حكم الارجل في الوضوء

اشارة

سرشناسه : حسيني ميلاني، علي 1326 -

عنوان و نام پديدآور : حكم الارجل في الوضوء / تاليف علي الحسيني الميلاني.

مشخصات نشر : قم : حقائق ، 1388.

مشخصات ظاهري : 120ص.

فروست : اعرف الحق تعرف اهله ؛ 4

وضعيت فهرست نويسي : در انتظار فهرستنويسي (اطلاعات ثبت)

يادداشت : عربي

يادداشت : چاپ قبلي : مركز الابحاث العقائديه 1421ق = 1379

موضوع : مسح

موضوع : Mash*

موضوع : وضو

موضوع : وضو -- احاديث

موضوع : مسخ-- احاديث

موضوع : Metamorphosis--Hadiths

رده بندي كنگره : BP185/8 /ح 47م 5 1388

رده بندي ديويي : 297/352

شماره كتابشناسي ملي : 1197239

مقدّمة … ص: 7

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للَّه ربِّ العالمين والصلاة والسلام علي خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

وبعد

فهذا بحثٌ كتبته حول (حكم الأرجل في الوضوء) تبييناً لمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية في هذه المسألة، علي ضوء الكتاب والسنّة وأخبار الفريقين، بمناسبة الذكري الألفية لوفاة شيخ مشايخنا أبي عبداللَّه المفيد البغدادي رحمة اللَّه تعالي عليه.

وأسأل اللَّه أن ينفع بها أهل العلم والتحقيق، وباللَّه التوفيق.

علي الحسيني الميلاني

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 9

لقد كان (حكم الأرجل في الوضوء) موضع بحث بين فقهاء المسلمين منذ صدر الاسلام … فذهبت الشيعة الاثنا عشرية تبعاً لعلي وسائر أئمّة أهل البيت عليهم السّلام إلي وجوب المسح، حتي كان القول بذلك شعاراً لهم ورمزاً لمذهبهم.

واختلف الآخرون … بين قائل بالمسح كذلك، وقائل بالجمع بين المسح والغسل، وقائل بالتخيير بينهما، وقائل بالغسل علي التعيين.. وقد ظلّ هذا الخلاف قائماً بينهم، حتي استقرّ مذهب الجمهور من أهل السنّة علي القول بالغسل، وذلك في

القرن الرابع، أي بعد الإمام أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفّي سنة 310، ولعلّ المتتبع يعثر علي من يقول بغير الغسل من علمائهم بعد ذلك أيضاً، وخاصّة في أتباع الطبري، اذ كان له مذهب مستقل يقلّده كثير من العلماء وسائر الناس.

فمثلًا: نجد بترجمة الحافظ أبي بكر محمد بن عمر البغدادي

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 10

الجعابي، قاضي الموصل، المتوفي سنة 355- الذي ذكروا أنه كان يحفظ مئتي ألف حديث ويجيب في مثلها، قالوا: وكان إماماً في معرفة العلل والرجال وتواريخهم وما يُطعن علي الواحد منهم، لم يبق في زمانه من يتقدّمه- أنّه نسب إلي التشيع، لمذهبه في الموضوء، وقد عرف ذلك منه لمّا كتب أحدهم علي رجله كتابةً- وكان نائماً- فكانت الكتابة باقيةً إلي ثمانية أيّام «1».

ولقد كان السبب في اختلاف القوم في المسألة اختلاف الأحاديث المرويّة عندهم … حتي الأخبار المستدل بها للغسل متعارضة كما ستعرف في الكتاب … بل لو راجعت كتبهم وجدت رواياتهم تنادي بوجود الاختلاف بين الصحابة، في زمن عمر، وعثمان، وعلي … ففي خبر أخرجه مسلم أنّ عثمان توضّأ ثمّ قال:

«إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أحاديث لا أدري ما هي» «2».

وفي حديثٍ آخر- أخرجه أبو داود- أنّه توضّأ ثمّ قال: «أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 3/ 30، سير أعلام النبلاء 16/ 90.

(2) كنز العمال 9/ 423.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 11

يتوضّأ» «1».

وفي ثالث: أنه توضأ ثمّ «استشهد ناساً من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. ثمّ قال: الحمد للَّه الذي وافقتموني علي هذا» «2».

بل جاء في خبر: «عن أبي مالك

الدمشقي قال: حدثت أن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء … » «3».

وأخرجوا عن ابن عباس قال: «دخل عليَّ عليٌّ بيتي، فدعا بوضوء فقال: يا ابن عباس، ألا أتوضّأ لك وضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قلت: بلي … » «4».

وفي حديث آخر: أنّه توضّأ بالكوفة ثمّ قال: «من أحبّ أن ينظر الي طهور نبيّ اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فهذا طهوره» «5».

ومن هنا جاء في المنار: «إنّ القول بكلّ من الغسل والمسح مروي عن السلف من الصحابة والتابعين، ولكن العمل بالغسل أعم

__________________________________________________

(1) نفس المصدر: 9/ 440.

(2) كنز العمّال 9/ 441.

(3) نفس المصدر 9/ 443.

(4) نفس المصدر 9/ 459.

(5) نفس المصدر 9/ 460.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 12

وأكثر، وهو الذي غلب واستمر» «1».

إلّا أنّ غير واحد من أعلام القوم حاول إنكار القول بالمسح أو القول بغير الغسل من أحد منهم، وجعلوا القول بالمسح بدعة وضلالة:

قال ابن كثير: «ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف، فقد ضلّ وأضلّ، وكذا من جوّز مسحهما وجوّز غسلهما فقد أخطأ أيضاً. ومن نقل عن أبي جعفر ابن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث وأوجب مسحهما للآية، فلم يحقّق مذهبه» «2».

وقال الشهاب الخفاجي: «ومن أهل البدع من جوّز المسح علي الأرجل بدون الخف، مستدلًا بظاهر الآية، وللشريف المرتضي كلام في تأييده تركناه لإجماع أهل السنّة علي خلافه» «3».

وقال الآلوسي: «لا يخفي أنّ بحث الغسل والمسح ممّا كثر فيه الخصام، وطالما زلّت فيه أقدام، وما ذكره الإمام- رحمه اللَّه تعالي- يدل علي أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج الي

__________________________________________________

(1) تفسير المنار 6/ 234.

(2) تفسير القرآن العظيم 2/ 25.

(3) حاشية الشهاب علي البيضاوي

3/ 221.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 13

شأوي ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك، رغماً لانوف الشيعة السالكين من السبل كلّ سبيل حالك» «1».

قال: «وما يزعمه الاماميّة من نسبة المسح إلي ابن عباس- رضي اللَّه تعالي عنهما- وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفتري عليهم … ونسبة جواز المسح إلي أبي العالية وعكرمة والشعبي، زور وبهتان أيضاً. وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخيير بينهما إلي الحسن البصري عليه الرحمة، ومثله نسبة التخيير إلي محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير. وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميّز الصحيح والسقيم من الأخبار، بلا تحقق ولا سند، واتّسع الخرق علي الراقع» «2».

فانظر، كيف يتحاملون علي الشيعة؟ فذاك يضلّل! والآخر يبدّع! وهذا يشتم!

__________________________________________________

(1) روح المعاني 6/ 74 ولا يخفي أنه يقصد من «الإمام» الفخر الرازي، لأنه قد أثبت دلالة الآية علي المسح دون الغسل كما سيأتي.

(2) روح المعاني: 6/ 77.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 14

أمّا الآلوسي … فقد أفرط في التهجّم علي الشيعة، حتي انتقده المتأخّرون عنه منهم كصاحب المنار «1». وتهجّم علي كبار علماء طائفته الذين نصّوا علي ذهاب كبار الصحابة المرجوع اليهم في القرآن والفقه كعلي أميرالمومنين وعبد اللَّه بن العباس … وكذا مشاهير التابعين الذين عليهم الاعتماد في التفسير والقراءات كعكرمة وقتادة والشعبي والحسن البصري … وغيرهم … إلي دلالة الكتاب علي المسح.

وقد خصّ منهم بالذكر إمامهم الفخر الرازي، لتبيينه الوجه في دلالة الآية المباركة علي المسح، واقتفي أثره غير واحد من أئمة الفقه والتفسير والحديث منهم …

ثمّ اضطرب القوم … في الطبري ورأيه … لأنه من

القائلين بالمسح:

فأبو حيان، أخرجه من أهل السنّة وجعله من علماء الإمامية! «2».

والسليماني، لم ينكر كونه من أهل السنة وإنّما قال: «كان يضع

__________________________________________________

(1) تفسير المنار 6/ 229.

(2) لسان الميزان 5/ 100.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 15

للروافض» «1».

والذهبي، نزّهه عمّا قيل فيه، وذكر أنه لم ير القول بالمسح في كتبه، وهذه عبارته:

«وكان ابن جرير من رجال الكمال، وشنّع عليه بيسير تشيّع، وما رأينا إلّا الخير، وبعضهم ينقل عنه أنه كان يجيز مسح الرجلين في الوضوء، ولم نر ذلك في كتبه» «2».

والرازي وجماعة ينسبون إليه التخيير «3».

وآخرون ينسبون إليه الجمع «4».

والزين العراقي وابن حجر العسقلاني ذكرا بعد هذا الطبري:

محمّد بن جرير بن رستم الطبري وقالا: «رافضي» وزاد الأول «خبيث» ثمّ قالا: «لعلّ ما حكي عن محمّد بن جرير الطبري من الاكتفاء في الوضوء بمسح الرجلين انّما هو هذا الرافضي، فإنّه مذهبهم» «5».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3/ 499.

(2) سير أعلام النبلاء 14/ 277.

(3) تفسير الرازي 11/ 161.

(4) منهم صاحب المنار 6/ 288.

(5) ذيل ميزان الاعتدال/ 304، لسان الميزان 5/ 103.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 16

ومن أساليبهم أيضاً: الاتّهام بترك الصّلاة، فإنّهم- وإنْ لم يتّهموا به محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ- قد اتّهموا به الحافظ ابن الجعابي، كما لا يخفي علي من راجع ترجمته في الكتب.

أقول: كلّ هذا … لأنّ المسح مذهب الإمامية تبعاً للكتاب والسنّة ولأنّ الذي استقرّ عليه مذهبهم هو الغسل … !!

فلننظر في الكتاب والسنّة … علي ضوء كلمات أئمّة التفسير والفقه والحديث … وباللَّه التوفيق.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 17

الكتاب … ص: 17

اشارة

قال اللَّه عزّوجل:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ

إِلَي الْكَعْبَينِ» «1»

.والكلام في حكم الأرجل:

قد اختلف علماء الاسلام في نوع طهارة الأرجل في الوضوء:

فالذي عليه الإمامية الاثنا عشرية وهم شيعة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام هو المسح فرضاً معيّناً من غير خلاف بينهم، حتي أصبح من جملة شعائر مذهبهم التي بها يعرفون وعن غيرهم يتميّزون. وإليه ذهب جماعة من غيرهم، ففي كلام السرخسي: «ومن الناس من قال: وظيفة الطهارة في الرجل المسح» «2».

__________________________________________________

(1) سورة المائدة: 6.

(2) المبسوط في فقه الحنفية 1/ 8.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 18

وقال ابن رشد: «اتّفق العلماء علي أنّ الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما، فقال قوم: الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح، وقال قوم: بل طهارتهما تجوز بالنوعين» «1».

وابن كثير: «وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح» «2».

فمن علماء أهل السنة من يقول بالمسح تبعاً لجماعة من الصحابة والتابعين كما ستعرف.

والذي عليه أئمّة المذاهب الأربعة من أهل السنّة، بل جمهور فقهائهم هو الغسل فرضاً علي التعيين.

وذهب داود بن علي من الظاهرية، والناصر للحق من الزيدية إلي الجمع بين الغسل والمسح.

كما ذهب الحسن البصري ومحمّد بن جرير الطبري إلي غير الغسل، وإن اختلفوا في رأيهما علي التعيين.

__________________________________________________

(1) بداية المجتهد 1/ 15.

(2) تفسير القرآن العظيم 2/ 24.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 19

الاستدلال بالكتاب للمسح: … ص: 19

واستدل للقول الأول بالكتاب، وذلك لأنّ في قوله:

«وَأَرْجُلَكُمْ» قراءتين مشهورتين، وأُخري غير مشهورة.

أمّا الثالثة فهي القراءة بالرفع، قال القرطبي: «وروي الوليد بن مسلم عن نافع انه قرأ: «وَأَرْجُلَكُمْ» بالرفع. وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان» «1».

وكذا قال ابن العربي المالكي «2».

لكنّ الآلوسي قال: «أمّا الشاذة فالرفع، وهي قراءة الحسن» فلم ينسبها الّا إلي الحسن البصري، وذكر نافعاً فيمن قرأ بالنصب

«3» وكذلك غيره من المفسرين «4» الّا أنّ الشوكاني ذكر الحسن والأعمش فيمن قرأ بالنصب كنافع «5».

والوجه في الرفع جعله مبتدأ، قال أبو البقاء: «ويقرأ في

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي 6/ 94.

(2) أحكام القرآن 2/ 72.

(3) روح المعاني 6/ 76.

(4) البحر المحيط 3/ 438.

(5) فتح القدير 2/ 16.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 20

الشذوذ بالرفع علي الابتداء، أي: وأرجلكم مغسولة. أو كذلك» «1».

قلت: ما المعيّن لأن يكون الخبر «مغسولة»؟ لم لا يكون «ممسوحة»؟ بل هذا أقرب لقرب القرينة «2». ولذا لم يرتض غير واحد من القائلين بالغسل التقدير الذي ذكره أبو البقاء، فجوّز الزمخشري تقدير مغسولة أو ممسوحة «3» وقال أبو حيّان: «وقرأ الحسن «وَأَرْجُلَكُمْ» بالرفع، وهو مبتدأ محذوف الخبر، أي اغسلوها إلي الكعبين علي تأويل من يغسل، أو ممسوحة إلي الكعبين علي تأويل من يمسح» «4». وأصرح منهما كلام الآلوسي: «وأما قراءة الرفع فلا تصلح للاستدلال للفريقين، إذ لكلّ أن يقدّر ما شاء» «5»، لكن في كلامه نظر، إذ كيف يجوز أن يقدر كلّ ما شاء في كلام اللَّه؟ بل المتعيّن في هذا المقام تقدير ما تقتضيه القراءتان المشهورتان، وسنري أنه المسح دون الغسل.

وعلي كلّ حال، فالقراءة شاذّة، فهي خارجة عن البحث …

__________________________________________________

(1) إملاء ما منّ به الرحمن 1/ 210.

(2) كنز العرفان في فقه القرآن 1/ 15.

(3) الكشاف 1/ 611.

(4) البحر المحيط 3/ 438.

(5) روح المعاني 6/ 77.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 21

والمهم هو النظر علي ضوء القراءتين المشهورتين، وهما الجرّ والنصب.

فقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو عمرو، وعاصم- في رواية أبي بكر عنه- بالجر.

وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم- في رواية حفص عنه- بالنصب «1».

اعتراف القائلين بالغسل بدلالة الكتاب علي المسح: … ص: 21

فاستدلَّ القائلون بالمسح بناء علي كلتا القراءتين:

أمّا الجرّ،

فلانَّ «وَأَرْجُلَكُمْ» معطوفة علي محلّ «بِرُؤُوسِكُمْ» وهو منصوب، والعطف من هذا القبيل مذهب مشهور للنحاة.

وحيث أنّ الحكم في الرأس هو المسح، فالحكم في الرّجل مثله.

فالقراءتان المشهورتان- أو المتواترتان- ظاهرتان في المسح، من دون حاجة إلي تكلّف، أو تقدير، أو مخالفة لقواعد العربية.

