ابن عاشور عالم بالعربية، و هو عضو المجمع اللغوي في القاهرة و دمشق، و له مصنفات مطبوعة من أشهرها «مقاصد الشريعة الإسلامية» و «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام»، و «الوقف و آثاره في الإسلام» و «أصول الإنشاء و الخطابة» و «موجز البلاغة»، و ممّا عني بتحقيقه و نشره «ديوان بشار بن برد» الشاعر العباسي، و كان في أربعة أجزاء ...
و كتب ابن عاشور في الكثير من الصحف اليومية و المجلات «1».
لقد درس ابن عاشور التفاسير القرآنية السابقة، و اطّلع علي ما أنتجته المدرسة المصرية الممثلة بمحمد عبده و رشيد رضا، و ربما اطلع علي ما كتب مصطفي المراغي.
و إدراكا من محمد الطاهر ابن عاشور لرسالة القرآن الحضارية و الاجتماعية، عمد إلي النهوض بتفسير الكتاب الكريم يقول: «إن اللّه تعالي أنزل القرآن كتابا لصلاح أمر الناس كافة؛ رحمة لهم لتبليغهم مراد اللّه منهم، فكان القصد الأعلي منه صلاح الأحوال الفردية و العمرانية و الجماعية» «2»، و هو بعد أن يلفت الانتباه إلي وجوب فهمه و تدبر آياته علي (1) الزركلي، الأعلام (6/ 174).
(2) محمد الفاضل ابن عاشور، التفسير و رجاله، ص (228).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 110
الوجه المطلوب الذي يومئ إليه قوله تعالي: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) «1». يحدثنا المؤلف عن عظيم أمانيه في حياته الدنيا و هي:
«تفسير الكتاب المجيد الجامع لمصالح الدنيا و الدين ... و الحاوي لكلّيات العلوم، و معاقد استنباطها، و الآخذ قوس البلاغة من محل نياطها، طمعا في بيان نكت من العلم و كليات التشريع، و تفاصيل من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره و مطالعة كلام مفسّره» «2».

ابن عاشور و موقفه من قدماء المفسرين:

لم يكن ابن عاشور هداما لسابقيه إنما كان مطوّرا بناء و هذا دأب العلماء المخلصين الذين لا ينكرون جهد السابقين إنما يكملون نقصه، و يرممون ضعفه، و يسترون عواره، لذا كانت عبارته مشخصة لمواقع الناس من الذي أنتجه علماؤنا القدامي:
«و لقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين:
رجل معتكف فيما أشاده الأقدمون، و آخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، و في كلتا الحالتين: ضرر كثير، و هنا لك حالة أخري ينجبر بها الجناح الكبير و هي أن نعمد إلي ما شاده الأقدمون فنهذّبه و نزيده، و حاشا أن نقضه أو نبيده، عالما بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، و جحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة فالحمد للّه الذي صدّق الأمل، و يسّر الخير و دلّ» «3».
هذا تقديره للأقدمين علي نحو عام، اعتراف بالفضل، و عهد علي التطوير و الزيادة.
أما إذا تحدث مخصصا في مجال التفسير فله شأن آخر.

موقف ابن عاشور من التفاسير السابقة:

يري ابن عاشور أن التفاسير السابقة علي كثرتها «فإنك تجد الكثير منها عالة علي كلام سابق بحيث لا حظّ لمؤلفه إلا الجمع علي تفاوت بين اختصار و تطويل» «4». (1) سورة ص، الآية: (29).
(2) بهذا يشير ابن عاشور إلي مطالعته التفاسير السابقة، انظر مقدمة ابن عاشور للتحرير و التنوير، ط (1)، مؤسسة التاريخ ص (15).
(3) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، المقدمة الأولي، ص (7).
(4) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 111
أما أهم التفاسير برأي ابن عاشور فهي:
الكشاف للزمخشري، و المحرر الوجيز لابن عطية، مفاتيح الغيب للرازي و تفسير البيضاوي، و تفسير أبي السعود، و تفسير القرطبي، و الموجود من تفسير ابن عرفة التونسي ... و تفسير الطبري، و كتاب وردة التنزيل للرازي أو للأصفهاني.
و هو في أخذه عن هذه التفاسير لا يعزو عليها لقصد الاختصار.
ثم كان اهتمامه جليا في الجوانب البلاغية في القرآن، و بأساليب الاستعمال و بيان تناسب اتصال الآيات ببعضها- كما تحدث عن الغرض العام من السورة. و ضبط معاني المفردات ضبطا محققا، ما ضبطته قواميس اللغة «1». و تحدث عن نكت الإعجاز في القرآن، و وصفه «أن فيه أحسن ما في التفاسير» سميته «تحرير المعني السديد و تنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد» و اختصرت هذا الاسم باسم «التحرير و التنوير من التفسير» «2».

مقدمة ابن عاشور الأولي في التفسير و التأويل:

لقد أصبح من الغني عن القول: إن التفسير من الفسر و الإبانة و الوضوح ... إلخ.
لكن لا بأس من القول: «فسّر» بالتضعيف فيها دلالة علي الإتيان من هذا الفعل بكثرة. «لأن المضاعف قد عرف بتلك الدلالة في حالة كونه فعلا لازما فمقارنته تلك الدلالة عند استعماله التعدية مقارنة تبعية» «3».
و التفسير في الاصطلاح: اسم العلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن و ما يستفاد منها باختصار أو توسع، و المناسبة بين المعني الأصلي و المعني المنقول إليه لا يحتاج إلي تطويل.
و موضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، و ما يستنبط منه، و بهذه الحيثية خالف علم القراءات لأن تمايز العلوم- كما يقولون- بتمايز الموضوعات و حيثيات الموضوعات» «4».
و قد سرد ابن عاشور تاريخ نشوء علم التفسير، و سأضرب عن ذلك صفحا لأن الفصول الأولي من هذا البحث قد تناولت هذا الموضوع ... (1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، المقدمة الأولي، ص (8).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، ص (10).
(4) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 112

التأويل عند ابن عاشور:

«منهم من جعل التفسير و التأويل متساويين، و هذا ما ذهب إليه ثعلب و ابن الأعرابي و أبو عبيدة، و هو ظاهر كلام الراغب.
و منهم من جعل التفسير للمعني الظاهر و التأويل للمعني المتشابه.
و منهم من قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه، إلي معني آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعني الأصولي، فإذا فسر قوله تعالي: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ بإخراج الطير من البيضة فهذا من التفسير. أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل، و هنا لك أقوال أخر لا عبرة بها، و هذه كلها مصطلحات لا متاهة فيها إلا أن اللغة و الآثار تشهد للقول الأول، لأن التأويل مصدر أوّله إذا أرجعه إلي الغاية المقصودة، و الغاية المقصودة من اللفظ هو معناه، و ما أراده منه المتكلم به من المعاني فساوي التفسير علي أنه لا يطلق إلا علي ما فيه تفصيل معني خفي معقول! و قال أبو عبيدة عن قوله تعالي: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ينتظرون إلا بيانه.
و قوله صلي اللّه عليه و سلّم لابن عباس: «اللهم فقهه في الدين، و علّمه التأويل» أي فهم معاني القرآن «1».
و كتب ابن عاشور المقدمة الثانية و قد جعل عنوانها: في استمداد علم التفسير، و قد وضح المقصود من استمداد علم التفسير: «يراد توقفه علي معلومات سابق وجودها علي وجود ذلك العلم عند مدونيه، لتكون عونا لهم علي إتقان تدوين ذلك العلم. و سمي ذلك في الاصطلاح: بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد و العون و الغوث» «2».
و إمدادات علم التفسير آتية من علوم عدة:
علوم العربية: فالمراد منها معرفة مقاصد العرب من كلامهم و أدب لغتهم، سواء حصلت تلك المعرفة بالسجية و السليقة، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، أم حصلت بالتلقي و التعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب و مارسوهم، و المولدين الذين درسوا علوم اللسان و دوّنوها. «إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه» «3». (1) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الأولي من التحرير و التنوير، ص (15).
(2) المصدر نفسه، المقدمة الثانية، ص (16).
(3) المصدر نفسه، المقدمة الثانية (16).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 113
و يقصد بقواعد العربية: مجموع علوم اللسان العربي و هي: متن اللغة، التصريف و النحو و المعاني و البيان، و من وراء استعمال العرب المتّبع من أساليبهم في خطبهم و أشعارهم و تراكيب بلغائهم، و يدخل في ذلك ما يجري مجري التمثيل و الاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين، قال في الكشاف: و من حق مفسر كلام اللّه الباهر المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم علي حسنه و البلاغة علي كمالها ...» «1».
و لعلمي البيان و المعاني مزيد اختصاص بعلم التفسير لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية و ما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني و إظهار وجه الإعجاز، و لذلك كان هذان العلمان يسميان في القديم علم دلائل الإعجاز» «2».
و هذا ما أكد عليه العلماء قبل ابن عاشور و علي رأسهم السكاكي في كتاب «المفتاح»، و الجرجاني في شرحه للمفتاح.
و نقل ابن عاشور عن ابن رشد و هو يجيب عمّن قال: إنه لا يحتاج إلي لسان العرب ما نصّه: «هذا جاهل فلينصرف عن ذلك و ليتب منه، فإنه لا يصحّ شي‌ء من أمور الديانة و الإسلام إلّا بلسان العرب، يقول اللّه تعالي: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «3»، إلا أن يري أنه قال ذلك لخبث في دينه فيؤديه الإمام علي قوله ذلك بحسب ما يري فقد قال عظيما» «4».
و قال عبد القاهر الجرجاني موضحا المعني لقوله تعالي: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْري لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «5» «أي لمن كان أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبر و التفكر، و النظر فيما ينبغي أن ينظر فيه، ... فهذا علي أن يجعل الذي لا يعي و لا يسمع و لا ينظر و لا يتفكر كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به ...» و أما تفسير من يفسره علي أنه بمعني «من كان له عقل» فإنه إنما يصح علي أن يكون قد أراد الدلالة علي الفرض علي الجملة، فأما أن يؤخذ به علي هذا الظاهر حتي كأن القلب اسم للعقل كما يتوهمه أهل الحشو و من لا يعرف مخارج الكلام عن صورته، و إزالة المعني عن جهته. و ذاك أن المراد به الحث علي النظر و التقريع علي تركه و ذمّ من يخلّ به و يغفل عنه و لا يحصل ذلك إلا بالطريق الذي قدمته» «6» و يخلص الجرجاني إلي القول: (1) محمد الطاهر بن عاشور، نقلا عن ديباجة الكشاف.
(2) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الثانية من التحرير و التنوير، ص (17).
(3) سورة الشعراء، الآية: (195).
(4) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الثانية من التحرير و التنوير، ص (18).
(5) سورة ق، الآية: (37).
(6) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، بيروت، دار المعرفة ط (1)، (1994)، ص (203).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 114
«و من عادة قوم ممن يتعاطي التفسير بغير علم أن توهموا أبدا في الألفاظ الموضوعة علي المجاز و التمثيل أنها علي ظواهرها، فيفسدوا المعني بذلك و يبطلوا الفرض» و يمنعوا أنفسهم و السامع منهم العلم بموضع البلاغة و بمكان الشرف، و ناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه و جعلوا يكثرون في غير طائل! هناك لا تري ما شئت من باب جهل قد فتحوه، و زند ضلالة قد قدحوا به» «1».
و السليقة البيانية الفطرية يمكن أن ينوب عنها التملّي بأساليب العرب، و العبّ من خطبهم، و استظهار الكثير من تراكيبهم العظيمة. شعرا و نثرا «ليحصل بذلك لممارسة المولّد ذوق يقوم عنده مقام السليقة و السجية عند العربية القحّ» «2».
و يعرّف ابن عاشور الذوق: كيفية للنفس بها تدرك الخواص و المزايا التي للكلام البليغ» «3» و لتكميل الذوق أو إيجاده كان لا بد للمفسّر في بعض المواضع من الاستشهاد علي المراد في الآية ببيت من الشعر أو بشي‌ء من كلام العرب لتكميل ما عنده من الذوق» «4».
«كما أن من قواعد استعمال الأسلوب المدني «ما يؤثر عن بعض السلف في فهم معاني بعض الآيات علي قوانين استعمالهم كما روي مالك في «الموطأ» عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة:- و أنا يومئذ حديث السن-: «أ رأيت قول اللّه تعالي: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «5» فما علي الرجل شي‌ء أن لا يطوف بهما»، فقالت عائشة: «كلا لو كان كما تقول، لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما؟ إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة الطاغية، و كانت مناة حذو قديد، و كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا و المروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم عن ذلك، فأنزل اللّه: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ فبينت له ابتداء طريقة استعمال العرب لو كان المعني، كما و همه عروة ثم بينت له مثار شبهته الناشئة عن قوله تعالي:
فَلا جُناحَ عَلَيْهِ الذي ظاهره رفع الجناح عن الساعي» «6».
و أما الآثار فهو «ما نقل عن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال و الإجمال، و ذلك شي‌ء قليل. قال ابن عطية عن عائشة رضي اللّه عنه: «ما كان رسول اللّه (1) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز ص (203)، و انظر المقدمة الثانية لابن عاشور ص (18).
(2) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، المقدمة الثانية، (1/ 19).
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) سورة البقرة، الآية: (158).
(6) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، المقدمة الثانية، (1/ 21).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 115
يفسر القرآن إلّا آيات معدودات علّمه إياهن جبريل، قال معناه في مغيبات القرآن و تفسير مجمله مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف» أو كان تفسيرا لا توقيف فيه كما بيّن لعدي بن حاتم أن الخيط الأبيض و الخيط الأسود هما سواد الليل و بياض النهار و قال له: «إنك عريض الوسادة» «1». و من المأثور: «ما نقله الصحابة عن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم رواية مما لا مجال للرأي فيه. مثل كون المراد من المغضوب عليهم: اليهود و النصاري» «2».
كما عدّ من المأثور ما عرف بأسباب النزول لأنها تعين علي تفسير المراد، و ليس المراد أن لفظ الآية يقصر عليها، لأن سبب النزول لا يخصص، قال تقي الدين السبكي:
كما أن سبب النزول لا يخصص، كذلك خصوص غرض الكلام لا يخصص، كأن يرد خاص ثم يعقبه عام للمناسبة فلا يقتضي تخصيص العام نحو: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ «3» ... و قد يكون المروي في سبب النزول مبيّنا و مؤوّلا لظاهر غير مقصود، فقد توهّم قدامة بن مظعون من قوله تعالي: لَيْسَ عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا «4». فاعتذر بها لعمر بن الخطاب في شرب قدامة خمرا، روي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون علي البحرين فقدم الجارود علي عمر، فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد علي ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد علي ما أقول و ذكر الحديث، فقال عمر: إني جالدك يا قدامة، قال: و اللّه لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: و لم؟ قال: لأن اللّه يقول: لَيْسَ عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا.
فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اللّه اجتنبت ما حرم اللّه، و في رواية فقال: لم تجلدني! بيني و بينك كتاب اللّه، فقال عمر: و أي كتاب اللّه تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن اللّه يقول في كتابه: لَيْسَ عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا إلي آخر الآية فأنا من الذين آمنوا و عملوا الصالحات ثم اتقوا و أحسنوا، شهدت مع رسول اللّه بدرا و أحدا و الخندق و المشاهد، فقال عمر: «أ لا تردون عليه قوله!» فقال ابن عباس: «إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين، و حجة علي الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا اللّه قبل أن تحرم عليهم الخمرة، و حجة علي الباقين لأن اللّه يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ (1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، المقدمة الثانية، (1/ 21).
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة النساء، الآية: (128).
(4) سورة المائدة، الآية: (93).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 116
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ «1» ثم قرأ إلي آخر الآية الأخري، فإن كان من الذين آمنوا و عملوا الصالحات ثم اتقوا و آمنوا و أحسنوا فإن اللّه قد نهي أن يشرب الخمر»، قال عمر:
«صدقت». و تشمل الآثار إجماع الأمة علي تفسير معني، إذ لا يكون إلا عن مستند كإجماعهم علي أن المراد من الأخت في آية الكلالة الأولي هي الأخت للأم، و أن المراد من الصلاة في سورة الجمعة هي صلاة الجمعة، و كذلك المعلومات بالضرورة كلها تكون كالصلاة مرادا منها الهيئة المخصوصة دون الدعاء، و الزكاة المال المخصوص المدفوع» «2».
و أما القراءات فلا يحتاج إليه إلا في حين الاستدلال بالقراءة علي تفسير غيرها، و إنما يكون في معني الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو الاستظهار علي المعني فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب، لأنها إن كانت مشهورة، فلا جرم أن تكون حجة لغوية، و إن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية، لأنها لا تكون صحيحة الرواية، و لكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلّا استنادا لاستعمال عربي فصيح إذ لا يكون القارئ معتدا به إلّا إذا عرفت سلامة عربيته» «3».
و معرفة أخبار العرب يلزم «لأنه من جملة أدبهم ... إنما خصصتها بالذّكر تنبيها لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو، فهي يستعان بها علي فهم ما أوجزه القرآن في سوقها، لأن القرآن إنما يذكر القصص و الأخبار للموعظة و الاعتبار، لا أن يتحادث به الناس في الأسمار، فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت إليه الآيات من دقائق المعاني. فقوله سبحانه و تعالي: وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً «4».
و قوله: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) «5» يتوقف علي معرفة أخبارهم عند العرب» «6».
أما أصول الفقه: فهو العلم الضابط لقواعد الاستنباط، فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها» «7». و إن كان ليس مادة التفسير أصلا، و الفقه ليس من مادة التفسير. إنما هو علم متأخر عن التفسير.
و الآثار المروية عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم و الآثار المروية عن الصحابة لا تعد من استمدادات علم (1) سورة المائدة، الآية: (90).
(2) محمد الطاهر بن عاشور، مقدمة التحرير و التنوير، الثانية، ص (23).
(3) المصدر نفسه.
(4) سورة النحل، الآية: (92).
(5) سورة البروج، الآية: (4).
(6) محمد الطاهر بن عاشور، مقدمة التحرير و التنوير الثانية، (1/ 23).
(7) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 117
التفسير، إنما هي جزء من التفسير.
و يبقي علم التفسير رأس العلوم الإسلامية فهو أصل لها علي وجه الإجمال، و أما استمداده من بعض العلوم الإسلامية، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير علي وجه أتم من الإجمال، و هو أصل لما استمدّ منه «1».

موقف ابن عاشور من التفسير بالرأي:

يظهر من قراءة المقدمة الثالثة المعنونة «في صحة التفسير بغير المأثور، و معني التفسير بالرأي و نحوه».
و بالمحصلة: فإن ابن عاشور يجيز التفسير بالرأي، لأن هذا التفسير هو الذي أغني التفاسير القرآنية بالمعاني و الحكم «قال الغزالي و القرطبي: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلي اللّه عليه و سلّم لوجهين:
أحدهما: أن النبي صلي اللّه عليه و سلّم لم يثبت عنه من التفسير: إلا تفاسير قليلة و هي ما تقدم عن عائشة و لا بأس من إعادة ذكره «ما كان رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم يفسر من كتاب اللّه إلا آيات معدودات علّمه جبريل إياهن».
و الثاني: اختلفوا في التفسير علي وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها، و سماعها جميعها من رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم محال ... فتبين أن كل مفسّر قال في معني الآية ما ظهر له باستنباطه» «2».
و قد روي البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي رضي اللّه عنه: «هل عندكم شي‌ء من الوحي إلّا ما في كتاب اللّه؟» قال: «لا، و الذي فلق الحبة، و برأ النّسمة، لا أعلمه إلّا فهما يعطيه اللّه رجلا في القرآن ... إلخ».
قال الرازي مبرزا إمكانية تعدد الآراء في تفسير النّصوص القرآنية، و ذلك في تفسيره الآية من وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ... «3». «و قد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها و إلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة و ذلك لا يقوله إلا مقلّد خلف» «4». (1) محمد الطاهر بن عاشور، مقدمة التحرير و التنوير الثانية، (1/ 25).
(2) المصدر نفسه، المقدمة الثالثة، (1/ 26، 27).
(3) سورة النساء، الآية: (19).
(4) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الثالثة، (1/ 27).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 118
أما الأحاديث الواردة في ذم القول بالقرآن بالرأي محمول علي الرأي المذموم المشفوع بالهوي و التعصب. و ما يمكن أن يلجأ بعضهم إلي تفسير القرآن برأيه، دون بذل جهد كاف للفهم فيكون تفسيره خاطئا لا إحاطة فيه، كأن يقتصر بفهمه علي آية واحدة و يغفل عن أخري تؤثر علي توجيه المعني مثل قوله تعالي: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ «1».
فظاهر المعني أن الخير من اللّه و الشر من الإنسان بقطع النظر علي الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد اللّه. و هذا المفسر حينئذ كان غافلا عما سبق من قوله تعالي:
قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... «2». و من الأسباب التي يذم فيها القول بالرأي في القرآن: «أن يفسر القرآن برأي مستند إلي ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق علي المتأوّلين. ثم لا بد من الحذر من القول بالرأي إذا قيل دون وعي و فهم و جهد، لأن فقدان ذلك أو الاستهتار بالإعداد الجاد بتوفير أدوات المفسّر من شأنه أن يحرف الأفهام و يضل العباد، و يجعلهم يقعون في براثن الجهل و الفوضي التي تبعدهم عن مقاصد الهدي القرآنية.
لذا فإن العلماء ردوا بقوة علي من استهتر بالدلالات القرآنية المطلوبة، عند ما استخدم أدوات من شأنها أن تضل المفسّر، و أن تضلل العباد، فقد تصدي الغزالي في كتابه «المستظهري» لهم: «إذا قلنا بالباطن، فالباطن لا ضبط له، بل تتعارض فيه الخواطر فيمكن تنزيل الآية علي وجوه شتي» «3». و إن احتج بعضهم برواية عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم ظهرا و بطنا و مطلقا».
قال ابن عاشور: «لم يصح ما روي عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم بل المروي عن ابن عباس، و نقلوا عن ابن عباس أن «ظاهره التلاوة و باطنه التأويل». أي الظاهر هو اللفظ، و الباطن هو المعني.
هذا و يجب أن لا يخلط المرء بين التفسير الباطني مثل بعض ما بثّ في رسائل إخوان الصفا، و تفسير القاشاني، و بين بعض الإشارات الصوفية و التي أطلق عليها «التفسير الإشاري». أما ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري علي ألفاظ القرآن ظاهرا، و لكن بتأويل فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدّعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلّم فيه، و حسبكم في ذلك أنهم سمّوها إشارات، و لم يسموها معاني فبذلك فارق قولهم قول الباطنية.
قال الغزالي في الإحياء: «إذا قلنا في قوله صلي اللّه عليه و سلّم: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا (1) سورة النساء، الآية: (79).
(2) سورة النساء، الآية: (78).
(3) عن المستظهري للغزالي، نقلا عن ابن عاشور في المقدمة الثانية، (1/ 32).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 119
صورة، فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت و هو مهبط الملائكة و مستقر آثارهم، و الصفات الرديئة كالغضب و الشهوة و الحسد و الحقد و العجب كلاب نابحة في القلب إلا بواسطة الملائكة، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور» «1».
و قال: «و لست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب، و بالكلب الصفة المذمومة، و لكني أقول هو تنبيه عليه، و فرق بين تغيير الظاهر و بين التنبيه علي البواطن من ذكر الظواهر» «2».
يقول ابن عاشور: «فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية ... و مثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من «صحيح البخاري» عن عمرو بن عطاء في قوله تعالي: أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً «3» ... قال: هم كفار قريش، و محمد نعمة اللّه، و أحلّوا قومهم دار البوار «يوم بدر» «4».
و يري ابن عاشور أن التفسير الإشاري يقبل إذا كان مأخوذا من النّص يعطي إيحاء لضرب المثل كما مرّ في حديث «الملائكة الذين لا يدخلون بيتا فيه صور». و يضرب ابن عاشور حالة أخري مقرّبا إلي الأذهان اللقطات الإشارية، و إن كان هذا المثال ليس من التفسير:
«و من حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مرّ برجل يقول لآخر: «هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلّا للنار» فجعل يبكي و يقول: إذا فالقلب غير المثمر لا يصلح إلّا للنار» «فنسبت الإشارة إلي القرآن مجازية لأنها تشير إلي من استعدت عقولهم و تدبرهم ...
في [حالات و لا ينتفع به غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم و أثارت اعتيادهم نسبوا تلك الإشارة للآية» «5».
و يحاول ابن عاشور أن يفرّق بين الإشارة الصوفية، و التفسير الباطني بطوارق ثلاثة ترسم حدود الحالات الثلاثة للإشارة، و إلا اقترب القول من الباطنية رويدا رويدا «و عندي أن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء:
الأول: ما كان يجري فيه معني الآية مجري التمثيل لحال شبيه بذلك المعني كما (1) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ط دار المعرفة، ج (1)، كتاب العلم، الباب الخامس في آداب المتعلم و المعلم.
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة إبراهيم، الآية: (28).
(4) محمد بن عاشور، المقدمة الثالثة للتحرير و التنوير، (1/ 33).
(5) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 120
يقولون مثلا: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعي فِي خَرابِها «1».
إنها إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع للّه تعالي إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس و منعها من ذكره هو الحيلولة بينها و بين المعارف اللدنية وَ سَعي فِي خَرابِها بتكديرها بالتعصبات و غلبة الهوي، فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة و يمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم اللّه و ذكر عند تلك الحالة كالنطق بلفظ المثل» «2».
الثاني: «ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معني يسبق من صوتها إلي السمع هو غير معناها المراد ... مثل قوله تعالي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ «3»: من ذلّ ذي- إشارة للنفس- يصير من المقربين الشفعاء، فهذا يأخذ صدي مواقف الكلام في السمع و يتأوله علي ما شغل به قلبه [و يري ابن عاشور: أن الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا و لقد أبدع » «4».
و هنا يجب أن نتساءل حول العبارة التي ذكرها ابن عاشور آنفا.
فهذا- أي السماع- يأخذ صدي مواقع الكلام في السمع، و يتأوله [صاحب الإشارة [علي ما شغل قلبه ... هب أن قلبه كان مشغولا بشي‌ء مذموم فعندئذ قد يتأوّل الآية تأويلا مذموما «لأن صاحب الإشارة سيؤوّل الآية حسب الحالة التي انشغل بها قلبه».
و السؤال الآخر: ما السبيل إلي معرفتنا الحالة التي انشغل بها قلبه؟ ...
ظني لو أن السؤال طرح علي ابن عاشور فإنه سيقول: لا سبيل إلي الدخول إلي القلب كي نعرف الحالة التي ينشغل فيها ... و لكن طبيعة التأويل تكشف عن الحالة التي كان عليها قلبه. فإن كانت حالة خيّرة، كان تأويله الإشاري حسنا مقبولا، و إن كانت الحالة مذمومة كان تأويله الإشاري مذموما مردودا.
و يمكن طرح السؤال علي ابن عاشور: و ما المقياس المعتمد في الرّد و القبول لأننا سنرد التأويل المذموم لانشغال قلبه بما هو مذموم ... و سنقبل التأويل الحسن لانشغال قلب المؤول بما هو حسن ...
ظني الجواب الذي لا مناص منه: هو ما يقبله الشرع «أي الظاهر» ... و الحق أن (1) سورة البقرة، الآية: (114).
(2) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الثالثة، ص (33، 34).
(3) سورة البقرة، الآية: (225).
(4) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الثالثة، (1/ 34).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 121
هذا السبيل لا يخلو من مخاطر و مغامرات، و هو قول ابن عاشور لأن خروج الإشارة إلي خارج الحالات الثلاثة يجعلها تقترب من التفسير الباطني! الثالث: «عبر و مواعظ، و شأن أهل النفوس اليقظي أن ينتفعوا من كل شي‌ء و يأخذوا الحكمة حيث وجدوها، فما ظنك بهم إذا قرءوا القرآن و تدبروه ... فإذا أخذوا من قوله تعالي: فَعَصي فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا (16) «1». اقتبسوا الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا» «2».
و قد نوّهنا إلي كلام ابن عاشور أن كل إشارة خرجت عن هذه الأحوال الثلاثة إلي ما عداها فهي تقترب إلي قول الباطنية رويدا رويدا».
و يجب التنويه أن دلالة الإشارة و فحوي الخطاب التي نصّ عليها علماء أصول الفقه لا علاقة لها البتة «بما تتحدث عنه من التفسير الإشاري فالحالتان مختلفتان تماما».

ما الأغراض المقصودة من التفسير حسب ابن عاشور:

يري المؤلف ابن عاشور «صاحب التحرير و التنوير» أن المقاصد الأصلية التي جاء بها القرآن لتبيانها «فلنلمّ الآن بها» و هي علي النحو التالي- و سأحاول أن أذكرها بإيجاز مع بعض التصرف.
الأول: إصلاح الاعتقاد، و هذا يعني التحرّر من الشرك، و التخلص من الخضوع لغير اللّه، لأن سواه ليس قادرا علي فعل شي‌ء، قال تعالي: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ «3». فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم و ليس هو من فعل الآلهة و لكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.
الثاني: تهذيب الأخلاق، قال تعالي: وَ إِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) «4».
و قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «5».
الثالث: التشريع، و هو الأحكام خاصة و عامة، قال تعالي: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْري لِلْمُسْلِمِينَ «6» و قال تعالي: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ (1) سورة المزمل، الآية: (16).
(2) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الثالثة، (1/ 34).
(3) سورة هود، الآية: (101).
(4) سورة القلم، الآية: (4).
(5) أخرجه مالك في الموطأ.
(6) سورة النحل، الآية: (89).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 122
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ «1».
الرابع: «صلاح الأمة و حفظ نظامها كالإرشاد إلي تكوين الجامعة بقوله: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلي شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها «2». و قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‌ءٍ «3» وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ «4».
الخامس: القصص و أخبار الأمم السالفة بصالح أحوالهم نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) «5».
السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، و ما يؤهلهم إلي تلقي الشريعة و نشرها و ذلك علم الشرائع و علم الأخبار، و كان ذلك علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. و قد زاد القرآن علي ذلك تعليم حكمة ميزان العقول، و صحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين و في دعوته إلي النظر، ثم نوّه بشأن الحكمة فقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «6» ... نعم لقد فجر القرآن العقلية قبل القرآن عقلية حفظ و استظهار، يمكننا القول بقول ابن عاشور عن أهمية القرآن المعرفية «و هذا أوسع باب انبجست منه عيون المعارف، و انفتحت به عيون الأميين إلي العلم» «7».
و نبّه القرآن إلي مزية الكتابة ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ «8». و دعا إلي الإعقال و التفكير وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «9».
السابع: المواعظ و الإنذار و التحذير و البشير: «و هذا يجمع جميع آيات الوعد و الوعيد و التحذير و التبشير و كذلك المحاجة، و المجادلة للمعاندين و هذا باب الترغيب و الترهيب» «10». (1) سورة النساء، الآية: (105).
(2) سورة آل عمران، الآية: (103).
(3) سورة الأنعام، الآية: (159).
(4) سورة الأنفال، الآية: (46).
(5) سورة يوسف، الآية: (3).
(6) سورة البقرة، الآية: (269). و انظر المقدمة الرابعة من التحرير و التنوير، (1/ 38، 39).
(7) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الرابعة، (1/ 39).
(8) سورة القلم، الآية، (1).
(9) سورة العنكبوت، الآية: (43).
(10) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الرابعة، (1/ 39).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 123
الثامن: «الإعجاز بالقرآن» ليكون دليلا علي صدق محمد رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم «بادعائه النبوة و الرسالة» و تحدي القرآن العرب أن يأتوا بمثله و هم البلغاء، ثم تحداهم بعشر سور من مثله، ثم تحداهم بالسورة ... و قد عجزوا، و أذعنوا لبلاغة القرآن علي الرغم من تحديه لهم، و إقامة الحجة علي العرب، فكان تحديا لغير العرب.
و بذلك يعني أن القرآن المعجزة العقلية الخالدة لرسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم، و بذلك يختلف عن باقي معجزات الرسل السابقين التي انتهت بوفاة الرسل عليهم السّلام. و أكثر من ذلك يعني أن القرآن وحده هو الدليل القاطع الذي نقل لنا معجزات الرسل السابقين كمعجزة إحياء الموتي علي يد نبي اللّه و رسوله عيسي عليه السّلام، و معجزة العصا التي شقت البحر فرقين كل فرق كالطود العظيم علي يد نبي اللّه و رسوله موسي عليه السّلام.
و لعل الحكمة الكامنة وراء ذلك هي أن القرآن كتاب الإسلام خاتم الرسالات.
و تضمن معجزات الرسل السابقين لأنه اعترف بالرسالات السابقة، لأن رسالات الأنبياء تمتاز بوحدة المصدر، و بوحدة الدعوة، و امتاز الإسلام علي غيره بشموليته و عالميته التي نص عليها القرآن وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً «1» لذا كانت المعجزة الخالدة تتحلي بميزة غير الميزات التي امتازت بها المعجزات المؤقتة بتوقيت أنبيائها و أصحابها المرسلين زمانا، و مكانا.

هل يشتمل القرآن علي كل العلوم؟

و موضوع الإعجاز اتسع إلي حد كبير وفق تقدم المعارف العقلية الفلسفية و العلمية.
فبالوقت الذي ذهب بعض العلماء إلي التوفيق ما بين علم الحكمة و الشريعة من الاتصال كما فعله ابن رشد الحفيد، و ذهب بعضهم إلي جعل القرآن مشتملا علي كل العلوم.
علي جهة أخري نري أبو إسحاق الشاطبي يقول في الفصل من المسألة الرابعة: لا يصح في مسلك الفهم و الإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب، فلا يتكلّف فيه فوق ما يقدرون عليه» «2» و قال في المسألة الرابعة من النوع الثاني: ما تقرر من أمية الشريعة و أنها جارية علي مذاهب أهلها، و هم العرب، ينبني عليها قواعد منها:
1- أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوي علي القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين: من علوم الطبيعيات ... و المنطق و علم الحروف ..» «3». (1) سورة سبأ، الآية: (34).
(2) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، (2/ 85).
(3) المصدر نفسه، (2/ 79).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 124
فالصحابة و التابعين و من يليهم كانوا أعرف بالقرآن و بعلومه، و ما أودع فيه، و لم يبلغنا أنه تكلّم أحد منهم من هذا المدّعي سوي ما تقدّم» «1».
يشير الشاطبي بذلك إلي قوله في المسألة أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس و كان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، و اتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح و زادت عليه، و أبطلت ما هو باطل و بينت منافع ما ينتفع من ذلك و مضار ما يضر منه».
و يريد الشاطبي من ذلك: أن القرآن لا يجب أن نتجاوز بمعانيه الحد و نأخذ منه علوما لا تعرفها العرب، لأن القرآن نزل علي العرب الفصحاء و فهموه فهما شاملا بجملتهم إن لم نقل بمفردهم. أما العلوم التي كانت عند العرب فقد أشار إليها القرآن، و من علوم العرب:
«علم النجوم، و ما يختص بها من الاهتداء في البر و البحر، و اختلاف الأزمان، باختلاف سيرها و تعرف منازل سير النيّرين، و ما يتعلق بهذا المعني «2»، و هو معني مقرر أثناء القرآن في مواضع كثيرة كقوله تعالي: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ «3». و كقوله سبحانه تعالي: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّي عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) «4». لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ «5». و قوله تعالي: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) «6». و هناك آيات أخر.
و يري الشاطبي «و لو كان لهم في ذلك خوض و نظر [أي خوض من عرب الصحابة و التابعين في مسائل علوم كونية غير موجودة لديهم أصلا] لبلغنا منه ما يدلّنا علي أصل المسألة، إلّا أن ذلك لم يكن مدلّ علي أنه غير موجود عندهم، و ذلك دليل علي أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشي‌ء مما زعموا. نعم تضمن علوما هي من جنس علوم العرب أو ما ينبني علي معهودها مما يتعجب منه أولوا الألباب و لا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه و الاستنارة بنوره» «7». (1) الشاطبي، الموافقات، (2/ 79، 80).
(2) المصدر نفسه، (2/ 71، 72).
(3) سورة الأنعام، الآية: (97).
(4) سورة يس، الآية: (39).
(5) سورة يس، الآية: (40).
(6) سورة يونس، الآية: (5).
(7) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، (2/ 80).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 125
و الخلاصة من ذلك أن الشاطبي لا يوافق علي التوسع في البحث عن العلوم الكونية و الادعاء أن العلوم بالجملة موجودة في القرآن أو أشار إليها.
و يرد من استدل بقوله تعالي: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ «1».
بقوله: «المقصود في البيان لكل شي‌ء من أحوال التكليف و التعبد» «2».
و يقول د. عبد اللّه دراز في تعليقاته علي موافقات الشاطبي حول تقرير القرآن أو عدم تقريره للعلوم الكونية أو تقرير واحد منها: «كونه لم يقصد فيه تقرير شي‌ء من هذه العلوم الكونية ظاهر لأنه ليس بصدد ذلك. أما كونه لا يجي‌ء في طريق دلائله علي التوحيد ما ينبني عليه التوسع في إدراكها و إتقان معرفتها إذا لم يكن معروفا عند العرب فهو محل نظر» «3».
و يرد ابن عاشور علي الشاطبي من كون القرآن لم يخاطبهم إلّا بعلوم أو معلومات يمتلكون أساسها بقوله تعالي: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا «4».
و من جهة ثانية: إن مقاصد القرآن راجعة إلي عموم الدعوة، و هو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة.
و من ناحية ثالثة: فإن السلف قالوا إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه، و لو كان كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه.
و من ناحية رابعة: فإن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة.
و من ناحية خامسة: إن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلّا أن يكون المعني الأصلي مفهوما لديهم، فأما ما زاد علي المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام، و تحجب عنه أقوام، و رب حامل فقه إلي من هو أفقه منه.
و من ناحية سادسة: إن عدم تكلم السلف عليها [علي العلوم الكونية] إن كان فيما ليس (1) سورة النحل، الآية: (89).
(2) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، (2/ 80).
(3) انظر تعليق د. عبد اللّه دراز علي الموافقات، (2/ 80).
(4) سورة هود، الآية: (49).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 126
راجعا إلي مقاصده فنحن نساعد عليه، و إن كان فيما يرجع إليها فلا نسلّم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات، بل قد بينوا و فصّلوا و فرعوا في علوم غنوا بها، و لا يمنعنا ذلك أن نقفي علي آثارهم في علوم أخري راجعة لخدمة المقاصد القرآنية أو لبيان سعة العلوم الإسلامية» «1».
و يخلص ابن عاشور إلي جعل العلاقة بين القرآن و العلوم تنضبط بأربع مراتب:
1- علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء و الأمم و تهذيب الأخلاق و الفقه و التشريع و الاعتقاد و الأصول العربية و البلاغة.
2- علوم تزيد المفسر علما كالحكمة [الفلسفة] و الهيئة، و خواص المخلوقات.
3- علوم أشار إليها، أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض، و الطب و المنطق.
4- علوم لا علاقة له بها، لبطلانها كالزجر، و العيافة، و الميثولوجيا، و إما لا تعين علي خدمته كعلم العروض و القوافي.
و ظني أن علم العروض و القوافي يخدم العلوم القرآنية لأننا به نعلم مدي انضباط شعر العرب و حسنه وجوده، عدا عن الشروط الأخري الواجب توافرها لإدراك ذلك ... و لا ينكر مدي أهمية فهم شعر العرب لفهم القرآن و الدين علي نحو عام» «2».
و بالمضيّ قدما في قراءة تفسير التحرير و التنوير، نجد ابن عاشور قد قدم المقدمة الخامسة و تحدث عن أهمية علم أسباب النزول و مساعدته علي فهم الظروف و المناخ الذي تنزل عليه النص «3».
و كتب المقدمة السادسة في القراءات و علاقتها بالتفسير، و تحدث عن أنواع القراءات المتواترة، و الصحيحة، و الشاذة.
و أما المقدمة السابعة فقد اشتملت علي القصص القرآني و فوائده السلوكية و الوعظية للمسلمين و للإنسانية عموما.
و كذلك تحدث في المقدمة الثامنة عن «اسم القرآن و آياته و سوره، و ترتيبها و أسمائها بأسلوب علمي مقارن، و كثيرا ما يلجأ إلي إبداء رأيه الذي رجّحه بعد اطلاعه علي بقية الآراء. ثم تحدث في المقدمة التاسعة في إثبات «أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر واردة بها». و المقدمة العاشرة في الإعجاز القرآني و بها استعرض أقوال الدارسين (1) محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة الرابعة للتحرير و التنوير، (1/ 42، 43).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، المقدمة الخامسة (1/ 44).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 127
و العلماء المتضلعين في علم الإعجاز القرآني» «1».

ابن عاشور و اللغة:

لم يكن تفسير ابن عاشور «التحرير و التنوير» تفسيرا فقط بل يمكن اعتباره كتاب لغة، بل كتاب في أساليب اللغة عامة، لأنه اشتمل علي النحو و الصرف و البلاغة. و وظّف بنجاح علوم اللغة لصالح فهم الكتاب الكريم القرآن، زد علي ذلك أنه اهتم بتوضيح معاني الأدوات النحوية، و ذكّر بمعانيها، و نوّه بالوظائف المعنوية و البلاغية التي قامت بها ...
و هذا ما سنتبيّنه من خلال بعض الأمثلة؛ قال تعالي:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «2».
قال في هذه الآية:
«استئناف ابتدائي ثني به البيان إلي موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله بعد أن قضي حق وصف كل فريق منهم بخلاله [بصفاته . و مثلت حال كلّ فريق، و ضربت له أمثاله، فإنه لمّا استوفي أحوالا للمؤمنين و أضدادهم من المشركين و المنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشادا لهم و رحمة بهم لأنه لا يرضي لهم الضلال» «3». إنها رحمة اللّه بعباده، و العصاة منهم، فهو لا يتركهم يهيمون علي وجوههم يخبطون خبط عشواء، بل يوجه لهم النداء تلو النداء لعلهم يرشدون يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ.
«الإقبال علي موعظة نبذ الشرك و ذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب: يا أيها الناس، و قرينة ذلك هنا قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «4». و افتتح الخطاب بالنداء تنويها به.
و (يا): حرف نداء، و هو أكثر حروف النداء استعمالا فهو أصل حروف النداء، و لذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء و لكونه أصلا كان مشتركا.
و (أيّ): في الأصل نكرة تدل علي فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة، نحو: أي رجل أو بطريق الإبدال نحو: يا أيها الرجل، و منه ما في الاختصاص كقولك (1) انظر محمد الطاهر بن عاشور من ص (45- 128) لمن أراد التوسع ببعض هذه المقدمات لأنها حوت معلومات هامة.
(2) سورة البقرة، الآية: (21).
(3) محمد بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 318).
(4) سورة البقرة، الآية: (22).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 128
لجليسك: أنا كفيت مهمّك أيها الجالس عندك، و قد ينادي المنادي باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته، أو لأنه أشمل لإحضاره، كما هنا فربما يؤتي بالمنادي حينئذ نكرة مقصودة أو غير مقصودة، و ربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفا باللام الجنسية إشارة إلي تطرق التعريف إليه علي الجملة تفننا، فجري استعمالهم أن يأتوا حينئذ مع اللام باسم إشارة إغراقا في تعريفه، و يفصلوا بين حرف النداء و الاسم المنادي حينئذ بكلمة «أي» و هو تركيب غير جار علي قياس اللغة و لعله من بقايا استعمال عتيق» «1».
و يستغرق في تحليل المفردات، و يذكر أصلها، و يضرب الأمثلة عليها:
و قد اختصروا اسم الإشارة فأبقوا (ها) التنبيهية و حذفوا اسم الإشارة، فأصل يا أيها الناس يأيهؤلاء، و قد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر الذي لا نعرفه:
«أيهذان كلا زاديكما» و ربما أرادوا نداء المجهول الحاضر الذات أيضا بما يدل علي طريق إحضاره من حالة قائمة به باعتباره كونه فردا من جنس، فتوصلوا لذلك باسم الموصول الدال علي الحالة بصلته و الدال علي الجنسية لأن الموصول يأتي لما تأتي له اللام فيقحمون أيا كذلك نحو:
يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ «2».
(و الناس): اسم جمع نودي و عرف بأل يشمل كل أفراد مسمّاه، لأن الجموع المعرّفة باللام للعموم ما لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول، و احتمالها العهد ضعيف إذ الشأن عهد الأفراد فلذلك كانت في العموم أنص من عموم المفرد المحلي بأل» «3».
(اعبدوا): المخاطب بالعبادة «المشركون من العرب و الدهريون منهم و أهل الكتاب و المؤمنون كلّ بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق و من توحيده، و من الإيمان بالرسول و الإسلام للدين و الامتثال لما شرعه اللّه، إلي ما وراء ذلك كله حتي منتهي العبادة و لو بالدوام و المواظبة بالنسبة إلي الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و المؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب علي ما تقرر في الأصول، فالمأمورية هو القدر المشترك حتي لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأبي ذلك الاستعمال و إن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق، بدليل تفريغ قوله بعد ذلك فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً «4» علي قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «5». فليس بهذه الآية حجة (1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 319).
(2) سورة الحجر، الآية: (6).
(3) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 320).
(4) سورة البقرة، الآية: (22).
(5) سورة البقرة، الآية (21).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 129
للقول بخطاب الكفار بفروع الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يعني به الإيمان و التوحيد، و تصديق الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و خطابهم بذلك متفق عليه و هي مسألة سمجة» «1». قلت: لا اتفاق و خالف بذلك المالكية و الشافعية «2».
(و الرب): إما مصدر، و إما صفة مشبهة علي وزن «فعل» من ربّه يربّه بمعني: رباه و هو رب بمعني مربّ و سائس. و التربية: تبليغ الشي‌ء إلي كماله تدريجيا، و يجوز أن يكون من ربه بمعني ملكه. فإن كان مصدرا علي الوجهين فالوصف به للمبالغة، و هو ظاهر و إن كان صفة مشبهة علي الوجهين فهي واردة علي القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون علي فعل من فعل يفعل إلّا قليلا، من ذلك قولهم: نم الحديث، ينمّه فهو نمّ للحديث» «3».
غير أن ابن عاشور يرجح الاشتقاق «و الأظهر أنه مشتق من ربّه بمعني رباه و ساسه لا من ربه بمعني ملكه، لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذا المراد أنه مدبر الخلائق و سائس أمورها و مبلغها غاية كمالها» «4».
و يرجح ابن عاشور ما ذهب إليه بقوله: «و لأنه لو حمل علي معني المالك لكان قوله تعالي بعد ذلك «ملك يوم الدين» كالتأكيد، و التأكيد خلاف الأصل، و لا داعي إليه هنا، إلّا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلّا عوالم الدنيا، فيحتاج إلي بيان أنه ملك الآخرة، كما أنه ملك الدنيا، و إن كان الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعني الملك و السيد و ذلك الذي دعا صاحب الكشّاف إلي الاقتصار علي معني السيد و الملك و جوّز فيه وجهي المصدرية و الصفة ..» «5».
«و هو لم يقل اعبدوا اللّه لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذانا بأحقية الأمر بعبادته، فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة، لأن فيها معني الشكر و إظهار الاحتياج، و إفراد اسم الرب دل علي أن المراد رب جميع الخلق و هو اللّه تعالي، إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد و الإضافة إلي جميع الناس إلا اللّه، فإن المشركين و إن أشركوا مع اللّه آلهة إلّا أن بعض القبائل كان لها مزيد اختصاص بعض الأصنام كما كان لثقيف مزيد اختصاص (1) انظر تفسير الرازي عند تفسير سورة المدثر للآيات (42، 43، 44، 45، 46، 47). و انظر أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن، (2/ 558) و عدا تكليف الكفار بفروع الشرع مسألة قطعية، و الكافرون ليسوا مكلفين بفروع الشريعة.
(2) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 321).
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه (1/ 164).
(5) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 130
باللات كما تقدم في سورة الفاتحة و تبعهم الأوس و الخزرج» «1».
و قوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ): صريح في الدعوة إلي توحيد اللّه و لذلك فقوله «الذي خلقكم» زيادة بيان لموجب العبادة أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معني الاختصاص بأحقية العبادة.
و قوله (وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ): يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا: نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ «2». فكان قوله: وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلي أب أول فهو مخلوق للّه تعالي.
و لعل هذا وجه التأكيد بزيادة «من» في قوله: «من قبلكم» الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار علي «قبلكم» لأن «من» في الأصل للابتداء فهي تشير إلي أول الموصوفين بالقبلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع التأكيد الغالب عليها إذا وقعت مع قبل و بعد» «3».
(و الخلق): في القرآن و كلام الشريعة هو: «إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلي الوجود إخراجا لا صفة فيه للبشر ...» «4».
قال الغزالي «في المقصد الأسني»: لا حظّ للعبد في اسمه تعالي الخالق إلا بوجه من المجاز بعيد، فإذا بلغ في سياسة نفسه، و سياسة الخلق مبلغا ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها و يقدر مع ذلك فعلها كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل فيجوز إطلاق الاسم أي الخالق عليه مجازا بعيدا فيما حكاه اللّه تعالي في القرآن من قول عيسي عليه السّلام: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ «5». و قول اللّه تعالي: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي «6». فإن ذلك مراعي فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا يقدر عليه إلّا اللّه تعالي، ثم تخصيص تلك المادة بتكوين اللّه تعالي الموجودات، و من أجل ذلك قال اللّه: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «7».
و جملة «لعلكم تتقون» تعليل للأمر باعبدوا، فلذلك فصّلت: أي أمرتكم بعبادته لرجاء منكم أن تتقوا. ثم يبدأ ابن عاشور بتحليل النص القرآني «لعلكم تتقون»: (1) محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير و التنوير، (1/ 321).
(2) سورة الجاثية، الآية: (24).
(3) محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير و التنوير، (1/ 322).
(4) المصدر نفسه، (1/ 323).
(5) سورة آل عمران، الآية: (49).
(6) سورة المائدة، الآية: (110).
(7) سورة المؤمنون، الآية: (14).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 131
(لعل): حرف يدل علي الرجاء، و الرجاء هو الإخبار عن تهيئ وقوع أمر في المستقبل وقوعا مؤكدا، فتبين لعل: حرف مدلوله خبري، لأنها إخبار عن تأكد حصول الشي‌ء ... «و ليس فيها معني إنشائي طلبي و لذلك لم ينصبوا الفعل في جوابها بعد الفاء و الواو بخلاف جواب التمني و لذلك فأطلع من قوله تعالي: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ «1» إلّا في رواية حفص عن عاصم فقد نصب «فأطلع».
و يتوسع في شرحه للنص القرآني الحاوي علي صيغة الترجي فيقول: «معناها مركب من رجاء المتكلم في المخاطب و هو معني جزئي حرفي» «2».
و يعلل عدم الجزم للفعل الواقع بعدها بقوله: «لأن معني الترجي يقتضي عدم الجزم بوقوع المرجو عند المتكلم، فللشك جانب في معناها حتي قال الجوهري: «لعل كلمة شك، و هذا لا يناسب علم اللّه تعالي بأحوال الأشياء قبل وقوعها، و لأنها قد وردت في أخبار مع عدم حصول المرجو لقوله تعالي:
وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) «3» مع أنهم لم يتذكروا كما بينته الآيات بعد» «4».

ترجيحات لابن عاشور في معاني لعل:

منهج ابن عاشور في الترجيح يقوم علي ما يلي:
ذكر الأقوال الواردة في المسألة ممن سبقوه من أهل العلم. و يفسر ابن عاشور ما يريده أولئك إن كان داع يدعو إلي ذلك.
ثم يبين ابن عاشور رأيه فإما يوافق السابقين، و إما يرجح أحد هذه الآراء، و إمّا يأتي برأي جديد.
فعند ما درس معاني «لعل» عند أهل اللغة قال ابن عاشور:
أحدها: قال سيبويه: «لعل علي بابها و الترجي أو التوقع إنما هو في حيز المخاطبين. يعني للإخبار بأن المخاطب يكون مرجوا، و اختاره الرضي قائلا: لأن الأصل أن لا تخرج عن معناها بالكلية. (1) سورة غافر، الآيتان: (36، 37).
(2) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 323).
(3) سورة الأعراف، الآية: (130).
(4) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 323).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 132
و أقول: لا يعني سيبويه أن ذلك معني أصل لها و لكنه يعني أنها مجاز قريب من معني الحقيقة لوقوع التعجيز في أحد جزأي المعني الحقيقي، لأن الرجاء يقتضي راجيا و مرجوا منه، فحرف الرجاء علي معني فعل الرجاء إلا أنه معني جزئي، و كل من الفاعل و المفعول مدلول لمعني الفعل بالالتزام، فإذا دلّت قرينة علي تعطيل دلالة حرف الرجاء علي فاعل الرجاء لم يكن في الحرف أو الفعل مجاز، إذ المجاز إنما يتطرق للمدلولات اللغوية لا العقلية، و كذلك إذا لم يحصل الفعل المرجو.
ثانيها: أن لعل «للإطماع» تقول للقاصد: لعلك تنال بغيتك، قال الزمخشري: و قد جاءت علي سبيل الإطماع في مواضع من القرآن. و الإطماع أيضا معني مجازي للرجاء لأن الرجاء يلزمه التقريب و التقريب يستلزم الإطماع فالإطماع لازم بمرتين.
ثالثها: أنها للتعليل بمعني كي، قاله قطرب و أبو علي الفارسي و ابن الأنباري، و أحسب أن مرادهم هذا المعني في المواقع التي لا يظهر فيها معني الرجاء، فلا يرد عليهم أنه لا يطرد في نحو قوله: وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «1» لصحة معني الرجاء بالنسبة للمخاطب فلا يرد عليهم أيضا أنه إثبات معني في «لعل» لا يوجد له مشاهد من كلام العرب، و جعله الزمخشري قولا متفرعا علي قول من جعلها للإطماع فقال: «و لأنه إطماع من كريم إذا أطمع فعل» قال من قال: إن لعل بمعني كي فهو معني مجازي ناشئ عن مجاز آخر، فهو من تركيب المجاز علي اللزوم بثلاث مراتب.
رابعها: ما ذهب إليه صاحب «الكشّاف» أنها استعارة فقال: «و لعل في الآية واقعة موقع المجاز لأن اللّه تعالي خلق عباده ليتعبّدهم و وضع في أيديهم زمام الاختيار و أراد منهم الخير و التقوي فهم في صورة المرجو أن يتقوا ليترجح أمرهم و هم محتارون بين الطاعة و العصيان» «2».
و يخلص بعد هذا إلي معني جديد مستقل و هو: «أن لعل الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهي لها استعمال يغاير استعمال لعل المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام اللّه أم في غيره، فإذا قلت: افتقد فلانا لعلك تنصحه كان إخبارا باقتراب وقوع الشي‌ء و أنه في حيّز الإمكان إن تم ما علق عليه، فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معني التزامي أغلبي قد يعلم انتفاؤه بالقرينة، و ذلك الانتفاء في كلام اللّه أوقع، فاعتقادنا أن كل شي‌ء لم يقع أو لا يقع في المستقبل هو القرينة علي تعطيل هذا المعني الالتزامي، دون (1) سورة الشوري، الآية: (17).
(2) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 324).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 133
احتياج إلي التأويل في معني الرجاء الذي تقيده «لعل» حتي يكون مجازا أو استعارة، لأن «لعل» إنما أتي بها لأن المقام يقتضي معني الرجاء الذي يقتضيه المقام، و الجماعة لجؤوا إلي التأويل لأنهم نظروا إلي لعل بنظر متّحد في مواقع استعمالها بخلاف لعل المستأنفة فإنها أقرب إلي إنشاء الرجاء منها إلي الإخبارية، و علي كل فمعني «لعل» غير معني أفعال المقاربة» «1».
و التقوي «الحذر مما تكره و شاعت عند العرب و المتدينين في أسبابها ... و التقوي نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثرا للأمر بالعبادة ... و المعني: اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين ...» «2».

الجانب الفقهي في تفسير ابن عاشور (التحرير و التنوير):

إن المنهج الذي اختطّه ابن عاشور لنفسه كان منهجا شاملا بإحاطته بأدوات البحث، إذ جعل من التفسير علما شاملا يحشد لأجله كل العلوم ... فإنا نري كلما تصفحنا رأيا لابن عاشور في تفسير أيّ آية وجدناه يحشد علوم اللغة بتفرعاتها البلاغية و النحوية و الصرفية، و الأسلوبية، و يمسك بالحديث النبوي و يدرس سنده و متنه، و يدرس الظروف التي تنزلت عليها الآية الكريمة ثم يعمد إلي تحليل النص، و يذكر النصوص المعينة علي فهمه و تفسيره وصولا إلي المراد بعد أن يسرد الأقوال التي قيلت فيه.
قال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضي أَوْ عَلي سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) «3».
يجيب ابن عاشور علي سؤال قبل أن يلج معاني الآية الكريمة. و السؤال: هل الوضوء كان مفروضا قبل نزول آية المائدة، يقول:
«الأظهر أن هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء، و شرع التيمم خلفا عن الوضوء بنص القرآن، لأن ذلك لم يسبق نزول قرآن فيه و لكنه كان مشروعا بالسّنة، و لا شك أن (1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 324، 325).
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة المائدة، الآية: (6).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 134
الوضوء كان مشروعا من قبل ذلك فقد ثبت أن النبي صلي اللّه عليه و سلّم لم يصلّ صلاة إلا بوضوء».
قال أبو بكر بن العربي: لا خلاف بين العلماء أن الآية مدنية، ثم لا خلاف أن الوضوء كان مفعولا قبل نزولها غير متلوّ «1»، و لذلك قال علماؤنا «2»: إن الوضوء كان بمكة مسنّة، معناه كان مفعولا بالسّنة، فأما حكمه فلم يكن قط إلا فرضا» «3».
و هنا لا بد من الإشارة إلي أن المالكي أبو بكر بن العربي عدّ الكافرين مكلفين بفروع الشريعة» «4». بخلاف ما ذكره ابن عاشور» «5». و ذلك عند تعقيبه علي قوله تعالي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ.
و يتابع ابن عاشور: «فهذه الآية قررت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن، و كذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الضوء، لأنه من بقايا الحنيفية التي كانت معروفة حتي أيام الجاهلية» «6».
«و معني (إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ): إذا عزمتم علي الصلاة، لأن القيام يطلق في كلام العرب بمعني الشروع في الفعل، قال الشاعر: [من الطويل
فقام يذود الناس عنها بسيفه و قال ألا لا من سبيل إلي هند
و استعملوا «قام» علي العزم علي الفعل، قال النابغة:
«قاموا فقالوا حمانا غير مقروب».
أي عزموا رأيهم فقالوا، و القيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب (إلي) لتضمينه معني عمدتم إلي أن تصلوا.
و روي مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أنه فسّر القيام بمعني الهبوب من النوم و هو مروي عن السّدي. فهذه وجوه الأقوال في تفسير معني القيام في هذه الآية و كلها تؤول إلي أن إيجاب الطهارة لأجل أداء الصلاة.
و أما ما يرجع إلي تأويل معني الشرط الذي في قوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فظاهر الأمر بالوضوء عند كل صلاة» «7» ... (1) غير متلو: أي لم ينزل به قرآن يتلي.
(2) علماؤنا: قصد المالكية منهم.
(3) أبو بكر ابن العربي، أحكام القرآن، ت علي محمد البجاوي، ط، دار المعرفة، (2/ 558).
(4) المصدر نفسه (2/ 558).
(5) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 331).
(6) المصدر نفسه، (5/ 49).
(7) المصدر نفسه، (5/ 49).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 135
و اقتضي طلب غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلي الصلاة، و الأمر ظاهر في الوجوب. و قد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف فروي عن علي بن أبي طالب و عكرمة وجوب الوضوء لكل صلاة و نسبه الطبرسي إلي داود الظاهري و لم يذكر ذلك ابن حزم في المحلي و لم أره لغير الطبرسي» «1».
و تطرق ابن عاشور إلي قول من قال بوجوب الوضوء لكل صلاة، و قول من قال إنه نسخ بعد الفتح. و خلص إلي القول: «إن الوضوء لكل صلاة علي وجه الاستحباب و الأفضلية لا غير» «1».
و أما الأعضاء الواجب غسلها، فيقول ابن عاشور: «و ما ذكر القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب و ما زاد عليه سنة واجبة» «3».
و حددت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأن اليد تطلق علي ما بلغ الكوع و ما إلي المرفق و ما إلي الإبط، فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النظافة فسكتت في التيمم فعلمنا أن السكوت مقصود، و أن التيمم لما كان مبناه علي الرخصة اكتفي بصورة الفعل و ظاهر العضو، و لذلك اقتصر علي قوله: «و أيديكم» في التيمم في هذه السورة و في سورة النساء. و هذا من طريق الاستعادة بالمقابلة. و هو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة و علماء الأصول فاحتفظ به و ألحقه بمسائلهما» «4».
و حول غسل المرافق «رأي أن المرافق تغسل» بخلاف القائلين بأنها متروكة» «5».
و قوله «و أرجلكم»: قرأه نافع، و ابن عامر، و الكسائي، و حفص عن عاصم، و أبو جعفر، و يعقوب بالنصب عطفا علي و «أيديكم»- و تكون جملة «و امسحوا برءوسكم» معترضة بين المتعاطفين، و كأن فائدة الاعتراض الإشارة إلي ترتيب أعضاء الوضوء، لأن الأصل في الترتيب الذّكري أن يدل علي الترتيب الوجودي، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة، إذ هي حكمة الوضوء هي النقاء و الوضاءة و التنظف و التأهب لمناجاة اللّه تعالي تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشد تعرضا للوسخ فإن الأرجل تلاقي غبار الطرقات، و تفرز الفضلات بكثرة حركة المشي ...» «6». و لذلك فإن النبي صلي اللّه عليه و سلّم كان ينادي للذي لم يحسن غسل رجليه: «ويل للأعقاب من النار» «7». (1) محمد الطاهر بن عاشور، (5/ 49).
(3) ابن عاشور، التحرير و التنوير، (5/ 51).
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) انظر التحرير و التنوير (5/ 52).
(7) التحرير و التنوير (5/ 52)، و الحديث أخرجه الترمذي في (الحديث: 41).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 136
و قرأ ابن كثير و أبو عمرو، و حمزة، و أبو بكر و عن عاصم و خلف بخفض و أرجلكم ... و للعلماء في هذه القراءة تأويلات: «منهم من أخذها بظاهرها فجعل حكم الرجلين المسح دون الغسل، و روي هذا عن ابن عباس، و أنس بن مالك، و عكرمة و الشعبي، و قتادة» «1».
و عن أنس بن مالك أنّه بلغه أن الحجاج خطب يوما بالأهواز فذكر الوضوء، فقال:
«إنه ليس شي‌ء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما و ظهورهما «و عراقيبهما» فسمع ذلك أنس بن مالك فقال: صدق اللّه و كذب الحجاج، قال اللّه تعالي:
وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ و رويت عن أنس رواية أخري: قال: نزل القرآن بالمسح و السّنة بالغسل، و هذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسح الرجلين منسوخا بالسّنة، ففي الصحيح أنّ رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم رأي قوما يتوضئون و أعقابهم تلوح، فنادي بأعلي صوته: «ويل للأعقاب من النار مرتين» «2». و أجمع الفقهاء بعد عصر التابعين علي وجوب غسل الرجلين عدا الإمامية الذين قالوا: «ليس في الرجلين إلا المسح». و قال ابن جرير الطبري: رأي التخيير بين الغسل و المسح و جعل القراءتين بمنزلة روايتين من الأخبار إذا لم يمكن ترجيح أحدهما، علي رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجح. و استأنس الشعبي لمذهبه «بأن التيمم يمسح فيها ما كان يغسل في الوضوء و يلغي فيه ما كان يمسح في الوضوء» «3». «و بعض العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا، و هذا الإطلاق إن صح لا يصح أن يكون مرادا هنا لأن القرآن فرّق في التعبير بين الغسل و المسح «4». وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... إلي قوله وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ «5».
و جملة: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ تعليل لرخصة التيمم، و نفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأن المريد الذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق.
و اللام في «ليجعل» داخلة علي أن المصدرية محذوفة و هي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة. و أفعال مادة الأمر، و هي لام زائدة علي الأرجح و تسمي لام أن.
و الحرج: الضيق، و الشدة. و الحرجة: البقعة من الشجر الملتف المتضايق. و الجمع:
حرج. و الحرج المنفي هنا: هو الحرج الحسي لو كلفوا بطهارة الماء مع المرض أو (1) التحرير و التنوير (5/ 52).
(2) المصدر نفسه، و الحديث أخرجه الترمذي في (الحديث: 41).
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) سورة المائدة، الآية: (6)، و راجع الآية في تفسير المؤلف لسورة النساء.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 137
السفر، و الحرج النفسي لو منعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضر أو سفر أو فقد ماء فإنهم يرتاحون إلي الصلاة و يحبونها» «1».
و ظني: ما من حرج حسي إلا و له أثر من الحرج النفسي ... و ما من حرج نفسي إلا و له آثار علي الجسم. و العلاقة بين ما هو نفسي و جسدي قوية لدرجة قد لا تستطيع الفصل بينهما.
و قوله: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ إشارة إلي أن من حكمة الأمر بالغسل و الوضوء التطهير و هو تطهير حسّي لأنه تنظيف، و تطهير نفسي جعله اللّه فيه لمّا جعله عبادة فإن العبادات كلها مشتملة علي عدة أسرار:
منها ما تهتدي إليه الأفهام و نعبّر عنها بالحكمة، و منها ما لا يعلمه إلّا اللّه، ككون الظهر أربع ركعات، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أن الحكم منحصرة فيما علمناه، و إنما هو بعض من كل، و ظن لا يبلغ منتهي العلم» «2».
و قوله: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ: أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام، أو يكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الراجعة إلي التزكية و التطهير مع التيسير في أحوال كثيرة» «3».
و يوضح ابن عاشور مفهوم إتمام النعم في الإسلام بقوله: «فالإتمام إما بزيادة أنواع من النّعم لم تكن و إما بتكثير فروع النّوع من النّعم» «4».
و قوله: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ... أي رجاء شكركم إياه. جعل الشكر علة لإتمام النعمة علي طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلي الأمر لقصد الحث عليه و إظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول» «5».
و تعقيبا علي قول ابن عاشور في الحكمة أقول:
إن الحكمة إن لم تكن النصوص القرآنية و الحديثية نصت عليها فهي ظنيّة ... و إذا نصّت عليها لا يعني أن الحكمة انتهت عند ذكر النص لهذه الحكمة ... فلا مانع من وجود حكم متعددة من تشريع حكم إلهيّ ما. ثم إن الحكم علي العموم ظنية إذا لم تنص النصوص عليها علي نحو قاطع، ثم إن الفرق بين الحكمة و العلة ... أن العلة هي الباعث علي تشريع (1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (5/ 52، 53).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه، (5/ 53).
(5) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 138
الحكم ... و هي مطردة يقاس عليها، و الحكمة: ليست باعثة علي تشريع الحكم و لا يقاس عليها، إنما ثمرة من ثمار تشريع الحكم و تطبيقه علي واقع الحياة الإنسانية.
و هكذا يظهر أن ابن عاشور يجعل العلوم متكاتفة، متآلفة، تساق في مجري واحد هو مجري فهم النص القرآني فهما صحيحا مقنعا من خلال أدوات علم التفسير، اللغة و أصول الفقه، و علم الحديث النبوي الشريف ... محاولا بذلك الوصول إلي رأي سديد ارتآه عن طريق الترجيح بين الآراء دون أن ينال من مخالفيه بالرأي، لإدراكه أن الآراء الإسلامية المخالفة لم تنجم عن هوي، و لم تولد من الفراغ، إنما هي ثمرة منهجية و بحث و استقصاء، فإن أصاب أصحابها فلهم أجران، و إن أخطئوا فلهم أجر واحد.
و بهذا يزداد البحث العلمي في ساحة الثقافة الإسلامية ثراء و نماء و خصوصية، كي يعطي ثمرا نظيفا، خاليا من العقد و التشوهات، و حسب الآراء الإسلامية نقاء أنها ناتجة عن منهجية منضبطة قادرة علي إنتاج الآراء باستمرار.