وقد ذكر هذا الاستدلال- مع الاعتراف بظهور الكتاب الكريم

__________________________________________________

(1) هذا مذكور في جميع التفاسير وكتب الفقه والحديث واعراب القرآن.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 22

في المسح- في غير واحد من كتب القائلين بالغسل، من تفسير وفقه وحديث:

قال السرخسي: «وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: نزل القرآن بغسلين ومسحين. يريد به القراءة بالكسر في قوله تعالي «وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ» فإنّه معطوف علي الرأس. وكذلك القراءة بالنصب، عطف علي الرأس من حيث المحل، فإنّ الرأس محلّه من الإعراب النصب، وإنّما صار مخفوضاً بدخول حرف الجر، وهو كقول القائل:

معاوي إنّنا بشر فاسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا

(ولنا): أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم واظب علي غسل الرجلين» «1».

وقال ابن الهمام- بشرح قول الماتن: «ووجهه: إنّ قراءة نصب الرجل عطف علي المغسول، وقراءة جرّها كذلك، والجر للمجاورة»:

«وعليه أن يقال: بل هو عطف علي المجرور، وقراءة النصب عطف علي محلّ الرؤوس، وهو محل يظهر في الفصيح. وهذا أولي.

لتخريج القراءتين به علي المطّرد، بخلاف تخريج الجرّ علي الجوار»

__________________________________________________

(1) المبسوط في الفقه الحنفي 1/ 8.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 23

(قال): «إطباق رواة وضوئه صلّي اللَّه عليه وسلّم علي حكاية الغسل ليس غيره. فكانت السنّة قرينة منفصلة» «1».

وقال ابن قدامة: «وروي عن علي أنه مسح … وحكي عن ابن عباس، وروي عن أنس بن مالك … وحكي عن الشعبي … ولم يعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح

علي الرجلين غير من ذكرنا، إلّا ما حكي عن ابن جرير أنّه قال: هو مخيّر بين المسح والغسل. واحتجّ بظاهر الآية، وبما روي عن ابن عباس.

(ولنا): إنّ عبد اللَّه بن زيد وعثمان حكيا وضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم … » «2».

وقال الفخر الرازي: «حجة من قال بوجوب المسح مبنيّ علي القراءتين المشهورتين في قوله: «وَأَرْجُلَكُمْ»» ثمّ بيّن وجه الاحتجاج في كلام له مفصّل سنذكره، ثمّ قال: «واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا الّا من وجهين:

الأوّل: أنّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل … » «3».

__________________________________________________

(1) شرح فتح القدير 1/ 11.

(2) المغني في فقه الحنفيّة 1/ 151.

(3) تفسير الرازي 11/ 161.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 24

وقال: الشيخ إبراهيم الحلبي: «والصحيح أنّ الأرجل معطوفة علي الرؤوس في القراءتين، ونصبها علي المحلّ، وجرّها علي اللّفظ» «1».

وقال السندي: «وانّما كان المسح هو ظاهر الكتاب، لأنّ قراءة الجرّ ظاهرة فيه، وحمل قراءة النصب عليها بجعل النصب علي المحل أقرب من حمل قراءة الجر علي قراءة النصب، كما صرّح به النحاة» «2».

وقال القاسمي: «وأمّا من قال: الواجب هو المسح، فتمسّك بقراءة الجرّ، وهو مذهب الامامية، وأجابوا عن قراءة النصب بأنها مقتضية للمسح أيضاً، وقد وقفت علي كتاب شرح المقنعة من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجّه اقتضاء النصب للمسح بأنّ موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل الذي هو المسح عليه» فنقل الكلام، وما ذكر له جواباً الّا بأن قال: «فتأمل جدلهم»! «3» هذا مع أنه قد نصَّ علي دلالة الآية علي المسح كما قال ابن عباس وغيره.

__________________________________________________

(1) غنية المتملي/ 16.

(2) الحاشية علي ابن ماجة 1/ 88.

(3) تفسير القاسمي 6/ 1894.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص:

25

وسيأتي نصّ عبارته في محلّها.

بل ستعرف أنّ القول بالنسخ أو الحمل والتأويل كما عليه أكثرهم، انّما هو لكون الآية بكلا القراءتين ظاهرة في المسح، فلا مانع من نسبة القول بظهورها في ذلك إلي القوم إلّا من شذّ منهم.

في هذه الكلمات: … ص: 25

هذه طائفة من كلمات أعلام القائلين بوجوب الغسل، وهي كما تراها صريحة في:

1- إنّ الكتاب ظاهر علي كلتا القراءتين في وجوب المسح.

2- إنّ جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم كانوا يقولون بالمسح، وستعرف ذلك أيضاً.

3- إنّ الدليل علي قولهم بالغسل هو السنّة.

إلّا أن رفع اليد عن ظاهر الكتاب لا يكون جزافاً، بل الأصل فيما خالف الكتاب هو أن يضرب به الجدار، إلّا إذا كان الكتاب ظاهراً في العموم أو الإطلاق فكانت السنّة مقيدة أو مخصّصة له، أو كان ظاهراً في حكم وثبت نسخه بالسنّة، أو لم يكن له ظهور في شي ء فجاءت السنّة مفسّرة ومبيّنة …

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 26

ثمّ إنّ السنّة في المسألة متعارضة … ومتي تعارضت السنّة وجب العرض علي الكتاب، ثم الأخذ بما وافق ظاهره وطرح ما خالفه!

وهذه قواعد وأُصول اتّفق العلماء عليها، وبحثوا في سائر المسائل علي أساسها.

مناقشات في دلالة الكتاب: … ص: 26

اشارة

لكن القائلين بالغسل حاولوا رفع اليد عن هذا الظّهور بشكل من الأشكال، ومن لاحظ كلماتهم وتدبّر أقوالهم وجدها مضطربة أشدّ الاضطراب ومشوّشة غاية التشويش … فماذا يفعلون وهم يريدون رفع اليد عن الكتاب المبين، الظاهر في وجوب المسح علي التعيين!!

1- دعوي ظهور قراءة النصب في الغسل: … ص: 26

فمنهم من أنكر أن تكون قراءة النصب ظاهرة في المسح، بل هي بقرينة الأخبار ظاهرة في الغسل عطفاً علي «وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ» وراجحة علي قراءة الجرّ الظاهرة في المسح.

قال ابن رشد: «اتّفق العلماء علي أنّ الرجلين من أعضاء

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 27

الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما فقال قوم: طهارتهما الغسل وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح … وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء … وذلك، أنّ قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح … وقد رجّح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام، إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء: (ويل للأعقاب من النار) … » «1».

وقال ابن العربي- بعد أن ذكر القراءتين والقولين-: «وجملة القول في ذلك: إنّ اللَّه سبحانه عطف الرجلين علي الرأس، فقد ينصب علي خلاف إعراب الرأس أو يخفض مثله، والقرآن نزل بلغة العرب، وأصحابه رؤوسهم وعلماؤهم لغة وشرعاً، وقد اختلفوا في ذلك، فدلّ علي أنّ المسألة محتملة لغة محتملة شرعاً. لكن تعضّد حالة النصب علي حالة الخفض بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم غسل وما مسح قط، وبأنه رأي قوماً تلوح أعقابهم فقال: (ويل للأعقاب من النار) و (ويل للعراقيب من النار). فتوعّد بالنار علي ترك إيعاب غسل الرجلين، فدلّ ذلك علي الوجوب بلا خلاف، وتبيّن أنّ من قال من الصحابة أنّ الرجلين ممسوحتان، لم يعلم بوعيد النبيّ

صلّي اللَّه عليه

__________________________________________________

(1) بداية المجتهد: 15- 16.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 28

وسلّم علي ترك إيعابهما.

وطريق النظر البديع: أنّ القراءتين محتملتان، وأن اللغة تقضي بأنّهما جائزتان، فردّهما الصحابة إلي الرأس مسحاً، فلما قطع بنا حديث النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، ووقف في وجوهنا وعيده، قلنا:

جاءت السنّة قاضية بأنّ النصب يوجب العطف علي الوجه واليدين» «1».

قلت:

أوّلًا: في كلامه اقرار بأنّ الصحابة قالوا بالمسح، وردّوا القراءتين إلي الرأس.

وثانياً: في كلامه دعوي أنّ الصحابة لم يبلغهم وعيد النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم علي ترك إيعاب الرجلين، وهذه الدعوي غير مسموعة. اذ كيف لم يبلغ عليّاً الذي كان معه ليلًا ونهاراً، وأنساً الذي كان يخدمه كما يقولون، وابن عباس وسائر المسلمين هذا الحكم العام المحتاج اليه في كلّ يوم؟

وثالثاً: إنّ أخبار «ويل … » علي فرض تمامية سندها أدلّ علي جواز المسح منه علي منعه، وهذا ما نصَّ عليه ابن رشد وأشار إليه ابن

__________________________________________________

(1) أحكام القرآن 2/ 72.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 29

حجر … كما سيجيي ء في فصل الأخبار، فكان الصحيح أن ينسب إلي الصحابة أنهم فهموا منها المسح فعملوا به، لا أن يرموا بالجهل فيدّعي أنهم لم يعلموا بالوعيد!!

ورابعاً: إنّ العطف علي الوجه واليدين غير جائز، قال أبو حيّان: «فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض بل هي منشئة حكماً … قال الاستاذ أبو الحسن ابن عصفور- وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه- قال: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل.

فدلَّ قوله هذا علي أنّه ينزّه كتاب اللَّه عن هذا التخريج» «1».

وقال العيني: «والنصب يحتمل العطف علي الأول علي بعد، فإنّ أبا علي قال: قد أجاز قوم النصب عطفاً علي وجوهكم، وإنّما يجوز شبهه

في الكلام المعقد وفي ضرورة الشعر … » «2».

وقال الحلبي: «لامتناع العطف علي وجوهكم، للفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ» والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلًا عن الجملة. ولم نسمع في الفصيح: ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً. بعطف عمراً علي

__________________________________________________

(1) البحر المحيط 3/ 438.

(2) عمدة القاري 2/ 238.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 30

زيداً» «1».

ولعلّه لذا اضطر بعضهم إلي أن يجعل الناصب فعلًا مقدّراً وهو اغسلوا، لا بالعطف علي وجوهكم. وهو واضح الضعف، لأنّ الأصل عدم التقدير كما هو المقرّر في سائر البحوث.

وعلي فرض التسليم بجواز أن يكون عامل النصب اغسلوا، فمن الجائز أن يكون هو امسحوا، لكنْ العاملان إذا اجتمعا علي معمول واحد، كان إعمال الأقرب أولي كما قال الفخر الرازي «2».

ومنهم من رأي أن الأخبار وحدها لا تكفي لتقدم قراءة النصب علي قراءة الجرّ، بل لا بدَّ قبل ذلك من إخراج قراءة الجرّ عن الظهور في المسح، بدعوي اشتراك لفظ «المسح»:

قال القرطبي: «قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أنّ المسح والغسل واجبان جميعاً، فالمسح واجب علي قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب علي قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين.

قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلي أنّ المسح في الرجلين هو الغسل.

__________________________________________________

(1) غنية المتملي: 16.

(2) تفسير الرازي 11/ 161.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 31

قلت: وهو الصحيح، فإنّ لفظ المسح مشترك، يطلق بمعني المسح ويطلق بمعني الغسل. قال الهروي: أخبرنا الأزهري، أخبرنا أبو بكر محمّد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلًا ويكون مسحاً، ومنه يقال: الرجل اذا توضأ فغسل

أعضاءه: قد تمسح. ويقال: مسح اللَّه ما بك، إذا غسلك وطهّرك من الذنوب.

فإذا ثبت بالنقل عن العرب أنّ المسح يكون بمعني الغسل، فترجّح قول من قال: انّ المراد بقراءة الخفض الغسل، بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل، والتوعد علي ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصي كثرة» «1».

قلت: وهذا الذي ذكره بعنوان «أحسن ما قيل» ردٌّ في الحقيقة علي «النظر البديع» الذي ذكره ابن العربي واستحسنه بعضهم …

وسنتكلم عليه إن شاء اللَّه.

2- دعوي عدم ظهور قراءة الجرّ في المسح: … ص: 31

وقراءة الجرّ اتفقوا علي ظهورها في المسح، حتي القائلون

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي 6/ 94.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 32

بظهور قراءة النصب في الغسل لم ينكروا ذلك، كالنووي «1». وابن كثير «2» وقال ابن حجر: «تمسّك من اكتفي بالمسح بقوله تعالي:

«وَأَرْجُلَكُمْ» عطفاً علي «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ» فذهب إلي ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين … » «3».

لكن ذهابهم إلي القول بالغسل حمل بعضهم علي تأوّلات هي في الحقيقة تطبيق للقرآن علي ما ذهبوا اليه، ومن هنا لم يتعرّض لها أو قد صرّح بسقوطها أكثرهم، وهي أربعة وجوه:

أحدها:

إنّ هذا كسر علي الجوار، وليس عطفاً علي «بِرُؤُوسِكُمْ» ليكون دالًا علي المسح.

وهذا ما ارتضاه قليل منهم: كالعيني في شرح البخاري «4» وأبي البقاء وأطنب في توجيهه «5» والآلوسي في تفسيره «6»، وردّه جماعة:

__________________________________________________

(1) المجموع في شرح المهذّب 1/ 418.

(2) تفسير القرآن العظيم 2/ 24.

(3) فتح الباري 1/ 215.

(4) عمدة القاري 2/ 239.

(5) املاء ما منَّ به الرحمن 1/ 210.

(6) روح المعاني 6/ 78.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 33

قال أبو حيّان: «ومن أوجب الغسل تأوّل أنّ الجرّ هو خفض علي الجوار. وهو تأويل ضعيف جدّاً، ولم يرد الّا في النعت حيث لا

يلبس، علي خلاف فيه قد قرّر في علم العربية» «1».

وقال السندي: «وانّما كان المسح هو ظاهر الكتاب، لأنّ قراءة الجرّ ظاهرة فيه، وحمل قراءة النصب عليها بجعل العطف علي المحلّ أقرب من حمل قراءة الجرّ علي قراءة النصب كما صرّح به النحاة، لشذوذ الجوار واطّراد العطف علي المحلّ» «2».

وقال الحلبي: «وأمّا الجرّ علي الجوار فإنّما يكون- علي قلّة- في النعت، كقول بعضهم: هذا جحر ضبّ خرب، وفي التأكيد كقول الشاعر:

يا صاح بلّغ ذوي الحاجات كلّهم أن ليس وصل إذا انحلّت عري الذنب

بجرّ كلّهم علي ما حكاه الفرّاء.

وأمّا في عطف النسق فلا يكون، لأنّ العاطف يمنع المجاورة» «3».

__________________________________________________

(1) البحر المحيط 3/ 438.

(2) الحاشية علي ابن ماجة 1/ 88.

(3) غنية المتملّي: 16.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 34

وقال الشيخ سليمان جمل: «إنّه ضعيف لضعف الجوار» «1».

وقال الشوكاني: «لا شك في أنه قليل نادر مخالف للظاهر، لا يجوز حمل الآية المتنازع فيها عليه» «2».

وقال الخازن: «وأما قراءة الكسر، فقد اختلفوا في معناها والجواب عنها» فذكر الوجوه التي سنوردها ثمّ قال: «وأما من جعل كسر اللّام في الأرجل علي مجاورة اللفظ دون الحكم، واستدل بقولهم: جحر ضبّ خرب، وقال: الخرب نعت للجحر لا للضب، وانّما أخذ إعراب الضب للمجاورة، فليس بجيّد، لأنّ الكسر علي المجاورة انّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر. أو يصار اليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، لأنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر. ولأنّ الكسر بالجوار انّما يكون بدون حرف العطف، أمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب» «3».

وقال النيسابوري: «ولا يمكن أن يقال: إنه كسر علي الجوار … »

فذكر خلاصة ما ذكره الرازي «4».

__________________________________________________

(1) الحاشية علي البيضاوي 1/ 467.

(2) نيل الأوطار

1/ 163.

(3) تفسير الخازن: - لباب التأويل 2/ 441.

(4) تفسير النيسابوري 6/ 53.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 35

وقال الفخر الرازي: «أما القراءة بالجر، فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة علي الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذا كسر علي الجوار، كما في قوله: جحر ضبّ خرب، وقوله: كبير أناس في بجاد مزمل؟

قلنا: هذا باطل من وجوه: الأول: أنّ الكسر علي الجوار معدود في اللّحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام اللَّه يجب تنزيهه عنه. وثانيها: أنّ الكسر انّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، كما في قوله: جحر ضب خرب، فإنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. وثالثها: أنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف، وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب» «1».