ابن عاشور و مسائل العقيدة:

اشارة

العقيدة الإسلامية هي الأساس الذي تنعقد عليها كل قضايا الإسلام الفرعية ... لذا كان موضوع العقيدة محل خصام شديد بين الإسلام و مخالفيه ... فعبر مسيرة الحياة الإسلامية تعرّضت الكثير من أسس العقيدة لمحاولات الهدم و التشكيك أكثر من مرة، و انبري المدافعون للرد علي أولئك، فبحسن نية منهم وقعوا فيما وقعوا من الخطأ ... و من هذه الأمور: مسألة الوحي و أشكاله، مسألة كلام اللّه، و القضاء و القدر، و صفات الخالق ... و غير ذلك ... و تسرب هذا الأمر إلي التفاسير القرآنية قديمها و حديثها بأقساط متباينة ... و فيما يلي نحاول معرفة موقف ابن عاشور من بعض مسائل العقيدة مستعينين بتفسيره المعروف بتفسير ابن عاشور أو «التحرير و التنوير».

1- مسألة الوحي كما طرحها ابن عاشور:

قال تعالي: في محكم كتابه الكريم:* وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) «1».
يقول ابن عاشور: «بيّن اللّه للمكذبين أن سنة اللّه في خطاب رسله لا تعدو ثلاثة أنحاء من الخطاب: منها ما جاء به القرآن فلم يكن ذلك بدعا مما جاءت به الرسل (1) سورة الشوري، الآية: (51).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 139
الأولون و ما كان اللّه ليخاطب رسله علي الأنحاء التي اقترحها المشركون علي النبي صلي اللّه عليه و سلّم فجي‌ء بصيغة حصر مفتتحة بصيغة الجحود المفيدة مبالغة النفي و هي: «و ما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحيا ...».
أي لم يتهيأ لأحد من الرسل أن يأتيه خطاب من اللّه إلّا بنوع من هذه الثلاثة» «1».
و يري ابن عاشور أن الآية حاسمة في نفي تكليم اللّه تعالي لرسله بغير هذه الأنواع الثلاثة ليصل إلي نتيجة مرتبة علي هذا الحكم تقول: «فإنه إذا كان الرسل لا يخاطبهم اللّه إلّا بأحد هذه الأنحاء الثلاثة و هو مما يدخل في قوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ «2».
و أما مقاصد الخطاب فقد يكون خطابا للرسل لأمر يتعلق بهم، قال تعالي: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) «3».
و قد يكون لإبلاغهم شرائع للأمم مثل منحهم القرآن و التوراة، أو إبلاغهم مواعظ لهم مثل الزبور و مجلة لقمان» «4».
و المراد «بالتكلم» «بلوغ مراد اللّه إلي النبي سواء كان ذلك البلوغ بكلام يسمعه و لا يري مصدره أو بكلام يبلغه إليه الملك عن اللّه تعالي، أو بعلم يلقي في نفس النبي يوقن بأن مراد اللّه بعلم ضروري يجعله اللّه في نفسه» «5».
«و إسناد فعل «يكلّمه» إسناد مجازي عقلي «6» ... و بهذا الاعتبار صار استثناء الكلام الموصوف بأنه وحي استثناء متصلا.
و أما الوحي: فهو الإشارة الخفية، و منه: فَأَوْحي إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا «7» يطلق علي ما يجده المرء من الكلام في نفسه. (1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (25/ 195).
(2) سورة الشوري، الآية: (51).
(3) سورة المزمل، الآيتان: (1، 2).
(4) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (25/ 195).
(5) المصدر نفسه.
(6) المجاز العقلي: كقولك: (رأيت شمسا تتحدث) أي أنك جعلت للمرأة معني الشمس و لا يكون إلا باعتبار ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، بمعني أن العقل اعتبر المرأة الجميلة داخلة في جنس الشمس الحقيقية. و اعتبار ما ليس في الواقع واقعا مجاز عقلي، و تعريفه: إسناده الفعل أو ما في معناه إلي غير ما هو له للملابسة بتأول.
(7) سورة مريم، الآية: (11).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 140
من هذا يظهر أن إطلاق الوحي علي ما فطر اللّه عليه الحيوان من الإلهام المتقن الدقيق كقوله تعالي: وَ أَوْحي رَبُّكَ إِلَي النَّحْلِ «1».
فالوحي هنا نوع من أنواع إلقاء كلام اللّه إلي الأنبياء، و هو النوع الأول في العد، فأطلق الوحي علي الكلام الذي يسمعه النبي بكيفية غير معتادة، و هذا الإطلاق من مصطلح القرآن و هذا الغالب في إطلاقات الكتاب و السنة، و منه قول زيد بن ثابت «فعلمت أنه يوحي إليه ثم سرّي عنه» فقرأ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «2» و لم يقل: فنزل إليه جبريل، و الوحي بهذا المعني غير الوحي الذي سيجي‌ء في قوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ.
و المراد بالوحي هنا: إيقاع مراد اللّه في نفس النبي يحصل له به العلم بأنه من عند اللّه، فهو حجة للنبي لمكان العلم الضروري، و حجة للأمة لمكان العصمة من وسوسة الشيطان، و قد يحصل لغير الأنبياء، و لكنه غير مطّرد و لا منضبط، مع أنه واقع و قد قال النبي صلي اللّه عليه و سلّم: «قد كان فيما مضي قبلكم من الأمم محدّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر ابن الخطاب» قال ابن وهب: محدّثون: ملهمون» «3».
و قد يلهم بعض الصالحين، غير أن إلهاماتهم ليست من الدين علي ما يري ابن عاشور «لأن غير المعصوم لا يوثق بصحة خواطره، إذ ليس معصوما من وسوسة الشيطان» «4» و إذا كان إلهامات بعضهم تشرع في الدين فهذه قرينة تؤكّد أنها معبرة عن وساوس لأن الدين بلّغه الرسول صلي اللّه عليه و سلّم كاملا.
و النوع الثاني: أن يكون الكلام من وراء حجاب يسمعه سامعه و لا يري مصدره بأن يخلق اللّه كلاما في شي‌ء محجوب عن سامعه و هو ما وصف اللّه هنا بقوله: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ.
و المعني: أو محجوبا المخاطب- بالفتح- عن رؤية مصدر الكلام، فالكلام كأنه من وراء حجاب.
و هذا مثل تكليم اللّه تعالي موسي في البقعة المباركة من الشجرة، و يحصل علم المخاطب بأن ذلك الكلام من عند اللّه أول مرة بآية يريه اللّه إياها يعلم أنها لا تكون إلا (1) سورة النحل، الآية: (68).
(2) سورة النساء، الآية: (95).
(3) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (25/ 195، 196). و الحديث أخرجه مسلم في (الحديث: 6154)، و الترمذي في (الحديث: 3693).
(4) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (25/ 197).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 141
بتسخير اللّه، كما علم موسي ذلك بانقلاب عصاه حيّة ثم عودها إلي حالتها الأولي، و بخروج يده من جيبه بيضاء كما قال تعالي: آيَةً أُخْري (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْري (23) اذْهَبْ إِلي فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغي «1».
«و قد حصل هذا النوع من الوعي للنبي محمد صلي اللّه عليه و سلّم ليلة الإسراء، فقد جاء في حديث الإسراء أن اللّه فرض عليه و علي أمته خمسين صلاة ثم خفف اللّه منها حتي بلغت خمس صلوات و أنه سمع قوله تعالي: «أقمت فريضتي و خففت عن عبادي» «2».
و أشارت إليه سورة النجم: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوي (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلي (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّي (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْني (9) فَأَوْحي إِلي عَبْدِهِ ما أَوْحي (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأي (11) أَ فَتُمارُونَهُ عَلي ما يَري (12) «3» و القول: بأنه سمع كلام اللّه ليلة أسري به إلي السماء مروي عن علي بن أبي طالب و ابن مسعود و ابن عباس و جعفر بن محمد الصادق و الأشعري و الواسطي، و هو الظاهر لأن فضل محمد صلي اللّه عليه و سلّم علي جميع المرسلين يستلزم أن يعطيه اللّه من أفضل ما أعطاه رسله عليهم السّلام» «4».
و النوع الثالث: أن يرسل اللّه الملك إلي النبي فيبلغ إليه كلاما يسمعه النبي و يعيه، و هذا غالب ما يوجه إلي الأنبياء من كلام اللّه تعالي» «5». و مثاله في سورة مريم إذ نادي اللّه تعالي زكريا عليه السّلام: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيي مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) «6».
و حديث النبي صلي اللّه عليه و سلّم الذي وصف كيفية نزول الوحي عليه عند ما سأله الحارث بن هشام:
كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، و هو أشدّه عليّ فيفصم عنّي و قد وعيت عنه- أي عن جبريل- ما قال، و أحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» فالرسول في قوله تعالي: «أو يرسل رسولا» هو الملك جبريل «7» ... (1) سورة طه، الآيات: (22- 24).
(2) أخرجه البخاري في (الحديث: 3207) من حديث الإسراء و المعراج، بلفظ: «فنودي: إنّي قد أمضيت فريضتي و خففت عن عبادي، و أجزي الحسنة عشرا».
(3) سورة النجم: الآيات: (6- 12).
(4) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (25/ 198).
(5) المصدر نفسه، (5/ 198).
(6) سورة آل عمران، الآية: (39).
(7) محمد الطاهر بن عاشور، (25/ 198)، و الحديث أخرجه البخاري في (الحديث: 2).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 142

2- موقف ابن عاشور من صفة الكلام:

و بعد هذه الآيات و الآراء التي تتحدث عن الوحي و أنواعه يأتي محمد الطاهر ابن عاشور إلي موضوع يتعلق بصفات اللّه أو واحدة من صفاته ألا و هي صفة الكلام.
فيقول: قال تعالي: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسي تَكْلِيماً «1». و قوله تعالي: قالَ يا مُوسي إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي «2». يقول عن ذلك: «يدل علي أنه كلام له خصوصية هي أنه أوجده اللّه إيجادا بخرق العادة ليكون بذلك دليلا علي أن مدلول ألفاظه مراد اللّه تعالي و مقصود له كما سمي الروح الذي تكوّن به عيسي روح اللّه لأنه تكوّن علي سبيل خرق العادة، فاللّه خلق الكلام الذي يدل علي مراده خلقا غير جار علي سنة اللّه في تكوين الكلام، ليعلم الناس أن اللّه أراد إعلامهم بأنه أراد مدلولات ذلك الكلام بآية أنه خرق فيه عادة إيجاد الكلام، فكان إيجادا غير مولّد من علل و أسباب عادية، فهو كإيجاد السموات و الأرض و إيجاد آدم في أنه غير متولد من علل و أسباب فطرية» «3».
و يقول: «إنّ حقيقة الإلهية لا تقتضي لذاتها أن يكون اللّه متكلما، كما تقتضي أنه واحد، حيّ، عالم، قدير، مريد، و من حاول جعل صفة الكلام من مقتضي الإلهية علي تنظير الإله بالملك بناء علي أنّ الملك يقتضي مخاطبة الرعايا بما يريد الملك منهم فقد جاء بحجة خطابية، بل الحق أن الذي اقتضي إثبات كلام اللّه هو وضع الشرائع الإلهية أي تعلق إرادة اللّه بإرشاد الناس إلي اجتناب ما يخل باستقامة شئونهم بأمرهم و نهيهم و موعظتهم و وعدهم و وعيدهم من يوم نهي آدم عن الأكل من الشجرة، و توعده بالشقاء إن أكل منها، ثم من إرسال الرسل إلي الناس و تبليغهم إياهم أمر اللّه و نهيه بوضع الشرائع ...» «4».
و يقول ابن عاشور: «و لما لم يرد في الكتاب و السّنة وصف اللّه بأنه متكلم، و لا إثبات صفة له تسمّي الكلام و لم تقتضي ذلك حقيقة الإلهية، ما كان ثمة داع إلي إثبات ذلك عند أهل التأويل» «5».
غير أني لا أدري ما يقوله ابن عاشور عند ما تحدّي القرآن آلهة المشركين و وصفها بالعجز عن البيان و النطق فطلب إبراهيم عليه السّلام أن يسألوا آلهتهم: قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ (1) سورة النساء، الآية: (164).
(2) سورة الأعراف، الآية: (144).
(3) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (25/ 199).
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه، (25/ 200).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 143
تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) «1». ثم أخبرنا القرآن فيما أخبرنا عن قصة رسول اللّه و نبيه إبراهيم عليه الصلاة و السلام عند ما توعدهم عليه السّلام بتكسير آلهتهم (الأوثان)، و لما أنجز الرسول إبراهيم ما وعدهم به جاءوا غاضبين محتجين، فأعلمنا اللّه في كتابه الحالة التي كانوا عليها:
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًي يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلي أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) «2» فأجاب إبراهيم عليه السّلام إجابة إثبات عجز الآلهة عن الكلام و البيان، و العجز عن بيان الواقع دليل علي عدم أهلية هذه الآلهة، فقال القرآن علي لسان إبراهيم:
قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) «3».
و عبارة ابن عاشور: «فاللّه خلق الكلام الذي يدل علي مراده خلقا غير جار علي سنة اللّه في تكوين الكلام ...» «4».
و لفظة المخلوق المأخوذ من خلق يدل علي الحدوث، و هذا مخالف للصواب، و لقد نقل ابن القيم في الصواعق المرسلة «الثابت المتواتر عن الإمام أحمد هو ما نقله عنه خواص أصحابه و ثقاتهم كما بيّنه صالح و عبد اللّه المروذي و غيرهم: «من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، و من قال غير مخلوق فهو مبتدع، و أن القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام اللّه علي الحقيقة و حيث تصرف كلام فهو غير مخلوق» «5».
و قال ولي اللّه الدهلوي في الحجة البالغة: «وجب تنزيهه [أي اللّه تعالي عن مشابهة المخلوقات بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ «6». فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم فقد خالف سبيلهم أقول: [و الكلام لصاحب الحجة البالغة] «و لا فرق بين السمع و البصر و القدرة و الضحك و الكلام و الاستواء فإن المفهوم عند أهل اللسان من كل ذلك غير ما يليق بجناب القدس، و هل في الضحك استحالة إلّا من جهة أنه يستدعي الفم، و كذلك الكلام، و هل في البطش و النزول استحالة إلّا من جهة أنهما يستدعيان اليد و الرّجل؟ و كذلك السمع (1) سورة الشعراء، الآيتان: (72، 73).
(2) سورة الأنبياء، الآيات: (59- 62).
(3) سورة الأنبياء، الآية: (63).
(4) انظر ابن عاشور (25/ 199).
(5) ابن القيم، الصواعق المرسلة، ت سيد إبراهيم، القاهرة، دار الحديث، ط، (1994)، ص (491).
(6) سورة الشوري، الآية: (11).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 144
و البصر يستدعيان الأذن و العين، و اللّه أعلم».
و أختم بحث كلام اللّه تعالي بهذه الفقرة: قال إبراهيم الحربي: «كنت جالسا عند أحمد بن حنبل إذ جاءه رجل فقال: يا أبا عبد اللّه إن عندنا قوما يقولون إن ألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة. قال أبو عبد اللّه [و هو أحمد بن حنبل : يتوجه العبد بالقرآن بخمسة أوجه و هو فيها غير مخلوق: حفظ بقلب، و تلاوة بلسان، و سمع بأذن، و نظرة ببصر، و خط بيد فالقلب مخلوق و المحفوظ غير مخلوق، و التلاوة مخلوقة، و المتلو غير مخلوق، و السمع مخلوق، و المسموع غير مخلوق، و النظر مخلوق و المنظور غير مخلوق، و الكتابة مخلوقة، و المكتوب غير مخلوق» «1». ثم أنه من المقبول عقلا و فطرة «أن الكلام يكتب في المحال من الورق و الخشب و غيرها، و يسمي محله كتابا، و يسمي نفس المكتوب كتابا فمن الأول قوله تعالي: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ «2». و من الثاني قوله: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ «3» ... و لكن تسمية المحل مشروطة بوجود المكتوب فيه، و هذا كما أن تسمية القصبة قلما مشروطة بكونها مبروءة، و تسمية الدار قرية مشروطة بكونها مأهولة بالسكن، و تسمية الإناء كأسا مشروطة بوضع الشراب فيه ...، بل اشتراط وجود المكتوب في المحل يصحح هذه التسمية أظهر من ذلك كله».
«... و قد أخبر اللّه سبحانه و تعالي عن تعدد محله بالكتاب، و تارة بالرق، و تارة بصدور الحفاظ كما قال تعالي: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «4».
و قد أوضح ابن القيم: «أن وجود الكلام في المصحف ليس بمنزلة وجود الحقائق الخارجية فيها و لا بمنزلة وجودها في محالّها و أماكنها و ظروفها، و يجد الفرق بين كون الكلام في الورقة و بين كون الماء في الظرف.
فها هنا ثلاثة معان متميزة، لا يشبه كلّ منها الآخر، فإن الحقائق الموجودة لها وجود عين ثم تعلم بعد ذلك، ثم يعبر عن العلم بها ثم تكتب العبارة عنها، فهذا العلم و العبارة و الخط ليس هو أعيان تلك الحقائق، بل هو وجودها الذهني العلمي في محله، و هو القلب و الذهن، و وجودها اللفظي النطقي في محله و هو اللسان في الآدمي، و وجودها الرسمي الخطي في محله و هو الكتاب أو ما يقوم مقامه من حفر في حجر أو خشب، و قد افتتح اللّه وحيه إلي رسوله بإنزال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَ رَبُّكَ (1) ابن القيم، الصواعق المرسلة، ص (491).
(2) سورة الواقعة، الآية: (78).
(3) سورة الأنعام، الآية: (7).
(4) سورة العنكبوت، الآية: (49).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 145
الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) «1».
فأخبر سبحانه أنه خلق الحقائق الموجودة، و علم الحقائق العلمية، و ذكر تعليمه بالقلم و هو الخط، و هو مستلزم تعليم البيان النطقي و هو العبارة، و تعليم العلم بمدلولها و هو الصورة العلمية المطابقة للحقيقة، فأول المراتب الوجود الخارجي، و بينه و بين الكتابة مرتبتان، و بينه و بين الوجود العلمي مرتبة اللفظ فقط، و ليس بينه و بين اللفظ مرة أخري» «2».
و يخلص ابن القيم إلي نتيجة تقول: «إذا عرف هذا فكون الرب تعالي و أسمائه و صفاته في الكتاب غير كون كلامه في الكتاب فهذا شي‌ء، و هذا شي‌ء، فكونه في الكتاب هو اسمه و أسماء صفاته و الخبر عنه و هو نظير كون القيامة و الجنة و النار و الصراط و الميزان في الكتاب، إنما ذلك أسماؤها و الخبر عنها، و أما كون كلامه في المصحف و الصدور، فهو نظير كون كلام رسوله في الكتاب و في الصدور، فمن سوّي بين المرتبتين فهو ملبس أو ملبوس عليه» «3».
و لكن ابن عاشور في آيات الصفات تراه ليس متحمسا كثيرا لتأويلات المتكلمين من الخلف، و لا من المتقدمين من السلف. و لكنه كان منزها اللّه تعالي عن مشابهة المخلوقين في كل حال، قال في معرض تفسيره لقوله تعالي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «4».
«و اعلم أن هذه الآية نفت أن يكون شي‌ء من الموجودات مثلا لله تعالي. و المثل يحمل عند إطلاقه علي أكمل أفراده، قال فخر الدين: «المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته و ماهيته» فلا يسمي مثلا حقا إلا المماثل في الحقيقة و الماهية و أجزائها و لوازمها دون العوارض، فالآية نفت أن يكون شي‌ء من الموجودات مماثلا للّه تعالي في صفات ذاته، لأن ذات اللّه تعالي لا يماثلها ذوات المخلوقات، و يلزم من ذلك أن كل ما ثبت للمخلوقات في محسوس ذواتها فهو منتف عن ذات اللّه تعالي لا يماثلها. و بذلك كانت هذه الآية أصلا في تنزيه اللّه تعالي عن الجوارح و الحواس و الأعضاء عند أهل التأويل، و الذين أثبتوا للّه تعالي ما ورد في القرآن مما نسميه بالمتشابه فإنما أثبتوه مع التنزيه عن ظاهره إذ لا خلاف في إعمال قوله تعالي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ و أنه لا شبيه، و لا نظير له «5».
و بعد أن يؤسس ابن عاشور مفهوما مؤيدا للسلف و الخلف- لأن الفريقين كان منزها (1) سورة العلق، الآيات: (1- 5).
(2) ابن القيم، الصواعق المرسلة، ص (496).
(3) المصدر نفسه.
(4) سورة الشوري، الآية: (11).
(5) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (25/ 116).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 146
اللّه تعالي عن المشابهة بالمخلوقين، و هذا لا غبار عليه- نراه يعتبر أن الذين أثبتوا للّه ما أثبته لنفسه يسمهم بالمؤولة الجملية، و يسم تأويل الخلف بالتأويل التفصيلي «و إذا اتفقنا علي هذا الأصل لم يبق خلاف في تأويل النصوص الموهمة التشبيه إلّا أن تأويل سلفنا كان تأويلا جمليّا، و تأويل خلفهم تأويلا تفصيليا كتأويلهم اليد بالقدرة و العين بالعلم و بسط اليدين بالجود، و الوجه بالذات، و النزول بتمثيل حال الإجابة، و القبول بحال نزول المرتفع من مكانه الممتنع إلي حيث يكون سائلوه لينيلهم ما سألوه. لهذا قالوا: طريقة السلف أسلم و طريقة الخلف أعلم «1».
و ظني أن طريقة السلف أسلم لأنها عقيدة الأجيال المشهود لها بالخيرية، و الأعلم لأنهم أشد فقها لمقاصد النصوص فتعاملوا بها بالعمل لا بالجدل لا ما حصل بالقرون المتأخرة. لكن يمكن القول: إن ابن عاشور ليس معارضا للسلف و لا للخلف، و لكن طريقة تناوله لآيات الصفات منسجمة مع طريقة الخلف أكثر و اللّه أعلم.

تفسير ابن عاشور و النظريات العلمية:

لوحظ أن ابن عاشور يستعين بفهم النصوص القرآنية ببعض النظريات العلمية ذات الصلة، فعند تفسيره قوله تعالي:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوي إِلَي السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ (29) «2» يقول ابن عاشور.
«... فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السموات متأخرا خلقها عن خلق الأرض فثم للتراخي الترتبي لا محالة مع التراخي الزمني، و إن كان خلق السموات سابقا فثم للترتيب الرتبي لا غير» «3».
و يرجح ابن عاشور الثاني ... و ينقل اختلاف السلف حول المتقدم في الخلق السموات أم الأرض؟ و قال الجمهور بتقدم خلق الأرض و من أصحاب هذا الرأي الحسن و مجاهد و نسب مثله إلي ابن عباس رضي اللّه عنه، و استدلوا بقوله تعالي: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «4». إلي أن قال: ثُمَّ اسْتَوي إِلَي السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «5» ... و قال قتادة (1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (25/ 116).
(2) سورة البقرة، الآية: (29).
(3) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (25/ 378).
(4) سورة فصلت، الآية: (9).
(5) سورة فصلت، الآية: (11).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 147
و السدي و مقاتل أن خلق السماء متقدم و احتجوا بقوله تعالي: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) «1». إلي قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) «2».
و يذكر رأي من قال بخلق الأرض أولا و يستعين بالعلم في ترجيح هذا الرأي علي غيره:
«و قد أجيب [علي الرأي القائل: إن السماء خلقت أولا] بأن الأرض خلقت أولا ثم خلقت السماء ثم دحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحو الأرض» «3». و المرجح في ذلك عند ابن عاشور لأن هذا «ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتي جمدت و تكوّنت منها قشرة جامدة ثم تشققت و تفجرت و هبطت منها أقسام و علت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول و قدرة اللّه صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه» «4».
و يرجح ابن عاشور القول الأول الذي قال إنّ السماء خلقت قبل الأرض و التعليل: لأن لفظ: «بعد ذلك» أظهر في إفادة التأخر عن قوله: ثُمَّ اسْتَوي إِلَي السَّماءِ و لأن أنظار علماء الهيئة تري أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي و ظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السموات متقدم علي الأرض. و أحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات أسلوب الإجمال في هذا الغرض لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين» «5».
و مرة أخري يتأول الاستواء علي ما أراده السلف:
«و الاستواء أصله الاستقامة و عدم الاعوجاج يقال صراط مستو، و استوي فلان و فلان و استوي الشي‌ء مطاوع سواء و يطلق مجازا علي القصد إلي الشي‌ء بعزم و سرعة كأنه يسير إليه متساويا لا يلوي علي شي‌ء، فيعدّي بإلي فتكون إلي قرينة المجاز و هو تمثيل، فمعني استواء اللّه تعالي إلي السماء تعلق إرادته التنجيزي «6» بإيجادها تعلقا يشبه الاستواء في التهيؤ للعمل العظيم المتقن» «7». (1) سورة النازعات، الآيتان: (27، 28).
(2) سورة النازعات، الآية: (30).
(3) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 378).
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه، (1/ 378، 379).
(6) التنجيز من الإنجاز: العزم علي الإيجاد.
(7) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 378، 379).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 148
و أمّا قوله تعالي: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ.
«و قد عدّ اللّه تعالي في هذه الآية و غيرها السموات سبعا و هو أعلم بها و بالمراد منها إلا أن الظاهر الذي دلّت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات الأجرام العلوية العظيمة و هي الكواكب السيّارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي و يدلّ لذلك أمور:
أحدها: أن السموات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض و ذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض، فدلّ علي أنها عوالم كالعالم الأرضي و هذا ثابت للسيارات.
ثانيها: أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة علي بديع صنع اللّه تعالي فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم الدالّ نظام سيرها و باهر نورها علي عظمة خالقها.
ثالثها: أنها وصفت بالسبع، و قد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان و تعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلي العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع.
رابعها: أن هاته السيارات هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس و الأرض، و لذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي فناسب أن تكون هي التي قرن خلقها بخلق الأرض» «1».
و يستنتج ابن عاشور من جعل السموات بمقابلة الأرض في الآيات القرآنية برهانا يؤيد «ما ذهب إليه علماء الهيئة من عدّ الكواكب السيارة تسعة، و هذه أسماؤها علي الترتيب في بعدها من الأرض: نبتون، أورانوس، زحل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، بلكان» «2».
و يعلل ابن عاشور عدم عدّ الأرض كوكبا سيارا كما عدّها علماء الهيئة «و عد عوضا عنها القمر و هو من توابع الأرض فعدّه معها عوضا عن عدّ الأرض تقريبا لأفهام السامعين» «3».
و في هذه الطريقة قدّم القرآن الحقيقة العلمية المناسبة لتطور العقل في تلك المرحلة، و في الوقت نفسه لم يجانب الحقيقة العلمية.
من هذا يظهر جهد ابن عاشور في الاستعانة بالنظريات و الكشوفات العلمية الحديثة (1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 379، 380).
(2) المصدر نفسه، (1/ 380).
(3) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 149
في توضيح دلالات و معاني الآيات الكريمة ... و لا أري في ذلك عيبا شريطة الاستعانة بالعلم الذي أصبح علما حقيقيا و ليس مجرد ظنون و احتمالات ... لئلا نضطر إلي تغيير ما قلناه في دلالات الآيات الكريمة التي وفقنا بينها و بين العلم الحديث ... فهذا من شأنه أن يسي‌ء إلي دلالات النص الكريم، و يجعله عرضة للغيّ بما يناسب الظنون بل الأوهام أحيانا ... و يتوجب عدم الانجرار مع القول القائل بضرورة السبق في اكتشاف كل شي‌ء من خلال القرآن، فهذا ليس بضروري إنما الضروري الإدراك أن رسالة القرآن رسالة هداية للعقول إلي التوحيد ... و هداية للقلوب، و تربية للنفوس.

تفسير ابن عاشور و الحديث النبوي الشريف:

بكل تأكيد لم يكن ابن عاشور من المعرضين عن هدي سنة رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم إنما الحق يقال إن ابن عاشور لم يستشهد بنسبة كبيرة من الأحاديث الشريفة لاعتقاده أن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم لم يفسر إلا القليل. و هذا صحيح.
أما استشهاداته بالمأثور من التفسير فهذا مثبوت بكتابه، نراه ناقلا عن الصحابة ناقدا الروايات، مميّزا سمينها من غثّها.
و هذا مثال يوضح استشهاداته بالسنة الشريفة، عند ما فسّر قوله تعالي: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) «1».
يري ابن عاشور أن هذه الآية «نزلت في شأن حكم النبي صلي اللّه عليه و سلّم في العرنيين، و به يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التفسير، و أخرج عقبه حديث أنس بن مالك في العرنيين و الحديث: «قدم علي النبي صلي اللّه عليه و سلّم نفر من عكل و عرينة «2» فأسلموا ثم أتوا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فقالوا: قد استوخمنا هذه الأرض، فقال لهم: هذه نعم فاخرجوا فيها فاشربوا ألبانها و أبوالها فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها و ألبانها، و استصحّوا فمالوا علي الراعي فقتلوه و اطّردوا الذود و ارتدوا. فبعث رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم وراءهم، بعث جرير بن عبد اللّه في خيل فأدركوهم و قد أشرفوا علي بلادهم فما ترجّل النهار حتي جي‌ء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم و أرجلهم و سملت أعينهم بمسامير أحميت، ثم حبسهم حتي ماتوا، و قيل أمر بهم (1) سورة المائدة، الآية: (33).
(2) هم سبعة؛ ثلاثة من عكل و أربعة من عرينة. و عكل: قبيلة من تيم الرباب بن عبد مناف بن طابخة بن إلياس بن مضر، و عرينة: قبيلة من قضاعة.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 150
فألقوا في الحرة يستسقون فما يسقون حتي ماتوا» «1».
و يعلل ابن عاشور تعليلا جميلا العقاب الشديد الذي أنزله رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم بهؤلاء المارقين بقوله: «لأنهم أرادوا أن يكونوا قدوة للمشركين في التمثيل بإظهار الإسلام للتوصل إلي الكيد للمسلمين، و لأنهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة، قال أبو قلابة [راوي الحديث عن أنس رضي اللّه عنه : «فما ذا يستبقي من هؤلاء، قتلوا النفس و حاربوا اللّه و رسوله؟» «2» و هناك رواية تقول إن الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب، و الصحيح ما ذكرناه أولا.
من هذا يظهر أن اعتماد ابن عاشور في فهم النصوص معتمد علي حد كبير علي الظروف و المناخ الذي تنزل فيه النّص، و علي الأحاديث و المأثورات الواردة، لكن بعد تدقيقها و الموازنة بينها. و رأينا كيف ردّ الرواية المنقولة عن ابن عباس و التي تقول- مخالفة رواية البخاري- أن آية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ ... نزلت في قوم أهل الكتاب. ليرجح رواية البخاري. و لكنه لم يقف أيضا عند حدود المأثور، لأن في هذا تضييق علي معاني القرآن الذي لا تقضي عجائبه، و الصحابة لم يكتبوا بالمأثور الوارد- و سأل عمر أهل العلم عن تفسير معاني آيات كثيرة- كذلك فإن المأثور عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم و الصحابة في هذا المجال ضيق غير كاف «3».

موقفه من الإسرائيليات:

قلنا فيما سبق إن ابن عاشور كان عالما مبرّزا رفض التقليد، و أخذ الروايات دونما تمحيص ... لذا فإنه كان مبتعدا عن الإسرائيليات المروية عن أهل الكتاب الذين أسلموا مكتفيا بالحديث الصحيح، و المأثور السالم من القدح عن الصحابة و التابعين رضي اللّه عنهم، و يخضع ما ينقله للمناقشة من جانب السند، و الدراية من جانب المتن.
كان تفسير ابن عاشور في ثلاثين مجلدا تسهيلا للاستفادة، و سهولة البحث فيه.
و ذكرنا في مقدمة البحث اعتماده علي أمهات التفاسير علي نحو ما كشف عن ذلك هو بقوله: «الكشاف، و المحرر الوجيز لابن عطية، و البيضاوي، و الشهاب الألوسي، و أبي السعود، و القرطبي ... إلخ، و رأينا مقدماته العشرة التي تناول فيها قضايا هامة مثل: (1) أخرجه البخاري في (الحديث: 3108، 4192، 4610).
(2) انظر محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، في تفسير سورة المائدة.
(3) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 30) في المقدمة الثالثة: صحة التفسير بغير المأثور.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 151
1- التفريق بين التفسير و التأويل.
2- و استمداد علم التفسير.
3- التعريف بالمنهجين المعتمدين في تفسير القرآن: بالمأثور و بالرأي.
4- مقاصد التفسير.
5- أسباب النزول ...» «1».
و الغاية من التفسير عند ابن عاشور منحصرة «في الهدي القرآني و في بيان طرق الإصلاح كالذي ذهبت إليه مدرسة المنار، و هو أمر عام لا يكاد ينحصر ...» «2».
و تفسيره كتب للطلبة أهل المستوي المتقدم «طلاب الدراسات العليا» و كان بالأصل درس في تفسير البيضاوي ... غير أنه ما لبث أن تنامي و تعاظم ليشمل الكثير من التفاسير فغاص بها منقرا، و مقارنا، و ممحصا حتي توافر لديه هذا العمل العظيم الذي يكشف عن عالم جليل ذي عقل راجح، و رأي صائب، وسعة فكر، و قوة بيان، مع الحجة القوية و البرهان، مستفيدا من استخدامات علماء اللغة للمعاني المستفادة من التي جري عليها الزمخشري و ابن الأنباري و ابن الشجري و أمثالهم. فإذا ما قصرت هذه الينابيع عن المراد، رجع إلي محفوظاته الحجة و مروياته الغزيرة عن كلام العرب، و بهذا «يستخدم الطريقتين التطبيقية و الاستنتاجية لبلوغ مراده من التفسير» «3».
فقد رأيناه في اللغة يضبط الكلمة، و اشتقاقاتها مع المقارنة و الترجيح. و يبحث في قضية التضعيف في اللغة علي نحو ما بدا جليا في تفريقه بين الفسر و التفسير ... و يكشف عن استعمالات الأدوات علي نحو نقدي ترجيحي علي نحو ما رأيناه في بحثه «لعل التي تفيد الترجي ... من ذلك كي يقود القارئ إلي البلاغة و ما حوته من علوم البيان و البديع الذي يساعدك علي فهم التشابيه و الاستعارات. كي يقودك بعدئذ إلي الإعجاز البياني و العلمي لأن «نظم القرآن مبني علي وفرة الإفادة و تعدد الدلالات، فجمل القرآن لها دلالتها الوضعية التركيبية التي يشاركها فيها الكلام العربي كله و لها دلالته البلاغية التي يشاركها في مجملها كلام البلغاء، و لا يصل شي‌ء من كلامهم إلي مبلغ بلاغته» «4».
و نراه يري أن شروط المفسّر كثيرة: «إلي أن هذا العلم يتكون من المجموع الملتئم (1) انظر المقدمات العشر في بداية ج (1)، من تفسير ابن عاشور (التحرير و التنوير).
(2) محمد الفاضل بن عاشور، التفسير و رجاله، ص (236).
(3) المصدر نفسه، ص (238).
(4) المصدر نفسه، ص (241).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 152
من علم العربية و علم الآثار «1»، و من أخبار العرب، و أصول الفقه، ثم من علم الكلام، و علم القراءات. لما قد يكون من الحاجة إليهما».
و من البديهي أن يحصل خلاف لأصحاب الاختصاص و أهل العلم في مدي الحاجة إلي علم الكلام، و إن كان ابن عاشور قد اعتمد عليه أحيانا في تفسيره لبعض الآيات، و هو الناقل عن التفتازاني و الجرجاني: «علم الكلام في جملة ما يتوقف عليه علم التفسير، قال عبد الحكيم: «لتوقف علم التفسير علي إثبات كونه تعالي متكلما و ذلك يحتاج إلي علم الكلام».
و معروفة المواقف من استخدامات علم الكلام في علوم الدين بالجملة.

خاتمة:

و إن من كلمة نهائية في تفسير ابن عاشور و مؤلفه:
فالتفسير هذا تفسير عظيم حوي علوما شتي، ألّف بينها مؤلفها بأسلوب بارع حذق متقن ... ترافقت مع تواضع جم من هذا الرجل مع السابقين من أهل العلم و التفسير «و قد ميزت ما يفتح اللّه لي من فهم في معاني كتابه، و ما أجلبه من المسائل العلمية مما لا يذكره المفسرون. و إنما حسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يدي من التفاسير ... و لست أدّعي انفرادي به في نفس الأمر فكم من كلام تنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلم، و كم من فهم تستظهره، و قد تقدمك إليه متفهم» «2».
و جزي ابن عاشور كل خير علي ما قدم من نفع لأهل العلم و طلابهم في سفره العلمي الفذ، و الحمد للّه رب العالمين.
***
(1) المقصود فيه: ما نقل عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال و الإجمال، ابن عاشور، التحرير و التنوير، (2/ 21).
(2) مقدمات ابن عاشور، و انظر التفسير و رجاله للفاضل ابن عاشور ص (242).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 153

ثانيا: تفسير محاسن التأويل لجلال الدين القاسمي‌

تفسير القاسمي المسمّي: محاسن التأويل لمحمد جمال الدين القاسمي:

التعريف بالمؤلف‌

محمد جمال الدين القاسمي: (1283 ه- 1332 1866- 1914 م) جمال الدين أو محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق، من سلالة الحسين السبط إمام الشام في عصره، علما بالدين «1»، وصفه محمد رشيد رضا بقوله:
«هو علّامة الشام، و نادرة الأيام، و المجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم و العمل و التعليم، و التهذيب، و التأليف، و أحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، و الارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن» «2».
لقد قضي القاسمي مبكرا إذ لم يبلغ الخمسين من العمر، لكن هذا المكوث القصير نسبيا في الحياة الدنيا كان حافلا بنتاجات علمية غزيرة محييا سنة العلماء الأوائل الذين عمّروا عمرهم القصير بمباحث و بمصنفات كانت منارة للأجيال المتتالية أمثال النووي و الطبري ...»، هذا ما جعل عالم الشام في عصره محمد بهجة البيطار يقول:
«إن مما يقضي بالعجب من أمر أستاذ المؤلف رحمه اللّه هو كونه خلّف زهاء مائة مصنف أو أكثر و لم يبلغ الخمسين من عمره» «3». (1) خير الدين الزركلي، الأعلام، ط دار الملايين، (2/ 135).
(2) مجلة المنار (17/ 558).
(3) انظر مقدمة تفسيره بعنوان: «أهمية تفسير القاسمي» (1/ 8)، دار إحياء التراث العربي، ط (1)، (1994).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 154
نعم هذا حدث، غير أن هذا الذي حدث ما كان ليحدث لو لا جهد مبذول، و عمل متواصل في البحث و التنقيب، و الغوص في أمّهات المراجع العلمية بالتفسير و الفقه و اللغة و الحديث و المواعظ، و أسباب النزول و السّير. في ذلك قال محمد بهجة البيطار: «و ندر جدا أن تري كتابا في خزانته الواسعة مخطوطا كان أو مطبوعا خاليا من التعليقات الكثيرة و التصحيح علي الأصول الخطية».
إن رجلا دءوبا علي المطالعة لجدير أن ينال من الشهرة ما نال، لذا وصفه أهل عصره بعالم الشام.

عقيدته:

قال الزركلي: «كان سلفي العقيدة، لا يقول بالتقليد، و لا جرم في ذلك ما دام متعلقا باللغة و الفقه و الحديث».
لتضلعه العلمي أرسلته الحكومة آنئذ لإلقاء الدروس العامة في القري و البلاد السورية، فأقام في عمله هذا لمدة أربع سنوات» «1».
و لحسد الحاسدين، و وشاية الواشين الذين نالوا من الكثير من العلماء عبر التاريخ اعتكف في بيته متفرغا للبحث و التحصيل و الدروس الخاصة و العامة، في التفسير و علوم الشريعة و الأدب.

مؤلفاته:

نشر القاسمي بحوثا كثيرة في المجلات و الصحافة يومئذ، كان في مؤلفاته مجددا و داعية إصلاح في الدين «2».
بقي جمال الدين مخلصا للعلم و البحث حتي توفي في دمشق تلك المدينة التي ولد فيها ... توفي، و بقي ذكره الذي خلّده في عدد غير قليل من الكتب و التصانيف أذكر أهمها:
1- دلائل التوحيد، مطبوع.
2- ديوان خطب، مطبوع.
3- الفتوي في الإسلام، و هو مطبوع. (1) خير الدين الزركلي، (2/ 135).
(2) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 155
4- إرشاد الخلق إلي العمل بخبر البرق، و هو مطبوع.
5- شرح لقطة العجلان، و هو مطبوع.
6- نقد النصائح الكافية، و هو مطبوع.
7- «مذاهب الأعراب، و فلاسفة الإسلام في الجن»، و هو مطبوع.
8- موعظة المؤمنين، و هو مطبوع اختصر به إحياء علوم الدين للغزالي رحمه اللّه.
9- شرف الأسباط، مطبوع.
10- تنبيه الطالب إلي معرفة الفرض و الواجب، و هو مطبوع.
11- جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب، و هو مطبوع.
12- إصلاح المساجد من البدع و العوائد.
13- تعطير المشام في مآثر دمشق الشام، و هو مخطوط، 4 مجلدات.
14- قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث، و هو مطبوع.
15- محاسن التأويل، و هو مطبوع في (17 مجلدا) «1» سبعة عشر مجلدا في تفسير القرآن الكريم.
تفسير القاسمي، أو محاسن التأويل، أثني عليه أمير البيان العربي الأمير المجاهد شكيب أرسلان، موجها الأجيال الناشئة إلي الإسراع في مطالعة تفسير القاسمي، و المصنف العلمي الذي يشهد له الأمير شكيب جدير بما وصف به:
«و إني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية التي تريد أن تفهم الشرع فهما ترتاح إليه ضمائرها، و تنعقد عليه خناصرها ألا تقدّم شيئا علي قراءة تصانيف المرحوم الدين القاسمي.
إنها شهادات لثلاثة من رجال عصره سقناها: محمد بهجة البيطار عالم الشام الأوحد، و المصلح محمد رشيد رضا، و الأمير المجاهد شكيب أرسلان المتفتح اليقظ لكل المؤامرات الغربية و الصهيونية علي بلادنا منذ وقت مبكر جدا.
هذه الشهادات وثائق ترفع الرجل إلي مكانة العاملين بعلمهم، الذائدين بأقلامهم عن السنة النبوية، الكاشفين عن البدع و العادات التي أدخلها بعضهم إلي أماكن العبادة علي (1) انظر الزركلي، الأعلام، (2/ 135). و انظر ترجمة جمال الدين القاسمي في ص (9) من الجزء الأول من تفسير القاسمي.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 156
نحو ما رأيناه في كتابه: «إصلاح المساجد من البدع و العوائد».
تفسير القاسمي صدر عن دار إحياء التراث العربي بطبعته الأولي 1994، علما أن الإصدار الأول قد طبع عن مكتبة «فيصل عيسي البابي الحلبي» بعناية و ترقيم و تصحيح خادم الكتاب و السّنة محمد فؤاد عبد الباقي، و هي النسخة التي اعتمدتها «دار إحياء التراث العربي» و هي التي بين أيدينا الآن.
القاسمي التزم ضوابط منهجية في تفسيره، و قد ضمّن ضوابطه بمقدمته التي سمّاها:
«تمهيد خطير في قواعد التفسير» نوجز هذه المقدمة كما يلي:

قاعدة في أمهات مآخذه [مآخذ التفسير]:

الأول: النقل عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم مع الحذر من الضعيف و الموضوع، فإنه كثير. و لهذا قال أحمد: ثلاثة كتب لا أصل لها: المغازي و الملاحم، و التفسير.
و يورد قول المخففين من أصحاب أحمد: «مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة، و إلّا فقد صحّ من ذلك كثير كتفسير الظلم بالشرك في آية الأنعام، و الحساب اليسير بالعرض، و القوة بالرمي في قوله: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ «1».
الثاني: الأخذ بقول الصحابي: فإنّ تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلي النبي صلي اللّه عليه و سلّم.
و نقل عن الزركشي معللا النقول الموهمة اختلاف الصحابة في التفسير: «و ربما يحكي عنهم [أي الصحابة] عبارات مختلفة الألفاظ، فيظنّ من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق فيحكيه أقوالا، و ليس كذلك بل يكون كل واحد منهم ذكر معني من الآية لكونه أظهر عنده أو أليق بحال السائل، و قد يكون بعضهم يخبر عن الشي‌ء بلازمه و نظيره، و الآخر بمقصوده و ثمرته، و الكل يؤول إلي معني واحد غالبا، فإن لم يكن الجمع [ممكنا] فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم إن استويا في الصحة عنه، و إلّا فالصحيح المقدم» «2».
الثالث: الأخذ بمطلق اللغة: فإن القرآن نزل بلسان عربي. و قد اختلف العلماء في ذلك. لما نقل عن الفضل بن زياد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر؟
فقال: ما يعجبني. فقيل: ظاهره المنع. و لهذا قال بعضهم في جواز تفسير القرآن بمقتضي اللغة: يدل عليها القليل من كلام العرب، و لا يوجد غالبا إلّا في الشعر و نحوه، و يكون (1) سورة الأنفال، الآية: (60).
(2) جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل، ط (1)، (1994)، دار إحياء التراث، ص (13).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 157
المتبادر خلافها ... و روي البيهقي في الشّعب عن مالك قال: لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب يفسّر كتاب اللّه إلا جعلته نكالا ...» «1».
الرابع: التفسير بالمقتضي من معني الكلام، و المقتضب من قوة الشرع: و هذا هو الذي دعا به النبي صلي اللّه عليه و سلّم لابن عباس حيث قال: «اللهم فقهه في الدين، و علمه التأويل» «2».
و الذي عناه عليّ رضي اللّه عنه بقوله: «إلا فهما يؤتاه الرجل في القرآن». و من هنا اختلف الصحابة في معني الآية، فأخذ كل برأيه علي منتهي نظره و لا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي و الاجتهاد بغير أصل، قال تعالي: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «3» وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «4».
و ما من شك أنّ الرأي في القرآن الذي ورد في معرض الذمّ القائم علي الجهل و عدم التمحيص، و بذل الجهد اللازم لفهم القرآن، أما الرأي المؤسس علي البرهان فجائز «5».
و هذا ما يتفق مع قوله تعالي: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «6» و لو أن مطلق الرأي مذموم لبطل الاستنباط و منع الاجتهاد و هذا باطل مذموم.
و قال أبو حيان: و اعلم أن القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، و قسم لم يرد.
و الذي ورد بالنقل: إما أن يرد عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم أو الصحابة أو رءوس التابعين. فالأول يبحث فيه عن صحة السند، و الثاني ينظر في تفسير الصحابي، فإن فسّراه من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده، أو بما شاهده من الأسباب و القرائن فلا شكّ فيه، و إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة فإن أمكن الجمع فذاك، و إن تعذّر قدّم ابن عباس، لأن النبي صلي اللّه عليه و سلّم بشّره بذلك حيث قال: «اللهم علّمه التأويل».
و ما ورد عن التابعين، فحيث جاز الاعتماد فيما سبق، فكذلك، و إلّا وجب الاجتهاد «7».
و قال ابن خلدون: «اعلم أن القرآن نزل بلغة العرب، و علي أساليب بلاغتهم، فكانوا (1) أخرجه البيهقي في الشّعب، و انظر مقدمة القاسمي «قاعدة في أمهات مآخذه». من المجلد الأول، ص (13، 14).
(2) البخاري (الحديث: 75)، عن ابن عباس، قال ضمني رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم، و قال: «اللهم علّمه الكتاب».
(3) سورة الإسراء، الآية: (36).
(4) سورة البقرة، الآية: (169).
(5) مقدمة تفسير القاسمي، ص (14).
(6) سورة النساء، الآية: (83).
(7) مقدمة القاسمي، (1/ 16).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 158
كلّهم يفهمونه و يعلمونه معانيه في مفرداته و تراكيبه، و كان ينزل جملا، جملا ... و منه ما يتقدم و منه ما يتأخر و يكون ناسخا، و كان النبي صلي اللّه عليه و سلّم يبين المجمل، و يميز الناسخ من المنسوخ، و يعرّفه أصحابه فعرفوه و عرفوا سبب نزول الآيات، و مقتضي الحال منها منقولا عنه كما علم من قوله تعالي: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) «1» أنها نعي النبي صلي اللّه عليه و سلّم و أمثال ذلك.

قاعدة في معرفة صحيح التفسير، و أصح التفاسير عند الاختلاف:

قال الإمام محمد بن المرتضي اليماني رضي اللّه عنه في كتابه «إيثار الحق علي الخلق»:
«فصل في الإرشاد إلي طريق المعرفة لصحيح التفسير: و أصح التفاسير عند الاختلاف بطريق واضح لا يشك أهل الإنصاف، أنقل ذلك موضحا ملخصا:
«ضرورة التفريق بين التفسير و التحريف و التأويل، و التبديل، و قطع الطريق علي المبتدعين كي لا يحملوا علي القرآن وفق هواهم، كي لا يفقد القرآن أهميته في التفريق بين الحق و الباطل، و عندئذ لا يكون القرآن كما وصفه اللّه فرقانا.
و علي ذلك فلا بد من معرفة مراتب المفسرين، ثم مراتب التفسير حيث يكون التفسير راجعا إلي الدراية «2».

أما مراتب التفسير:

الأول: خير المراتب مراتب الصحابة رضي اللّه عنهم لثبوت مديحهم في القرآن، و لأن القرآن نزل بلغتهم و لأن الغلط أبعد عن غيرهم ... و إذا اختلف الصحابة، فيقدّم ابن عباس حبر الأمة إذا صحّ الإسناد عنهم، لأن الرسول دعا له بالعلم بالتأويل و سداد الفهم، و لأن الصحابة اتفقوا علي إعلاء شأنه في العلوم عموما، و في التفسير خصوصا و قصة عمر و الأعراب معه معروفة، لأنه من أهل بيت النبوة، و معدن الرسالة، و لأنه لا يستحل التأويل بالرأي لرواية عنه:
و لأن الطرق عن ابن عباس محفوظة غير متقطعة، فصح منها تفسير نافع. و لذلك خصه محمد بن المرتقي اليماني بالذّكر، و إن كان غيره أكبر منه، و أقدم و أعلم و أفضل مثل علي بن أبي طالب عليه السّلام من جنسه و أهله، و غيره من الصحابة الكبار العظام رضي اللّه عنهم، لكن ثبوت التفسير عنهم قليل، بالنظر إليه [أي إلي ابن عباس رضي اللّه عنهم جميعا. (1) سورة النصر، الآية: (3).
(2) ينظر في مقدمة القاسمي، قاعدة في معرفة صحيح التفسير، (1/ 18).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 159
الثانية: ثم المرتبة الثانية من المفسرين: التابعيون: و من أشهر ثقاتهم المصنفين في التفسير: مجاهد و عطاء و قتادة و الحسن البصري، و أبو العالية رفيع بن مهران، و محمد بن كعب القرظي، و زيد بن أسلم و يلحق بهؤلاء عكرمة، ثم مقاتل بن حيان، و محمد بن زيد، ثم علي بن أبي طلحة ثم السدي الكبير.
قال ابن تيمية: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد و عطاء بن أبي رباح و عكرمة مولي ابن عباس، و سعيد بن جبير، و طاوس و غيرهم. و كذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود، و علماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد و مالك بن أنس ...
3- قاعدة في أن أغلب ما صح عن السلف من الخلاف يرجع إلي اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد: قال ابن تيمية: يجب أن يعلم أن النبي صلي اللّه عليه و سلّم بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه. فقوله تعالي: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) «1» يتناول هذا و هذا، و قد قال أبو عبد الرحمن السّلميّ: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان، و عبد اللّه بن مسعود و غيرهما، أنهم كانوا إذ تعلّموا من النبي صلي اللّه عليه و سلّم عشر آيات لم يتجاوزوها حتي يعلموا ما فيها من العلم و العمل. و لهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة «2».
و قول ابن تيمية: إن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم بيّن للصحابة كل معاني القرآن اختلف فيه حتي ذهب فريق إلي القول إن الرسول لم يبين إلا القليل «3».
و الحق أن الفريقين قد غالي كلّ منهما فيما ذهب إليه:
أما استدلال ابن تيمية و من معه علي رأيهم بقوله تعالي: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ استدلال لا يفيد القطع و اليقين، لأن الرسول بمقتضي كونه مأمورا بالبيان كان يبين لهم ما أشكل عليهم فهمه من القرآن، لا كل معانيه ما أشكل منها و ما لم يشكل.
و استدلالهم بما روي عن عثمان و ابن مسعود فغاية ما تفيد هذه الرواية أن الصحابة لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتي يفهموا المراد منه، و هو أعم من أن يفهموه من النبي صلي اللّه عليه و سلّم أو من غيره من الصحابة أو من تلقاء أنفسهم حسبما يفتح اللّه به عليهم من النظر و الاجتهاد. (1) سورة النحل، الآية: (44). و انظر ابن تيمية في مقالته: مقدمة في أصول التفسير ط، الترقي، دمشق (1939)، ص (5).
(2) جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل، (1/ 19).
(3) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (1/ 51)، و انظر آراء الفريق الأول (2/ 49، 50).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 160
و لهم دليل يقول: إن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم مات قبل أن يبين لهم آية الرّبا، فدلّ أنه فسّر غيرها من الآيات «فلعل هذه الآية كانت مما أشكل علي الصحابة، فكان لا بد من الرجوع فيها إلي النبي صلي اللّه عليه و سلّم شأن غيرها من الآيات المشكلة التي يعود فيها الصحابة إلي المرجع النبوي ساعة وقوع الإشكال».
لكن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم يبين الكثير من المعاني لأصحابه كما تشهد بذلك كتب الصحاح، و لم يبين كل معاني القرآن، و قد قال ابن عباس فيما رواه ابن جرير: التفسير علي أربعة أوجه:
وجه تعرفه العرب من كلامها، و تفسير لا يعذر أحد [من المسلمين بجهالته. و تفسير تعرفه العلماء، و تفسير لا يعلمه إلّا اللّه «1».
و بديهي أن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم لم يفسر للصحابة العرب الأقحاح ما يرجع تفسيره إلي كلام العرب لأن عامة الصحابة يفهمون القرآن. و إن كانت بعض الإشكالات قد وقعت لبعض الصحابة، و لكنها قليلة نادرة.
و لا بد من العودة إلي القاعدة القائلة: إن الخلاف بين السلف في التفسير قليل و غالب ما يصحّ عنهم من الخلاف يرجع إلي اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، و ذلك صنفان:
أحدهما: أن يعبّر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل علي معني في المسمّي غير المعني الآخر، مع اتحاد المسمّي، كتفسيرهم الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بعض بالقرآن أي اتباعه و بعض بالإسلام، فالقولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ...».
الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه علي سبيل التمثيل و تنبيه المستمع علي النوع لا علي سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه و خصوصه، مثاله: ما نقل في قوله تعالي: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «2» الآية. فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات و المنتهك للحرمات؛ و المقتصد يتناول فاعل الواجبات و تارك المحرمات، و السابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات.
فالمقتصدون أصحاب اليمين، و السابقون السابقون أولئك المقربون ...
و قال: و هذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير، تارة لتنوع الأسماء (1) انظر تفسير ابن جرير الطبري، ط، الأميرية (1323 ه)، (1/ 25).
(2) سورة فاطر، الآية: (32).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 161
و الصفات و تارة لذكر بعض أنواع المسمّي، هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظنّ أنه مختلف.
و من التنازع الموجود منهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين إما لكونه مشتركا في اللغة كلفظ «القسورة» الذي يراد به الرامي، و يراد به الأسد، و لفظ «عسعس» الذي يراد به إقبال الليل و إدباره و إما لكونه متواطئا في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين، أو أحد الشخصين كالضمائر في قوله تعالي: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّي «1» الآية و كلفظ: وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) «2».
و يري القاسمي أن الذي يعدل عن مذاهب الصحابة و التابعين و تفسيرهم إلي ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعا، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره و معانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث اللّه به رسوله، و أما الذين أخطئوا في الدليل لا في المدلول كمثل كثير من الصوفية و الوعاظ و الفقهاء يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها لكن القرآن لا يدلّ عليها، مثل كثير مما ذكره السلمي في «الحقائق» فإن كان فيما يعلم بالاستدلال بالنقل و هذا يكثر الخطأ فيه «3».

قاعدة في معرفة سبب النزول:

نقل القاسمي عن ابن تيمية قوله: «معرفة سبب النزول يعين علي فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب» «4».
و قال ابن تيمية فيما ينقله عن القاسمي: قد يجي‌ء كثيرا من هذا الباب [باب أسباب النزول قولهم: إن هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا، كقولهم: إن آية الظهار الواردة في قوله تعالي: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) «5» نزلت في امرأة ثابت بن قيس و أن آية الكلالة وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ (1) سورة النجم، الآية: (28).
(2) سورة الفجر، الآيات: (1- 3). و انظر القاسمي في محاسن التأويل، مج (1)، ص (19- 21).
(3) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (22، 23).
(4) المصدر نفسه.
(5) سورة المجادلة، الآيتان: (2، 3).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 162
شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصي بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ «1» و قوله تعالي: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ (176) «2» نزلت في جابر بن عبد اللّه. و آية: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «3» نزلت في بني قريظة و النضير، و نظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة «4».
و هو يخرج كل ما قالوا إنه منسوخ علي وجه صحيح بضرب من التخصيص أو التأويل.
يقول القاسمي في هذا: «و ظاهر أن مسألة القبلة ليس فيها نسخ للقرآن، و إنما هي نسخ لحكم لا ندري هل فعله النبي صلي اللّه عليه و سلّم باجتهاده أم بأمر من اللّه تعالي غير القرآن، فإن الوحي غير محصور بالقرآن» «5».
و نقل القاسمي رأي الجمهور القائل بجواز نسخ حكم في آية مع بقائها في الكتاب يتعبد اللّه في تلاوتها. و تذكر نعمته بالانتقال من حكم كان موافقا لمصلحة المسلمين و لحالهم في أول الإسلام إلي حكم يوافق المصلحة في كل زمان و مكان. فإنه لا ينسخ حكم إلّا بأمثل منه، كالتخفيف في تكليف المؤمنين بقتال عشرة أمثالهم. و الاكتفاء بمقاتلة الضعف بأن تقاتل المائة مائتين ... و اتفقوا أنه لا يلجأ إلي النسخ إلا إذا تعذّر الجمع بين الآيتين من آيات الأحكام العملية، و يحكم تاريخهما فعند ذلك يقال: إن الثانية ناسخة للأولي، أما آيات العقائد و الفضائل و الأخبار فلا نسخ فيها ..» «6».
و نقل القاسمي عن ابن القيم: أن ما ظهر علي لسان السلف من القول بالنسخ ما هو إلا تخصيص لعموم النص، أو تقييد لمطلقه ... حتي أنهم يسمون الاستثناء و الشرط و الصفة نسخا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر و بيان المراد ... و هذا ما يظهر أن مصطلح النسخ عند السلف غير ما أراده المتأخرون من اصطلاح النسخ «7».
و نقل الشاطبي في الموافقات ما يشبه كلام ابن القيم في النسخ. و بعض الأمثلة (1) سورة النساء، الآية: (12).
(2) سورة النساء، الآية: (176).
(3) سورة المائدة، الآية: (49).
(4) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (25).
(5) المصدر نفسه، ص (29).
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 163
عن النسخ في الاستثناء: وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) إلي قوله: وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) «1» هو منسوخ بقوله تعالي: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً «2».
و في قوله تعالي: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّي تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلي أَهْلِها «3».
أو يمكن أن تكون الآيات نزلت في قوم من اليهود و النصاري، أو في قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم و لا عاقل علي الإطلاق» «4».
و ذكر القاسمي تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجري السند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجري التفسير الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند، و غيره لا يدخله فيه، و أكثر المسانيد علي هذا الاصطلاح كمسند أحمد و غيره. بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنه كلهم يدخلون مثل هذا في المسند. و ذكر الزركشي في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة و التابعين أن أحدهم إذا قال: «نزلت هذه الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها، فهو من جنس الاستدلال علي الحكم بالآية لا من جنس النقل» «5».
و قد أكد الشاطبي علي معرفة أسباب النزول لمن أراد العلم بالقرآن علما صحيحا، و فهما سديدا.

قاعدة في الناسخ و المنسوخ:

يقول القاسمي: «تقرر أن النسخ في الشرائع جائز فشرع موسي نسخ بعض الشرائع التي كان عليها إبراهيم، و شرع عيسي نسخ بعض أحكام التوراة، و شريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السابقة، لأن الأحكام العملية التي تقبل النسخ إنما تشرع لمصلحة البشر، و المصلحة تختلف باختلاف الزمان فالحكيم العليم يشرع لكل زمن ما يناسبه» «6».
و أما النسخ في الإسلام «فالمسلمون كانوا يتوجهون إلي بيت المقدس في صلاتهم (1) سورة الشعراء، الآيات: (224- 226).
(2) سورة الشعراء، الآية: (227).
(3) سورة النور، الآية: (27).
(4) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (25).
(5) نقله القاسمي في محاسن التأويل عن البرهان، مج (1)، ص (26).
(6) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (26).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 164
فنسخ ذلك بالتوجه إلي الكعبة، و هذا لا خلاف فيه بين المسلمين، و لكن هناك خلافا في نسخ أحكام القرآن و لو بالقرآن، فقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المفسر الشهير: ليس في القرآن آية منسوخة حتي أن قوله تعالي: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ... «1» ليس من الناسخ و المنسوخ بشي‌ء. غير أن قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ يثبت في الآية الأخري أنما يراد بها المسكونة ... و قال في قوله تعالي: انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا «2» أنه منسوخ بقوله: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «3» و الآيتان في معنيين. و لكنه نبّه علي أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير علي الجميع ...» «4»
إلي ما هنالك من الأمثلة.
و الحق أن ما ساقه القاسمي في محاسن التأويل في قاعدة الناسخ و المنسوخ:
يشير أنه ليس مع النسخ في اصطلاح المتأخرين من علماء أصول الفقه .. و كأنه عند ما نقل كلام ابن القيم و الشاطبي في الموافقات يرد علي القائلين بالنسخ علي طريقة المتأخرين ... و ما كان عند المتأخرين منسوخا و ناسخا فهو من قبيل العام و الخاص، و المطلق و المقيد، و المجمل و المفصل، و المفسر، عند غيرهم من الذين قالوا بعدم وجود النسخ.
و مما يرجح أن القاسمي لا يقول بالنسخ ما نقله أبو الفضل عبد اللّه محمد صديق الغماري عند ما تحدث علي تفسير القاسمي في كتابه «من بدع التفاسير».
قال: «تفسير لا بأس به ... و حين أريد تقديمه إلي الطّبع أشرف علي طبعه رجل في عقله شي‌ء، زرته في بيته، فأطلعني علي نسخة التفسير بخط القاسمي، سلّمها إليه ابنه ليشرف علي طبعها، فإذا قد ضرب بالقلم الأحمر علي بحث النسخ الذي كتبه المؤلف عند قوله تعالي: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ «5» فسألته عن سبب شطب هذا البحث، فقال: إنه لا يليق بمقام القاسمي الذي كان يسميه الشيخ رشيد رضا عالم الشام فحذفته و حذفت ما كان من قبيله عديم الفائدة، قليل الجدوي، قلت: لكن هذا ينافي الأمانة العلمية، فقال:
التفسير لم يطبع قبل الآن، و لا يعرف أحد ما ذا حذف منه، و نجل المفسر نقيب المحامين بدمشق أباح لي التصرف فيه حسب ما أراه مصلحة، و هذه البحوث لا تليق بالقاسمي و لا بشهرته العلمية. (1) سورة النور، الآية: (29).
(2) سورة التوبة، الآية: (41).
(3) سورة التوبة، الآية: (122).
(4) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (31).
(5) سورة البقرة، الآية: (142).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 165
قلت له: اتركها كما كتبها المؤلف، و علّق عليها برأيك، فأبي و أصرّ علي حذفها و بناء علي هذا فالتفسير المذكور ناقص في عدة مواضع و هذه خيانة علمية، ما كان ينبغي أن تحصل، و لا حول و لا قوة إلّا باللّه» «1».
و بالرجوع إلي تفسير القاسمي عند قوله تعالي: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ... لم نر بحث النسخ مما يشير إلي حذفه ... و هذا يشير إلي أن القاسمي غير قائل بوجود نسخ في القرآن دون معرفتنا بتفاصيل ذلك، و مما يرجح هذا أن نقله للآراء القائلة بالنسخ لم يتناول آراء العلماء المتأخرين، إنما اكتفي بنقل عن ابن القيم في هذا الموضوع الذي كان يوجه القول بالنسخ اتجاه التقييد للمطلق، و التخصيص للعام، و التفصيل للمجمل. علما إن النسخ الذي يشكل محلا للخلاف هو استقرار حكم ما، ثم رفعه بدليل.

قاعدة في القراءة الشاذة و المدرج:

قال أبو عبيد في (فضائل القرآن): المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة و تبيين معانيها كقراءة عائشة و حفصة «و الصلاة الوسطي صلاة العصر» و قراءة ابن مسعود:
«فاقطعوا أيمانهما» و قراءة جابر: «فإن اللّه من بعد إكراههن لهن غفور رحيم».
قال: [أي أبو عبيد]: فهذه الحروف و ما شاكلها قد صارت مفسّرة للقرآن، و قد كان يروي مثل هذا عن التابعين في التفسير فيستحسن. فكيف إذا روي عن كبار الصحابة، ثم صار في نفس القراءة فهو أكثر من التفسير و أقوي؟ فأدني ما يستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل»؟ «2».
قال ابن الجزري في آخر كلامه: و ربما كانوا يدخلون التفسير في القراءات إيضاحا و بيانا لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم قرآنا، فهم آمنون من الالتباس. و ربما كان بعضهم يكتبه معه، و أمّا من يقول: إن بعض الصحابة كان يجيز القراءة بالمعني فقد كذب و ساء. كذا في الإتقان» «3».

قاعدة في قصص الأنبياء و الاستشهاد بالإسرائيليات:

نقل القاسمي عن الإمام أبو العباس أحمد بن زروق في قواعد التصوف: «التأثير بالأخبار عن الوقائع أتم لسماعها من التأثير بغيرها، فمن ثمّ قيل: الحكايات جند من جنود (1) أبو الفضل عبد اللّه بن محمد صديق الغماري، من بدع التفاسير ط (2)، مكتبة القاهرة، ص (162).
(2) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (33).
(3) الإتقان، نقلا عن القاسمي، محاسن التأويل، (1/ 33).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 166
اللّه يثبت اللّه بها قلوب العارفين، قيل: فهل تجد لذلك شاهدا من كتاب اللّه؟ قال: وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «1». و وجه ذلك: أن شاهد الحقيقة بالفعل أظهر و أقوي في الانفعال من شاهدها اللغوي، إذ مادة الفاعل مستمرة في الفعل لغابر الدّهر».
و قال ولي اللّه الدهلوي في (أصول التفسير) في فصل الكلام علي معرفة أسباب النزول:

شرط المفسر أمران:

الأولي:

ما تعرض له الآيات من القصص، فلا يتيسّر فهم الإيحاء بتلك الآيات إلا بمعرفة تلك القصص.

الثاني:

ما يخصص العام من القصة أو مثل ذلك من وجوه صرف الكلام عن الظاهر، فلا يتيسر فهم المقصود من الآيات دونها.
و قصص الأنبياء السابقين لا تذكر في الحديث الشريف إلا علي سبيل القلة، أما القصص الطويلة المغرقة في التفصيلات فمنقولة عن أهل الكتاب إلا قليلا.
و أما ما نقل في عهده صلي اللّه عليه و سلّم أو أخبر عنه فقد بيّنه المحدثون و أشبعوه تحقيقا، و لا مغمز فيه.
و هناك روايات منقولة عن أهل الكتاب نقلها المفسرون القدامي إمّا تحسينا للظن في رواية تلك الأنباء و أنهم لا يرون إلا الصحيح، و إما تعويلا علي ما رواه أحمد و البخاري و الترمذي عن عمرو بن العاص عن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم قال: «بلغوا عني و لو آية، و حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج» «2».
يقول القاسمي عن الإسرائيليات: «بالجملة فلا ينكر أن فيها الواهيات بمرة و الموضوعات مما استبان لمحققي الآخرين» «3».
و يري ابن كثير أن الأحاديث الإسرائيلية المنقولة إنما تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها علي ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته، و الثاني: ما علمنا كذبه. و الثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل، و لا من هذا القبيل، فلا نؤمن به و لا نكذبه. و غالب ذلك مما لا فائدة فيه يعود إلي أمر ديني ..» «4». (1) سورة هود، الآية: (120).
(2) أخرجه البخاري في (الحديث: 3461).
(3) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (36).
(4) مقدمة تفسير ابن كثير، نقلا عن القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (36، 37).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 167
و نقل القاسمي أقوالا للماوردي صاحب «كتاب أعلام النبوة»، و لبرهان الدين البقاعي في تفسيره «المناسبات» تحقيق في هذه المسألة جيد. و حمل قول الرافعي الشافعي علي أنه لا يجوز بكتب التوراة و الإنجيل لأنهم حرفوا و بدّلوا. قال القاسمي: «هذا محمول علي ما علم تبديله» و الدليل: إن كلّ من قال ذلك علل بالتبديل قرار الحكم» إذ مما لا شك فيه أن بعض التوراة و الإنجيل بقي دونما تحريف ليكون عليهم حجة علي ما قاله ابن حزم في «الفصل في الأهواء و الملل و النحل» بعد أن أقام البراهين الكثيرة علي تحريفهم و تبديلهم» «1».

القاسمي و معني ما نقل أن للقرآن ظاهرا و باطنا:

ينقل القاسمي عن الشاطبي في الموافقات: «من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرا و باطنا، و ربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث و الآثار.
فعن الحسن، مما أرسله عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم أنه قال: ما أنزل اللّه آية إلّا لها ظهر و بطن، بمعني ظاهر و باطن و كل حرف حد، و كل حد مطلع، و فسر بأن الظهر و الظاهر هو ظاهر التلاوة، و الباطن هو الفهم عن اللّه لمراده، لأن اللّه تعالي قال: فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) «2» و المعني لا يفهمون عن اللّه مراده من الخطاب.
و توضيح ذلك إذا كان ما عنوا بالظاهر و الباطن: أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي، و الباطن هو مراد اللّه تعالي من كلامه و خطابه، فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة، ما فسّر، فصحيح، و لا نزاع فيه. و إن أرادوا غير ذلك فهو إثبات أمر زائد علي ما كان معلوما عند الصحابة و من بعدهم، و هذا يحتاج إلي دليل قطعي يثبت هذه الدعوي» «3».
و المطالبة بالدليل القطعي جاء معللا من قبل الشاطبي: «لأنها أصل يحكم به علي تفسير الكتاب» «4».
[و الدليل القطعي: ما كان متواترا، و ما كانت دلالته قطعية أيضا].
في حين يري الشاطبي أن الذي استدلوا به: إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم في سلك المراسيل: «و إذا تقرر هذا فليرجع إلي بيانهما علي التفسير المذكور بحول اللّه» و له أمثلة تبين معناه بإطلاق، فعن ابن عباس: «كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلي اللّه عليه و سلّم فقال له (1) ابن حزم، الفصل في الأهواء و الملل و النحل، نقلا عن القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (37).
(2) سورة النساء، الآية: (78). و انظر الموافقات، (3/ 282، 283).
(3) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (42). و انظر الشاطبي، (3/ 384).
(4) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 168
عبد الرحمن بن عوف: أ تدخله و لنا بنون مثله، فقال له عمر: إنه من حيث تعلم، فسألني عن هذه الآية: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) فقلت: «إنما هو أجل رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم أعلمه إياه»، و قرأ السورة إلي آخرها فقال عمر: «و اللّه ما أعلم منها إلا ما تعلم» و رواية البخاري:
عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا و لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعا ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قول اللّه تعالي:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) «1»، فقال بعضهم: أمرنا نحمد اللّه و نستغفره إذا نصرنا و فتح علينا، و سكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أ كذاك تقول يا ابن عباس فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل اللّه لرسوله صلي اللّه عليه و سلّم أعلمه له، قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ و ذلك علامة أجلك- فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً، فقال عمر: «ما أعلم منها إلا ما تقول» «2».
أي أن ظاهر السورة «أن اللّه أمر نبيه صلي اللّه عليه و سلّم أن يسبح بحمد اللّه و يستغفره إذ نصره و فتح عليه، و باطنها أن اللّه نعي إليه [إلي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم نفسه» «2».

متي يكون الباطن مرادا:

و كون الباطن هو المراد من الخطاب لا بد له من شرطين:
أحدهما: أن يصح علي مقتضي الظاهر المقرر في لسان العرب و يجري علي المقاصد العربية.
الثاني: أن يكون له مشاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.
أما الأول: فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيا. و أما الثاني: فلأنّه إن لم يكن له شاهد في محل آخر، أو كان معارض صار من جملة الدعاوي التي تدعي علي القرآن و الدعوي المجرّدة غير مقبولة باتفاق العلماء» «4». (1) أخرجه البخاري في (الحديث: 4970)، و انظر رقم (3627).
(2) القاسمي، محاسن التأويل مج (1)، ص (42). و النص للشاطبي من الموافقات (3/ 384). و من أراد الاستزادة من الأمثلة فليرجع إلي تفسير القاسمي في ص (42) من المجلد الأول.
(4) الشاطبي، الموافقات نقلا عن القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (50، 51) و انظر الشاطبي، (3/ 394).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 169
و أشار الشاطبي إلي أن ذلك قد وجد في القرآن «1».
و يمكن أن نضرب مثلا مأخوذا من موافقات الشاطبي ساقه القاسمي، و هذا المثل فيه تفسير باطني أريد منه الباطن، أو يمكن أن يراد منه الباطن لتوافر الشرطين اللذين ذكرناهما قبل قليل، و هذا ما ذكره سهل بن عبد اللّه يعدّ من باطن القرآن أو من إيحاءاته الإشارية و ذلك عند قوله تعالي: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «2» قال سهل: أندادا «أي أضدادا». قال: «و أكبر الأنداد النّفس الأمارة بالسوء الطواعة إلي حظوظها و منهيها بغير هدي من اللّه» «3» و هذا يشير إلي أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتي لو فصل [أي النص القرآني لكان المعني فلا تجعلوا للّه أندادا: لا صنما و لا شيطانا، و لا النفس و لا كذا، و هذا مشكل الظاهر جدا إذا كان مساق الآية فيها يدل علي أن الأنداد الأصنام أو غيرها كانوا يعبدون و لم يكونوا يعبدون أنفسهم، و لا يتخذونها أربابا و لكن له وجه جار علي الصحة، و ذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية، و لكن أتي بما هو ندّ في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين:
أحدهما: إن الناظر قد يأخذ من معني الآية معني من باب الاعتبار فيجريه له فيما لم تنزل فيه لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه لأن حقيقة النّد أنه المضاد لندّه الجاري علي مناقضته و النفس الأمارة هذا شأنها لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها، لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها، و هذا هو الذي يغني به النّد في ندّه لأن الأصنام نصبوها لهذا المعني بعينه و شاهد صحة هذا الاعتبار قوله تعالي: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «4» و هم لم يعبدوهم من دون اللّه و لكن ائتمروا بأوامرهم و انتهوا عمّا نهوهم عنه كيف كان مما حرّموا عليهم حرموه، و ما أباحوا لهم حللوه، فقال اللّه تعالي:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
و الثانية: أن الآية، و إن نزلت في أهل الأصنام فإن لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم، أ لا تري أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لبعض من توسّع في الدنيا من أهل الإيمان:
أين تذهب بكم هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا «5». و كان هو يعتبر نفسه بها. (1) راجع القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (51، 52).
(2) سورة البقرة، الآية: (22).
(3) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (52). و انظر سهل التستري، في تفسير القرآن العظيم، ص (19) و انظر الشاطبي، (3/ 397).
(4) سورة التوبة، الآية: (31).
(5) سورة الأحقاف، الآية: (20).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 170
و إنما أنزلت في الكفار لقوله: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَي النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا الآية و لهذا المعني في تقرير العموم و الخصوص فإذا كان كذلك صح التنزيل بالنسبة إلي النفس الأمارة في قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً و اللّه أعلم «1».
ثم راح القاسمي يذكر المزيد من القواعد التي ذكرها الشاطبي في الموافقات و لا سيما القواعد الضابطة لمنهج التفسير مثل: «الشريعة أميّة، و أنه لا بد في فهمها من اتباع معهود الأميين و هم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم» «2»- و نقل القاسمي عن الشاطبي في الموافقات آراء الشاطبي بضرورة جعل الفهم مضبوطا باتباع معهود الأميين من العرب الذين نزل القرآن بلسانهم» «3». مثال ذلك: «أن معهود العرب ألّا تري الألفاظ تعبدا عند محافظتها علي المعاني، و إن كانت تراعيها أيضا فليس أحد الأمرين عندها بملتزم. بل قد تبني علي أحدهما مرة، و علي الآخر أخري، و لا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها و استقامتها» «4».
و نقل القاسمي قول الشاطبي «في أن بيان الصحابة حجة إذا أجمعوا- و إن لم يجمعوا فالمسألة فيها نظر. و المسألة عندئذ اجتهادية و أما حجته إجماعهم لمعرفتهم بلسان و أساليب العرب، و لمباشرتهم الوقائع و أسباب النزول» «5».
و كذلك نقل عن الشاطبي أن «كل حكاية في القرآن لم يقع لها رد فهي صحيحة» «6».
و نقل قول الشاطبي: «الأحكام في التنزيل أكثرها كلية و لذا احتيج في الاستنباط إلي السنة» «7» و هذا ما يشير إلي أهمية السنة النبوية عند الشاطبي، و أهميتها عند القاسمي لأنه واع لآراء الشاطبي فيما ينقل عنه ... و تحدث عن أقسام العلوم المضافة إلي القرآن ناقلا ذلك عن الشاطبي» «8» و تحدث القاسمي عن المكي و المدني، و دعا إلي الاعتدال في التفسير «و علي هذا أكثر السلف المتقدمين» «9».
«و تناول القول بالرأي في القرآن» «10». و الأحكام الشرعية لا تنافي العقول (1) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (52، 53) نقلا عن الشاطبي في الموافقات.
(2) المصدر نفسه، ص (57). و انظر الشاطبي في الموافقات، (2/ 64، 65، 83).
(3) المصدر نفسه، ص (65).
(4) المصدر نفسه، نقلا عن الشاطبي في الموافقات، (2/ 82).
(5) المصدر نفسه، نقلا عن الشاطبي في الموافقات.
(6) المصدر نفسه، ص (71).
(7) المصدر نفسه، ص (83).
(8) المصدر نفسه، ص (88).
(9) المصدر نفسه، ص (95).
(10) المصدر نفسه، ص (101).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 171
[السليمة] «1». و كذلك رتب مكانة السنة بعد القرآن، و أنها تفصيل مجمله و قاضية عليه «2» [أي تحكمه و توضح دلالته و مقاصده .
و تناول في البحث: هل في القرآن مجاز أم لا؟
و استدل لهذا الموضوع بآراء ابن تيمية الذي قال: ... «تقسيم الألفاظ الدالة علي معانيها إلي حقيقة و مجاز، أو تقسيم دلالتها أو المعاني المدلول عليها، إن استعمل لفظ الحقيقة و المجاز في المدلول أو في الدالة، فإن هذا كله قد يقع في كلام المتأخرين. و لكن المشهور: أن الحقيقة و المجاز من عوارض الألفاظ. و بكل حال فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة و لا التابعين لهم بإحسان و لا أحد من الأئمة المشهورين في العلم: كمالك و الثوري و الأوزاعي و أبي حنيفة و الشافعي، بل و لا تكلّم به أئمة اللغة و النحو كالخليل و سيبويه و أبي عمر بن العلاء ...
و نحوهم، و أول من عرف أنه تكلم بلفظ في المجاز بلفظ أبو عبيدة معمر بن المثني في كتابه [مجاز القرآن ، و لكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، و إنما عني بمجاز الآية، و لهذا قال [أبو عبيدة معمر بن المثني : من قال من الأصوليين كأبي الحسن البصري و أمثاله إنه يعرف الحقيقة من المجاز بطرق: منها نصّ أهل اللغة علي ذلك، بأن يقولوا:
هذا حقيقة و هذا مجاز فقد تكلّم بلا علم، فإنه ظن أن أهل اللغة قالوا هذا، و لم يقل ذلك أحد من أهل اللغة، و لا من سلف الأمة و علمائها، و إنما هذا اصطلاح حادث، و الغالب أنه كان من جهة المعتزلة و نحوهم من المتكلمين؛ فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه و الأصول و التفسير و الحديث و نحوهم من السلف؛ و هذا الشافعي هو أول من جرّد الكلام في أصول الفقه؛ و لم يقسّم هذا التقسيم و لا تكلّم بلفظ الحقيقة و المجاز. و كذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنية علي العربية كلام معروف في (الجامع الكبير) و غيره، و لم يتكلّم بلفظ الحقيقة و المجاز و كذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلامهم إلا في كلام أحمد بن حنبل فإنه قال في كتاب «الرد علي الجهمية» في قوله: «إنا، و نحن، و نحو ذلك في القرآن: هذا من مجاز اللغة ..» «3». «غير أن بعض أصحاب أحمد فسروا كلامه: «هذا من مجاز اللغة» أي: مما يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان: نحن فعلنا كذا أو نفعل كذا و نحو ذلك، قالوا: و لم يرد أحمد بذلك [هذا من مجاز اللغة] أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له». (1) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (104).
(2) المصدر نفسه، ص (107).
(3) المصدر السابق، ص (137). ناقلا عن ابن تيمية.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 172
و نص ابن تيمية أن يكون الشافعي و مالك و أبو حنيفة قد قالوا بوجود المجاز علي ما أراده المتأخرون. و التقسيم القائل إن الكلام حقيقة و مجاز جري في القرن الرابع، و ظهرت أوائله في المائة الثالثة. و قال ابن تيمية: «ما علمته موجودا في المائة الثانية اللهم إلّا أن يكون في أواخرها» «1». «و قد أنكر أبو إسحاق الأسفراييني وجود المجاز في القرآن و لا في اللغة، و قال المنازعون له: «النزاع معه لفظي فإنه إذا سلّم أن في اللغة لفظا مستعملا في غير ما وضع له لا يدلّ علي معناه إلا بقي منه» «2» فهذا هو المجاز، و إن لم تسمه مجازا.
و هناك من خالف ابن تيمية بعدم وقوع المجاز مثل القاضي أبي يعلي و ابن عقيل و أبي الخطّاب من الحنابلة و غيرهم من العلماء و اللغويين من سائر المذاهب الإسلامية الأربعة و غيرها.
و فحوي كلام ابن تيمية: أن تقسيم الكلام إلي حقيقة و مجاز يستلزم «أن يكون اللفظ قد وضع أولا لمعني، ثم بعد ذلك قد يستعمل في موضوعه، و قد يستعمل في غير موضوعه» «3».
و يطرح منكرو المجاز هذه الإشكالية: أنه لا يمكن لأحد أن ينقل عن العرب، و لا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع؛ إنما استعمالات استعمالات إضافية، أو استعمالات مرتبطة بالقرائن ...» «4». ثم عالج القاسمي: هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسمّاها في اللغة؟ أو أنها باقية في الشرع علي ما كانت عليه في اللغة، ثم عالج مجمل مقاصد التنزيل الكريم و ضروب التفسير. و ذكر عنوانا: «مطلب في التكرير» ليصل إلي نتيجة أن تكرير صفات اللّه دال علي الاعتناء بمعرفتها، و العمل بموجبها «5».
ثم يتناول: مسألة نزول القرآن علي سبعة أحرف «6»، و يتحدث عن ذكر بديع أسلوب القرآن، و اقتصار عثمان في الجمع علي الحرف المتواتر، و يتحدث عن موضوعات تتعلق بالقراءات. و ذكر ملخصا في ذكر ملخص وجوه التفسير و مراتبه «7». (1) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (137). ناقلا عن ابن تيمية.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، ص (137). نقلا عن ابن تيمية.
(4) المصدر نفسه، ص (144)، و انظر ص (141، 142، 143، 144)، و راجع كتاب العز بن عبد السلام «الإشارة إلي الإيجاز في بعض أنواع المجاز».
(5) المصدر نفسه، ص (154).
(6) المصدر نفسه، مج (1)، ص (157، 158، 167، 175).
(7) المصدر نفسه، مج (1)، ص (196).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 173
و بما سبق نكون قد قدمنا ملخصا عن آرائه في اللغة و التفسير ملاحظين أخذه عن ابن تيمية، و الشاطبي المالكي، علي نحو كبير و من غيرهم علي نحو أقل.

وجهة نظر أخري حول وجود المجاز في لغة العرب:

المجاز واقع في كلام العرب «عند جمهور أهل العلم» «1» و نقل الشوكاني مخالفة أبو إسحاق الأسفراييني و قال: و خلافه هذا يدل أبلغ دلالة علي عدم اطّلاعه علي لغة العرب، و ينادي بأعلي صوت بأن سبب هذا الخلاف تفريطه علي ما ينبغي الاطلاع عليه من هذه اللغة الشريفة، و ما اشتملت عليه من الحقائق و المجازات التي لا تخفي علي من له أدني معرفة بها» «2».
و نقل الشوكاني أن الأسفراييني استدلّ بما «هو أوهن من بيت العنكبوت، فقال: إنه لو كان المجاز واقعا في لغة العرب، لزم الإخلال بالتفاهم، إذ قد تخفي القرينة» «3».
و استدل صاحب المحصول لهذا القائل: بأن اللفظ لو أفاد المعني علي سبيل المجاز، فإمّا أن يفيد مع القرينة أو دونها، و الأول باطل؛ لأنّه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك، فيكون هو مع تلك القرينة حقيقة لا مجازا، و الثاني باطل، لأن اللفظ لو أفاد معناه المجازي دون قرينة لكان حقيقة فيه، إذ لا معني للحقيقة إلّا كونها مستقلة بالإفادة دون قرينة» «4». و أجاب عنه «بأن هذا نزاع في العبارة» «5».
قال الشوكاني: «و لنا أن نقول: اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز، و لا يقال: للفظة مع القرينة حقيقة فيه، لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية حتي يجعل المجموع لفظا واحدا دالا علي المسمّي» «6».
قال ابن برهان في كتابه الأصول: «اللغة مشتملة علي الحقيقة و المجاز، و قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني: لا مجاز في لغة العرب» «7» و احتج السيوطي بقوله: (1) الشوكاني، إرشاد الفحول إلي علم الأصول، ت: شعبان محمد إسماعيل، القاهرة، ط (1)، دار السلام، (1998)، (1/ 99).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) الرازي، المحصول، (1/ 448).
(6) الشوكاني، إرشاد الفحول، (1/ 99).
(7) السيوطي، المزهر، ت محمد أحمد جاد المولي و البجاري و أبو الفضل إبراهيم، ط دار الجيل، (1/ 364).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 174
«و عمدتنا في ذلك النقل المتواتر عن العرب؛ لأنهم يقولون: استوي فلان علي متن الطريق، و لا متن لها، و فلان علي جناح السفر، و لا جناح للسفر، و شابت لمّة الليل، و قامت الحرب علي ساق، و هذه كلها مجازات، و منكر المجاز في اللغة جاحد للضرورة و مبطل محاسن لغة العرب» «1».
قال امرؤ القيس [في معلقته :
فقلت له لما تمطّي بصلبه و أردف أعجازا و ناء بكلكل «2»
و ليس لليل صلب و لا أرداف ... و كذلك سموا الرجل الشجاع أسدا و الكريم العالم بحرا و البليد حمارا لمقابلة ما بينه و بين الحمار في معني البلادة، و الحمار حقيقة في البهيمة المعلومة. و كذلك الأسد حقيقة في البهيمة، و لكنه نقل إلي هذه المستعارات تجوّزا ...» «3».
و يعرض السيوطي أدلة الأستاذ الأسفراييني الذي نفي وجود المجاز في كلام العرب:
«و عمدة الأستاذ أن حدّ المجاز عند مثبتيه أن كلّ كلام تجوز به عن موضوعه الأصلي إلي غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنة بينهما في الذات أو في المعني: أما المقارنة في المعني فكوصف الشجاعة و البلادة و أما في الذات كتسميته المطر سماء، و تسميته الفضلة غائطا، و عذرة، و العذرة: فناء الدار، و الغائط: الموضع المطمئن من الأرض، كانوا يرتادونه عند قضاء الحاجة فلما كثر ذلك نقل الاسم إلي الفضلة، و هذا يستدعي منقولا عنه متقدما و منقولا إليه متأخرا، و ليس في لغة العرب تقديم و تأخير، بل كلّ ما قدّر أن العرب قد نطقت فيه بالحقيقة فقد نطقت فيه بالمجاز، لأن الأسماء لا تدل علي مدلولاتها لذاتها، إذ لا مناسبة بين الاسم و المسمّي، و لذلك يجوز اختلافها باختلاف الأمم، و يجوز تغييرها، و الثوب يسمّي في لغة العرب باسم، و في لغة العجم باسم آخر، و لو سمي الثوب فرسا، و الفرس ثوبا ما كان ذلك مستحيلا! بخلاف الأدلة العقلية، فإنها تدلّ لذواتها، و لا يجوز اختلافها، أما اللغة فإنها تدلّ بوضع و اصطلاح، و العرب نطقت بالحقيقة و المجاز علي وجه واحد، فجعل هذه حقيقة و هذا مجاز ضرب من التحكم، فإن اسم السّبع وضع للأسد كما وضع للرجل الشجاع» «4». (1) المصدر نفسه.
(2) البيت من البحر الطويل، و الكلكل: من الفرس ما بين مخرمه إلي ما مسّ الأرض منه إذا ربض.
و البيت في صفة الليل.
(3) السيوطي، المزهر، (1/ 364، 365).
(4) السيوطي، المزهر (1/ 365) و الكلام نقله عن أبي إسحاق الأسفراييني.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 175
إذا نستطيع أن نلخص رأي أبي إسحاق الأسفراييني، أن العرب لم تستخدم الكلمة علي حقيقتها التي وضعت لأجله ابتداء لفترة من الزمن، ثم استعملت الكلمة بعد فترة من الزمن لغير ما استعملت له ابتداء، إنما سمّت العرب بهذه الكلمة حيوانا ما باسم الحمار ثم وصفت رجلا ما باسم البليد في الوقت نفسه» «1».
و أجاب السيوطي علي حجج الأسفراييني: بالتسليم بأسبقية الحقيقة علي المجاز استعمالا غير أن التاريخ لم يحفظ لنا مثل هذه النقلات اللغوية، و عدم حفظ التاريخ لا يدل علي عدم التقديم و التأخير.
بيد أن السيوطي لم يسلم للأسفراييني بقوله: إن العرب وضعت الحقيقة و المجاز وضعا واحدا. بل المؤكد أن العرب أول ما وضعت اسم الأسد لعين البهيمة المعروفة، و لم تضع الأسد اسم عين للتعبير عن الرجل الشجاع، إنما اسم العين للرجل هو الإنسان «و لكن العرب سمت الإنسان أسدا لمشابهته الأسد في معني الشجاعة» «2».
و لكن المرء يتساءل: منذ متي عرفت العرب الأسد ... و منذ متي اكتشفت العرب صفة الشجاعة عند الأسد؟ و متي اكتشفت صفة الشجاعة عند إنسان ما حتي سمته العرب أسدا؟
الشجاعة موجودة بوجود الإنسان «معني و مفهوما».
ظني أن الإنسان منذ رأي الأسود حكم عليها بالشجاعة، ... و منذ وجدت الإنسانية وجدت معها صفاتها البلادة، الشجاعة، الكرم .. الخ.
من ذلك يظهر أن الخلاف اصطلاحي و إن لم يكن كليا فهو جزئي علي الأقل. لذا قال السيوطي: «فإذا ثبت أن الأسامي في لغة العرب انقسمت انقساما معقولا إلي هذين النوعين فسمّينا أحدهما حقيقة، و الآخر مجازا، فإن أنكر المعني فقد جحد الضرورة، و إن اعترف به و نازع في التسمية فلا مشاحة في الأسامي بعد الاعتراف بالمعاني» «3».
مع التذكير أن الغزالي في المنخول، و إمام الحرمين (في التلخيص) أنهما لا يظنان الأسفراييني يقول ما نسب إليه في موضوع الحقيقة و المجاز» و ذلك لعلو قدره في هذا العلم.
و قال التاج السبكي في شرح منهاج الأصول: «نقلت من خط ابن الصلاح أن أبا (1) السيوطي، المزهر (1/ 365) و الكلام نقله عن أبي إسحاق الأسفراييني.
(2) المصدر نفسه.
(3) السيوطي، المزهر، (1/ 366).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 176
القاسم ابن كج حكي عن أبي علي الفارسي إنكار المجاز، كما هو المحكي عن الأسفراييني ..»
قلت: [و الكلام للسبكي : هذا لا يصح أيضا فإن ابن جني تلميذ الفارسي و هو أعلم الناس بمذهبه، و لم يحك عنه ذلك بل حكي عنه ما يدلّ علي إثباته.
و ما سقناه من مناقشة السيوطي لآراء الأستاذ الأسفراييني، يصحّ سوقه لمناقشة أقوال ابن تيمية المنكر لوجود المجاز الذي ساقه القاسمي، و أوردناه في الصفحات السابقة.
و يقيني: لو أن العلماء ناقشوا المسألة بهدوء لتوصلوا إلي القول إن الخلاف اصطلاحي، و الحق أن المجاز موجود قلنا ذلك بأصل الوضع أو بانتقال المعني ...
و العبرة بما عليه العمل و ما آل إليه الفهم. لا كيف نشأ المجاز!. و اللّه أعلم.

رأي القاسمي بفواتح السور:

أن هذه الفواتح: الم- الر- كهيعص- كلها: هذه حروف يتشكّل منها القرآن و هي حروف لغتكم فأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله، أو بسورة. علما أنكم تنظمون كلامكم بنفس الحروف التي شكلت كلمات القرآن و تراكيبه «1».

التصوير في القرآن عند القاسمي:

كأن القاسمي استفاد من الدراسات البلاغية القرآنية في العصر العباسي و ما تلاه ...
لذا نراه يحاول رسم المشهد القرآني عند الحديث عن الطبيعة، و لا يخفي أن حديث القرآن عن الطبيعة ليس مقصودا لذاته، إنما القصد منه إمّا ربط الطبيعة بالإيمان بلفت النظر إلي عظمة الخالق الذي أبدع و صوّر فكان أحسن الخالقين من دون شك و لا ريب. أو أن القرآن صور مشاهد طبيعية كونية ليصوّر حالة نفسية إنسانية كانت متفاعلة مع الإيمان علي نحو إيجابي أو سلبي. فبدا القاسمي أديبا فنانا و هو يرسم المشهد الكوني، و حالة المنافق في هذا الواقع و ذلك في قوله تعالي: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) «2».
يقول القاسمي: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ: تمثيل لحالهم إثر تمثيل ليعمّ البيان منها كل دقيق و جليل و يوفي حقها من التفظيع و التهويل، فإن تفننهم في فنون الكفر و الضلال حقيق بأن يضرب في شأنه الأمثال ... و كما يجب علي البليغ في مظانّ الإجمال و الإيجاز (1) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (237)، بتصرف.
(2) سورة البقرة، الآية: (19).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 177
أن يحمل و يوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل و الإشباع، أن يفصل و يشبع.
(الصيب): السحاب ذو الصوب. و الصوب: المطر ... و المراد بالسماء السحاب كما قال تعالي: أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) «1».
(فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ): التنوين في الكل للتهويل و التفخيم كأنّه قيل: ظلمات داجية و رعد قاصف، و برق خاطف ...
(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ): الصاعقة الصوت الشديد، من الرعدة يسقط معها قطعة نار تنقدح من السحاب، إذا اصطكت أجرامه، لا تأتي علي شي‌ء إلّا أحرقته.
(حذر): خوف الموت من سماعها.
(وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ): علما و قدرة فلا يفوته، و الجملة اعتراضية منبهة علي أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع- لا يغني عنهم شيئا، فإن القدر لا يدافعه الحذر، و الحيل لا ترد بأس اللّه عزّ و جل. و فائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلي أصحاب الصيب:
الإيذان بأن ما وهمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم فيظهر استحقاقهم شدة الأمر عليهم علي طريقة قوله تعالي: أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «2» فإن الإهلاك الناشئ عن السخط أشد» «3».
و في قوله تعالي: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ... «4».
(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ):
... في الآية تمثيل لشدة الأمر علي المنافقين، بشدته علي أصحاب الصيب و هم فيه من غاية التحيّر و الجهل، بما يأتون و ما يذرون- إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة، فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي و فتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة.
(وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ): «لزاد في قصف الرعد فأصمهم أو في ضوء البرق فأعماهم ...» «5» و يقتطع المؤلف مقطعا من تعليقات ابن القيم في كتابه: (1) سورة الواقعة، الآية: (69).
(2) سورة آل عمران، الآية: (117).
(3) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (251، 252).
(4) سورة البقرة، الآية: (20).
(5) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (252).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 178
«اجتماع الجيوش الإسلامية في غزو المعطلة و الجهمية»:
في الآية [السابقة] شبه اللّه المنافقين «بقوم أوقدوا نارا لتضي‌ء لهم و ينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم و يضرهم أبصروا الطريق- بعد أن كانوا حياري تائهين فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق فأوقدوا النار لتضي‌ء لهم الطريق فلما أضاءت لهم- فأبصروا عرفوا- طفئت تلك الأنوار، و بقوا في الظلمات لا يبصرون قد سدّت عليهم أبواب الهدي الثلاث، فإن الهدي يدخل إلي العبد من ثلاثة أبواب: مما يسمعه بأذنه، و يراه بعينه، و يعقله بقلبه- و هؤلاء قد سدّت عليهم أبواب الهدي: فلا تسمع قلوبهم شيئا، و لا تبصره، و لا تعقل ما ينفعها، و قيل: لما لم ينتفعوا بأسماعهم و أبصارهم و قلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له، و لا بصر و لا عقل ...» «1».
هذه اللقطات الأدبية الفنية التصويرية تكشف عن أحاسيس الأديب لدي القاسمي المفسّر.

الأسماء و الصفات عند القاسمي:

يصنف الإيمان الحق في الصفات و الأسماء هو الوسط «بين أهل التعطيل الذي يلحدون في أسماء اللّه و آياته و يعطلون حقائق ما نعت اللّه به نفسه حتي يشبهونه بالعدم و الموات، و بين أهل التمثيل الذي يضربون له الأمثال و يشبهونه بالمخلوقات. فيؤمن أهل السنة و الجماعة بما وصف اللّه به نفسه، و ما وصفه رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم من غير تحريف و لا تعطيل، و من غير تكييف و لا تمثيل» «2».
هذا علي طريقة السلف، و قد ذكر القاسمي في المحاسن و التأويل في بحث يحمل العنوان:
«بيان أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف»، و استعان بإثبات ذلك بما قاله الغزالي في كتاب «إلجام العوام عن علم الكلام».
إذ بين الغزالي صحة مذهب السلف و أقام علي ذلك براهين عقلية و سمعية يسردها مطولة «3». (1) القاسمي، محاسن التأويل ص (253)، نقلا عن ابن القيم.
(2) المصدر نفسه.
(3) القاسمي، محاسن التأويل، مج (1)، ص (206، 207) من أراد التوسع فليرجع إلي مبحثه الذي بعنوان: «الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف».
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 179

اللغة عند القاسمي في المحاسن:

رأينا من الأمثلة التي درسناها أن اللغة كانت واضحة، سهلة، مفهومة، فهو لم يكن ميالا أبدا إلي غريب الكلام أو وحشيه، و لم يكن مسرفا في ذكر معاني المفردات، و لا التطبيقات الإعرابية و الصرفية و البلاغية، و لكنه شرح النص بما يحيط بالمعني دونما توسع ممل و لا إيجاز مخلّ. و كذلك لم يتناول التطبيقات البلاغية، اللهم إلا محاولات هنا و هناك حاول شرح الصور الغنية في الآيات شرحا أدبيا تصويريا علي نحو ما رأينا شرحه لقوله تعالي: فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ.

تفسير القاسمي و الأحكام الفقهية:

لم يخل تفسير القاسمي من عرض و مقارنة، و ترجيح للأحكام الفقهية، و ظهر كل ذلك في شرحه لقوله تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضي أَوْ عَلي سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) «1».
ذكر القاسمي أولا سبب نزول الآية، لأن سبب النزول يعرّف الفقيه الظروف المحيطة بالآية الكريمة ... لما هنالك من العلاقة بين السبب و المسبب. ثم يذكر الأحكام الشرعية المنبثقة عن هذه الآية:
(إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ): إذا أردتم القيام إلي الصلاة ...
ثم إن الآية تشير إلي وجوب الوضوء علي كل قائم إلي الصلاة و إن لم يكن محدثا [المراد الحدث الأصغر] نظرا إلي عموم الذين آمنوا ... و الجمهور علي خلاف ذلك لما روي الإمام أحمد و مسلم و أهل السنن عن بريدة قال: كان النبي صلي اللّه عليه و سلّم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح توضأ و مسح علي خفيه، و صلّي الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر:
يا رسول اللّه! إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال: «إني عمدا فعلته يا عمر»، و روي أحمد أنّ رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شقّ عليه ذلك أمر بالسواك عند كل صلاة، و وضع عنه الوضوء إلا من حدث. فكان عبد اللّه بن حنظلة يري أن به قوة علي ذلك كان يفعله حتي مات»، قال ابن كثير: و في فعل ابن عمر و مداومته (1) سورة المائدة، الآية: (6).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 180
علي إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة علي استحباب ذلك كما هو مذهب الجمهور».
و في حديث البخاري عن سويد بن النعمان قال: «خرجنا مع رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم عام خيبر حتي إذا كنا بالصهباء صلي لنا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم العصر فلما صلي دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق، فأكلنا و شربنا، ثم قام النبي صلي اللّه عليه و سلّم إلي المغرب. فمضمض ثم صلي لنا المغرب و لم يتوضّأ «1»، و ناقش القاسمي رأي من قال بالنسخ و أبطل النسخ و وجه الأمر إلي الندب مستعينا بذلك بآراء الزمخشري و الشافعي و ابن حجر و غيرهم «2».
«و في الآية دليل علي أن وجوب الوضوء لا يكون إلا لصلاة «و استدلّ بحديث أخرجه أبو داود و النسائي و الترمذي عن عبد اللّه بن العباس أن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا: أ لا نأتيك بوضوء؟ فقال: «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلي الصلاة» «و أن اشتراط الوضوء لسجدة التلاوة، أو للطواف و صلاة الجنازة، و مس المصحف، عند من أوجبه فمن أدلة أخر مقررة في فقه الحديث» «3».
و للقاسمي موضوعات فقهية في تفسيره يظهر فيه نقوله لأقوال الأئمة و ترجيحاتهم «4».

القاسمي و الحديث الشريف:

كان القاسمي مكثارا من استدلالاته بالأحاديث الشريفة سواء في مناقشته المسائل الفقهية في الآيات الكريمة أو خلال تفسيراته للآيات ... و قد ذكر في مقدمته لتفسيره أهمية السنة في تفسير القرآن، و فهم مقاصد الآيات الكريمة.

القاسمي و الإسرائيليات:

الإسرائيليات موجودة، و لكنها قليلة، و هذا ما ذكره أبو الفضل عبد اللّه بن محمد صديق الغماري: «و فيه ميل نحو الإسرائيليات أحيانا» «5». (1) أخرجه البخاري في (الحديث: 209).
(2) القاسمي، محاسن التأويل، مج (2)، ص (60، 61).
(3) القاسمي، محاسن التأويل، مج (2)، ص (61)، من أراد الاستزادة فليراجع ص (61) من المجلد (2).
(4) انظر القاسمي، مج (2)، عند تفسيره قوله تعالي: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما من سورة المائدة.
(5) الغماري، من بدع التفاسير، ص (162). و يراجع فقرة سابقة من البحث (قاعدة في قصص الأنبياء و الاستشهاد بالإسرائيليات).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 181

الخاتمة:

لقد كان القاسمي عالما كبيرا، و استحق وصف رشيد رضا، و محمد بهجة البيطار و غيرهم، لقد كان مخلصا لآرائه التي اعتقد و آمن بها في تفسيره.
كانت آراؤه في العقيدة موافقة لآراء السلف، دون تشنيع علي الخلف؛ امتاز بجمال بيانه، و سهولة لغته ...
و كان ميالا للآثار المفسرة، و الأحاديث الشريفة ... و إن استشهد أحيانا بالإسرائيليات.
***
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 183

ثالثا: صفوة التفاسير لمحمد علي الصابوني‌

صفوة التفاسير لمحمد علي الصابوني:

محمد علي الصابوني صاحب الدراسات القرآنية العديدة، المشتغل في تدريس علوم القرآن لفترة مديدة من الزمن.
كتب تفسير آيات الأحكام- و اختصر تفسير ابن كثير ..
نالت أعماله القبول و الرضا من طلاب العلم و العلماء في آن واحد معا.
عرف ببيانه الأدبي الجميل، و بدراساته البلاغية المسهمة في توضيح روعة البيان القرآني، و صفوة التفاسير وصفه صاحبه بأنه الجامع بين المأثور و المعقول.
المأثور ما نقل عن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و الصحابة و التابعين.
و المعقول ما تأوله الخلق لآيات الكتاب العزيز.
صيغ الكتاب بأسلوب لغوي ميسّر سهل الفهم، لين العبارة.

مصادر هذا التفسير:

و هي: «جامع البيان» أو تفسير الطبري، كشاف الزمخشري، «الجامع» للقرطبي، «روح المعاني» للآلوسي، و تفسير «القرآن العظيم» لابن كثير ... و «البحر المحيط» لأبي حيان ... و هناك انتقاءات من تفاسير أخري و دراسات قرآنية عديدة.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 184

رأي العلماء بهذا التفسير:

قرّض العلماء هذا التفسير فأثنوا عليه خيرا ... إذ قرّض له أبو الحسن الندوي من الهند، و عبد الحليم محمود و محمد الغزالي من مصر، و عبد اللّه بن حميد (رئيس مجلس القضاء الأعلي في السعودية). و عبد اللّه عمر نصيف مدير جامعة الملك عبد العزيز من السعودية، و عبد اللّه الخياط خطيب المسجد الحرام «1».

الأسباب الداعية لتأليف «صفوة التفاسير»:

ما من شك أن الذين ألفوا و كتبوا في تفسير الكتاب العزيز «القرآن كثيرون جدا، إذ حوت المكتبة الإسلامية أسفارا ضخمة، و كتبا نفيسة خدم بها العلماء الأجلاء كتاب اللّه الكريم ...
و بوجود هذه الأعمال الجليلة، و الأسفار الضخمة ... بقي القرآن الكتاب العجيب الذي لا تنقضي عجائبه، يتحدّي الإنسانية بما يبهر العقول، و يدوخ العلماء، لا غرابة إنه كتاب اللّه الخاتم، الذي لا زال العلماء يقفون علي سواحله يستقون منه فيزداد عطشهم، ممّا يدفعهم باستمرار لوروده لما يجدون فيه من الكنوز و الأسرار و الدقائق و اللطائف. غير أن المؤلفات الضخمة، و الأسفار الكبيرة، و لاختلاف الظروف الثقافية و الاجتماعية أضحي كثيرون غير قادرين علي مطالعتها، و الاستفادة منها ... فكان لا بد للعلماء من جهد ميسّر للصعب، مقيل للعثرة ... فكان جهد المؤلف في «صفوة التفاسير».
يقول المؤلف: «إنه جامع لعيون ما في التفاسير الكبيرة المفصّلة مع الاختصار و الترتيب» «2».

منهج صفوة التفاسير:

أولا: يقدم مقدمة إجمالية للسورة توضح هذه المقدمة المقاصد الأساسية للسورة الكريمة مع معلومات موجزة عنها.
ثانيا: يربط بين الآيات السابقة و اللاحقة [مما يجعل القارئ في المناخ السليم للمعني .
ثالثا: اللغة، يذكر اشتقاق المفردات، و الشواهد اللغوية، من كلام العرب. (1) انظر تقريظات الكتاب في المجلد الأول.
(2) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، حلب، دار القلم، ط (1)، (1994)، (2/ 20).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 185
رابعا: سبب النزول، فإذا عرفت السبب هان عليك معرفة المسبّب.
خامسا: التفسير، هو الهدف لأنّ به يتم معرفة المعني و القصد.
سادسا: البلاغة، و من شأنها تنمية الذوق المشعر بروعة البيان القرآني.
سابعا: الفوائد و اللطائف [الثمار التي يمكننا تحصيلها، و الأسرار التي كشفت لنا بمطالعة هذا الكتاب .
كي نكون مطلعين علي نحو موجز مختصر بهذا الكتاب لا بد من دراسة مثال واحد علي الأقل لبعض الجوانب الأساسية من كتاب صفوة التفاسير.

الجانب الفقهي:

قال تعالي: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامي فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْني وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْني أَلَّا تَعُولُوا (3) «1».
قال صاحب صفوة التفاسير فيما أخذه من التفاسير:
(وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامي : أي إذا كانت تحت حجر أحدكم يتيمة و خاف ألا يعطيها مهر مثلها فليتركها إلي ما سواها، فإن النساء كثير، و لم يضيّق اللّه عليه. و لقد اختار الطبري: «و ان خفتم ألا تعدلوا في اليتامي» فخافوا أيضا ألا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن «و ما أثبتناه هو الموافق لأسباب النزول» «2».
(فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْني وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ): أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم اثنتين و إن شاء ثلاثا، و إن شاء أربعا.
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً): أي خفتم من عدم العدل بين الزوجات فالزموا الاقتصار علي واحدة.
(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ): أي اقتصروا علي نكاح الإماء لملك اليمين إذ ليس لهن من الحقوق كما للزوجات.
(ذلِكَ أَدْني أَلَّا تَعُولُوا): أي ذلك الاقتصار علي الواحدة أو علي ملك اليمين أقرب ألا تميلوا و تجوروا» «3». (1) سورة النساء، الآية: (3).
(2) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، (1/ 259). و انظر تفسير الطبري (7/ 265).
(3) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، (1/ 259).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 186

الاهتمام بالحديث الشريف في صفوة التفاسير:

ذكرنا في بداية البحث أن «صفوة التفاسير» موسوم بالجمع بين المأثور و المعقول ...
و قلنا: إن المأثور هو المنقول عن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم و الصحابة و التابعين. و المؤلف اعتمد المنقول بتفسيره اعتمادا جليا واضحا.
قال تعالي: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) «1» يمهّد المؤلف لتفسير الآية كعادته بذكر مناسبة نزول الآية، فيقول:
المناسبة: الآية الكريمة تتابع أحداث «أحد» ... و تكشف عن أسرار المنافقين، و مواقفهم المخزية، و توضح الدروس و العبر من تلك الغزوة المجيدة.
سبب النزول: و يذكر سبب النزول الذي يرويه جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: لقيني رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فقال: يا جابر: «ما لي أراك منكسا مهتما؟» قلت: يا رسول اللّه استشهد أبي و ترك عيالا، و عليه دين فقال: «أ لا أبشرك بما لقي اللّه عزّ و جل به أباك؟» قلت: بلي يا رسول اللّه، قال: «إنّ اللّه أحيا أباك و كلّمه كفاحا «2». و ما كلّم أحدا قط إلّا من وراء حجاب- فقال له: يا عبد اللّه تمنّ أعطك، قال: يا رب: أسألك أن تردّني إلي الدّنيا لأقتل فيك ثانية، فقال الرب تبارك و تعالي: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال:
يا رب: فأبلغ من ورائي» فأنزل اللّه وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً أي لا تظنّن الذين استشهدوا في سبيل اللّه لإعلاء دينه أمواتا لا يحسون و لا يتنعمون بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ أي بل هم أحياء متنعمون في جنان الخلد يرزقون من نعيمها غدوا و عشيّا، قال الواحدي: الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم «أن أرواحهم في أجواف طيور خضر و أنهم يرزقون و يأكلون و يتنعمون» «3».

الجانب اللغوي في صفوة التفاسير:

قال تعالي: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) ....
و قال تعالي: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. (1) سورة آل عمران، الآية: (169).
(2) كفاحا: أي مواجهة.
(3) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، (1/ 243، 244).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 187
اللغة: يشرح المؤلف المفردات اللغوية بإيجاز:
(انكدرت): تناثرت.
(العشار): جمع عشراء و هي الناقة التي مرّ علي حملها عشرة أشهر.
(كشطت): نزعت، و قلعت: كشطت جلد الشاة أي نزعته و سلخته عنها.
(الخنّس): الكواكب المضيئة التي تخنس نهارا، و تختفي عن البصر، جمع خانس.
(الكنس): النجوم التي تغيب يقال: كنس إذا دخل الكناس و هو المكان الذي تأوي إليه الظباء.
(عسعس): أقبل بظلامه، قال الخليل: عسعس الليل: إذا أقبل أو أدبر فهو من الامتداد، قال الشاعر:
حتي إذا الصبح لها تنفسا و انجاب عنها ليلها و عسعسا «1»

البلاغة في صفوة التفاسير:

تضمنت سورة التكوير عددا من الأحكام البلاغية منها:
1- الجناس الناقص بين الخنس، و الكنس.
2- الاستعارة التصريحية [صرح بالمشبه، و حذف المشبه به، و أبقي ما يدل عليه .
وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ: شبّه إقبال النهار و سطوع الضياء بنسمات الهواء العليل التي تحي القلب، و استعار لفظ التنفس لإقبال النهار بعد الظلام الدامس، و هذا من لطيف الاستعارة، و أبلغها تصويرا حيث عبّر عنها بتنفّس الصّبح.
3- الكناية اللطيفة: وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ كني عن محمد صلي اللّه عليه و سلّم بلفظ صاحبكم.
4- الطباق بين لفظ «الجحيم، و الجنة ..».
5- الجناس غير التام بين «آمين- و مكين».
6- توافق الفواصل، رعاية رءوس الآيات مثل: كورت، سيّرت، سجّرت، سعرت» و مثل: «الخنس، الكنس، عسعس، تنفس».
و لمزيد من الفائدة و الإيضاح للجانب البلاغي في صفوة التفاسير نتناول الجانب البلاغي في فاتحة الكتاب:
1- الْحَمْدُ لِلَّهِ: الجملة خبرية لفظا، إنشائية معني. أي قولوا [لأن الأمر جانب (1) انظر محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، (1/ 524) و انظر: البحر المحيط لأبي حيان (8/ 430).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 188
من جوانب الإنشاء]. أي قولوا: الحمد للّه. و هي مفيدة لقصر الحمد عليه تعالي:
2- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: فيه التفات من الغيبة إلي الخطاب، و لو جري الكلام علي الأصل لقال: إياه نعبد، و تقديم المفعول يفيد القصر أي لا نعبد سواك كما في قوله تعالي: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
3- قال في البحر المحيط: و في هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة و البلاغة أنواع:
الأول: حسن الافتتاح و براعة المطلع.
الثاني: المبالغة في الثناء لإفادة «أل» الاستغراق.
الثالث: تلوين الخطاب إذ صيغته الخبر، و معناه الأمر أي قولوا الحمد للّه.
الرابع: الاختصاص في قوله «اللّه».
الخامس: الحذف كحذف صراط من قوله: «غير المغضوب عليهم» تقديره غير صراط المغضوب عليهم، و غير صراط الضالين.
السادس: التقديم و التأخير في «إياك نعبد».
السابع: التصريح بعد الإبهام الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ثم فسّره بقوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.
الثامن: الالتفات في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5).
التاسع: طلب الشي‌ء، و المراد به دوامه، و استمراره في اهْدِنَا الصِّراطَ أي ثبتنا عليه.
العاشر: السجع المتوازي في قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1».

المحكم و المتشابه في صفوة التفاسير:

قال تعالي: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7) «2».
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ): أي أنزل عليك يا محمد القرآن العظيم. (1) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، (1/ 26).
(2) سورة آل عمران، الآية: (7).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 189
(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ): أي فيه آيات بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها و لا غموض كآيات الحلال و الحرام، هن أصل الكتاب و أساسه.
(وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ): أي و فيه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة علي كثير من الناس، فمن رد المتشابه إلي الواضح المحكم فقد اهتدي، و إن عكس فقد ضل.
و لهذا قال تعالي: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ): أي فأمّا من كان في قلبه ميل عن الهدي إلي الضلال فيتبع المتشابه منه و يفسّره حسب هواه.
(ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ): أي طلبا لفتنة الناس في دينهم، و إيهاما للأتباع بأنهم يبتغون تفسير كلام اللّه.
(وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ): أي لا يعلم تفسير المتشابه و معناه الحقيقي إلا اللّه وحده.
(وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ): أي الثابتون المتمكنون من العلم يؤمنون بالمتشابه و أنه من عند اللّه «1». «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» ...
و في سياق الفوائد: روي مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم قرأ قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، الآية ثم قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم اللّه فاحذرهم» «2».
و قال القرطبي: «أحسن ما قيل في المتشابه و المحكم: أن المحكم ما عرف تأويله و فهم معناه و تفسيره، و المتشابه ما استأثر اللّه تعالي بعلمه دون خلقه و لم يكن لأحد إلي علمه سبيل.
قال بعضهم: و ذلك مثل وقت قيام الساعة، و خروج يأجوج و مأجوج، و خروج الدجال و عيسي و نحو الحروف المقطعة في أوائل السور» «3».
و القرآن قسمان: محكمات و متشابهات كما دلّت عليه الآية الكريمة، فإن قيل: كيف يمكن التوفيق بين هذه الآية و بين ما جاء في سورة هود أن القرآن كلّه محكم كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ و ما جاء في الزمر أن القرآن كلّه متشابه: نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً؟! فالجواب أنه لا تعارض بين الآيات إذ كل آية لها معني خاص غير ما نحن في صدده فقوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ بمعني أنه ليس به عيب، و أنه كلام حق فصيح الألفاظ، صحيح المعاني. (1) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، (1/ 184، 185).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، (1/ 186).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 190
و قوله: (كِتاباً مُتَشابِهاً): بمعني أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن و يصدق بعضه بعضا، فلا تعارض بين الآيات.
و الصابوني يثير إشكالية أخري يحاول الإجابة عليها إجابة تأويلية لأن القرآن يستحيل التناقض عليه، فهو كلام اللّه الصادق المحكم «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1»- إذا لا تعارض بين نصوص القرآن، لكن كيف عالج السلف الصالح بعض الآيات الموهمة. فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ قال: ما هو؟ قال قوله تعالي: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ «2» و قال: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلي بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) «3» و قال تعالي: وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «4» و قال: وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «5» فقد كتموا في هذه الآية، و في النازعات ذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، و في «فصّلت» ذكر خلق الأرض قبل خلق السماء. و قال:
وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً فكأنه كان ثم مضي فقال ابن عباس: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ في النفخة الأولي فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «6» فلا أنساب بينهم عند ذلك و لا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة: أقبل بعضهم علي بعض يتساءلون، و أما قوله: (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)، (وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) فإن اللّه يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشركون تعالوا نقل: لم نكن مشركين، فختم اللّه علي أفواههم ... فعند ذلك عرف أن اللّه لا يكتم حديثا، و عنده يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين، و خلق اللّه الأرض في يومين ثم استوي إلي السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء و المرعي و خلق الجبال و الأشجار و الآكام و ما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فخلق الأرض و ما فيها في أربعة أيام و خلقت السماء في يومين و كان اللّه غفورا رحيما فسمّي نفسه ذلك أي لم يزل و لا يزال كذلك».

الجانب العقيدي في صفوة التفاسير:

من المعلوم أن النصوص المتشابهة اختلف في فهمها ما بين سلف و خلف فالسلف (1) سورة النساء، الآية: (82).
(2) سورة المؤمنون، الآية: (101).
(3) سورة الصافات، الآية: (27).
(4) سورة النساء، الآية: (42).
(5) سورة الأنعام، الآية: (23).
(6) سورة الزمر، الآية: (68).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 191
يفوّضون، و الخلف يؤولون- أما في النصوص المحكمة فلا خلاف.
ففي قوله تعالي من سورة البقرة:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَي اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210).
قال في تفسير قوله تعالي: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام و الملائكة): أي ما ينتظرون شيئا إلا أن يأتيهم اللّه يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق حيث تنشقّ السماء و ينزل الجبار عزّ و جل في ظلل من الغمام و حملة العرش و الملائكة الذي لا يعلم كثرتهم إلّا اللّه ...» «1».
قال المؤلف: «و هذا الذي أثبتناه مذهب السلف و هو عدم التأويل و تفويض معني الآية علي سبيل التفصيل إلي اللّه تعالي. و لقد ذهب الرازي إلي أن معني (أن يأتيهم اللّه):
أي يأتيهم أمره و بأسه فهو علي حذف مضاف مثل قوله (و اسألوا القرية): و هو مجاز مشهور و يقال ضرب الأمير فلانا و صلبه و أعطاه، و المراد أنه أمر بذلك و استدل علي صحة هذا التأويل بالآية الأخري: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ «2».
و نقل المؤلف كلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية: «وصفه تعالي نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجي‌ء في آيات أخر و نحوها مما وصف به نفسه في كتابه أو صح عن رسوله صلي اللّه عليه و سلّم، و القول في جميع ذلك من جنس واحد و هو مذهب سلف الأمة و أئمتها، إنهم يصفون سبحانه بما وصف به نفسه و وصفه به رسوله صلي اللّه عليه و سلّم من غير تحريف و لا تعطيل و لا تكييف و لا تمثيل، و القول في صفاته كالقول في ذاته و اللّه تعالي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ لا في ذاته، و لا في صفاته، و لا في أفعاله فلو سأل سائل: كيف يجي‌ء سبحانه؟
فليقل له، كما لا تعلم كيفية ذاته كذلك لا تعلم كيفية صفاته» «3».
و كذلك نقل المؤلف كلام الإمام أحمد في تفسيره الآية من سورة الأعراف: ثُمَّ اسْتَوي عَلَي الْعَرْشِ «4»، أي استواء يليق بجلاله من غير تشبيه و لا تمثيل و لا تعطيل و لا تحريف، كما هو مذهب السلف، و كما قال الإمام مالك رحمه اللّه: الاستواء معلوم، و الكيف مجهول، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة، و قال الإمام أحمد رحمه اللّه: أخبار الصفات تمرّ كما جاءت بلا تشبيه و لا تعطيل، فلا يقال: كيف؟ و لم؟ نؤمن بأن اللّه علي العرش (1) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، (1/ 134).
(2) المصدر نفسه، و انظر الهامش.
(3) المصدر نفسه، (1/ 135).
(4) سورة الأعراف، الآية: (54).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 192
كيف شاء، و كما شاء بلا حد. و لا صفة يبلغها واصف أو يحدّ حاد، نقرأ الآية و الخبر، و نؤمن بما فيهما و نكل الكيفية في الصفات إلي علم اللّه عزّ و جل، و قال القرطبي: لم يفكر أحد من السلف الصالح أنه استوي علي عرشه حقيقة و إنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته»» «1».
و بذلك يبدو المؤلف مرجحا وجهة نظر السلف.

النسخ في صفوة التفاسير:

لقد كان موقف محمد علي الصابوني في تفسير آيات الأحكام أكثر تفصيلا إذ أثبت كل أنواع النسخ: نسخ التلاوة، و نسخ التلاوة و بقاء الحكم، و نسخ الحكم و بقاء التلاوة.
لكن الصابوني في صفوة التفاسير اكتفي بما دلّت الآية عليه من المعني إذ قال في تفسيره لقوله تعالي:* ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلي كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ (106) «2».
(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها): أي ما نبدل من حكم آية فنغيره بآخر، أو ننسها يا محمد أي نمحها من قلبك.
(نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها): أي نأت بخير لكم منها أيها المؤمنون، بما هو أنفع لكم في العاجل أو الآجل إما برفع المشقة عنكم أو بزيادة الأجر و الثواب «3».
في حين كانت مناقشة الناسخ و المنسوخ في كتابه تفسير آيات الأحكام أكثر وضوحا و تفصيلا. و اكتفي بالصفوة بالإجمال دون التفصيل.

خاتمة:

كان سهلا في عبارته، دقيقا في ترتيبه و تبويبه، حتي بدا هذا العمل العلمي صفوة التفاسير مدرسيا في تبويبه، سهلا علي الطالب، فما أدراك بالباحث.
إنه يزيد ذخيرة الطالب بالمفردات اللغوية، و الشواهد العربية، و معلوماته التفسيرية، و ينمي ملكة الفهم و التأويل إذا درس بعناية و يزيد معلومات القارئ البلاغية.
***
(1) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، (1/ 450).
(2) سورة البقرة، الآية: (106).
(3) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، (1/ 86).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 193

الفصل الثاني التفسير المنهجي‌

اشارة

أولا: التفسير عند محمود حجازي.
ثانيا: التفسير عند الدكتور وهبة الزحيلي.
ثالثا: التفسير عند الشيخ محمد متولي الشعراوي.
رابعا: التفسير عند الدكتور أحمد إسماعيل الصباغ.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 195

أولا: التفسير الواضح لمحمود حجازي‌

التفسير الواضح لمحمد محمود حجازي:

لا نعرف كثيرا عن الجانب الشخصي عن حياة المؤلف إنما نعرف أن المؤلف كان مدرسا في الجامعة الأزهرية كلية أصول الدين.
و التفسير الذي أمامنا مؤلف من مجلدات ثلاث طبع للمرة العاشرة عام 1993 م. يثني مؤلفه علي المفسرين القدامي الثناء الذي يستحقون، فهو مقر بعلمهم، معترف بفضلهم، لذا كان تفسيره حلقة من حلقات التطور الأسلوبي في التفاسير القرآنية ... إنه جاء ابنا مطيعا لمن سبقه من التفاسير و خاصة القديمة منها ..
جاء التفسير الواضح استجابة لواقع العصر الجديد «الذي» تشعبت فيه البحوث في القوانين الوضعية و تكاثرت الخلافات بين الناس، فلجأ علماء القانون البشري إلي التغيير بين الفترة و الأخري حتي ضجّ الناس فرجع كثيرون منهم إلي القرآن الكريم لأنهم سئموا التخبط، و ضجوا بالضياع و الاضطراب لهذه الموجة المادية التي غمرت الناس بقيمها و أعرافها، فغدت الناس نفوسهم شرهة لا تشبع من مال، و نهمة لا ترتوي من متعة، عندئذ تيقظ الناس باحثين عن مخرج، و لاهثين منقرين يفتشون عن مخلّص.
تذكروا كتاب اللّه الذي بني للإنسانية يوما صرحا من الأخوة لا يطاوله أحد .. فعمد الباحثون في علومه إلي كتابات شروحه بلغات و بأساليب همها التبسيط دونما إهمال لمعانيه النبيلة و قيمه السامية.
و هذا التفسير الواضح، «كتب بلغة سهلة واضحة لا تعمق فيها و لا إبعاد، خالية من الاصطلاحات العلمية و الفنية تفسّر للشعب كل ما فيه صوغ المعني الإجمالي للآية بلغة
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 196
العصر، مع البعد عن الحشو و التطويل» «1».
من هنا كان «التفسير الواضح» التفسير الذي نعت بالواضح، ليوضح للناس ما كان يحتاج إلي اختصاص، فبدا بثوبه الجديد، و أسلوبه الحديث في متناول الجميع. و اللّه أعلم.