وقال القرطبي بعد أن نقله: «وردّه النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم، لأنّ الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه، وانّما هو غلط ونظيره الإقواء» «2».

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 11/ 161.

(2) تفسير القرطبي 6/ 94.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 36

وقال الأخفش: «ويجوز الجرّ علي الإتباع، وهو في المعني الغسل، نحو هذا جحر ضب خرب. والنصب أسلم وأجود من هذا الاضطرار» «1».

علي أنّ فيه اشكالًا أورده الخفاجي وهو: أنه في هذه الحالة حيث يراد العطف علي الرؤوس، يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، إذ المسح في الرؤوس حقيقة وفي الأرجل مجاز، لأنّ المفروض كون المراد هو الغسل الشبيه بالمسح في قلة استعمال الماء، قال: «إنّه اشكال قوي لا محيص عنه» «2».

الثاني:

انّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف

يتعدّي بالباء، أي: وافعلوا بأرجلكم الغسل. ثمّ حذف الفعل وحرف الجرّ. ذكره أبو البقاء «3».

ولا يخفي أنّه تكلّف بلا وجه وتقدير بلا دليل، والأصل عدمه.

ولذا قال أبو حيان بعد أن ذكره: «وهذا تأويل في غاية الضعف» «4». وكذا قال الشهاب الخفاجي «5» ولهذا أيضاً لم يذكره سائر العلماء.

__________________________________________________

(1) معاني القرآن 1/ 255.

(2) الشهاب علي البيضاوي 3/ 221.

(3) املاء ما منَّ به الرحمن 1/ 210.

(4) البحر المحيط 3/ 438.

(5) الشهاب علي البيضاوي 3/ 221.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 37

الثالث:

ما ذكره الزمخشري بتفسير الآية من الفلسفة غير المستندة إلي دليل شرعي! قال:

«قرأ جماعة «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب، فدلّ علي أنّ الأرجل مغسولة. فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجرّ ودخولها في حكم المسح؟

قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها، فكانت مظنّة للإسراف المذموم عنه، فعطفت علي الثالث الممسوح، لا لتمسح ولكن لينبّه علي وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقيل: «إِلَي الْكَعْبَينِ» فجيئ بالغاية إماطةً لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة، لأنّ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة.

وعن علي- رضي اللَّه عنه- أنّه أشرف علي فتية من قريش، فرأي في وضوئهم تجوّزاً فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلًا ويدلكونها دلكاً.

وعن ابن عمر: كنا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فتوضّأ قوم وأعقابهم بيض تلوح، فقال: ويل للأعقاب من النار … » «1».

والزمخشري لم يذكر الّا هذا الوجه، وهذا في الحقيقة ردّ علي

__________________________________________________

(1) الكشاف 1/ 611.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 38

الوجوه الأخري وإبطال لها، كما أنّ ظاهر كلامه التجاؤه إليه لدلالة الأخبار علي الغسل.

وقد نقل العيني عنه هذا الوجه وارتضاه كما هو ظاهر عبارته «1».

بل اعتمده النسفي من

غير أن ينسبه إلي الزمخشري «2».

إلّا أنه- كما تري- تفسير للقرآن بالرأي، محاولة لصرف الآية عن ظهورها في حكم المسح، ولذا قال أبو حيان بعد إيراده: «وهو كما تري في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام» «3».

3- دعوي أنّ المراد بالمسح هو الغسل: … ص: 38

وجاء آخرون … واعترفوا بأنّ الآية المباركة تدلّ علي المسح، فكأن الطرق التي سلكها القوم بالحذف والتقدير، والحمل والتأويل، لم تقنعهم … فتصرفوا في «المسح» المقابل للغسل وحملوه علي «الغسل الخفيف».

قال أبو حيان: «وروي عن أبي زيد أنّ العرب تسمّي الغسل

__________________________________________________

(1) عمدة القاري 2/ 239.

(2) تفسير النسفي- هامش الخازن- 2/ 441.

(3) البحر المحيط 3/ 438.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 39

الخفيف مسحاً ويقولون: تمسّحت للصلاة، بمعني غسلت أعضائي» «1».

وحكي الخازن عن أبي حاتم وابن الأنباري وأبي علي أنّ الأرجل معطوفة علي الممسوح قال: «غير أنّ المراد في الأرجل الغسل» «2».

قال القرطبي: «وهو الصحيح، فإنّ لفظ المسح مشترك» «3».

وقال ابن كثير: «ومنهم من قال: هي دالّة علي مسح الرجلين ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنّة … ومن أحسن ما يستدلّ به علي أنّ المسح يطلق علي الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال: أخبرنا أبو علي الروزبادي، حدثنا أبو بكر محمّد ابن أحمد بن محويه العسكري، حدثنا جعفر بن محمّد القلانسي، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة: سمعت النزال ابن سبرة يحدّث عن علي بن أبي طالب أنه: صلّي الظهر ثمّ قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتي حضرت صلاة العصر، ثمّ أتي

__________________________________________________

(1) البحر المحيط 3/ 438.

(2) تفسير الخازن 2/ 441.

(3) تفسير القرطبي 6/ 92.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 40

بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح

بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثمّ قام فشرب فضلته وهو قائم. ثم قال: إنّ ناساً يكرهون الشرب قائماً وإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم صنع كما صنعت، وقال: هذا وضوء من لم يحدث» «1».

أقول:

لكن قال العيني في وجوه الجواب عن قراءة الجر: «الجواب الرابع: إنّ المسح يستعمل بمعني الغسل الخفيف، يقال: مسح علي أطرافه إذا توضأ. قاله أبو زيد وابن قتيبة وأبو علي الفارسي.

وفيه نظر» «2».

وقال الصاوي- بعد أن ذكره-: «وهو بعيد» «3».

وقال صاحب المنار: «وهو تكلّف ظاهر» «4».

هذا كلام هؤلاء ولم يزيدوا علي ما قالوا … ووجه النظر والبعد والتكلّف أُمور:

الأول: إنّ غاية ما ذكره أبو زيد وجود هذا الاستعمال بين

__________________________________________________

(1) تفسير القرآن العظيم 2/ 25.

(2) عمدة القاري 2/ 239.

(3) الصاوي علي البيضاوي 1/ 270.

(4) تفسير المنار 6/ 233.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 41

العرب في مقابل الاستعمال الشائع الذائع للمسح في مقابل الغسل، وهل يجوز تنزيل لفظ القرآن الكريم علي غير الاستعمال الشائع مع جواز جعله بالمعني الشائع؟

الثاني: سلّمنا كون لفظ «المسح» مشتركاً بين «المسح» و «الغسل»، فهل يجوز حمل اللفظ علي المعني المشترك مع امكان أخذه بالمعني الظاهر منه؟

الثالث: إنّه بناء علي الاشتراك فلابدّ من القرينة، ولا قرينة علي جعل المسح هنا بمعني الغسل الّا الأحاديث، وهي- لو سلّمنا تمامية أسانيدها وظهورها في الغسل- معارضة بما هو صريح في المسح المقابل للغسل.

والرابع: إنّ استدلال ابن كثير بالحديث الذي ذكره- وجعله من أحسن ما يستدلّ به للمدّعي- عجيب للغاية، فإنّه دالّ علي خلاف المدّعي، ومن هنا قال الآلوسي- وهو أشدّ القوم اصراراً علي هذه الدعاوي- وهو يريد الردّ علي القائلين بالمسح: «ولا حجة لهم في دعوي المسح بما روي عن

أميرالمؤمنين علي- كرم اللَّه تعالي وجهه- «أنّه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائماً وقال: إنّ الناس يزعمون أنّ الشرب قائماً لا يجوز، وقد رأيت

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 42

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم صنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث.

لأنّ الكلام في وضوء المحدث لا في مجرّد التنظيف بمسح الأطراف، كما يدلّ عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقاً» «1».

4- دعوي أنّ المراد بالمسح هو المسح علي الخفّين: … ص: 42

ومن القوم من لم يمكنه ردّ ظهور القراءتين أو قراءة الجرّ في المسح، ولا الجزم بشي ء من التأويلات والتوجيهات، ولا الموافقة علي حمل المسح علي الغسل … لكنّه حمل الآية علي المسح علي الخفّين! لأن السنّة دالّة علي الغسل.

قال ابن كثير: «ومنهم من قال: هي محمولة علي مسح القدمين إذا كان عليهما الخفّان. قاله أبو عبد اللَّه الشافعي» «2».

وقال ابن العربي: «السنّة قاضية بأنّ النصب يوجب العطف علي الوجه واليدين، ودخل بينهما مسح الرأس، وإن لم تكن وظيفته كوظيفتهما، لأنه مفعول قبل الرجلين لا بعدهما، فذكر لبيان الترتيب لا

__________________________________________________

(1) روح المعاني 6/ 78.

(2) تفسير القرآن العظيم 2/ 25.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 43

ليشتركا في صفة التطهير، وجاء الخفض ليبيّن أنّ الرجلين يمسحان حال الاختيار علي حائل وهما الخفّان، بخلاف سائر الأعضاء، فعطف بالنصب مغسولًا علي مغسول، وعطف بالخفض ممسوحاً علي ممسوح، وصح المعني فيه» «1».

وقد استحسن ابن حجر هذا الجمع حيث قال: «وحجّة الجمهور الأحاديث الصحيحة المذكورة وغيرها من فعل النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فإنّه بيان للمراد.

وأجابوا عن الآية بأجوبة، منها: أنه قرئ «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب عطفاً علي «وَأَيْدِيَكُمْ» وقيل: معطوف علي محلّ «بِرُؤُوسِكُمْ» كقوله: «يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» بالنصب. وقيل:

المسح في الآية محمول لمشروعية المسح علي الخفين، فحملوا قراءة الجرّ علي مسح الخفين وقراءة النصب علي غسل الرجلين، وقرّر ذلك أبو بكر ابن العربي تقريراً حسناً، فقال ما ملخصه:

بين القراءتين تعارض ظاهر، والحكم فيما ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل بهما وجب، وإلّا عمل بالقدر الممكن، ولا يتأتّي الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة، لأنه

__________________________________________________

(1) أحكام القرآن 2/ 72.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 44

يؤدّي إلي تكرار المسح، لأنّ الغسل يتضمّن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فبقي أن يعمل بهما في حالين توفيقاً بين القراءتين وعملًا بالقدر الممكن» «1».

وقد جنح إلي هذا الوجه جلال الدين السيوطي كما ستعرف، وغير واحد من المتأخّرين كالمراغي «2».

أقول:

لكن هذا الحمل يتوقف علي ثلاثة أُمور:

أحدها: أن تكون قراءة النصب ظاهرة في الغسل بالعطف علي الوجه واليدين. وقد عرفت أنه غير جائز في مثل هذا المقام، أو بتقدير «اغسلوا»، ومن الواضح بطلانه لعدم الاضطرار إلي تقديره، والأصل عدمه.

والثاني: أن تكون السنّة قاضية بوجوب الغسل. وستعرف أنها متعارضة.

والثالث: أن يكون المسح علي الخفين في حال الاختيار جائزاً، وهذا أوّل الكلام، فقد أنكر المسح علي الخفّين جماعة من

__________________________________________________

(1) فتح الباري 1/ 215.

(2) تفسير المراغي 6/ 63.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 45

كبار الصحابة وعلي رأسهم أميرالمؤمنين عليه السّلام وتبعهم بعض الأئمّة. ثمّ إنّ أحاديث المسح علي الخفّين متعارضة كذلك، ولذا اختلف فقهاء القوم فيه علي أقوال، فراجع كتبهم الفقهية.

وقد التفت إلي ضعف هذا الوجه غير واحد من علمائهم:

قال الشهاب الخفاجي:

«ومنهم من حمل النصب علي حالة ظهور الرجل، والجرّ علي حال استتارها بالخف، حملًا للقراءتين علي الحالتين. قيل: وفيه نظر، لأنّ الماسح علي الخف

ليس ماسحاً علي الرجل حقيقة ولا حكماً … » «1».

وقال الآلوسي: «وقد ذكر بعض أهل السنة أيضاً وجهاً آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجرّ محمولة علي حالة التخفّف، وقراءة النصب علي حال دونه. واعترض بأنّ الماسح علي الخفّ ليس ماسحاً علي الرجل حقيقة ولا حكماً … » قال: «هذا الوجه لا يخلو عن بعد، والقلب فلا يميل اليه، وإن ادّعي الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية» «2».

__________________________________________________

(1) حاشية الشهاب علي البيضاوي 3/ 221.

(2) روح المعاني 6/ 76.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 46

تتمة:

قال أحمد بن المنير الاسكندري في (الانتصاف من الكشاف) «1»: «لم يوجّه الجرّ بما يشفي الغليل».

قلت:

وهذا يظهر من جماعة من القائلين بالغسل، فإنهم بعدما أطنبوا في توجيه الآية المباركة، لا سيّما علي قراءة الجر، التجأوا- وكأنهم يذعنون بأنّ ما ذكروه غير مقنع- إلي الإحالة علي رسالة منفردة في المسألة، كما قال ابن العربي المالكي وأبو البقاء، أو إلي كتاب آخر كما ذكر الآلوسي في المقام كتاب (النفحات القدسية في ردّ الإمامية).

__________________________________________________

(1) مطبوع علي هامش الكشاف 1/ 610.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 47

السنّة … ص: 47

اشارة

فرغنا من البحث حول الآية المباركة، وظهر أنها بكلتا القراءتين دالّة علي وجوب مسح الرجلين … وتعرّضنا للاختلافات والتناقضات الموجودة في كلمات القائلين بوجوب المسح لصرف الآية عن دلالتها علي ذلك … وقد كانت تلك المحاولات- كما هو صريح كلماتهم- بسبب أنّ السنّة قاضية بوجوب الغسل …

لكنّ التحقيق أنّ السنّة أيضاً غير قاضية بوجوب الغسل …

فالأخبار الواردة في كتبهم منها ما يدلّ علي المسح ومنها ما يدلّ علي الغسل، مضافاً إلي أنّ الدال منها علي الغسل أخبار آحاد وغير سليمة الاسناد …

أخبار المسح في كتب الإمامية: … ص: 47

أمّا الشيعة الإمامية، فأخبارهم الدالة علي المسح وفاقاً للكتاب

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 48

الشريف كثيرة عدداً ومعتبرة سنداً، ولذا لم يكن خلاف بين علمائهم في وجوب المسح فرضاً علي التعيين، بل كان المسح عندهم ضرورياً من ضروريات الدين.

وهذه نصوص بعض تلك الأخبار:

1- قال زرارة: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: يا زرارة قاله رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ونزل به الكتاب من اللَّه عزّوجل، لأنّ اللَّه عزّوجلّ قال: «فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ» فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل. ثمّ قال: «وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ» فوصل اليدين إلي المرفقين بالوجه، فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلي المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال: «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ» فعرفنا حين قال: «بِرُؤُوسِكُمْ» أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: «وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ» فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح علي بعضهما. ثمّ فسّر ذلك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم للناس فضيّعوه» «1».

2- قال محمّد بن مروان: «قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام:

انّه

__________________________________________________

(1) وسائل الشيعة 1/ 290- 291.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 49

يأتي علي الرجل ستون وسبعون سنة ما قبل اللَّه منه صلاة. قلت:

كيف ذاك؟ قال: لأنّه يغسل ما أمر اللَّه بمسحه» «1».

3- قال سالم وغالب بن هذيل: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المسح علي الرجلين. فقال: هو الذي نزل به جبرئيل» «2».

4- قال غالب بن هذيل: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللَّه عزّوجل: «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ» علي الخفض هي أم علي النصب؟ قال: بل هي علي الخفض» «3» أي: هذه قراءة أهل البيت عليهم السّلام، وان كانت قراءة النصب أيضاً دالة علي المسح.