منهجه في التفسير:

لقد قلنا: إن المفسر أثني علي القدماء، و بني علي بنائهم لكن علي نحو جديد مع محافظة علي جوهر بنائهم، فهو بعد أن عرض مقدمة لكل سورة قرآنية يتناول فيها ملخصا مجملا عن الموضوع الذي تناوله السورة المراد تفسيرها.
يحاول المؤلف تقسيم السورة الواحدة إلي موضوعاتها التي بحثت في آياتها.
- ثم يشرح مفرداتها، ثم يتناول المعني الإجمالي.
- استشهاده بالأحاديث الشريفة كان قليلا.
- خلا تفسيره من التطبيقات النحوية و الصرفية و البلاغية إلا ما ندر.
- نقّاه من الإسرائيليات.
و الآن إليك أيها القارئ الكريم بعضا من نماذجه:
إنه يقسم السورة الواحدة إلي موضوعات وفق الآيات المتسلسلة المتناولة لموضوع ما:
فسورة الأعراف مثلا تناولت عددا غير قليل من الموضوعات العقيدية، و الاجتماعية و القصصية، التاريخية و غير ذلك. لذا فإنا نجد العناوين التالية في دراسته لسورة الأعراف التي يبلغ عدد آياتها خمس و مائتان.
«نزلت بعد سورة (ص) و هي كالأنعام بينت أصول العقائد ... و فيها قصص الرسل و أحوال قومهم بالتفصيل، مع بعض الآيات و الحكم القرآنية» «2».
فالفكرة الأولي عنونها ب: «القرآن و عاقبة المكذبين في الدنيا و الآخرة».
و العنوان الثاني: «نعم اللّه علي بني آدم، و تكريمه». و الثالث: «قصة سكني آدم الجنة و خروجه منها»، و الرابع: «من نعم اللّه و فضله علينا». و الخامس: «شبهات المشركين (1) محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، ط (10) دار الجيل، بيروت، (1/ 6).
(2) المصدر نفسه، (1/ 693).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 197
و أعذارهم الواهية» و هكذا يقسم السورة إلي أفكار و يضع لكل مجموعة من الآيات المتضمنة فكرة واحدة عنوانا حتي نهاية السورة ...» «1».

الجانب العقيدي في سورة الأعراف:

اشارة

قال تعالي: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوي عَلَي الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) «2».
و علي نهجه بالتفسير يفسّر المفردات في الآية الواردة:
(ربكم): الرب السيد المالك و المربي.
(اللّه): علم علي الذات الأقدس، و الإله هو المعبود الذي منه النفع و الضر، و يتقرب إليه بالعبادة و الدعاء. و ليس للموحدين إله إلّا اللّه.
(أيام): جمع يوم و هو الوقت المحدود بطلوع الشمس إلي غروبها. [هذا يوم الحياة الدنيا أو يوم البشر].
(استوي): في اللغة بمعني استقرّ، و منه استوي علي الكرسي، و استوي بمعني استولي و ظهر.
(العرش): قال الجوهري: هو سرير الملك. نَكِّرُوا لَها عَرْشَها، و العرش: سقف البيت و هودج المرأة، و قيل: العرش الملك و السلطان. و منه ثلّ عرشه إذا ذهب ملكه.
(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ): يجعل الليل كالغشاء أي: يذهب نور النهار.
(حثيثا): الحث و الحض بمعني واحد: و هو الإعجال و السرعة «3».

المعني:

«إن ربكم و مالك أمركم، و متولي شئونكم هو اللّه لا إله إلا هو فاعبدوه وحده و استعينوا به وحده، فهو الذي خلق السموات و عوالمها، و قدّرها و أحكم نظامها و خلق الأرض، و جعل فيها رواسي من فوقها، و بارك فيها و قدّر أقواتها، كل ذلك في ستة أيام، اللّه أعلم بمقدارها و حدودها، وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «4» و لو أراد (1) محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، (1/ 693) و ما بعدها.
(2) سورة الأعراف، الآية: (54).
(3) محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، (1/ 721، 722).
(4) سورة الحج، الآية: (47).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 198
خلقها في لحظة لخلقها إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» ... و لكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأني و التثبيت في الأمور، و أن خلق السموات و الأرض ليس بالشي‌ء الهيّن لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) «2».
و يعلق محمود حجازي علي الإسرائيليات الواردة في الحديث عن هذه الآيات دون قبول أو رفض: «و ما ورد من أن هذه الأيام الستة هي كأيام الدنيا، و أنه بدئ الخلق يوم الأحد. فروايات إسرائيلية اللّه أعلم بها، و إنها إسرائيليات ... إن ربكم أيها الناس جميعا اللّه الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام، و دبر أمورها وحده، فيجب عليكم أن تعبدوه وحده» «3». و يظهر رأيه في آيات الصفات أنه مع آراء الصحابة و السلف الصالح.
«ثم إنه تعالي قد استوي علي عرشه، و استقام أمره، و استقرّ علي هيئة اللّه أعلم بها من البعد عن مشابهة الحوادث في شي‌ء، و لقد سئل مالك- رضي اللّه عنه- في ذلك فقال:
«الاستواء معلوم، أي: في اللغة، و الكيف- أي كيفية الاستواء- مجهول. و السؤال عن هذا بدعة»، و هذا القدر كاف، و هذا رأي الصحابة رضي اللّه عنه). و رأي السلف: قبول ما جاء من غير تكيف و لا تشبيه، و ترك معرفة حقيقتها إلي اللّه، و أما الخلف فيؤولون، و يقولون:
استوي علي عرشه بعد تكوين خلقه علي معني أنه يدير أمره و يصرف نظامه علي حسب تقديره و حكمته: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوي عَلَي الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ «4» و إلي رأي السلف أميل، إذ هو رأي الصحابة و التابعين جميعا» «5» و جميل من المؤلف ذكر الآراء دون تعنف للآراء المخالفة لرأيه ... إنما عرضها بهدوء و بروح علمية إسلامية جادة.

المسألة الفقهية في التفسير الواضح:

و لنأخذ مثالا له علاقة مسيسة بالحياة الاجتماعية ألا و هو قذف الرجل زوجته قال تعالي: (1) سورة يس، الآية: (82).
(2) سورة غافر، الآية: (57).
(3) محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، (1/ 722).
(4) سورة يونس، الآية: (3).
(5) محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، (1/ 722).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 199
وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10).
بعد أن شرح المفردات علي نهجه المتبع في كل تفسيره.
الموضوع: إذا دخل الرجل علي امرأته في مكانه الخاص فوجد معها أجنبيها علي هيئة منكرة فما ذا يعمل؟ أ يخرج يطلب الشهود! هذا قد لا يتصور، أ يسكت و يلحق بنفسه من لا يستحق هذا النسب، و يتخذ لأولاده أخا يرثه و يرثهم و هو لا يستحق! إن هذا لأمر خطير ...
و لكن الشارع الحكيم لا يترك هذا الأمر دونما حل:
و الحل: إن لم يكن له شهداء يشهدون علي مثل الشمس رؤية و يقينا، إذا لم يكن ذلك فليشهد أربع شهادات باللّه فيقول: أشهد باللّه العظيم إني لصادق فيم رميت به زوجتي فلانة من الزني (أربع مرات) و يقول في المرة الخامسة: و عليّ لعنة اللّه إن كنت من الكاذبين في دعواي، و فيما رمي زوجته بالزني وجب عليه الحد كما نصّت الآية السابقة فإنها عامة من المحصنات سواء كن زوجات أو أجنبيات. و ليس يرفع الحد كما نصّت الآية السابقة إلا البينة بأربعة شهود أو اللعان منه، أي أن يشهد أربع شهادات ثم الخامسة كما تقدّم ...
عند ذلك يجب عليها الحد إن لم تلاعن هي الأخري، و ذلك كلّه بعد تحذير الحاكم [القاضي لهما من الكذب و خطره، و بيان أن عذاب الدنيا بالحد أخف بكثير من عذاب الآخرة، فإن أصرت الزوجة علي تكذيب زوجها لاعنت فشهدت أربع شهادات باللّه العظيم إنه لمن الكاذبين، و تقول: أشهد باللّه العظيم إن فلانا هذا زوجي لمن الكاذبين، فيما رماني به من الزني، و في الخامسة تقول: و عليّ غضب اللّه إن كان من الصادقين و هذا معني قوله تعالي: وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ ... و من أحكام اللعان أنه متي لا عن الزوج حرمت عليه زوجته، قيل: حرمة مؤبدة، و قيل كالطلقة البائنة يجوز له أن ينكحها إذا عاد و كذّب نفسه و أقيم عليه الحد.
وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) و لو لا ما حفّكم من فضل اللّه و مزيد إحسانه الذي منشؤه الرحمة التي هي صفة ذاتية للّه كتبها علي نفسه، و أنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيئات، لو لا ذلك كلّه لكان ما كان مما لا يطاق، و لا تحيط به العبارة ...» «1». (1) محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، تفسير سورة النور (2/ 657، 658).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 200
و روي في سبب نزول هذه الآيات التي شرّعت حكم الملاعنة بين الزوجين: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلي اللّه عليه و سلّم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلي اللّه عليه و سلّم: «البينة أو حد في ظهرك» قال: يا رسول اللّه إذا رأي أحد رجلا علي امرأته يلتمس البينة! فجعل النبي صلي اللّه عليه و سلّم يقول: «البينة و إلا حد في ظهرك» فقال هلال: و الذي بعثك بالحق إني لصادق، و لينزلن اللّه في أمري ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت الآية. و قيل: إن القاذف لزوجته عويمر بن زيد لا هلال بن أمية» «1».
و روي أن آية القذف لما نزلت وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية و تناول ظاهرها الأزواج و غيرهم قال سعد بن عبادة: يا رسول اللّه إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتي آتي بأربعة؟ و اللّه لأضربنّه بالسيف غير مصفح عنه، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «أ تعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير من سعد، و اللّه أغير مني» ثم لم يمض يسير من الزمن حتي جاء هلال بن أمية و رمي زوجته بالزني و نزلت الآية «2».

ملاحظات:

لم يورد المؤلف الآراء الخلافية الفقهية حول الشهود، و شروط الشهداء، و لم يبين ما ينبني من أحكام أخري علي الكاذبين من المدعين كحرمانهم من الشهادة و غير ذلك، و لم يكثر من الأحاديث الواردة في ذلك.
إنما قدم الحكم الشرعي في الموضوع دونما توسع و دونما إخلال أيضا ... مع ذكر لأسباب النزول التي تعين المجتهد علي استنباط الحكم الصحيح، و تعين القارئ علي فهم الآية و ترسيخها في ذهنه. هذا عن دراسته للمردود الاجتماعي و التربوي للأحكام الفقهية، لأن التربية غاية مهمة من غايات التشريع. و اللّه أعلم.

الاستشهادات بالأحاديث الشريفة بالتفسير:

لم يكن المفسّر من الذين أكثروا من إيراد الأحاديث و الآثار من الصحابة و التابعين.
و من الحالات القليلة التي استشهد فيها بالحديث النبوي: عند تفسيره قوله تعالي:
وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً «3» أي ليعمل من لا يجد وسائل الزواج الموصلة إليه علي العفة و ضبط النفس و عدم الاسترسال في طريق الشهوات و البعد عما يثير الغرائز الجنسية (1) محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، تفسير سورة النور (2/ 657، 658).
(2) المصدر نفسه (1/ 658).
(3) سورة النور، الآية: (34).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 201
كالاختلاط بالنساء و الجلوس إليهن، و التعفف يدخل فيه تقوية الناحية الروحية بقراءة القرآن و الصلاة و الصوم و استدل بحديث الرسول صلي اللّه عليه و سلّم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج و من لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له و جاء» ... و الصوم علاج روحي جسمي» «1».

الإسرائيليات في التفسير الواضح:

خلا التفسير الواضح من الاسرائيليات ... بحدود اطلاعنا و علمنا .. علما أن المؤلف في مقدمته أكد علي «خلوّه من الخرافات الإسرائيلية». كما أنه في تفسيره سورة طه وقف موقفا من الإسرائيليات لا رفض فيه و لا قبول إنما اكتفي بالقول عند تفسيره في «ستة أيام» و عن بدء الخلق يوم الأحد ... قال: إنها من روايات الإسرائيليات، و اللّه أعلم بها» «2».

اللغة في التفسير الواضح:

اسم التفسير «الواضح» و لا يمكن أن يكون واضحا دون لغته السهلة، و المفردة البسيطة، و الحق أنه في شرحه المفردات القرآنية- ثم الشرح الإجمالي للمعني العام للآيات الكريمة يؤكدان أن اللغة السهلة كانت سائدة في كل أجزاء التفسير الواضح- و هذه اللغة يستطيع أن يفهمها المبتدءون بالعلم، أو علي الأقل يفهمها غير المتخصصين بالدراسات اللغوية أو الإسلامية، و بتجنبه التطبيقات النحوية و الصرفية و البلاغية جعل المفسّر تفسيره لعموم الناس و بذلك غدا هذا التفسير مادة ثقافية قرآنية شعبية ...».

الناسخ و المنسوخ في التفسير الواضح:

عالج المفسر هذا الموضوع عند قوله تعالي في سورة البقرة: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ... «3».
يتناول الموضوع بتمهيد يقول: «إن القرآن الكريم نزل منجما تبعا للحوادث و الظروف، و هو تنزيل من حكيم عليم بالخبايا فالحكم المستفاد من الآية يدور مع المصلحة للأمة، فمتي وجدت المصلحة في الحكم و إلا فلا، فتارة تبقي الآية كما هي لأن المصلحة في ذلك، و تارة يذهب لفظها و معناها أو أحدهما و تؤجل إلي أجل أو تنسي من (1) محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، (1/ 679).
(2) المصدر نفسه، (1/ 722).
(3) سورة البقرة، الآية: (106).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 202
القلوب كل ذلك للمصلحة العامة، فالنسخ ضروري في الأحكام خصوصا عند الأمة الناشئة بسبب تطورها سريعا، فما يصلح علاجا اليوم قد لا يصلح غدا، شأن المربي و الطبيب الماهر مع مريضه».

هل كان النسخ لجهل الشارع بالحكم:

بكل تأكيد لم يكن النسخ بسبب جهل الشارع بالحكم الأخير [فالكل تنزيل اللّه العليم الحكيم . و لكن كان الشارع يتدرج و يعالج تبعا للظروف و الأحوال ... انظر إليه حيث عالج الخمر ... و كيف نسخ الحكم فيها ... حتي وصل إلي النهاية و كذا آيات القتال نجد أن النسخ كان لحكمة عالية من حكيم خبير ...» «1».
في حين لمّا بدأت الأمة تستقر، و يترسخ كيانها «لم يبق نسخ، أ ليس هذا أولي من بقاء الأحكام لا تتغير تبعا للظروف الطارئة فيضطر إلي هجرها و عدم قبولها؟! فاللّه لم ينسخ آية أو يؤجلها إلّا و يأتي بخير منها للعباد أو مثلها علي الأقل أ ليس اللّه علي كل شي‌ء قدير ...» «2».
و علي كل حال فقد تم التطرق إلي الناسخ و المنسوخ في عدد من البحوث التي أعددناها حول التفاسير، و ذكرنا أن الجمهور مع القول بالنسخ غير أن أبا مسلم الأصفهاني لا يقول بوجود النسخ ... و ذهب بعض المعاصرين إلي عدم وجود النسخ، و وجهوا الآيات توجيها آخر جعل الآيات عاملة كلّها، لكن كلّ آية تعمل في موقعها المناسب و قد ذكر ذلك صاحب التفسير الواضح:
«هذا رأي بعض العلماء في النسخ و القول به [أي رأي القائلين به و بعضهم يري ألا نسخ أبدا بالمرة، و كلّ آية قيل إن فيها نسخا أوّلوها تأويلا سائغا ببيان أن كل آية في موضوع فلم تنسخ إحداهما الأخري، انظر إلي آيات العدة الآتية، و آيات القتال» «3».
و قد عالج علماء أصول الفقه موضوع الناسخ و المنسوخ، كما عالج الموضوع المفسرون للقرآن الكريم، و من أراد الاستزادة فليراجع المسألة في مظانها. (1) محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، (1/ 62- 65).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، (1/ 65).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 203

خاتمة:

التفسير الواضح؛ اسم علي مسمّي. لا غرابة في لغته، و لا تفريعات في بيانه الفقهي أو العقيدي، خلا من الإسرائيليات، و في غرضه من جانب أداء المعني في الآية القرآنية، و اعترف بفضل العلماء السابقين علي اللاحقين. لم يذكر الآراء المتعددة إلا قليلا و لكن عند ذكرها يترفع عن القدح و النيل من الآراء الأخري التي خالفت رأي المفسّر. شرح مفردات الآيات شرحا مفهوما بسيطا، مما يسهم في زيادة المخزون اللغوي القرآني لدي القارئ و الباحث ... و الحمد للّه رب العالمين.
***
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 205

ثانيا: التفسير الوسيط للدكتور وهبة الزحيلي‌

التفسير الوسيط لوهبة الزحيلي:

وهبة الزحيلي واحد من العلماء و المفكرين الذين عرفوا بغزارة إنتاجهم العلمي، ذلك الإنتاج الذي غطي قطاعات واسعة من قطاعات الثقافة الإسلامية في الفقه و علوم التفسير و أصول الفقه و العقيدة.
و المؤلف المولود في دير عطية قرب دمشق شغل مراكز علمية في جامعة دمشق كما أنه مارس التدريس في كليتي الشريعة و الحقوق ... و درّس في جامعات عربية أخري.

مؤلفاته:

عمله الموسوعي: الفقه الإسلامي و أدلته.
- التفسير المنير.- التفسير الوسيط.- التفسير الوجيز.
- أصول الفقه ... و له كتب أخري كثيرة، و له عدد غير قليل من الرسائل و المحاضرات.
و الكتاب الذي محل البحث و الدرس هو: «التفسير الوسيط» للمؤلف يقع التفسير الوسيط في ثلاثة مجلدات، صدر عن دار الفكر بدمشق في 1421 ه.
علي الرغم أن المؤلف لم يكن يخطر بباله أن يفسّر القرآن الكريم كما قال في مقدمة التفسير الوسيط. «الآن لا يمكن لأي عالم مهما أوتي من العلم أن يجزم بما هو المراد من
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 206
كلام اللّه، لأن مراد اللّه تعالي لا يحصره بيان» «1». و يكشف المؤلف عن طبيعة عمله بقوله:
«و لكنها المحاولة في التبيان و التبسيط و التيسير و تقريب البعيد، و جمع المفيد، و تحقيق الملابسات، و ربط التالي لكتاب اللّه تعالي بما هو المطلوب منه، و المفروض شرعا عليه، من العمل بما أنزل اللّه حكما عربيا، و صلة باللّه تعالي، و حفاظا علي أمة القرآن إلي يوم الدين» «2».
و قد أعدّ المؤلف التفسير الوسيط لمتوسطي الثقافة «3».

ميزات التفسير الوسيط:

1- فيه زيادة تفسير لبعض الآيات عمّا هو مذكور في التفسير المنير [للمؤلف نفسه .
2- فيه إيضاح لمعاني الكلمات الغامضة.
3- فيه ذكر لأسباب النزول مع كل آية [ذكر لها أسباب نزول إذ لا يشترط لكل آية في القرآن أسباب نزول.
4- قد يذكر فيه وجه إعرابي [نحوي إذا دعت الضرورة إلي ذلك.
5- فيه البساطة و العمق في آن معا.
6- احتوي علي مقدمة لكل مجموعة آيات تؤلف مع بعضها موضوعا واحدا.
7- يؤكد المؤلف أن عمله في مؤلفاته علي نحو عام إنما القصد منها «تيسير العلم بأسلوب واضح متزن، و بعبارات لا إشكال فيها ...» «4».

مثال:

قلنا إن المفسر قصد تبسيط التفسير أكثر مما قصد أن يأتي بجديد. لذلك عمد إلي التقديم لمجموعة آيات شكلت موضوعا واحدا بمقدمة تجعل القارئ يتفهم الموضوع العام للآيات الكريمة قبل أن يقرأها علي نحو مباشر ... و ظني أنه أسلوب جيد، فما يكاد المرء ينهي قراءة التوطئة حتي يصبح هاضما للمعاني العامة للآيات التاليات، فما إن يقرأها حتي يجد القارئ نفسه مستوعبا للأفكار التي هدت إليها الآيات الكريمة. و لنر هذا المثال: (1) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (1/ 5)، ط (1)، دار الفكر، دمشق، المقدمة.
(2) المصدر نفسه، (1/ 5).
(3) انظر المقدمة، ص (6).
(4) انظر المقدمة، ص (8).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 207

- محارم النساء:

«راعي الإسلام ما تستوجبه رابطة الدم من حرمة و تعظيم فحرّم الزواج علي الرجال ببعض الأقارب القريبين جدا، و في ذلك رفع للحرج و جعل العيش في بيئة الأسرة الواحدة أمرا ميسورا لا حرج فيه، علما بأن بعض قبائل العرب قد اعتادوا أن يخلف الرجل علي امرأة أبيه، فإذا توفي الرجل عن امرأته كان ابنه أحقّ بها، يتزوجها إن شاء إن لم تكن أمّه، أو يزوجها من شاء، و وجدت أمثلة فعلية لبعض الرجال الذين تزوجوا من زوجات الآباء، لا داعي لذكر أسمائهم هنا و كان في العرب من تزوّج ابنته، و هو حاجب بن زرارة تمجّس «1» و فعل هذه الفعلة، فنهي اللّه المؤمنين عمّا كان عليه آباؤهم من هذه السير و المثالب المستنكرة.
قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلّا امرأة الأب و الجمع بين الأختين، فنزلت هاتان الآيتان:
وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) «2».
هذه الآيات الكريمة السالفة قدّم لها المؤلف بمقدمة مناسبة لموضوعها مما جعلنا متفهمين لمضمون الآيات قبل تلاوتها و في هذا ما لا يخفي من التسهيل علي الفهم.

اللغة في التفسير الوسيط:

الحق أن اللغة كانت سلسة سهلة، معظم الناس قادرون علي فهمها، و إدراك المراد منها، و لنأخذ هذا المثال الذي يتحدث عن «أهمية اللباس». و المؤلف كعادته يقدم للآيات ذات الصلة بمقدمة مناسبة:
اللباس للإنسان مظهر تحضر و تمدن، و عنوان احترام للآخرين، أما العرّي و إظهار الأعضاء فهو مظهر من مظاهر البدائية و التخلف يتفق مع حالة الإنسان البدائي و طريقة عيشه (1) تمجّس: جعل نفسه مجوسيا.
(2) سورة النساء، الآيتان: (22، 23). و انظر التفسير الوسيط، (2/ 301، 302).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 208
في الصحاري و الوديان، لذا امتن اللّه تعالي بإنعامه علي البشرية إذ أوجد لهم أنواع الألبسة لستر العورات و العيوب ...» «1». قال تعالي: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا «2» عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي «3» سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً «4» وَ لِباسُ التَّقْوي ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ «5» الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما «6» لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ «7» مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ «8».

التفسير الوسيط و التوسّل:

كان موقف صاحب التفسير الوسيط متسما بالاعتدال و الأناة ... فهو لم ينكر التوسل بكل أنواعه، و لم يجزه بكل أنواعه، ... و الحق أن المسلمين كلّهم علي ذلك غير أنهم يختلفون بالتفصيل.
منهم من أجاز التوسل بالصالحين و الأولياء مطلقا ...
و منهم من أنكر التوسل بالرسول و بالصالحين ... و لم يجزه إلا باللّه أو بإحدي صفاته و أسمائه، و أجاز هؤلاء التوسل بصالح أعمال المؤمنين ...
أما الزحيلي في الوسيط فقد فصّل تفصيلا ليس واسعا، عند ما فسّر قوله تعالي من سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) «9».
شرح صاحب التفسير الوسيط الآية شرحا مستوفيا للمعاني العامة ثم قال: «...
نعود إلي قوله تعالي: وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ... لنحقق معني التوسل فقد استدل بعض الناس بهذه الآية علي مشروعية الاستغاثة و التوسل بالصالحين، و جعلهم وسطاء و وسائل بينهم و بين اللّه تعالي. و لكن اللّه لا يحتاج إلي هذه الوسائل و الوسائط لقوله سبحانه: (1) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (1/ 645).
(2) أعطيناكم.
(3) يستر عوراتكم.
(4) الريش: كل ما ستر من اللباس أو المعيشة.
(5) لا يخدعنّكم. و الفتنة: الابتلاء و الاختبار.
(6) يزيل لباسهما [و ثيابهما].
(7) جماعته و جنوده.
(8) سورة الأعراف، الآيتان: (26، 27).
(9) سورة المائدة، الآية: (35).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 209
وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1». و قوله عزّ و جلّ: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) «2» ... و قوله تعالي: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) «3».
و تحقيق القول في التوسل ما ذكره الألوسي في تفسيره حيث قال: جاء لفظ التوسل بثلاثة معان:
أولا: التوسل بمعني التقرّب إلي اللّه بطاعته و فعل ما يرضيه و هو المراد بالآية وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. و قد توسل أهل الصخرة إلي اللّه عزّ و جلّ بصالح الأعمال، أي طلبوا الفرج بصالح أعمالهم، لا بالولي الفلاني أو الشيخ الفلاني.
ثانيا: التوسل بالمخلوق و الاستغاثة بمعني طلب الدعاء منه، لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا، كالتوسل بالنبي صلي اللّه عليه و سلّم حال حياته، أو بعمّه العباس في صلاة الاستسقاء، أما إذا كان المطلوب منه الدعاء ميتا فغير جائز.
ثالثا: القسم علي اللّه تعالي بأحد من خلقه، مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك، أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي. أجازه العز بن عبد السلام في النبي صلي اللّه عليه و سلّم لأنه سيد ولد آدم دون غيره من الأنبياء و الملائكة و الأولياء، و منع أبو حنيفة و أبو يوسف و ابن تيمية التوسل بالذات و القسم علي اللّه تعالي بأحد من خلقه» «4».

التفسير الوسيط و الحديث الشريف:

لقد أجمع المسلمون أنه لا يمكن فهم القرآن فهما سديدا بمعزل عن السنة النبوية الشريفة ... لذا فإن التفاسير القرآنية قديمها و حديثها اهتمت بالحديث لتوجيه الفهم البشري للقرآن ... و هذا دأبها ... إلّا ما ندر من الدارسين التائهين الذين بعدوا عن هدي الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و لم يعتبروا السنة الشريفة بشي‌ء- فقادهم ضياعهم إلي مهامه التيه و الخسران ... و الزحيلي من الذين اهتموا بسنّة رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم اهتماما بيّنا إن في الإتيان علي أسباب النزول، أو بذكر الأحاديث الشريفة ذات الصلة ... و تجلّي ذلك واضحا في كل «الوسيط». غير أن دراستنا المختصرة لا تساعدنا علي تقصي ذلك في كل صفحات الكتاب الواقعة في مجلدات ثلاث ... إنما حسبنا ذكر الأمثلة في مثل هذه الدراسة العاجلة نوعا ما. (1) سورة غافر، الآية: (60).
(2) سورة البقرة، الآية: (186).
(3) سورة ق، الآية: (16).
(4) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (1/ 457).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 210
تحت عنوان: السؤال فيما لم ينزل به وحي. قال الزحيلي في تفسير قوله تعالي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) «1».
«تعددت أسباب نزول هذه الآية حول المنع من الأسئلة منها سؤال اختبار و تعجيز أو تعنّت و استهزاء، و منها سؤال استفهام و استرشاد عن أحوال الفرائض، فمن أمثلة النوع الأول و هو سؤال الاختبار: سؤال بعض الناس رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم عن اسم أبيه، أو عن مكان ناقته الضالة أي الضائعة، و عن مصيره في الآخرة، فتنزل الآية بالنهي عن تلك الأسئلة السخيفة.
و من أمثلة النوع الثاني، و هو سؤال الاسترشاد: ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: خطبنا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فقال: «يا أيها الناس، قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا» فقال رجل: أ كل عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتي قالها ثلاثا، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «لو قلت: نعم لوجبت و لو وجبت لما استطعتم، فأنزل اللّه هذه الآية» «2»: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) «3».
و واضح أن الآية الكريمة تندد بالأسئلة الغبية التي لا نفع فيها، أو فيها تفصيلات في الدين دقيقة في التضييق و فيها العنت و المشقة المادية و النفسية. لو كان فيها خير لشرّعها اللّه تعالي و لكن «إن تسألوا عن جنس تلك الأشياء المسكوت عنها أو المعقدة ... حين ينزل القرآن يظهرها لكم علي لسان رسوله ...» «4». و يوضح هذا المعني ما رواه مسلم عن عامر ابن سعد عن أبيه أن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم قال: «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شي‌ء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته» «5».
أما السؤال إذا كان لحاجة كتوجيه الفهم، أو الاستزادة من العلم فلا بأس به، بل قد يكون مطلوبا. و أما السؤال الناجم عن تكلّف، أو جلب المشقة فهو المحرّم. من هذا يظهر حرص صاحب الوسيط علي الاستعانة بالسنة النبوية الشريفة في توجيه الفهم و الاستعانة بأسباب النزول لفهم المناخ الذي تنزّل عليه النّص. (1) سورة المائدة، الآيتان: (101، 102).
(2) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (1/ 505، 506).
(3) سورة المائدة، الآية: (101).
(4) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (2/ 506).
(5) أخرجه مسلم في (الحديث: 6069).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 211

من مسائل العقيدة في تفسير الوسيط:

«حق التشريع للّه لا النّاس»:
«ليس لأحد من البشر في شريعة القرآن حق في التحليل و التحريم أو الإباحة أو المنع، و إنما الحق التشريعي في ذلك للّه سبحانه منزل الشرائع، و مبين الحلال و الحرام و الأنظمة و الأحكام لأن التشريع الإلهي القرآني دائم خالد، لا يتأثر بمصالح شخصية أو زمنية أو مكانية، و إنما هو دستور الحياة الدائمة، و المنهج الأمثل ..» «1».
لذا أنكر القرآن علي عرب الجاهلية إقدامهم علي سنّ الشرائع و تقرير عبادة الأصنام و تحليل أو تحريم بعض الأنعام (المواشي) فقال سبحانه:
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ «2» وَ لا سائِبَةٍ «3» وَ لا وَصِيلَةٍ «4» وَ لا حامٍ «5» وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَي اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلي ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَي الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا «6» ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ «7».
في هذه الآيات الكريمة تبيان لسؤال قوم «عن أحكام الجاهلية أ هي باقية، و هل تلحق بحكم اللّه في تعظيم الكعبة و الحرم؟ فأخبر اللّه تعالي في هذه الآية أنه لم يجعل شيئا منها و لا سنة أو شرعة لعباده. و لكن الكفّار فعلوا ذلك إذ أكابرهم و رؤساؤهم كعمرو بن لحيّ و غيره يفترون علي اللّه الكذب فيشرعون للناس عبادة الأصنام و يحرمون بعض المواشي و يقولون: هذه قربة إلي اللّه، و أمر يرضيه و أكثر الأتباع لا يعقلون شيئا بل يتبعون هذه الأمور تقليدا و ضلالا بغير حجة ..» «8».

معجزة القرآن الكريم كما في الوسيط:

الإيمان بالإعجاز القرآني مسألة من المسائل الأساسية التي يرتكز عليها الإيمان بالإسلام و نبي الإسلام صلي اللّه عليه و سلّم ... (1) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (1/ 507، 508).
(2) الناقة تشق أذنها إذا ولدت خمسة أبطن آخرها أنثي، و تخلي للأصنام.
(3) الناقة تترك للأصنام لنحو برء من مرض أو نجاة من جرب.
(4) الناقة التي بكّرت بأنثي ثم ثنت بأنثي.
(5) الفحل إذا لقح ولد ولده فلا يركب، و لا يحمّل.
(6) كافينا.
(7) سورة المائدة، الآية: (103، 104).
(8) وهبة الزحيلي، تفسير الوسيط، (1/ 508).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 212
صحيح أن مسألة الإعجاز في القرآن مبحث لغوي بلاغي، صرفي نحوي علمي ...
الخ.
و لكن بحوث الإعجاز كان الغاية منها الإثبات أن القرآن كتاب اللّه الخاتم الذي أنزل علي محمد رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم خاتم النبيين، و كانت اللغة بعلومها وسيلة لإثبات صحة هذه المعجزة.
«ما من نبي و لا رسول إلا و هو بحاجة لإثبات صدق نبوته، و طريق التصديق إظهار المعجزة (و هي الأمر الخارق للعادة) علي يده لأن الإنسان العادي لا يستطيع الإتيان بالمعجزات، فتكون المعجزة طريقا للتحقق من صدق النبي صلي اللّه عليه و سلّم أو الرسول صلي اللّه عليه و سلّم ...
و معجزات الأنبياء كثيرة متنوعة بحسب كل زمان مثل العصا التي تنقلب حية و اليد البيضاء لموسي عليه السّلام في وقت ساد فيه السحر و إحياء الموتي، و إبراء الأكمه (المولود الأعمي) و الأبرص بإذن اللّه لعيسي عليه السّلام، في وقت تقدم فيه الطب، و معجزة النبي صلي اللّه عليه و سلّم الخالدة هي القرآن الكريم أفصح الكلام و أبلغ البيان، و أروع الأساليب، في وقت كان فيه العرب يتفاخرون بالبلاغة و الفصاحة و روعة الأساليب و هذه المعجزة تحدثت عنها الآيات التالية «1»:
وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلي أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبي أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89) «2».
«و العجز عن معارضة القرآن: إنما وقع في النظم و رصف المعاني، و علة ذلك:
الإحاطة التي لا يتصف بها إلّا اللّه تعالي، و البشر عاجزون بسبب الجهل و النسيان، و الغفلة و أنواع النّقص» «3».
و تحدي القرآن العرب علي أن يأتوا بمثله فعجزوا ... ثم نزل بهم إلي عشر سور من مثله ثم تحداهم بالسورة الواحدة.
مع كل ذلك استمرت المكابرات، و المعاندات فطلب المشركون طلبات تعجيزية. (1) وهبة الزحيلي، تفسير الوسيط، (2/ 1382).
(2) سورة الإسراء، الآية: (86، 89).
(3) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (2/ 1383، 1384).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 213

طلب المشركين آيات تعجيزية:

ما من طلب يعجز اللّه عن إتيانه، حاشاه و هو علي كل شي‌ء قدير. و إذا أراد شيئا «قال له كن فيكون» ... و هذه الطلبات التعجيزية الخارقة تكشف عن طبيعة العقلية الشركية المكابرة غير الخاضعة للمعجزة العقلية القرآنية، تلك المعجزة التي يمتلكون أدواتها المتجسدة في اللغة ... فلجئوا إلي مطالبة الرسول صلي اللّه عليه و سلّم بست آيات تعجيزية «كلها غير مقدورة للبشر، حدث هذا في مكة حينما اجتمع عتبة و شيبة ابنا ربيعة و عبد اللّه بن أمية و النضر بن الحارث و غيرهم من مشيخة قريش و ساداتها، و عرضوا علي النبي صلي اللّه عليه و سلّم أن يملكوه إن أراد الملك و يجمعوا له الكثير من المال إن أراد الغني أو يطببوه إن كان به داء» «1».
عندئذ دعاهم الرسول صلي اللّه عليه و سلّم بدعوة الإصلاح، و قال: «إنما جئتكم من عند اللّه بأمر فيه صلاح دينكم و دنياكم، فإن سمعتم و أطعتم فحسن، و إلّا صبرت لأمر اللّه، حتي يحكم اللّه بيني و بينكم بما شاء» فقالوا له حينئذ: فإن كان ما تزعمه حقا، ففجّر ينبوعا و نؤمن لك و لتكن لك جنة (بستان) ... إلي غير ذلك مما كلفوه، فقال لهم رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: هذا كلّه إلي اللّه، و لا يلزمني اقتراح هذا و لا غيره، و إنما أنا مستسلم لأمر اللّه تعالي. هذا هو معني الحديث في سبب نزول الآيات «2»:
وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّي تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «3» (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «4» أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «5» (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ «6» أَوْ تَرْقي فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّي تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «7».
هذه الآيات تكشف عن عدم اكتفاء المشركين بالمعجزة العقلية القرآنية إنما راحوا يتطلبون خوارق أخري بعد أن أفحمتهم الأدلة القرآنية علي صدق دعوة محمد بالنبوة و الرسالة ... فقال أساطينهم عتبة و شيبة ابنا ربيعة و أبو جهل و أبو سفيان و الوليد بن المغيرة، و النضر بن الحارث و أمية بن خلف و أبي البختري: لن نصدق برسالتك حتي تفجر (1) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (2/ 1384، 1385).
(2) المصدر نفسه، (2/ 1385).
(3) عين ماء.
(4) قطعا.
(5) مقابلة و عيانا.
(6) ذهب.
(7) سورة الإسراء، الآيات: (90- 93).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 214
لنا من الأرض ينبوعا من الماء يتدفق، و هو العين الجارية، فإنا في صحراء.
أو تكون لك جنة (أي بستان) من النخيل و الأعناب و بقية الثمار تتدفق فيها الأنهار و تسقي بها الزروع و الأشجار.
أو تسقط السماء علينا كسفا أي قطعا قطعا كما زعمت أن ربك يفعل ذلك إن شاء.
أو تأتي باللّه و الملائكة معاينة و مواجهة، فيحدثونا بأنك رسول اللّه من عند اللّه و معني قوله تعالي: «و الملائكة قبيلا» أي مقابلة و عيانا أو ضامنا و زعيما بتصديقك.
أو يكون لك بيت من زخرف (أي من ذهب) فإنك يتيم فقير، و الزخرف هو ما يتزين به من ذهب أو غيره، و المراد به هنا الذهب.
أو ترقي (أي تصعد) في السماء علي سلّم تضعها ثم ترقي عليها، و نحن ننظر، و لن نصدق لارتقائك حتي تأتي لنا بكتاب نقرؤه فيه تصديقك أنك رسول من عند اللّه.
و قائل هذه المقالة هو عبد اللّه بن أمية، فإنه قال لرسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: إنا لا نؤمن لك حتي تأتينا بكتاب، أي كتاب له، فيه من اللّه عزّ و جلّ إلي عبد اللّه بن أمية، و طلبت جماعتهم مثل هذا الطلب «1».
فجاء الأمر الإلهي لرسوله أن قل: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي:
«تنزيها للّه من الإتيان إليكم من الملائكة قبيلا، و من أن يخاطبكم بكتاب كما أردتم و من أن أقترح علي اللّه هذه الأشياء، و هل أنا إلّا بشر منكم أرسلت إليكم بالشريعة فإنما عليّ التبليغ فقط» «2».
و هذا ينبئ عن بشرية الرسل عليهم السّلام، و أن ما أتوا به من خوارق جار وفق الحكمة الإلهية لا وفق إمكانات الرسل الذاتية، و لا يجري وفق أهواء البشر الآخرين و مطاليبهم النابعة من كبرهم و عنادهم و هو جليّ واضح في قوله تعالي: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا.

تفسير الوسيط و آيات الصفات:

كما درسنا التفاسير السابقة من جهة موقفها من آيات الصفات، فكذا الوسيط كان يقف موقف السلف من هذه الآيات ... قال تعالي: الرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوي (5) «3». (1) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (2/ 1385، 1386).
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة طه، الآية: (5).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 215
قال صاحب التفسير الوسيط: «و هو الذي استوي علي العرش، و هو استواء نؤمن به من غير تشبيه و لا تمثيل و لا تعطيل، و لا تحريف و لا تأويل، و بلا كيف، و لا انحصار» «1».

تفسير الوسيط و الموقف من صفة الكلام:

علمنا فيمن سبق البحوث الكلامية المتعلقة بكلام اللّه هل هو مخلوق أو لا ... و قد امتلأت التفاسير القديمة بسجالات حول الصفات ... غير أن صاحب الوسيط نهج السلف في هذا الموضوع فقد رأينا قبل قليل موقف المؤلف المفسّر من آية الاستواء ... و كذا موقفه من قوله تعالي: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسي تَكْلِيماً «2».
«و من هؤلاء الرسل المكرمين عند اللّه تعالي موسي الذي خصّه بتكليمه و شرّفه بكلامه مباشرة من غير واسطة، و ذلك بكيفية و خواص اللّه أعلم بها فهو كلام دون تكييف و لا تحديد، و لا تجويز حدوث و لا حروف و لا أصوات و كلام اللّه هو المعني القائم بالنفس» و يخلق اللّه لموسي أو جبريل إدراكا من جهة السمع يتحصّل به الكلام و كما أن اللّه تعالي موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات فكذلك كلامه لا كالكلام المعهود المألوف بين البشر» «3».
ما أدري ما ذا أوّل المؤلف حديث البخاري عن أبي سعيد الخدري قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «يقول اللّه تعالي: يا آدم، فيقول: لبيك و سعديك، فينادي بصوت: إن اللّه يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلي النار» «4». و عندئذ يقال بموجب نهج المؤلف: و صوته لا كالأصوات.

التفسير الوسيط و المسألة الفقهية:

إن ميزة هامة امتاز بها الوسيط عن غيره من التفاسير: هو تقسيمه السور القرآنية إلي موضوعات بموجب الآيات مما يسهّل علي الباحث رصد الموضوعات المتنوعة بسهولة دون عناء و جهد.
و المسألة الفقهية نالت من العناية تبسيطا و تسهيلا فكانت الفائدة حاصلة علي نحو (1) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (2/ 1510).
(2) سورة النساء، الآية: (164).
(3) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (2/ 414).
(4) أخرجه البخاري في (الحديث: 6530) و أخرجه مسلم (الحديث: 528).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 216
ميسور ... و الموضوع الفقهي الذي أريد الحديث عنه مثالا علي الموضوعات الفقهية المطروحة في تفسير الوسيط هو:

واجب الشهود في شهاداتهم:

«لم نجد كالإسلام دينا يركز علي مبدأ الحق و العدل في كل شي‌ء، في المعاملة و التعاقد، و القضاء و الشهادة، و الحكم بين الناس؛ لأن قوام المجتمع لا يكون إلا بالعدل، و سعادة الأفراد و الجماعات لا تتوفر إلا بالعدل، و لن يحفظ النظام و تنضبط شئون الملك و الدنيا و أحوال أهلها إلا بالعدل، فالعدل أساس الملك الدائم، و قاعدة الاطمئنان و الاستقرار. و العدل في القرآن الكريم قائم علي قاعدة الإيمان باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر، إذ لا ثواب عند اللّه تعالي و لا احترام لمبدأ الحق و العدل إلّا إذا كان العمل كله مبنيا علي أصول الإيمان التي ذكرناها.
قال اللّه تعالي آمرا القضاة و الشهود بالعدل، و مذكرا بالإيمان و قواعده: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ «1» بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلي أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلي بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوي أَنْ تَعْدِلُوا «2» وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا «3» فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً «2».
قال السدي: لما نزلت آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ في النبي صلي اللّه عليه و سلّم اختصم إليه رجلان غني و فقير، و كان صلي اللّه عليه و سلّم مع الفقير، يري أن الفقير لا يظلم الغني، فأبي اللّه إلا أن يقوم بالقسط في الغني و الفقير» «5».
و يبرز الزحيلي في تفسيره الآيات ذات الصلة بالشهادة أهمية قول الحق و الشهادة الحق المسهمة في إقامة العدل، و هنا يبرز نداء الإسلام الداعي إلي إعلاء شأن العدل، و رفع صوت الحق و إحقاقه و لو كان الخصم الوالدين أو الأقربين.
و الشهادة بالحق علي النفس و الوالدين و الأقارب أمر واجب، و لو عاد ضررها علي هؤلاء لأن الإحسان إلي النّفس و القرابة و بر الوالدين، لا يكون بالظلم و الانحراف عن الحق بل الإحسان و الخير و البر وصلة القرابة في الحق و المعروف.
و ليس للشاهد أن يراعي غنيا لغناه أو يرحم فقيرا لفقره، بل يترك الأمر كلّه للّه، فاللّه (1) مبالغين في القيام بالشي‌ء علي أتم وجه.
(2) كراهة أن تعدلوا عن الحق.
(3) تتركوا إقامتها.
(5) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (1/ 393، 394)، و الآية من سورة النساء، الآية: (135).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 217
يتولّي أمر الغني و الفقير. و ليس للشهود اتّباع الهوي و المحابات، لئلا يعدلوا عن الحق إلي الباطل، إذ في الهوي و المحاباة الزّلل و الضرر، فلا يجوز أن تؤدي العصبية و هوي النّفس و بغض الناس إلي الظلم و ترك العدل في الأمور و الشئون كلّها، و إنما الواجب التزام العدل علي أي حال، كما قال تعالي مبيّنا وجوب العدل حتّي من الأعداء: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ «1» عَلي أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوي «2».
و إن تلووا ألسنتكم بالشهادة و تحرّفوها أو تعرضوا عن إقامة الشهادة و تكتموها فاعلموا أن اللّه خبير بأعمالكم و مجازيكم عليها» «3».

التفسير الوسيط و الإسرائيليات و الأحاديث الواهية:

يمكن القول إن تفسير الوسيط خلا إلي درجة كبيرة جدا من الأخبار الواهنة فيما نعلم و كان متحررا من الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب.
فعند ما تحدّث صاحب التفسير الوسيط عن محنة «أيوب» عليه الصلاة و السلام و ابتلائه و مرضه الشديد قال:
«و لم يكن ابتلاؤه بمرض معد أو منفّر طبعا خلافا لما زعم بعضهم، و إنما كان مرضه جلديا مضعفا غير منفر، و بعد أن طال صبره دعا ربه، فأوحي إليه بالاغتسال و الشرب من ماء نابع، حفره بقدمه، فشفي و عوفي، و ردّ اللّه عليه أهله و زاده مثلهم في الذرية، و افتدي اللّه يمينه بضرب زوجته بعود فيه مائة قضيب من الشجر الرطيب فيضرب به ضربة واحدة يبر بها يمينه» «4» ... قال اللّه تعالي: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادي رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ «5» وَ عَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ (42) وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْري لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً «6» فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ «7».
و لا أري بأسا من التنويه إلي مسألة فقهية مأخوذة من حادثة إغضاب زوج أيوب له عند ما عرضت عليه بعض الآراء المستوحاة من وساوس إبليس: «فحلف لئن برأ من (1) أي لا يحملنّكم كراهية قوم علي ترك العدل معهم.
(2) سورة المائدة، الآية: (8).
(3) وهبة الزحيلي، التفسير البسيط (1/ 395).
(4) المصدر نفسه، (1/ 2207).
(5) مشقة و تعب.
(6) حزمة صغيرة من حشيش أو شجر رطب.
(7) سورة ص، الآيات: (41- 44).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 218
مرضه ليضربنّها مائة سوط، فلما برأ أمره اللّه تعالي أن يأخذ بيده قبضة أو حزمة كبيرة من القضبان و نحوها من الشجر الرطب فيضربها به ضربة واحدة فتبر يمينه و هذا حكم ورد في شرعنا حيث أخرج أبو داود عن النبي صلي اللّه عليه و سلّم مثله في حد رجل زمن (مريض مرضا مزمنا) بالزني، فأمر رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم بعذق (عدد من النخيل) فيه مائة شمراخ أو نحوها فضرب بها ضربة» [رواه أبو داود].
و قال به بعض الفقهاء و هو الإمام الشافعي «1».
كما أن صاحب الوسيط أبعد الإسرائيليات المروية في قصة سليمان عليه السّلام في سورة (ص) تلك القصص التي ذكرت أن سليمان عليه السّلام قطع أرجل الخيل لأنها ألهته عن صلاة العصر حتي غربت الشمس فتلك روايات إسرائيلية باطلة أو ما هنا لك من هذه الروايات الواهية «2».
و المهم أن سليمان عليه السّلام: «كان نبيا و رسولا من الصالحين كأبيه لم يصدر عنه إلا كل ما هو خير متفق مع مقتضي الرسالة، و دعوة الناس إلي عبادة اللّه و شكره و ليس بدعائه بطلب ملك يتفرد به مرادا به: أنه لا يعطي اللّه تعالي نحو ذلك الملك لأحد، و إنما المبالغة في هبة الملك و طلبه» «3».

الخاتمة:

التفسير الوسيط، تفسير واضح سهل نقي من الإسرائيليات و الواهنات، و الاستفادة منه ميسّرة. مقدماته تساعد علي فهم السور و الآيات المقسّمة حسب الموضوعات ذات الصلة.
خلا إلي حد كبير جدا من النواحي الإعرابية و الصرفية و البلاغية ... إنما جعل اللغة طائعة سهلة عبّر بها عن مقاصده علي نحو حسن، في جميع مسائل القصص و العقيدة و الفقه و الوعظ ... و زاد وضوحا و بساطة شرح المؤلف للكلمات الصعبة في الحاشية التي التزمناها شارحين لبعض الكلمات مثبتين إياها في الحاشية علي ما وردت في التفسير الوسيط، و الحمد للّه رب العالمين. (1) وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، (3/ 2208، 2209).
(2) المصدر نفسه، (3/ 2206) بتصرف.
(3) المصدر نفسه، (3/ 2207).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 219

ثالثا: تفسير الشعراوي الشيخ محمد متولي الشعراوي‌

جهد الشعراوي في تفسيره:

استغرق تفسير الشعراوي جلّ عمر المؤلف رحمه اللّه و قد أعطي عمله من الوقت و الجهد الكثير، و حسب المؤلف أن الجهد و الوقت العظيمين لم يذهبا سدي، إنما بذلا في أكرم موضوع ألا و هو فهم الكتاب الكريم (القرآن):
«فهذا حصاد عمري العلمي و حصيلة جهادي الاجتهادي، شرفي فيه أني عشت كتاب اللّه، و تطامنت لاستقبال فيض اللّه» «1».
لقد سمي الكتاب من التجوّز «تفسير الشعراوي» غير أن الشعراوي نفسه يري أن مؤلّفه هذا لا يعد تفسيرا بالمعني الدقيق للكلمة إنما ما كتبه تجليات و خواطر «خواطري حول القرآن الكريم لا تعني تفسيرا للقرآن، و إنما هبات صفائية ... تخطر علي قلب مؤمن في آية أو بضع آيات» «2».

القرآن لا يمكن تفسيره:

و يري الشعراوي أن القرآن الكريم ليس للبشر أن يقدروا علي تفسيره و لا أن يحيطوا به علما، يقول: «و لو أن القرآن من الممكن أن يفسّر ... لكان رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم أولي الناس بتفسيره لأنه عليه نزل، و به انفعل» «3». (1) كلمة للشعراوي قبل مقدمة تفسيره بخط يده في ج (1)، ط (1991). ط دار أخبار اليوم/ القاهرة.
(2) الشعراوي، تفسير الشعراوي (1/ 9).
(3) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 220
و بالتأكيد فإن الشعراوي يفرّق بين التفسير و بين الأحكام التكليفية، إذ رأي الشعراوي أن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم اكتفي بتبليغ الأحكام التكليفية العبادية «علي قدر حاجتهم من العبادة التي يثاب عليها الإنسان إن فعلها و يعاقب إن تركها ... هذه هي أسس العبادة للّه سبحانه و تعالي ... التي أنزلها في القرآن الكريم منهجا لحياة البشرية علي الأرض» «1».
هنا لا بد من طرح السؤال التالي حول رأي الشعراوي أن القرآن لا يفسّر و لو كان القرآن قابلا للتفسير لفسّره الرسول صلي اللّه عليه و سلّم:
هل الرسول لم يفسر القرآن لأن القرآن لا يفسّر أم لأن الناس كان يفهمون مقاصد القرآن العامة، و قد تغيب دقائقه أو مفرداته، أو بعض مسائله ..
ظني أن كلام الشعراوي أن القرآن لا يفسّر كلمة غير صحيحة تماما ... لكن بالإمكان القول: إن تفسير القرآن في عهد النبي صلي اللّه عليه و سلّم لا يعني خاتمة التفاسير إنما علّمه ربه تفسير الكتاب تعليما شاملا، إنما الذي أمر الرسول بتبليغه هو ما يناسب العقل في تلك الفترة من الزمن. و هذا ما أشار إليه الشعراوي بقوله: «أما الأسرار المكتنزة في القرآن حول الوجود، فقد اكتفي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم بما علم منها لأن بمقياس العقل في هذا الوقت لم تكن العقول تستطيع أن تتقبلها، و كان طرح هذه الموضوعات سيثير جدلا يفسد قضية الدين، و يجعل الناس ينصرفون عن فهم منهج اللّه في العبادة إلي جدل حول قضايا لن يصلوا فيها إلي شي‌ء» «2» ... و لعل تعليل الشعراوي يستند إلي عدم توفر المعطيات العلمية لدي العقل البشري في تلك الفترة السابقة من الزمن.
أما و قد تغيّر الزمن، و تزود العقل البشري من العلوم المادية و الكونية الكثير، فقد أصبحت العقول جاهزة للخوض في نقاش عميق حول إعجاز القرآن العلمي، يقول الشعراوي عن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم: «و هو الذي عليه القرآن نزل- فسر و بيّن كل ما يتعلق بالتكليف الإيماني، و ترك ما يتعلق بالتكليف للأجيال القادمة، و يمر الزمن و يتيح اللّه لعباده من أسرار آياته في الأرض ما يشاء، فيكون عطاء القرآن متساويا مع قدرة العقول ... لما ذا؟ لأن الرسالات التي سبقت الإسلام كانت محدودة بالزمان و المكان، أما القرآن الكريم فزمنه حتي يوم القيامة ... و لذلك فلا بد أن يقدم إعجازا لكل جيل ليظل القرآن معجزة في كل عصر» «3». (1) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 9).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه. (1/ 12).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 221
و يري الشعراوي أن القرآن نزل متحديا العرب في إعجازه البلاغي لأن العرب كانوا يملكون ناصية البيان و يبزّون الأقوام الأخري في الفصاحة و فنّ القول، غير أن الشعراوي يؤكد أن القرآن تحدّي غير العرب فيما يملكون لأن الإسلام دين الناس جميعا، «و القرآن نزل يتحدي العرب في اللغة و البلاغة ... و لكن لأنه دين للناس جميعا ... فلا بد أن يتحدي غير العرب فيما نبغوا فيه ... و لذلك نزل متحديا لغير العرب وقت نزوله ... فقد حدثت حرب بين الروم و الفرس وقت نزول القرآن، و كانت الروم و الفرس- تمثلان في عصره الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفييتي- «1». أعظم دولتين في ذلك العصر، و حدثت الحرب بينهما و انهزم الروم» «2» و إذ بالقرآن ينزل.
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَي الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) «3».
ثم يشير الشعراوي إلي مسألة هامة مؤكدة للباحث المنصف صدق دعوي محمد بنبوته و اتصاله بالوحي و الإله الواحد: «لو أن هذا القرآن من عند رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فما الذي يجعله يدخل في قضية كهذه؟ ... و كيف يغامر الرسول صلي اللّه عليه و سلّم في كلام متعبد بتلاوته إلي يوم القيامة لا يتغير و لا يتبدّل بإعلان نتيجة معركة ستحدث بعد سنين!» «4».
ثم يجزم الشعراوي أن القرآن كتاب اللّه تعالي، و لا يمكن أن يكون من نتاجات محمد صلي اللّه عليه و سلّم كما ادّعي بعضهم، لأن محمدا بلّغ النص القرآني الموحي إليه بلفظه و معناه (القرآن)، و بلّغ الحديث النبوي، و بلّغ الحديث القدسي، و النصوص الثلاثة مختلفة أسلوبا، و لا يعقل أن يكون للمرء ثلاثة أساليب في آن معا: «رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم لم يقرأ و لم يكتب ...
هل يمكن أن تكون له ثلاثة أساليب متميزة تختلف بعضها عن بعض تماما ... و هي أسلوب القرآن الكريم، و أسلوب الأحاديث القدسية، و أسلوب الأحاديث النبوية، لا توجد عبقرية في الدنيا من يوم أن خلقت إلي يومنا هذا لها ثلاثة أساليب لكل منها طابع مميز لا يتشابه مع الآخر ... كيف يمكن أن يفرق رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم و هو يتكلم بين القرآن و الحديث القدسي و الحديث النبوي بحيث يعطي كلا منها طابعا و أسلوبا مختلفا عن الآخر ...» «5». (1) كان هذا قبل سقوطه.
(2) الشعراوي، تفسير الشعراوي (1/ 12).
(3) سورة الروم، الآيات: (1- 4).
(4) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 13).
(5) المصدر نفسه، (1/ 22).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 222

منطقية الرسول صلي اللّه عليه و سلّم مع قدراته:

لما ذا قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم لجبريل عند ما طلب منه أن يقرأ: ما أنا بقارئ؟ الجواب:
«لأن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم منطقي مع قدراته، و تردد القول ثلاث مرات ... جبريل عليه السّلام بوحي من اللّه سبحانه و تعالي يقول للرسول: «اقرأ». و رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم يقول: ما أنا بقارئ. و لقد أخذ خصوم الإسلام هذه النقطة ... و قالوا: كيف يقول اللّه لرسوله اقرأ و يرد الرسول: ما أنا بقارئ «1».
نقول: إن اللّه تبارك و تعالي كان يتحدث بقدراته التي تقول للشي‌ء كن فيكون، بينما رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم كان يتحدث ببشريته التي تقول إنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة، و لكن قدرة اللّه هي التي ستأخذ هذا النبي الذي لا يقرأ و لا يكتب لتجعله معلّما للبشرية كلها إلي يوم القيامة. لأن كل البشر يعلمهم بشر، و لكن محمدا صلي اللّه عليه و سلّم سيعلمه اللّه سبحانه و تعالي. ليكون معلما لأكبر علماء البشر. يأخذون عنه العلم و المعرفة. لذلك جاء الجواب من اللّه سبحانه و تعالي:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) «2».

القرآن معجزة مستمرة لكل الأجيال في كل العصور:

محمد صلي اللّه عليه و سلّم أميّ، لا يقرأ و لا يكتب «لكن اللّه تعالي سيجعلك تقرأ علي الناس ما يعجز علماء الدنيا و حضارات الدنيا علي أن يأتوا بمثله. و سيكون ما تقرؤه و أنت النبي الأمي إعجازا، ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك فقط لحظة نزوله، و لكن للدنيا كلها، و ليس في الوقت الذي ينزل فيه فقط، و لكن حتي قيام الساعة، و لذلك قال جلّ جلاله «3»:
اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) «4».
يقول الشعراوي في خواطره علي هذه الآية «أي أن الذي ستقرؤه يا محمد ... سيظل معلما للإنسانية كلّها إلي نهاية الدنيا علي الأرض، و لأن المعلم هو اللّه سبحانه و تعالي، قال: اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ مستخدما صيغة المبالغة، فهناك كريم و أكرم، فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل علي كرم اللّه جلّ جلاله، لأنه يسّر لك العلم علي يد بشر مثلك، أمّا إذا كان اللّه هو الذي سيعلمك ... يكون أكرم ... لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك سبحانه و تعالي» «5». (1) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 41، 42).
(2) سورة العلق، الآيتان: (1، 2).
(3) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 42).
(4) سورة العلق، الآيتان: (3، 4).
(5) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 42).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 223

الجانب البلاغي في تفسير الشعراوي:

قال تعالي: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ «1».
يقول الشعراوي: «يقول الحق سبحانه و تعالي: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً «2» ... و ما دام اللّه قد جعله آمنا فما جدوي دعوة إبراهيم أن تكون مكة بلدا آمنا» «3» هنا يلفت الشعراوي إلي مسألة بلاغية هامة علي صعيد القصد و الدلالة مفادها: إذا كان شي‌ء موجودا، ثم يأتي كائن ليطلبه فهذا يعني أن الطالب يدعو بدوامه و استمراره لذا كانت جدوي دعوة إبراهيم «إذا رأيت طلبا لموجودنا علم أن القصد هو دوام بقاء ذلك الموجود، فكان إبراهيم عليه السّلام يطلب من اللّه سبحانه و تعالي أن يديم نعمة الأمن في البيت ذلك لأنك عند ما تقرأ قوله تبارك و تعالي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلي رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (136) «4».
«هو خاطبهم بلفظ الإيمان ثم طلب منهم أن يؤمنوا ... كيف؟ نقول: إن اللّه سبحانه يأمرهم أن يستمروا و يداوموا علي الإيمان ... و لذلك فإن كل مطلوب لموجود هو طلب لاستمرار هذا الموجود «5». و قول إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً أي يا رب إذا كنت قد جعلت هذا البيت آمنا من قبل فأمنه حتي قيام الساعة ... ليكون من يدخله إليه آمنا لأنه موجود في واد غير ذي زرع ...» «6».

دلالة النكرة و المعرفة في سياق الآية:

«اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً».
لقد تكررت في آية أخري تقول: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «7» فمرة جاء بها نكرة، و مرة جاء بها معرفة. (1) سورة البقرة، الآية: (126).
(2) سورة البقرة، الآية: (125).
(3) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 581).
(4) سورة النساء، الآية: (136).
(5) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 581).
(6) المصدر نفسه، (1/ 581، 582).
(7) سورة إبراهيم، الآية: (35).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 224
يوضح الشعراوي ذلك معللا: «إن إبراهيم حين قال: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً طلب من اللّه شيئين: أن يجعل هذا المكان بلدا، و أن يجعله آمنا» «1».
ثم يتساءل الشعراوي: «ما معني أن يجعله بلدا؟ هناك أسماء تؤخذ من المحسات فكلمة غصب تعني سلخ الجلد عن الشاة، و كأن من يأخذ شيئا من إنسان غصبا كأنه يسلخه منه بينما هو متمسك به. كلمة بلد حين تسمعها تنصرف إلي المدينة .. و البلد هو البقعة تنشأ في الجلد فتميزه عن باقي الجلد كأن تكون هناك بقعة بيضاء في الوجه أو الذراعين فتكون البقعة التي ظهرت مميّزة ببياض اللون و المكان إذا لم يكن فيه مباني جعلت فيه علامة تميزه عن باقي الأرض المحيطة به» «2».

دلالة مفهوم الأمة في القرآن وفق فهم الشعراوي:

قال تعالي: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) «3» «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ» أي انفردت، و خلا فلان بفلان أي انفرد به ... و خلا المكان من نزيله أي أصبح المكان منفردا .. و المقصود بقوله تعالي: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ» أي: انتهي زمانها ... و تلك اسم إشارة لمؤنث مخاطب و أمة هي المشار إليه، و الخطاب للنبي صلي اللّه عليه و سلّم و لعامة المسلمين، و اللّه سبحانه و تعالي حين يقول: «تِلْكَ أُمَّةٌ» فكأنها مميزة بوحدة عقيدتها، و وحدة إيمانها حتي أصبحت شيئا واحدا و لذلك لا بدّ أن يخاطبها بالوحدة ... و اقرأ قوله تعالي: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) «4» و قوله تعالي: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً «5».
و إبراهيم فرد و ليس جماعة؟ تقول: إن إبراهيم فرد و لكن اجتمعت فيه من خصال الخير و مواهب الكمال ما لا يجتمع إلا في أمة» «6».

جمالية التشبيه و حسن الأداء في القرآن علي سبيل المثال لا الحصر:

قال تعالي: صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ «7». (1) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 582).
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة البقرة، الآية: (134).
(4) سورة الأنبياء، الآية: (92). و انظر تفسير الشعراوي (1/ 600).
(5) سورة النحل، الآية: (120).
(6) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 600، 601).
(7) سورة البقرة، الآية: (138).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 225
يطرح الشعراوي علي عادته المثيرة للقارئ أو للسامع فيقول:
«و ما الصبغة؟ الصبغة: هي إدخال لون علي شي‌ء بحيث يغيره بلون آخر.
تصبغ الشي‌ء أحمر، أزرق أو أي لون تختاره، و الصبغ ينفد في المصبوغ خاصة إذا كان المصبوغ له شعيرات مسام كالقطن أو الصوف، و لذلك فإن الألياف الصناعية لا يمكن أن تصبغ لما ذا؟ لأن شعرة القطن أو الصوف أشبه بالأنبوية في تركيبها» «1».
و يوضح الشعراوي مسألة الصبغة أكثر فيقول:
«و إذا جئنا بقنديل من الزيت و وضعنا فيه فتيلا من القطن بحيث يكون رأس الفتيل في الزيت ثم تشعله من أعلاه نجد أن الزيت يسري في الأنابيب و يشعل الفتيل فإذا جربنا هذه الألياف الصناعية فلا يمكن أن يسري فيه الزيت و إنما النار تأكل الألياف لأنه ليس فيها أنابيب شعرية كالقطن و الصوف، و لذلك تجد الألياف الصناعية سهلة في الغسيل لأن العرق لا يدخل في مسامّها بينما الملابس القطنية تحتاج لجهد كبير لأن مسامها مشبعة بالعرق و التراب. إذن الصبغة لا بد أن تتدخل مادتها في مسام القماش، أما الطلاء فهو مختلف إنه طبقة خارجية تستطيع أن تزيلها، و لذلك فإن الذين يفتون في طلاء الأظافر بالنسبة للسيدات و يقولون: إنه مثل الحناء نقول لهم لا ... الحناء صبغة تتخلل المادة الحية حتي يذهب الجلد بها أي لا تستطيع أن تزيلها عند ما تريد ... و لكن الطلاء يمكن أن تزيله في أي وقت و لو بعد إتمامه بلحظات، إذن فطلاء الأظافر ليس صبغة» «2».
و بعد هذا الإسهاب في توضيح الفرق بين الألياف الصناعية و الأنابيب الشعرية كالقطن و الصوف و الفرق بين الطلاء و الصبغة. يضع الشعراوي سامعه و قارئه أمام حالة أستطيع أن أسميها الاستعداد التام للتلقي، أو حالة حسن التلقي و الاستقبال فيقول عن معني قوله تعالي: «صِبْغَةَ اللَّهِ» «فكان الإيمان باللّه و ملة إبراهيم و ما أنزل اللّه علي رسله هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد البشري» و يظهر جمال التشبيه إذ يشبه الإيمان بالصبغة التي يصعب إزالتها من القلب و الجسد لأنها تخالط الخلايا جميعها، و يسلط الضوء علي استخدام النص الإلهي كلمة صبغة علي نحو أكثر فيقول: «و لما ذا كلمة صبغة؟ حتي نعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كلّه ... إنه ليس صبغة من خارج جسمك و لكنها صبغة جعلها اللّه في خلايا القلب موجودة فيه ساعة الخلق و لذلك فإن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم يقول:
«كل مولود يولد علي الفطرة حتي يعرب عن لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو (1) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 612).
(2) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 226
يمجسانه» «1» فكأن الإيمان صبغة موجودة بالفطرة ... إنها صبغة اللّه فإن كان أبواه مسلمين ظل علي الفطرة، فإن كان أبواه من اليهود و النصاري يهودانه أو ينصرانه أي يأخذانه و يضعانه في ماء و يقولون صبغناه بماء المعمودية ... هذا هو معني صبغة اللّه ...» «2».

خواطر الشعراوي حول «الصبغة» أو في ظلال الصبغة:

يحاول الشعراوي بأسلوبه السهل، و عبارته اللينة أن يستجلي دلالات «الصبغة الكونية» ليصل إلي أن الإسلام هو الصبغة الإلهية المكونة لتركيب الأجسام البشرية أصلا:
«و يريد الحق سبحانه أن يبين لنا ذلك بأن يجعل من آيات قدرة اللّه اختلاف ألواننا هذا الاختلاف في اللون من صبغة اللّه .. اختلاف ألوان البشر ليس طلاء و إنما هو في ذات التكوين، فيكون هذا أبيض، و هذا أسمر و هذا أصفر، و هذا أحمر، هذه هي صبغة اللّه، و ما يفعلونه من تعميد للطفل لا يعطي صبغة، لأن الإيمان و الدين لا يأتي من خارج الإنسان، و إنما يأتي من داخله، و لذلك فإن الإيمان يهزّ كل أعضاء الجسد البشري، و اقرأ قول الحق سبحانه و تعالي:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلي ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَي اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) «3».
هذا هو التأثير الذي يضعه اللّه في القلوب أمرا داخليا و ليس خارجيا ... أمّا إيمان غير المسلمين فهو طلاء خارجي و ليس صبغة لأنهم تركوا صبغة اللّه، و نقول لهم: لا. هذا الطلاء من عندكم أنتم، أما ديننا: فهو صبغة اللّه» «4».

الدقة البلاغية في القرآن:

قال تعالي:
وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «5».
يستثير الشعراوي قوة الانتباه لدي قارئه أو سامعه متسائلا: (1) أخرجه البخاري في (الحديث: 1359)، و الترمذي في (الحديث: 2138).
(2) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (612- 613).
(3) سورة الزمر، الآية: (23).
(4) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 613).
(5) سورة الإسراء، الآية: (45).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 227
«كيف يكون الحجاب مستورا؟ مع أن الحجاب هو الساتر الذي يستر شيئا عن شي‌ء .. و لكن الحق سبحانه يريدنا أن نفهم أنه برغم أن الحجاب يستر شيئا عن شي‌ء فإن الحجاب نفسه مستورا لا نراه، و بعض العلماء يقولون: إن مستورا اسم مفعول ... و هو في معني اسم الفاعل ساتر ... نقول لا. و اقرأ قوله تبارك و تعالي: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) «1».
(مأتيا): اسم مفعول و اسم الفاعل: آتي، و يقول البعض: اسم المفعول مكان اسم الفاعل ... نقول: إنك لم تفهم، هل وعد اللّه يلح في طلب العبد، أم أن العبد يلح في طلبه بعمله فكأنك ذاهب إليه ... و الموعود هو المستفيد و ليس الوعد» «2».
و هنا يشير الشعراوي إلي دقة الأداء الدلالي في القرآن، إذ القرآن يودّ التأكيد علي «أن الموعود، هو الذي يسعي للقاء الوعد ... و ليس الوعد هو الذي يطلب لقاء الموعود، فيستخدم اسم الفاعل، فحين يقول الحق سبحانه و تعالي: وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ «3» نفي النور عنهم .. و النور لا علاقة له بالسمع و لا بالشم و لا باللمس ... و لكنه قانون البصر ... و انظر إلي دقة التعبير القرآني ... إذا امتنع النور امتنع البصر ... أي أن العين لا تبصر بذاتها.
و لكنها تبصر بانعكاس النور علي الأشياء ثم انعكاسه علي العين .. و اقرأ قوله تعالي:
وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً «4».
فكأن الذي يجعل العين تبصر هو الضوء أو النور فإذا ضاع النور ضاع الإبصار ..
و لذلك فأنت لا تبصر الأشياء في الظلام و هذه معجزة قرآنية اكتشفها العلم بعد نزول القرآن» «5».

الإشارات العلمية في تفسير الشعراوي:

قال تعالي: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) «6».
(و المد): معناه البسط ... و عند ما نزل القرآن الكريم بقوله تعالي: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها لم يكن هذا يمثل مشكلة للعقول التي عاصرها نزول القرآن الكريم. فالناس تري أنّ (1) سورة مريم، الآية: (61).
(2) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 173).
(3) سورة البقرة، الآية: (17).
(4) سورة الإسراء، الآية: (12).
(5) الشعراوي، تفسير الشعراوي، ج (1) ص (173، 174)
(6) سورة ق، الآية: (7).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 228
الأرض ممدودة. و القرآن الكريم يقول: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها و تقدم العلم و عرف الناس أن الأرض كروية ... و انطلق الإنسان إلي الفضاء، و رأي الأرض علي هيئة كرة، هنا أحست بعض العقول بأن هناك تصادمات بين القرآن الكريم و العلم .. نقول لهم: أ قال اللّه سبحانه و تعالي أي أرض تلك المبسوطة أو الممدودة؟ لم يقل و لكنه قال الأرض علي إطلاقها ... أي كل مكان علي الأرض تري فيه الأرض أمامك مبسوطة: «إذا نزلت في القطب الشمالي تراها مبسوطة و إذا كنت في القطب الجنوبي تراها مبسوطة و عند خط الاستواء تراها مبسوطة ...
و إذا سرت من نقطة علي الأرض و ظللت تسير إلي هذه النقطة فالأرض دائما أمامك مبسوطة و لا يمكن أن يحدث هذا أبدا إلّا إذا كانت الأرض كروية، فلو أن الأرض مثلثة أو مربعة، أو علي أي شكل هندسي آخر لوصلت فيها إلي حافة ليس بعدها شي‌ء ... و لكن لكي تكون الأرض مبسوطة أمامك في أي مكان تسير فيه لا بد أن تكون علي هيئة كرة.

دوران الأرض في القرآن الكريم:

يقول الشعراوي: «هل يستطيع أحد أن يحكم علي مكان هو جالس فيه- و المكان كله يتحرك بما فيه هو- أنه متحرك؟ إنك لا تستطيع أن تدرك أنه متحرك لما ذا؟
لأنك لا تعرف حركة المتحرك إلّا إذا قسته مع شي‌ء ثابت، و لا شي‌ء ثابت لأن الأرض كلها تدور، و المواقع فوق سطحها ثابتة لأننا مثلا عند ما نجلس في حجرة مغلقة تماما و هي تدور بنا جميعا و موقفنا عليها ثابت لا يتغير ... لا نحس بدوران هذه الحجرة إلّا إذا فتحنا نافذة مثلا، و نقيس حركة الحجرة علي شي‌ء ثابت، كعمود مثلا أو شجرة. و هنا لا نستطيع أن نعرف حركة المتحرك إلّا إذا قسناه إلي شي‌ء ثابت، و من يستطيع أن يقيس الأرض كلها إلي شي‌ء ثابت ليعرف حركتها لا أحد يستطيع أن يقيس الأرض كلّها. ما دمت أنا لا أدرك الحركة ... يأتي اللّه سبحانه و تعالي ليقول لي: وَ تَرَي الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1».
«تحسبها معناه: كان ذلك حسبة و ليس حقيقة، لأن هذه الجبال التي تراها أمامك جامدة ثابتة لا تتحرك و هي ليست كذلك ... فإن اللّه يريد أن يقول لنا أن هذه الجبال الراسخة أوتاد الأرض التي تبدو أمامك جامدة ثابتة صلبة لا تستطيع أن تفتتها أنت و لا تزيلها» «2». (1) الشعراوي، المنتخب من تفسير القرآن الكريم، ص (42، 43). و الآية من سورة النمل، الآية:
(88).
(2) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 229

مرور الجبال مرّ السحاب في الدنيا و ليس في الآخرة:

يعالج الشعراوي قولا ما في فهم الآية وَ تَرَي الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ و فحواه أن هذا في الآخرة تقول له في الآخرة: «إن الأرض لن تكون نفس الأرض، ...
و أن الجبال ستحور مصداقا لقوله تعالي: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ إلي آخر الآية الكريمة ... ثم هل يكون في الآخرة حسبان؟ يجيب الشعراوي: «أبدا الآخرة نري فيها الحقائق ... نري فيها كل شي‌ء عين اليقين، و نعرف كل شي‌ء علي حقيقته ... الجنة و النار، و الثواب و الحساب و كل شي‌ء. إذن فقول اللّه سبحانه و تعالي: تَحْسَبُها جامِدَةً معناه: أنك و أنت أمام هذه الجبال واهم لأنك تظن أنها جامدة و هي تمرّ مرّ السحاب» «1».

تحديد معني العلم عند الشعراوي:

إنّ اختلاط المعاني و تداخل المصطلحات كثيرا ما يسهم في بلبلة الأفكار، و تشويه المقاصد لذا فإن الشعراوي أراد أن يستقصي معني العلم:
«العلم لا بد أن يمر بمرحلتين: مرحلة التصور، و مرحلة التصديق ... و معني التصور أننا قبل أن نتكلم عن أي قضية إثباتا أو نفيا، لا بد أن نكون متصورين للألفاظ التي سنكوّن منها حديثنا، يعني كلمة سماء ما ذا تعني- و كلمة الأرض ما معناها؟ ... و ليس في هذا نسبة فإذا جاءت النسب و هي أن تحكم علي شي‌ء بشي‌ء يجب أن تكون مسبوقة بعلم التصور» «2». هذه مرحلة التصور أما:
مرحلة التصديق: يضرب الشعراوي علي عادته أمثلة يستثمرها كي يصل إلي ما يريد «فأنت حين تحدثني عن حقيقة علمية أسألك هل هي واقعة، فإذا قلت: نعم أسألك: أ أنت جازم بها، فإذا قلت: نعم ... أسألك هل تستطيع التدليل عليها فإذا قلت: نعم فهذا هو العلم.
فالعلم: نسبة واقعة مجزوم بها و عليها دليل، و لكن افرض أنني جازم بنسبة و هي ليست واقعة، هذا هو الجهل: نسبة مجزوم بها و هي غير واقعة ... و آفة الدنيا كلها الجهل فالذي لا يعرف نسبة أو حقيقة علمية يمكن أن يتعلمها ... و لكن المصيبة في ذلك الذي يجزم أو يصدق في قضية كاذبة ثم يقيم الدنيا محاولا أن يدلل علي شي‌ء غير حقيقي» «3». (1) الشعراوي، المنتخب من تفسير القرآن الكريم، (42، 43).
(2) المصدر نفسه، ص (36، 37).
(3) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 230
و هذا الإعجاز الذي يتفق مع قدرات العقول ... وقت نزول القرآن الكريم، فإذا تقدم العلم و وصل إلي حقيقة لما كان يعتقده الناس. تجد أن آيات القرآن تتفق مع الحقيقة العلمية اتفاقا مذهلا ... و لا يقدر علي ذلك إلا اللّه سبحانه و تعالي» «1».

لما ذا كان تحدي القرآن بالعلم:

لم تفسّر آيات العلم عموما التفسير النهائي في عهود الإسلام الأولي ... لأن العقول غير مستعدة لتلقي الأخبار العلمية المذهلة لعقولهم ... إنما جاء يتحداهم بلاغة و بيانا، لأنهم أهل البيان و اللغة- ثم إن آيات الإعجاز العلمي لم تفسر تفسيرا كاملا في عهد الرسول صلي اللّه عليه و سلّم حتي لا تكون ملزمة للمسلمين- أيّ ستوقف أيّ محاولة للفهم الجديد. لذا بقيت الآيات الكونية المتضمنة إعجازات علمية مفتوحة لكل الأجيال، يتجدد العطاء الفكري العلمي من خلالها «لقد تحدي القرآن العرب بالإعجاز في اللغة. طلب أن يأتوا بمثل القرآن ثم زاد في التحدي و قال بسورة من مثله ... و لكن التحدي للعالم لا يمكن أن يكون باللغة ... فاللغات مختلفة إذن بما ذا تحداهم ... بالعلم ... و كان التحدي مطلقا إلي يوم الدين ... قال: أنتم جميعا لن تستطيعوا أن تخلقوا شيئا حتي نهاية العالم ...» «2».

تحدي القرآن بحقائق الكون:

إن التحدي العلمي و الإعجاز العلمي في القرآن جاء شاملا، لم يتحدّ اللّه تعالي البشر علميا في مساحة جزئية أو علي صعيد واحد ... إنما جاء البيان القرآني ليقول:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «3». «لم يقل سنريهم آياتنا في الأرض، و لا في الأفق بل قال: في الآفاق ... أي أن اللّه تعالي سيكشف لعباده بعضا من آياته ليتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق ... ذلك أن حقائق الكون التي سيصلون إليها بعد مئات السنين أو آلاف السنين بنشاطات الذهن ... سيجدون القرآن قد أشار إليها و حينئذ يتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق ... لأن الذي قال هو اللّه، و الذي خلق هو اللّه» «4». (1) الشعراوي، المنتخب من تفسير القرآن الكريم، ص (37، 38).
(2) الشعراوي، تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (13، 14).
(3) الشعراوي، المنتخب من تفسير القرآن الكريم، د. ت، د. ط، ص (34، 35).
(4) سورة فصلت، الآية: (53).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 231

دقة اللفظة القرآنية في التعبير عن حركة الجبال:

القرآن كتاب محكم في أدائه و مفرداته، و تراكيبه، و هنا نشير إلي هذا الأمر في هذا الموضوع «مرّ السحاب» لم يقل اللّه سبحانه و تعالي مرّ الرياح أو مر العواصف أو مرّ الأمواج. أو أي لفظ آخر ... لأن السحاب لا يتحرك بنفسه بل تدفعه قوة ذاتية هي قوة الريح، فحين يتحرك السحاب من مكان إلي مكان آخر لا ينطلق بذاته و يمضي. بل تأتي الرياح و تحمله من المكان الذي هو فيه إلي مكان آخر ... فكأن اللّه سبحانه و تعالي يريد أن يقول لنا: انتبهوا إن حركة الجبال ليست ذاتية كحركة الأرض و ليست حركة ذاتية كحركة الرياح .. أي لا تنتقل من مكانها علي سطح الأرض إلي مكان آخر علي سطح الأرض ... و لكنها تمرّ أمامكم مرّ السحاب، أي: تتحرك بحركة الأرض تماما كما تحرك الرياح السحاب ... و إلّا فلما ذا لم يقل اللّه: و تري الجبال تحسبها جامدة و هي تسير أو و هي تجري، أو هي تتحرك أو هي تمرّ من مكان إلي آخر ... أبدا استبعد كل الألفاظ التي تعطي الجبال ذاتية الحركة أي الذي يتحرك ذاتيا هي الأرض و الجبال تتبع هذه الحركة و هي تمر أمامك مر السحاب الذي لا يملك ذاتية الحركة، أ تري دقة التعبير و دقة التصوير لدوران الأرض» «1».
لقد اجتمعت كل الإعجازات في النص القرآني، دقة التعبير و التصوير (البلاغي) و الكشف عن طبيعة حركة الجبال التابعة لحركة الأرض (العلمي).
«فكون القرآن يخترق حجاب المستقبل. و بعد ذلك يمس قضايا كونية بما يثبت نشاط الذهن بعد أربعة عشر قرنا ... فهذا يدل علي أن القرآن اخترق حجاب المستقبل للبشرية كلها.
و لكن بعض الناس يجادل في خلق الإنسان و هي محاولة للإضلال، و إنكار آيات اللّه في الكون، و هذا أيضا من إعجاز القرآن: وجود هؤلاء المضلين في الدنيا و محاولتهم الإضلال و محاربة دين اللّه هو إعجاز قرآني» «2».

مدي اعتماد الشعراوي علي الحديث في تفسيره:

قال تعالي: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «3».
يري الشعراوي أن المؤمن سيفرح بفضل اللّه و رحمته أكثر من فرح المؤمن بعمله (1) الشعراوي، المنتخب من تفسير القرآن الكريم، ص (43، 44).
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة يونس، الآية: (58).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 232
الصالح هذا واقع و يستدل الشعراوي بحديث رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم:
«سددوا و قاربوا و أبشروا فإنه لن يدخل الجنة أحدا عمله»، قالوا: و لا أنت يا رسول اللّه، قال: «و لا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته» «1».
ربما يأتي أحد و يقول الصلاة علي الميت ما القصد الشرعي منها إن كانت تفيده فستكون الفائدة زيادة علي عمله ... و إن لم تكن تعطيه أكثر من عمله فما فائدتها؟.
نقول ما دام الشرع كلّفنا بها فلها فائدة، و هل تظنّ أن الصلاة علي الميت ليست من عمله؟ هي داخلة في عمله لأنه مؤمن و إيمانه هو الذي دفعك للصلاة عليه ... و الذي تدعو له بالخير و بالرحمة و بالمغفرة و يتقبلها اللّه، أ يقال إنه أخذ غير عمله؟ لا إنك لم تدع له إلا بعد أن أصابك الخير منه. و لكنك لا تدعو مثلا لإنسان أخذ بيدك إلي خمارة أو إلي فاحشة أو إلي منكر، بل تدعو لمن أعطاك خيرا فإن استجاب اللّه لك فهو عمله» «2».
و قال تعالي: خَتَمَ اللَّهُ عَلي قُلُوبِهِمْ وَ عَلي سَمْعِهِمْ وَ عَلي أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) «3».
يقول الشعراوي: «إن اللّه سبحانه و تعالي غني عن العالمين ... فإن استغني بعض خلقه عن الإيمان و اختاروا الكفر ... فإن اللّه يساعده علي الاستغناء و لا يعينه علي العودة إلي الإيمان، و لذلك فإن الحق سبحانه و تعالي يقول في حديث قدسي:
«أنا عند ظن عبدي بي، و أنا معه حين يذكرني ... فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، و إن تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا، و إن تقرّب إلي ذراعا تقرّبت إليه باعا، و إن أتاني يمشي أتيته هرولة ...» «4».
يعقب الشعراوي علي الحديث القدسي السالف الذكر:
«إن اللّه تبارك و تعالي يعين المؤمنين علي الإيمان، و إن اللّه جلّ جلاله كما يعين المؤمنين علي الإيمان ... فإنه لا يهمه أن يأتي العبد إلي الإيمان أو لا يأتي، و لذلك نجد القرآن دقيقا و محكما بأن من كفروا قد اختاروا الكفر بإرادتهم و اختيارهم للكفر كان أولا قبل أن يختم اللّه علي قلوبهم و الخالق جلّ جلاله أغني الشركاء عن الشرك، و من أشرك به فإنه في غني عنه» «5». (1) أخرجه البخاري في (الحديث: 6464)، و أخرجه مسلم في (الحديث: 7053).
(2) الشعراوي، مج (1)، ص (603، 604).
(3) سورة البقرة، الآية: (7).
(4) أخرجه البخاري في (الحديث: 7405)، و أخرجه مسلم في (الحديث: 2675).
(5) الشعراوي، تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (142).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 233
و يستدل الشعراوي بحديث الرسول صلي اللّه عليه و سلّم: «ما نقصت صدقة من مال، و ما زاد اللّه بعفو إلا عزا، و ما تواضع أحد للّه إلّا رفعه اللّه» «1».
الزكاة في ظاهرها تنقص المال، و إن كانت في حقيقتها بركة و نماء، و بالتالي هذا ليس تضييقا «بل إن هذا لفائدتك. لأنه لم يأمرك وحدك، و لكن الأمر للناس جميعا، حين يقول جل جلاله لا تسرق فقد قالها للناس جميعا، و لذلك تكون أنت الرابح لأنه قيدك و أنت فرد من أن تسرق من غيرك، و لكنه قيد ملايين الناس من أن يسرقوا منك. إذن فاللّه لم يضيق عليك، و لكنه حمي مالك من الناس كل الناس» «2».

«إذا كانت آخر ليلة من رمضان تجلّي الجبار بالمغفرة»

«3»:
«و كان المنطق يقتضي أن يقول رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: تجلّي الرحمن بالمغفرة، و لكن ما دامت هناك ذنوب فالمقام لصفة الجبار الذي يعذّب خلقه بذنوبهم، فكأن صفة الغفار تشفع عند صفة الجبار، و صفة الجبار مقامها للعاصين، فتأتي صفة الغفار لتشفع عندها، فيغفر اللّه للعاصين ذنوبهم، و جمال المقابلة هنا حينما يتجلي الجبار بجبروته بالمغفرة، فساعة تأتي كلمة جبار يشعر الإنسان بالفزع و الخوف و الرعب، لكن عند ما تسمع «تجلّي الجبار بالمغفرة»، فإن السعادة تدخل إلي قلبك لأنك تعرف أن صاحب العقوبة و هو قادر عليها قد غفر لك، و النار ليست آمرة و لا فاعلة بذاتها و لكنها مأمورة، فاستعذ منها بالآمر أو بصفات الجمال في الآمر» «4». من ذلك يظهر أن الشعراوي استشهد بهذا الحديث ليبين معني صفات الجلال المختصة باللّه و ليكشف لنا كيف نتقي صفات الجلال بصفات الجمال أي بصفات المغفرة و الرحمة أو بكل صفات اللّه المعبرة عن عطاءاته و رحماته لخلقه.

مناقشة القرآن للكافرين كما ورد في تفسير الشعراوي:

قال تعالي: أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلي رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) «5».
يحاول الشعراوي أن يبلور لسامعيه و قارئيه بأسلوب بسيط واضح طريقة القرآن في مناقشته الكافرين و أصحاب العقائد الخاطئة فيقول: «يلفتنا اللّه سبحانه و تعالي إلي حقيقتين: (1) أخرجه الترمذي في (الحديث: 2029).
(2) الشعراوي، تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (134).
(3) ورد في كنز العمال.
(4) الشعراوي، تفسير الشعراوي، (1/ 121).
(5) سورة يونس، الآية: (2).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 234
الحقيقة الأولي: هي أن الكفار يتخذون من بشرية الرسول صلي اللّه عليه و سلّم حجة بأن هذا الكتاب ليس من عند اللّه، و كان الرد هو: أن كل الرسل السابقين كانوا بشرا فما هو العجب في أن يكون محمد صلي اللّه عليه و سلّم رسولا بشرا؟
الحقيقة الثانية: هي أن هذا القرآن مكتوب بالحروف نفسها التي خلقها اللّه لنا لنكتب بها، و من ذلك فإن القرآن الكريم نزل مستخدما لهذه الحروف التي يعرفها الناس جميعا معجزا في ألا يستطيع الإنس و الجن مجتمعين أن يأتوا بسورة واحدة منه. ثم يلفتنا الحق سبحانه و تعالي لفتة أخري إلي أن هذا الكتاب محكم الآيات، ثم بيّنه اللّه لعباده، و هذا ظاهر في سورة هود: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (2) «1».
فهذا الكتاب المحكم بلاغة و بيانا و فصاحة حجة علي الكافرين الذين عجزوا أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله.
و يستمر القرآن في محاولته و مساءلته الكافرين الناكرين للحق. قال تعالي:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) «2».
إذا السؤال القرآني الموجه للكافرين لا يملكون جوابا عنه «لأن اللّه هو الذي خلقه و أوجده و لا يستطيع أحد منا أن يدعي أنه خلق نفسه أو خلق غيره، فالوجود بالذات علي قضية الإيمان، و لذلك يسألهم الحق تبارك و تعالي كيف تكفرون باللّه و تسترون وجود من خلقكم؟ و الخلق قضية محسومة للّه سبحانه و تعالي لا يستطيع أحد أن يدعيها .. فلا يمكن أن يدعي أحد أنه خلق نفسه: قضية أنك موجود توجب الإيمان باللّه سبحانه و تعالي الذي أوجدك، إنه عين الاستدلال علي اللّه، و إذا نظر كل ما في الكون مسخرا لخدمته و الأشياء تستجيب له فظن بمرور الزمن أن له سيطرة علي هذا الكون ... و لذلك عاش و في ذهنه قوة الأسباب. يأخذ الأسباب و هو فاعلها فيجدها قد أعطته و استجابت له و لم يلتفت إلي خالق الأسباب الذي خلق لها قوانينها فجعلها تستجيب للإنسان ..» «3».
و يخلص الشعراوي في توضيحه مناقشة القرآن للكافرين فيقول:
«إن الكافرين صنفان ... صنف كفر باللّه و عند ما جاء الهدي حكم عقله و عرف الحق فآمن .. و الصنف الآخر مستفيد من الكفر ... و لذلك فهو متشبث به مهما جاءه من الإيمان و الأدلة الإيجابية فإنه يعاند و يكفر .. لأنه يريد أن يحتفظ بسلطاته الدنيوية و نفوذه القائم (1) سورة هود، الآية: (2). و انظر تفسير الشعراوي، (1/ 114، 115).
(2) سورة البقرة، الآية: (28).
(3) الشعراوي، تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (138، 139).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 235
علي الظلم و الطغيان و لا يقبل أن يجرّد منهما و لو بالحق. هذا الصنف هو الذي قال عنه اللّه تبارك و تعالي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «1».
فالشعراوي يري أن هذا الصنف جعل من الكفر مصلحة شخصية: «إنهم لم يكفروا لأن بلاغا عن اللّه سبحانه و تعالي لم يصل إليهم و لم يكفروا لأنهم في حاجة إلي أن يلفتهم رسول أو نبي إلي منهج اللّه، هؤلاء اتخذوا الكفر صناعة، و منهج حياة منهم مستفيدون من الكفر لأنه جعلهم سادة، و لأنهم يتميزون من غيرهم بالباطل. و لأنهم لو جاء الإيمان الذي يساوي بني الناس جميعا و يرفض الظلم، لأصبحوا أشخاصا عاديين غير مميزين في أي شي‌ء ...
هذا الكافر اتخذ الكفر طريقا لجاه الدنيا و زخرفها ... سواء أنذرته أم لم تنذره فإنه لن يؤمن ... إنه يريد الدنيا التي يعيش فيها».
و ما دامت هذه الشريحة تري أن مصلحتها بالكفر، و ما دامت رعونات النفوس هي التي توجهها و تصنع توجهاتها لذلك سيبقون «يقاومون الدين و يحاربون كلّ من آمن لأنهم يعرفون أن الإيمان سيسلبهم ميزات كثيرة. و لذلك فإن عدم إيمانهم ليس عن أن منهج الإيمان لم يبلغهم .. أو أن أحدا لم يلفتهم إلي آيات اللّه في الأرض ... و لكن لأن حياتهم مبنية علي الكفر» «2».

نكت الشعراوي اللغوية وفق تجليات النّص:

الحق إنّ للشعراوي لفتات بديعة مأخوذة من ظلال النص و ليس من المعني الحرفي للنص. فهو كثيرا ما يستكشف معاني بديعة اصطادها من تجليات النّص و ظلاله و إيحاءاته و فيوضاته فعند ما يتحدث عن صفات اللّه تعالي مثل صفات «الغفار و الرحيم و كل الصفات التي تتنزل بها رحمات اللّه و عطاءاته علي خلقه» فيسمي هذه الصفات صفات جمال.
و صفات: «الجبار المنتقم» صفات جلال «3».
و يحاول الشعراوي أن يضفي علي هذا التقسيم أهمية عملية حركية في حياة الإنسان اليومية، و الحق أن في هذا ربطا جميلا لفهم المؤمن لصفات اللّه بحياته العملية اليومية.
«لا بد أن تقي نفسك من صفات الجلال كلّها. لأنه قد يكون من متعلقاتها ما هو أشد عذابا و إيلاما من النار .. فكأن الحق سبحانه و تعالي حين يقول: اتقوا النار. و اتقوا اللّه، يعني أن نتقي غضب اللّه الذي يؤدي بنا إلي أن نتقي كل صفات جلاله ... و نجعل بيننا و بينها (1) سورة البقرة، الآية: (6). و انظر تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (140).
(2) الشعراوي، تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (140، 141).
(3) المصدر نفسه، ص (120، 121).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 236
وقاية. فمن اتقي صفات جلال اللّه أخذ صفات جماله. و لذلك يقول رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «إذا كانت آخر ليلة من رمضان تجلّي الجبار بالمغفرة» ...
هنا يري الشعراوي «أن المنطق يقتضي أن يقول رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: تجلي الرحمن بالمغفرة .. لكن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم عند ما يقول: تجلّي الجبار بالمغفرة فهذا يدخل السعادة في قلب المؤمن لأنك تعرف أن صاحب العقوبة و هو قادر عليها قد غفر لك» «1».
خلاصة ذلك أن علي المؤمن أن يتقي صفات الجلال (المنتقم- الغضب- الجبار المتكبر ... بصفات الجمال: الغفار- الغفور- الرحيم- الرزاق- اللطيف الرءوف .. الخ.
إن هذا من شأنه أن يربط الإنسان بربه ربطا تصوريا و عمليا في آن معا .. فإذا ارتكبت عملا يعاقبك اللّه عليه بما أخبرك من صفات جلاله، فالجأ إليه كي تنجو من صفات جلاله محتميا بصفات جماله.
ثم يبدو الشعراوي متمكنا جدا من استكشاف المعاني التي يمكن أن يشمّها الإنسان من تجليات النص و ظلاله الموحية عند حديثه عن الغيب و مفهوم الغيب، و هذه التجليات يوظفها توظيفا حسنا في خدمة تركيز الإيمان، و تثبيته في النفوس، تثبتا و تركيزا طاردين لكل الريب و الشكوك، قال تعالي:
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلي غَيْبِهِ أَحَداً (26) «2».
«قمة الغيب هي الإيمان باللّه سبحانه و تعالي ... و الإيمان بملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر ..» «3». إلي أن يقول مقولة تصلح لجعلها أحد الأسس في المحاججة القائمة بين الجاحدين و المؤمنين جاء عليه النص بأحد تجلياته:
«و لا بد أن نعرف أن وجود الشي‌ء مختلف تماما عن إدراك هذا الشي‌ء، فأنت لك روح في جسدك تهبك الحياة .. أ رأيتها .. أسمعتها؟ .. أذقتها؟ أشممتها؟ ألمستها؟.
الجواب: طبعا: لا ... فبأي وسيلة من وسائل الإدراك تدرك أن لك روحا في جسدك؟ بأثرها في إحياء الجسد.
إذن فقد عرفت الروح بأثرها .. و الروح مخلوق للّه. فكيف تريد و أنت عاجز أن تدرك مخلوقا في جسدك و ذاتك و هي الروح بآثارها ... أن تدرك اللّه سبحانه و تعالي بحواسك، و نحن إذا آمنا بالقمة الغيبية و هو اللّه جلّ جلاله فلا بد أن نؤمن بكل ما يخبرنا عنه و إن لم نره ... (1) الشعراوي، تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (121).
(2) سورة الجن، الآية: (26).
(3) الشعراوي، تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (127).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 237
و لقد أراد اللّه تبارك و تعالي رحمة بعقولنا أن يقرّب لنا قضية الغيب فأعطانا من الكون المادي أدلة علي أن وجود الشي‌ء و إدراك هذا الوجود شي‌ء منفصل» «1».
و الناظر في تفسير الشعراوي أو في خواطر الشعراوي القرآنية يري أن الشعراوي كثيرا ما يخرج عن الدلالة الحرفية اللغوية إلي التجليات العامة للنص التي لا تكن ملفوظة ضمن النص لكنها تكمن وراء النص، أو يرسمها النص رسما عاما محتملا، موحي إيحاء يحتاج إلي جهد لاستقرائه و فهمه و توظيفه.
و من جميل اللفتات التي يستقيها الشعراوي من كلمة «الرزق» إضفاؤه علي اللفظة الواحدة معاني عديدة مركبة، لكنك لو جمعت هذه المعاني لوجدت كلمة رزق تستغرقها جميعا، إنها تجليات النص، تجليات المفردة القرآنية الخصبة، الغنية بالدلالات، الواسعة الإمدادات. قال تعالي: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «2».
إقامة الصلاة: «إدامة ولاء العبودية للحق تبارك و تعالي، و هي لا تسقط عن الإنسان أبدا، فالإنسان يصلي و هو واقف فإن لم يستطع يصلي و هو جالس، فإن لم يستطع فيصلي و هو راقد، و لا تسقط الصلاة عن الإنسان من ساعة التكليف إلي ساعة الوفاة كل يوم خمس مرات ...
و يقول الحق تبارك و تعالي: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ: «و حين نتكلم عن الرزق يظن كثير من الناس أن الرزق هو المال. نقول له: الرزق هو ما ينتفع به. فالقوة رزق، و العلم رزق، و الحكمة رزق، و التواضع رزق و كل ما فيه للحياة حركة رزق، فإن لم يكن عندك مال لتنفق فعندك عافية تعمل لتحصل علي المال، و تتصدق به علي العاجز المريض، و إن كان عندك حلم .. فإنك تنفقه بأن تقي الأحمق من تصرفات قد تؤذي المجتمع و تؤذيك، و إن كان عندك علم أنفقه لتعلم الجاهل و هكذا نري: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ تستوعب جميع حركة الحياة» «3».
من هذا يظهر أن الشعراوي قادر علي استنطاق العبارة القرآنية بلغة المفردة القرآنية بكل مخزوناتها المعنوية و الفكرية، و يغترف منها ليلقي هذا الفيض الكبير من المعاني في أذهان السامعين و القارئين، فينعمون بهذا الخير القرآني الكثير.
إننا لو راجعنا بعض الآراء في تفسير هاتين الآيتين لرأينا و جهات نظر أخري مغايرة لرأي الشعراوي، و هذا لا يقلل من قيمة رأي الشعراوي و فهمه للنص، إنما يضعنا أمام (1) الشعراوي، تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (127، 128).
(2) سورة البقرة، الآية: (3).
(3) الشعراوي، تفسير الشعراوي، مج (1)، ص (129).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 238
فهوم مختلفة علّها تساعد في الاقتراب من الفهم الصحيح، يقول الزجّاج في تفسيره لقوله تعالي: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا «1».
(مأتي): اسم مفعول من الإتيان، لأن كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه، و كل ما أتاك فقد أتيته، يقال: وصلت إلي خير فلان، و وصل إليّ خير فلان و أتيت خير فلان، فهذا [أي: مأتيا] علي معني أتيت خير فلان» «2».
يقول عبد الجليل عبده شلبي حول مقصد الزجّاج من تفسيره «مأتيا»:
«يقصد أن وعده مأتي، بمعني آت» «3» .. و يلاحظ عبد الجليل شلبي علي أمثلة الزجّاج: «نلاحظ أن هناك فرقا بين التعبيرين و إيثار مأتي يدل علي أنهم سيرغمون إلي ملاقاة وعد اللّه» «4».
أما في قوله تعالي: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) «5».
يقول الزجاج: قال أهل اللغة «مستورا» هاهنا في موضع ساتر، و تأويل الحجاب و اللّه أعلم- الطبع الذي علي قلوبهم، و يدل علي ذلك قوله: وَ جَعَلْنا عَلي قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ... و يجوز أن يكون مستورا علي غير معني ساتر فيكون الحجاب من لا يرونه و لا يعلمونه من الطبع علي قلوبهم» «6».
و لو تصفحنا كشاف الزمخشري متأملين ما أورده في تفسير آية الإسراء: «حِجاباً مَسْتُوراً». فإنا نري تكرارا لما قاله الزجاج «حِجاباً مَسْتُوراً» ذا ستر، كقولهم: سيل مفعم ذا إفعام، و قيل: هو حجاب لا يري فهو مستور .. و يجوز أن يراد أنه حجاب من دونه حجاب أو حجب فهو مستور بغيره، أو حجاب يستر أن يبصر، فكيف يبصر المحتجب به، و هذه حكاية لما كانوا يقولونه: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «7». (1) سورة مريم، الآية: (61).
(2) الزجاج، معاني القرآن و إعرابه، (3/ 336). ط دار الحديث القاهرة ط (1994 م).
(3) انظر هامش معاني القرآن و إعرابه، (3/ 336) لعبد الجليل شلبي «المحقق».
(4) المصدر نفسه.
(5) سورة الإسراء، الآية: (45).
(6) الزجاج، معاني القرآن و إعرابه، (3/ 244).
(7) سورة فصلت، الآية: (5). و انظر الزمخشري، الكشاف، (2/ 627)، ط (1)، (1997)، ت عبد الرزاق المهدي.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 239
و قال الزمخشري في تفسير قوله تعالي: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) «1».
لما كانت الجنة مشتملة علي جنات عدن أبدلت منها كقولك: أبصرت دارك القاعة و العلالي- [أي: القاعة بدل من الدار و هي جزء من الدار و هذا ما يسمي ببدل بعض من كل، أو يمكن أن يسميها بدل اشتمال كقولك أعجبني عمر عدله»]. و «عدن» معرفة علم بمعني العدن و هو الإقامة، كما جعلوا فينة، و سحر، و أمس فيمن لم يصرفه إعلاما لمعاني:
الفينة «2»، و السحر، و الأمس، فجري مجري العدن لذلك. أو علم لأرض الجنة، لكونها مكان إقامة، و لو لا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل المعرفة إلا موصوفة، و لما ساغ وصفها بالتي، و قرئ: جنات عدن و «جنة عدن» بالرفع علي الابتداء أي: وعدها و هي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها، أو بتصديق الغيب و الإيمان به، قيل في «مأتيا» مفعول بمعني فاعل. و الوجه أن الوعد هو الجنة و هم يأتونها أو هو من قولك: أتي إليه إحسانا أي كان وعدا مفعولا منجزا» «3».
و لا بأس من استعراض رأي أحد المفسرين المؤولين العلامة الألوسي في تفسير قوله تعالي: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) «4».
أورد الألوسي مثل ما أورده باقي المفسرين- و زاد علي بعضهم ما يلي:
«و عن الجبائي: المراد بالحجاب ما يحجبهم عن إيذاء الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و ذلك أنهم كانوا يقصدونه إذا قرأ ليؤذوه، فآمنه اللّه تعالي و ذكر عليه الصلاة و السلام أنه جلّ شأنه جعل بينه و بينهم حجابا عند القراءة فلا يمكنهم الوصول إليه، و هو عندي مما لا بأس به و إن ذكره في معرض التقصي عن استدلال أصحابنا بالآية علي أن اللّه تعالي يمنع عن الإيمان من شاء كما يهدي إليه من شاء نعم هو دون الأول عند من يتأمل.
و قيل: المراد حجاب منعهم رؤية شخص النبي صلي اللّه عليه و سلّم و ذاته الكريمة، فقد أخرج أبو يعلي و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهم قالت: لمّا نزلت: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، أقبلت العوراء أم جميل و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول:
«مذمما أبينا، و دينه قلينا، و أمره عصينا»، و رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم جالس، و أبو بكر إلي جنبه (1) سورة مريم، الآية: (61).
(2) الفينة: الحين.
(3) الزمخشري، الكشاف، (2/ 28، 29).
(4) سورة الإسراء، الآية: (45).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 240
فقال أبو بكر: أقبلت هذه و أنا أخاف أن تراك فقال: «إنها لن تراني» و قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالي: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) «1». فجاءت حتي قامت علي أبي بكر فلم تر النبي صلي اللّه عليه و سلّم فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني، فقال أبو بكر: لا و رب هذا البيت ما هجاك، فانصرفت و هي تقول:
قد علمت قريش أني بنت سيدها» «2».

خاتمة:

من هذا يظهر أن الشعراوي هضم الآراء السابقة، و استفاد منها، و أعاد إنتاجها، و جددها، بوحي من دقته اللغوية، و صفاء فهمه، و استنتاجه، و استنطاقاته الجميلة للنص القرآني فهو لم يخرج عنه، إنما عاش في معانيه، و تحت ظلاله الوارفة، مستخرجا معانيه من النص مرة و إيحاءاته و تجلياته مرات أخر، جزاه اللّه عن خدمة كتابه العزيز خيرا. (1) سورة الإسراء، الآية: (45).
(2) الألوسي، روح المعاني، (1/ 15، 16) ص (87- 88)، ط (4)، دار إحياء التراث، (1985 م).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 241

رابعا: التفسير السهل الميسر المختار من تفاسير القرآن الكريم د. أحمد إسماعيل الصباغ‌

اشارة

التفسير السهل الميسّر المختار من تفاسير القرآن الكريم و أسباب النزول جمع و إعداد الدكتور أحمد إسماعيل الصباغ.

موجز عن حياة المؤلف:

والده الشيخ إسماعيل الصباغ أحد علماء دمشق المعروفين، اهتم بدراسة ابنه العلمية و الشرعية .. نال ابنه أحمد إسماعيل الصباغ درجة الدكتوراة في العلوم الاقتصادية.
لم يكن أحمد الصباغ بمنأي عن دراسة العلوم الشرعية و خاصة «علوم القرآن» خاصة و أن والده كان يدفع به بهذا الاتجاه .. و كان والده يطمع أن يري تفسيرا كريما للقرآن قد خرج إلي النور علي يد ولده.

ظروف نشأة التفسير السهل الميسر:

قصّ المؤلف الظروف التي ساعدت علي إنشاء أو إعداد هذا التفسير: «إن زوجته الفاضلة قد طلبت منه أن يبحث لها عن تفسير سهل التناول، يمتاز بسهولة أسلوبه و بساطة عبارته، سريع الفهم، فبحث في المكتبات فرأي تفسيرات موجزة غير أنها لم تكن تفي بالمطلوب. فعمد المؤلف إلي اصطفاء بعض الآيات و صوغ تفسير لها موجز واضح بسيط مأخوذ من عدة تفاسير موثوقة معتبرة عند أهل العلم .. و لم يكن يدري ساعتئذ أن
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 242
الاستمرار بهذا سوف ينجز تفسيرا كاملا ... و إن كان المرحوم والده الشيخ إسماعيل دائم التشجيع و الدفع لولده باستمرار الدرس و التحصيل كي ينجز التفسير الكريم، و كان الوالد يحلم باليوم الذي يري فيه هذا التفسير شق طريقه نحو الوجود.
و لكن قدرة اللّه شاءت ألا يري الشيخ عمل ابنه فحال الموت دون رؤيته هذا التفسير» «1».

منهج المؤلف في إعداده التفسير السهل الميسّر:

وضح أحمد الصباغ الهدف من تفسيره «السهل الميسّر» و هو تلبية حاجة القارئ المعاصر بالاطلاع علي تفسير الكتاب الكريم «القرآن». و ذلك بالسهولة المرجوة و الوقت القليل.
أما ضوابطه في عمله التفسيري هذا فكانت:
1- توخي كتابة بعض الكلمات القرآنية التي وردت مدرجة في التفسير حسب القواعد الإملائية المشهورة- مع تثبيت النص القرآني الذي كتب وفق قواعده الخاصة المتميّزة.
2- أراد أن يشكل سبل اللغة البسيطة الموفية بالغرض ليسهّل الفهم و الدراسة علي من يريد قراءة هذا العمل.
3- اعتمد علي اختيار معاني تفسيره علي مشاهير التفاسير مثل تفسير ابن كثير، و القرطبي و البيضاوي، و النسفي، و الرازي و الشوكاني و سيد قطب، و الشنقيطي و المراغي و المنار و غيرهم من التفاسير المشهورة المعتبرة ...».
4- ثم اعتمد قاعدة هامة في علم أصول الفقه الإسلامي، ذلك العلم الذي اعتمد عليه في استنباط الأحكام الشرعية العملية الفرعية. تلك القاعدة تقول: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب».
و لتوضيح القاعدة يمكن أن نضرب مثلا يساعد طالب العلم المبتدئ علي فهم المقصود: «إن آية السرقة و آية اللعان و نحوهما نزلت في أفراد مخصوصين أي معروفين بأسمائهم و بوقائعهم. و لكن هذه الآيات جاءت بصيغة العموم فاعتبروه أي [اعتبروا العموم ، و أهملوا السبب الخاص الذي نزلت بشأنه الآية، و عليه فإن ما انطبق علي الشخص الذي نزلت بصدد فعلته أو بسبب سؤاله الآية ينطبق علي عموم الوقائع الأخري المماثلة. (1) مقدمة ط (1)، التفسير السهل الميسر، ط (1)، (1989 م) لأحمد إسماعيل الصباغ.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 243
زد علي ذلك: أنه لا معارضة بين العام و سعيه الخاص إذ لا تنافي بينهما، أما هنا فالتمسك بالعام لا ينافيه السبب الخاص، و لو أراد الشارع التخصيص لما أتي باللفظ العام و هو في مقام التشريع و من أبلغ العرب الفصحاء. و هكذا فإن الأحكام الشرعية بغالبيتها علي قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» «1».
و يمكن أن ندرس التفسير الميسّر وفق الجوانب الآتية:

الجانب اللغوي:

امتاز التفسير الميسّر بلغته السهلة لأن هذا السبب الأهم الذي دعا المؤلف لإعداد هذا العمل القرآني. فنراه يقدم توضيحه للقارئ بلغة سهلة يحافظ فيه علي أسلوب القرآن إن كان للاستفهام الإنكاري أو غيره من الدلالات التي يخرج إليها الاستفهام كما هو معلوم في علوم البلاغة العربية، قال تعالي:
وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) «2».
قال الصباغ: «و أيّ شي‌ء يمنعكم أن تأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ بيّن لكم ما حرّم عليكم أكله في الآية الثالثة من سورة المائدة. هنا يلاحظ تفسيره للقرآن بالقرآن. الآية الثالثة من سورة المائدة هي:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) «3».
يتابع تفسيره للآية/ 119/ من سورة الأنعام: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فإنه مباح لكم عند الضرورة «4».
و يلاحظ استفادته من تفسير الجلالين علي نحو جليّ كما قال هو في ذكر مراجعه و مصادره: (1) أحمد بن محمد بن علي الوزير، المصفّي في أصول الفقه، ط (1996)، لبنان، بيروت ص (499).
(2) سورة الأنعام، الآية: (119).
(3) سورة المائدة، الآية: (3).
(4) أحمد الصباغ، التفسير السهل الميسر، ط (2)، (1996)، ص (143).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 244
وَ إِنَّ كَثِيراً من الناس. لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فيحللون و يحرمون بغير دليل و لا حجة.
و يأتي توضيحه بلغة سهلة عند ما يكشف عن معاني الضمائر المتصلة في الآيات الكريمة، قال تعالي: وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّي نُؤْتي مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ «1».
«و إذا جاءت هؤلاء الأكابر المجرمين (آية) تؤكد نبوتك [الآية المعجزة]. قالوا لن نؤمن لك و لن نصدق رسالتك» حَتَّي نُؤْتي حتي نعطي من المعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ «فرد عليهم سبحانه و تعالي بقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أعلم بمن هو أهل للرسالة، و من هو أصلح لها من خلقه، فيشرفه بها» «2».

صرفه العبارات إلي غير ظاهرها تحقيقا لمقاصد النص:

صحيح أن أحمد الصباغ وضع في أسس منهاجه التفسيري هذا العمل بظاهر اللفظ، لكن هذا علي الغالب لأن اللّه تعالي لم يرد ظاهر النص أحيانا، لذا كان لا بد من إدراك مقاصد النّص، و من ثم توجيه المعني بهذا الاتجاه الصحيح الذي يخدم المعني المراد، قال تعالي: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً «3» بالجهل و الكفر، فَأَحْيَيْناهُ «3» بالعلم و الإيمان، وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً «3» من القرآن يمشي به في الناس علي بصيرة من ربه و هدي كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ «3». كالذي يتخبط في ظلمات الكفر و الضلالة لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها «3» لا يفارقها و لا يتخلص منها» «8».

عدم دخول الصباغ في الفروع و الجزئيات:

كان همّ المؤلف أن يجعل القارئ متفهما للآيات الكريمة، و لم يكن همه تزويده بكمّ كبير من المعارف الشرعية و القرآنية .. إنما هدفه التيسير، و اقتناء الواضح البسيط، لذا ابتعد عن الجزئيات و التفريعات التي لا تفيد طالب العلم المبتدئ، و لا المتوسط. قال في تفسيره لقوله تعالي من سورة القيامة:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) يوم القيامة بهية مشرقة غبطة و سرورا. إِلي رَبِّها ناظِرَةٌ (23) «9» نظرة شكر و امتنان». (1) سورة الأنعام، الآية: (124).
(2) أحمد الصباغ، التفسير السهل الميسر، ص (143).
(3) سورة الأنعام، الآية: (122).
(8) أحمد الصباغ، التفسير السهل الميسر، ص (143).
(9) سورة القيامة، الآيتان: (22، 23). و انظر التفسير السهل الميسر، ص (578).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 245
إن المفسّر نأي بنفسه عن الخوض في مسألة خلافية استحوذت نقاشا طويلا: هل يري المؤمن ربه يوم القيامة؟ و من جملة ما استدلّ به بعضهم هاتان الآيتان من سورة القيامة التي أعملها بعضهم علي ظاهرها، و الآخرون تأولوها.
و يلاحظ محافظته علي خطته بعدم التوسع في الخلافيات و الجزئيات لأنه حرص علي تقديم المعاني الكريمة بأسلوب مبسط و موجز، من هذا يتضح اهتمامه بالكليات و المعاني العامة، لا بالجزئيات و الدلالات الخاصة و ما سوي ذلك. إنه كان وفيا لنهجه الذي اختطّه لنفسه علي نحو ما أشرنا إلي ذلك في المقدمة.

محاولات الصباغ التوفيق بين القرآن و العلم الحديث:

لعل دراسات الصباغ العلمية، و طبيعة العصر العلمية، و حرصه علي إبراز القرآن إبرازا علميا و بثوب السابق إلي بعض العلوم الحديثة دفعه كل ذلك إلي التوفيق بين القرآن و العلوم.
قال تعالي في سورة الحجر:
وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «1». تلقح [الرياح السحاب و الأزهار» «2».
و قال تعالي: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ «3» «قدرنا مسيره في منازل ينزل بها كل يوم و ليلة من شهر قمري، فإذا كان في آخر الشهر دقّ و تقوّس حَتَّي عادَ «3» حتي صار منظره كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ «3» كعود عنقود التمر إذا جفّ و تقوس و اصفر» «6».

الحديث النبوي في تفسير الصباغ «السهل الميسّر»:

لم «يكن التفسير السهل الميسّر» من التفسيرات الموسّعة، إنما كانت من التفسيرات الموجزة التي ركّزت علي بلورة المعني العام الظاهر دون المجازية إلّا ما ندر و ذلك عند ما تقتضيه طبيعة اللغة.
لذا فإن المؤلف لم يلجأ إلي الأحاديث النبوية في فهم الآية عند ما فسرها، غير أنه أثبت أسباب النزول المدعّمة بأحاديث رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم كي يعين القارئ علي الإحاطة بالمناخ العام الذي تنزل عليه النّص القرآني، و بهذا ساعد القارئ علي ترسيخ فهومه للآية الكريمة (1) سورة الحجر، الآية: (22).
(2) أحمد الصباغ، التفسير السهل، ص (263).
(3) سورة يس، الآية: (39).
(6) أحمد الصباغ، التفسير السهل الميسر، ص (442).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 246
من قاعدة الإيجاز التي أرادها لتفسيره هذا.

التفسير الميسر و آيات الصفات:

عند ما فسّر صاحب «التفسير السهل الميسر» آيات الصفات فسّرها دونما تطرق إلي الرأي الآخر و علي ما يظهر كان ميالا لرأي أهل الحديث الذي لا يؤول الصفات، نذكر مثالا من سورة طه الرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوي (5) «1». قال: «استواء يليق بجلاله» «2».
و كذلك عند ما فسر الآية في سورة الفتح إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ «3» أيها الرسول- بيعة الرضوان بالحديبية علي ألا يفروا من المعركة، إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ بمبايعتهم لك يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ عند مبايعتهم لأنهم كانوا يبايعون اللّه بمبايعتهم نبيه صلي اللّه عليه و سلّم ...
و لو أن المؤلف قال: كان اللّه نصيرهم و حليفهم لاستمر المعني النفسي و التربوي الذي أراده النص القرآني، و لم يكن اللّه تعالي يريد أن يخبرنا أنه لم يدر إنما عند ما يخبر اللّه تعالي أن يده فوق أيديهم إنما أراد أن يعلمهم أنه مؤازر لهم و مناصر لهم ما داموا مخلصين لبيعتهم، غير ناكثين لها.

خاتمة:

هذا التفسير اسم علي مسمي حقا، إنه سهل ميسّر مختار من عدة تفاسير مشهورة، قدّم المعني بأسلوب سلس سهل، ليتم تناوله لقمة سائغة من قبل القارئين علي اختلاف أوضاعهم، و تباين مستوياتهم.
وضّح المعني العام للآيات الكريمة بأسلوب سهل، و لغة مفهومة سهلة الحفظ، خاصة أن تفسيره نأي به عن الخلافيات، و نزهه عن المجادلات في الإيمان و العقيدة و الأحكام العملية. لو أردنا أن نصنفه في مدرسة من المدارس التفسيرية القديمة لأمكن القول «إنه يعد في مدرسة الجلالين» الذي أسس للتفسير الموجز مع يسر في اللغة، و بساطة في التعبير أكثر، و اتفاق في المنهج يكاد يكون كاملا. (1) سورة طه، الآية: (5).
(2) أحمد الصباغ، التفسير السهل الميسّر، ص (312).
(3) سورة الفتح، الآية: (10).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 247

الفصل الثالث التفسير الموضوعي‌

اشارة

أولا: تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي.
ثانيا: الدراسات القرآنية عند عبد اللّه سراج الدين.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 249

أولا: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن لمؤلفه محمد الأمين بن المختار الجكني الشنقيطي الموريتاني المالكي الإفريقي 1320- 1393 ه.

موجز حياة المؤلف:

هو محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد، نوح بن محمد بن سيدي أحمد بن المختار من أولاد أولاد الطالب أوبك الجكنيين، و هذا من أولاد أولاد كرايز بن يعقوب بن جاكم الأبر جد القبيلة الكبير المشهورة المعروفة بالجكنيين و يعرفون بتجكانت.

نسب قبيلته:

يرجع نسب قبيلته إلي حمير، كما قال الشاعر الموريتاني محمد خال ولد العينين مستدلا بفصاحتهم علي عروبتهم:
إنّا بنو حسن دلت فصاحتنا أنّا إلي العرب الأقحاح ننتسب
إن لم تقم بينات أننا عرب ففي اللسان بيان أننا عرب
أنظر ما لنا من كلّ قافية لها تذمّ شذور الزبرج القشب «1»
ولادته:
ولد في شنقيط. و هي من الجزء الشرقي من موريتانية الواقعة شرق المحيط الأطلسي جنوب مراكش و الجزائر و شمال السنغال. (1) الأبيات من البحر البسيط.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 250
نشأته و طلب العلم:
موجز عن الحياة الاجتماعية في شنقيط (بلد المؤلف):
المواطنون في هذا البلد قسمان: عرب و عجم، و العربية لغة الجميع ...
و عمل أكثر العجم الزراعة و الصناعة و سلالتهم من الزنوج.
و أما العرب فقسمان: طلبة و غير الطلبة. و الطلبة من يغلب عليهم طلب العلم و التجارة، و غيرهم من يغلب عليهم التجارة و الإغارة، و هم قبائل عدة، و من القبائل من يغلب عليها الطلب، و منها من يغلب عليها الإغارة و القتال.
و قبيلة الشاعر (الجكنيين) هي القبيلة المتميزة التي جمعت بين طلب العلم و فروسية القتال، مع عفة عن أموال الناس.
في هذا المناخ كان طلب المؤلف للعلم علي نحو جدّي مستمر، و لم يكن حلّهم و ترحالهم ليؤثر علي طلب المؤلف العلم، و هذا باد في قول شاعرهم الشيخ العلامة المختار بن مؤنا:
و نحن ركب من الأشراف منتظم أجلّ ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذن ظهور العيس مدرسة بها نبيّن دين اللّه تبيانا .. «1» و كان الجكنيون من أصحاب الطباع الكريمة، و السجايا الحميدة، و قد توارثوا هذه السجايا كابرا عن كابر، و قد عرفوا بمحامد الأفعال في الكرم إذ كانوا إذا حل ضيف علي فقيرهم تباروا مرسلين ما عندهم من الأطعمة، حتي بدا الفقير كثير القري، مبذالا للطعام الوفير لضيفه.
يقول تلميذه عطية محمد سالم: «و في هذا الجو و تلك البيئة. نشأ رحمه اللّه كما سمعته يقول: «توفي والدي و أنا صغير، أقرأ في جزء عمّ، و ترك لي ثروة من الحيوان و المال، و كانت سكناي في بيت أخوالي و أمي ابنة عم أبي، و حفظت القرآن علي خالي عبد اللّه بن محمد المختار بن إبراهيم بن أحمد بن نوح جد الأب المتقدم.
لقد أتم المؤلف حفظ القرآن و هو ابن عشر سنوات في بيت أخواله. و تعلّم رسم المصحف العثماني ابن خالي سيدي محمد بن أحمد بن محمد المختار، و قرأت عليه التجويد .. و درس القرآن علي أكثر من قراءة. (1) الأبيات من البحر البسيط.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 251
و درس الفقه المالكي و الأدب العربي و السير و الغزوات.
أما الفقه المالكي فقد درسه علي يد الشيخ محمد بن صالح أولا، و علي اليد نفسها درس نصف ألفية ابن مالك .. ثم درس بقية العلوم و الفنون علي أشياخ عديدين أمثال:
الشيخ محمد بن صالح المشهور بابن أحمد الأحزم، و الشيخ العلامة أحمد الأحزم ابن محمد المختار، و الشيخ العلامة أحمد بن عمر و الفقيه محمد النعمة بن زيدان، و أحمد ابن مود و غيرهم من الأشياخ و العلماء.
قال رحمه اللّه: و قد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كل الفنون «النحو و الصرف و الأصول و البلاغة و بعض التفسير و الحديث ...» أما علوم المنطق و آداب البحث و المناظرة فقد حصلناه بالمطالعة.
قال تلميذ الشيخ عطية محمد سالم: «هذا ما أملاه علي رحمه اللّه و سجلته عنه» «1».
و لم يكتف الشيخ بما حصّله من أشياخه بل انكب منقرا و متعمقا في جل العلوم و الفنون «حتي غدا في كل منه كأنه متخصص بل و له في كل منه اجتهادات و مباحث مبتكرة» «2».
و قد قصّ الشيخ رحمه اللّه رحلته مع العلم ألخّصها باختصار:
«لما حفظت القرآن و أخذت الرسم العثماني تفوقت فيه علي الأقران، اشتدت عناية والدتي بي و كذلك أخوالي، فبذلوا جهودا حثيثة كي يدفعوني باتجاه العلم، فجهزتني والدتي بجملين مع خادم. حمل الجمل الأول بكتبي و الآخر عليه نفقتي و زادي» «3».
عرف الشيخ «محمد الأمين الشنقيطي بن محمد المختار» بجلده و تصبّره علي طلب العلم «جئت للشيخ في قراءتي عليه فشرح لي كما كان يشرح و لكنه لم يشف ما في نفسي علي ما تعوّدت، و لم يرو لي ظمئي. و قمت من عنده و أنا أجدني في حاجة إلي إزالة بعض اللبس، و إيضاح بعض المشاكل و كان الوقت ظهرا فأخذت الكتب و المراجع، فطالعت حتي العصر فلم أفرغ من حاجتي فعاودت حتي المغرب فلم أنته أيضا، فأوقد لي خادمي أعوادا (1) ينظر في مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، العدد (3)، السنة (6)، محرر (1394 ه- 1974 م) ص (28- 56). و انظر أيضا ترجمة المؤلف: بقلم تلميذه عطية محمد سالم المطبوعة مع محاضرة آيات الصفات التي ألقاها الشيخ محمد الأمين بالجامعة الإسلامية- المدينة المنورة في (13) رمضان (1382 ه- 1962 م).
(2) مقدمة أضواء البيان، (1/ 11)، ط (1)، دار إحياء التراث (1996).
(3) مقدمة أضواء البيان، ص (13).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 252
من الحطب أقرأ علي ضوئها كعادة الطلاب و واصلت المطالعة و أتناول الشاي الأخضر كلما مللت أو كسلت، و الخادم بجواري يوقد الضوء حتي انبثق الفجر و أنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام و إلي أن ارتفع النهار و قد فرغت من درسي و زال عني لبسي و وجدت هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح و الفهم» «1».

أعماله:

مارس «محمد الأمين» الفتيا و الدرس، و لكنه قد اشتهر بالقضاء، و بالفراسة، و كان موضع ثقة من قبل الشعب الموريتاني «2».

خروجه من بلاده:

خرج الشيخ المؤلف من وطنه قاصدا الديار الحجازية لأداء الفريضة بنية العودة، غير أن وصوله إلي تلك البلاد حفّزه علي البقاء، و قد أثّرت هذه الرحلة فيه من جوانب فكرية و فقهية و عقيدية، و يذكر تلميذه عطية محمد سالم ذلك تفصيلا: «لقد كان في بلاده كغيره يسمع الدعاية ضد هذه البلاد باسم «الوهابية» إلّا أن بعض الصّدف قد تغير من وجهات النظر «و إذا أراد اللّه أمرا هيأ له الأسباب» و من عجيب الصّدف أن ينزل الشيخ خلال أدائه فريضة الحج بجوار خيمة الأمير خالد السديري دون أن يعرف أحدهما الآخر، و كان الأمير خالد يبحث مع جلسائه بيتا في الأدب و هو ذواقة أديب و امتد الحديث إلي أن سألوا الشيخ لعله يشاركهم فوجدوا بحرا لا ساحل له» «3».
إن مثل هذه الوقائع تسهم في صياغة الإنسان صياغة أخري جديدة «عندئذ أوصاه الأمير إن هو قدم المدينة أن يلتقي بالشيخين عبد اللّه الزاحم و عبد العزيز بن صالح، و في المدينة التقي بهما رحمه اللّه ... و كان صريحا معهما فيما يسمع عن البلاد، و كانا حكيمين فيما يعرضان عليه ما عليه أهل هذه البلاد من مذهبهم في الفقه، و منهجهم في العقيدة، و كان أكثرهما مباحثة معه الشيخ عبد العزيز بن صالح، و أخيرا قدم للشيخ كتاب «المغني» كأصل للمذهب و بعض كتب شيخ الإسلام كمنهج للعقيدة، فقرأها الشيخ، و تعددت اللقاءات فوجد الشيخ مذهبا معلوما لإمام جليل من أئمة أهل السنة، و سلف الأئمة أحمد بن حنبل رحمه اللّه كما وجد منهجا سليما لعقيدة السلف تعتمد الكتاب و السنة» «4».
ثم درّس في المسجد النبوي و اطّلع علي مذهب مالك فيها و علي غيره من المذاهب، (1) مقدمة أضواء البيان، (1/ 13، 14).
(2) المصدر نفسه، (1/ 15).
(3) المصدر نفسه، (1/ 16).
(4) المصدر نفسه، (1/ 15، 16).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 253
و لما أراد أن يحسم الكثير من الخلافات المذهبية، وجد نفسه مضطرا إلي دراسته الحديث الشريف فتعمق فيه بالإضافة إلي دراسته العميقة للقرآن، فهذه الدراسات مع قوة حافظته أو عظيم ملكته علي الحفظ و الاستدلال و الفهم أورثه قوة في تحديد الصحيح، و دقة في الترجيح.

منهجه و دراسته العلمية:

كان من نهجه أن يستوفي أقوال العلماء، و يرجح ما يظهر له بمقتضي الدليل عقلا كان أو نقلا. أما في العقيدة: فقد بلورها منطقا و دليلا، ثم لخصها في محاضرة «الأسماء و الصفات» ثم وضحها إيضاحا شافيا في أخريات حياته في كتابي «آداب البحث» و «المناظرة دليلا و استدلالا و عرضا و إقناعا» و قد أثني علي أعماله العلمية في العقيدة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه اللّه لما سمع بيان الشيخ لعقيدة السلف في مسجد الشيخ رحمه اللّه، قال: جزي اللّه عنا الشيخ محمد الأمين خيرا علي بيانه هذا، فالجاهل عرف العقيدة، و العالم عرف الطريقة و الأسلوب» «1».