5- قال جعفر بن سليمان: «سألت أبا الحسن موسي عليه السّلام قلت: جعلت فداك يكون خف الرجل مخرقاً فيدخل يده فيمسح ظهر قدميه، أيجزيه ذلك؟ قال: نعم» «4».

6- قال الشيخ الصدوق: «قال أميرالمؤمنين عليه السّلام: لولا أنّي رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يمسح ظاهر قدميه، لظننت أنّ باطنهما أولي بالمسح من ظاهرهما» «5».

__________________________________________________

(1) وسائل الشيعة 1/ 295.

(2) وسائل الشيعة 1/ 295.

(3) وسائل الشيعة 1/ 295.

(4) المصدر نفسه 1/ 291.

(5) المصدر نفسه 1/ 292.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 50

قال الفقيه الكبير الشيخ يوسف البحراني: «ما يدل علي وجوب المسح ونفي الغسل من أخبارنا مستفيض، بل الظاهر أنه من ضروريات مذهبنا» «1».

وقال الفقيه الكبير السيد محسن الطباطبائي الحكيم: «الرابع مسح الرجلين. اجماعاً محقّقاً عندنا، ولعلّ النصوص به متواترة، بل عن الانتصار: أنّها أكثر من عدد الرمل والحصي. ويدل عليه أيضاً قوله تعالي: «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ» سواء قري بجرّ «وَأَرْجُلَكُمْ» كما عن ابن كثير وأبي عمرو، وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر.

أم بالنصب كما عن نافع وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية حفص … » «2».

أخبار المسح في كتب السنّة: … ص: 50

أما في كتب السنّة … فالأخبار المروية في كتبهم وبشتّي أسانيدهم عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، والآثار المنقولة عن كبار الصحابة … كثيرة جداً، وقد أخرجت في الكتب المعتبرة، كما قد

__________________________________________________

(1) الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة 2/ 290.

(2) مستمسك العروة الوثقي 2/ 372.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 51

نصّ علي صحّتها كبار علمائهم. ولنذكر طائفة منها:

1- قال أبو جعفر الطحاوي: «حدثنا أبو أميّة قال: ثنا محمّد بن الاصبهاني قال: أنا شريك، عن السدّي، عن عبد خير، عن علي رضي اللَّه عنه توضأ فمسح علي ظهر القدم وقال: لو لا أني رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فعله لكان باطن القدم أحق من ظاهره» «1».

2- وقال المتّقي: «عن علي قال: كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً الّا المسح مرةً مرةً (ش)» «2».

3- وقال عن مسند علي: «بينما نحن جلوس مع علي في المسجد، جاء رجل إلي علي وقال: أرني وضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فدعا قنبر فقال: ائتني بكوز من ماء، فغسل يديه ووجهه ثلاثاً، فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً، ومسح رأسه واحدة- ثم قال: يعني الأذنين خارجهما وباطنهما من الوجه- ورجليه إلي الكعبين، ولحيته تهطل علي صدره، ثمّ حسا

__________________________________________________

(1) شرح معاني الآثار 1/ 35، وهو في مسند أحمد في مواضع عديدة وبأسانيد مختلفة فراجع الجزء الأول منه في الصفحات 95، 114، 124.

(2) كنز العمال 9/ 444 الرقم 26893.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 52

حسوة بعد الوضوء ثم قال: أين السائل عن وضوء رسول

اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ كذا كان وضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. عبد بن حميد» «1».

4- قال: «أيضاً عن عبد الرحمان قال: رأيت علياً توضّأ فغسل وجهه ثلاثاً وغسل ذراعيه ومسح برأسه واحدة ثمّ قال: هكذا توضّأ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. د، ص» «2».

وهذا كسابقه الّا أنّ الراوي حذف مسح الرجل.

5- قال: «عن علي قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكن رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مسح علي ظاهرهما، عب، ش، د» «3».

6- روي الجصّاص عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة: «إنّ علياً صلّي الظهر ثمّ قعد في الرحبة، فلمّا حضرت صلاة العصر دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه وذراعيه، ومسح برأسه ورجليه، وقال: هكذا رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم

__________________________________________________

(1) كنز العمال 9/ 448 رقم 26908.

(2) المصدر نفسه 9/ 448 رقم 26906.

(3) المصدر نفسه 9/ 605 رقم 27609.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 53

فعل» «1».

7- قال السيوطي: «أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن ماجة عن ابن عباس قال: أبي الناس الّا الغسل، ولا أجد في كتاب اللَّه الّا المسح» «2».

وأخرجه ابن ماجة في حديث أنه قال ذلك منكراً علي الربيع، عندما ادّعت أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ عندها فغسل رجليه «3».

8- قال العيني: «حديث عمر- رضي اللَّه عنه- أخرجه ابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ» «4».

9- قال: «حديث جابر بن عبد اللَّه، أخرجه الطبراني في الأوسط» «5».

10- قال ابن ماجة: «حدثنا محمّد بن يحيي، ثنا حجّاج، ثنا همام، ثنا إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، حدثني عليّ بن يحيي

بن

__________________________________________________

(1) أحكام القرآن 1/ 347.

(2) الدر المنثور 2/ 262.

(3) سنن ابن ماجة 1/ 156.

(4) عمدة القاري 2/ 240.

(5) عمدة القاري 2/ 240.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 54

خلّاد، عن أبيه، عن عمّه رفاعة بن رافع: أنّه كان جالساً عند النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال: إنّها لا تتم صلاة لأحد حتي يسبغ الوضوء كما أمره اللَّه تعالي: يغسل وجهه ويديه إلي المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلي الكعبين» «1».

وقال الطحاوي: «حدثنا محمّد بن خزيمة: ثنا حجاج بن المنهال قال: ثنا همام بن يحيي قال: أنا إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة قال: ثنا علي بن يحيي بن خلّاد، عن أبيه، عن عمّه رفاعة بن رافع أنّه كان جالساً … » «2».

وقال السيوطي: «أخرج البيهقي في سننه عن رفاعة بن رافع أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال للمسيي ء صلاته: إنّها لا تتم صلاة أحدكم حتي يسبغ الوضوء كما أمره اللَّه، يغسل وجهه ويديه إلي المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلي الكعبين» «3».

وحديث رفاعة من الأحاديث المشهورة المعتبرة، فقد أخرجه بالاضافة إلي من ذكرنا كلّ من أبي داود 1/ 86 والنسائي 1/ 161

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 1/ 156.

(2) شرح معاني الآثار 1/ 35.

(3) الدر المنثور 2/ 262.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 55

والحاكم 1/ 241، وقد نص الحاكم علي أنّه صحيح علي شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال العيني: «حسّنه أبو علي الطوسي وأبو عيسي الترمذي وأبو بكر البزار، وصحّحه الحافظ ابن حبان وابن حزم» «1».

11- قال الطحاوي: «ثنا ابن أبي داود قال: حدثنا أحمد بن الحسين اللهبي قال: ثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر:

أنه كان إذا توضّأ ونعلاه في قدميه، مسح ظهور قدميه بيديه ويقول: كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يصنع هكذا» «2».

12- وقال المتقي: «حدثنا هشيم: أنا يعلي بن عطاء عن أبيه قال: أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي أنه رأي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم أتي كظامة قوم بالطائف، فتوضّأ ومسح علي قدميه» «3».

13- وقال الطحاوي: «حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا عمرو بن خالد قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عباد بن تميم، عن عمّه: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ ومسح علي القدمين. وأنّ

__________________________________________________

(1) عمدة القاري 2/ 240.

(2) شرح معاني الآثار 1/ 35.

(3) كنز العمال 9/ 476.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 56

عروة كان يفعل ذلك» «1».

وهذا الحديث قد نصّ ابن عبد البر علي صحّته «2».

14- وقال ابن حجر: «روي البخاري في تاريخه، وأحمد، وابن أبي شيبة، وابن أبي عمر، والبغوي، والباوردي وغيرهم: كلّهم من طريق أبي الأسود عن عباد بن تميم المازني عن أبيه قال: رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يتوضّأ ويمسح الماء علي رجليه.

رجاله ثقات» «3».

وقال ابن الأثير: «أخبرنا يحيي بن محمود بن سعد الثقفي إجازة باسناده إلي ابن أبي عاصم، أخبرنا ابن أبي شيبة وأبو بشر بكر ابن خلف قالا: حدثنا عبد اللَّه بن زيد، أخبرنا سعيد بن أبي أيوب، أخبرنا أبو الأسود، أخبرنا عباد بن تميم، عن أبيه قال: رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ ومسح الماء علي رجليه» «4».

15- وقال المتّقي: «عن حمران قال: رأيت عثمان دعا بماء فغسل كفيه ثلاثاً ومضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه

__________________________________________________

(1) شرح معاني الآثار 1/ 35.

(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب- ترجمة

تميم بن زيد 1/ 195.

(3) الاصابة في معرفة الصحابة 1/ 185.

(4) أسد الغابة 1/ 217.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 57

ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه، ثمّ ضحك، فقال: ألا تسألوني ما أضحكني؟ قلنا: ما أضحكك يا أميرالمؤمنين؟ قال: أضحكني أنّ العبد إذا غسل وجهه حطّ اللَّه عنه بكل خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، وإذا مسح رأسه كان كذلك، وإذا طهّر قدميه كان كذلك. حم والبزار حل ع وصحّح» «1».

16- قال: «من مسند عبد اللَّه بن زيد المازني: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين ومسح رأسه ورجليه مرّتين. ش» «2».

والاستدلال بأنّه مسح رجليه. وقوله: «مرّتين» مؤول أو غلط.

ورواه العيني عن ابن أبي شيبة أيضاً بإسناده عن عبد اللَّه بن زيد ولفظه: «إنّ النبيّ توضّأ ومسح بالماء علي رجليه» قال: «ورواه ابن خزيمة في صحيحه» «3».

17- وقال ابن الأثير بترجمة أبي جبير الحضرمي: «روي حديثه عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه: أنّ أبا جبير قدم علي

__________________________________________________

(1) كنز العمال 9/ 442 رقم 26886.

(2) المصدر نفسه 9/ 451 رقم 26922.

(3) عمدة القاري 2/ 240.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 58

النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم مع ابنته التي كان تزوّجها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فدعا رسول اللَّه بوضوء فغسل يديه فأنقاهما ثمّ مضمض فاه واستنشق بماء، ثمّ غسل وجهه ويديه إلي المرفقين ثلاثاً، ثمّ مسح رأسه ورجليه» «1».

18- قال العيني: «حديث رجل من قريش، رواه أبو مسلم الكجي في سننه عن حجاج، حدثنا حماد عن أبي جعفر الخطمي عمير بن يزيد، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن رجل من قريش، قال: تبعت النبيّ

صلّي اللَّه عليه وسلّم بقدح فيه ماء، فلمّا قضي حاجته توضّأ وضوءه للصلاة قال فيه: ثمّ مسح علي قدمه اليمني ثم قبض أخري فمسح قدمه اليسري» «2».

قال ابن كثير: «وقد روي عن طائفة من السّلف ما يوهم القول بالمسح» قال:

19- قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا محمّد بن قيس الخراساني، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.

__________________________________________________

(1) أسد الغابة 5/ 156.

(2) عمدة القاري 2/ 240.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 59

وكذا روي سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.

20- وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو معمر المنقري، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ» قال: هو المسح. ثمّ قال:

وروي عن ابن عمر، وعلقمة، وأبي جعفر محمّد بن علي، والحسن- في احدي الروايات- وجابر بن زيد، ومجاهد- في احدي الروايات- نحوه.

21- وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب، قال: رأيت عكرمة يمسح علي رجليه. قال: وكان يقوله.

22- وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثنا ابن ادريس، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نزل جبرئيل بالمسح. ثم قال الشعبي: ألا تري أنّ التيمم أن يمسح ما كان غسلًا ويلغي ما كان مسحاً.

وحدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد: أخبرنا اسماعيل: قلت لعامر: إنّ ناساً يقولون: إنّ جبرئيل نزل بغسل الرجلين. فقال: نزل جبرئيل بالمسح.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 60

23- فقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا حميد، قال: قال موسي بن أنس- ونحن عنده-: يا أبا حمزة، إنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه،

فذكر الطهور فقال:

اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وإنّه ليس شي ء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: كذب الحجاج. قال اللَّه تعالي:

«وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.

إسناد صحيح إليه «1».

أقول:

فهذه أخبار وآثار عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وصحابته في وجوب مسح الرجلين في الوضوء.

وقد ذهب إلي المسح- استناداً إلي الآية الكريمة والأحاديث الحاكية لوضوء النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وجماعة من الصحابة-

__________________________________________________

(1) تفسير القرآن العظيم 2/ 25، ولاحظ الدر المنثور 2/ 262 حيث أورد الآثار عن ابن عباس وعكرمة والشعبي وغيرهم برواية جماعة من الأئمة، وابن جرير الطبري واحد منهم.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 61

غير واحد من التابعين وأئمّة المشهورين.

وقد اعترف ابن العربي وابن حجر وابن كثير بذهاب جماعة من الصحابة والتابعين والسلف إلي المسح «1». وقال ابن رشد: ذهب إليه قوم «2».

وقد نسب هذا القول في غير واحد من الكتب إلي: علي، وابن عباس، وأنس بن مالك من الصحابة، وإلي عكرمة، والشعبي، وقتادة.

ونسبه الشيخ أبو جعفر الطوسي إلي أبي العالية أيضاً «3».

ونسب القول بردّ وجوب الغسل علي التعيين إلي محمّد بن جرير الطبري، أحد أئمة أهل السنة المشهورين … في عدة من الكتب في العلوم المختلفه، أمثال (أحكام القرآن) و (المجموع شرح المهذّب) و (المغني في فقه الحنفيّة) وتفاسير: (الشوكاني) و (القرطبي) و (ابن كثير) و (الرازي) و (البغوي).

__________________________________________________

(1)

أحكام القرآن 2/ 72، فتح الباري 1/ 215، تفسير ابن كثير 2/ 25.

(2) بداية المجتهد 1/ 15.

(3) كتاب الخلاف 1/ 15.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 62

تنبيه:

ويمكن الاستدلال للمسح بالأخبار التي رووها عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله

وسلّم أو الصحابة- بناء علي صحتها كما قالوا- في المسح علي الخفين، علي اختلاف ألفاظها، ففي بعضها: مسح علي خفّيه، وفي آخر: علي نعليه، وفي ثالث: علي قدميه ونعليه … ويؤيّد ذلك ما في بعض أخبار الإمامية من جواز المسح علي الرجلين وهما في النعلين إذا كانت مخرّقة، بل هذا ظاهر الحديث المتقدم عن نافع عن ابن عمر، فلاحظ. بل من الجائز حمل جميع هذه الأخبار علي تلك الصورة.

وقد صرّح بجواز هذا الاستدلال بعض المفسّرين كما ستعرف.

اضطراب القائلين بالغسل تجاه هذه الأخبار: … ص: 62

هذه طائفة من أخبار المسح، وقد اضطربت كلمات القوم واختلفت مواقفهم، فمنهم من كذّبها وكذب نسبة القول بالمسح إلي أُولئك الصحابة والتابعين كالآلوسي «1»، ومنهم من أقرّ بذهابهم إلي

__________________________________________________

(1) روح المعاني 6/ 78.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 63

المسح ثمّ ادّعي عدولهم عنه كابن حجر «1» ومنهم مع ضعّف أسانيدها، كالآلوسي الذي نصَّ علي ضعف ما روي عن عبّاد بن تميم من تنصيص غيره علي صحّته «2» … ثمّ التجأوا إلي التحريف …

فحديث أوس رواه المتقي عن جماعة رووه بلفظ: «قال: رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ ومسح علي نعليه ثمّ قام إلي الصلاة» «3».

وحديث عبد خير عن علي عليه السّلام، الذي أخرجه أحمد والطّحاوي وغيرهما من الأئمّة … رووه صريحاً في الغسل، قال المتقي: «عن عبد خير قال: توضّأ علي فمضمض ثلاثاً من كفّ واحدة، وغسل وجهه، ثلاثاً، ثمّ أدخل يده في الركوة، فمسح رأسه وغسل رجليه ثمّ قال: هذا وضوء نبيّكم محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم.