منهجه في أضواء البيان:

يوضح الشيخ «محمد أمين» سبب كتابته تأليفه لتفسير: «أضواء البيان» بقوله: «فإنه لمّا عرفنا إعراض أكثر المتسمّين باسم المسلمين اليوم عن كتاب ربهم و نبذهم له وراء ظهورهم، و عدم رغبتهم في وعده، و عدم خوفهم من وعيده، علمنا أن ذلك مما يعين من أعطاه اللّه علما بكتابه أن يجعل همته في خدمته من بيان معانيه و إظهار محاسنه، و إزالة الإشكال عمّا أشكل منه، و بيان أحكامه، و الدعوة إلي العمل به، و ترك كل ما يخالفه» «2».

و أمّا المقصود بتأليف أضواء البيان فأمران:

أحدهما: بيان القرآن بالقرآن: لإجماع العلماء علي أن أشرف أنواع التفسير، و أجلّها تفسير كتاب اللّه بكتاب اللّه، إذ لا أحد أعلم بمعني كلام اللّه جلّ و علا من اللّه جلّ و علا.

القراءة التي اعتمدها في بيان القرآن بالقرآن:

من المعلوم أن في قراءات القرآن من لا يرقي إلي درجة التواتر، فهناك القراءات الصحيحة، و الشّاذة، و المتواترة .. لذا فقد بيّن المؤلف نوع القراءة التي اعتمدها في تفسيره (1) مقدمة أضواء البيان، (1/ 16، 17).
(2) المصدر نفسه، (1/ 30).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 254
القرآن بالقرآن «و قد التزمنا أنّا لا نبيّن القرآن إلا بقراءة سبعية سواء كانت قراءة أخري في الآية المبيّنة نفسها، أو آية أخري غيرها، و لا نعتمد علي البيان بالقراءات الشاذة، أو ربما ذكرنا القراءة الشاذة استشهادا للبيان بقراءة سبعية، و قراءة أبي جعفر و يعقوب و خلف ليست من الشاذ عندنا و لا عند المحققين من أهل العلم بالقراءات».
الثاني: بيان الأحكام الفقهية في جميع الآيات المبيّنة بالفتح في هذا الكتاب، فإننا نبين ما فيها من الأحكام و أدلتها من السنة، و أقوال العلماء، و نرجح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل من غير تعصب لمذهب معين، و لا لقول قائل معين لأننا ننظر إلي ذات القول لا إلي قائله. لأن كل كلام فيه مقبول و مردود إلا كلامه صلي اللّه عليه و سلّم، و معلوم أن الحق حق و لو كان قائله حقيرا. قال الشاعر:
لا تحقرن الرأي و هو موافق حكم الصواب إذا أتي من ناقص
فالدّر و هو أعزّ شي‌ء يقتني ما حط قيمته هوان الغائص

مسائل أخري حواها «أضواء البيان»:

لقد احتوي الكتاب أمورا زائدة غير بيان القرآن، فقد حوي أحكام الفقه و تحقيق بعض المسائل اللغوية، و ما يحتاج إليه من صرف و إعراب، و استشهاد بشعر العرب، و تحقيق ما يحتاج إليه فيه من المسائل الأصولية و الكلام علي أسانيد الأحاديث ... كما ستراه إن شاء اللّه تعالي «1».
و لما كان البحث في بيان القرآن بالقرآن «فنري من الفائدة تقديم ملخص إجمالي علي ما تضمنه هذا الكتاب المبارك: من أنواع «بيان القرآن بالقرآن».
بيان الإجمالي الواقع بسبب الاشتراك، سواء كان الاشتراك في اسم أو حرف و مثال الإجمال بسبب الاشتراك في اسم قوله تعالي: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «2». لأن القروء مشترك بين الطهر و الحيض، و قد أشار تعالي إلي أن المراد بأقراء العدة الأطهار بقوله تعالي: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «3» فاللام للتوقيت، و وقت الطلاق المأمور به فيه في الآية الطهر لا الحيض، و تدل له قرينة زيادة التاء في قوله ثَلاثَةَ قُرُوءٍ لدلالتها علي تذكير المعدود و هو الأطهار فلو أراد الحيضات لقال: ثلاث قروء بلا هاء لأن العرب تقول: ثلاثة أطهار، و ثلاث حيضات «4». (1) مقدمة المؤلف لأضواء البيان، (1/ 30، 31).
(2) سورة البقرة، الآية: (228).
(3) سورة الطلاق، الآية: (1).
(4) محمد أمين الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، (1/ 31).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 255
أما أمثلة الاشتراك في اسم قوله تعالي: وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ «1»، فإن العتيق يطلق بالاشتراك علي القديم و علي المعتق من الجبابرة، و علي الكريم، و كلها قيل به في الآية. و تصريح اللّه بأنه أقدم البيوت التي وضعت للناس في قوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً «2» يدل للأول» «3».
و مثال الإجمال بسبب الاشتراك في فعل قوله تعالي: وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) «4». فإنه مشترك بين إقبال الليل و إدباره، و قد جاءت آية تؤيّد أن معناه في الآية «أدبر» و هي قوله تعالي: وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) «5» فكون «عسعس» في الآية بمعني أدبر يطابق معني آية المدثر. هذه كما تري، و لكن الغالب في القرآن أنه تعالي يقسم بالليل و ظلامه إذا أقبل، و بالفجر و ضيائه إذا أشرق كقوله: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشي (1) وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّي (2) «6».
و من أمثلة الاشتراك في فعل قوله تعالي: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «7». فإنه مشترك بين قولهم عدل به غيره، إذا سوّاه به، و منه قول جرير: [الوافر]
أ ثعلبة الفوارس أم رياحا عدلت به طهيّة و الخشابا
أي سويتهم به، و بين قولهم عدل بمعني صدّ و مال. و يدلّ للأول قوله تعالي: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) «8».
أما الإجمال بسبب الاشتراك في حرف قوله تعالي: خَتَمَ اللَّهُ عَلي قُلُوبِهِمْ وَ عَلي سَمْعِهِمْ وَ عَلي أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «9».
فإن الواو في قوله «وَ عَلي سَمْعِهِمْ» و قوله: «وَ عَلي أَبْصارِهِمْ» محتملة للعطف علي ما قبلها و للاستئناف، و لكنه تعالي بيّن في سورة الجاثية أن قوله هنا: و علي «سمعهم» معطوف و علي «قلوبهم» و أن قوله «و علي أبصارهم غشاوة» جملة مستأنفة مبتدأ و خبر، فيكون الختم علي القلوب و الأسماع و الغشاوة علي خصوص الأبصار، و الآية التي بيّن بها ذلك هي قوله (1) سورة الحج، الآية: (29).
(2) سورة آل عمران، الآية: (96).
(3) محمد أمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 31).
(4) سورة التكوير، الآية: (17).
(5) سورة المدثر، الآيتان: (33، 34).
(6) سورة الليل، الآيتان: (1، 2).
(7) سورة الأنعام، الآية: (1).
(8) سورة الشعراء، الآيتان: (97، 98). و انظر أضواء البيان، (1/ 31، 32).
(9) سورة البقرة، الآية: (7).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 256
تعالي: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلي عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلي سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلي بَصَرِهِ غِشاوَةً «1».
و من أمثلة الاشتراك في حرف قوله تعالي: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ «2». فإن لفظة «من» مشتركة بين التبعيض، و ابتداء الغاية، و قد قال الشافعي و أحمد رحمهما اللّه:
هي في هذه الآية الكريمة: للتبعيض فاشترط صعيدا له غبار يعلق باليد، و قال مالك و أبو حنيفة رحمهما اللّه: هي لابتداء الغاية فلم يشترطا ما له غبار بل أجازا التيمم علي الرمل و الحجارة و قولهما أنسب لأن قوله تعالي بعده: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ «3» نكرة في سياق النفي زيدت قبلها لفظة «من» لتوكيد العموم، و النكرة إذا كانت كذلك فهي نص صريح في شمول النفي لجميع أفراد الجنس، و التكليف بخصوص ما له غبار لا يخلو من حرج لأن كثيرا من بلاد اللّه لا يوجد فيها إلا الجبال أو الرمال» «4».

من أنواع البيان في القرآن كما بيّنه صاحب أضواء البيان:

1- بيان الإجمال الواقع بسبب إبهام في اسم جنس جمعا: ورد في قوله تعالي:
فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «5».
فقد أبهمها هنا، و ذكرها في قوله تعالي في سورة الأعرف: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) «6».
2- و من أمثلة البيان في اسم جنس مفرد قوله تعالي: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْني عَلي بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا «7». فقد أبهمها هنا و بيّنها بقوله: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) «8».
3- و من أمثلة الإجمال بسبب الإبهام في اسم جمع قوله تعالي في سورة الدخان: (1) سورة الجاثية، الآية: (23).
(2) سورة المائدة، الآية: (6).
(3) سورة المائدة، الآية: (6).
(4) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 32).
(5) سورة البقرة، الآية: (37).
(6) سورة الأعراف، الآية: (23).
(7) سورة الأعراف، الآية: (137).
(8) سورة القصص، الآيتان: (5، 6). و انظر أضواء البيان، (1/ 32).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 257
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) «1». فالقوم اسم جمع و قد أبهمه هنا؛ و كذلك قوله في الأعراف:
وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ «2». فإنه أبهم فيه القوم أيضا، و لكنه بيّن في سورة الشعراء أن المراد بأولئك القوم بنو إسرائيل» «3» لقوله في القصة بعينها:
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) «4».
و مثله قوله تعالي: وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) «5» و أشار إلي أنها سبأ في قوله تعالي عن الهدهد: فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ «6» و في الأضواء شواهد كثيرة ..» «7».
4- و من أمثلة الإجمال بسبب الإبهام في صلة الموصول قوله تعالي: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلي عَلَيْكُمْ «8». فقد أبهم هذا المتلو عليهم الذي صلة الموصول و لكنّه بيّنه بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) «9».
5- و من أمثلة الإبهام بمعني حرف قوله تعالي: وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ «10». فإن لفظه «من» فيه للتبعيض، و لكن هذا البعض المدلول عليه بحرف التبعيض المأمور بإنفاقه مبهم هنا، و قد بيّنه تعالي بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «11». «و العفو: الزائد علي الحاجة الضرورية» «12». (1) سورة الدخان، الآيات: (25- 28).
(2) سورة الأعراف، الآية: (137).
(3) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 33).
(4) سورة الشعراء، الآيات: (57- 59).
(5) سورة النمل، الآية: (43).
(6) سورة النمل، الآيتان: (22، 23).
(7) أضواء البيان، (1/ 33).
(8) سورة المائدة، الآية: (1).
(9) سورة المائدة، الآية: (3). و انظر أضواء البيان، (1/ 33).
(10) سورة البقرة، الآية: (254).
(11) سورة البقرة، الآية: (219).
(12) أضواء البيان، (1/ 33).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 258
6- و من أنواع البيان في هذا الكتاب الكريم بيان الإجمال الواقع بسبب احتمال في مفسر الضمير و هو كثير و من أمثلته قوله تعالي في سورة العاديات وَ إِنَّهُ عَلي ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) «1». فإنّ الضمير [في «إنّه»] يحتمل أن يكون عائدا علي الإنسان، و أن يكون عائدا علي رب الإنسان المذكور في قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) «2». فإنه للإنسان بلا نزاع، و تفريق الضمائر بجعل الأول للرب و الثاني للإنسان لا يليق بالنظم الكريم» «3».
7- و من أنواع البيان في القرآن الكريم علي ما يذكره الشنقيطي في الأضواء «أن يذكر شي‌ء» في موضع ثم يقع سؤال عنه و جواب في موضع آخر كقوله تعالي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) «4». فإنه لم يبين هنا ما المراد بالعالمين؟ و لكنه وقع سؤال عنهم و جواب في موضع آخر و هو قوله تعالي: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا «5». و سؤال فرعون- لعنه اللّه- و إن كان في الأصل عن الرب جلّ و علا فقد دخل فيه الجواب عن المراد بالعالمين كما تري» «6».
8- و بيّن الشنقيطي نوعا من البيان القرآني و هو أن يكون الظاهر المتبادر من الآية بحسب الوضع اللغوي غير مراد بدليل قرآني آخر علي أن المراد غيره مثل قوله تعالي:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ «7».
فظاهر الآية: «أن الطلاق كله محصور في المرتين»، و لكنه تعالي بيّن أن المراد بالمحصور بالمرتين خصوص الطلاق الذي تملك بعد الرجعة بقوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «8». و من النصوص القرآنية التي لم يرد ظاهرها قوله تعالي:
وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ «9» فإن المتبادر من مفهوم الغاية أنه إذا بلغ أشدّه فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن، و لكنه تعالي بيّن أن المراد بالغاية أنه إن بلغها يدفع إليه ماله إن أونس منه الرشد و ذلك في قوله تعالي: حَتَّي إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «10». (1) سورة العاديات، الآية: (7).
(2) سورة العاديات، الآية: (6).
(3) أضواء البيان، (1/ 34).
(4) سورة الفاتحة، الآية: (2).
(5) سورة الشعراء، الآيتان: (23، 24).
(6) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 34).
(7) سورة البقرة، الآية: (229).
(8) سورة البقرة، الآية: (230).
(9) سورة الأنعام، الآية: (152).
(10) سورة النساء، الآية: (6). و انظر أضواء البيان، (1/ 34).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 259
9- و من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك: «أن يقول بعض العلماء في الآية قولا و يكون في نفس الآية قرينة تدل علي بطلان ذلك القول، و مثاله قول أبي حنيفة رحمه اللّه أن المسلم يقتل بالكافر الذمي مثلا قائلا أن ذلك يفيده عموم النفس بالنفس في قوله: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ «1». فإن قوله تعالي في آخر الآية فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ «2». قرينة علي عدم دخول الكافر لأن صدقته لا تكفر عنه شيئا، إذ لا تنفع الأعمال الصالحة مع الكفر» «3».
10- و من أنواع البيان في القرآن «أن يذكر وقوع شي‌ء في القرآن ثم يذكر في محل آخر كيفية وقوعه كقوله تعالي: وَ إِذْ واعَدْنا مُوسي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ «4».
فإنه لم يبين هنا كيفية الوعد بها هل كانت مجتمعة أو مفرقة؟ و لكنه بينها في الأعراف بقوله: وَ واعَدْنا مُوسي ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً «5».
11- و من أنواع البيان الواردة في الكتاب المبارك: «أن يقع طلبا لأمر، و يبين في موضع آخر المقصود من ذلك الأمر المطلوب، و مثاله قوله تعالي: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ .. «6». فإنه بين في الفرقان أن مرادهم بالملك المقترح إنزاله أن يكون نذيرا آخر معه صلي اللّه عليه و سلّم «7» و ذلك في قوله تعالي: وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) «8».
12- و من صور البيان في القرآن: «أن يذكر أمر في موضع ثم يذكر في موضع آخر شي‌ء يتعلق بذلك الأمر «9» كأن يذكر له سبب أو مفعول أو ظرف مكان أو ظرف زمان أو متعلق، فمثال ذكر سببه في قوله تعالي: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «10» فإنه لم يبين هنا سبب قسوة قلوبهم و لكنه بينه بقوله تعالي: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ (1) سورة المائدة، الآية: (45).
(2) سورة المائدة، الآية: (45).
(3) أضواء البيان، (1/ 34). و أما موضوع قتل المسلم بالكافر الذمي فهي مسألة خلافية تراجع في أمهات كتب الفقه. و سيتم التطرق إليها في ثنايا الحديث حول هذا التفسير إن شاء اللّه.
(4) سورة البقرة، الآية: (51).
(5) سورة الأعراف، الآية: (142).
(6) سورة الأنعام، الآية: (8).
(7) أضواء البيان، (1/ 35).
(8) سورة الفرقان، الآية: (7).
(9) أضواء البيان، (1/ 35).
(10) سورة البقرة، الآية: (74).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 260
لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً «1» و قوله تعالي: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) «2».
و من أمثلة ذكر السبب قوله تعالي: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ «3» فإنه أشار هنا بآية لسبب اسودادها بقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) «4». و بين ذلك في مواضع أخري كقوله تعالي:
وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَي اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «5».
و من أمثلة ذكر المفعول الواحد قوله تعالي: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشي (26) «6». فإن لم يذكر هنا مفعول يخشي و لكنه أشار إليه في هود و الذاريات و إيضاحه أن الإشارة في قوله هنا إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشي (26) راجعة إلي ما أصاب فرعون من النكال و العذاب المذكور في قوله: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولي (25) «7».
و مثاله في أحد المفعولين قوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ «8». و نحوها من جميع آيات اتخاذهم العجل إلها فإن المفعول الثاني محذوف في جميعها، و تقديره: اتخذتم العجل إلها، و نكتة حذفه دائما التنبيه علي أنه لا ينبغي أن يتلفظ بأن عجلا مصطنعا إله و قد أشار إلي هذا المفعول في سورة طه «9» بقوله: فَكَذلِكَ أَلْقَي السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسي فَنَسِيَ (88) «10» .. و مثال ذكر ظرف المكان الوارد في القرآن قوله تعالي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) «11» ثم بيّن في سورة الروم أنّ السموات و الأرض من الظروف المكانية لحمده جلّ و علا، و ذلك في قوله تعالي: وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «12» و مثال ذكر ظرف الزمان في سورة القصص «13» لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولي وَ الْآخِرَةِ «14». (1) سورة المائدة، الآية: (13).
(2) سورة الحديد، الآية: (16).
(3) سورة آل عمران، الآية: (106).
(4) سورة آل عمران، الآية: (106).
(5) سورة الزمر، الآية: (60).
(6) سورة النازعات، الآية: (26).
(7) سورة النازعات، الآية: (25).
(8) سورة البقرة، الآية: (51).
(9) أضواء البيان، (1/ 36).
(10) سورة طه، الآيتان: (87، 88).
(11) سورة الفاتحة، الآية: (2).
(12) سورة الروم، الآية: (18).
(13) أضواء البيان، (1/ 36).
(14) سورة القصص، الآية: (70).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 261
13- و من أنواع البيان المذكورة في كتاب اللّه العظيم الاستدلال علي أحد المعاني الداخلة في معني الآية بكونه هو الغالب في القرآن، فغلبته فيه دليل علي عدم خروجه من معني الآية.
مثال: قوله تعالي: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي قال بعض العلماء في تفسير الغلبة «الحجة و البيان» «1». «و الغالب في القرآن هو استعمال الغلبة في الغلبة بالسيف و السنان «2» لأن القرآن خير ما يبيّن» «3». و قد قال سبحانه و تعالي: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ «4». و هناك آيات كثيرة تؤكد أن الغلبة في القرآن عموما هي غلبة السيف كما قال محمد الأمين الشنقيطي.
مثال آخر: آيات الصفات:
ثم يري الشنقيطي أن جميع الآيات المتحدثة عن صفاته سبحانه في القرآن علي نحو آيات الاستواء، و اليد و الوجه، و نحو ذلك من جميع الصفات «فهو موصوف به حقيقة لا مجازا مع تنزيهه جلّ و علا عن مشابهة صفات الحوادث» «5». و ذلك البيان العظيم لجميع الصفات في قوله جلّ و علا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «6». فنفي عنه مماثلة الحوادث بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ «و أثبت الصفات له علي الحقيقة» بقوله: وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «7».
14- و من أنواع البيان المذكورة في الكتاب الكريم «تفسير اللفظ بلفظ أشهر منه و أوضح عند السامع كقوله في حجارة لوط: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «8». فقد بين اللّه تعالي في القصة عينها المراد بالسجيل: الطين قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلي قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) «9».
15- و من أنواع البيان المذكورة في الكتاب الكريم أن يرد لفظ محتمل لأن يراد به الذّكر و أن تراد به الأنثي فيبين المراد منهما، و مثاله قوله تعالي «10»: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «11». (1) سورة المجادلة، الآية: (21).
(2) أضواء البيان، (1/ 37).
(3) سورة آل عمران، الآية: (12).
(4) أضواء البيان، (1/ 37).
(5) سورة الشوري، الآية: (11).
(6) و انظر أضواء البيان، (2/ 37).
(7) سورة الشوري، الآية: (11).
(8) سورة الحجر، الآية: (4).
(9) سورة الذاريات، الآيتان: (32، 33).
(10) الشنقيطي، أضواء البيان (1/ 40).
(11) سورة البقرة، الآية: (72).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 262
يريد محمد الأمين الشنقيطي أن النفس محتملة تطلق علي الذكر و الأنثي، غير أن القرآن قد بيّن أن المقصود بالنفس الذّكر و ذلك بتذكير الضمير العائد إليها في قوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها «1».
16- و من أنواع البيان المذكورة فيه أن يكون اللّه خلق شيئا لحكم متعددة فيذكر بعضها في موضع، فإنا نبين البقية المذكورة في المواضع الأخر، و مثاله قوله تعالي: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها «2» فإن من حكم خلق النجوم تزيين السماء الدنيا و رجم الشياطين أيضا كما بيّنه تعالي بقوله: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «3». و قوله: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) «4».
17- و من أنواع البيان المذكورة في الكتاب المبارك «أن يذكر أن شيئا سيقع ثم يبين وقوعه بالفعل كقوله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا «5» و صرح في مكان آخر بأنهم قالوا ذلك بالفعل بقوله: وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَي الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) «6».
18- و من أنواع البيان المذكورة في كتاب اللّه الكريم «أن يحيل تعالي علي شي‌ء ذكر في آية أخري فإنا نبين الآية المحال عليها كقوله في النساء: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ «7». و الآية المحال عليها هي قوله تعالي: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّي يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «8».
19- و من أهم أنواع البيان المذكورة فيه أن يشير اللّه تعالي في الآية من غير تصريح إلي برهان يكثر الاستدلال به في القرآن العظيم علي شي‌ء فإنّا نبين ذلك، و مثاله قوله تعالي: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ «9». (1) سورة البقرة، الآية: (73). و انظر أضواء البيان، (1/ 40).
(2) سورة الأنعام، الآية: (97).
(3) سورة الملك، الآية: (5).
(4) سورة الصافات، الآيتان: (6، 7).
(5) سورة الأنعام، الآية: (148).
(6) سورة النحل، الآية: (35). و انظر أضواء البيان، (1/ 40).
(7) سورة النساء، الآية: (140).
(8) سورة الأنعام، الآية: (68). و انظر أضواء البيان، (1/ 40).
(9) سورة البقرة، الآيتان: (21، 22).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 263
فقد أشار سبحانه و تعالي في هذه الآية الكريمة إلي ثلاثة براهين من براهين البعث يكثر الاستدلال علي البعث بكل واحد منها في القرآن» «1».
الأول: خلق الخلائق ... فإنه من أعظم الأدلة علي القدرة علي الخلق مرة أخري، و قد أشار تعالي إلي هذا البرهان هنا بقوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ «2» و أوضحه في آيات كثيرة كقوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «3». وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «4» ..».
الثاني: خلق السموات و الأرض. لأن من خلق ما هو أكبر و أعظم فهو قادر علي خلق ما هو أصغر بلا شك، و أشار لذلك هنا بقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً «5» ..
و أوضحه في آيات كثيرة كقوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «6».
الثالث: إحياء الأرض بعد موتها و قد أشار له هنا بقوله تعالي: وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ «7» و أوضحه في آيات كثيرة منها: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتي «8» ...
20- و من أنواع البيان المذكورة فيه أن يذكر لفظ عام، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه كقوله: ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ «9». فقد صرح بدخول البدن في هذا العموم بقوله بعده: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «10» ...
21- و قد بيّن محمد الأمين مؤلف أضواء البيان أنه إن كان للآية الكريمة مبيّن من القرآن غير واف بالمقصود من تمام البيان فإنّا نتمم البيان من السّنّة من حيث إنها تفسير للمبيّن باسم الفاعل، و مثاله قوله تعالي: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «11». فقد أشار تعالي إلي أوقاتها «12» في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ (1) أضواء البيان، (1/ 41).
(2) سورة البقرة، الآية: (21).
(3) سورة يس، الآية: (79).
(4) سورة الروم، الآية: (27). و انظر أضواء البيان، (1/ 41).
(5) سورة البقرة، الآية: (22).
(6) سورة غافر، الآية: (57).
(7) سورة البقرة، الآية: (22).
(8) سورة فصلت، الآية: (39). و انظر أضواء البيان، (1/ 41).
(9) سورة الحج، الآية: (32).
(10) سورة الحج، الآية: (36). و انظر أضواء البيان، (1/ 41).
(11) سورة النساء، الآية: (103).
(12) أضواء البيان، (1/ 41).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 264
اللَّيْلِ «1». و قوله: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ «2».
ثم يبين المؤلف أن ما ذكره من أنواع البيانات في الكتاب الكريم «تعددها في القرآن بكثرة، و منها ما يتعدد بغير كثرة، و ربما ذكرنا فردا من أفراد البيان لا نظير له كإشارته تعالي إلي أقل أمد الحمل بقوله: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «3».

أقسام البيان بالنسبة إلي المنطوق و المفهوم:

يري المؤلف أن أقسام البيان بالنسبة إلي المنطوق و المفهوم أربعة: و دليل ذلك «لأن كلا من المبين باسم المفعول و اسم الفاعل قد يكون منطوقا، و قد يكون مفهوما، فالمجموع أربعة من ضرب حالتي المنطوق في حالتي المفهوم «4»:
الأول: بيان منطوق بمنطوق كبيان قوله تعالي: إِلَّا ما يُتْلي عَلَيْكُمْ «5». بقوله:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «6».
الثاني: بيان مفهوم بمنطوق كبيان مفهوم قوله: هُديً لِلْمُتَّقِينَ «7» بمنطوق قوله تعالي: وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًي «8».
الثالثة: بيان منطوق بمفهوم كبيان قوله تعالي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ «9» بمفهوم آية الأنعام فإن تحريم الدم مطلقا منطوق هنا، و قوله تعالي: دَماً مَسْفُوحاً «10» فإن هذا «يدل بمفهوم مخالفته علي أن غير المسفوح ليس كذلك فيبين هذا المفهوم أن المراد بالدم في الآية الأولي غير المسفوح، و من أمثلته بيان قوله: وَ الزَّانِي «11» بمفهوم الموافقة في قوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَي الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «12» «فإنه يفهم من مفهوم موافقته أن (1) سورة الإسراء، الآية: (78).
(2) سورة هود، الآية: (114).
(3) سورة الأحقاف، الآية: (15).
(4) أضواء البيان، (1/ 42).
(5) سورة المائدة، الآية: (1).
(6) سورة المائدة، الآية: (3).
(7) سورة البقرة، الآية: (2).
(8) سورة فصلت، الآية: (44). و انظر أضواء البيان، (1/ 42).
(9) سورة المائدة، الآية: (3).
(10) سورة الأنعام، الآية: (145).
(11) سورة النور، الآية: (2).
(12) سورة النساء، الآية: (25).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 265
العبد الذكر كالأمة في ذلك يجلد خمسين فيبين هذا المفهوم أنّ المراد بالزاني خصوص الحر» «1».
ثم يكشف الشنقيطي أن خلافا اصطلاحيا واقعا بين العلماء «و اعلم أن مثل هذا من مفهوم الموافقة يسميه الشافعي و بعض الأصوليين قياسا، و هو المعروف عندهم بالقياس في معني الأصل، و يسمي مفهوم الموافقة، و إلغاء الفارق، و تنقيح المناط و أكثر أهل الأصول علي أنه مفهوم و ليس بقياس» «2».
الرابعة: بيان مفهوم بمفهوم، القول أن المراد بالمحصنات: الحرائر كما روي عن مجاهد فإنه يدل بمفهومه علي أن الأمة الكتابية لا يجوز نكاحها، و يدل لهذا أيضا مفهوم قوله تعالي: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ «3» فمفهوم قوله المؤمنات يدل علي منع تزويج الإماء الكافرات و لو عند الضرورة» «4».
لقد رأينا مما سبق العرض الإجمالي لأنواع بيان القرآن بالقرآن علي نحو ما رآه الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار «الشنقيطي» و جعلتنا هذه التوطئة نعيش الجو العام «لأضواء البيان»، و أري أن من المناسب أن نلخص المقدمة التي أثبتها الشيخ الشنقيطي قبل بدئه تفسير سورة البقرة، تلك المقدمة التي سماها «مقدمة في تعريف الإجمال و البيان في اصطلاح أهل الأصول [يقصد علماء أصول الفقه .
المجمل في اللغة: المجموع، و جملة الشي‌ء مجموعه .. و في الاصطلاح: المجمل:
ما احتمل معنيين أو أكثر من غير ترجيح لواحد منهما.
* المبهم: أعم من المجمل فكل مجمل مبهم، و ليس كل مبهم مجمل. فقولك:
«تصدق بهذا الدرهم علي رجل» فيه إيهام و ليس فيه إجمال، لأن معناه لا إشكال فيه لأن كل رجل تصدق عليه حصل به المقصود.
و يدلل الشنقيطي علي صحة تحديده لمعني المجمل بقوله: «أن اللفظ لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يدل علي معني واحد لا يحتمل غيره فهم النّص نحو تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «5».
و إمّا أن يحتمل غيره، و هذا له حالتان: (1) أضواء البيان (1/ 42).
(2) المصدر نفسه، (1/ 42).
(3) سورة النساء، الآية: (25).
(4) أضواء البيان، (1/ 43).
(5) سورة البقرة، الآية: (196).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 266
الأولي: أن يكون أحد المحتملين أظهر، و الثانية: أن يتساويا بأن لا يكون أحدهما أظهر من الآخر، فإن كان أحد المعنيين أظهر فهو الظاهر، و مقابله محتمل ... و إن استويا فهو المجمل.
أما النص فلا يجوز العدول عنه إلا بنسخ ... لأن النّص قاطع في دلالته.
* و الظاهر: يلتزم به، إنما يعدل عنه إذا دلّ دليل علي أن المراد منه خلاف الظاهر المتبادر منه إلي المحتمل المرجوح .. و صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلي المحتمل المرجوح هو المعروف في اصطلاح أهل الأصول بالتأويل ...
و النصوص قد تكون واضحة الدلالة من جهة، و لكنها مجملة محتملة من جهة ثانية مثل: وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ «1» فإتيان الحق واضح في دلالة النص، لكنه مجمل في المقدار الذي يجب فيه إتيان الحق لاحتماله النصف أو أقل أو أكثر.
* أما البيان: فهو الإيضاح. و علماء الأصول في أغلبيتهم لا يطلقون البيان إلا علي إظهار ما كان خافيا.
و أجاز العلماء المحققون بيان المتواتر من كتاب أو سنة بأخبار الآحاد، و يجوز بيان المنطوق بالمفهوم بخلاف أكثر المالكية.
و قد نقل الشنقيطي خلاف علماء أصول الفقه حول: هل البيان بالقول أقوي أو بيان الفعل. لكن الشنقيطي اعتمد كلام الشاطبي: «و هو أن كل واحد منهما أقوي من صاحبه من جهة، فالفعل يبلغ من بيان الكيفيات المعينة المخصوصة ما لا يبلغه القول، و القول يبلغ من بيان الخصوص و العموم في الأحوال و الأشخاص ما لا يبلغه الفعل» «2».
و هناك مسائل أخري في هذه المقدمة حول البيان لم ألخصها خشية الإطالة. عدا عن كوننا أثبتنا الشي‌ء الأساس اللازم في فهم منهج المؤلف رحمه اللّه.

المسائل الفقهية في تفسير «أضواء البيان»:

لقد بدا الشيخ الشنقيطي صاحب نظر، و توفيق بين النصوص القرآنية و الحديثة، إلي جانب دراسته لأقوال العلماء الآخرين المنصبة علي هذه النصوص الشريفة- فقد تحدث المؤلف عن المقصود بالإنفاق في قوله تعالي: (1) سورة الأنعام، الآية: (141).
(2) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 43، 44).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 267
وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «1».
قال: عبّر في هذه الآية الكريمة ب «من التبعيضية الدالة علي أنه ينفق لوجه اللّه بعض ماله لا كله، و لم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه و الذي ينبغي إمساكه [و هذا هو المجمل . و لكنه بيّن في مواضع أخر أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد علي الحاجة و سد الخلة التي لا بد منها، و ذلك كقوله:
وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «2». و المراد بالعفو الزائد علي قدر الحاجة التي لا بد منها علي أصح التفاسير و هو مذهب الجمهور» «3».
و منه قوله تعالي: حَتَّي عَفَوْا «4». أي كثروا و كثرت أموالهم و أولادهم. و يري المؤلف أن الإنفاق يجب أن يقترن بالاعتدال، و بالصواب، قال تعالي: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلي عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «5». فيتعين الوسط بين الأمرين كما بيّنه بقوله تعالي:
وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «6» و يجب علي المنفق أن يفرق بين الجود و التبذير، و بين البخل و الاقتصاد ... فالمنع محل الإعطاء مذموم وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلي عُنُقِكَ «7». و الإعطاء في محل المنع مذموم أيضا و قد نهي اللّه عنه نبيه صلي اللّه عليه و سلّم وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ.
هنا يحاول الشنقيطي إزالة اللبس أو الإشكال الذي قد يقوم في بعض الأذهان كأن يقولوا: «هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد علي الحاجة الضرورية، علي أن اللّه تعالي أثني علي قوم بالإنفاق و هم في حاجة إلي ما أنفقوا و ذلك في قوله: وَ يُؤْثِرُونَ عَلي أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «8».
أجاب المؤلف علي هذه الإشكالية:
«من أن لكل مقام مقالا ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعا و ذلك إذا كانت علي المنفق نفقات واجبة كنفقة الزوجات و نحوها، فتبرع بالإنفاق في غير واجب، و ترك (1) سورة البقرة، الآية: (3).
(2) سورة البقرة، الآية: (219).
(3) محمد الأمين الشنقيطي، (1/ 51).
(4) سورة الأعراف، الآية: (95).
(5) سورة الإسراء، الآية: (29).
(6) سورة الفرقان، الآية: (67).
(7) سورة الإسراء، الآية: (29).
(8) سورة الحشر، الآية: (9).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 268
الفرض لقوله صلي اللّه عليه و سلّم: «و ابدأ بمن تعول» «1». و كأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله و يرجع إلي الناس يسألهم ما له فلا يجوز له ذلك، و الإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة و كان واثقا من نفسه بالصبر و التعفف و عدم السؤال» «2» و لكي يتضح نهج صاحب أضواء البيان في معالجته للمسائل الفقهية يمكن عرض فهمه للحكم الشرعي في أكل الميتة و ما يتعلق بها من أحكام المضطر و المكره:
قال تعالي: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «3».
نلاحظ إشارة المؤلف إلي اللفظ العام الوارد في النص و كأن اللفظ يحتاج إلي تفسير.
يقول الشنقيطي: «لم يبين هنا سبب اضطراره، و لم يبين المراد بالباغي و العادي» «4» لذا فإن المؤلف يستقصي الآيات الواردة في الموضوع فيقول: «و لكنه أشار في موضوع آخر إلي سبب الاضطرار المذكور: المخمصة و هي الجوع، و هو قوله تعالي: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ «5» و أشار إلي أن المراد بالباغي و العادي المتجانف للإثم، و ذلك في قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ «6». و المتجانف: المائل، و منه قول الأعشي:
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي و ما قصدت من أهلها لسوائكا «7»
فيفهم من الآية أن الباغي و العادي كلاهما متجانف لإثم و هذا ما يفهم منها، و قال بعض العلماء: الإثم الذي تجانف إليه الباغي هو الخروج علي إمام المسلمين، و كثيرا ما يطلق اسم البغي علي مخالفة الإمام، و الإثم الذي تجانف إليه العادي هو إضافة الطريق، و قطعها علي المسلمين و يلحق بذلك كل سفر في معصية اللّه.
و قال بعض العلماء: إثم الباغي و العادي أكلهما المحرم مع وجود غيره و عليه فهو كالتأكيد لقوله فَمَنِ اضْطُرَّ. و علي القول الأول: لا يجوز لقاطع الطريق و الخارج علي الإمام الأكل من الميتة و إن خافا الهلاك ما لم يتوبا، و علي الثاني يجوز لهما أكل الميتة إن خافا الهلاك و إن لم يتوبا» «8». (1) أخرجه مسلم في (الحديث: 2383)، و أخرجه النسائي في (الحديث: 2542).
(2) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 51، 52).
(3) سورة البقرة، الآية: (173).
(4) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 85).
(5) سورة المائدة، الآية: (3).
(6) سورة المائدة، الآية: (3).
(7) البيت من البحر الطويل.
(8) محمد الأمين، أضواء البيان، (1/ 85).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 269
و يستفيد صاحب أضواء البيان من آراء السابقين التي تساعد علي فهم النص و تضي‌ء المعني أمام الدارسين، فقد نقل عن القرطبي عن قتادة و الحسن و الربيع و ابن زيد و عكرمة أن المعني «غَيْرَ باغٍ» أي في أكله فوق حاجته «وَ لا عادٍ»: بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة و يأكلها» «1».
و يستعين الشنقيطي في توضيح المقصود بنقل عن القرطبي ينقله عن السدي:
(غَيْرَ باغٍ): في أكلها شهوة و تلذذا، و لا عاد: باستيفاء الأكل حدّ الشّبع» «2».
غير أن الشنقيطي المالكي يستعين كثيرا بالقرطبي المالكي في استقصاء الواردة في هذا النص: فينقل عن مجاهد و ابن جبير و غيرهما: المعني: (غير باغ) علي المسلمين، و لا عاد عليهم، فيدخل في الباغي و العادي قطاع الطريق و الخارج علي السلطان و المسافر في قطع الرحم و الغارة علي المسلمين و ما شاكله ..» «3».
قال القرطبي بعدئذ مباشرة: «و هذا صحيح فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد؛ يقال: بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت! قال اللّه تعالي: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَي الْبِغاءِ «4».
و يلاحظ أن مؤلف أضواء البيان تبني فهم القرطبي كونه نقله دون تعليق و خاصة الرأي الثاني.
و يمكن الجمع بين الآراء لأنها غير متعارضة إنما متكاملة، و النص يسمح بذلك:
ف «غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ» تفيد عدم أكله فوق حاجته من غير شهوة و لا تلذذ، دونما شبع، غير مرتكب للمعاصي ساعة أكله لما حرّم اللّه في الحالة العادية.

مسائل تتعلق بالاضطرار إلي أكل الميتة:

قال صاحب أضواء البيان:
المسألة الأولي: أجمع العلماء علي أن المضطر له أن يأكل من الميتة ما يسد رمقه، و يمسك حياته و أجمعوا أيضا علي أنه يحرم ما زاد علي الشبع، و اختلفوا في نفس الشّبع هل له أن يشبع من الميتة أو ليس له مجاوزة ما يسد الرمق، و يأمن معه الموت.
فذهب مالك- رحمه اللّه- إلي أن له أن يشبع من الميتة و يتزود منها، و قال في موطّئه: (1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مج (1)، (2/ 236). ط (2)، القاهرة، دار الحديث: (1996 م).
(2) المصدر نفسه. و انظر أضواء البيان، (1/ 85، 86).
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مج (1)، (2/ 236)، ط (2)، القاهرة، دار الحديث: (1996 م).
(4) سورة النور، الآية: (33).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 270
إن أحسن ما سمع في الرجل يضطر إلي الميتة أنه يأكل منها حتي يشبع، و يتزود منها، فإن وجد عنها غني طرحها.
قال ابن عبد البر: حجة مالك أن المضطر ليس ممن حرمت عليه الميتة، فإذا كانت حلالا له أكل منها ما شاء حتي يجد غيرها، فتحرم عليه. و ذهب ابن الماجشون و ابن حبيب من المالكية إلي أنه ليس له أن يأكل منها إلّا قدر ما يسد الرّمق و يمسك الحياة، و حجتهما: أن الميتة لا تباح إلا عند الضرورة، و إذا حصل سد الرّمق انتفت في الضرورة في الزائد علي ذلك.
و علي قولهما درج خليل بن إسحاق المالكي في مختصره، حيث قال: و للضرورة ما يسد غير آدمي، و قال ابن العربي: و محل هذا الخلاف بني المالكية فيما إذا كانت المخمصة نادرة، أما إذا كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشّبع منه.
و مذهب الشافعي: علي القولين المذكورين عن المالكية، و حجتهما في القولين كحجة المالكية فيهما .. و القولان المذكوران مشهوران عند الشافعية.
و اختار المزني: أنه لا يجوز سد الرّمق و رجحه القفال و كثيرون. و قال النووي:
إنه الصحيح .. و في المسألة قول ثالث للشافعية و هو: أنه إن كان بعيدا من العمران حلّ الشبع و إلّا فلا، و ذكر إمام الحرمين و الغزالي تفصيلا في المسألة، و هو: أنه من كان في بادية و خاف إن ترك الشبع ألا يقطعها و يهلك وجب القطع بأنه يشبع، و إن كان في بلد و توقّع طعاما طاهرا قبل عود الضرورة وجب القطع بالاقتصار علي سد الرّمق، و إن كان لا يظهر حصول طعام طاهر و أمكن الحاجة إلي العود إلي أكل الميتة مرة بعد أخري إن لم يجد الطاهر فهذا محل الخلاف.
قال النووي: و هذا التفصيل الذي ذكره الغزالي و الإمام تفصيل حسن و هو الراجح.
و عن الإمام أحمد رحمه اللّه في هذه المسألة روايتان أيضا.
قال ابن قدامة في المغني: و في الشبع روايتان:
أظهرهما: لا يباح، و هو قول أبي حنيفة، و إحدي الروايتين عن مالك و أحد القولين للشافعي، قال الحسن: يأكل قدر ما يقيمه لأن الآية دلت علي تحريم الميتة، و استثني ما اضطر إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل كحالة الابتداء، و لأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية، يحققه إنه بعد سد رمقه كهو قبل أن يضطر و ثم لم يبح له الأكل كهاهنا.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 271
و الثانية: يباح له الشبع. اختارها أبو بكر، لما روي جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة فقالت له امرأته: اسلخها حتي نقدد لحمها و شحمها نأكله، فقال:
حتي أسأل رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم، فأتاه فسأله فقال: «هل عندك غني يغنيك»؟ قال: لا، قال:
«فكلوها». و لم يفرق «1».
و يدل له أيضا حديث الفجيع العامري «2» عنده: أن النبي صلي اللّه عليه و سلّم أذن له في الميتة مع أنه يغتبق و يصطبح، فدل علي أخذ النفس حاجتها من القوت منها. و لأن ما جاز سد الرمق منه جاز منه الشبع كالمباح، و يحتمل أن يفرّق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة، و بين ما إذا كانت مرجوة الزوال، فما كانت مستمرة كحالة الأعرابي الذي سأل رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم جاز الشبع: لأنه إذا اقتصر علي سد الرمق عادت إليه الضرورة عن قرب، و لا يتمكن من البعد عن الميتة مخافة الضرورة المستقبلة، و يفضي إلي ضعف يديه و ربما أدي ذلك إلي تلفه، بخلاف التي ليست مستمرة، فإنها يرجو الغني عنها بما يحل، و اللّه أعلم ...» «3».
المسألة الثانية: حد الاضطرار المبيح لأكل الميتة هو الخوف من الهلاك علما أو ظنا.
قال الزرقاني في شرح قول مالك في الموطأ: ما جاء فيمن يضطر إلي أكل الميتة.
... و حدّ الاضطرار أن يخاف علي نفسه الهلاك علما أو ظنا، و لا يشترط أن يصير إلي حال يشرف معها علي الموت فإن الأكل عند ذلك لا يفيد ...».
و قال النووي في شرح المهذّب: الثانية في حد الضرورة.
قال أصحابنا: لا خلاف أن الجوع القوي لا يكفي لتناول الميتة و نحوها، قالوا: و لا خلاف أنه لا يجب الامتناع إلي الإشراف علي الهلاك، فإن الأكل حينئذ لا ينفع و لو انتهي إلي تلك الحال لم يحل له أكلها لأنه غير مفيد، و اتفقوا علي جواز الأكل إذا خاف علي نفسه لو لم يأكل من جوع أو ضعف عن المشي أو عن الركوب و ينقطع عن رفقته و يضيع و نحو ذلك» «4».

هل يجب أكل الميتة و نحوها إن خاف الهلاك أو يباح من غير وجوب؟

«اختلف العلماء في ذلك و أظهر القولين الوجوب لقوله تعالي: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي (1) أخرجه أبو داود في (الحديث: 3668).
(2) أخرجه أبو داود في (الحديث: 3669).
(3) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 85 و 86 و 98).
(4) المصدر نفسه، (1/ 87 و 88).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 272
التَّهْلُكَةِ «1» و قوله: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً «2».
و من هنا قال جمع من أهل الأصول: «إن الرخصة قد تكون واجبة كأكل الميتة عند خوف الهلاك لو لم يأكل منها، و هو الصحيح من مذهب مالك، و هو أحد الوجهين للشافعية، و هو أحد الوجهين عند الحنابلة، و هذا اختيار ابن حامد، و هو مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه ...» «3» و ممن اختار عدم الوجوب و لو أدي إلي عدم الأكل إلي الهلاك أبو إسحاق من الشافعية و أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهم اللّه، و احتجوا بأن له غرضا صحيحا في تركه و هو اجتناب النجاسة و الأخذ بالعزيمة.
و الثاني: لا يلزمه لما روي عن عبد اللّه بن حذافة السهمي صاحب رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم أن طاغية الروم حبسه في بيت و جعل معه خمرا ممزوجا بماء و لحم خنزير مشوي ثلاثة أيام فلم يأكل و لم يشرب حتي مال رأسه من الجوع و العطش و خشوا موته فأخرجوه فقال: قد كان اللّه أحله لي لأني مضطر و لكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام، و لأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص، و لأن له غرضا في اجتناب النجاسة و الأخذ بالعزيمة و ربما لم تطب نفسه بتناول الميتة و فارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه.
و يميل الشنقيطي إلي الرأي القائل بوجوب أكل الميتة بالقدر الذي يمسك الحياة لأن الإنسان لا يجوز له إهلاك نفسه» «4».
يلاحظ من طريقته لتفسير آيات الأحكام استقصائه الأقوال المتعددة في الفقه الإسلامي علي متوسط في التوسع و يرجح أحد الأقوال دون تعنت و لا تعصب.

الشنقيطي و طريقته بالترجيح:

يبسط الشنقيطي منهجه في تدعيم حجته الشرعية التي يمكن أن يواجهه مخالفوه «إنّا إذا بيّنا قرآنا بقرآن في مسألة يخالفنا فيها غيرنا و يدعي أن مذهبه المخالف لنا يدل عليه قرآن أيضا، فإنا نبيّن بالسنة الصحيحة صحة بياننا، و بطلان بيانه فيكون استدلالنا بكتاب و سنة، فإن استدلّ من خالفنا بسنة أيضا مع القرآن الذي استدلّ به، فإننا نبين رجحان ما يظهر لنا أنه الراجح، و كذلك إذا استدل مخالفنا بقرآن و لم يقم دليل من سنة شاهدا لنا و لا له، فإنّ نبين وجه رجحان بياننا علي بيانه» «5». (1) سورة البقرة، الآية: (195).
(2) سورة النساء، الآية: (29).
(3) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 88).
(4) محمد الشنقيطي، (1/ 88).
(5) أضواء البيان، (1/ 37).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 273

أهمية الحديث النبوي في تفسير القرآن بالقرآن:

إن تفسير «أضواء البيان» و إن كان موسوما ب «إيضاح القرآن بالقرآن» فإن هذا لا يعني أن المفسّر كان يشيح بوجهه عن الأحاديث النبوية المفسّرة. بل إن الأحاديث التي ساقها لإيضاح المبهم، أو تفصيل لمجمل .. و هذا شي‌ء لا ضير فيه، و لا يخرج الشنقيطي عن منهجه الذي اختصّه لنفسه «و هو إيضاحه القرآن بالقرآن» لأن الحديث يدعم وجهة نظره في أن هذه الآية مفسرة لتلك، أو تخصص عامّها، أو تقيّد مطلقها ..
قال تعالي: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «1».
قال الشنقيطي: «لم يبين هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة «حيث»، و لكنه بيّن أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين:
إحداهما: في قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ «2» لأن قوله: فَأْتُوا أمر بالإتيان بمعني الجماع و قوله: «حرثكم» يبين أن الإتيان المأمور به هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة، و ذلك هو القبل دون الدّبر كما لا يخفي، لأن الدبر ليس محل بذر الأولاد كما هو ضروري» «3».
و قوله تعالي: «أني شئتم» يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث علي أي حالة شاء الرجل سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة علي جنب أو غير ذلك» «4» و يستشهد الشنقيطي هنا بالحديث تدعيما لفهمه: «و يؤيد هذا ما رواه الشيخان و أبو داود و الترمذي عن جابر رضي اللّه عنه، قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّي شِئْتُمْ «5». فظهر من هذا أن جابرا رضي اللّه عنه يري أن معني الآية:
فأتوهن في القبل علي أية حال شئتم و لو كان من ورائها، و المقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع» «6».

استعانة الشنقيطي بأقوال المفسّرين السابقين:

لم يضرب الشنقيطي صفحا عن التفاسير السابقة إنما يستعين بها في توضيح ما يريد، (1) سورة البقرة، الآية: (222).
(2) سورة البقرة، الآية: (223).
(3) محمد الأمين الشنقيطي، (1/ 106).
(4) المصدر نفسه.
(5) سورة البقرة، الآية: (223) و الحديث أخرجه البخاري في (الحديث: 4528). و مسلم في (الحديث: 3521)، و الترمذي في (الحديث: 2978) و ابن ماجة في (الحديث: 1925).
(6) محمد الأمين الشنقيطي، (1/ 106).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 274
أو نصرة الحق الذي ظهر له و هذا حسنة له:
قال القرطبي في تفسير قوله تعالي: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّي شِئْتُمْ «1» ما نصه: «و ما استدل به المخالف من أن قوله عزّ و جل: «أَنَّي شِئْتُمْ» شامل للمسالك بحكم عمومها، فلا حجة فيه إذ هي مخصصة بما ذكرناه، و بأحاديث صحيحة، حسان شهيرة، رواها عن رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة، كلها متواردة علي تحريم إتيان النساء في الأدبار ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، و أبو داود و النسائي و الترمذي و غيرهم» «2».
و قال القرطبي: و قد جمعها [أي الأحاديث الواردة في تحريم إتيان المرأة في دبرها سماها: «تحريم المحل المكروه» و لشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه «إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار» «3».
قال القرطبي: قلت: و هذا هو الحق المتبع و الصحيح في المسألة، و لا ينبغي لمؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة علي ذلة عالم بعد أن تصحّ عنه» «4». و ورد في القرطبي أن ابن عمر «كان يكفر من أتي امرأته في دبرها» «5».
من هنا يظهر استفادة الشيخ الشنقيطي من جهود المفسرين السابقين، و لعل استفادته من القرطبي تنسجم مع مذهبه المالكي.

فهم الشنقيطي للتأويل، و علاقة ذلك بفهم آيات الصفات:

يستقصي الشنقيطي معاني التأويل الواردة في الآيات الكريمة كي يؤسس فهما لآيات المتشابهة كآيات الصفات، و الآيات المحتملة المعني أو التي يمكن أن تفهم علي معاني متعددة.
يري صاحب «أضواء البيان» من خلال ما قدمنا في مقدمة دراسة «أضواء البيان» «أنّ من أنواع البيان كون أحد الاحتمالين هو الغالب في القرآن يبين أن ذلك الاحتمال الغالب في القرآن هو المراد، لأن الحمل علي الأغلب أولي من الحمل علي غيره.
و إذا عرفت فاعلم أن الغالب في القرآن إطلاق التأويل علي حقيقة الأمر الذي يؤول (1) سورة البقرة، الآية: (223).
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مج (2)، (3/ 98).
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه. و أثبتنا «ذلة» أمانة للنقل، و هي خطأ طباعي. و الصحيح هي زلة،. انظر أضواء البيان، (1/ 107)، و قد ورد في القرطبي بعد عدة كلمات من ذلة: «و قد حذرنا من «زلة العالم».
(5) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مج (2)، (3/ 98).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 275
إليها «1». كقوله: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ «2».
و قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ «3» .. و قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ «4»، و قوله: ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا «5» إلي غير ذلك من الآيات، قال ابن جرير الطبري: و أصل التأويل من آل الشي‌ء إلي كذا إذا صار إليه و رجع، و أولته أنا صيرته إليه و قال: و قد أنشد بعض الرواة بيت الأعشي:
علي أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا «6»
قال: و يعني بقوله: تأول حبها مصير حبها، و مرجعه، و إنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا في قلبه، فآل من الصغر إلي العظم، فلم يزل ينبت حتي أصحب فصار قديما كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتي أصحب، فصار كبيرا مثل أمه. قال: و قد ينشد هذا البيت:
علي أنها كانت توابع حبها توالي ربعي السقاب فأصحبا «7»
و عليه فلا شاهد فيه، و الربعي السّقب الذي ولد في أول النتاج، و معني أصحب أنقاد لكل من يقوده، و منه قول امرئ القيس:
و لست بذي رثية إمر إذا قيد مستكرها أصحبا» «8»
و بعد هذا الشرح لمعني التأويل، يحصر الشنقيطي معاني التأويل علي النحو التالي:
«اعلم أن التأويل يطلق ثلاثة إطلاقات:
الأول: هو ما ذكرنا من أنه الحقيقة التي يؤول إليها الأمر، و هذا هو معناه في القرآن.
الثاني: يراد به التفسير و البيان. و منه بهذا المعني قول صلي اللّه عليه و سلّم في ابن عباس: «اللهم فقهه في الدين و علّمه التأويل» «9». (1) محمد الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 168).
(2) سورة يوسف، الآية: (100).
(3) سورة الأعراف، الآية: (53).
(4) سورة يونس، الآية: (39).
(5) سورة النساء، الآية: (59).
(6) من البحر الطويل.
(7) من البحر الطويل.
(8) من البحر الطويل.
(9) أخرجه البخاري في (الحديث: 143) و مسلم في (الحديث: 2477).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 276
و قد ثبت في الصحيح: «كان رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم يكثر أن يقول في ركوعه و سجوده «سبحانك اللهم ربنا و بحمدك اغفر لي» يتأول القرآن «1» تعني يمتثله و يعمل به، و اللّه تعالي أعلم.
الثالث: هو معناه المتعارف في اصطلاح الأصوليين، و هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلي محتمل مرجوح بدليل يدل علي ذلك، و حاصل تحرير مسألة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح.
الأولي: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل علي ذلك و هذا .. هو التأويل الصحيح.
و التأويل الغريب: كقوله صلي اللّه عليه و سلّم الثابت في الصحيح».
فإن ظاهره المتبادر منه ثبوت الشفعة للجار، و محل الجار في هذا الحديث علي خصوص الشريك المقاسم حمل له علي محتمل مرجوح، إلّا أنه دلّ عليه الحديث الصحيح المصرّح بأنه إذا صرفت الطرق، و ضربت الحدود فلا شفعة».
الثانية: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلا و ليس بدليل في نفس الأمر، و هذا المسمي عندهم بالتأويل الفاسد، و التأويل البعيد، و مثّل له الشافعية و المالكية و الحنابلة بحمل الإمام أبي حنيفة رحمه اللّه في قوله: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل، باطل» علي المكاتبة، و الصغيرة .. و حمله أيضا رحمه اللّه المسكين في قوله: سِتِّينَ مِسْكِيناً «2» علي المد، فأجاز إعطاء ستين مدا لمسكين واحد» «3».
الثالثة: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره، لا لدليل أصلا، و هذا يسمي في اصطلاح الأصوليين لعبا «4».

مناقشة الشنقيطي لأقوال العلماء في تفسيرهم الآية وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... «5»:

يعرض الشنقيطي أقوال العلماء في الآية: وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يقول: (1) أخرجه أحمد في المسند من حديث عائشة.
(2) سورة المجادلة، الآية: (4).
(3) محمد أمين الشنقيطي، (1/ 169).
(4) انظر أضواء البيان (1/ 169).
(5) سورة آل عمران، الآية: (7).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 277
الواو: استئناف (محتمل). الراسخون: مبتدأ، جملة يقولون (خبر) ... بناء علي ذلك يقول «و عليه فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا اللّه وحده، و الوقف علي هذا تام علي لفظة الجلالة» «1».
«و الواو عاطفة محتملة فيكون:
الواو: عاطفة، الراسخون: معطوفة علي لفظ الجلالة اللّه.
و عليه فالمتشابه يعلم تأويله الراسخون في العلم.
و يذكر أسماء الصحابة و التابعين الذين قالوا: «إن الواو استئنافية، و بالتالي يجب الوقف عند قوله تعالي: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ و الصحابة القائلين باستئنافية الواو:
عمر، و ابن عباس، و عائشة، و عروة بن الزبير، و ابن مسعود و أبيّ بن كعب، و عمر بن عبد العزيز نقلها عنهم القرطبي، و غيره، و نقله ابن جرير عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس و هو مذهب الكسائي و الأخفش و الفراء و أبي عبيد.
و قال أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية، و إنها مقطوعة، و ما انتهي علم الراسخين إلا إلي قولهم آمنا به كلّ من عند ربنا، و القول: بأن الواو عاطفة مروي أيضا عن ابن عباس، و به قال مجاهد و الربيع، و محمد بن جعفر بن الزبير و القاسم بن محمد و غيرهم. و ممن انتصر لهذا القول و أطال فيه ابن فورك، و نظير الآية في احتمال الاستئناف و العطف قول الشاعر:
الريح تبكي شجوها و البرق يلمع في الغمامة «2»
فيحتمل أن يكون (البرق) مبتدأ. و الخبر جملة (يلمع).
و احتج القائلون بأن الواو عاطفة بأن اللّه سبحانه و تعالي مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم بذلك و هم جهّال.
قال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمرو: هذا القول هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، و في أي شي‌ء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلّا ما يعلم الجميع؟
قال صاحب أضواء البيان: «يجاب عن كلام القرطبي المذكور بأن رسوخهم في العلم هو السبب جعلهم ينتهون حيث انتهي علمهم و يقولون فيما لم يقفوا علي علم الحقيقة من كلام اللّه جلّ و علا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا بخلاف غير الراسخين فإنهم يتبعون ما (1) محمد أمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 169).
(2) البحر الكامل.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 278
تشابه منه ابتغاء الفتنة، و ابتغاء تأويله و هذا ظاهر» «1».
قال بعض العلماء: «و التحقيق في هذا المقام أن الذين قالوا هي عاطفة جعلوا معني التأويل: التفسير و فهم المعني، كما قال النبي صلي اللّه عليه و سلّم: «اللهم علّمه التأويل» أي التفسير و فهم معاني القرآن. و الراسخون يفهمون ما خوطبوا به، و إن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء علي كنه ما هي عليه، و الذين قالوا هي استئنافية جعلوا معني التأويل حقيقة ما يؤول إليه الأمر، و ذلك لا يعلمه إلا اللّه و هو تفصيل جيد و لكن يشكل عليه أمران:
الأول: قول ابن عباس، التفسير علي أربعة أنحاء ...
تفسير لا يعذر أحد في فهمه، و تفسير تعرفه العرب من لغاتها، و تفسير يعلمه العلماء، و تفسير لا يعلمه إلا اللّه، فهذا تصريح ابن عباس أن هذا لا يعلمه إلا اللّه بمعني التفسير لا ما تؤول إليه حقيقة الأمر.
و قوله هذا ينافي التفصيل المذكور.
الثاني: أن الحروف المقطعة في أوائل السور لا يعلم المراد بها إلا اللّه إذ لم يقم دليل علي شي‌ء معين أنه هو المراد بها من كتاب و لا سنة و لا إجماع، و لا من لغة العرب فإن الجزم معناها كذا علي التعيين تحكّم بلا دليل.