عب ش» «4».

وحديث النزال بن سبرة، أخرجه أحمد بنفس السند دالًا علي

__________________________________________________

(1) فتح الباري 1/ 213.

(2) روح المعاني 6/ 78.

(3) كنز العمال 9/ 476.

(4) المصدر نفسه

9/ 444.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 64

الغسل فقال: « … عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال:

صلّينا مع علي رضي اللَّه عنه الظهر، فانطلق إلي مجلس له يجلسه في الرحبة، فقعد وقعدنا حوله، ثمّ حضرت العصر، فأتي بإناء فأخذ منه كفاً، فتمضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ومسح برأسه ومسح برجليه ثمّ قال: … إنّي رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فعل كما فعلت» «1».

وحديث حمران عن عثمان الصريح في المسح، رووه في الغسل … فأحمد كما روي ذاك كذلك روي بإسناده: «عن حمران بن أبان قال: رأيت عثمان بن عفان- رضي اللَّه عنه- توضّأ فأفرغ علي يديه ثلاثاً فغسلهما، ثمّ مضمض واستنثر، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمّ غسل يده اليمني إلي المرفق ثلاثاً، ثمّ اليسري مثل ذلك، ثمّ مسح رأسه، ثمّ غسل قدمه اليمني ثلاثاً، ثمّ اليسري مثل ذلك، ثمّ قال: رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ نحواً من وضوئي هذا، ثمّ قال: من توضّأ وضوئي هذا ثمّ صلّي ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه» «2».

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 1/ 159.

(2) مسند أحمد 1/ 59.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 65

أخبار الغسل في كتب السنّة: … ص: 65

اشارة

وإنّ المتتبع لكتب القائلين بالغسل يجد أنّ أهمَّ ما يستدلّون به لما ذهبوا إليه هو:

1- الأحاديث المشتملة علي قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«ويل للأعقاب من النار» أو: «ويل للعراقيب من النار».

2- الأحاديث الحاكية لوضوئه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

ففي كتاب (أحكام القرآن) بعد ذكر القراءتين: «لكن تعضد حالة النصب علي حالة الخفض بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم غسل وما مسح قط، وبأنّه رأي فوما تلوح أعقابهم فقال: (ويل للأعقاب

من النار) و (ويل للعراقيب من النار) فتوعد بالنار علي ترك إيعابه غسل الرجلين. فدلّ ذلك علي الوجوب بلا خلاف، وتبيّن أنّ من قال من الصحابة: إنّ الرجلين ممسوحتان، لم يعلم بوعيد النبيّ علي ترك إيعابهما» «1».

وفي (فتح الباري) بشرحه: «قال ابن خزيمة: لو كان الماسح مؤدّياً للفرض لما توعد بالنار» قال ابن حجر: «أشار بذلك إلي ما في

__________________________________________________

(1) أحكام القرآن 2/ 72.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 66

كتب الخلاف عن الشيعة أنّ الواجب المسح أخذاً بظاهر قراءة «وَأَرْجُلَكُمْ» بالخفض» «1».

وفي (تفسير القرطبي) بعد الكلام علي القراءتين: «قلت:

والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل: ما قدمناه وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار، فخوفنا بذكر النار علي مخالفة مراد اللَّه عزّوجل. ومعلوم أن النار لا يعذب بها الّا من ترك الواجب، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب، ولا خلاف بين القائلين بالمسح علي الرجلين أن ذلك علي ظهورهما لا علي بطونهما. فتبيّن بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح، اذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم، وانما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح» «2».

وفي (المبسوط) بعد ذكر الاستدلال بالآية علي المسح:

«ولنا: أن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم واظب علي غسل الرجلين، وبأمر من علمه الوضوء، ورأي رجلًا يلوح عقبه فقال: ويل … » «3».

__________________________________________________

(1) فتح الباري 1/ 213.

(2) تفسير القرطبي 6/ 94- 95.

(3) المبسوط في الفقه الحنفي 1/ 8.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 67

وفي (معالم التنزيل) بعد الكلام علي الآية: «والدليل علي وجوب غسل الرجلين: ما أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمّد بن العباس الحميدي الخطيب، أنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أنا أبو عبد اللَّه محمّد

بن يعقوب، أنا يحيي بن محمّد بن يحيي، أنا الحجّي ومسدّد قالا: أخبرنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبداللَّه بن عمرو قال: تخلّف عنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في سفر سافرناه، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضّأ، فجعلنا نمسح علي أرجلنا، فنادانا بأعلي صوته: ويل للأعقاب من النار» «1».

وفي (الكواكب الدراري) بعد حديث «ويل … » قال: «فإن قلت: ظاهر القرآن «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» بالخفض يدل علي وجوب المسح عليهما. قلت: قراءة الجر تعارض قراءة النصب فلابدّ من تأويل، وتأويل الجر بأنه علي المجاورة كقولهم: جحر ضب خرب، أولي من تأويل النصب بأنه محمول علي محل الجار والمجرور، لأنه الموافق للسنّة الثابتة الشائعة، فيجب المصير إليه.

وأخصر الاستدلالات عليه: إنّ جميع من وصف وضوء رسول اللَّه

__________________________________________________

(1) معالم التنزيل 2/ 217.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 68

صلّي اللَّه عليه وسلّم في مواطن متعددة متفقون علي غسل الرجلين» انتهي كلامه «1» وفيه مواقع للنظر تظهر بالنظر فيما تقدم وما يأتي.

وإذ ظهر أنّ أهمّ ما يستدلون به ما هو؟ فلنذكره بالتفصيل ونتكلّم عليه:

1- أحاديث ويل للأعقاب من النار: … ص: 68

اشارة

ولنقّدم حديث وعيده بالنار علي من ترك الغسل كما يقولون، والعمدة في الباب ما يروونه عن عبد اللَّه بن عمرو، فلنقدّمه علي غيره … وهذا لفظه عند البخاري:

الحديث عن عبد اللَّه بن عمرو: … ص: 68

«حدثنا موسي قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبداللَّه بن عمرو قال: تخلّف النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم عنا في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا العصر، فجعلنا نتوضّأ ونمسح علي أرجلنا، فنادي بأعلي صوته: ويل

__________________________________________________

(1) الكواكب الدراري- شرح الكرماني علي البخاري 2/ 8.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 69

للأعقاب من النار. مرّتين أو ثلاثاً» «1».

وأخرجه مسلم أيضاً حيث قال:

«حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، وحدثنا إسحاق، أخبرنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيي، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: رجعنا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من مكة إلي المدينة، حتي إذا كنّا بماء بالطريق تعجّل قوم عند العصر فتوضّأوا وهم عجال، فانتهينا اليهم وأعقابهم تلوح، لم يمسّها الماء، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ويل للأعقاب من النار. أسبغوا الوضوء» «2».

أقول:

فهذا عمدة أدلّتهم كما عرفت من كلماتهم. والكلام فيه سنداً ودلالةً:

الكلام في سنده:

أمّا من ناحية السند، فهو من أحاديث كتابي البخاري ومسلم

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري- بشرح ابن حجر- 1/ 213.

(2) صحيح مسلم- بشرح النووي- 2/ 128.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 70

المشهورين بالصحيحين، ولكن ليس كل حديث فيهما بصحيح، فقد تكلم في كثير من أحاديثهما.

وهذا الحديث لا يخلو سنده من نظر:

أما عند البخاري فهو عن «موسي» أي: موسي بن إسماعيل التبوذكي- كما قال ابن حجر والقسطلاني وغيرهما- وقد ذكره ابن حجر في مقدمة فتح الباري فيمن تكلّم فيه من رجال البخاري،

ونقل عن ابن خراش قوله: «تكلّم الناس فيه» «1» ومن هنا أورده الذهبي في ميزان الاعتدال «2».

وأمّا عند مسلم، فمداره علي «جرير» وهو ابن عبد الحميد الضبّي، وهذا أيضاً قد أورده ابن حجر فيمن تكلّم فيه من رجال البخاري، فذكر عن بعض العلماء أنّه كان يدلّس، وعن أحمد أنه لم يكن بالذكي، وعن البيهقي: نسب في آخر عمره إلي سوء الحفظ «3».

وذكر هذه الكلمات بترجمته في تهذيب التهذيب وأضاف عن بعضهم عن أبي حاتم أنه تغير قبل موته بسنة. ثم قال ابن حجر: أنه اشتباه «4».

__________________________________________________

(1)

مقدمة فتح الباري/ 446.

(2) ميزان الاعتدال في نقد الرجال.

(3) مقدمة فتح الباري/ 392.

(4) تهذيب التهذيب 2/ 66.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 71

وأورده الذهبي في ميزانه وذكر كلمة أحمد فقال: «قال أحمد ابن حنبل: لم يكن بالذكي في الحديث، اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول، حتي قدم عليه بهز فعرّفه» وذكر كلام أبي حاتم ثمّ أيّده بكلام البيهقي المذكور» «1».

الكلام في متنه ومدلوله: … ص: 71

وأمّا دلالة الحديث، ففي لفظ مسلم ما يبيّن الإجمال الموجود في لفظ البخاري، قال البخاري: «فجعلنا نتوضّأ ونمسح علي أرجلنا فنادي بأعلي صوته … » فليس فيه ذكر للأعقاب، لكنّه عند مسلم:

«فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ويل للأعقاب من النار».

ومن الواضح أنّ لفظ مسلم هو الصحيح، إذ لابدّ من أن يكون هناك شي ء في القضيّة متعلّق بالأعقاب حتي يقول: ويل للأعقاب من النار. وحينئذ، يكون لفظ مسلم قرينة علي المراد من لفظه عند البخاري، إن لم نقل بتعمّد البخاري وتصرفه في اللفظ كما صنع غيره كما ستعرف …

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 394.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 72

بل في

(فتح الباري): «وفي أفراد مسلم: فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسّها الماء» «1» … وهذا اللفظ يزيد الحديث تفسيراً ووضوحاً.

وحينئذ، يكون حديث: «ويل للأعقاب من النار» أو «ويل للعراقيب من النار» دالًا علي المسح لا الغسل، ولذا تمسّك به من يقول بإجزاء المسح. قال ابن حجر:

«فتمسّك بهذا الحديث من يقول بإجزاء المسح» «2».

وقال القسطلاني بشرحه:

«استنبط من هذا الحديث الرد علي الشيعة القائلين بأن الواجب المسح أخذاً بظاهر قراءة «وَأَرْجُلَكُمْ» بالخفض، إذ لو كان الفرض المسح لما توعّد عليه بالنار. لا يقال: انّ ظاهر رواية مسلم أن الإنكار عليهم انما هو بسبب الاقتصار علي غسل بعض الرجل حيث قال: فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسّها الماء. لأنّ هذه الرواية من أفراد مسلم … » «3».

__________________________________________________

(1)

فتح الباري 1/ 213.

(2) المصدر نفسه.

(3) إرشاد الساري 1/ 248.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 73

وقال ابن رشد بعد أن ادّعي أنّ قراءة النصب ظاهرة في الغسل:

«وقد رجّح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام، إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء: ويل للأعقاب من النار. قالوا: فهذا يدل علي أن الغسل هو الفرض، لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب.

وهذا ليس فيه حجة، لأنه انما وقع الوعيد علي أنهم تركوا أعقابهم دون غسل، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم، كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين.

وقد يدلّ هذا علي ما جاء في أثر آخر خرجه أيضاً مسلم أنه قال: فجعلنا نمسح علي أرجلنا فنادي: ويل للأعقاب من النار.

وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل علي

جوازه منه علي منعه، لأن الوعيد إنما تعلّق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل علي جوازها.

وجواز المسح هو أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين» «1».

__________________________________________________

(1) بداية المجتهد 1/ 16.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 74

وقال محمّد رشيد رضا بعد أن قال: بأن أصح الأحاديث هذا الحديث: «وقد يتجاذب الاستدلال بهذا الحديث الطرفان، فللقائلين بالمسح أن يقولوا إنّ الصحابة كانوا يمسحون، فهذا دليل علي أنّ المسح كان هو المعروف عندهم، وإنما أنكر النبيّ عليهم عدم مسح أعقابهم» «1».

وإذا عرفت أن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد قال هذا الكلام، أعني قوله: ويل للأعقاب من النار، أو: ويل للعراقيب من النار، في هذه القضية التي توضّأ بعض القوم فمسحوا علي أرجلهم ولم يمس الماء موضعاً من مواضع المسح، ظهر لك سقوط الاستدلال لوجوب الغسل بالأخبار المرويّة عن غير (عبد اللَّه بن عمرو) المشتملة علي واحدة من الجملتين.

كالأخبار الأربعة التي رواها مسلم بأسانيده عن (مولي شدّاد بن الهاد المهري) عن عائشة: أنّها قالت لأخيها عبد الرحمان بن أبي بكر:

أسبغ الوضوء، فانّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول:

ويل للأعقاب من النار» «2».

__________________________________________________

(1) تفسير المنار 6/ 228.

(2) صحيح مسلم- بشرح النووي 2/ 128.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 75

لا سيّما وأن في رواية أحمد أنّها إنما قالت له ذلك «لأنه أساء الوضوء» مع أنّ الراوي أجمل الكلام فلم يصرّح بالخصوصية التي أساء فيها الوضوء، وهي عدم المسح الكامل علي الرجلين!

وحينئذ، لا تبقي حاجة للنظر في أسانيد روايات مسلم هذه عن عائشة …

تصرفات القوم في لفظ الحديث: … ص: 75

ولما ذكرنا من ظهور هذه الرواية في المسح دون الغسل، نري القوم يتصرفون في لفظها ويحرفون متنها،

لصرفها عن الدلالة المذكورة، كي لا يتم للقائلين بالمسح التمسك بها بعد أن كانت أصح ما في الباب! ولا بأس بذكر بعض ذلك، ليكون ذلك من شواهد دلالة الحديث علي المسح:

فقد أخرج أبو داود الحديث بنفس السند في باب اسباغ الوضوء قائلًا:

«حدّثنا مسدّد، ثنا يحيي عن سفيان، حدثني منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيي، عن عبد اللَّه بن عمر «1» إنّ رسول اللَّه

__________________________________________________

(1) كذا في رواية أبي داود ورواية ابن ماجة الآتية، فهو «عبد اللَّه بن عمر» لا «عبد اللَّه ابن عمرو» وكذا في المنتقي- متن نيل الأوطار- وفي بعض كتب المتأخرين وفي الكشاف 1/ 611 رواه عن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، قال: وعن ابن عمر: كنا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فتوضّأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: ويلٌ للأعقاب من النار».

فقال ابن حجر في (تخريجه): «تنبيه: لم أره من حديث ابن عمر وكأنه تحرّف علي صاحب الكتاب أو بعض من أخذه عنه».

قلت: قد رأيت أنه في غير واحد من كتب الحديث- ومنها بعض السنن- ولا أظنّ أن الأمر كما ذكر ابن حجر، فإنّ ذلك لا يليق بمثل أبي داود وابن ماجة وأمثالهما من الأئمة، بل لعلّ هؤلاء قد فطنوا الي إشكال في نسبة الحديث إلي «ابن عمرو بن العاص» لم يتفطّن له البخاري ومسلم، فنسبوه إلي «ابن عمر بن الخطاب» وعليك بمزيد التأمل في المقام!!

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 76

صلّي اللَّه عليه وسلّم رأي قوماً وأعقابهم تلوح فقال: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء» «1».

فحذف من القصّة، وأنهم مسحوا علي أرجلهم، والسّبب في قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ذلك!

وكذا صنع الترمذي حيث عنون هذه

الجملة وعقد لها باباً فقال: «باب ما جاء: ويل للأعقاب من النار» وما أورد سوي هذا الحديث:

«حدثنا قتيبة قال: حدثنا عبد العزيز بن محمّد، عن سهيل بن

__________________________________________________

(1) سنن أبي داود 1/ 15.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 77

أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: ويل للأعقاب من النار» «1».

ومع ذلك ففي سنده نظر:

أمّا «عبد العزيز بن محمّد» وهو الدراوردي فعن أبي زرعة:

«سيّي الحفظ فربّما حدّث من حفظه الشي ء فيخطي ء» وعن النسائي:

«ليس بالقوي» وعن أبي حاتم: «لا يحتج به» «2». ولذا أورده ابن حجر فيمن تكلّم فيه من رجال البخاري، وذكر أنّ البخاري روي له حديثين مقروناً بغيره «3» ولهذه الكلمات وغيرها أورده الذهبي في ميزانه «4».

وأمّا «سهيل بن أبي صالح» فكذلك، فقد أورده ابن حجر في الباب المذكور، ونصّ علي أنّ له حديثاً واحداً فقط في البخاري مقروناً بغيره «5». وقال بترجمته:

ذكر البخاري في تاريخه قال: كان لسهل أخ فمات فوجد عليه فنسي كثيراً من الحديث، وذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه عن يحيي

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 1/ 58.

(2) تهذيب التهذيب 6/ 315.

(3) مقدمة فتح الباري/ 419.

(4) ميزان الاعتدال 2/ 633.

(5) مقدمة فتح الباري/ 406.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 78

قال: لم يزل أهل الحديث يتّقون حديثه. وذكر العقيلي عن يحيي أنه قال: هو صويلح وفيه لين. وذكره الحاكم في باب من عيب علي مسلم إخراج حديثه «1». وذكره الذهبي في ميزانه فذكر كلمات أُخري في جرحه «2» لا حاجة الي إيرادها، إذ فيما ذكرناه كفاية.

وكذا صنع النسائي، حيث أورد الحديث في باب اسباغ الوضوء بنفس سند مسلم، فحذف منه الجملة وأبقي الأمر باسباغ الوضوء،

وهذا نصّه:

«أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف عن أبي يحيي عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أسبغوا الوضوء» «3».

وأخرجه ابن ماجة بنفس السند فقال:

«حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمّد قالا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيي، عن عبد اللَّه بن عمر، قال: رأي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قوماً

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 4/ 231.

(2) ميزان الاعتدال 2/ 243.

(3) سنن النسائي 1/ 89.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 79

يتوضأون وأعقابهم تلوح، فقال: ويل للأعقاب من النار. أسبغوا الوضوء» «1».

فتراه حذف القصّة، وقوله: أنهم مسحوا علي أرجلهم، وأنه ترك بعضهم الأعقاب لم يمسها الماء.

وفي سنده نظر، لكون «وكيع» - وهو ابن الجراح- مقدوحاً عند غير واحد منهم، وقد ذكروا أنه كان يشرب المسكر «2».

وحرّف النسفي الحديث حتي جاء ظاهراً في الوعيد علي المسح فقال: «وقد صحّ أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم رأي قوماً يمسحون علي أرجلهم فقال: ويل للأعقاب من النار»!! «3».

وأفرط الزمخشري في التحريف فجعل «الوضوء» بدل «المسح» قال:

«وعن ابن عمر: كنا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فتوضّأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: ويل للأعقاب من النار» «4».

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 1/ 154.

(2) ميزان الاعتدال 4/ 335.

(3) تفسير النسفي- هامش الخازن- 2/ 441.

(4) الكشاف 1/ 611.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 80

حديث عبد اللَّه في المسند مع تحريفات: … ص: 80

وأخرج أحمد في مسنده حديث عبد اللَّه بن عمرو بنفس سند مسلم بتحريف واضح، وهذه عبارة المسند:

«حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، ثنا وكيع، حدثنا سفيان، وعبد الرحمان عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي

يحيي، عن عبد اللَّه بن عمرو قال:

رأي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قوماً يتوضّأون وأعقابهم تلوح. فقال: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء» «1».

وأخرجه بنفس السند مرّة أخري بلفظ محرّف بنقيصة كسابقه، مع زيادة غير موجودة في لفظ من ألفاظه المذكورة!:

«حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، ثنا محمّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف- عن أبي يحيي الأعرج عن عبد اللَّه ابن عمرو بن العاص قال:

سألت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن صلاة الرجل قاعداً.

فقال: علي النصف من صلاته قائماً.

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 2/ 193.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 81

قال: وأبصر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قوماً يتوضّأون لم يتموا الوضوء. فقال: أسبغوا- يعني الوضوء- ويل للعراقيب من النار.

أو للأعقاب من النار» «1».

فبالمقارنة بين لفظه ولفظ مسلم يظهر أنه في لفظ الحديث الأول أسقط جملة المسح علي الأرجل … وفي لفظ الثاني أسقطه ووضع بدله جملة «لم يتمّوا الوضوء» التي تصلح لأن يكون الواقع منهم المسح أو الغسل، فلا تكون أيّ دلالة للحديث … مع أنه قد تقدم عن ابن حجر التصريح بأنّ القائلين بالمسح قد تمسكوا بحديث عبداللَّه بن عمرو بن العاص … وتقدم عن ابن رشد التصريح بأنه علي المسح أدلّ منه علي الغسل.

هذا كله، مع أنّ السند في هذين اللفظين واحد، وهو متّحد مع سند مسلم … !!

الحديث عن غير عبداللَّه بن عمرو: … ص: 81

ورووا عن جماعة من الصحابة قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «ويل للأعقاب من النار» أو «ويل للعراقيب من النار» لكن بلا

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 2/ 201.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 82

ذكر للقضية … وإذ قد عرفنا الأصل لكلامه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هذا-

علي فرض صدوره- لم يكن حاجة إلي ذكر تلك الأحاديث، والتكلّم عليها …

فمن ذلك الحديث عن عائشة، حيث إنّها خاطبت أخاها عبد الرحمان بما قاله النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … وقد أخرجه مسلم غير مرّة، كما ذكرنا من قبل.

وجميع أسانيد القصّة ترجع إلي رجل من الموالي لكن بأسماء مختلفة:

فمسلم ذكره تارة باسم «سالم مولي شدّاد» وأخري باسم «أبو عبد اللَّه مولي شدّاد بن الهاد» وثالثة باسم «سالم مولي المهري» ورابعة باسم «سالم مولي شداد بن الهاد».

وأحمد ذكره باسم «سالم سبلان».

وابن ماجة أسقطه من السند.

قال أحمد:

«ثنا حسين قال: أنا ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن سالم سبلان قال: خرجنا مع عائشة إلي مكة. قال: وكانت تخرج بأبي يحيي التيمي يصلّي بها. قال: فأدركنا عبد الرحمان بن أبي بكر

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 83

الصديق، فأساء عبد الرحمان الوضوء، فقالت عائشة: يا عبد الرحمان أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ويل للأعقاب يوم القيامة من النار» «1».

وفي سنده:

«عمران بن بشير» وهو كما قال ابن حجر بترجمة «سالم سبلان»: «عمران بن بشير بن محرز». وهذا الرجل ليس من رجال الكتب الستّة، وانّما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل بلا جرح ولا تعديل، قال:

«عمران بن بشير بن محرز، روي عن أبيه. روي عنه ابن أبي ذئب. سمعت أبي يقول ذلك» «2».

ثمّ ما معني أنه أساء الوضوء؟

إن كان قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- علي فرض ثبوته- دالًا علي وجوب غسل الرجلين، فهذا الحديث يفيد أنّ عبد الرحمان كان يمسح رجليه في الوضوء ولا يغسلهما! وإن كان دالًا علي وجوب المسح، فقد عمل عبد الرحمان بقول النبيّ وعمل بظاهر

الآية

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 6/ 112، 258.

(2) الجرح والتعديل 6/ 294.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 84

المباركة، لكن عائشة من الناس الذين «أبوا الّا الغسل» كما قال ابن عباس!

وأخرجه ابن ماجة فقال:

«حدثنا محمّد بن الصباح، ثنا عبد اللَّه بن رجاء المكي، عن ابن عجلان ح، وحدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا يحيي بن سعيد وأبو خالد الأحمر، عن محمّد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة قال:

رأت عائشة عبد الرحمان- وهو يتوضّأ- فقالت: أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ويل للعراقيب من النار» «1».

وفي سنده:

أوّلًا: إنّه مرسل، فإنّ «أبا سلمة» هذا هو: «أبو سلمة بن عبد الرحمان» وهو الراوي للحديث- في احدي روايات مسلم «2» - عن «سالم مولي المهري». فإن كان المروي عنه هنا هو «سالم» كذلك، فلماذا أسقطه ابن ماجة؟ وإن كان غيره فمن هو؟

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 1/ 154.

(2) صحيح مسلم- بشرح النووي- 2/ 128.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 85

وثانياً: مدار هذا الحديث علي «محمّد بن عجلان» وهو ممّن أخرج له مسلم في المتابعات ولم يحتج به «1». ولم يخرج عنه البخاري إلّا في المعلّقات، وقد تكلّم في ذلك. قال ابن حجر فيمن تكلّم فيه:

«فيه مقال من قبل حفظه» «2».

قلت: لا من قبل ذلك فحسب، فقد أورده الذهبي في ميزانه «3».

وذكر بعض الكلام فيه، حتي نقل عن مالك أنه قيل له: إنّ ناساً من أهل العلم يحدّثون. قال: من هم؟ فقيل له: ابن عجلان. فقال: لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء، ولم يكن عالماً.

وذكر الذهبي أنّ البخاري أورده في الضعفاء.

وذكر أنه: مكث في بطن أُمّه ثلاث سنين، فشقّ بطنها لما

ماتت، فأخرج وقد نبتت أسنانه!!

ومن ذلك الحديث عن جابر بن عبد اللَّه، قال ابن ماجة:

«حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كريب، عن جابر بن عبد اللَّه قال: سمعت رسول اللَّه

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 9/ 304.

(2) مقدمة فتح الباري/ 459.

(3) ميزان الاعتدال 3/ 644.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 86

صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ويل للعراقيب من النار» «1».

وفي سنده:

«أبو إسحاق» وهو السبيعي، قالوا: «كان يدلّس»، و «اختلط بآخره» كما سيجي ء أيضاً.

ومن ذلك الحديث عن أبي هريرة. قال ابن ماجة:

«حدثنا محمّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا عبد العزيز ابن المختار، ثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: ويلٌ للأعقاب من النار» «2».

وقد عرفت «سهيلًا» عند الكلام علي سند الترمذي.

وقد كان الراوي عنه هناك: «عبد العزيز بن محمّد» وقد عرفته كذلك لكنّه هنا «عبد العزيز بن المختار» وقد ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه من رجال صحيح البخاري! «3»، وكذا الذهبي في ميزانه، فنقل عن يحيي بن معين فيه قوله «ليس بشي ء» وقال: «ما عرفت سببه!» «4».

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 1/ 155.

(2) المصدر 1/ 154.

(3) مقدمة فتح الباري/ 419.

(4) ميزان الاعتدال 2/ 634.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 87

ومن ذلك الحديث عن معيقيب، قال أحمد:

«ثنا خلف بن الوليد، ثنا أيوب بن عتبة، عن يحيي بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب، قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ويل للأعقاب من النار» «1».

وفي سنده:

«أيوب بن عتبة»:

عن أحمد: ضعيف. وعنه: ثقة الّا أنّه لا يقيم حديث يحيي بن أبي كثير «2» وعن ابن معين: قال أبو

كامل: ليس بشي ء. وعنه أيضاً:

ليس بالقوي، ومرة: ليس بشي ء. وعن غير واحد عن يحيي: ضعيف.

وقال ابن المديني والجوزجاني وابن عمّار وعمرو بن علي ومسلم:

ضعيف. زاد عمرو: وكان سيي ء الحفظ. وعن البخاري هو عندهم ليّن. وعن أبي زرعة: حديثه عن أهل العراق ضعيف. وعن النسائي:

مضطرب الحديث. وفي موضع آخر: ضعيف. والدار قطني: يترك.

وعن أحمد: مضطرب الحديث عن يحيي «3» وفي غير يحيي. وقال أبو

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 3/ 426.

(2) وهذا منه!

(3) وهذا منه!

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 88

زرعة الدمشقي: رأيت أحمد يضعّف حديثه عن يحيي «1» وقال الآجري عن أبي داود: منكر الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال ابن خراش: ضعيف الحديث جداً. وقال الترمذي عن البخاري: ضعيف جداً لا أُحدّث عنه «2».

ومن ذلك الحديث عن عبد اللَّه بن الحرث الزبيدي. قال أحمد:

«ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم قال: سمعت عبداللَّه بن الحرث بن جزء الزبيدي قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» «3».

وفي سنده:

«ابن لهيعة» وهو عبد اللَّه بن لهيعة:

قال البخاري عن الحميدي: كان يحيي بن سعيد لا يراه شيئاً.

وقال ابن المديني عن ابن مهدي: لا أحمل عنه قليلًا ولا كثيراً. وقال

__________________________________________________

(1) وهذا منه!

(2) تهذيب التهذيب 10/ 357.

(3) مسند أحمد 4/ 191.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 89

يعقوب بن سفيان عن سعيد بن أبي مريم: كان حيوة بن شريح أوصي بكتبه إلي وصيّ لا يتّقي اللَّه «1». وقال عبد الكريم بن عبد الرحمان النسائي عن أبيه: ليس بثقة. وقال ابن معين: كان ضعيفاً لا يحتج بحديثه. وقال الجوزجاني: لا يوقف علي حديثه، ولا ينبغي

أن يحتج به ولا يغتر بروايته. وقال ابن سعد: كان ضعيفاً. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال ابن حبّان: سبرت أخباره فرأيته يدلّس عن أقوام ضعفاء عن أقوام ثقات.

إلي غير ذلك من كلماتهم «2».

2- أحاديث صفة وضوء النبي: … ص: 89

اشارة

واستدلّوا بالأحاديث الحاكية لوضوء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كما رأيت في كلماتهم سابقاً … ومن سبر أخبارهم في صفة وضوئه وجدها متعارضة متهافتة جدّاً، … وحتي عن الراوي الواحد …

رووا المسح والغسل معاً …

وإذا لاحظت كتب الاستدلال بدقة وجدت العمدة حديث

__________________________________________________

(1) وهذا الحديث عن حيوة بن شريح.

(2) تهذيب التهذيب 5/ 327 وغيره.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 90

عثمان بن عفان، وحديث عبد اللَّه بن زيد الأنصاري … ونحن نقدّمهما في البحث علي غيرهما …

الحديث عن عثمان: … ص: 90

والمشهور بروايته عنه هو مولاه «حمران». قال البخاري:

«حدثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه الأويسي قال: حدثني إبراهيم ابن سعد، عن ابن شهاب: أنّ عطاء بن يزيد أخبره أنّ حمران مولي عثمان أخبره: أنه رأي عثمان بن عفّان دعا باناء فأفرغ علي كفّيه ثلاث مرّات، فغسلهما، ثمّ أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلي المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثمّ غسل رجليه ثلاث مرار إلي الكعبين. ثمّ قال:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ صلّي ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه … » «1».

وأخرجه مسلم بنفس السند مع اختلاف في اللفظ، إذ فيه التصريح بكون ما فعله هو وضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وليس في لفظ البخاري تصريح بذلك. قال مسلم:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري- بشرح ابن حجر 1/ 208.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 91

«حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن سرح، وحرملة بن يحيي التجيبي قالا: أخبرنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب أن عطاء بن يزيد الليثي أخبره: أنّ حمران

مولي عثمان أخبره: أن عثمان بن عفان- رضي اللَّه عنه- دعا بوضوء، فتوضّأ فغسل كفّيه ثلاث مرات … ثم قال:

رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ نحو وضوئي هذا … ».

قال مسلم:

«وحدثني زهير بن حرب، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي، عن حمران … ».

قال مسلم:

«حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن عبدة الضبّي قالا: حدثنا عبد العزيز- وهو الدراوردي- عن زيد بن أسلم، عن حمران مولي عثمان، قال: أتيت عثمان بن عفان بوضوء فتوضّأ ثم قال: إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أحاديث لا أدري ما هي! ألا إنّي رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ مثل وضوئي. ثمّ قال: من توضّأ هكذا غفر له … » «1».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم- بشرح النووي- 2/ 105، 113.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 92

النظر في سند الحديث:

أمّا سند البخاري ففيه:

«عبد العزيز بن عبد اللَّه» وقد ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه «1».

وأخرجه الذهبي في المغني في الضعفاء. وفي ميزانه. قال في الميزان: «وثقه أبو داود، وروي عن رجل عنه. ثم وجدت أنّي أخرجته في المغني وقلت: قال أبو داود: ضعيف. ثمّ وجدت في سؤالات أبي عبيد اللَّه الآجري لأبي داود: عبد العزيز الأويسي ضعيف» «2».

وفيه: «إبراهيم بن سعد». وقد ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه كذلك «3» وذكره ابن عدي في الكامل في الضعفاء وحكي عن عبد اللَّه ابن أحمد: «سمعت أبي يقول: ذكر عند يحيي بن سعيد: عقيل وإبراهيم بن سعد، فجعل كأنه يضعّفهما» وذكر ابن حجر عن الخطيب: أن إبراهيم كان يجيز الغناء بالعود. وقال ابن حجر: قال

__________________________________________________

(1) مقدمة فتح

الباري/ 419.

(2) ميزان الاعتدال 2/ 630.

(3) مقدمة فتح الباري/ 385.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 93

صالح جزرة: حديثه عن الزهري ليس بذاك «1» لأنه كان صغيراً حين سمع من الزهري «2».

وفيه: «ابن شهاب» وهو الزهري. وكان شرطيّاً لبني اميّة ومن أشهر المنحرفين عن علي أمير المؤمنين عليه السّلام، ممّا لا حاجة إلي شرحه.

وفيه: «حمران» مولي عثمان. وقد قلنا: إنّ جميع أسانيد الحديث تنتهي إليه … وهذا الرجل ذكر ابن حجر بترجمته عن ابن سعد: كان كثير الحديث ولم أرهم يحتجّون بحديثه. وحكي قتادة: أنه كان يصلّي مع عثمان فإذا أخطأ فتح عليه. وحكي الليث بن سعد: إنّ عثمان أسرّ اليه سرّاً فأخبر به عبد الرحمان بن عوف فاستأمن له عبد الرحمان عثمان، وأخبره بما أخبر به، فغضب عليه عثمان ونفاه» «3».

وقال الذهبي: «ذكره ابن سعد في الطبقات فقال: لم أرهم يحتجون به. وقد أورده البخاري في الضعفاء، لكن ما قال ما بليّته قط» «4».

قلت: فالحديث ضعيف عند البخاري نفسه!

هذا بالنسبة إلي سند الحديث عند البخاري.

__________________________________________________

(1)

وهذا من ذاك!

(2) تهذيب التهذيب 1/ 105، ميزان الاعتدال 1/ 33.

(3) تهذيب التهذيب 3/ 21.

(4) ميزان الاعتدال 1/ 604.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 94

وأما مسلم، فأسانيده كلّها تنتهي، الي «حمران» وفي طريقين منها «ابن شهاب الزهري». وفي الثالث: «الدراوردي» وقد عرفته.

«عن زيد بن أسلم» وهو مولي عمر. فمولي عمر يروي عن مولي عثمان! وهذا الرجل أورده الذهبي في ميزانه قال: «تناكد ابن عدي بذكره في الكامل- فإنه ثقة حجة- فروي عن حماد بن زيد قال: قدمت المدينة وهم يتكلّمون في زيد بن أسلم، فقال لي عبيد اللَّه بن عمر: ما نعلم به بأساً الّا أنّه يفسّر القرآن برأيه»

«1».

قلت: إذا كان يفسّر القرآن برأيه، فهو ممّن يتبوّأ مقعده من النار كما في الأحاديث المتفق عليها، فكيف لا يكون به بأس؟ وكيف يكون ثقة حجة؟ وكيف يقال لمن ضعّفه أنّه تناكد؟!

هذا، وقد ذكر ابن حجر عن ابن عبد البر أنه كان يدلّس «2».

هذا كلّه بالنسبة إلي السند. ولو تنزلنا، فإنَّ أحاديث وضوء عثمان متعارضة، كما سنشير فيما بعد.

الحديث عن عبد اللَّه بن زيد: … ص: 94

وأخرج مسلم حديث غسل الرجلين عن عبد اللَّه بن زيد بن

__________________________________________________

(1) المصدر نفسه 2/ 98.

(2) تهذيب التهذيب 3/ 342.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 95

عاصم قائلًا:

«حدثني محمّد بن الصباح، حدثنا خالد بن عبد اللَّه، عن عمرو بن يحيي بن عمارة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن زيد بن عاصم الأنصاري- وكانت له صحبة- قال: قيل له: توضّأ لنا وضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فدعا بإناء فأكفأ منها علي يديه فغسلهما ثلاثاً …

ثمّ غسل رجليه إلي الكعبين. ثمّ قال: هكذا وضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وحدثني القاسم بن زكريا، حدثنا خالد بن مخلد، عن سليمان- هو ابن بلال- عن عمرو بن يحيي. بهذا الاسناد نحوه. ولم يذكر الكعبين».

قال: «حدثنا هارون بن معروف. ح وحدثني هارون بن سعيد الأيلي وأبو الطاهر، قالوا: حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث: أنّ حبان بن واسع حدّثه أنّ أباه حدّثه أنه سمع عبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازني يذكر أنه رأي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ … » «1».

النظر في سند الحديث:

أقول: لا شي ء من هذه الأسانيد بصحيح:

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم- بشرح النووي- 2/ 121.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 96

فإنّ «عمرو بن يحيي بن عمارة» قال ابن معين: ليس بالقوي «1» وذكره

ابن حجر فيمن تكلّم فيه «2». وأورده الذهبي في ميزانه لأجل كلام ابن معين «3».

و «خالد بن عبد اللَّه» ضعّفه ابن عبد البر «4».

و «عمرو بن الحارث» قال أبو داود عن أحمد- وهو يتكلّم عن المصريّين: «ليس فيهم مثل الليث، لا عمرو ولا غيره، وقد كان عمرو عندي … «5» ثمّ رأيت له مناكير. وقال في موضع آخر: يروي عن قتادة أشياء يضطرب فيها ويخطي ء» «6» وذكره الذهبي وأضاف: «وقال الأثرم أيضاً عن أبي عبد اللَّه: انّه حمل علي عمرو بن الحارث حملًا شديداً» «7».

و «خالد بن مخلد» ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه «8». وعن

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 8/ 105.

(2) مقدمة فتح الباري/ 432.

(3) ميزان الاعتدال 3/ 293.

(4) تهذيب التهذيب 3/ 87.

(5) هكذا نقاط في تهذيب التهذيب! وكذلك في ميزان الاعتدال 3/ 252.

(6) تهذيب التهذيب 8/ 14.

(7) ميزان الاعتدال 3/ 252.

(8) مقدمة فتح الباري/ 398.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 97

أحمد: له أحاديث مناكير، وعن ابن سعد: كان متشيّعاً منكر الحديث، وعن أبي أحمد: لا يحتج به، وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء، وعن أبي حاتم: له أحاديث مناكير، وقال الجوزجاني: كان شتّاماً معلناً لسوء مذهبه «1».

وقد أورده الذهبي في ميزانه وذكر هذه الكلمات وغيرها، ثمّ نقل حديثاً أخرجه البخاري عن طريقه فقال: «فهذا حديث غريب جداً، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدّوه في منكرات خالد بن مخلد … » «2».

ثمّ إنّ لفظ الحديث أخيراً: «أنه سمع عبد اللَّه بن زيد بن عاصم … » ببناء «سمع» للمفعول، فمن السامع؟

هذا، ولا يخفي أنّ حديث عبد اللَّه بن زيد ينتهي- في غالب طرقه إلي: «عمرو بن يحيي عن أبيه» بل إنّ الأحاديث التي أخرجها البخاري في

الباب 135 والباب 136 من أبواب الوضوء هي كلّها كذلك، فراجعه إن شئت.

ثمّ إنّ أباه- وهو: يحيي بن عمارة بن أبي حسن «3» - يروي

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 3/ 101.

(2) ميزان الاعتدال 1/ 640.

(3) تهذيب التهذيب 8/ 104.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 98

الحديث عند البخاري تارة عن «عبد اللَّه بن زيد» بلا واسطة، كما في الحديث رقم 158، 191، وأخري بواسطة، فتارة الواسطة «رجل» فيقول: « … عن أبيه أنّ رجلًا قال لعبد اللَّه بن زيد- وهو جدّ عمرو بن يحيي … » كما في الحديث رقم 180 وأُخري يقول: « … عن أبيه:

شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد اللَّه بن زيد عن … » وثالثة يقول:

« … عن أبيه قال: كان عمّي يكثر من الوضوء، قال لعبد اللَّه بن زيد … »

كما في الحديث 193.

وهذا ما ربما يورث الشك في أصل الحديث، ولذا فقد وقع الشراح والرجاليون في اختلاف واضطراب شديدين. فلاحظ.

هذا كلّه بالنسبة إلي سند الحديث. ولو تنزلنا فإنَّ حديث عبد اللَّه بن زيد معارض، كما تقدم وسنشير فيما بعد.

الحديث عن غير عثمان وعبد اللَّه بن زيد: … ص: 98

ورووا حديث كيفية وضوء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وأنه غسل رجليه، عن جماعة من الصحابة أيضاً، نشير إلي بعض تلك الروايات إتماماً للفائدة:

فمن ذلك الحديث عن علي عليه السّلام! قال ابن ماجة:

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 99

«حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي حيّة قال: رأيت علياً توضّأ فغسل قدميه إلي الكعبين، ثمّ قال: أردت أن أريكم طهور نبيّكم صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

وهذا هو الحديث الذي تبجّح به شارحه السندي فقال:

«ردّ بليغ علي الشيعة القائلين بالمسح علي الرجلين،

حيث الغسل من رواية علي، ولذلك ذكره المصنف من رواية علي وبدأ به الباب».

لكنّه ساقط سنداً، فإنّ في سنده- بعد الغض عن «أبي الأحوص» الذي أورده الذهبي في ميزانه «2»، وعن «أبي إسحاق» وهو السبيعي، الذي أورده الذهبي كذلك، وذكر أنه شاخ ونسي، ونقل عن بعضهم أنه ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي إسحاق، وأنه قد تركوه لاختلاطه «3» - رجلًا مجهولًا وهو الرّاوي للحديث وهو «أبو حيّة» المتفرّد به كما نصّ عليه الذهبي، ونصّ علي أنه «لا

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 1/ 155.

(2) ميزان الاعتدال 2/ 176.

(3) المصدر 3/ 270.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 100

يعرف» وعن ابن المديني وأبي الوليد «مجهول» وعن أبي زرعة «لا يسمّي» «1».

هذا، ولو تنزّلنا فإنَّ الأحاديث المرّوية عن علي عليه السّلام متعارضة.

ومن ذلك الحديث عن أبي هريرة. قال مسلم:

«حدثني أبو كريب محمّد بن العلاء والقاسم بن زكريا بن دينار وعبد اللَّه بن حميد، قالوا: حدثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، حدثني عمّارة بن غزيّة الأنصاري، عن نعيم بن عبد اللَّه المجمر قال: رأيت أبا هريرة يتوضّأ … ثمّ غسل رجله اليمني حتي أشرع في الساق، ثمّ غسل رجله اليسري حتي أشرع في الساق، ثمّ قال: هكذا رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يتوضّأ … » «2».

وفي سنده:

«خالد بن مخلد» وقد عرفته.

و «عمارة بن غزية» ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه «3» وقال

__________________________________________________

(1) المصدر 4/ 519.

(2) صحيح مسلم- بشرح النووي- 2/ 134.

(3) مقدمة فتح الباري/ 458.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 101

بترجمته: ذكره العقيلي في الضعفاء. وقال ابن حزم: ضعيف. وقال عبد الحق: ضعّفه المتأخّرون «1».

وأخرجه بسند له آخر عن نعيم عن أبي

هريرة فقال:

«حدثني هارون بن سعيد الايلي، حدثني ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم بن عبد اللَّه، إنّه رأي أبا هريرة يتوضّأ، فغسل وجهه ويديه حتي كاد يبلغ المنكبين، ثمّ غسل رجليه حتي رفع الي الساقين، ثمّ قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: إنّ أُمّتي يأتون يوم القيامة غرّاً محجّلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» «2».

وهذا الحديث ليس فيه ما يشهد بكون ما فعله أبو هريرة وصفاً لوضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وعلي تقدير ذلك ففي سنده:

«عمرو بن حارث» وقد عرفته.

و «سعيد بن أبي هلال» ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه «3». وقال

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 7/ 370.

(2) صحيح مسلم- بشرح النووي- 2/ 135.

(3) مقدمة فتح الباري/ 404.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 102

وفي ترجمته: ذكره السّاجي في الضعفاء، وعن أحمد بن حنبل: ما أدري أيّ شي ء حديثه، يخلط في الأحاديث، وضعّفه ابن حزم «1».

ومن ذلك حديث المقدام بن معد يكرب، قال ابن ماجة:

«حدثنا هشام بن عمّار، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا حريز بن عثمان، عن عبد الرحمان بن ميسرة، عن المقدام بن معد يكرب: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم توضّأ فغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً» «2».

وهو حديث ساقط سنداً:

أمّا «هشام بن عمّار» فهو ممّن تكلّم فيه «3». وذكر بترجمته عن غير واحد أنه كان كلّما لقّن تلقّن، وعن أبي داود: كنت أخشي أن يفتق في الاسلام فتقاً، وعن ابن وارة: عزمت أن أمسك عن حديث هشام لأنه كان يبيع الحديث، وعن أحمد بن حنبل: طيّاش خفيف، وعن مسلمة: تكلّم فيه «4».

وأمّا «الوليد بن مسلم» فقد

ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 4/ 84.

(2) سنن ابن ماجة 1/ 156.

(3) مقدمة فتح الباري/ 448.

(4) تهذيب التهذيب 11/ 47.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 103

كذلك، ونصّ علي أنه قد عابوا عليه كثرة التدليس والتسوية «1». وذكر بترجمته عن أحمد: كان رفّاعاً. وعنه أيضاً: كثير الخطأ، وعن ابن معين: سمعت أبا مسهر يقول: كان الوليد ممّن يأخذ عن أبي السفر حديث الأوزاعي، وكان أبو السفر كذّاباً. وقال مؤمل بن أهاب عن أبي مسهر: كان الوليد بن مسلم يحدّث حديث الأوزاعي عن الكذّابين ثمّ يدلّسها عنهم. وقال صالح بن محمّد: سمعت الهيثم بن خارجة يقول للوليد: قد أفسدت حديث الأوزاعي «2».

وأمّا «حريز بن عثمان» فهو المشهور بالنصب والعداء لأميرالمؤمنين عليه السّلام، حتي نقلوا عنه أنه كان يسبّه ويلعنه!! ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه، فذكر قدح ابن عدي وابن حبان فيه لأجل كونه ناصبياً داعياً إلي مذهبه «3». وقال بترجمته: حكي الأزدي في الضعفاء انّ حريز بن عثمان روي أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لما أراد أن يركب بغلته جاء علي بن أبي طالب، فحلّ حزام البغلة ليقع

__________________________________________________

(1) مقدمة فتح الباري/ 450.

(2) تهذيب التهذيب 11/ 133 وانظر ميزان الاعتدال 4/ 347.

(3) مقدمة فتح الباري/ 393.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 104

النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم. قال الأزدي: من كانت هذه حاله لا يروي عنه.

قال ابن حجر: وقال ابن عدي: قال يحيي بن صالح الوحاظي:

أملي عليَّ حريز بن عثمان عن عبد الرحمان بن ميسرة عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم حديثاً في تنقيص علي بن أبي طالب لا يصلح ذكره، حديث مفتعل منكر جداً، لا يروي مثله من يتّقي

اللَّه. قال الوحاظي:

فلمّا حدثني بذلك قمت عنه وتركته.

قال ابن حجر: وقال غنجار: قيل ليحيي بن صالح: لم لم تكتب عن حريز؟ قال: كيف أكتب عن رجل صلّيت معه الفجر سبع سنين، فكان لا يخرج من المسجد حتي يلعن علياً سبعين مرّة «1».

وأمّا «عبد الرحمان بن ميسرة» فقد عرفته بترجمة حريز. وهذا كاف.

نتيجة البحث: … ص: 104

لقد ذكرنا أهمّ أخبار وجوب الغسل، ونظرنا في أسانيدها، ووجدناها- بعد غض النظر عن عدم دلالة بعضها علي الغسل-:

1- أنّها غير معتبرة سنداً.

2- وأنّها- علي فرض الإعتبار- أخبار آحاد، فإنّ أصحّها عندهم

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 2/ 207.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 105

حديث عبد اللَّه بن عمرو- أو ابن عمر- وهو خبر واحد قطعاً وهو أصحّ ما اشتمل علي الوعيد بقوله: «ويلٌ … ». وأصحّ ما جاء في صفة وضوء النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو ما يرويه عمرو بن يحيي عن أبيه عن جدّه عن عبد اللَّه بن زيد المازني، وما يرويه: حمران عن عثمان عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وكلاهما. خبر واحد كما لا يخفي.

سقوط دعوي النسخ لحكم المسح: … ص: 105

فدعوي تواتر هذه الأخبار- كما في كلمات بعضهم- مردودة، ولذا اعترف غير واحد منهم بكونها آحاداً «1» وحينئذ، لا تصلح هذه الأخبار لنسخ الكتاب، إذ الكتاب لا ينسخ بخبر الواحد كما تقرّر في علم الأُصول «2» وبذلك يسقط ما عن الطّحاوي وابن حزم من أنّ المسح منسوخ «3».

ولا يخفي أنّ دعوي النسخ تنحلّ إلي أمرين، أحدهما: الإقرار

__________________________________________________

(1) الفخر الرازي 11/ 161، النيسابوري 6/ 53.

(2) راجع الموافقات للشاطبي 3/ 6، إحكام الأحكام للآمدي 3/ 213.

(3) فتح الباري 1/ 213، شرح معاني الآثار 1/ 39.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 106

بأنّ الآية المباركة ظاهرة في المسح، وأنّ المسلمين كانوا يمسحون عملًا بالآية وبما علّمهم النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ولذا قال الطحاوي بعد ذكر روايات الغسل: «فدلّ ذلك أنّ حكم المسح الذي كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرنا». والأمر الثاني: دعوي أنّ أخبار الغسل ناسخة لحكم المسح، وقد عرفت بطلانها،

لكونها غير صحيحة سنداً، ولأنها- لو كانت صحيحة- آحاد … ولعلّه لذا قال ابن حجر: «وقد ادّعي الطحاوي وابن حزم … » إذ تعبيره ب «ادّعي» مشعر بوهنه، بل صرّح بالوهن الآلوسي- بعد نقله عن السيوطي- فقال: «ولا يخفي أنّه أوهن من بيت العنكبوت وإنّه لأوهن البيوت» «1».

هذا كلّه، مضافاً إلي تنصيص العلماء علي أن لا منسوخ في سورة المائدة.

تعارض الأخبار ووجوب المسح: … ص: 106

وعلي فرض الصحّة، فإنها معارضة بالأخبار والآثار الصحيحة الصريحة في وجوب المسح:

__________________________________________________

(1) روح المعاني 6/ 78.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 107

فخبر عبد اللَّه بن زيد معارض بما رووه عنه صريحاً في المسح!

وكذا حمران عن عثمان!

والخبر عن علي عليه السّلام، تعارضه الأخبار الكثيرة المتّفق عليها الصريحة في وجوب الغسل، ولذا نسب إليه القول بالمسح في غير واحد من الكتب الفقهية- كالمغني لابن قدامة، والمجموع للنووي- وغيرها.

ومقتضي القاعدة المقرّرة في علم الأُصول هو عرض الأخبار من الطرفين علي الكتاب، وقد عرفت أنه ظاهر في المسح، كما نصَّ عليه كبار العلماء المتقدمين والمتأخّرين من أهل السنّة.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 109

الاجماع … ص: 109

اشارة

لقد نسب القول بالغسل إلي الجمهور … وحكي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين وكبار الأئمة … في غير ما كتاب من الكتب المتعرضة لهذه المسألة في التفسير والفقه والحديث …

ومع ذلك كلّه.. فربما نجد في كلمات بعضهم دعوي الإجماع علي الغسل … بعد إنكار مخالفة من خالف، وإخراج الإمامية عن أهل الإسلام!!

يقول ابن العربي: «اتّفقت العلماء علي وجوب غسلهما، وما علمت من ردّ ذلك سوي الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلّق الطبري بقراءة الخفض».

وقد أورد غير واحد منهم هذا الكلام مرتضياً له «1».

وقال الخفاجي: «ومن أهل البدع من جوّز المسح علي الرجل

__________________________________________________

(1) منهم القرطبي 6/ 91. والشوكاني في فتح القدير 2/ 18.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 110

دون الخف، مستدلًا بظاهر الآية. وللشريف المرتضي كلام في تأييده تركناه لإجماع أهل السنّة علي خلافه» «1».

ولا يخفي ما في هذا الكلام! فالشيعة أهل البدع! وللشريف المرتضي كلام في تأييد البدعة! وهو- كما هو معلوم- من أعلام الشيعة!

وأين الإجماع مع

مخالفة علي وأئمة أهل البيت، ومنهم الباقر الذي روي الطبري قوله، ومخالفة ابن عباس، وأنس، وعكرمة، والشعبي، والحسن البصري، والأعمش، وقتادة، ومجاهد …

وغيرهم ممن ذكر الطبري «2» وغيره، ممّن تقدم ويأتي؟

فعلماء المسلمين متفقون علي الغسل!!

والشيعة الإمامية ليسوا بمسلمين!

لكنّهم لم يجدوا مناصاً من الاعتراف بردّ الطبري من فقهاء المسلمين القول بالغسل، ثم حاولوا أن يحصروا الخلاف فيه … إذن، لم يبق الّا الطبري … ثمّ اختلفوا في تحديد رأيه … !!

ثمّ جاء بعد قرون … من اكتشف أنّ الطبري الراد لتعيّن الغسل-

__________________________________________________

(1) حاشية البيضاوي 3/ 220.

(2) تفسير الطبري 6/ 128.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 111

ليس الطبري المعروف من فقهاء المسلمين.. وإنما هو الطبري من غيرهم … أي من الشيعة الإمامية … يقول الآلوسي:

«لا يخفي أنّ بحث الغسل والمسح ممّا كثر فيه الخصام، وطالما زلّت فيه الأقدام، وما ذكره الإمام «1» يدل علي أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج الي شأوي ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان. فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك، رغماً لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك:

ما يزعمه الإمامية- من نسبة المسح إلي ابن عباس رضي اللَّه تعالي عنه وأنس بن مالك وغيرهما- كذب مفتري عليهم … ونسبة جواز المسح إلي أبي العالية وعكرمة والشعبي، زور وبهتان أيضاً.

وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخيير بينهما إلي الحسن البصري عليه الرحمة. ومثله نسبة التخيير الي محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة، ورواها بعض أهل السنّة، ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار، بلا تحقق ولا سند، واتّسع الخرق علي الراقع.

ولعلّ محمّد بن جرير القائل بالتخيير هو محمّد بن

جرير بن رستم

__________________________________________________

(1) يقصد الفخر الرازي.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 112

الشيعي، صاحب المسترشد في الإمامة، لا أبو جعفر محمّد بن جرير ابن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة اليه» «1».

أقول:

وهذا إن دلّ علي شي ء، فإنّما يدل علي ضيق الخناق، ويكشف عن عدم قناعة القوم باستدلالاتهم من الكتاب والسنة … والّا فما الداعي لتكذيب كبار علماء طائفته، ورميهم بعدم التمييز بين الصحيح والسقيم، ورمي الشيعة بالكذب والاختلاق …

لقد أفرط الرجل في التحامل، وتفّوه بما لا يجوز، فاللَّه حسيبه …

وقد أنصف صاحب المنار اذ قال بعد نقل كلامه: «إنّ في كلامه- عفا اللَّه عنه- تحاملًا علي الشيعة، وتكذيباً لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنة كما تقدم، والظاهر أنه لم يطلع علي تفسير ابن جرير الطبري … » «2».

__________________________________________________

(1) روح المعاني 6/ 77- 78.

(2) المنار 6/ 229.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 113

إنّه لا يهمّنا التحقيق في رأي الطبري السنّي وأنه الجمع كما قال جماعة أو التخيير كما قال آخرون … وإنّما المهمّ التأكيد علي ظهور الآية المباركة- لا سيّما علي قراءة الجر- في المسح. وإذا كان الظهور فلا إجمال لتتقدم عليها السنّة تقدم المبين علي المجمل، لو فرض اعتبار السنّة سنداً ودلالة، فكيف والاعتبار غير ثابت، وعلي فرضه فهي روايات ساقطة بالتعارض؟

ولهذه الأُمور، نري الطبري- وغيره ممّن ذكروا رأيه ومن لم يذكروا- لا يقول بإجزاء الغسل وحده، فيذهب إلي الجمع أو التخيير، عملًا بكلا الطرفين.

بل لقد وجدت جماعة من الأئمة الأعلام كأحمد والأوزاعي يقولون بجواز مسح القدمين … قال القاري في

مسألة مسح الرأس والأُذنين:

«قال ابن حجر: والأولي: غسلهما مع الوجه ومسحهما مع الرأس، خروجاً من الخلاف.

وفيه: انّه لم يعرف في الشرع جمع عضو واحد بالغسل والمسح. وأيضاً: وجود المسح بعد الغسل عبث ظاهر.

نعم، صحّ المسح والغسل في الرجلين علي ما قاله بعض

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 114

الظاهرية، فله وجه وجيه، إن قدم المسح علي الغسل، فإنّ الغسل بعده يقع تكميلًا له مع الخروج عن الخلاف.

ولم أرد خلاف الشيعة، وانّما أريد ما روي عن ابن عباس من أنّ الفرض هو المسح، وما حكي عن أحمد والأوزاعي والثوري وابن جبير من جواز مسح جميع القدمين، فإنّ الانسان مخير عندهم بين الغسل والمسح» «1».

فهذه العبارة صريحة في ذهاب هؤلاء الأئمة إلي جواز المسح، كما نسب الشوكاني إليهم القول بالتخيير «2». فهؤلاء اذن رادّون للقول بتعيّن الغسل، وكذلك الشافعي، فإنّ عبارته صريحة في التخيير قال:

«غسل الرجلين كمال والمسح رخصة وكمال، وأيّهما شاء فعل» «3».

الاحتياط … ص: 114

ولهذه الأُمور نري بعضهم يقول بأنّ مقتضي الاحتياط هو الغسل، مستدلًا بأنّه مشتمل علي المسح دون العكس «4».

__________________________________________________

(1) مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح 1/ 315.

(2) نيل الأوطار 1/ 163.

(3) أحكام القرآن 1/ 50.

(4) الفخر الرازي 11/ 161، والجصّاص 2/ 421، والآلوسي 6/ 78.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 115

فلو كانت الآية غير ظاهرة في المسح، وكانت دلالة السنّة علي الغسل تامّة … لم يكن للقول بالاحتياط وجه …

لكن مقتضي الاحتياط في المسألة- لو اضطر للقول به- هو الجمع لا الغسل وحده، لأن ماهية المسح غير ماهية الغسل لغة وعرفاً … كما هو واضح.

الاستحسان … ص: 115

ولذه الأُمور أيضاً التجأ بعضهم الي الاستحسان.

فابن رشد ينص علي ظهور الآية في المسح، وينصّ علي أنّ حديث «ويلٌ … » في المسح أظهر منه في الغسل … فيقول بالغسل استحساناً، وهذه عبارته:

«فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح، كما أنّ المسح أشدّ مناسبة للرأس من الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقي دنسهما غالباً إلّا بالغسل، وينقي دنس الرأس بالغسل، وذلك أيضاً غالب، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسباباً للعبادات المفروضة، حتي يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين: معني مصلحياً، ومعني عبادياً. وأعني بالمصلحي ما رجع إلي الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع إلي زكاة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 116

النفس» «1».

والنسفي يقول: «وانّما أمر بغسل هذه الأعضاء لتطهّرها من الأوساخ التي تتّصل بها، لأنها تبدو كثيراً، والصلاة خدمة اللَّه تعالي والقيام بين يديه متطهّراً من الأوساخ أقرب إلي التعظيم، فكان أكمل في الخدمة … » «2».

ومحمّد رشيد رضا يقول: «إنّ القول بكل من الغسل والمسح مروي عن السلف من الصحابة والتابعين، ولكن العمل بالغسل أعم وأكثر، وهو الذي غلب واستمر»

ويقول: «لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة بل هو خلاف حكمة الوضوء، لأنّ طروء الرطوبة القليلة علي العضو الذي عليه الوسخ يزيد وساخته، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة» «3».

أقول:

إن كان المراد وجوب تطهير الأرجل من الدنس- أي النجاسة- بالغسل، فهذا ممّا لا كلام ولا خلاف، وله نصوص خاصّة معتبرة متفق

__________________________________________________

(1) بداية المجتهد 1/ 16.

(2) تفسير النسفي- هامش الخازن- 2/ 441.

(3) المنار 6/ 234.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 117

عليها. وإن كان المراد وجوب تطهيرها من الغبار والأوساخ، فهذا ممّا لا دليل عليه، إذ لا يفتي أحد ببطلان صلاة من كانت رجله وسخة سواء قلنا بوجوب المسح أو الغسل، ولذا لم يقيَّد الغسل في كلمات القائلين بوجوب الغسل بكونه مزيلًا للأوساخ، علي أنّ عمومات الحث علي النظافة، وكذا العمومات الواردة في كون المصلّي متجمّلًا نظيفاً في بدنه ولباسه وافية بالغرض، ولذا نري عوام الشيعة يغسلون أرجلهم ثم يتوضّأون ويمسحون عليها كما أمرهم اللَّه ورسوله …

ثمّ إنّ من القائلين بالغسل من قال في توجيه قراءة الجرّ بأنّ فائدة ذلك التنبيه علي أنه ينبغي أن يقتصد في صبّ الماء عليها ويغسل غسلًا يقرب من المسح «1» وكيف يحصل الغرض وهو النقاء والنظافة بالغسل القريب من المسح؟

لكن الحامل للقوم علي هذا الاستحسان- كأولئك الذين قالوا بالغسل من جهة الاحتياط أو غير ذلك- قصور الأُمور المستدل بها للغسل عن الدلالة علي وجوبه، بل لقد أذعن الكبار من علمائهم السابقين واللاحقين كالفخر الرازي، والنيسابوري، والحلبي، والسندي.. وغيرهم بأنّ الأدلّة- وخاصة الآية المباركة- صريحة في

__________________________________________________

(1) تفسير البيضاوي- بحاشية الشهاب- 2/ 221.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، حكم الأرجل في الوضوء، ص: 118

المسح …

ومن المتأخرين المصرّحين بذلك: العلامة

القاسمي، فإنّه قال في آخر كلامه:

«ولا يخفي أنّ ظاهر الآية صريح في أنّ واجبهما المسح كما قاله ابن عباس وغيره، وايثار غسلهما في المأثور عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم انّما هو للمزيد في الفرض والتوسع فيه، حسب عادته صلّي اللَّه عليه وسلّم، فإنّه سنَّ في كلّ فرض سنناً تدعمه وتقوّيه، في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وكذا في الطهارات، كما لا يخفي.

ومما يدل علي أنّ واجبهما المسح تشريع المسح علي الخفّين والجوربين، ولا سند له الّا هذه الآية، لأنّ كل سنّة أصلها في كتاب اللَّه منطوقاً أو مفهوماً. فاعرف ذلك واحتفظ به» «1».

أقول:

قد اعترف بالحق، ثمّ ادّعي أنّ المأثور عنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو الغسل، وقد عرفت بطلان هذه الدعوي.

«وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربِّ العالمين»

__________________________________________________

(1) تفسير القاسمي 6/ 1894.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.