الشنقيطي و آيات الصفات:

إن آيات الصفات حازت من الدرس و الاهتمام الكثير، لأن هذه الآيات لصيقة بالذات الإلهية، فإن أيّ فهم مخالف من شأنه أن ينبني عليه فهما لحقيقة الإله مخالفا لما عليه الآخر من الفهم و التصور، لذا فإن الخلاف كان شديدا ما بين السلف و المتكلمين من الخلف، و مردّ ذلك إلي اختلاف الفترة المتأخرة عن الفترة التي كان فيها رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم بين الصحابة و التي امتازت بصفاء الفطرة، و وحدة المرجع، و عدم وجود أي مؤثرات فلسفية أو ثقافية تدعو العقل المسلم إلي التفكير بآيات الصفات، إنما الصحابة يتعاملون مع النص تعاملا سهلا دونما تأثر بأي مؤثر خارجي، فكانوا عند ما يقرءون قول اللّه تعالي: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «2». فينطلقون للعمل، و يتحسسون مؤازرة اللّه و نصرته للمؤمنين الذين عاهدوا الرسول صلي اللّه عليه و سلّم صادقين .. أكثر مما يتصورون هل اليد جارحة؟ هل اليد القدرة؟ ... إلي ما هنالك من تساؤلات.
و يجب أن لا يغيب عن الذهن أن هذه الاتجاهات التأويلية نشأت بعد ترجمة العلوم (1) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (1/ 170).
(2) سورة الفتح، الآية: (10).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 279
الفلسفية و علوم المنطق إلي اللغة العربية .. و الذين لجؤوا إلي تأويل النصوص (و هم علماء الكلام من الأشاعرة و المعتزلة) لم يكونوا يقصدون إلّا تنزيه الذات الإلهية عن مشابهة المخلوقين، و إن كان العلماء الناهجون نهج السلف الرافضون تأويل الآيات تأويلا يصرفها عن ظاهرها وقفوا موقف المعارض لهذا الاتجاه ..
لقد قدّمنا سابقا موقف الشنقيطي من الآراء و الأفهام التي تناولت الآية الكريمة: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7) «1» ... و بقيت مسألة السلف و الخلف مسألة غير محسومة بين تيارين: الأول يعتبر أن الصحابة خير من فهم الدين و القرآن، و الرسول كان بين ظهرانيهم، و لو أن التأويل هو الحق الذي ينزه اللّه عن المشابهة بالمخلوقين لبيّنه الرسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم «لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، و لا سيما في العقائد فيما ظاهره الكفر و التشبيه» وفق قول المؤولة من الخلف، فسكوت النبي صلي اللّه عليه و سلّم عن البيان علي الرغم من وجود الحاجة يعكر علي الخلق كثيرا وجهة نظر المؤولة إلي درجة كبيرة. و تفسير «أضواء البيان لإيضاح القرآن بالقرآن» تناول هذا الموضوع من خلال تفسيره الآيات الكريمة الموهمة للتشابه بين الخالق و مخلوقاته ... فتأسيسا علي مقدمتنا الموضحة لموقف الشنقيطي من التأويل، فإنّا نجد فيما تعرّض له صاحب «الأضواء» ترجمة عملية لموقفه النظري من التأويل، و فيه بيان لموقفه من الذين تأوّلوا آيات الصفات، و وصفهم بالمخطئين و دعا اللّه لهم أن يتجاوز عنهم الذي فعلوه لأنهم قصدوا تنزيهه عن المشابهة بالمخلوقين. فقصدهم حسن، و لكن طريقهم إلي ذلك القصد سيئة» «2» و يعلل الشنقيطي سبب تأويلهم لهذه الآيات «و إنما نشأ لهم ذلك بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح اللّه بها نفسه يدل ظاهره علي مشابهة صفة الخلق، فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدا منهم لتنزيه اللّه، و أوّلوها بمعني آخر يقتضي التنزيه في ظنهم» «3». و نحن نرجو أن يغفر اللّه لهم خطأهم و أن يكونوا داخلين في قوله تعالي: وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «4».
و من الحجج التي يسوقها الشنقيطي لدحض آراء خصومه هو «أن النبي صلي اللّه عليه و سلّم عالم كل (1) سورة آل عمران، الآية: (7).
(2) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (5/ 70).
(3) المصدر نفسه.
(4) سورة الأحزاب، الآية: (5).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 280
العلم بأن الظاهر المتبادر، مما مدح اللّه به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات الخلق، و لو كان يخطر في ذهنه أن ظاهره لا يليق لأنه تشبيه بصفات الخلق لبادر كل المبادرة إلي بيان ذلك، لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه و لا سيما في العقائد و لا سيما فيما ظاهره الكفر و التشبيه» «1» إذا سلمنا بقول الذين نفوا الصفات.
ثم يعرض حجج القائلين بالتأويل نافين عن اللّه صفات المشابهة لمخلوقاته:
«إن العرب لا تعرف في لغتها كيفية لليد مثلا إلا كبقية المعاني المعروفة عندها كالجارحة و غيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة» «2». لذا يجب فهم «اليد» الواردة في القرآن علي ضوء ما تفهمه العرب من لسانها الذي أنزل فيه القرآن.
يجيب الشنقيطي علي الإشكال من وجهين:
الوجه الأول: أن العرب لا تدرك كيفيات صفات اللّه من لغتها لشدة منافاة صفة اللّه لصفة الخلق» «3».
و توضيح ذلك: أن العقل العربي يدرك صفات المخلوقين، و بالتالي يعبر عن ذلك بأساليبه و أدواته ... فالعرب عند ما تعبر عن السمع و البصر تعبر عنهما من خلال الأذن و العين لأن الأذن و العين أدوات الإسماع و الإبصار. من ذلك يظهر «ألّا فرق بين السمع و البصر، و بين اليد و الاستواء، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك هو المشاهد في المخلوقات» «4».
و أما ما قاله الإمام مالك عند ما سئل عن الاستواء فيندرج تحت التعبير عن أصل المعني و هذا واضح في قوله: «الاستواء غير مجهول» [أي ثابت معلوم و الكيف غير معقول [أي لا ندرك كيفية الاستواء] و الإيمان به واجب [لثبوته في النص القرآني و السؤال عن بدعة [لأن الرسول و الصحابة من بعده لم يخوضوا فيه و لم يأولوه و لو كان ذلك واجبا ضروريا لما تأخر الرسول عن البيان في موقع الحاجة كما بيّنا سابقا. كما أن العرب تعرف من لغتها «أن بين الخالق و المخلوق، و الرزق و المرزوق، و المحيي و المحيا و المميت و الممات، فوارق عظيمة لا حد لها تستلزم المخالفة التامة بين صفات الخالق و المخلوق» «5». (1) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (5/ 71).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 281
الوجه الثاني: و يسوقه الشنقيطي حوارا بينه و بين مخالفيه أنصار تأويل آيات الصفات «أن نقول لمن قال: بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم، من كونها صفة كمال و جلال منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق.
هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد؟ فلا بد أن يقول: لا. فإن قال ذلك قلنا: معرفة كيفية الصفات متوقفة علي معرفة كيفية الذات.
فالذات و الصفات من باب واحد.
فكما أن ذاته جلّ و علا تخالف جميع الذوات فإن صفاته تخالف جميع الصفات.
و معلوم أن الصفات تتباين و تختلف باختلاف موصوفاتها» «1».
و يضرب الشنقيطي أمثلة علي ذلك كي يقرّب من الأذهان فكرته فيقول:
«أ لا تري مثلا أن لفظة (رأس) كلمة واحدة؟
يريد أن يقول: أن الكلمة الواحدة يختلف مدلولها بحسب ما تضاف إليه- إن أضفتها إلي الإنسان فقلت رأس الإنسان، و إلي الوادي فقلت: رأس الوادي. و إلي المال فقلت:
رأس المال، و إلي الجبل فقلت: رأس الجبل. فإن كلمة رأس اختلفت معانيها، و تباينت تباينا بحسب اختلاف إضافتها مع أنها في مخلوقات، فما بالك بما أضيف من الصفات إلي اللّه و ما أضيف منها إلي خلقه، فإنه يتباين كتباين الخالق و المخلوق» «2».
من خلال ما سبق يري الشنقيطي أن لا نص في القرآن يوهم صفة للّه لا تليق به [يقصد الذين قالوا أن صفات الخلق كاليد و الاستواء؟ ... الخ لا تليق أن يوصف بها الخالق علي ظاهرها، لذا لا بد من تأويلها تنزيها للّه عن الشريك و الشبيه أينما وردت في النصوص القرآنية و النبوية و السبب «لأن نصوص الوحي الواردة في صفات اللّه لا تدل ظواهرها البتة إلا علي تنزيه اللّه و مخالفته لخلقه في الذات و الصفات و الأفعال» «3».
و يري أن الظاهر من النصوص ينزه اللّه تعالي بداهة فالمسلمون «لا يشك أحد منهم في أن الظاهر المتبادر إلي الذهن هو مخالفة اللّه لخلقه كما نصّ عليه بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ «4» و قوله: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) «5». (1) محمد الأمين الشنقيطي، (5/ 71).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، (5/ 72).
(4) سورة الشوري، الآية: (11).
(5) سورة الإخلاص، الآية: (4).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 282
و بهذا يري الشنقيطي أن ما ادعاه بعضهم بوجوب صرف هذه النصوص الظاهرة عن ظاهرها إجماعا «لا وجود له البتة لأنه مبني علي شرط مفقود ... فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب اللّه و لا سنة رسوله، و لم يقله أحد من أصحاب رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم و لا من تابعهم، و لم يقله أحد من الأئمة الأربعة، و لا من فقهاء الأمصار المعروفين» «1».
و هذا الأمر يبيّنه الشنقيطي في مقدمة الأضواء «إن اللّه تبارك و تعالي موصوف بتلك الصفات حقيقة لا مجازا لأننا نعتقد اعتقادا جازما .. أن ظواهر آيات الصفات و أحاديثها لا تدل البتة إلا علي التنزيه عن مشابهة الخلق و اتصافه تعالي بالكمال و الجلال، و إثبات التنزيه و الكمال و الجلال للّه حقيقة لا مجازا لا ينكره مسلم» «2».
لذا لا حجة لمن أوّل «استوي» باستولي مشبهين استيلاء اللّه باستيلاء بشر بن مروان علي العراق، الذي ورد في قول الشاعر:
قد استوي بشر علي العراق من غير سيف و دم مهراق
و لو أنّهم تدبروا كتاب اللّه لمنعهم ذلك من تبديل الاستواء بالاستيلاء و تبديل اليد بالقدرة أو النعمة لأن اللّه جلّ و علا يقول في محكم كتابه في سورة البقرة:
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) «3».
فالقول الذي قاله اللّه لهم هو قوله حطة، و هي فعلة من الحط بمعني الوضع، خبر مبتدأ محذوف أي: دعاؤنا و مسألتنا لك حطة لذنوبنا ... و في روايات الحديث أنهم بدلوا هذا القول بأن زادوا نونا فقط فقالوا حنطة و هي القمح .. و أهل التأويل قيل لهم علي العرش استوي فزادوا لاما فقالوا: استولي ... و هذه اللام التي زادوها أشبه شي‌ء بالنون التي زادها اليهود في قوله تعالي: وَ قُولُوا حِطَّةٌ «4» و يقول اللّه جلّ و علا في منع تبديل القرآن قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحي إِلَيَّ «5».
و اليهود لم ينكروا أن اللفظ الذي قاله اللّه لهم هو لفظ «حطة» و لكنهم حرفوه بالزيادة المذكورة، و أهل هذه المقالة لم ينكروا أن كلمة القرآن استوي و لكن حرفوها و قالوا في (1) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (2/ 72).
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة البقرة، الآية: (59).
(4) سورة البقرة، الآية: (58)، و سورة الأعراف، الآية (161).
(5) سورة يونس، الآية: (15).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 283
معناها استولي، و إنما أبدلوها بها لأنها أصلح في زعمهم من كلمة القرآن لأن كلمة القرآن توهم غير اللائق و كلمة استولي في زعمهم هي المنزهة اللائقة باللّه مع أنه لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء اللّه علي عرشه المزعوم باستيلاء بشر علي العراق» «1».
و يطرح سؤالا خطيرا: «هل كان أحد يغالب اللّه علي عرشه حتي غلبه علي العرش، و استولي عليه» «2» يشير إلي المعني الذي أخذوه من بيت الشعر ... استوي بشر علي العراق .. «و علي كل حال فإن المؤول زعم أن الاستواء يوهم غير اللائق باللّه لاستلزامه مشابهة استواء الخلق، و جاء بدله بالاستيلاء لأنه هو اللائق به في زعمه، و لم ينتبه» «3».

خلاصة رأي الشنقيطي في آيات الصفات:

أشعر أن الموضوع قد توسّع بعض الشي‌ء لذا فإنا نوجز رأي الشنقيطي كما يلي:
1- لا فرق البتة بين صفة يشتق منها وصف كالسمع و البصر و الحياة. و بين صفة لا يشتق منها كالوجه و اليد.
2- و أن تأويل الاستواء بالاستيلاء لا يجوز و لا يصح. [و هذا ينسحب علي مختلف آيات الصفات الأخري .
3- و اعتقاد السلف تبناه أبو الحسن الأشعري، و ليس معتقده اعتقاد المؤولة كما قالوا «4» ...».
كما أن هذا الاعتقاد «اعتقاد عامة السلف، و هو الذي كان عليه النبيّ صلي اللّه عليه و سلّم و أصحابه» «5».

الشنقيطي يبرّئ أبا الحسن الأشعري من التأويل:

فمن ادعي أنّ أبا الحسن الأشعري يؤول صفة من الصفات كالوجه و اليد و الاستواء و نحو ذلك فقد افتري افتراء عظيما.
بل الأشعري رحمه اللّه مصرح في كتبه العظيمة التي صنّفها بعد رجوعه عن الاعتزال. (1) محمد الأمين الشنقيطي، (5/ 72، 73).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، (5/ 73).
(4) المصدر نفسه، (5/ 74).
(5) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 284
[كالوجز] و [مقالات الإسلاميين و [الإبانة عن أصول الديانة] أن معتقده الذي يدين به هو ما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بكل ما وصف اللّه به نفسه أو وصفه به رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم و إثبات ذلك كله من غير كيف و لا تشبيه و لا تعطيل، و أن ذلك لا يصح تأويله و لا المجاز فيه، و أن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو تأويل المعتزلة و من ضاهاهم» «1».
ينقل الشنقيطي عن الأشعري من كتابه [الإبانة عن أصول الديانة] «و قال غير واحد أنه آخر كتاب صنّفه» «2». و هذا يعني أن الأشعري رحمه اللّه قد استقرّ علي ما ينقله عنه. قال أبو الحسن الأشعري: «فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة و القدرية و الجهمية و الحرورية و الرافضة و المرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون و ديانتكم التي تدينون بها:
قولنا الذي نقول به، و ديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عزّ و جلّ و سنة نبينا محمد صلي اللّه عليه و سلّم و ما روي عن الصحابة و أئمة الحديث» «3».
و أنقل فيما يلي قول أهل الحديث و دينهم الذي يدينون به في مسائل آيات الصفات عن كتاب «مقالات الإسلاميين، و اختلاف المصلين» لأبي الحسن الأشعري، و هو من الكتب الممتازة .. قال أبو الحسن الأشعري في سياق تبيانه لاعتقاد الفرق الإسلامية في الصفات الإلهية من معتزلة و خوارج و مرجئة و شيعة و زيدية و مجسمة إلي أن يقول: «و قال أهل أصحاب الحديث: لسنا نقول في ذلك إلّا ما قاله اللّه عزّ و جلّ أو جاءت به الرواية من رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فنقول: وجه بلا كيف و يدان و عينان بلا كيف» «4».
و يجعل الشنقيطي أبا الحسن الأشعري العالم العظيم الفذ في صف أهل الحديث اعتقادا. و بهذا يجرّد المسلمين المتأولين واحدا من أبرز أركانهم إذ ينسبون إليه اعتقادا فيقولون «قالت الأشاعرة» نسبة إليه .. و ها هو يقول بخلافهم و يدين بالصفات ديانة أهل الحديث و الصحابة و التابعين. (1) الشنقيطي، أضواء البيان، (5/ 74).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه. لكن محمد بن أحمد بن مسكة بن العتيق اليعقوبي يتهم أولئك أنهم زوروا كتاب الإبانة عن أصول الديانة، و جعلوا أبا الحسن الأشعري في صفهم زورا. انظر فتاوي ابن تيمية في الميزان ص (50). ط لا تاريخ لها، و مجهولة الدار الناشرة الصادرة عنها ... قال: التزوير في آخر طبعة لكتاب الإبانة دون أن يذكر التاريخ و الصفحة المزورة.!! و اتهمهم بتزويرات في تفسير القرطبي لم أستطع الوقوف النهائي علي صحة هذه الاتهامات.
(4) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين و اختلاف المصلين، ط (3)، فرانز، بقيسيادن (1980 م).
ص (217).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 285

وجهة نظر في آيات الصفات:

و إن كنا نقول ما قاله ربنا في الكتاب و نثبت ما أثبته لنفسه من الصفات بلا كيف، و لا تشبيه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «1». إلا أننا نري أن المسألة ليست قطعية كما أبرزها صاحب أضواء البيان، و إن كان ما عرضه يمتاز بقوة الحجة و البرهان، و فصاحة الإثبات و البيان، مذكرين أن الصحابة كانوا ينطلقون للعمل بعد أن تفيض قلوبهم بمشاعر الإيمان، فعند ما يتلون يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فهم يندفعون نحو العمل بأن اللّه مناصرهم لأن وضع اليد علي اليد فيه مناصرة و مؤازرة و معونة. و عند ما يتلون أن اللّه «سميع، بصير ... الخ». فهم ينطلقون إلي الحياة معمرين بانين، مجاهدين فاتحين، ذاكرين .. لأن اللّه يسمعهم، و يبصرهم فلا يقولون فحشا و لا زورا، و لا يفعلون منكرا و لا عيبا لأن اللّه سميع يسمعهم، و بصير يبصرهم. و بهذا المفهوم تحوّلت آيات الصفات إلي نصوص دافعة إلي العمل النظيف. و لم تتحول في عهدهم الأول إلي مادة جدل لا طائل تحته. كأن يسمع بما ذا؟ و كيف بأذن أو بغير أذن؟ و يبصر بعين أو بغير عين؟ و يده كيف، و جنبه كيف ... الخ.
فخلاصته ضرورة الخروج من هذه المعارك و الالتفات نحو العمل بالمعاني التي تفيده مثل هذه الآيات ... و إن كان التسليم كما وردت- مع «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ» أسلم و أتقي ...
مقرين بصحة عقائد الصحابة و التابعين. و بعدم خروج من أوّل عن ساحة الإسلام إنما يحسن النية و سلامة القصد، نال المؤولون أجرا واحدا إن شاء اللّه.
هكذا يجب أن ينظر أهل الحديث و الذين أثبتوا للّه ما أثبت لنفسه للمؤولة، ثم علي المسلمين الذين تأوّلوا آيات الصفات خروجا من التشبيه إلي التنزيه كان عليهم أن يقروا أولئك علي ما قالوا به .. و أن ينظروا إليهم علي أنهم مجتهدون رفضوا تأويل الصفات كي لا يقعوا في التعطيل، و كي لا يقال أن استولي خير من استوي، و وضع القدرة أو النعمة أفضل من كلمة يد .. و أن يلتفت الطرفان إلي العمل بالمعاني العملية التي يمكن أن تؤثر فيها آيات الصفات علي حياة المسلمين اليومية، و ألا يصرف المزيد من الحوار و الجدال الذي أخذ جهدا كبيرا من جهود الأمة في القرون الأخيرة، و أحرز ما أحرز من الفرق و الفرقة، .. فالكل يعلم أن ابن تيمية رمي الأشاعرة بالتعطيل و وصفهم بالجهميّة، و ربما بدّعهم أو فسّقهم- و رموه بالتشبيه و التجسيم و التكبر و صنفوه مع الحشوية المشبهة مرة، و بالاعتزال مرة أخري و امتدّ هذا الصراع عبر أجيال عديدة، و حقب زمنية متوالية .. (1) سورة الشوري، الآية: (11).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 286
من الصحيح أن نشوء التأويل في الحياة الإسلامية له ظروفه الثقافية و عوامله الداعية، و لكن الصحيح أيضا أن هذه الظروف قد زالت و يجب أن تزول معها نتائجها- و علي الفريقين ألا يعيشوا بمناخ القرن الخامس و السادس و السابع الهجري، و ألا يظنوا أن السبكي الشافعي المؤول، و ابن تيمية الحنبلي ما زالا يمتطيان صهوات النقاش و الجدال العنيف، .. و علينا أن نسأل أنفسنا: لما ذا لم يختلف المسلمون علي حرمة الخمر أو الزّنا أو السرقة، أو وحدانية اللّه، أو أن اللّه صاحب الحق في التحريم و التحليل وحده لا غير ..
و ما أظن الجواب خافيا علي أحد، فالجميع سيقول إن هذه نصوص قاطعة حاسمة لا يجوز الخلاف فيها. و أما النصوص المحتملة، و إن كانت الأفهام تميل إلي هذا القوي أكثر من ذاك، فليس بالإمكان نقلها إلي اليقين و القطع كما نقلها الشنقيطي أو غيره .. و لا يجوز اتهام الذي أثبتوا للّه ما أثبته لنفسه بالمشبهين و لا المجسمين «1». كما يجب إقفال المعارك الجدلية، و ليس إقفال الحوار الهادئ المهذّب المراد منه إيصال الناس إلي الحق الذي ينقل الناس من براثن الخطأ، إلي نور الحقيقة لأن الحوار الناضج هو الذي يهب الفكرة صفاء و نقاء ينشده كل مخلص.

موقف صاحب أضواء البيان من التقليد:

ليس أمرا خفيّا الخلافات الدائرة بين أنصار المذاهب الإسلامية الأربعة المشهورة و من خالفهم من الداعين إلي عدم جواز تقليد أيّ إمام كان .. لذا فإن صاحب أضواء البيان حاول أن يجلي المسألة في كتابه «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» فيقول:
التقليد لغة: جعل القلادة في العنق ... و منه قول لقيط الإيادي:
و قلدوا أمركم للّه دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا «2»
«و أما التقليد في اصطلاح الفقهاء فهو الأخذ بمذهب الغير من غير معرفة دليله» «3».
و المذهب: لغة الطريق، ... ثم له معني عرفي «ما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية محل الغرض منه بلفظه» «4». (1) انظر محمد بن أحمد مسكة بن العتيق اليعقوبي، فتاوي ابن تيمية في الميزان ص (48، 49، 50)، تري فيه تفسيق و تكفير ابن تيمية لأنه مجسم و كذا ابن القيم لنفس السبب. و لمن يقول بقولهم إلي يومنا هذا ... و ينقل المؤلف أقوالا لابن تيمية و لابن القيم في تفسيق الأشاعرة، و لا حول و لا قوة إلا باللّه! في زمن نحن بحاجة فيه إلي توحيد صفوف المسلمين.
(2) من البحر الطويل.
(3) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (5/ 90).
(4) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 287
و يري المؤلف أن لا اجتهاد في موارد النصوص القاطعة من كتاب أو سنة أو إجماع و ينكر علي العلماء الذين أجازوا التقليد مطلقا. حتي و لو خالف النصوص.
و ظني أن أولئك لم يقصدوا جواز التقليد لمن علم مخالفته للنصوص القاطعة إنما أجازوه لمن لا يعلم التمييز بين صواب المجتهد و خطئه ... لكن إذا تعلّم هذا الرجل قدرا جعله يميّز علي نحو واضح من قلّده ابتداء، فظني أن أولئك لا يجيزون له التقليد لأن المسلم مطالب بالتعبد بنصوص القرآن و السنة، و ليس بأقوال الناس الخاطئة ... و يقسم صاحب «الأضواء» التقليد إلي أقسام:
التقليد الجائز: الذي لا يكاد يخالف فيه أحد من المسلمين فهو تقليد العامي عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به، و هذا النوع من التقليد كان شائعا في زمن النبي صلي اللّه عليه و سلّم و لا خلاف فيه، فقد كان العامي يسأل من شاء من صحابة رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم ثم يعمل بفتياه، و ينقل متنا من منظومة في الأصول اسمها «نشر البنود في شرحه لقوله في وافي السعود» يميز رجوع المستفتي لمجتهد آخر غير الذي سأله أولا لإجماع الصحابة علي ذلك علي أنه يسوغ للعامي السؤال لكل عالم، و لأن كل مسألة لها حكم نفسها.
قال القرافي: انعقد الإجماع علي أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر، و أجمع الصحابة علي أن من استفتي أبا بكر و عمر و قلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة و معاذ بن جبل و غيرهما، و يعمل بقولهم بغير نكير» «1».
التقليد غير الجائز: تقليد رجل معين واحد دون غيره من جميع العلماء ... فهذا النوع من التقليد لم يرد به نص من كتاب و لا سنة، و لم يقل به أحد من أصحاب رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم و لا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير» «2». و يري أن تقليد الرجل الواحد بعينه «مخالف لأقوال الأئمة الأربعة رحمهم اللّه فلم يقل أحد منهم بالجمود علي قول رجل واحد معين دون غيره من جميع المسلمين» «3». و يري أن تقليد رجل واحد معين من البدع المستحدثة «فتقليد رجل واحد معين من بدع القرن الرابع و من يدّعي خلاف ذلك، فليعين لنا رجلا واحدا من دون غيره، من جميع علماء المسلمين» «4».
لكن الشنقيطي لم يبين لنا ما يلي: (1) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (5/ 91).
(2) المصدر نفسه، (5/ 91).
(3) المصدر نفسه، (5/ 92).
(4) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 288
1- ما ذا قال الأئمة الأربعة في إنكارهم تقليد الواحد بعينه دون سواه ... و هل هذا الإنكار يرقي إلي عدم الجواز بالكراهية أم إلي الأفضلية أم إلي الحرمة؟! 2- لم يقولوا (أي أئمة المذاهب) بالجمود علي رجل واحد .. لكن هل قالوا بحرمة ذلك و أين.
3- هل عدم وجود رجل معين في القرون الأولي يقلّد من قبل الناس دليل علي بدعية الأمر.
و هنا: هب أن هذا الواحد بعينه كان موثوقا متمكنا من علمه، صالحا بنهجه و مسلكه، و أراد المقلّد أن يقلّده لمفرده أ لا يجوز ذلك؟
ثم إن اللّه تعالي عند ما يقول فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ «1» أ لا يعني جواز التقليد للواحد أو أكثر من الواحد؟
فعلي العموم فقد أجاز صاحب أضواء البيان: تقليد العامي- و أنكر التقليد علي غيره- و نقل عن كثيرين عدم جواز التقليد مطلقا في الدين [و ظني أنهم أرادوا عدم جواز التقليد مطلقا في العقيدة و ليس في فروع الدين ... لأنه نقل جواز تقليد العامي .
و نقل الشنقيطي عن محمد بن الحسن «جواز أن يقلد العالم من هو أعلم منه، و لا يجوز له تقليد من هو مثله» و هذا صحيح لأن الأصل أن يحمل الإنسان العالم مسئولية نفسه لا أن يلقي أمر دينه علي كاهل الآخرين .. و قد قلّد الشافعي عمر و عثمان» «2». و قلد مالك أهل المدينة في عملهم و برز الشافعي تقليده الصحابة بقوله: «رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، و نحن نقول و نصدق: [القائل هنا الشنقيطي : أن رأي الشافعي و الأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا» «3».
تنبيه: ساق الشنقيطي نصوصا في ذم نهج التقليد كقوله تعالي: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «4» ... و قوله علي لسان الكافرين: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلي أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلي آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «5». وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) «6» ..
و الملاحظ أن هذه النصوص القرآنية تهاجم من قلّد في أصول الدين لا في فروعه، لأن (1) سورة النحل، الآية: (43).
(2) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، (5/ 101).
(3) المصدر نفسه.
(4) سورة براءة، الآية: (31).
(5) سورة الزخرف، الآية: (23).
(6) سورة الأحزاب، الآية: (67).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 289
المؤلف أجاز للعامي التقليد علي الأقل .. و نقل دون نكير قول الشافعي و غيره من الأئمة تقليدهم الصحابة، دونما وقوع إجماع منهم، و لو وقع لارتفع إلي مرتبة النص.

الجانب اللغوي في أضواء البيان:

لقد بيّنا في مقدمة دراستنا «لأضواء البيان» أنه غني بأبحاثه اللغوية و استشهاداته الشعرية تبيانا و توضيحا لمعاني و دلالة الكلمات القرآنية، و لا غرابة في ذلك لأن هذا القرآن نزل بلسان العرب. لذا كان الشنقيطي متمكنا من لسان العرب، حتي كان متضلعا فيه مقتدرا علي فهم الكتاب الكريم، و سوف نبين فيما يلي جزءا من الجانب اللغوي في «أضواء البيان» من خلال دراستنا لسورة العصر الواقعة ضمن الأجزاء التي كتبها تلميذ الشنقيطي و علي نهجه عطية محمد سالم.
العصر: اسم للزمن كله، أو جزء منه.
و لذا اختلف في المراد منه، حيث لم يبين هنا.
و يربط المعني اللغوي بالمعني العقلي في فهم الزمن:
«فالزمن متحرك يضاهي الساكن «1» .. قال الشاعر:
و أري الزمان سفينة تجري بنا نحو المنون و لا نري حركاته «2»
فهو في نفسه آية سواء في ماضيه لا يعلم متي كان أو في حاضره لا يعلم كيف ينقضي، أو في مستقبله.
و قيل العصر: «الليل و النهار» قال الشاعر:
و لم يلبث العصران يوم ليلة إذا طلبا أن يدركا ما يتمما «3»
و العصران: أيضا الغداة و العشي، كما قيل:
و أمطله العصرين حتي يملني و يرضي بنصف الدّين و الأنف راغم «4»
و المطل: التسويف و تأخير الدّين.
و قيل العصر: «صلاة العصر لكونها الوسطي، و قيل عصر النبي صلي اللّه عليه و سلّم أو زمن أمته، (1) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، مج (6)، ص (136).
(2) البيت من البحر الكامل.
(3) من البحر الطويل.
(4) من البحر الطويل.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 290
و الذي يظهر .. أن أقرب هذه الأقوال كلها قولان إن العموم بمعني الدهر للقراءة الشّاذة «و العصر و نوائب الدهر» لأن القراءة الشّاذة أقل درجاتها التفسير، و لأن يشمل بعمومه بقية الأقوال.
و إما عصر الإنسان أي عمره و مدة حياته، الذي هو محل الكسب و الخسران لإشعار، و لأنه يخصّ العيب في نفسه و موعظة و انتفاعا» «1».
و يستعين مؤلف أضواء البيان بالربط المعنوي بين السورة التي قبلها و هي سورة «التكاثر» التي تتحدث عن مشكلة الإنسان الذي انشغل بجمع المال و التباهي بكثرة النسل دونما التفات إلي دينه و مرضاة ربه، حتي وجد نفسه في مواجهة الموت و السؤال و الحساب عما اقترفه في حياته الدنيا من أمور الخير و الشر.
و كذا سورة العصر التي أكدت خسران الإنسان الذي أنكر الإيمان و الإسلام في حين كان المؤمنون الآمرون بالمعروف النّاهون عن المنكر، الصابرون علي ما أصابهم من مصائب، أولئك هم الفائزون الرابحون في هذه الحياة ...
و كذا قبل ذلك سورة «الهمزة» التي أخبرتنا عن ذاك الذي انهمك بجمع المال ظنا و توهما أنّ ماله سيوفر له الخلود.
«مجتمع المال و تعداده في حياة الإنسان، و حياته محدودة، و ليس مخلدا في الدنيا كما أنّ الإيمان و عمل الصالحات مرتبط بحياة الإنسان.
و قوله تعالي: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) «2».
لفظ الإنسان و إن كان منفردا، فإن «أل» فيه جعلته للجنس.
و قد بيّن الشنقيطي في دفع إبهام الاضطراب و تقدم التنبيه عليه مرارا فهو شامل للمسلم و الكافر إلا من استثني اللّه تعالي.
و (إن الإنسان لفي خسر): جواب القسم، و الخسر: الغبن. و قيل النقص. و قيل العقوبة، و الهلكة ... و الكل متقارب.
و أطلق الخسران ليعم كل شئون الحياة، و جاء بحرف الظرفية ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران و هو محيط به من كل جهة، و لو نظرنا إلي أمرين و هما المستثني و السورة التي قبلها لا تضح هذا العموم، لأن مفهوم المستثني يشمل أربعة أمور: (1) لتلميذه عطية محمد سالم الشنقيطي، مج (6)، ص (136، 137).
(2) سورة العصر، الآية: (2).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 291
1- عدم الإيمان و هو الكفر.
2- عدم العمل الصالح و هو العمل الفاسد.
3- عدم التواصي بالحق و هو انعدام التواصي كلية، أو التواصي بالباطل.
4- عدم التواصي بالصبر، و هو إما انعدام التواصي كلية أو الهلع و الجزع.
و يربط سورة العصر مع سورة التكاثر الواقعة قبلها في المصحف «يظهر تلهي الإنسان بالتكاثر في المال و الولد بغية الغني و التكثر فيه، و ضده ضياع المال و الولد و هو الخسران» «1».
فعليه يكون الخسران في الدين من حيث الإيمان بسبب الكفر و في الإسلام و هو ترك العمل و إن كان يشمله الإيمان في الاصطلاح و التلهّي في الباطل و ترك الحق و في الهلع و الفراغ» «2».
و علي طريقة الشنقيطي يفسر من سورة العصر «إن الإنسان لفي خسر إلّا الذين آمنوا و عملوا الصالحات»- بالآيات القرآنية المفسرة لآيات سورة العصر بالجملة: قال تعالي:
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «3».
و قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ «4». أي لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء و قصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم، و حظّهم في الآخرة.
و أما الخسران بترك العمل، فكما في قوله تعالي: وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ «5» لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم.
و أما الخسران بترك التواصي بالحق، فليس بعد الحق إلا الضلال، و الحق هو الإسلام بكامله و قد قال تعالي: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) «6» و الخسران بترك التواصي بالصبر قوله تعالي: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلي حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلي وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) «7» .. زد علي ذلك فإن كل بحث في أضواء البيان تري فيه الجانب (1) محمد عطية محمد سالم، أضواء البيان، (6/ 138).
(2) المصدر نفسه.
(3) سورة الزمر، الآية: (65).
(4) سورة الأنعام، الآية: (31).
(5) سورة الأعراف، الآية: (9).
(6) سورة آل عمران، الآية: (85).
(7) سورة الحج، الآية: (11).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 292
اللغوي مشرقا نال من اهتمام المؤلف و تلميذه فيما بعد ما يستحق من الاهتمام، ثم التوظيف في خدمة ما أراده.

خاتمة:

تظهر قيمة «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» بتناول المؤلف الأصل محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي الموريتاني المالكي الإفريقي تفسير القرآن بالقرآن من أول الكتاب الكريم حتي نهاية قد سمع، و من عجيب الصدف أن يكون موقفه رحمه اللّه في التفسير علي قوله تعالي: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1». ثم أتمه تلميذ الشنقيطي عطية محمد سالم ...
إذا نحن أمام سفر جليل كريم تمّ إجماع العلماء علي عظيم منهجه إذ أن أشرف أنواع التفسير و أجلها تفسير كتاب اللّه بكتاب اللّه، إذ لا أحد أعلم بمعني كتاب اللّه جلّ و علا من اللّه جلّ و علا، ... علما أن المؤلف في توضيحه القرآن بالقرآن لم يقبل أن يستشهد إلّا بالقراءة السبعية المتواترة. و ما ذكره أحيانا من قراءة شاذة هو من قبيل الاستشهاد للبيان بقراءة سبعية. و هذا اشتمل علي الكتاب الكريم تقريبا.
ثم بيانه للأحكام الفقهية دون تعصب أو تعنت. و تمكن المؤلف من اللغة جعل بيانه جميلا مفهوما .. و إكثاره من الاستشهاد بكلام العرب الفصحاء الذين يعوّل عليهم في فهم آي الكتاب دعّم آراءه و وضّح مقاصده.
و دراستنا دراسة مبكرة تؤسس لدراسات قادمة أشمل و أعمق و أوسع، لأن دراسة حول هذا التفسير لم تكن بالمتناول و لو وجدت لاستفدنا منها، و لأسهمت في التقليل من الثغرات الموجودة في هذا البحث .. ثم إننا عزمنا علي دراسة الأمور الهامة في هذا التفسير. مثل الحديث و علاقته بالتفسير- الأحكام الفقهية في التفسير- اللغة في التفسير- التقليد عند المؤلف رحمه اللّه. آخر دعوانا سلام علي المرسلين و الحمد للّه رب العالمين.
***
(1) سورة المجادلة، الآية: (22).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 293

ثانيا: الدراسات القرآنية عند عبد اللّه سراج الدين‌

الشيخ عبد اللّه سراج الدين و التفسير:

الشيخ عبد اللّه سراج الدين عرفته حلب لعقود خلت بعلمه و تصوفه و ورعه، و بمدرسته الشعبانية التي يرتادها الكثيرون من طلبة العلم الشرعي، و درّس فيها غير قليل من علماء المدينة الكبار.
نشأ الشيخ عبد اللّه في بيت علم و دين. والده الشيخ محمد نجيب سراج الدين الحسيني رحمه اللّه، كان عالما من علماء المدينة المشاهير ...
للشيخ عبد اللّه سراج عدد من المؤلفات في علوم الشريعة (التوحيد و الحديث و الفقه و التصوف، الأخلاق، و الأذكار و الزهد).
أهم مؤلفاته:
- سيدنا محمد رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم خصاله الحميدة، شمائله المجيدة.
- التقرب إلي اللّه تعالي: فضله، طريقه، مراتبه.
- الإيمان بعوالم الآخرة و مواقفها.
- الدعاء: فضائله- آدابه، ما ورد في المناسبات و مختلف الأوقات.
- صعود الأقوال و رفع الأعمال إلي الكبير المتعال ذي العزة و الجلال.
- شهادة أن لا إله إلّا اللّه سيدنا محمد رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم. فضائلها- معانيها، مطالبها.
- الصلاة في الإسلام: منزلتها في الدين، فضائلها، آثارها، آدابها- فوائدها.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 294
- هدي القرآن الكريم إلي الحجة و البرهان- شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث.
- هدي القرآن الكريم إلي معرفة العوالم و التفكير في الأكوان- أدعية الصباح و المساء.
- حول تفسير سورة الفاتحة أمّ القرآن الكريم.
- حول تفسير سورة الحجرات.
و له دراسات و كتب أخري.
و ما دام موضوعنا التفسير عند الشيخ عبد اللّه سراج الدين فإنا نقول بعون اللّه:
يتناول الشيخ بعض السور تناولا خاصا فهو:
يقدم دراسة موجزة عن السورة: كأن يبين أ هذه السورة مكية أم مدنية؟ و يلخص بإيجاز السمات العامة للسورة من جانب الموضوعات و القضايا التي عالجتها السورة القرآنية موضوع الدرس مما يجعل القارئ فاهما لموضوع السورة بإيجاز قبل الدخول بالتفاصيل.
فعند ما درس سورة الحجرات قال:
«سورة الحجرات مدنية.
و قد اشتملت علي جوامع من الحقوق الإيمانية الأدبية:
أولا: مع جناب سيدنا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم.
ثانيا: مع المؤمنين عامة و بيان الرابط بين المؤمنين، و هو الأخوّة الإيمانية التي عقدها اللّه تعالي بينهم ثم بيان حقوق هذه الأخوة.
ثم بيان سبب التفاضل و الكرامة عند اللّه تعالي. ثم بيان ما يتميز به المؤمن الصادق عن المسلم المنافق إلي ما وراء ذلك من ذكر الإرشادات الإلهية» و نلاحظ الروح الصوفية بادية في بيانه عند ما يتحدث عن هذه السورة و كل سورة، يقول عن سورة الحجرات: «ففي سورة الحجرات حجرات جامعة لمجامع الخيرات و أنواع السعادات، و فيها التوجيهات و الإرشادات للفضائل و الكمالات الإيمانية و الخلقية و فيها التحذير من المفاسد و الضلالات، و أنواع المظالم، و انتقاص الحقوق الإنسانية الأدبية» «1». (1) عبد اللّه سراج الدين، حول تفسير سورة الحجرات، ط (1)، (141 ه- 1992 م)، دمشق، ص (5، 6).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 295

اللغة في دراسات عبد اللّه سراج الدين القرآنية:

امتازت لغة المؤلف بالوضوح و السهولة، و بدت مفهومة من قبل كل المستويات: من العالم و طالب العلم المبتدئ.
و في منهجه اللغوي في التفسير يكشف عن معاني المفردات، و قد يحلل معاني الأدوات و حروف المعاني إن رأي ما يدعو إلي ذلك.
قال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) «1» يقول:
«يا: اعلم أن (يا) في اللغة هي موضوعة للبعيد، مكانا أو رتبة، و قد جرت عادة اللّه تعالي في ندائه لعباده أن يناديهم بقوله: (يا) لا للبعد المكاني، و إنما هو من باب تعالي مقام الرب، و عزة سيادة ألوهيته سبحانه و عظمة سلطان ربوبيته، و علو شأنه، فينادي عباده الذين هم عبيده بقوله: (يا): و أين رتبة العبودية بالنسبة لعلو مقام الربوبية، علي أن في قوله تعالي: (يا) تنبيها للعباد كي يقبلوا بكليتهم إلي ما سيلقي عليهم من الخطاب المشتمل علي الأوامر و المناهي، و ما في ذلك من جوامع الإرشادات و محاسن التوجيهات، إلي مراتب الكمالات و إلي ما فيه صلاحهم و سعادتهم» «2».
و أما نداء العباد و دعاؤهم ربهم فإنه يأتي غالبا بحذف أداة النداء، فقد ذكر اللّه تعالي دعاء الأنبياء و الأولياء و المؤمنين «3». قال تعالي مخبرا عن دعاء أبينا آدم عليه السّلام:
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) «4».
و يري الشيخ عبد اللّه:
أن من أساليب الخطاب يتضح طبيعة الموضوع، أو يمكن القول إن لكل موضوع أسلوبه الخطابي، يقول المؤلف:
«إن كل من تدبر في آيات القرآن الكريم يعلم أن الخطابات الإلهية التي فيها إرشادات اللّه تعالي لعباده، و التي فيها الأوامر و المناهي و نحو ذلك، جاء ذلك علي أنواع في الصفات و النعوت، فيقول سبحانه: (1) سورة الحجرات، الآية: (1).
(2) عبد اللّه سراج الدين، حول تفسير سورة الحجرات، ص (7).
(3) المصدر نفسه.
(4) سورة الأعراف، الآية: (23).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 296
(يا بَنِي آدَمَ)، و يقول (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) و يفسر الشيخ أنواع هذه الخطابات بقوله:
«فما جاء في خطابه سبحانه لعباده بوصف بني آدم- يدل علي أن ما وراء ذلك هو أمر عام، و حكم شامل لجميع بني آدم من أولهم إلي آخرهم، و فيه رشادهم و صلاح أمورهم، و سعادتهم علي اختلاف أزمنتهم و أمكنتهم، فمن ذلك ما جاء في سورة الأعراف حين أهبط البشرية إلي عالم الأرض، قال تعالي:
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلي حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوي ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) «1».
و أما الخطاب بوصف الناس فقد يراد به جميع الناس من المؤمنين و غيرهم قال تعالي:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) «2».
و قد يراد به المشركون: قال تعالي:
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (73) «3».
و كثيرا ما كانت تنزل الخطابات الإلهية بصفة الناس في مكة المكرمة و قد نزل منها الكثير في المدينة كقوله تعالي في سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) «4».
و أما الخطابات الإلهية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا جاء ذلك خمس مرات في هذه السورة الكريمة و في الخطاب بهذه الصفة وجوه من الحكم» «5». (1) سورة الأعراف، الآيات: (24- 27). و انظر تفسير سورة الحجرات، ص (10).
(2) سورة النساء، الآية: (1).
(3) سورة الحج، الآية: (73).
(4) سورة البقرة، الآية: (21).
(5) عبد اللّه سراج الدين، حول تفسير سورة الحجرات، ص (10، 11).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 297

الدراسات القرآنية و الحديث الشريف عند الشيخ عبد اللّه سراج الدين:

من المعلوم أن الشيخ عبد اللّه شرح المنظومة البيقونية في المصطلح. لذا فهو علي تمكن من هذا الموضوع من هذا الجانب.
و أما جانب الاستشهاد بالأحاديث فهو كثير جدا، فما من موضوع قرآني إلّا و قد حشد المؤلف فيه عددا كبيرا من الأحاديث الشريفة ... و الحق أن القرآن يستعان علي فهمه الفهم السديد بالاستنارة بالحديث. و من البديهي القول: إن السنة تخصص علم القرآن، و تقيد مطلقه، و تفصل مجمله.
و في حديثه عن الخلق الذي ورد في الآيات الكريمة مثل هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) «1» يسوق الحديث الذي يفسر معني الآية: عن أبي موسي رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «إن اللّه تعالي خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم علي قدر الأرض، جاء منهم الأحمر و الأبيض و الأسود و بيّن ذلك، و السهل و الحزن- أي الغليظ الذي فيه عنف- و الخبيث و الطيب و بيّن ذلك» «2».
و دراسات عبد اللّه سراج القرآنية: يتناول فيها مسائل التوحيد، و التصوف، و الفقه كما يشير إلي محاسن الأخلاق و كرائمها التي تهدي إليها السور القرآنية.
و يركز علي أهمية حب الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و أهمية صدق المحبة التي ينبني عليها صحة الإيمان و صدقه- كما أنه يستثمر الآيات الكريمة لاستثارة النفس الإنسانية و دفعها باتجاه الأخلاق الحسنة و السلوك الأفضل.

خاتمة:

دراسات قرآنية مفيدة، تدفع القارئ بمراجعتها لسهولة لغتها، ... و تتمني لو أن الأحاديث جميعها قد خرّجت من قبل الشيخ كي تكون الفائدة أكبر إذ أنّ هناك بعض الأحاديث لا يذكر الشيخ رتبتها، و هو إن أراد لقادر علي ذلك إن شاء اللّه تعالي لأن ذلك فيه نفع أعظم لطلبة العلم و كل المطلعين و اللّه أعلم.
***
(1) سورة آل عمران، الآية: (6).
(2) أخرجه الترمذي.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 299

الفصل الرابع التفسير الأدبي الاجتماعي‌

اشارة

أولا: التفسير عند الشيخ محمد رشيد رضا و معه تفسير الشيخ محمد عبده.
ثانيا: التفسير عند أحمد بن مصطفي المراغي.
ثالثا: تعليق و مناقشة لآراء محمد عبده و رشيد رضا و المراغي.
رابعا: في ظلال القرآن لسيد قطب.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 301

أولا: تفسير القرآن الحكيم للشيخ محمد رشيد رضا و معه تفسير الشيخ محمد عبده‌

مقدمة: اللون الأدبي الاجتماعي:

التفسير الأدبي يعمد إلي اكتشاف روعة البيان القرآني، و دقته التعبيرية في كيفية معالجة قضايا النفس الإنسانية المتشعبة، و يبين رقة اللفظ القرآني و رشاقته الفنية في التصوير، و التشخيص ...، و كيف يجعل المعنوي حسيا ماثلا أمام القارئ، و هذا عرف عند علماء الأدب بالتصوير و التشخيص.
ذلك التصوير يجعل الإنسان يتصوّر المعنوي قائما أمام الحواس مرسوما بأبعاده فيترك آثاره الهائلة علي النفس البشرية. و هناك عدد من الدراسات الأدبية الاجتماعية في هذا المجال .. كانت نتاج التقدم الثقافي و العلمي و الأدبي الحاصل في فترة أواخر القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين. و من هذه التفاسير الأدبية «المنار لمحمد عبده و تلميذه محمد رشيد رضا» و محمد مصطفي المراغي و محمد أمين الخولي و عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) و غيرهم. إنّ هؤلاء الكتاب و المفسرين استثمروا القديم من التفاسير و أفادوا أحسن ما تكون الفائدة، و سكبوا علي القديم ألوانا من الجديد، فظهرت تفاسيرهم موشاة بثوب جديد فيه أصالة الماضي، و حداثة الجديد، .. ثم يجب ألا ننسي محاولة محمد متولي الشعراوي في تفسيره الذي حاول فيه أن يحشد أنواعا شتي من المعارف و العلوم كي ينشئ لنا التفسير إنشاء آخر حاملا روح العصر الحديث، متمسكا بفصاحة اللغة و وضوحها و جمال بيانها، كل ذلك لينمّي تذوقنا للقرآن و لبيانه العربي المشرق بنظرة منه ثاقبة، و ملاحظة منه لمّاحة، فأحسن و أجاد، و أفاد عند ما وظّف البلاغة و النحو و الصرف و علم
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 302
النفس و العلم التجريبي توظيفا متماسكا منسجما إذ جعلها علوما تخدم بعضها إذ جعل كل منها يمسك بالآخر كي تنتج ثمرا طيبا لذة للآكلين في رحاب الكتاب الكريم «1».

تفسير المنار لمؤلفيه محمد عبده و رشيد رضا

1- الشيخ محمد عبده (1266- 1323 ه/ 1849- 1905 م):

محمد عبده بن حسن خير اللّه من آل التركماني مفتي الديار المصرية و من كبار رجال الإصلاح و التجديد في الإسلام، قال أحد من كتبوا عنه «تتلخص رسالة حياته في أمرين:
الدعوة إلي تحرير الفكر من حقد التقليد ثم التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة علي الشعب و ما للشعب من حق العدالة علي الحكومة».
ولد محمد عبده في شبرا من القري الغربية بمصر و نشأ في محلة نصر بالجيزة، و أحبّ في صباه الرماية و الفروسية و السباحة، و تعلّم بالجامع الأحمدي بطنطا، ثم بالأزهر، و تصوّف و تفلسف، و عمل بالتعليم، و كتب في الصحف و لا سيما جريدة الوقائع المصرية، و قد تولي تحريرها، و أجاد اللغة الفرنسية. بعد الأربعين، و لمّا احتلّ الإنكليز مصر ناوأهم، و شارك في مناصرة الثورة العرابية، فسجن مدة ثلاثة أشهر للتحقيق، و نفي إلي بلاد الشام سنة 1299 ه- 1881 م. و سافر إلي باريس و أصدر مع صديقه و أستاذه جمال الدين الأفغاني جريدة العروة الوثقي، و عاد إلي بيروت فاشتغل بالتدريس و التأليف، و سمح له بدخول مصر فعاد سنة 1306 ه- 1888 م. و تولّي منصب القضاء، ثم جعل مستشارا في محكمة الاستئناف، فمفتيا للديار المصرية سنة 1317 ه، و استمر إلي أن توفي بالإسكندرية و دفن بالقاهرة» «2» و له مؤلفات عدة:
تفسير القرآن الكريم، لم يتمّه، و «رسالة التوحيد» و «الرد علي هانوتوط»- و «رسالة الواردات ط صغيرة- في الفلسفة و التصوف» و «حاشية علي شرح الدواني للعقائد العضدية ط- «و شرح نهج البلاغة» و «الإسلام و الرد علي منتقديه» ط- و «الإسلام و النصرانية: العلم و المدنية».
و تناول الكتاب و العلماء هذه الشخصية بالدراسة فكان منهم المادحون و منهم القادحون، أما المادحون فمن أبرزهم تلميذه المخلص محمد رشيد رضا- الذي كتب «تاريخ الأستاذ الإمام» و لمصطفي عبد الرزاق سيرة الإمام محمد عبده، و لعبد المنعم حمادة (1) راجع دراستنا حول «تفسير الشعراوي» ص (239).
(2) الزركلي، الأعلام، (6/ 252)، ط (2)، دار العلم للملايين، (1997).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 303
«الأستاذ الإمام محمد عبده» «1».
و ما زال بعض الكتاب ينهجون نهج محمد عبده و الأفغاني، و يعتبرون أنفسهم امتدادا لمدرستهما في التفكير و المنهج منهم «محمد عمارة» المفكر الإسلامي المصري المعروف «2».
و أما القادحون فأبرزهم محمد محمد حسين في كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» «3».
و نقل كمال سعد و هو صحفي عن محمد محمد حسين كلاما ألقاه في ندوة فكرية عقدت في منزل الأديب الشيخ عبد العزيز الرفاعي طرح خلالها المرحوم محمد محمد حسين ارتيابه «بجمال الدين الأفغاني» «4» و تهجم علي محمد عبده متهما إياه بارتباطات واضحة في المحافل الماسونية «5» في كتابه «الاتجاهات الوطنية» و قد اعترف محمد عبده لرشيد رضا بانتمائه إلي الماسونية ثم انسحب منها.
و المحصلة العامة لتأثير محمد عبده و مدرسته علي الثقافة الإسلامية في الوطن العربي كانت محصلة إيجابية حتي لو سلّمنا بكل هذه الارتيابات بهذه الشخصية .. فمنهجه في التفكير كان ذا أثر إيجابي علي الحياة الثقافية عموما ... و لا يشترط بهذا التسليم بكل ما قاله محمد عبده أو غيره من أصحاب هذا الاتجاه الإصلاحي، و الثقافي.

2- محمد رشيد رضا (1282- 1354/ 1865- 1935 م):

هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين، بغدادي الأصل، حسيني النسب، ولد و نشأ في القلمون في بلاد الشام ... أحد دعاة الإصلاح، صاحب مجلة المنار.
عالم بالحديث الشريف و الأدب، رحل إلي مصر في عام 1315 ه فلازم الشيخ محمد عبده و تتلمذ له، بثّ آراءه الإصلاحية في مجلته «المنار» حاول فيها التوفيق بين الإسلام و الحياة العصرية، كان يشارك في النشاطات الوطنية في بدء الاحتلال الفرنسي إذ ترأس المؤتمر السوري الذي دعا إلي حرية الوطن السوري و وحدته و استقلاله. و خلال وجوده في سورية (1) الزركلي، الأعلام، (6/ 252)، ط (2)، دار العلم للملايين، (1997).
(2) موفق بني المرجة، صحوة الرجل المريض ط، الكويت (1994)، ص (351).
(3) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، بيروت، مؤسسة الرسالة ط (6)، 1983، ج (2)، ص (307، 308).
(4) موفق بني المرجة، صحوة الرجل المريض، ص (341).
(5) الزركلي، الأعلام، (6/ 126).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 304
اعترض عليه أحد المقاومين للإصلاح فعاد إلي القاهرة و مات فيها و فيها دفن.
أشهر آثاره العلمية: مجلة المنار التي أصدر منها 34 مجلدا. و «تفسير القرآن الكريم» ط 12 مجلدا و لم يكمله، و تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده. (ط)، و نداء للجنس اللطيف. (ط)- و الوحي المحمدي (ط)، و محاورات المصلح و المقلّد ... و غير ذلك من المؤلفات».

تفسير المنار: أحد نماذج التفسير الأدبي الاجتماعي:

تمهيد:

إن مدرسة محمد عبده صاحبة الكأس المعلّي في هذا المجال من التفسير، إذ قام رجال هذه المدرسة بجهود ضخمة في سبيل تحرير التفسير من الأسلوب الجاف، و العبارة اليابسة، و القوالب الجامدة التي ألقت بثقلها علي البيان العربي في عهود الأيوبيين و المماليك و العثمانيين .. فما إن هبت رياح التقدم العلمي و الثقافي حتي استجابت رجالات هذه المدرسة لهذه العوامل الجديدة و أدلت بدلائها في هذا المجال، فأنتجت آراء في التفسير، و أساليب أداء هي للابتكار أقرب، حمد الباحثون و العلماء في علوم القرآن الكثير مما جاء فيها و أنكرت عليها مسائل.
و سوف نذكر محاسنها و معايبها في نهاية بحثنا في تفسير المنار جاعلين من ذلك خاتمة للبحث و باللّه التوفيق.

طلب الجمعية الخيرية الإسلامية من محمد عبده أن يفسر لها جزء عم:

و لعل من المناسب البدء بما أنتجه محمد عبده في التفسير لأنه بدأ في تفسير جزء «عم».
هذا التفسير كتبه «بمشورة الجمعية الإسلامية الخيرية ليكون مرجعا لأساتذة مدارس الجمعية في تفهيم التلاميذ معاني ما يحفظون من سور هذا الجزء» «1».
و قد أتم محمد عبده تفسيره لهذا الجزء في عام (1321 ه) «2».
و حدثنا محمد عبده عن نهجه في تفسير هذا الجزء باذلا جهده كي تكون «العبارة (1) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (2/ 552).
(2) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 305
سهلة التناول، خالية من الخلاف، و كثرة الوجوه في الإعراب، بحيث لا يحتاج في فهمها إلا أن يعرف القارئ كيف يقرأ، أو السامع كيف يسمع مع حسن النية و سلامة الوجدان» «1».
«كذلك فإن محمد عبده فسّر سورة «العصر» تفسيرا مطوّلا- و كذلك ألقي بحوثا تفسيرية فيها الذود عن القرآن في وجه المشككين تناول توفيقه بين الآيات الموهمة للتضاد و التعارض، منها الآيات التي تنسب الأفعال للّه، و أخري تنسب الأفعال للبشر.
و من ذلك تفسيره للآية في سورة الحج وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطانُ ... «2» «و إبطاله قصة الغرانيق و تفنيده لما بني عليها من تفسير يذهب بعصمة النبي صلي اللّه عليه و سلّم، و يرفع الأمان عن الوحي الذي تكفّل اللّه بحفظه» «3».
و من هذا القبيل ذوده عن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم في قصة زواجه من زينب رضي اللّه عنها و ما أثاره المؤمنون من اتهامات كاذبة بحق الرسول صلي اللّه عليه و سلّم إذ رموه بالشهوانية.
و من جهوده التفسيرية ما ألقاه في جامعة الأزهر باقتراح من تلميذه محمد رشيد رضا كما قال محمد عبده «4».
و عمل محمد عبده بدأ في أول محرم 1317 ه- و انتهي عند تفسير قوله تعالي في الآية 126 من سورة النساء وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ مُحِيطاً (126) في محرم 1323 ه/ إذ توفي في هذا العام لثمان خلون من جمادي الأولي.
و ينبغي التنبيه أن محمد عبده لم يكتب بيده ما فسّره من القرآن، إنما الذي كتبه منه مباشرة تلميذه محمد رشيد رضا ثم نشر محمد رشيد رضا هذه الكتابات المفسّرة في مجلة «المنار» و ذلك بعد اطلاعه محمد عبده علي ما أعده للطبع ما تيسر له ذلك» «5».

منهاج محمد عبده في التفسير:

كان محمد عبده داعية تجديد و تحرر، و لم يكن داعية جمود و تقليد، و لما كان كذلك فإنه بذل جهودا ضخمة من أجل التجديد، و التحرر من الجمود و التقليد، فأتي بأفكار خالف السابقين و دعا لاعتناقها الحاضرين، فجلبت له غضب الكثيرين من تيار المحافظين، (1) محمد عبده، مقدمة تفسير جزء عم، مطبعة مصر، (1341 ه)، ص (2).
(2) سورة الحج، الآية: (52، 53، 54، 55).
(3) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (2/ 553).
(4) محمد عبده، تفسير المنار، (1/ 4)، ط (1346).
(5) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (2/ 554).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 306
غير أنها جمعت له أنصارا و أعدّت له معجبين، فكانوا بما قال من المؤمنين.
و هذا شأن كل جديد مع كل قديم يصطرع معه، فإن كان الجديد يمتلك قابلية الحياة و الاستمرار أخذ مكانه في الأرض، و نمت شجرته، و نضج ثمره، و إن لم يكن حاملا قابلية الحياة ذهب جفاء كما يذهب الزبد.
و يمكن القول: إن محمد عبده كان يدعو إلي فهم القرآن فهما يبرز الدين أداة هداية و رشاد للإنسانية مبتغيا سعادتها غير مضيق عليها في دنياها، فاتحا لها أبواب الآخرة السعيدة المبشرة بحياة طيبة في جنات اللّه التي أعدت للمتقين .. لذا فإن محمد عبده نأي بنفسه من خلال تفسيره بعيدا عن التفريعات الفقهية، أو التطبيقات النحوية و الصرفية، لأنه كان يري أن التركيز علي النحو و الصرف و الفقه في كتب التفسير السابقة و القديمة منها علي الخصوص قد أخرجت هذه التفاسير عن مقاصدها و أهدافها الداعية إلي الرشد و الهداية و توضيح سبيل المؤمنين علي نحو سهل ميسّر «1».
و كي يستطيع محمد عبده أن يختطّ لنفسه نهجا نافعا في التفسير فإنه درس التفاسير القديمة و وجدها لا تخرج عن نوعين:
النوع الأول: «جاف مبعد عن كلام اللّه تعالي و هو الذي اهتم بتدبر معاني الألفاظ، و إعراب الجمل، و بيان ما ترمي إليه العبارات و الإشارات» و برأي محمد عبده أن هذا «لا يسمي تفسيرا و إنما ضرب من التمرين في النحو و الصرف، و المعاني و نحوها».
و النوع الثاني: اهتم بفهم المراد و المقاصد من القول، كما حاول أن يدرس علل التشريع و أسبابه و حكمه دراسة جلّابة للدين و الأخلاق، منفّرة من الشر و الرذيلة و الأعراف.
بهذا يتحقق بهذا التفسير الفائدة المبتغاة، و الأمل المرجو بالدعوة إلي الخير و الهداية، المودعة في القرآن الكريم الواضحة في قوله تعالي في وصف القرآن الكريم: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلي هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْري لِلْمُسْلِمِينَ (89) «2». هذا ما أراده محمد عبده من تفسيره كما قال «3».
و عند ما قال محمد عبده إنه يريد الابتعاد عن الجوانب النحوية و البلاغية في تفسيره، فإنه لم يبلغها تماما إنما تناول جوانب بلاغية بالقدر الذي يخدم تفسير المعني، و يكسبه (1) محمد عبده، تفسير المنار، (1/ 17، 18).
(2) سورة النحل، الآية: (89).
(3) محمد عبده، تفسير المنار، بتصرف (1/ 25).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 307
إضاءة و وضوحا ضمن الحدود المحتملة للمعني، دون تحمل و إطالة في هذا الجانب «1».

القرآن و العقيدة الإسلامية كما بيّنها المنار:

ما من شك أن القرآن الكريم هو المصدر الأساس للدين الإسلامي، أصولا و فروعا، و الأصول هي العقائد، و العقيدة تؤخذ أصلا من القرآن الكريم، و قد أخطأ قوم عند ما أخذوا يتأوّلون القرآن كي يطوعوه لصالح آرائهم العقيدية، يقول محمد عبده. «إذا وزنا ما في أدمغتنا من الاعتقاد بكتاب اللّه من غير أن ندخلها أولا فيه، يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين. و أما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرآن و حشرناها فيه أولا، فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان فلا يدري ما هو الموزون به» «2».
يريد أن يقول: كي نستطيع أن نحدد صفاء عقيدتنا يجب أن نحافظ علي سلامة المعيار أو القياس الذي هو القرآن عند كل المسلمين، ... أما إذا بدأنا نتلاعب في المعيار فلن نستطيع أن نزن أو نقيس الأمور قياسا صحيحا ... و بهذا لا نستطيع أن نقرر أو أن ندرك أ نحن نمتاز بعقيدة صحيحة، أم بعقيدة فاسدة.
فمحمد عبده يريد أن يجعل من القرآن أساسا تقاس عليه القضايا و الآراء في شتي شئون الحياة، و يريد أن تكون المذاهب خاضعة لهذا المقياس:
«أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب و الآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلا و القرآن هو الذي يحمل عليها. و يرجع بالتأويل أو التحريف إليها كما جري عليه المخذولون، و تاه فيه الضالون» «3».

عدم اعتماد محمد عبده علي كتاب عند ما فسر القرآن:

إنّ طبيعة المخاطبين تؤثر تأثيرا كبيرا في أسلوب المخاطب، و كان من عادة محمد عبده أن يراعي حال من يستمعون إليه «فإذا حضره جماعة من البلداء، الخاملي الفكر شرح لهم المعني بكلمات قليلة، و إذ كان هناك من يتنبّه لما يقول و يلقي له بالا يفتح اللّه عليه بكلام كثير، هذا ما حدّث به محمد عبده عن نفسه» «4». (1) محمد عبده، تفسير سورة الفاتحة، ص (54).
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) محمد عبده، تفسير المنار، (1/ 14)، ط (1346 ه).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 308

محمد رشيد رضا يتحدث عن طريقة محمد عبده في التفسير:

يظهر من كلام محمد رشيد رضا عن أستاذه محمد عبده أن محمد عبده لم يكن ليريد أن يكرر ما قاله المفسرون الأوائل الذين سبقوه، ... إنما يلجأ إلي الاختصار في القول في المسائل التي أجاد فيها السابقون، و توسّعوا فيها مثل «مباحث الألفاظ، و الإعراب، و نكت البلاغة، و في الروايات التي تدل عليها، و لا تتوقف علي فهمها الآيات» «1».
كان الرجل ميالا إلي التفكير و العقل الحر أكثر من ميله إلي التقيد بكتاب «إنه كان يقرأ المصحف و يلقي ما يفيض اللّه علي قلبه» «2».
و لعل محمد عبده كان حريصا علي ألا يقلّد غيره من السابقين، و كأنه كان يدرك أن اطّلاعه علي من فسر سابقا يجعله متأثرا بما قرأه لتوّه، لذا كان يقول: «إنني لا أطالع قبل أن أقرأ لكنني ربما أتصفح كتاب تفسير إذا كان هناك وجه غريب في الإعراب أو كلمة غريبة في اللغة» «3».
و يقول محمد رشيد رضا عن محمد عبده إنه «قد يضع أمامه تفسير الجلالين الذي هو أوجز التفاسير فكان يقرأ عبارته فيقرها أو ينتقد منها ما يراه منتقدا ثم يتكلم في الآية أو الآيات المنزلة في معني واحد بما فتح اللّه عليه مما فيه هداية و عبرة» «4».
و في كل الأحوال فإن محمد عبده كان معتدا بآرائه، غير آبه بمن خالفه من السابقين، كان يقرأ لهم، و يحاكم ما قرأ «و لم يلغ عقله أمام عقولهم، بل علي العكس من ذلك وجدناه يندد بمن يكتفي في التفسير بالنظر في أقوال المتقدمين»، فيقول: «التفسير عند قومنا اليوم و من قبل اليوم بقرون هو عبارة عن الاطلاع علي ما قاله بعض العلماء في كتب التفسير علي ما في كلامهم من اختلاف يتنزه عنه القرآن وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «5».

محمد عبده يركز علي أهمية التدبر و العمل بما ورد في القرآن:

قلنا فيما سبق إن محمد عبده لم يركز علي ما قاله السابقون، و لم يتوسع بما توسعوا به، و إنما همّه أن ينوّر عقول الناس بالقرآن، أو أراد أن يحض كل سامع أو كل قارئ له (1) محمد عبده، تفسير المنار، (1/ 14).
(2) المصدر نفسه.
(3) عثمان أمين، محمد عبده، ص (11). ط عيسي الحلبي، (1944 م).
(4) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (1/ 15).
(5) سورة النساء، الآية: (82).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 309
أن يكوّن لنفسه أدوات فهم للقرآن، لأنه لا يكفي أن تستقبل آراء الآخرين و ما قالوه في القرآن «إن اللّه تعالي لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس، و ما فهموه إنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا و هدايتنا و عن سنة نبينا الذي بيّن لنا ما أنزل إلينا .. يسألنا: هل بلغتكم الرسالة؟ هل تدبرتم ما بلغتم؟ هل عقلتم ما عنه نهيتم و ما به أمرتم «1»؟
لقد كان توّاقا إلي الفهم المأخوذ عن دراسة و ترو «و أعني بالفهم ما يكون عن ذوق سليم تصيبه أساليب القرآن بعجائبها، و تملكه مواعظه فتشغله عما بين يديه مما سواه، لا أريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمي من الكتب أخذا جافا، لم يصحبه ذلك الذوق، و ما يتبعه من دقة الشعور و لطف الوجدان» «2».
و قد كان محمد عبده مخلصا متحمسا لأهدافه الإصلاحية في التفسير، كما كان حرا في بحثه، لا يكترث بضغط الواقع، و لا ينحني لثقله ما دام ما رآه مقتنعا به، فمن النوادر الطريفة التي وقعت له بعد تفسيره بعض آيات القرآن ما قاله أحد المحاورين: إن ما قلته لا يوافق عليه الجمل، [يعني بالجمل أحد الأشخاص الملقب بهذا اللقب و هو أحد المؤلفين الذين كتبوا الحواشي لتفسير الجلالين - فأجاب محمد عبده فورا:
«إنني أقرر المعني الجليل، و الكلام البليغ، و لا يعنيني أ وافق عليه الجمل أو الحمار» «3».

محمد عبده و الإسرائيليات:

المقصود بالإسرائيليات: المرويات المنقولة عن أهل الكتاب.
كان محمد عبده نفورا من الإسرائيليات، لا يتدخل في تفسير الجزئيات، قناعة منه بعدم الفائدة من ولوجها، و لعدم تكليف اللّه تعالي عباده بولوجها بحثا عن دقائقها و تفصيلاتها، و لو كان في ذلك فائدة للناس في حياتهم «لدلّنا عليه في كتابه أو علي لسان نبيه» «4». و الحق أن المتتبع لتفسير محمد عبده و تلامذته من بعد في المنار لوجدهم عزوفين عن التكلف في فهم المبهمات أو الجزئيات، إنما كان «مذهبه في جميع مبهمات القرآن يقف عند النّص القطعي لا يتعدّاه، و يثبت أن الفائدة لا تتوقف علي سواه». (1) محمد عبده، و رشيد رضا، المنار، (1/ 27).
(2) المصدر نفسه.
(3) عثمان أمين، محمد عبده، ط عيسي البابي الحلبي (1944)، ص (27).
(4) محمد عبده، تفسير المنار، (2/ 320).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 310
و لعل بعض الأمثلة التطبيقية لما أسلفناه عن نهج محمد عبده تساعدنا في توضيح الأمر، قال تعالي في سورة الانفطار: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) «1». قال محمد عبده في تفسير هاتين الآيتين: «و من الغيب الذي يجب علينا الإيمان به ما أنبأنا به في كتابه: أن علينا حفظة يكتبون أعمالنا حسنات و سيئات، و لكن ليس علينا أن نبحث عن حقيقة هؤلاء و من أي شي‌ء خلقوا، و ما هو عملهم في حفظهم و كتابتهم، هل عندهم أوراق و أقلام و مداد كالمعهود عندنا ... و هو يبعد فهمه؟ أو هناك ألواح ترسم فيها الأعمال؟ و هل الحروف و الصور التي ترسم هي علي نحو ما نعهد؟ أو إنما هي أرواح تتجلي لها الأعمال فتبقي فيها بقاء المداد في القرطاس إلي أن يبعث اللّه الناس؟ كل ذلك لا نكلّف العلم به، و إنما نكلف الإيمان بصدق الخبر، و تفويض الأمر في معناه إلي اللّه، و الذي يجب علينا اعتقاده من جهة ما يدخل في عملنا هو: أن أعمالنا تحفظ و تحصي، لا يضيع منها نقير و لا قطمير» «2».
و عند ما يفسر محمد عبده سورة البروج و يتحدث القرآن عن أصحاب الأخدود نري المفسّر غير مولع بتحديد المكان، و لا من هؤلاء المؤمنون؟ و أين كانوا؟ ... إنه كان يريد التقاط الموعظة، و وضع اليد علي المنفعة التي تنفع الناس يقول: «غير أن المؤمن لا يحتاج في الاعتبار و إشعار الموعظة قلبه إلي أن يعرف القوم و الجهة، و خاصة الدين الذي كان عليه أولئك أو هؤلاء حتي يطير وراء القصص المشحونة بالمبالغات، و الأساطير المحشوة بالخرافات، و إنما الذي عليه هو أن يعرف من القصة ما ذكرناه أولا، و لو علم اللّه خيرا في أكثر من ذلك لتفضّل علينا به» «3».
و ينتقد محمد عبده تدخل بعض المفسرين في تفسير بعض المغيبات التي لم يكشفها النّص القرآني مثل تناول بعضهم صفات الميزان الذي يزن أعمال الناس يوم القيامة، و ذلك خلال تفسير سورة القارعة «إنه ميزان بلسان و كفتين كأطباق السموات و الأرض، و لا يعلم ماهيته إلا اللّه» يعقب محمد عبده علي أقوال المفسرين: «فما ذا بقي من ماهيته بعد لسانه و كفتيه حتي يفوّض فيه العلم إلي اللّه؟! و الكلام فيه جرأة علي غيب اللّه بغير نص صريح متواتر عن المعصوم. و لم يرد في الكتاب إلا كلمة ميزان، و قد عرفت ما يمكننا أن نفهم منها لننتفع بما نعتقد، و ما عدا ذلك فعلمه إلي اللّه سبحانه، و قد قالوا: إن منكر الميزان بالمعني المعروف لا يكفر، إذا كان القائل به يحدد له لسانا و كفتين مع أن البشر اخترعوا (1) سورة الانفطار، الآيتان: (10، 11).
(2) محمد عبده، تفسير جزء عمّ، ص (36).
(3) المصدر نفسه، ص (59).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 311
من الموازين ما هو أتقن من ذلك و أضبط» «1».
و يري محمد عبده أن ميزان اللّه غير ميزان القبائل أو ميزان عامة البشر مهما دق و أتقن، لأن اللّه أعظم من ذلك و لن يصل الإنسان إلي تصور صحيح و معرفة أكيدة عن مواصفات هذا الميزان لأن اللّه لم يخبرك عنه أيها الإنسان. لذا قال محمد عبده:
«عليك أيها المؤمن المطمئن إلي ما يخبر اللّه به أن تؤمن أن اللّه يزن الأعمال. و يميز لكل عمل مقداره، و لا تسل كيف يزن، و لا كيف يقدر، فهو أعلم بغيبه، و اللّه يعلم و أنتم لا تعلمون» «2».

كيف عالج محمد عبده المسألة الاجتماعية في تفسيره؟

لقد كان محمد عبده حريصا كل الحرص أن يأخذ من كل آية نفعا اجتماعيا لأن القرآن أنزل هدي و رحمة و بشري للناس، لذا فإن كل آية تحمل فائدة للمجتمع، تعالج أمراضه، و تزكي روح الخير و الإيجابية في الإنسانية المعطاءة .. فعند ما يتناول آية من القرآن تناولت قضية اجتماعية فإنه يتوسع فيها، و يلقي من تفسيره، و توضيحه حتي يبدو النص القرآني واضحا للعقول إن العلاج في القرآن.
فسّر الإمام محمد عبده سورة «العصر» تفسيرا مطوّلا و تحدث عن معاني جليلة في هذه السورة ثم وقف عند «وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ» و قال:
«و الصبر ملكة في النفس يتيسّر معها احتمال ما يشق احتماله، و الرضي بما يكره في سبيل الحق، و هو خلق يتعلق به بل يتوقف عليه كمال كل خلق، و ما أوتي الناس من شي‌ء مثل ما أوتوا من فقدان الصبر أو ضعفه. كل أمة ضعف الصبر في نفوس أفرادها، ضعف فيها كل شي‌ء، و ذهبت منها كلّ قوة، و لنضرب لذلك مثلا: نقص العلم عند أمة من الأمم كالمسلمين اليوم، إذا دققت النظر وجدت السبب فيه ضعف الصبر» .. يجلس الطالب لدرسه سنة أو سنتين، ثم تعرضه مشقة التحصيل فيترك الدرس أو يتساهل في فهمه إلي حرفة أخري يظنّها أريح له، فينقطع عن الطلب، و يذهب في الجهل كل مذهب، و كل هذا من ضعف الصبر .. يبخل البخيل بماله، و يجهد نفسه في جمعه و كنزه، و تعرض له وجوه البر فيعرض عنها، و لا ينفق درهما في شي‌ء منها، فيؤذي بذلك وطنه و ملته، و يترك الشر و الفقر يأكل قومه و أمته، و لو نظرنا إلي ما قبضت يداه لوجدناه ضعف الصبر، و لو صبر (1) محمد عبده، تفسير جزء عمّ، ص (147).
(2) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 312
علي محاربة الفقر اللائح في ذهنه يهدده بالنزول به، لما أصيب بذلك المرض القاتل له و لأهله» «1» ... و هكذا يضرب الأمثلة الكثيرة، و يستنبط منها العبر الغزيرة التي تحمل الفائدة للناس. و العلماء لا عذر لهم إذا تقاعسوا عن حمل الهداية إلي الناس ... «يجب علي العلماء و من يتشبه بهم أن يتعلموا وسائل القيام بالواجب ما تدعو إليه الحال، علي حسب الأزمان و اختلاف أحوال الأمم، و أول ما يجب عليهم في ذلك أن يتعلموا التاريخ الصحيح، و علم تكوين الأمم، و ارتفاعها و انحطاطها، و علم الأخلاق و أحوال النّفس، و علم الحس و الوجدان، و نحو ذلك مما لا بد منه في معرفة مداخل الباطل إلي القلوب، و معرفة طرق التوفيق بين العقل و الحق، و سبل التفريق بين اللذة و المنفعة الدنيوية و الأخروية و وسائل استمالة النفوس عن جانب الشر إلي جانب الخير. فإن لم يحصلوا علي ذلك كلّه فوزر العامة عليهم. و لا تنفعهم دعوي العجز، فإنهم ينفقون من أزمانهم في القيل و القال و البحث في الألفاظ و الأقوال ما كان يكفيهم أن يكونوا بحار علم، و أعلام هدي و رشد» «2».

محمد عبده يربط بين الفرد و المجتمع ربطا محكما:

موقع الإنسان الفرد في مجتمعه، كموقع اليد من الجسد، فإذا ما أصاب اليد الشلل أو العطل، فإن هذا المجتمع أصيب بالقصور، و دان بالعجز، لذا كان لا بد للفرد أن يبذل من الجهد من أجل دفع مجتمعه نحو التقدم و التطور، و لاحظ كيف ربط محمد عبده علاقة الفرد بمجتمعه من خلال دور الفرد و ذلك في تفسيره لقوله تعالي: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) «3» .. قال محمد عبده:
«فلا يعدّ الشخص بارا و لا برا حتي يكون للناس من كسبه و من نفسه نصيب، فلا يغترنّ أولئك الكسالي الخاملون، الذين يظنون أنهم يدركون مقام الأبرار بركعات من الخشية خاليات، و بتحميدات و بتسبيحات، و بتكبيرات، ملفوظات غير معقولات، و صيحات غير لائقات بأهل المروءة من المؤمنين و المؤمنات، ثم بصوم أيام معدودات لا يجتنب فيها إيذاء كثير من المخلوقات، مع عدم مبالاة الواحد منهم بشأن الدين قام أم سقط، ارتفع أو انحط، و مع حرصه و طمعه و تطلعه لما في أيدي الناس، و اعتقاده الاستحقاق لما عندهم:
لا لشي‌ء سوي أنهم عاملون في كسب المال و هو غير عامل؛ و هم يجرون علي سنة الحق (1) محمد عبده، تفسير سورة الفاتحة، و ست من خواتيم القرآن، ص (87، 89).
(2) المصدر نفسه ص (99، 100).
(3) سورة الانفطار، الآية: (13).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 313
و هو مستمسك بسنة الباطل، و هم يتجملون بحلية العمل، و هو منها عاطل فهؤلاء ليسوا من الأبرار بل يجدر بهم أن يكونوا من الفجار» «1».

القرآن و العلوم الحديثة في تفسير محمد عبده:

ذكرنا فيما سبق أن محمد عبده كان رجلا يحضّ علي المعرفة بأنواعها، و من شدة ولعه بالعلم أدخله إلي ساحة تفسير النصوص القرآنية، إسهاما منه بعظمة القرآن الذي نصّ علي كثير من المسائل العلمية الحديثة قبل اكتشافها من قبل علماء الخبر و التجربة ..
و قد حاول غيره أن يفسّر بعضا من آيات القرآن علي هدي بعض النظريات العلمية ففسّر قوله تعالي: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) «2» قال محمد عبده:
«انشقاق السماء مثل انفطارها، الذي مرّ تفسيره في مثل «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ».
و هو فساد تركيبها، و اختلال نظامها، عند ما يريد اللّه خراب هذا العالم الذي نحن فيه» «3». و نري عبده عند ما يفسر سورة الفيل و قصة الطير الأبابيل التي رمت جنود أبرهة بحجارة من سجيل» يقول:
«قد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري، أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت علي أفراد الجيش، بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله اللّه مع الريح، فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض و أن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسده دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم و تساقط لحمه، و إن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة، يعد من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، و إن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن ميكروب لا يخرج عنها، و هو فرق و جماعات لا يحصي عددها إلا بارئها و لا يتوقف ظهور أثر قدرة اللّه تعالي في قهر الطاغين علي أن يكون الطير في ضخامة رءوس الجبال و لا علي أن يكون من نوع عنقاء المغرب و لا علي أن يكون له ألوان خاصة به ..» «4». (1) محمد عبده، تفسير جزء عم، ص (37).
(2) سورة الانشقاق، الآية: (1).
(3) محمد عبده، تفسير جزء عم، ص (49).
(4) المصدر نفسه، ص (158).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 314

موقف محمد عبده من حقيقة الملائكة و إبليس:

قال تعالي: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبي وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) «1» إلي آخر الآيات التي تحكي قصة استخلاف آدم و سجود الملائكة له، و رفض إبليس السجود بحجة أنه خير منه.
قال محمد عبده: «ذهب بعض المفسرين مذهبا آخر في فهم معني الملائكة، و هو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات و خلقة حيوان، و حفظ إنسان، و غير ذلك فيه إيحاء إلي الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، و هو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص، نفخه اللّه في البذرة، فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة.
و كذلك يقال في الحيوان و الإنسان، فكل أمر كلّي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكا و من لم يبال في التسمية بالتوقيف يسم هذه المعاني «القوي الطبيعية» إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة. و الأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرا هو مناطها، و به قوامها و نظامها، لا يمكن العاقل أن ينكره، و إن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكا، و زعم أن لا دليل علي وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية، أو ناموسا طبيعيا، لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع فالحقيقة واحدة و العاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسمّيات، و إن كان المؤمن بالغيب يري للأرواح وجودا لا يدرك كنهه، و الذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، و لكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، و لا يعلم إلا اللّه علام يختلف النّاس، و كلّ يقرّ بوجود شي‌ء غير ما يري و يحس، و يعترف بأنه لا يفهمه حقّ الفهم. و لا يصل بعقله إلي إدراك كنهه؟
و ما ذا علي هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب و قد اعترف بما غيّب عنه لو قال: أصدق بغيب أعرف أثره و إن كنت لا أقدر قدره فيتفق مع المؤمنين بالغيب، و يفهم بذلك ما يرد علي صاحب الوحي و يحظي بما يحظي به المؤمنون» «2».
و يريد أن يقول: «أن الداعي إلي الخير في داخل النفس البشرية يمكن أن نسميه ملكا، أما داعي الشر فيمكننا أن نسميه شيطانا «يشعر كل من فكر في نفسه، و وازن بين خواطره عند ما يهتم بأمر فيه وجه للحق أو للخير و وجه للباطل أو للشر بأن في نفسه تنازعا (1) سورة البقرة، الآية: (34).
(2) محمد عبده، تفسير المنار، (1/ 167، 168).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 315
كأن الأمر قد عرض فيه علي مجلس شوري، فهذا يورد و ذاك يدفع، واحد يقول افعل، و آخر يقول لا تفعل، حتي ينتصر أحد الطرفين، و يترجّح أحد الخاطرين فهذا الشي‌ء الذي أودع في أنفسنا و نسميه قوة و فكرا، و هي في الحقيقة معني لا يدرك كنهه، و روح لا تكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميها اللّه ملكا، أو يسمي أسبابه ملائكة أو ما شاء من الأسماء فإن التسمية لا حجر فيها، علي الناس فكيف يحجر علي صاحب الإرادة المطلقة و السلطان النافذ و العلم الواسع» «1».
و من غريب ما يراه محمد عبده، «أن الإنسان بعد ما خلقه و منحه قواه و خصائصه، علي نحو ممتاز، و سخر له ما في الأرض، عبر عن هذا التسخير بالسجود، أي إن سجود الملائكة و هو عبارة عن تسخير و بهذا الاستعداد، و بهذا التسخير، جعل الإنسان خليفة في الأرض «استثني من هذه القوة قوة واحدة عبّر عنها بإبليس ... و هذه القوة هي التي تميل بالمستعد إلي الكمال، أو بالكامل إلي النقص، و تعارض من الموجود لترده إلي العدم ..» «2».
و يجعل قصة الملائكة تمثيلا «و تقرير التمثيل في القصة علي هذا المذهب هكذا: أن إخبار اللّه الملائكة فجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض و قوي هذا العالم و أرواحه، التي بها قوامه و نظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض، و سؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره، و يعطي استعدادا في العلم و العمل لا حد لهما هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك، و تمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض، و يعلم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شي‌ء في هذه الأرض و انتفاعه بها في استعمارها، و سؤالهم عنها و تنصلهم في الجواب تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدّي وظيفته، و سجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح و القوي له، .. و إباء إبليس و استكباره عن السجود، تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر، و إبطال داعية خواطر السوء، التي هي مثار التنازع و التخاصم و التعدي و الإفساد في الأرض ..» «3».

محمد عبده و موقفه من السحر كما ورد في المنار:

لقد بدا موقف محمد عبده من مسألة سحر الرسول صلي اللّه عليه و سلّم موقفا يتعارض مع أهل السنة و يلتقي مع المعتزلة، فقد فسّر معني «النفاثات بالعقد» من سورة الفلق بقوله: «المراد بهم (1) محمد عبده، تفسير المنار، (1/ 168).
(2) المصدر نفسه، (1/ 169).
(3) المصدر نفسه، (1/ 281، 282).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 316
هنا النمامون، المقطعون لروابط الألفة، .. و أراد اللّه أن يشبههم بأولئك السحرة المشعوذين الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة المحبة بين المرء و زوجته.

إنكار محمد عبده لبعض الأحاديث الصحيحة:

لقد وردت أحاديث صحيحة في سحر الرسول صلي اللّه عليه و سلّم فعمد عبده إلي ردّها اعتقادا منه إن هذا يتنافي مع مبدأ عصمة الرسول! «و قد رووا هنا أحاديث في أن النبي صلي اللّه عليه و سلّم سحره لبيد بن الأعصم، و أثر سحره فيه حتي كان يخيل له أنه يفعل الشي‌ء و هو لا يفعله أو يأتي شيئا و هو لا يأتيه، و أن اللّه أنبأه بذلك ...» و يقول لو أن هذا السحر وقع فعلا برسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم «هو مما يصدّق قول المشركين فيه: ... أَوْ يُلْقي إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) «1»، و ليس المسحور عندهم إلا من خولط في عقله و خيّل إليه أن شيئا يقع و هو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحي إليه، و لا يوحي إليه، و قد قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما النبوة؟ و لا ما يجب لها: إن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة. قد صح فيلزم الاعتقاد به و عدم التصديق به بدع من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر» «2».
و يحاول عبده أن يرسخ وجهة نظره في إنكار السحر معتمدا علي القرآن أيضا، الذي ردّ مزاعم المشركين عند ما اتهموه أنه ساحر أو مسحور «و الذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به و أنه كتاب اللّه بالتواتر عن المعصوم صلي اللّه عليه و سلّم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، و عدم الاعتقاد بما ينفيه و قد جاء بنفي السحر عنه صلي اللّه عليه و سلّم .. إذ و بخ القرآن المشركين علي زعمهم أن الرسول مسحور .. فإذا هو ليس بمسحور قطعا، أما الحديث فعلي فرض صحته هو آحاد، و الآحاد لا يؤخذ في باب العقائد، و عصمة النبي صلي اللّه عليه و سلّم في تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، و لا يجوز أن يؤخذ فيها الظن و المظنون علي أن الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظنّ عند من صحّ عنده، أما من قامت له الأدلة علي أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجة، و علي أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث، و لا نحكمه في عقيدتنا و نأخذ بنص الكتاب، و بدليل العقل، فإنه إذا خولط النبي في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئا و هو لم يبلغه، أو أن شيئا نزل عليه، و هو لم ينزل عليه و الأمر ظاهر لا يحتاج إلي بيان» «3» .. علي أننا سوف (1) سورة الفرقان، الآية: (8).
(2) محمد عبده، تفسير جزء عمّ، ص (181- 192).
(3) المصدر نفسه، ص (91).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 317
نناقش آراء محمد عبده في هذا الموضوع و غيره فيما بعد إن شاء اللّه.
و لا بد من استكمال دراسة المنار مع الشيخ محمد رشيد رضا الذي كتب في المنار فاعتبر امتدادا وفيا صادقا لمحمد عبده.

محمد رشيد رضا و اتصاله بمحمد عبده:

بينما كان يدرس الشيخ محمد رشيد بمساجد طرابلس الشام بلبنان مرشدا و معلما، وقعت في يده نسخة من جريدة «العروة الوثقي» التي تصدر في باريس من قبل جمال الدين الأفغاني و تلميذه محمد عبده، بعدئذ أخذ يسعي بالاتصال جاهدا دون جدوي بالإصلاحي جمال الدين الأفغاني- ثم سعي جاهدا للاتصال بمحمد عبده فكان له ما أراد، في (1315 ه). و اقترح محمد رشيد رضا علي شيخه أن يكتب تفسيرا للقرآن علي نهج ما كان قد كتبه من تفسير في جريدة «العروة الوثقي» «و بعد أخذ و ردّ امتنع محمد عبده أن يلقي دروسا في التفسير في الجامع الأزهر و لم يلبث إلا قليلا حتي أخذ يلقي دروسه علي طلابه و مريديه» «1».
و كان رشيد رضا أحرص الناس علي حضور دروس محمد عبده، و أشدهم مواظبة و انتباها و تلقيا و ضبطا، فكان يكتب بعض ما يسمع ثم يزيد عليه بما يذكره من دروس الشيخ بعد ذلك بعد مراجعة أستاذه لما كتب، و تناوله بالتنقيح و التهذيب» «2».
و وصف محمد عبده علاقته برشيد رضا وصفا دقيقا عند ما قال عن رشيد رضا «إنه متحد معه في العقيدة و الفكر و الرأي و الخلق و العمل» «3».

محمد رشيد رضا و إنتاجه التفسيري:

إن رشيد رضا أغزر أشخاص مدرسة محمد عبده في التفسير، إذ فسّر من أول القرآن حتي سورة يوسف* رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) «4».
هذا التفسير إلي هذه الآية طبع باثني عشر مجلدا. ينتهي المجلد الثاني عشر عند قوله (1) أعددنا هذا مختصرا عن مقدمة تفسير المنار، (1/ 10- 15).
(2) المصدر نفسه.
(3) عبد الرحمن عاصم، مجلة نور الإسلام، عدد (12)، من السنة الخامسة للهجرة.
(4) سورة يوسف، الآية: (101).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 318
تعالي في سورة يوسف* وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) «1»:

مصادر رشيد رضا في تفسيره:

قلنا سابقا إن بعض آيات القرآن يفسّر بعضه «فكان رشيد رضا يستعين بالآيات المفسّرة لآيات أخر.
ثم كان يستعين بأحاديث الرسول صلي اللّه عليه و سلّم الواردة في تفسير القرآن ... و بما قاله الصحابة و التابعون. و بأساليب العرب و سنن اللّه في خلقه» «2».
و كان علي نهج شيخه حر التفكير، لا يتقيد بأقوال السابقين إلا إذا رأي صحة ما يقولونه، و إذا آتاه اللّه فهما للقرآن لم يسبق إليه أحد، أو لم يطلع عليه إلّا بعد كتابته من عنده، فإنه يتحدث إلي إخوانه شاكرا، و قد يقصّه علي أهل بيته مغتبطا مسرورا» «3».

هدفه من التفسير:

قال رشيد رضا إنه كان يهدف إلي تلبية «حاجة الناس التي صارت شديدة إلي تفسير تتوجه العناية الأولي فيه إلي هداية القرآن علي الوجه الذي يتفق مع الآيات الكريمة المنزلة في وصفه، و ما أنزل لأجله، من الإنذار و التبشير و الهداية و الإصلاح» «4».
إنه يريد توظيف التفسير لأجل جعل القرآن في متناول الدارسين الباحثين عن الهداية.

منهج محمد رشيد رضا في التفسير:

لم يختلف منهجه عن منهج أستاذه محمد عبده، فهو «لم يتقيد بأقوال السابقين من المفسرين، و لم يحكّم العقيدة بالقرآن و إنما حكّم القرآن علي العقيدة- و كشف عن معاني العبارة القرآنية، ببيان جذاب، و أسلوب سهل.
غير أن رشيد رضا يخرج عن نهج أستاذه بعد وفاته لمصلحة ارتآها «و إنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه رحمه اللّه بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة (1) سورة يوسف، الآية: (53).
(2) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (6/ 196).
(3) عبد الرحمن عاصم، الشيخ رشيد رضا، مجلة نور الإسلام، عدد (12)، من السنة الخامسة (1354 ه).
(4) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (1/ 10).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 319
الصحيحة، سواء كان تفسيرا لها، أو في حكمها، و في تحقيق بعض المفردات، أو الجمل اللغوية و المسائل الخلافية بين العلماء، و في الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة، و في بعض الاستطرادات لتحقيق حاجة تشتد حاجة المسلمين إلي تحقيقها، ربما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوي حجتهم علي خصومه من الكفار و المبتدعة، أو بحل بعض المشكلات التي أعياها، بما يطمئن به القلب و تسكن إليه النّفس» «1».
و لعل تفسير لجوئه إلي التوسع لم يكن مردّه أنه تخلّص من أستاذه و بدا حرا بعدئذ إنما مردّه إلي اتصاله بالصحافة، و تواصله مع القطاع الأوسع من الناس علي اختلاف منازعهم و مشاربهم، و فيهم المتدين و الملحد ...» «2».

آراؤه في التفسير:

امتاز رشيد رضا بحرية التفكير، و الاعتداد بالرأي، دونما اكتراث بمخالفيه، و في هذا يشابه أستاذه محمد عبده، .. و قد يأتي بآراء يخالف فيها جمهرة العلماء من أهل الفقه و التفسير .. و قد يقلّد شيخه محمد عبده في مسائل كثيرة.

رأي رشيد رضا في من ارتكب الكبائر من الذنوب:

عند ما فسّر قوله تعالي: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهي فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَي اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) «3». ظهرت له آراء مخالفة، إذ نفي التوبة عن قاتل النفس العمد لأنه في درجة أكل الربا من الخروج من النار لأنه لم يتب في حياته، يقول:
«أي و من عاد إلي ما كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه، فأولئك البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم الذي لا ينهاهم إلا عمّا يضرّهم في أفرادهم أو جمعهم هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه فيكونون فيها خالدين».
و قد قال عن الذين تأولوا الخلود من المفسرين إنهم فعلوا ذلك كي تتفق الآية مع المقرر في العقائد و الفقه من كون المعاصي لا توجب الخلود في النار، فقال أكثرهم: (1) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (4/ 16).
(2) محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (2/ 580).
(3) سورة البقرة، الآية: (275).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 320
إن المراد من تحليل الربا و استباحته اعتقادا، و ردّه بعضهم بأن الكلام في أكل الربا، و ما ذكر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم قبل التحريم، فهو ليس بمعني استباحة المحرم، فإذا كان الوعيد قاصرا علي الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد علي أكله بالفعل.
و هنا يظهر موقف رشيد رضا بجعل القرآن هو الذي يحكم العقيدة و الفقه:
«و الحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون و الفقهاء، يجب إرجاع كل قول في الدين إليه، و لا يجوز تأويل شي‌ء ليوافق كلام الناس، و ما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد في الخلود في آية قتل العمد، و ليس هناك شبهة في اللفظ علي إرادة الاستحلال، و من العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة علي القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار انتصارا لأصحابه الأشاعرة، و خير من هذا التأويل تأويل بعضهم الخلود بطول المكث.
أما نحن فنقول: ما كل ما يسمي إيمانا يعصم صاحبه من الخلود في النار، الإيمان إيمانان: إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذين نشأ فيه المرء أو نسب إليه، و مجاراة أهله و لو بعدم معارضتهم فيما هم عليه.
و إيمان هو معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان، متمكنة في العقل بالبرهان، مؤثرة في النّفس بمقتضي الإذعان، حاكمة علي الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال بحيث يكون صاحبها خاضعا لسلطانها في كل حال، إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان.
و ليس الربا من المعاصي التي تنسي، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة و الطيش كالحدة و ثورة الشهوة، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة و النظرة، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه بإذن اللّه من الخلود في سخط اللّه، و لكنه لا يجتمع مع الإقدام علي كبائر الإثم و الفواحش عمدا، إيثارا لحب المال و اللذة عن دين اللّه و خافية من الحكم و المصالح. و أما الإيمان الأول: فهو صوري فقط، فلا قيمة له عند اللّه تعالي، لأنه تعالي لا ينظر إلي الصور و الأقوال و لكن ينظر إلي القلوب و الأعمال كما ورد في الحديث و الشواهد علي هذا الذي قررنا في كتاب اللّه تعالي كثيرة جدا، و هو مذهب السلف الصالح» «1» ...
و يري رشيد رضا أن مجرد إعلان الاعتراف بالدين، و الاعتقاد اللساني به، و إن كان متوافقا مع انعقاد القلب دونما التزام عملي بتوجيهات الدين، فإن هذا عمل من شأنه هدم (1) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (3/ 98، 99)، و انظر ما كتبه رشيد رضا عن قتل العمد في (5/ 339- 345).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 321
الدين، و أن جعل السعادة عمادها علي الاعتراف بالدين و إن لم يعمل به فإن من شأن هذا أن «صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات مع الاعتراف بأنها كبائر ما حرم، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال: إنني لا أنكر أنني آكل الربا، و لكنني مسلم أعترف بأنه حرام، و قد فاته، أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل الوعيد، و بأنه يرضي أن يكون محاربا للّه و لرسوله، و ظالما لنفسه و للناس ...» «1».

آراؤه في قصة آدم:

يري رشيد رضا أن سجود آدم للتكليف، و أنه وقع حوار بين الرب سبحانه و بين إبليس. و أما علي القول بأن الأمر للتكوين و أن القصة بيان لغرائز البشر و الملائكة و الشياطين، فالمعني: أنه تعالي جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر اللّه و إذنه لأمورها بالسنن التي عليها مدار نظامها كما قال: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) «2» مسخرة لآدم و ذريته، إذ خلق اللّه هذا النوع مستعدا للانتفاع بها كلها بعلمه بسنن اللّه تعالي فيه و بعلمه بمقتضي هذه السنن كخواص الماء و الهواء و الكهرباء، و النور و الأرض ...» «3».

لجوء رشيد رضا إلي المجاز و التشبيه:

بدا لرشيد رضا أن إعمال بعض الآيات علي ظاهرها أمر غريب، و كي يخرج من هذه الغرابة، و يجعل الأمر موافقا للعقل صرف ظواهر هذه النصوص نحو المجاز و التشبيه.
قال رشيد رضا في تفسير الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلي أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) «4» المراد «آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام، و نردّها خاسئة خاسرة إلي الوراء، بإظهار الإسلام و نصره عليكم، و فضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين و العلم الذي جاء به الأنبياء ..
فهذا ما نفسر به علي جعل الطمس و الرد علي الأدبار معنويين» و هذا رأي محمد عبده أيضا. (1) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (3/ 98، 99).
(2) سورة النازعات، الآية: (5).
(3) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (8/ 332).
(4) سورة النساء، الآية: (47).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 322

رأيه في السحر:

لم يخالف رأي شيخه من جعله السحر خداعا و تمويها، و ليس له وجود حقيقي، لذا فإنه عند ما فسّر قوله تعالي: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) نجده يقول: «و الآية تدل علي أن السحر خداع باطل و تخييل يري ما لا حقيقة له في صورة الحقائق ...» «1».
غير أن رشيد رضا لم يفعل ما فعله شيخه «فهو لم يرد حديث البخاري في سحر الرسول صلي اللّه عليه و سلّم و لكنه تأوّل الحديث علي أنه كان من قبيل العقد علي النساء».
و قد التمس العذر لمن طعن بحديث البخاري هذا «لأن هشاما راوي الحديث عن أبيه عن عائشة مطعون فيه من كثير من أئمة الجرح و التعديل» «2».

رأيه في الشياطين و سلطانهم علي البشر:

يري ألا سلطان للشياطين علي الإنسان إلا بالإغواء، و ما سوي ذلك «فهو كذب و جعل من شياطين الإنس وحدهم» «3».

رأيه في الجن:

لقد طعن في الأحاديث الواردة في البخاري، و شكك في وجود الجن في العالم الخارجي، و ما دعوي بعض الناس لرؤيتهم الجن إلا رؤية لحيوان غريب كبعض القردة فظنه أحد أفراد الجن» «4».
و عند ما عرض لحديث أبي هريرة «فيمن كان يسرق ثمر الصدقة، و إخبار النبي صلي اللّه عليه و سلّم بأنه شيطان و هو في البخاري و عرض لغيره من الأحاديث قال: «و الصواب أنه ليس في هذه الروايات كلّها حديث صحيح» «5».
و ذهب مذهبا بعيدا عند ما جعل الجن كائنات من الجائز أن تكون ميكروبات (1) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (5/ 145، 146).
(2) المصدر نفسه، (7/ 311).
(3) محمد رشيد رضا، تفسير سورة الفلق، مجموعة تفسير سورة الفاتحة، و ست سور من خواتيم القرآن ص (129- 134).
(4) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (7/ 516).
(5) انظر محمد حسين الذهبي، التفسير و المفسرون، (2/ 585).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 323
الأمراض، و ذلك عند ما يعرض لتفسير قوله تعالي:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ... «1» و المتكلمون يقولون: إن الجن أجسام حية خفية لا تري، و قد قلنا في المنار غير مرة: «إنه يصح أن يقال: إن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة و تسمي بالميكروبات يصح أن تكون نوعا من الجن، و قد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض» «2».

رأيه في معجزات الرسول صلي اللّه عليه و سلّم:

قرر محمد رشيد رضا ألا معجزة لرسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم إلا واحدة تلك هي معجزة القرآن الكريم، و يجحد الأحاديث التي تفيد بوجود معجزات أخري، أو لجأ إلي تأويل بعضها:
كي يتفق مع رأيه الذي أخذه من بعض الآيات و الأحاديث مثل قوله تعالي:
وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (59) «3».
و من الأحاديث الصحيحة الواردة عند الشيخين: «ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، و إنما كان الذين أوتيته وحيا أوحاه اللّه إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا إلي يوم القيامة» «4».
و إذا ما اصطدم ببعض نصوص القرآن المخالفة لما ذهب إليه مثل آية انشقاق القمر و الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك «بظهور الحجة». و أما ما ورد من أحاديث تقول بانشقاق القمر إلي فرقتين فقط طعن بصحتها مؤكدا ألا معجزة له صلي اللّه عليه و سلّم إلا بالقرآن «5».

بعض الآراء الفقهية لرشيد رضا:

يظهر أن هذه المدرسة كانت تمتاز بالجرأة و الحدة بمخالفتها الآراء المخالفة السائدة، ربما أرادت أن توجّه صدمة لأنصار من خالفهم الرأي أو تشعر بغضب علي من خالفهم مع وضوح الصواب الذي بجانبها، و إعراض أكثرية العلماء و جماهيرهم عن اعتناق آرائها ... (1) سورة البقرة، الآية: (275).
(2) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (3/ 96).
(3) سورة الإسراء، الآية: (59).
(4) أخرجه البخاري. و أخرجه مسلم.
(5) مصطفي صبري، القول الفصل، ط عيسي البابي الحلبي، (1361)، ص (163).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 324
عند ما عالج رشيد رضا قضايا «الوصية و الإرث» التي أشارت إليها الآية الكريمة كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي (180)، «فهو لم يعبأ بما عليه جمهور العلماء من أهل السنة من أن حكم الآية منسوخ يصرف النظر عن كون الناسخ آية المواريث أو حديث: «لا وصية لوارث» الذي رجّح الشافعي في الأم أن متنه متواتر- فراح يؤكد أن حكم الوصية باق لم ينسخ ...
و الحديث لا ينسخ الكتاب- و الآية لا تعارضها آية المواريث بل تؤيدها. لأن اللّه تعالي أكد قوله في نهاية آية الوصية «بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي» «1».
و لا تنسي شدته علي أهل البدع مع تشدد منه في تفسير البدعة.
***
(1) رشيد رضا، تفسير المنار، (1/ 141).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 325

ثانيا: تفسير المراغي أحمد بن مصطفي المراغي‌

المراغي (...، 1371 ه- 1952 م):

أحمد بن مصطفي المراغي مفسر مصري من العلماء، تخرج بدار العلوم سنة 1909 ثم كان مدرس الشريعة الإسلامية بها، عيّن أستاذا للعربية و الشريعة الإسلامية بكلية غوردون بالخرطوم، و توفي بالقاهرة، له كتب و مؤلفات:
الحسبة في الإسلام. ط. و الوجيز في أصول الفقه، ط. و تفسير المراغي في ثمانية مجلدات «1» ...

المراغي يعلل كتابته التفسير «المراغي»:

ما من شك أن كل عصر يرخي بظلاله علي أهله، ففي الوقت الذي ساد فيه علم الكلام قلما رأيت عالما يكتب كتابا إلا و يتكئ علي علم الكلام في مسألة من مسائله، و عند ما ساد النحو و الصرف و الإعراب رأيت المفسرين يزجّون النحو و الصرف في التفسير .. و عند ما انتشرت علوم البلاغة ببيانها و بديعها، ازدانت التفاسير القرآنية بالدراسات البلاغية الكشّافة لإعجازات القرآن البيانية التي أشارت إلي جمال الاستعارات و التشابيه القرآنية ...
إلي أن أتي العصر الحديث بتطوراته العلمية، و بكشوفاته المذهلة، و باختراعاته التي (1) الزركلي، الأعلام، (1/ 258).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 326
حوّلت العالم برمته إلي حارة صغيرة .. هذا التطور الذي بدأ في بداية هذا القرن، لكن وتيرة التسارع كانت تزداد و تزداد ..
أمام هذا التغيير حصلت تغيرات فكرية و أسلوبية أثّرت علي المؤلفين، و أثّرت علي القارئين معا، فأصبح من الصعب علي قارئنا الحاضر المعاصر مطالعة الكتب القديمة، تلك الكتب التي كان مؤلفوها يتباهون بما حوته من مختلف العلوم و تنوعات الفنون، و الحق الذي لا بد من قوله: إن تلك التفاسير حوت من الفوائد الكثير الكثير، و لكن بعضها كان يحتوي علي «أقاصيص مجانفة لوجه الصواب، متنكبة عن حظيرة العقل ...» «1».
إذا «الزمان هو الحوّل القلّب غيّر آراء الناس في الموسوعات العلمية، فرأوا أن الكتاب الذي لا يناجيك معناه لدي قراءة لفظه أولي لك ألا تضيّع وقتك في قراءته و كدّ الفكر في الوصول إلي المعمّي من معناه» «2».
أمام دافع التيسير، و تسهيل المعرفة، كي تكون سهلة التناول يسيرة الهضم كان المراغي مسراعا إلي هذا المؤلف التفسير ليكون «داني القطوف، سهل المأخذ يحوي ما تطمئن إليه النفس من تحقيق علمي تدعمه الحجة و البرهان، و تؤيده التجربة و الاختبار، و يضم إلي آراء مؤلفه آراء أهل الذكر من الباحثين في مختلف الفنون التي ألمح إليها القرآن علي نحو ما أثبته العلم في عصرنا» «3».
و وصف تفسيره أنه «ترك الروايات التي أثبتت في كتب التفسير و هي بعيدة عن وجه الحق مجانفة للصواب ...» «4».
لقد قدم المراغي لتفسيره بمقدمات، فبعد المقدمة الأولي (مقدمة الكتاب) قدم ببحث «طبقات المفسرين». و درس طرق رواياتهم، بدءا من عهد الصحابة ثم في عهد التابعين و طبقة ثالثة تلك التي جمعت بين أقوال الصحابة و التابعين، و رابعة هي طبقة ابن جرير، و خامسة سماها «طبقة المفسرين بحذف الأسانيد» و ذكر لكل من هذه الطبقات الخمسة رجال و أعلام برزوا فيها و أسهموا في تعميق و تنمية علم التفسير.
ثم تناول عصر المعرفة الإسلامية في العهود العباسية الذي شهد اهتماما اختصاصيا في القرآن فالعلماء تناولوه دارسين، موضحين من مواقعهم العلمية و المعرفية سواء كانت (1) أحمد مصطفي المراغي، تفسير المراغي، ط، دار إحياء التراث العربي، د. ت، (1/ 3).
(2) تفسير المراغي، (1/ 4).
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 327
لغوية نحوية أو بلاغية أو صرفية أو فكرية كلامية .. أو فقهية أو إيحاءات صوفية إشارية لا تنكشف إلا لأهل السلوك تلك الإشارات التي يمكن إرادتها مع إرادة ظاهر المعني» «1».
ثم تحدث المراغي عن طريقة كتابة القرآن فأوجز العبارة حول الموضوع «خطان لا يقاس عليهما: خط العروض، و خط المصحف العثماني» «2».
ثم ذكر آراء العلماء في الرسم العثماني لينقل لنا الآراء التي قالت بحرمة مخالفته و أخري قالت إنّ الرسم العثماني اصطلاحي لا توقيفي، و نقل لنا عبارة أبي بكر بن العربي: «و بالجملة فكل من ادّعي أنه يجب علي الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة علي دعواه، و أني له ذلك؟
ثم نقل لنا رأيا ثالثا للعز بن عبد السلام .. الذي ذكره من قبل الزركشي في البرهان من جواز كتابة المصحف بخط يعلمه العامة من الناس و ذلك وفق الاصطلاحات المعروفة الشائعة، و لا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني الأول، لئلا يوقع في تغيير الجهال، و لكن يجب في الوقت نفسه المحافظة علي الرسم العثماني لئلا يؤدي بحسب عبارة العز إلي «دروس العلم، و شي‌ء قد أحكمه القدماء، لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين و لن تخلو الأرض من قائم للّه بحجته» «3».
و قد جري المؤلف المجري الذي أراده العز بن عبد السلام رحمه اللّه.

منهج المراغي في التفسير:

أولا: ذكر الآيات في صدر البحث.
ثانيا: شرح المفردات بذكر مرادفها لإزالة الخفاء علي الكثير من القارئين.
ثالثا: ذكر المعني المجمل للآيات، حتي إذا جاء التفسير توضّح ذلك المجمل.
رابعا: ذكر أسباب النزول إن صحت أسانيده.
خامسا: أعرض عن الإكثار من المصطلحات و العلوم.
ثم بيّن المراغي استعانته بالمعارف العلمية الحديثة «و قد سلكنا في الوصول إلي فهم الآيات التي أشارت إلي بعض نظريات في مختلف الفنون استطلاع آراء العارفين بها، (1) أحمد مصطفي المراغي، تفسير المراغي، (1/ 12).
(2) المصدر نفسه، (1/ 13).
(3) عبارة منقولة عن تفسير المراغي، (1/ 15).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 328
فاستطلعنا آراء الطبيب النطاسي، و الفلكي العارف، و المؤرخ الثبت، و الحكيم البصير ...
ليدلي كل برأيه في الذي تمهّد فيه، لنعلم ما أثبته العلم، و أنتجه الفكر فيكون كلامنا معتزا بكرامة المعرفة».

موقفه من التفاسير السابقة:

أشار المراغي إلي دور أهل الكتاب الذين أسلموا «كعبد اللّه بن سلمة، و كعب الأحبار و وهب بن منبه» «1» في ذكرهم القصص المجانبة للعقل حسب رأيه، و المعارضة للعلم، لذا أعرض عنها و نأي، خدمة للدين و العلم و العقل.
و كان تفسيره في ثلاثين جزءا، تسهيلا للحمل، و تيسيرا للفائدة.

قصة استخلاف الإنسان و حوار الملائكة مع اللّه تعالي و تأثر المؤلف بمحمد عبده:

لقد جعل الشيخ المراغي من قصة استخلاف الإنسان، و سجود الملائكة، و عصيان إبليس، و خلق المرأة من ضلع. ميدانا فسيحا لآرائه، إذا أظهر فيها الكثير من اتجاهاته بالتفسير:
فرد علي الرأي القائل إن المرأة خلقت من ضلع. علما أنه ذكر الحديث صحيح المروي في البخاري و مسلم الذي رواه أبو هريرة: «و استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، و إن أعوج شي‌ء في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، و إن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا» «2».
قال عن هذا الحديث: «إنه لتمثيل جاء علي طريق تمثيل حال المرأة و اعوجاج أخلاقها، باعوجاج الضلوع، و يؤيد هذا قوله آخر الحديث: (1) عبد اللّه بن سلام، و كعب الأحبار و وهب بن منبه. أما ابن سلام أول من صدق الرسول من اليهود، بشره الرسول بالجنة، و روي عنه أبو هريرة و عوف بن مالك، و عطاء بن يسار و غيرهم، شهد الغزوات، بعضهم عدّه بدريا. و شهد الخندق. و شارك بفتح القدس، مات سنة (43 ه) بالمدينة. و ما صحّ عنه قبلناه، و ما لم يصح عنه رددناه. و اعتمد روايته البخاري و لم يطعن أحد في عدالته.
كعب الأحبار: ثقة عدل، روي عن ابن عباس، و أبو هريرة و غيرهما. و أخرج له مسلم و الترمذي و النسائي، و هذا دليل الثقة. انظر تهذيب التهذيب (8/ 438- 440).
وهب بن منبه: زاهد، عابد، يجب تدقيق رواياته، ذكره ابن حبان في الثقات، و وثقه البخاري، انظر وفيات الأعيان، و تهذيب التهذيب.
(2) أخرجه البخاري في (الحديث: 5186)، و مسلم في (الحديث: 3632).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 329
«و إن أعوج شي‌ء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، و إن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا» فهو علي حد قوله: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «1».
و الحق لا علاقة لقوله تعالي في تفسيره بحواء «فالآية تتحدث عن خلق الإنسان من عجل، و الحديث في النساء: «فإنهن خلقن من ضلع أعوج».
يري أن الحديث جاء للتمثيل- و أما حوار الملائكة الحادث عند علمهم بجعل اللّه تعالي الإنسان خليفة: هو تهيئة للأرض، و قوي العالم و أرواحه التي بها قوامه و نظامه لوجود نوع يتصرف فيه و يكون به كمال الوجود في هذه الأرض، و سؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد الأرض و يعطي استعدادا في العلم و العمل لا حد لهما تصوير لما في استعداد الإنسان ... أما سجود الملائكة فهو تسخير هذه الأرواح و القوي له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن اللّه تعالي في ذلك.
و أما إباء إبليس و استكباره عن السجود فهو تمثيل لعجز الإنسان عن إبطال روح الشر، و إبطال داعية خواطر السوء.
و لا بد من الوقوف عند قول المراغي في قصة إبليس و آدم، و قصة حوار الملائكة:
«إن ذلك من المتشابه كسائر ما جاء في القصة، مما لا يمكن حمله علي ظاهره.
و يجب تفويض أمره إلي اللّه كما هو رأي سلف الأمة، أو هو من باب التمثيل كما هو رأي الخلف» «2».
و الحق أن ليس كلّ الخلف قالوا بالتمثيل في هذا الموضوع، بل الأكثر قالوا بوجود حوار حقيقي، و أما التمثيل فقد أشار إليه الشيخ محمد عبده في تفسيره ... و المراغي أثبت النص كاملا للشيخ محمد عبده «3» .. في حين أن المطالع لما قاله محمد الطاهر بن عاشور يري أن الحوار حقيقي: «و عندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر حتي تكون ناموسا أشربته نفوس ذريته ...» «4».
حتي أن المعتزلة لم يعتبروا الحديث تمثيلا كما قال الإمام محمد عبده، و اعتبره المراغي أحد الوجوه المقبولة تقريبا للعقول دون أن يلغي قيمة رأي السلف. (1) سورة الأنبياء، الآية: (37).
(2) تفسير المراغي، (2/ 94).
(3) المصدر نفسه، (1/ 94، 95).
(4) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير و التنوير، (1/ 386).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 330
و الرازي من كبار المؤولين من علماء الخلف اعتبر قصة آدم و إبليس و حوار الملائكة حقيقة و ليست تمثيلا «1».
أما قصة سجود الملائكة لآدم و استكبار إبليس فيبدو من ظاهر قول المراغي أنها حقيقة عند ما فسّر سورة (ص): «إن اللّه تعالي أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السّلام أنه سيخلق بشرا من صلصال من حمإ مسنون، و أمرهم بالسجود له متي فرغ من خلقه و تسويته إجلالا و إعظاما له، فامتثل الملائكة كلهم و ذلك سوي إبليس» و يقرر موافقا الصواب أن إبليس لم يكن من الملائكة «بل كان من الجن» «2».

تفسير المراغي و الوقوف عند النص القرآني في قصصه:

لقد وقع بعض المفسرين في الزلل و الخطإ عند ما اعتمدوا الإسرائيليات الواهنات الأسانيد في تفسير بعض القصص، و ذلك عند ما تزيّدوا علي النص الكريم .. في حين كان المراغي محتاطا لهذا الأمر و لم يتزيّد.
تجلّي ذلك في تفسيره لسورة (ص) عند تفسيره الآيات الكريمة المعلمة عن قصة سليمان عليه السّلام: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّي تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ (33) «3».
فسّر المسح: بتمرير اليد علي الجسم، و ليس تقطيعا لأرجل الخيل كما ذكرت الإسرائيليات الواهنات. و بعد «أن اطمأن سليمان عليه السّلام و حمد جميل أمرها قال:
(ردّوها عليّ) فقد كفي ما قامت به من حفر دلت به علي نجابتها و فراهتها و أنها أهل لأن تقوم بما يطلب منها حين الملمات عندئذ:
(فطفق مسحا بالسوق و الأعناق): أي فجعل يمسح سوقها و أعناقها إظهارا لكرامته لديه إذا هي أعظم الأعوان في دفع العدوان» «4».
و يمكن ذكر خلاصة قصة سيدنا سليمان عليه السّلام «إن سليمان احتياطا للغزو أراد أن يعرف قوة خيوله التي تتكون منها قوة الفرسان- فجلس و أمر بإحضارها إجرائها أمامه و قال: إني ما أحببتها للدنيا و لذاتها إنما أحببتها لأمر اللّه و تقوية دينه، حتي إذا ما أجريت و غابت عن (1) الرازي، التفسير الكبير، ط، دار إحياء التراث العربي، (1/ 389- 391) و ما بعدهما.
(2) تفسير المراغي (22- 24/ 137، 138). في تفسير سورة «ص».
(3) سورة ص، الآيات: (31- 33).
(4) المراغي، تفسير المراغي، (22- 24/ 119).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 331
بصره، أمر راكبيها بأن يردوها إليه، فلما عادت طفق يمسح سوقها و أعناقها سرورا بها، و امتحانا لأجزاء أجسامها، ليعرف ما ربما يكون فيها من عيوب قد تخفي فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها علي الوجه المرضي» «1».
أما قوله: «ليعرف ما ربما يكون فيها من عيوب ...». فهذا احتمال و ليس في النص ما يدل علي ذلك.
و يلاحظ دحضه للإسرائيليات أيضا في تفسيره لقوله تعالي:
وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلي كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) «2».
«لقد ابتلينا سليمان بمرض عضال صار بسببه ملقي علي كرسيه لشدة وطأته (و العرب تقول في الضعيف: (إنه لحم علي وضم)، (و جسم بلا روح) ثم رجع بعد إلي حالة الأولي و استقامت له الأمور كما كان» «3».
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي «4» طلب المغفرة من ربه لأنه قد يترك الأفضل و الأولي فاحتاج إلي المغفرة من ربه ... و هذا في «مقام التذلل و الخضوع «إني لأستغفر اللّه في اليوم و الليلة سبعين مرة» «5».
و يرد قصص و أخبار الإسرائيليات بقوله:
«و ما روي من قصص الخاتم و الشيطان، و عبادة الوثن في بيت سليمان فذلك من أباطيل اليهود و دسائسهم علي المسلمين، و أبي قبولها العلماء الراسخون و منهم ابن كثير ...» «6».

الحديث النبوي في تفسير المراغي، و مراعاته أسباب النزول:

جاء يوما وفد من نصاري نجران إلي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم مؤلفا من ستين راكبا «و خاصموه في عيسي ابن مريم عليهم السّلام. و قالوا له: من أبوه؟ [و في رواية قالوا: يا محمد من أبوك؟
قال: عبد اللّه. قالوا: من أبو موسي؟ قال: عمران. قالوا من أبو عيسي؟] .. و الرواية التي (1) المراغي، تفسير المراغي، (22- 24/ 119).
(2) سورة ص، الآية: (34).
(3) أحمد مصطفي المراغي، تفسير المراغي، (22- 24/ 120).
(4) سورة ص، الآية: (35).
(5) أخرجه البخاري في (الحديث: 6307) بلفظ: «و اللّه إني لأستغفر اللّه و أتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة».
(6) أحمد مصطفي المراغي، تفسير المراغي، (22- 24/ 121).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 332
ساقها بعد أن قالوا علي اللّه الكذب و البهتان، قول رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم:
«أ لستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا و هو يشبه أباه؟ قالوا: بلي، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، و أن عيسي يأتي عليه الفناء؟. قالوا: بلي، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا قيم علي كل شي‌ء؟ يكلؤه و يحفظه و يرزقه؟ قالوا: بلي، قال: فهل يملك عيسي من ذلك شيئا؟ قالوا: لا، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا صور عيسي في الرحم كيف شاء، و أن ربنا لا يأكل الطعام و لا يشرب الشراب و لا يحدث الحديث؟ قالوا: بلي، قال: أ لستم تعلمون أن عيسي حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذّي الصبي، ثم كان يأكل الطعام و يشرب الشراب و يحدث الحديث؟ قالوا: بلي، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفونا ثم أبوا إلّا جحودا» فأنزل اللّه: الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «1» إلي آخر تلك الآيات و موقفه من الاستشهاد بالحديث النبوي الصحيح بارز حال اللزوم مثل ذلك ما ساقه من الأحاديث عند تفسيره لآيات الربا في سورة البقرة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279) «2».
في معرض تفسيره لهذه الآيات يرد علي من زعم أن الربا المحرم هو الربا الفاحش، و يعرض التسلسل الزمني لتحريم الربا الفاحش و غير الفاحش فيقول:
«هذه أيها السادة و السيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة علي حسب تسلسلها التاريخي. و إنكم لترون الآن أن الفئة التي تزعم أن الإسلام يفرّق بين الربا الفاحش و غيره، و هي الفئة من المتعلمين الذين ليس لهم رسوخ في علوم القرآن، لم تكتف بأنها خالفت إجماع علماء المسلمين في كل العصور، و لا بأنها عكست الوضع المنطقي المعقول حيث جعلت التشريع الإسلامي بعد أن تقدم إلي نهاية الطريق في إتمام مكارم الأخلاق يرجع علي أعقابه و يتدلي إلي وضع غير كريم، بل إنها قلبت الوضع التاريخي إذا اعتبرت النص الثالث مرحلة نهائية، بينما لم يكن إلا خطوة انتقالية في التشريع لم يختلف في ذلك محدث و لا فقيه و لا مفسر» «3» و المقصود بالنص بالمرحلة الثالثة آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) من سورة آل عمران «4».
و قد وردت آية المرحلة الأولي: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ (1) سورة آل عمران الآيتان: (1، 2).
(2) سورة البقرة، الآيتان: (278، 279).
(3) المراغي، تفسير المراغي، (1- 3/ 61).
(4) سورة آل عمران، الآية: (130).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 333
اللَّهِ «1». و المرحلة الثانية: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ. و المرحلة الثالثة: الآية الواردة في آل عمران و المرحلة الرابعة آيات الربا في سورة البقرة.
يقول المراغي: «علي أنا لو فرضنا المحال و وقفنا معهم عند النص الثالث [الوارد في آل عمران فهل نجد لهم ربحا لقضيتهم في التفرقة بين الربا الذي يقل عن رأس المال، و الربا الذي يزيد عليه أو يساويه؟ كلا .. فقبل كل شي‌ء لا دليل في الآية علي أن كلمة الأضعاف شرط لا بد منه في التحريم. إذ من الجائز أن يكون ذلك عناية بذم نوع من الربا الفاحش الذي بلغ مبلغا فاضحا في الشذوذ عن المعاملات الإنسانية من غير قصد إلي تسويغ الأحوال المسكوت عنها التي تقل عنها في الشذوذ. و من جهة أخري فإن قواعد العربية تجعل كلمة أضعافا في الآية وصفا للربا «لا لرأس المال». كما يفهم من تفسير هؤلاء الباحثين، و لو كان الأمر كما زعموا لكان القرآن لا يحرم من الربا إلا ما بلغ 600% من رأس المال بينما لو طبقنا القاعدة العربية علي وجهها لتغير المعني تغيرا تاما، بحيث لو افترضنا ربحا قدره واحد في الألف أو المليون لصار بذلك عملا محظورا غير مشروع بمقتضي النّص الذي يتمسكون به» «2».
و يرد المراغي علي من قال إن القرآن خاطب بلغاتهم. و هذا صحيح. أما غير الصحيح هو: أن العرب لم تكن تعرف إلا الربا الفاحش الذي يساوي رأس المال أو يزيد عليه و يهاجم المراغي هذا القول بقوله:
«فإنه لا يصح إلّا إذا أغمضنا أعيننا عما لا يحصي من الشواهد التي نقلها أقدم المفسرين و أجدرهم بالثقة» «3».
و يوضح المراغي أن كلمة «ربا» لم يفهمها العرب و لا العبرانيون إلا بمعني الزيادة قلت أو كثرت «و هذا هو المعني الحقيقي و الاشتقاقي للكلمة» «4».
و يتساءل المراغي تساؤلا وجيها محكما:
«أ فلا يكون من التناقض أن هذه الشريعة التي تضع الإحسان إلي الفقير في أبرز موضع من قانونها و الذي تحث علي إنظار المعسر أو علي ترك الدّين له- تعود فتأخذ منه (1) سورة الروم، الآية: (39).
(2) المراغي، تفسير المراغي، (1- 3/ 61).
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 334
بالشمال ما منعته باليمين، إذ تأذن للغني بأن يطالبه ببعض الزيادة علي الدّين؟» «1».
أمام هذا الواقع من الأخذ و الرد في فهم النص «... لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ..» و ذروا ما بقي من الربا ..» يستعين المراغي بأحاديث الرسول صلي اللّه عليه و سلّم لحسم الموقف. لأن السنة تتصل بالقرآن، و تعطيه من قواطع المعاني، و صارم الدلالة ما تجعل أصحاب الآراء الضعيفة في موقف حرج، فقد ورد عن الرسول صلي اللّه عليه و سلّم نصوص لا تكتفي بتحريم الربا علي آكله كما ورد في القرآن و لم تكتف بجعل المعطي و الآخذ و الكاتب سواء في اللعن و الإجرام، بل إنه أحاط هذه الجريمة بنطاق من الذرائع و الملابسات جعلها حمي محرما تحريم الوسائل الممهدة إلي الحرمة الأصلية. و الطريف في أمر هذه الإضافة أنه جعل التحريم فيها علي مراتب متفاوتة في تدرج حكم ينتقل من الإباحة التامة رويدا رويدا إلي الحظر الكلّي مارا بكل المراتب المتوسطة» «2».
و بعد أن بيّن أن قيام المرابين كالمجانين المصروعين في الدنيا لعبادتهم المال و هيامهم به. ذكر قول جمهرة المفسرين أن قيام المرابين صرعي هو «القيام من القبور حين البعث، و أن اللّه جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين و رووا ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود» «3».
و نقل المراغي عن بعض العلماء قولهم:
«إنّ الإقدام علي كبائر الإثم و الفواحش عمدا إيثارا لحب المال أو اللذة به فلا يجتمع مع الإيمان الحق الذي يملأ النفوس خوفا و رهبة ... و منه قول رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم: «لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن، و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن».
هذا من قبيل محق الربا.
و أخرج البخاري و مسلم عن أبي هريرة، قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم:
«من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب، و لا يقبل اللّه تعالي إلا طيبا فإن اللّه تعالي يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتي تكون مثل الجبل».
و أخرج عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي صلي اللّه عليه و سلّم علي أن ما لهم من ربا علي الناس و ما لهم من ربا عليهم فهو موضوع، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد عليها، و كان بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من المغيرة، و كان بنو المغيرة (1) المراغي، تفسير المراغي، (1- 3/ 62).
(2) المصدر نفسه، (1- 3/ 62، 63).
(3) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 335
يربون لهم في الجاهلية فجاء الإسلام و لهم عليهم مال كبير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، و رفعوا ذلك إلي عتاب بن أسيد فكتب عتاب إلي رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم فنزلت فكتب بها رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلّم إلي عتاب و قال: «إن رضوا و إلّا فآذنهم بالحرب».
هذه الأحاديث و غيرها كانت تعبّر عن المناخ الذي رافق نزول الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
من هذا يظهر المدي الذي ذهب إليه بالاستعانة بسنة رسول اللّه لغاية فهم كتاب اللّه سبحانه.
هذا لا غرابة فيه، بل الغرابة عدم الاستعانة بالسنة لأنها هي المقيدة لمطلق القرآن، و هي المخصصة لعامّه، و المفصّلة لمجمله، و من فهم القرآن منحّيا السنة فقد ضلّ و أضل.

تفسير المراغي و استفادته من المعارف الحديثة:

عمد المراغي إلي تقريب المعاني القرآنية إلي الأذهان، بالحديث عن الوسائل المعرفية الحديثة و كيف أن الإنسان يؤمن بعمل هذه المعارف، و أداءها لوظيفتها من خلال النتائج لأن بإدراكنا تفاصيل آلية عملها .. فعند ما فسّر قوله تعالي: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتي قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلي وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلي كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) «1».
خلاصة المعني العام للآية:
«يا رب أرني بعينيّ كيفية إحيائك للموتي.
قال: أو لم تؤمن، قال: بلي، قال: أ لم تعلم ذلك و تؤمن بأني قادر علي الإحياء كيف أشاء حتي تسألني إراءته؟ قال: بلي علمت ذلك و صدّقت الخبر، و لكن تاقت نفسي للخبر و الوقوف علي كيفية هذا السر ليطمئن قلبي بالعيان بعد خبر الوحي» «2».
و هنا يظهر النص لنا أن طبع الإنسان ميال إلي الرؤية الحسية، فالرؤية الحسية هي التي تولد عنده الاطمئنان، ... و كأن الاطمئنان القلبي مسألة فوق القناعة العقلية فإبراهيم رسول كان مقتنعا بقدرة اللّه علي إحياء الموتي، و لكن أراد الاطمئنان القلبي الذي يصل إليه بالمشاهدة. (1) سورة البقرة، الآية: (260).
(2) المراغي، تفسير المراغي، (3/ 26 و 27).
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 336
«و في إرشاد إبراهيم خليله تأديب لعامة المؤمنين و منع لهم عن التفكير في كيفية الخلق و التكوين، فإن هذا مما استأثر اللّه تعالي بعلمه .. و يجب أن نفرق بين مشاهدة إبراهيم عملية إحياء الموتي و بين معرفته كيف يخلق اللّه تعالي الحياة فهذا إلهي، لا يعلمه أحد إلا اللّه الخالق سبحانه.
فطلب إبراهيم «رؤية كيفية إحياء الموتي طلب للطمأنينة» «1» لأن طلب الطمأنينة تنزع إليه القلوب، و تميل إليه النفوس المؤمنة، لكن لا يتوقف إيمان العاقلين المؤمنين علي المشاهدة العينية.
هنا أذكر يجب ألّا يخطر بالبال مقارنة طلب إبراهيم «أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتي ...
و بين طلب بني إسرائيل من موسي أنهم لن يؤمنوا حتي يروا اللّه جهرة». و هناك عدة فروق:
1- طلب إبراهيم للاطمئنان القلبي لا للقناعة العقلية الإيمانية فهذا حاصل.
2- إن إبراهيم طلب مشاهدة عملية الإحياء لا كيف يتم الأحياء من حيث دقة التفاصيل.
3- طلب بني إسرائيل طلب تعجيزي قائم علي الهوي، و تعطيل العقل، و جعله يعمل في غير ساحته المخصصة له، لأنه لن يستطيع أن يدرك الإله بالمشاهدة «و هو يدرك الأبصار و لا تدركه الأبصار.
يحاول المراغي أن يقرّب إيماننا بقدرته تعالي علي الإحياء دون معرفتنا تفاصيل عملية الإحياء .. بتسليمنا و إيماننا بأمور كثيرة «إيمانا يقينيا و لا نعرف كيفيتها و نود لو نعرفها فهذا «الأثير»، التلغراف اللاسلكي ينقل أخبار العالم في لحظة و لا نعرف كيفية ذلك، بل أكثر من ذلك نقل الصور بالتلغراف من الأقطار النائية و القارات البعيدة، و مثله أصوات المذياع و أصوات التلفزة .. التي تنتشر في جميع الأقطار» «2».
و لو أن المراغي حيا شاهدا لثورة المعلومات الحديثة و الاتصالات المعاصرة لضرب الكثير من الأمثلة التي نسلم بها دون معرفتنا بتفاصيل العملية علي نحو دقيق، إنما نتعامل مع النتائج و المشاهدات الحاصلة أمامنا. هذا صنع الإنسان فما بالك بقدرة خالق الإنسان و من في العالم بأجمعه، بل بقدرة من خلق كل شي‌ء، سبحانه و تعالي! (1) المراغي، تفسير المراغي (3/ 27).
(2) المصدر نفسه.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 337
قال المرحوم النطاسي عبد العزيز باشا إسماعيل في رسالته «الإسلام و الطب الحديث» أثناء كلامه في المعجزات التي وقعت علي أيدي الأنبياء ليتجلّي لك ما ربما غاب عن فكرك و ندّ عن بالك، و تفهم ذلك حق الفهم، قال:
«و المعجزات كلّها من صنع اللّه مباشرة، و معناها سنة جديدة، بخلاف ما نراه يوميا من عظة و عظمة كالولادة، نمو الحيوان و النبات، فإنه مع إعجازه يأتي مطابقا لقواعد و نظم وضعها اللّه لا تتغير، و أظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس، فإن ذلك مع عظمته يحدث صدمة لتعودنا إياه، و لكن إن أتي اللّه بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان، مع أن الحركتين من صنع اللّه و لا فرق بينهما.
و لا تحدث المعجزات إلا علي أيدي الأنبياء لأن صدقها إن كانت شديدة علي الحاضرين فهي أشد علي من يكون واسطة فيها، لذلك اختار اللّه الأنبياء و اصطفاهم.
و صفوة القول: إن أساس المعجزة و عظمتها ليس في نتائجها و غرابتها فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة، و لكن أهمية المعجزة في طريق صنعها دون السنن الاعتيادية و هي لذلك لا تتكرر أبدا إلّا بإذن اللّه لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها، و لا يدرك طريق صنعها، أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهيّ طبيعي، و لذلك هو يتكرر في الظروف نفسها علي يد كل إنسان» «1».
و المعجزة لا تحدث للإنسان الرسول أو غيره متي أراد ذلك، لأن المعجزة لا دور للإنسان فيها و لا يملك السنن المؤدية إلي إيجادها. بخلاف الاختراع فإن الجهد الإنساني في إيجادها علي شكل من الأشكال باد لا مرية فيه. و إن كان الاختراع خاضع للسننية التي أرادها اللّه للأشياء في هذا العالم «2».

تفسير المراغي و الأحكام الفقهية:

لم يكن المراغي قليل اهتمام بالمسائل الفقهية في تفسيره، و إن كان قليل النظر لخلافات أهل المذاهب الفقهية الأربعة و غير الأربعة ... إنما منهجه يفسر الآيات الكريمة ذات الأحكام، و يدعم رأيه موضحا، و مفصلا بأحاديث نبوية ... و لا بأس من الاستعانة بهذا المثال توضيحا لذلك .. قال تعالي: (1) المراغي، تفسير المراغي، (3/ 27، 28).
(2) للمزيد من الاطلاع علي الناحية العلمية في تفسير المراغي راجع (14/ 106- 108) ففي هذه الصفحات بحوث علمية مطولة عن العسل و فوائده الطبية.
التفسير و المفسرون في العصر الحديث(عبد القادر)، ص: 338
وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوا