استخراج المرام من استقصاء الافحام

اشارة

سرشناسه: حسيني ميلاني، علي ، 1326 -

عنوان قراردادي: منتهي الكلام.شرح

استقصاء الافحام.عربي. شرح

عنوان و نام پديدآور: استخراج المرام من استقصاءالافحام للعلم الحجة آيةالله السيد حامدحسين اللكهنوي بحوث و ردود تاليف علي الحسيني الميلاني.

مشخصات نشر: قم مركزالحقايق الاسلامية 1432 ق. - 1390-

مشخصات ظاهري: ج.

شابك: دوره ‮ 978-600-5348-50-7: ؛ 200000 ريال ج. 1 ‮ 978-600-5348-51-4: ؛ 200000 ريال ج. 2 ‮ 978-600-5348-52-1: ؛ 200000 ريال ج. 3 ‮ 978-600-5348-53-8:

يادداشت: عربي.

يادداشت: كتابنامه.

يادداشت: نمايه.

مندرجات: ج. 1. العقائد - ج. 2. التفسير والمفسرون والصحاح الستة و اصحابها - ج. 3. ائمةالمذاهب

موضوع: فيض آبادي ، حيدرعلي . منتهي الكلام -- نقد و تفسير

موضوع: كنتوري ، ميرحامد حسين 1830 - 1888م.. استقصاء الافحام -- نقد و تفسير

موضوع: شيعه -- عقايد

موضوع: شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها

موضوع: اهل سنت -- دفاعيه ها و رديه ها

شناسه افزوده: فيض آبادي ، حيدرعلي . منتهي الكلام. شرح

شناسه افزوده: كنتوري ، ميرحامد حسين 1830 - 1888م.. استقصاء الافحام. عربي. شرح

شناسه افزوده: مركز الحقائق الاسلاميه

رده بندي كنگره: ‮ BP211/5 ‮ /ف94م80213 1390

رده بندي ديويي: ‮ 297/4172

شماره كتابشناسي ملي: 2375816

الجزء (1)

كلمة المؤلّف … ص: 5

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام علي خير خلقه محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.

وبعد

فإنّ كتاب (استقصاء الإفحام) من مؤلّفات آية اللَّه المجاهد، والمحقّق الفذ، والقدوة الرائد (السيّد ميرحامد حسين النيسابوري اللكهنوي) الملقّب ب (صاحب عبقات الأنوار) كتاب لم يصنّف مثله في بابه، وقد كنت سمعت به منذ أنْ تعرَّفت علي كتاب (العبقات) وعلي مؤلّفه الجليل، وذلك لمّا زار المحقّق الحجّة والعلّامة الكبير المرحوم السيّد محمّد سعيد نجل آية اللَّه السيّد ناصر حسين نجل السيّد (صاحب العبقات) كربلاء المقدّسة، ونزل ضيفاً علي سيّدي الوالد آية اللَّه السيّد نورالدين الميلاني، قبل حوالي أربعين سنة …

لقد حدّثني السيّد السعيد- رحمه اللَّه- عن آبائه وآثارهم، وشرح لي كثيراً من مآثرهم وأخبارهم، وعرّفني بكتبهم وأسفارهم، ثمّ رغّبني

في مشروع كتاب (العبقات) وشرعت بذلك من ذلك الوقت وكانت (النفحات) «1».

وكان كتاب (إستقصاء الإفحام) من جملة الكتب التي تحدّث عنها،

__________________________________________________

(1) نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار. طبع في 20 جزء.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 6

لاسيّما وأنه كان قد ألّف في النجف الأشرف، عندما كان يدرس في حوزتها العلميّة الكبري، كتاب (الإمام الثاني عشر)- الذي استفاد فيه كثيراً من (إستقصاء الإفحام)- واقترح عليّ إعادة طبعه، فوفّقت لذلك مع تعاليق وإضافات ثمينة والحمد للَّه «1».

ثمّ رأيت أكابر الطائفة، يذكرون (إستقصاء الإفحام) في تقاريظهم لمؤلّفات (صاحب العبقات)، ووجدت جماعةً من العلماء الأعلام ينقلون عنه ويستندون إليه في مؤلّفاتهم المختلفة …

وهكذا … ازداد شوقي إلي (إستقصاء الإفحام)، إلي أن وقفت عليه قبل أعوام، وقرأته من أوّله إلي آخره، فألفيته مثل (العبقات) في البحث والتحقيق والمتانة، وفي القوة والدقّة والرصانة، وإنْ لم يشتهر كاشتهاره.

فعزمت علي إخراج مطالبه التي لم يسبق إليها أحدٌ من أعلامنا الماضين، وكان عيالًا عليه فيها كثير من علمائنا المتأخّرين، وانتهزت لذلك فرص العطل، وواصلت العمل بلا ملل، حتّي وفقني اللَّه عزّوجلّ، لتنظيم فرائده وترتيب فوائده، فجاءت في أربعة أبواب وملحقاتٍ وخاتمة.

فالباب الأوّل: في المسائل الإعتقاديّة.

والباب الثاني: في التفسير والمفسّرين.

والباب الثالث: في الصّحاح الستّة وأصحابها.

والباب الرابع: في أئمّة المذاهب الأربعة.

أمّا الملحقات، فهي بحوثٌ في (مسائل فقهيّة) وفي (القياس) و (الإستحسان).

__________________________________________________

(1) طبع كتاب (الإمام الثاني عشر) في النجف الأشرف، مطبعة القضاء، سنة 1393.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 7

وأمّا الخاتمة، فتحقيقٌ عن (حديث الحوض) وما ورد عن أهل البيت عليهم السلام في (الصّحابة).

وقد وضعت له مقدّمةً، تعرّضت فيها لما تمتاز به العلوم الدينيّة وأعلامها عند الفرقة الإماميّة عن سائر الفرق

الإسلاميّة، وللتعريف بالكتاب وموضوعاته ومؤلّفه العظيم واسرته الأبرار، بالاستفادة من (دراسات في كتاب العبقات) وهي مقدّمة (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار).

واللَّه أسأل أن ينفع به كما نفع بأصله، وأنْ يوفّقنا للدفاع عن الحق وأهله، وأنْ يحشرنا في زمرة أتباع الأئمّة المعصومين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، إنّه أكرم الأكرمين.

علي الحسيني الميلاني 10 ربيع الثاني 1424

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 9

تقديم … ص: 9

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 11

افتراق الامّة … ص: 11

لقد افترقت الامّة الإسلاميّة بعد النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلي فرقٍ كثيرة وطوائف شتّي …

«كلّ حزب بما لديهم فرحون» «1».

وكلٌّ يدّعي وصلًا بليلي …

والنبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد أخبر عن ذلك وأعلن بأنّ فرقة واحدة فقط منها ناجية، والباقي في النار … «2»

ثمّ أرشد الامّة إلي تلك الفرقة وعرّفها لهم … كما في الأحاديث والأخبار …

وبذلك وقعت المحنة وحصل الإختبار … كما قال تعالي: «أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون* ولقد فتنّا الذين من قبلهم …» «3».

معالم الفرقة النّاجية … ص: 11

وكان علي كلّ باحث- إذا ما أراد أن يعرف الفرقة الحقّة الناجية- أنْ __________________________________________________

(1) سورة المؤمنون 23: 53. سورة الروم 30: 32.

(2) إشارة إلي حديثٍ عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم، وأحمد في المسند 2: 332.

(3) سورة العنكبوت 29: 2- 3.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 12

يعرض معالم الدين عند الفرق علي الكتاب والسنّة، لأنّهما المصدران الأصليّان والأساسيّان في جميع الشئون الدينيّة والمعارف الإسلاميّة، فما وافقهما أو كان مستنبطاً منهما اخذ به، وما لم يكن كذلك طرح وترك، إذ ما من شي ء إلّاوبه كتاب أو سنّة:

روي الشيخ الكليني بإسناده عن حمّاد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

سمعته يقول: «ما من شي ء إلّاوفيه كتاب أو سنّة».

وعن عمر بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالي لم يدع شيئاً يحتاج إليه الامّة إلّاأنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلّي اللَّه عليه وآله، وجعل لكلّ شي ء حدّاً وجعل عليه دليلًا يدلّ عليه، وجعل علي من تعدّي ذلك الحدّ حدّاً».

وعن المعلّي بن خنيس قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام:

«ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان إلّاوله أصلٌ في كتاب اللَّه عزّ وجلّ، ولكنْ لا تبلغه عقول الرجال».

وعن سماعة عن أبي الحسن موسي عليه السلام قال: «قلت له: أكلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلّي اللَّه عليه وآله أو تقولون فيه؟ قال: بل كلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلّي اللَّه عليه وآله».

وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «كتاب اللَّه فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه» «1».

وإذا كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام يؤكّدون- كما في الأخبار الكثيرة الواردة عنهم- علي ضرورة الرجوع إليهم في كلّ الامور والأخذ منهم __________________________________________________

(1) راجع: الكافي 1/ 59 باب الرد إلي كتاب اللَّه والسنّة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 13

والتمسّك بهم … فإنّ ذلك ما أوصي به رسول اللَّه الصّادق الأمين في الأحاديث الثابتة عنه المرويّة في كتب جميع الفرق.

ومن أشهر تلك الأحاديث قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«كأنّي قد دعيت فأجبت، وإنّي قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللَّه تعالي وعترتي …» «1».

دور الأئمّة في حفظ الدين ونشر العلم … ص: 13

وفي هذا الباب روايات خاصّة بأميرالمؤمنين عليه السلام، بيّن فيها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم منزلة الإمام ومقامه العلمي، وأنّه ما من شي ء من العلوم إلّاولابدّ أنْ يؤخذ منه ويرجع إليه فيه ويتّبع قوله …

ومن أشهر تلك الروايات قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد العلم فليأت الباب» «2».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3/ 109. وهذا هو الحديث المعروف بحديث الثقلين، أخرجه المحدّثون والمفسّرون والمؤرّخون وسائر العلماء في مختلف الكتب وبألفاظٍ مختلفة، فراجع:

مسند أحمد 5/ 181 و 3/ 26 وغيرهما، والمصنَّف لابن أبي شيبة

10/ 505، صحيح الترمذي 5/ 663، جامع الاصول 1/ 278، الطبقات الكبري 1/ 194، المعجم الكبير 3/ 62، مصابيح السنّة 4/ 190، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 336، مجمع الزوائد 9/ 165، فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3/ 14، الصواعق المحرقة: 233 وغيرها من كتب المتقدّمين والمتأخّرين من أهل السنّة. ومن شاء التفصيل فليرجع إلي كتاب (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار) الأجزاء 1- 3.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 127. وهذا هو حديث مدينة العلم، ورواته من الأئمّة الأعلام عند السنّة كثيرون جدّاً، فراجع:

تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب، بترجمة الإمام علي عليه السلام، تاريخ ابن كثير 7/ 359، جامع الاصول 9/ 473، جمع الجوامع 1/ 373، تاريخ بغداد 2/ 377 و 4/ 348 و 7/ 172 و 11/ 204، الرياض النضرة 2/ 255، فيض القدير 3/ 47، تاريخ الخلفاء: 170، المعجم الكبير 11/ 65، اسد الغابة 4/ 22، تذكرة الحفّاظ 4/ 28، مجمع الزوائد 9/ 114، عمدة القاري في شرح البخاري 7/ 631، إتحاف السادة المتقين 6/ 244. ومن شاء التفصيل فليرجع إلي كتاب (نفحات الأزهار) الأجزاء 10- 12.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 14

حيث أفاد أنّ العلوم كلّها مجموعة عنده، وأنّه يجب علي الناس طلب العلم، وأنّ الطريق الوحيد إليه هو مولانا عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

وكذلك كان أميرالمؤمنين عليه السلام … فقد كان المرجع الوحيد للمتصدّين للأمر، وكبار الصحابة، فكم من مشكلةٍ علميّة عجزوا عن حلّها أو مسألةٍ فقهيّة جهلوا الحكم الشرعي فيها، فكان هو المرجع وإليه المفزع، حتّي قال الحافظ النووي بترجمته:

«وسؤال كبار الصّحابة له ورجوعهم إلي فتاواه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات، مشهور» «1».

وإنّ ذلك من أقوي الأدلّة

علي إمامته المطلقة وولايته العامّة بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … لأنّ من أولي الصفات المعتبرة في الإمام- عند علماء الكلام من الخاصّة والعامّة- هو العلم:

قال شارح المواقف: «المقصد الثاني، في شروط الإمامة، الجمهور علي أنّ الإمامة ومستحقّها من هو مجتهد في الاصول والفروع، ليقوم بامور الدين، متمكّناً من إقامة الحجج وحلّ الشّبه في العقائد الدينيّة، مستقلّاً بالفتوي في النوازل وأحكام الوقائع، نصّاً واستنباطاً، لأنّ أهمّ مقاصد الإمامة حفظ العقائد

__________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 1/ 346.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 15

وفصل الحكومات ورفع المخاصمات، ولن يتمّ ذلك بدون هذا الشّرط» «1».

وليس فقط رجوع كبار الصحابة وغيرهم … بل العلوم الإسلاميّة كلّها منه اخذت وعنه انتشرت …

أمّا في المدينة المنوّرة، فقد عرفت أنّه كان المرجع للمتقمّصين للخلافة ولغيرهم، حتّي اشتهر عن عمر بن الخطّاب قوله: «لولا علي لهلك عمر» «2»، و «أقضانا علي» «3» و «لا أبقاني اللَّه بعدك يا علي» «4».

وعن سعد بن أبي وقّاص- في كلامٍ له عن الإمام عليه السلام يخاطب الناس- «… ألم يكن أعلم الناس» «5».

وعن ابن عبّاس: «واللَّه، لقد اعطي عليّ بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم اللَّه، لقد شارككم في العشر العاشر» «6».

وعن أبي سعيد الخدري: «أقضاهم علي» «7».

وعن ابن مسعود: «كنّا نتحدّث أنّ أقضي أهل المدينة علي» «8».

وعن عائشة: «عليّ أعلم الناس بالسنّة» «9».

وأمّا مكّة المكرّمة، فقد عاش فيها الإمام منذ ولادته حتّي الهجرة،

__________________________________________________

(1) شرح المواقف 8/ 349.

(2) الاستيعاب 3/ 1103، فيض القدير 4/ 357.

(3) الاستيعاب 3/ 1102.

(4) الرياض النضرة 2/ 197، فيض القدير 4/ 357.

(5) المستدرك 3/ 500.

(6) الاستيعاب 3/ 1104، الرياض النضرة 2/ 194.

(7) فتح الباري 8/ 136.

(8) الاستيعاب 3/ 1105.

(9)

الرياض النضرة 2/ 193.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 16

وسافر إليها بعد الإستيطان بالمدينة غير مرّة، ولا ريب في أخذ أهل مكّة منه العلم والمعرفة في خلال هذه المدّة.

علي أنّ تلميذه الخاص- أعني عبداللَّه بن العبّاس- كان بمكّة مدّةً مديدة ينشر العلم، ويفسّر القرآن، ويعلّم المناسك، ويدرّس الفقه، قال الذهبي بترجمته: «الأعمش، عن أبي وائل قال: استعمل علي ابن عبّاس علي الحج، فخطب يومئذٍ خطبةً لو سمعها الترك والروم لأسلموا، ثمّ قرأ عليهم سورة النور فجعل يفسّرها» «1».

وروي ابن سعد عن عائشة: «إنّها نظرت إلي ابن عبّاس ومعه الخلق ليالي الحج، وهو يسئل عن المناسك. فقالت: هو أعلم من بقي بالمناسك» «2».

وقال ابن عبدالبر: «روينا أنّ عبداللَّه بن صفوان مرّ يوماً بدار عبداللَّه بن عبّاس بمكّة، فرأي فيها جماعة من طالبي الفقه …» «3».

واعترف ابن تيميّة بهذه الحقيقة … قال السيوطيّ: «قال ابن تيميّة: أعلم الناس بالتفسير أهل مكّة، لأنّهم أصحاب ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولي ابن عبّاس وسعيد بن جبير وطاووس، وغيرهم» «4».

وأمّا الشام، فقد انتشر العلم فيه عن أبي الدرداء، وهو تلميذ عبداللَّه بن مسعود، وابن مسعود من تلامذة الإمام، فانتهي إليه عليه السلام علم أهل الشام:

__________________________________________________

(1) تذكرة الحفّاظ 1/ 40- 41.

(2) الطبقات الكبري 2/ 282.

(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 937.

(4) الإتقان في علوم القرآن 2/ 536.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 17

روي الحافظ أبو العبّاس المحبّ الطبري: «عن أبي الزعراء عن عبداللَّه قال: علماء الأرض ثلاثة، عالم بالشام، وعالم بالحجاز، وعالم بالعراق. فأمّا عالم أهل الشام فهو أبوالدرداء، وأمّا عالم أهل الحجاز فهو عليّ بن أبي طالب، وأمّا عالم أهل العراق فأخ

لكم.

وعالم أهل الشام وعالم أهل العراق يحتاجان إلي عالم أهل الحجاز، وعالم أهل الحجاز لا يحتاج إليهما. أخرجه الحضرمي» «1».

وأمّا البصرة، فقد ورد إليها الإمام عليه السلام بنفسه، وتلك خطبه ومواعظه فيها مدوّنة في كتب التاريخ.

وأيضاً، فقد أخذ أهل البصرة وتفقّهوا علي ابن عبّاس حيث كان والياً علي البصرة من قبل الإمام، وهو من أشهر تلاميذه وملازميه بلا كلام، قال الحافظ ابن حجر:

«إنّ ابن عبّاس كان يغشي الناس في رمضان وهو أمير البصرة، فما ينقضي الشهر حتّي يفقّههم» «2».

وأمّا الكوفة، فقد تعلّم أهلها القرآن والسنّة منه عليه السلام مباشرة مدّة بقائه بها … ولو كانوا قد تعلّموا شيئاً من ذلك قبل وروده إليها، فمن عبداللَّه بن مسعود وعمّار بن ياسر، وهما من تلامذته عليه السلام.

وأمّا اليمن، فقد روي الكلّ أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد بعثه إلي اليمن قاضياً، والقضاء هو الفقه، فهو أفقه الامّة، لقوله صلّي اللَّه عليه وآله __________________________________________________

(1) الرياض النضرة في مناقب العشرة 3/ 199- 200.

(2) الإصابة في معرفة الصحابة 4/ 150.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 18

وسلّم- فيما رواه الفريقان- «أقضاكم علي» «1».

وهو الذي فقّه أهل اليمن وعلّمهم، وقد قال النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حين بعثه إليهم: «اللّهمّ اهد قلبه وثبّت لسانه» «2».

فهذا بعث علي إلي اليمن، وهذا شأنه في العلم وموقعه من الفقه، فقد انتشر العلم في تلك البلاد بواسطته.

وأمّا معاذ بن جبل، فقد بعثه النبي إلي طائفةٍ من اليمن «ليجبره» بعد أنْ «أغلق ماله عن الدين … فباع النبي ماله كلّه في دينه، حتّي قام معاذ بغير شي ء» «3».

وأمّا شأن معاذ في العلم والفقه فلا يقاس بالإمام- كما لا يقاس به غيره- بل في نفس

خبر بعثه إلي اليمن ما يدلّ علي فسقه أو جهله بأدني الأحكام الشرعيّة «4».

وهكذا كان حال سائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فقد كانوا الحافظين لحدود الشريعة المقدّسة من أن يتلاعب بها المبتدعون، بإدخال شي ء في الدين أو نقص شي ء منه، وللعقائد الثابتة من الشبهات، والامّة من __________________________________________________

(1) ورد بألفاظٍ مختلفة في: المستصفي في علم الاصول 1/ 70، تاريخ دمشق 51/ 300، حلية الأولياء 1/ 65، الطبقات الكبري 2/ 258 و 259، كشف الخفاء 1/ 162.

(2) سنن ابن ماجة 2/ 774 ح 2310، كتاب الأحكام، باب ذكر القضاء، سنن أبي داود 3/ 299- 300 ح 3582، سنن البيهقي 5/ 116 ح 8419، مسند عبد بن حميد: 61 ح 94، تاريخ بغداد 12/ 444 رقم 6916، الطبقات الكبري 2/ 257، دلائل النبوّة للبيهقي 5/ 397، نصب الراية 5/ 36 وغيرها.

(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1404.

(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1405.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 19

الضّلالات، وبواسطتهم انتشرت المعارف الإسلاميّة، ومنهم أخذ فقهاء المذاهب، وقد جاء ذلك كلّه بتراجمهم في كتب مخالفيهم أيضاً:

* فقد ذكروا بترجمة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين: أنّه كان «أفضل هاشميّ في زمانه» «1» و «كان كثير الحديث» «2» وقد سمّاه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- فيما رواه الفريقان عن جابر بن عبداللَّه- «سيّد العابدين» «3»، وأنّه قد روي عنه الزهري في جماعةٍ من أكابر القوم «4».

والزهري هو الذي دوَّن السنّة لمّا أمر بذلك عمر بن عبدالعزيز، بعد قرنٍ من منع عمر بن الخطّاب كتابة الأحاديث النبويّة.

* وبترجمة الإمام محمّد بن علي الباقر: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو الذي سمّاه بهذا اللّقب، في

حديث جابر بن عبداللَّه الأنصاري الذي أشرنا إليه.

وروي ابن قتيبة: «إنّ هشاماً قال لزيد بن علي: ما فعل أخوك البقرة؟

فقال زيد: سمّاه رسول اللَّه باقر العلم وأنت تسمّيه بقر! فاختلفتما إذن» «5».

وقال الجوهري: «التبقّر: التوسّع في العلم … وكان يقال: محمّد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب الباقر، لتبقّره في العلم» «6».

وقال الزبيدي صاحب تاج العروس: «وقد ورد في بعض الآثار عن جابر

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 7/ 304 وفي ط 268.

(2) تهذيب التهذيب 7/ 304 وفي ط 268.

(3) الصواعق المحرقة: 120، تذكرة الخواص: 337، مناقب آل أبي طالب 4/ 196، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 2/ 331.

(4) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب وغيره.

(5) عيون الأخبار 1/ 212.

(6) صحاح اللغة «ب. ق. ر».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 20

ابن عبداللَّه الأنصاري: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال له: يوشك أن تبقي حتّي تلقي ولداً لي من الحسين يقال له محمّد، يبقر العلم بقراً، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام. خرّجه أئمّة النسب» «1».

روي عنه من الأئمّة: الزهري والأوزاعي والأعمش وأبوحنيفة وابن جريج «2».

* وبترجمة الإمام جعفر بن محمّد الصادق:

عن مالك بن أنس: «اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلّاعلي إحدي ثلاث خصالٍ: إمّا مصلٍّ وإمّا صائم وإمّا يقرأ القرآن. وما رأيته يحدّث إلّاعن طهارة» «3».

وعن أبي حنيفة: «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد.

لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة: إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ له من المسائل الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة. ثمّ بعث إلي أبوجعفر- وهو بالحيرة- فأتيته فدخلت عليه، وجعفر بن محمّد جالس عن يمينه، فلمّا أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمّد الصادق

ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه وأومأ إليّ، فجلست، ثمّ التفت إليه فقال:

يا أبا عبداللَّه، هذا أبو حنيفة.

قال جعفر: نعم. ثمّ أتبعها: قد أتانا. كأنّه كره ما يقول فيه قوم أنّه إذا

__________________________________________________

(1) تاج العروس في شرح القاموس «ب. ق. ر».

(2) تهذيب التهذيب 10/ 401 و 9/ 312، حلية الأولياء 3/ 188، تذكرة الحفّاظ 1/ 124.

(3) تهذيب التهذيب 2/ 89.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 21

رأي الرجل عرفه.

ثمّ التفت المنصور إليّ فقال: يا أبا حنيفة، ألق علي أبي عبداللَّه من مسائلك. فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول:

أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تبعناهم وربّما خالفنا جميعاً.

حتّي أتيت علي الأربعين مسألة.

ثمّ قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس» «1».

فهذا كلام مالك وأبي حنيفة وهما من تلامذته، وقال الآلوسي في كلامٍ له:

«هذا أبو حنيفة يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السّنتان لهلك النّعمان» «2».

وعن أبي حاتم الرازي: «لا يسئل عن مثله» «3».

وعن ابن حِبان: «كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلًا» «4».

وقال النووي: «اتّفقوا علي إمامته وجلالته» «5».

وقال الشهرستاني: «قد أقام بالمدينة مدّةً يفيد الشيعة المنتمين إليه،

__________________________________________________

(1) جامع مسانيد أبي حنيفة 1/ 222، تذكرة الحفّاظ 1/ 157.

(2) مختصر التحفة الإثني عشريّة: 8.

(3) تهذيب التهذيب 2/ 89.

(4) تهذيب التهذيب 2/ 88.

(5) تهذيب الأسماء واللغات 1/ 155.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 22

ويفيض علي الموالين أسرار العلوم، ثمّ دخل العراق وأقام بها مدّةً» «1».

وقال اليافعي: «له كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، قد ألّف تلميذه جابر بن حيّان الصّوفي كتاباً يشتمل علي ألف ورقة، يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة» «2».

وقال ابن حجر: «ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به

الركبان وانتشر صيته في البلدان. وروي عنه الأئمّة الأكابر، كيحيي بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني» «3».

* وبترجمة الإمام موسي بن جعفر الكاظم: إنّه كان يدعي «العبد الصالح» من عبادته واجتهاده «4».

وإنّه «إمام من أئمّة المسلمين» «5».

وقال الذهبي: «موسي الكاظم … الإمام القدوة … ذكره أبو حاتم فقال: ثقة صدوق، إمام من أئمّة المسلمين …

له مشهد عظيم مشهور ببغداد، دفن معه فيه حفيده الجواد، ولولده عليّ ابن موسي مشهد عظيم بطوس» «6».

__________________________________________________

(1) الملل والنحل 1/ 147.

(2) مرآة الجنان 1/ 304.

(3) الصواعق المحرقة: 111.

(4) تهذيب التهذيب 10/ 302، تاريخ بغداد 13/ 27، تهذيب الكمال 29/ 44، صفوة الصفوة 2/ 124.

(5) تهذيب الأسماء 1/ 302.

(6) سير أعلام النبلاء 6/ 270.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 23

وقال ابن حجر: «هو وارث أبيه علماً ومعرفةً وكمالًا وفضلًا، سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند اللَّه، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم» «1».

* وبترجمة الإمام عليّ بن موسي الرضا: أنّه كان يفتي بمسجد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وهو ابن نيّف وعشرين سنة «2».

وقال الذهبي: «علي بن موسي الرضا، أحد الأعلام. هو الإمام أبوالحسن … كان سيّد بني هاشم في زمانه وأجلّهم وأنبلهم، وكان المأمون يعظّمه ويخضع له ويتغالي فيه، حتّي أنّه جعله وليَّ عهده من بعده وكتب بذلك إلي الآفاق» «3».

وذكر أبوالفرج ابن الجوزي وغيره في خبر جعل المأمون الإمام وليّ العهد:

«وذلك أنّه نظر في بني العبّاس وبني عليّ، فلم يجد أحداً أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنّه سمّاه الرضي من آل محمّد، وأمر بالبيعة له» «4».

روي عنه من الأئمّة: أحمد بن حنبل

«5».

وأخرج عنه: الترمذي وأبو داود وابن ماجة.

وروي الحافظ ابن حجر عن الحاكم أبي عبداللَّه قوله: «سمعت أبابكر محمّد بن المؤمّل بن الحسن بن عيسي يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر ابن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعةٍ من مشايخنا- وهم إذ

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة: 112.

(2) تهذيب التهذيب 7/ 338، المنتظم 10/ 120، تذكرة الخواص: 351.

(3) تاريخ الإسلام، حوادث 201- 210 ص: 269.

(4) المنتظم في تاريخ الامم 10/ 93، وفيات الأعيان 2/ 432 وغيرهما.

(5) سير أعلام النبلاء 9/ 387.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 24

ذاك متوافرون- إلي زيارة قبر عليّ بن موسي الرضا بطوس، فرأيت من تعظيمه- يعني ابن خزيمة- لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا» «1».

وجاء في غير واحدٍ من الكتب: إنّه لمّا دخل الإمام عليه السلام نيسابور راكباً، خرج إليه علماء البلد وبأيديهم المحابر والدّوي، وتعلَّقوا بلجام دابّته وحلّفوه أن يحدّثهم بحديثٍ عن آبائه فقال: حدّثني أبي موسي الكاظم عن أبيه … عليّ بن أبي طالب قال: حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال: حدّثني جبريل قال: سمعت ربّ العزّة يقول: لا إله إلّااللَّه حصني، فمن قالها دخل حصني وأمن من عذابي.

وفي روايةٍ: إنّه روي عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: سألت رسول اللَّه: ما الإيمان؟ قال: معرفة بالقلب وإقرار باللّسان وعمل بالأركان.

وعن أحمد بن حنبل: إن قرأت هذا الإسناد علي مجنونٍ برئ من جنونه.

هذا، وكان علي رأس العلماء الذين طلبوا من الإمام أن يحدّثهم:

أبوزرعة الرازي، ومحمّد بن أسلم الطوسي، وياسين بن النضر، وأحمد ابن حرب، ويحيي بن يحيي …

وقد عدّ أهل المحابر والدّوي الذين كانوا يكتبون، فأنافوا علي عشرين ألفاً «2».

* فهؤلاء- وسائر

الأئمّة الإثني عشر- هم المؤسّسون لمذهب الإماميّة،

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 7/ 339.

(2) أخبار اصبهان 1/ 138، المنتظم 10/ 120 وغيرهما.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 25

والمشيّدون لأركان العلوم الإسلاميّة.

وقد علم ممّا تقدّم:

1- إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام كان كلّ واحدٍ منهم أعلم الناس في زمانه وأفضلهم، وقد شهد بذلك المخالف كالمؤالف.

2- إنّ العلوم الإسلاميّة إنّما انتشرت في البلاد بواسطة الأئمّة عليهم السلام في كلّ عصر، فالصّحابة العلماء كابن عبّاس وابن مسعود وابيّ بن كعب وأبي ذر الغفاري وأمثالهم، تعلّموا من أميرالمؤمنين، وكذلك التابعون قد أخذوا عنه وعن الأئمّة من بعده والصحابة من تلامذته.

3- إنّ علماء المذاهب الاخري قد حضروا عند الأئمّة، ومنهم أخذوا وعنهم رووا، وعلي رأسهم: مالك بن أنس وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل …

نشر العلم والمعرفة بشتّي الطرق … ص: 25

ثمّ إنّ نشر الأئمّة عليهم السلام للعلوم وتعليمهم الامّة معارف الدين، لم يقتصر علي طريقٍ من الطرق أو اسلوب من الأساليب … بل لقد استفادوا لذلك من كافّة الوسائل وشتّي الطّرق، كالكتابة، والخطابة، والدعاء، والإملاء، والتدريس:

ففي الوقت الذي منعت الحكومة- ولأغراضٍ عديدة- من تدوين السنّة النبويّة الشريفة، لم يقنع أميرالمؤمنين عليه السلام بأجوبة الإستفتاءات وحلّ المشكلات وتعليم العلوم، بل عمد إلي الكتابة أيضاً وحثَّ عليها … يقول الحافظ السيوطي:

«كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 26

فكرهها كثير منهم، وأباحتها طائفة وفعلوها، منهم: علي وابنه الحسن» «1».

وما كتبه عليه السلام كان موجوداً لدي أبنائه، ينظرون فيه وينقلون عنه، كما لا يخفي علي من راجع أحاديثهم … «2»

وكتب أيضاً كاتبه الجليل علي بن أبي رافع: «وهو تابعي، من خيار الشيعة، كانت له صحبة مع أميرالمؤمنين، وكان كاتباً له، وحفظ كثيراً،

وجمع كتاباً في فنون الفقه، كالوضوء والصلاة وسائر الأبواب، وكانوا يعظّمون هذا الكتاب» «3».

وعن الإمام الصّادق عليه السلام مخاطباً أصحابه:

«أُكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتّي تكتبوا» «4».

«أُكتبوا، فإنّكم لا تحفظون إلّابالكتاب» «5».

«ما يمنعكم من الكتاب؟ إنّكم لن تحفظوا حتّي تكتبوا، إنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها» «6».

وورد الحثّ علي الإحتفاظ بالكتب:

«إحتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها» «7».

وأمّا خطب الأمير عليه السلام من علي منبر الكوفة، فما زالت محطّ

__________________________________________________

(1) تدريب الراوي 2: 65.

(2) انظر كتاب: وسائل الشيعة، في مختلف الأبواب منه.

(3) رجال النجاشي: 6/ 2.

(4) وسائل الشيعة 27: 323/ 33844.

(5) مستدرك الوسائل 17: 285/ 21359.

(6) مستدرك الوسائل: 17: 292- 293/ 21383.

(7) وسائل الشيعة 28: 323/ 33845.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 27

أنظار أهل العلم ومحور أفكار أهل الفهم … فقد زخرت بأسرار الحكمة الإلهيّة، وكشفت عن أستار كثير من المعارف الدينيّة، واشتملت علي امّهات الحقائق المعنويّة … فيها براهين إثبات المبدء والمعاد، ومباحث صفات الباري وآيات عظمته وحكمته …

ثمّ جاءت هذه المعاني في قالب الأدعية، علي لسان حفيده الإمام السجّاد عليه السلام … وعرف بالصحيفة السجّاديّة.

وجاءت علي شكل الإملاء عن الإمام الصادق عليه السلام فيما نقله المفضَّل بن عمر، وعرف بكتاب: توحيد المفضّل.

وأمّا جلسات الدّرس والسؤال والجواب، فعن الحافظ أبي العبّاس ابن عقدة الكوفيّ المتوفي سنة 333 أنّه وضع كتاباً في أسماء تلامذة الإمام الصادق عليه السلام، فذكر ترجمة 4000 رجل منهم «1».

وعن الحسن الوشاء: «إنّي أدركت في هذا المسجد- يعني مسجد الكوفة- 900 شيخٍ كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد» «2».

ومن هنا، انتشر التشيّع وأحاديث أهل البيت عليهم السلام بين أهل الكوفة، وأصبحت الكوفة مركزاً من مراكز الإشعاع الفكريّ

لمذهب العترة الطاهرة، ومعقلًا من معاقل أتباعهم الأخيار، ودخلت رواياتهم في كتب أهل السنّة وخاصّةً صحاحهم المعروفة، فإنّهم- وإنْ نبزوهم بالرفض للمتقدّمين علي علي عليه السلام- لم يتمكّنوا من رفض رواياتهم، لاتّصافهم بأسمي صفات الوثاقة وأتمّ شروط الإعتبار والإعتماد، حتّي قال الذهبي:

__________________________________________________

(1) تاريخ الكوفة: 408.

(2) رجال النجاشي: 39- 40/ 80.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 28

«أبان بن تغلب [م، عو] الكوفي، شيعي جلد، لكنّه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته.

وقد وثّقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم. وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيّع. وقال السعدي: زائغ مجاهر.

فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحدّ الثقة العدالة والإتقان، فكيف يكون عدلًا من هو صاحب بدعة؟

وجوابه: إنّ البدعة علي ضربين: فبدعة صغري، كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبويّة، وهذه مفسدة بيّنة» «1».

ولذا قال السيّد شرف الدين العاملي رحمه اللَّه:

«وتلك صحاحهم الستّة وغيرها تحتجُّ برجالٍ من الشيعة، وصمهم الواصمون بالتشيّع والإنحراف، ونبزوهم بالرفض والخلاف، ونسبوا إليهم الغلوّ والإفراط والتنكّب عن الصراط، وفي شيوخ البخاري رجال من الشيعة نبزوا بالرفض ووصموا بالبغض، فلم يقدح ذلك في عدالتهم عند البخاري وغيره، حتّي احتجّوا بهم في الصّحاح بكلّ ارتياح.

إنّ الشيعة إنّما جروا علي منهاج العترة الطاهرة واتّسموا بسماتها، وإنّهم لايطبعون إلّاعلي غرارها ولا يضربون إلّاعلي قالبها، فلا نظير لمن اعتمدوا عليه من رجالهم في الصّدق والأمانة، ولا قرين لمن احتجّوا به من أبطالهم في الورع والإحتياط، ولا شبيه لمن ركنوا إليه من أبدالهم في الزهد والعبادة وكرم __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 5.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 29

الأخلاق

وتهذيب النفس ومجاهدتها ومحاسبتها بكلّ دقة، آناء اللّيل وأطراف النهار، لايبارون في الحفظ والضبط والإتقان، ولا يجارون في تمحيص الحقائق والبحث عنها بكلّ دقّة واعتدال.

وقد علم البرّ والفاجر حكم الكذب عند هؤلاء الأبرار، والالوف من مؤلَّفاتهم المنتشرة تلعن الكاذبين، وتعلن أنّ الكذب في الحديث من الموبقات الموجبة لدخول النار، ولهم في تعمّد الكذب في الحديث حكم قد امتازوا به، حيث جعلوه من مفطّرات الصائم، وأوجبوا القضاء والكفّارة علي مرتكبه في شهر رمضان، كما أوجبوهما بتعمّد سائر المفطّرات، وفقههم وحديثهم صريحان بذلك، فكيف يتّهمون- بعد هذا- في حديثهم وهم الأبرار الأخيار قوّامون اللّيل صوّامون النهار؟ وبماذا كان الأبرار من شيعة آل محمّد وأولياؤهم متّهمين، ودعاة الخوارج والمرجئة والقدريّة غير متّهمين، لولا التحامل الصريح أو الجهل القبيح؟ نعوذ باللَّه من الخذلان، وبه نستجير من سوء عواقب الظلم والعدوان».

ثمّ ذكر السيّد أسماء مائةٍ من رجال الشيعة الواردين في أسناد الصّحاح الستّة … «1»

أقول:

إنّ من النقاط الجديرة بالذكر في تراجم العلماء الشيعة والسنّة في كتب التاريخ والرجال لأهل السنّة:

أوّلًا: إنّهم يترجمون للرجل من أهل السنّة وإن كان خاملًا، وأمّا إن كان من علماء الشيعة فيحاولون التناسي عنه وإنْ كان كبيراً فيهم، ولذا تري تراجم __________________________________________________

(1) المراجعات: 102- 103 بتلخيص.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 30

علماء الإماميّة في كتب القوم الرجاليّة والتاريخيّة قليلة جدّاً.

وثانياً: إنّه إن كان من أهل السنّة يتعرّضون لجميع جوانب حياته، فيذكرون مشايخه وتلامذته ومؤلّفاته ومناقبه وما قيل فيه وحتّي أسفاره … أمّا العالم الإمامي فيختصرون الكلام بترجمته جدّاً، وربّما لا يترجمون لشخصيّة من أكابرهم المشهورين إلّابأسطرٍ أو سطرين!

وثالثاً: - وهي المهمّة هنا- أنّك تري بتراجم علمائهم إرتكاب الكبائر والموبقات الموجبة لدخول النار، ولا تجد شيئاً

من ذلك بتراجم علماء الإماميّة، ولو كان أحدهم متّهماً- ولو من قِبَل الخصوم- بموبقةٍ، لذكروا بل وهرّجوا …!

وسنورد نماذج من تراجم علماء الإماميّة، ونماذج من الموبقات المذكورة بتراجم علماء السنّة.

أهمُّ العلوم في المدرسة الشيعيّة … ص: 30

وكان أكثر الإهتمام والإشتغال- في مدرسة أهل البيت عليهم السلام- بمسائل العقائد وعلوم القرآن الكريم والأحكام الفقهيّة، وعلي هذه الامور كانت تدور بحوثهم وحلقات دروسهم، وفيها ألّفوا الكتب ووضعوا الرسائل التي لا تحصي، ونبغ فيها العلماء الفطاحل الأعلام في مختلف القرون:

علم الكلام … ص: 30

ففي علم الكلام، قال الشيخ الحرّ العاملي- وعنه السيّد حسن الصّدر- ما ملخّصه:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 31

إنّه لمّا توفّي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لم يكن من شيعة علي عليه السلام إلّاأربعة مخلصون: سلمان والمقداد وأبوذر وعمّار، ثمّ تبعهم جماعة، وكانوا يكثرون بالتدريج، فلمّا أخرج عثمان أباذر إلي الشام تشيّع علي يده جماعة كثيرون، ثمّ أخرجه معاوية إلي القري، فوقع في جبل عامل فتشيّعوا من ذلك اليوم «1».

وفي الصحابة أيضاً: ابن عبّاس وقيس بن سعد بن عبادة وصعصعة بن صوحان وأبوالطفيل … في جماعة آخرين «2».

أمّا في أصحاب الأئمّة وتلامذتهم، فالمشهورون منهم في علم الكلام:

سليم بن قيس الهلالي والأصبغ بن نباتة

وكميل بن زياد النخعي والحارث الهمداني وهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وحمران بن أعين وأبو جعفر محمّد بن علي بن النعمان الأحول، الملقّب بمؤمن الطاق وقيس الماصر

وعلي بن إسماعيل بن ميثم التمّار

والفضل بن شاذان النيسابوري __________________________________________________

(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 351.

(2) أعيان الشيعة 1: 133.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 32

وقد اشتهر من أعلام الإماميّة في علم الكلام:

أبو جعفر ابن قبة الرازي والحسن بن الحسين النوبختي والشيخ المفيد البغدادي والسيّد المرتضي الموسوي والشيخ أبوالفتح الكراجكي والشيخ أبو جعفر الطوسي والشيخ نصيرالدين الطوسي والعلّامة الحلّي

علوم القرآن … ص: 32

واشتهر في علوم القرآن من الإماميّة بعد طبقة الصحابة:

ميثم بن يحيي التمّار

وسعيد بن جبير

وإسماعيل بن عبدالرحمن السدّي، وهو المعروف بالسدّي الكبير

ومحمّد بن السائب الكلبي وأبو حمزة الثمالي وهشام بن محمّد الكلبي وأبان بن تغلب ويونس بن عبدالرحمن والحسن بن محبوب السرّاد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 33

ومحمّد بن مسعود العياشي وفرات بن إبراهيم الكوفي وعلي بن إبراهيم القمّي وأبو جعفر الطوسي وابن

شهرآشوب السروي وأبو علي الطبرسي والعلّامة الحلّي

علم الفقه والحديث … ص: 33

وأمّا الفقهاء والمحدّثون الكبار من أصحاب الأئمّة عليهم السلام ومن بعدهم، فنذكر منهم جماعةً:

علي بن أبي رافع وأبو حمزة الثمالي وجابر بن يزيد الجعفي وزيد بن علي بن الحسين وأبان بن تغلب ومحمّد بن مسلم الطائفي وأبو بصير يحيي بن القاسم وزرارة بن أعين ومعاوية بن عمّار الدّهني ومعروف بن خرّبوذ المكّي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 34

وجميل بن درّاج وصفوان بن يحيي وعبيداللَّه بن موسي العبسي وأحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي وأحمد بن محمّد بن خالد البرقي ومحمّد بن يعقوب الكليني وابن الجنيد الإسكافي وابن أبي عقيل العماني وابن بابويه الصدوق القمي والمفيد البغدادي والسيّد المرتضي الموسوي وأبو جعفر الطوسي وأبوالفتح الكراجكي وابن إدريس الحلّي وأبوالقاسم جعفر بن الحسن الحلّي والعلّامة الحلّي

وهنا فوائد: … ص: 34

الفائدة الاولي قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الأصل في العلوم الإسلاميّة- الموجودة بأيدي المسلمين، والتي نبغ فيها العلماء الأعلام في مختلف القرون- هم أئمّة أهل استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 35

البيت وعلي رأسهم أميرالمؤمنين وباب مدينة العلم عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.

الفائدة الثانية

إنّ من أعلام الإماميّة من تضلّع وتبحّر في عدّةٍ من العلوم الإسلاميّة، فالشيخ أبو جعفر الطوسي- مثلًا- فقيه، مفسّر، متكلّم، محدّث، وهذا في علماء هذه الطائفة كثير، وبين علماء سائر الفرق قليل.

الفائدة الثالثة

إنّ الجوامع الحديثيّة المعروفة عند الإماميّة، والتي عليها المدار في الفقه والحديث، هي الكتب الأربعة:

1- الكافي للشيخ أبي جعفر الكليني 2- من لا يحضره الفقيه، للشيخ ابن بابويه الصّدوق القمي 3- تهذيب الأحكام 4- الإستبصار فيما اختلف من الأخبار

وكلاهما للشيخ أبي جعفر الطوسي.

ثمّ الكتب الأربعة الثانية:

1- بحار الأنوار، للشيخ محمّد باقر المجلسي 2- الوافي، للشيخ الفيض الكاشاني 3- وسائل الشيعة، للشيخ

الحرّ العاملي 4- مستدرك وسائل الشيعة، للشيخ النوري الطبرسي.

الفائدة الرابعة

إنّ الكتب الفقهيّة التي ألّفها أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانت تحتوي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 36

امّهات المسائل في كثير من الأبواب، ثمّ الّفت الكتب الكبار شيئاً فشيئاً، حتّي توسّع الفقه الشيعي، وصُنّف فيه الموسوعات الضخمة مثل (الحدائق الناضرة) للشيخ يوسف البحراني، و (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) للشيخ محمّدحسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر.

تنبيه قد اكتفينا في طبقات العلماء في مختلف العلوم بذكر أسماء جماعةٍ من أشهرهم في كلّ علم، ابتداءً بالأصحاب وانتهاءً بالعلّامة الحلّي رحمه اللَّه.

وأمّا من جاء بعد العلّامة- وإلي يومنا هذا- من أكابر العلماء فلا يعدّون كثرةً.

***

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 37

تراجم أعلام الشيعة في كتب السنّة … ص: 37

ولأجل أنْ نعرّف بطائفةٍ من أعلام الإماميّة في الكلام والفقه والحديث وعلوم القرآن، ونشيد بدورهم في حفظ هذه العلوم ونشرها بين الامّة في مختلف الأدوار والأعصار، وخاصّةً علي لسان المخالفين، فإنّا نورد هنا طرفاً من تراجم علماء الشيعة في كتب أهل السنّة، مع الإلتفات إلي النقاط التي ذكرناها سابقاً:

الأصبغ بن نباته وهو من رجال ابن ماجة، وثّقه جماعة، وتكلّم فيه آخرون لتشيّعه، حتّي قال ابن حبّان: «فتن بحبّ عليّ فأتي بالطامّات فاستحقّ الترك». وقال ابن عدي: «عامّة ما يرويه عن علي لا يتابعه أحد عليه … وإذا حدّث عنه ثقة فهو عندي لا بأس بروايته، وإنّما أتي الإنكار من جهة من روي عنه». وذكر العقيلي: «كان يقول بالرّجعة»، وقال ابن سعد: «كان علي شرطة علي» «1».

الحارث الهمداني قال الذهبي: «حديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي مع تعنّته في الرجال فقد احتجّ به وقوّي أمره، والجمهور علي توهين أمره مع روايتهم __________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 1/ 316- 317.

استخراج

المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 38

لحديثه في الأبواب، فهذا الشعبي يكذّبه ثمّ يروي عنه، والظاهر أنّه كان يكذّب في لهجته وحكاياته، وأمّا في الحديث النبوي فلا، وكان من أوعية العلم».

وروي عن ابن أبي داود: كان الحارث الأعور أفقه الناس وأفرض الناس وأحسب الناس، تعلّم الفرائض عن علي.

وأورد الذهبي تكلّم بعضهم فيه، وكلماتهم كلّها ترجع إلي تشيّعه «1».

ونحن تكفينا رواية النسائي وسائر أصحاب السنن عنه.

كميل بن زياد

من رجال النسائي، ووثّقه ابن سعد وابن معين والعجلي وابن حبان وابن حجر العسقلاني وغيرهم «2».

سعيد بن جبير

روي الكشي بإسناده عن أبي عبداللَّه الصادق قال: «إنّ سعيد بن جبير كان يأتمّ بعلي بن الحسين عليه السلام، وكان علي بن الحسين يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجّاج له إلّاعلي هذا الأمر، وكان مستقيماً …» «3».

وروي البلاذري بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتدّ فيه وجع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال:

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 435.

(2) تهذيب التهذيب 8/ 402، تقريب التهذيب 6/ 136.

(3) رجال الكشي: 119/ 190.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 39

ايتوني بالدواة والكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلّون معه بعدي أبداً، فقالوا: أتراه يهجر! وتكلّموا ولغطوا، فغمّ ذلك رسول اللَّه وأضجره وقال: إليكم عنّي، ولم يكتب شيئاً» «1».

وقال ابن حجر العسقلاني: «ع- سعيد بن جبير الأسدي، مولاهم، الكوفي، ثقة ثبت فقيه … قتل بين يدي الحجّاج سنة 95» «2».

وقال ابن الجزري: «التابعي الجليل والإمام الكبير، عرض علي عبداللَّه ابن عبّاس، وعرض عليه أبو عمرو بن العلاء والمنهال بن عمرو. قال إسماعيل بن عبدالملك: كان سعيد بن جبير يؤمّنا في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبداللَّه- يعني ابن مسعود-

وليلة بقراءة زيد بن ثابت، قتله الحجّاج بواسط شهيداً في سنة 95 وقيل سنة 94» «3».

أبو حمزة الثمالي ذكر النديم في كتب التفسير: كتاب تفسير أبي حمزة قال: «واسمه ثابت ابن دينار، من أصحاب علي- يعني الإمام زين العابدين- من النجباء الثقات، وصحب أبا جعفر، يعني الإمام الباقر» «4».

وترجم له علماؤنا ووثّقوه، ورووا عن الإمام أبي عبداللَّه عليه السلام قوله: «أبو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه» «5».

__________________________________________________

(1) أنساب الأشراف 1/ 562.

(2) تقريب التهذيب 1/ 292.

(3) غاية النهاية 1/ 305.

(4) الفهرست: 36.

(5) رجال النجاشي: 115.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 40

وقد روي عنه من أصحاب الصّحاح الستّة: النسائي في مسند علي، وأبو داود وابن ماجة «1» والترمذي «2».

لكنْ تكلّم فيه جماعة من أجل التشيّع، فقد عدّه السليماني في قومٍ من الرافضة «3» وفي التقريب: رافضي «4».

وروي الذهبي: إنّه ذكر حديثاً في ذكر عثمان بن عفّان فنال منه، فقام ابن المبارك وفرّق ما كتب عنه «5».

جابر بن يزيد الجعفي قال الذهبي: «جابر بن يزيد [د، ت، ق بن الحارث الجعفي، الكوفي، أحد علماء الشيعة، له عن أبي الطفيل والشعبي وخلق، وعنه: شعبة وأبو عوانة وعدّة.

قال ابن مهدي عن سفيان: كان جابر الجعفي ورعاً في الحديث، ما رأيت أورع منه في الحديث.

وقال شعبة: صدوق. وقال يحيي بن أبي بكر عن شعبة: كان جابر إذا قال أخبرنا، وحدّثنا، وسمعت، فهو من أوثق الناس.

وقال وكيع: ما شككتم في شي ء فلا تشكّوا أنّ جابراً الجعفي ثقة.

وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة:

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1/ 116.

(2) ميزان الاعتدال 1/ 363.

(3) ميزان الاعتدال 1/ 363.

(4) تقريب التهذيب 1/ 166.

(5) ميزان الاعتدال 1/ 363.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 41

لئن تكلَّمت في جابر الجعفي لأتكلّمنّ فيك …».

ثمّ نقل عن جرير بن عبدالحميد أنّه تكلّم فيه لأنّه «كان يؤمن بالرجعة».

وعن سفيان بن عيينة أنّه تركه لمّا سمعه قال: دعا رسول اللَّه عليّاً فعلّمه ممّا تعلّم، ثمّ دعا علي الحسن فعلّمه ممّا تعلّم، ثمّ دعا الحسن الحسين فعلّمه ممّا تعلّم، ثمّ دعا ولده … حتّي بلغ جعفر بن محمّد.

وعن زائدة: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب النبي.

وعن الحميدي: سمعت رجلًا يسأل سفيان: أرأيت- يا أبا محمّد- الذين عابوا علي جابر الجعفي قوله: حدّثني وصيّ الأوصياء؟ فقال سفيان:

هذا أهونه «1».

فكان تشيّعه والعقائد الشيعيّة عنده هي السبب لتكلّم من تكلّم فيه …

هشام بن الحكم قال النديم: «من متكلّمي الشيعة، ممّن فتق الكلام في الإمامة وهذّب المذهب والنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام، حاضر الجواب» «2».

محمّد بن مسلم من أصحاب الإمام أبي جعفر الباقر والإمام أبي عبداللَّه الصادق عليهما السلام، وقد روي أصحابنا عن الصادق عليه السلام. أنّه قال: أوتاد الأرض وأعلام الدين أربعة: محمّد بن مسلم وبريد بن معاوية وليث بن البختري __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 379.

(2) الفهرست: 223.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 42

المرادي وزرارة بن أعين «1».

وإنّه قال فيهم: أربعة نجباء امناء اللَّه علي حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست «2».

وأنّه: هؤلاء حفّاظ الدين وامناء أبي علي حلاله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا والسّابقون إلينا في الآخرة «3».

وقال العلماء في حقّه: فقيه ورع، وجه أصحابنا بالكوفة، من أوثق الناس.

وذكروا أنّه توفّي سنة 150 «4».

وترجم له علماء الجمهور في أغلب كتبهم، ولم يتكلّم فيه أحد منهم بشي ء.

وقد أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، واستشهد به البخاري، وروي

له في كتاب الأدب المفرد «5».

معاوية بن عمّار

من أصحاب الإمام محمّد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام، وله كتب في المسائل الفقهيّة مثل: كتاب الصلاة وكتاب الحج وكتاب الزكاة وكتاب __________________________________________________

(1) رجال الكشي: 238/ 432.

(2) رجال الكشي: 170/ 286.

(3) رجال الكشي: 136- 137/ 219.

(4) رجال الكشي: 161- 169، رجال النجاشي: 323/ 882، رجال الشيخ: 294/ 4293، خلاصة الأقوال: 251/ 858.

(5) تهذيب الكمال 26/ 416.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 43

الطلاق …

قال النجاشي: كان وجهاً من أصحابنا ومقدّماً، كبير الشأن، عظيم المحل، ثقة، وكان أبوه عمّار ثقة في العامّة وجهاً … ومات معاوية سنة 175 «1».

وأخرج عنه مسلم والنسائي والترمذي والبخاري في أفعال العباد «2».

قال الذهبي وابن حجر: صدوق «3».

حمران بن أعين من رجال ابن ماجة، روي عن أبي الطفيل وغيره.

كان يتقن القرآن وقرأ عليه حمزة الزيّات، وروي عنه جماعة من الأكابر، منهم سفيان الثوري.

ترجم له البخاري في تاريخه فلم يذكر له جرحاً.

وقال ابن عدي- بعد أن ذكر له بعض الأخبار-: «وحمران- هذا- له غير ما ذكرنا من الحديث وليس بالكثير، ولم أر له حديثاً منكراً جدّاً فيسقط من أجله، وهو غريب الحديث، ممّن يكتب حديثه».

وذكره ابن حبّان في الثقات.

وقد تكلّم فيه جماعة من أجل التشيّع، ورماه بعضهم بالغلوّ في التشيّع وآخرون بالرفض.

وقال ابن الجزري: «حمران بن أعين، أبو حمزة، الكوفي، مقرئ كبير،

__________________________________________________

(1) رجال النجاشي: 411/ 1096 وانظر: خلاصة الأقوال: 273/ 995.

(2) تقريب التهذيب 2/ 260.

(3) ميزان الاعتدال 4/ 137، تقريب التهذيب 2/ 260.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 44

أخذ القراءة عرضاً عن عبيد بن نضلة وأبي حرب بن أبي الأسود وأبيه أبي الأسود ويحيي بن وئاب ومحمّد بن علي الباقر، روي القراءة عنه عرضاً

حمزة الزيّات.

وكان ثبتاً في القراءة، يرمي بالرفض.

قال الذهبي: توفّي في حدود الثلاثين والمائة أو قبلها» «1».

معروف بن خرّبوذ

من أصحاب الإمام زين العابدين، والإمام الباقر، والإمام الصادق، عليهم السلام.

قال الكشي: أجمعت العصابة علي تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام، وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأوّلين:

زرارة ومعروف بن خربوذ … «2».

وقد أخرج عنه: البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.

قال الذهبي: صدوق شيعي «3».

وقال ابن حجر: صدوق ربّما وهم، وكان أخباريّاً علّامةً «4».

__________________________________________________

(1) التاريخ الكبير 3/ 80، الكامل في الضعفاء 3/ 366، ميزان الاعتدال 1/ 604، كتاب الثقات 4/ 179، غاية النهاية في طبقات القرّاء 1/ 261.

(2) رجال الكشي: 238/ 431.

(3) ميزان الاعتدال 4/ 144.

(4) تقريب التهذيب 2/ 264.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 45

الحسن بن محبوب السرّاد

روي عن الإمام موسي بن جعفر، والإمام علي بن موسي الرضا، عليهما السلام، وثّقه أصحابنا وقالوا: كان جليل القدر، يعدّ في الأركان الأربعة في عصره «1».

ولم أجد له ترجمةً في كتب القوم، إلّاعند ابن حجر، نقلًا عن شيخ الطائفة، ولم يذكر سوي أسماء مشايخه والرواة عنه «2».

السدّي الكبير

ذكره شيخ الطائفة في أصحاب الإمام زين العابدين والإمام الباقر عليهما السلام «3».

وأخرج عنه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة «4».

ووثّقه: أحمد والعجلي وابن حبّان، وقال النسائي: صالح، وقال ابن عدي: مستقيم الحديث، صدوق «5».

وقال ابن حجر: صدوق يهم، رمي بالتشيّع «6».

__________________________________________________

(1) رجال الشيخ الطوسي: 334، خلاصة الأقوال: 97/ 222، قاموس الرجال 3/ 347. الفهرست للشيخ الطوسي: 96/ 162.

(2) لسان الميزان 2/ 288 الطبعة الحديثة.

(3) رجال الشيخ: 109/ 1062.

(4) تقريب التهذيب 1/ 73.

(5) تهذيب التهذيب 1/ 274.

(6) تقريب التهذيب 1/ 73.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 46

بل

قال الذهبي: «قال حسين بن واقد المروزي: سمعت من السدّي، فما قمت حتّي سمعته يشتم أبابكر وعمر، فلم أعد إليه» «1».

الحسن بن الحسين النوبختي أبو محمّد الحسن بن الحسين بن علي بن العبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل ابن نوبخت، النوبختي، البغدادي الكاتب، المتوفّي سنة 402.

هو من كبار علمائنا من آل نوبخت، وقد ترجم له الخطيب البغدادي فقال: «كان سماعه صحيحاً، وقال الأزهري: كان النوبختي رافضيّاً ردي ء المذهب، سألت البرقاني عن النوبختي فقال: كان معتزليّاً وكان يتشيّع إلّاأنّه تبيّن أنّه صدوق» «2».

وقال ابن حجر: «قال العقيقي: كان يذهب إلي الإعتزال، ثقة في الحديث.

وقال البرقاني: كان معتزليّاً وكان يتشيّع إلّاأنّه تبيّن أنّه صدوق» «3».

وقال السمعاني: «كان معتزليّاً رافضيّاً، ردي ء المذهب، إلّاأنّه صدوق صحيح السّماع» «4».

أبو جعفر الكليني قال الذهبي: «الكليني، شيخ الشيعة وعالم الإماميّة، صاحب التصانيف،

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 237.

(2) تاريخ بغداد 7/ 299.

(3) لسان الميزان 2/ 199- 201 الطبعة القديمة.

(4) الأنساب 5/ 529.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 47

أبوجعفر محمّد بن يعقوب الرازي الكليني- بالنون-. روي عنه: أحمد بن إبراهيم الصيمري وغيره، وكان ببغداد، وبها توفي، وقبره مشهور. مات سنة 328. وهو بضمّ الكاف وإمالة اللّام. قيّده الأمين» «1».

أبو جعفر ابن بابويه قال الذهبي: «ابن بابويه، رأس الإماميّة، أبو جعفر محمّد بن العلّامة علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمي، صاحب التصانيف السائرة بين الرافضة، يضرب بحفظه المثل، يقال: له ثلاث مائة مصنّف منها: كتاب دعائم الإسلام، كتاب الخواتيم، كتاب الملاهي، كتاب غريب حديث الأئمّة، كتاب التوحيد، كتاب دين الإماميّة.

وكان أبوه من كبارهم ومصنّفيهم.

حدّث عن أبي جعفر جماعة، منهم: ابن النعمان المفيد، والحسين بن عبداللَّه الفحّام، وجعفر بن حسنيكه القمّي» «2».

الشيخ المفيد

قال الذهبي: «الشيخ

المفيد، عالم الرافضة، صاحب التصانيف، الشيخ المفيد، واسمه محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي الشيعي، ويعرف بابن المعلّم.

كان صاحب فنون وبحوث وكلام واعتزال وأدب، ذكره ابن أبي طي في __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 15/ 280.

(2) سير أعلام النبلاء 16/ 303.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 48

تاريخ الإماميّة فأطنب وأسهب وقال: كان أوحد في جميع فنون العلم، الأصلين والفقه، إلي أن قال: مات سنة 413 وشيّعه ثمانون ألفاً.

وقيل: بلغت تواليفه مائتين، لم أقف علي شي ء منها وللَّه الحمد، يكنّي أباعبداللَّه» «1».

السيّد المرتضي قال الذهبي: «المرتضي- العلّامة الشريف المرتضي، نقيب العلويّة، أبوطالب، علي بن الحسين بن موسي، القرشي العلوي الحسيني الموسوي البغدادي، من ولد موسي الكاظم.

ولد سنة 355 وحدّث عن: سهل بن أحمد الديباجي وأبي عبداللَّه المرزباني وغيرهما.

قال الخطيب: كتبت عنه.

قلت: هو جامع كتاب نهج البلاغة المنسوبة ألفاظه إلي الإمام علي رضي اللَّه عنه، ولا أسانيد لذلك وبعضها باطل وفيه حق، ولكن فيه موضوعات يجلّ الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟ وقيل: بل جمع أخيه الشريف الرضي.

وديوان المرتضي كبير، وتواليفه كثيرة، وكان صاحب فنون، وله كتاب الشافي في الإمامة، والذخيرة في الاصول، وكتاب التنزيه، وكتاب إبطال القياس، وكتاب في الإختلاف في الفقه، وأشياء كثيرة، وديوانه في أربع مجلّدات.

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 17/ 344.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 49

وكان من الأذكياء الأولياء، المتبحّرين في الكلام والإعتزال والأدب والشعر، لكنّه إمامي جلد، نسأل اللَّه العفو.

قال ابن حزم: الإماميّة كلّهم علي أنّ القرآن مبدّل وفيه زيادة ونقص، سوي المرتضي فإنّه كفّر من قال ذلك، وكذلك صاحباه أبو يعلي وأبوالقاسم الرازي.

قلت: في تواليفه سبّ أصحاب رسول اللَّه، فنعوذ باللَّه من علمٍ لا ينفع.

توفّي المرتضي في سنة 436»

«1».

أبوالفتح الكراجكي قال الذهبي: «الكراجكي، شيخ الرافضة وعالمهم، أبوالفتح، محمّد بن علي، صاحب التصانيف. مات بمدينة صور سنة 449» «2».

أبو جعفر الطوسي قال الذهبي: «أبو جعفر الطوسي، شيخ الشيعة وصاحب التصانيف، أبوجعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي.

قدم بغداد، وتفقّه أوّلًا للشافعي، ثمّ أخذ الكلام واصول القوم عن الشيخ المفيد رأس الإماميّة، ولزمه وبرع، وعمل التفسير، وأملي أحاديث ونوادر في مجلّدين، عامّتها عن شيخه المفيد.

روي عن هلال الحفّار والحسين بن عبيداللَّه الفحّام والشريف المرتضي __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 17/ 558 وفيه مافيه.

(2) سير أعلام النبلاء 18/ 121.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 50

وأحمد بن عبدون وطائفة.

روي عنه ابنه أبو علي.

وأعرض عنه الحفّاظ لبدعته، وقد احرقت كتبه عدّة نوب في رحبة جامع القصر، واستتر لما ظهر عنه من التنقّص بالسلف، وكان يسكن بالكرخ محلّة الرافضة.

ثمّ تحوّل إلي الكوفة وأقام بالمشهد يفقّههم.

ومات في المحرّم سنة 460.

وكان يعدّ من الأذكياء.

ذكره ابن النجار في تاريخه.

وله تصانيف كثيرة منها: كتاب تهذيب الأحكام، كبير جدّاً، وكتاب مختلف الأخبار، وكتاب المفصح في الإمامة. ورأيت له مؤلّفاً في فهرسة كتبهم وأسماء مؤلّفيها» «1».

ابن شهرآشوب السروي قال ابن حجر: «محمّد بن علي بن شهرآشوب، أبو جعفر السروي المازندراني، من دعاة الشيعة، فقال ابن أبي طي في تاريخه: اشتغل بالحديث ولقي الرجال ثمّ تفقّه وبلغ النهاية في فقه أهل البيت، ونبغ في الاصول، ثمّ تقدّم في القراءات والغريب والتفسير والعربيّة، وكان مقبول الصورة، مليح العرض علي المعاني، وصنّف في المتفق والمفترق والمؤتلف والمختلف، والفصل والوصل، وفرّق بين رجال الخاصّة ورجال العامّة، يعني أهل السنّة

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 18/ 334.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 51

والشيعة، كان كثير الخشوع. مات في شعبان سنة 558»

«1».

وقال الصفدي: «أحد شيوخ الشيعة، حفظ القرآن وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في اصول الشيعة، كان يرحل إليه من البلاد، ثمّ تقدّم في علم القرآن والغريب والنحو، ووعظ علي المنبر أيّام المقتفي ببغداد فأعجبه وخلع عليه.

وكان بهيّ المنظر حسن الوجه والشيبة، صدوق اللّهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجّد، لا يكون إلّاعلي وضوء. أثني عليه ابن أبي طي في تاريخه ثناءً كثيراً …» «2».

الشيخ نصيرالدين الطوسي الشيخ نصيرالدين محمّد بن محمّد الطوسي المتوفّي سنة 672.

قال الذهبي- في وفيات السنة المذكورة-: «وكبير الفلاسفة خاجا نصيرالدين محمّد بن محمّد بن حسن الطوسي، صاحب الرصد» «3».

«وكان رأساً في علم الأوائل، ذا منزلة من هولاكو» «4».

وقال ابن كثير: «النصير الطوسي … اشتغل في شبيبته وحصّل علم الأوائل جيّداً، وصنّف في ذلك وفي علم الكلام، وشرح الإشارات لابن سينا، وقد ذكره بعض البغاددة فأثني عليه وقال: كان عاقلًا، فاضلًا، كريم الأخلاق، ودفن في مشهد موسي بن جعفر في سردابٍ كان قد اعدّ للخليفة الناصر لدين اللَّه، وهو الذي كان قد بني الرصد بمراغة، ورتّب فيه الحكماء من الفلاسفة

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 5/ 305.

(2) الوافي بالوفيات 4/ 164.

(3) تذكرة الحفّاظ 4/ 1491.

(4) العبر في خبر من غبر 3/ 326.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 52

والمتكلّمين والفقهاء والمحدّثين والأطبّاء وغيرهم من أنواع الفضلاء، وبني له فيه قبّة عظيمة، وجعل فيه كتباً كثيرة جدّاً …» «1».

وقال الصّفدي: «الفيلسوف صاحب علم الرياضي، كان رأساً في علم الأوائل، لاسيّما في الأرصاد والمجسطي، فإنّه فاق الكبار … وكان حسن الصّورة، سمحاً، كريماً، جواداً، حليماً، حسن العشرة، غزير الفضل … وكان للمسلمين به نفع، خصوصاً الشيعة والعلويّين والحكماء وغيرهم …» «2».

العلّامة الحلّي جمال الدين أبو

منصور الحسن بن يوسف بن علي بن مطهّر الحلّي المتوفّي سنة 726.

ترجم له الصفدي فقال: «الإمام العلّامة ذوالفنون جمال الدين ابن المطهّر الأسدي الحلّي المعتزلي، عالم الشيعة وفقيههم، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته، تقدّم في دولة خربندا تقدّماً زائداً، وكان له مماليك وإدارات كثيرة وأملاك جيّدة، وكان يصنّف وهو راكب، شرح مختصر ابن الحاجب وهو مشهور في حياته، وله كتاب في الإمامة ردّ عليه الشيخ تقي الدين ابن تيميّة في ثلاث مجلّدات، وكان يسمّيه ابن المنجَّس.

وكان ابن المطهَّر ريّض الأخلاق، مشتهر الذكر، تخرَّج به أقوام كثيرة، وحجّ في أواخر عمره وخمل وانزوي إلي الحلّة، وتوفّي سنة 25 وقيل 26 وسبعمائة في شهر المحرّم وقد ناهز الثمانين. وكان إماماً في الكلام __________________________________________________

(1) البداية والنهاية 13/ 267- 268.

(2) الوافي بالوفيات 1/ 179- 183.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 53

والمعقولات.

قال الشيخ شمس الدين: قيل اسمه يوسف، وله: الأسرار الخفيّة في العلوم العقليّة» «1».

وهكذا ترجم له ابن حجر العسقلاني، قال: «لازم النصير الطوسي مدّةً، واشتغل في العلوم العقليّة فمهر فيها، وصنّف في الاصول والكلام، وكان صاحب أموال وغلمان وحفدة، وكان رأس الشيعة بالحلّة، واشتهرت تصانيفه، وتخرّج به جماعة، وشرحه علي مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حلّ ألفاظه وتقريب معانيه، وصنّف في فقه الإماميّة، وكان قيّماً بذلك داعيةً إليه» «2».

من تراجم علماء السنّة في كتبهم … ص: 53

وعلي الجملة، فإنّهم إمّا يهملون علماء الإماميّة فلا يترجمون لهم أصلًا، وإلّا ترجموا بسطرين أو أسطرٍ قليلةٍ، مع أغلاطٍ وهفوات كثيرة … لكنْ لا تجد في هذه التراجم نسبة شي ء من الآثام والقبائح الموبقة، ولو كان- ولو نسبةً كاذبةً- لذكروا، كما يذكرون بتراجم علمائهم …

فهذا الذهبي الذي نقلنا عن كتابه (سير أعلام النبلاء) تراجم جملةٍ من

علمائنا … قد ذكر فيه بتراجم علماء السنّة أشياء قبيحة مخجلة، نورد بعضها في هذا المجال:

فقد ذكر بترجمة زاهر بن طاهر بعد أنْ وصفه ب «الشيخ العالم، المحدّث __________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات 13/ 85.

(2) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/ 71- 72.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 54

المفيد، المعمّر، مسند خراسان، أبوالقاسم ابن الإمام أبي عبدالرحمن، النيسابوري، الشحامي، المستملي، الشروطي، الشاهد»!! وعدّد مشايخه وتصانيفه … ذكر عن جماعةٍ أنّه كان يخلُّ بالصّلوات إخلالًا ظاهراً … «1»

وذكر بترجمة عمر بن محمّد، المعروف بابن طبرزد، وقد وصفه ب «الشيخ المسند الكبير الرحلة، أبو حفص عمر بن محمّد بن معمّر بن …»

وعدّد شيوخه ومن روي عنه من المشاهير كابن النجّار والكمال ابن العديم والمجد ابن عساكر والقطب ابن عصرون وأمثالهم، ثمّ أورد قول ابن نقطة:

«ثقة في الحديث»، وقول ابن الحاجب: «كان مسند أهل زمانه»، حتّي نقل عن ابن النجّار: «كان متهاوناً بامور الدين، رأيته غير مرّة يبول من قيام، فإذا فرغ من الإراقة أرسل ثوبه وقعد من غير استنجاءٍ بماءٍ ولا حجر» قال الذهبي:

«قلت: لعلّه يرخّص بمذهب من لا يوجب الإستنجاء!».

ثمّ حكي عن ابن النجّار: «وكنّا نسمع منه يوماً أجمع، فنصلّي ولا يصلّي معنا، ولا يقوم لصلاة …».

قال الذهبي: «وقد سمعت أبا العبّاس ابن الظاهري يقول: كان ابن طبرزد لايصلّي» «2».

ثمّ إنّ الذهبي روي خبرين بترجمة مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي القصّاب في سند أحدهما «زاهر» وفي الآخر «عمر» فقال: «في الإسنادين ضعف، من جهة زاهر وعمر، لإخلالهما بالصّلاة، فلو كان فيَّ ورع لَما رويتُ __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 20/ 9.

(2) سير أعلام النبلاء 21/ 507.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 55

لمن هذا نعته» «1».

لكنْ في

مشايخ الذهبي غير واحدٍ من هؤلاء، فقد نصَّ- مثلًا- بترجمة علي بن مظفّر الإسكندراني، شيخ دار الحديث النفيسيّة!! المتوفّي سنة 716:

«لم يكن عليه ضوء في دينه، وحملني الشّره علي السماع من مثله، واللَّه يسامحه، كان يخلُّ بالصّلوات، ويُرمي بعظائم!!» «2».

وذكر بترجمة الشيخ المعمّر أبي المعالي عثمان بن علي بن المعمّر بن أبي عِمامة البغدادي البقّال: «قال ابن النجّار: كان عسراً، غير مرضي السيرة، يخلُّ بالصّلوات، ويرتكب المحظورات» «3».

وبترجمة الجعابي الموصوف ب «الحافظ البارع العلّامة، قاضي الموصل، أبوبكر محمّد بن عمر بن محمّد بن سلم التميمي البغدادي» قال بعد ذكر مشايخه، وأنّه حدّث عنه: أبوالحسن الدارقطني وأبو حفص ابن شاهين وابن رزقويه وابن مندة والحاكم … وبعد ذكر بعض الكلمات في الثناء عليه … قال:

«ونقل الخطيب عن أشياخه أنّ ابن الجعابي كان يشرب في مجلس ابن العميد. وقال أبو عبدالرحمن السلمي: سألت الدارقطني عن ابن الجعابي، فقال: خلّط، وذكر مذهبه في التشيّع، وكذا نقل أبو عبداللَّه الحاكم عن الدارقطني قال: وحدّثني ثقة أنّه خلّي ابن الجعابي نائماً وكتب علي رجله، قال: فكنت أراه ثلاثة أيّام لم يمسّه الماء …»..

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 10/ 317.

(2) معجم الشيوخ 2/ 58.

(3) سير أعلام النبلاء 19/ 453.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 56

«قال الحاكم: قلت للدّارقطني: يبلغني عن ابن الجعابي أنّه تغيَّر عمّا عهدناه. قال: وأيّ تغيّر!! قلت: باللَّه هل اتّهمته؟! قال: إي واللَّه. ثمّ ذكر أشياء.

فقلت: وضح لك أنّه خلط في الحديث؟! قال: إي واللَّه، قلت: هل اتّهمته حتّي خفت المذهب؟! قال: ترك الصّلاة والدّين» «1».

أقول:

لكنّ بقاء الكتابة علي رجله ثلاثة أيّام، إنّما يدلّ علي عدم غسله لرجليه في الوضوء، ولا يدلّ علي عدم الوضوء وترك الصلاة، فلعلّه كان من القائلين بالمسح

في الوضوء، تعييناً أو تخييراً، فإنّ هذا مذهب كثيرٍ من الصحابة والتابعين والفقهاء الكبار، كابن جرير الطبري- صاحب التفسير والتاريخ- وأتباعه … «2»

* وأمّا شرب المسكر، فمذكور بتراجم كثيرٍ من أعلام القوم:

ففي ترجمة نصرك وهو: «الحافظ، المجوّد، الماهر، الرحّال، أبو محمّد، نصر بن أحمد بن نصر، الكندي البغدادي»: «قال أبوالفضل السليماني:

يقال إنّه كان أحفظ من صالح بن محمّد جزرة، إلّاأنّه كان يتّهم بشرب المسكر» «3».

وبترجمة علي بن سراج وهو: «الإمام الحافظ البارع، أبوالحسن ابن أبي الأزهر»: «إلّا أنّ الدارقطني قال: كان يشرب ويسكر» «4».

وبترجمة الذهبي وهو: «الحافظ العالم الجوّال، أبوبكر أحمد بن محمّد

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 16/ 88.

(2) قد بحثنا ذلك في رسالتنا: (حكم الأرجل في الوضوء).. وهو من البحوث المنشورة عن مؤتمر ألفيّة الشيخ المفيد رحمه اللَّه في قم المقدّسة سنة 1413.

(3) سير أعلام النبلاء 13/ 538.

(4) سير أعلام النبلاء 14/ 284.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 57

ابن حسن بن أبي حمزة البلخي ثمّ النيسابوري» فذكر مشايخه ومن حدّث عنه وهم أكابر المحدّثين الحفّاظ ثمّ قال: «لكنّه مطعون فيه. قال الإسماعيلي: كان مستهتراً بالشرب» «1».

وبترجمة عبداللَّه بن محمّد بن الشرقي: «ذكر الحاكم أنّه رآه … قال: ولم يدَعِ الشرب إلي أن مات، فنقموا عليه ذلك، وكان أخوه لا يري لهم السّماع منه لذلك» «2».

وبترجمة أبي عبيد الهروي: «قال ابن خلّكان … قيل: إنّه كان يحبّ البِذلة، ويتناول في الخلوة، ويعاشر أهل الأدب في مجالس اللذّة والطرب» «3».

وبترجمة الزوزني، وهو: «الشيخ المسند الكبير، أبو سعد أحمد بن محمّد … من مشاهير الصوفيّة»!! حدّث عنه: ابن عساكر والسمعاني وابن الجوزي وآخرون، «قال السمعاني: كان منهمكاً في الشرب، سامحه اللَّه …

وقال ابن الجوزي: ينسبونه إلي التسمّح

في دينه» «4».

أقول:

ومثل هذه القضايا في تراجمهم كثير، وهم حفّاظ، أئمّة، يقتدون بهم …

وقد جاء بترجمة «الإمام!! القدوة!! العابد!! الواعظ!! محمّد بن يحيي الزبيدي، نزيل بغداد» عن السمعاني: «سمعت جماعةً يحكون عنه أشياء، السكوت عنها أَوْلي وقيل: كان يذهب إلي مذهب السالميّة، ويقول: … إنّ __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 14/ 461.

(2) سير أعلام النبلاء 15/ 40.

(3) سير أعلام النبلاء 17/ 147.

(4) سير أعلام النبلاء 20/ 57.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 58

الشارب والزاني لا يلام، لأنّه يفعل بقضاء اللَّه وقدره» «1».

فهذا مذهب القوم، وهذه أعمالهم …

وجاء بترجمة «الشيخ المعمَّر المحدّث!!» أحمد بن الفرج الحجازي من مشايخ: النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم من الأئمّة، عن محمّد بن عوف: «هو كذّاب!! رأيته في سوق الرستن وهو يشرب مع مُردان وهو يتقيّأ!! وأنا مشرفٌ عليه من كوّة بيتٍ كانت لي فيه تجارة سنة 219 …» «2».

فاجتمع عنده: الشرب!! والكذب! والعبث بالمردان!!

* وكان العبث بالمردان من أفعال غير واحدٍ من أعلام القوم، فقد جاء بترجمة قاضي القضاة!! يحيي بن أكثم: «قال فضلك الرازي: مضيت أنا وداود الأصبهاني إلي يحيي بن أكثم، ومعنا عشرة مسائل، فأجاب في خمسةٍ منها أحسن جواب، ودخل غلام مليح، فلمّا رآه اضطرب، فلم يقدر يجي ء ولا يذهب في مسألةٍ. فقال داود: قم، اختلط الرجل» «3».

وبترجمة الخطيب البغدادي الذي أطنب وأسهب الذهبي ترجمته بعد أن وصفه ب «الإمام الأوحد، العلّامة المفتي، الحافظ الناقد، محدّث الوقت …

خاتمة الحفّاظ» ونحو ذلك من الألقاب، وبعد أن أورد كلمات الأئمّة في مدحه، قال:

«كان سبب خروج الخطيب من دمشق إلي صور أنّه كان يختلف إليه __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 20/ 318.

(2) سير أعلام النبلاء 12/ 585.

(3) سير

أعلام النبلاء 12/ 10.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 59

صبي مليح، فتكلّم الناس في ذلك» «1».

وبترجمة ابن الأنماطي وهو: «الشيخ العالم الحافظ، المجوّد، البارع، مفيد الشام، تقي الدين أبوالطاهر إسماعيل بن عبداللَّه» عن ابن الحاجب:

«وكان يُنبَز بالشرّ، سألت الحافظ الضياء عنه فقال: حافظ ثقة مفيد إلّاأنّه كثير الدعابة مع المُرد» «2».

وجاء بترجمة الحافظ أبي بكر أحمد بن إسحاق الصِبغي: «قال الحاكم:

وسمعت أبابكر ابن إسحاق يقول: خرجنا من مجلس إبراهيم الحربي ومعنا رجل كثير المجون، فرأي أمرد، فتقدّم فقال: السلام عليك، وصافحه وقبَّل عينيه وخدّه، ثمّ قال: حدّثنا الدَبَري بصنعاء بإسناده، قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا أحبّ أحدكم أخاه فليعلمه. فقلت له: ألا تستحي؟! تلوط وتكذب في الحديث!! يعني: أنّه ركّب إسناداً للمتن» «3».

هذا، ولا اريد أنْ اطيل في هذا المقام، وفي كتابنا «الإنتقاء من سير أعلام النبلاء» من هذا القبيل كثير عن الصحابة والتابعين وكبار الرجال … وبعضه عجيبٌ وغريبٌ!

كانت تلك دراسة مقارنة موجزة عن أهمّ العلوم- وهي العقائد والفقه والتفسير والحديث- عند الشيعة الإماميّة، ولمحة عن تراجم علماء هذه الطائفة في العلوم المذكورة … وموقف الرّجاليين من أهل السنّة منهم، ولمحة عن تراجم علماء السنّة، حسبما ذكروا بتراجمهم في أشهر كتبهم …

وقد تبيّن أنّ الإهمال، أو الاختصار في الترجمة مع الطعن في المذهب، من جملة أساليب الخصوم في المحاربة مع هذا المذهب وأعلامه.

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 18/ 281.

(2) سير أعلام النبلاء 22/ 174.

(3) سير أعلام النبلاء 15/ 487.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 60

ولكنّهم- مع ذلك- لم يُتّهموا بموبقةٍ من الموبقات.

علي خلاف ما جاء بأحوال علماء المخالفين.

فلينظر العاقل المتدبّر أنّ الإماميّة عمّن يأخذون، وأنّ غيرهم لمن يتّبعون!

***

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 61

كتب الردود في المكتبة الشيعيّة … ص: 61

لقد واجهت هذه الطائفة- منذ اليوم الأوّل- شتّي أنواع الظلم والإضطهاد، من القتل والحبس والتشريد، ولم تترك الحكومات- وأهل العلم المتعاونون مع الحكّام في كلّ دور- وسيلةً ولم تفوّت فرصةً إلّاواستفادت منها وانتهزتها، للقضاء علي هذا المذهب وشخصيّاته ورموزه، علي مختلف الأصعدة …

وهذه القضايا مسجّلة في كتب التّواريخ عند جميع الفرق.

فلمّا لم تجد هذه الأساليب للقضاء علي التشيّع … جعلوا يتّبعون الأساليب الاخري، …

فكان ترك الذكر والإهمال للعلماء والشخصيّات الشيعيّة في كتب التراجم والرجال أحد الأساليب … وقد أوضحنا ذلك بقدر الضرورة.

ومن الطرق والأساليب في كلّ عصرٍ وفي كلّ بلدٍ من البلدان الإسلاميّة:

تأليف الكتب للتهجّم علي الشيعة والتشيّع، وقد نهجوا هذا النهج منذ القديم، وما زال متّبعاً حتّي الآن.

تأليف الكتب للصدّ عن التشيّع … ص: 61

اشارة

فإنّ كثيراً من الكتب التي وضعها العلماء السابقون من أهل السنّة في الردّ علي الشيعة، إنّما الّفت للحيلولة دون انتشار هذا المذهب، والصدّ عن إقبال استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 62

الناس عليه ودخول الامم فيه …

وهذا ما صرّح به ونصّ عليه غير واحدٍ من علماء أهل السنّة في مختلف البلاد.

في الحجاز … ص: 62

ففي الحجاز- مثلًا- لمّا رأي القوم كثرة الشيعة وازديادها في مكّة المكرّمة، طلبوا من ابن حجر المكّي أن ينشر كتابه (الصواعق المحرقة) وذلك ما نصّ عليه في ديباجته إذ قال:

«فإنّي سئلت قديماً في تأليف كتابٍ يبيّن حقيّة خلافة الصدّيق وإمارة ابن الخطّاب، فأجبت إلي ذلك، مسارعةً في خدمة هذا الباب، فجاء- بحمد اللَّه- انموذجاً لطيفاً، ومنهاجاً شريفاً، ومسلكاً منيفاً.

ثمّ سئلت قديماً في إقرائه في رمضان سنة 950 بالمسجد الحرام، لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكّة المشرّفة، أشرف بلاد الإسلام، فأجبت إلي ذلك، رجاءً لهداية بعض من زلّ به قدمه عن أوضح المسالك …».

في الهند … ص: 62

وفي الهند، كذلك … وخاصّة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر …

فقد نبغ بين الشيعة الإماميّة في تلك البلاد، فقيه كبير، ومجاهد عظيم، هو السيّد دلدار علي بن معين الدين النقوي المولود سنة 1166 والمتوفّي سنة 1235 «1»، الذي انتشرت بفضل جهوده تعاليم المذهب الجعفري في تلك الأرجاء، وانتظمت علي يده امور الطائفة، بعد أن كانوا متفرّقين ليست لهم __________________________________________________

(1) انظر: أعيان الشيعة 6/ 425، هدية العارفين 5/ 772.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 63

دعوة إلي مذهبهم، وما كانت لهم جامعة تجمعهم، واشتغل طيلة أيّام حياته الشريفة بترويج الدين ونشر الأحكام بإقامة الشعائر وتأليف الكتب وتربية العلماء.

ولمّا وصل خبره إلي حسن رضاخان- من وزراء حكومة «أوده» في لكنهو- استدعاه للإقامة بلكنهو، فهاجر إليها، وانصرف إلي بثّ تعاليم الدين وإقامة الشعائر.

وكان العلّامة المولي محمّد عليّ الكشميري الشهير بپادشاه «1» نزيل فيض آباد، قد ألّف في تلك الأيّام رسالة في فضل صلاة الجمعة، حثّ فيها السّلطان آصف الدولة ابن الشجاع بن صدر جنك سلطان مملكة «أوده» في لكنهو، علي إقامة الجمعة، وذكر من هو أهل

لإمامة الجماعة، وهم: السيّد دلدار عليّ وتلميذاه الميرزا محمّد خليل والأمير السيّد مرتضي، فأمر السلطان بإقامتها، ورشّح السيّد لها. فأقامها ابتداء من ظهر اليوم الثالث عشر من رجب- يوم ولادة أميرالمؤمنين عليه السلام- سنة 1200.

ثمّ اقيمت الجمعة في السابع والعشرين منه، يوم مبعث النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وكانت أوّل صلاة جماعة للشيعة تقام في تلك الديار.

ثمّ استمرّت الجماعة والخطب، وانتشرت أندية الذكر ومجالس الوعظ، واهتمّ السلطان لترويج الشريعة، وتشييد الدين، وكثر طلّاب العلم، وأخذوا يتواردون علي السيّد من كلّ صوب «2».

__________________________________________________

(1)

أعلام الشيعة، نزهة الخواطر 7/ 456.

(2) أعلام الشيعة- الكرام البررة 2/ 519.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 64

قال السيّد عبدالحيّ اللكهنوي المحقّق السنّي: ثمّ إنّه بذل جهده في إحقاق مذهبه وإبطال غيره من المذاهب، لاسيّما الأحناف والصوفيّة والأخباريّة، حتّي كاد يعمّ مذهبه في بلاد «أوده» ويتشيّع كلّ الفرق «1».

وفي هذه الأيّام خرج للناس كتاب للمولوي شاه عبدالعزيز بن شاه وليّ اللَّه الدهلوي الحنفي، المولود سنة 1159، والمتوفّي سنة 1239 باسم (التحفة الإثني عشريّة) في الردّ علي الشيعة الإماميّة …

قال في مقدّمة الكتاب:

«وقد سمّيت هذه الرسالة ب (التحفة الإثني عشريّة) ولقّبتها ب (نصيحة المؤمنين وفضيحة الشياطين).

وكان السبب في تأليف هذه الرسالة وتحرير هذه المقالة هو: إنّ البلاد التي نحن بها ساكنون، وفي هذا الزّمان الذي نحن فيه، قد راج مذهب الإثني عشريّة وشاع، حتّي قلّ بيتٌ لم يتمذهب من أهله واحد أو اثنان بهذا المذهب، ولم يرغب فيه، لكنّ أكثرهم جاهلون بالتاريخ والأخبار …».

فألّف علماء الشيعة في تلك الديار الردود الحاسمة علي كتاب (التحفة) وأشهرها كتاب (عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار) الذي سنتحدّث عنه فيمابعد باختصار.

في العراق … ص: 64

وفي العراق كذلك … فقد نشر

محمود شكري الآلوسي البغدادي مختصر ترجمة (التحفة الإثني عشريّة) إلي العربيّة في سنة 1301- أي قبل __________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 7/ 167.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 65

وفاة السيّد صاحب (عبقات الأنوار) في الردّ علي (التحفة) بخمس سنوات- وقد ذكر في مقدّمة الكتاب ما نصّه:

«وبعد، فيقول المفتقر إلي اللَّه، الملتجئ إلي ركن فضله وعلاه، خادم العلوم الدينيّة في مدينة دار السلام المحمية، محمود شكري ابن السيّد عبداللَّه الحسيني الآلوسي البغدادي، كان اللَّه تعالي له خير معين وأحسن هادي:

إنّ علماء الشيعة لم يزالوا قائمين علي ساق المناظرة، واقفين في ميادين المنافرة والمكابرة، مع كلّ قليل البضاعة، ممّن ينتمي إلي مذاهب أهل السنّة والجماعة، لاسيّما في الديار العراقيّة وما والاها من ممالك الدولة العليّة العثمانيّة، حتّي اغترّ بشبههم من الجهلة الالوف، وانقاد لزمام دعواهم ممّن لم يكن له علي معرفة الحقّ وقوف، فلمّا رأيت الأمر اتّسع خرقه والشرّ تعدّدت طرقه، شمّرت عن ساعد الجدّ والاجتهاد في الذبّ عن ملك ذوي الرشاد، ورأيت أن اؤلّف في هذا الباب كتاباً مشتملًا علي فصل الخطاب به يتميّز القشر عن اللباب ويتبيّن الخطأ من الصواب.

وقد ألّف العالم العلّامة والنحرير الفهّامة الشيخ غلام محمّد أسلمي الهندي، تغمّده اللَّه تعالي بغفرانه الأبدي، ترجمة (التحفة الإثني عشريّة في الردّ علي فرق الشيعة الإماميّة)، فوجدته كتاباً انكشفت شبه المناظرين بأنوار دلائله واندفعت شكوك المعاندين بمسلَّم براهينه … فحداني التوفيق الإلهي إلي تلخيص ذلك الكتاب، وهداني التأييد الرباني إلي إبراز غواني معانيه بأبهي لباب، مع ضمّ ما يؤدّي إليه المقام ممّا أفاده العلماء الأعلام، بعبارات سهلة موجزة مشتملة ينتفع بها الخاص والعام ويتلقّاها بالقبول ذوو الإنصاف من الأنام.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 66

ولمّا يسّر

اللَّه تعالي ما طلبته، وأجابني فيما رجوته ودعوته، سمّيت الكتاب (المنحة الإلهيّة بتلخيص ترجمة التحفة الإثني عشريّة).

وقدّمته لأعتاب خليفة اللَّه في أرضه ونائب رسوله … ألا وهو أميرالمؤمنين الواجب طاعته علي الخلق أجمعين، سلطان البرّين وخاقان البحرين، السلطان ابن السلطان، السلطان الغازي عبدالحميد خان …».

منتهي الكلام للفيض آبادي … ص: 66

وكتاب (منتهي الكلام) تأليف المولوي حيدر علي الفيض آبادي، من هذا القبيل …

فقد ألّف الشيخ سبحان علي خان، من علماء الشّيعة في الهند، المتوفّي سنة 1264، رسالةً في حديث الحوض، قال صاحب (كشف الحجب والأستار):

«رسالة في حديث الحوض، لسبحان علي خان، رفع اللَّه درجته في فراديس الجنان، ذكر فيها انطباق حديث الحوض علي الخلفاء الثلاثة والتابعين لهم، صنّفها سنة 1252.

لقد أحسن وأجاد وأحرق ببيانه قلوب أهل العناد …» «1».

ولهذا الشيخ كتب ورسائل اخري منها:

رسالة في فضائح البخاري وصحيحه «2».

رسالة في حديث الثقلين «3».

__________________________________________________

(1) كشف الحجب والأستار: 258/ 1363.

(2) كشف الحجب والأستار: 276/ 1478.

(3) كشف الحجب والأستار: 257/ 1362.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 67

رسالة في حديث الإثرة، ذكر فيها حديث الإثرة علي الخلفاء الثلاثة «1».

رسالة في لزوم أفضليّة أولاد الشيخين من أولاد فاطمة عليها السلام علي قواعد أهل السنّة أسماها ب (لطافة المقال) «2».

فردّ عليه رشيد الدين الدهلوي- من تلاميذ صاحب التحفة الإثني عشريّة- بكتاب أسماه (إيضاح لطافة المقال) «3».

فردّ عليه الشيخ سبحان علي خان بكتاب (فذلكة الكلام) «4».

كما ردّ عليه الشيخ حسين علي خان المتوفّي سنة بضع وأربعين ومائتين بعد الألف «5».

هذا، وقد ترجم صاحب (نزهة الخواطر) الشيخ سبحان علي خان، ووصفه ب «الأمير الفاضل» قال: «وكان مع اشتغاله بمهمّات الامور يشتغل بالبحث والتنقير والمناظرة بأهل السنّة والجماعة، وبالشيعة الاصوليّة، وله مصنّفات عديدة، منها: الباقيات الصالحات، ومنها: شمس الضحي»

وأرّخ وفاته بسنة 1264 «6».

لكنّ صاحب (كشف الحجب) وصفه بألقاب جليلة وصفاتٍ ضخمة، مثل:

«قدوة الأعيان واسوة الأقران، راقم آثار الشرف علي صحائف الإحسان،

__________________________________________________

(1) كشف الحجب والأستار: 257/ 1361.

(2) كشف الحجب والأستار: 479/ 2701.

(3) كشف الحجب والأستار: 479/ ضمن 2701.

(4) كشف الحجب والأستار: 397/ 2296.

(5) كشف الحجب والأستار: 534/ 2999 وسمّاه ب (معتمد الكلام).

(6) نزهة الخواطر- تراجم كبار علماء الهند 7/ 195.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 68

جامع أطوار الرعاية بين طوائف الإنسان، عين الإنسان، علّامة الدوران، فريد الدهر والأوان».

«صدر الزمان، قدوة الأعيان، شرف أبناء الزمان بالتزام الفضل والإحسان، علّامة الدوران، مليح البيان، فصيح اللّسان …».

«علّامة الزمان واعجوبة الدوران، فصيح البيان، مليح اللّسان، المزري لطائف منشآته علي أزهار الربيع وأنوار البديع، ذي العز المنيع والفخر الرفيع …» «1».

وعلي الجملة، فقد ألّف الشيخ سبحان علي خان رسالته في حديث الحوض، وأثبت انطباقه علي المشايخ، علي أساس أحاديث القوم في أصحّ كتبهم ككتاب البخاري وغيره.

فلمّا وقف الشيخ المولوي الفيض آبادي المتوفّي سنة 1299 علي رسالة حديث الحوض، ألّف في الردّ عليها كتاب (منتهي الكلام) بطلبٍ من بعض أصدقائه، الذي ضاق صدره من «رواج التشيّع المحدَث!!» في بلاد الهند … كما قال … وهذه ترجمة كلامه في المقدّمة باختصار:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم. الحمد للَّه الذي وفّقنا لمنتهي الكلام مع الخصام وتمييز الحق من الباطل كالنور من الظلم، وكرّمنا بتنبيهات أهل الخوض لاعتراضهم علي حديث الحوض بتقرير اللّسان وتحرير القلم، والصّلاة والسلام علي عباده الذين اصطفي سيّما من خصّ بالشفاعة العظمي يجري علي لسانه ينابيع الحكم، وعلي آله وخلفائه الأربعة المتناسبة يشربون من السلسبيل ولن يسمعوا حسيس جهنّم، فبعداً وسحقاً لمن لم يزالوا

__________________________________________________

(1) كشف الحجب والأستار: 599، 257، 161- 162.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 69

مرتدّين عنهم من أهل الإبدال، يؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال، يختلجون دون الأدبار فلا تدري أن يخلص منهم إلّامثل همل النعم.

أمّا بعد، فيقول أقلّ الخليقة عديم الإدراك وذميم الأخلاق حيدر علي الفيض آبادي، أعطاه اللَّه تعالي في الدنيا النفس اللّوامة وتجاوز عن جرائمه يوم القيامة، وبصّره بعيوب نفسه وجعل غده خيراً من أمسه، ابن صفوة الحفّاظ والعابدين الشيخ محمّد حسن، ابن قدوة العارفين الشيخ محمّد ذاكر، ابن اسوة الواصلين الشيخ عبدالقادر الدهلوي، ألطفهم اللَّه سبحانه بالإعادة وأكرمهم بالحسني وزيادة:

إنّ أحد الأصدقاء الأحباب، الذي طالما تألّم ليلًا ونهاراً ممّا آل إليه أمر الدين، وضاق صدره وارتعد قلبه واحترق كبده من رواج التشيّع المحدَث، قد تمكّن من الحصول علي رسالةٍ- لإمام المتشيّعين، نظام المتكلّمين، البحر المحيط للفهم والفطانة، والنهر العميق للفصاحة والبلاغة، رئيس العلماء الكبار سبحان علي خان، جنّبه اللَّه تعالي عن فساد اعتقاداته وبصّره اللَّه ببطلان خيالاته وهفواته، ألّفها بسنة سبع وأربعين ومائتين وألف من الهجرة النبويّة، في حديث اصيحابي- بواسطة بعض المؤمنين، وأطلعني عليها، وألحّ عليّ بأن أكتب ردّاً لها، فعزمت علي إنجاح مرامه عوناً لأهل الحق والإنصاف، وصوناً لعقائدهم عن الزيغ والإعتساف …

ولمّا كان هذا الكتاب، بحيث يقول كلّ من وقف عليه- موافقاً كان أو مخالفاً- إنّه قد بلغ النهاية القصوي في البحث، فقد سمّيته ب (منتهي الكلام)، ولمّا كان كلّ ورقةٍ من أوراقه مشتملًا علي تنبيه تعريضاً للمخالفين المعترضين علي حديث الحوض، الذين صدق عليهم قوله تعالي «وكنّا نخوض مع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 70

الخائضين» فقد لقّبته ب (تنبيهات أهل الخوض لاعتراضهم علي حديث الحوض)».

ثمّ إنّه ذكر ثمان مقدّمات، فقال في المقدّمة الثامنة:

«إنّه لمّا

كان دأبي في المناظرة مع الشيعة، بعد التحقيق في الموضوع وإلزامهم بالحجّة، هو قلب تقريراتهم في الإستدلال، فقد خصصت المسلك الثاني- بعد الفراغ من الأوّل- لهذا الغرض، وفصلت في هذا المسلك بين كلامي وكلام المؤلّف بخطوطٍ لئلّا يقع الخلط، وجعلت بعض مطالب المؤلّف الخارجة عن الموضوع في الخاتمة.

فجاء الكتاب مشتملًا علي خاتمةٍ ومسلكين، أحدهما جوابي والآخر انقلابي».

هذا، وقد تعرّض في المسلك الأوّل- الجوابي- لمسائل مهمّة، كقضيّة صلاة أبي بكر بالناس بأمر من النبي في مرضه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- فيما يروون-، وكونه معه في الغار ليلة الهجرة، وقضيّة تزوّج عمر بن الخطّاب بامّ كلثوم بنت أميرالمؤمنين عليه السلام- برضاً منه كما يزعمون-، وكان مقصوده من الأوليين إثبات فضيلة لأبي بكر، ومن الثالثة إنكار هجوم عمر علي بيت الزهراء الطاهرة عليها السلام ودفع الطعن عليه، ونفي الخصومة بينه وبين الإمام عليه السلام.

أقول:

ولكنّي قد أثبتُّ في رسالةٍ مفردةٍ مطبوعة: أنّ صلاة أبي بكرٍ تلك لم تكن بأمرٍ من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، بل إنّه لمّا علم بذلك خرج معتمداً علي الإمام علي ورجلٍ آخر، ورجلاه تخطّان في الأرض، وصلّي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 71

بالناس وتنحّي أبوبكر … فلا فضيلة له في تلك القضيّة إنْ لم يكن العكس.

وأثبتُّ في رسالةٍ اخري مطبوعة: أنّ كلّ ما رواه القوم في كتبهم في زواج عمر بامّ كلثوم لا أساس له من الصحّة، وأمّا ما جاء في رواية أصحابنا- بناءً علي الأخذ به- فلا فائدة في الإستدلال به للخصم، بل يدلّ علي عكس المدّعي.

وأمّا قصّة الغار، فالرسائل المؤلّفة فيها من قبل علمائنا متعدّدة، فقد كتب فيها السيّد الشهيد التستري صاحب كتاب (إحقاق الحق) والسيّد مير حامد

حسين صاحب (استقصاء الإفحام) و (عبقات الأنوار) وكذا غيرهما من علماء الشيعة الكبار في بلاد الهند وغيرها … وإنّه ليكفي في هذه القضيّة أن نقول:

إنّه قد كان في ليلة الهجرة واقعتان، نزلت في كلّ منهما آية، إحداهما:

مبيت مولانا علي أميرالمؤمنين في فراش النبي صلّي اللَّه عليه وآله، والاخري:

خروج أبي بكر معه إلي الغار. أمّا في الاولي فنزلت الآية «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللَّه» «1»

وأمّا في الثانية فنزلت الآية «ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللَّه معنا» «2».

أمّا عن علي عليه السلام، فأخبر اللَّه عزّ وجلّ بأنّه قد «شري نفسه» ابتغاء مرضات اللَّه، وأمّا عن أبي بكر فأخبر عن حزنه ونهي النبي إيّاه … فكم فرق بين الحالين؟ ولذا ورد مباهاة اللَّه سبحانه بفعل عليّ في رواية

__________________________________________________

(1) سورة البقرة 2: 207.

(2) سورة التوبة 9: 40.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 72

الفريقين «1».

أمّا في المسلك الثاني- الإنقلابي- فقد حاول الفيض آبادي التهجّم علي الشيعة الإثني عشريّة في بعض عقائدها، والطعن في بعض كتبها، والكذب علي بعض علمائها.

فتعرّض لمسألة ولادة الإمام المهدي ابن الحسن العسكري عليهما السلام، ولمسألة البداء، ونسب إلي الشيعة القول بنقصان القرآن الكريم … وإلي السيّد المرتضي علم الهدي إنكار الميثاق …

وحاول الطعن في تفسير علي بن إبراهيم القمي، والتكلّم في كتاب سليم بن قيس الهلالي …

وهكذا في مسائل اخري …

ترجمة الفيض آبادي … ص: 72

وقد أثني صاحب كتاب (نزهة الخواطر) علي الفيض آبادي، ووصفه بألقابٍ ضخمة، وذكر كتابه (منتهي الكلام) في أوّل مؤلّفاته، وهذا نصّ عبارته:

«مولانا حيدر علي الفيض آبادي، الشيخ العالم الكبير العلّامة، حيدر علي بن محمّد حسن بن محمّد ذاكر بن عبدالقادر، الدهلوي، الفيض آبادي.

أوحد المتكلّمين والنظار.

__________________________________________________

(1)

الأمالي للشيخ الطوسي: 469/ ضمن الحديث 1031. تفسير الثعلبي 2: 125- 126، اسد الغابة 4/ 25 تفسير الرازي 3/ 222 والآية في سورة البقرة: 207.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 73

ولد ونشأ بفيض آباد، وقرأ العلم علي مرزا فتح علي والسيّد نجف علي والحكيم مير نوّاب، كلّهم كانوا من علماء الشيعة بفيض آباد. ثمّ سافر إلي دهلي وأخذ عن الشيخ رشيد الدين والشيخ رفيع الدين، واستفاض عن الشيخ عبدالعزيز بن وليّ اللَّه الدهلوي أيضاً، ولازمه زماناً، حتّي برع في كثير من العلوم والفنون، ثمّ قدم لكهنو وأقام بها مدّةً طويلة وجدّ في البحث والإشتغال، وأقبل علي الجدل والكلام، فصار أوحد زمانه، أقرّ بفضله الموافق والمخالف، ثمّ سار إلي بهوپال وأقام بها مدّةً، ثمّ سافر إلي حيدر آباد، فولّاه نوّاب مختار الملك العدل والقضاء، فاستقلّ به مدّة حياته مع اشتغاله بالتصنيف والتأليف.

ومن مصنّفاته: منتهي الكلام، في مجلّد كبير، وإزالة الغين عن بصارة العين، في ثلاث مجلّدات، ونضارة العينين عن شهادة الحسنين، وكاشف اللثام عن تدليس المجتهد القمقام، والداهية الحاطمة علي من أخرج من أهل البيت فاطمة، ورؤية الثعاليب والغرابيب في إنشاء المكاتيب، وكتابه في إثبات البيعة المرتضويّة، وكتابه في إثبات ازدواج عمر بن الخطّاب بسيّدتنا ام كلثوم بنت علي المرتضي، وله تكملة فتح العزيز، في مجلّدات كبار، صنّفها بأمر نوّاب سكندر بيكم ملكة بهوپال.

مات سنة 1299» «1».

وذكره خيرالدين الزركلي في (الأعلام) فقال:

«حيدر علي بن محمّد الفيض آبادي. متكلّم هندي، من فقهاء الحنفيّة، له تصانيف، منها: إزالة الغين. ط. تكملة لتفسير العزيزي، ومنتهي الكلام في __________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 7/ 156 أعيان القرن 13 برقم 274.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 74

الردّ علي الشيعة قال صاحب

الهدية: مجلّدان ضخمان» «1».

وقال عمر كحّالة:

«حيدر علي بن محمّد الفيض آبادي الهندي الحنفي، متكلّم فقيه. من آثاره: منتهي الكلام في الردّ علي الشيعة، في مجلّدين ضخمين، فرغ منه سنة 1250» «2».

وكذلك في (هدية العارفين 1/ 342).

استقصاء الإفحام للسيّد حامد حسين … ص: 74

وهذا الكتاب عنوانه الكامل (استقصاء الإفحام واستيفاء الإنتقام في نقض منتهي الكلام).

وكأنّ المؤلّف قد وضع عليه هذا الاسم ليشير إلي أنّ للبحث فيه جهتين، وأنّ له من تأليفه غرضين:

أحدهما: دفع الشبه والإعتراضات عن جملةٍ من العقائد، وردّ التُّهم عن بعض الأعلام، والتكلّم علي بعض الكتب المعروفة عند الإماميّة.

وعنوان (استقصاء الإفحام) ناظر إلي هذه الجهة.

والثاني: التحقيق عن موقع العلوم الإسلاميّة من علم العقائد والتفسير والحديث والفقه وعن حال مؤسّسيها، عند أهل السنّة، وبيان حال علمائهم وأشهر كتبهم المعتمدة في هذه العلوم.

__________________________________________________

(1) الأعلام 2/ 290.

(2) معجم المؤلفين 4/ 92.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 75

وعنوان (استيفاء الإنتقام) ناظر إلي هذه الجهة.

وبتعبير آخر، فإنّ هذا الكتاب قد الّف نقضاً لكتاب (منتهي الكلام) في كلا مسلكيه، الجوابي والإنقلابي، حسب تعبير الفيض آبادي.

إلّاأنّ مؤلّفه العلّامة الفذ الأجلّ، قد قدّم المسلك الثاني علي الأوّل، وقد ذكر السبب في ذلك بقوله:

«وقد كنت كتبت من النقض علي مقامات شتّي من المسلك الأوّل لهذا الكتاب، ما فيه نفع لأوام اولي الألباب وشفاء للأسقام والأوصاب، وغنية بإظهار الصواب ونضو الحجاب، وكنت لإتمامه وإنجازه صامداً ولتبييضه وإبرازه قاصداً.

ولكنْ ألفيت رغبات الناس إلي تقديم المسلك الثاني وافرة، وهممهم عن الصبر والإنتظار قاصرة، وأيضاً: وجدت صاحب الكتاب ومن اقتصّ أثره وحذا حذوه، يستصعبون نقض هذا المسلك غاية الإستصعاب، ويزعمونه ويحسبونه بالخصوم ممتنع الجواب، ويعدّون اجتياح جذمه من أنكر الأشياء وأعجب العجاب.

فخفت علي نفسي محاجزات الدهر الكنود، ورابئت عوائق الزمن العنود، وأشفقت

أنْ لا أبلغ إلي حمادي المقصود، ويحال بيني وبين الإتيان عليه كملًا واردع عمّا أرود، فيكون ذلك تصديقاً لظنونهم الخاسرة وتأييداً لما يلعج في صدورهم الواغرة.

فأشحت بوجهي عن التوجّه إلي المسلك الأوّل لعناني ثانياً، وقمت- بعون اللَّه- لنقض المسلك الثاني نصرةً لدينه غير متعتع ولا وانياً، ثمّ إذا وفّق اللَّه لاستيعاب جواب هذا المسلك وإتمامه وإبراز أثماره من أكمامه، سأنثني- إنْ شاء اللَّه- إلي إتمام نقض المسلك الأوّل وهدم جدرانه، ورضّ أركانه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 76

وهصر فنونه وأغصانه، وعضب عروقه وأفنانه.

وإنْ حيل بيني وبين هذا المراد، واقتطعت عن هذه البغية وضربت دونها الأسداد، فليستدل الناظر بما في هذا المسلك الآخر من غرائب البوادر علي حقيقة ما في الأوّل من الوهن الظاهر، فإنّ الغرفة تنبئ عن الغدير والقزير يدلّ علي الغزير وأثر القدم علي المسير، فكيف لا يدلّ هذا التحرير والتقرير الكثير علي سقوط ما في المسلك الأوّل من إفادات المخاطب النحرير؟»

فهرس موضوعات استقصاء الإفحام … ص: 76

وقد خرج من المسلك الثاني مجلّدان.

* وبحوث المجلّد الأوّل هي:

مبحث تحريف القرآن مبحث البداء

مبحث التجسيم مطاعن أبي حنيفة

مبحث القياس والإستحسان كلام في مسألة الميثاق كلام في مسألة الصور

كلام في ردّ الشمس وشقّ القمر

مسألة العبث في الصّلاة

حول كتاب سليم بن قيس الهلالي مبحث إسلام آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 77

كلام حول نسب عمرو بن العاص كلام حول حكم ولد الزنا وأنّه يدخل الجنّة أو لا؟

من قبائح مذهب الأشاعرة

الكلام في الصحاح الستّة وأصحابها

الكلام في مالك والشافعي * وأمّا المجلّد الثاني، فبحوثه هي:

الدفاع عن تفسير علي بن إبراهيم القمي الكلام في التفسير والمفسّرين عند القوم، ابتداءً بالصّحابة ثمّ التابعين ثمّ من بعدهم … علي

ضوء كتبهم، فأورد هنا دراسات جليلة عن الأعلام الأئمّة في التفسير عند أهل السنّة، وهم:

عبداللَّه بن مسعود

أبو موسي الأشعري عبداللَّه بن الزبير

أنس بن مالك أبو هريرة

عبداللَّه بن عمرو بن العاص مجاهد

عكرمة

الحسن البصري عطاء

أبو العالية

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 78

الضحّاك قتادة

زيد بن أسلم مرّة بن شراحيل سفيان بن عيينة

عبدالرزاق وجماعة غيرهم … إلي الفخر الرازي.

ثمّ تعرّض للتحقيق عن حديث الحوض ومفاده، وما ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في الصحابة.

***

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 79

ترجمة السيّد مير حامد حسين … ص: 79

نسبه … ص: 79

وهو: السيّد حامد حسين، ابن السيّد محمّد قلي، ابن السيّد محمّد حسين المعروف بالسيّد اللَّه كرم، ابن السيّد حامد حسين، ابن السيّد زين العابدين، ابن السيّد محمّد المعروف بالسيّد البولاقي، ابن السيّد محمّد المعروف بالسيّد مدا، ابن السيّد حسين المعروف بالسيّد ميئهر، ابن السيّد جعفر، ابن السيّد علي، ابن السيّد كبيرالدين، ابن السيّد شمس الدين، ابن السيّد جمال الدين، ابن السيّد شهاب الدين أبي المظفّر حسين الملقّب بسيّد السادات المعروف بالسيّد علاء الدين أعلي بزرك، ابن السيّد محمّد المعروف بالسيّد عزّ الدين، ابن السيّد شرف الدين أبي طالب المعروف بالسيّد الأشرف، ابن السيّد محمّد الملقّب بالمهدي المعروف بالسيّد محمّد المحروق، ابن حمزة بن علي بن أبي محمّد بن جعفر بن مهدي بن أبي طالب بن علي بن حمزة بن أبي القاسم حمزة، ابن الإمام أبي إبراهيم موسي الكاظم، ابن الإمام أبي عبداللَّه جعفر الصادق، ابن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر، ابن الإمام أبي محمّد علي زين العابدين، ابن السبط الشهيد الإمام أبي عبداللَّه الحسين ابن أميرالمؤمنين صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين «1».

ولد في 4 محرّم الحرام سنة 1246، وتوفّي في 18 صفر سنة 1306.

__________________________________________________

(1) تكملة نجوم السماء

2/ 25 الفضل الجلي: 2 عن تذكرة ناصر الملّة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 80

اسرته … ص: 80

وهو من اسرةٍ عريقةٍ في العلم والفضيلة والجهاد، والدّفاع عن مذهب أهل البيت الطاهرين عليهم السلام.

قال شيخنا الحجّة الطهراني رحمه اللَّه: «إنّ هذا البيت الجليل من البيوت التي غمرها اللَّه برحمته، فقد صبّ سبحانه وتعالي علي أعلامه المواهب، وأمطر عليهم المؤهلات وأسبل عليهم القابليّات وغطّاهم بالإلهام، وأحاطهم بالتوفيق، فقد عرفوا قدر نعم اللَّه عليهم فلم يضيّعوها. بل كرّسوا حياتهم وبذلوا جهودهم وأفنوا أعمارهم في الذبّ عن حياض الدين، وسعوا سعياً حثيثاً في تشييد دعائم المذهب الجعفري، فخدماتهم للشرع الشريف وتفانيهم دون إعلان كلمة الحقّ غير قابلة للحدّ والإحصاء، ولذا وجب حقّهم علي جميع الشيعة الإماميّة ممّن عرف قدر نفسه واهتمّ لدينه ومذهبه …» «1».

وقد اشتهر من أعلام هذه الاسرة جماعة، ونحن نكتفي منهم بترجمته وترجمة والده السيّد محمّد قلي ونجله الكبير السيّد ناصر حسين.

والده السيّد محمّد قلي … ص: 80

ولد السيّد محمّد قلي يوم الإثنين، الخامس من شهر ذي القعدة، سنة 1188 في بلدة كنتور، وتتلمذ علي الإمام الأكبر السيّد دلدار علي النقوي، وله مصنّفات جليلة، من أشهرها ردوده علي أبوابٍ من كتاب (التحفة الإثني عشريّة) وأكثرها فائدةً (تشييد المطاعن) … وله (الفتوحات الحيدريّة في الردّ

__________________________________________________

(1) طبقات أعلام الشيعة- الكرام البررة 2/ 148.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 81

علي كتاب الصراط المستقيم لعبد الحيّ الدهلوي) و (الشعلة الجوّالة في الردّ علي الشوكة العمريّة، لرشيد الدين الدهلوي) و (الأجوبة الفاخرة في ردّ الأشاعرة) و (نفاق الشيخين بحكم أحاديث الصحيحين) و (تقريب الأفهام في تفسير آيات الأحكام) وله غير ذلك.

وهذه الكتب مذكورة له في كتاب (الذريعة إلي تصانيف الشيعة) وبترجمته في (نزهة الخواطر) إذ قال:

«الشيخ الفاضل المفتي محمّد قلي بن محمّد حسين بن حامد حسين بن زين العابدين الموسوي النيسابوري الشيعي الكنتوري.

أحد

الأفاضل المشهورين.

ولد سنة 1188، وقرأ العلم علي أساتذة لكهنو، ثمّ لازم السيّد دلدار علي بن محمّد معين النقوي النصيرآبادي المجتهد «1»، وأخذ عنه الفقه والاصول والحديث، ثمّ ولي الإفتاء ببلدة ميرت، فاستقلّ مدّةً من الزمان، وصنّف كتباً في الاصول والكلام …

مات لتسع خلون من محرّم سنة ستّين ومائتين وألف، كما في تذكرة

__________________________________________________

(1) هو: من أعاظم علماء الشيعة في عصره وكبار فحول علماء الهند، وهو الذي نشر عقائدالشيعة هناك، عبّر عنه الشيخ صاحب الجواهر بكلمات قلّما جاءت في حقّ أحد من الشيخ رحمه اللَّه ومن غيره، قرأ في الهند، وهاجر إلي العراق فحضر في كربلاء المقدّسة علي الوحيد البهبهاني وصاحب الرياض، والميرزا الشهرستاني، وفي النجف الأشرف علي السيّد بحر العلوم، ثمّ سافر إلي مشهد الرضا، فحضر هناك علي الشهيد السيّد محمّد مهدي بن هداية اللَّه الخراساني، ثمّ رجع إلي بلاده حاملًا الإجازات والشهادات الثمينة، وخلّف آثاراً جليلة في الفقه والاصول والفلسفة والكلام، وأولاداً علماء أبرار ستأتي تراجم بعضهم، ولد سنة 1166، وتوفّي سنة 1235. (ريحانة الأدب 4/ 230، أعلام الشيعة، الترجمة رقم 948)

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 82

العلماء» «1».

أساتذته … ص: 82

قرأ المقدّمات ومبادئ العلوم والكلام علي والده العلّامة.

وأخذ الفقه والاصول عن السيّد حسين «2» ابن السيّد دلدار علي.

والمعقول علي السيّد مرتضي «3» ابن السيّد محمّد ابن السيّد دلدار علي.

والأدب عن المفتي السيّد محمّد عبّاس «4».

وكلّ هؤلاء من أعاظم الوقت ومشاهير العصر.

كلمات العلماء في حقّه … ص: 82

1- قال الحجّة الأمين العاملي:

«كان من أكابر المتكلّمين الباحثين عن أسرار الديانة، والذابّين عن بيضة

__________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 7/ 471- 472.

(2) من مشاهير علماء الشيعة في الهند، لقّب ب «سيّد العلماء» نشأ علي أبيه وإخوته، بلغ رتبة الاجتهاد في سنّ الشباب، نبغ نبوغاً باهراً وذاع صيته وقصده الطلّاب، وله مصنّفات ثمينة. ولد سنة 1211، وتوفّي سنة 1273، كما في أعلام الشيعة، الكرام البررة، الترجمة رقم 793.

(3) كان عارفاً بالعلوم العقليّة، وتوفّي شابّاً في حياة والده، وكان عالماً كاملًا أريباً. أمّا والده السيّد محمّد، فكان من كبار المجتهدين ومن أعاظم المتكلّمين، لقّب ب «سلطان العلماء». (أحسن الوديعة في تراجم علماء الشيعة 1/ 43، ريحانة الأدب في المعروفين بالكنية واللّقب، وغيرهما)

(4) هو العالم الشهير، أديب الهند الكبير، ذكره شيخنا بترجمة السيّد حسين النقوي من الكرام البررة في أعلام القرن الثالث بعد العشرة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 83

الشريعة وحوزة الدين الحنيف، علّامة نحريراً ماهراً بصناعة الكلام والجدل، محيطاً بالأخبار والآثار، واسع الإطلاع، كثير التتبع، دائم المطالعة، لم ير مثله في صناعة الكلام والإحاطة بالأخبار والآثار في عصره بل وقبل عصره بزمان طويل وبعد عصره حتّي اليوم.

ولو قلنا: إنّه لم ينبغ مثله في ذلك بين الإماميّة بعد عصر المفيد والمرتضي لم نكن مبالغين، يعلم ذلك من مطالعة كتاب (العبقات) وساعده علي ذلك ما في بلاده من حرّيّة الفكر والقول والتأليف والنشر، وقد طار صيته في الشرق والغرب

وأذعن لفضله عظماء العلماء.

وكان جامعاً لكثير من فنون العلم، متكلّماً، محدّثاً، رجاليّاً، أديباً، قضي عمره في الدرس والتصنيف والتأليف والمطالعة» «1».

2- وقال شيخنا الحجّة الطهراني:

«من أكابر متكلّمي الإماميّة وأعاظم علماء الشيعة المتبحّرين في أوليات هذا القرن، كان كثير التتبّع، واسع الاطّلاع والإحاطة بالآثار والأخبار والتراث الإسلامي، بلغ في ذلك مبلغاً لم يبلغه أحد من معاصريه ولا المتأخّرين عنه، بل ولا كثير من أعلام القرون السابقة، أفني عمره الشريف في البحث عن أسرار الديانة، والذبّ عن بيضة الإسلام، وحوزة الدين الحنيف، ولا أعهد في القرون المتأخّرة من جاهد جهاده وبذل في سبيل الحقائق الراهنة طارفه وتلاده، ولم تر عين الزمان في جميع الأمصار والأعصار مضاهياً له، في تتبّعه وكثرة اطّلاعه ودقّته وذكائه وشدّة حفظه وضبطه.

قال سيّدنا الحسن الصّدر في (التكملة): كان من أكابر المتكلّمين، وأعلام علماء الدين وأساطين المناظرين المجاهدين، بذل عمره في نصرة

__________________________________________________

(1) أعيان الشيعة 4/ 381.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 84

الدين وحماية شريعة سيّد المرسلين والأئمّة الهادين، بتحقيقات أنيقة وتدقيقات رشيقة، واحتجاجات برهانيّة، وإلزامات نبويّة، واستدلالات علويّة، ونقوض رضويّة، حتّي عاد الباب من (التحفة الإثني عشريّة) خطابات شعريّة وعبارات هنديّة تضحك منها البريّة، ولا عجب:

فالشبل من ذاك الهِزَبر وإنّما تلد الاسود الضاريات اسودا» «1»

3- وقال المحقّق الشيخ محمّد علي التبريزي:

«حجّة الإسلام والمسلمين، لسان الفقهاء والمجتهدين، ترجمان الحكماء والمتكلّمين، علّامة العصر مير حامد حسين، من ثقات وأركان علماء الإماميّة، ووجوه وأعيان فقهاء الإثني عشريّة، كان جامعاً للعلوم العقليّة والنقليّة، بل من آيات اللَّه وحجج الفرقة المحقّة، ومن مفاخر الشيعة بل الامّة الإسلاميّة، وبالأخص؛ فإنّه يعدّ من أسباب افتخار قرننا علي سائر القرون …» «2».

4- وقال العلّامة المحدّث القمّي:

«السيّد الأجل العلّامة والفاضل الورع الفهّامة،

الفقيه المتكلّم المحقّق والمفسّر المحدّث المدقّق، حجّة الإسلام والمسلمين آية اللَّه في العالمين، وناشر مذهب آبائه الطاهرين، السيف القاطع، والركن الدافع، والبحر الزاخر، والسحاب الماطر، الذي شهد بكثرة فضله العاكف والبادي، وارتوي من بحار علمه الضمآن والصّادي:

هو البحر لا بل دون ما علمه البحر هو البدر لا بل دون طلعته البدر

__________________________________________________

(1) أعلام الشيعة 1/ 347 بتلخيص.

(2) ريحانة الأدب في المعروفين بالكنية واللقب 3/ 432.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 85

هو النجم لا بل دونه النجم طلعة هو الدرّ لا بل دون منطقه الدرّ

هو العالم المشهور في العصر والذي به بين أرباب النُهي افتخر العصر

هو الكامل الأوصاف في العلم والتقي فطاب به في كلّ ما قطر الذكر

محاسنه جلّت عن الحصر وازدهي بأوصافه نظم القصائد والنثر

وبالجملة: فإنّ وجوده كان من آيات اللَّه وحجج الشيعة الإثني عشريّة، ومن طالع كتابه (العبقات) يعلم أنّه لم يصنّف علي هذا المنوال في الكلام- لاسيّما في مبحث الإمامة- من صدر الإسلام حتّي الآن …» «1».

5- وقال صاحب تكملة نجوم السماء:

«آية اللَّه في العالمين وحجّته علي الجاحدين، وارث علوم أوصياء خير البشر، المجدّد للمذهب الجعفري علي رأس المئة الثالثة عشر، مولانا ومولي الكونين المقتفي لآثار آبائه المصطفين، جناب السيّد حامد حسين، أعلي اللَّه مقامه وزاد في الخلد إكرامه.

بلغ في علوّ المرتبة وسموّ المنزلة مقاماً تقصر عقول العقلاء وألباب الألباء عن دركه، وتعجز أَلسنة البلغاء وقرائح الفصحاء عن بيان أيسر فضائله …» «2».

6- وقال صاحب المآثر والآثار:

«مير حامد حسين اللكهنوي، آية من الآيات الإلهيّة، وحجّة من حجج الشيعة الإثني عشريّة، جمع إلي الفقه التضلّع في علم الحديث والإحاطة بالأخبار والآثار وتراجم رجال الفريقين، فكان في ذلك المتفرّد بين الإماميّة،

__________________________________________________

(1) الفوائد الرضويّة: 91- 92.

(2)

تكملة نجوم السماء 2/ 24.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 86

وهو صاحب المقام المشهود، والموقف المشهور بين المسلمين في فنّ الكلام- ولاسيّما مبحث الإمامة- ومن وقف علي كتابه عبقات الأنوار عَلم أنّه لم يصنّف علي منواله في الشيعة من الأوّلين والآخرين … ومن الأمارات علي كونه مؤيّداً من عند اللَّه ظفره بكتاب الصواقع لنصر اللَّه الكابلي الذي انتحل الدهلوي كلّه …» «1».

7- وقال صاحب أحسن الوديعة:

«لسان الفقهاء والمجتهدين، وترجمان الحكماء والمتكلّمين، وسند المحدّثين مولانا السيّد حامد حسين … كان رحمه اللَّه من أكابر المتكلّمين الباحثين في الديانة، والذابّين عن بيضة الشريعة وحوزة الدين الحنيف، وقد طار صيته في الشرق والغرب، وأذعن بفضله صناديد العجم والعرب، وكان جامعاً لفنون العلم، واسع الإحاطة، كثير التتبّع، دائم المطالعة، محدّثاً رجاليّاً أديباً أريباً، وقد قضي عمره الشريف في التصنيف والتأليف، فيقال أنّه كتب بيمناه حتّي عجزت بكثرة العمل، فأضحي يكتب باليسري.

وله مكتبة كبيرة في لكهنو، وحيدة في كثرة العدد من صنوف الكتب، ولاسيّما كتب المخالفين.

وبالجملة، فهو في الديار الهنديّة سيّد المسلمين حقّاً وشيخ الإسلام صدقاً، وأهل عصره كلّهم مذعنون لعلوّ شأنه في الدين والسّيادة وحسن الإعتقاد وكثرة الإطّلاع وسعة الباع ولزوم طريقة السلف» «2».

__________________________________________________

(1) المآثر والآثار: 168.

(2) أحسن الوديعة في تراجم علماء الشيعة: 103.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 87

8- وقال كحّالة:

«… أمير، متكلّم، فقيه، أديب …» «1».

9- وقال صاحب نزهة الخواطر:

«ولد لأربع خلون من المحرّم سنة 1246 في «ميرته» حيث كان والده صدر الصدور، وقرأ عليه الكتب الإبتدائيّة المتداولة، ومات أبوه وله 15 سنة من العمر، فقرأ الأدب علي المولوي بركة علي السنّي والمفتي محمّد عبّاس اللّكهنوي، والعلوم العقليّة علي السيّد مرتضي ابن المولوي سيّد محمّد،

وكتب العلوم الشرعيّة علي السيّد محمّد بن دلدار علي وعلي السيّد حسين، وكان أكثر أخذه ودراسته علي الأخير، واشتغل بعد التحصيل بترتيب مؤلّفات والده وتصحيحها ومقابلتها بالاصول.

وبدأ بتأليف استقصاء الإفحام في الردّ علي منتهي الكلام للشيخ حيدر علي الفيض آبادي، وأكمل شوارق النصوص.

وسافر في سنة 1282 للحج والزيارة، واقتبس من الكتب النادرة في الحرمين، ورجع إلي الهند وانصرف إلي المطالعة والتأليف واقتناص الكتب النادرة، وكثير منها بخطّ مؤلّفيها من كلّ مكان وبكلّ طريق، وأنفق عليها الأموال الطائلة، حتّي اجتمع عنده عشرة آلاف من الكتب، منها ما جلبت من مصر والشام والبلاد البعيدة.

وكان بارعاً في الكلام والجدل، واسِع الاطّلاع، كثير المطالعة، سائل القلم، سريع التأليف، وقد أضني بنفسه في الكتابة والتأليف، حتّي اعترته الأمراض الكثيرة وضعفت قواه.

__________________________________________________

(1) معجم المؤلّفين 1/ 521 رقم 3897.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 88

وكان جلّ اشتغاله بالردّ علي أهل السنّة ومؤلّفات علمائهم وأئمّتهم، كالشيخ الإمام وليّ اللَّه الدهلوي وابنه الشيخ عبدالعزيز والشيخ حيدر علي الفيض آبادي وغيرهم.

ومن مؤلّفاته: استقصاء الإفحام، في مجلّدين ضخمين، وعبقات الأنوار، في ثلاثين جزءً، وشوارق النصوص، في خمسة أجزاء، وكشف المعضلات في حلّ المشكلات، وكتاب النجم الثاقب في مسألة الحاجب- في الفقه، والدرر السنيّة في المكاتيب والمنشآت العربيّة، وله غير ذلك من المؤلّفات.

مات في 18 صفر سنة 1306 في لكهنو، ودفن في حسينيّة العلّامة السيّد دلدار علي المجتهد» «1».

المكتبة الناصريّة … ص: 88

ومن آثار هذه الاسرة وخدماتهم للعلم والطائفة: المكتبة العظيمة التي خلّفتها في مدينة لكهنو، هذه المكتبة التي كانت كتب العلّامة السيّد محمّدقلي نواةً لها، ثمّ ضمّ إليها نجله السيّد حامد حسين كلّ ما حصل عنده من الكتب، ولاسيّما ما كان يفحص عنه وحصل عليه في البلاد المختلفة

من امّهات المصادر في مختلف العلوم والفنون لأجل كتابه (عبقات الأنوار)، ثمّ سعي نجله السيّد ناصر حسين في تطويرها وتوسعتها فاشتهرت بالمكتبة الناصريّة.

لقد كانت في زمن السيّد حامد حسين تحتوي علي ثلاثين ألف كتاب.

قال شيخنا الطهراني بترجمته: «وللمترجم خزانة كتب جليلة وحيدة في لكهنو بل في بلاد الهند، وهي إحدي مفاخر العالم الشيعي، جمعت ثلاثين __________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 8/ 99- 100.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 89

ألف كتاب بين مخطوط ومطبوع، من نفائس الكتب وجلائل الآثار، ولاسيّما تصانيف أهل السنّة من المتقدّمين والمتأخّرين.

حدّثني شيخنا العلّامة الميرزا حسين النوري أنّ المترجم كتب إليه من لكهنو يطلب منه إرسال أحد الكتب إليه، فأجابه الاستاذ: بأنّه من العجيب خلوّ مكتبتكم من هذا الكتاب علي عظمها واحتوائها، فأجابه المترجم: بأنّ من المتيقّن لديَّ وجود عدّة نسخ من هذا الكتاب، ولكن التفتيش عنه والحصول عليه أمر يحتاج إلي متّسع من الوقت، والكتاب الذي ترسله إليّ يصلني قبل وقوفي علي الكتاب الذي هو في مكتبتي التي أسكنها، إنتهي.

فمن هذا يظهر عظم المكتبة واتّساعها.

وحدّثني بعض فضلاء الهند أنّ أحد أهل الفضل حاول تأليف فهرس لها وفشل في ذلك.

وقد أهدي إليّ بعض أجلّاء الأصدقاء صورة جانب واحد من جوانبها الأربع وهو كتب التفاسير، وقد زرناه فأدهشنا.

وبالجملة، فإنّ مكتبة هذا الإمام الكبير من أهمّ خزائن الكتب في الشرق» «1».

وقال السيّد محسن الأمين: «ومكتبته في لكهنو وحيدة في كثرة العدد من صنوف الكتب، ولاسيّما كتب غير الشيعة. ويناهز عدد كتبها الثلاثين ألفاً، مابين مطبوع ومخطوط … فيما كتبه الشيخ محمّد رضا الشبيبي في مجلّة العرفان ما صورته: من أهمّ خزائن الكتب الشرقيّة في عصرنا هذا، خزانة كتب المرحوم السيّد حامد حسين اللكهنوي- نسبة إلي

لكهنو من بلاد الهند-

__________________________________________________

(1) أعلام الشيعة، نقباء البشر 1/ 348.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 90

صاحب كتاب (عبقات الأنوار) الكبير في الإمامة، من ذوي العناية بالكتاب والتوفّر علي جمع الآثار، أنفق الأموال الطائلة علي نسخها ووراقتها، وفي كتابه (عبقات الأنوار) المطبوع في الهند ما يشهد علي ذلك.

وقد اشتملت خزانة كتبه علي الوف من المجلّدات، فيها كثير من نفائس المخطوطات القديمة» «1».

وفي (أحسن الوديعة) بترجمته: «وله مكتبة كبيرة في لكهنو وحيدة في كثرة العدد من صنوف الكتب، ولاسيّما كتب المخالفين».

وجاء في (صحيفة المكتبة) الصادرة عن مكتبة أميرالمؤمنين عليه السلام في النجف الأشرف، في ذكر المكتبات التي زارها العلّامة الحجّة المجاهد صاحب الغدير في مدينة لكهنو بالهند ما نصّه: «مكتبة الناصريّة العامّة، تزدهر هذه المكتبة العامرة بين الأوساط العلميّة وحواضر الثقافة في العالم الإسلامي بنفائسها الجمّة، ونوادرها الثمينة، وما تحوي خزانتها من الكتب الكثيرة في العلوم العالية من؛ الفقه واصوله، والتفسير، والحديث والكلام، والحكمة والفلسفة، والأخلاق، والتاريخ، واللغة، والأدب، إلي معاجم ومجاميع وموسوعات في الجغرافيا، والتراجم، والرجال، والدراية، والرواية.

وهي نتيجة فكرة ثلاثة من أبطال العلم والدين، جمعت يمين كلّ منهم قسماً من هذه الثروة الإسلاميّة الطائلة في حياته السعيدة، فأسدي بها إلي امّة القرآن الكريم خدمة كبيرة، تذكر وتشكر مع الأبد، ولم يكتف أولئك الفطاحل بذلك إلي أن وقف كلّ منهم ماله عليه وقفاً، فغدت يقضي بها كلّ عالم مأربه، ويسدّ بها كلّ ثقافي حاجته.

__________________________________________________

(1) أعيان الشيعة 4/ 381، بترجمة السيّد حامد حسين.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 91

وكانت النواة لها مكتبة السيّد محمّد قلي الموسوي … ثمّ حذا حذوه وضمّ كتبه إليها نجله القدوة والاسوة السيّد حامد حسين … ثمّ شفعت تلك المكتبة بمكتبة

شبله السيّد ناصر حسين.

وهذه المكتبة العامرة تسمّي باسمه، يناهز عدد كتبها اليوم ثلاثين ألفاً من المطبوع والمخطوط، يقوم بإدارة شؤونها شقيقا الفضيلة: السيّد محمّد سعيد العبقاتي، والزعيم المحنّك السيّد محمّد نصير العبقاتي، وقد شيّدت لها حين كنّا في تلكم الديار بهمّتهما القعساء بناية فخمة تقع في أهدء مكان، قد خصّصت لها الإدارة المحلّيّة لمتصرّفية لكهنو والإدارة المركزيّة للشؤون الثقافيّة للحكومة الهنديّة، منحة ماليّة سنويّة لإدارة شؤونها، وتسديد رواتب موظّفيها، وهي وإن كانت جلّ ذلك فضلًا عن الكلّ، إلّاأنّها مساعدة تحمد عليها وتقدّر».

ثمّ ذكر الكاتب أسماء نفائس من هذه الخزانة ممّا وقف عليه العلّامة الأميني وغيره.

وقال صاحب (نزهة الخواطر) بترجمته: «وسافر في سنة 1282 للحج والزيارة، واقتبس من الكتب النادرة في الحرمين، ورجع إلي الهند وانصرف إلي المطالعة والتأليف واقتناص الكتب النادرة، وكثير منها بخطّ مؤلّفيها، من كلّ مكان، وبكلّ طريق، وأنفق عليها الأموال الطائلة …».

تصانيفه … ص: 91

قال شيخنا العلّامة الطهراني: «وله تصانيف جليلة نافعة، تموج بمياه التحقيق والتدقيق، وتوقف علي ما لهذا الحبر من المادّة الغزيرة، وتعلم الناس استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 92

بأنّه بحر طام لا ساحل له».

ومصنّفاته كثيرة ومتنوّعة، منها:

1- الذرائع في شرح الشرائع، في الفقه.

2- العضب البتّار في مبحث آية الغار.

3- الدرر السنيّة في المكاتيب والمنشآت العربيّة.

4- إفحام أهل المين في ردّ إزالة الغين.

5- كشف المعضلات في حلّ المشكلات.

6- شوارق النصوص في مناقب اللّصوص.

7- عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار، في الردّ علي الباب السابع من (التحفة الإثني عشريّة) وهو في الإمامة.

8- استقصاء الإفحام واستيفاء الإنتقام في نقض منتهي الكلام، وهو الكتاب الذي نقدّم له وتكلّمنا حوله.

قال المحقّق التبريزي:

«وقد صرّح بعض الأكابر ببلوغ مؤلّفاته المائتين مجلّداً» «1».

وقال الشيخ الطهراني:

«الأمر العجيب أنّه

ألّف هذه الكتب النفائس والموسوعات الكبار وهو لايكتب إلّابالحبر والقرطاس الإسلاميّين، لكثرة تقواه وتورّعه، وأمر تحرّزه عن صنائع غير المسلمين مشهور متواتر» «2».

__________________________________________________

(1) ريحانة الأدب 3/ 432.

(2) طبقات أعلام الشيعة- نقباء البشر في أعلام القرن الرابع عشر 1/ 347.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 93

أشهر مصنّفاته: … ص: 93
اشارة

وإنّ أشهر مصنّفاته وأهمّها وأوسعها هي الكتب الثلاثة الأخيرة، وخاصّةً كتاب (عبقات الأنوار) الذي لقّب به المؤلّف واشتهر ب (صاحب العبقات).

وقد ألّف كتاب (شوارق النصوص) ثمّ (العبقات) ثمّ كتاب (استقصاء الإفحام).

1- استقصاء الإفحام … ص: 93

أمّا كتاب (استقصاء الإفحام) فقد تقدّم التعريف به، وسنذكر فيما بعد عملنا فيه.

2- شوارق النصوص … ص: 93

وأمّا كتاب (شوارق النصوص) فقد تناول فيه ما رواه القوم في كتبهم في فضل المشايخ الثلاثة بالبحث والتحقيق في السند والدلالة، علي ضوء كلمات أئمّتهم في الجرح والتعديل، ونصوص عبارات عظمائهم في الحديث والكلام، فأثبت سقوط تلك الأحاديث عن درجة الإعتبار، وأنّه لا يجوز الإستناد إليها والإحتجاج بها في باب من الأبواب … وقد طبع هذا الكتاب في الآونة الأخيرة … وهو كتاب فريد في بابه …

3- عبقات الأنوار … ص: 93

وأمّا كتابه (عبقات الأنوار) فقد قال الميرزا أبوالفضل الطهراني:

«… عبقات الأنوار: تصنيف السيّد الجليل، المحدّث العالم العامل، نادرة الفلك وحسنة الهند، ومفخرة لكهنو وغرّة العصر، خاتم المتكلّمين، المولوي الأمير حامد حسين المعاصر الهندي اللّكهنوي قدّس سرّه وضوعف برّه، الذي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 94

أعتقد أنّه لم يصنّف مثل هذا الكتاب المبارك منذ بداية تأسيس علم الكلام حتّي الآن في مذهب الشيعة، من حيث الإتقان في النقل، وكثرة الإطّلاع علي كلمات المخالفين، والإحاطة بالروايات الواردة من طرقهم في باب الفضائل.

فجزاه اللَّه عن آبائه الأماجد خير جزاء ولد عن والده، ووفّق خلفه الصالح لإتمام هذا الخير الناجح» «1».

وقال السيّد الأمين:

«عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار بالفارسيّة، لم يكتب مثله في بابه في السلف والخلف، وهو في الردّ علي باب الإمامة من (التحفة الإثني عشريّة) للشاه عبدالعزيز الدهلوي، فإنّ صاحب التحفة أنكر جملة من الأحاديث المثبتة إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام، فأثبت المترجم تواتر كلّ واحد من تلك الأحاديث من كتب من تسمّوا بأهل السُّنّة.

وهذا الكتاب يدلّ علي طول باعه وسعة اطّلاعه، وهو في عدّة مجلّدات، منها مجلّد في حديث الطير … وقد طبعت هذه المجلّدات ببلاد الهند، وقرأت نبذاً من أحدها فوجدت مادّة غزيرة وبحراً طامياً، وعلمت منه

ما للمؤلّف من طول الباع وسعة الاطّلاع.

وحبّذا لو ينبري أحد لتعريبها وطبعها بالعربيّة، ولكن الهمم عند العرب خامدة …» «2».

وقال شيخنا الحجّة الطهراني:

__________________________________________________

(1) شفاء الصدور: 99- 100.

(2) أعيان الشيعة 4/ 381.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 95

«وهو أجلّ ما كتب في هذا الباب من صدر الإسلام إلي الآن» «1».

وقال أيضاً:

«هو من الكتب الكلاميّة التاريخيّة الرجاليّة، أتي فيه بما لا مزيد عليه لأحدٍ من قبله» «2».

وقال المحدّث الكبير الشيخ القمّي ما تعريبه:

«لم يؤلّف مثل كتاب (العبقات) من صدر الإسلام حتّي يومنا الحاضر، ولايكون ذلك لأحدٍ إلّابتوفيق وتأييد من اللَّه تعالي ورعاية من الحجّة عليه السلام» «3».

وقال المحقّق الشيخ محمّد علي التبريزي ما تعريبه:

«ويظهر لمن راجع كتاب (عبقات الأنوار) أنّه لم يتناول أحد منذ صدر الإسلام حتّي عصرنا الحاضر علم الكلام- لاسيّما باب الإمامة منه- علي هذا المنوال … وظاهر لكلّ متفطّن خبير أنّ هذه الإحاطة الواسعة لا تحصل لأحدٍ إلّا بتأييد من اللَّه تعالي وعناية من وليّ العصر عجّل اللَّه فرجه» «4».

وقال العلّامة الحجّة المجاهد الشيخ الأميني، في المؤلّفين في حديث الغدير:

«السيّد مير حامد حسين ابن السيّد محمّد قلي الموسوي الهندي اللكهنوي المتوفّي سنة 1306 عن 60 سنة. ذكر حديث الغدير وطرقه وتواتره ومفاده في مجلّدين ضخمين، في ألف وثمان صحائف، وهما من مجلّدات __________________________________________________

(1) أعلام الشيعة 1/ 348.

(2) مصفي المقال في مصنّفي علم الرجال: 149.

(3) هدية الأحباب في المعروفين بالكني والألقاب: 177، وانظر الفوائد الرضويّة: 91- 92.

(4) ريحانة الأدب في المعروفين بالكنية واللقب 3/ 432.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 96

كتابه الكبير (العبقات).

وهذا السيّد الطاهر العظيم- كوالده المقدّس- سيف من سيوف اللَّه المشهورة علي أعدائه، وراية ظفر الحقّ والدين، وآية كبري من آيات

اللَّه سبحانه، قد أتمّ به الحجّة وأوضح المحجّة.

وأمّا كتابه (العبقات) فقد فاح أريجه بين لابتي العالم، وطبّق حديثه المشرق والمغرب، وقد عرف من وقف عليه أنّه ذلك الكتاب المعجز المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد استفدنا كثيراً من علومه المودعة في هذا السفر القيّم، فله ولوالده الطاهر منّا الشكر المتواصل، ومن اللَّه تعالي لهما أجزل الاجور» «1».

أقول:

والحمد للَّه الذي وفّقني لتأليف كتاب (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار) وإخراجه للناس في 20 مجلّداً، فمجلّد في سبع آيات وهي:

آية الولاية، وآية التطهير، وآية المودّة، وآية المباهلة، وآية الإنذار، والآية:

وقفوهم إنهم مسؤولون، والآية: السّابقون السّابقون.

وتسعة عشر مجلّداً في الأحاديث، وهي: حديث الغدير، وحديث المنزلة، وحديث الطير، وحديث مدينة العلم، وحديث النور، وحديث السفينة، وحديث التشبيه، وحديث الثقلين.

التقاريظ علي كتبه … ص: 96

ولمّا وصلت كتب السيّد ميرحامد حسين إلي الأقطار الإسلاميّة

__________________________________________________

(1) الغدير في الكتاب والسنّة والأدب 1/ 156.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 97

والعواصم العلميّة فيها، كالنجف الأشرف، واطّلع عليها كبار الفقهاء، ووقف عليها رجالات الحديث والكلام والعلماء الأعلام في سائر العلوم، أكبروها غاية الإكبار، وأثنوا عليها وعلي مؤلّفها العظيم الثناء البالغ الجليل، وأرسلوا إلي السيّد المؤلّف ونجله رسائل التقريظ والتبجيل، شاكرين اللَّه تعالي علي هذه النعم ومعبّرين عن غاية سرورهم واعتزازهم بهذه الموهبة.

وقد جمعت نصوص تلك التقاريظ في كتاب سمّي ب (سواطع الأنوار في تقاريظ عبقات الأنوار)، ونحن نكتفي بذكر نصوص بعضها:

(1)

تقريظ سيّد الطائفة في عصره المجدّد السيّد الميرزا الشيرازي «1»

بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه الذي أبدع بقدرته علي وفق إرادته فطرة الخليقة، وكلّاً بحسب قابليّته ما يليق به من صبغة الحقيقة، فعلّم آدم الأسماء، واصطفي أكابر ذرّيّته، وخلّص صفوته للبحث عن حقائق الأشياء، والاطّلاع علي

ما في بطون الأنبياء فألهمهم علوم حقائقه، وأعلمهم نوادر دقائقه، وجعلهم مواضع ودائع أسراره، وطالع طوالع أنواره، فاستنبطوا وأفادوا، واستوضحوا وأجادوا، والصلاة

__________________________________________________

(1) هو السيّد الميرزا محمّد حسن الشيرازي النجفي، أعظم علماء عصره وأشهرهم، وأعلي مراجع الإماميّة في الأقطار الإسلاميّة في زمانه، حضر علي الشيخ محمّد تقي صاحب حاشية (المعالم) والسيّد حسن المدرّس، والشيخ محمّد إبراهيم الكلباسي في أصفهان، وفي النجف الأشرف علي الشيخ صاحب (الجواهر)، والشيخ الأنصاري، والشيخ حسن آل كاشف الغطاء، وكان أيّام زعامته مقيماً في سامراء المشرّفة، وقصّة (التنباك) وفتواه بتحريمه مشهورة.

ولد سنة 1230 وتوفّي سنة 1312. (أعلام الشيعة)

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 98

والسلام علي من حبّه خير وأبقي، وآله الذين من تمسّك بهم فقد استمسك بالعروة الوثقي.

أمّا بعد: فلمّا وقفت بتأييد اللَّه تعالي وحسن توفيقه علي تصانيف ذي الفضل الغزير، والقدر الخطير، والفاضل النحرير، والفائق التحرير، والرائق التعبير، العديم النظير، المولوي السيّد حامد حسين، أيّده اللَّه في الدارين، وطيّب بنشر الفضائل أنفاسه، وأذكي في ظلمات الجهل من نور العلم نبراسه.

رأيت مطالب عالية، تفوق روائح تحقيقها الغالية، عباراتها الوافية دليل الخبرة، وإشاراتها الشافية محلّ العبرة، وكيف لا؟ وهي من عيون الأفكار الصافية مخرجة، ومن خلاصة الإخلاص منتجة، هكذا هكذا وإلّا فلا، العلم نورٌ يقذفه اللَّه في قلب من يشاء من الأخيار، وفي الحقيقة أفتخر كلّ الافتخار، ومن دوام العزم، وكمال الحزم، وثبات القدم، وصرف الهمم- في إثبات حقّيّة أهل بيت الرسالة بأوضح مقالة- أغار، فإنّه نعمة عظمي وموهبة كبري، ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.

أسأل اللَّه أن يديمه لإحياء الدين ولحفظ شريعة خاتم النبيّين صلوات اللَّه عليه وآله أجمعين.

فليس حياة الدين بالسيف والقنا فأقلام أهل العلم أمضي من السيف والحمد للَّه علي

أنّ قلمه الشريف ماضٍ نافع، ولألسنة أهل الخلاف حسام قاطع، وتلك نعمة منّ اللَّه بها عليه، وموهبة ساقها إليه.

وإنّي وإنْ كنت أعلم أنّ الباطل فاتح فاه من الحنق، إلّاأنّ الذوات المقدّسة لايبالون في إعلاء كلمة الحق، فأين الخشب المسنّدة من الجنود المجنّدة، وأين ظلال الضلالة من البدر الأنور، وظلام الجهالة من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 99

الكوكب الأزهر.

أسأل اللَّه ظهور الحق علي يديه، وتأييده من لديه، وأن يجعله موفّقاً منصوراً مظفّراً مشكوراً، وجزاه اللَّه عن الإسلام خيراً.

والرجاء منه الدعاء مدي الأيّام، بحسن العاقبة والختام، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.

حرّره الأحقر محمّد حسن الحسيني في ذي الحجّة الحرام سنة 1301

(الختم المبارك)

(2)

تقريظ خاتمة المحدّثين الميرزا حسين النوري «1»

بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه الذي خصّنا من بين الفرق بالفلج، وأيّدنا ما دونهم بأوضح الحجج، والصلاة علي من اصطفاه لدين قيّم غير ذي عوج، وعلي آله الذين نشروا لواء الحقّ ولو بسفك المهج، وأحضوا علي العلم ولو بخوض اللجج، عجّل اللَّه لهم النصر والفرج، وصلّي اللَّه عليهم ما مدحت الثغور بالبلج، ووصفت الحواجب بالزجج.

__________________________________________________

(1) هو إمام أئمّة الحديث والرجال في الأعصار المتأخّرة، مؤلّفاته تربو علي العشرين، أشهرها وأهمّها (المستدرك) استدرك فيه علي كتاب (وسائل الشيعة) وهو أحد المجاميع الثلاثة المتأخّرة، في ثلاث مجلّدات كبار تشتمل علي زهاء (23000) حديث، وقد ختمها بخاتمة ذات فوائد جليلة، وله في بعض مؤلّفاته آراء لم يوافقه عليها سائر العلماء. ولد سنة 1254 وتوفّي سنة 1320. (أعلام الشيعة)

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 100

وبعد: فإنّ العلم مشرع سلسال لكن علي أرجائه ضلال، وروض مسلوف لكن دونه قلل الجبال دونهنّ حتوف، وإنّ من أجلّ من اقتحم موارده، وارتاد آنسه وشارده، وعاف في

طلابه الرّاحة، ورأي في اجتلاء أنواره مروحة وراحة، حتّي فاز منه بالخصل، بل وأدرك الفرع منه والأصل؛ السّد السديد، والركن الشديد، سبّاح عيالم التحقيق، سيّاح عوالم التدقيق، خادم حديث أهل البيت، ومن لا يشقّ غباره الأعوجي الكميت، ولا يحكم عليه لو ولا كيت، سائق الفضل وقائده وأميرالحديث ورائده، ناشر ألوية الكلام، وعامر أندية الإسلام، منار الشيعة، مدار الشريعة، يافعة المتكلّمين، وخاتمة المحدّثين، وجه العصابة وثبتها، وسيّد الطائفة وثقتها، المعروف بطنطنة الفضل بين ولايتي المشرقين، سيّدنا الأجل حامد حسين، لا زالت الرواة تحدّث من صحاح مفاخره بالأسانيد ممّا تواتر من مستفيض فضله المسلسل كلّ معتبر عال الأسانيد.

ولعمري، لقد وفي حقّ العلم بحقّ براعته، ونشر حديث الإسلام بصدق لسان يراعته، وبذل من جهده في إقامة الأودٍ، وإبانة الرشد ما يقصر دونه العيوق فأنّي يدرك شأوه المسح السابح السبوق!!

فتلك كتبه قد حبت الظلام وجلت الأيّام، وزيّنت الصدور وأخجلت المدور، ففيها (عبقات) أنوار اليقين و (استقصاء) شاف في تقدير نزهة المؤمنين، وظرائف طرف في إيضاح خصائص الإرشاد هي غاية المرام من مقتضب الأركان، وعمدة وافية في إبانة نهج الحقّ لمسترشد الصراط المستقيم إلي عماد الإسلام ونهج الإيمان، وصوارم في استيفاء إحقاق الحقّ هي مصائب النواصب، ومنهاج كرامة كم له في إثبات الوصيّة بولاية الإنصاف من مستدرك استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 101

مناقب، ولوامع كافية لبصائر الانس في شرح الأخبار تلوح منها أنوار الملكوت، ورياض مونقة في كفاية الخصام من أنوارها المزرية بالدرّ النظيم تفوح منها نفحات اللاهوت.

فجزاه اللَّه عن آبائه الأماجد خير ما جزي به ولداً عن والد، وأيّد اللَّه أقلامه في رفع الأستار عن وجه الحقّ والصواب، وأعلي ذكره في الدين ما شهد ببارع فضله القلم

والكتاب، وملأت بفضائله صدور المهارق وبطون الدفاتر، ونطقت بمكارمه ألسنة الأقلام وأفواه المحابر.

آمين آمين لا أرضي بواحدة حتّي اضيف إليها ألف آمينا

وصلّي اللَّه عليه سيّدنا محمّد والميامين من عترته وسلّم تسليماً.

كتب بيمناه الدائرة الخاثرة العبد المذنب المسي ء حسين بن محمّد تقي النوري الطبرسي.

في ليلة الثاني عشر من شهر الصيام في الناحية المقدّسة سرّ من رأي- سنة 1303 حامداً مصلّياً

(3)

تقريظ الفقيه الكبير الشيخ زين العابدين المازندراني الحائري «1»

«… چون متدرّجاً مجلّدات كتب مؤلّفات و مصنّفات آن جناب سامي __________________________________________________

(1) من كبار الفقهاء ومراجع التقليد، درس في النجف الأشرف ثمّ انتقل إلي كربلاء المقدّسة واشتغل بالتدريس والتصنيف حتّي توفّي في 16 ذي القعدة سنة 1309 ودفن في الصحن الحسيني الشريف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 102

صفات- كه عبارت از (استقصاء الإفحام) و (عبقات) بوده باشد- در اين صفحات به دست علماء و فضلاي اين عتبات عرش درجات ملحوظ و مشاهد افتاد، به أضعاف مضاعف آنچه شنيده مي شد ديده شد «كتابٌ احكمت آياته ثمّ فصّلت من لدن حكيم خبير» از صفحاتش نمودار «كتاب مرقوم* يشهده المقرّبون» از أوراقش پديدار، از عناوينش «آياتٌ محكمات هنّ امّ الكتاب» پيدا، و از مضامينش «هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنّما هو إله واحد وليذّكّر أُولوا الألباب» هويدا، از فصولش عالمي را تاج تشيّع و استبصار بر سر نهاده، و از ابوابش به سوي «جنّاتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار» بابها گشاده، كلماتش «وجعلناها رجوماً للشياطين» كلامش «ألا لعنة اللَّه علي الظالمين» مفاهيمش «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوٌّ مبين» مضامينش در لسان حال أعداء «يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين» دلائلش

«هذا بيان للناس وهدي وموعظة للمتّقين» براهينش «كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكري للمؤمنين».

براي دفع يأجوج و مأجوج مخالفين دين مبين سدّي است متين، و از جهت قلع و قمع زمره معاندين مذهب و آئين چون تيغ أميرالمؤمنين، سيمرغ سريع النقل عقل از طيران به سوي شرف اخبارش عاجز، هماي تيزپاي خيال از وصول به سوي غرف آثارش قاصر. كتبي به اين لياقت و متانت و اتقان تا الآن از بنان تحرير نحريري سر نزده، و تصنيفي در اثبات حقّيّت مذهب و ايقان تا اين روز ظاهر نگشته.

از (عبقاتش) رائحه تحقيق وزان، و از (استقصايش) استقصا بر جميع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 103

دلائل قوم عيان، وللَّه درّ مؤلّفها ومصنّفها:

«أكان للناس عجباً أن أوحينا إلي رجل منهم أن أنذر الناس وبشّر الذين آمنوا أنّ لهم قَدم صدقٍ عند ربّهم قال الكافرون إنّ هذا لساحرٌ مبين».

ولده السيّد ناصر حسين … ص: 103

ولد في 19 جمادي الثانية سنة 1284، وقرأ العلوم علي والده العلّامة والمفتي محمّد عبّاس وغيرهما من الأعلام، وله تصانيف كثيرة ومتنوّعة.

* قال السيّد محسن الأمين العاملي:

«إمام في الرجال والحديث، واسع التتبّع، كثير الإطّلاع، قوي الحافظة، لا يكاد يسأله أحد عن مطلب إلّاويحيله إلي مظانّه من الكتب مع الإشارة إلي عدد الصفحات، وكان أحد الأساطين والمراجع في الهند، وله وقار وهيبة في قلوب العامّة، واستبداد في الرأي ومواظبة علي العبادات، وهو معروف بالأدب والعربيّة معدود من أساتذتهما وإليه يرجع في مشكلاتهما، وخطبه مشتملة علي عبارات جزلة وألفاظ مستطرفة، وله شعر جيّد» «1».

* وقال العلّامة المحدّث القمّي- في ذيل ترجمة السيّد حامد حسين- ما تعريبه:

«وجناب السيّد مير ناصر حسين خلفه في جميع الملكات

والآثار، ووارث ذاك البحر الزخّار، وهو مصداق قوله:

إنّ السري إذا سري فبنفسه وابن السرّي إذا سري أسراهما

ولم يترك جهود والده تذهب سُدي، بل اشتغل بتتميم عبقات الأنوار

__________________________________________________

(1) أعيان الشيعة 10/ 201.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 104

وأخرج إلي البياض حتّي الآن عدّة مجلّدات وطبعت، أدام الباري بركات وجوده الشريف وأعانه لنصرة الدين الحنيف» «1».

* وقال المحقّق العلّامة الشيخ التبريزي ما تعريبه ملخصاً:

«السيّد ناصر حسين الملّقب ب «شمس العلماء» كان عالماً متبحّراً، فقيهاً اصوليّاً، محدّثاً رجاليّاً، كثير التتبّع واسع الاطّلاع، دائم المطالعة، من أعاظم علماء الإماميّة في الهند والمرجع في الفتيا لأهالي تلك البلاد» «2».

* وقال المحقّق الشيخ محمّد هادي الأميني:

«إمام في الفقه والحديث والرجال والأدب» «3».

* وقال العلّامة السيّد محمّد مهدي الأصفهاني:

«شمس العلماء السيّد ناصر حسين، عارف بالرجال والحديث، واسع التتبّع، كثير الاطّلاع، دائم المطالعة، وهو أحد مراجع أهالي الهند، ولد سلّمه اللَّه في 19 جمادي الثانية 1284» «4».

* وقال العلّامة السيّد مرتضي حسين اللاهوري:

«هذا السيّد العظيم شبل من ذاك الأسد، آية من آيات اللَّه، قد أتمّ به الحجّة وأوضح المحجّة، كان فقيهاً محدّثاً رجالياً متضلّعاً، أديباً متطلّعاً، خطيباً مفوّهاً عالي الهمّة، نبيه المنزلة، واسع العطاء، كريم الأخلاق، ليّن الجانب، ذا فكرة وقّادة، حصيف الرأي، مرجع الامور، نافذ الأمر، ومع أعمال المرجعيّة وأشغاله الكثيرة كان ضابطاً للأوقات، مثابراً علي التحقيق والبحث، عاكفاً علي __________________________________________________

(1) هدية الأحباب: 177.

(2) ريحانة الأدب 4/ 144- 145.

(3) معجم رجال الفكر والأدب: 390.

(4) أحسن الوديعة: 104.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 105

التصنيف والتأليف، حتّي في أضيق الأحوال والمرض والأسقام، يروح ويغدو دائماً في المكتبة ويجلس طول النهار، فكتب وأكثر وصنّف وأفاض، فأتمّ قسماً هامّاً من تأليف عبقات الأنوار، ونشر

كتب والده، ووسّع في المكتبة، إلي أن صارت تلك الخزانة من أكبر خزائن الكتب للشيعة وأشهرها في العالم» «1».

بين السيّد حامد حسين والمولوي الفيض آبادي … ص: 105

ولم يقتصر الردّ والإيراد بين السيّد حامد حسين والمولوي فيض آبادي علي الكتابين (منتهي الكلام) و (استقصاء الإفحام).

فلقد ردّ السيّد علي كتاب (إزالة الغين) للفيض آبادي، بكتاب (إفحام أهل المين).

كما حاول الفيض آبادي أنْ يكتب ردّاً علي كتاب (عبقات الأنوار)، واستعان لذلك ببعض كبار العلماء، إلّاأنّه قد فشل، وهذا ما جاء في كتاب (نزهة الخواطر) بترجمة المولوي السهسواني، إذ قال:

«مولانا أمير حسن السهسواني، الشيخ الفاضل العلّامة حسن بن لياقت علي بن حافظ علي بن نور الحق، الحسيني السهسواني.

أحد العلماء المشهورين بالفضل والكمال.

ولد سنة 1247 ببلدة سهسوان، قرأ بعض الكتب الدرسيّة … فدرّس وأفاد مدّةً من الزمان … وكان غايةً في سرعة الحفظ وقوّة الإدراك والفهم وبطوء النسيان، حتّي قال غير واحد من العلماء: إنّه لم يكن يحفظ شيئاً فينساه.

__________________________________________________

(1) الفضل الجلي. طبع بمقدّمة كتاب تشييد المطاعن.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 106

وكان له يد بيضاء في معرفة النحو واللغة، واصول الفقه، والكلام، والجدل، والرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، وسائر فنون الحديث واختلاف المذاهب.

وكان فيه زهد وقناعة باليسير في الملبس والمأكل، يقوم بمصالحه ولا يقبل الخدمة في غالب الأوقات لئلّا يفوته خدمة العلم.

وإنّي سمعت بعض الفضلاء يقول: إنّ مولانا حيدر علي الفيض آبادي استقدمه إلي حيدر آباد ورتّب له ثلاثمائة ربيّة شهرياً يعينه في الرد علي عبقات الأنوار، لأنّ أوقاته لا تفرغ لذلك، لكثرة الخدمات السلطانيّة، فأبي قبوله وقال:

إنّي لا أرضي بأنْ احتمل همّ ثلاثمائة ربيّة، أين أضعها؟ وفيم أبذلها؟ قال:

وكان مولانا حيدر علي يصنّف الكتب ويدرّس، فلمّا رحل إلي حيدر آباد وولي الخدمة الجليلة تأخّر عن

ذلك حتّي احتاج إلي أنْ يولي غيره أمر التصنيف، فإنّي لا اريد أن اضيّع العلم بالمال، إنتهي.

وللسيّد أمير حسن تعليقات علي طبيعيّات الشفا، وله رسالة في إثبات الحق، ورسالة في الرد علي الشيعة، ورسائل اخري لم تشتهر باسمه.

وكان لا يقلّد أحداً من الأئمّة الأربعة، بل يتتبّع النصوص ويعمل بالكتاب والسنّة.

مات يوم الإثنين لإحدي عشرة خلون من صفر سنة 1291» «1».

***__________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 7/ 81- 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 107

عملنا في الكتاب … ص: 107

إنّه قد علم ممّا تقدّم: إنّ كتاب (استقصاء الإفحام) يحتوي علي قضايا مهمّة ومسائل أساسيّة، ففيه بحثٌ قرآني علي ضوء روايات القوم في كيفيّة جمع القرآن وما ورد عن عثمان وغيره حوله، وهو بحثٌ لا يوجد في أيّ كتابٍ قبله.

وكذا تحقيقه في القول بالتجسيم ومسألة البداء، وغيرهما من البحوث الإعتقاديّة …

ثمّ دراسته للكتب والمؤلّفين، فهو يدافع عن كتاب سليم بن قيس الهلالي ويثبت اعتباره، ويناقش اعتبار الصحاح الستّة وأحوال مؤلّفيها، وكذلك يدافع عن تفسير علي بن إبراهيم القمي، ثمّ يتعرّض لطبقات المفسّرين وكتب التفسير عند أهل السنّة وينظر في أحوالها علي ضوء ما جاء في كتب القوم.

وما يذكره حول عقائد أبي حنيفة وأخذه بالقياس، وما قيل فيه وفي مالك والشافعي وغيرهم من أئمّة الفقه … ممّا يتبيّن امتياز مذهب الإماميّة الآخذين فقههم عن أهل البيت عليهم السلام عن المذاهب الاخري …

فهذه بحوثٌ ودراسات … ونقود وردود … قد اجتمعت في هذا الكتاب، وكثير منها- إنْ لم نقل كلّها- ممّا تفرّد به السيّد المؤلّف، ولم يسبقه إليها غيره.

التعريب: ولمّا كان الكتاب باللّغة الفارسيّة، فقد قمنا بتعريب مطالبه ونقلها إلي العربيّة، لكن الترجمة ليست حرفيّةً وإنْ حاولنا ذلك قدر الإمكان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1،

ص: 108

التلخيص: وقد لخّصنا المطالب، بحذف المكرّر وإسقاط ما لا دخل له فيه، فهو تلخيص دقيق لا يفوّت شيئاً من فوائد الكتاب ولا يخلّ بالمقصود.

التنسيق: وبذلنا الجهد الكبير للتنسيق بين المواضيع، لأنّها كانت متشتّتةً جدّاً، بسبب أنّ كثيراً منها أو كلّها إنّما جري علي قلم الفيض آبادي بصورة الجمل المعترضة، فاهتمّ السيّد المؤلّف بذلك ولم يسكت عنه، بل فصّل الكلام في موضعه، ومن الطبيعي حينئذٍ أن ينقطع الكلام وينفصل بعضه عن البعض … فجمعنا كلّ بحثٍ في مكانٍ واحدٍ تحت عنوانٍ يخصّه، ليصل القارئ إلي النتيجة المطلوبة منه بسهولة.

وأيضاً، فقد حاولنا التنسيق بين المطالب من الناحية الموضوعيّة، من البحوث الإعتقاديّة والفقهيّة، والتفسيريّة، والحديثيّة، وجعلنا بحوثاً في المجلّد الأخير تحت عنوان الملحقات …

الإضافة والتعليق: ثمّ أضفنا إلي مطالب الكتاب- في بعض فصوله- ما رأينا من الضروري إضافته تكميلًا للبحث، كما علّقنا علي مواضع منه في داخله بقدر الحاجة وفي النيّة التعليق في الهامش علي كلّ الكتاب في الطبعة اللّاحقة بعد مراجعته وتكميل نواقصه وتصحيح أخطائه إن شاء اللَّه تعالي

التحقيق: وقد وثّقنا النصوص المنقولة في الكتاب، وأرجعناها إلي المصادر بعد تطبيقها عليها بقدر الإمكان.

وقد سمّينا هذا المجهود باسم (استخراج المرام من استقصاء الإفحام).

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 109

الباب الأوّل: مسائل اعتقاديّة … ص: 109

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 111

الصحيحان أصحُّ من القرآن؟ … ص: 111

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 113

القرآن الكريم كلام اللَّه عزّوجل …

والأخبار الواردة عن النبي وآله الأطهار في تلاوته وحفظه والعمل به والرجوع إليه … كثيرة جدّاً، ولا خلاف بين العلماء في وجوب تعظيمه بكلّ أنحاء التعظيم وحرمة إهانته مطلقاً، وذلك مذكور في محلّه من الفقه الشيعي.

وقد أفتي الأعاظم من علماء الإماميّة بأنّ القرآن الكريم لم يقع فيه أيّ نقصٍ في سوره وآياته، معرضين عن الروايات الواردة في بعض كتبهم الظاهرة في ذلك، لكون أكثرها ضعيفاً في السّند، وأنّ القليل المعتبر فيها معارض بما هو أقوي دلالةً وسنداً وأكثر عدداً … لاسيّما وأنّه قد تقرّر أن ليس عند جمهور الطائفة الإماميّة الإثني عشريّة كتابٌ صحيحٌ من أوّله إلي آخره، فضلًا عن أن يقولوا بقطعيّة صدور جميع ألفاظه عن النبي والأئمّة عليهم الصّلاة والسلام …

أمّا أهل السنّة، فجمهورهم علي القول بصحّة ما اخرج في كتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحين.

بل إنّ كثيراً من المحقّقين منهم ذهبوا إلي أنّ جميع ألفاظ هذين الكتابين مقطوعة الصدور، وهذه كلمات كبار علمائهم تنادي بهذا المعني:

قال السيوطي: «وذكر الشيخ- يعني ابن الصّلاح-: إن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحّته والعلم القطعي حاصل فيه، خلافاً لمن نفي ذلك.

قال البلقيني: نقل بعض الحفاظ المتأخّرين مثل قول ابن الصّلاح عن جماعةٍ من الشافعيّة كأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرانيين والقاضي أبي الطيّب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 114

والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعن السرخسي والزاغوني من الحنابلة، وابن فورك وأكثر أهل الكلام من الأشعريّة، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامّة. بل بالغ ابن طاهر المقدسي في صفوة التصوّف فألحق به ما كان علي شرطهما وإنْ

لم يخرجاه.

وقال ابن كثير: وأنا مع ابن الصلاح فيما عوّل عليه وأرشد إليه.

قال السيوطي: قلت: وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه «1».

إلّاأنّ في نفس هذين الكتابين وكذا في سائر كتبهم من الصحاح والمسانيد والمعاجم المشهورة، رواياتٍ وآثاراً كثيرة، عن جمعٍ كبير من كبار الصّحابة وأعلام التابعين، مفادها وقوع الخطأ والحذف والنقصان في ألفاظ القرآن …

ألا تكون النتيجة لهاتين المقدّمتين هي «الصّحيحان أصحُّ من القرآن»؟

فإمّا أنْ ترفع اليد عن صحّة الكتابين- فضلًا عن القول بقطعيّة صدور ما فيهما- وهو مقتضي التحقيق، كما سيأتي في (المجلّد الثاني) من هذا الكتاب، وعن ثبوت تلك الأخبار والآثار، كما هو الحق، وإمّا أنْ يلتزم بالنتيجة المذكورة.

وهذا طرفٌ ممّا جاء في كتبهم حول القرآن الكريم:

__________________________________________________

(1) تدريب الراوي 1: 131- 134 ملخّصاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 115

الأخبار والآثار في وقوع النقص والغلط في القرآن في كتب السنّة … ص: 115
ذهب من القرآن كثير! … ص: 115

قال السيوطي في (الدرّ المنثور):

«أخرج أبو عبيد وابن الضّريس وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عمر قال: لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه، ما يدريه ما كلّه؟ قدذهب منه قرآن كثير، ولكن يقل: قد أخذت ما ظهر منه» «1».

سورة الأحزاب … ص: 115

وقال السيوطي في (الإتقان):

«قال- أي أبو عبيد-: حدّثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن فضالة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش قال: قال ابيّ بن كعب كأيّن تعدّ سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتين وسبعين آية أو ثلاثاً وسبعين آية. قال:

إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنّا لنقرأ فيها آية الرّجم. قلت: وما آية الرّجم؟ قال: إذا زنا الشّيخ والشّيخة فارجموهما ألبتّة نكالًا من اللَّه واللَّه عزيز

__________________________________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 1: 258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 116

حكيم» «1».

وقال الراغب الإصفهاني في (المحاضرات):

«وقالت عائشة: كانت الأحزاب تقرء في زمن رسول اللَّه مائة آية، فلمّا جمعه عثمان لم يجد إلّاما هو الآن، وكان فيه آية الرّجم» «2».

وقال السيوطي في (الإتقان) عن أبي عبيد:

«حدّثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرء في زمان النّبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّاعلي ما هو الآن» «3».

وقال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن الضّريس عن عكرمة رضي اللَّه عنه قال: كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول، وكانت فيها آية الرّجم.

وأخرج البخاري في تاريخه عن حذيفة قال: قرأت سورة الأحزاب علي النّبيّ، فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها.

وأخرج أبو عبيد في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرء في زمان النّبيّ

صلّي اللَّه عليه وسلّم مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّاعلي ما هو الآن» «4».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 3: 82.

(2) محاضرات الادباء 2: 434.

(3) الإتقان في علوم القرآن 3: 82.

(4) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6: 559- 600.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 117

سورة تشبه براءة … ص: 117

وأخرج الحاكم في (المستدرك) بإسناده عن أبي حرب بن أبي الأسود:

«بعث أبو موسي الأشعري إلي قرّاء البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة قرّاؤهم، فاتلوه، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنّا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها في الطّول والشّدّة ببراءة، فأنسيتها غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من المال لابتغي وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب، وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها بإحدي المسبّحات، فأنسيتها غير أنّي حفظت منها: يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم».

وأخرجه مسلم في (الصحيح) «1».

وقال السيوطي في (الدر المنثور):

«أخرج مسلم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن أبي موسي الأشعري قال: كنّا نقرأ سورة نشبّهها في الطّول والشدّة ببراءة فأنسيتها غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغي وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفه إلّاالتراب، وكنّا نقرأ سورة نشبّهها بإحدي المسبّحات أوّلها: سبّح للَّه ما في السّماوات، فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسئلون عنها يوم القيامة» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 2: 726/ 1050، كتاب الزكاة الباب 39.

(2) الدر المنثور 1: 256- 257.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 118

وفي (الإتقان):

«أخرج

ابن أبي حاتم عن أبي موسي الأشعري قال: كنّا نقرأ سورة نشبّهها بإحدي المسبّحات فأنسيناها غير أنّي قد حفظت: يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسئلون عنها يوم القيامة» «1».

البراءة تعدل البقرة … ص: 118

«وفي المستدرك عن ابن عبّاس قال: سألت عليّ بن أبي طالب: لم لم يكتب في براءة بسم اللَّه الرحمن الرحيم؟ قال: لأنّها أمان، وبراءة نزلت بالسيف.

وعن مالك: أنّ أوّلها لمّا سقط سقط معه البسملة، فقد ثبت أنّها كانت تعدل البقرة لطولها» «2».

وفيه:

«وفي المستدرك عن حذيفة قال: ما تقرؤون ربعها. يعني براءة» «3».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي شيبة والطّبراني في الأوسط وأبو الشّيخ والحاكم وابن مردويه عن حذيفة قال: الّتي تسمّون سورة التّوبة هي سورة العذاب، واللَّه ما تركت أحداً إلّانالت منه، وما تقرؤون منها ممّا كنّا نقرأ إلّاربعها» «4».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 3: 83.

(2) الإتقان في علوم القرآن 1: 225- 226.

(3) الإتقان في علوم القرآن 3: 84.

(4) الدر المنثور 4: 120.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 119

وفيه:

«أخرج ابن الضّريس وأبو الشّيخ عن حذيفة قال: ما تقرؤون ثلثها. يعني سورة التوبة» «1».

وفيه:

«أخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشّيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس: سورة التّوبة. قال: التّوبة! بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم، حتّي ظننّا أنّه لا يبقي منّا أحد إلّاذكر فيها.

وأخرج ابن المنذر وأبو الشّيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ عمر قيل له: سورة التّوبة. قال: هي إلي العذاب أقرب، ما أقلعت عن النّاس حتّي ما كانت تدع منهم أحداً.

وأخرج أبو الشّيخ عن عكرمة قال: قال عمر: ما فرغ من تنزيل براءة حتّي ظننّا أنّه لم يبق

منّا أحد إلّاتنزل فيه، وكانت تسمّي الفاضحة» «2».

وفي (تفسير الرازي):

«عن حذيفة: إنّكم تسمّونها سورة التوبة، واللَّه ما تركت أحداً إلّانالت منه.

وعن ابن عبّاس في هذه السّورة قال: إنّها الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتّي خشينا أن لا تدع أحداً» «3».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 121 عن أبي الشيخ.

(2) الدر المنثور 4: 120- 121.

(3) تفسير الرازي 15: 215.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 120

سورتا الحفد والخلع … ص: 120

وفي (الإتقان):

«وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة، لأنّه لم يكتب المعوّذتين.

وفي مصحف ابيّ ست عشرة، لأنّه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع.

أخرج أبو عبيد عن ابن سيرين قال: كتب ابي بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوّذتين و: اللّهمّ إنّا نستعينك واللّهمّ إيّاك نعبد، وتركهنّ ابن مسعود، وكتب عثمان منهنّ فاتحة الكتاب والمعوّذتين.

وأخرج الطبراني في الدّعاء من طريق عباد بن يعقوب الأسدي عن يحيي بن يعلي الأسلمي عن ابن لهيعة عن أبي هبيرة عن عبداللَّه بن رزين الغافقي قال: قال لي عبدالملك بن مروان: لقد علمت ما حملك علي حبّ أبي تراب إلّاأنّك أعرابيّ جاف، فقلت: واللَّه لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علّمني منه عليّ بن أبي طالب سورتين علّمهما إيّاه رسول اللَّه ما علّمتهما أنت ولا أبوك: اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعي ونحفد، نرجو رحمتك ونخشي عذابك إنّ عذابك بالكفّار ملحق.

وأخرج البيهقي من طريق سفيان الثوري عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير أنّ عمر بن الخطّاب قنت بعد الرّكوع فقال: بسم اللَّه الرحمن الرّحيم اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من

يفجرك. بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 121

وإليك نستغيث ونحفد نرجو رحمتك ونخشي عذابك إنّ عذابك بالكفّار ملحق. قال ابن جريج: حكمة البسملة أنّها سورتان في مصحف بعض الصّحابة.

وأخرج محمّد بن نصر المروزي في كتاب الصّلاة عن ابي بن كعب: أنّه كان يقنت بالسّورتين، فذكرهما، وإنّه كان يكتبهما في مصحفه.

قال ابن ضريس: ثنا أحمد بن جميل المروزي عن عبداللَّه بن المبارك أنا الأجلح عن عبداللَّه بن عبدالرحمن عن أبيه قال: في مصحف ابن عبّاس قرائة أبي موسي: بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك.

وفيه: اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعي ونحفد ونخشي عَذابك ونرجو رحمتك إنّ عذابك بالكفّار ملحق» «1».

وفي (الدر المنثور):

«قال ابن الضّريس في فضائله: أخبرني موسي بن إسماعيل، أنبأنا حمّاد قال: قرأنا في مصحف ابيّ بن كعب: اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير كلّه ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك …

وفيه أيضاً: وأخرج ابن الضّريس عن عبيداللَّه بن عبدالرحمن عن أبيه قال: صلّيت خلف عمر بن الخطّاب، فلمّا فرغ من السّورة الثّانية قال: اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي وإليك نسعي ونحفد نرجو رحمتك ونخشي عذابك إنّ عذابك بالكفّار ملحق.

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 1: 226- 227 مع بعض الاختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 122

وفي مصحف ابن عبّاس قرائة ابيّ وأبي موسي: بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك.

وفي مصحف حجر: اللّهمّ إنّا نستعينك.

وأخرج محمّد بن

نصر عن ابن إسحاق قال: قرأت في مصحف ابيّ بن كعب بالكتاب الأوّل العتيق: بسم اللَّه الرحمن الرحيم قل هو اللَّه أحد إلي آخرها، بسم اللَّه الرحمن الرحيم قل أعوذ بربّ الفلق إلي آخرها، بسم اللَّه الرحمن الرحيم قل أعوذ بربّ النّاس إلي آخرها، بسم اللَّه الرحمن الرحيم اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، بسم اللَّه الرحمن الرحيم اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعي ونحفد، نرجو رحمتك ونخشي عذابك إنّ عذابك بالكفّار ملحق …

وأخرج محمّد بن نصر عن الشّعبي قال: قرأت- أو حدّثني من قرأ- في بعض مصاحف ابيّ بن كعب هاتين السّورتين: اللّهمّ إنّا نستعينك والاخري بينهما بسم اللَّه الرحمن الرحيم، قبلهما سورتان من المفصل وبعدهما سور من المفصل» «1».

آيتان لم تكتبا … ص: 122
اشارة

وفي (الإتقان):

«وقال أبو عبيد: حدّثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي سفيان الكلاعي أنّ مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين من القرآن لم تكتبا في المصحف؟ فلم يخبروه __________________________________________________

(1) الدر المنثور 8: 695- 697، وفيه بعض الاختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 123

وعندهم أبوالكنود سعد بن مالك، فقال لي مسلمة: «إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون، والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب اللَّه عليهم أولئك لا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون» «1».

آية اخري … ص: 123

وفي (الإتقان) أيضاً:

«قال- أي أبو عبيد-: حدّثنا عبداللَّه بن صالح، عن هشام بن سعيد [سعد] عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد اللّيثي قال: كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إذا اوحي إليه أتيناه فعلّمنا ممّا اوحي إليه، قال:

فجئت ذات يوم فقال: إنّ اللَّه يقول: إنّا أنزلنا المال لإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحبّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان له الثاني لأحبّ أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب» «2».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج أبو عبيد وأحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي واقد اللّيثي قال: كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إذا اوحي إليه أتيناه فعلّمنا ممّا اوحي إليه، قال: فجئته ذات يوم فقال: إنّ اللَّه يقول: إنّا أنزلنا المال لإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة، ولو أنّ لابن آدم وادياً لأحبّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان له ثان لأحبّ أن

يكون إليهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 3: 84.

(2) الإتقان في علوم القرآن 3: 83.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 124

آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب.

وأخرج أبو عبيد وأحمد وأبو يعلي والطّبراني عن زيد بن أرقم قال: كنّا نقرأ علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضّة لابتغي الثالث، ولا يملأ بطن ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب.

وأخرج أبو عبيد عن جابر عن عبداللَّه قال: كنّا نقرأ: لو أنّ لابن آدم ملأ وادٍ مالًا لأحبّ إليه مثله، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب.

وأخرج البزار وابن الضّريس عن بريرة قالت: سمعت النّبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرأ: لو أنّ لابن آدم وادياً من ذهب لابتغي إليه ثانياً، ولو اعطي ثانياً لابتغي إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب.

وأخرج ابن الأنباري عن أبي ذر قال: في قرائة ابيّ بن كعب: ابن آدم لو اعطي وادياً من مال لالتمس ثانياً، ولو اعطي واديين من مال لالتمس ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب، ويتوب اللَّه علي من تاب» «1».

وفي (الإتقان):

«أخرج الحاكم في المستدرك عن ابيّ بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: إنّ اللَّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين- ومن بقيّتها-: لو أنّ ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيته سأل ثانياً فأعطيته سأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 1: 257- 258 مع اختلاف قليل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 125

التراب، ويتوب

اللَّه علي من تاب. وإنّ ذات الدّين عند اللَّه الحنفيّة غير اليهوديّة ولا النّصرانيّة، ومن يعمل خيراً فلن يكفره» «1».

وفي (جامع الاصول):

«عن ابيّ بن كعب: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ اللَّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن، وقرأ عليه: لم يكن الذين كفروا، وقرأ فيها: إنّ الدّين عند اللَّه الحنفيّة المسلمة لا اليهوديّة ولا النّصرانيّة ولا المجوسيّة ومن يعمل خيراً فلم يكفره، وقرأ عليه: لو أنّ لابن آدم وادياً من مال لابتغي إليه ثانياً، ولو أنّ له ثانياً لابتغي ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب، ويتوب اللَّه علي من تاب؛ أخرجه الترمذي» «2».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج أحمد والتّرمذي والحاكم وصحّحه عن ابيّ بن كعب أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ اللَّه أمرني أن أقرأ عليك، فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب، فقرأ فيها: ولو أنّ ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيته لسأل ثانياً ولو سأل ثانياً فأعطيته لسأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب ويتوب اللَّه علي من تاب، وإنّ ذات الدّين عند اللَّه الحنفيّة غير المشركة ولا اليهوديّة ولا النّصرانيّة ومن يفعل ذلك فلن يكفره.

وأخرج [أحمد] عن ابيّ بن كعب قال: قال لي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه أمرني أن أقرأ عليك، فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتّي تأتيهم البيّنة رسول من اللَّه يتلوا صحفاً

__________________________________________________

(1) الإتقان 3: 83.

(2) جامع الاصول 2: 500/ 972.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 126

مطهّرة، وما تفرّق الذين اوتوا الكتاب إلّامن بعد ما جاءتهم البيّنة، إنّ الدّين عند اللَّه الحنفيّة غير المشركة ولا اليهوديّة ولا النّصرانيّة، ومن يفعل ذلك فلن يكفره.

قال

شعبة رضي اللَّه عنه: ثمّ قرأ آيات بعدها، ثمّ قرأ: لو أنّ لابن آدم وادياً من مال لسأل وادياً ثانياً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب، ثمّ ختم بما بقي من السّورة» «1».

وفي (الدر المنثور) أيضاً عن أحمد:

«عن ابن عبّاس قال: رجل أتي عمر يسأله، فجعل عمر ينظر إلي رأسه مرّة وإلي رجليه اخري هل يري عليه من البؤس، ثمّ قال له عمر: كم مالك؟

قال: أربعون من الإبل. قال ابن عبّاس: قلت: صدق اللَّه ورسوله: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغي الثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب ويتوب اللَّه علي من تاب. فقال عمر رضي اللَّه عنه: ما هذا؟ فقلت: هكذا أقرأني ابيّ.

قال: فمرّ بنا إليه فجاء إلي ابيّ فقال: ما يقول هذا؟ قال ابيّ: هكذا أقرأنيها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، قال: فأثبتها في المصحف؟ قال: نعم» «2».

وفي (الدر المنثور) أيضاً:

«أخرج ابن الضّريس عن ابن عبّاس قال: قلت: يا أميرالمؤمنين! إنّ ابيّاً يزعم أنّك تركت من كتاب اللَّه آية لم تكتبها، قال: واللَّه لأسألنّ ابيّاً فإن أنكر لتكذبنّ، فلمّا صلّي صلاة الغداة غدا علي ابيّ رضي اللَّه عنه فأذن له، فطرح له وسادة وقال: يزعم هذا إنّك تزعم أنّي تركت آية من كتاب اللَّه لم أكتبها؟!

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 8: 586.

(2) الدر المنثور 8: 587.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 127

فقال: إنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: لو أنّ لابن آدم واديين من مال لابتغي إليهما وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب ويتوب اللَّه علي من تاب، فقال: أو أكتبها؟ قال: لا أنهاك» «1».

آية الرجم … ص: 127

وفي (صحيح البخاري):

«إنّ اللَّه بعث محمّداً صلّي اللَّه عليه وسلّم بالحقّ

وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل اللَّه آية الرّجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ورجمنا بعده، فأخشي إن طال بالنّاس زمان أن يقول قائل واللَّه ما نجد آية الرّجم في كتاب فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، فالرّجم في كتاب اللَّه حقّ علي من زنا» «2».

وقال الراغب في (المحاضرات) في ذكر «ما ادّعي أنّه من القرآن ممّا ليس في المصحف»:

«وروي أنّ عمر رضي اللَّه عنه قال: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب اللَّه لأثبتُّ في المصحف، فقد نزلت: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالًا من اللَّه واللَّه شديد العقاب» «3».

وفي (الإتقان):

«وقال- أي أبو عبيد-: ثنا عبداللَّه بن صالح، عن اللّيث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن غزوان بن عثمان، عن أبي امامة بن سهل __________________________________________________

(1) الدر المنثور 8: 587.

(2) صحيح البخاري 8: 209.

(3) محاضرات الادباء 2: 433- 434.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 128

أنّ خالته قالت: لقد أقرأنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم آية الرّجم: الشّيخ والشّيخة فارجموهما ألبتّة بما قضيا من اللذّة» «1».

وفي (الموطأ):

«مالك عن يحيي بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب قال: لمّا صدر عمر ابن الخطّاب من مني أناخ بالأبطح ثمّ كوّم كومة من بطحاء ثمّ طرح عليها رداءه فاستلقي ثمّ مدّ يديه إلي السّماء فقال: اللّهمّ كبرت سنّي وضعفت قوّتي وانتشرت رعيّتي فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط، ثمّ قدم المدينة فخطب النّاس ثمّ قال: أيّها النّاس قد سنّت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم علي الواضحة إلّاأن تضلّوا بالنّاس يميناً وشمالا، وضرب بإحدي يديه علي الاخري ثمّ قال: إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرّجم أن يقول قائل: إنّا

لا نجد حدّين في كتاب اللَّه، فقد رجم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول النّاس زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبتها: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة، فإنّا قد قرأناها» «2».

وفي (مسند) أحمد بن حنبل:

«حدّثنا عبداللَّه قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا هشيم قال: أخبرنا الزهري، عن عبداللَّه بن عبيداللَّه بن عتبة بن مسعود قال: أخبرني عبداللَّه بن عبّاس قال:

حدّثني عبدالرحمان بن عوف أنّ عمر بن الخطّاب خطب النّاس فسمعه يقول:

ألا وإنّ اناساً يقولون ما بال الرجم وفي كتاب اللَّه الجلد، وقد رجم رسول اللَّه ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون أو يتكلّم المتكلّمون أنّ عمر زاد في __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 3: 82.

(2) الموطأ 2: 824 كتاب الحدود/ 10 مع اختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 129

كتاب اللَّه ما ليس فيه لأثبتُّها كما نزلت» «1».

وفيه أيضاً:

«حدّثنا عبداللَّه قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا عبدالرّحمان قال: حدّثنا مالك عن الزهري عن عبيداللَّه بن عبداللَّه عن ابن عبّاس قال: قال عمر: إنّ اللَّه عزّوجلّ بعث محمّداً صلّي اللَّه عليه وسلّم وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرّجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فأخشي أن يطول بالنّاس عهد فيقولون إنّا لا نجد آية الرّجم فتترك الفريضة أنزلها اللَّه، وإنّ الرجم في كتاب اللَّه حقّ علي من زنا إذا احصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الإعتراف» «2».

وفيه:

«حدّثنا عبداللَّه قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا محمّد بن جعفر وحجّاج قالا: حدّثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت عبيداللَّه بن عبداللَّه بن عتبة يحدّث عن ابن عبّاس عن عبدالرحمن بن عوف قال: حجّ عمر بن الخطّاب فأراد أن

يخطب النّاس خطبة فقال عبدالرحمان بن عوف: إنّه قد اجتمع عندك رعاع النّاس فأخِّر ذلك حتّي تأتي المدينة، فلمّا قدم المدينة دنوت قريباً من المنبر فسمعته يقول: إنّ ناساً يقولون ما بال الرّجم وإنّما في كتاب اللَّه الجلد، وقد رجم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ورجمنا بعده، لولا أن يقولوا أثبت في كتاب اللَّه ما ليس فيه لأثبتّها كما انزلت» «3».

__________________________________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 1: 49/ 198 مع اختلاف.

(2) مسند أحمد بن حنبل 1: 66/ 278.

(3) مسند أحمد بن حنبل 1: 81/ 354.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 130

وفي (صحيح البخاري):

«قال عكرمة: قال عمر لعبدالرحمان بن عوف: لو رأيت رجلًا علي حدّ زني أو سرقة وأنت أمير؟ فقال: شهادتك شهادة رجل من المسلمين. قال:

صدقت. قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبت آية الرجم بيدي» «1».

وفي (فتح الباري) في شرح قوله: قال عمر الخ:

«قال المهلّب: إستشهد البخاري لقول عبدالرحمان بن عوف المذكور قبله بقول عمر هذا: إنّه كانت عنده شهادة في آية الرجم أنّها من القرآن فلم يلحقها بنصّ المصحف بشهادته وحده وأفصح بالعلّة في ذلك بقوله: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب اللَّه، فأشار إلي أنّ ذلك من قطع الذّرائع لئلّا يجد حكّام السوء سبيلًا إلي أن يدّعوا العلم لمن أحبّوا له الحكم بشي» «2».

آية الرضاع … ص: 130

وفي (المحاضرات):

«قالت عائشة رضي اللَّه عنها: لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير وكانت في رقعة تحت سريري وشغلنا بشكاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فدخلت داجن للحيّ فأكلته» «3».

وفي (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق) في حكم الرضاع:

«قال الشافعي: لا يحرم إلّابخمس رضعات يعني مشبعات، لما روي __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 9:

86.

(2) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 13: 135.

(3) محاضرات الادباء 2: 434 مع اختلاف قليل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 131

عن عائشة رضي اللَّه عنها أنّها قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثمّ نسخن بخمس معلومات، فتوفّي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهي فيما يقرأ من القرآن؛ رواه مسلم».

فأجاب عن استدلال الشافعي بقوله:

«ولا حجّة له في خمس رضعات أيضاً، لأنّ عائشة رضي اللَّه عنها أحالتْها علي أنّها قرآن وقالت: ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلمّا مات رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وتشاغلنا بموته دخلت دواجن فأكلتها» «1».

آية الجهاد … ص: 131

وفي (الإتقان):

«قال- أي أبو عبيد-: حدّثنا ابن أبي مريم، عن نافع بن عمر الجُمحي، حدّثني ابن أبي مُلَيكة، عن المِسْور بن مَخْرمة قال: قال عمر لعبدالرحمان بن عوف: ألم تجد فيما انزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة، فإنّا لا نجدها. قال: اسقطت فيما اسقط من القرآن» «2».

ورواه في (الدر المنثور) حيث قال:

«أخرج أبو عبيد عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبدالرحمان بن عوف: ألم تجد فيما انزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة، فإنّا لا نجدها. قال: اسقطت فيما اسقط من القرآن» «3».

وفي (كنز العمال):

__________________________________________________

(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2: 630- 631.

(2) الإتقان في علوم القرآن 3: 84.

(3) الدر المنثور 1: 258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 132

«عن المِسْور بن مخرمة قال: قال عمر لعبدالرحمان بن عوف: ألم تجد فيما انزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة، فإنّا لم نجدها. قال:

اسقطت فيما اسقط من القرآن؛ أبو عبيد» «1».

آية: لا ترغبوا عن آبائكم … ص: 132

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن الضّريس عن ابن عبّاس قال: كنّا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم وإنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم.

وأخرج عبدالرزاق وأحمد وابن حبّان عن عمر بن الخطّاب قال: إنّ اللَّه بعث محمّداً بالحقّ وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرّجم ورجمنا بعده، ثمّ قال: قد كنّا نقرأ: ولا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم إن ترغبوا عن آبائكم.

وأخرج الطيالسيّ وأبو عبيد والطّبراني عن عمر بن الخطّاب: كنّا نقرأ فيما نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم، ثمّ قال لزيد بن ثابت: أكذلك يا زيد؟ قال: نعم» «2».

آية حميّة الجاهليّة … ص: 132

وفي (المستدرك):

«عن ابن إدريس عن ابيّ بن كعب أنّه كان يقرأ: إذ جعل الذين في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهليّة كما حموا لفسد المسجد الحرام فأنزل اللَّه __________________________________________________

(1) كنز العمال 2: 567/ 4741.

(2) الدر المنثور 1: 258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 133

سكينته علي رسوله …» «1».

وفي (الدرّ المنثور):

«أخرج النسائي والحاكم وصحّحه من طريق ابن أبي إدريس عن ابيّ بن كعب رضي اللَّه عنه إنّه كان يقرأ: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهليّة ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام فأنزل اللَّه سكينته علي رسوله، فبلغ ذلك عمر رضي اللَّه عنه فاشتدّ عليه، فبعث إليه فدعا ناساً من أصحابه فيهم زيد بن ثابت فقال: من يقرأ فيكم سورة الفتح، فقرأ زيد علي قرائتنا اليوم فغلّظ له عمر فقال: إنّي أتكلّم؟ قال: تكلّم. قال: لقد علمت أني كنتُ أدخل علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم ويُقرئني وأنت بالباب، فإن أحببت أن اقرئ النّاس علي ما أقرأني وإلّا لم أقرأ حرفاً ما حييتُ. قال: بل أقرئ النّاس» «2».

آية الصلاة علي النبي … ص: 133

وفي (الإتقان):

«قال- أي أبو عبيد-: حدّثنا حجّاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي عبيدة عن حميدة بنت أبي يونس قالت: قرأ عليّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: إنّ اللَّه وملائكته يصلّون علي النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً وعلي الذين يصلون الصفوف الاوَل، قالت: قبل أن يُغيّر عثمان المصاحف» «3».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 2: 225 و فيه: أبي إدريس.

(2) الدر المنثور 7: 535 و فيه: من طريق أبي إدريس، بدل: ابن أبي إدريس.

(3) الإتقان في علوم القرآن 3: 82، وفيه: ابن أبي حميد عن حميدة قالت. بدل: ابن أبي عبيدة

عن حميدة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 134

آية: وهو أبٌ لهم … ص: 134

وفي (الدر المنثور):

«أخرج الفِريابي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه إنّه كان يقرأ هذه الآية: النبيّ أولي بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه امّهاتهم.

وأخرج عبدالرزاق وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي عن بَجَالة قال: مرّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف:

النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امّهاتهم وهو أب لهم، فقال: يا غلام حُكّها، فقال: هذا مصحف ابيّ، فذهب إليه فسأله، فقال: إنّه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق» «1».

آية الصلاة الوسطي … ص: 134

وأخرج مسلم في (الصحيح):

«حدّثنا يحيي بن يحيي التميمي قال: قرأت علي مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولي عائشة أنّه قال: أمرتني عائشة أن أكتبَ لها مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي» قال: فلمّا بلغتها آذنتها، فأملَتْ عليّ: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين. قالت عائشة:

سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم» «2».

وفي (الدر المنثور):

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 6: 567 بتقديم وتأخير والمعني واحد.

(2) صحيح مسلم 1: 437/ 629.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 135

«أخرج عبدالرزاق والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن أبي داود في المصاحف عن أبي رافع مولي حفصة قال: إستكتبتني حفصة مصحفاً فقالت:

إذا أتيت علي هذه الآية فتعال حتّي امليها عليك كما أقرأتها، لمّا أتيت علي هذه الآية «حافظوا علي الصلوات» قالت: اكتب: حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطي وصلاة العصر. فلقيت ابيّ بن كعب فقلت: أباالمنذر! إنّ حفصة قالت كذا وكذا. فقال: هو كما قالت، أوليست أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا لو أصبحنا.

وأخرج مالك وأبوعبيد وعبد بن حميد وأبويعلي وابن جرير

وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عن عمرو بن نافع قال: كنت أكتبُ مصحفاً لحفصة زوج النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي» فلمّا بلغتُها آذنتها، فأملت عليّ: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين، وقالت: أشهد أنّي سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وأخرج عبدالرزاق عن نافع: إنّ حفصة دفعت مصحفاً إلي موليً لها يكتب وقالت: إذا بلغتَ هذه الآية «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي» فآذنّي، فلمّا بلغها جاءها فكتبت بيدها: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر.

وأخرج مالك وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي داود وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عن يونس مولي عائشة قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت:

إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 136

العصر وقوموا للَّه قانتين. قالت عائشة: سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وأخرج عبدالرزاق وابن جرير وابن أبي داود في المصاحف وابن المنذر عن ام حميد بنت عبدالرحمان أنّها سألت عائشة عن الصّلاة الوسطي فقالت:

كنّا نقرؤها في الحرف الأوّل علي عهد النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين» «1».

وروي ابن حجر في (فتح الباري):

«روي مسلم وأحمد من طريق أبي يونس عن عائشة أنّها أمرته أن يكتب لها مصحفاً، فلمّا بلغتُ «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي» قال: فأملَتْ عليّ: وصلاة العصر. قالت: سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وروي مالك عن عمرو بن رافع قال: كتبت مصحفاً لحفصة، فقالت: إذا أتيت هذه الآية فآذنّي، فأملَتْ عليّ:

حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر.

أخرجه ابن جرير- من وجه آخر حسن- عن عمرو بن رافع.

وروي ابن المنذر من طريق عبيداللَّه بن رافع: أمرتني ام سلمة أن أكتبَ لها مصحفاً. نحوه.

ومن طريق نافع: إنّ حفصة أمرت موليً لها أن يكتب لها مصحفاً، فذكر مثله وزاد: كما سمعت من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقولها» «2».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 1: 721- 722 وفيه: … في عملنا ونواضحنا، بدل: في عملنا لو أصبحنا.

(2) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 8: 158- 159.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 137

وفي (الموطّأ):

«مالك عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم بن أبي يونس مولي عائشة امّ المؤمنين إنّه قال: أمرتني عائشة أن أكتبَ لها مصحفاً ثمّ قالت: إذا بلغتَ هذه الآية فآذنّي «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وقوموا للَّه قانتين» فلمّا بلغتها آذنتُها، فأملت عليّ: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين، ثمّ قالت: سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

وفيه:

«مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو بن نافع أنّه قال: كنتُ أكتبُ مصحفاً لحفصة امّ المؤمنين، فقالت: إذا بلغتَ هذه الآية فآذنّي «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وقوموا للَّه قانتين» فلمّا بلغتها آذنتها، فأملت عليّ:

حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين» «2».

آية صلاة الجمعة … ص: 137

وفيه:

«مالك إنّه سأل ابن شهاب عن قول اللَّه تبارك وتعالي: «إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر اللَّه» «3»

فقال ابن شهاب: كان عمر بن الخطّاب يقرؤها: إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فامضوا إلي ذكر اللَّه» «4».

__________________________________________________

(1). الموطأ 1: 138- 139.

(2). الموطأ 1: 139.

(3). سورة الجمعة 62: 9.

(4). الموطأ 1: 129.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 138

وقال في

(الدر المنثور):

«أخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن خَرَشَة بن الحُر رضي اللَّه عنه قال:

رأي معي عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه لوحاً مكتوباً فيه: «إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر اللَّه» «1»

فقال: من أملي عليك هذا؟ قلت: ابيّ ابن كعب. قال: إنّ ابيّاً أقرؤنا للمنسوخ، إقرأها: فامضوا إلي ذكر اللَّه.

وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم رضي اللَّه عنه قال: قيل لعمر رضي اللَّه عنه: إنّ ابيّاً يقرأ فاسعوا إلي ذكر اللَّه. قال عمر رضي اللَّه عنه: ابيّ أعلمني بالمنسوخ وكان يقرؤها: فامضوا إلي ذكر اللَّه.

وأخرج الشافعي في الامّ وعبدالرزاق والفِريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: ما سمعت عمر يقرأ قطّ إلّا: فامضوا إلي ذكر اللَّه.

وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: لقد توفي عمر رضي اللَّه عنه وما يقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلّا: فامضوا إلي ذكر اللَّه.

وأخرج عبدالرزاق والفِريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري والطبراني من طرق عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه إنّه كان يقرأ: فامضوا إلي ذكر اللَّه. قال: ولو كان __________________________________________________

(1) سورة الجمعة 62: 9.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 139

فاسعوا لَسَعَيْتُ حتّي يسقط ردائي» «1».

آية اخري … ص: 139

وفي (صحيح الترمذي):

«حدّثنا عبد بن حميد، نا عبيداللَّه، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمان بن يزيد، عن عبداللَّه بن مسعود قال: أقرأني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

وسلّم: إنّي أنا الرزّاق ذوالقوّة المتين؛ هذا حديث حسن صحيح» «2».

وفي (مسند) أحمد بن حنبل:

«حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا يحيي بن آدم ويحيي بن أبي بكر قالا:

حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمان بن يزيد، عن عبداللَّه بن مسعود قال: أقرأني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّي أنا الرزّاق ذوالقوّة المتين» «3».

آية الطلاق … ص: 139

وفي (الدر المنثور):

«أخرج مالك والشافعي وعبدالرزّاق في المصنَّف وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وأبو يعلي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أنّه: طلّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر رضي اللَّه عنه لرسول اللَّه،

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 1: 161.

(2) صحيح الترمذي 5: 191/ 2940.

(3) مسند أحمد بن حنبل 1: 651/ 3733.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 140

فتغيّظ فيه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ثمّ قال: ليراجعها ثمّ يمسكها حتّي تطهر ثمّ تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلّقها فليطلّقها طاهراً قبل أن يمسكها، فتلك العدّة التي أمر اللَّه تعالي أن يطلّق بها النساء، وقرأ صلّي اللَّه عليه وسلّم:

يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ في قبل عدّتهنّ.

وأخرج عبدالرزّاق في المصنَّف وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قرأ: فطلّقوهنّ في قبل عدّتهنّ.

وأخرج عبدالرزّاق وأبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه أنّه كان يقرأ:

وطلّقوهنّ لقبل عدّتهنّ.

وأخرج ابن الأنباري عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أنّه قرأ: فطلّقوهنّ لقبل عدّتهنّ.

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن مجاهد رضي

اللَّه عنه أنّه كان يقرأ: فطلّقوهنّ لقبل عدّتهنّ» «1».

آية التبليغ … ص: 140

وفيه:

«أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا أيّها الرّسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك أنّ عليّاً مولي المؤمنين وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللَّه يعصمك من النّاس» «2».

وقال محمّد بن معتمدخان البدخشاني:

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 8: 189- 190. مع اختلاف.

(2) الدر المنثور 3: 117.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 141

«وأخرج- أي ابن مردويه- عن زِرّ عن عبداللَّه قال: كنّا نقرأ علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا أيّها الرّسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك أنّ عليّاً مولي المؤمنين وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللَّه يعصمك من النّاس» «1».

آية كفي اللَّه المؤمنين … ص: 141

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنّه كان يقرأ هذا الحرف: وكفي اللَّه المؤمنين القتال بعليّ بن أبي طالب» «2».

وفي (مفتاح النجا):

«وأخرج- أي ابن مردويه- عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أنّه كان يقرأ هذا الحرف: وكفي اللَّه المؤمنين القتال بعليّ بن أبي طالب وكان اللَّه قويّاً عزيزاً» «3».

وفي (تفسير الثعلبي):

«أخبرني أبو محمّد عبداللَّه بن محمّد بن عبداللَّه القايني، نا أبوالحسين محمّد بن عثمان بن الحسين النصيبي، نا أبوبكر محمّد بن الحسين بن صالح السبيعي، نا أحمد بن محمّد بن سعيد، نا أحمد بن ميثم بن أبي نعيم، نا أبو جنادة السلولي، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: قرأت في مصحف عبداللَّه ابن مسعود: إنّ اللَّه اصطفي آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمّد

__________________________________________________

(1) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

(2) الدر المنثور 6: 590.

(3) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 142

علي العالمين» «1».

عثمان: إنّ في القرآن لحناً! … ص: 142

وقال ابن قتيبة:

«إنّ عثمان قال في قوله تعالي: «إن هذان لساحران» إنّ في القرآن لحناً. فقال رجل: صحّح ذلك الغلط. فقال: دعوه فإنّه لا يُحلّل حراماً ولا يُحرِّم حلالًا» «2».

وفي بعض الروايات:

«قال عثمان: إنّ في المصحف لحناً وسيقيمه العرب بألسنتهم، فقيل له:

ألا تغيّره؟ فقال: دعوه، فلا يحلّل حراماً ولا يحرّم حلالًا» فقد جاء في (معالم التنزيل) للبغوي بتفسير الآية: «لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة» ما نصّه:

«واختلفوا في وجه انتصابه فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّه غلط من الكاتب ينبغي أن يصلح ويكتب: والمقيمون الصلاة، وكذلك قوله في سورة المائدة «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا

والصابئون» وقوله: «إن هذان لساحران» قالوا: ذلك خطأ من الكُتّاب، وقال عثمان رضي اللَّه عنه: إنّ في المصحف لحناً وسيقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تُغيّره؟ فقال: دعوه فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالًا» «3».

وقد ذكر ابن تيمية في (منهاجه) تفسير البغوي، فقال بالنسبة إلي __________________________________________________

(1) تفسير الثعلبي 3: 53.

(2) تأويل مشكل القرآن: 50- 51.

(3) تفسير البغوي/ معالم التنزيل 2: 187- 188.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 143

الأحاديث المروية فيه:

«وأمّا الأحاديث، فلم يذكر في تفسيره شيئاً من الموضوعات التي رواها الثعلبي، بل يذكر منها الصحيح … ولم يذكر الأحاديث التي يظهر لعلماء الحديث أنها موضوعة كما يفعله غيره من المفسّرين كالواحدي …» «1».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي داود، عن عبدالأعلي بن عبداللَّه بن عامر القرشي قال:

لمّا فرغ من المصحف اتي به عثمان فنظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أري شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها. قال ابن أبي داود: وهذا عندي يعني بلغتها فينا وإلّا فلو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعاً لما استجاز أن يبعث إلي قوم يقرؤونه.

وأخرج ابن أبي داود عن عكرمة قال: لمّا اتي عثمان بالمصحف رأي فيه شيئاً من لحن، فقال: لو كان المملي من هُذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.

وأخرج ابن أبي داود عن قتادة: إنّ عثمان لمّا رفع إليه المصحف فقال:

إنّ فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها.

وأخرج ابن أبي داود عن يحيي بن يَعمر قال: قال عثمان: إنّ في القرآن لحناً وستقيمه العرب بألسنتها» «2».

وفي (الإتقان):

«حدّثنا حجّاج، عن هارون بن موسي، أخبرني الزبير بن الخِرّيت، عن __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4: 39.

(2) الدر المنثور 2: 745.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 144

عكرمة قال:

لمّا كُتبت المصاحف عُرضَت علي عثمان فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيّروها فإنّ العرب ستغيّرها- أو قال: ستعربها- بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف؛ أخرجه من هذه الطريق ابن الأنباري في كتاب الردّ علي من خالف مصحف عثمان وابن أشتة في كتاب المصاحف.

ثمّ أخرج ابن الأنباري نحوه من طريق عبدالأعلي بن عبداللَّه بن عامر وابن أشتة نحوه من طريق يحيي بن يعمر» «1».

وفي (تفسير) أبي الليث:

«قال- أي أبو عبيد-: وروي عن عثمان رضي اللَّه عنه أنّه عُرِض عليه المصحف فوجد فيه حروفاً من اللحن، فقال: لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف» «2».

وقال ابن روزبهان بجواب العلّامة الحلّي:

«وأمّا عدم تصحيح لفظ القرآن، لأنّه كان يجب عليه متابعة صورة الخط وهكذا كان مكتوباً في المصاحف، ولم يكن التغيير له جائزاً فتركه، لأنّه لغة بعض العرب».

ولنعم ما أفاده العلّامة التستري في جوابه حيث قال:

«وأمّا ما ذكره في إصلاح إطلاق عثمان اللّحن علي القرآن فلا يصدر إلّا عن محجوج مبهوت، فإنّ المصنّف اعترض علي عثمان بأنّه أطلق علي القرآن اشتماله علي اللحن المذموم المخلّ بالفصاحة، وهذا النّاصب يغمض العين __________________________________________________

(1) الاتقان في علوم القرآن 2: 320.

(2) تفسير أبي الليث السمرقندي 1: 404 و 450 و 2: 347- 348.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 145

عن جواب هذا الذي هو محطّ الطعن ويتعرّض بوجه ترك عثمان لتغييره وإصلاحه بقوله: دعوه …

وما أشبه جوابه هذا بما أجاب به أجاب أهل خراسان عمداً عن سؤال أهل ماوراء النهر، بأنّ النبّال إذا أراد استعلام استقامة النبل واعوجاجه لِمَ يغمض أحد عينيه. وبأنّ الطير المسمّي باللق لق إذا

قام لِمَ يرفع إحدي رجليه.

فأجاب أهل خراسان بأنّ النبّال إنّما يغمض إحدي عينيه لأنّه لو أغمض العين الاخري لا يري شيئاً، والطّير المذكور إنّما يرفع إحدي رجليه لأنّه لو رفع الرجل الآخر لسقط علي الأرض، فليضحك أولياؤه كثيراً.

ومن العجب: أنّ عثمان صرّح بأنّ تلك العبارة من القرآن لا تقبل الإصلاح وأنّه لا حاجة إلي إصلاحه، لعدم تحليله حراماً وتحريمه حلالًا، وهذا الناصب المرواني- الذي غلب عليه هوي عثمان- لمّا علم أنّ ما قاله عثمان طعن لا مدفع له، عَدَل عن دفعه عنه وقال: تركه لأنّه كان لغة بعض العرب، فإنّ كونه لغة بعض العرب هو الوجه الذي ذكره العلماء لدفع وهم عثمان لا لدفع الطعن عنه، وأنّي يندفع الطعن عنه بذلك، ولو كان عثمان عالماً بموافقة ذلك للغة بعض العرب كيف صحّ له مع كثرة حياءه عند القوم أن لا يستحيي من اللَّه ويطلق علي بعض كلماته التامّات أنّه لحن وخطأ في القول؟

مع ظهور أنّ بعض ألفاظ القرآن وارد علي لغة قريش وبعضها علي لغة بني تميم وبعضها علي لغة غيرهم».

نقد القول بوقوع اللحن في القرآن … ص: 145

هذا، وقد قال صاحب (الكشّاف): «لا يلتفت إلي ما زعموا من وقوعه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 146

لحناً في [خطّ] المصحف» «1».

ونصّ النيسابوري صاحب (التفسير) علي ركاكة القول المذكور حيث قال: «ولا يخفي ركاكة هذا القول، لأنّ هذا المصحف منقول بالنّقل المتواتر» «2».

وهكذا الفخر الرازي … فإنّه بعد حكاية القول بذلك عن عثمان وعائشة قال: «واعلم أنّ هذا بعيد» «3» ولا استبعاد في استبعاده بل في كفر قائله بإجماع أهل العلم علي ما في (الشفاء) للقاضي عياض «4».

والسيوطي تحيَّر بعد نقل تلك الآثار في حلّها، فإنّه قال:

«وهذه الآثار مشكلة جدّاً، وكيف يظنّ

بالصّحابة أوّلًا: إنّهم يلحنون في الكلام فضلًا عن القرآن وهم الفصحاء اللّد، ثمّ كيف يظنّ بهم ثانياً: في القرآن الذي تلقّوه من النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم كما انزل وحفظوه وضبطوه وأتقنوه، ثمّ كيف يظنّ بهم ثالثاً: اجتماعهم كلّهم علي الخطأ وكتابته، ثمّ كيف يظنّ بهم رابعاً: عدم تنبّههم ورجوعهم عنه. ثمّ كيف يظنّ بعثمان إنّه ينهي عن تغييره؟

ثمّ كيف يظنّ أنّ القرآن استمرّ علي مقتضي ذلك الخطأ وهو مرويّ بالتّواتر خلفاً عن سلف، هذا ممّا يستحيل شرعاً وعقلًا وعادة» «5».

ثمّ إنّ السيوطي حاول الإجابة عن الإشكالات فقال:

«وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أوجه:

__________________________________________________

(1) الكشاف في تفسير القرآن 1: 582.

(2) تفسير النيسابوري/ غرائب القرآن 6: 529.

(3) تفسير الفخر الرازي 11: 106.

(4) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 646- 647.

(5) الإتقان في علوم القرآن 2: 321.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 147

أحدها: أنّ ذلك لا يصحّ عن عثمان، فإنّ إسناده ضعيف مضطرب منقطع، ولأنّ عثمان جعل للنّاس إماماً يقتدون به، فكيف يري فيه لحناً ويتركه ليقيمه العرب بألسنتها؟ فإذا كان الذين تولّوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهم الخيار، فكيف يقيمه غيرهم؟ وأيضاً، فإنّه لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدّة مصاحف، فإن قيل: إنّ اللحن وقع في جميعها فبعيد اتّفاقها علي ذلك، أو في بعضها فهو اعتراف بصحّة البعض، ولم يذكر أحد من النّاس إنّ اللّحن كان في مصحف دون مصحف، ولم تأت المصاحف قطّ مختلفة إلّافيما هو من وجوه القرائة وليس ذلك بلحن.

الوجه الثاني: علي تقدير صحّة الرواية، إنّ ذلك مأوّل علي الرّمز والإشارة ومواضع الحذف نحو الكتب والصبرين وما أشبه ذلك.

الثّالث: إنّه مأوّل علي أشياء خالف لفظها رسمها كما كتبوا «لأوضعوا» و «لأذبحنّه»

بألف بعد لا «لا اوضعوا» و «لا اذبحنّه» و «جزاؤ الظالمين» بواو وألف، و «بأيد» بيائين، فلو قري ء ذلك بظاهر الخط لكان لحناً. وبهذاالجواب وما قبله جزم ابن أشتة في كتاب المصاحف» «1».

هذا، ولا يجدي شي ء من هذه الوجوه نفعاً، فالروايات تلقّاها العلماء بالقبول ونسبوها إلي قائليها عن جزم، كما في (معالم التنزيل): «قال عثمان: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها …» «2».

وأمّا الجواب بالحمل علي التأويل، فواضح ما فيه، وقد ذكره السيوطي فقال:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 321- 322. وفيه اختلاف.

(2) تفسير البغوي/ معالم التنزيل 2: 188.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 148

«ومن زعم أنّ عثمان أراد بقوله: أري فيه لحناً: أري في خطّه لحناً إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخط غير مفسد ولا محرّف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب، فقد أبطل ولم يصب؛ لأنّ الخط منبي ء عن النطق؛ فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخّر فساداً في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق، ومعلوم أنّه كان مواصلًا لدرس القرآن متقناً لألفاظه موافقاً علي ما رسم في المصاحف المنفذة إلي الأمصار والنواحي» «1».

وقال:

«أخرج- أي ابن أشتة- عن إبراهيم النخعي أنّه قال: آية و «إنّ هذين ساحران» سواء، لعلّهم كتبوا الألف مكان الياء، والواو في قوله: «والصابئون» و «الرّاسخون» مكان الياء. قال ابن أشتة: يعني إنّه من إبدال حرف في الكتابة بحرف، مثل الصّلاة والزّكاة والحياة.

وأقول: هذا الجواب إنّما يحسن لو كانت القرائة بالياء فيها والكتابة بخلافها، وأمّا والقرائة علي مقتضي الرسم فلا» «2».

ثمّ ذكر السيوطي جواباً آخر جعله أقوي ما يجاب به، قال:

«ثمّ قال ابن أشتة: أنبأنا محمّد بن يعقوب، حدّثنا أبو داود سليمان

بن الأشعث، ثنا حميد بن مسعدة، ثنا إسماعيل أخبرني الحارث بن عبدالرحمن، عن عبدالأعلي بن عبداللَّه بن عامر قال: لمّا فرغ من هذا المصحف اتي به عثمان فنظر فيه، فقال: أحسنتم وأجملتم، أري شيئاً سنقيمه بألسنتنا.

فهذا الأثر لا إشكال فيه وبه يتّضح معني ما تقدّم، فكأنّه عرض عليه __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 322.

(2) الإتقان في علوم القرآن 2: 324- 325.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 149

عقب الفراغ من كتابته، فرأي فيه شيئاً كتب علي غير لسان قريش، كما وقع لهم في التابوت والتابوة، فوعد بأنّه سيقيمه علي لسان قريش، ثمّ وفي بذلك عند العرض والتقويم ولم يترك شيئاً.

ولعلّ من روي الآثار السابقة عنه حرّفها ولم يتقن اللّفظ الذي صدر من عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال، فهذا أقوي ما يجاب به عن ذلك، وللَّه الحمد» «1».

وأمّا أبو القاسم الراغب الإصفهاني فلم يرتض شيئاً من هذه الوجوه فقال:

«كأن القوم الذين كتبوا المصحف لم يكونوا قد حذقوا الكتابة، فلذلك وضعت أحرف علي غير ما يجب أن تكون عليه. وقيل: لمّا كتبت المصاحف وعرضت علي عثمان فوجد فيها حروفاً من اللّحن في الكتابة قال: لا تغيّروها، فإنّ العرب ستغيّرها- أو ستعربها- بألسنتها ولو كان الكاتب من ثقيف والممل من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف» «2».

عائشة: أخطأوا في الكتب!

وقال السيوطي في (الإتقان):

«قال أبو عبيد في فضائل القرآن: ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن جدّه قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله «إن هذان لساحران» وعن قوله: «والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة» وعن قوله «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون والنّصاري» قالت: يا ابن أخي هذا عمل __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم

القرآن 2: 323- 324.

(2) محاضرات الادباء 2: 434.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 150

الكتّاب أخطأوا في الكتاب؛ هذا إسناد صحيح علي شرط الشيخين» «1».

وقال في (الدر المنثور):

«أخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي داود وابن المنذر عن عروة قال: سألت عائشة عن لحن القرآن «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون» «والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة» و «إن هذان لساحران» فقالت: يا ابن اختي! هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتاب» «2».

وقال أبو عمرو الداني في (المقنع):

«نا الخاقاني قال: نا أحمد بن محمّد قال: نا علي بن عبدالعزيز قال: نا أبوعبيد قال: نا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سألت عائشة رضي اللَّه عنها عن لحن القرآن عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «إن هذان لساحران» وعن قوله: «والمقيمين الصلاة والمؤتون الزّكاة» وعن قوله تعالي: «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون» فقالت: يا ابن اختي! هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتاب» «3».

والحقُّ: أن الحديث الصحيح المتقدّم ونحوه لا يمكن الجواب عنه بما ذكروه، وهذا ما اعترف به الحافظ السيوطي بالتالي حيث قال بعد ذكر الأجوبة التي تقدّمت وما استحسنه من جوابه:

«وبعد؛ فهذه الأجوبة لا يصح شي ء منها عن حديث عائشة؛ أمّا الجواب __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 320.

(2) الدر المنثور 2: 744- 745.

(3) المقنع لأبي عمرو الداني: 119.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 151

بالتضعيف، فلأنّ إسناده صحيح كما تري، وأمّا الجواب بالرمز وما بعده، فلأنّ سؤال عروة عن الأحرف المذكورة لا يطابقه» «1».

ولقد أنصف القاضي ثناء اللَّه الهندي- وهو أكبر تلامذة شاه ولي اللَّه- إذ خطّأ عائشة وجعل قولها خرقاً للإجماع، حيث قال في (تفسيره)

في تفسير قوله تعالي: «إن هذان لساحران»:

«واختلفوا في توجيهه، فروي هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّه خطأ من الكاتب. وهذا القول خطأ خارق للإجماع».

وكذا ابن السمين في تفسيره (الدر المصون) حيث قال:

«ذهب جماعة- منهم عائشة رضي اللَّه عنها وأبو عمرو- إلي أنّ هذا ممّا لحن فيه الكاتب واقيم بالصواب، يعنون أنّه كان من حقّه أن يكتب بالياء فلم يفعل ولم يقرأه النّاس إلّابالياء علي الصواب» «2».

وقال السيوطي في (الإتقان):

«تذنيب: يقرب ممّا تقدّم عن عائشة ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن أشتة في المصاحف، من طريق إسماعيل المكّي عن أبي خلف مولي بني جمح: أنّه دخل مع عبيد بن عمير علي عائشة فقال: جئت أسألك عن آية من كتاب اللَّه كيف كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرؤها. قالت: أيّة آيةٍ؟

قال: الذين يؤتون ما آتوا أو الذين يأتون ما آتوا. فقالت: أيّهما أحبّ إليك؟

قلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً. قالت: أيّهما؟

قلت: الذين يأتون ما آتوا. فقالت: أشهد أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 324.

(2) الدر المصون/ تفسير ابن السمين 5: 34- 35.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 152

كذلك كان يقرؤها وكذلك انزلت ولكن الهجاء حُرّف» «1».

وقال في (الدر المنثور):

«أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن الأنباري معاً في المصاحف والدّارقطني في الإفراد والحاكم وصحّحه وابن مردويه عن عبيد بن عمير رضي اللَّه عنه: إنّه سأل عائشة رضي اللَّه عنها: كيف كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرأ هذه الآية: والذين يؤتون ما آتوا والذين يأتون ما آتوا، فقالت: أيّتهما

أحبّ إليك؟

قلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً. قالت: أيّهما؟

قلت: الذين يأتون ما آتوا. فقالت: أشهد أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كذلك كان يقرؤها، وكذلك انزلت ولكن الهجاء حرّف» «2».

ابن عبّاس: أخطأ الكاتب وقال في (الإتقان) عاطفاً علي ما تقدم:

«وما أخرجه ابن جرير وسعيد بن منصور في سننه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله «حَتّي تستأنسوا وتُسلّموا» قال: إنّما هي خطأ من الكاتب: حتّي تستأذنوا وتسلّموا؛ أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ هو فيما أحسب ممّا أخطأ به الكتّاب» «3».

وأخرج الحاكم:

«عن مجاهد عن ابن عبّاس في قوله: «لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّي __________________________________________________

(1) الاتقان في علوم القرآن 2: 327.

(2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6: 106 وفيه: ابن اشته بدل ابن أبي شيبة.

(3) الإتقان في علوم القرآن 2: 327.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 153

تستأنسوا» قال: أخطأ الكاتب، تستأذنوا». ثمّ قال: «هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين» «1».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مندة في غرائب شعبة والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة من طرق عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما في قوله تعالي: «حتّي تستأنسوا وتسلّموا علي أهلها» قال: أخطأ الكاتب، إنّما هي: حتّي تستأذنوا» «2».

والعجب: أن الحكيم الترمذي يجعل هذا الحديث وأمثاله- مما أخرجه كبار الأئمة كما عرفت وصحّحوه- من مكائد الزنادقة، وفي ذلك فضيحة لثقات المحدثين بل لأعلام الصحابة وغيرهم من أركان الدين … إنّه يقول:

«والعجب من هؤلاء الرواة، أحدهم يروي عن ابن عبّاس إنّه قال في قوله «حتّي تستأنسوا وتسلّموا»

هو خطأ من الكاتب إنّما هو تستأذنوا وتسلّموا، وما أري مثل هذه الروايات إلّامن كيد الزنادقة في هذه الأحاديث، إنّما يريدون أن يكيدوا الإسلام بمثل هذه الروايات، فيا سبحان اللَّه، كان كتاب اللَّه بين ظهرانيّ أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في مَضِيعة حتّي كتب الكتّاب فيها ما شاؤوا وزادوا ونقصوا!!

وروي عنه أيضاً أنّه قال: خطأ من الكتّاب قوله: «أفلم ييأس الذين __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 2: 396.

(2) الدر المنثور: 6: 171.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 154

آمنوا أن لو يشاء اللَّه لهدي الناس جميعاً» إنّما هو: أفلم يتبيّن، فهذه اللغات إنّما يتغيّر معانيها بزيادة حرف ونقصان حرف، أفيحسب ذو عقل إنّ أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم أهملوا أمر دينهم حتّي فوّضوا عهد ربّهم إلي كاتب يخطي ء فيه، ثمّ يقرّه أبوبكر وعمر وابيّ بن كعب رضي اللَّه عنهم أجمعين، حيث جمعوه في خلافة أبي بكر ثمّ من بعده مرّة اخري في زمن عثمان رضي اللَّه عنه …».

وقد أشار الحكيم إلي ما رواه السيوطي في (الإتقان) إذ قال:

«وما أخرجه ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس إنّه قرأ: أفلم يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاء اللَّه لهدي الناس جميعاً، فقيل له: إنّها في المصحف: أفلم ييأس الذين آمنوا، قال: أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس» «1».

وهو في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما إنّه قرأ: أفلم يتبيّن الذين آمنوا، فقيل له: إنّها في المصحف: أفلم ييأس الذين آمنوا، فقال: أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس» «2».

ونصّ الحافظ ابن حجر علي صحّته في (فتح الباري):

«روي الطبري وعبد بن حميد بإسناد صحيح كلّهم من رجال البخاري عن ابن

عبّاس إنّه كان يقرؤها: أفلم يتبيّن، ويقول: كتبها الكاتب وهو ناعس» «3».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 327.

(2) الدر المنثور 4: 653.

(3) فتح الباري في شرح البخاري 8: 300.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 155

ثمّ تعرّض ابن حجر لإنكار من أنكر هذه الأحاديث وردّ عليهم بشدّة فقال:

«وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس، فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته- إلي أن قال- وهي واللَّه فرية بلا مرية، وتبعه جماعة بعده واللَّه المستعان. وقد جاء عن ابن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالي: «وقضي ربّك ألّا تعبدوا إلّاإيّاه» أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه، وهذه الأشياء وإن كان غيرها المعتمد، لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق [به » «1».

وقد روي السيوطي ما ذكره ابن حجر:

«أخرج الفريابي وسعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه في قوله: «وقضي ربّك أن لا تعبدوا إلّاإيّاه» قال: التزقت الواو بالصاد وأنتم تقرؤونها: وقضي ربّك.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحّاك عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه مثله.

و أخرج أبو عبيد و ابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون ابن مهران عن ابن عبّاس قال: أنزل اللَّه هذا الحرف علي لسان نبيّكم: ووصّي ربّك ألّا تعبدوا إلّاإيّاه، فلصقت إحدي الواوين بالصاد فقرأ النّاس: وقضي __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح البخاري 8: 300- 301 مع بعض الاختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 156

ربّك، ولو نزلت علي القضاء ما أشرك به أحداً» «1».

وفي

(الإتقان):

«أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه كان يقول في قوله: «وقضي ربّك» إنّما هي: ووصّي ربّك، التزقت الواو بالصاد.

وأخرجه ابن أشتة بلفظ: استمدّ الكاتب مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد.

وأخرج هو من طريق الضحّاك عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ: ووصّي ربّك، ويقول: أمر ربّك، إنّهما واوان التصقت إحداهما بالصاد.

وأخرج من طريق اخري عن الضحّاك إنّه قال: كيف تقرأ هذا الحرف؟

قال: وقضي ربّك، قال: ليس كذلك نقرؤها نحن ولا ابن عبّاس، إنّما هي:

ووصّي ربّك، كذلك كانت تقرأ وتكتب، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد، ثمّ قرأ: «ووصّينا الذين اوتوا الكتاب» ولو كانت قضاء من الربّ لم يستطع أحد ردّ قضاء الربّ، ولكنّه وصيّة أوصي بها العباد» «2».

وروي السيوطي في (الإتقان):

«وما أخرجه سعيد بن منصور وغيره من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبّاس إنّه كان يقرأ: ولقد آتينا موسي وهارون الفرقان ضياء،

__________________________________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5: 257.

(2) الإتقان في علوم القرآن 2: 327- 328 مع اختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 157

ويقول: خذوا هذه الواو واجعلوها هاهنا: «الذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم» الآية.

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الزّبير بن خرّيت عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: إنزعوا هذه الواو فاجعلوها في: «الذين يحملون العرش ومن حوله»» «1».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما إنّه كان يقرأ: ولقد آتينا موسي وهارون الفرقان ضياء، ويقول: خذوا هذه الواو واجعلوها هاهنا في: «الذين يحملون العرش ومن حوله»» «2».

وروي في (الإتقان):

«وما أخرجه ابن أشتة وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عبّاس

في قوله تعالي: «مثل نوره كمشكاة» قال: هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، إنّما هي: مثل نور المؤمن كمشكاة» «3».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالي: «مثل نوره» قال:

هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، قال: مثل نور المؤمن كمشكاة» «4».

ثمّ حاول السيوطي تأويل هذه الروايات والدفاع عن رواتها:

«وقد أجاب ابن أشتة عن هذه الآثار كلّها: بأنّ المراد أخطأوا في الإختيار

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 328.

(2) الدر المنثور 5: 634.

(3) الإتقان في علوم القرآن 2: 328.

(4) الدر المنثور 6: 197.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 158

وما هو الأولي بجمع الناس عليه من الأحرف السبعة، لا أنّ الذي كُتب خطأ خارج عن القرآن.

قال: فمعني قول عائشة «حرّف الهجاء» القي إلي الكاتب هجاء غير ما كان بالأولي أن يُلقي إليه من الأحرف السبعة.

قال: وكذا معني قول ابن عبّاس: كتبها وهو ناعس، يعني فلم يتدبّر الوجه الذي هو أولي من الآخر، وكذا سائرها» «1».

وذكر مثل ذلك في رسالته (جزيل المواهب):

«ونظير ما قلناه من أنّ المذاهب كلّها صواب وأنّها من باب جائز وأفضل لا من باب صواب وخطأ: ما ورد عن جماعة من الصحابة في قرائات مشهورة أنّهم أنكروها علي عثمان وقرؤوا غيرها. وأجاب العلماء عن إنكارهم بأنّهم أرادوا أنّ الأولي اختيار غيرها ولم يريدوا إنكار القرائة بها البتّة، وقد عقدتُ لذلك فصلًا في الإتقان».

وقال في (الإتقان) بعد العبارة السابقة:

«وأمّا قول ابن الأنباري، فإنّه جنح إلي تضعيف الروايات ومعارضتها بروايات اخر عن ابن عبّاس وغيره بثبوت هذه الأحرف في القرآن، والجواب الأوّل أولي وأقعد» «2».

هذا، وقد كان الأولي بالسّيوطي

أن يترك التعرّض لمثل هذه الخرافات كما تركها ابن حجر …

ثمّ جاء في (الإتقان) ما هو الأعجب من ذلك، حيث قال:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 328- 329.

(2) الإتقان في علوم القرآن 2: 329.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 159

«قد حكي أبو عمر الزاهد في كتاب اليواقيت عن ثعلب إنّه قال: إذا اختلف الإعرابان في القرآن لم افضّل إعراباً علي إعراب، فإذا خرجتُ إلي كلام النّاس فضّلتُ الأقوي.

وقال أبو جعفر النحّاس: السلامة عند أهل الدّين إذا صحّت القرائتان أن لا يقال لإحداهما أجود، لأنّهما جميعاً عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فيأثم من قال ذلك، وكان رؤساء الصحابة رضوان اللَّه عليهم ينكرون مثل هذا.

وقال أبو شامة: أكثر المصنّفون من الترجيح بين قرائة مالك وملك، حتّي أنّ بعضهم بالغ إلي حدّ يكاد يُسقط وجه القرائة الاخري، وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القرائتين» «1».

فإذا كان الترجيح إثماً فكيف بالتخطئة، وقد عرفنا أنّ ابن عباس وعائشة وغيرهما قد خطّأوا آيات عديدة؟

بل جاء في بعض الآثار الصحيحة أن ترجيح قراءةٍ علي قراءةٍ يكاد يكون كفراً! قال ابن حجر في كلام له في جمع المصاحف:

«وقد جاء عن عثمان أنّه إنّما فعل ذلك بعد أن استشار الصّحابة، فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال: قال عليّ: لا تقولوا في عثمان إلّاخيراً، فواللَّه ما فعل الذي فعل في المصاحف إلّاعن ملإٍ منّا.

قال: ما تقولون في هذه القرائة فقد بلغني أنّ بعضهم يقول إنّ قرائتي خير من قرائتك، وهذا يكاد يكون كفراً. قلنا: فما تري؟ قال: أري أن يجمع النّاس علي مصحف واحد فلا يكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت» «2».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن

1: 281.

(2) فتح الباري 9: 15.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 160

هذا، وفي (تفسير الثعلبي) في قوله تعالي: «والمقيمين الصلاة»:

«إختلفوا في وجه انتصابه؛ فقالت عائشة وأبان بن عثمان: هو غلط من الكاتب، ونظيره قوله: «الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون والنّصاري» وقوله: «إن هذان لساحران»» «1».

مجاهد والضحّاك وسعيد بن جبير …

وفي (الدر المنثور):

«أخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالي: «وإذ أخذ اللَّه ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة» قال: هي خطأ من الكتّاب، وهي في قرائة ابن مسعود: ميثاق الذين اوتوا الكتاب.

وأخرج ابن جرير عن الربيع إنّه قرأ: وإذ أخذ اللَّه ميثاق الذين اوتوا الكتاب قال: وكذلك كان يقرؤها ابيّ بن كعب. قال الربيع: ألا تري إنّه يقول:

«ثمّ جاءكم رسول مصدّقاً لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه» لتؤمننّ بمحمّد ولتنصرنّه، قال: هم أهل الكتاب» «2».

وفي (تفسير الثعلبي) بتفسير الآية المتقدّمة:

«قال عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: لم يبعث اللَّه نبيّاً آدم ومن بعده إلّا أخذ عليه العهد في محمّد، وأمره بأخذ العهد علي قومه ليؤمننّ به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه. وقال آخرون: إنّما أخذ الميثاق علي أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيّون؛ وهو قول مجاهد والربيع. قال مجاهد: هذا غلط من الكاتب، وهي في قرائة ابن مسعود وابيّ بن كعب: وإذ أخذ اللَّه ميثاق الذين __________________________________________________

(1) تفسير الثعلبي 3: 414.

(2) الدر المنثور 2: 252.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 161

قالوا، ألا تري إلي قوله: ثمّ جاءكم» «1».

وفي (الإتقان):

«وأخرج- أي ابن أشتة- من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير إنّه كان يقرأ: والمقيمين الصّلاة، ويقول: هو لحن من الكاتب» «2».

ثمّ نقل السيوطي عن ابن اشتة

تأويلًا غريباً فقال:

«أمّا قول سعيد بن جبير: لحن من الكاتب، فعني باللّحن القرائة واللّغة، يعني: إنّها لغة الذي كتبها وقرائته، وفيها قرائة اخري» «3».

واتّبع الضحاك أيضاً ابن عباس، فقد جاء في (الدر المنثور):

«أخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن الضحّاك بن مزاحم رضي اللَّه عنه إنّه قرأها «ووصّي ربّك» قال: إنّهم ألصقوا إحدي الواوين بالصاد فصارت قافاً» «4».

والأقبح الأشنع من ذلك كلّه: قول بعضهم بأنّ في القرآن أغلاطاً لم يتنبّه إليها الرسول الكريم ولا جبريل الأمين … فاستمع لما جاء في كتاب (اليواقيت والجواهر):

«كان حمزة الزيّات يقول: قرأت سورة يس علي الحقّ تعالي حين رأيته، فلمّا قرأت: «تنزيل العزيز الرّحيم» بضمّ اللام فردّ عليّ الحقّ تعالي تنزيل بفتح اللام وقال: إنّي نزّلته تنزيلًا. وقال: قرأت عليه جلّ وعلا أيضاً سورة طه، فلمّا بلغت إلي قوله تعالي: «وأنا اخترتك» فقال تعالي: وإنّا

__________________________________________________

(1) تفسير الثعلبي 3: 105.

(2) الإتقان في علوم القرآن 2: 321.

(3) الإتقان في علوم القرآن 2: 324.

(4) الدر المنثور 5: 258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 162

اخترناك» «1».

ونعوذ باللَّه من هذه الاعتقادات الفاسدة في حق كلام اللَّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!

موقف ابن مسعود

ومن العجائب: ما يروونه عن عبداللَّه بن مسعود- هذا الصحابي الجليل- بالنسبة إلي هذا القرآن الموجود، فقد جاء في (جامع الاصول):

«وزاد الترمذي: قال الزهري: فأخبرني عبيداللَّه بن عبداللَّه بن مسعود إنّه- أي ابن مسعود- كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال: يا معشر المسلمين أُعزل عن نسخ المصاحف و يتولّاها رجل- واللَّه- لقد أسلمتُ وإنّه لفي صلب رجل كافر- يريد زيد بن ثابت- ولذلك قال عبداللَّه بن مسعود: يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم

وغلّوها فإنّ اللَّه يقول: «ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة» فالقوا اللَّه بالمصاحف» «2».

وفي (فتح الباري):

«وفي رواية النسائي وأبي عوانة وابن أبي داود من طريق ابن شهاب عن الأعمش عن أبي وائل قال: خطبنا عبداللَّه بن مسعود علي المنبر فقال: «ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة» غلّوا مصاحفكم، وكيف تأمرونني أن أقرأ علي قرائة زيد بن ثابت وقد قرأت من فيّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وفي رواية خمير بن مالك بيان السبب في قول ابن مسعود هذا، ولفظه:

لمّا أمر بالمصاحف أن تُغَيَّر ساء ذلك عبداللَّه بن مسعود فقال: من استطاع …

__________________________________________________

(1) اليواقيت والجواهر للشيخ عبدالوهاب الشعراني 1: 162.

(2) جامع الاصول 2: 506/ 975- وانظر الترمذي 5: 285/ 3104.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 163

وقال في آخره: أفأترك ما أخذت من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وفي رواية له: فقال: إنّي غال مصحفي فمن استطاع أن يغلّ مصحفه فليفعل.

وعند الحاكم من طريق أبي ميسرة قال: زحتُ فإذا أنا بالأشعري وحذيفة وابن مسعود فقال ابن مسعود: واللَّه لا أدفعه- يعني مصحفه- أقرأني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. فذكره» «1».

وفي (مجمع البحار) بتفسير قول ابن مسعود: «ومن يغلل»:

«يعني: إنّ مصحفه ومصحف أصحابه كان مخالفاً لمصحف الجمهور، فأنكر عليه النّاس وطلبوا إحراق مصحفه كما فعلوا فامتنع وقال لأصحابه: غُلّوا مصاحفكم أي اكتموها، ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة، وكفاكم به شرفاً، ثمّ قال إنكاراً: ومن هو الذي تأمرونّي أن آخذ بقرائته وأترك مصحفي الذي أخذته من فيّ رسول اللَّه» «2».

هذا، وقد كان في مصحف ابن مسعود زيادة ونقصان بالنسبة إلي المصحف الموجود، جاء ذلك في كلمات غير واحدٍ من أئمة القوم، كالقوشجي

حيث قال مدافعاً عن عثمان، في (شرح التجريد):

«اجيب: بأن ضرب ابن مسعود إن صحّ فقد قيل: إنّه لمّا أراد عثمان أن يجمع النّاس علي مصحف واحد ويرفع الاختلاف بينهم في كتاب اللَّه طلب مصحفه منه فأبي ذلك، مع ما كان فيه من الزيادة والنقصان، ولم يرض أن يجعل موافقاً لما اتّفق به أجلّة الصحابة، فأدّبه عثمان لينقاد» «3».

__________________________________________________

(1) فتح الباري 9: 39.

(2) مجمع البحار «غلّ».

(3) شرح التجريد للقوشجي: 375.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 164

وأبو الدرداء

وفي مصحف أبي الدرداء الصحابي أيضاً زيادة كما أخرج مسلم في (الصحيح):

«حدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة وأبو كُرَيب- واللفظ لأبي بكر- قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبوالدرداء فقال: فيكم أحد يقرأ علي قرائة عبداللَّه؟ فقلت: نعم أنا. قال:

فكيف سمعت عبداللَّه يقرأ هذه الآية: «والليل إذا يغشي»؟ قال: سمعته يقرأ: والليل إذا يغشي والذكر والانثي. قال: أنا واللَّه هكذا سمعت رسول اللَّه يقرأ، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ «ما خلق» فلا اتابعهم» «1».

وفي (صحيح مسلم) أيضاً:

«وحدّثني علي بن حجر السعدي حدّثنا، إسماعيل بن إبراهيم، عن داود ابن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة قال: لقيت أباالدرداء فقال لي: ممّن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: من أيّهم؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: هل تقرأ علي قرائة عبداللَّه بن مسعود؟ قال: قلت: نعم. قال: فاقرأ «والليل إذا يغشي» فقرأت: والليل إذا يغشي والنّهار إذا تجلّي والذكر والانثي. قال:

فضحك ثمّ قال: هكذا سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرؤها» «2».

وفي (صحيح البخاري):

«حدّثنا قبيصة بن عقبة قال: حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: دخلت في نفر من أصحاب عبداللَّه الشام،

فسمع بنا

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 565- 566/ 823 كتاب صلاة المسافرين الباب 50.

(2) صحيح مسلم 1: 565.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 165

أبوالدرداء فأتانا فقال: أفيكم من يقرأ؟ فقلنا: نعم. قال: فأيّكم أقرأ؟ فأشاروا إليّ. فقال: إقرأ، فقرأت: والليل إذا يغشي والنّهار إذا تجلّي والذكر والانثي، فقال: أنت سمعتها من فيّ صاحبك؟ قلت: نعم. قال: وأنا سمعتها من فيّ النبيّ وهؤلاء يأبون علينا» «1».

وفي (صحيح البخاري) أيضاً:

«حدّثنا عمرو بن حفص، حدّثنا أبي قال: حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: قدم أصحاب عبداللَّه علي أبي الدرداء فطلبهم فوجدهم، فقال: أيّكم يقرأ علي قرائة عبداللَّه؟ قال: كلّنا. قال: فأيّكم أحفظ؟ فأشاروا إلي علقمة. قال:

كيف سمعته يقرأ: «والليل إذا يغشي»؟ قال علقمة: والذكر والانثي. قال:

أشهد إنّي سمعت النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدونني علي أن أقرأ: ما خلق الذكر والانثي، واللَّه لا اتابعهم» «2».

وفي (صحيح الترمذي):

«حدّثنا هناد، نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال:

قدمنا الشام فأتانا أبوالدرداء، فقال: أفيكم أحد يقرأ علي قرائة عبداللَّه؟

فأشاروا إليّ، فقلت: نعم. قال: كيف سمعت عبداللَّه يقرأ هذه الآية: «والليل إذا يغشي»؟ قال: قلت: سمعته يقرؤها: والليل إذا يغشي والذكر والانثي.

فقال أبوالدرداء: وأنا واللَّه هكذا سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو يقرؤها، وهؤلاء يريدونني أن أقرأها: [و] ما خلق، فلا اتابعهم.

هذا حديث حسن صحيح، وهكذا قرائة عبداللَّه بن مسعود: والليل إذا

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 210.

(2) صحيح البخاري 6: 210- 211 وفيه: عمر بن حفص.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 166

يغشي والنّهار إذا تجلّي والذكر والانثي» «1».

وجاء في كتاب (المحاضرات) ما يلي:

«وقيل: أحرق عثمان رضي اللَّه عنه مصحف ابن مسعود، وإنّ ابن مسعود رضي اللَّه

عنه كان يقول: لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم مثل الذي صنعوا بمصحفي» «2».

أقول:

قد يحمل بعض ما جاء في هذه الأخبار والآثار علي اختلاف القراءة، وبعضها الآخر علي نسخ التلاوة، ولكنَّ طرفاً كبيراً من ذلك لا يمكن حمله لا علي النسخ ولا علي القراءة، كما هو واضحٌ لأهل العلم والتحقيق، فهل يلتزم القوم بما جاء في هذه النصوص؟!

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 5: 191/ 2939 كتاب القراءات، الباب 7.

(2) محاضرات الأدباء 2: 433 باختلاف يسير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 167

رجال الحديث والعرفان و ولادة الإمام المهدي صاحب الزمان … ص: 167

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 169

وأورد السيّد نصوص ما وقف عليه من عبارات أعلام أهل السنّة، من عرفاء ومحدّثين ومؤرّخين، في بلاد الهند وخارجها، يصرّحون فيها بولادة الإمام المهدي وأنّه ابن الإمام الحسن العسكري، من ولد الإمام أبي عبداللَّه الحسين الشهيد عليهم الصلاة والسلام …

ونحن ننقل تلك النصوص، ونترجم لأصحابها، تنويهاً بمقامهم وشأنهم بين أهل السنّة:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 170

الشيخ عبدالوهاب الشعراني … ص: 170
اشارة

قال الشيخ عبدالوهاب الشعراني في كتابه (لواقح الأنوار في طبقات الأخيار):

«ومنهم: الشيخ الصالح العابد الزاهد، ذوالكشف الصحيح والحال العظيم، الشيخ حسن العراقي المدفون فوق الكوم المطِل علي بركة الرطلي، كان رضي اللَّه عنه عمّر نحو مائة سنة وثلاثين سنة، ودخلت عليه مرّة أنا وسيّدي أبوالعبّاس الحرشي، فقال:

احدّثكم بحديث تعرفون به أمري من حيث كنت شابّاً إلي وقتي هذا؟

فقلنا: نعم.

فقال: كنت شابّاً أمرد، أنسج العباء في الشام، وكنت مسرفاً علي نفسي، فدخلت جامع بني اميّة فوجدت شخصاً علي الكرسي يتكلّم في أمر المهدي وخروجه، فتشرّب حبّه قلبي وصرت أدعو في سجودي بأنّ اللَّه يجمعني عليه، فمكثت نحو سنة وأنا أدعو، فبينما أنا بعد المغرب في الجامع إذ دخل عليّ شخص عليه عمامة كعمائم العجم، وجبّة من وبر الجمال، فجسّ بيده علي كتفي وقال:

مالك بالإجتماع بي؟

فقلت له: من أنت؟

فقال: أنا المهدي. فقبّلت يده وقلت: إمض بنا إلي البيت.

فأجاب وقال: أخْلِ لي مكاناً لا يدخل عليّ فيه أحد غيرك، فأخليت له.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 171

فمكث عندي سبعة أيّام ولقّنني الذكر، وأمرني بصوم يوم وإفطار يوم، وبصلاة خمسمائة ركعة في كلّ ليلة، وأن لا أضع جنبي علي الأرض للنوم إلّا غلبة.

ثمّ طلب الخروج وقال لي: يا حسن! لا تجتمع بأحد بعدي

ويكفيك ما حصل لك منّي، فما ثَمّ إلّادون ما وصل إليك منّي فلا تتحمّل من أحد بلا فائدة.

فقلت: سمعاً وطاعة.

وخرجت اودّعه، فأوقفني عند عتبة باب الدار وقال: من هنا.

فأقمت علي ذلك سنين عديدة- إلي أن قال الشعراني بعد ذكر حكاية سياحة حسن العراقي-:

وسألت المهدي عن عمره؟

فقال: يا ولدي! عمري الآن ستمائة سنة وعشرون سنة، ولي عنه الآن مائة سنة.

فقلت ذلك لسيّدي علي الخواصّ فوافقه علي عمر المهدي رضي اللَّه عنهما» «1».

وقال في كتابه (اليواقيت والجواهر):

«المبحث الخامس والستّون: في بيان أنّ جميع أشراط الساعة التي أخبر بها الشارع صلّي اللَّه عليه وسلّم حقّ لابدّ أن يقع كلّها قبل قيام الساعة، وذلك كخروج المهدي ثمّ الدجّال ثمّ نزول عيسي وخروج الدابّة وطلوع الشمس من مغربها ورفع القرآن وفتح سدّ يأجوج ومأجوج، حتّي لو لم يبق من الدنيا إلّا

__________________________________________________

(1) لواقح الأنوار في طبقات الأخيار 2: 139 ترجمة الشيخ حسن العراقي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 172

مقدار يوم واحد لوقع ذلك كلّه.

قال الشيخ تقي الدين بن أبي منصور في عقيدته: وكلّ هذه الآيات تقع في المائة الأخيرة من اليوم الذي وعد به رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم امّته بقوله: إن صلحت امّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم، يعني من أيّام الرب المشار إليها بقوله: «وإنّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون».

وقال بعض العارفين: وأوّل الألف محسوب من وفاة عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه آخر الخلفاء، فإنّ تلك المدّة كانت من جملة أيّام نبوّة رسول اللَّه ورسالته، فمهّد اللَّه تعالي بالخلفاء الأربعة البلاد، ومراده صلّي اللَّه عليه وسلّم إنْ شاء اللَّه بالألف قوّة سلطان شريعته إلي انتهاء الألف، ثمّ تأخذ في الاضمحلال إلي

أن يصير الدين غريباً كما بدأ، وذلك الاضمحلال يكون بدايته من مُضِيّ ثلاثين سنة من القرن الحادي عشر، فهناك يُتَرَقَّب خروج المهدي، وهو من أولاد الإمام حسن العسكري، ومولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وهو باق إلي أن يجتمع بعيسي بن مريم عليه السلام، فيكون إلي وقتنا هذا- وهو سنة ثمان وخمسين وتسعمائة- سبعمائة سنة وست سنين؛ هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كوم الريش المُطِلِّ علي برْكة الرطلي بمصر المحروسة، عن الإمام المهدي حين اجتمع به ووافقه علي ذلك شيخنا سيّدي علي الخَوّاص رحمهما اللَّه.

وعبارة الشيخ محي الدين في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات هكذا: واعلموا أنّه لابدّ من خروج المهدي رضي اللَّه عنه، لكن لا يخرج حتّي تمتلي ء الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلًا، ولو لم يبق من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 173

الدنيا إلّايوم واحد طوّل اللَّه تعالي ذلك اليوم حتّي يلي هذا الخليفة.

وهو من عترة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من ولد فاطمة رضي اللَّه عنها، جدّه الحسين بن علي بن أبي طالب، ووالده حسن العسكري ابن الإمام عليّ النقي بالنون ابن محمّد التقي بالتاء ابن الإمام عليّ الرضا ابن الإمام موسي الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمّد الباقر ابن الإمام زين العابدين عليّ بن الإمام الحسين ابن الإمام عليّ بن أبي طالب.

يواطي ء اسمه اسم رسول اللَّه.

يبايعه المسلمون مابين الركن والمقام.

يشبه رسول اللَّه في الخلق- بفتح الخاء-.

وينزل عنه في الخلق- بضمّها- إذ لا يكون أحد مثل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في أخلاقه واللَّه تعالي يقول: «إنّك لعلي خُلُقٍ عظيم».

هو أجلي الجبهة، أقني الأنف.

أسعد الناس به أهل الكوفة.

يقسم

المال بالسويّة، ويعدل في الرعيّة، يأتيه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني، وبين يديه المال، فيحثي له ما استطاع أن يحمله.

يخرج علي فترة من الدين، يزع اللَّه به ما لا يزع بالقرآن.

يمسي الرجل جاهلًا وجباناً وبخيلًا فيصبح عالماً شجاعاً كريماً.

يمشي النصر بين يديه.

يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً.

يقفو أثر رسول اللَّه ولا يخطي، له ملك يُسدّده من حيث لا يراه، يحمل الكل ويعين الضعيف ويساعد علي نوائب الحقّ، يفعل ما يقول، ويقول ما

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 174

يفعل، ويعلم ما يشهد، يصلحه اللَّه في ليلة، يفتح المدينة الروميّة بالتكبير مع سبعين ألف من المسلمين من ولد إسحاق، يشهد الملحمة العظمي مأدبة اللَّه بمرج عكاء، يبيد الظلم وأهله، ويقيم الدين، وينفخ الروح في الإسلام، يُعِزّ اللَّه به الإسلام بعد ذلّه، ويحييه بعد موته، يضع الجزية، ويدعو إلي اللَّه بالسيف، فمن أبي قتل ومن نازعه خُذِل، يظهر من الدين ما هو عليه في نفسه حتّي لو كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حيّاً لحكم به.

فلا يبقي في زمانه إلّاالدّين الخالص عن الرأي، يخالف في غالب أحكامه مذاهب العلماء فينقبضون منه لذلك، لظنّهم أنّ اللَّه تعالي لا يحدث بعد أئمّتهم مجتهداً.

وأطال في ذلك وفي ذكر وقائعه معهم، ثمّ قال:

واعلم أنّ المهدي إذا خرج يفرح جميع المسلمين خاصّتهم وعامّتهم، وله رجال إلهيّون يقيمون دعوته وينصرونه، وهم الوزراء له، يتحمّلون أثقال المملكة ويعينونه علي ما قلّد اللَّه له.

ينزل عليه عيسي بن مريم عليه السلام بالمنارة البيضاء شرقي دمشق متّكياً علي ملكين: ملك عن يمينه وملك عن شماله والنّاس في صلاة العصر، فيتنحّي له الإمام من مكانه فيتقدّم ويصلّي بالنّاس يوم البأس بسنّة النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، يكسر

الصليب ويقتل الخنزير.

ويقبض المهديّ طاهراً مطهّراً.

وفي زمانه يقتل السفياني عند شجرة بغُوطة دمشق، ويخسف بجيشه في البيداء، فمن كان مجبوراً من ذلك الجيش مكرهاً يحشر علي نيّته، وقد جاءكم زمانه وأظلّكم أوانه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 175

وقد ظهر في القرن الرابع اللّاحق بالقرون الثلاثة الماضية قرن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو قرن الصحابة، ثمّ الذي يليه، ثمّ الذي يلي الثاني، ثمّ جاء بينها فترات وحدثت امور، وانتشرت أهواء، وسفكت دماء، فاختفي إلي أن يجي ء الوقت المعلوم، فشهداؤه خير الشهداء، وامناءه أفضل الامناء.

قال الشيخ محي الدين: وقد استوزر اللَّه تعالي له طائفة خبأهم الحقّ له في مكنون غيبه، أطلعهم كشفاً وشهوداً علي الحقائق وما هو أمر اللَّه عليه في عباده وهم علي أقدام رجال من الصحابة الذين صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه، وهم من الأعاجم ليس فيهم عربيّ لكن لا يتكلّمون إلّابالعربيّة، لهم حافظ من غير جنسهم، ما عصي اللَّه قطّ هو أخصّ الوزراء وأعلم» «1».

ثمّ قال الشعراني بعد كلامٍ له:

«فإن قلت: فما صورة ما يحكم به المهدي إذا خرج؟ هل يحكم بالنصوص أو بالإجتهاد أو بهما؟

فالجواب كما قاله الشيخ محي الدين: إنّه يحكم بما ألقي إليه ملك الإلهام من الشريعة، وذلك أن يلهمه اللَّه الشرع المحمّديّ فيحكم به كما أشار إليه حديث المهدي: إنّه يقفو أثري. فعرّفنا صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه متّبع لا مبتدع، وأنّه معصوم في حكمه، إذ لا معني للمعصوم في الحكم إلّاأنّه لا يخطئ، وحكم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لا يخطئ، فإنّه لا ينطق عن الهوي إن هو إلّاوحي يوحي، وقد أخبر عن المهدي أنّه لا يخطئ وجعله ملحقاً بالأنبياء في ذلك الحكم.

قال الشيخ: فعلم

أنّه يحرم علي المهدي القياس مع وجود النصوص __________________________________________________

(1) اليواقيت والجواهر 2: 422- 423.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 176

التي منحه اللَّه إيّاها علي لسان ملك الإلهام.

بل حرّم بعض المحقّقين علي جميع أهل اللَّه القياس، لكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مشهوداً لهم، فإذا شكّوا في صحّة حديث أو حكم رجعوا إليه في ذلك فأخبرهم بالأمر الحقّ يقظة ومشافهة، وصاحب هذا المشهد لا يحتاج إلي تقليد أحد من الأئمّة غير رسول اللَّه، قال اللَّه تعالي: «قل هذه سبيلي أدعو إلي اللَّه علي بصيرة أنا ومن اتّبعني» وأطال في ذلك» «1».

أقول:

وفي النصوص المتقدّمة إقرار جماعة من الأعلام بوجود المهدي عليه السلام، ولربّما يوجد فيها ما لا تساعد عليه الأدلّة.

ترجمة الشعراني … ص: 176

هو: الشيخ أبو المواهب عبدالوهّاب بن علي الشعراني المتوفّي سنة 973:

قال ابن العماد- في وفيات السنة المذكورة-: وفيها: الشيخ عبدالوهّاب ابن أحمد الشعراوي الشافعي. قال الشيخ عبدالرؤف المناوي في طبقاته: هو شيخنا الإمام العامل، العابد، الزاهد، الفقيه، المحدّث، الاصولي، الصوفي المربّي، المسلك، من ذريّة محمّد بن الحنفيّة … جدّ واجتهد، فخفظ عدّة متون … وعرض ما حفظ علي علماء عصره.

ثمّ شرع في القراءة … وحبّب إليه الحديث، فلزم الإشتغال به والأخذ عن أهله، ومع ذلك، لم يكن عنده جمود المحدّثين ولا لدونة النقلة، بل هو

__________________________________________________

(1) اليواقيت والجواهر 2: 424- 425.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 177

فقيه النظر صوفي الخبر …

ثمّ أقبل علي الإشتغال بالطريق فجاهد نفسه مدّةً وقطع العلائق الدنيويّة، ومكث سنين لايضطجع علي الأرض ليلًا ولانهاراً، بل اتّخذ له حبلًا بسقف خلوته يجعله في عنقه ليلًا حتي لا يسقط، وكان يطوي الأيّام المتوالية ويديم الصوم … حتّي قويت روحانيّته، فصار يطير من صحن الجامع

الغمري إلي سطحه …

ثمّ تصدّي للتصنيف، فألّف كتباً …

وحسده طوائف، فدسّوا عليه كلمات يخالف ظاهرها الشرع وعقائد زائفة ومسائل تخالف الإجماع، وأقاموا عليه القيامة وشنّعوا وسبّوا ورموه بكلّ عظيمة، فخذلهم اللَّه وأظهره عليهم.

وكان مواظباً علي السنّة، مبالغاً في الورع، مؤثراً ذوي الفاقة علي نفسه …

ومن كلامه: دوروا مع الشرع كيف كان لا مع الكشف فإنّه قد يخطئ …» «1».

الشيخ المودودي … ص: 177

وتبعهم الشيخ علي أكبر بن أسد اللَّه المودودي وهو من علمائهم المتأخرين، فإنّه قال في (المكاشفاتِ- حاشية النفحات) بترجمة علي بن سهل بن الأزهر الإصفهاني:

«ولقد قالوا: إنّ عدم الخطأ في الحكم مخصوص بالأنبياء آكد الخصوصيّة، والشيخ رضي اللَّه عنه يخالفهم في ذلك، لحديث ورد في شأن __________________________________________________

(1) شذرات الذهب في أخبار من ذهب 8: 372- 374.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 178

الإمام المهدي الموعود علي جدّه وعليه الصلاة والسلام كما ذكر ذلك صاحب اليواقيت عنه حيث قال: صرّح الشيخ رضي اللَّه عنه في الفتوحات بأنّ الإمام المهدي يحكم بما ألقي إليه ملك الإلهام من الشريعة، وذلك أنّه يلهمه الشرع المحمّدي فيحكم به كما أشار إليه حديث المهدي. إنّه يقفو اثري لا يخطي، فعرّفنا صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه متّبع لا مبتدع، وأنّه معصوم في حكمه، إذ لا معني للمعصوم في أمر إلّاأنّه لا يخطي، وحكم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لا يخطي فإنّه لا ينطق عن الهوي إن هو إلّاوحي يوحي، وقد أخبر عن المهدي أنّه لا يخطي وجعله ملحقاً بالأنبياء في ذلك الحكم، وأطال صاحب اليواقيت في ذلك نقلًا عن الشيخ رضي اللَّه عنه وعن غيره من العلماء والفضلاء من أهل السنّة والجماعة.

وقال رحمة اللَّه عليه في المبحث الحادي والثلاثين، في بيان عصمة

الأنبياء من كلّ حركة وسكون وقول وفعل ينقص مقامهم الأكمل، وذلك لدوام عكوفهم في حضرة اللَّه تعالي الخاصّة؛ فتارة يشهدونه سبحانه وتارة يشهدون أنّه يراهم ولا يرونه، ولا يخرجون أبداً عن شهود هذين الأمرين، ومن كان مقامه كذلك لا يتصوّر في حقّه مخالفة قطّ صوريّة كما سيأتي بيانه، وتسمّي هذه حضرة الإحسان، ومنها عصم الأنبياء وحفظ الأولياء؛ فالأولياء يخرجون ويدخلون، والأنبياء مقيمون، ومن أقام فيها من الأولياء كسهل بن عبداللَّه التستري وسيّدي إبراهيم المتبولي، فإنّما ذلك بحكم الإرث والتبعية للأنبياء، استمداداً من مقامهم لا بحكم الاستقلال. فافهم.

ثمّ قال في المبحث الخامس والأربعين: قد ذكر الشيخ أبوالحسن الشاذلي رضي اللَّه عنه: إنّ للقطب خمسة عشر علامة: أن يمدّد بمدد العصمة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 179

والرحمة والخلافة والنيابة ومدد حملة العرش، ويكشف له عن حقيقة الذات، وإحاطة الصفات إلي آخره؛ فبهذا صحّ مذهب من ذهب إلي كون غير النبي معصوماً، ومن قيّد العصمة في زمرة معدودة ونفاها عن غير تلك الزمرة فقد سلك مسلكاً آخر، وله أيضاً وجه يعلمه من علمه، فإنّ الحكم بكون المهدي الموعود رضي اللَّه عنه موجوداً وهو كان قطباً بعد أبيه الحسن العسكري عليهما السلام، كما كان هو قطباً بعد أبيه إلي الإمام عليّ بن أبي طالب كرّمنا اللَّه بوجوههم، يشير إلي صحّة حصر تلك الرتبة في وجوداتهم من حين كان القطبيّة في وجود جدّه عليّ بن أبي طالب إلي أن تتمّ فيه لا قبل ذلك، فكلّ قطب فرد يكون علي تلك الرتبة نيابة عنه لغيبوبته عن أعين العوام والخواصّ لا عن أعين أخصّ الخواص، وقد ذكر ذلك عن الشيخ صاحب اليواقيت وعن غيره أيضاً رضي اللَّه عنه وعنهم، فلابدّ أن

يكون لكلّ إمام من الأئمّة الإثني عشر عصمة؛ خذ هذه الفائدة.

قال الشيخ عبدالوهاب الشعراوي في المبحث الخامس والستين: قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته، بعد ذكر تعيين السنين للقيامة:

فهناك يترقّب خروج المهدي عليه السلام، وهو من أولاد الإمام الحسن العسكري، ومولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وهو باق إلي أن يجتمع بعيسي بن مريم عليهما السلام، فيكون عمره إلي وقتنا هذا- وهو سنة ثمان وخمسين وتسعمائة- سبعمائة سنة وست سنين؛ هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي عن الإمام المهدي حين اجتمع به، ووافقه علي ذلك شيخنا سيّدي علي الخواص رحمه اللَّه تعالي.

وعبارة الشيخ محي الدين في الباب السادس والسبعين وثلاثمائة من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 180

الفتوحات: واعلموا أنّه لابدّ من خروج المهدي عليه السلام، ثمّ قال: وهو من عترة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، من ولد فاطمة رضي اللَّه عنها، جدّه الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، ووالده الحسن العسكري ابن الإمام عليّ النقي بالنون ابن الإمام محمّد التقي بالتاء ابن الإمام عليّ الرضا ابن الإمام موسي الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمّد الباقر ابن الإمام زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تعالي عنهم أجمعين، يواطي ء اسمه اسم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

ثمّ عَدَّ رضي اللَّه عنه نبذة من شيم المهدي وأخلاقه النبويّة التي تكون فيه علي جدّه وعليه الصلاة والسلام، ونحن نذكرها في أحوال العارف الجندي قدّس سرّه إن شاء اللَّه تعالي» «1».

الخواجه محمد پارسا … ص: 180
اشارة

وقال الخواجا السيد محمد پارسا في كتاب (فصل الخطاب):

«ولمّا زعم أبو عبداللَّه جعفر بن أبي الحسن علي

الهادي رضي اللَّه عنه أنّه لا ولد لأخيه أبي محمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه، وادّعي أنّ أخاه الحسن العسكري رضي اللَّه عنه جعل الإمامة فيه سمّي: الكذّاب، وهو معروف بذلك، والعقب من ولد جعفر بن علي هذا في علي بن جعفر، وعقب علي هذا في ثلاثة: عبداللَّه وجعفر وإسماعيل.

وأبو محمّد الحسن العسكري ولده محمّد رضي اللَّه عنهما معلوم عند خاصّة أصحابه وثقات أهله.

__________________________________________________

(1) المكاشفات في الحاشية علي نفحات الانس- ترجمة علي بن سهل الإصبهاني.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 181

ويروي أنّ حكيمة بنت أبي جعفر محمّد الجواد رضي اللَّه عنه عمّة أبي محمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه كانت تحبّه وتدعو له وتتضرّع أن تري له ولداً، وكان أبو محمّد الحسن العسكري اصطفي جارية يقال لها نرجس، فلمّا كان ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، دخلت حكيمة فدعت لأبي محمّد الحسن العسكري، فقال لها: يا عمّة! كوني الليلة عندنا لأمر، فأقامت كما رسم، فلمّا كان وقت الفجر اضطربت نرجس، فقامت إليها حكيمة، فلمّا رأت المولود أتت به أبامحمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه وهو مختون مفروغ منه، فأخذه وأمرّ يده علي ظهره وعينيه وأدخل لسانه في فمه وأذّن في اذنه اليمني وأقام في الاخري، ثمّ قال: يا عمّة! اذهبي به إلي امّه، فذهبت به وردّته إلي امّه.

قالت حكيمة: فجئت إلي أبي محمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه، فإذا المولود بين يديه في ثياب صفر وعليه من البهاء والنور ما أخذ بمجامع قلبي، فقلت: سيّدي! هل عندك من علم في هذا المولود المبارك فتلقيه إليّ؟

فقال: أي عمّة! هذا المنتظر، هذا الذي بُشّرنا به. فقالت حكيمة: فخررت للَّه تعالي ساجدة شكراً علي ذلك.

قالت:

ثمّ كنت أتردّد إلي أبي محمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه، فلمّا لم أره فقلت له يوماً: يا مولاي! ما فعلت سيّدنا ومنتظرنا؟ قال: استودعناه الذي استودعته امّ موسي ابنها» «1».

__________________________________________________

(1) انظر: ينابيع المودّة 3: 171 عن كتاب فصل الخطاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 182

ترجمة خواجه پارسا … ص: 182

هو: الحافظ محمّد بن محمّد بن محمود البخاري المعروف بخواجة پارسا، المتوفّي سنة 822:

قال الكفوي في كتابه في تراجم فقهاء الحنفيّة: «محمّد بن محمّد بن محمود الحافظي البخاري المعروف بخواجه محمّد پارسا، أعزّ خلفاء الشيخ الكبير خواجة بهاء الدين نقشبند …

ولد سنة 756، وقرأ العلوم علي علماء عصره، وكان قد بهر علي أقرانه في دهره، وحصّل الفروع والاصول، وبرع في المعقول والمنقول وكان شابّاً.

أخذ الفقه عن قدوة وبقيّة أعلام الهدي الشيخ الإمام العارف الولي أبي الطاهر محمّد بن الحسن بن علي الطاهر، … وأخذ الفروع والاصول عن المولي العالم الكامل إلياس بن يحيي بن حمزة الرّومي …».

وقال صاحب حبيب السير: «كان من أولاد عبداللَّه بن جعفر الطيّار، توجّه في المحرّم سنة 822 لأداء فريضة الحج وزيارة قبر خير الأنام عليه الصلاة والسلام …

وبعد أن وصل إلي مكّة وفرغ من المناسك، مرض مرضاً شديداً …

فتوجّه إلي المدينة المنوّرة ودخلها في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر ذي الحجّة، وتوفّي في يوم الخميس، فصلّي عليه مولانا شمس الدين الفناري ودفن بجوار العبّاس عليه السلام».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 183

الشيخ عبدالرحمن الجامي … ص: 183
اشارة

والشيخ عبدالرحمن بن أحمد الجامي في كتابه (شواهد النبوّة):

ذكر المهدي خلف الإمام الحسن العسكري عليه السلام، بعنوان الإمام الثاني عشر، فأورد جملةً من غرائب حالاته عند ولادته، من قبيل عدم ظهور آثار الحمل علي والدته الكريمة، وأنّه عندما ولد خرَّ ساجداً للَّه عزّوجلّ، وقرأ قوله تعالي: «ونريد أنْ نمنَّ علي الَّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً ونجعلهم الوارثين» في حال السجدة … إلي غير ذلك.

وقد نصّ الشيخ الجامي علي أنّه هو الإمام والخليفة بعد والده الإمام الحسن العسكري، وذكر أنّ خليفة الوقت قد أرسل رجالًا إلي بيت الإمام

للقبض عليه، وقد أمرهم بقتل كلّ من يجدونه هناك، وأنّه قد ظهرت المعجزة من الإمام صاحب الزمان في غرق اثنين منهم، وقد رأوه عليه السلام واقفاً علي الماء يصلّي للَّه عزّوجلّ.

وبعد هذا كلّه، حكي خبر حكيمة عمّة الإمام عليه السلام، وما رأته من الكرامات قبل ولادته وبعدها بالتفصيل …

ثمّ أورد النصوص علي إمامته عن والده الإمام الحسن العسكري عليه السلام.

ترجمة الجامي … ص: 183

هو: عبدالرحمن بن أحمد الجامي المتوفّي سنة 898، ترجم له ابن العماد في شذراته 8/ 360 والشوكاني في البدر الطالع 1/ 327 واللكهنوي في استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 184

الفوائد البهيّة في طبقات الحنفيّة: 86. قال ابن العماد:

«وفيها: الإمام العارف باللَّه تعالي عبدالرحمن بن أحمد الجامي، ولد ب (جام) من قصبات خراسان، واشتغل بالعلوم العقليّة والشرعيّة فأتقنها، ثمّ صحب مشايخ الصوفيّة وتلقّي الذكر من الشيخ سعد الدين كاشغري، وصحب خواجة عبيداللَّه السمرقندي وانتسب إليه أتم الانتساب … وكان مشتهراً بالفضائل، وبلغ صيت فضله الآفاق وسارت بعلومه الركبان …

وكان رحمه اللَّه تعالي اعجوبة دهره علماً وعملًا وأدباً وشعراً.

وله مؤلّفات جمّة … وله كتاب شواهد النبوّة- بالفارسيّة- وكتاب:

نفحات الانس، بالفارسيّة أيضاً، وكتاب سلسلة الذهب، حطّ فيه علي الرافضة … وكلّ تصانيفه مقبولة …».

الشيخ عبدالحق الدهلوي … ص: 184
اشارة

وكذلك ذكر الشيخ عبدالحق المحدّث الدهلوي، في رسالته في (مناقب الأئمّة الأطهار) حيث ذكره بعنوان الإمام الثاني عشر، وأنّه معروف عند خواصّ أصحابه وثقات أهله.

ثمّ أورد خبر ولادته عن السيّدة حكيمة عمّته …

ترجمة عبدالحق الدهلوي … ص: 184

هو: الشيخ أبو المجد عبدالحق بن سيف الدين الدهلوي، المتوفّي سنة 1052:

قال الصّديق حسن خان بترجمته من كتاب (أبجد العلوم): «هو المتضلّع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 185

في الكمال الصوري والمعنوي، رزق من الشهرة قسطاً جزيلًا، وأثبت المؤرّخون ذكره إجمالًا وتفصيلًا، حفظ القرآن، وجلس علي مسند الإفادة وهو ابن 22 سنة، ورحل إلي الحرمين الشريفين وصحب الشيخ عبدالوهّاب المتقي خليفة الشيخ علي المتقي، واكتسب علم الحديث، وعاد إلي الوطن واستقرّ به 52 سنة بجمعيّة الظاهر والباطن، ونشر العلوم، وترجم كتاب المشكاة بالفارسي وكتب شرحاً علي سفر السعادة، وبلغت تصانيفه مائة مجلّد.

ولد في محرّم سنة 958 وتوفّي سنة 1052.

وأخذ الخرقة القادريّة من الشيخ موسي القادري من نسل الشيخ عبدالقادر الجيلاني.

وكان له اليد الطولي في الفقه الحنفي».

السيد جمال الدين المحدّث … ص: 185
اشارة

وقال السيد جمال الدين المحدّث الشيرازي في كتاب (روضة الأحباب):

«الكلام في بيان الإمام الثاني عشر المؤتمن محمّد بن الحسن …» فذكر ولادته واسم والدته وأسمائه وألقابه، فاسمه إسم جدّه رسول اللَّه وكنيته كنيته، وألقابه: المهدي المنتظر، والخلف الصالح، وصاحب الزمان.

قال: «وكان عمره عند وفاة والده- في أحد القولين وهو الأقرب- خمس سنوات، وعلي القول الآخر سنتين، وقد آتاه اللَّه الحكمة في حال الطفولة كيحيي وزكريّا، وبلغ مرتبة الإمامة في حال الصبا».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 186

قال: «وقد غاب عن الأنظار، في زمن المعتمد، سنة خمس وستين أو ست وستّين ومائتين، علي اختلاف القولين، في سرداب في سرّ من رأي».

أقول:

وبهذه التصريحات يسقط قول المنكر أو المشكّك في ولادة الإمام المهدي وأنّه الإمام الثاني عشر من الأئمّة الاثني عشر بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

ثمّ أورد طائفةً من الأحاديث الواردة في المهدي، وجعل الإمام عليه السلام هوالمصداق لتلك

الأحاديث … كالحديث عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري في نزول قوله تعالي: «يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» قال سألته: قد عرفنا اللَّه والرسول، فمن أولوا الأمرالذين قرن اللَّه طاعتهم بطاعتك؟

فقال صلّي اللَّه عليه وسلّم:

هُم خلفائي من بعدي أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام.

ثمّ الصادق ثمّ جعفر بن محمّد ثمّ موسي بن جعفر ثمّ عليّ بن موسي ثمّ محمّد بن عليّ ثمّ عليّ بن محمّد ثمّ الحسن بن عليّ ثمّ حجّة اللَّه في أرضه وبقيّته في عباده محمّد بن الحسن بن علي.

ذلك الذي يفتح اللَّه عزّ وجلّ علي يديه مشارق الأرض ومغاربها.

وذلك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يبيت فيها علي القول بإمامته إلّامن امتحن اللَّه قلبه للإيمان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 187

فقال: إي والذي بعثني بالنبوّة، إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع النّاس بالشمس وإن علاها سحاب».

ثمّ ذكر عقيدته في الإمام المهدي بكلّ صراحةٍ، فنصّ علي ما تقول به الطائفة الإماميّة بلا فرق.

ثمّ إنّه جعل يدعو اللَّه عزّوجلّ في أنْ يعجّل الفرج للإمام ويظهره لبسط العدل وتطبيق أحكام الإسلام.

ترجمة الجمال المحدّث الشيرازي … ص: 187

هو: السيّد جمال الدين عطاء اللَّه ابن السيّد غياث الدين فضل اللَّه ابن السيّد عبدالرحمن المعروف بالمحدّث الشيرازي، المتوفّي سنة 926 كما في معجم المؤلّفين 6/ 285، قال: «عطاء اللَّه بن محمود بن فضل اللَّه بن عبدالرحمن الشيرازي، الحسيني، الدشتكي، نزيل هراة، جمال الدين. فاضل.

من آثاره: تكميل الصناعة في القوافي».

وفي كشف الظنون 1/ 922: «روضة الأحباب في سير النبي والآل والأصحاب، فارسي، لجمال

الدين عطاء اللَّه بن فضل اللَّه الشيرازي النيسابوري المتوفّي سنة 1000- 926، ألّفه في مجلّدين بالتماس الوزير أمير علي شير بعد الإستشارة مع استاذه وابن عمّه السيّد أصيل الدين عبداللَّه …».

الشيخ أبو عبداللَّه الكنجي … ص: 187
اشارة

وقال الشيخ أبو عبداللَّه محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتاب (البيان في أخبار صاحب الزمان):

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 188

«من الدلالة علي كون المهدي باقياً منذ غيبته إلي الآن: أنّه لا امتناع في بقائه كبقاء عيسي بن مريم والخضر وإلياس من أولياء اللَّه، وبقاء الأعور الدجّال وإبليس اللعين من أعداء اللَّه، وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنّة» «1».

ترجمة الكنجي الشافعي … ص: 188

هو: أبو عبداللَّه محمّد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي المقتول سنة 658، بسبب روايته أخبار مناقب أميرالمؤمنين عليه السلام وسط جامع دمشق، وكان حافظاً للحديث، راويةً للأخبار، مطّلعاً في العلوم، وقد اعترف بمقامه العلمي مترجموه ذاكرين السبب في مقتله متبجحين بذلك، انظر حوادث السنة المذكورة من تاريخ ابن كثير والنجوم الزاهرة وغيرهما من المصادر.

سبط ابن الجوزي … ص: 188
اشارة

وقال الحافظ سبط ابن الجوزي الحنفي في كتاب (تذكرة خواص الامّة):

«هو محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسي بن جعفر ابن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، وكُنيته أبو عبداللَّه وأبوالقاسم، وهو الخلف الحجّة صاحب الزمان القائم والمنتظر الباقي، وهو آخر الأئمّة …» «2».

__________________________________________________

(1) البيان في أخبار صاحب الزمان ط مع كفاية الطالب: 521. مع اختلاف.

(2) تذكرة خواص الامة في معرفة الأئمة: 325.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 189

ترجمة سبط ابن الجوزي … ص: 189

هو: شمس الدين يوسف سبط أبي الفرج ابن الجوزي، توفي سنة 654 أو 656، وصفوه بالإمام، الحافظ، الواعظ، المؤرّخ، الفقيه، الحنفي، كما في جامع مسانيد أبي حنيفة 1/ 70، وفيات الأعيان 3/ 142، العبر ومرآة الجنان وتاريخ أبي الفداء وغيرها في حوادث سنة 654.

إبن الصبّاغ المالكي … ص: 189
اشارة

وقال نور الدين علي بن محمّد المعروف بابن الصبّاغ المالكي في كتاب (الفصول المهمة):

«الفصل الثاني عشر: في ذكر أبي القاسم محمّد الحجّة الخلف الصالح ابن أبي محمّد الحسن الخالص- وهو الإمام الثاني عشر- وتاريخ ولادته، ودلائل إمامته، وذكر طرف من أخباره وغيبته، ومدّة قيام دولته، وذكر نسبه وكنيته ولقبه وغير ذلك» «1».

ثمّ قال بعد كلامٍ له:

«وروي ابن الخشّاب في كتابه مواليد أهل البيت يرفعه بسنده إلي عليّ ابن موسي الرضا عليه السلام أنّه قال: الخلف الصالح من ولد أبي محمّد الحسن بن علي، وهو صاحب الزمان والقائم المهدي.

وأمّا النصّ علي إمامته من جهة أبيه، فروي محمّد بن عليّ بن بلال قال:

خرج إليّ أمر أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري قبل مضيّه بسنتين،

__________________________________________________

(1) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 291.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 190

يخبرني بالخلف من بعده، ثمّ خرج إليّ قبل مضيّه بثلاثة أيّام يخبرني بالخلف بأنّه ابنه من بعده.

وعن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمّد الحسن بن علي:

جلالتك تمنعني من مسألتك، أفتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل. فقلت: يا سيّدي! هل لك ولد؟ قال: نعم. قلت: فإن حدث حادث فأين أسأل عنه؟

قال: بالمدينة.

ولد أبوالقاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بسرّ من رأي، ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة» «1».

قال:

«وهذا طرف يسير ممّا جاء من النصوص الدالّة علي الإمام الثاني عشر عن الأئمّة الثقات، والروايات في

ذلك كثيرة، والأخبار شهيرة، أضربنا عن ذكرها، وقد دوّنها أصحاب الحديث في كتبهم واعتنوا بجمعها» «2».

ثمّ أورد نصوصاً كثيرة من الأحاديث فقال:

«قال الشيخ أبو سعيد محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان: من الدلالة علي كون المهدي حيّاً باقياً منذ غيبته إلي الآن أنّه لا امتناع في بقائه كبقاء عيسي …» «3».

ثمّ قال في آخر المبحث:

«قال بعض علماء أهل الأثر: المهدي هو القائم المنتظر، وقد تعاضدت __________________________________________________

(1) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 292.

(2) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 293.

(3) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 299.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 191

الأخبار علي ظهوره وتظاهرت الروايات علي إشراق نوره، وسيستسفر ظلمة الأيّام والليالي بسفوره، وتنجلي برؤيته الظُلَمُ انجلاء الصباح عن ديجوره، ويخرج من أسرار الغيبة فيملأ القلوب بسروره …» «1».

وقال بترجمة الإمام العسكري عليه السلام:

«وخلّف أبو محمّد الحسن رضي اللَّه عنه من الولد: ابنه الحجّة القائم المنتظر لدولة الحقّ، وكان قد اخفي مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وخوف السلطان وتطلّبه للشيعة وحبسهم والقبض عليهم» «2».

ترجمة ابن الصبّاغ المالكي … ص: 191

هو: الشيخ علي بن محمّد المالكي المكي المتوفّي سنة 855، ترجم له الحافظ السخاوي في الضوء اللامع 5/ 283 وذكر له كتاب (الفصول المهمّة لمعرفة الأئمّة). وترجم له في معجم المؤلّفين 7/ 178 قال: فقيه مالكي، وذكر له الكتاب.

الشيخ كمال الدين ابن طلحة الشافعي … ص: 191
اشارة

وقال الشيخ كمال الدين ابن طلحة الشافعي في كتاب (مطالب السئول):

«الباب الثاني عشر، في أبي القاسم محمّد الحجّة ابن الحسن الخالص ابن عليّ المتوكّل ابن محمّد القانع ابن عليّ الرضا عليهم السلام …

__________________________________________________

(1) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 303.

(2) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 390.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 192

فهذا الخلف الحجّة قد أيّده اللَّه هداه منهج الحقّ وآتاه سجاياه وأعلي في ذري العليا بالتأييد مرقاه وآتاه حلي فضل عظيم فتحلّاه وقد قال رسول اللَّه قولًا قد رويناه وذوالعلم بما قال إذا أدرك معناه يري الآثار في المهدي جائت مسمّاه وقد أبداه بالنسبة والوصف وسمّاه ويكفي قوله منّي لإشراق محيّاه ومن بضعته الزهراء مرساه ومسراه ولن يبلغ ما اوتيه أمثال وأشباه فإن قالوا هو المهدي فما مانوا ولا فاهوا

قد أرتع من النبوّة في أكناف عناصرها، ورضع من الرسالة أخلاف أواصرها، ونزع من القرابة بسجال معاصرها، وبرع في صفات الشرف فعقدت عليه بخناصرها، فاقتني من الأنساب شرف نصابها، واعتلا عند الإنتساب علي شرف أحسابها، واجتني جنا الهداية من معادنها وأسبابها، فهو من ولد الطّهر البتول المجزوم بكونها بضعة من الرّسول، فالرسالة أصلها، وإنّها لأشرف العناصر والاصول.

فأمّا مولده فبسرّ من رأي في ثالث وعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين للهجرة.

وأمّا نسبه أباً وامّاً، فأبوه أبو محمّد الحسن الخالص بن عليّ المتوكّل بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 193

محمّد القانع بن عليّ الرضا

بن موسي الكاظم بن جعفر الصّادق بن محمّد الباقر ابن عليّ زين العابدين بن الحسين الزكي بن عليّ المرتضي أميرالمؤمنين، وقد تقدّم ذكر ذلك مفصّلًا، وامّه امّ ولد تسمّي صقيل، وقيل حكيمة، وقيل غير ذلك.

وأمّا اسمه فمحمّد، وكنيته أبوالقاسم، ولقبه الحجّة، والخلف الصالح، وقيل: المنتظر.

وأمّا ما ورد عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في المهدي عليه السلام من الأحاديث الصحيحة.

فمنها: ما نقله الإمامان أبو داود والترمذي رضي اللَّه عنهما، كلّ واحد منهما بسنده في صحيحه يرفعه إلي أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: المهديّ منّي أجلي الجبهة، وأقني الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين.

ومنها: ما أخرجه أبو داود رحمه اللَّه بسنده في صحيحه يرفعه إلي عليّ قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو لم يبق من الدهر إلّايوم لبعث اللَّه رجلًا من أهل بيتي يملؤها عدلًا كما مُلئت جوراً.

ومنها: ما رواه أيضاً أبو داود رضي اللَّه عنه في صحيحه يرفعه بسنده إلي امّ سلمة زوج النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة.

ومنها: ما رواه القاضي أبو محمّد الحسين بن مسعود البغوي رضي اللَّه عنه في كتابه المسمّي بشرح السنّة، وأخرجه الإمامان البخاري ومسلم كلّ واحد منهما بسنده في صحيحه يرفعه إلي أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 194

اللَّه عليه وسلّم: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم.

ومنها: ما أخرجه أبو داود والترمذي بسندهما في صحيحيهما، يرفعه كلّ واحد منهما بسنده إلي عبداللَّه بن مسعود أنّه قال: قال رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتّي يبعث اللَّه رجلًا منّي ومن أهل بيتي، يواطي ء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً.

وفي رواية اخري: لا تنقضي الدنيا حتّي يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطي ء اسمه اسمي.

وفي رواية اخري: إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يلي رجل من أهل بيتي يواطي ء اسمه اسمي.

هذه الروايات عن أبي داود والترمذي.

ومنها: ما نقله الإمام أبو إسحاق أحمد بن محمّد الثعلبي في تفسيره يرفعه بإسناده إلي أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

نحن ولد عبدالمطّلب سادة أهل الجنّة: أنا وحمزة وجعفر وعليّ والحسن والحسين والمهدي.

قال المعترض: هذه الأحاديث النبويّة الكثيرة بتعدادها المصرّحة بجملتها وإفرادها، متّفق علي صحّة إسنادها ومجمع علي نقلها عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وإيرادها، وهي صحيحة صريحة في إثبات كون المهدي من ولد فاطمة عليها السلام، وأنّه من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وأنّه من عترته، وأنّه من أهل بيته، وأنّ اسمه يواطي ء اسمه، وأنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلًا، وأنّه من ولد عبدالمطّلب، وأنّه من سادات الجنّة، وذلك ممّا لا نزاع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 195

فيه، غير أنّ ذلك لا يدلّ علي أنّ المهدي الموصوف بما ذكره صلّي اللَّه عليه وسلّم من الصفات والعلامات هو هذا أبوالقاسم محمّد بن الحسن الحجّة الخلف الصّالح؛ فإنّ ولد فاطمة عليها السلام كثيرون، وكلّ من يولد من ذرّيّتها إلي يوم القيامة يصدق عليه أنّه من ولد فاطمة وأنّه من العترة الطاهرة وأنّه من أهل البيت عليهم السلام، فتحتاجون مع هذه الأحاديث المذكورة إلي

زيادة دليل علي أنّ المهدي المراد هو الحجّة المذكور، ليتمّ مرامكم.

فجوابه: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا وصف المهدي عليه السلام بصفات متعدّدة، من ذكر اسمه ونسبه ومرجعه إلي فاطمة عليها السلام وإلي عبدالمطّلب، وأنّه أجلي الجبهة أقني الأنف، وعدّد الأوصاف الكثيرة التي جمعتها الأحاديث الصّحيحة المذكورة آنفاً، وجعلها علامة ودلالة علي أنّ الشخص الذي يسمّي بالمهدي ويثبت له الأحكام المذكورة هو الشخص الذي اجتمعت تلك الصفات فيه، ثمّ وجدنا تلك الصفات المجعولة علامة ودلالة مجتمعة في أبي القاسم محمّد الخلف الصّالح دون غيره، فيلزم القول بثبوت تلك الأحكام له وأنّه صاحبها، وإلّا فلو جاز وجود ما هو علامة ودليل ولا يثبت ما هو مدلوله، قدح ذلك في نصبها علامة ودلالة من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وذلك ممتنع.

فإن قال المعترض: لا يتمّ العمل بالعلامة والدلالة إلّابعد العلم باختصاص من وجدت فيه بها دون غيره وتعيّنه لها، فأمّا إذا لم يعلم تخصيصه وانفراده بها فلا يحكم له بالدلالة، ونحن نسلّم أنّ من زمن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي ولادة الخلف الصالح الحجّة محمّد عليه السلام، ما وجد من ولد فاطمة عليها السلام شخص جمع تلك الصّفات التي هي العلامة والدّلالة،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 196

غيره، لكن وقت بعثة المهدي وظهوره وولايته هو في آخر أوقات الدنيا، عند ظهور الدجّال ونزول عيسي بن مريم، وذلك سيأتي بعد مدّة مديدة، ومن الآن إلي ذلك الوقت المتراخي الممتد أزمان متجدّدة، وفي العترة الطاهرة من سلالة فاطمة عليها السلام كثرة يتعاقبون ويتوالدون إلي ذلك الآن، فيجوز أن يولد من السّلالة الطاهرة والعترة النبويّة من يجمع تلك الصّفات فيكون هو المهدي المشار إليه

في الأحاديث المذكورة، ومع هذا الإحتمال والإمكان كيف يبقي دليلكم مختصّاً بالحجّة المذكور؟

فالجواب: إنّكم إذا عرفتم أنّه إلي وقت ولادة الخلف الصّالح وإلي زماننا، لم يوجد من جمع تلك الصّفات والعلامات بأسرها سواه، فيكفي ذلك في ثبوت تلك الأحكام له عملًا بالدلالة الموجودة في حقّه، وما ذكرتموه من احتمال أن يتجدّد مستقبلًا في العترة الطّاهرة من أن يكون بتلك الصفات، لا يكون قادحاً في إعمال الدلالة وما مانعاً من ترتيب حكمها عليها؛ فإنّ دلالة الدليل راجحة لظهورها، واحتمال تجدّد ما يعارضها مرجوح، ولا يجوز ترك الراجح بالمرجوح؛ فإنّه لو جوّزنا ذلك لامتنع العمل بأكثر الأدلّة المثبتة للأحكام، إذ ما من دليل إلّاوإحتمال تجدّد ما يعارضه متطرّق إليه، ولم يمنع ذلك من العمل به وفاقاً.

والذي يوضح ذلك ويؤكّده: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فيما أورد به الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه يرفعه بسنده قال لعمر بن الخطّاب: يأتي عليك مع إمداد أهل اليمن أويس بن عامر من مراد ثمّ قرن، كان به برص فبرأ منه إلّاموضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم علي اللَّه لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فالنّبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم ذكر

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 197

اسمه ونسبه وصفته، وجعل ذلك علامة ودلالة علي أنّ المسمّي بذلك الإسم المتّصف بتلك الصّفات لو أقسم علي اللَّه لأبرّه، وأنّه أهل لطلب الإستغفار منه، وهذه منزلة عالية ومقام عند اللَّه تعالي عظيم.

فلم يزل عمر رضي اللَّه عنه بعد وفاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وبعد وفاة أبي بكر رضي اللَّه عنه يسأل إمداد اليمن من الموصوف بذلك حتّي قدم وفد من اليمن، فسألهم، فاخبر بشخص متّصف

بذلك، فلم يتوقّف عمر رضي اللَّه عنه في العمل بتلك العلامة والدّلالة التي ذكرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، بل بادر إلي العمل بها واجتمع به وسأله الإستغفار وجزم أنّه المشار إليه في الحديث النّبوي لمّا علم تلك الصفات فيه، مع وجود احتمال أن يتجدّد في وفود اليمن مُستقبلًا من يكون بتلك الصّفات، فإنّ قبيلة مراد كثيرة والتوالد فيها كثير، وعين ما ذكرتموه من الإحتمال موجود.

وكذلك قضيّة الخوارج لمّا وصفهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بصفات ورتّب عليها حكمهم، ثمّ بعد ذلك لمّا وجدها عليّ رضي اللَّه عنه موجودة في أولئك في واقعة حرورا والنهروان، جزم بأنّهم هم المرادون بالحديث النّبوي وقاتلهم وقتلهم، فعمل بالدلالة عند وجود الصّفة مع احتمال أن يكون المرادون غيرهم، وأمثال هذه الدلالة والعمل بها مع قيام الإحتمال كثيرة، فعلم أنّ الدلالة الرّاجحة لا تترك لاحتمال المرجوح.

ونزيده بياناً وتقريراً فنقول: لزوم ثبوت الحكم عند وجود العلامة والدلالة لمن وجدت فيه، أمر يتعيّن العمل به والمصير إليه، فمن تركه وقال بأنّ صاحب الصّفات المراد بإثبات الحكم له ليس هو هذا بل شخص غيره سيأتي، فقد عدل عن النّهج القويم ووقف نفسه موقف اللّئيم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 198

ويدلّ علي ذلك: أنّ اللَّه عزّ وعلا لمّا أنزل في التوراة علي موسي أنّه يبعث النبيّ العربيّ في آخر الزّمان خاتم الأنبياء، ونعته بأوصافه وجعلها علامة ودلالة علي إثبات حكم النبوّة له، وصار قوم موسي عليه السلام يذكرونه بصفاته ويعلمون أنّه يبعث، فلمّا قرب زمان ظهوره وبعثه صاروا يهدّدون المشركين به ويقولون: سيظهر الآن نبيّ نعته كذا وصفته كذا ونستعين به علي قتالكم، فلمّا بعث صلّي اللَّه عليه وسلّم ووجدوا العلامات

والصّفات بأسرها التي جعلت دلالة علي نبوّته أنكروه وقالوا: ليس هو هذا بل هو غيره وسيأتي، فلمّا جنحوا إلي الاحتمال وأعرضوا عن العمل بالدلالة الموجودة في الحال، أنكر اللَّه تعالي عليهم كونهم تركوا العمل بالدلالة التي ذكرها لهم في التوراة، وجنحوا إلي الإحتمال، وهذه القصّة من أكبر الأدلّة وأقوي الحجج علي أنّه يتعيّن العمل بالدلالة بعد وجودها، وإثبات الحكم لمن وجدت تلك الدلالة فيه.

فإذا كانت الصفات التي هي علامة ودلالة لثبوت الأحكام المذكورة موجودة في الحجّة الخلف الصالح محمّد، تعيّن إثبات كونه المهدي المشار إليه من غير جنوح إلي احتمال تجدّد غيره في الإستقبال.

فإن قال المعترض: نسلّم أنّ الصفات المجعولة علامة ودلالة إذا وجدت تعيّن العمل بها ولزوم إثبات مدلولها لمن وجدت فيه، لكن نمنع وجود تلك العلامة والدلالة في الخلف الصالح محمّد، فإنّ من جملة الصفات المجعولة علامة ودلالة: أن يكون اسم أبيه مواطئاً لاسم أب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، هكذا صرّح به الحديث النبويّ علي ما أوردتموه، وهذه الصفة لم توجد فيه، فإنّ اسم أبيه الحسن واسم أب النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم عبداللَّه، وأين استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 199

الحسن من عبداللَّه؟ فلم توجد هذه الصفة التي هي جزء من العلامة والدلالة، وإذا لم يوجد جزء العلّة لا يثبت حكمها؛ فإنّ الصفات الباقية لا تكفي في إثبات تلك الأحكام، إذ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يجعل تلك الأحكام ثابتة إلّا لمن اجتمعت تلك الصفات فيه كلّها التي جزءها مواطاة اسمي الأبوين في حقّه، وهذه لم تجتمع في الحجّة الخلف، فلا يثبت تلك الأحكام له، وهذا إشكال قوي.

فالجواب: لابدّ قبل الشروع في تفصيل الجواب، من بيان أمرين يبني عليهما

الغرض:

الأوّل: إنّه شائع في لسان العرب إطلاق لفظة الأب علي الجدّ الأعلي، وقد نطق القرآن الكريم بذلك فقال تعالي: «ملّة أبيكم إبراهيم» وقال تعالي حكاية عن يوسف عليه السلام: «واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق» ونطق بذلك النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في حديث الإسراء إنّه قال:

قلت: من هذا؟ قال: أبوك إبراهيم؛ فعلم أنّ لفظة الأب تطلق علي الجدّ وإن علا؛ فهذا أحد الأمرين.

الثاني: إنّ لفظة الإسم تطلق علي الكنية وعلي الصفة، وقد استعملها الفصحاء ودارت بها ألسنتهم ووردت في الأحاديث، حتّي ذكر الإمامان البخاري ومسلم رضي اللَّه عنهما، كلّ منهما يرفعه إلي سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّه عنه أنّه قال عن عليّ رضي اللَّه عنه: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سمّاه بأبي تراب ولم يكن له اسم أحبّ إليه منه، فأطلق لفظة الإسم علي الكنية، ومثل ذلك قول الشاعر:

إنّي اجِلّ قدرك أن اسمي مؤنته ومن كناك فقد سماك للعرب ويروي: ومن يصفك، فأطلق التسمية علي الكناية أو الصفة، وهذا شائع ذائع في لسان العرب.

فإذا وضح ما ذكرناه من الأمرين، فاعلم أيّدك اللَّه بتوفيقه: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم كان له سبطان: أبو محمّد الحسن وأبو عبداللَّه الحسين، ولمّا كان الحجّة الخلف الصّالح محمّد عليه السلام ومن ولد أبي عبداللَّه الحسين ولم يكن من ولد أبي محمّد الحسن، وكانت كنية الحسين أباعبداللَّه، فأطلق النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم علي الكنية لفظ الإسم لأجل المقابلة بالإسم في حقّ أبيه، وأطلق علي الجدّ لفظة الأب، فكأنّه قال: يواطي ء اسمه اسمي فهو محمّد، وأنا محمّد، وكنية جدّه اسم أبي، إذ هو أبو عبداللَّه وأبي عبداللَّه، لتكون تلك الألفاظ المختصرة جامعة لتعريف صفاته وإعلام أنّه

من ولد أبي عبداللَّه الحسين بطريق جامع موجز، وحينئذٍ تنتظم الصّفات وتوجد بأسرها مجتمعة للحجّة الخلف الصالح محمّد عليه السلام، وهذا بيان شاف كافٍ في إزالة ذلك الإشكال، فافهمه.

وأمّا ولده، فلم يكن له ولد ليذكر، لا انثي ولا ذكر.

وأمّا عمره، فإنّه في أيّام المعتمد علي اللَّه خاف فاختفي وإلي الآن فلم يمكن ذكر ذلك، إذ من غاب وإن انقطع خبره لا توجب غيبته وانقطاع خبره الحكم بمقدار عمره ولابانقضاء حياته، وقدرة اللَّه تعالي واسعة وحكمه وألطافه بعباده عظيمة عامّة، ولو رام عظماء العلم أن يدركوا حقائق مقدوراته وكنه قدرته لم يجدوا إلي ذلك سبيلًا، ولانقلب طرف تطلّعهم إليه حسيراً وحدّه كليلًا، ولتلا عليهم لسان عجزهم عن الإحاطة به «وما اوتيتم من العلم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 201

إلّا قليلًا» «1»، وليس ببدع ولا مستغرب تعمير بعض عباد اللَّه المخلصين ولا امتداد عمره إلي حين، فقد مدّ اللَّه سبحانه وتعالي أعمار جمع كثير من خلقه من أصفيائه وأوليائه ومن مطروديه وأعدائه.

فمن الأصفياء عيسي عليه السلام، ومنهم الخضر عليه السلام، وخلق آخرون من الأنبياء عليهم السلام طالت أعمارهم حتّي جاز كلّ واحد منهم ألف سنة أو قاربها كنوح عليه السلام وغيره.

وأمّا من الأعداء المطرودين فإبليس، وكذلك الدجّال، ومن غيرهم كعاد الاولي كان فيهم مَنْ عمره ما يقارب الألف، وكذلك لقمان صاحب البلاء، وكلّ هذا لبيان اتّساع القدرة الربانيّة في تعمير بعض خلقه، فأيّ مانع يمنع من امتداد عمر الخلف الصالح إلي أن يظهر فيعمل ما حكم اللَّه تعالي له به.

وحيث وصل الكلام إلي هذا المقام وانتهي جريان القلم بما خطّه من هذه الأقسام الوسام، فلنختمه بالحمد للَّه ربّ العالمين، فإنّها كلمة مباركة جعلها اللَّه سبحانه وتعالي

آخر دعوي أهل جنانه وخصّها بمن اجتباه من خلقه وكساه ملابس رضوانه» «2».

ترجمة ابن طلحة الشافعي … ص: 201

هو: أبو سالم محمّد بن طلحة بن محمّد القرشي العدوي الشافعي __________________________________________________

(1) سورة الإسراء 17: 85.

(2) مطالب السئول في مناقب آل الرسول: 311- 320.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 202

المتوفّي سنة 652، ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء 23/ 293 ووصفه بالعلّامة الأوحد، برع في المذهب واصوله وشارك في فنون، ولكنّه دخل في هذيان علم الحروف، وتزهّد، وقد ترسّل عن الملوك، وولي وزارة دمشق يومين وتركها، وكان ذا جلالةٍ وحشمة … وتوجد ترجمته كذلك في كثير من كتب التاريخ والرجال، كالبداية والنهاية، والعبر، والنجوم الزاهرة، وشذرات الذهب، في وقائع السنة المذكورة. وفي طبقات الشافعيّة الكبري للسبكي 8/ 63 الترجمة رقم 1076 والوافي بالوفيات 3/ 176.

الشيخ ولي اللَّه الدهلوي … ص: 202
اشارة

وقال شاه ولي اللَّه الدهلوي- وهو والد الشيخ عبدالعزيز الدهلوي، صاحب التحفة الاثني عشرية- في (مسلسلاته) الموسومة ب (الفضل المبين):

«قلت: شافهني ابن عقلة بإجازة جميع ما يجوز له روايته، ووجدت في مسلسلاته حديثاً مسلسلًا بانفراد كلّ راوٍ من رواته بصفة عظيمة تفرّد بها، قال رحمه اللَّه: أخبرني فريد عصره الشيخ حسن بن علي العجيمي، أنا حافظ عصره جمال الدين البابلي، أنا مسند وقته محمّد الحجازي الواعظ، أنا صوفي زمانه الشيخ عبدالوهاب الشعراوي، أنا مجتهد عصره الجلال السيوطي، أنا حافظ عصره أبو نعيم رضوان العقبي، أنا مقري ء زمانه الشمس محمّد ابن الجوزي، أنا الإمام جمال الدين محمّد بن محمّد الجمال زاهد عصره، أنا الإمام محمّد بن مسعود محدّث بلاد فارس في زمانه، أنا شيخنا إسماعيل بن مظفّر الشيرازي عالم وقته، أنا عبدالسلام بن أبي الربيع الحنفي محدّث زمانه، أنا أبوبكر عبداللَّه بن محمّد بن شابور القلانسي شيخ عصره، أنا عبدالعزيز، ثنا محمّد الآدمي إمام أوانه، أنا سليمان بن إبراهيم

بن محمّد بن سليمان نادرة عصره، ثنا أحمد بن محمّد بن هاشم البلاذري حافظ زمانه، ثنا محمّد بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 203

الحسن بن علي المحجوب إمام عصره، ثنا الحسن بن علي، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي جدّه عليّ بن موسي الرضا، ثنا موسي الكاظم قال: ثنا أبي جعفر الصادق، ثنا أبي محمّد الباقر بن علي، ثنا أبي عليّ بن الحسين زين العابدين السجّاد، ثنا أبي الحسين سيّدالشهداء، ثنا أبي عليّ بن أبي طالب سيّد الأولياء قال: أخبرنا سيّد الأنبياء محمّد بن عبداللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

أخبرني جبرئيل سيّد الملائكة قال: قال اللَّه تعالي سيّد السادات: إنّي أنا اللَّه لا إله إلّاأنا، من أقرّ لي بالتوحيد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي.

قال الشمس ابن الجزري: كذا وقع هذا الحديث من المسلسلات السعيدة والعهدة فيه علي البلاذري».

ترجمة وليّ اللَّه الدهلوي … ص: 203

هو: وليّ اللَّه بن عبدالرحيم الدهلوي المتوفّي سنة 1180، قال في معجم المؤلفين 4/ 292: فقيه، اصولي، محدّث، مفسّر.

مع الأعور الواسطي … ص: 203

وبما ذكرنا يظهر عداء الأعور الواسطي لأهل البيت عليهم السلام، فإنّه مضافاً إلي إنكاره وجود الإمام المهدي بن الحسن العسكري وإمامته، يردُّ علي تسميته بصاحب الزمان ويجعلها من الفسوق، حيث يقول في (رسالته):

«أكبر الفسوق تسمية هذا المفقود بصاحب الزمان، ولا صاحب للزمان غير اللَّه تعالي، ما أجرأهم علي اللَّه»!!

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 204

مع ابن حجر المكي … ص: 204

وابن حجر المكي أيضاً عاند الحق وتكلّم في أهله حيث قال في (الصواعق):

«ثمّ المقرّر في الشريعة المطهّرة أنّ الصغير لا تصحّ ولايته، فكيف ساغ لهؤلاء الحمقي المغفّلين أن يزعموا إمامة من عمره خمس سنين، وأنّه اوتي الحكم صبيّاً، مع أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يخبر به، ما ذلك إلّامجازفة وجرأة علي الشريعة الغَرَّاء.

قال بعض أهل البيت: وليت شعري من المخبر لهم بهذا؟ وما طريقه؟

ولقد صاروا بذلك وبوقوفهم بالخيل علي ذلك السرداب وصياحهم بأن يخرج إليهم ضحكة لُاولي الألباب.

ولقد أحسن القائل:

ما آن للسّرداب أن يلد الذي كلّمتموه بجهلكم ما آنا

فعلي عقولكم العفا فإنّكم ثلّثتم العنقاء والغيلانا»

وقد قال ابن حجر بترجمة الإمام الحسن العسكري:

«ولم يخلّف غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن آتاه اللَّه فيها الحكمة، ويسمّي القائم المنتظر، قيل: لأنّه ستر بالمدينة وغاب فلم يعلم أين ذهب …» «1».

أقول:

لقد أرسل بعض الناصبة من أهل بغداد هذا الشعر إلي النجف الأشرف،

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة 2/ 483.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 205

فانبري للجواب عنه الشيخ ميرزا حسين النوري الطبرسي بكتاب (كشف الأستار عن الإمام الغائب عن الأبصار) ثمّ نظم غير واحدٍ من العلماء الأعلام مطالب هذا الكتاب في أشعارٍ لهم جواباً عن الشعر المذكور، منهم: الشيخ محمّدجواد البلاغي، والسيّد محسن الأمين العاملي، والشيخ محمّد

حسين كاشف الغطاء …

ثمّ إنّ العلماء الذين ذكرهم السيّد هم عدّة من وقف علي كتبهم، ولكنّ من يقول بمقالة الشيعة الإماميّة في موضوع الإمام الثاني عشر من أكابر أهل السنّة في مختلف العلوم والفنون كثيرون، ومنهم الذين أضافهم حفيد السيّد في كتابه (الإمام الثاني عشر) وهم:

1- الشيخ محي الدين ابن عربي، المتوفّي سنة 638.

2- رشيدالدين الدهلوي الهندي، المتوفّي سنة 1243.

3- صلاح الدين الصفدي، المتوفّي سنة 764.

4- الشيخ العطّار النيسابوري، المتوفّي سنة 618.

5- الشيخ صدرالدين أبو المجامع الحمويني، المتوفّي سنة 723.

ثمّ إنّا قد استدركنا عليه في طبعته النجفيّة عام 1393 بأعلامٍ آخرين من أهل السنّة في مختلف القرون، وهم:

1- الحافظ أحمد بن محمّد البلاذري البغدادي، المتوفّي سنة 279.

2- الحافظ أو محمّد الحسين بن مسعود البغوي، المتوفّي سنة 516.

3- الحافظ شمس الدين ابن الجزري، المتوفّي سنة 833.

4- الحافظ جلال الدين السيوطي، المتوفّي سنة 911.

5- أبو عبداللَّه ابن الخشاب، المتوفّي سنة 567.

6- المؤرخ ابن الأزرق، المتوفّي سنة 590.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 206

7- المؤرخ ابن خلكان، المتوفّي سنة 681.

8- المؤرخ الشيخ ابن الوردي، المتوفّي سنة 749.

9- الحافظ أبوبكر البيهقي، المتوفّي سنة 458.

10- الحافظ أبو الفتح ابن أبي الفوارس، المتوفّي سنة 412.

11- الشيخ علي القاري الهروي 1014.

12- الحسين بن معين الدين الميبدي، شارح ديوان الإمام علي، المتوفّي سنة 870.

13- الشيخ عبداللَّه المطيري صاحب كتاب (الرياض الزاهرة).

14- الشيخ سعدالدين الحموي 650.

15- جلال الدين محمّد الرومي العارف المشهور بالمولوي 628.

16- شمس الدين التبريزي المتوفّي في منتصف القرن السابع الهجري.

17- الشيخ عبدالرحمن البسطامي 858.

18- السيد النسيمي 901.

19- الشيخ صدرالدين القونوي 672.

20- الشيخ حسن العراقي أوائل القرن الحادي عشر.

21- الشيخ علي الخواص.

22- السيّد مؤمن بن حسن الشبلنجي 1290.

23- الشيح حسن العدوي

الحمزاوي صاحب (مشارق الأنوار) المتوفّي سنة 1303.

24- المولي محمّد الشهير بابن بدرالدين الرومي شيخ الحرم المدني، المتوفّي سنة 1001.

25- الشيخ سليمان بن أحمد القندوزي الحنفي، المتوفّي سنة 1294.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 207

التجسيم والمجسّمة … ص: 207

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 209

قد ينسب في بعض الكتب إلي الفرقة المحقة القول بالتجسيم، وإلي خصوص هشام بن الحكم، والقول بأنه سبعة أشبار بشبر نفسه … وهذا افتراء محض عليه وعلي الطائفة، وتعالي اللَّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

تبرئة الشهرستاني هشام بن الحكم … ص: 209

ولقد أحسن الشهرستاني، وهو من أعلام علماء أهل السنّة، حيث ردَّ علي الكعبي نسبة القول بذلك إلي هشام، فقد جاء في (الملل والنحل) ما نصّه:

«حكي الكعبي عن هشام بن الحكم أنّه قال: هو جسم ذو أبعاض، له قدر من الأقدار ولكن لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا تشبهه. ونقل عنه أنّه قال: هو سبعة أشبار بشبر نفسه» «1».

ثمّ قال بعد كلامٍ له:

«وهذا هشام بن الحكم صاحب غور في الأصول لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته علي المعتزلة، فإنّ الرجل وراء ما يلزمه علي الخصم ودون ما يظهره من التشبيه، وذلك أنّه ألزم العلّاف فقال: إنّك تقول إنّ الباري تعالي عالم بعلم وعلمه ذاته، فيشارك المحدثات في أنّه عالم بعلم ويباينها في أنّه علمه ذاته، فيكون عالماً لا كالعالمين، فلم لا تقول هو جسم لا كالأجسام، وصورة لا

__________________________________________________

(1) الملل والنحل 1: 184.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 210

كالصّور، وله قدر لا كالأقدار، إلي غير ذلك» «1».

ترجمة الشهرستاني … ص: 210

وأبوالفتح عبدالكريم الشهرستاني الفقيه، المتكلّم، صاحب التصانيف، من أعلام العلماء المحققين عند القوم:

قال اليافعي في (مرآة الجنان):

«أبوالفتح محمّد بن عبدالكريم بن أحمد الشهرستاني، المتكلّم علي مذهب الأشعري، كان إماماً مبرّزاً فقيهاً متكلّماً، تفقّه علي أبي نصر القشيري وأحمد الخوافي وغيرهما، وبرع في الفقه، وقرأ الكلام علي أبي القاسم الأنصاري وتفرّد فيه، وصنّف كتباً منها: نهاية الإقدام في علم الكلام، وكتاب الملل والنحل، وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام، وكان كثير المحفوظ، حسن المحاورة» «2».

وعلي الجملة، فإنّ نسبة هذا القول الباطل إلي الفرقة المحقة أو خصوص هشام باطلة، والناسب كاذب ولا حاجة إلي إطالة الكلام في ذلك، وقد بحث عنه بالتفصيل في محلّه.

__________________________________________________

(1) الملل والنحل 1: 185.

(2) مرآة الجنان 3: 221- 222.

السَّنة: 548.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 211

المجسمون من أهل السنّة … ص: 211
اشارة

ولكنّ العجب من هؤلاء، كيف يغفلون أو يتغافلون عن القائلين بهذه المقالة في صفوف علمائهم وهم كثيرون:

ابن تيميّة وابن القيّم … ص: 211

فابن تيميّة، قد ثبت عنه القول بذلك:

قال ابن حجر المكي في (أشرف الوسائل في شرح الشمائل) في ذكر إرخاء العمامة علي الكتفين:

«قال ابن القيّم عن شيخه ابن تيميّة إنّه ذكر شيئاً بديعاً وهو: أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا رأي ربّه واضعاً يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة.

قال العراقي: ولم نجد لذلك أصلًا، بل هذا من قبيل رأيهما وضلالهما، إذ هو مبني علي ما ذهبا إليه وأطالا في الاستدلال له والحطّ علي أهل السنّة في نفيهم له، وهو إثبات الجهة والجسميّة للَّه، تعالي عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الإعتقاد ما يصمّ عنه الآذان ويقضي عليه بالزور والكذب والضلال والبهتان، قبّحهما اللَّه وقبّح من قال بقولهما، والإمام أحمد وأجلّاء مذهبه مبرّؤون عن هذه الوصمة القبيحة، كيف وهي كفر عند كثيرين».

وقال الجلال الدواني في (شرح عقائد العضدي):

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 212

«ولابن تيميّة أبي العبّاس أحمد وأصحابه ميل عظيم إلي إثبات الجهة ومبالغة في القدح في نفيها، ورأيت في بعض تصانيفه أنّه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال هو معدوم أو يقال طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده، ونسب النافين إلي التضليل، هذا مع علوّ كعبه في العلوم النقليّة والعقليّة كما يشهد به من تتبّع تصانيفه».

وقال المفتي صدر الدين، وهو من أكابر فضلاء السنة في الهند في رسالته (منتهي المقال) التي قرّظها علماؤهم بتقريظات عديدة:

«قال شيخ الامّة الهمام، سند المحدّثين الشيخ محمّد البريسي، في كتابه إتحاف أهل العرفان برؤية الأنبياء والملائكة والجان: قد تجاسر ابن تيميّة الحنبلي-

عامله اللَّه تعالي بعدله- وادّعي أنّ السفر لزيارة قبر النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم حرام، وإنّ الصلاة لا تقصر فيه لعصيان المسافر به، وأطال في ذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر منه الطباع، وقد عاد شؤم كلامه عليه حتّي تجاوز الجناب الأقدس المستحق لكلّ كمال أنفس وخرق سياج الكبرياء والجلال، وحاول إثبات منافي العظمة والكمال، بادّعائه الجهة والتجسيم ونسبة من لم يعتقدهما إلي الضلالة والتأثيم، وأظهر هذا الأمر علي المنابر وشاع وذاع ذكره بين الأكابر والأصاغر، وخالف الأئمة المجتهدين في مسائل كثيرة، استدرك علي الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة، فسقط من أعين علماء الامّة وصار مثلة بين العوام فضلًا عن الأئمة، وتعقّب العلماء كلماته الفاسدة وزيّفوا حججه الداحضة الكاسدة، وأظهروا عور سقطاته وبيّنوا قبائح أوهامه وغلطاته».

وهذه بعض الجُمل الواردة في المنشور السلطاني في ابن تيمية:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 213

«وكان الشقي ابن تيميّة في هذه المدّة قد بسط لسان قلمه ومدَّ عنان كلمه وتحدّث في مسائل القرآن والصفات، ونصّ في كلامه علي امور منكرات، وتكلّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما يمجّه السلف الصالحون، وأتي في ذلك بما أنكره أئمّة الإسلام، وانعقد علي خلافه إجماع العلماء الأعلام، واشتهر من فتاواه في البلاد ما استخفّ به عقول العوام، وخالف في ذلك علماء عصره وفقهاء شامه ومصره، وبعث رسائله إلي كلّ مكان، وسمّي كتبه أسماء ما أنزل اللَّه بها من سلطان، ولمّا اتّصل بنا ذلك من سلكه من هذه المسالك وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه استخفّ قومه فأطاعوه، حتّي اتّصل بنا أنّهم صرّحوا في حقّ اللَّه بالحرف والصوت والتجسيم، فقمنا في حقّ اللَّه تعالي مشفقين من هذا النبأ العظيم».

إلي آخر المنشور الطويل، المثير

لأوليائه العويل، الهادم لأساس فخرهم الجزيل ومجدهم الأثيل.

بل قال ابن تيمية بقدم العرش، فأثبت للباري شريكاً في الأزليّة، كما ذكر الدوّاني في (شرح العقائد) بذكر القدم الجنسي للعالم:

«وقد قال به بعض المحدّثين المتأخّرين، وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيميّة القول به في العرش».

وقال المولوي عبدالحليم- من علماء الهند- في حاشية شرح العقائد المسماة (حلّ المعاقد):

«كان تقيّ الدين ابن تيميّة حنبليّاً، لكنّه تجاوز عن الحدّ وحاول إثبات ما ينافي عظمة الحقّ تعالي وجلاله، فأثبت له الجهة والجسم، وله هفوات اخر كما يقول: إنّ أميرالمؤمنين سيّدنا عثمان رضي اللَّه عنه كان يحبّ المال، وإنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 214

أميرالمؤمنين سيّدنا علي رضي اللَّه عنه ما صحّ إيمانه فإنّه آمن في حال صباه، وتفوّه في حقّ أهل بيت النبيّ صلّي اللَّه عليه وعليهم ما لا يتفوّه به المؤمن المحقّ، وقد ورد الأحاديث الصحاح في مناقبهم في الصحاح.

وانعقد مجلس في قلعة حبل، حضر العلماء الأعلام والفقهاء العظام، ورئيسهم كان قاضي القضاة زين الدين المالكي، وحضر ابن تيميّة، فبعد القيل والقال، بهت ابن تيميّة وحكم قاضي القضاة بحبسه، وكان ذلك سنة سبع مائة وخمس من الهجرة، ثمّ نودي بدمشق وغيره: من كان علي عقيدة ابن تيميّة حلَّ ماله ودمه؛ كذا في مرآة الجنان للإمام أبي محمّد عبداللَّه اليافعي، ثمّ تاب وتخلّص من السجن سنة سبع مائة وسبع من الهجرة وقال: إنّي أشعريّ، ثمّ نكث عهده وأظهر مكنونه ومرموزه، فحبس حبساً شديداً مرّة ثانية، ثمّ تاب وتخلّص من السجن وأقام في الشام، وله هناك واقعات كتبت في كتب التواريخ.

وردّ أقاويله وبيّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلّد الأوّل من الدرر الكامنة، والذهبي في تاريخه، وغيرهما من المحقّقين.

هذا

كلام وقع في البين. والمرام أنّ ابن تيميّة لمّا كان قائلًا بكونه تعالي جسماً قال بأنّه ذو مكان، فإنّ كلّ جسم لابدّ له من مكان علي ما ثبت، ولما ورد في الفرقان الحميد «الرحمن علي العرش استوي» قال: إنّ العرش مكانه، ولمّا كان الواجب أزليّاً عنده وأجزاء العالم حوادث عنده، فاضطرّ إلي القول بأزليّة جنس العرش وقدمه وتعاقب أشخاصه الغير المتناهية، فمطلق التمكّن له تعالي أزليّ، والتمكّنات المخصوصة حوادث عنده، كما ذهب المتكلّمون إلي حدوث التعلّقات».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 215

وهذا نصّ كلام الحافظ ابن حجر بترجمة ابن تيمية من (الدرر الكامنة):

«وافترق الناس فيه شيعاً:

فمنهم: من نسبه إلي التجسيم، لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطيّة وغيرهما من ذلك بقوله: إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقيّة للَّه، وإنّه مستوٍ علي العرش بذاته، فقيل له: يلزم من ذلك التحيّز والإنقسام، فقال:

أنا لا أسلّم إنّ التحيّز والإنقسام من خواصّ الأجسام، فالزم بأنّه يقول بالتحيّز في ذات اللَّه.

ومنهم: من ينسبه إلي الزندقة، لقوله إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم لا يستغاث به، وإنّ في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وكان أشدّ النّاس عليه في ذلك النور البكري، فإنّه لمّا عُقِدَ له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين: يعزّر، فقال البكري: لا معني لهذا القول، فإنّه إن كان تنقيصاً يقتل، وإن لم يكن تنقيصاً لا يعزّر.

ومنهم: من ينسبه إلي النفاق، لقوله في عليّ ما تقدّم، ولقوله إنّه كان مخذولًا حيث ما توجّه، وإنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنّما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنّه كان يحبّ الرياسة، وإنّ عثمان كان يحبّ المال، ولقوله:

أبوبكر أسلم شيخاً يدري ما يقول، وعليّ أسلم

صبيّاً والصبيّ لا يصحّ إسلامه علي قول، ولكلامه في قصّة خطبة بنت أبي جهل وما نسبه من الثناء علي قصّة أبي العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها، فإنّه شنّع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يبغضك إلّامنافق.

ونسبه قوم إلي أنّه يسعي في الإمامة الكبري، فإنّه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه، فكان ذلك مولّداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة، وكان إذا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 216

حوقق والزم يقول لم أرد هذا إنّما أردت كذا، فيذكر احتمالًا بعيداً» «1».

بعض شيوخ الحديث … ص: 216

وبعض شيوخ أهل الحديث أيضاً ذهب إلي هذا القول الفاسد، فقد قال البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات):

«و قد زلّ بعض شيوخ أهل الحديث ممّن يرجع إلي معرفته بالحديث والرجال، فحاد عن هذه الطريقة حين روي حديث النزول، ثمّ أقبل علي نفسه فقال: إن قال قائل كيف ينزل ربّنا إلي السماء؟ قيل له: ينزل كيف يشاء. فإن قال: هل يتحرّك إذا نزل؟ فقال: إن شاء تحرّك وإن شاء لم يتحرّك.

وهذا خطأ فاحش عظيم، واللَّه تعالي لا يوصف بالحركة؛ لأنّ الحركة والسكون يتعاقبان في محلّ واحد، وإنّما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون، وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين، واللَّه تبارك وتعالي متعال عنهما ليس كمثله شي ء» «2».

الذهبي … ص: 216

والذهبي، الذي يعدّ من أكابر حفّاظهم المحققين، هذا مذهبه، كما نصّ علي ذلك علماؤهم الأعلام، كالسبكي في (طبقات الشافعية) حيث قال:

«وأمّا تاريخ شيخنا الذهبي غفر اللَّه له، فإنّه علي جمعه وحسنه مشحون بالتعصّب المفرط لا واخذه اللَّه، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه علي كثير من الأئمة الشافعيين __________________________________________________

(1) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1: 155- 156.

(2) الأسماء والصفات للبيهقي 3: 615- 616.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 217

والحنفيين ومال فأفرط علي الأشاعرة، ومدح فزاد في المجسمة، هذا وهو الحافظ المِدْرَه والإمام المبجّل» «1».

وقال السبكي أيضاً:

«ونقلت من خطّ الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي رحمه اللَّه ما نصّه: الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا شكّ في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله في الناس، ولكنّه غلب عليه مذهب الإثبات ومنافرة التأويل والغفلة عن التنزيه، حتّي أثّر ذلك في طبعه انحرافاً شديداً عن أهل التنزيه وميلًا قويّاً

إلي أهل الإثبات، فإذا ترجم واحداً منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ويبالغ في وصفه ويتغافل عن غلطاته ويتأوّل له ما أمكن، وإذا ذكر أحداً من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ويكثر من قول من طعن فيه ويعيد ذلك ويبديه ويعتقده ديناً وهو لا يشعر، ويُعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها، وإذا ظفر لأحدٍ منهم بغلطة ذكرها، وكذلك فعله في أهل عصرنا إذا لم يقدر علي أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته واللَّه يصلحه، ونحو ذلك، وسببه المخالفة في العقائد، إنتهي.

والحال في حقّ شيخنا الذهبي أزيد ممّا وصف، وهو شيخنا ومعلّمنا، غير أنّ الحقّ أحقّ أن يتّبع» «2».

وقال السبكي في (طبقاته):

«إعلم أنّ أباإسماعيل عبداللَّه بن محمّد الهروي، الذي يسمّيه المجسّمة

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية للسبكي 2: 22.

(2) طبقات الشافعية للسبكي 2: 13.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 218

شيخ الإسلام قال: سألت يحيي بن عمّار عن ابن حبّان قلت: رأيته؟ قال:

وكيف لم أره …» «1».

ولا يخفي أنّ مراده من «المجسمة» هو «الذهبي»، فهو الذي وصفه ب «شيخ الاسلام» كما في (ميزان الإعتدال) حيث قال:

«قال أبو إسماعيل الأنصاري شيخ الإسلام سألت يحيي بن عمّار عن أبي حاتم …» «2».

أبوالقاسم ابن مندة … ص: 218

وابن مندة أيضاً من القائلين بثبوت الجهة للباري عزّوجل، فقد قال اليافعي في (مرآة الجنان):

«الحافظ أبوالقاسم عبدالرحمن بن مندة الأصبهاني صاحب التصانيف، كان ذا هيبة ووقار، وله أصحاب وأتباع. قال الذهبي: وفيه تسنّن مفرط، أوقع بعض العلماء في الكلام في معتقده وتوهّموا فيه التجسيم، قال: وهو بري ء منه فيما علمت، ولكن لو قصّر من شأنه لكان أولي به.

قلت: وكلام الذهبي هذا يحتاج إلي إيضاح، فقوله: فيه تسنّن مفرط، أي يبالغ في

الأخذ بظواهر السنّة والاستدلال بها وجحد حملها فيه التجسيم، لأنّ الجري علي اعتقاد الظواهر ومنع التأويل فيها يدلّ علي ذلك، والكلام فيه يطول، وقد أوضحت ذلك في الاصول. وقوله: لو قصّر من شأنه لكان أولي به، أي لوترك المبالغة في التظاهر بذلك والاستشهار به لكان أولي. وأمّا قوله:

وهو بري ء منه، فشهادة علي أمر باطل واللَّه أعلم بحقيقته، وغاية ما ثمَّ أنّه ما

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية للسبكي 3: 132.

(2) ميزان الاعتدال 6: 99/ 7352.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 219

يصرّح بالتجسيم بلسانه لكنّه يقول بالجهة، وأسلم ما في ذلك أنّه يلزم منه القول بالتجسيم، وفي ملزوم المذهب خلاف مشهور عند العلماء، هل هو مذهب أم لا؟ هذا إذا اقتصر علي اعتقاد الجهة، فأمّا إذا اعتقد الحركة والنزول والجارحة فصريح في التجسيم» «1».

ولا تتوهَّمن أن هذه المقالات الفاسدة إنما قال بها المتأخّرون من تلقاء أنفسهم، فإنّهم قد تبعوا فيها أسلافهم …

جماعة من القدماء … ص: 219

فإنّ ذلك مذهب جماعة من القدماء … فقد قال في (الملل والنحل) بعد ذكر مذهب أحمد بن حنبل وأمثاله من منع تأويل الآيات الدالّة علي التشبيه:

«وليس- أي هذا المذهب- من التشبيه في شي ء، غير أنّ جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشويّة صرّحوا بالتشبيه، مثل الهشامين من الشيعة، ومثل مضر وكهمس وأحمد الهجيمي وغيرهم من أهل السنّة قالوا: معبودهم صورة ذات أعضاء وأبعاض روحانيّة وجسمانيّة، ويجوز عليه الانتقال والصعود والنزول والاستقرار والتمكّن.

فأمّا مشبّهة الشيعة، فسيأتي مقالاتهم في باب الغلاة.

وأمّا مشبّهة الحشويّة، فقد حكي الأشعري عن محمّد بن عيسي أنّه حكي عن مضر وكهمس وأحمد الهجيمي إنّهم أجازوا علي ربّهم الملامسة والمصافحة، وإنّ المخلصين من المسلمين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والإجتهاد

إلي حدّ الإخلاص والإتحاد المحض، وحكي الكعبي عن بعضهم إنّه كان يُجوّز الرؤية في الدنيا وأن يزوره ويزورهم. ويحكي عن __________________________________________________

(1) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 3: 76- 77 ترجمة الحافظ أبي القاسم عبدالرحمن بن مندة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 220

داود الجواربي إنّه قال: إعفوني عن اللّحية والفرج وسلوني عمّا وراء ذلك، وقال: إنّ معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين واذنين، وهو مع ذلك جسم لاكالأجسام، ولحم لا كاللحوم، ودم لا كالدماء، وكذلك سائر الصفات، وهو لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شي ء. وحكي أنّه قال: هو أجوف من أعلاه إلي صدره ومصمّت ما سوي ذلك، وأنّ له وفرةً سوداء، وله شعر قطط.

وأمّا ما ورد في التنزيل من الإستواء واليدين والوجه والرجلين والجنب والمجي ء والإتيان والفوقيّة وغير ذلك، فأجروها علي ظاهرها، يعني ما يفهم عند الإطلاق علي الأجسام، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة في قوله:

خلق آدم علي صورة الرحمان، وقوله: يضع الجبّار قدمه في النّار، وقوله: قلب المؤمنين بين إصبعين من أصابع الرحمان، وقوله: خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً، وقوله: فوضع يده أو كفّه علي كتفي فوجدت برد أنامله في صدري، إلي غير ذلك، أجروها علي ما يتعارف في صفات الأجسام» «1».

أكثر المحدّثين … ص: 220

وهو قول أكثر المحدّثين، فيما نسب إليهم جلال الدين الدواني في (شرح العقائد) حيث قال:

«وأكثر المجسّمة هم الظاهريون المتبعون بظواهر الكتاب والسنّة، وأكثرهم المحدّثون».

ونسب ابن الجوزي في (تلبيس ابليس) ذلك إلي عموم المحدّثين:

«واعلم أنّ عموم المحدّثين حملوا ظاهر ما نقلوا من صفات الباري __________________________________________________

(1) الملل والنحل 1: 105- 106.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 221

سبحانه وتعالي علي مقتضي الحسّ فشبّهوا، لأنّهم

لم يخالطوا الفقهاء، فيعرفوا حمل المتشابه علي مقتضي المحكم».

مقاتل بن سليمان … ص: 221

ومقاتل بن سليمان من القائلين بالتشبيه والتجسيم، وهو- كما في (الملل والنحل)- من أئمة السلف، وفي عداد أحمد بن حنبل وأمثاله، قال الشهرستاني:

«فأمّا أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصبهاني وجماعة من أئمّة السلف فجروا علي منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث كمالك بن أنس ومقاتل بن سليمان سلكوا طريق السلامة وقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنّة ولا نتعرّض للتأويل» «1».

وقد ورد قوله بالتجسيم في (المواقف) حيث قال:

«والمجسّمة قالوا هو جسم حقيقة. فقيل: مركّب من لحم ودم، كمقاتل ابن سليمان» «2».

وفي (منهاج السنة):

«قال الأشعري في المقالات: وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان:

إنّ اللَّه جسم، وإنّه جثّة وأعضاء وعلي صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، ومع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه» «3».

__________________________________________________

(1) الملل والنحل 1: 104.

(2) شرح المواقف في علم الكلام 3: 38.

(3) منهاج السنة 1: 372.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 222

وإذا كان الأشعري ينسب ذلك إلي مقاتل، فلا يصغي إلي تشكيكات بعض الناس.

وأيضاً، فقد جاء بترجمة مقاتل من (الأنساب) ما نصّه:

«أبوالحسن مقاتل بن سليمان الخراساني مولي الأزد، أصله من بلخ، وانتقل إلي البصرة، وبها مات بعد قدوم الهاشميّة، وكان يأخذ عن اليهود والنصاري علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبّهاً يُشبّه الربّ بالمخلوقين، وكان يكذب مع ذلك في الحديث، وكان أبو يوسف القاضي يقول: قال أبو حنيفة رحمه اللَّه: يا أبايوسف إحذر صنفين من خراسان: الجهميّة والمقاتليّة» «1».

وهكذا في (ميزان الإعتدال):

«قال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه حتّي قال إنّه تعالي ليس بشي ء، وأفرط مقاتل- يعني في الإثبات- حتّي جعله مثل

خلقه» «2».

وفيه:

«قال ابن حبان: كان يأخذ عن اليهود والنصاري من علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوق، وكان يكذب في الحديث» «3».

نعيم بن حمّاد … ص: 222

ومنهم نعيم بن حمّاد … قال السمعاني في (الأنساب) بترجمته:

«يقال له: الفارض، لأنّه يعرف الفرائض وقسمة المواريث معرفة حسنة،

__________________________________________________

(1) الأنساب للسمعاني 2: 337.

(2) ميزان الإعتدال 6: 505/ 8747.

(3) ميزان الإعتدال 6: 507.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 223

واشتهر بهذه النسبة حتّي كان يقال له نعيم الفارض- إلي أن قال- وكان من العلماء ولكنّه ربّما يهمّ ويخطي ومن ينجو من ذلك؟ ثبت في المحنة حتّي مات في الحبس، وسمع منه حمزة الكاتب في الحبس، وكان قد امتنع عن القول بخلق القرآن، وكان يقول: أنا كنت جهميّاً فلذلك عرفت كلامهم، فلمّا طلبت الحديث علمت أنّ أمرهم يرجع إلي التعطيل» «1».

وقال الذهبي بترجمته في (ميزان الاعتدال):

«نعيم بن حمّاد الخزاعي المروزي، أحد الأئمة الأعلام، علي لين في حديثه. قال الخطيب: يقال: إنّ نعيم بن حمّاد أوّل من جمع المسند.

وقال الحسين بن حبّان: سمعت يحيي بن معين يقول: نعيم بن حمّاد صدوق وأنا أعرف الناس به، وكان رفيقي في البصرة، كتب عن روح بن عبادة خمسين ألف حديث.

وكذا وثّقه أحمد.

وروي إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ثقة.

وقال أحمد العجلي: ثقة صدوق.

وقال العبّاس بن مصعب في تاريخه: نعيم بن حمّاد وضع كتباً في الردّ علي الجهميّة، وكان من أعلم النّاس بالفرائض.

وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حمّاد وتقدّمه في العلم ومعرفة السنن» «2».

وأما قوله بالتجسيم، فقد حكاه ابن الجوزي في (تلبيس ابليس) فإنه قال:

__________________________________________________

(1) الأنساب 4: 333.

(2) ميزان الإعتدال 7: 41- 42/ 9109.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 224

«قال أبو

يحيي: وقد حكي كثير من المتكلّمين إنّ مقاتل بن سليمان ونعيم بن حمّاد وداود الجواربي يقولون إنّ اللَّه صورة وأعضاء، أفتري هؤلاء كيف يثبتون له القدم دون الآدميّين، ولم لا يجوز عليه عندهم ما يجوز علي الآدميّين، من مرض وتلف» إلي آخر ما أفاد وأجاد «1».

وقال الخطيب:

«نعيم بن حمّاد بن معاوية بن الحارث، أبو عبداللَّه الخزاعي، الأعور المروزي، كان قد سكن مصر، ولم يزل مقيماً حتّي اشخص للمحنة في القرآن إلي سرّ من رأي في أيّام المعتصم، فسُئل عن القرآن فأبي أن يجيبهم إلي أنّ القرآن مخلوق، فسجن إلي أن مات في السجن سنة ثمان وعشرين ومائتين، والقي في حفرة، ولم يكفّن ولم يُصلَّ عليه.

وروي مسنداً إلي مروان بن عثمان، عن عمارة بن عامر، عن امّ الطّفيل قالت: سمعت النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يذكر إنّه رأي ربّه تعالي في المنام في أحسن صورة، شابّاً موفّراً، رجلاه في خصر عليه نعلان من ذهب، علي وجهه فراش من ذهب.

وروي الخطيب عقيب هذا الخبر عن نعيم بإسناده يرفعه قال: سمعت أباعبدالرحمان النسوي يقول: ومن مروان بن عثمان حتّي يصدّق علي اللَّه عزّوجلّ؟

وقال صالح بن محمّد: إنّ نعيماً كان يحدّث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها» «2».

__________________________________________________

(1) تلبيس ابليس: 100.

(2) تاريخ بغداد 13: 306- 314 ملخّصاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 225

البداء … ص: 225

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 227

إعلم:

أنّ علماء الطائفة المحقّة قد ذكروا في كتبهم العقيدة بالبداء، وبيّنوا أدلَّتها العقليّة والنقليّة، لكنَّ بعض الناس لمّا جهلوا بهذه الحقيقة ولم يطّلعوا علي أدلّتها، جعلوا يشنّعون علينا، وينسبون إلينا القول بعروض الندم أو الجهل علي الباري، عزوجلّ وتعالي عمّا يقول الظّالمون علوّاً كبيراً …

فرأينا من

المناسب التعرّض لهذا المطلب بإيجاز، رفعاً للشبهة ودفعاً للتهمة … واسوةً بعلمائنا الأبرار الذين وضعوا رسائل مفردة في هذه المسألة، تبييناً للعقيدة ودفاعاً عن المذهب.

وأمّا من يتفوّه بذلك وهو عالم بواقع الحال، ففي قلبه مرض لا يمكننا علاجه، ونكل أمره إلي اللَّه، وكفي به حسيباً …

هذا، وسيكون بحثنا في مقامات:

أحدها: في نقل كلام الشيخ المجلسي وجماعة من علمائنا.

والآخر: في نقل روايات من طرق أهل السنة متضمّنة للتغيير والتبديل في المقدّرات الإلهية، وهي عين مفاد أحاديث البداء.

والثالث: في ذكر موارد وقوع البداء في كتب الجمهور.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 228

كلام الشيخ المجلسي وسائر علمائنا الأعلام … ص: 228

قال العلامة الشيخ محمّدباقر المجلسي صاحب (بحارالأنوار) بعد رواية نبذةٍ من أحاديث البداء وأقوال العلماء فيه:

«ولنذكر ما ظهر لنا من الآيات والأخبار بحيث تدلّ عليه النصوص الصريحة ولا تأبي عنه العقول الصحيحة فنقول وباللَّه التوفيق:

إنّهم عليهم السلام إنّما بالغوا في البداء ردّاً علي اليهود الذين يقولون: إنّ اللَّه قد فرغ من الأمر والنظام، وبعض المعتزلة الذين يقولون: إنّ اللَّه خلق الموجودات دفعة واحدة علي ما هي عليه الآن، معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً، ولم يتقدّم خلق آدم علي خلق أولاده، والتقدّم إنّما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها، وإنّما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة، وعن بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية، وبأنّ اللَّه تعالي لم يؤثر حقيقة إلّافي العقل الأوّل، فهم يعزلونه تعالي عن ملكه وينسبون الحوادث إلي هؤلاء.

فنفوا عليهم السلام ذلك، وأثبتوا أنّه تعالي كلّ يوم في شأنٍ، من إعدام شي ء وإحداث آخر، وإماتة شخص وإحياء آخر إلي غير ذلك، لئلّا يترك العباد التضرّع إلي اللَّه ومسألته وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح امور دنياهم وعقباهم، وليرجوا عند التصدّق علي

الفقراء وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وُعِدوا عليها، من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 229

ثمّ اعلم: أنّ الآيات والأخبار تدلّ علي أنّ اللَّه تعالي خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات:

أحدهما: اللّوح المحفوظ الذي لا تغيّر فيه أصلًا، وهو مطابق لعلمه تعالي.

والآخر: لوح المحو والإثبات، فيثبت فيه شيئاً ثمّ يمحوه، لحكم كثيرة لا تخفي علي اولي الألباب، مثلًا يكتب إنّ عمر زيد خمسون سنة، ومعناه: أنّ مقتضي الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره، فإذا وصل الرحم مثلًا يمحي الخمسون ويكتب مكانه ستّون، وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون، وفي اللّوح المحفوظ إنّه يصل عمره ستّون، كما أنّ الطبيب الحاذق إذا اطّلع علي مزاج شخص يحكم بأنّ عمره بحسب هذا المزاج يكون ستّين سنةً، فإذا شرب سمّاً ومات أو قتله إنسان فنقص من ذلك أو استعمل دواءاً قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب، والتغيّر الواقع في هذا اللّوح مسمّي بالبداء؛ إمّا لأنّه شبيه به، كما في سائر ما يطلق عليه سبحانه من الإبتلاء والاستهزاء والسخرية وأمثالها، أو لأنّه يظهر للملائكة أو للخلق إذا اخبروا بالأوّل خلاف ما علموا أوّلًا.

وأيّ استبعاد في تحقّق هذين اللّوحين؟ وأيّة استحالة في هذا المحو والإثبات حتّي يحتاج إلي التأويل والتكلّف، وإن لم يظهر الحكمة فيه لنا بعجز عقولنا عن الإحاطة بها؟ مع أنّ الحكم فيه ظاهرة:

منها: أن يظهر للملائكة الكاتبين في اللّوح والمطّلعين عليه لطفه تعالي بعباده، وإيصالهم في الدنيا إلي ما يستحقّونه فيزدادوا به معرفة.

ومنها: أن يعلم العباد- بإخبار الرسل والحجج عليهم السلام- أنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص:

230

لأعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات في صلاح امورهم، ولأعمالهم السيّئة تأثيراً في فسادها، فيكون داعياً لهم إلي الخيرات، صارفاً لهم عن السيّئات.

فظهر أنّ لهذا اللّوح تقدّماً علي اللّوح المحفوظ، من جهة صيرورته سبباً لحصول بعض الأعمال، فبذلك ينقش في اللوح المحفوظ حصوله، فلا يتوهّم أنّه بعد ما كتب في هذا اللّوح حصوله لا فائدة في المحو والإثبات.

ومنها: إنّه إذا أخبر الأوصياء أحياناً من كتاب المحو والإثبات ثمّ أخبروا بخلافه، يلزمهم الإذعان به ويكون في ذلك تشديد للتكليف عليهم، تسبيباً لمزيد الأجر لهم، كما في سائر ما يبتلي اللَّه عباده به من التكاليف الشاقّة وإيراد الامور التي يعجز أكثر العقول عن الإحاطة بها، وبها يمتاز المسلّمون الذين فازوا بدرجات اليقين عن الضعفاء الذين ليس لهم قدم راسخ في الدين.

ومنها: أن يكون هذه الأخبار تسلية لقوم من المؤمنين المنتظرين لفرج أولياء اللَّه وغلبة الحقّ وأهله، كما روي في فرج أهل البيت عليهم السلام وغلبتهم، لأنّهم عليهم السلام لو كانوا أخبروا الشيعة- في أوّل ابتلاءهم باستيلاء المخالفين وشدّة محنتهم- أنّه ليس فرجهم إلّابعد ألف سنة أو ألفي سنة، ليئسوا ورجعوا عن الدين، ولكنّهم أخبروا شيعتهم بتعجيل الفرج، وربّما أخبروهم بأنّه يمكن أن يحصل الفرج في بعض الأزمنة القريبة، ليثبتوا علي الدين ويثابوا بانتظار الفرج، كما مرّ في خبر أميرالمؤمنين صلوات اللَّه عليه».

وقال- رحمه اللَّه- بعد إيراد حديثين:

«فأخبارهم عليهم السلام بما يظهر خلافه ظاهراً، من قبيل المجملات والمتشابهات التي تصدر عنهم ثمّ يصدر بعد ذلك تفسيرها وبيانها، وقولهم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 231

يقع الأمر الفلاني في وقت كذا معناه إن كان كذا، أو إن لم يقع الأمر الفلاني الذي ينافيه، ولم يذكروا الشرط كما قالوا في

النسخ قبل الفعل، وقد أوضحناه في باب ذبح إسماعيل عليه السلام.

فمعني قولهم عليهم السلام: ما عبد اللَّه بمثل البداء، إنّ الإيمان بالبداء من أعظم العبادات القلبيّة، لصعوبته ومعارضة الوساوس الشيطانيّة فيه، ولكونه إقراراً بأنّ له الخلق والأمر، وهذا كمال التوحيد، أو المعني أنّه من أعظم الأسباب والدواعي إلي عبادة الربّ تعالي كما عرفت.

وكذا قولهم: ما عُظِّم اللَّه بمثل البداء، يحتمل الوجهين، وإن كان الأوّل فيه أظهر.

وأمّا قول الصادق عليه السلام: لو علم النّاس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه.

فلما مرّ أيضاً، من أنّ أكثر مصالح العباد موقوفة علي القول بالبداء، إذ لو اعتقدوا أنّ كلّ ما قُدِّرَ في الأزل فلابدّ من وقوعه حتماً، لَمَا دعوا اللَّه في شي ء من مطالبهم، وما تضرّعوا إليه وما استكانوا لديه، ولا خافوا منه ولا رجوا إليه، إلي غير ذلك ممّا قد أومأنا إليه.

وأمّا إنّ هذه الامور من جملة الأسباب المقدّر في الأزل أن يقع الأمر بها لا بدونها، فممّا لا يصل إليه عقول أكثر الخلق.

فظهر أنّ هذا اللوح وعلمهم بما يقع فيه من المحو والإثبات أصلح لهم من كلّ شي ء» «1».

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 4: 129- 133.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 232

أقول:

ومثله في إثبات علم اللَّه عزّوجلّ بالأشياء كلّها قبل كونها، وأنّه ليس معني أخبار البداء ظهور الأمر له تعالي، كلمات غيره من أعلام الطائفة، بل صريح بعضهم أنْ أخذ «البداء» بمعني العلم بعد الجهل كفر:

قال الشيخ الصدوق: «وعندنا: من زعم أنّ اللَّه تعالي يبدو له اليوم في شي ء لم يعلمه أمس، فهو كافر، والبراءة منه واجبة» «1».

وقال الشيخ المفيد: «وليس هو الانتقال من عزيمةٍ إلي عزيمة، ولا من تعقّب الرأي، تعالي اللَّه عمّا

يقول المبطلون علوّاً كبيراً» «2».

وقال الشيخ الطوسي: «والوجه في هذه الأخبار: ما قدّمنا ذكره من تغيير المصلحة فيه، واقتضائها تأخير الأمر إلي وقتٍ آخر علي ما بيّناه، دون ظهور الأمر له تعالي، فإنّا لا نقول به ولا نجوّزه، تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً».

بل قال: «فأمّا من قال بأنّ اللَّه تعالي لا يعلم بشي ء إلّابعد كونه، فقد كفر وخرج عن التوحيد» «3».

وكذلك كلام غير هؤلاء من علمائنا المتقدّمين والمتأخّرين.

__________________________________________________

(1) كتاب التوحيد: 135 باب العلم.

(2) تصحيح الاعتقاد: 200.

(3) كتاب الغيبة: 430- 431.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 233

روايات السنّة في البداء … ص: 233

والروايات والأخبار المخرّجة في كتب أهل السنّة من طرقهم، الدالّة علي عقيدة البداء عن الصحابة والتابعين كثيرة:

فالرواية الأولي ما أخرجه جماعة من الأئمة عن مجاهد.

قال السيوطي في تفسيره (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي اللَّه عنه قال: قالت قريش حين انزل: «وما كان لرسول أن يأتي بآية إلّابإذن اللَّه» ما نراك يا محمّد تملك من شي ء ولقد فرغ من الأمر، فانزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم: «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» إنّا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، ويحدث اللَّه تعالي في كلّ رمضان، فيمحو اللَّه ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم» «1».

الرواية الثانية عن ابن عباس كما في (الدر المنثور) حيث قال:

«أخرج عبدالرزاق والفريابي وابن جرير وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه في قوله «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» قال: ينزل اللَّه في كلّ شهر رمضان إلي سماء الدنيا، فيدبّر أمر السّنة إلي السّنة في ليلة القدر، فيمحو

اللَّه ما يشاء ويثبت، إلّا الشقاوة والسعادة والحياة والمماة» «2».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 659.

(2) الدر المنثور 4: 659.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 234

الرواية الثالثة عن جابر، ففي (الدر المنثور):

«أخرج ابن سعد وابن جرير وابن مردويه عن الكلبي رضي اللَّه عنه في الآية قال: يمحو اللَّه من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه.

فقيل له: من حدّثك بهذا؟

قال: أبو صالح عن جابر بن عبداللَّه بن رباب الأنصاري عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

وقال السيوطي في رسالته (إفادة الخبر بنصّه في زيادة العمر ونقصه):

«أخرج ابن جرير وابن مردويه في تفسيرهما عن الكلبي في قوله «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه.

فقيل: من حدّثك بهذا؟

قال: أبو صالح عن جابر بن عبداللَّه بن رباب الأنصاري عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم».

الرواية الرابعة عن أبي الدرداء، قال عمر بن عادل في (اللّباب):

«روي أبوالدرداء قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ينزل اللَّه تعالي في آخر ثلاث ساعات يبقين من اللّيل، فينظر في الساعة الاولي منهنّ في امّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت» «2».

الرواية الخامسة ما رواه ابن مردويه في تفسيره، وابن عساكر في تاريخه عن أميرالمؤمنين، فقد قال السيوطي في (إفادة الخبر بنصّه):

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 660.

(2) اللباب في علوم الكتاب 11: 320.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 235

«أخرج ابن مردويه في تفسيره وابن عساكر في تاريخه عن عليّ رضي اللَّه عنه: إنّه سأل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن قوله «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» فقال: لُاقرّنّ عينك بتفسيرها، ولُاقرّنّ عين امّتي بعدي بتفسيرها:

الصدقة علي وجهها وبرّ

الوالدين واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء».

وفي (الدر المنثور) بتفسير الآية:

«أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ رضي اللَّه عنه إنّه سأل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن هذه الآية، فقال له: لُاقرّنّ عينك بتفسيرها، ولُاقرّنّ عين امّتي بعدي بتفسيرها:

الصدقة علي وجهها وبرّ الوالدين واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء» «1».

وقال القاضي ثناء اللَّه في (تفسيره):

«سأل عليّ عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم عن هذه الآية- يعني «يمحو اللَّه» الآية- قال: لُاقرّنّ عينك بتفسيرها واقرّنّ عين امّتي بتفسيرها: الصدقة علي وجهها وبرّ الوالدين واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر.

مر، أي رواه ابن مردويه.

قلت: المراد بهذا القضاء المعلّق».

الرواية السادسة ما أخرجه الحاكم وصحّحه، كما في (الدر المنثور) قال:

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 661.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 236

«أخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: لا ينفع الحذر من القدر، ولكن اللَّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر» «1».

الرواية السابعة عن قيس بن عبّاد، أخرجها ابن جرير.

قال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير عن قيس بن عباد رضي اللَّه عنه قال: العاشر من رجب يمحو اللَّه فيه ما يشاء» «2».

الرواية الثامنة أخرجها جماعة عن قيس بن عباد أيضاً.

قال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن قيس بن عباد رضي اللَّه عنه قال: للَّه أمر في كلّ ليلة العاشر من الأشهر الحرم، أمّا العاشر من الأضحي فيوم النحر، وأمّا العاشر من المحرّم فيوم عاشورا، وأمّا العاشر من رجب ففيه يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت.

قال: ونسيت ما قال في ذي القعدة» «3».

الرواية التاسعة عن عمر بن الخطّاب، أخرجها جماعة.

قال

في (الدر المنثور):

«أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه إنّه قال- وهو يطوف بالبيت-: اللهمّ إن كنت كتبت عليّ شقاوة أو ذنباً فامحه، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك امّ الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة» «4».

الرواية العاشرة عن ابن مسعود:

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 661.

(2) الدر المنثور 4: 661.

(3) الدر المنثور 4: 661.

(4) الدر المنثور 4: 661.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 237

«أخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: ما دعا عبدٌ قط بهذه الدعوات إلّاوسّع اللَّه عليه في معيشته:

يا ذا المنّ ولا يمنّ عليه، يا ذاالجلال والإكرام، يا ذا الطَّوْل، لا إله إلّا أنت، ظهر اللّاجين وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك في امّ الكتاب شقيّاً، فامح عنّي اسم الشقاوة وثبّتني عندك سعيداً، وإن كنت كتبتني عندك في امّ الكتاب محرّماً مقتَّراً علَيّ رزقي، فامح حرماني ويسّر رزقي وثبّتني عندك سعيداً موفّقاً للخير، فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب»».

هكذا في (الدر المنثور) «1».

ورواه عمر بن عادل الحنبلي في تفسيره (اللباب في علوم الكتاب) عن ابن مسعود وعمر فقال:

«عن ابن عمر وابن مسعود إنّهما قالا: يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء.

وروي عن عمر: إنّه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وثبّتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك امّ الكتاب، ومثله عن ابن مسعود» «2».

وقال الفخر الرازي بتفسير الآية: «يمحو اللَّه ما يشاء»:

__________________________________________________

(1) الدر المنثور

4: 661.

(2) اللباب في علوم الكتاب 11/ 320.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 238

«في هذه الآية قولان:

الأوّل: إنّها عامّة في كلّ شي ء كما يقتضيه ظاهر اللّفظ، قالوا: إنّ اللَّه يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر.

وهو مذهب عمر وابن مسعود.

ورواه جابر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

أقول:

وقد ذكر مذهب ابن مسعود وعمر بن الخطّاب بتفسير الآية في تفسير ابن كثير والقرطبي والواحدي وابن الجوزي والبيضاوي وغيرهم، وقد نسب ذلك في بعضها إلي غيرهما من الصّحابة أيضاً.

الرواية الحادية عشر أخرجها ابن جرير عن مجاهد.

قال السيوطي في (الدر المنثور) و (إفادة الخبر بنصّه):

«أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» قال:

اللَّه ينزّل كلّ شي ء يكون في السنة في ليلة القدر، فيمحو ما يشاء من الآجال والأرزاق والمقادير إلّاالشقاوة والسعادة».

الرواية الثانية عشر، أخرجها جماعة عن ابن عباس.

قال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير ومحمّد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن ابن عبّاس «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» قال: من أحد الكتابين هما كتابان يمحو اللَّه ما يشاء من أحدهما ويثبت وعنده امّ الكتاب. أي جملة

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 19: 64- 65.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 239

الكتاب» «1».

الرواية الثالثة عشر رواها ابن جرير عن كعب الأحبار، وهو جليل القدر عندهم، وإنْ كذَّبه ابن عباس في بعض الأحاديث كما في (حياة الحيوان) «2».

قال السيوطي في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير عن كعب رضي اللَّه عنه أنّه قال لعمر رضي اللَّه عنه: يا أميرالمؤمنين، لولا آية في كتاب اللَّه لأنبأتك بما هو كائن إلي يوم القيامة. قال:

وما هي؟ قال: قول اللَّه: «يمحو اللَّه ما يشاء

ويثبت وعنده امّ الكتاب»» «3».

وهذه الرواية- بالإضافة إلي دلالتها علي البداء- تدلّ علي أفضلية كعب الأحبار من عمر بل الثلاثة، فقد ادّعي العلم بجميع الامور المستقبلة إلي يوم القيامة، والقوم لم يكذّبوه في هذه الدعوي التي ليس لأحدٍ من الثلاثة أنْ يدَّعيها.

وإذا جاز لكعبٍ أن يدّعي مثل هذه الدّعوي، وأنْ يتلقّاها القوم بالتصديق، فلماذا يستبعدون ما ورد في هذا الباب عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام؟

قال في (البحار):

«عن أميرالمؤمنين عليه السلام إنّه قال: لولا آية في كتاب اللَّه لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلي يوم القيامة وهي هذه الآية «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب» «4».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 660.

(2) حياة الحيوان 1: 258.

(3) الدر المنثور 4: 664.

(4) بحارالأنوار 4: 97.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 240

وأيضاً في (البحار):

«عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول: لولا آية في كتاب اللَّه لحدّثتكم بما يكون إلي يوم القيامة، فقلت:

أيّة آية؟ قال: قول اللَّه: «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب»» «1».

الرواية الرابعة عشر رواها ابن جرير عن الضحاك، قال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير عن الضحّاك رضي اللَّه عنه في الآية قال: يقول: أنسخ ما شئت وأصنع في الآجال ما شئت، إن شئت زدت فيها وإن شئت نقصت، وعنده امّ الكتاب. قال: جملة الكتاب وعلمه، يعني بذلك ما ينسخ منه وما يثبت» «2».

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 4: 118.

(2) الدر المنثور 4: 664.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 241

من موارد وقوع البداء في أخبار القوم … ص: 249
اشارة

فإنْ قيل: إن مفاد هذه الروايات تجويز وقوع التغيير في التقدير الإلهي، لكنّ أخبار البداء عند الامامية تدلّ علي وقوع التغيير بعد اطّلاع الأنبياء أو الملائكة

أو غيرهم علي الأمر الأوّل، وهذا ما لا تدلّ عليه روايات القوم.

قلنا: إنّه وإنْ كان ما ذكرناه كافياً لدفع هذه الشبهة، لكنّا مع ذلك نأتي بأحاديثهم في جملةٍ من القضايا الواقعة من هذا القبيل.

قصّة الأبرص والأعمي والأقرع في بني إسرائيل فمنها: قصّة الثلاثة في بني إسرائيل، وأنّه «بدا للَّه» فيهم:

أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه سمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول: «إنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمي، بدا للَّه أنْ يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً.

فأتي الأبرص فقال: أيّ شي ء أحبّ إليك؟

قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس.

قال: فمسحه، فذهب عنه، فاعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً.

فقال: أيّ المال أحبّ إليك؟

قال: الإبل أو قال البقر- هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر- فأعطي ناقةً عشراء فقال: يبارك لك فيها.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 242

وأتي الأقرع فقال: أيّ شي ء أحبّ إليك؟

قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا، قد قذرني الناس.

قال: فمسحه، فذهب، واعطي شعراً حسناً.

قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟

قال: البقر.

قال: فأعطاه بقرةً حاملًا وقال: يبارك لك فيها.

وأتي الأعمي فقال: أيّ شي ء أحبّ إليك؟

قال: يردّ اللَّه إليَّ بصري، فأبصر به الناس.

قال: فمسحه، فردّ اللَّه إليه بصره.

قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟

قال: الغنم. فأعطاه شاةً والداً.

فانتج هذان وولّد هذا، فكان لهذا وادٍ من إبل، ولهذا وادٍ من بقر، ولهذا واد من الغنم …» «1».

قصّة يونس عليه السلام … ص: 242

ومنها: قصّة يونس كما في (الدر المنثور) حيث قال:

«أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ يونس دعا قومه، فلمّا أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال: إنّه يأتيكم يوم كذا وكذا، ثمّ خرج عنهم، وكانت الأنبياء

عليهم السلام إذا وعدت قومها العذاب خرجت، فلمّا أظلّهم العذاب خرجوا، ففرّقوا بين __________________________________________________

(1) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، الباب: 947.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 243

المرأة وولدها وبين السّخلة وأولادها، وخرجوا فعجّوا إلي اللَّه وعلم اللَّه منهم الصدق، فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب، وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر، فمرّ به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحدّثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلي القوم فقد كَذِبْتُهم، وانطلق مغاضباً يعني مراغماً» «1».

وفي (الدر المنثور) أيضاً:

«أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: لمّا دعا يونس عليه السلام علي قومه، أوحي اللَّه إليه: إنّ العذاب مصبحهم، فقال لهم، فقالوا: ما كذب يونس عليه السلام وليصبحنا العذاب، فتعالوا حتّي نخرج سخال كلّ شي ء فنجعلها مع أولادنا لعلّ اللَّه أن يرحمنا، فأخرجوا النساء مع الولدان وأخرجوا الإبل مع فصلانها، وأخرجوا البقر مع عجاجيلها، وأخرجوا الغنم مع سخالها فجعلوها أمامهم وأقبل العذاب، فلمّا رأوا جأروا إلي اللَّه ودعوا وبكي النساء والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها، فرحمهم اللَّه فصرف ذلك العذاب عنهم، وغضب يونس عليه السلام فقال: كذبت، فهو قوله «إذْ ذهب مغاضباً» «2».

وفي (تفسير) القاضي ثناء اللَّه:

«أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: تعيبَ علي قوم يونس يوم عاشورا، وكان يونس قد خرج ينتظر العذاب وهلاك قومه، فلم ير شيئاً، وكان من كذب ولم يكن له بيّنةٌ قتل، فقال يونس: كيف أرجع إلي قومي وقد كذبتهم، فانطلق عاتباً علي ربّه مغاضباً لقومه».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 392.

(2) الدر المنثور 5: 667.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 244

وفيه:

«قال عروة بن الزبير

وسعيد بن جبير وجماعة: وذهب عن قومه مغاضباً لربّه، إذ كشف عن قومه العذاب بعدما وعدهم، وكره أن يكون بين قوم جرّبوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيي منهم، ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب عنهم، وكان غضب من ظهور خلف وعده وأن يسمّي كذّاباً، لا كراهيّة لحكم اللَّه عزّ وجلّ.

وفي بعض الأخبار: إنّه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جرّبوا عليه الكذب، فخشي أن يقتلوه لمّا لم يأتهم العذاب للميعاد، فغضب».

وقال السيوطي في (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي حاتم واللالكائي في السنّة عن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: إنّ الحذر لا يردّ القدر، وإنّ الدعاء يردّ القدر، وذلك في كتاب اللَّه «إلّاقوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي».

وأخرج ابن المنذر وأبوالشيخ عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: إنّ الدعاء ليردّ القضاء، وقد نزل من السماء، إقرأوا إن شئتم: «إلّاقوم لمّا آمنوا كشفنا عنهم» دعوا، فصرف عنهم العذاب» «1».

قصّة موسي عليه السلام … ص: 244

ومنها: ما رووه في قصة موسي عليه السلام.

قال السيوطي في (الدر المنثور):

«أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد: «وواعدنا موسي ثلاثين ليلة» قال: ذوالقعدة «وأتممناها بعشر» قال: إنّ موسي قال لقومه: إنّ ربي __________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 392.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 245

وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم، فلمّا اتّصل موسي إلي ربّه زاده اللَّه عشراً، فكانت فتنتهم في العشر التي زادها اللَّه …» «1».

وفي حديث طويل أخرجه السيوطي عن العدني وعبد بن حميد والنسائي وجماعة غيرهم: إن قوم موسي قالوا:

«فما بال موسي وعدنا ثلاثين ليلة ثمّ أخلفنا» «2».

ومنها: ما جاء في قصة الرجل الذي أتي وكر طائر … قال الدميري في (حياة الحيوان):

«وفي تاريخ ابن النجّار

وعوالي أبي عبداللَّه المثنّي بن أنس بن مالك الأنصاري قاضي البصرة وعالمها ومسندها، وهو من كبار شيوخ البخاري، من حديث الحسن بن أبي الحسن البصري.

عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: كان فيمن قبلكم رجل يأتي وكر طائر كلّما أفرخ يأخذ فرخه، فشكي ذلك الطائر إلي اللَّه تعالي ما يفعل به، فأوحي اللَّه إليه: إن عاد فسأهلكه، فلمّا أفرخ الطائر خرج ذلك الرجل كما كان يخرج، فبينما هو في بعض الطريق فسأله سائل فأعطاه رغيفاً كان معه يتغذاه ثمّ مضي، حتّي أتي الوكر فوضع سلّمه ثمّ صعد وأخذ الفرخين وأبواهما ينظران إليه، فقالا: ربّنا إنّك لا تخلف الميعاد وقد وعدتنا أن تهلك هذا إذا عاد، وقد عاد وأخذ فرخينا ولم تهلكه؟! فأوحي اللَّه إليهما: ألم تعلما أنّي لا اهلك أحداً تصدّق في يومه بميتة سوءٍ» «3».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 3: 535.

(2) الدر المنثور 5: 577 مع فرق.

(3) حياة الحيوان للدميري 2: 151.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 246

قصّة القصّار … ص: 246

ومنها: ما جاء في قصّة القصّار الذي مرّ علي عيسي عليه السلام، رواها الزندوبستي في (روضة العلماء) قال:

«حدّثنا أبو عبداللَّه المطوّعي بإسناد له عن وهب رحمه اللَّه قال: كان عيسي النبي صلوات اللَّه عليه قاعداً مع الحواريّين، إذ مرّ قصّار علي ظهره حزمة ثياب، فقال عيسي عليه السلام للحواريين: إنّ هذا القصّار ليهلك الساعة ويرد علَيّ جنازته، فجلسوا، فلمّا كان عند المساء رجع القصّار سالماً مع ثيابه، فتعجّب الحواريّون بذلك، فقال عيسي للقصّار: أخبرني عن قصّتك. قال:

خرجت بالغداة ومعي ثلاثة أرغفة، فاستقبلني سائل فدفعت إليه واحداً فدعا وقال: صرف اللَّه عنك السّوء، فمضيت فاستقبلني سائل آخر فسألني فدفعت إليه الرغيف الثاني،

فقال: صرف اللَّه عنك البلاء، فإذا فتحت حزمة ثيابي رأيت فيها حيّة سوداء تلتهب النّار من عينها وفي عنقها سلسلتان، وإذا ملكان يمدّان تلك الحيّة حتّي إذا أخرجاها من حزمة ثيابي. فقال عيسي: لذلك الرغيف سلّمك اللَّه تعالي وزاد في عمرك».

قصّة الرجل من قوم صالح عليه السلام … ص: 246

ومنها: قصة الرجل من قوم صالح الذي كان يؤذي الناس، فيما روي في كتاب (حياة الحيوان) حيث قال:

«روي أحمد في كتاب الزهد عن سالم بن أبي الجعد قال: كان رجل من قوم صالح عليه السلام قد آذاهم، فقالوا: يا نبيّ اللَّه ادع اللَّه عليه، فقال: اذهبوا، فقد كفيتموه. قال: وكان يخرج كلّ يوم يحتطب. قال: فخرج يومئذ معه رغيفان، فأكل أحدهما وتصدّق بالآخر. قال: فاحتطب ثمّ جاء بحطبه سالماً لم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 247

يصبه شي ء، فجاؤوا إلي صالح عليه السلام وقالوا: قد جاء بحطبه سالماً لم يصبه شي ء. قال: فدعاه صالح عليه السلام وقال له: أيّ شي ء صنعت اليوم؟

قال: خرجت ومعي قرصان، فتصدّقتُ بأحدهما وأكلت الآخر. فقال صالح:

حُلَّ حطبك، فحلّه، فإذا فيه أسود مثل الجذع عاضّ علي جذل من الحطب، فقال: بهذا دفع عنك، يعني بالصدقة» «1».

قصّة الملكين … ص: 247

ومنها: قصة الملكين من بني إسرائيل … رواها صاحب (مختار مختصر تاريخ بغداد) عن عبدالصمد بن علي قال:

«حدّثني أبي عن جدّي عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّه كان في بني إسرائيل ملكان أخوان علي مدينتين، وكان أحدهما بارّاً برحمه عادلًا علي رعيّته، وكان الآخر عاقّاً برحمه جائراً علي رعيّته، وكان في عصرهما نبيّ، فأوحي اللَّه إلي ذلك النبيّ إنّه قد بقي من عمر هذا البارّ ثلاث سنين وبقي من عمر هذا العاقّ ثلاثون سنة. قال: فأخبر النبيّ رعيّة هذا ورعيّة هذا، فأحزن ذلك رعيّة الجائر وأحزن ذلك رعيّة العادل. قال: ففرّقوا بين الأطفال والامّهات وتركوا الطعام والشراب، وخرجوا إلي الصحراء يدعون اللَّه تعالي أن يمتّعهم بالعادل ويزيل عنهم أمر الجائر. فأقاموا ثلاثاً، فأوحي اللَّه إلي ذلك النبيّ أن أخبر عبادي بأنّي قد رحمتهم وأجبت

دعائهم، فجعلت ما بقي من عمر هذا البارّ لذلك الجائر وما بقي من عمر الجائر لهذا البارّ. قال: فرجعوا إلي بيوتهم، ومات العاقّ لتمام ثلاث سنين، وبقي العادل فيهم ثلاثين سنة، ثمّ تلا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: «وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلّافي كتاب __________________________________________________

(1) حياة الحيوان 1: 37 «الأسود السالخ».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 248

إنّ ذلك علي اللَّه يسير»».

ورواه أبوالحسن البزار في كتابه في (فضائل أهل البيت) علي ما نقل عنه في كتاب (مفتاح كنز الدراية) حيث قال:

«قال الإمام الثقة أبوالحسن علي بن معروف البزّار، في حديث البرّ والصّلة وهو من آخر الجزء: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالصّمد بن موسي بن محمّد ابن إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبداللَّه بن عبّاس قال:

حدّثني محمّد بن إبراهيم الإمام، عن عبدالصمد بن علي بن عبداللَّه بن عبّاس قال: حدّثني أبي عن جدّي عبداللَّه رضي اللَّه عنهما عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّه قال: كان في بني إسرائيل ملكان أخوان علي مدينتين، وكان أحدهما بارّاً برحمه عادلًا في رعيّته، وكان الآخر عاقّاً لرحمه جائراً علي رعيّته، وكان في مصرهما نبيّ، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي ذلك النبيّ إنّه قد بقي من عمر هذا البارّ ثلاث سنين وبقي من عمر هذا العاقّ ثلاثون سنة، فأخبر ذلك النبيّ رعيّة هذا ورعيّة هذا، فأحزن ذلك رعيّة العادل وأحزن ذلك رعيّة الجائر. قال:

ففرّقوا بين الأطفال والامّهات وتركوا الطعام والشراب، وخرجوا إلي الصحراء يدعون اللَّه عزّوجلّ أن يمتّعهم بالعادل ويزيل عنهم أمر الجائر، فأقاموا ثلاثاً، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي ذلك النبيّ أن أخبر عبادي إنّي قد رحمتهم فأجبت دعائهم، فجعلت مابقي من

عمر هذا البارّ لذلك الجائر وما بقي من عمر الجائر لهذا البارّ. قال: فرجعوا إلي بيوتهم، ومات العاقّ لتمام ثلاث سنين وبقي العادل فيهم ثلاثين سنة، ثمّ تلا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: «وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلّافي كتاب إنّ ذلك علي اللَّه يسير»» «1».

__________________________________________________

(1) مفتاح كنز الدراية- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 249

والعجب من الدهلوي صاحب (التحفة الاثني عشرية) حيث يروي هذه القصة في كتابه (بستان المحدثين) المنتحل من (مفتاح كنز دراية المسموع) ومع ذلك يردّ علي أخبار أهل الحق في مسألة البداء، وهذه عبارة (بستان المحدّثين) حيث ذكر بأنّ (جزء فضائل أهل البيت) صنّفه أبوالحسن علي بن معروف البزار، وفي آخره في حديث البرّ والصلة:

«حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالصّمد بن موسي بن محمّد بن إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبداللَّه بن عبّاس قال: حدّثني محمّد بن إبراهيم الإمام عن عبدالصمد بن علي بن عبداللَّه بن عبّاس قال: حدّثني أبي عن جدّي عبداللَّه رضي اللَّه عنه قال:

قال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّه كان في بني إسرائيل ملكان أخوان علي مدينتين، كان أحدهما بارّاً برحمه عادلًا في رعيّته، وكان الآخر عاقّاً لرحمه جائراً علي رعيّته، وكان في عصرهما نبيّ، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي ذلك النبيّ: قد بقي من عمر هذا البارّ ثلاث سنين، وبقي من عمر هذا العاقّ ثلاثون سنة، فأخبر ذلك النبيّ رعيّة هذا ورعيّة هذا، فأحزن ذلك رعيّة العادل وأحزن ذلك رعيّة الجائر. قال: ففرّقوا بين الأطفال والامّهات، وتركوا الطعام والشراب، وخرجوا إلي الصحراء يدعون اللَّه عزّ وجلّ أن يمتّعهم بالعادل ويزيل عنهم أمر الجائر، فأقاموا ثلاثاً، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي

ذلك النبيّ أن أخبر عبادي إنّي قد رحمتهم فأجبت دعائهم، فجعلت مابقي من عمر هذا البارّ لذلك الجائر وما بقي من عمر الجائر لهذا البارّ. قال: فرجعوا إلي بيوتهم، ومات الجائر لتمام ثلاث سنين وبقي العادل فيهم ثلاثين سنة، ثمّ تلا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: «وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلّافي كتاب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 250

إنّ ذلك علي اللَّه يسير»».

قصّة الملك الذي إذا ذكر ذكر عمر … ص: 250

ومنها: قصة الملك الذي إذا ذكر ذكر عمر، ففي (الدر المنثور):

«أخرج ابن سعد في الطبقات عن كعب قال: كان في بني إسرائيل ملك، إذا ذكرناه ذكرنا عمر، وإذا ذكرنا عمر ذكرناه، وكان إلي جنبه نبيّ يُوحي إليه، فأوحي اللَّه إلي النبيّ أن يقول له: إعهد عهدك واكتب وصيّتك فإنّك ميّت إلي ثلاثة أيّام، فأخبره النبيّ بذلك، فلمّا كان اليوم الثالث وقع بين الجدار والسرير ثمّ جاء إلي ربّه، فقال: اللّهمّ إن كنت تعلم إنّي كنت أعدل في الحكم وإذا اختلف الأمر اتّبعت هداك وكيت وكيت، فزدني في عمري حتّي يكبر طفلي وتربو أمتي، فأوحي اللَّه … إلي النبي أنّه قد قال كذا وكذا وقد صدق، وقد زدته في عمره خمس عشرة سنة، ففي ذلك ما يكبر ولده وتربوا أمته، فلمّا طُعِن عمر قال كعب: لئن سأل عمر ربّه ليبقيّنه، فأخبر بذلك عمر، فقال: اللّهمّ اقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم» «1».

قصّة بعض الفضلاء … ص: 250

ومنها: قصة تغيّر الأمر الإلهي في قبض روح بعض الفضلاء من أهل السنّة، كما حكاه الشعراني في (لواقح الأنوار) بترجمة الشيخ محمد الشريبي، إذ قال:

«وأخبرني والده الشيخ أحمد أيضاً وصدّقه علي ذلك الإمام العالم العلّامة شهاب الدين البهوني الحنبلي قال: مرضت مرّة حتّي أشرفت علي __________________________________________________

(1) الدر المنثور 3: 449.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 251

الموت، وحضرني عزرائيل ورأيته جالساً عندي لقبض روحي، فدخل علَيّ والدي فقال لعزرائيل: راجع ربّك فإنّ ذلك الأمر تغيَّر، فخرج عزرائيل وأنا أعيش إلي الآن، والحكاية لها أكثر من ثلاثين سنة» «1».

تبدّل حال الرجل … ص: 251

ومنها: تبدّل حال الرّجل من الشقاوة إلي السعادة، كما ذكر القاضي ثناء اللَّه في (تفسيره) بعد ذكر مذهب ابن مسعود وعمر، قال:

«ويوافق مذهب عمر وابن مسعود رضي اللَّه عنهما ما ذكر في المقامات المجدديّة: أنّ المجدّد رضي اللَّه عنه نظر ببصيرة الكشف مكتوباً في ناصية ملّا طاهر اللّاهوري «شقيّ»، وكان ملّا طاهر معلّماً لابنيه الكريمين محمّد سعيد ومحمّد معصوم رضي اللَّه عنهما، فذكر المجدّد رضي اللَّه عنه ما أبصر لولديه الشريفين، فالتمسا منه رضي اللَّه عنهم أن يدعو اللَّه سبحانه أن يمحو عنه الشقاوة ويثبت مكانه السعادة، فقال المجدّد رضي اللَّه عنه: نظرت في اللّوح المحفوظ، فإذا فيه إنّه قضاء مبرم لا يمكن ردّه، فألجأه ولداه الكريمان في الدعاء لمّا التمسا منه، فقال المجدّد رضي اللَّه عنه: تذكّرت ما قال غوث الثقلين السيّد السند محي الدين عبدالقادر الجيلي رضي اللَّه عنه: إنّ القضاء المبرم أيضاً يردّ بدعوتي، فدعوت اللَّه سبحانه وقلت: اللّهمّ رحمتك واسعة وفضلك غير مقتصر علي أحد، أرجوك وأسألك من فضلك العظيم أن تجيب دعوتي في محو كتاب الشقاء من ناصية ملّا طاهر وإثبات السعادة

مكانه، كما أجبت دعوة السيّد السند رضي اللَّه عنه. قال: فكأنّي أنظر إلي ناصية ملّا طاهر

__________________________________________________

(1) لواقح الأنوار- ترجمة الشيخ محمّد الشريبي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 252

إنّه مُحِي منها كلمة «شقيّ» وكتب مكانه «سعيد» وما ذلك علي اللَّه بعزيز».

قصّة أبي رومي … ص: 252

ومنها: قصة أبي رومي، التي رووها عن ابن عباس، كما في (الدر المنثور) قال:

«أخرج ابن مردويه والديلمي عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: كان أبو رومي من شرّ أهل زمانه، وكان لا يدع شيئاً من المحارم إلّاارتكبه، وكان النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: لئن رأيت أبا رومي في بعض أزقّة المدينة لأضربنّ عنقه.

وإنّ بعض أصحاب النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم أتاه ضيف له، فقال لامرأته: إذهبي إلي أبي رومي فخذي لنا منه بدرهم طعاماً حتّي ييسّر اللَّه تعالي. فقالت له: إنّك لتبعثني إلي أبي رومي وهو أفسق أهل المدينة؟! فقال:

إذهبي فليس عليك منه بأس إنْ شاء اللَّه تعالي، فانطلقت فضربت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قالت: فلانة. قال: ما كنت لنا بزوّارة؟! ففتح لها الباب فأخذها بكلام رفث، ومدّ يده إليها فأخذتها رعدة شديدة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إنّ هذا عمل ما عملته قطّ. قال أبو رومي: ثكلت أبا رومي امّه، هذا عمل عَمِله وهو صغير لا تأخذه رعدة ولا يبالي علي أبي رومي، عهد اللَّه إن عاد لشي ء من هذا أبداً.

فلمّا أصبح غدا علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال: مرحباً يا أبا رومي وأخذ يوسّع له المكان وقال له: يا أبارومي ما عملت البارحة؟ فقال: ما عسي أن أعمل يا نبيّ اللَّه، أنا شرّ أهل الأرض، فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه قد حوّل مكتبك إلي الجنّة فقال:

«يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 253

وأخرج يعقوب بن سفيان وأبو نعيم عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال:

كان أبو رومي من شرّ أهل زمانه، وكان لا يدع شيئاً من المحارم إلّاارتكبه، فلمّا أصبح غدا علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فلمّا رآه النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم من بعيد قال: مرحباً يا أبا رومي وأخذ يوسّع له المكان، فقال له: يا أبا رومي، ما عملت البارحة؟ قال: ما عسي أن أعمل يا نبيّ اللَّه، أنا شرّ أهل الأرض. فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه جعل مكتبك إلي الجنّة فقال:

«يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب»» «1».

وبعد:

فهل يبقي المعاندون يشنّعون علي الإمامية رواياتهم في البداء وعقيدتهم في هذه الحقيقة الدينية؟ وهل يستمرّون علي التبحّج بكلام سليمان ابن جرير الزيدي «2» وأمثاله من أعداء أهل البيت؟

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 663.

(2) انظر الملل والنحل 1: 159- 160.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 255

الميثاق والصّور … ص: 255

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 257

رأي السيّد المرتضي في خبر الميثاق … ص: 257

لقد نسب الشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب كتاب (التحفة الإثني عشريّة)- تبعاً لشيخه الكابلي صاحب (الصواقع)- إلي السيّد المرتضي- رضي اللَّه عنه- الحكم بوضع خبر الميثاق، وقد أجاب عن ذلك علماؤنا الأعلام في ردودهم علي كتاب (التحفة) بالجملة والتفصيل، وكان مجمل كلامهم: إنّ السيّد المرتضي لم يكذّب أخبار الميثاق المرويّة بالطرق المختلفة والأسانيد المتكثّرة، ونحن نذكر أوّلًا كلام (التحفة) ثمّ نعقّبه بنصّ عبارة السيّد المرتضي رحمه اللَّه، ليتّضح واقع الحال، ويظهر كذب الدهلوي فيما نسب إلي السيّد من المقال:

قال الدهلوي في (التحفة) عند تعداد موارد غلوّ الإماميّة في الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة والسلام:

«الثاني- قولهم: إنّ اللَّه تعالي أخذ من الملائكة والأنبياء الميثاق علي ولاية الأئمّة وطاعتهم.

وهذا أيضاً خلاف العقل تماماً، لأنّ أخذ الميثاق من الأنبياء علي ذلك- مع العلم القطعي بعدم معاصرتهم للأئمّة- عبث محض، إذ الغرض من أخذ الميثاق هو النصرة والإعانة وبيان المناقب ونشر المدائح، وأيّ فائدة في ذلك مع عدم اتّحاد الزمان. وأمّا أخذ الميثاق منهم علي بيان وصف خاتم الأنبياء كما في القرآن المجيد، فلأنّ نصوص نبوّته وصفاته ونعوته نازلة في الكتب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 258

السماويّة ومصرَّح بها فيها، ووجود أهل الكتاب في زمانه وإظهار تلك النصوص علي يده مقطوع به، فلذا أخذ الميثاق من الأنبياء علي تفهيم تلك النصوص وتبليغها إلي اممهم، وأخذ ذلك الميثاق من الامم أيضاً، حتّي تبقي تلك النصوص قرناً بعد قرن، من دون تغيير وتبديل، إلي أنْ يأتي وقت الحاجة إلي إظهارها والإحتجاج بها.

بخلاف إمامة الأئمّة، فلا هي ممّا نزل في كتب الأنبياء، ولا هي ممّا ابلغ به الامم، ولا ممّا وقعت الحاجة إلي إظهاره؛

لأنّ الإمامة إنّما تثبت بالنصّ من النبي، لكونها نيابةً عنه، ولم يراجع أهل الكتاب بشأنها ولم يكن لقولهم فيها اعتبار، ولو كان أخذ الميثاق في هذا الأمر ضروريّاً، لُاخذ من أبي بكر وعمر وعثمان، بل كان علي النبيّ أنْ يأخذ منهم كتاباً في أنْ ليس لهم حقّ في الإمامة، ويستشهد علي ذلك الثقات، ويودعه عند الأمير، لا أنْ يأخذ الميثاق من موسي وعيسي وهارون، الذين ليس لهم ولا لأتباعهم دخلٌ في غصب الإمامة من الأئمّة أو تقريرها والتسليم بها.

ومستمسك هؤلاء في هذا الغلوّ الباطل ما رواه محمّد بن الحسن الصفّار عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أباجعفر يقول: إنّ اللَّه أخذ ميثاق النبيّين بولاية عليّ بن أبي طالب.

وما رواه محمّد بن بابويه في كتاب التوحيد عن داود الرّقي عن أبي عبداللَّه في خبر طويل قال: لمّا أراد اللَّه أن يخلق الخلق نشرهم بين يديه وقال:

من أنا؟ فكان أوّل من نطق رسول اللَّه وأميرالمؤمنين والأئمّة عليهم السلام، فقالوا: أنت ربّنا. فحمّلهم العلم والدين ثمّ قال للملائكة: هؤلاء حملة علمي وديني وأمانتي من خلقي، ثمّ قال لبني آدم: أقرّوا للَّه بالربوبيّة ولهؤلاء النّفر

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 259

بالطاعة، فقالوا: نعم ربّنا أقررنا.

في هذه الرواية والرواية السابقة لم يذكر أخذ الميثاق من الملائكة، وإنّما الغرض من الرواية الثانية مجرّد إظهار فضل الأئمّة وشرفهم عند الملائكة، ومن الواضح أنْ لا معني لأخذ الميثاق من الملائكة، ولذا لم يدخل الملائكة في أخذ ميثاقٍ من المواثيق؛ لأنّ الميثاق إنّما يؤخذ من المكلَّفين، لأنّهم الذين يحتمل منهم الطاعة والعصيان، بخلاف الملائكة فإنّهم «لا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون» فأيّ فائدةٍ في أخذ الميثاق منهم؟

وأيضاً، فلم يذكر في الرواية الأخيرة

أخذ الميثاق من الأنبياء، إلّاأنْ يستفاد ذلك من عموم لفظ «بني آدم» ولكنْ قد اشتهر أنّه: ما من عام إلّاوقد خصّ منه البعض.

وأيضاً، فإنّ هذه الرواية فيها أخذ ميثاق الطاعة للنبيّ والأمير والأئمّة فقط، فلابدَّ وأنْ يكون وجوب الطاعة للأنبياء أولي العزم وغيرهم- الذي لا شكّ في ثبوته- قد وقع بطريق البداء!

والرواية التي تعجب هؤلاء القوم تجدها في مجاميع الشيخ ابن بابويه، فقد روي ابن بابويه في خبر طويل عن ابن عباس عن النبي أنّه لمّا اسري به وكلّمه ربّه قال بعد كلامٍ: إنّك رسولي إلي خلقي وإنّ عليّاً وليّ المؤمنين، أخذت ميثاق النبيّين وملائكتي وجميع خلقي بولايته.

وأحوال الصفّار وابن بابويه ورجالهما- خصوصاً محمّد بن مسلم وغيره- معروفة، وركّة ألفاظ هذه الأخبار تشهد بكونها كذباً وافتراءً، ومع هذا، فإنّ أهل السنّة- والحمد للَّه- في غنيً عن توهين وتضعيف هذه الأخبار أو تأويل هذه المفتريات؛ لأنّ الشريف المرتضي- الملقَّب بزعم الشيعة ب «علم الهدي»

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 260

- قد أثبت جدارته بهذا اللقب في كتابه (الدرر والغرر) بتكذيب خبر الميثاق بكلّ جزم وحتم، وكفي اللَّه المؤمنين القتال» «1».

التحقيق فيما نسب إلي السيّد المرتضي … ص: 260

حاصل هذا الكلام دعوي موافقة السيّد المرتضي العامّةَ في إنكار أخذ الميثاق علي ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام من الأنبياء والملائكة، وهل هذا إلّا محض البهتان وصريح الإفك وواضح الهذيان؟

وتوضيح ذلك:

أوّلًا: إنّ السيّد المرتضي لم يذكر في كتابه (الدرر والغرر) خبر الميثاق أصلًا، فضلًا عن أن يكذّب أو يصدّق به، نعم، قد ذكر السيّد قوله تعالي «وإذ أخذ ربّك من بني آدم …» وأنكر أن يكون المراد منها أنّ اللَّه تعالي أخذ من جميع ذريّة آدم الذين في ظهره الميثاق علي الإقرار بمعرفته تعالي، وأنّه أشهدهم علي

ذلك، وإنّما ذكر للآية تأويلًا آخر، وأيّ ربطٍ لذلك بتكذيب أخبار الميثاق؟!

وثانياً: إنّه علي فرض أنّ السيّد ينكر وقوع أخذ الميثاق في عالم الأرواح، فأين الدليل من كلامه علي إنكار أخذ الميثاق علي الإطلاق كما يدّعيه الدهلوي؟ وكيف يثبت بذلك تضعيف خبر الصفّار وخبر ابن بابويه الدالّين علي مطلق أخذ ميثاق ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام؟

فظهر أنّ نسبة تكذيب أخبار الميثاق علي الإطلاق إلي السيّد المرتضي كذب بحت وبهتان صريح، وهذا كتاب (الغرر والدرر) موجود بين أيدي الناس، ونسخه شائعة في البلاد …

__________________________________________________

(1) التحفة الاثني عشريّة: 161.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 261

وبعد، فإنّ العلماء قد اختلفوا في معني الآية المباركة علي قولين، فذهب الأكثر إلي الأخذ بظاهرها وقالوا: بأنّ ذريّة آدم كانوا في عالم الأرواح ذوي عقولٍ- كما هم في هذا العالم- وقد أخذ منهم الميثاق، وقال جماعة- منهم السيّد المرتضي- بتأويل الآية علي معنيً آخر، وهذا نصُّ عبارة السيّد في الكتاب المذكور:

«إنّه تعالي لمّا خلقهم وركّبهم تركيباً يدلّ علي معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته، وأراهم العبر والآيات والدلائل في غيرهم وفي أنفسهم، كان بمنزلة المشهد لهم علي أنفسهم، وكانوا- في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم علي الوجه الذي أراده اللَّه تعالي وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته- بمنزلة المقرّ المعترف وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف علي الحقيقة، ويجري ذلك مجري قوله تعالي: «ثمّ استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين» وإن لم يكن منه تعالي قول علي الحقيقة ولا منهما جواب، ومثله قوله تعالي: «شاهدين علي أنفسهم بالكفر» ونحن نعلم أنّ الكفّار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم، وإنّما لما يظهر منهم ظهوراً لا يتمكّنون

من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به …» «1».

فدلَّ هذا الكلام منه علي أنّه غير منكر لأصل الميثاق، وإنّما له كلامٌ في كيفيّته، وله رأي في تأويل الآية.

رأي الغزالي في خبر الميثاق … ص: 261

وهذا بخلاف الغزّالي مثلًا- من علماء القوم- فإنّه ينكر أصل الميثاق كما في كتابه (المضنون به علي أهله):

__________________________________________________

(1) الغرر والدرر/ أمالي السيّد المرتضي 1: 30.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 262

«فقيل له- أي للغزالي-: إن كانت الأرواح حادثة مع الأجساد، فما معني قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وقوله عليه السلام: أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً، وقال عليه السلام: كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين؟

فقال رضي اللَّه عنه: شي ء من هذه لا يدلّ علي قدم الروح، بل يدلّ علي حدوثه وكونه مخلوقاً، نعم، ربّما يدلّ بظاهره علي تقدّم وجوده علي الجسد، وأمر الظواهر ضعيف وتأويلها يمكن، والبرهان القاطع لا يدرء بالظواهر، بل يسلّط علي تأويل الظواهر، كما في ظواهر التشبيه في حقّ اللَّه.

وأمّا قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: خلق اللَّه الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فأراد بالأرواح أرواح الملائكة، وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسماوات والكواكب والماء والهواء والأرض، كما أنّ أجساد الآدميّين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلي الأرض، وجرم الأرض أصغر من الشمس بكثير، ثمّ لا نسبة لجرم الشمس إلي فلكه، ولا لفلكه إلي السماوات التي فوقه، ثمّ كلّ ذلك اتّسع له الكرسي، إذ وسع كرسيّه السماوات والأرض، والكرسي صغير بالإضافة إلي العرش، فإذا تفكّرت في جميع ذلك، استحقرت جميع أجساد الآدميّين، ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد.

فكذلك فاعلم وتحقّق: أنّ أرواح البشر بالإضافة إلي أرواح الملائكة كأجسادهم بالإضافة إلي أجساد العالم، ولو انفتح لك باب معرفة أرواح

الملائكة لرأيت الأرواح البشريّة كسراج اقتبس من نار عظيمة طبّق العالم، وتلك النار العظيمة هي الروح الأخير من أرواح الملائكة، ولأرواح الملائكة ترتيب، ولكلّ واحد انفراد بمرتبة، ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان، بخلاف استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 263

الأرواح البشريّة المتكثّرة مع اتّحاد النوع والمرتبة، أمّا الملائكة فكلّ واحد نوع برأسه وهو كلّ ذلك النوع، وإليه الإشارة بقوله تعالي: «وإنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون» وبقول النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ الراكع منهم لا يسجد، والقائم منهم لا يركع، وإنّه ما من واحد إلّاله مقام معلوم، فلا تفهمنّ إذاً من الأرواح والأجساد المطلقة أرواح الملائكة.

وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام: أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً؛ فالخلق هاهنا هو الإيجاد، فإنّه قبل أن ولدته امّه ليس موجوداً مخلوقاً، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود، وهو معني قولهم:

أوّل الفكرة آخر العمل. بيانه: أنّ المقدّر المهندس أوّل ما يتمثّل صورته في تقديره، وهي دار كاملة، وآخر ما يوجد في أثر أعماله هي الدار الكاملة؛ فالدار الكاملة أوّل الأشياء في ذهنه تقديراً وآخرها وجوداً، لأنّ ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلي غاية الكمال وهي الدار، فالغاية هي الدار، ولأجلها تقدّر الآلات والأعمال» «1».

فإن لم يتيسّر الوقوف علي كتاب الغزالي، فقد نقل المتأخرون مقالته في كتبهم، ففي (المواهب اللدنيّة)- مثلًا- جاء محصّل المقالة المذكورة حيث قال:

«فإن قلت: إنّ النبوّة وصف، ولابدّ أن يكون الموصوف به موجوداً، وإنّما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضاً، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله؟

__________________________________________________

(1) المضنون به علي أهله. وهذا الكلام موجود في رسالته (الأجوبة الغزالية في المسائل الاخرويّة) ضمن (مجموعة رسائل الإمام الغزالي):

178- 180.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 264

قلت: أجاب الغزالي في كتاب النفخ والتسوية عن هذا وعن قوله عليه الصّلاة والسّلام: أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً، بأنّ المراد بالخلق هنا التقدير دون الإيجاد، فإنّه قبل أنْ ولدته امّه لم يكن موجوداً مخلوقاً، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود …» «1».

فإنّ هذا الكلام يفيد أنّ الغزالي ينكر تقدّم خلق الأرواح علي الأجساد، ولا يسلّم بأنّ للخلق وجوداً سابقاً علي ولادتهم الظاهريّة في هذا العالم، ولا يري خلقةً للنبيّ قبل وجوده الظاهري، فضلًا عن القول بالوجود في عالم الذرّ.

ومن الواضح أنّ أخذ الميثاق في عالم الأرواح فرع علي وجودها فيه.

فالغزالي ينكر وقوع الميثاق في ذلك العالم، مع دلالة الأحاديث الكثيرة الواردة من طرقهم في ذلك، وكونها مخرّجةً في كتابي البخاري ومسلم، وفي الموطّأ لمالك «2»، وغيرها من كتبهم … كما أنّ السيوطي أخرج ما يقارب الخمسين حديثاً في أخذ الميثاق من ذريّة آدم في عالم الأرواح، بذيل الآية المباركة من (الدرّ المنثور) «3».

وقد نصَّ الشعراني في (اليواقيت) علي ابتناء كثيرٍ من الإعتقادات في إثبات الحشر والنشر علي مسألة الميثاق «4».

وحينئذٍ، فكلّ جوابٍ يذكرونه من طرف الغزالي، فهو الجواب من طرف السيّد المرتضي لو صحّت النسبة إليه!

__________________________________________________

(1) شرح المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّدية 1: 36.

(2) الموطأ 2: 898- 899/ 2 كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر.

(3) الدر المنثور 3: 598- 607.

(4) اليواقيت والجواهر: 439- 442.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 265

رأي مجاهد في آية الميثاق … ص: 265

هذا، وقد أنكر مجاهد أخذ الميثاق من الأنبياء، والتزم بتحريف الآية المباركة الناصّة علي ذلك، كما ذكر السيوطي في (تفسيره) إذ قال:

«أخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن المنذر، عن

مجاهد في قوله تعالي: «وإذ أخذ اللَّه ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ» قال: هي خطأ من الكتّاب، وهي في قراءة ابن مسعود: ميثاق الذين اوتوا الكتاب.

وأخرج ابن جرير عن الربيع أنّه قرأ: وإذ أخذ اللَّه ميثاق الذين اوتوا الكتاب، قال: وكذلك كان يقرؤها ابي بن كعب، قال الربيع: ألا تري إنّه يقول:

«ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقٌ لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه» لتؤمننّ بمحمّد ولتنصرنّه. قال: هم أهل الكتاب» «1».

حول كلام الطبرسي في آية الصّور … ص: 265

وقد نسب إلي الشيخ الطبرسي بل إلي الشيخ المفيد القول بأنّ «الصور» في قوله تعالي: «ونُفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض» «2»

هو «جمع صورة» وليس المراد «صور إسرافيل».

وهذه النسبة باطلة، وقد نشأت من الخطأ والغلط في فهم عبارة الشيخ المجلسي …

فإنّ هذا المتوهّم قد نظر إلي قول الشيخ المجلسي: «وأمّا الصور فيجب الإيمان به، علي ما ورد في النصوص الصريحة، وتأويله بأنّه جمع الصورة كما

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 2: 252.

(2) سورة الزمر 39: 68.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 266

مرَّ من الطبرسي وقد سبقه الشيخ المفيد …» «1» وغفل عن كلامه السابق حيث قال:

«قال الطبرسي في قوله تعالي: «ونُفِخ في الصور»: اختلف في الصور.

فقيل: هو قرن ينفخ فيه. عن ابن عباس وابن عمر. وقيل: هو جمع صورة، فإنّ اللَّه يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في أرحام الامّهات، ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم في أرحام امّهاتهم. عن الحسن وأبي عبيدة.

وقيل: إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات: النفخة الاولي نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق يصعق من في السماوات والأرض بها فيموتون، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين فيحشر الناس بها من قبورهم» «2».

فهذا كلام صاحب (مجمع البيان)، وأين اختيار القول

الذي نسب إليه؟

فقول الشيخ المجلسي: «كما مرّ من الطبرسي» يعني: كما مرَّ نقل هذا القول- الذي قاله غير الطبرسي- من الطبرسي، حيث نقله في تفسيره، لا أنّه قائل به ومعتقد له.

بل لعلّ في تقديمه القول الأوّل إشارة إلي اختياره له … بل إنّ كلامه في تفسير الآية المذكورة صريح في ذلك، فإنّه قال في (مجمع البيان):

««ونفخ في الصور» وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل. ووجه الحكمة في ذلك: إنّها علامة جعلها اللَّه ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف ثمّ __________________________________________________

(1) بحارالأنوار 6: 336.

(2) بحارالأنوار 6: 318.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 267

تجديد الخلق، فشبّه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل والنزول، ولا تتصوّره النفوس بأحسن من هذه الطريقة. وقيل: إنّ الصّور جمع صورة، فكأنّه ينفخ في صور الخلق» «1».

ثمّ قال رحمه اللَّه: ««فصعق من في السماوات ومن في الأرض» أي:

يموت من شدّة تلك الصيحة التي يخرج من الصور جميع من في السماوات والأرض، يقال: صعق فلان: إذا مات بحال هائلة شبيهةٍ بالصيحة العظيمة».

قال: ««ثُمّ نُفِخ فيه اخري» يعني: نفخة البعث، وهي النفخة الثانية.

وقال قتادة في حديثٍ رفعه: إنّ ما بين النفختين أربعين سنة. وقيل: إنّ اللَّه تعالي يفني الأجسام كلّها بعد الصعق وموت الخلق ثمّ يعيدها. وقوله: «فإذا هم قيام» إخبار عن سرعة إيجادهم، لأنّه سبحانه إذا نفخ النفخة الثانية أعادهم عقيب ذلك فيقومون من قبورهم أحياء» «2».

وعلي هذا المنوال كلامه في تفسيره الآخر (جوامع الجامع) في قوله تعالي: «يوم يُنْفَخ في الصور» «3»: «والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين، فيفني الخلق بالنفخة الاولي ويحيون بالثانية. وعن الحسن إنّه جمع صورة» «4».

وقد قال في (مجمع البيان) بتفسيرها: «وأمّا الصور فقيل فيه إنّه قرن

ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام نفختين، فيفني الخلائق كلّهم بالنفخة الاولي ويحيون بالنفخة الثانية، فتكون الاولي لانتهاء الدنيا والثانية لابتداء الآخرة.

وقال الحسن: هو جمع صورة، كما أنّ السور جمع سورة، وعلي هذا فيكون معناه: يوم ينفخ الروح في الصور.

ويؤيّد الأوّل: ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله __________________________________________________

(1) مجمع البيان في تفسير القرآن 8: 459.

(2) مجمع البيان 8: 460.

(3) سورة الأنعام 6: 73.

(4) جوامع الجامع 1: 584.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 268

وسلّم إنّه قال: كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن وحنا جبينه وأصغي سمعه ينتظر أنْ يؤمر فينفخ؟ قالوا: فكيف نقول يا رسول اللَّه؟ قال: قولوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل.

والعرب تقول: نفخ الصور ونفخ في الصور، قال الشاعر:

لولا ابن جعدة لم يفتح قهندركم ولا خراسان حتّي ينفخ الصور» «1»

وكما أيّد القول الأوّل هنا بالحديث، كذلك أيّده به بتفسير «ويوم ينفخ في الصور» حيث قال: «وقد ورد ذلك في الحديث» أي: إنّ القول الآخر لا مؤيّد له في الأحاديث …

وقال بتفسير «فإذا نُقِر في الناقور»: «الناقور فاعول من النقر، كهاضوم من الهضم وحاطوم من الحطم، وهو الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت به» قال:

«معناه: إذا نفخ في الصور، وهي كهيئة البوق، عن مجاهد. وقيل: إنّ ذلك في النفخة الاولي وهو أول الشدّة الهائلة العامة. وقيل: إنّه النفخة الثانية، وعندها يحيي اللَّه الخلق وتقوم القيامة وهي صيحة الساعة، عن الجبائي» «2».

وعلي الجملة، فإنّ التتبع في كلمات الشيخ الطبرسي في المواضع المختلفة من تفسيريه، يفيد أنّ ما نسب إليه من إنكار الصور بالمعني بالمذكور من غرائب التوهّمات، بل من عجائب الإفتراءات.

حول كلام المفيد في معني «الصور»

وأمّا ما نسب إلي الشيخ المفيد

رحمه اللَّه من تأويل «الصور»، وأنّه يقول __________________________________________________

(1) مجمع البيان 4: 95.

(2) مجمع البيان 10: 191 و 195.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 269

بأنّه جمع للصّورة، ففيه كلام كذلك، ومجرّد قول الشيخ المجلسي «وسبقه الشيخ المفيد» لا يكفي، إذ يحتمل أن يكون مراده أنّ الشيخ المفيد قد سبق الشيخ الطبرسي في نقل القول المذكور عن بعض العامّة.

ولو سلّمنا أنّ الشيخ المفيد يجوّز أنْ يكون «الصور» جمعاً للصورة، فإنّه لا ينكر «الصور» بمعني «القرن» الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، لثبوت ذلك في الكتاب والسنّة، غاية ما هناك أنّه جوّز في بعض تلك الأدلّة أنْ يكون «الصور» جمعاً للصورة، وذلك لا يلازم إنكار كون المراد هو «القرن» في البعض الآخر كما هو واضح …

فإنْ كان الخصم في شكٍّ من هذا، ذكرنا له كلام إمامه الفخر الرازي بتفسير قوله تعالي: «يوم يُنْفَخ في الصور» فإنّه يصدّق ما قلناه تماماً، وهذا نصّه:

«المسألة الثالثة: قوله تعالي: «يوم يُنْفَخُ في الصور» لا شبهة أنّ المراد منه يوم الحشر، ولا شبهة عند أهل الإسلام أنّ اللَّه سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة، وذلك القرن مسمّي بالصور علي ما ذكر اللَّه هذا المعني في مواضع من الكتاب الكريم، ولكنّهم اختلفوا في المراد بالصّور في هذه الآية علي قولين: الأوّل: إنّ المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور، والقول الثاني: إنّ الصور جمع صورة، والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتي» «1».

فلو فرض تفسير الشيخ المفيد لفظ «الصور» في بعض الموارد ب «جمع الصورة»، فإنّ هذا لا يستلزم كونه منكراً وجود «الصور» بمعني «النفخ»، وكيف __________________________________________________

(1) تفسير الرازي 13: 33.

استخراج المرام من استقصاء

الافحام، ج 1، ص: 270

يجوز نسبة ذلك إليه؟ والحال أنّ كلامه في (أجوبة المسائل السروية) صريح في الإعتقاد بالصور. و هذه عبارة السؤال والجواب علي ما نقل في (البحار):

«ما قوله- أدام اللَّه تأييده- في عذاب القبر وكيفيّته؟ ومتي يكون؟ وهل تردّ الأرواح إلي الأجساد عند التعذيب أم لا؟ وهل يكون العذاب في القبر أو يكون بين النفختين؟

الجواب: الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل، وقد ورد عن أئمة الهدي عليهم السلام أنّهم قالوا: ليس يعذّب في القبر كلّ ميّت، وإنّما يعذّب من جملتهم من محّض الكفر محضاً، ولا ينعم كلّ ماض لسبيله، وإنّما ينعم منهم من محّض الإيمان محضاً، فأمّا سوي هذين الصنفين فإنّه يلهي عنهم، وكذلك روي: أنّه لا يُسئَل في قبره إلّاهذان الصنفان خاصّة، فعلي ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه.

فأمّا عذاب الكافر في قبره، ونعيم المؤمنين فيه، فإنّ الخبر أيضاً قد ورد بأنّ: اللَّه تعالي يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنّة من جنانه ينعمه فيها إلي يوم الساعة، فإذا نُفِخ في الصور انشي ء جسده الذي بُلي في التراب وتمزّق، ثمّ أعاده إليه وحشره إلي الموقف وأمر به إلي جنّة الخلد، فلا يزال منعّماً ببقاء اللَّه عزّوجلّ، غير أنّ جسده الذي يعاد فيه لا يكون علي تركيبه في الدنيا، بل تعدّل طباعه وتحسّن صورته، فلا يهرم مع تعديل الطباع، ولا يمسّه نصبٌ في الجنّة ولا لغوب.

والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا في محلّ عذاب يعاقب به ونار يعذّب بها حتّي الساعة، ثمّ انشي ء جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه، ثمّ يعذّب به في الآخرة إلي الأبد، ويركّب أيضاً جسده تركيباً لا يفني

معه، وقد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 271

قال اللَّه عزّ وجلّ اسمه: «النّار يُعرضون عليها غدوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب» وقال في قصّة الشهداء: «ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيلِ اللَّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون».

فدلّ أنّ العذاب والثواب يكونان قبل يوم القيامة وبعدها.

والخبر وارد بأنّه يكون مع فراق الروح الجسد من الدنيا، والروح هاهنا عبارة عن الفعّال الجوهر البسيط، وليس بعبارة عن الحياة التي يصحّ معها العلم والقدرة، لأنّ هذه الحياة عرض لا يبقي ولا يصحّ الإعادة فيه.

فهذا ما عوّل عليه بالنقل وجاء به الخبر علي ما بيّنّاه» «1».

هذا كلام الشيخ المفيد، وهو نصّ قاطع في أنّه غير منكر للصور، بل ذكر عقيدته علي أساس الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهار- عليهم السلام- وجعلها المعوَّل عليه والمعتَمد.

ولا يتوهّم أنّ هذا الكلام أيضاً، يحتمل كون المراد من الصور هو نفخ الأرواح في الأجساد، وأنّ الصور جمع الصورة.

لأنّ هذا الإحتمال فاسد قطعاً، وكلامه صريح في أنّ المراد من «الصور» هو «القرن» لا جمع الصورة، ويدلّ علي ذلك وجهان:

الأوّل: قوله: «فإذا نفخ في الصور انشي ء جسده …» فإنّه يدلّ بوضوحٍ علي أنّ إنشاء الجسد إنّما يكون بعد نفخ الصور، فنفخ الصور متقدّم علي إنشاء الجسد الذي بلي في التراب وتمزّق، وهذا مقتضي الشرط والجزاء، فإنّ الجزاء متفرّع علي وجود الشرط متأخّر عنه. ومن البديهي أنّه لو كان «الصور» جمع الصّورة، وكان المراد نفخ الأرواح في الأجساد، لم يكن تأخّر إنشاء

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 6: 272- 273 عن أجوبة المسائل السرويّة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 272

الجسد، وإلّا لزم تأخّر الشي ء عن نفسه، لأنّ النفخ في الصور- علي تقدير كون «الصور» جمع الصورة-

هو نفخ الأرواح في الأجساد، فلابدّ من إنشاء الأجساد قبل النفخ حتي ينفخ فيها الأرواح.

الثاني: إنّ لفظة «ثمّ» في قوله: «ثمّ أعاد إليه وحشره إلي الموقف …»

صريحٌ في تأخّر إعادة الروح إلي الجسد عن نفخ الصور وإنشاء الجسد، كما هو ظاهر لفظة «ثمّ» الموضوعة للتراخي والبعديّة، ولا ريب أنّ إعادة الروح إلي الجسد هو عين نفخ الروح فيه … فلو كان المراد من «فإذا نُفخ في الصور» هو جمع الصورة، وكان المراد من النفخ هو نفخ الأرواح في الأجساد، لزم تأخّر الشي ء عن نفسه.

وتلخّص: أنّ الشيخ المفيد رحمه اللَّه يقول بوجود الصور بمعني القرن، وبوقوع النفخ فيه كما دلّت عليه الأدلّة، وقد أشار إليها في جواب السؤال ونصَّ علي الإعتماد عليها … فلا يجوز نسبة غير ذلك إليه ألبتّة.

عقيدة الحسن البصري وأبي عبيدة … ص: 272

لكنّها عقيدة الحسن البصري وأبي عبيدة وغيرهما من أهل السنّة، وقد نصّ غير واحدٍ من أعلام القوم علي أنّها خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة:

قال العيني في (عمدة القاري) بشرح قول البخاري: (باب نفخ الصور):

«الصور، وهو بضمّ الصاد وسكون الواو، وذكر عن الحسن إنّه قرأها بفتح الواو جمع الصورة، وتأوّله علي أنّ المراد النفخ في الأجسام ليعاد إليها الأرواح. قال الأزهري: إنّه خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة» «1».

__________________________________________________

(1) عمدة القاري بشرح البخاري 23: 98 باب نفخ الصور.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 273

بل هو عقيدة جماعة … ص: 273

وليس هذا قول الحسن وحده، ففي (فتح الباري) ما نصّه:

«باب نفخ الصور، تكرّر ذكره في القرآن، في الأنعام والمؤمنين والنمل والزمر وقاف وغيرها، وهو بضمّ المهملة وسكون الواو، وثبت كذلك في القراآت المشهورة والأحاديث، وذكر عن الحسن البصري إنّه قرأها بفتح الواو جمع صورة، وتأوّله علي أنّ المراد النفخ في الأجساد ليعاد إليها الأرواح. وقال أبو عبيدة في المجاز: يقال الصور يعني بسكون الواو جمع صورة، كما يقال سور المدينة جمع سورة. قال الشاعر:

لمّا أتي خبر الزبير تواضعت سور المدينة

فيستوي معني القراءتين.

وحكي مثله الطبري عن قوم وزاد: كالصوف جمع صوفة.

قالوا: والمراد بالنفخ في الصور- وهي الأجساد- أن تعاد فيها الأرواح، كما قال تعالي: «ونَفَخْتُ فيه من روحي».

وتعقّب قوله: جمع، بأنّ هذه أسماء أجناس لا جموع.

وبالغ النحّاس وغيره في الردّ علي التأويل المذكور.

وقال الأزهري: إنّه خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة» «1».

وقال الرازي في (تفسيره):

«إعلم: إنّ اللَّه سبحانه لمّا قال «ومن ورائهم برزخٌ إلي يوم يُبعثون» ذكر أحوال ذلك اليوم فقال: «فإذا نُفِخ في الصور» وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنّ الصور آلة، إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم جعله اللَّه علامة

__________________________________________________

(1) فتح

الباري في شرح البخاري 11: 308 باب نفخ الصور.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 274

لخراب الدنيا وإعادة الأموات. روي عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّه قرن ينفخ فيها.

وثانيها: إنّ المراد من الصور مجموع الصور، والمعني: فإذا نفخ في الصور أرواحها، وهو قول الحسن، وكان يقرأ بفتح الواو، وبالفتح والكسر عن أبي رزين، وهو حجّة لمن فسّر الصّور بجمع صورة.

وثالثها: إنّ النفخ في الصور استعارة، والمراد منه البعث والحشر.

والأولي الأوّل» «1».

وقال ابن الأثير في (النهاية):

«وفيه ذكر النفخ في الصور، هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عند بعث الموتي إلي المحشر. وقال بعضهم: إنّ الصور جمع صورة، يريد صور الموتي ينفخ فيه الأرواح، والصحيح الأوّل، لأنّ الأحاديث تعاضدت عليه تارة بالصور وتارة بالقرن» «2».

وقال محمد طاهر في (مجمع البحار):

«ونفخ في الصور، هو قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عند بعث الموتي إلي المحشر، وقيل: هو جمع صورة يريد صور الموتي ينفخ فيها الأرواح، والصحيح الأوّل لتظاهر الأحاديث فيه» «3».

وفي (الصحاح):

«الصور القرن. قال الراجز:

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 23: 121.

(2) النهاية في غريب الحديث والأثر «صور».

(3) مجمع البحار «صور».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 275

لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحاً شديداً لا كنطح الصورين ومنه قوله تعالي: «يوم ينفخ في الصور» قال الكلبي: لا أدري ما الصور، ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، أي ينفخ في صور الموتي الأرواح، وقرأ الحسن يوم ينفخ في الصور، والصور- بكسر الصاد- لغة في الصور جمع صورة …» «1».

وفي (تفسير البغوي):

«والصور قرن ينفخ فيه. قال مجاهد كهيئة البوق، وقيل: هو بلغة أهل اليمن. وقال أبو عبيدة: الصور هو الصور جمع الصورة، وهو قول الحسن.

والأول أصحّ» «2».

بل هو القول المشهور بينهم … ص: 275

وظاهر (تفسير

النيسابوري) أنّه قول مشهور:

«وفي الصور قولان، أشهرهما: أنّه القرن، يؤيّده قوله تعالي: «فإذا نُقِر في النّاقور» وإنّه تعالي يُعرّف امور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا، ومن عادة الناس النفخ في البوقات عند الأسفار وفي العساكر، فجعل اللَّه تعالي النفخ في تلك الآلة علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات.

وأقربهما من المعقول أنّ الصور جمع صورة، يؤكّده قراءة من قرأ بفتح الراء، ويقال: صورة وصُوَر وصِوَر، كدرّة ودُرَر» «3».

__________________________________________________

(1) صحاح اللغة 2: 716.

(2) تفسير البغوي 2: 377.

(3) تفسير النيسابوري 4: 570.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 276

وهو قول أهل اللغة منهم … ص: 276

وصريح كلام السجستاني في (غريب القرآن) إنّه قول أهل اللّغة، قال:

«قال أهل اللغة: الصّور جمع صورة ينفخ فيها روحها فتحيي، والذي جاء في التفسير أنّ الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل. واللَّه أعلم» «1».

وقال محمد بن أبي بكر الرازي في (غريب القرآن):

«الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل: وقيل هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، فقوله تعالي «يوم ينفخ في الصور» أي ينفخ في صور الموتي أرواحها، وقرأ الحسن رضي اللَّه عنه «يوم ينفخ في الصور» بفتح الواو» «2».

وقال النسفي في (تفسيره):

«يوم ينفخ، ظرف لقوله: وله الملك، في الصور هو القرن بلغة اليمن، أو جمع صورة» «3».

وفي (تفسير الرازي):

«وأمّا قوله تعالي: «يوم يُنْفَخ في الصور» ففيه وجوه:

أحدها: إنّه شي ء يشبه بالقرن، وإنّ إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه بإذن اللَّه تعالي، وإذا سمع النّاس ذلك الصوت- وهو في الشدّة بحيث لا تحتمله طبايعهم- يفزعون عنده ويصعقون ويموتون، وهو كقوله تعالي: «فإذا نُقر في النّاقور». وهذا قول الأكثرين.

وثانيها: يجوز أن يكون تمثيلًا لدعاء الموتي، فإنّ خروجهم من قبورهم __________________________________________________

(1) غريب القرآن: 245 باب الصاد المضمومة.

(2) غريب القرآن «صور».

(3) تفسير النسفي/ مدرك التنزيل 1: 372.

استخراج

المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 277

كخروج الجيش عند سماع صوت الآلة.

وثالثها: إنّ الصّور جمع الصورة» «1».

وقال ابن الملقن في (شرح البخاري):

«والذي عليه المفسّرون: إنّ الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل. قال أهل اللغة: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر ينفخ فيها الروح نفخاً. وقرأ الحسن بفتح الواو، والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة، وأنكره النحاس وقال: لا يعرف هذا أهل التفسير. قال: والحديث علي أنّه الصور الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام».

وفيه أيضاً:

«قال القرطبي: وليس الصور جمع صورة كما زعم بعضهم أنّه ما ينفخ في صور الموتي، بدليل الأحاديث المذكورة، والتنزيل أيضاً يدلّ علي ذلك، قال تعالي: «ثُمّ نُفِخ فيه اخري» ولم يقل فيها، فعلم أنّه ليس بجمع صورة.

وقال الكلبي: لا أدري ما الصور، ويقال: هو جمع صورة مثل بسر وبسرة أي ينفخ في صور الموتي الأرواح. وقرأ الحسن: «يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة» وإلي هذا ذهب أبو عبيدة معمر، وهو مردود بما ذكرناه، وأيضاً: لا ينفخ في الصور للبعث مرّتين بل ينفخ مرّة واحدة، فإسرافيل ينفخ في الصور الذي هو القرن، واللَّه هو الذي يحيي الصور فينفخ فيها الروح كما قال تعالي «فنفخنا فيه من روحنا»، «ونفخت فيه من روحي» وقد أنكر بعض أهل الزيغ أن يكون الصور قرناً. قال أبوالهيثم: من قال ذلك فهو كمن أنكر العرش __________________________________________________

(1) تفسير الرازي 24: 219.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 278

والميزان وطلب لها تأويلات» «1».

بل هو عقيدة البخاري!! … ص: 278

لقد ثبت أنّ أصحابنا لا يقولون بهذه المقالة الفاسدة، بل القائلون بها هم من أهل السنّة، كالحسن البصري، وأبي عبيدة، وصاحب سراج العقول، وغيرهم من الأئمّة …

ولو أنّ الخصم أجاب بأنّ الحسن البصري قدري، وقد كفّره

العلماء المحقّقون، ومن حكم عليه بالكفر فلا يستبعد صدور مثل هذه الأباطيل منه، وأمّا أبو عبيدة العالم اللغوي النحوي فلا عبرة بقوله، وكذا من تبعه واستحسن مقالته …

قلنا له: فما تقول في إمامك البخاري، وقد ذهب إلي هذا المذهب في كتابه (الصحيح) عند جمهوركم:

لقد قال البخاري بتفسير سورة الأنعام من كتابه، في الآية «يوم ينفخ في الصور»: «الصور جماعة صورة، كقوله سورة وسور» «2».

وقال القسطلاني بشرحه:

«الصور- بضم الصاد وفتح الواو- في قوله تعالي: «يوم ينفخ في الصور» جماعة صورة. أي: يوم ينفخ فيها روحها فتحيي كقوله: سورة وسور، بالسين المهملة فيهما.

__________________________________________________

(1) شرح صحيح البخاري لابن الملقن عن تفسير القرطبي 7: 20- 21 والآية في سورة الأنعام: 73.

(2) صحيح البخاري 6: 70.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 279

قال ابن كثير: والصحيح أنّ المراد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، للأحاديث الواردة فيه» «1».

وقال القاضي عياض:

«قوله في التفسير: الصور جمع صورة، كقولك: صورة وصور، كذا لأبي ذر. أي جمع علي صور وصور بسكون الواو وفتحها، وهو خير من رواية غيره، كقولك سورة وسور، بالسين، إذ ليس مقصود الباب ذلك. وهذا أحد تفاسير الآية» «2».

وقال ابن حجر العسقلاني:

«قوله: الصور جماعة صورة كقوله سورة وسور، بالصاد أوّلًا وبالسين ثانياً، كذا للجميع، إلّافي رواية أبي أحمد الجرجاني ففيها: كقولك صورة وصور، بالصاد في الموضعين، والاختلاف في سكون الواو وفتحها. قال أبو عبيدة في قوله تعالي: «ويوم ينفخ في الصور» يقال: إنّها جمع صورة، ينفخ فيها روحها فتحيي، بمنزلة قولهم: سورة المدينة، واحدها سورة. قال النابغة:

ألم تر أنّ اللَّه أعطاك سورة تري كلّ ملك دونها يتذبذب والثابت في الحديث أنّ الصور قرن ينفخ فيه، وهو واحد لا

إسم جمع» «3».

أقول:

لقد بان في غاية الوضوح والظهور، طهارة أذيال أعلامنا الصدور عن التلوّث بوضح المصير إلي إنكار الصور، وأنّ عزو هذا الإنكار إليهم كذب __________________________________________________

(1) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 7: 116.

(2) مشارق الأنوار علي صحاح الآثار 2: 65.

(3) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 232.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 280

وزور. لكنّ أئمّة القوم هم الذين حرّفوا كلام اللَّه وأحايث الرسول، كالحسن البصري وأبي عبيدة النحوي اللغوي وصاحب سراج العقول، وغيرهم من أعلامهم الفحول … وأعجب من ذلك كلّه: أنّ البخاري الذي هو عندهم ابن بجدة النقد والبراعة، وحامل لواء أهل السنّة والجماعة، قد تفوّه بهذا التفسير المهجور، فاستحقّ كلّ أنواع التشنيع والتحقير …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 281

معاجز نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … ص: 281

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 283

وربّما نسب بعضهم إلي علمائنا تكذيب المعاجز النبويّة، كردّ الشمس وشقّ القمر، وتكلّم الحيوانات مع النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وشهادة الأشجار وغيرها برسالته …

وحاشا علماء الطائفة المحقّة من إنكار هذه المعجزات وأمثالها، وأين كلماتهم الصريحة في ذلك؟ وما هو المستند في هذه النّسبة إليهم؟

إنّ هذه النسبة كذب وافتراء …

والقضيّة بالعكس …

فقد وجدنا في علماء القوم من ينكر المعجزات النبويّة الصحيحة الثابتة بالأحاديث المجمع عليها.

ردّ الشمس … ص: 283
اشارة

فحديث ردّ الشمس الثابت بأخبار الفريقين، المذكور في كتاب (الشفاء) للقاضي عياض في عداد المعجزات النبويّة، والذي أخرجه الطحاوي عن أسماء بنت عميس بطريقين وقال:

«هذان الحديثان ثابتان ورواتهما ثقات» «1».

وقال القاضي عياض:

«حكي الطحاوي أنّ أحمد بن صالح كان يقول: لا ينبغي لمن سبيله __________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 549.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 284

العلم التخلّف عن حفظ حديث أسماء، لأنّه من علامات النبوّة» «1».

وحتّي الكابلي صاحب (الصواقع) ومقلّدوه، الذين أنكروا كثيراً من الامور الثابتة، أذعنوا بثبوت حديث ردّ الشمس، قال في الصواقع: «وأمّا ردّ الشمس فكانت معجزة للنبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، لأنّه صلّي العصر فأنزل عليه الوحي وكان رأسه في حجر عليّ وهو لم يصلّ العصر، فلمّا فرغ ورأي الشمس قد غربت دعا ربّه أن يردّها، فاستجاب دعاءه وردّ الشمس وصلّي عليّ العصر، فلمّا فرغ غربت الشمس» «2».

وقال صاحب (التحفة) ما تعريبه:

«وأمّا ردّ الشمس، فقد صحّحه أكثر أهل السنّة، كالطحاوي وغيره، وهو من معجزات النبيّ بلا ريب، وقد كان ذلك لمّا فات وقت صلاة العصر علي حضرة الأمير، فدعا صلّي اللَّه عليه وسلّم حتّي يؤدّي صلاته» «3».

وقد وضع غير واحد من الحفّاظ رسالة مفردة في هذا الحديث:

منهم: السيوطي،

وقد أسمي رسالته (كشف اللبس في حديث ردّ الشمس) وقال في أوّلها:

«وبعد، فإنّ حديث ردّ الشمس معجزة لنبيّنا صلّي اللَّه عليه وسلّم، صحّحه الإمام أبو جعفر الطحاوي وغيره».

وقال في هذا الحديث أيضاً:

«ثمّ الحديث صرّح جماعة من الأئمّة والحفّاظ بأنّه صحيح» «4».

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 549.

(2) الصواقع الموبقة- مخطوط.

(3) التحفة الاثني عشريّة: 226 في الأدلّة العقليّة علي إمامة الأمير عليه السلام.

(4) كشف اللبس في حديث ردّ الشمس- المقدّمة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 285

ومنهم: أبوالحسن شاذان الفضلي، وقد أدرج السيوطي رسالته في (كشف اللبس).

ومنهم: أبوالقاسم عبيداللَّه بن عبداللَّه بن أحمد الحسكاني، فإنّه وضع رسالةً في هذا الحديث وأسماها: مسألة في تصحيح ردّ الشمس وترغيم النواصب الشمس، وقد اعترف بذلك ابن تيميّة في منهاجه. وقد صحّح الحسكاني فيها الحديث بطرقٍ متعدّدة وأورد أقوال العلماء الكبار، وذكر أنّه مروي عن أسماء بنت عميس وأميرالمؤمنين وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري …

من المنكرين لهذه المعجزة … ص: 285

ومع ذلك كلّه، فقد أنكر بعضهم- تقليداً للنواصب- هذا الحديث الذي يعدّ من معاجز النبوّة ومن فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام …

ومن هؤلاء: ابن تيميّة الحراني، فقد كذّب هذا الحديث، وردّ علي الحفّاظ كلامهم في تصحيحه وتحامل علي الطحاوي وأمثاله من الأئمّة حتّي قال:

«وحديث ردّ الشمس له، قد ذكره طائفة كأبي جعفر الطحاوي والقاضي عياض وغيرهما، وعدّوا ذلك من معجزات النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولكنْ المحقّقون من أهل المعرفة بالحديث يعلمون أنّ هذا الحديث كذب موضوع» «1».

فانظر كيف يكذّب الحديث ويطعن في الأئمّة المصحّحين له …

ومن هؤلاء: ابن الجوزي، إذ أورده في (الموضوعات) وقال:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4: 288- 289.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 286

«هذا حديث موضوع بلا شك».

ثمّ جعل- بعد كلامٍ له- يعترض

علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ويقول:

«قال المصنّف: ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنّه نظر إلي صورة فضله ولم يلمح عدم الفائدة فيها، فإنّ صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاء، فرجوع الشمس لا يعيدها أداء» «1».

وأضاف في باطله في (تلبيس إبليس) وزاد بأنْ قال:

«وغلوّ الرافضة في حبّ علي- رضي اللَّه عنه- حملهم علي أنْ وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله، أكثرها يشينه ويؤذيه، وقد ذكرت منها جملةً في كتاب الموضوعات، منها: إنّ الشمس غابت ففاتت عليّاً رضي اللَّه عنه العصر، فردّت له الشمس. وهذا من حيث النقل موضوع محال لم يروه ثقة، ومن حيث المعني فإنّ الوقت قد فات وعودها طلوع مجدّد، فلا يرد الوقت» «2».

فانظر كيف يبالغون في إنكار المعاجز والفضائل ويحاولون طمس الحقائق، ولا وازع لهم في هذا السبيل عن تكذيب النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ونسبة العبث واللغو إليه، إلّاأنّه ليس بغريبٍ ممّن يجوّز علي اللَّه صدور القبائح العظام … تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

ومن هؤلاء: الأعور الواسطي، فإنّه كذّب الحديث وجعله من رواية الإماميّة إذ قال: «ومنها دعواهم ردّ الشمس لعلي، وهو مكذوب لم يأت إلّا

__________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات 1: 355- 357.

(2) تلبيس إبليس: 114.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 287

بنقلهم وهم أخصام لا يقوم مجرّد نقلهم علي الخصم حجة» «1».

فانظر إلي هذا الناصبي الذي زاد علي سلفه- ابن تيميّة- في البغض والحقد والعناد، فإنّ ذاك يعترف بتصحيح الطحاوي وغيره من أئمّة السنيّة، وهذا يدّعي أنّه من رواية الشيعة فحسب، مع أنّ من رواته: ابن شاهين وابن مردويه وابن مندة كما في (المقاصد الحسنة) «2» وغيرها، وقد رواه الطبراني بطرق متعدّدة، والخطيب والدولابي وابن أبي شيبة كما في (كشف اللبس).

وقد ألّف

فيه غير واحدٍ من الأعلام كما عرفت، كأبي الحسن شاذان الفضلي والسيوطي والحسكاني، وقد جزم به الإمام القرطاجني كما في (تنزيه الشريعة) «3».

بل لقد كذّب الأعور سلفه المعترف برواية الطحاوي والقاضي عياض وغيرهما له، وكذّب أحمد بن صالح الذي قال: «لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلّف عن حديث أسماء» وكذَّب غير هؤلاء من الأئمّة الأعلام من أهل السنّة …

فهذا حال هؤلاء القوم، وهذه مواقفهم من معاجز النبيّ ومناقب الوصي، عليهما وآلهما الصلاة والسلام …

إنشقاق القمر … ص: 287
اشارة

__________________________________________________

(1) رسالة الأعور في الردّ علي الرافضة- مخطوط.

(2) المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة علي الألسنة: 270/ 519.

(3) تنزيه الشريعة الغرّاء 1: 379.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 288

وكذّب بعضهم كذلك انشقاق القمر له صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، قال الكرماني في (الكواكب الدراري):

«إنشقاق القمر آيةعظيمة لا يعادلها شي ء من آيات الأنبياء عليهم السلام؛ لأنّه ظهر من ملكوت السماء، والخطب فيه أعظم والبرهان به أظهر، لأنّه خارج عن جملة طباع ما في هذا العالم المركّب من العناصر.

وقد أنكر بعضهم هذا الخبر فقالوا: لو كان له حقيقة لم يخف أمره علي عوام الناس، ولتواترت به الأخبار، لأنّه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء، وللنفوس دواع علي نقل الأمر الغريب والخبر العجيب، ولو كان لذكر في الكتب ودوّن في الصّحف، ولكان أهل التنجيم والسير والتواريخ عارفين به، إذ لا يجوز إطباقهم علي إغفاله مع جلالة شأنه وجلاء أمره …» «1».

وحتي ابن تيمية اعترف بهذه المعجزة ويعرّض بالمنكرين:

«وانشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس، ومع هذا فقد رواه الصحابة من غير وجه، وأخرجوه في الصحاح والسنن والمسانيد من غير وجه، ونزل به القرآن، فكيف تردّ الشمس التي تكون بالنهار ولا يشتهر ذلك ولا ينقله

أهل العلم نقل مثله، ولا يعرف قط أنّ الشمس رجعت بعد غروبها.

وإن كان كثير من الفلاسفة والطبيعيّين وبعض أهل الكلام ينكر انشقاق القمر وما يشبه ذلك، فليس الكلام في هذا المقام …» «2».

من المنكرين لهذه المعجزة … ص: 288

ومع هذا كلّه، فقد أنكر الحليمي- وهو من كبار علماء القوم- انشقاق __________________________________________________

(1) وانظر الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، باب انشقاق القمر في آخر المناقب. وتفسير سورة الإنشقاق من كتاب التفسير.

(2) منهاج السنّة 4: 291.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 289

القمر لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

والأعجب من ذلك اعتماد الفخر الرازي علي منع الحليمي وإنكاره، في مقابلة أهل الحق، حيث جاء في كتابه (نهاية العقول) في كلامٍ له:

«ثمّ نقول: لا نزاع في شي ء من المقدّمات إلّافي قولكم: الأمر العظيم الواقع بمشهد الخلق العظيم لابدّ وأنْ يتواتر. فإنّا نقول: ليس الأمر كذلك، فإنّ انشقاق القمر، وفتح مكّة أنّه كان بالصلح أو بالقهر، وكون بسم اللَّه الرحمن الرحيم هل هو من كلّ سورةٍ أم لا، وكون الإقامة مثني أو فرادي، مع مشاهدة الصحابة لذلك مدّة حياة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كلّ يومٍ خمس مرّات، وكذلك أحكام الصّلاة والزكاة، مع مشاهدتهم هذه الامور من النبي عليه السلام مدّة حياته، كلّ ذلك امور عظيمة وقعت بمشهد أكثر الامّة، ثمّ إنّه لم ينتشر شي ء منها» «1».

ثمّ قال الرازي في مقام الجواب عن هذا التقرير:

«أمّا الإنشقاق، فقد منع الحليمي وقوعه، بحمل: «إنشقّ القمر» علي أنّه سينشقّ. وإنْ سلّمنا وقوعه فلعلَّ المشاهدين ما كانوا في حدّ التواتر، لأنّه آية ليليّة، وأكثر الناس كانوا تحت السقوف، فلذلك لم ينتشر …» «2».

فانظر إلي الحليمي كيف يحمل الآية المباركة علي خلاف ظاهرها! وإلي الرازي كيف يستند

إلي كلام الحليمي ليعارض به استدلال الإماميّة!

وقد قام الإجماع من المسلمين علي وقوع الإنشقاق:

قال الحافظ القاضي عياض:

__________________________________________________

(1) نهاية العقول- مخطوط.

(2) نهاية العقول- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 290

«فصل- في إنشقاق القمر وحبس الشمس. قال اللَّه تعالي: «اقتربت السّاعة وانشقّ القمر* وإنْ يروا آيةً يعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمر» أخبر تعالي بوقوع إنشقاقه بلفظ الماضي وإعراض الكفرة عن آياته، وأجمع المفسّرون وأهل السنّة علي وقوعه».

ثمّ قال بعد ذكر الروايات:

«وأكثر طرق هذه الأحاديث صحيحة، والآية مصرّحة، ولا يلتفت إلي اعتراض مخذول بأنّه لو كان هذا لم يخف علي أهل الأرض، إذ هو شي ء ظاهر لجميعهم …» «1».

وقال:

«أمّا إنشقاق القمر، فالقرآن نصّ بوقوعه وأخبر عن وجوده، ولا يعدل عن ظاهر إلّابدليل، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرقٍ كثيرة، فلا يوهن عزمنا خلاف أخرق يحلُّ عري الدين، ولا يلتفت إلي سخافة مبتدع يلقي الشك علي قلوب ضعفاء المؤمنين، بل نرغم بهذا أنفه وننبذ بالعراء سخفه» «2».

أقول:

هذا بعض الكلام علي إنكار القوم ما ثبت من معاجز النبي عليه وآله الصلاة والسلام …

وأمّا إنكارهم لما ثبت من معجزات وكرامات الأئمّة الأطهار عليهم السلام، فموارده كثيرة جدّاً، فما أكثر المعجزات العلويّة المرويّة في كتب __________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 543 و 547.

(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 495.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 291

الفريقين، يستدلّ بها أهل الحقّ في مباحث الإمامة، ويكذّبها أهل الخلاف أمثال ابن تيميّة والأعور وغيرهما.

أضف إلي ذلك: إنّ الحليمي وأبا إسحاق يكذّبان كرامات الأولياء مطلقاً، وهذا- بعمومه- يشمل كرامات الأئمّة الطاهرين عليهم السلام.

قال شارح المواقف:

«المقصد التاسع: في كرامات الأولياء وأنّها جائزة عندنا، خلافاً لمن منع جواز الخوارق، واقعة، خلافاً للُاستاذ أبي إسحاق والحليمي منّا

وغير أبي الحسين من المعتزلة.

قال الإمام الرازي في الأربعين: المعتزلة ينكرون كرامات الأولياء، ووافقهم الاستاذ أبو إسحاق منّا، وأكثر أصحابنا يثبتونها، وبه قال أبو الحسين البصري من المعتزلة» «1».

__________________________________________________

(1) شرح المواقف 8: 288.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 293

إسلام آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … ص: 293

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 295

ربّما نسب بعض المتعصّبين المفترين من أهل السنّة إلي الشيعة القول بعدم طيب ولادة آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … وهذا بهتان عظيم، اللّهمّ العن قائله ومعتقده و مثبته ألف ألف لعنة، وأذقه حرّ النار وأصله سعيراً …

ولكنّ الكثيرين من أهل السنة قائلون بعدم إسلام وإيمان آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … والعياذ باللَّه.

أباطيل الأعور الواسطي … ص: 295

بل الأعجب من ذلك ردّ بعضهم علي الإماميّة تشنيعهم علي أهل السنّة وإعابتهم القول بذلك …!!

ألا تري كيف يدافع الأعور الواسطي عن هذه المقالة الفاسدة والزعم الباطل، ويردّ علي أهل الحق قائلًا:

«ومنها: إعابتهم قول أهل السنّة بكفر أبوي النبي. وذلك حقّ لا إعابة علي أهل السنّة، لوجوه:

الأوّل: إنّ نصّ القرآن والأحاديث والتواريخ عن مجموع الكفّار من قريش، مثل أبي لهب عمّ النبي وأبي جهل، ومن أسلم منهم مثل أبي سفيان وغيرهم: أنّ محمّداً سفّه ما كان آباؤنا عليه من عبادة الأصنام، ونحن لا نرغب عن ملّة عبدالمطّلب.

الثاني: إنّ اللَّه يقول لمن عرف الإسلام به «ما كنت تدري ما الكتاب ولا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 296

الإيمان» فمن أين جاء الإيمان لأبويه.

الثالث: إنّ الرافضة يزعمون إنّ عليّاً رضي اللَّه عنه رمي أصنام قريش عن الكعبة، وعبدالمطّلب وعبداللَّه من رؤوسهم، فأيّ شي ء أخبرهم عن عدم عبادتهما؟

قالوا: نقل من الأصلاب الطاهرة إلي الأرحام الطاهرة.

قلنا: معناه لم يكن سفاح بل عن عقود وأنكحة.

قالوا: كيف يمكن خروج نبيّ من كافر؟

قلنا: كثير من الأنبياء، كخروج إبراهيم عليه السلام من آزر.

قالوا: عمّه أو خاله؟

قلنا: يكذب ذلك أنّ اللَّه تعالي سمّاه أباً بقوله: «إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتّخذ أصناماً» ويقول إبراهيم لآزر: يا أبتِ، مراراً كثيرة. وأيضاً:

العم ابن الجد لأب والخال ابن الجد لُام، وحينئذٍ فيكون جدّه كافراً، ولا ينتفع الرافضة بشي ء من هذه الدعوي، ودليل كفره شهادة ابنه عليه كقوله تعالي: «وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناماً فنظلُّ لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذْ تدعون أو ينفعونكم أو يضرّون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون» وكقوله تعالي: «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين»» «1».

أقول:

إنّها خرافات ركيكة وهفوات سخيفة:

فأمّا ما ذكره في الوجه الأوّل، فلا دليل عليه في القرآن والحديث، ولو

__________________________________________________

(1) رسالة الأعور الواسطي في الرد علي الرافضة- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 297

فرض أنّ مجموع الكفّار قالوا كذلك، فأيّ اعتبار بقول الكفّار؟

وأمّا ما ذكره في الوجه الثاني، فليس إلّاوساوس ظلمانيّة وتلبيسات شيطانيّة، ومحصّلها الكفر والزندقة والإلحاد.

وأمّا ما ذكره في الوجه الثالث، ففي غاية الضعف ولا محصَّل له، وأيّ ارتباط لمقصوده بقضيّة كسر الأصنام التي رواها ابن أبي شيبة وأبو يعلي وأحمد والطبري والحاكم والخطيب والنسائي وأمثالهم من الأعلام «1».

وهل رئاسة عبدالمطلب وعبداللَّه لقريش تستلزم عبادة الأصنام؟

إنّه لا يقول بذلك إلّاالجهلة الأغثام والسفهاء اللئام!

كيف لا؟ وقد قال السيوطي في (طراز العمامة في الفرق بين العمامة والقمامة) في بيان المسالك التي سلكها في إثبات إسلام أبوي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«الثالث: إنّهما كانا علي دين إبراهام، ما عبدا قطّ في عمرهما الأصنام، وأحاديث هذا المسلك قويّة السند، كثيرة العدد، عظيمة المدد، لا يقوم لردّها أحد».

وأمّا ما ذكره عن إبراهيم عليه السلام، فبطلانه يتّضح بمراجعة (رسائل السيوطي) و (المنح المكيّة) لابن حجر المكي، وأمثالهما.

وبالجملة، فإنّ القائلين منهم بهذا القول الباطل والرأي الفاسد كثيرون، ولنذكر كلمات بعضهم:

__________________________________________________

(1) كنز العمال للمتقي الهندي،

عن ابن أبي شيبة وأبي يعلي وابن جرير، مسند أحمد 1: 84، خصائص علي: 225 الحديث 122، المستدرك 2: 366 و 3: 5.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 298

وابن كثير الدمشقي … ص: 298

قال ابن كثير الدمشقي في تاريخه (البداية والنهاية):

«وإخباره عليه السلام عن أبويه وجدّه عبدالمطلب بأنّهم من أهل النّار، لا ينافي الحديث الوارد عنهم- من طرق متعددة- أنّ أهل الفترة والأطفال والمجانين والصمّ يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسط سنداً ومتناً عند قوله تعالي: «وما كنّا معذّبين حتّي نبعث رسولًا» فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب.

والحديث الذي ذكره السهيلي- في إسناده مجاهيل- إلي أبي الزناد عن عروة عن عائشة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سأل ربّه أن يحيي أبويه فأحياهما وآمنا به.

فإنّه منكر جدّاً، وإنْ كان ممكناً بالنظر إلي قدرة اللَّه تعالي، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه» «1».

وكذّب أبوالخطّاب ابن دحية أيضاً حديث السهيلي، ونصَّ علي أنّه موضوع، قال القسطلاني:

«قال ابن دحية: هذا الحديث موضوع، يردّه القرآن والإجماع، إنتهي.

وقد جزم بعض العلماء بأنّ أبويه صلّي اللَّه عليه وسلّم ناجيان وليسا في النّار، متمسّكاً بهذا الحديث وغيره. وتعقّبه عالم آخر بأنّه لم ير أحداً صرّح بأنّ الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإنْ ادّعي أحد الخصوصيّة فعليه الدليل، إنتهي. وقد سبقه بذلك أبوالخطّاب ابن دحية وعبارته: من مات كافراً لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك __________________________________________________

(1) البداية والنهاية/ تاريخ ابن كثير 2: 281.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 299

فكيف بعد الإعادة» «1».

وقد أطنب ابن كثير في المسألة في (تفسيره) بتفسير قوله تعالي: «وما كان للنبيّ

والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربي من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم» وقال:

«قال الإمام أحمد: حدّثنا الحسن بن موسي، حدّثنا زهير، حدّثنا زبيد ابن الحرث اليامي، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة عن أبيه قال:

كنّا مع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلّي ركعتين، ثمّ أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطّاب وفدّاه بالأب والام وقال: يا رسول اللَّه! مالك؟

قال: إنّي سألت ربّي عزّ وجلّ في الإستغفار لُامّي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمةً لها من النّار.

وإنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها لتذكّركم زيارتها خيراً، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أيّ وعاء شئتم ولا تشربوا مسكراً.

وروي ابن جرير من حديث علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا قدم مكّة، أتي رسم قبر، فجلس إليه فجعل يخاطب، ثمّ قام مستعبراً، فقلنا: يا رسول اللَّه! إنّا رأينا ما صنعت.

قال: إنّي استأذنت ربّي في زيارة قبر امّي فأذن لي، واستأذنته في الإستغفار لها، فلم يأذن لي، فما رُئي باكياً أكثر من يومئذٍ.

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدّثنا أبي، حدّثنا خالد بن خداش،

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 1: 90/ ذكر رضاعه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 300

حدّثنا عبداللَّه بن وهب، عن ابن جريح عن أيوب بن هاني، عن مسروق، عن عبداللَّه بن مسعود قال: خرج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوماً إلي المقابر فأتبعناه، فجاء حتّي جلس إلي قبر منها، فناجاه طويلًا ثمّ بكي فبكينا لبكائه، ثمّ

قام، فقام إليه عمر بن الخطّاب فدعاه ثمّ دعانا فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك.

قال: إنّ القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإنّي استأذنت ربّي في زيارتها فأذن لي، وإنّي استأذنت ربّي في الدعاء لها، فلم يأذن لي وأنزل علَيّ:

«ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربي»، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّها تذكّر الآخرة.

حديث آخر في معناه: قال الطبراني: حدّثنا محمّد بن علي المروزي، حدّثنا أبوالدرداء عبدالعزيز بن منيب، حدّثنا إسحاق بن عبداللَّه بن كيسان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلمّا هبط من ثنية عسفان، أمر أصحابه أن يستندوا إلي العقبة حتّي أرجع إليكم، فذهب فنزل علي قبر امّه، فناجا ربّه طويلًا، ثمّ إنّه بكي، فاشتدّ بكاؤه وبكي هؤلاء لبكائه وقالوا: ما بكي نبيّ اللَّه هذا البكاء إلّا وقد احدث في امّته شي ء لا يطيقه، فلمّا بكي هؤلاء قام فرجع إليهم فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: يا نبيّ اللَّه! بكينا لبكائك، قلنا: لعلّه احدث في امّتك شي ء لا تطيقه. قال: لا، وقد كان بعضه.

ولكن نزلت علي قبر امّي، فدعوت اللَّه أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة فأبي اللَّه أن يأذن لي، فرحمتها وهي امّي فبكيت، ثمّ جاءني جبرئيل استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 301

فقال: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّاعن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ للَّه تبرّأ منه» فتبرّأ أنت من امّك كما تبرّأ إبراهيم من أبيه، فرحمتها وهي امّي.

ودعوت ربّي أن يرفع عن امّتي أربعاً، فرفع عنهم اثنين وأبي أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت

ربّي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأبي اللَّه أن يرفع عنهم القتل والهرج.

وإنّما عدل إلي قبر امّه، لأنّها كانت مدفونة تحت كدي، وكانت عسفان لهم.

وهذا حديث غريب وسياق عجيب.

وأغرب منه وأشدّ نكارة:

ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب السابق واللّاحق، بسند مجهول، عن عائشة، في حديث فيه قصّة: أنّ اللَّه أحيا امّه فآمنت ثمّ عادت.

وكذلك ما رواه السهيلي في الرّوض، بسند فيه جماعة مجهولون: أنّ اللَّه أحيا له أباه وامّه فآمنا به. وقد قال الحافظ ابن دحية: هذا الحديث موضوع، يردّه القرآن والإجماع، قال اللَّه تعالي: «ولا الذين يموتون وهم كفّار».

وقد مال أبو عبداللَّه القرطبي إلي هذا الحديث، وردّ علي ابن دحية في هذا الإستدلال ما حاصله: إنّ هذه حياة جديدة، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلّي عليّ العصر. قال الطحاوي: وهو حديث ثابت. يعني حديث الشمس. قال القرطبي: فليس إحياؤهما بممتنع عقلًا ولا شرعاً. قال: وقد سمعت أنّ اللَّه أحيي عمّه أباطالب فآمن به.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 302

قلت: وهذا كلّه يتوقّف علي صحّة الحديث، فإذا صحّ فلا مانع منه.

واللَّه أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: «ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» الآية، فإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أراد أن يستغفر لُامّه فنهاه اللَّه عن ذلك، فقال: فإنّ إبراهيم خليل اللَّه قد استغفر لأبيه فأنزل اللَّه: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّاعن موعدة وعدها إيّاه» الآية.

وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في هذه الآية: كانوا يستغفرون لهم حتّي نزلت هذه الآية، فلمّا انزلت أمسكوا

عن الإستغفار لأمواتهم، ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتّي يموتوا، ثمّ أنزل اللَّه: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه» الآية.

وقال قتادة في هذه الآية: ذكر لنا أنّ رجالًا من أصحاب النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قالوا: يا نبيّ اللَّه! إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام، ويفكّ العاني ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: بلي واللَّه، إنّي لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه، فأنزل اللَّه: «ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» حتّي بلغ الجحيم، ثمّ عذّر اللَّه إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ للَّه تبرّأ منه»» «1».

والذهبي … ص: 302

والذهبي أيضاً كذّب الحديث المذكور، حيث قال في (ميزان الإعتدال):

«عبدالوهّاب بن موسي، عن عبدالرحمن بن أبي الزناد، بحديث: إنّ اللَّه __________________________________________________

(1) تفسير ابن كثير 4: 221- 224 والآية في سورة التوبة: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 303

أحيا لي امّي فآمنت بي.

الحديث كذب، مخالف لِما صحَّ أنّه عليه السلام استأذن ربّه في الإستغفار لهما فلم يؤذن له» «1».

وفي (لسان الميزان) عن جماعةٍ أنّهم كذّبوا الحديث كذلك «2».

القائلون بالحقّ وأدلّتهم … ص: 303

لكنّ جماعةً من أعلامهم دافعوا عن الحق، وأبطلوا هذه الأقاويل الفاسدة.

فالحافظ السيوطي- مثلًا- ألّف رسائل عديدة في إثبات نجاة آباء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، حتّي أنّه قال بكفر من يقول بكفر والدي النبي، ففي رسالته التي أسماها: (الدرج المنيفة في الآباء الشريفة):

«نقلت من مجموع بخطّ الشيخ كمال الدين الشمني، والد شيخنا الإمام تقي الدين رحمه اللَّه ما نصّه: سُئل القاضي أبوبكر ابن العربي عن رجلٍ قال:

إنّ آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في النار، فأجاب بأنّه ملعون؛ لأنّ اللَّه تعالي قال: «إنّ الذين يؤذون اللَّه ورسوله لعنهم اللَّه في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً» قال: ولا أذي أعظم من أن يقال عن أبيه: إنّه في النّار» «3».

وقال في رسالته (الدوران الفلكي علي ابن الكركي) في بيان الامور المستهجنة التي ذكر صدورها من السخاوي:

«الثاني: إنّه تكلّم في حق والدي المصطفي بما لا يحلّ لمسلم ذكره، ولا

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 437/ 5332 ترجمة عبدالوهّاب بن موسي.

(2) لسان الميزان 4: 512/ 5416 ترجمة عبدالوهّاب بن موسي.

(3) الدرج المنيفة في الآباء الشريفة (ضمن الرسائل العشر): 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 304

يسوغ أن يجزم عليه فكره، فوجب علَيّ أنْ أقوم عليه بالإنكار، وأنْ أستعمل في تنزيه

هذا المقام الشريف الأقلام والأفكار، فألّفت في ذلك ست مؤلّفات شحنتها بالفوائد وهي في الحقيقة أبكار، ومن ذا الذي يستطيع أنْ ينكر علَيّ قيامي في ذلك، أو يلقي نفسه في هذه المهالك، من أنكر ذلك أكاد أقول بكفره وأستغرق العمر في هجره».

وقال السهيلي في (الروض الأنف):

«وذكر قاسم بن ثابت في الحديث: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم زار قبر امّه بالأبواء في ألف مقنّعٍ، فبكي وأبكي: وهذا حديث صحيح.

وفي الصحيح أيضاً أنّه قال: استأذنت ربّي في زيارة قبر امّي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي.

وفي مسند البزّار من حديث بريدة: إنّه عليه السلام حين أراد أن يستغفر لُامّه، ضرب جبرئيل في صدره وقال: لا تستغفر لمن مات مشركاً، فرجع حزيناً.

وفي الحديث زيادة في غير الصحيح: إنّه سئل عن بكائه، فقال: ذكرت ضعفها وشدّة عذاب اللَّه، إن كان صحَّ هذا.

وفي حديث آخر ما يصحّحه وهو أنّ رجلًا قال له: يا رسول اللَّه! أين أبي؟ فقال: في النار، فلمّا ولّي الرجل قال عليه السلام له: إنّ أبي وأباك في النّار.

وليس لنا أنْ نقول هذا في أبويه صلّي اللَّه عليه وسلّم، لقوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات، واللَّه عزّ وجلّ يقول: «إنّ الذين استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 305

يؤذون اللَّه ورسوله» الآية» «1».

والواقع: إنّ السهيلي متذبذب مضطربٌ في هذا المقام، ويزيد ذلك وضوحاً قوله بعد ذلك:

«وإنّما قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لذلك الرجل هذه المقالة، لأنّه وجد في نفسه، وقد قيل: إنّه قال: أين أبوك أنت، فحينئذٍ قال ذلك.

وقد روي معمر بن راشد بغير هذا اللفظ، فلم يذكر أنّه قال له: إنّ أبي وأباك في النّار، ولكن

ذكر أنّه قال له: إذا مررت بقبر كافر فبشّره بالنّار.

وروي في حديثٍ غريب لعلّه أن يصحّ- وجدته بخطّ جدّي أبي عمرو- إنّ أحمد بن أبي الحسن القاضي رحمه اللَّه- بسند فيه مجهولون- ذكر أنّه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ بن داود بن معوذ الزاهد، يرفعه إلي أبي الزناد عن عروة عن عائشة: اخبرت أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سأل ربّه أن يحيي أبويه، فأحياهما له وآمنا به ثمّ ماتا.

واللَّه قادر علي كلّ شي ء، وليس تعجز رحمته وقدرته عن شي ء، ونبيّه أهل أن يخصّه بما شاء من فضله وينعم عليه بما شاء من كرامته، صلّي اللَّه عليه وسلّم» «2».

بل رجع إلي قول أسلافه الموجب للّعن ووافق عليه، في موضعٍ آخر من كتابه، حيث قال في غزوة احد:

«ووقع في هذه الغزوة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جمع لسعدٍ

__________________________________________________

(1) الروض الانف 2: 185- 186 بتفاوتٍ يسير.

(2) الروض الانف 2: 187.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 306

أبويه فقال له: إرم فداك أبي وامّي. وروي الترمذي من طريق علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: ما سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول لأحدٍ فداك أبي وامّي إلّالسعد. وقال في روايةٍ اخري عنه: ما جمع رسول اللَّه أبويه إلّالسعد.

والرواية الاولي أصحّ واللَّه أعلم؛ لأنّه أخبر فيها أنّه لم يسمع، وقد روي الزبير بن العوام أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جمع له أيضاً أبويه وقال له كما قال لسعد، ورواه عنه ابنه عبداللَّه بن الزبير، وأسنده في كتاب أنساب قريش الزبير ابن أبي بكر.

وفقه هذا الحديث أنّه جائز هذا الكلام لمن كان أبواه غير مؤمنين، وأمّا من كان أبواه مؤمنين

فلا؛ لأنّه كالعقوق لهما. كذلك سمعت شيخنا أبابكر يقول في هذه المسألة».

ومن الذين قالوا بالحقّ ودافعوا عنه: ابن حجر المكي، حتّي أنّه اعترض علي قول أبي حيّان الأندلسي بانحصار القول بإيمان آباء النبي بالإماميّة، فقد ذكر القسطلاني في (المواهب اللدنيّة):

«نقل الإمام أبو حيان في البحر عند تفسير قوله تعالي «وتقلّبك في السّاجدين» إنّ الرافضة هم القائلون إنّ آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كانوا مؤمنين، مستدلّين بقوله تعالي: «وتقلّبك في السّاجدين» وبقوله عليه السلام:

لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين، الحديث» «1».

قال شارحه الشبراملسي في (تيسير المطالب السنيّة):

«قوله: ونقل الإمام أبو حيان …

قال الشهاب ابن حجر في كتابه: النعمة الكبري علي العالم بمولد سيّد

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 1: 92.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 307

بني آدم: وقول بعضهم: ونقل أبو حيان … سوء تصرّف منه، لأنّه- أعني ناقل هذا الكلام عن أبي حيان- لو كان له أدني مسكة من علمٍ أو فهمٍ لتعقّب ما قاله أبو حيان أنّ الرافضة هم القائلون.. وقال له: هذا الحصر باطل منك، أيّها النحوي البعيد عن مدارك الاصول والفروع. كيف؟ وأئمّة الأشاعرة من الشافعيّة وغيرهم- علي ما مرّ التصريح به- في نجاة سائر آبائه صلّي اللَّه عليه وسلّم كبقيّة أهل الفترة، فلو كنت ذا إلمامٍ بذلك لما حصرت نقل ذلك عن الرافضة وزعمت أنّهم المستدلّون عليه بالآية والحديث. وهذا الفخر الرازي من أكابر أئمّة أهل السنّة قد استدلّ بهما ونقل ذلك عن غيره، فليتك أيّها الناقل عن أبي حيّان سكتَّ عن ذلك، ووقيت عرضك وعرضه من رشق سهام الصواب فيهما».

وهذا كلام ابن حجر المكي في (المنح المكيّة- شرح القصيدة الهمزيّة):

«وقول أبي حيان: إنّ الرافضة هم القائلون بأنّ آباء النبي

صلّي اللَّه عليه وسلّم مؤمنون غير معذَّبين، مستدلّين بقوله تعالي: «وتقلّبك في الساجدين».

فلك ردّه: بأنّ مثل أبي حيّان إنّما يرجع إليه في علم النحو وما يتعلّق بذلك، وأمّا المسائل الاصوليّة فهو عنها بمعزل، كيف والأشاعرة ومن ذكر معهم- فيما مرّ آنفاً- علي أنّهم مؤمنون، فنسبة ذلك للرافضة وحدهم- مع أنّ هؤلاء الذين هم أئمّة أهل السنّة قائلون به- قصور وأيّ قصور، تساهل وأيّ تساهل» «1».

فثبت- والحمد للَّه- أنّ القائلين بالقول الحقّ هم أهل الحقّ، وأنّ كثيراً من غيرهم أيضاً يشاركونهم في هذا القول.

__________________________________________________

(1) المنح المكيّة- شرح القصيدة الهمزيّة: 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 308

وقال السيوطي في (الدرج المنيفة في الآباء الشريفة):

«الدرجة الثالثة: أنّهما كانا علي التوحيد ودين إبراهيم عليه السّلام، كما كان علي ذلك طائفة من العرب، كزيد بن نفيل وقس بن ساعدة و ورقة بن نوفل وعمير ابن حبيب الجهني وعمر بن عنبسة، في جماعة آخرين، وهذه طريقة الإمام فخرالدين الرازي وزاد: إن آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كلّهم إلي آدم علي التوحيد ودين إبراهيم، لم يكن فيهم شرك.

قال: ممّا يدلّ علي أنّ آباءه صلّي اللَّه عليه وسلّم ما كانوا مشركين: قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلي أرحام الطاهرات، وقال تعالي: «إنّما المشركون نَجَسٌ» فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركاً.

قال: ومن ذلك قوله تعالي: «الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين» معناه أنّه ينقل نوره من ساجد إلي ساجد.

قال: وبهذا التقرير، فالآية دالّة علي أنّ جميع آباء محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم كانوا مسلمين.

قال: وحينئذٍ يجب القطع بأنّ والد إبراهيم ما كان من الكافرين، إنّما كان ذاك عمّه، أقصي ما في الباب أن

يحمل قوله تعالي «وتقلّبك في الساجدين» علي وجوه اخري، وإذا وردت الروايات بالكلّ ولا منافاة بينهما، وجب حمل الآية علي الكلّ، وبذلك يثبت أنّ والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان، وإنّ آزر لم يكن والده بل كان عمّه، إنتهي ملخّصاً.

وقد وافقه علي الإستدلال بالآية الإمام الماوردي صاحب الحاوي الكبير من أئمّة أصحابنا.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 309

وقد وجدت ما يعضد هذه المقالة من الأدلّة ما بين مجمل ومفصّل؛ فالمجمل: دليل مركّب من مقدّمتين: إحداهما: أنّ الأحاديث الصحيحة دلّت علي أنّ كلّ أصل من اصوله صلّي اللَّه عليه وسلّم من أبيه إلي آدم خير أهل زمانه. والثانية: إنّ الأحاديث والآثار دلّت علي أنّ اللَّه لم يخل الأرض من عهد نوح إلي بعثة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم من ناس علي الفطرة، يعبدون اللَّه ويوحّدونه ويصلّون له وبهم يحفظ الأرض، ولولاهم لهلكت الأرض ومن عليها.

ومن أدلّة المقدّمة الاولي حديث البخاري: بعثت من خير قرن بني آدم، قرناً فقرناً، حتّي بعثت من القرن الذي كنت فيه.

وحديث البيهقي: ما افترقت الناس فرقتين إلّاجعلني اللَّه في خيرهما، فاخرجت من بين أبوي فلم يصبني شي ء من عهد الجاهليّة، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم حتّي انتهيت إلي أبي وامّي؛ فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً.

وحديث أبي نعيم وغيره: لم يزل اللَّه ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلي الأرحام الطاهرة مصفّي مهذّباً، لا يتشعّب شعبتان إلّاكنت في خيرهما.

في أحاديث كثيرة.

ومن أدلّة المقدّمة الثانية: ما أخرجه عبدالرزاق في المصنّف، وابن المنذر في تفسيره- بسند صحيح علي شرط الشيخين- عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: لم يزل علي وجه الأرض من يعبد اللَّه عليها.

وأخرج الإمام أحمد

بن حنبل في الزهد، والخلّال في كرامات الأولياء- بسند صحيح علي شرط الشيخين- عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه: ماخلت استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 310

الأرض من بعد نوح من شعبة يدفع اللَّه بهم عن أهل الأرض.

في آثار اخر.

وإذا قرنت بين هاتين المقدمتين، انتج منهما قطعاً: أنّ آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يكن فيهم شرك؛ لأنّه قد ثبت في كلّ منهم أنّه خير قرنه، فإن كان الناس الذين هم علي الفطرة هم آباؤه فهو المدّعي، وإن كان غيرهم وهم علي الشرك، لزم أحد الأمرين: إمّا أن يكون المشرك خيراً من المسلم، وهو باطل بنصّ القرآن والإجماع، وإمّا يكون غيرهم خيراً منهم، وهو باطل، لمخالفته الأحاديث الصحيحة.

فوجب قطعاً أن لا يكون فيهم مشرك، ليكونوا خير أهل الأرض، كلّ في قرنه» «1».

وقال ابن حجر بشرح:

«لم تزل في ضمائر الكون تختار لك الامّهات والآباء»

قال ما نصّه:

«تنبيه: لك أن تأخذ من كلام الناظم، الذي علمت أنّ الأحاديث مصرّحة به لفظاً في أكثره ومعني في كلّه: أنّ آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- غير الأنبياء- وامّهاته إلي آدم وحوّاء ليس فيهم كافر؛ لأنّ الكافر لا يقال في حقّه أنّه مختار ولاكريم ولا طاهر بل نجس كما في آية «إنّما المشركون نَجَسٌ».

وقد صرّحت الأحاديث السابقة بأنّهم مختارون، وأنّ الآباء كرام، وإنّ الامّهات طاهرات.

وأيضاً: فهم إلي إسماعيل كانوا من أهل الفترة، وهم في حكم المسلمين __________________________________________________

(1) الدرج المنيفة في الآباء الشريفة (ضمن الرسائل العشر): 32- 34.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 311

بنصّ الآية الآتية، وكذا من بين كلّ رسولين.

وأيضاً: قال تعالي: «وتقلّبك في الساجدين» علي أحد التفاسير فيه: أنّ المراد ينقل نوره من ساجد إلي ساجد. وحينئذٍ،

فهذا صريح في أنّ أبوي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- آمنة وعبداللَّه- من أهل الجنّة، لأنّهما أقرب المختارين له صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وهذا هو الحقّ، بل في حديث- صحّحه غير واحد من الحفّاظ ولم يلتفتوا لمن طعن فيه-: أنّ اللَّه تعالي أحياهما فآمنا به. خصوصيّة لهما وكرامة له عليه السلام.

فقول ابن دحية يردّه القرآن والإجماع، ليس في محلّه؛ لأنّ ذلك ممكن شرعاً وعقلًا، علي جهة الكرامة والخصوصيّة، فلا يردّه قرآن ولا إجماع.

وكون الإيمان لا ينفع بعد الموت. محلّه في غير الخصوصيّة والكرامة.

وقد صحّ أنّه عليه السلام ردّت عليه الشمس بعد مغيبها فعاد الوقت حتّي صلّي عليّ العصر أداء، كرامة له صلّي اللَّه عليه وسلّم، فكذا هنا، وطعن بعضهم في صحّة هذا بما لا يجدي أيضاً.

وخبر أنّه تعالي لم يأذن لنبيّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في الإستغفار لأبويه، إمّا كان قبل إحيائهما له وإيمانهما به، أو أنّ المصلحة اقتضت تأخير الإستغفار لهما عن ذلك الوقت، فلم يؤذن له فيه حينئذٍ.

فإن قلت: إذا قرّرتم أنّهما من أهل الفترة، وأنّهم لا يعذّبون، فما فائدة الإحياء؟

قلت: فائدته إتحافهما بكمال لم يحصل لأهل الفترة؛ لأنّ غاية أمرهم أنّهم الحقوا بالمسلمين في مجرّد السلامة من العقاب، وأمّا مراتب الثواب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 312

العليّة فهم بمعزل عنها، فاتحفا بمرتبة الإيمان زيادة في شرف كمالهما لحصول تلك المراتب لهما. وفي هذا مزيد ذكرته في الفتاوي.

ولا يرد علي الناظم آزر، فإنه كافر مع أنّ اللَّه تعالي ذكر في كتابه العزيز أنّه أبو إبراهيم صلوات اللَّه وسلامه عليه، وذلك لأنّ أهل الكتابين أجمعوا علي أنّه لم يكن أباً حقيقة وإنّما كان عمّه، والعرب تسمّي العمّ أباً، بل في القرآن ذلك، قال

تعالي: «وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل» مع أنّه كان عمّ يعقوب، بل لو لم يجمعوا علي ذلك وجب تأويله بهذا جمعاً بين الأحاديث، وأمّا من أخذ بظاهره- كالبيضاوي وغيره- فقد تساهل واستروح» «1».

هذا، والأعجب من ذلك كلّه: قدح جماعة من أئمّتهم في نسب النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، بدعوي أنّ كنانة زوجة خزيمة قد مكَّنت أباها من نفسها، فكان النضر بن كنانة، وهو من أجداده صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم …

أعاذنا اللَّه من الإفتراء والبهتان والإرتباك في العمي والخذلان، وتفصيل هذه القصّة الشنيعة في (الروض الأنف) و (المعارف) وغيرهما من كتب القوم «2».

تنبيه حول رأي الرازي … ص: 312

قد تقدَّم في كلام السيوطي وابن حجر المكي: أنّ الفخر الرازي من القائلين بإسلام آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وأنّ السيوطي والقسطلاني نقلا ذلك عنه في كتابه (أسرار التنزيل)، فاقتضي ذلك مراجعة الكتاب المذكور، ومراجعة (التفسير الكبير).

__________________________________________________

(1) المنح المكيّة- شرح القصيدة الهمزيّة: 25- 26.

(2) الروض الانف 2: 356- 357، المعارف لابن قتيبة: 130.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 313

أمّا في (التفسير الكبير) فقد وجدنا الرازي- وللأسف الشديد- يحاول إثبات القول المخالف للحق، فكان من الضروري الوقوف علي كلامه في (أسرار التنزيل) لمعرفة مدي صحّة ما نسبوا إليه، حتّي عثرنا عليه فوجدناه كذلك، فإنّه ينقل القول الحقّ الصحيح ثمّ يردّ عليه بزعمه، غير أنّه في (التفسير الكبير) ينسب القول الحق والإستدلال عليه إلي الإماميّة بصراحةٍ، أمّا في (أسرار التنزيل) فيذكر في والد سيّدنا إبراهيم عليه السلام قولين- بلا نسبةٍ لأحد- أحدهما: كون آزر والده، والآخر: أنّه لم يكن والده … فأورد للاستدلال علي هذا القول ما نقله السيوطي وغيره عنه … ثمّ جعل يردّ عليه … وكأنّ السيوطي لم يلحظ

آخر كلامه، فنسب إليه القول بالحق، والحال أنّه ليس كذلك.

وإليك نصّ كلامه في (التفسير الكبير):

«قالت الشيعة: أنّ أحداً من آباء الرسول وأجداده ما كان كافراً، وأنكروا أن يقال أنّ والد إبراهيم كان كافراً، وذكروا أنّ آزر كان عمّ إبراهيم عليه السلام وما كان والداً له، واحتجّوا علي قولهم بوجوه:

الحجّة الاولي: إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفّاراً، ويدلّ عليه وجوه: منها قوله تعالي: «الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين» «1»

قيل: معناه أنّه كان ينقل روحه من ساجد إلي ساجد، وبهذا التقرير فالآية دالّة علي أنّ جميع آباء محمّد عليه السلام كانوا مسلمين، وحينئذٍ، يجب القطع بأنّ والد إبراهيم كان مسلماً.

فإن قيل: «وتقلّبك في الساجدين» يحتمل وجوهاً اخري:

__________________________________________________

(1) سورة الشعراء 26: 218- 219.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 314

أحدها: أنّه لمّا نسخ فرض قيام اللّيل، طاف الرسول عليه السلام تلك اللّيلة علي بيوت أصحابه لينظر ماذا يصنعون، لشدّة حرصه علي ما يظهر منهم من الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير، لكثرة ما يسمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم، فالمراد من قوله «وتقلّبك في الساجدين» طوافه صلوات اللَّه عليه تلك اللّيلة علي الساجدين.

وثانيها: المراد أنّه عليه السلام كان يصلّي بالجماعة، فتقلّبه في الساجدين معناه: كونه فيما بينهم ومختلطاً بهم حال القيام والركوع والسجود.

وثالثها: أن يكون المراد أنّه لا يخفي حالك علي اللَّه كلّما قمت وتقلّبت مع الساجدين في الاشتغال بامور الدين.

ورابعها: المراد تقلّب بصره فيمن يصلّي خلفه، والدليل عليه قوله عليه السلام: أتمّوا الركوع والسجود فإنّي أراكم من وراء ظهري.

فهذه الوجوه الأربعة ممّا يحتملها ظاهر الآية، فسقط ما ذكرتم.

والجواب: لفظ الآية محتمل للكلّ، وليس حمل الآية علي البعض أولي من حملها علي الباقي، فوجب أن نحملها علي الكلّ،

وحينئذٍ حصل المقصود.

وممّا يدلّ أيضاً علي أنّ أحداً من آباء محمّد عليه السلام ما كان من المشركين: قوله عليه السلام: «لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلي أرحام الطاهرات»، وقال تعالي: «إنّما المشركون نَجَسٌ» «1»

وذلك يوجب أن يقال:

أنّ أحداً من أجداده ما كان من المشركين.

إذا ثبت هذا فنقول: ثبت بما ذكرنا أنّ والد إبراهيم عليه السلام ما كان __________________________________________________

(1) سورة التوبة 9: 28.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 315

مشركاً، وثبت أنّ آزر كان مشركاً، فوجب القطع بأنّ والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر …

وأمّا أصحابنا، فقد زعموا أنّ والد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان كافراً، وذكروا أنّ نصّ الكتاب في هذه الآية يدلّ علي أنّ آزر كان كافراً، وكان والد إبراهيم عليه السلام، وأيضاً: قوله تعالي: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه» «1»

إلي قوله «فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ للَّه تبرّأ منه» «2»

وذلك يدلّ علي قولنا. وأمّا قوله «وتقلّبك في الساجدين» قلنا: قد بيّنّا أنّ هذه الآية تحتمل سائر الوجوه، قوله: تحمل هذه الآية علي الكل، قلنا: هذا محال، لأنّ حمل اللفظ المشترك علي جميع معانيه لا يجوز، وأيضاً: حمل اللفظ علي حقيقته ومجازه معاً لا يجوز.

وأمّا قوله عليه السلام: لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلي أرحام الطاهرات، فذلك محمول علي أنّه ما وقع في نسبه ما كان …» «3».

وقال في (أسرار التنزيل):

«أمّا قوله تعالي «وإذ قال إبراهيم لأبيه» «4»

ففيه مسائل:

المسألة الاولي: في آزر قولان:

الأوّل: إنّه والد إبراهيم عليه السلام، ولهم في ذلك دلائل:

الحجّة الاولي: ظاهر لفظ القرآن في هذه الآية يدلّ علي ذلك، ثمّ إنّ ظاهر هذه الآية متأكّد بآيات اخري، منها: قوله تعالي في سورة مريم: «إذ قال __________________________________________________

(1) سورة

التوبة 9: 114.

(2) سورة التوبة 9: 114.

(3) تفسير الرازي 13: 38- 40.

(4) سورة الأنعام 6: 74.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 316

لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر» «1»

وقال أيضاً: «ما كان استغفار إبراهيم لأبيه» إلي قوله: «فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للَّه تبرّأ منه»، فكلّ هذه الآيات تدلّ علي أنّ أبا إبراهيم كان كافراً عابداً للوثن.

الحجّة الثانية: إنّ العرب سمعوا هذه الآية، وقد كانوا أحرص الناس علي تكذيب الرسول وأعظمهم رغبة في براءة شجرة النسب عن كلّ عيب، فلو لم يكن آزر والد إبراهيم لتسارعوا إلي تكذيبه، ولوجدوا ذلك غنيمة عظيمة في الطعن فيه.

الحجّة الثالثة: إنّه تعالي ذكر قصّة إبراهيم عليه السلام مع أبيه في آيات كثيرة، ولم يذكر اسم العمّ في القرآن، فيتعذّر حمل لفظ الأب في هذه الآية علي العم.

القول الثاني: إنّ آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام. واحتجّوا عليه بوجوه:

الأوّل: إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفّاراً، ويدلّ عليه وجوه:

منها: قوله تعالي: «الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين» قيل:

معناه أنّه كان ينتقل روحه من ساجد إلي ساجد، وبهذا التقرير، فالآية دالّة علي أنّ جميع آباء محمّد عليه السلام كانوا مسلمين، وحينئذٍ، يجب القطع بأنّ والد إبراهيم ما كان من الكافرين، أقصي ما في الباب أن يحمل قوله تعالي «وتقلّبك في الساجدين» علي وجوه:

منها: إنّه لمّا نسخ فرض قيام الليل طاف الرسول عليه السلام تلك الليلة علي بيوت أصحابه لينظر ماذا يصنعون، لشدّة حرصه علي ما يظهر منهم من __________________________________________________

(1) سورة مريم 19: 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 317

الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير لكثرة ما يسمع من دندنتهم بذكر اللَّه، فالمراد من قوله «وتقلّبك في الساجدين» طوفه

عليه السلام علي الساجدين في تلك الليلة.

ومنها: المراد يراك حين تقوم للصّلاة بالناس جماعة، وتقلّبه في الساجدين: كونه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده؛ لأنّه كان إماماً.

ومنها: أنّه لا يخفي علي اللَّه حالك كلّما قمت وتقلّبت مع الساجدين، في الإشتغال بأمر الدين.

ومنها: المراد تقلّب بصره فيمن يصلّي خلفه من قوله: أتمّوا الركوع والسجود فإنّي أراكم من ورائي وخلفي.

فهذه الآية وإن كانت تحتمل هذه الوجوه الأربعة، إلّاأنّ الوجه الذي ذكرناه الآن أيضاً محتمل، والروايات وردت بالكلّ، ولا منافاة بين هذه الوجوه، فوجب حمل الآية علي الكلّ، ومتي صحّ ذلك ثبت أنّ والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان.

وممّا يدلّ علي أنّ آباء محمّد عليه السلام ما كانوا من المشركين: قوله عليه السلام: لم أزل أُنتقل من أصلاب الطاهرين إلي أرحام الطاهرات، وقال تعالي: «إنّما المشركون نجس»، فوجب أن لا يكون أحد من آبائه مشركاً.

الحجّة الثانية علي أنّ آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام: إنّ هذه الآية دالّة علي أنّ إبراهيم شافه آزر بالغلظة، ومشافهة الأب بالغلظة لا تجوز، وذلك يدلّ علي أنّ آزر ما كان والد إبراهيم. أما إنّ إبراهيم شافه آزر بالغلظة، فلوجهين:

الأوّل: إنّه قري ء «وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر» بضمّ آزر، وهذا يكون استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 318

محمولًا علي النداء، ومخاطبة الأب ونداؤه بالإسم من أعظم أنواع الجفاء.

الثاني: إنّه قال لآزر: «إنّي أراك وقومك في ضلال مبين» وهو من أعظم أنواع الإيذاء.

فثبت أنّه شافه آزر بالغلظة.

وإنّما قلنا أنّ مشافهة الأب بالغلظة لا يجوز، لوجوه:

الأوّل: قوله تعالي: «وقضي ربّك ألّا تعبدوا إلّاإيّاه وبالوالدين إحساناً» وهذا عام في حقّ الكافر والمسلم. وقال تعالي: «لا تقل لهما افٍّ ولا تنهرهما» وهذا أيضاً عام.

الثاني: إنّه

تعالي لمّا بعث موسي إلي فرعون أمره بالرفق معه، قال تعالي: «فقولا له قولًا ليّناً» والسبب في ذلك أن يصير هذا رعاية لحقّ تربية فرعون، فهاهنا الوالد أولي بالرفق.

الثالث: إنّ الدعوة مع الرفق أكثر تأثيراً في القلب، وأمّا التغليظ فإنّه ينفّر السامع عن القبول، ولهذا قال تعالي لمحمّد عليه السلام: «وجادلهم بالتي هي أحسن»، فكيف يليق بإبراهيم هذه الخشونة مع أبيه في وقت الدعوة.

الرابع: إنّه تعالي حكي عن إبراهيم عليه السلام الرفق الشديد مع هذا المسمّي بالأب، وهو قوله: «يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً»، ثمّ إنّ ذلك الإنسان غلظ معه في القول فقال: «لئن لم تنته لأرجمنّك»، ثمّ إنّ إبراهيم عليه السلام ما ترك الرفق معه بل قال: «سلام عليك سأستغفر لك ربّي»، فإذا كان عادة إبراهيم في الرفق والقول الحسن هذا، فكيف يليق أن يظهر الخشونة والغلظة مع أبيه؟

فثبت بهذه الحجّة أنّ آزر ما كان والد إبراهيم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 319

الحجّة الثالثة: إنّه جاء في كتب التواريخ: أنّ اسم والد إبراهيم عليه السلام تارخ، وأمّا آزر فهو كان عمّ إبراهيم.

ثمّ إنّ القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل أصحاب القول الأوّل فقالوا:

القرآن وإن دلّ علي تسمية آزر بالأب، إلّاأنّ هذا لا يدلّ علي القطع بكونه والداً له، وذلك، لأنّ لفظة الأب فقد تطلق علي العمّ، قال تعالي حكاية عن أولاد يعقوب: «نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل» فسمّوا إسماعيل أباً ليعقوب، مع أنّ إسماعيل كان عمّاً ليعقوب، وقال رسولنا عليه السلام: ردّوا علَيّ أبي. يعني العبّاس. وأيضاً: يحتمل أن يكون آزر كان أب ام إبراهيم، وهذا قد يقال له الأب، قال تعالي: «ومن ذرّيّته

داود وسليمان» إلي قوله: «وعيسي»، فجعل عيسي من ذرّيّة إبراهيم مع أنّه كان جدّه من قبل الامّ، وبهذا ظهر الجواب عن الحجّة الثانية، وذلك لأنّ تسمية العم بالأب مشهور في اللغة العربيّة، فلهذا السبب في هذه الآية ما كذّبوه.

هذا تمام هذا الكلام في نصرة هذا القول.

واعلم أنّ القول الأوّل أولي، وذلك لأنّ ظاهر لفظ الأب يدلّ علي الوالد.

أمّا التمسّك بقوله تعالي: «وتقلّبك في الساجدين» فهو محمول علي سائر الوجوه، ولا نحمله علي أنّ روحه كانت تنتقل من ساجد إلي ساجد، محافظة علي ظاهر الآية التي تمسّكنا بها وهو قوله «لأبيه آزر».

وأمّا الحجّة الثانية فجوابها: إنّكم تمسّكتم بعمومات دالّة علي أنّه لا يجوز إظهار الخشونة مع الأب فنقول: إن قلنا بما ذكرتم سَلِمَتْ تلك العمومات عن هذا التخصيص، إلّاأنّه وجب حمل لفظ الأب علي المجاز، وإن أجرينا لفظ الأب علي حقيقته، لزمنا إدخال التخصيص في تلك استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 320

العمومات، لكنّا بيّنّا في اصول الفقه إنّه مهما وقع التعارض بين المجاز والتخصيص، كان التزام التخصيص أولي، فكان الترجيح معنا» «1».

أقول:

وأمّا تشكيكات الرازي- المعروف بإمام المشكّكين- في استدلال أهل الحق بالآية «وتقلّبك في الساجدين» والحديث المذكور، فركيكة جدّاً.

أمّا في الآية فغاية ما قال: إنّ حمل اللفظ المشترك علي جميع معانيه غير جائز، كحمل اللفظ الواحد علي كلا معنييه الحقيقي والمجازي، وفيه:

أوّلًا: إنّه متي ورد بتفسير الآية المباركة رواية من أهل السنّة تثبت قول أهل الحق، صحّ الاستدلال بها، لمطابقتها روايات أهل البيت عليهم السلام واعتضادها بالأدلّة السديدة الاخري، وحينئذٍ، لا يلتفت إلي الأقوال والتفاسير الاخري للآية، ولا تكون قادحةً في هذا الاستدلال.

وقد عرفت من كلام السيوطي احتجاج الماوردي صاحب كتاب (الحاوي) بالآية علي

إسلام آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وكفي بذلك ردعاً للشبهات ودفعاً للتوهّمات.

وثانياً: إنّ إرادة المعاني المتعدّدة من اللفظ المشترك جائز عند الشافعي وهو إمام الفخر الرازي، بل لقد قال بوجوبه عند عدم المخصّص … وقد ذكر الرازي نفسه هذا القول عن الشافعي في كتابه الذي ألّفه في ترجيح مذهبه- أي الشافعي- علي سائر المذاهب، ودافع عنه ونصّ علي موافقة أجلّة الاصوليّين معه، وهذا نصّ عبارة الرازي:

«المسألة الرابعة: عابوا عليه قوله: اللفظ المشترك محمول علي جميع __________________________________________________

(1) أسرار التنزيل للفخر الرازي: 296- 272، الباب الثاني، الفصل الأوّل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 321

معانيه عند عدم المخصص. قالوا: والدليل علي أنّه غير جائز: أنّ الواضع وضعه لأحد المعنيين فقط، فاستعماله فيهما يكون مخالفةً للّغة.

وأقول: إنّ كثيراً من الاصوليّين المحقّقين وافقوه عليه، كالقاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبدالجبار بن أحمد، ووجه قوله فيه ظاهر، وهو أنّه لمّا تعذَّر التعطيل والترجيح لم يبق إلّاالجمع. وإنّما قلنا: إنّه تعذّر التعطيل، لأنّه تعالي إنّما ذكره للبيان والفائدة، والقول بالتعطيل إخراج له عن كونه بياناً، وإنّما قلنا: إنّه تعذّر الترجيح، لأنّه يقتضي ترجيح الممكن من غير مرجح وهو محال. ولمّا بطل القسمان لم يبق إلّاالجمع. وهذا وجه قويّ حسن في المسألة، وإنْ كنّا لا نقول به» «1».

فظهر: إنّ هذا القول قول إمامه الشافعي، وغير واحدٍ من الأئمّة موافقون له، والرازي يدافع عنه بوجهٍ قوي حسن.

وإذا كان الرازي لا يوافق عليه في (التفسير الكبير)، فهو موافق له في (أسرار التنزيل) حيث يقول:

«أمّا التمسّك بقوله تعالي: «وتقلّبك في الساجدين» فهو محمول علي سائر الوجوه، ولا نحمله علي أنّ روحه كانت تنتقل من ساجدٍ إلي ساجد» «2».

فإنّ معني الحمل علي سائر الوجوه

هو الحمل علي المعاني المتعدّدة.

وأمّا في الحديث- وهو قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: لم أزل انقل من أصلاب الطاهرين- فحاصل استدلال أهل الحق هو: إنّ اللَّه تعالي وصف المشركين بالنجاسة وهي ضدّ الطهارة، فلو كان آباؤه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم __________________________________________________

(1) رسالة الرازي في ترجيح مذهب الشافعي- المسألة الرّابعة.

(2) أسرار التنزيل: 272، الباب الثاني، الفصل الأوّل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 322

مشركين لما وصفهم بالطهارة، وإلّا لزم اجتماع الضدّين.

ولم يتعرَّض الفخر الرازي للجواب عن هذا الاستدلال، والحديث منقول بطرقٍ متعدّدة، فحاول تأويله بما لم يرتضه هو في (أسرار التنزيل) حيث لم يذكره أصلًا، وإنّما قال:

«وأمّا الحديث، فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن».

ولا يخفي وهن هذا الكلام … وكم من موردٍ قد رفعوا اليد فيه عن ظاهر القرآن بخبرٍ واحد!!

ثمّ إنّ عدم كون آزر والداً لسيّدنا إبراهيم عليه السلام ليس قول أهل الحق وحدهم، فقد وافقهم غير واحدٍ من أئمّة المفسّرين، كما ذكر السيوطي في (الدرج المنيفة).

هذا، ويعجبني في هذا المقام كلام شارح (مسلّم الثبوت)، فإنّه مع مرائه التام وتعصّبه الشديد الشائع بين الخاص والعام، أتي بما يجلو صدء الأفهام ويزيح ظلمة الشكوك والأوهام، حيث قال في (فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت):

«وأمّا الواقع، فالمتوارث من لدن آدم عليه السلام أبي البشر إلي نبيّنا ومولانا أفضل الرسل وأشرف الخلق محمّد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

أنّه لم يبعث نبيّ قطّ أشرك باللَّه طرفة عين، وعليه نصّ الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه في الفقه الأكبر، وفي بعض المعتبرات أنّ الأنبياء عليهم السلام معصومون عن حقيقة الكفر وعن حكمه بتبعيّة آبائهم، وعلي هذا، فلابدّ من أن يكون تولّد الأنبياء بين أبوين مسلمين أو يكون موتهما قبل

تولّدهم، لكن الشقّ الثاني قلّما يوجد في الآباء ولا يمكن في الامّهات، ومن هاهنا بطل ما نسب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 323

بعضهم من الكفر إلي امّ سيّد العالم مفخر بني آدم، صلوات اللَّه عليه وعلي آله وأصحابه وسلامه، وذلك لأنّه حينئذٍ يلزم نسبة الكفر بالتبع، وهو خلاف الإجماع، بل الحقّ الراجح هو الأوّل.

وأمّا الأحاديث الواردة في أبوي سيّد العالم صلوات اللَّه عليه وعلي آله وأصحابه وسلامه، متعارضة مرويّة آحاداً، فلا تعويل عليها في الإعتقاديّات.

وأمّا آزر، فالصحيح أنّه لم يكن أبا إبراهيم عليه السلام بل أبوه تارخ، كذا صحّح في بعض التواريخ، وإنّما كان آزر عمّ إبراهيم عليه السلام وربّاه اللَّه تعالي في حجره، والعرب تسمّي العم الذي ولي لتربية ابن أخيه أباً له، وعلي هذا التأويل قوله تعالي: «وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر»، وهو المراد بما روي في بعض الصحاح أنّه نزل في أبي سيّد العالم صلوات اللَّه عليه: «ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربي من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم»، فإنّ المراد بالأب العم، كيف لا؟ وقد وقع صريحاً في صحيح البخاري أنّه نزل في أبي طالب. هذا.

وينبغي أن يعتقد أنّ آباء سيّد العالم- صلّي اللَّه عليه وآله وأصحابه وسلّم- من لدن أبيه إلي آدم كلّهم مؤمنون، وقد بيّن السيوطي بوجه أتم» «1» إنتهي.

__________________________________________________

(1)

فواتح الرحموت- شرح مسلّم الثبوت- علي هامش المستصفي 2: 98.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 325

الصَّلاة علي غير النبي … ص: 325

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 327

قال الرازي في (التفسير الكبير):

«إنّ أصحابنا يمنعون من ذكر «صلوات اللَّه عليه» و «عليه السلام» إلّافي حق الرسول. والشّيعة يذكرونه في عليّ وأولاده. واحتجّوا عليه: بأنّ

نصّ القرآن دلّ علي أنّ هذا الذكر جائز في حقّ من يؤدّي الزكاة، فكيف يمنع ذكره في حقّ عليّ والحسن والحسين؟

ورأيت بعضهم يقول: أليس إنّ الرجل إذا قال: سلام عليكم، فقيل له:

وعليكم السلام، فدلّ هذا علي أنّ ذكر هذا اللفظ جائز في حقّ جمهور المسلمين، فكيف يمنع ذكره في حقّ أهل بيت الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم؟».

هل الصّلاة علي غير النبي من بدع الشيعة؟ … ص: 327

بل ذكر بعضهم أنّ هذا، أي الصّلاة علي غير الأنبياء، من بدع الشيعة، فتجب مخالفتهم، قال القاضي عياض:

«والذي ذهب إليه المحقّقون- وأميل إليه- ما قاله مالك وسفيان- رحمهما اللَّه- وروي عن ابن عبّاس، واختاره غير واحدٍ من الفقهاء والمتكلّمين: إنّه لا يصلّي علي غير الأنبياء عند ذكرهم، بل هو شي ء يختصّ به الأنبياء توقيراً لهم وتعزيزاً، كما يخصّ اللَّه عند ذكره بالتنزيه والتقديس والتعظيم، ولا يشاركه فيه غيره، وكذلك يجب تخصيص النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وسائر الأنبياء بالصلاة والتسليم، ولا يشارك فيه سواهم، كما أمر اللَّه به استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 328

بقوله تعالي: «صلّوا عليه وسلّموا تسليماً»، ويذكر من سواهم من الأئمّة وغيرهم بالغفران والرضا كما قال تعالي: «يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان» وقال: «والذين اتّبعوهم بإحسان رضي اللَّه عنهم».

وأيضاً: فهو أمر لم يكن معروفاً في الصدر الأوّل، كما قال أبو عمران، وإنّما أحدثته الرافضة والمتشيّعة في بعض الأئمّة، فشاركوهم عند الذكر لهم بالصّلاة، وساووهم بالنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في ذلك.

وأيضاً، فإنّ التشبّه بأهل البدع منهيّ عنه، فتجب مخالفتهم فيما التزموه» «1».

أقول:

الأحاديث المتفق عليها في أمر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالصّلاة علي أهل بيته مع الصّلاة عليه، ونهيه عن الصّلاة البتراء … كثيرة … «2»، بل مقتضي قوله

تعالي: «وَصَلِّ عليهم إنّ صلاتك سَكَنٌ لهم» هو جواز الصلاة- بمعني طلب الرحمة- لسائر المسلمين المستحقّين لذلك، والذين هم أهل للدعاء لهم …

لكنّ من نفس هذه الكلمات يظهر أنْ ليس هذا المنع منهم إلّاتعصّباً وعناداً لأهل البيت وشيعتهم … وإلّا، فأيّ معني للصّلاة علي الجارية المليحة وعلي كلّ مليح كما عن إمامهم يحيي بن معين!!

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 191- 192.

(2) أخرجها البخاري ومسلم وسائر أرباب السنن والمسانيد والمفسّرون بتفسير الآية «إنّ اللَّه وملائتكه يصلّون علي النبي …» ولعلّ أجمعها (الدر المنثور 5: 215- 219) وفي (الصواعق) بذيل الآية: ويروي: لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال تقولون: اللهمّ صلّ علي محمّد، وتمسكون، بل قولوا: اللهمّ صلّ علي محمّد وآل محمّد.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 329

ويحيي بن معين يقول في جاريةٍ: صلّي اللَّه عليك! … ص: 329

قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس):

«وجاء محمّد بن طاهر المقدسي فصنّف لهم- أي للصوفيّة- صفة التصوّف، فذكر فيه أشياء يستحيي العاقل من ذكرها، وسنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء اللَّه تعالي. وكان شيخنا أبوالفضل ابن ناصر الحافظ يقول: كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة، قال: وقد صنّف كتاباً في جواز النظر إلي المرد، وأورد فيه حكاية عن يحيي بن معين: رأيت جاريةً بمصر مليحة صلّي اللَّه عليها، فقيل له: تصلّي عليها؟! فقال: صلّي اللَّه عليها وعلي كلّ مليح» «1».

لكنّ محمّد بن طاهر المقدسي عندهم من كبار الحفّاظ، وقد أثنوا عليه بالغ الثناء … «2»، فلماذا هذا التناقض؟

علي أنّ صلاة يحيي بن معين هذه رواها سائر الأكابر أيضاً، ففي (تهذيب الكمال):

«قال الحسين بن محمّد: سمعت يحيي بن معين، وذكر عنده حسن الجواري، قال: كنت بمصر، فرأيت جاريةً بيعت بألف دينار ما رأيت أحسن

منها صلّي اللَّه عليها. فقلت: يا أبا زكريا! مثلك يقول هذا؟ قال: نعم، صلّي اللَّه عليها وعلي كلّ مليح» «3».

__________________________________________________

(1) تلبيس إبليس: 190.

(2) انظر: سير أعلام النبلاء 19/ 361 ومصادر ترجمته في الهامش.

(3) تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 561/ 6926.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 330

وقال بعضهم في يزيد: عليه السلام!!! … ص: 330

والعجب أنّهم يقولون ليزيد بن معاوية «عليه السلام» ويجعلون إنكار ذلك دليلًا علي الترفّض!!

قال الصفدي بترجمة إبراهيم بن أبي بكر عبدالعزيز من (الوافي بالوفيات):

«وكان يترفَّض. قيل: إنّه جاء إليه إنسان في بعض الأيّام وقال له: هل عندك كتاب فضائل يزيد عليه السلام؟ فقال: نعم، ودخل إلي داخل الدكان وخرج وفي يده جراب عتيق وجعل يضربه علي رأسه ويقول: العجب كم لك ما قلت صلّي اللَّه عليه وسلّم، ويكرّرها» «1».

الأقوال والأدلّة كما ذكر ابن حجر … ص: 330

لكنّ القوم في حكم المسألة مختلفون، فعندهم قول بالجواز مطلقاً، وهو المحكي عن أحمد وأبي حنيفة وجماعة … قال ابن حجر في (فتح الباري):

«وأمّا المؤمنون فاختلف فيه:

فقيل: لا يجوز إلّاعلي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم خاصّة؛ حكي عن مالك كما تقدّم.

وقالت طائفة: لا يجوز مطلقاً استقلالًا ويجوز تبعاً فيما ورد به النصّ أو الحق به، لقوله تعالي: «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً»، ولأنّه لمّا علّمهم السلام قال: السلام علينا وعلي عباده الصالحين، ولمّا علّمهم الصلاة قصّر عليه وعلي أهل بيته؛ وهذا القول اختاره القرطبي في المفهم __________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات 5: 339/ 2407.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 331

وأبوالمعالي من الحنابلة، وقد تقدّم في تفسير سورة الأحزاب، وهو اختيار ابن تيميّة من المتأخّرين.

وقال طائفة: يجوز مطلقاً، وهو مقتضي صنيع البخاري، فإنّه صدّر بالآية وهو قوله تعالي: «وَصَلِّ عليهم»، ثمّ علّق الحديث الدالّ علي الجواز مطلقاً، وعقّبه بالحديث الدالّ علي الجواز تبعاً:

فأمّا الأوّل، وهو حديث عبداللَّه بن أبي أوفي، فتقدّم شرحه في كتاب الزكاة، ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عبادة أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم رفع يديه وهو يقول: اللّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك علي آل سعد بن عبادة؛ أخرجه أبو داود

والنسائي، وسنده جيّد.

وفي حديث جابر: إنّ امرأته قالت للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: صلّ علَيّ وعلي زوجي، ففعل؛ أخرجه أحمد مطوّلًا ومختصراً، وصحّحه ابن حبّان.

وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد، ونصّ عليه أحمد في رواية أبي داود، وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري، واحتجّوا بقوله تعالي: «هو الذي يصلّي عليكم وملائكته».

وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إنّ الملائكة تقول لروح المؤمن: صلّي اللَّه عليك وعلي جسدك.

وأجاب المانعون عن ذلك كلّه: بأنّ ذلك صدر من اللَّه ورسوله، ولهما أن يخصّا من شاءا بما شاءا، وليس ذلك لأحد غيرهما.

وقال البيهقي: يحمل قول ابن عبّاس بالمنع إذا كان علي وجه التعظيم، لا ما إذا كان علي وجه الدعاء بالرحمة والبركة.

وقال ابن القيّم: المختار أن يصلّي علي الأنبياء والملائكة وأزواج النبي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 332

صلّي اللَّه عليه وسلّم وآله وذرّيّته وأهل الطاعة، علي سبيل الإجمال، ويكره- في غير الأنبياء- لشخص مفرد بحيث يصير شعاراً، ولاسيّما إذا ترك في حقّ مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتّفق وقوع ذلك منفرداً في بعض الأحايين، من غير أن يتّخذ شعاراً، لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حقّ غير من أمر النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم بقول ذلك لهم، وهم من أدّي زكاته إلّا نادراً، كما في قصّة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة» «1».

بل لقد وضعوا في ذلك حديثاً، رواه المحبّ الطبري في (الرياض النضرة):

«عن يخامر السكسكي: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: اللّهمّ صلّ علي أبي بكر، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك، اللّهمّ صلّ علي عمر، فإنّه يحبّك ويحبُّ رسولك، اللّهمّ صلّ علي عثمان، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك، اللّهمّ صلّ

علي أبي عبيدة بن الجرّاح، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك، اللّهمّ صلّ علي عمرو بن العاص، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك.

أخرجه الخلعي» «2».

وهو حديث موضوع قطعاً، لوجوه:

منها: عدم ذكر أميرالمؤمنين عليه السلام فيه.

ومنها: ما ثبت من كون «عمرو بن العاص» مطعوناً في دينه، حتّي اعترف بذلك الدهلوي في (التحفة) وكان ملعوناً علي لسان النبي الامّي:

قال الحافظ أبو يعلي في (مسنده):

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح البخاري 11: 142/ باب هل يصلّي علي غير النبي؟

(2) الرياض النضرة 1: 229- 230/ 59 الباب الثالث.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 333

«ثنا علي بن المنذر، ثنا ابن فضيل، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن سليمان ابن عمرو بن الأحوص، عن أبي برزة قال: كنّا مع النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسمع صوت غناء فقال: انظروا ما هذا؟ فصعدت فنظرت، فإذا معاوية وعمرو بن العاص يغنّيان، فجئت فأخبرت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال:

اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً، اللّهمّ دعّهما إلي النّار دعّاً» «1».

وأخرجه أحمد في (مسنده) عن عبداللَّه بن محمّد عن أبي فضيل … «2».

وقال الطبراني في (المعجم الكبير):

«ثنا أحمد بن علي بن الجارود الأصبهاني، ثنا عبداللَّه بن سعيد الكندي، ثنا عيسي بن الأسود النخعي، عن ليث بن طاووس، عن ابن عبّاس قال: سمع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم صوت رجلين يغنّيان وهما يقولان …

فسأل عنهما فقيل له: معاوية وعمرو بن العاص.

فقال: اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً ودعّهما إلي النّار دعّاً» «3».

هذا، مع ماله من المطاعن الكثيرة، ككونه من المؤلّبين علي عثمان «4» وكمواقفه من أمير المؤمنين عليه السلام في صفين.

وهو أيضاً مطعون في نسبه …

فالحديث المذكور موضوع قطعاً …

وكذلك سائر الأحاديث الاخري الواردة في كتبهم في مدحه «5».

__________________________________________________

(1) مسند أبي

يعلي 13: 429- 430/ 7436، وفيه: «فلان وفلان»!!

(2) مسند أحمد بن حنبل 5: 580/ 19281، وفيه: «فلان وفلان»!!

(3) المعجم الكبير 11: 38/ 10970، وفيه التصريح باسمهما.

(4) الاستيعاب، بترجمته 3: 1187، وانظر ترجمة محمد بن أبي حذيفة، وعبد اللَّه بن أبي سرح.

(5) كنز العمّال 13: 548.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 335

الجبر والإختيار … ص: 335

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 337

هل أفعال العباد واقعة بقدرة الباري وحدها؟ … ص: 337

قد نسب هذه العقيدة إلي الأشاعرة علماء أهل السنّة وانتقدها بعضهم:

قال الشيخ كمال الدين السهالي- من كبار علماء الهند- في كتاب (العروة الوثقي) في مسألة الجبر والإختيار:

«فاعلم إنّ هاهنا مذاهب:

الأوّل: مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري من الشافعيّة: إنّ أفعال العباد واقعة بقدرته تعالي وحدها، وليس لهم تأثير، بل اللَّه سبحانه أجري عادته بأن يخلقها في العبد عندما كسبها، والمعني بكسب العبد لفعله مقارنته لقدرته وإرادته، وإنّما قدرته وإرادته منه تعالي كسائر مخلوقاته، فرجع قولهم إلي وجود القدرة الوهميّة مع الفعل، ولا مدخل للعبد في فعله إلّاكونه محلّاً له؛ فالفعل مخلوق اللَّه تعالي إبداعاً وإحداثاً مكسوب العبد فقط.

الثاني: مذهب أبي منصور الماتريدي من الحنفيّة، وهو بعينه مذهب الأشعري إلّاأنّهم قالوا: الكسب صرف القدرة إلي العزم المصمّم للفعل، فقالوا: إنّ للقدرة الكاسبة تأثيراً في العزم المذكور، ويخلق اللَّه تعالي الفعل عقيبه بالعادة.

فقال بعضهم: العزم من الأحوال وليس بموجود، فإحداثه ليس بخلق والإحداث أهون من الخلق، فحينئذٍ، لا حاجة إلي تخصيص النصوص الدالّة علي عموم الخلق منه تعالي، نحو «اللَّه خالق كلّ شي ء» و «خلقكم وما

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 338

تعملون».

وقال بعضهم: بل موجود، فيجب التخصيص بالعقل، لأنّه أدني ما يتحقّق به فائدة خلق القدرة، ويصحّ اتّجاه التكليف شرطاً.

الثالث: مذهب المعتزلة، وهو أنّها واقعة بقدرة العبد وحدها علي الاستقلال.

والرابع: ما قال جماعة أنّها بالقدرتين معاً.

والخامس: مذهب الحكماء وإمام الحرمين وأبي الحسين: أنّها واقعة علي سبيل الوجوب، بقدرة يخلقها اللَّه تعالي في العبد إذا قارنت الشرائط وارتفع الموانع، وليس ببعيد، لكنّه راجع بالأخرة إلي مذهب المعتزلة كما يظهر بالتأمّل.

وهاهنا مذهب سادس، وهو مذهب الجهميّة وهو: أنّه لا قدرة للعبد ولا

دخل له أصلًا، بل هو كالجماد، فمع أنّه سفسطة يلزم عدم اتجاه التكاليف الشرعيّة، فإنّ العقل يقطع بامتناع تعلّق العقاب بالفعل الواجب أو الممتنع من الفاعل، بل يلزم نسبة الظلم إليه، تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً و «إنّ اللَّه ليس بظلّامٍ للعبيد» و «لا يكلّف اللَّه نفساً إلّاوسعها».

والمذهب الرابع يوجب توارد المؤثّرين المتلازمين علي أثر واحد، إن أرادوا أنّ القدرتين مستقلّتان في التأثير، وإن أرادوا أنّ أحداهما مستقلّة بالفاعليّة والاخري من الشرائط، فيرجع إلي مذهب المعتزلة أو أحد الأوّلين.

إحتجّت المعتزلة: تارة بالنصوص الدالّة علي عموم نسبة الخلق إليه تعالي وقد مرّ، وتارة: بأنّه لولا استقلال العبد في أفاعيله، لبطل التكليف بالأمر والنهي، ولم يصحّ الثواب والعقاب والمدح والذم، بل ينتفي فائدة البعثة، لأنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 339

العبد حينئذٍ إمّا لا دخل له أصلًا، فيرجع إلي مذهب الجبريّة، وإمّا له دخل ناقص باعتبار أنّه محلّ القدرة الغير المؤثّرة التي خلق اللَّه تعالي الفعل فيه مقارناً إيّاها، فمناط ذلك الفعل وموجده وخالقه ليس إلّاهو، فإنّما عاقب علي ما خلقه، فذلك أيضاً يوجب تلك النسبة الباطلة.

والحلّ عنها علي طريق الحنفيّة: إنّ العبد لمّا كان كاسباً لفعله كما عرفت وسيجي ء تحقيقه كما هو، وأجري اللَّه عادته أن يخلق الفعل عقيبه ولا يخلق عند عدم كسبه، فذلك مناط العقاب، ولا يلزم إذن فساد اتّجاه التكليف، ومن هاهنا صحّ انتساب أفعال العباد إليهم، وذلك هو المناط في اللغة والعرف، لا يوجب أن يكون الفاعل خالقاً لفعله، نعم، يلزم الأشاعرة القائلين بالقدرة الوهميّة تلك النسبة الباطلة، ولذلك قيل إنّها كفؤ للجبر».

فقد صرّح بلزوم الظلم علي مذهب الأشاعرة.

وقال أيضاً:

«ولابدّ هاهنا من تمهيد مقدّمات:

منها: إنّ حسن الأفعال وقبحها عقلي،

علي المذهب المنصور، وهو مذهب أبي منصور الماتريدي، بناء علي بطلان الترجيح بلا مرجّح، فإن جعل بعض الأفعال مناطاً للثواب والمدح، والبعض الآخر مناطاً للعقاب والذم بلا موجب مرجّح من ذاتها، مستحيل قطعاً، والصانع الحكيم لا يرجّح المرجوح بل المساوي. وبالجملة: حكمة الأمر قاضية بأنّ تخصيصات الأفعال بثمراتها لابدّ لها من مرجّح من ذواتها، وقد بيّن في موضعه، وما أحسن ما قال الشيخ الأكبر محي الدين بن علي العربي في بعض مصنّفاته: لولم يكن للأفعال خصوصيّة داعية إلي ثمراتها المخصوصة بها، ويكون الأفعال التي علي هوي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 340

النفس والتي علي خلاف هواها سواسية في تعلّق ثمراتها بها، يلزم نسبة الظلم إليه، تعالي اللَّه عن ذلك، فإنّ الطّاعات الواجبة كلّها علي خلاف هوي النفس، ولذا قال عليه السّلام: أفضل العبادات أحمزها، بل الفعل خلاف الهوي عين الطاعة، والمعاصي كلّها علي وفاق هواها، بل وفاق الهوي نفس المعصية، وإذا كانت الطاعات متساوية النسبة في الواقع، بجعلها مناطاً للثواب والعقاب، وكذا المعاصي بجعلها مناطاً لها، فتحريم المعاصي بكفّ النفس عن الشهوات في الدنيا، وإيجاب الطاعات بقهر النفس فيها بلا ضرورة باعثة، ظلم، لأنّه حبس النفس عن الشهوات وإقحامها في القهر في الدنيا بلا فائدة، ولو عكس اللَّه الأمر لفاز العبد بالراحتين في الاولي والآخرة».

وهكذا قال صاحب (مسلّم الثبوت) وشارحه، وهما من أعاظم المحققين، فقد جاء في (فواتح الرحموت) ما نصّه:

«وعند أهل الحق، أصحاب العناية، الذين هم أهل السنّة، الباذلون أنفسهم في سبيل اللَّه بالجهاد الأكبر، له قدرة كاسبة فقط لا خالقة، لكن عند الأشعريّة من الشافعيّة ليس معني ذلك الكسب إلّاوجود قدرة متوهّمة يتخيّله الشخص قدرة مع الفعل بلا مدخليّة لها أصلًا

في شي ء، فعندهم إذا أراد اللَّه تعالي أن يخلق في العبد فعلًا، يخلق أوّلًا صفة يتوهّم أوّل الأمر إنّها قدرة علي شي ء، ثمّ يوجّه اللَّه تعالي إلي الفعل ثمّ يوجد الفعل، فنسبة الفعل إليه كنسبة الكتابة إلي القلم. قالوا: ذلك كاف في صحّة التكليف.

والحقّ: أنّه كفؤ للجبر، وهو ظاهر، فإنّه متي لم يكن في العبد قدرة حقيقة، فأيّ فرق بينه وبين الجماد» «1».

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت- شرح مسلّم الثبوت 1: 41.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 341

مذهب الأشعريّة عين مذهب الجهميّة … ص: 341

فهذا الكلام صريح في أنّ مذهب الأشعرية عين مذهب الجهميّة، وهو الجبر، وهذا عين السفسطة كما صرّح في (فواتح الرحموت):

«عند الجهميّة الذين هم الجبريّة حقّاً، لا قدرة للعبد أصلًا علي الكسب ولا علي الإيجاد، بل هو كالجماد الذي لا يقدر علي شي ء، وهذا سفسطة، فإنّ كلّ عاقل يعلم من وجدانه أنّ له نحواً من القدرة، والذي شجّعهم علي هذه السفسطة رواية نصوص خلق الأعمال، ولم يتعمّقوا فيها» «1».

وقال نظام الدين في (شرح مسلّم الثبوت):

«وعند أهل الحق، له أي للعبد، قدرة كاسبة، لكن عند الأشعريّة ليس معني ذلك، أي وجود القدرة الكاسبة له، إلّا وجود قدرة متوهّمة مع الفاعل بلا مدخليّة للعبد أصلًا، وحاصله: أنّ العبد ليس له قدرة ولا لا قدرة ولا دخل، بل بين الفعل والعبد ليس علاقة إلّاعلاقة المحليّة والحاليّة، كالسواد القائم بجسم غير مقتض له.

قالوا أي الأشعريّة: إنّ ذلك، أي وجود قدرة متوهّمة، كاف في التكليف.

والحقّ: إنّه كفؤ للجبر عند التحقيق، فهم وإن احترزوا عن الجبر لفظاً، لكن قلوبهم به مؤمنة، إذ ليس نسبة الفعل إلي العبد نسبة الفاعليّة ولا نسبة الشرطيّة، فلا علاقة بينهما، فالعبد كالسكين للَّه تعالي، وهذا هو الجبر حقيقة.

ثمّ اكتفاؤهم بهذه القدرة

التي اخترعوها في التكليف أيضاً غير معقول، لكن يتأتي علي أصلهم، فإنّ تكليف العاجز جائز عندهم، ثمّ إنّهم وإن قالوا بجواز

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت 1: 40.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 342

تكليف الإنسان بما لا يطيقه لكن منعوا وقوعه، ولم يدروا أنّ كلّ تكليف فإنّه تكليف بالمحال، فإنّه لا فرق بين إيجاب الحركة علي المرتعش وبين إيجابه علي غيره، وكذا النهي للأعمي عن البصر ونهي الكفّار عن الكفر، ولا يعرّج عليه عاقل، واعتذر عنه بما لا ينفع».

كلمات ابن تيميّة في المسألة … ص: 342

ومن جملة من حطّ علي مذهب الأشاعرة، وردّ عليه بشدّةٍ، هو: ابن تيميّة الحرّاني، إذ قال في جواب العلّامة الحلّي رحمه اللَّه:

«جمهور أهل السنّة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون: إنّ العبد فاعل حقيقة، وإنّ له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعيّة، بل يقرّون بما دلّ عليه العقل، من أنّ اللَّه تعالي يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء من السحاب، وينبت النبات بالماء، ولا يقولون أنّ قوي الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يقرّون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعني، حتّي جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالي: «ونكتب ما قدّموا وآثارهم»، وإن كان التأثير أعمّ منه في الآية، لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبّباتها، واللَّه تعالي خالق السبب والمسبّب، ومع أنّه خالق السبب فلابدّ له من سبب آخر يشاركه، ولابدّ له من معارض يمانعه، فلا يتمّ أثره إلّامع خلق اللَّه له لا به، بأن يخلق اللَّه تعالي السبب الآخر ويزيل الموانع.

ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر، كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوي الطبائع، ويقولون إنّ اللَّه

تعالي فعل عندها لا بها، ويقولون إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، وأبلغ من ذلك قول الأشعري: إنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 343

اللَّه فاعل فعل العبد، وإنّ عمل العبد ليس فعلًا للعبد بل كسباً له، وإنّما هو فعل اللَّه تعالي فقط، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف علي خلاف ذلك، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، واللَّه أعلم» «1».

«وأمّا قوله: وإنّ اللَّه تعالي يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة.

فهذا قول طائفة منهم، وهم الذين يوافقون القدريّة، فيجعلون المشيّة والإرادة والمحبّة والرضا نوعاً واحداً، ويجعلون المحبّة والرضا والغضب بمعني الإرادة، كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه، وطائفة ممّن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.

وأمّا جمهور أهل السنّة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري، فيفرّقون بين الإرادة والمحبّة والرضا، فيقولون إنّه وإن كان يريد المعاصي فهو سبحانه لا يحبّها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهي عنها، وهؤلاء يفرّقون بين مشيّة اللَّه تعالي وبين محبّته، وهذا قول السلف قاطبة، وقد ذكر أبوالمعالي الجويني أنّ هذا قول القدماء من أهل السنّة، وأنّ الأشعري خالفهم، فجعل الإرادة هي المحبّة فيقولون، ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، فكلّما شاءه فقد خلقه» «2».

وإذا كان اللَّه- والعياذ باللَّه- يرضي بأنواع المعاصي وأقسام الظلم والضلال، فلا ريب في نسبة الظلم إليه سبحانه وتعالي …

وفي (منهاج السنّة) أيضاً:

«والقول الثاني: إنّ الظلم مقدور واللَّه تعالي منزّه عنه، وهذا قول __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1: 382- 383.

(2) منهاج السنة 1: 383- 384.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 344

الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته، وهو قول كثير من النظّار المثبتة للقدر، كالكراميّة

وغيرهم، وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو قول القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلي وغيره، وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره، كما قال اللَّه تعالي «فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً»، وهؤلاء يقولون: الفرق بين تعذيب الإنسان علي فعله الإختياري وغير فعله الإختياري مستقر في فطر العقول، فإنّ الإنسان لو كان له في جسمه برص أو عيب خلق فيه، لم يستحسن ذمّه ولا عقابه علي ذلك، ولو ظلم ابنه أحد يحسن عقابه علي ذلك، ويقولون:

الإحتجاج بالقدر علي الذنوب ممّا يعلم بطلانه بضرورة العقل، فإنّ الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتجّ ظالمه أيضاً بالقدر، فإن كان القدر حجّة لهذا فهو حجّة لهذا وإلّا فلا، والأوّلون أيضاً يمنعون الإحتجاج بالقدر، فإنّ الإحتجاج به باطل باتّفاق أهل الملل وذوي العقول، وإنّما يحتجّ به علي القبائح والمظالم من هو متناقض القول متّبع لهواه كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري … مذهب وافق هؤلاء تمذهبت به، ولو كان القدر حجّة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحدٌ أحداً، ولا يعاقب أحدٌ أحداً، وكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح، ويحتجّ بأنّ ذلك مقدّرٌ عليه» «1».

وقال ابن تيمية:

«بقي الخلاف بين القدريّة الذين يقولون أنّ الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيّة من اللَّه ولا قدرة، وبين الجهميّة المجبّرة الذين يقولون: إنّ __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1: 387.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 345

الداعي قدرة العبد ولا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه، وإنّ العبد ليس فاعلًا لفعله، كما يقول ذلك جهم بن صفوان إمام المجبّرة ومن اتّبعه، وإن

أثبت أحدهم كسباً لا يعقل كما أثبته الأشعري ومن وافقه، وإذا كان هذا النزاع في هذا الأصل بين القدريّة النفاة لكون اللَّه يعين المؤمنين علي الطاعة، ويجعل فيهم داعياً إليها ويخصّهم بذلك دون الكافر، وبين المجبّرة الغلاة الذين يقولون إنّ العباد لا يفعلون شيئاً ولا قدرة لهم علي شي ء، أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئاً ولا تأثير لها في شي ء، فكلا القولين باطل».

ثمّ قال بعد كلامٍ له:

«وهذا حقيقة مذهب أهل السنّة الذين يقولون: إنّ اللَّه خالق الأشياء بالأسباب واللَّه خلق العبد وقدرة يكون بها فعله، فإنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، فقولهم في خلق فعل العبد بإرادة وقدرة كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها، ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوي التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي بها يكون الفعل ويقول: إنّه لا أثر لقدرة العبد أصلًا في فعله، كما يقول ذلك من يقول بقول جهم وأتباعه والأشعري ومن وافقه، وليس قول هؤلاء قول أئمة السنّة ولا جمهورهم، بل أصل هذا القول هو قول جهم بن صفوان، فإنّه كان يثبت مشيّة اللَّه تعالي وينكر أن يكون له حكمة أو رحمة، وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثّرة، وحكي عنه أنّه كان يخرج إلي الجذماء ويقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟ إنكاراً لأن تكون له رحمة يتّصف بها، وزعماً منه أنّه ليس إلّامشيّة محضة لا اختصاص لها بحكمة، بل يرجّح أحد المتماثلين بلا مرجّح، وهذا قول طائفة من المتأخّرين، وهؤلاء يقولون أنّه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة، وأنّه ليس في القرآن لام كي لا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 346

في خلق اللَّه ولا في أمره، وهؤلاء الجهميّة المجبّرة هم والمعتزلة والقدريّة في

طرفين متقابلين، وقول سلف الامّة وأئمة السنّة وجمهورها ليس قول هؤلاء، وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم» «1».

وقال:

«ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر علي أنّ اللَّه لا يفعل شيئاً لحكمة ولا لسبب، وأنّه لا فرق بالنسبة إلي اللَّه بين المأمور والمحظور، ولا يحب بعض الأفعال ولا يبغض بعضها، فقوله فاسد، مخالف للكتاب والسنّة واتّفاق السلف، وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه، لاسيّما إذا قال من قال منهم أنّ تنزيهه عن النقص لم يعلم بالعقل بل بالسمع، فإذا قيل لهم: لم قلتم إنّ الكذب ممتنع عليه؟ قالوا: لأنّه نقص والنقص عليه محال، فيقال لهم: عندكم أنّ تنزيهه عن النقص لم يعلم إلّابالإجماع، ومعلوم أنّ الإجماع منعقد علي تنزيهه عن الكذب، فإن صحّ الإحتجاج علي هذا بالإجماع، فلا حاجة إلي هذا التطويل.

وأيضاً: فالكلام إنّما هو في العبارة الدالّة علي هذا المعني، وهذا كما قاله بعضهم: إنّه لا يجوز أن يتكلّم بكلام ولا يعني به شيئاً وقال خلافاً للحشويّة، ومعلوم أنّ هذا القول لم يقله أحد من المسلمين، وإنّما النزاع في أنّه هل يجوز أن ينزّل كلاماً لا يعلم العباد معناه، لا أنّه هو في نفسه لا يعني به شيئاً، ثمّ بتقدير أن يكون في هذا نزاع، فإنّه احتجّ علي ذلك بأنّه عيب والعيب علي اللَّه ممتنع، وهذا المحتجّ يجوّز علي اللَّه فعل كلّ شي ء، لا ينزّهه عن فعل هذا.

وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهميّة الجبريّة في القدر كثير، لكن ليس __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1: 391.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 347

هذا قول أئمة السنّة ولا جمهورهم».

وذكر ابن تيمية في الجواب عن لزوم عدم الرضا بقضاء اللَّه- بناءً

علي قول أهل السنّة- ثلاثة وجوه، ثمّ قال:

«وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو: إنّا لا نرضي بالقضاء لا بالمقضي، وقد أجاب بعضهم بجوابٍ آخر: إنّا نرضي بها من جهة كونها خلقاً، ونسخطها من جهة كونها كسباً، وهذا يرجع إلي الجواب الثالث، لكن في إثبات الكسب إذا لم يجعل العبد فاعلًا فيه كلام قد ذكر في غير هذا الموضع، فالذين جعلوا العبد كاسباً غير فاعل- من أتباع جهم بن صفوان وحسين النجار كأبي الحسن وغيره- كلامهم متناقض، ولهذا لم يمكنهم أن يذكروا في بيان هذاالكسب والفرق بينه وبين الفعل كلاماً معقولًا، بل تارة يقولون: هو المقدور بالقدرة الحادثة، وتارة يقولون: ما قام بمحلّ القدرة أو بمحلّ القدرة الحادثة، وإذا قيل لهم: ما القدرة الحادثة؟ قالوا: ما قامت بمحلّ الكسب ونحو ذلك من العبارات التي تستلزم الدور، ثمّ يقولون: معلوم بالإضطرار الفرق بين حركة المختار وحركة المرتعش، وهذا كلام صحيح، لكنّه حجّة عليهم لا لهم» «1».

وقال بعد كلامٍ له:

«والمقصود هنا التنبيه علي أصل القدريّة، فإنّ حقيقة قولهم أنّ أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل، كما أن أصل قول الدهريّة الفلاسفة أنّ حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث بلا سبب محدث، وكذلك قول من وافق القدريّة من أهل الإثبات علي أنّ الربّ تعالي لا يقوم به الأفعال وقال: إنّ الفعل هو

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2: 59- 60.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 348

المفعول والخلق هو المخلوق كما يقول الأشعري ومن وافقه، فإنّه يلزمه في فعل الذم ما لزم القدريّة، ولهذا عامّة شناعات هذا القدري الرافضي علي هؤلاء، وهؤلاء طائفة من المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيديّة والإماميّة وغيرهم، وقولهم- علي

كلّ حال- أقلّ من قول القدريّة، بل أصل خطئهم موافقتهم للقدريّة في بعض خطئهم، وأئمة السنّة لا يقولون بشي ء من هذا الخطأ.

ولذلك، جماهير أهل السنّة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوّف لا يقولون بهذه الأقوال المتضمّنة الخطأ» «1».

وقال في الجواب عن لزوم عدم الفرق بين الأفعال الإختيارية والإضطرارية بناءً علي مذهبهم:

«والجواب: إنّ هذا إنّما يلزم من يقول أنّ العبد لا قدرة له علي أفعاله الإختياريّة، وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من الطوائف من أهل السنّة، بل ولا من طوائف المثبتين للقدر، إلّاما يحكي عن جهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنّهم سلبوا العبد قدرته، قال: إنّ حركته كحركة الأشجار بالرياح، إن صحّ النقل عنهم.

وأشدّ الطوائف قرباً من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختياراً ويقول: إنّ الفعل كسب للعبد لكنّه يقول: لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور، فلهذا قال من قال: إنّ هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2: 31.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 349

وجمهور أهل الإثبات علي أنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار، وقدرته مؤثّرة في مقدورها، كما تؤثّر القوي والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب، فما ذكره لا يلزم جمهور أهل السنّة.

وقد قلنا غير مرّة: نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنّة من يقول الخطأ، لكن لا يتّفقون علي خطأ» «1».

وقال ابن تيميّة- بعد ذكر آياتٍ عديدة في ثبوت القدرة والإرادة للعبد:

«وقد أخبر أنّ العباد يفعلون ويصنعون ويعملون، ويؤمنون ويكفرون، ويتّقون ويفسقون، ويصدّقون ويكذبون، ونحو ذلك في مواضع، وأخبر أنّ لهم استطاعة وقوّة في غير موضع، وأئمة أهل السنّة

وجمهورهم يقولون: إنّ اللَّه خالق هذا كلّه، والخلق عندهم ليس هو المخلوق، فيفرّقون بين كون أفعال العباد مخلوقة مفعولة للرب، وبين أن يكون نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلًا فإنّها فعل للعباد بمعني المصدر، وليست فعلًا للربّ تعالي بهذا الاعتبار، بل هي مفعولة له، والرب تعالي لا يتّصف بمفعولاته.

ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرّق بين فعل الربّ ومفعوله ويقول مع ذلك أنّ أفعال العباد فعل اللَّه، كما يقول ذلك جهم بن صفوان وموافقوه والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة، ولهذا ضاق بهؤلاء البحث في هذا الموضع، كما قد بسط في موضعه.

وكذلك أيضاً لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسباباً وقويً وطبائع ويقولون: إنّ اللَّه يفعل عندها لا بها، فيلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2: 24.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 350

وإن أثبت قدرة ويقول: إنّها مقترنة بالكسب. قيل له: لم تثبت فرقاً معقولًا بين ما تثبته من الكسب ونفيت من الفعل، ولا بين القادر والعاجز إذا كان مجرّد الإقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإنّ فعل العبد يقارن جهله وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته، فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلّامجرّد الإقتران، فلا فرق بين القدرة وغيرها.

وكذلك قول من قال: القدرة مؤثّرة في صفة الفعل لا في أصله، كما يقول القاضي أبوبكر ومن وافقه، فإنّه إذا ثبت تأثير بدون خلق الربّ، لزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه اللَّه، وإن جعل ذلك معلّقاً بخلق الربّ فلا فرق بين الأصل والصّفة.

وأمّا أئمة السنّة وجمهورهم فيقولون ما دلّ عليه الشرع والعقل …» «1».

كلمات ابن القيّم في المسألة … ص: 350

وقد تبع ابن القيّم شيخه في الردّ والتشنيع علي مذهب الأشاعرة، فقال بتفسير قوله تعالي:

«وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون باللَّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة» ما نصّه:

«قد فسّر هذا الظنّ الذي لا يليق باللَّه عزّ وجلّ بأنّه سبحانه لا ينصر رسوله، وأنّ أمره سيضمحلّ وأنّه يسلّمه للقتل. وفسّر بعضهم أنّ ما أصابهم لم يكن بقضاء اللَّه وقدره ولا حكمة له فيه، ففسّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتمّ أمر رسوله ويظهره علي الدين كلّه، وهذا هو ظنّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون به سبحانه في سورة الفتح حيث يقول: «ويعذّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانّين باللَّه ظنّ السَّوء عليهم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2: 25.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 351

دائرة السَّوء وغضب اللَّه عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً»، وإنّما كان هذا ظنّ السوء وظنّ الجاهليّة، وهو الظنّ المنسوب إلي أهل الجهل وظنّ غير الحقّ، لأنّه ظنّ غير ما يليق بأسمائه الحسني وصفاته العليا وذاته المبرّأة من كلّ عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرّده بالربوبيّة والإلهيّة، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنّه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنّهم هم الغالبون، فمن ظنّ به أنّه لا ينصر رسوله ولا يتمّ أمره ولا يؤيّده ولا يؤيّد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم عليهم، وأنّه لا ينصر دينه وكتابه، وأنّه يديل الشرك علي التوحيد والباطل علي الحقّ، إدالة مستقرّة يضمحلّ معها التوحيد والحقّ اضمحلالًا لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنّ السوء، ونسبه إلي خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإنّ حمده وعزّته وحكمته وإلهيّته تأبي ذلك، وتأبي أن يذلّ حزبه وجنده، وأن يكون النصرة المستقرّة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظنّ به ذلك فما عرفه ولا عرف أسمائه وصفات وكماله.

وكذلك

من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيّته وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدّر ما قدّره من ذلك وغيره، لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحقّ الحمد عليها، وإنّ ذلك إنّما صدر عن مشيّة مجرّدة عن الحكمة وغاية مطلوبة هي أحبّ إليه من فوتها، وإنّ تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لانضمامها إلي ما يحبّ وإن كانت مكروهة له، فما قدّرها سديً ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلًا «ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النّار»، وأكثر النّاس يظنّون باللَّه غير الحقّ ظنّ السَوء فيما يختصّ بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 352

ذلك إلّامن عرف اللَّه وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حمده وحكمته.

فمن قنط من رحمته وأيس من روحه، فقد ظنّ به ظنّ السوء، ومن جوّز عليه أن يعذّب أوليائه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوّي بينهم وبين أعدائه، فقد ظنّ به ظنّ السَوء، ومن ظنّ أنّه يترك خلقه سديً معطّلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركه هملًا كالأنعام، فقد ظنّ به ظنّ السوء، ومن ظنّ أنّه لا يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسي ء بإساءته، ويبيّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلّهم صدقه وصدق رسله، وأنّ أعدائه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنّ به ظنّ السوء.

ومن ظنّ أنّه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم علي امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنّه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة له ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه

علي فعله هو سبحانه به، أو ظنّ به أنّه يجوز عليه أن يؤيّد أعدائه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيّد بها أنبيائه ورسله ويجريها علي أيديهم يضلّون بها عباده، وأنّه يحسن منه كلّ شي ء حتّي تعذيب من أفني عمره بطاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفع إلي أعلي عليّين، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا عرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلّابخبر صادق وإلّا فالعقل لا يقتضي قبح أحدهما وحسن الآخر، فقد ظنّ به ظنّ السوء» «1».

وقال صاحب (فواتح الرحموت): … ص: 352

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 3: 228- 230.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 353

«الشمعونيّة قالوا أوّلًا إن كان النسخ لحكمة ظهرت للنّاسخ الآن ولم تكن ظاهرة من قبل فبداء، أي فالنسخ بداء وجهل بعواقب الامور، وإلّا يكن لحكمة ظهرت فعبث، أي فهو عبث من غير فائدة. قلنا: المصلحة قد تتجدّد بتجدّد الأحوال، والحاكم كان يعلم في الأزل أنّ المصلحة تتجدّد، فإنّ الكلام فيما ليس بحسن ولا قبيح لذاته، وأمّا ما هو حسن لذاته وقبيح كذلك، فلا يقبل النسخ عندنا أيضاً، فلا بداء، فإن اريد بالظهور الظهور للحاكم بعد الجهل به، فنختار أنّه لم يظهر الآن بل كان ظاهراً له من الأزل، ولا يلزم العبث، فالملازمة الثانية ممنوعة، وإن اريد به الوجود في الفعل واتصافه به فلزوم البداء ممنوع، كيف؟ وإنّه كان يعلم من الأزل أنّه تتجدّد مصلحة فيه، علي أنّ الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري يختارون الشق الثّاني ويلتزمون عبثاً، فإنّهم لا يرون اشتمال أحكامه علي المصالح، لأنّ اللَّه تعالي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد» «1».

وقال أيضاً:

«مسألة: لا يجوز عند الحنفيّة والمعتزلة نسخ حكم فعل

لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط، كوجوب الإيمان وحرمة الكفر وسائر العقائد الباطلة، وقد مرّ من قبل.

إنْ قلت: الكلّ عند المعتزلة غير الجبّائية كذلك، لأنّ حسن كلّ فعل وقبحه عندهم لذات الفعل، وما بالذّات لا يتخلّف.

قلت: ما لغيره قد يغلب علي ما بذاته فيتخلّف عنه ما لذاته، كما في برودة الماء، وقد مرّ في المبادي الأحكاميّة.

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت 2: 56.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 354

ويجوز نسخ وجوب الإيمان وحرمة الكفر عند الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري ومنهم الشافعيّة، إذ لا حسن ولا قبح عندهم إلّاشرعاً، فالإيمان والكفر سيّان عندهم، وما أوجب الشرع فهو حسن، وما حرّم فهو حرام، ومن ثمّة جوّزوا نسخ جميع التكاليف عقلًا، إلّا الإمام حجّة الإسلام الغزالي قدّس اللَّه سرّه قال: يجب معرفة النسخ والناسخ وهو تكليف. قيل في جوابه: سلّمنا أنّه لابدّ من تلك المعرفة، ولا يجب علي المكلّف تحصيل تلك المعرفة، بل يجب علي اللَّه تعالي- عقلًا علي اصول أهل الاعتزال، أو عادة علي ما يقتضيه اصول أهل السنّة القامعين للبدعة كثّرهم اللَّه تعالي- تعريف الناسخ للعباد، تفضّلًا منه تعالي علي عباده، وإذا لم يجب علي المكلّف فلا تكليف به.

أقول: يجب علي المكلّف اعتقاد أنّ الناسخ خطاب من اللَّه تعالي، وإلّا أي وإن لم يجب، فهو يعمل بالمنسوخ، ولو عمل به لأثم قطعاً، فإنّ العمل بالمنسوخ حرام، فهذا العقد مطلوب منه وهو تكليف، فتدبّر.

واعترض عليه مطلع الأسرار الإلهيّة والدي قدّس سرّه: أمّا أوّلًا: فلأنّه لمّا فرض وجوب إعلام اللَّه تعالي انتساخ الحكم فلا يقرب إلي العمل به فلا يأثم، وإن عمل به مع هذا العلم فلا ينفع الوجوب عليه دفعاً لهذا الإثم، وأمّا ثانياً: فلأنّ الغرض انتفاء

التكاليف رأساً، لا بالإيجاب ولا بالتحريم، فلو فرض انتفاء هذه المعرفة والعمل بالمنسوخ لا يلزم الإثم، كيف؟ وصار حال هذه الأحوال حال انتفاء البعثة، فالأفعال كلّها علي الإباحة، فالعمل بالمنسوخ والناسخ سيّان فلا إثم. نعم، لو لم يكن هذه المعرفة وقع في تعب العمل بالأحكام المنسوخة من غير فائدة، فيلزم العبث، لكن لا يلزم منه وجوب هذه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 355

المعرفة، إذ لا استحالة عند الأشعريّة في إيقاع اللَّه تعالي عبيده في العبث.

فافهم» «1».

قال الرازي: يجوز إدخال اللَّه العبّاد في النار والكفّار في الجنّة … ص: 355

هذا، وقد نصَّ الفخر الرازي علي جواز إدخال اللَّه الزهّاد والعبّاد في النار، وهذه عبارته بتفسير قوله تعالي: «إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم»:

«مذهبنا أنّه يجوز من اللَّه تعالي أن يدخل الكفّار في الجنّة، وأن يدخل الزهّاد والعبّاد في النّار، لأنّ الملك ملكه، والملك يفعل في ملكه ما شاء، لا اعتراض لأحد عليه، فذكر عيسي هذا الكلام ومقصوده منه تفويض الامور كلّها إلي اللَّه وترك التعريض والإعتراض بالكليّة، ولذلك ختم الكلام بقوله: «فإنّك أنت العزيز الحكيم» «2»

يعني أنت قادر علي ما تريد، حكيم في كلّ ما تفعل، لا اعتراض لأحد عليك، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبيّة» «3».

هل يجوز التكليف بما لا يطاق؟ … ص: 355

وأمّا عبدالعزيز البخاري فقد قال في (كشف الأسرار):

«واعلم أنّ الأئمة قد اختلفوا في جواز التكليف بالممتنع، وهو المسمّي بتكليف ما لا يطاق؛ فقال أصحابنا رحمهم اللَّه: لا يجوز ذلك عقلًا، ولهذا لم يقع شرعاً. وقالت الأشعريّة: إنّه جائز عقلًا، واختلفوا في وقوعه. والأصحّ عدم الوقوع- إلي أن قال-

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت 2: 67- 68.

(2) سورة المائدة 5: 118.

(3) تفسير الرازي 12: 136.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 356

وتمسّك أصحابنا بأنّ تكليف العاجز عن الفعل بالفعل يعدّ سفهاً في الشاهد، كتكليف الأعمي بالنظر، فلا يجوز نسبته إلي الحكيم جلّ جلاله.

تحقيقه أنّ حكمة التكليف هو الإبتلاء عندنا، وإنّما يتحقّق ذلك فيما يفعله العبد باختياره فيثاب عليه، أو يتركه باختياره فيعاقب عليه، فإذا كان بحال لا يمكن وجود الفعل منه، كان مجبوراً علي ترك الفعل، فيكون معذوراً في الإمتناع، فلا يتحقّق معني الإبتلاء. ويعرف باقي الكلام في علم الكلام» «1».

تصريح الرازي بعقيدة الجبر … ص: 356

ونصّ الفخر الرازي علي عقيدة الجبر، قال بصحّتها ودافع عنها، بتفسير قوله تعالي: «لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها» قال:

«احتجّ أصحابنا بهذه الآية علي صحّة قولهم في خلق الأعمال فقالوا: لا شكّ أنّ أولئك الكفّار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلّقة بالدنيا، ولاشكّ أنّه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيّات، وآذانٌ يسمعون بها الكلمات، فوجب أن يكون المراد من هذه الآيةتقييدها بما يرجع إلي الدين، وهو أنّهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلي مصالح الدين، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلي مصالح الدين، وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت أنّه تعالي كلّفهم بتحصيل الدين، مع أنّ قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك، وهو يجري مجري المنع

عن الشي ء والصدّ عنه مع الأمر به، وذلك هو المطلوب.

قالت المعتزلة: لو كانوا كذلك لقبح من اللَّه تكليفهم، لأنّ تكليف من لا

__________________________________________________

(1) كشف الأسرار 1: 191- 192.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 357

قدرة له علي الفعل قبيح غير لائق بالحكيم، فوجب حمل الآية علي أنّ المراد منه: أنّهم- لكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الإلتفات إليها- صاروا مشبّهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا اذن سامعة.

والجواب: إنّ الإنسان إذا تأكّدت نفرته عن شي ء، صارت تلك النفرة المتأكّدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدالّ علي صحّة الشي ء، ومانعة عن إبصار محاسنه، ومانعة له عن سماع محاسنه وفضائله، وهذه حالة وجدانيّة ضروريّة يجدها كلّ عاقل من نفسه، ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور:

حبّك الشي ء يعمي ويصمّ، وإذا ثبت هذا فنقول: إنّ أقواماً من الكفّار بلغوا في عداوة الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم، وفي بغضه وفي شدّة النفرة عن قبول دينه والإعتراف برسالته، هذا المبلغ وأقوي منه، والعلم الضروري حاصل بأنّ حصول الحبّ والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان، بل هو حالة حاصلة في القلب، شاءه الإنسان أم كرهه.

إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّ حصول هذه العداوة والنفرة في القلب ليس باختيار العبد، وثبت أنّه متي حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب، فإنّ الإنسان لا يمكنه- مع تلك النفرة الراسخة الشديدة- تحصيل الفهم والعلم، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه. ونقل عن أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه خطبة في تقرير هذا المعني، وهو في غاية الحسن:

روي الشيخ أحمد البيهقي في كتاب مناقب الشافعي رحمة اللَّه عليه، عن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أنّه خطب الناس

فقال: وأعجب ما في الإنسان قلبه، فيه موادّ من الحكمة وأضدادها، فإن سنح له الرجاء أولهه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 358

الطمع، وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضي نسي التحفّظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع، وإن وجد مالًا أطغاه الغني، وإن عضّته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، فكلّ تقصير به مضرّ، وكلّ إفراط له مهلك.

وأقول: هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف، وهو كالمطلع علي سرّ مسألة القضاء والقدر، لأنّ أعمال الجوارح مربوطة بأعمال القلوب، وكلّ حالة من أحوال القلب فإنّها مستندة إلي حالة اخري حصلت، وإذا وقف الإنسان علي هذه الحالة علم أنّه لا خلاص من الإعتراف بالجبر.

وذكر الشيخ الغزالي رحمه اللَّه في كتاب الإحياء فصلًا في تقرير مذهب الجبر …» «1».

قال ابن تيميّة: الرازي من الجبريّة … ص: 358

هذا، وقد جاء في كلام ابن تيمية التصريح بكون الرازي والآمدي من الجبريّة، حيث قال:

«ثمّ المثبتون للصّفات، منهم من يثبت الصفات المعلومة بالسّمع، كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل، وهذا قول أهل السنّة الخاصّة أهل الحديث ومن وافقهم، وهو قول أئمّة الفقهاء وقول أئمّة الكلام من أهل الإثبات، كأبي محمّد بن كلاب، وأبي العبّاس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، وأبي عبداللَّه ابن مجاهد، وأبي الحسن الطبري، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني، ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أصحابه، لكن المتأخّرين من أتباعه-

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 15: 63- 64.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 359

كأبي المعالي وغيره- لا يثبتون إلّاالصفات العقليّة، وأمّا الجبريّة، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقّف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما …».

حديث الطينة ومعناه … ص: 359

ولا يتوهّم دلالة حديث الطينة المروي في كتب أصحابنا علي الجبر، فيكون منافياً لما ذهبوا إليه من قواعد العدل، لأنّ رواية الحديث الموهم لما تقرّر في المذهب خلافه، لا تجوّز نسبة مؤدّاها إلي الطائفة، وهذا القرآن الكريم، والآيات الموهمة للتجسيم والتشبيه وغير ذلك كثيرة فيه، فلو صحّ نسبة الإماميّة إلي الجبر لمجرّد خبر الطينة، صحّ نسبة التجسيم وغيره من المذاهب الفاسدة إلي أهل الإسلام.

وعلي الجملة، فإنّ مجرَّد رواية مثل هذا الحديث لا يصحّح نسبة الجبر إلي الأصحاب، بخلاف الأشاعرة الذين هم أئمّة أهل السنّة ومشايخهم، القائلين بنفي اختيار العباد وقدرتهم بكلّ صراحةٍ كالإمام الرازي وأمثاله.

وإنّ حديث الطينة المتضمّن ردّ حسنات المخالفين إلي الشيعة، وردّ سيئات الشيعة إلي المخالفين فيه جهتان: أمّا عدم ترتّب الأجر والثواب للمخالف علي أعماله الصالحة، فلأنّ قبول الأعمال منوط بالإيمان، ولمّا كان مخالفاً فاقداً للإيمان فلا أجر له. وأمّا ردّ الثواب والحسنة إلي أهل الحقّ فذاك بفضل اللَّه سبحانه

وإحسانه …

وأمّا ردّ معاصي الشيعة إلي المخالفين، فلعلّه لأنّ المخالفين- لمنعهم من ظهور بركات أهل البيت عليهم السلام في الناس، ومساعدتهم لأهل الظلم والجور والبغي، للإستيلاء والسلطة- كانوا هم السبب الحقيقي لصدور

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 360

المعاصي من الشيعة، فاللَّه سبحانه يجعل في يوم القيامة السيّئات الصادرة من الشيعة في صحائف المخالفين ويعذّبهم عليها …

وليس في شي ء من ذلك مخالفة لأيّ قاعدةٍ من قواعد العدل:

قال مولانا المجلسي- بعد حديث أبي إسحاق الليثي عن الإمام الهمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليهما السلام-:

«إعلم أنّ هذا الخبر وأمثاله ممّا يصعب علي القلوب فهمه وعلي العقول إدراكه، ويمكن أن يكون كنايةً عمّا علم اللَّه تعالي وقدّره من اختلاط المؤمن والكافر في الدنيا، واستيلاء أئمّة الجور وأتباعهم علي أئمّة الحقّ وأتباعهم، وعلم أنّ المؤمنين إنّما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم، وعدم تولّي أئمّة الحقّ لسياستهم، فيعذرهم بذلك ويعفو عنهم، ويعذّب أئمّة الجور وأتباعهم، بتسبيبهم لجرائم من خالطهم، مع ما يستحقّون من جرائم أنفسهم، واللَّه يعلم وحججه صلوات اللَّه عليهم» «1».

وهذا وجه صحيح لحلّ هذه الرواية.

ولهذه الرواية في كتب القوم نظائر، فقد أخرج الحاكم في (المستدرك):

«حدّثني علي بن جمشاد العدل، ثنا محمّد بن بشر بن مطر، ثنا عبيداللَّه ابن عمر القواريري، ثنا حرمي بن عمارة بن أبي حفصة، ثنا شداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبي موسي رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ليجيئنّ أقوام من امّتي بمثل الجبال ذنوباً فيغفرها اللَّه لهم ويضعها علي اليهود والنصاري. هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه.

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 5: 234/ الباب 10، الطينة والميثاق.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 361

وقد روي الحجاج بن نصير عن أبي طلحة بزيادات في متنه، حدّثنيه علي بن جمشاد، ثنا أبو مسلم ومحمّد بن غالب قالا: ثنا حجاج بن نصير، ثنا شدّاد بن سعيد عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: تحشر هذه الامّة علي ثلاثة أصناف:

صنف يدخلون الجنّة بغير حساب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً، وصنف يجرّون علي ظهورهم أمثال الجبال الراسيات، فيسأل اللَّه عن ذنوبهم وهو أعلم بهم فيقول: ما هؤلاء؟ فيقولون: هؤلاء عبيد من عبادك. فيقول: حطّوها عنهم واجعلوها علي اليهود والنصاري، وأدخلوهم برحمتي الجنّة» «1».

وفي (كنز العمال):

«امّتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عقاب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثمّ يدخلون الجنّة، وثلث يمحّصون ثمّ تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم يقولون لا إله إلّااللَّه وحده، ويقول اللَّه: صدقوا لا إله إلّا أنا، أدخلوهم الجنّة بقول لا إله إلّااللَّه، واحملوا خطاياهم علي أهل التكذيب، فهي التي قال اللَّه: «وليحملنّ أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم». ابن أبي حاتم، طب- عن عوف بن مالك.

تحشر هذه الامّة يوم القيامة علي ثلاثة أصناف: صنف يدخلون الجنّة بغير حساب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ويدخلون الجنّة، وصنف يجيئون علي حمائلهم بأمثال الجبال الراسيات ذنوباً، فيقول اللَّه عزّ وجلّ لملائكته وهو أعلم بهم: من هؤلاء؟ فيقولون: ربّنا، عبيد من عبيدك، وكانوا يعبدونك ولا يشركون بك شيئاً. فيقول: حطّوها، وضعوها علي اليهود

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 5: 359/ 7719- 7720 كتاب التوبة والإنابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 362

والنصاري، وأدخلوهم الجنّة برحمتي. طب، ك- عن أبي موسي» «1».

وفيه:

«ليجيئنّ أقوام من امّتي بمثل الجبال ذنوباً، فيغفر اللَّه لهم ويضعها

علي اليهود والنصاري. ك عن أبي موسي» «2».

وقد عقد السيوطي لهذه الأحاديث باباً في كتابه (البدور السافرة):

«بابٌ: أخرج الطبراني والحاكم وصحّحه عن أبي موسي قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: تحشر هذه الامّة يوم القيامة علي ثلاثة أصناف: فصنف يدخلون الجنّة بغير حساب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً، وصنف يجيئون علي حمائلهم كأمثال الجبال الراسيات، فيقول اللَّه تبارك وتعالي للملائكة وهو أعلم بهم: من هؤلاء؟ فيقولون: ربّنا، عبيد من عبيدك، كانوا يعبدونك ولا يشركون بك شيئاً وعلي ظهورهم الخطايا والذنوب.

فيقول: حطّوها عنهم وضعوها علي اليهود والنصاري، وأدخلوهم الجنّة برحمتي.

وأخرج ابن ماجة والطبراني عن أبي موسي قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا جمع اللَّه الخلائق يوم القيامة، أذن لُامّة محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم بالسجود، فيسجدون له طويلًا ثمّ يقال لهم: إرفعوا رؤوسكم، قد جعلنا عدّتكم فداء لكم من النار.

وأخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ هذه امّة مرحومة، عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلي كلّ __________________________________________________

(1) كنز العمّال 12: 169/ 34522 الباب السابع- في فضائل هذه الأمّة المرحومة.

(2) كنز العمّال 12: 171/ 34529 الباب السابع- في فضائل هذه الأمّة المرحومة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 363

رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال: هذا فداؤك من النّار.

وأخرج مسلم عن أبي موسي رفعه: يجي ء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها اللَّه لهم ويضعها علي اليهود والنصاري.

وأخرج أيضاً من وجه آخر بلفظ: إذا كان يوم القيامة دفع اللَّه إلي كلّ مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فداؤك من النار.

قال القرطبي: قال علماؤنا رحمهم اللَّه: هذه الأحاديث ليست علي عمومها، وإنّما

هي في اناس مذنبين، يتفضّل اللَّه تعالي عليهم برحمته، فأعطي كلّ واحد منهم فكاكاً من النّار من الكفّار» «1».

وربّما حاول بعض علمائهم تأويل الحديث:

قال القرطبي بعد العبارة السابقة:

«وأمّا معني قوله يضعها علي اليهود والنصاري: أنّه يضاعف عليهم عذاب كفرهم وذنوبهم، حتّي يكون عذابهم بقدر جرمهم وجرم مذنبي المسلمين لو اخذوا بذلك، لأنّه تعالي لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد كما قال:

«ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ اخري ، وله أن يضاعف لمن يشاء العذاب ويخفّف عمَّن يشاء، بحكم إرادته ومشيّته.

قال: وقوله في الرواية الاخري: لا يموت رجل منكم إلّاأدخل اللَّه مكانه يهوديّاً أو نصرانيّاً، معناه: أنّ المسلم المذنب لمّا كان يستحقّ مكاناً من النّار بسبب ذنوبه وعفا اللَّه عنه وبقي مكانه خالياً منه، أضاف اللَّه تعالي ذلك المكان إلي يهودي أو نصراني، ليعذّب فيه زيادة علي تعذيب مكانه الذي يستحقّه بحسب كفره، وقد جاءت أحاديث دالّة علي أنّ لكلّ مسلم مذنب كان __________________________________________________

(1) البدور السافرة عن امور الآخرة: 212- 214.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 364

أوّلًا منزلين: منزلًا في الجنّة ومنزلًا في النّار، وكذا الكافر، وذلك معني قوله:

«أولئكَ هم الوارثون» أي يرث المؤمنون منازل الكفّار من الجنّة والكفّار منازل المؤمنين في النّار، إلّاأنّ هذه الوراثة تختلف: فمنهم من يرث بلا حساب، ومنهم من يرث بحساب ومناقشة وبعد الخروج من النّار.

وقال البيهقي: يحتمل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كفّرت عنهم في حياتهم، أو في من اخرج من النّار، يقال لهم ذلك بعد الخروج.

وقال غيره: يحتمل أن يكون الفداء مجازاً، من وراثة المنزل التي تقدّمت الإشارة إليها، هذا ما رجّحه النووي وغيره.

وقيل: المراد بالذنوب التي توضع علي الكفّار ذنوب كان الكفّار سبباً فيها بأن سنّوها، فلمّا غفرت

سيّئات المؤمنين، بقيت سيّئات الذي سنّ تلك السنّة السيّئة باقية علي أربابها الكفرة؛ لأن الكفّار لا يغفر لهم، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنّه من عمله السيّي ء الذي عمل به المؤمن. قال ابن حجر: وهذا أقوي» «1».

وقال النووي في (شرح صحيح مسلم):

«بابٌ في سعة رحمة اللَّه المؤمنين وفداء كلّ مسلم بكافر من النّار: قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة دفع اللَّه تعالي إلي كلّ مسلم يهوديّاً أو نصرانيّاً فيقول: هذا فكاكك من النّار. وفي رواية: لا يموت رجل مسلم إلّا أدخل اللَّه مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً. وفي رواية: يجي ء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها اللَّه لهم ويضعها علي اليهود والنصاري.

__________________________________________________

(1) البدور السافرة عن امور الآخرة: 214.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 365

الفكاك- بفتح الفاء وكسرها، الفتح أفصح وأشهر- وهو الخلاص والفداء، ومعني هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة: لكلّ أحد منزل في الجنّة ومنزل في النّار، والمؤمن إذا دخل الجنّة خلفه الكافر في النّار، لاستحقاقه ذلك بكفره، ومعني فكاكك من النّار كنت تتعرّض لدخول النّار وهذا فكاكك، لأنّ اللَّه قدّر لها عدداً يملؤها، فإذا دخلها الكفّار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معني الفكاك للمسلمين.

وأمّا رواية يجي ء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب فمعناه: أنّ اللَّه تعالي يغفر الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم، ويضع علي اليهود والنصاري مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النّار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين، ولابدّ من هذا التأويل لقوله تعالي: «ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ اخري .

وقوله: ويضعها مجاز، والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرنا، لكن لمّا أسقط سبحانه وتعالي عن المسلمين سيّئاتهم وأبقي علي الكفّار سيّئاتهم، صاروا في معني

من حمل إثم الفريقين، لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو إثمهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاماً كان للكفّار سبب فيها بأن سنّوها، فتسقط عن المسلمين بعفو اللَّه تعالي ويوضع علي الكفّار مثلها، لكونهم سنّوها، ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه مثل وزر كلّ من عمل بها. واللَّه أعلم» «1».

هذا، وقد انتقد القرطبي في كتاب (التذكرة) إنكار من أنكر هذه الأحاديث فقال ما نصّه:

«أنكر بعض المتغفّلة، الذين اتّبعوا أهوائهم بغير هدي من اللَّه، إعجاباً برأيهم وتحكّماً علي كتاب اللَّه وسنّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، بعقول __________________________________________________

(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج 17: 85.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 366

ضعيفة وأفهام سخيفة فقالوا: لا يجوز في حكم اللَّه وعدله أن يضع سيّئات من اكتسبها علي من لم يكتسبها، ويؤخذ حسنات من عملها وتؤتي من لم يعملها، وزعموا هذا جوراً …

والجواب: أنّ اللَّه سبحانه لم يبن امور الدنيا علي عقول العباد، ولم يعد ولم يوعد علي ما تحتمله عقولهم ويدركونها بأفهامهم، بل وعد وأوعد بمشيّته وإرادته، وأمر ونهي بحكمته، ولو كان كلّما لا تدركه العقول مردوداً، كان أكثر الشرائع مستحيلًا علي موضوع عقول العباد، وذلك أنّ اللَّه أوجب الغسل بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الصحابة وكثير من الامّة، وأوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الامّة وسائر من يقول بالعقل وغيرهما في نجاسته وقذارته ونتنه، وأوجب بريح يخرج من موضع الحدث ما أوجب بخروج الغائط الكثير المتفاحش، فبأيّ عقل يستقيم هذا؟ أو بأيّ رأي يجب مساواة ريح ليس لها عين قائمة بما يقوم عينه ويزيد علي الريح نتناً وقذراً؟ وقد أوجب اللَّه قطع يمين مؤمن لعشرة دراهم وعند بعض الفقهاء

بثلاثة دراهم ودون ذلك، ثمّ سوّي بين هذا القدر من المال وبين مائة ألف دينار فيكون القطع فيها سواء، وأعطي الام من ولدها الثلث، ثمّ إن كان للمتوفي إخوة جعل لها السدس من غيرأن يرث الإخوة من ذلك شيئاً؟ فبأيّ عقل يدرك هذا؟ إلّاتسليماً وانقياداً من صاحب الشرع، إلي غير ذلك.

وكذلك القصاص بالحسنات والسيّئات» «1».

وأخرج مسلم:

__________________________________________________

(1) التذكرة في أحوال الموتي وأمور الآخرة: 310- 311/ باب القصاص يوم القيامة ممّن استطال في حقوق الناس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 367

«حدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة، ثنا أبو اسامة، عن طلحة بن يحيي، عن أبي بردة عن أبي موسي قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة دفع اللَّه إلي كلّ مسلم يهوديّاً أو نصرانيّاً فيقول: هذا فكاكك من النّار.

وحدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة، ثنا عفان بن مسلم، ثنا همام، ثنا قتادة: أنّ عوناً وسعيد بن أبي بردة حدّثناه أنّهما شهدا أبابردة يحدّث عمر بن عبدالعزيز، عن أبيه عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يموت رجل مسلم إلّا أدخل اللَّه مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً. قال: فاستحلفه عمر بن عبدالعزيز باللَّه الذي لا إله إلّاهو- ثلاث مرّات- أنّ أباه حدّثه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، قال: فحلف له. قال: فلم يحدّثني سعيد أنّه استحلفه، ولم ينكر علي عون قوله.

حدّثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمّد بن مثنّي جميعاً، عن عبدالصّمد بن عبدالوارث، أخبرنا همام، ثنا قتادة بهذا الإسناد نحو حديث عفّان وقال: عون ابن عتبة» «1».

وأخرج في (مسند أحمد):

«حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا أبوالمغيرة- وهو النضر بن إسماعيل يعني القاضي-، ثنا يزيد، عن أبي بردة، عن أبي موسي قال: قال رسول

اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة لم يبق مؤمن إلّااتي بيهوديّ أو نصرانيّ، حتّي يدفع إليه فيقال له: هذا فداؤك من النّار. قال أبو بردة:

فاستحلفني عمر بن عبدالعزيز باللَّه الذي لا إله إلّاهو، أسمعت أباموسي يذكره __________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4: 2119/ 2767 كتاب التوبة- باب (8) قبول توبة القائل وإن كثر قتله.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 368

عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قال: قلت: نعم، فسُرَّ بذلك» «1».

وأخرج:

«حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا عبدالصمد، ثنا همام، ثنا قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسي الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يموت مسلم إلّاأدخل اللَّه مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً.

حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا عبدالصمد، ثنا همام، ثنا قتادة، عن سعيد بن أبي بردة وعون بن عتبة حدّثاه: أنّهما شهدا أبابردة يحدّث عمر بن عبدالعزيز بهذا الحديث، فاستحلفه باللَّه الذي لا إله إلّاهو، أنّ أباه حدّثه أنّه سمع من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فلم ينكر ذلك سعيد علي عون أنّه استحلفه» «2».

وأخرج ابن ماجة:

«حدّثنا جبارة بن المغلس، حدّثنا عبدالأعلي بن أبي المساور، عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا جمع اللَّه الخلائق يوم القيامة أذن لُامّة محمّد في السجود، فيسجدون له طويلًا ثمّ يقول: إرفعوا رؤوسكم قد جعلنا عدّتكم فداءكم من النّار.

حدّثنا جبارة بن المغلس، حدّثنا كثير بن سليم، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ هذه الامّة مرحومة،

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 5: 549/ 19103.

(2) مسند أحمد 5: 531/ 18991- 18992.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص:

369

عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلي كلّ رجل من المسلمين رجلًا من المشركين فيقال: هذا فداؤك من النّار» «1».

وفي (جامع الاصول):

«إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يموت مسلم إلّاأدخل اللَّه مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً. قال: فاستحلف عمر بن عبدالعزيز أبابردة باللَّه الذي لا إله إلّاهو- ثلاث مرّات- أنّ أباه حدّثه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، قال: فحلف له» «2».

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 2: 1434/ 4291- 4292 كتاب الزهد- الباب (34) باب صفة أمّة محمّد.

(2) جامع الأصول 9: 194/ 6758 الباب الخامس من كتاب الفضائل والمناقب في فضل هذه الأمّة الإسلاميّة- النوع السادس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 371

هل يدخل ولد الزنا الجنّة؟ … ص: 371

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 373

رأي الإماميّة في المسألة … ص: 373

ذهب بعض الإماميّة إلي أنّ ولد الزنا لا يكون مؤمناً، بمعني: أنّه يختار الكفر عن اختيار، وإنْ أظهر الإيمان في الظاهر. ولا مخالفة لهذا القول لقواعد العدل. قال في (الفصول المهمّة):

«والقول بأنّ ولد الزنا كافر وإنْ أظهر الإسلام، ليس له دليل يعتد به، وأكثر الإماميّة علي خلافه. ووجه ما مرّ ممّا يوهم ذلك: إنّ خبث أصله سبب لميله إلي أفعال المعاصي غالباً باختياره، ولا يخفي أنّ تلك الأسباب لا تنتهي إلي حدّ الجبر والإلجاء قطعاً، للأدلّة العقليّة والنقليّة علي امتناع الظلم علي اللَّه» «1».

فالأخبار الواردة في هذا المعني هي في الحقيقة إخبار عن سوء حال ولد الزنا، بمعني أنّ أكثر أولاد الزنا تصدر منهم الأفعال القبيحة والأعمال الشنيعة المانعة من الدخول في الجنّة، وهذا لا ينافي فلاح بعضهم، وقد اشتهر أنّه «ما من عامٍ إلّاقد خُصَّ» ولا كلام في جواز تخصيص العمومات وتقييد المطلقات، الواردة في الكتاب والسنّة …

فالأخبار المذكورة- بعد فهم معناها وحملها علي الغالب-، سالمة من الإشكال.

والحمل علي الغالب شائع وذائع في الأخبار، كحملهم عليه الحديث __________________________________________________

(1) الفصول المهمّة في أصول الأئمّة 3: 268/ الباب الأوّل من أبواب نوادر الكليّات.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 374

عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «أعمار امّتي مابين الستّين إلي السبعين»، إذ قال المناوي بشرحه:

«قال الطيبي: هذا محمول علي الغالب، بدليل شهادة الحال، فإنّ منهم من لم يبلغ ستين» «1».

فما ذكره الشيخ الحرّ العاملي في تأويل أخبار ولد الزنا في (الفصول المهمّة) من الحمل علي الغالب صحيح.

وعليه الزمخشري والرازي … ص: 374

وهو موافق لما ذكره الزمخشري والرازي في تفسيريهما، بتفسير قوله تعالي: «لا تُطِعْ كُلَّ حلّاف مهين همّاز …».

قال في (التفسير الكبير):

«هذا يدلّ علي أنّ هذين الوصفين- وهو كونه

عتلّاً زنيماً- معائبه، لأنّه إذا كان جافياً غليظ الطبع قسا قلبه واجترأ علي كلّ معصية، ولأنّ الغالب أنّ النطفة إذا خبثت خبث الولد، ولهذا قال عليه السلام: لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده» «2».

وفي (الكشّاف):

«وكان الوليد دعيّاً في قريش، ليس من سنخهم، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده. وقيل: بغت امّه ولم يعرف حتّي نزلت هذه الآية. جعل جفاءه ودعوته أشدّ معائبه، لأنّه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ علي كلّ معصية، ولأنّ الغالب أنّ النطفة إذا خبثت خبث الناشي ء منها، ومن ثمّ قال __________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 2: 11.

(2) تفسير الرازي 30: 85.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 375

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده» «1».

هذا، وللقوم في تأويل هذه الأحاديث أقوال اخري:

الأقوال في تأويل خبر: ولد الزنا لا يدخل الجنّة … ص: 375

قال السيوطي في (اللآلي المصنوعة):

«قال الرافعي في تاريخ قزوين: رأيت بخط الإمام أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني: سألني بعض الفقهاء في المدرسة النظامية ببغداد في جمادي الاولي سنة 576 عمّا ورد في الخبر أنّ ولد الزنا لا يدخل الجنّة، وهناك جمع من الفقهاء، فقال بعضهم: هذا لا يصحّ «ولا تزر وازرة وزر اخري» وذكر أنّ بعضهم قال في معناه: إنّه إذا عمل عمل أصليه وارتكب الفاحشة لا يدخل الجنّة، وزُيّف ذلك بأنّ ذلك لا يختصّ بولد الزنا بل حال ولد الرشيدة مثله.

ثمّ فتح اللَّه علَيّ جواباً شافياً لا أدري هل سبقت إليه، فقلت: معناه أنّه لا يدخل الجنّة بعمل أصليه، بخلاف ولد الرشيدة، فإنّه إذا مات طفلًا وأبواه مؤمنان الحق بهما وبلغ درجتهما بصلاحهما، علي ما قال تعالي: «والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّاتهم

بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّاتهم» وولد الزنا لا يدخل الجنّة بعمل أبويه. أمّا الزاني فنسبه منقطع، وأمّا الزانية فشؤم زناها- وإنْ صلحت- يمنع من وصول بركة صلاحها إليه» «2».

والآية الكريمة في نسخة اللآلي كما نقلت.

__________________________________________________

(1) الكشّاف 6: 183.

(2) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 2: 194.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 376

أقول:

لكنّ تأويل أبي الخير الطالقاني أيضاً لا يخلو من ضعف، لأنّ صريح تلك الأحاديث أنّ ولد الزنا لا يدخل الجنّة، وأنّه محروم منها، كما يدلّ عليه أيضاً تشريكه مع العصاة والمجرمين، وكما يدلّ علي ذلك عدم دخول ولد الزنا الجنّة ولا ولده ولا ولد ولده إلي ثلاثة بل إلي خمسة بل إلي سبعة، فالقول بأنّه لا يدخل الجنّة بعمل أصليه، إنْ اريد منه أنّ عملهما هو السبب في عدم دخوله الجنّة فالإشكال باقٍ علي حاله، وإنْ اريد منه أنّه غير محروم من الجنّة، بل يدخلها لكنْ لا بعمل أبويه، فهو مخالفٌ لصريح الأحاديث.

ثمّ إنّ هذا التأويل لا يفيد في حديث أبي هريرة: إنّ ولد الزنا شرّ الثلاثة.

وكذا بالنظر إلي حديث عبداللَّه بن عمرو بن العاص وكلام سعيد بن جبير من أنّه مخلوق للنّار، بل يردّه حديث ميمونة، العام الصريح في سلب الخير من ولد الزنا … وكذا فتوي أبي حنيفة بأنّ خبث الولادة عيب في المبيع.

ومنهم من تأوّل هذه الأحاديث: بأنّ المراد من ولد الزنا فيها، هو من واظب علي الزنا والتزم به، كما يقال للشجعان: بنو الحرب، ولأولاد المسلمين: بنو الإسلام …

ذكره عبدالحق الدهلوي في (شرح سفر السّعادة) عن بعض العلماء.

وهو ضعيف لوجوه، منها: أنه لا يمكن أن يحمل عليه ما ورد من تلك الأحاديث بلفظ: لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا

ولد ولده، وفي بعضها:

ولا شي ء من نسله إلي سبعة آباء …

ومنهم من تأوَّل حديث: ولد الزنا شرّ الثلاثة بقوله: «لأنّ الحدّ قد يقام استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 377

عليها فتكون العقوبة لهما، وهذا في علم اللَّه لا يدري ما يصنع به وما يفعل في ذنوبه».

أورده السيوطي في (مرقاة الصعود- حاشية سنن أبي داود) عن بعضهم.

وفيه ضعف من وجوه كثيرة:

منها: احتمال أن يتوب ولد الزنا ولا يتوب والداه، فيكون خيراً منهما.

ومنها: أنّ مجرّد عدم العلم بما يفعله اللَّه فيه لا يقتضي كونه شرّاً منهما.

ومنها: إنّه لا يجري في سائر الأحاديث الواردة في عدم دخول ولد الزنا الجنّة.

ولمّا اشكل الأمر علي بعضهم، ولم يتمكّن من فهم هذه الأحاديث، عمد إلي تكذيبها، كما في كلام القاري حيث قال: «حديث: ولد الزنا لا يدخل الجنّة، لا أصل له» «1».

لكن القول بأنّه «لا أصل له» لا يستلزم عدم تخريج أحد من المحدّثين للحديث، ولو تمّ الاستلزام المذكور لزم تكذيب جميع العلماء الذين صرّحوا بوقوع الإختلاف في الأحاديث، والحال أنّ وقوع الإختلاف في الأحاديث أمر واضح كالشمس في رابعة النهار، كما لا يخفي علي من راجع كتب الحديث، لاسيّما شروح الصحاح وأمثالها من الأسفار … وما أكثر الأحاديث التي قيل بأنْ لا أصل لها، مع وجود روايات القوم لها بأسانيدهم … كما لا يخفي علي من راجع (اللآلي المصنوعة) وأمثاله، بل قلّما تجد حديثاً ممّا أدرجه ابن الجوزي في (الموضوعات) لم يروه إمام كبيرٌ من أئمّة الحديث عندهم.

إنّ الإختلاف بينهم في الأحاديث التي يروونها ممّا يعلمه أقلّ الطلبة …

__________________________________________________

(1) الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة: 362/ 575.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 378

حتّي أنّه ليعلم وقوع الإختلاف في أحاديث

كتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحين أيضاً … فإنّ ذلك مذكور في سائر الكتب، وحتي في الكتب الدرسيّة مثل (فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت) فإنّه قال:

«فرع- إبن الصلاح وطائفة من الملقَّبين بأهل الحديث زعموا أنَّ رواية الشيخين محمّد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج صاحبي الصحيحين يفيد العلم النظري، للإجماع علي أنّ للصحيحين مزيّةً علي غيرهما، وتلقّت الامّة بقبولهما، والإجماع قطعي.

وهذا بهت، فإن من راجع إلي وجدانه يعلم بالضرورة أنّ مجرّد روايتهما لا يوجب اليقين ألبتة، وقد روي فيهما أخبار متناقضة، فلو أفاد روايتهما علماً لزم تحقق النقيضين في الواقع.

وهذا- أي ما ذهب إليه ابن الصلاح وأتباعه- بخلاف ما قاله الجمهور من الفقهاء والمحدّثين، لأن انعقاد الإجماع علي المزيّة علي غيرهما من مرويّات ثقات آخرين ممنوع، والإجماع علي مزيّتهما في أنفسهما لا يفيد، ولأن جلالة شأنهما وتلقّي الامّة بكتابيهما- لو سلّم- لا يستلزم ذلك القطع والعلم، فإن القدر المسلّم المتلقّي بين الامة ليس إلّاأنّ رجال مرويّاتهما جامعة للشروط التي اشترطها الجمهور لقبول روايتهم، وهذا لا يفيد إلّاالظن، وأمّا أن مرويّاتهما ثابتة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فلا إجماع عليه أصلًا، كيف؟ ولا إجماع علي صحّة جميع ما في كتابيهما، لأن رواتهما فهم قدريّون وغيرهم من أهل البدع، وقبول رواية أهل البدع مختلف فيه، فأين الإجماع علي صحّة مرويّات القدريّة، غاية ما يلزم أنّ أحاديثهما أصحّ الصحيح، يعني إنّها مشتملة علي الشروط المعتبرة عند الجمهور علي الكمال، وهذا لا يفيد إلّا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 379

الظن القوي. هذا هو الحق المتّبع» «1».

أسماء الأئمّة الرواة للخبر المذكور … ص: 379

ونحن نذكر أسماء الأئمّة الأعلام من أهل السنّة الرواة لأحاديث عدم دخول ولد الزنا الجنّة … ليكون دليلًا علي ما

ذكرنا، وليتّضح أنّ لهذه الأحاديث أصلًا في كتب القوم، فلا يغترَّ بكلام القاري أحد، وهؤلاء هم:

1- أحمد بن حنبل.

2- ابن أبي شيبة.

3- عبد بن حميد الكشي.

4- سفيان بن سعيد الثوري.

5- عبدالرزاق بن همام.

6- أبو عيسي الترمذي.

7- أبو عبدالرحمن النسائي.

8- أبو داود السجستاني.

9- ابن ماجة القزويني.

10- أبو عبداللَّه الحاكم النيسابوري.

11- أبو حاتم ابن حبان.

12- أبوالحسن الدارقطني.

13- أبوبكر البيهقي.

14- أبو نعيم الإصبهاني.

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت- شرح مسلم الثبوت 2: 123.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 380

15- أبوالطاهر الحسن بن أحمد بن فيل «1».

16- أبوالعباس أحمد بن جعفر الخرائطي «2».

17- عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي.

18- أبوالشيخ الإصبهاني.

19- أبو سليمان الخطابي.

20- أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري.

21- أبوالقاسم الطبراني.

22- أبو يعلي الموصلي.

23- أبوبكر الخطيب البغدادي.

24- أبوبكر ابن مردويه.

25- محب الدين ابن النجار البغدادي.

26- أبوالخير الطالقاني.

27- أبوالقاسم الرافعي.

28- زكي الدين عبدالعظيم المنذري.

29- أبو إسحاق الثعلبي.

30- جار اللَّه الزمخشري.

31- أبوالسعادات ابن الأثير صاحب جامع الاصول.

32- أبوالحسن ابن الأثير صاحب اسد الغابة.

33- محمّد بن إسحاق بن منده.

__________________________________________________

(1) توجد ترجمته في الأنساب «البالسي».

(2) توجد ترجمته في الأنساب «الخرائطي» وفي مرآة الجنان. حوادث 327.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 381

34- أبو علي ابن السكن.

35- أبوالعباس نجم الدين القمولي.

36- عبدالعزيز البخاري صاحب (كشف الأسرار- شرح اصول البزدوي)

37- مسعود بن عمر التفتازاني.

38- شمس الدين ابن خلكان.

39- ابن حجر العسقلاني.

40- جلال الدين السيوطي.

41- الملّا علي المتقي.

42- أبوالخير السخاوي.

43- شمس الدين العلقمي.

44- عبدالرؤوف المناوي.

45- ابن العرّاق.

46- الشيخ رحمة اللَّه السندي.

47- ابن روزبهان الخنجي.

48- ابن الجزري الدمشقي.

49- شهاب الدين الخفاجي.

50- الشيخ عبدالحق الدهلوي.

تنبيه ذكر السيوطي في (اللآلي المصنوعة) تكلُّم ابن الجوزي في بعض طرق الحديث، كقوله في أحدها: «عبدالكريم متروك».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 382

أقول:

إن كان

المراد «عبدالكريم بن مالك الجزري» فهو ثقة من رجال الكتب الستّة كما في (تقريب التهذيب) «1». وإنْ كان المراد «عبدالكريم بن أبي المخارق» فهو من أعيان التابعين، ومن رجال الترمذي والنسائي وابن ماجة والبخاري ومسلم في التعاليق، كما في (الكاشف) «2».

وتكلّم ابن الجوزي في رواية الدارقطني بأن «أبو إسرائيل الملائي» ضعيف.

وفيه: إنّه من رجال الترمذي وابن ماجة كما في (الكاشف) «3» و (التقريب) وقال ابن حجر: «صدوق» «4» وقد كان أبو إسرائيل مؤكداً علي ثبوت الحديث، كما في (اللآلي المصنوعة).

وتكلّم في رواية عبد بن حميد بسبب «إبراهيم بن مهاجر».

وفيه: إنّه من رجال الترمذي وابن ماجة وأبي داود والنسائي، بل ومسلم … كما في (الكاشف) و (التقريب) بل نصَّ ابن حجر علي أنّه «صدوق» «5».

وتكلّم في رواية عبدالرزاق لكون «جابان» في طريقه.

وفيه: إنّه قد وثّقه ابن حبّان، وقال ابن حجر: «مقبول» «6».

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1: 516.

(2) الكاشف للذهبي 2: 200.

(3) الكاشف 1: 76.

(4) تقريب التهذيب 1: 69.

(5) الكاشف 1: 50، تقريب التهذيب 1: 44.

(6) تقريب التهذيب 1: 122.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 383

حول كتاب سليم بن قيس الهلالي … ص: 383

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 385

قال الفيض آبادي … ص: 385

مامحصّله معرّباً:

كنّا نعتقد منذ القديم، وعلي أثر التتبع والنظر في اصول وقواعد مذهب الشيعة، أنّ أصحّ الكتب عندهم قبل القرآن هو: كتاب الكافي لأبي جعفر الكليني، وقد أرسل إليّ في هذه الأيّام بعض الأصدقاء كتاب التفسير لأهل البيت الطاهرين، لجامعه شيخ مشايخ الإماميّة علي بن إبراهيم القمي استاذ الكليني، ومجلَّد كتاب الفتن من بحار الأنوار للشيخ محمّد باقر مع ترجمته لمجتهد العصر وعلّامة الدهر، فوجدت الشيخ المذكور- أعني أفضل متكلّمي الشيعة المتأخّرين الشيخ المجلسي- ينصّ علي أنّ كتاب سليم بن قيس هو الأقدم والأفضل.

ولديَّ من كتاب سليم نسخة أوّلها:

قال: حدّثني أبوطالب محمّد بن صبيح بن رجاء بدمشق سنة 334 قال:

أخبرني أبو عمر عصمة بن أبي عصمة البخاري قال: حدّثنا أبوبكر أحمد بن المنذر بن أحمد الصنعاني بصنعاء- شيخ صالح مأمون، جار إسحاق بن إبراهيم الدميري- قال: حدّثنا أبوبكر عبدالرزاق بن همام بن النافع الصنعاني الحميري قال: حدّثنا أبو عروة معمر بن راشد البصري قال: دعاني أبان بن أبي عياش، قبل موته بنحو شهر …

ونقل المجلسي عن النعماني أنّه وصف الكتاب المذكور بأنّه أصل من الاصول التي رواها أهل العلم وحملة حديث أهل البيت عليهم السلام، وهو

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 386

أقدمها، لأنّ جميع ما اشتمل عليه هذا الكتاب هو عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وأميرالمؤمنين والمقداد وسلمان الفارسي وأبي ذر، ومن جري مجراهم ممّن شهد رسول اللَّه وأميرالمؤمنين وسمع منهما، وهو من الاصول التي ترجع الشيعة إليها وتعوّل عليها.

وجلالة قدر هذا الكتاب ظاهرة أيضاً من كتب الشيخين عند تلك الطائفة.

وقد وصف البرقي مؤلّفه بأنّه من الأولياء الكاملين من أصحاب أميرالمؤمنين.

وجعله الميرزا محمّد الإسترابادي

في منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال- تبعاً لأسلافه- من المعدَّلين والمعتمدين.

وكيف لا يكون كذلك؟ وقد عدَّه الإمام الأعظم الحلّي في خلاصة الأقوال والشيخ محمّد تقي والد الفاضل المجلسي في رجال روضة المتقين، من خلّص أصحاب المرتضي.

بل إنّه- كما قال بعض الأجلّة- إنّما صنّف الكتاب المذكور بأمرٍ من أميرالمؤمنين.

وفي البحار من طريق عمر بن اذينة عن أبان: أنّ سليماً قد احتاط في هذا الكتاب إلي حدٍّ- والعياذ باللَّه- لم يثق بما رواه عن أميرالمؤمنين وحده، وكذا كلٌّ من أصحابه الثلاثة، يعني سلمان وأباذر والمقداد، حتّي يسمع الخبر من البقيّة، فإذا اجتمعوا علي شي ء كتبه، وهذا هو صريح كلامه حيث قال:

«أخذتها من أهل الحق والفقه والصدق والبرّ، عن عليّ بن أبي طالب وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود، ليس منها حديث أسمعه من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 387

أحدهم إلّاسألت عنه الآخر، حتّي اجتمعوا عليه جميعاً».

وقد جاء في آخر النسخة: أنّه قد عرض الكتاب كلّه علي سيّد الساجدين وكان في مجلسه أبوالطفيل صحابي رسول اللَّه، وعمر بن أبي سلمة ابن ام المؤمنين ام سلمة رضي اللَّه عنها، فأقرّوه كلّهم.

وفي البحار: «قال أبان: فحججت من عامي ذلك، فدخلت علي عليّ ابن الحسين وعنده أبوالطفيل عامر بن واثلة صاحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وكان من خيار أصحاب عليّ عليه السلام، ولقيت عنده عمر بن أبي سلمة ابن ام سلمة زوجة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فعرضته عليه وعرضت علي علي بن الحسين ذلك أجمع ثلاثة أيام، كلّ يوم إلي اللّيل، ويغدو عليه عمر وعامر، فقرأته عليه ثلاثة أيام. فقال لي: صدق سليم رحمه اللَّه، هذا حديثنا كلّه نعرفه، وقال أبوالطفيل

وعمر بن أبي سلمة: ما فيه حديث إلّا وقد سمعته من علي ومن سلمان وأبي ذر ومن المقداد».

والإمام محمّد الباقر عليه السلام، بعد أنْ استمع إلي قصّة الكتاب ومؤلّفه، جعل يمدحه بالصدق والسداد والرشد والرشاد.

ولا يخفي علي أحد: أنّ يعقوباً الكليني الذي استفاد كثيراً من سليم وأمثاله، لم يصل إلي هذه المراتب العالية، وكتابه الذي شحنه بروايات الملحدين في الآفاق، من أمثال زرارة وشيطان الطاق، لا يصل إلي هذه المراتب القصوي.

ورواة كتاب سليم من أجلّاء أصحاب سيّد الأنبياء صلّي اللَّه عليه وسلّم وأمثالهم، الذين هم- كما وصفهم الإمام الرضا- كالنجوم في السماء، وهو كتاب مقبول عند أئمّة الهدي من أوّله إلي آخره، ويعدُّ جامعه فيمن لازم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 388

أميرالمؤمنين وكان من كمّل أصحابه الأطياب، بالإضافة إلي الوقائع الكثيرة التي شاهدها سليم منذ زمن إمامته إلي زمان إمامة الإمام الباقر.

أمّا الكليني فقد سمع ذلك عن لسان الآخرين.

ولمزيد الإعتماد ودفع الإشتباه وتحقيق الامور، رجع سليم إلي الحسنين عليهما السلام أيضاً، كما في اعتقادات صدوق المتشيّعين وصحيفة المتقين.

وليس الخبر كالمعاينة.

وبالنظر إلي هذه الوجوه اليقينيّة، فلو حلف أحد علي صحّة كتاب سليم ما كان حانثاً.

نقد الكلام المذكور … ص: 388

أقول:

وفي هذا الكلام افتراءات وخرافات وأغلاط، نتعرّض فيما يلي لبعضها:

أوّلًا: ما ذكره من أنّا نقول بأنّ الكافي أصحّ من القرآن الكريم، من أقبح الإفتراءات وأشنع الأكاذيب وأفظع التّهم … حاشا أهل الحق من ترجيح كلامٍ أو كتابٍ علي كتاب اللَّه العظيم …

وثانياً: نسبة ترجمة كتاب بحار الأنوار إلي سلطان العلماء قدّس سرّه، لا أساس لها من الصحّة.

وثالثاً: ما عزاه إلي صاحب البحار من القول بتفضيل كتاب سليم علي كتاب الكافي، باطل كذلك، إذ لا دلالة لكلامه علي هذا بوجهٍ

من الوجوه، بل المستفاد من كلامه ترجيحه سائر الاصول المعتبرة علي كتاب سليم حيث قال:

«والحقّ أنّ بمثل هذا- أي اشتماله علي قصّة محمّد بن أبي بكر الآتي تفصيلها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 389

- لا يمكن القدح في كتابٍ معروفٍ بين المحدّثين، إعتمد عليه الكليني والصّدوق وغيرهما من القدماء، وأكثر أخباره مطابقة لما روي بالأسانيد الصحيحة في الاصول المعتبرة …» «1»، إذ تراه يستدل لاعتبار كتاب سليم باعتماد الكليني وغيره من المحدّثين عليه، وبمطابقة أخباره لما في الاصول المعتبرة، فكان مطابقة أخباره لذلك دليلًا علي اعتباره …

وبالجملة، فإنّ دعوي أفضليّة كتاب سليم من كتاب الكليني ممنوعة جدّاً، ولا دليل عليها في كلام الشيخ المجلسي أصلًا.

وما حكاه عن النعماني فظاهره أنّ كتاب سليم أصل من أفضل الاصول ومن أقدمها، فلا دلالة فيه علي كونه أفضل الاصول كلّها …

ورابعاً: إنّ كنية «عصمة بن أبي عصمة» هي «أبو عمرو» لا «أبو عمر» فما ذكره خطأ.

وخامساً: إنّ نسبة إسحاق بن إبراهيم إلي «الدير» فهو «الديري» وقوله «الدميري» خطأ … وترجمته مذكورة في الكتب الرجالية، وليته رجع إليها، وقد وثّقه غير واحدٍ من الأعلام.

تنبيه علي خطأ لصاحب التحفة … ص: 389

هذا، وقد توهّم الدهلوي صاحب (التحفة) أنّ لسليم بن قيس كتابين لا كتاب واحد، وقد نشأ هذا التوهّم لديه عندما أراد ترجمة عبارة كتاب (الصواقع)- لكون (التحفة) منحولةً منه- التي هذا نصّها:

«الرواية السادسة: إنّه روي سليم بن قيس الهلالي في كتابه، من __________________________________________________

(1) بحارالأنوار 30: 134، الباب 19.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 390

احتجاجات الأشعث بن قيس، في خبر طويل، أنّ أميرالمؤمنين قال: لمّا قبض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ومال النّاس إلي أبي بكر فبايعوه، حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين،

ولم أدع أحداً من أهل بدر وأهل السّابقة من المهاجرين والأنصار، إلّاناشدتهم اللَّه حقّي ودعوتهم إلي نصرتي، فلم يستجب لي من جميع الناس إلّاأربع رهط: الزبير وسلمان وأبوذر ومقداد.

وهو دالّ علي أنّه لم يجب عليه التقيّة، لأنّه لو وجبت لم يظهر أمره لمن بايع أبابكر، فإنّ التقيّة تنافي الإظهار.

الرواية السابعة: روي سليم بن قيس في كتابه الآخر المشهور لدي الشيعة بكتاب أبان بن أبي عياش الذي يرويه عن سليم: أنّ أبابكر بعث قنفذاً إلي علي حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال له: إنطلق إلي علي وقل له:

أجب خليفة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فانطلق فبلّغه …».

فقال في الوجه السادس: «ذكر سليم بن قيس الهلالي في كتابه» ثمّ قال في السابع: «ذكر سليم بن قيس في كتابه الذي رواه عنه أبان»، فتوهّم الدهلوي من اختلاف التعبير تعدّد الكتاب، كما لا يخفي علي من راجع (التحفة) «1» وما هو إلّاتفنّن في العبارة، لأنّ كتاب سليم ليس إلّاما رواه أبان … لكنّ الدهلوي غفل عن ذلك.

وسادساً: إنّ الذي يجده الناظر في رجال البرقي هو كون سليم بن قيس من أولياء أميرالمؤمنين. وأمّا كلمة «الكاملين» فإضافة من الفيض آبادي.

وسابعاً: وما حكاه عن العلّامة الحلي أيضاً غير خالٍ من التحريف والتصحيف، لأنّ المذكور في (خلاصة الأقوال) بالنص هو: «وقال السيّد علي __________________________________________________

(1) التحفة الاثني عشريّة: 365- 366.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 391

بن أحمد العقيقي: كان سليم بن قيس من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، طلبه الحجّاج …» «1» وليس فيه «من خلّص أصحاب …»، فكانت كلمة «خلّص» إضافةً من الفيض آبادي.

وثامناً: وأمّا أن «سليماً» صنَّف هذا الكتاب بأمرٍ من الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام … فلا ندري

من أين جاء به؟ وممّن سمعه؟ ولماذا لم يذكر اسم بعض الأجلّة الذي عزا إليه هذه الدعوي؟

وتاسعاً: وكبرت كلمة تخرج من فيّ هذا الرجل، إذ نسب إلي سليم أنّه كان إذا سمع شيئاً من أميرالمؤمنين عليه السلام وحده لم يكتبه حتّي يسمعه من سلمان أيضاً مثلًا … وكيف يمكنه إرجاع الضمير في «أحدهم» إلي كلّ من ذكر ليشمل الإمام عليه السلام أيضاً … بل ظاهر كلام سليم أنّه متي ما سمع شيئاً من أحد الثلاثة منفرداً لم يكتبه «حتّي اجتمعوا عليه جميعاً»، فلا يعمّ الكلام الإمام عليه السلام …

لا يقال: إنّ هذا أيضاً غير جائز، لأنّه طعن في الثلاثة.

لأنّا نقول: ليس الأمركذلك، وإنّما كان ذلك احتياطاً من سليم، كما صرّح هو في حديث سمعه من أبي ذر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إذ قال: «يا أباالحسن، وأنت يا سلمان، وأنت يا مقداد، تقولون كما قال أبوذر؟ قالوا: نعم، صدق. قلت: أربعة عدول، ولو لم يخبرني منكم غير واحدٍ ما شككت في صدقه، ولكنْ أربعتكم أشدّ لنفسي وبصيرتي» «2».

هذا، ولا مانع من عود الضمير في «أحدهم» إلي جميع الأربعة، لجواز

__________________________________________________

(1) خلاصة الأقوال/ رجال العلّامة الحلّي: 83 ترجمة سليم بن قيس الهلالي.

(2) كتاب سليم بن قيس 2: 726/ الحديث 19.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 392

أن يكون مقصد سليم هو الإحتجاج بالخبر علي المخالفين لأميرالمؤمنين عليه السلام، فكان يأخذ الخبر من غيره من الصحابة أيضاً ليتمّ الإحتجاج به عليهم، كما هو دأب المصنّفين من أهل الحق، إذ لا يكتفون بما يروونه عن الأئمّة الأطهار في مقام إلزام الخصوم … وحتّي الإمام نفسه عليه السلام قد اضطرّ إلي مناشدة الأصحاب غير مرّة، كما هو معلوم …

وعاشراً:

لقد نقل عن الإمام السجّاد عليه السلام تصديقه كتاب سليم، لكنَّ السند ضعيف، ففي (منتهي المقال): «وفي كش- بسند ضعيف- في جملة حديثٍ: وزعم أبان أنّه قرأه علي عليّ بن الحسين عليه السلام قال:

صدق سليم رحمة اللَّه عليه، هذا حديث نعرفه» «1».

وقد كان علي الفيض آبادي التنبيه علي هذا!

والحادي عشر: إنّه ليس في شي ء من الكتب الرجالية ما يدلّ علي تصديق الإمام عليه السلام وتأييده لكتاب سليم … ومن ادّعي فعليه البيان.

نعم هناك رواية فيها تصديق الإمام عليه السلام لخبرٍ رواه سليم بن قيس في سبب اختلاف الناس في الحديث، رواها الكشي في كتابه، وهذا نصّها:

«محمّد بن الحسن قال: حدّثنا الحسن بن علي بن كيسان، عن إسحاق ابن إبراهيم، عن ابن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي، قال:

قلت لأميرالمؤمنين عليه السلام: إنّي سمعت من سلمان ومقداد ومن أبي ذر أشياء في تفسير القرآن ومن الرواية عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله __________________________________________________

(1) منتهي المقال في الرجال 3: 376/ 1356 ترجمة سليم بن قيس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 393

وسلّم، وسمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي اللَّه عليه السلام أنتم تخالفونه- وذكر الحديث بطوله.

قال أبان: فقدّر لي بعد موت علي بن الحسين أنّي حججت، فلقيت أباجعفر محمّد بن علي، فحدّثته بهذا الحديث كلّه لم أخط منه حرفاً، فاغرورقت عيناه ثمّ قال:

صدق سليم، قد أتي أبي بعد قتل جدّي الحسين وأنا قاعد عنده، فحدّثه بهذا الحديث بعينه، فقال له أبي: صدقت، قد حدّثني أبي وعمّي الحسن- عليهما السلام- بهذا الحديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام.

الحديث» «1».

وبهذا ظهر تدليس الفيض

آبادي.

والثاني عشر: قد طعن في الكافي، وشتم زرارة ومؤمن الطاق، ولقّبه ب «شيطان الطاق»، وقد نقل بعض أهل السنّة أنّ أوّل من لقّبه بذلك هو إمامهم الأعظم «أبو حنيفة»، لكثرة إلزامات مؤمن الطاق وإفحاماته للخصوم في مختلف المسائل والمناظرات، فلا عجب من أنْ يتّبعه علي ذلك المقلّدون له، عناداً للحقّ وعداوةً لأهل البيت عليهم السلام، لاسيّما وأنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يقدّمه ويثني عليه … وقد صرَّح بكلّ هذا الحافظ ابن حجر، حيث ترجم لمؤمن الطاق قائلًا:

«محمّد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي الكوفي، أبو جعفر الملقَّب بشيطان الطاق، نسب إلي سوق في طاق المحامل بالكوفة كان يجلس __________________________________________________

(1) رجال الكشي: 104- 105/ 167 بترجمة سليم بن قيس الهلالي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 394

للصرف بها، فيقال: إنّه اختصم مع صيرفي آخر في درهم زائف فغلب، فقال:

أنت شيطان الطاق.

وقيل: إنّ هشام بن الحكم شيخ الرافضة لمّا بلغه أنّهم لقّبوه شيطان الطاق سمّاه هو: مؤمن الطاق.

ويقال: إنّ أوّل من لقّبه بشيطان الطاق أبو حنيفة، في مناظرة جرت بحضرته بينه وبين بعض الحروريّة.

ويقال: إنّ جعفراً الصّادق كان يقدّمه ويثني عليه …» «1».

والثالث عشر: إنّه زعم اعتراف الإمام الرضا عليه السلام بكون أصحاب النبي كالنجوم، مشيراً إلي حديث: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم …

لكن المراد من «الأصحاب» في «حديث النجوم» عند أهل الحق هم «أهل البيت» خاصّةً، وهم يروون ذلك عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالأسانيد، ومن ذلك: ما رواه الشيخ الصدوق في (معاني الأخبار) قال:

«حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه اللَّه قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، عن الحسن بن موسي الخشّاب، عن غياث بن كلوب، عن إسحاق

بن عمّار، عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

ما وجدتم في كتاب اللَّه عزّ وجلّ، فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، وما لم يكن في كتاب اللَّه عزّوجلّ وكانت فيه السنّة منّي، فلا عذر لكم في ترك سنّتي، وما لم يكن فيه سنّة منّي، فما قال أصحابي فقولوا به، إنّما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم، بأيّها اخذ اهتدي، بأيّ أقاويل أصحابي أخذتم __________________________________________________

(1) لسان الميزان 6: 378/ 7872.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 395

اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة.

فقيل: يا رسول اللَّه، من أصحابك؟ قال: أهل بيتي.

قال محمّد بن علي مؤلف هذا الكتاب: إنّ أهل البيت عليهم السلام لا يختلفون، ولكن يفتون للشيعة بمرّ الحق، وربّما أفتوهم بالتقية، فما يختلف من قولهم فهو للتقيّة، والتقيّة رحمة للشيعة» «1».

وأمّا الخبر في (عيون الأخبار) الذي توهّم حمل حديث النجوم فيه علي الصحابة، فهو ما رواه الصدوق بقوله:

«حدّثنا الحاكم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي قال: حدّثنا محمّد بن يحيي الصّولي قال: حدّثنا محمّد بن موسي بن نصر الرازي قال: حدّثني أبي قال: سُئل الرضا عليه السلام عن قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، وعن قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

دعوا لي أصحابي.

فقال: هذا صحيح، يريد من لم يغيّر بعده ولم يبدّل.

قيل: وكيف نعلم أنّهم قد غيّروا وبدّلوا؟

قال: ما يروونه من أنّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال: ليذادنّ رجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي، كما تذاد غرائب الإبل عن الماء، فأقول: يا ربّ أصحابي أصحابي. فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: بُعداً لهم

وسحقاً.

أفتري هذا لمن لم يغيّر و لم يبدّل؟!» «2».

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار: 156- 157.

(2) عيون الأخبار 2: 87/ 33 الباب 32.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 396

لكنّ جواب الإمام عليه السلام: «هذا صحيح …» متوجّه إلي الحديث الثاني وهو قوله: «دعوا لي أصحابي» وأمّا الحديث الأول- وهو حديث النجوم- فقد فسّره حديث (معاني الأخبار) وبذاك المعني يكون صحيحاً أيضاً …

ولابدّ من أن يكون المراد ذلك، لأنّه يدلّ علي العصمة، ولا أحد يقول بعصمة الصحابة …

إلّاأنّ حديث أصحابي كالنجوم ساقط عند أئمّة القوم: كأحمد، والبزار، وابن حزم، والبيهقي، وابن حجر، وغيرهم، من السابقين واللاحقين، فمنهم من نصّ علي ضعفه، ومنهم من رماه بالوضع والكذب … فراجع: (البحر المحيط في تفسير القرآن) لأبي حيان الأندلسي، و (المرقاة في شرح المشكاة) للقاري، و (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) لابن الجوزي، و (فيض القدير- شرح الجامع الصغير) للمناوي، و (فواتح الرحموت- شرح مسلَّم الثبوت) لعبدالعلي الأنصاري … وغيرها من كتب القوم في العلوم المختلفة …

وإن شئت التفصيل فارجع إلي الرسالة المصنَّفة في خصوص حديث النجوم «1».

والرابع عشر: ما ذكره من أن سليماً قد حضر الوقائع في زمن إمامة الإمام الباقر عليه السلام، غلط فضيح، لِما سيأتي من أنّ سليماً قد توفي في أيام الإمام السّجاد عليه السلام.

والخامس عشر: ما ذكره لترجيح كتاب سليم علي الكافي، من أن الكليني قد روي الوقائع والأخبار بالواسطة، أمّا سليم، فقد كان معاصراً لها

__________________________________________________

(1) رسالة في حديث أصحابي كالنجوم إحدي، (الرسائل العشر) المطبوعة، للسيّد علي الحسيني الميلاني، وقد استفيد فيها من بحوث السيّد مير حامد حسين كثيراً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 397

ومشاهداً لها. فيه: إنّ الكليني وإنْ لم يشهد الوقائع والقضايا، لكنّه

رواها عمّن شهدها أو سمعها من المعصوم.

هذا، مع قطع النظر عن الإسناد إلي سليم، ومن روي عنهم ثقة الإسلام الكليني.

وأمّا بالنظر إليه، فالحال مختلف كما لا يخفي علي اولي الأفهام، فإنّ أسناد بعض أحاديث الكافي فاضل علي أسناد كتاب سليم، وأسناد بعضها مفضول، فالحكم بترجيح أحد الجانبين علي الإطلاق لا يصلح للقبول.

والسادس عشر: ما ذكره من رجوع سليم إلي الحسنين عليهما السلام لمزيد التحقيق، نقلًا عن اعتقادات الصدوق وصحيفة المتقين، إنْ أراد رجوعه إليهما في جميع ما في كتابه، فهو ممنوع، لأنّ القدر الثابت أنّه رجع إليهما وذكر لهما خصوص ما سمعه من أميرالمؤمنين عليه السلام من الخبر الطويل في سبب اختلاف الناس في الحديث، فهذا هو الذي عرضه عليهما، وقد صدّقاه فيه، وأمّا سائر أخبار كتابه، فلا دليل عليه أصلًا …

لقد جاء في كتاب سليم بعد أخذه الجواب من الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام: «قال سليم بن قيس: ثمّ أتيت الحسن والحسين عليهما السلام بالمدينة فحدّثتهما بهذا الحديث عن أبيهما. قالا: صدقت، قد حدّثك أميرالمؤمنين بهذا الحديث ونحن جلوس عنده، وقد حفظنا ذلك عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كما حدّثك، فلم تزد فيه حرفاً ولم تنقص منه حرفاً» «1».

فلا دلالة له علي عرض سائر أخباره عليهما، كما لا يتوهّم منه عدم __________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 628/ الحديث العاشر.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 398

الإعتماد علي نقل الإمام عليه السلام، والعياذ باللَّه، وإنّما أراد أن يعلم أنّ ما حفظه عنه مطابق للواقع بلا زيادةٍ ونقصان أو لا …

أقول:

هذا تمام الكلام علي ما ذكره الفيض آبادي في هذا الفصل من كلامه، الذي يحاول فيه إثبات أفضليّة كتاب سليم بن قيس عند

أهل الحق من سائر كتبهم، ثمّ يبدأ بفصلٍ آخر، فيذكر المطاعن والإشكالات علي الكتاب، فيستنتج من الفصلين: أنّ الكتاب الذي الّف بأمر أميرالمؤمنين، وعرض علي الأئمّة الطاهرين، وكان أفضل الكتب عند الطائفة، يشتمل علي أباطيل وأكاذيب … وبذلك يريد القدح والطعن علي المذهب وأئمّته وأتباعه …

هذا كلّ ما يريده هذا الرجل …

وقد عرفت ما في كلماته في الفصل السابق.

وقد افتتح الفصل الثاني من كلامه بأنْ نسب إلي الشيخ المجلسي في (بحار الأنوار) القول بأنّ بعض الأعاظم من الإماميّة يقدحون في الكتاب ويطعنون علي مؤلّفه، وذكر أنَّ الحسن بن علي بن داود- وهو الإمام في نقد الرجال وشيخ الطائفة في معرفة أحاديث الأئمّة كما قال- نقل عن رجال الشيخ أنّه قال: «ينسب إليه الكتاب المشهور، وهو موضوع».

قال: والسبب في ذمّ وجرح هؤلاء الأكابر لكتاب سليم، وكما يظهر من كلام الإمام الأعظم الحلّي وأساتذته في (خلاصة الأقوال) وغيره هو: إشتمال الكتاب علي الإفتراءات العظيمة والأكاذيب الكبيرة.

أقول:

هذا كلامه قبل الورود فيما زعمه من موارد النقد والإيراد في كتاب سليم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 399

ولكنّ ما نقله عن المجلسي في (البحار) من طعن بعض أعاظم الإماميّة في الكتاب ومؤلّفه، كذب واضح، فإنّ الشيخ المذكور لم يذكر في كتابه طعناً من أحدٍ لا تلويحاً ولا تصريحاً … لا في كتاب سليم ولا في مؤلّفه …

قضيّة محمّد بن أبي بكر مع أبيه … ص: 399

وإنّ أوّل ما تعرّض له هذا الرجل واهتمّ به في مقام الطعن في كتاب سليم هو: قضيّة أنّ محمّد بن أبي بكر قد حضر أباه عند احتضاره وكلّمه ووَعَظَه … قال: وهذا من الإفتراءات العظيمة، لأنّ محمّداً ولد في حجّة الوداع، وكان في وقت موت أبيه ابن ثلاث سنين، فكيف يمكنه أن يعظ

أباه؟

إلّاأنّ الرجل قد أضاف- من عنده- إلي القضيّة أشياء، لا عين لها في كتاب سليم ولا أثر، ونحن ننبّه علي إضافاته المكذوبة، ثمّ نتكلّم علي أصل القضيّة:

1- لقد زعم أنّ في كتاب سليم: أنَّ محمّداً ذكّر أباه الإعتقاد بالتوحيد والنبوّة وحقوق أهل البيت النبوي …

والحال أنّ الذي في كتاب سليم إنّما هو إلقاء كلمة التوحيد فقط، وهذه عبارته:

«فقلت له لمّا خلوت به: يا أبت قل لا إله إلّااللَّه. قال: لا أقولها أبداً، ولا أقدر عليها حتّي أدخل التابوت» «1».

2- لقد ذكر أنّ محمّداً تكلَّم عن إمامة أميرالمؤمنين وخصائصه، من العلم بما كان وما يكون، و تحدّثه مع الملائكة … وظاهر كلامه وجود هذا في __________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 822/ الحديث السابع والثلاثون.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 400

كتاب سليم في خبر قضيّة محمّد مع أبيه، والحال أنّه لا عين لذلك فيه ولا أثر، كما لا يخفي علي من أجال فيه النظر.

فإنْ أراد الإعتذار عن ذلك بأنّه قد نقله عن غير كتاب سليم، فلا يصغي إليه، لأنَّ الكلام في كتاب سليم …

3- لقد ذكر أنّ محمّداً قد استدلَّ ببعض الآيات القرآنيّة، رفعاً لاستبعاد الناس أنّ الملائكة كانت تحدّث أميرالمؤمنين عليه السلام.

فإنْ كان غرضه وجود هذا في كتاب سليم، توجّه إليه السؤال: هل إنّ استدلاله كان في حال صغر سنّه وحين احتضار أبيه، أو في الأزمنة المتأخّرة؟

فإنْ أراد وقوع ذلك منه في الأزمنة المتأخرة، فأيّ ربط لذلك ببحثه عن حال كتاب سليم واشتماله علي الإفتراءات؟ وإنْ أراد وقوع ذلك منه في حال صغره ووقت احتضار أبيه، فهذا كذب علي سليم وكتابه.

يقول سليم في كتابه ما نصّه: «قلت: وهل تحدّث الملائكة إلّاالأنبياء صلوات اللَّه عليهم؟

قال- أي محمّد بن أبي بكر- أما تقرأ القرآن: «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدّث» قلت: أميرالمؤمنين محدَّث؟

قال: نعم، وكانت فاطمة محدَّثة ولم تكن نبيّةً، ومريم محدَّثة ولم تكن نبيّة، وامّ موسي محدَّثة ولم تكن نبيّة، وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشّروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، ولم تكن نبيّةً» «1».

هذا، ومن قرأ كتاب سليم علم أنّ لقائه مع محمّد بن أبي بكر إنّما كان بعد موت أبيه بزمنٍ طويل، لأنّ لقائه كان بعد موت أبي عبيدة الجراح،

__________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 823- 824/ الحديث السابع والثلاثون.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 401

المتوفي في السنة الثامنة عشرة كما في (الاستيعاب) «1»، بل كان بعد موت معاذ، وموته متأخر عن موت أبي عبيدة … فمحمّد عند هذه المكالمة- في أقل تقدير- ابن ثمان أو عشر سنين … وأيّ مانع من أنْ تصدر منه تلك الإستدلالات حينئذٍ؟

4- لقد ادّعي الإجماع علي ولادة محمّد بن أبي بكر في حجّة الوداع، وهذا منه جهلٌ أو تجاهل … قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في كتاب (تحصيل الكمال في أسماء الرجال): «محمّد بن أبي بكر الصديق، هو أبوالقاسم محمّد ابن أبي بكر، ولد عام حجة الوداع بذي الحليفة أو بالشجرة، سنة ثمان» «2».

وذكر ابن الأثير في (جامع الاصول) بترجمته أنّه ولد بالشجرة، أي عام ثمان «3».

وقال تقي الدين المكي بترجمته من (العقد الثمين في تاريخ بلد اللَّه الأمين): «محمّد بن أبي بكر الصديق، واسمه عبداللَّه بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي التيمي أبوالقاسم، ولد عام حجّة الوداع أو بالشجرة» «4».

وكذا في (تهذيب الكمال) و (الاستيعاب) وغيرهما، حيث ذكر القول بولادته في الشجرة، أي في السنة

الثامنة من الهجرة.

5- ومن العجب دعواه رواية الكليني في الكافي ولادته في حجّة

__________________________________________________

(1) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2: 794/ 1332 بترجمة أبي عبيدة.

(2) تحصيل الكمال في أسماء الرجال/ رجال المشكاة. ترجمة محمّد بن أبي بكر.

(3) جامع الاصول 3: 71/ 1349. كتاب الحج، الباب الثاني، الفصل الأوّل.

(4) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 2: 214/ 220.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 402

الوداع.

إنّ للشيخ الكليني في الكافي روايتين في الباب، وهذه ألفاظهما:

أمّا الاولي فهي: «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: إنّ أسماء بنت عميس نفست بمحمّد بن أبي بكر، فأمرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حين أرادت الإحرام من ذي الحليفة أن تحتشي بالكرسف والخرق وتهلّي بالحج، فلمّا قدموا مكّة وقد نسكوا المناسك، وقد أتي لها ثمانية عشر يوماً، فأمرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أن تطوف بالبيت وتصلّي، ولم ينقطع عنها الدم. ففعلت ذلك» «1».

وأمّا الثانية فهكذا: «عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان الكلبي قال: ذكرت لأبي عبداللَّه عليه السلام المستحاضة، فذكر أسماء بنت عميس فقال: إنّ أسماء ولدت محمّد بن أبي بكر بالبيداء، وكان ولادتها البركة للنساء لمن ولدت منهنّ أو طمثت، فأمرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فاستثفرت وتنطقت بمنطقة وأحرمت» «2».

فهل تجد في هذين الخبرين ذكراً لحجّة الوداع؟

6- ولم يكتف بالإسناد إلي الكافي، بل أسند ذلك إلي الكشي أيضاً، والحال أنّه لا أثر من ذلك في رجال الكشي، بل ليس بكلامه بترجمة محمّد ذكر من ولادته أصلًا، فضلًا عن كونها في حجّة الوداع … وهذه

ألفاظها في الكتاب المذكور:

«محمّد بن أبي بكر: حدّثني محمّد بن قولويه والحسين بن الحسن بن __________________________________________________

(1) الكافي 4: 449/ 1، كتاب الحج.

(2) الكافي 4: 444/ 2، كتاب الحج.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 403

بندار القميّان قالا: حدّثنا سعد بن عبداللَّه بن أبي خلف القمي قال: حدّثني الحسن بن موسي الخشّاب ومحمّد بن عيسي بن عبيد، عن علي بن أسباط، عن عبداللَّه بن سنان قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول:

كان مع أميرالمؤمنين عليه السلام خمسة نفر من قريش، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية؛ فأمّا الخمسة: محمّد بن أبي بكر رحمه اللَّه، أتته النجابة من قبل امّه أسماء بنت عميس، وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال، وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي، وكان أميرالمؤمنين عليه السلام خاله، وهُوَ الذي قال له عتبة بن أبي سفيان: إنّما لك هذه الشدّة في الحرب من قبل خالك، فقال له جعدة: لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك، ومحمّد ابن أبي حذيفة بن عتبةبن ربيعة، والخامس سلف أميرالمؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة، وهو صهر النبي عليه السلام أبو الربيع.

حمدويه وإبراهيم ابنا نصير قالا: حدّثنا أيّوب، عن صفوان، عن معاوية ابن عمّار وغير واحد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: كان عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر لا يرضيان أن يعصي اللَّه عزّ وجلّ.

محمّد بن مسعود قال: حدّثني علي بن محمّد القمي قال: حدّثني أحمد ابن محمّد بن عيسي، عن رجل، عن عمر بن عبدالعزيز، عن جميل بن دراج، عن حمزة بن محمّد الطيّار قال: ذكرنا محمّد بن أبي بكر عند أبي عبداللَّه عليه السلام فقال أبو عبداللَّه عليه السلام:

رحمه اللَّه وصلّي عليه، قال لأميرالمؤمنين عليه السلام

يوماً من الأيّام:

ابسط يدك ابايعك. فقال: أوما فعلت؟ قال: بلي. فبسط يده، فقال: أشهد أنّك إمام مفترض الطاعة وأنّ أبي في النّار. فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: كان استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 404

النجابة من قبل امّه أسماء بنت عميس رحمة اللَّه عليها، لا من قبل أبيه.

حمدويه بن نصير، عن محمّد بن عيسي، عن محمّد بن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام: إنّ محمّد بن أبي بكر بايع عليّاً عليه السلام علي البراءة من أبيه.

حمدويه وإبراهيم قالا: حدّثنا محمّد بن عبدالحميد قال: حدّثني أبو جميلة عن ميسر بن عبدالعزيز، عن أبي جعفر عليه السلام قال: بايع محمّد ابن أبي بكر علي البراءة من الثاني.

حمدويه، حدّثني عن محمّد بن عيسي، عن يونس بن عبدالرحمن، عن موسي بن مصعب، عن شعيب عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من أهل بيتٍ إلّاومنهم نجيب من أنفسهم، وأنجب النجباء من أهل بيت سوء منهم محمّد بن أبي بكر» «1».

7- وأسنده إلي النجاشي أيضاً، والحال أنْ لا ذكر لمحمّد بن أبي بكر في كتابه أصلًا، فلا ذكره في أوائل الكتاب حيث عدّ جمعاً من أصحاب أميرالمؤمنين، ولا ذكره في باب المحمّدين … فكيف بولادته في حجّة الوداع؟

8- وكذا إسناد المطلب إلي رجال الغضائري، فأمّا أصل كتابه، فليس موجوداً، وأمّا الرجاليون كالعلّامة الحلّي وابن داود والشيخ بهاء الدين اللّاهيجي والسيّد مصطفي التفرشي والميرزا الأسترابادي وأبي علي الحائري …

الذين ينقلون كلماته في تراجم الرجال … فلم ينقلوا في كتبهم عنه في محمّد شيئاً، فضلًا عن ذلك النقل الخاص المتعلِّق بتولّده … فمن أين هذا الإسناد؟

9- والعلّامة الحلّي لم يقل في

محمّد رضي اللَّه عنه في (خلاصة

__________________________________________________

(1) رجال الكشي: 63- 64/ 111- 116. ترجمة محمّد بن أبي بكر.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 405

الأقوال) إلّا: «محمّد بن أبي بكر، جليل القدر، عظيم المنزلة، من خواصّ عليّ عليه السلام» «1».

فبأيّ دليلٍ نسب إليه القول بولادة محمّد في حجّة الوداع؟

حلّ الإشكال بذكر النظائر … ص: 405

وأمّا حلّ الإشكال، فنقول: إنّ منشأ هذا الإشكال ليس إلّاالإستبعاد، ومجرّد الإستبعاد لا يكون دليلًا، بل يرتفع إذا حَصَلَ له نظير أو نظائر في التاريخ، ولا شكّ أنّ اللَّه تعالي قادر علي خلق أفرادٍ متميّزين في الفهم والذكاء … ونحن نذكر هنا بعضهم:

استقلّ بالكتابة وعمره أربع سنين … ص: 405

قال في (منهج المقال) بترجمة المولي السيّد عبدالكريم بن طاووس العلوي الحسيني: «استقلّ بالكتابة واستغني عن المعلّم في أربعين يوماً، وعمره إذ ذاك أربع سنين» «2».

وإذا كان كذلك، فأيّ استبعاد في أنْ يأمر الابن البالغ ثلاث سنين أو أكثر أباه بقول كلمة لا إله إلّااللَّه، وهي من اولي الكلمات التي ينطق بها أطفال المسلمين؟

__________________________________________________

(1) خلاصة الأقوال/ رجال العلّامة الحلّي: 138/ 3 باب محمّد.

(2) منهج المقال في علم الرجال: 196.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 406

حفظ القرآن وهو ابن أربع سنين … ص: 406

وقال الشعراني في (لواقح الأنوار): «ومنهم: أبو محمّد سفيان بن عيينة- رضي اللَّه عنه-. حفظ القرآن وهو ابن أربع سنين، وكتب الحديث وهو ابن سبع سنين» «1».

وفي (الكواكب الدراري): «وأمّا سفيان، فهو بضمّ السين علي المشهور وحكي كسرها وفتحها أيضاً، وهو أبو محمّد ابن عيينة بن أبي عمران الهلالي الكوفي، سكن مكّة ومات بها. قال: قرأت القرآن وأنا ابن أربع سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن سبع سنين» «2».

وإذا أمكن قراءة القرآن لمن هو في سنّ أربع سنين- والحال أنّ عمر بن الخطّاب تعلّم سورة البقرة فقط في إثنتي عشرة سنة كما في (الدر المنثور) «3» - كان من السّهل قبول تلقين كلمة لا إله إلّااللَّه فقط، ممّن هو في سنّ ثلاث سنين أو أكثر.

سمع الحديث وهو ابن أربع سنين … ص: 406

وأخرج مسلم بإسناده عن عبداللَّه بن الزبير قال: «كنت أنا وعمر بن سلمة يوم الخندق مع النسوة في أطم حسان، فكان يطأطي ء لي مرّةً فأنظر وأطأطي ء له مرّةً فينظر، فكنت أعرف أبي إذا مرَّ علي فرسه في السلاح إلي بني __________________________________________________

(1) لواقح الأنوار في طبقات الأخيار- ترجمة سفيان بن عيينة.

(2) الكواكب الدراري في شرح البخاري 1: 16.

(3) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 1: 54.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 407

قريظة. قال: وأخبرني عبداللَّه بن عروة عن عبداللَّه بن الزبير قال: فذكرت ذلك لأبي فقال: ورأيتني يا بني؟ قلت: نعم».

فقال النووي بشرحه: «وفي هذا الحديث دليل لجواز ضبط الصبي وتمييزه وهو ابن أربع سنين. فإنّ ابن الزبير ولد عام الهجرة في المدينة، وكان الخندق سنة أربع من الهجرة علي الصحيح، فيكون في وقت ضبطه لهذه القصّة دون أربع سنين. وفي هذا ردّ علي ما قاله جمهور المحدّثين أنّه لا يصحّ سماع الصبي

حتّي يبلغ خمس سنين، والصواب صحّته متي حصل التمييز وإنْ كان ابن أربع أو دونها. وفيه منقبة لابن الزبير لجودة ضبطه لهذه القصّة مفصّلةً في هذا السن» «1».

* والألطف من ذلك ما جاء عن عبداللَّه بن محمّد بن عبدالرحمن الإصبهاني في غير واحدٍ من الكتب، مثل: (الكفاية) للخطيب، و (علوم الحديث) لابن الصلاح، و (تدريب الراوي) للسيوطي، و (عمدة القاري) للعيني … وغيرها …

قال الخطيب: «سمعت القاضي أبا محمّد عبداللَّه بن محمّد بن عبدالرحمن الإصبهاني يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين، وحملت إلي أبي بكر ابن المقري لأسمع منه ولي أربع سنين.

فقال بعض الحاضرين: لا تسمعوا له فيما قرأ فإنّه صغير.

فقال لي ابن المقري: إقرأ سورة الكافرون، فقرأتها ولم أغلط فيها.

فقال: إقرأ سورة التكوير، فقرأتها.

فقال لي غيره: إقرأ سورة والمرسلات، فقرأتها ولم أغلط فيها.

__________________________________________________

(1) شرح صحيح مسلم للنووي 15: 189- 190 كتاب الفضائل، فضائل طلحة والزبير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 408

فقال ابن المقري: إسمعوا له والعهدة علَيّ.

سمعت أباصالح صاحب أبي مسعود أحمد بن الفرات يقول: العجب من إنسانٍ يقرأ والمرسلات عن ظهر قلبه ولا يغلط فيها.

وحكي أنّ أبا مسعود ورد إصبهان ولم تكن كتبه معه، فأملي كذا وكذا ألف حديث عن ظهر قلبه، فلمّا وصلت الكتب إليه قوبلت بما أملي فلم تختلف إلّافي مواضع يسيرة» «1».

وقال العيني: «حفظ القرآن أبو محمّد عبداللَّه بن محمّد الإصبهاني وله خمس سنين، فامتحنه فيه أبوبكر ابن المقري، وكتب له بالسماع وهو ابن أربع سنين» «2».

فأيّ عجبٍ من محمّد بن أبي بكر إذا أمر أباه بأنْ يقول: لا إله إلّااللَّه؟

* وماذا يقول القائل إذا سمع ما جاء في (علوم الحديث) لابن الصّلاح وغيره من الكتب من أنّه

«قد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: رأيت صبيّاً ابن أربع سنين وقد حمل إلي المأمون، وقد قرأ القرآن ونظر في الرأي، غير أنّه إذا جاع بكي» «3»؟

وعلي هذا الأساس، ذهب العلماء من الفريقين إلي أنّه يعتبر كلّ صغير بحاله، فمتي فهم الخطاب وميّز ما يسمعه، صحّ سماعه وإنْ كان دون خمس سنين، كما جاء في كتاب (شرح البداية) للشهيد الثاني من أصحابنا، وفي (عمدة القاري) و (المنهل الروي) و (علوم الحديث) وغيرها من كتب القوم.

__________________________________________________

(1) الكفاية في علم الرواية: 64- 65/ باب ما جاء في سماع الصغير.

(2) عمدة القاري في شرح البخاري 2: 68، كتاب العلم، باب قول النّبي: اللهمّ علّمه الكتاب.

(3) علوم الحديث: 75/ النوع الرابع والعشرون، معرفة كيفيّة سماع الحديث …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 409

كان يقوم الليل وهو ابن ثلاث سنين … ص: 409

فإن بقي شي ء من الشك والإستبعاد بعد ما تقدَّم، أوردنا ما ذكره أعلام القوم بترجمة سهل التستري، من أنّه كان يقوم الليل وهو ابن ثلاث سنين …

قال اليافعي: «وكان سبب سلوكه للطريق خاله محمّد بن سوار، فإنّه قال: كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلي صلاة خالي محمّد بن سوار، وكان يقوم باللّيل، وكان يقول: يا سهل، اذهب ونم فقد شغلت قلبي.

وقال لي يوماً خالي: ألا تذكر اللَّه الذي خلقك؟

فقلت: كيف أذكره؟

فقال: قل بقلبك في الليل في فراشك ثلاث مرّات من غير أن تحرّك به لسانك: اللَّه معي، اللَّه ناظري، اللَّه شاهدي.

فقلت …» «1».

وكذا في (أحكام الدلالة علي تحرير الرسالة) للشيخ زكريا الأنصاري وغيره.

وإذا كان هذا ممكناً ممّن هو ابن ثلاث سنين، فقول محمّد لأبيه: قل لا إله إلّااللَّه أمكن …

سمع الحديث وعمره أقل من ثلاث سنين … ص: 409

وإذا كان ذلك أيضاً لا يكفي لرفع الإستبعاد عن قضيّة محمّد، فقد ذكر القوم سماع الصبيّ الذي سنّه أقل من ثلاث سنين للحديث من بعض الأئمّة وقبول ما حدّث به، وقد جاء ذلك في (فتح الباقي- شرح ألفية العراقي)

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 2: 149.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 410

للشيخ أبي يحيي زكريا الأنصاري حيث قال:

«وكذا يقبل عندهم صبي حمل الحديث، ثمّ روي بعد البلوغ ما تحمّل في حال صباه.

ومنع قوم القبول هنا، أي مسألة الصبي، لأنّ الصبي مظنّة عدم الضبط.

وردّ عليهم بإجماع الامّة علي قبول حديث جماعةٍ من صغار الصحابة، تحمّلوه في حال صغرهم، كالسبطين الحسن والحسين ابني بنته صلّي اللَّه عليه وسلّم فاطمة، وكعبداللَّه بن الزبير والنعمان بن بشير وعبداللَّه بن عباس.

مع إحضار أهل العلم من المحدّثين وغيرهم للصّبيان مجالس التحديث، ثمّ قبولهم منهم ما حدّثوا به من ذلك بعد الحلم أي

البلوغ، كما وقع للقاضي أبي عمرو الهاشمي، فإنّه سمع سنن أبي داود من اللؤلؤي وله خمس سنين، واعتدّ الناس بسماعه وحملوه عنه، وقال يعقوب الدورقي: حدّثنا أبو عاصم قال: أتيت بابني إلي ابن جريج وسنّه أقل من ثلاث سنين، فحدّثه» «1».

توكّل في عقد الزواج وله ثلاث سنين … ص: 410

بل لقد تحمّل الطفل الذي له ثلاث سنين الوكالة في عقد الزواج! وذلك ما أخرجه أحمد في (المسند) في تزوّج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بامّ سلمة ام المؤمنين، ورواه عنه ابن القيّم في (زاد المعاد) قال:

«قال الإمام أحمد في المسند: حدّثنا عفّان بن حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت قال: حدّثني ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن امّ سلمة: أنّها لمّا انقضت عدّتها من أبي سلمة، بعث إليها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقالت: مرحباً برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، إنّي امرأة مصبية، وليس أحد

__________________________________________________

(1) فتح الباقي- شرح ألفيّة العراقي 2: 15- 18/ متي يصحّ تحمّل الحديث …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 411

من أوليائي حاضراً. الحديث، وفيه:

فقالت لابنها عمر: قم، فزوّج رسول اللَّه، فزوّجه» «1».

وأخرجه سائر المحدّثين بطرقٍ اخري.

وروي ابن الأثير في (اسد الغابة) قال:

«أخبرنا يعيش بن صدقة بإسناده عن أحمد بن شعيب: أخبرنا محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم، نا يزيد، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت البناني، حدّثني ابن عمر ابن أبي سلمة، عن أبيه عن امّ سلمة قال: لمّا انقضت عدّتها من أبي سلمة، بعث إليها أبوبكر يخطبها عليه، فلم تزوّجه، فبعث إليها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عمر بن الخطّاب يخطبها عليه فقالت: أخبر رسول اللَّه إنّي أمرأة غيري وإنّي امرأة مصبية، وليس أحد من أوليائي شاهداً. فأتي رسول اللَّه صلّي اللَّه

عليه وسلّم، فذكر ذلك له، فقال: إرجع إليها فقل لها:

أمّا قولك: إنّي امرأة غيري فأدعو اللَّه فيذهب غيرتك.

وأمّا قولك: إنّك امرأة مصبية، فستكفين صبيانك.

وأمّا قولك: ليس أحد من أوليائي شاهداً، فليس أحد من أوليائك- شاهد ولا غائب- يكره ذلك.

فقال لابنها عمر: قم فزوّج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. فزوّجه» «2».

هذا، وقد كان لعمر بن أبي سلمة في ذلك الوقت ثلاث سنين أو سنتان، إذ كان له يوم قبض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم تسع سنين بالإتفاق، فإن كان قد وقع الزواج المذكور في شهر شوال من السنة الرابعة من الهجرة

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 26/ فصل في أزواجه.

(2) اسد الغابة في معرفة الصحابة 6: 342. ترجمة امّ سلمة رضي اللَّه عنها.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 412

فهو ابن ثلاث، وإن كان قد وقع في السنة الثالثة فعمره أقل من سنتين.

وقد التفت ابن القيّم إلي هذه الامور عندما قال بعد رواية الحديث:

«وفي هذا نظر، فإنّ عمر هذا كان سنّه لمّا توفّي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم تسع سنين، ذكره ابن سعد، وتزوّجها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في شوّال سنة أربع، فيكون له من العمر حينئذٍ ثلاث سنين، ومثل هذا لا يزوّج.

قال ذلك ابن سعد وغيره».

وكأنّه لذلك اضطرّ أحمد بن حنبل لأنْ ينكر صغر سنّ عمر بن أبي سلمة، قال ابن القيّم:

«ولمّا قيل ذلك للإمام أحمد قال: من يقول إنّ عمر كان صغيراً؟ قال أبوالفرج ابن الجوزي: ولعلّ أحمد قال هذا قبل أن يقف علي مقدار سنّه، فقد ذكر مقدار سنّه جماعة من المؤرخين، ابن سعد وغيره».

ومن العلماء من اضطرّ لأنْ يحرّف الحديث، فيجعل الذي زوَّج

ام سلمة من رسول اللَّه عمر بن الخطّاب لا ابنها عمر، لكنّ هذا أيضاً غير مفيد، فقد روي ابن القيّم عن الواقدي:

«إنّ رسول اللَّه خطب امّ سلمة إلي ابنها عمر بن أبي سلمة، فزوّجها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو يومئذٍ غلام صغير» «1».

أجابت ابنة ابن عربي في مسألةٍ فقهيّة وهي في سنّ الرضاعة … ص: 412

وإنْ تعجب، فعجبٌ قصّة ابنة ابن عربي الأندلسي صاحب (الفتوحات)، إذْ أجابت عن مسألةٍ فقهيّة جهلها عمر بن الخطّاب وكبار الأصحاب، وهي في __________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 26- 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 413

سنّ الرضاعة، نحو سنةٍ أو قريب منها …!!

ذكر ذلك ابن عربي في كتابه المذكور، والشعراني في مختصره المسمّي (لواقح الأنوار القدسيّة) وأورده الحلبي في (سيرته) حيث قال بعد ذكر المتكلّمين في المهد:

«ويضمّ لهؤلاء ما ذكر الشيخ محي الدين ابن عربي رحمه اللَّه سبحانه:

قلت لابنتي زينب مرّةً- وهي في سنّ الرضاعة، قريباً عمرها من سنة-: ما تقولين في الرجل يجامع حليلته ولم ينزل؟ فقالت: يجب عليه الغسل.

فتعجّب الحاضرون من ذلك.

ثمّ إنّي فارقت تلك البنت وغبت عنها سنةً في مكة، وكنت أذنت لوالدتها في الحج، فجاءت مع الحج الشامي، فلمّا خرجت لملاقاتها رأتني من فوق الجمل وهي ترضع، فقالت بصوت فصيح قبل أن تراني امّها: هذا أبي، وضحكت، ورمت بنفسها إليّ.

قال: وقد رأيت- أي علمت- من أجاب امّه بالتسميت وهو في بطنها حين عطست، وسمع الحاضرون كلّهم صوته من جوفها. شهد عندي الثقات بذلك» «1».

تكلّم محمّد مع أبيه عند موته في المصادر السنيّة … ص: 413

وبعد، فلا يتوهمنّ أحد بانحصار خبر تكلّم محمّد بن أبي بكر مع أبيه عند موته، بكتاب سليم بن قيس، فقد وجدنا في (سرّ العالمين) وهو من __________________________________________________

(1) السيرة الحلبيّة 1: 77- 78/ باب ذكر مولده «ص».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 414

مؤلفات أبي حامد الغزالي كما اعترف بذلك الذهبي في (ميزانه) «1» أنّه «دخل محمّد بن أبي بكر علي أبيه في مرض موته فقال له: يا بني، ائت بعمّك عمر لُاوصي له بالخلافة، فقال: يا أبت، كنت علي حقٍّ أو باطل؟ فقال: علي حق،

فقال: وصّ بها لأولادك إن كانت حقّاً، وإلّا فمكّنها لسواك. ثمّ خرج إلي علي، فجري ما جري» «2».

ووجدنا هذا في (تذكرة خواص الامّة) «3» لسبط ابن الجوزي- وهو من علماء أهل السنّة، وقد اعتمد كبار علمائهم علي كتبه، واستندوا إلي أقواله، ووصفوه بالإمامة والحفظ ونحو ذلك من الأوصاف الجليلة … وترجم له غير واحد من المشاهير، كمحمود بن سليمان الكفوي في كتابه المعروف الذي وضعه بتراجم علماء الحنفيّة وأسماه ب (كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار) إذ قال فيه:

«يوسف بن قزغلي بن عبداللَّه البغدادي، سبط الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي، صاحب مرآة الزمان في التاريخ، ذكره الحافظ شرف الدين في معجم شيوخه، كان والده مع موالي الوزير عرف الدين بن هجيرة، ويقال في والده قزغلي بحذف القاف وبالقاف أصح.

ولد في سنة إحدي وثمانين وخمسمائة ببغداد، ونشأ ببغداد وتفقّه وبرع __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 500 ترجمة الحسن الصباح. وانظر سير أعلام النبلاء 19: 328 بترجمةالغزالي.

(2) سرّ العالمين: 11/ باب في ترتيب الخلافة والمملكة.

(3) تذكرة خواص الامّة: 62.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 415

وسمع من جدّه لُامّه، وكان حنبليّاً فتحنبل في صغره لتربية جدّه، ثمّ رحل إلي الموصل، وسمع بالموصل ثمّ رحل إلي دمشق وهو ابن نيف وعشرين سنة وسمع بها، وتفقّه علي جمال الدين الحصيري، وتحوّل حنفيّاً لمّا أنابه قزغلي ابن عبداللَّه كان علي مذهب الحنفيّة.

وكان إماماً عالماً فقيهاً واعظاً جيّداً نبيهاً، يلتقط الدرر من كلمه، ويتناثر الجوهر من حكمه، ويصلح المذنب عندما يلفظ، ويتوب الفاسق العاصي حين ما يعظ، يصدع القلب بخطابه ويجمع العظام النخرة بجنابه، لو استمع له الصخر لانفلق، والكافر الجحود لآمن وصدّق، وكان طلق الوجه، دائم البشر، حسن

المجالسة، مليح المحاورة، يحكي الحكايات الحسنة وينشد الأشعار المليحة، وكان فارساً في البحث، عديم النظير، مفرط الذكاء، إذا سلك طريقاً ينقل فيها أقوالًا ويخرج أوجهاً، وكان من وحداء الدهر بوفور فضله وجودة قريحته وغزارة علمه وحدّة ذكائه وفطنته، وله مشاركة في العلوم ومعرفة بالتواريخ.

وكان من محاسن الزمان وتواريخ الأيّام، وله القبول التام عند العلماء والامراء والخاص والعام، وله تصانيف معتبرة مشهورة …».

ووجدناه في رواية الحافظ السمهودي بلفظ: «ودخل محمّد بن أبي بكر رضي اللَّه عنه علي أبيه في مرض موته فقال: ائت بعمّك عمر لُاوصي له بالخلافة. فقال: يا أبة، كنت علي حقّ أم علي باطل؟ قال: علي حق. قال:

فارض لولدك ما رضيت لنفسك».

وهل قدح أحد من أعلام الإماميّة في كتاب سليم؟ … ص: 415

قد عرفت أنّ ما نسبه إلي صاحب البحار من أنّ بعض أعاظم الإماميّة طعن في سليم بن قيس وكتابه، لا أساس له من الصحّة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 416

والعلّامة الحلّي في كتاب (خلاصة الأقوال) لا يقول بعدم اعتبار الكتاب، ونسبة ذلك إليه كذب آخر، وإنّما ذكر الإختلاف حوله، ثمّ حكم بعدالة سليم، وتوقّفه عن قبول بعض أخبار الكتاب لا يدلّ علي القول بعدم اعتبار الكتاب، لأنّ التوقّف في قدر معيّنٍ من الروايات يشعر بقبول ما عداه، والتوقّف عن القبول لذلك القدر لا يعني الردّ له.

وكلمات الرجل في اسم الشيخ حسن بن داود الحلّي واسم كتابه، مضطربة جدّاً، ممّا يدلّ علي جهله بأسماء علماء أهل الحق وأسماء كتبهم، فكيف يريد التكلّم عن أحوالهم والحال هذه؟ لكن لا اختصاص لهذا الجهل بهذا الرجل … فقد سبقه إلي ذلك صاحب (الصواقع) وصاحب (التحفة) علي عادته.

ثمّ إنّ هذا الشيخ وإنْ كان من كبار علماء الطائفة، إلّاأنّ غرض الرجل من وصفه بالإمام المقتدي

وشيخ الطائفة، الأفقه الأعرف بالأحاديث … غير خافٍ علي النبيه … وإلّا فإنّ أحداً من أصحابنا لم يصفه بهذا الألقاب.

والذي في كتاب ابن داود الحلّي نقلًا عن الشيخ الطوسي هو: «ينسب إليه الكتاب المشهور» وليس في العبارة جملة «وهو موضوع»! بل إنّ الشيخ يقول في (الفهرست) ما نصّه:

«سليم بن قيس الهلالي، يكنّي أبا صادق، له كتاب، أخبرنا به ابن أبي جيد، عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن محمّد بن أبي القاسم الملقّب بماجيلويه، عن محمّد بن علي الصيرفي، عن حمّاد بن عيسي وعثمان بن عيسي، عن أبان بن أبي عيّاش، عن سليم بن قيس.

ورواه حمّاد بن عيسي، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن سليم بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 417

قيس» «1».

هذا، ولم ينقل أحد من الرجاليين عن الشيخ القول بوضع كتاب سليم ابن قيس أبداً، وهذه كتبهم متوفّرة لكلّ أحد.

وبعد؛

فلو فرض اشتمال كتاب سليم- الذي ليس من الكتب التي يستنبط منها أحكام الحلال والحرام في الشريعة، وإنّما موضوعه الأحاديث والأخبار المتعلّقة بحوادث صدر الإسلام والوقائع بعد وفاة النبي عليه وآله الصلاة والسلام- علي خبرٍ لا يرتضيه بعض علماء الطائفة، فإنّ ذلك لا يوجب طعناً في المذهب الحق … بخلاف أهل الخلاف، فإنّ جميع معالم مذاهبهم من الاصول والفرع متّخذة من هذه الكتب التي بأيدينا، ممّا سمّي بالصحاح وغيرها، والحال أنّه قد ثبت باعتراف أئمّتهم اشتمال الكتابين المشهورين بالصحيحين- فضلًا عن غيرهما- علي الأباطيل والأكاذيب والموضوعات، كما ستقفت- بحمد اللَّه تعالي- علي بعض التفصيل في ذلك، وباللَّه التوفيق.

هل كان سليم يري أنّ الأئمّة ثلاثة عشر؟ … ص: 417

ونسب إلي سليم في كتابه القول بكون الأئمّة ثلاثة عشر لا اثني عشر، وقد روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: من ادّعي

أنّه إمام وليس بإمام، يوم القيامة «تري الذين كذبوا علي اللَّه وجوههم مسوّدة» قال الراوي: قلت:

وإنْ كان علويّاً فاطميّاً؟ قال: وإن كان علويّاً فاطميّاً.

وفي (اعتقادات) الصدوق: والظلم هو وضع الشي ء في غير موضعه،

__________________________________________________

(1) كتاب الفهرست للشيخ الطوسي: 143/ 346.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 418

فمن ادّعي الإمامة وليس بإمام فهو الظالم الملعون، ومن وضع الإمامة في غير أهلها فهو ظالم ملعون.

وفي (الفصول المهمّة) عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: ثلاثة لا يكلّمهم اللَّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: من ادّعي الإمامة من اللَّه وليست له، ومن جحد إماماً من اللَّه، ومن زعم أنّ لهما في الإسلام نصيباً.

ومقتضي هذه الأخبار وأمثالها: خروج المدعي للإمامة كذباً، وكذا القائل بإمامته، عن الإسلام.

وكيف يجتمع هذا مع تلك المناقب الجليلة التي تذكر لسليم وكتابه؟

أقول:

إنّه علي فرض وجود هذا المعني في كتاب سليم، فإنّ جعل ذلك من افتراءات سليم افتراء علي سليم، لأنّ من يدّعي وجوده في كتاب سليم لا يقول بثبوت نسبة الكتاب إليه.

إلّاأنّه قد تبيّن بعد النظر الدقيق والفحص التام في ألفاظ الكتاب: عدم وجود ما يدلُّ علي إمامة ثلاثة عشر إمام بعد النبي، بأنْ يكون هناك إمام آخر غير الأئمّة وأوصياء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الإثني عشر … بل الأمر بالعكس، فقد وقع التصريح في مواضع عديدة من الكتاب بكون الأئمّة اثني عشر، وأنّ الأحد عشر منهم من أولاد أميرالمؤمنين وسيّد الوصيّين علي ابن أبي طالب:

فمنها: نقلًا عن عبداللَّه بن جعفر أنّه قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول: ليس في جنّة عدنٍ منزل أفضل ولا أشرف ولا أقرب من العرش من منزلتي، ومعي فيه اثنا عشر من أهل بيتي،

أوّلهم عليّ بن أبي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 419

طالب سيّدهم وأفضلهم وأحبّهم إلي اللَّه ورسوله، وابنتي فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة وهي زوجته في الدنيا والآخرة، وابناي الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، وتسعة من ولد الحسين، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، هداة مهديّون، وأنا المبلّغ عن اللَّه وهم المبلّغون عنّي، وهم حجج اللَّه تبارك وتعالي علي خلقه وشهداؤه في أرضه، من أطاعهم أطاع اللَّه ومن عصاهم عصي اللَّه، لا تبقي الأرض طرفة عين إلّاببقائهم ولا تصلح إلّا بهم، يخبرون الامّة بأمر دينهم، حلالهم وحرامهم، يدلّونهم علي رضا ربّهم وينهونهم عن سخطه» «1».

ومنها: عنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «علي أخي ووزيري ووارثي ووصيّي وخليفتي في امّتي وولي كلّ مؤمنٍ بعدي، ثمّ ابني الحسن ثمّ ابني الحسين، ثمّ تسعة من ولد ابني الحسين، واحد بعد واحد، القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتّي يردوا علَيّ الحوض» «2».

ومنها: عن عليّ عليه السلام في حديث: «فأملي عليّ ما أراد أن يكتب في الكتف، وأشهد علي ذلك ثلاثة رهط: سلمان وأباذر والمقداد، وسمّي من يكون من أئمّة الهدي، الذين أمر اللَّه المؤمنين بطاعتهم إلي يوم القيامة، فسمّاني أوّلهم ثمّ ابنيّ هذان، أومأ بيده إلي الحسن والحسين، ثمّ تسعة من ولد ابني هذا، يعني الحسين» «3».

ومنها: عن علي عليه السلام أنّه قال: «يا سليم، إنّ أوصيائي أحد عشر

__________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 840، الحديث الثاني والأربعون.

(2) المصدر نفسه 2: 645، الحديث الحادي عشر.

(3) المصدر نفسه 2: 658، الحديث الحادي والعشرون.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 420

رجلًا من ولدي، أئمّة هداة مهديّون» «1».

وإذا كان سليم يروي هذه النصوص في كتابه،

فلا يعقل أنْ يروي ما يدلّ علي كون الأئمّة ثلاثة عشر، فيتناقض ويكذّب تلك النصوص المتكثّرة، ومن هنا، فقد قال الدهلوي في (التحفة) أنّ من حكم العقل أنّه إذا روي الإنسان حديثاً عن بعض الأكابر أن لا يروي هو ما يكذّب ذلك الحديث.

والظاهر وقوع الإشتباه ممّن نسب إلي كتاب سليم القول بكون الأئمّة ثلاثة عشر، وكأنّ منشأ الإشتباه ما رآه في الكتاب من الخبر في أنّه سيكون من ولد النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم اثنا عشر إماماً، فتوهّم أنّ الأئمّة من بعده علي والإثنا عشر، فهم ثلاثة عشر إماماً.

لكنّ أميرالمؤمنين عليه السلام داخل في الاثني عشر، وعدّه في أولاد النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم مجازاً صحيح بلا ريب، لكونه بمنزلة ابنه بلا كلام … قال الشيخ التقي المجلسي: «بل فيه- أي في كتاب سليم- إنّ الأئمّة اثنا عشر من ولد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهو علي التغليب، مع أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان بمنزلة أولاد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كما أنّه كان أخاه، وأمثال هذه العبارة موجودة في الكافي وغيره» «2».

وقال أبو علي في (منتهي المقال):

«وأمّا كون الأئمّة ثلاثة عشر، فإنّي تصفّحت الكتاب من أوّله إلي آخره، فلم أجده فيه، بل في مواضع عديدة إنّهم إثنا عشر، وأحد عشر من ولد

__________________________________________________

(1) المصدر نفسه 2: 824، الحديث السابع والثلاثون.

(2) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه 14: 371.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 421

علي» «1».

وتلخّص:

أنّه لم يثبت عند القائلين باعتبار كتاب سليم وجود إمامة غير الأئمّة الإثني عشر فيه، كما هو في نفس الأمر كذلك …

ووقوع الإشتباه ممّن يقدح في كتاب سليم ولا يري اعتباره …

ليس بعزيز، وما أكثر الأوهام والأغلاط الواقعة من محدّثي أهل السنّة، وليس منهم أحد إلّاوقد صدر منهم الوهم والغلط، حتّي الصّحابة، كما يظهر بالرجوع إلي (عين الإصابة في استدراك عائشة علي الصحابة) وغيره من كتب تلك العصابة.

هل لكتاب سليم راوٍ غير أبان … ص: 421

لقد نسب إلي تصانيف الشيخين، ومؤلفات الحسنين، وإفادات علي بن أحمد العقيقي، وعلي بن أبي طالب القيرواني: إنّ سليماً لم يكن يظهر كتابه لأحدٍ، حتّي إذا كان آخر عمره ويأس من الحياة، قال ابن أبي عيّاش:

«فدعاني وخلا بي وقال: يا أبان! قد جاورتك فلم أر منك إلّاما احبّ، وإنّ عندي كتباً سمعتها عن الثقات وكتبتها بيدي، فيها أحاديث لا احبّ أن تظهر للنّاس، لأنّ النّاس ينكرونها ويعظّمونها وهي حقّ- إلي أن قال-:

وإنّي هممت حين مرضت أن أحرقها، فتأثّمت من ذلك وفظعت به، فإن جعلت لي عهد اللَّه وميثاقه أن لا تخبر بها أحداً ما دمت حيّاً، ولا تحدّث بشي ء منها بعد موتي، إلّامن تثق به كثقتك بنفسك، وإن حدث بك حدث أن __________________________________________________

(1) منتهي المقال 3: 379/ ترجمة سليم بن قيس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 422

تدفعها إلي من تثق به من شيعة عليّ بن أبي طالب ممّن له دين وحسب.

فضمنت ذلك له، فدفعها إليّ، وقرأها كلّها علَيّ، فلم يلبث سليم أن هلك.

فنظرت فيها بعده، وفظعت بها، وأعظمتها واستصعبتها، لأنّ فيها هلاك جميع امّة محمّد صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، من المهاجرين والأنصار والتابعين، غير عليّ بن أبي طالب وأهل بيته عليهم السلام وشيعته.

فكان أوّل من لقيت- بعد قدومي البصرة- الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو يومئذ متوار من الحجّاج، والحسن يومئذ من شيعة عليّ بن أبي طالب، من مفرطيهم، نادم متلهّف علي ما فاته من نصرة عليّ

والقتال معه يوم الجمل، فخلوت به في شرقي دار أبي خليفة الحجّاج بن أبي غياث، فعرضتها عليه، فبكي ثمّ قال: ما في حديثه شي ء إلّاحقّ، قد سمعته من الثقات من شيعة عليّ وغيرهم» «1».

فمن مراجعة هذه الكتب يظهر انحصار رواية كتاب سليم بأبان بن أبي عياش …

وأبان عند الإماميّة ضعيف أو كذّاب؟ … ص: 422

لكنّ أجلّاء هذه الطائفة، كابن داود وغيره من أكابر فنّ التنقيد، يصرّحون بضعفه، وجمع منهم قالوا: هومفتر كذّاب، وأنّه الذي افتري علي سليم ووضع الكتاب عليه، فاعتبروا يا اولي الأبصار.

أقول:

أمّا قول «الشيخين» بانحصار رواية كتاب سليم بأبان بن أبي عيّاش، فإنْ أراد من «الشيخين»: الكشّي والنجاشي،- كما هو مصطلح العلّامة المجلسي __________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 558- 559. مقدّمة الكتاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 423

في أوائل البحار- فهما غير قائلين بالمقالة المذكورة، كما لا يخفي علي من طالع كتابيهما … وهذه عبارة الكشي:

«سليم بن قيس الهلالي: حدّثني محمّد بن الحسن البراثي قال: حدّثنا الحسن بن علي بن كيسان، عن إسحاق بن إبراهيم بن عمر اليماني، عن ابن اذينة، عن أبان بن أبي عياش قال: هذا نسخة كتاب سليم بن قيس العامري ثمّ الهلالي، دفعه إليّ أبان بن أبي عياش وقرأه، وزعم أبان أنّه قرأه علي عليّ بن الحسين صلوات اللَّه عليهما، قال: صدق سليم رحمة اللَّه عليه، هذا حديث نعرفه.

محمّد بن الحسن قال: حدّثنا الحسن بن علي بن كيسان، عن إسحاق ابن إبراهيم، عن ابن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي قال قلت لأميرالمؤمنين عليه السلام: إنّي سمعت من سلمان ومن مقداد ومن أبي ذر أشياء في تفسير القرآن ومن الرواية عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وسمعت منك تصديق

ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم تخالفونهم، وذكر الحديث بطوله.

فقال أبان: فقدّر لي بعد موت علي بن الحسين عليهما السلام أنّي حججت ولقيت أباجعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام، فحدّثته بهذا الحديث كلّه لم أخط منه حرفاً، فاغرورقت عيناه ثمّ قال: صدق سليم، قد أتي أبي بعد قتل جدّي الحسين عليه السلام وأنا قاعد عنده، فحدّثه بهذا الحديث بعينه فقال له أبي: صدقت، قد حدّثني أبي وعمّي الحسن بهذا الحديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام، فقالا: صدقت، قد حدّثك بذلك ونحن شهود، ثمّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 424

حدّثاه أنّهما سمعا ذلك من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ثمّ ذكر الحديث بتمامه» «1».

وعبارة النجاشي ليس فيها ذكرٌ من رواية أبان، فضلًا عن كون الرواية منحصرة فيه، بل صرّح برواية إبراهيم بن عمر اليماني، وهذا نصّ كلامه:

«سليم بن قيس الهلالي، يكنّي أبا صادق، له كتاب، أخبرني علي بن أحمد القمي قال: حدّثنا محمّد بن الحسن بن الوليد قال: حدّثنا محمّد بن أبي القاسم ماجيلويه، عن محمّد بن علي الصيرفي، عن حمّاد بن عيسي وعثمان بن عيسي، قال حمّاد بن عيسي: وحدّثنا إبراهيم بن عمر اليماني، عن سليم بن قيس بالكتاب» «2».

وإنْ أراد من «الشيخين» الطوسي والنجاشي- كما هو مصطلح التقي المجلسي في رجال روضة المتقين- فقد عرفت كلام النجاشي آنفاً، وكلام الشيخ الطوسي في (الفهرست) سابقاً، وقد ذكر تعدّد الطريق إلي الكتاب. وأمّا (كتاب الرجال) للشيخ الطوسي، فلم ينقل أحد من العلماء الإنحصار المذكور عنه، كما لا يخفي علي من تتبّع، وكيف يدّعي ذلك وقد نصَّ في (الفهرست)

علي رواية إبراهيم بن عمر اليماني الكتاب كذلك؟

فظهر الكذب والإفتراء علي هؤلاء الأئمّة الأجلّاء.

وأمّا أنّ «الحسنين» - والمقصود منهما: العلّامة الحلّي، وهو الحسن بن المطهّر، والشيخ حسن بن داود الحلّي- يقولان بالمقالة المذكورة، فهذا أيضاً كذب، لأنّ العلّامة الحلّي- وإنْ أورد قصّة تسليم الكتاب إلي أبان، نقلًا عن __________________________________________________

(1) رجال الكشي: 104- 105/ 167.

(2) رجال النجاشي: 8/ 4.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 425

السيّد علي بن أحمد العقيقي- فإنّ ابن داود لم يذكرها، لا بترجمة سليم ولا بترجمة أبان، من كتابه في الرجال.

وأمّا نسبة ذلك القول إلي القيرواني، والإحتجاج به، فموقوفة علي وثاقة القيرواني، وكونه من علماء أهل الحق، ثمّ التصريح باسم الكتاب المنقول عنه … مع أنّه ليس من علماء الشيعة المشاهير، وليست له ترجمة في كتب الرجال، ولا نقل عنه في مسألتنا هذه في كتابٍ من كتبنا … نعم، له ذكر في كتب أهل السنّة، وقد نقل عنه الحافظ السهيلي الوجه في اسم ذي القرنين في كتابه (الروض الأنف) «1».

وأمّا السيّد العقيقي، فقد قال العلّامة الحلّي في (الخلاصة):

«قال السيّد علي بن أحمد العقيقي: كان سليم بن قيس من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، طلبه الحجاج ليقتله، فهرب وآوي إلي أبان بن أبي عياش، فلمّا حضرته الوفاة قال لأبان: إنّك لك علَيَّ حقّاً، وقد حضرني الموت، يا ابن أخي، إنّه كان من الأمر بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كيت وكيت، وأعطاه كتاباً، فلم يرو عن سليم بن قيس أحد من الناس سوي أبان» «2».

ومن العجيب: ما ذكره من قصد سليم إحراق الكتاب وهو يريد التعريض بسليم، لأنّ سليماً إنْ كان قد قصد ذلك ولم يفعله، فقد فعل ذلك أبوبكر بن أبي

قحافة!! لرواية القوم كلّهم أنّه قد أحرق ما جمعه من الحديث __________________________________________________

(1) الروض الانف 3: 178.

(2) خلاصة الأقوال: 83، ترجمة سليم بن قيس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 426

عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم «1».

هذا كلّه فيما يتعلّق بتسليم سليم الكتاب إلي أبان بن أبي عياش.

وأمّا مسألة وثاقة أبان … فإنّ أبان بن أبي عيّاش لا توثيق له في كتب أصحابنا أصلًا …

أبان من مشايخ أبي حنيفة وأبي يوسف … ص: 426

لكنّ الرّجل من مشايخ أبي حنيفة إمامهم الأعظم، ومن رجال مسنده، حيث روي عنه فيه في مواضع عديدة، كالرواية التالية:

«أبو حنيفة: عن أبان بن أبي عياش، عن إبراهيم بن عبداللَّه بن مسعود- رضي اللَّه عنه- قال: رمقت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في الوتر، فرأيته قنت قبل الركوع» «2».

وقد مدح بعض الأعلام منهم رجال مسند أبي حنيفة، حتّي قال الشعراني في (الميزان):

«قد منّ اللَّه تعالي عليّ بمطالعة مسانيد الإمام أبي حنيفة الثلاثة من نسخةٍ عليها خطوط الحفّاظ، آخرهم الحافظ الدمياطي، فرأيته لا يروي حديثاً إلّاعن خيار التابعين العدول الثقاة، الذين هم من خير القرون، بشهادة رسول اللَّه …

فكلّ الرواة الذين بينه وبين سول اللَّه عدول أخيار، ليس فيهم كذّاب ولا متّهم بكذب. وناهيك- يا أخي- بعدالة من ارتضاهم الإمام أبو حنيفة، رضي اللَّه عنه، لأنْ يأخذ عنهم أحكام دينه، مع شدّة تورّعه …» «3».

__________________________________________________

(1). تذكرة الحفاظ 1: 5/ ترجمة أبي بكر.

(2) جامع مسانيد أبي حنيفة 1: 317/ الباب الخامس، في الصلاة.

(3) الميزان للشعراني 1: 82- 83/ فصل، في تضعيف قول من قال: إنّ أدلّة مذهب أبي حنيفة ضعيفة غالباً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 427

وأيضاً: فأبان من مشايخ القاضي أبي يوسف، وقد أخرج عنه في كتابه (الخراج)

فقال في موضع:

«حدّثني أبان بن أبي عياش، عن الحسن البصري، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: ليس فيما دون خمسة أوسق من البرّ والذرّة والتمر والزبيب صدقة، ولا في ما دون خمسة أواقي صدقة، ولا فيما دون خمسٍ من الإبل صدقة» «1».

وأيضاً: فقد روي المزّي في (تهذيب الكمال) قال: «وقال محمّد بن موسي الحرشي وعبدالرحمن بن المبارك العيشي، عن حماد بن زيد قلت لسلم العلوي: حدّثني، قال: يا بُنيّ عليك بأبان، فإنّي قد رأيته يكتب بالليل عند أنس بن مالك عند السراج. زاد العيشي عن حماد قال: فذكرت ذلك لأيّوب فقال: ما زال نعرفه بالخير منذ كان» «2».

لكنّك تجد الذمّ الشديد له في كتبهم بكثرة، ونظائره في أئمّتهم ورواة صحاحهم كثيرون جدّاً …

تكلّم القوم في أبان … ص: 427

وإليك ترجمة أبان عند الذهبي.

«أبان بن أبي عياش فيروز، وقيل: دينار، الزاهد، أبو إسماعيل البصري، أحد الضعفاء، وهو تابعي صغير، تحمّل عن أنس وغيره، وهو من موالي عبدالقيس.

__________________________________________________

(1) الخراج للقاضي أبي يوسف: 53/ فصل، ما ينبغي أن يعمل به في السواد.

(2) تهذيب الكمال 2: 20- 21.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 428

قال شعيب بن حرب: سمعت شعبة يقول: لأن أشرب من بول حماري حتّي أروي، أحبّ إليّ من أقول ثنا أبان بن أبي عياش.

وروي ابن إدريس وغيره عن شعبة قال: لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان.

قال أحمد: هو متروك الحديث.

كان وكيع إذا مرّ علي حديثه يقول: رجل، ولا يسمّيه استضعافاً له.

وقال يحيي بن معين: متروك. وقال مرّة: ضعيف.

وقال أبو عوانة: كنت لا أسمع بالبصرة حديثاً إلّاجئت به أبان، فحدّثني به عن الحسن حتّي جمعت عنه مصحفاً، فما استحلّ أن أروي عنه.

وقال أبو إسحاق

السعدي الجوزجاني: ساقط. وقال مرّة: متروك.

ثمّ ساق ابن عدي لأبان جملة أحاديث منكرة.

قال يزيد بن هارون: وقال شعبة: داري وحماري في المساكين صدقة إن لم يكن أبان بن أبي عياش يكذب في الحديث. قلت له: فلم سمعت منه؟

قال: ومن يصبر عن ذا الحديث؟ يعني حديثه: عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبداللَّه، عن امّه أنّها قالت: رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قنت في الوتر قبل الركوع.

ورواه خلّاد بن يحيي ثنا الثوري عن أبان.

وقال عبدان عن أبيه عن شعبة: لولا الحياء من الناس ما صلّيت علي أبان.

وقال يزيد بن زريع: إنّما تركت أبان لأنّه روي حديثاً عن أنس فقلت له: عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ فقال: وهل يروي أنس إلّاعن النبيّ صلّي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 429

اللَّه عليه وسلّم؟

قال الحسن بن الفرج: عن سليم بن حرب، عن حمّاد بن يزيد قال:

جاءني أبان بن أبي عياش فقال: احبّ أن تكلّم شعبة أن يكفّ عنّي. قال:

فكلّمته، فكفّ عنه أيّاماً، فأتاني في الليل فقال: إنّه لا يحلّ الكفّ عنه، إنّه يكذب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قال ابن حبّان: فمن تلك الأشياء التي سمعها من الحسن فجعلها عن أنس: أنّه روي عن أنس أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: خطبنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم علي ناقته الجدعاء فقال: أيّها النّاس، كأنّ الحقّ فيها علي غيرنا وجب، وكأنّ الموت فيها علي غيرنا كُتِب، الحديث. رواه ابن أبي السري العسقلاني، ثنا عبدالعزيز بن عبدالصمد، ثنا أبان بهذا» «1».

أقول:

فانظر كيف يطعنون في مشايخ أئمتهم ورجال مسانيدهم!

فهذا حال كتبهم ورواياتهم …

حاصل الكلام … ص: 429

وحاصل الكلام حول كتاب سليم هو:

إنّ ما ذكر قدحاً في هذا الكتاب ليس

بقادح، لأنّه إمّا استبعاد وإمّا اشتباه.

رواية إبراهيم اليماني لكتاب سليم … ص: 429

وإنّ ما ادّعي من انحصار روايته بأبان بن أبي عياش غير صحيح، فإنّ لعلمائنا الأعلام إلي هذا الكتاب طرقاً تنتهي إلي إبراهيم بن عمر اليماني، يرويه __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 124- 127/ 2156، ترجمة أبان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 430

عن سليم، وإبراهيم ثقة:

قال العلّامة في (خلاصة الأقوال) في القسم الأوّل منه المختصّ بالثقات ونحوهم:

«إبراهيم بن عمر الصنعاني، قال النجاشي رحمه اللَّه: إنّه شيخ من أصحابنا ثقة، روي عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه، ذكر ذلك أبوالعبّاس وغيره.

وقال ابن الغضائري: إنّه ضعيف جدّاً، روي عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام، وله كتاب، يكني أبا إسحاق.

والأرجح عندي قبول روايته، وإنْ حصل بعض الشك بالطعن فيه» «1».

قال المولي التقي في (رجال روضة المتقين) بعد نقله:

«بل لا يحصل الشك، لأنّ اصوله معتمد الأصحاب، بشهادة الصدوق والمفيد، ووثّقه الثّقتان، والجارح مجهول الحال، ولو لم يكن كذلك لكان عليه أن يقدّم الجرح، كما ذكره العلّامة في كتبه الاصوليّة» «2».

وعلي فرض الانحصار، فغاية الأمر كون الكتاب مرويّاً بطريقٍ ضعيف، وضعف الطريق لا يوجب الطعن والتشنيع، فهناك الآلاف من الأحاديث الضعيفة مرويّة في كتب القوم، خاصّةً في مسائل الحلال والحرام واصول استنباط الأحكام.

علي أنّ أكثر روايات كتاب سليم معتضدة بروايات صحيحة وأحاديث معتمدة، ولذا قال الشيخ أبو علي الحائري في (منتهي المقال):

«ثمّ اعلم أنّ أكثر الأحاديث الموجودة في الكتاب المذكور موجود في __________________________________________________

(1) خلاصة الأقوال: 6/ 15 باب إبراهيم.

(2) رجال روضة المتقين 14: 36.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 431

غيره من الكتب المعتبرة، كالتوحيد، واصول الكافي، والروضة، وإكمال الدين وغيرها، بل شذّ عدم وجود شي ء من أحاديثه في غيره من الاصول المشهورة» «1».

وقال المجلسي:

«وأكثر أخباره مطابقة لما روي بالأسانيد الصحيحة في الاصول المعتبرة» «2».

__________________________________________________

(1) منتهي المقال 3: 381/ 1356 ترجمة سليم.

(2) بحارالأنوار 30: 134/ الباب 19.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 433

ملحقٌ في تحقيق حال الحسن البصري من حيث التشيّع … ص: 433

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 435

قال الفيض آبادي: … ص: 435

ذكر أبان بن أبي عيّاش أنّه اجتمع بالحسن البصري، ووصفه بالتشيّع لأميرالمؤمنين عليه السلام، فإنْ كان كاذباً في وصفه بذلك، فهذا من افتراءاته وأكاذيبه، وإنْ كان صادقاً فكيف يجتمع مع رواية (الاحتجاج) للطبرسي:

«لمّا فرغ أميرالمؤمنين عليه السلام من قتال أهل البصرة مرّ بالحسن البصري وهو يتوضّأ.

فقال له: يا حسن، لقد أكثرت من إراقة الماء.

فقال: لقد أكثرت من إراقة الدماء.

فقال: أسبغ وضوءك.

فقال: واللَّه لقد قتلت بالأمس قوماً كانوا يصلّون الخمس ويسبغون الوضوء.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: قد كان ما رأيت، فما منعك أن تعين علينا عدوّنا؟

فقال: واللَّه لأصدقنّك يا أميرالمؤمنين، لقد خرجت في أوّل يومٍ، فاغتسلت وتحنّطت وصببت علَيَّ سلاحي، وأنا لا أشكّ في أنَّ التخلّف عن ام المؤمنين عائشة هو الكفر، فلمّا انتهيت إلي موضع نادي منادٍ: يا حسن! إرجع، فإنّ القاتل والمقتول في النار، فرجعت ذعراً وجلست في بيتي، فلمّا كان اليوم الثاني لم أشك أنّ التخلّف عن ام المؤمنين هو الكفر، فتحنّطت استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 436

وصببت علَيّ سلاحي وخرجت اريد القتال، حتّي انتهيت إلي ذلك الموضع، فنادانيِ من خلفي: يا حسن! إرجع، فإنّ القاتل والمقتول في النار.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: صدقت، أتدري من ذلك المنادي؟

قال: لا.

قال: ذاك أخوك إبليس، وصدقك أنّ القاتل والمقتول منهم في النار» «1».

وهذا الحديث- وإن كانت أمارات الوضع لائحة عليه، لأنّ من المحال أنْ يمنع إبليس الحسن من أن يخرج إلي قتال الأمير الذي هو كفر بزعم الشيعة- يكذّب دعوي أبان تشيّع الحسن للأمير، وإلّا لزم القول بجواز الجمع بين التشيّع والاخوّة لإبليس، إلي غير ذلك من المفاسد.

أقول:

أوّلًا: كيف يجتري ء هذا الرجل علي تكذيب أبان ووصفه بالإفتراء، وهو

يستلزم تكذيب شيخه وإمامه الأعظم أبا حنيفة كما عرفت؟

وثانياً: أيّ تناقض بين كلام أبان ورواية الإحتجاج؟ وهل ادّعي أبان كون الحسن البصري من شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام في زمان حكومته وحروبه؟ لقد قال أبان: «والحسن يومئذٍ من شيعة علي بن أبي طالب» ولا ريب أنّ الحسن كان يتظاهر بالتشيّع في تلك الأيّام الّتي التقي بها أبان، ولم يكن الحسن كذلك وحده، بل أمثاله- الذين كانوا يتظاهرون بالتشيّع وهم في الباطن منافقون- كثيرون..

وثالثاً: إنّ إبليس قد يدعو في بعض الأحيان إلي أفعال الخير، وهذا ما ينصُّ عليه كبار علماء أهل السنّة في مختلف الموارد، فقد ذكر الشيخ __________________________________________________

(1) الإحتجاج علي أهل اللجاج 1: 402- 403.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 437

عبدالوهّاب الشعراني في كتاب (اليواقيت) عن الشيخ ابن عربي أنّ الشيطان يدخل حبّ أهل البيت في قلوب المؤمنين! وهذه عبارته:

«وأكثر ما يظهر ذلك- أي الضلال- بسبب الأصل الصحيح في الشيعة لاسيّما في الإماميّة منهم، فأدخلت عليهم الشياطين حبّ أهل البيت واستفراغ الحبّ فيهم، ورأوا أنّ ذلك من أسني القربات إلي اللَّه تعالي ورسوله، وكذلك هو لو وقفوا ولم يزيدوا عليه بغض الصحابة وسبّهم».

وفي (روضة العلماء):

«سمعت الشيخ الإمام أبا محمّد عبداللَّه بن الفضل، يحكي عن أبي حازم، عن الحاكم قال: لمّا خرج نوح صلوات اللَّه عليه من السفينة واستقرّ، وهلك قومه، جاءه إبليس لعنه اللَّه.

وقال: يا نوح! إنّ لك عندي يداً عظيماً، فاسألني ما شئت فأصدقك وأنصحك.

قال: فاهتمّ نوح صلوات اللَّه عليه من كلامه، فأوحي اللَّه تعالي إليه أن سله فإنّ عظته حجّة عليه. قال: أخبرني بما أغويت أخلاف بني آدم علي هلكتهم.

قال: علي الخبير سقطت يا نوح فاسمع.

هو الكبر والبخل والحرص والحسد، وسانبّئك بذلك:

ألم تر

أنّ اللَّه تعالي لمّا خلق آدم، أمر ملائكة السماء السابعة بالسّجود له فسجدوا، فحملني الحسد إذ فُضِّلَ علَيّ أن لا أسجد له، فاخرجت من جميع ملكوت السماوات، فزجرت، فصرت شيطاناً رجيماً، فهذا من الحسد.

ألم تر أنّ اللَّه تعالي لمّا خلق آدم وأسكنه الجنّة وفوّضها بجميع ما فيها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 438

إليه ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها، فحمله الحرص أن يأكل منها، فاخرج من جميع ما فيها، فهذا من الحرص.

ألم تر أنّ اللَّه تعالي لمّا خلق الفردوس فنظر إليها فأعجبته فقال: أنت محرّمة علي كلّ جبّار وعلي كلّ بخيل، فهذا في الكبر والبخل.

واللَّه يا نوح! ما كتمتك وما غششتك، ولا ادّخرت عنك نصحك.

قال نوح صلوات اللَّه عليه: فأخبرني باليد الذي لك عندي، فواللَّه إنّك لبغيض إليّ، فكيف أرضي باتّخاذ الأيادي عندك؟!

قال: بلي، إنّ قومك كانوا امّة من الامم كثيرة لا يحصي عددهم إلّااللَّه تعالي وكنت منهم في عناء طويل، فدعوت ربّك فاغرقوا، وصرت فارغاً لقوم آخرين».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان عن ابن عمر قال: لقي إبليس موسي، فقال: يا موسي! أنت الذي اصطفاك اللَّه برسالته وكلّمك تكليماً إذ تبت، وأنا اريد أن أتوب، فاشفع لي إلي ربّي أن يتوب علَيّ.

قال موسي: نعم. فدعا موسي ربّه، فقيل: يا موسي! قد قضيت حاجتك. فلقي موسي إبليس وقال: قد امرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك. فاستكبر وغضب وقال: لم أسجد له حيّاً أسجد له ميّتاً؟!

ثمّ قال إبليس: يا موسي! إنّ لك علَيّ حقّاً بما شفعت لي إلي ربّي، فاذكرني عند ثلاث لا اهلكك فيهنّ: اذكرني حين تغضب، فإنّي أجري منك مجري الدم، واذكرني حين تلقي الزحف، فإنّي آتي ابن

آدم حين يلقي الزحف، فاذكّره ولده وزوجته حتّي يولّي، وإيّاك أن تجالس امرأة ليست بذات استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 439

محرم، فإنّي رسولها إليك ورسولك إليها» «1».

لكن المراد من «الخير» هنا هو «الشرّ الأقلّ» إذ لا ريب أنّ اعتزال الحرب أقلّ شرّاً وضرراً من محاربة أميرالمؤمنين عليه السلام …

وكلّ ما يذكره القوم جواباً عن الأحاديث المذكورة وأمثالها، فهو جوابنا عن السؤال حول رواية (الإحتجاج)، وأنّه كيف منع إبليس الحسن البصري من دخول الحرب ضد أميرالمؤمنين؟

ورابعاً: لكنَّ الحقيقة هي: أنّ الشيطان أراد بقاء الحسن البصري في هذا العالم، لأنّه لو دخل الحرب لقتل، فبقي كي ينفّذ إلقاءات الشيطان، بإحداث البدع والمنكرات في الدين، فيضلّه ويضلّل بسببه امماً من الناس … وهذا ممّا تجده أيضاً في أخبار القوم وكتبهم. قال أبوالفرج ابن الجوزي في (تلبيس إبليس):

«أخبرنا أبو محمّد ابن القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: حدّثنا أبو محمّد، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد ابن يعقوب، قال: حدّثنا محمّد بن يوسف الجوهري، قال: حدّثنا أبو غسان النهدي قال: سمعت الحسين بن صالح يقول: إنّ الشيطان ليفتح للعبد تسعةً وتسعين باباً من الخير يريد به باباً من الشرّ».

وخامساً: إنّه كما دعا إبليس الحسن البصري إلي اعتزال القتال وقال له:

القاتل والمقتول في النار، وصدّقه أميرالمؤمنين عليه السلام، كذلك قد علَّم إبليس أباهريرة أن يقرأ آية الكرسي إذا آوي إلي فراشه … فلمّا حكي ذلك لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم صدّقه … وقد أخرج البخاري في __________________________________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 1: 125.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 440

(صحيحه) ذلك، وهذه رواية البخاري:

«عن أبي هريرة قال: وكّلني رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنّك إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقال: دعني فإنّي محتاج وعلَيّ عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخلّيت عنه فأصبحت.

فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا أباهريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟

قال: قلت: يا رسول اللَّه! شكي حاجة شديدة وعيالًا، فرحمته فخلّيت سبيله.

قال: أما إنّه قد كذبك وسيعود.

فرصدته، فجعل يحثو من الطّعام فأخذته وقلت: لأرفعنّك إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. قال: دعني فإنّي محتاج وعلَيّ عيال، لا أعود، فرحمته وخلّيت سبيله. فأصبحت.

فقال لي رسول اللَّه: يا أباهريرة! ما فعل أسيرك؟

قلت: يا رسول اللَّه! شكي حاجة شديدة وعيالًا، فرحمته فخلّيت سبيله.

قال: أما إنّه قد كذبك وسيعود.

فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنّك إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وهذا آخر ثلاث مرّات أنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود.

قال: دعني اعلّمك كلمات ينفعك اللَّه بها.

قلت: ما هو؟

قال: إذا آويت إلي فراشك فاقرأ آية الكرسي: «اللَّه لا إله إلّاهو الحيُ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 441

القَيُّومُ» حتّي تختم الآية، فإنّك لن يزال عليك من اللَّه حافظ ولا يقربك شيطان حتّي تصبح، فخلّيت سبيله، فأصبحت.

فقال لي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ما فعل أسيرك البارحة؟

فقلت: يا رسول اللَّه! زعم أنّه يعلّمني كلمات ينفعني اللَّه بها فخلّيت سبيله.

قال: ما هي؟

قال لي: إذا آويت إلي فراشك فاقرأ آية الكرسي من أوّلها حتّي تختم الآية «اللَّه لا إله إلّاهو الحيُّ القَيُّومُ» وقال: لن يزال عليك من اللَّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتّي تصبح، وكانوا أحرص شي ء علي الخير.

فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: أمّا إنّه قد صدقك وهو كذوب،

تعلم من تخاطب مذ ثلاث ليال يا أباهريرة؟

قال: لا.

قال: ذاك شيطان» «1».

والألطف من ذلك كلّه: ما رواه القوم في مناقب خليفتهم الثاني، من تعلّمه فضل سورة البقرة من إبليس … قال الشيخ إبراهيم الوصابي اليمني الشافعي في كتاب (الإكتفاء):

«عن ابن مسعود: إنّ رجلًا من أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم لقي رجلًا من الجنّ، فصارعه صاحب محمّد فقال له الجنّي: عاودني، فعاوده فصرعه ثانياً، فقال له الصحابي: إنّي لأراك ختيلًا سخيفاً ذراعك ذراع الكلب، أفكذلك أنتم معشر الجنّ أو أنت منهم كذا؟ قال: لا واللَّه إنّي منهم لضليع. ثمّ __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 3: 132- 133/ كتاب الوكالة، باب إذا وكّل رجلًا …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 442

قال: عاودني الثالثة، فإن صرعتني علّمتك شيئاً ينفعك، فعاوده فصرعه، فقال:

هل تقرأ آية الكرسي؟ قال: نعم. قال: فإنّك لا تقرؤها في بيت إلّاخرج منه الشيطان، ثمّ لا يدخل حتّي يصبح.

فقال رجل من القوم: من ذلك الرجل، يا أباعبدالرحمن من أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ هو عمر؟ قال: من يكون إلّاعمر؟

أخرجه المحبّ الطبري في الرياض.

وفي اخري له رضي اللَّه عنه قال: لقي رجل شيطاناً في سكّة من سكك المدينة، فصارعه فصرعه الرجل فقال: دعني، فإنّك إن تدعني اخبرك بشي ء يعجبك. فقال: لا أدعك حتّي تخبرني، وعَضّه في إصبعه. فقال: هل تقرأ سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: فإنّ الشيطان لا يسمع منها شيئاً إلّاأدبر وله عجيج كعجيج الحمار.

فقيل لابن مسعود: من ذلك الرجل؟ قال: ومن عسي أن يكون إلّاعمر.

أخرجه عبداللَّه بن مسعود الأندلسي في كتابه الشفا» «1».

ومن لطائف الامور: وضعهم الأحاديث في فضائل خلفائهم والدفاع عنهم عن لسان إبليس نفسه …

ومن ذلك: ما رواه القاضي أبوبكر أحمد بن

الضحّاك في (فضائل عمر)، والوصابي في (الاكتفاء في فضائل الخلفاء) والمحبّ الطبري في (الرياض النضرة في فضائل العشرة) نقلًا عن أحمد بن الضحاك، واللفظ للأخير:

«عن الأعمش قال: خرجت في ليلةٍ مقمرةٍ اريد المسجد، فإذا أنا بشي ء

__________________________________________________

(1) الاكتفاء في مناقب الخلفاء- مخطوط. وانظر الرياض النضرة 1: 361.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 443

عارضني فاقشعرّ منه جسدي.

فقلت: من الجنّ أم من الإنس؟

فقال: بل من الجنّ.

فقلت: مؤمن أم كافر؟

فقال: بل مؤمن.

فقلت: هل فيكم من هذه الأهواء والبدع شي ء؟

قال: نعم.

ثمّ قال: وقع بيني وبين عفريت من الجنّ اختلاف في أبي بكر وعمر، فقال العفريت: إنّهما ظلما عليّاً واعتديا عليه.

فقلت له: بمن ترضي حكماً بيني وبينك؟

قال: بإبليس.

فأتيناه فقصصنا عليه القصّة فضحك.

ثمّ قال: هؤلاء من شيعتي وأنصاري وأهل مودّتي.

ثمّ قال: ألا احدّثكم بحديث؟

قلنا: بلي.

قال: اعلمكم أنّي عبدت اللَّه تعالي في السماء الدنيا ألف عام، فسمّيت فيها العابد، وعبدت اللَّه في الثالثة ألف عام فسمّيت فيها الراغب، ثمّ رفعت إلي الرابعة، فرأيت سبعين ألف صفّ من الملائكة يستغفرون لمحبّي أبي بكر وعمر، ثمّ رفعت إلي الخامسة، فرأيت فيها سبعين ألف ملك يلعنون مبغضي أبي بكر وعمر.

أخرجه القاضي أبوبكر أحمد بن الضحّاك في فضائل عمر بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 444

الخطّاب» «1».

وإذا كان الخصم يري أنّ الشيطان لا يدعو إلّاإلي الشر، فهو- إذن- يعترف بكون حبّ الشيخين شرّاً لا خير فيه أبداً … وهذا من الأدلّة الإلزاميّة التي لا مفرّ لهم منها …

وسادساً: فإنّ خبر (الاحتجاج) قد رواه القوم في كتبهم وإنْ مختصراً …

قال القاضي أبو جعفر محمّد بن عمر الشعبي في (الكفاية):

«روي في الأخبار: إنّ عليّاً مرّ علي الحسن البصري وهو يتوضّأ، فقال له: أسبغ الوضوء يا غلام. فقال الحسن لعلي:

قتلت الوفاً ممّن كان يسبغ الوضوء.

وإنّما أراد به المحاربة التي وقعت بينه وبين معاوية، فقتل كثير من أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

فقال له علي: أحزنك ذلك؟ فقال: نعم، فقال له علي: أحزنك اللَّه تعالي».

وهذا الخبر يدلّ علي شدّة نصب الحسن البصري وعناده لأميرالمؤمنين عليه السلام، فكان أخاً لإبليس حقّاً …

وقد حاول الشعبي- صاحب الكفاية- أن يذكر لدعاء الإمام علي الحسن محملًا كيلا يدلّ علي الذمّ له، فقال:

«ثمّ دعاء علي ليس علي وجه الغضب، وإنّما أراد به أحزنك اللَّه في أمر الدين، فاستجاب اللَّه دعاءه. فروي أنّه لم يضحك بعد ذلك أربعين سنة».

لكنّه تأويل سخيف ومضحك، كما لا يخفي …

__________________________________________________

(1) الرياض النضرة في مناقب العشرة 1: 361/ 251.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 445

وتلخص إن الحسن البصري لم يكن من الشيعة الإماميّة، وإنّما كان ربّما يتظاهر بذلك في بعض الأحيان، وأبان بن أبي عياش وصفه بالتشيع لِما رآه يتظاهر بذلك في ذلك الوقت، وهذا لا يعارض خبر (الاحتجاج) ولا غيره من الأخبار المذكورة في كتبنا، ككتاب (الإثنا عشريّة) للشيخ الحرّ العاملي رحمه اللَّه، الدالّة علي عدائه وناصبيّته لأميرالمؤمنين عليه السلام، حتّي أنّ الإمام عليه السلام قد وصفه في رواية بأنّه «سامريّ هذه الامّة» ولهذا الوصف مداليل كثيرة.

وتلخص: أنّ «الحسن» ليس من الشيعة أصلًا، لكن «أبان» لم يكذب في وصفه بالتشيّع.

الجزء (2)

الباب الثاني: التفسير والمفسّرون عند أهل السنّة … ص: 5

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 7

المدخل: بحث حول تفسير علي بن إبراهيم القمّي … ص: 7

اشارة

إعلم:

إنّ صاحب (منتهي الكلام) بعد أنْ تكلّم علي (كتاب سليم بن قيس الهلالي) تعرّض- بنفس الاسلوب- لكتاب (تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي).

كلام صاحب منتهي الكلام في تفسير القمّي … ص: 7
اشارة

فزعم أنّ هذا التفسير هو في الحقيقة تفسير أهل البيت عليهم السلام، وكأنّه كلام الإمام الباقر والإمام الصّادق، …

وذكر أنّ جامع هذا التفسير هو عليّ بن إبراهيم القمّي، وأنّ أبا جعفر الكليني من تلامذته- كما ذكر علماء الإماميّة في كتبهم الرجاليّة ويشهد به كتاب الكافي- وهو من أصحاب الإمام بخلاف تلميذه الكليني، فقد كان في أيّام الغيبة كما في كتب الرجال.

ثمّ جعل يطعن في الكتاب ومؤلّفه … فقال بأن جلّ الروايات فيه هي عن (أبي الجارود)، وهو- بلا ريبٍ- ملحدٌ زنديق ملعون علي ألسنة أئمّة الهدي، بل لقد لقّبه الإمام المعصوم ب «الشيطان» … كما لا يخفي علي من لاحظ كتب القوم، مثل: (تبصرة العوام) و (تذكرة الأئمّة عليهم السلام) و (منهج المقال)

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 8

و (خلاصة الأقوال) وأمثالها من كتب الرجال.

ذكر الفاضل الإسترابادي نقلًا عن الكشي: «الأعمي السرحوب- بالسين المهملة المضمومة، والراء والحاء المهملتين والباء المنقطة تحتها نقطة واحدة بعد الواو- مذموم لا شبهة في ذمّه، سمّي سرحوباً باسم الشيطان الأعمي يسكن البحر. (قال): له تفسير ينسبه إلي الإمام محمّد الباقر، وعن أبي بصير قال أبو عبداللَّه عليه السلام: كثير النوا وسالم بن أبي حفصة وأبو الجارود كذّابون مكذّبون كفّار، عليهم لعنة اللَّه. قال قلت: جعلت فداك، كذّابون قد عرفتهم، فما معني مكذّبون؟ قال: كذّابون، يأتوننا فيخبروننا أنّهم يصدّقوننا وليس كذلك، ويسمعون حديثنا فيكذّبون به» «1».

قالوا: وقد كان يقول بإمامة زيد وينكر إمامة جعفر الصّادق عليه السلام، وهو المؤسّس لفرقة الجاروديّة من الزيديّة …

والشيخ محمّدباقر صاحب البحار- وبالرغم من

الإستدلال والإستشهاد بروايات تفسير هذا الزنديق، والأخ الأكبر لشيطان الطاق- قد ذكر ما تقدّم في كتابه (تذكرة الأئمّة) وأضاف أنّه قد ارتدّ في آخر عمره وعمي، فلقّبه الإمام الباقر ب «سرحوب» وهو اسم شيطان يسكن البحر، ومذهب أصحابه أنّ الرسول صلّي اللَّه عليه وآله قد نصّ بالخلافة علي علي بالصفة لا بالتسمية.

وإذا كان هذا حال علماء الشيعة وكتبهم، فكيف يجوز لهم الطعن في علماء أهل السنّة والجماعة والتكلّم في مؤلّفاتهم؟

الجواب … ص: 8
اشارة

إنّ أساس الطّعن في (تفسير القمّي) هو الطّعن في (زياد بن المنذر أبي __________________________________________________

(1) رجال الكشي: 200.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 9

الجارود)، لكنّ ما ذكره في هذا الرجل مندفع بوجوه:

1- كان أبو الجارود في أوّل الأمر مستقيما … ص: 9
اشارة

لقد كان أبو الجارود مستقيم الأمر، صحيح العقيدة، ثمّ تغيّر وضلّ، فمن أين يثبت أنّ رواياته في هذا التفسير كانت في حال التغيّر؟ بل إنّ كلام الفاضل المجلسي في (اللّوامع) صريحٌ في أنّ روايات الأصحاب عنه كانت في حال استقامته، وكذا في رجال (روضة المتّقين)، فإنه قال ما نصّه: «صنّف الأصل في حال الاستقامة، وروي أصحابنا عنه، ثمّ ضلّ، فاعتبروا أصله كما في غيره من الكفرة» «1».

هذا، وقد ناقش بعض علمائنا في خبر تسمية الإمام الباقر عليه السلام له ب «السرحوب»، أما سنداً فلأنه مرسل، وأمّا دلالةً فلأن زياداً كان مستقيماً علي عهد الإمام عليه السلام، وإنّما تغيَّر بعد وفاته بعدّةٍ سنين. فراجع.

المعتبر في قبول الرواية حال الأداء … ص: 9

ثم إنّه قد تقرّر لدي علماء الفريقين، أنّ المعتبر في قبول الرواية حال الراوي في وقت الأداء، فإذا كان حاله سليماً في وقت الأداء تقبل روايته ولو كان قبل ذلك مقدوحاً أو خرج بعد ذلك عن الإستقامة … ولأجل التيقّن من هذا الذي ذكرته أنقل كلاماً لأحد أكابر أصحابنا، وكلاماً لأحد أكابر الأئمّة عند أهل السنّة.

أمّا من أصحابنا، فالشيخ بهاء الدين العاملي المتوفّي سنة 1031 وهو

__________________________________________________

(1) روضة المتّقين للشيخ محمّد تقي المجلسي 14: 314.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 10

العالم النحرير الذي جاء مدحه في (ريحانة الألباء) لشهاب الدين الخفاجي- وهو شيخ مشايخ ولي اللَّه والد صاحب التحفة- قائلًا: «لا يدرك بحر وصفه الإغراق، ولا تلحقه حركات الأفكار ولو كان في مضمار الدهر لها السباق، زيّن عبائره العلوم النقليّة والعقليّة، وملك بنقد ذهنه الجواهر السنيّة …» «1».

لقد قال شيخنا البهائي في كتاب (مشرق الشمسين) ما نصّه: «المعتبر حال الراوي وقت الأداء لا وقت التحمّل، فلو تحمّل الحديث طفلًا أو غير إمامي

أو فاسقاً، ثمّ أدّاه في وقتٍ يظنّ أنّه كان مستجمعاً فيه لشرائط القبول قبل …

(قال): المستفاد من تصفّح كتب علمائنا المؤلّفة في السير والجرح والتعديل: إنّ أصحابنا الإماميّة- رحمهم اللَّه- كان اجتنابهم عن مخالطة من كان من الشيعة علي الحق أوّلًا، ثمّ أنكر إمامة بعض الأئمّة عليهم السّلام في أقصي المراتب، وكانوا يحترزون عن مجالستهم والتكلّم معهم، فضلًا عن أخذ الحديث عنهم، بل كان تظاهرهم بالعداوة لهم أشدّ من تظاهرهم بها للعامّة …

(قال): فإذا قبل علماؤنا- سيّما المتأخّرون منهم- رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء، وعوّلوا عليها ومالوا إليها وقالوا بصحّتها، مع علمهم بحاله، فقبولهم لها وقولهم بصحّتها لابدّ من ابتنائه علي وجهٍ صحيح لا يتطرّق به القدح إليهم، ولا إلي ذلك الرجل الثقة الراوي عمّن هذا حاله، كأنْ يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف، أو بعد توبته ورجوعه إلي الحق، أو أنّ النقل إنّما وقع من أصله الذي ألّفه واشتهر عنه قبل الوقف، أو من كتابه الذي ألّفه بعد الوقف، ولكنّه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا

__________________________________________________

(1) وتوجد ترجمته في: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 3: 440- 445.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 11

الذين عليهم الإعتماد …» ثمّ ذكر أمثلة لذلك واستشهد بكلمات أعلام الطائفة «1».

وأمّا من أئمّة السنيّة، فقال النووي في (شرح صحيح مسلم) «فصل- في حكم المختلط: إذا خلط الثقة- لاختلال ضبطه بخرفٍ أو هرمٍ أو لذهاب بصره أو نحو ذلك- قبل حديث من أخذ عنه قبل الإختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ بعد الإختلاط، أو شككنا في وقت أخذه» ثمّ ذكر بعض المخلّطين … ثمّ قال: «واعلم: أنّ ما كان من هذا

القبيل محتجّاً به في الصحيحين، فهو ممّا علم أنّه اخذ قبل الاختلاط …» «2».

وعلي الجملة، فقد عرفت أنّ رواية أصحابنا عن أبي الجارود كانت قبل ضلالته، وأنّ المعتبر في قبول الرواية هو حال وقت الأداء … فسقط الطّعن في تفسير القمي، لكون أبي الجارود في أسانيده.

2- أبو الجارود من رجال الترمذي … ص: 11

ثمّ إنّ الطعن في (أبي الجارود) يوجب الطعن في (صحيح الترمذي) الذي هو أحد الصحّاح الستّة عند القوم، والذي قال مؤلّفه عنه «من كان في بيته هذا الكتاب فكأنّما في بيته نبيّ يتكلّم» «3» كما لا يخفي علي من راجع كتب الرجال «4»، وإليك طرفاً من كلماتهم في ذمّه:

«قال ابن معين: كذّاب. وقال النسائي: متروك، وقال ابن حبّان: رافضي __________________________________________________

(1) مشرق الشمسين: 7- 8 ط مع الحبل المتين له- حجري.

(2) المنهاج- شرح صحيح مسلم بن الحجاج 1: 34 وانظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 2: 323- 331.

(3) تهذيب التهذيب 9: 389.

(4) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة 1: 287 رقم 1724، تقريب التهذيب 1: 270.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 12

يضع الحديث في المثالب والفضائل، وقال الحسين بن موسي النوبختي في كتاب مقالات الشيعة: قال الجاروديّة- وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر- إنّ عليّاً أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وتبرّؤا من أبي بكر وعمر، وزعموا أنّ الإمامة مقصورة في ولد فاطمة، وبعضهم يري الرجعة ويحلّ المتعة» «1».

وقال الشهرستاني في (الملل والنحل): «وأمّا أبو الجارود، فكان يسمّي سرحوباً، سمّاه بذلك أبو جعفر محمّد بن علي الباقر رضي اللَّه عنه، وسرحوب شيطان أعمي يسكن البحر» «2».

3- صحّح البيهقي روايته … ص: 12

وقد صحّح الحافظ البيهقي حديث أبي الجارود كما جاء في (السيرة الحلبيّة): «قال ابن كثير في بعض الأحاديث الواردة أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سمع الأذان في السماء ليلة المعراج: هذا الحديث ليس كما زعم البيهقي إنّه صحّح بل هو منكر، تفرّد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجاروديّة، وهو من المتّهمين» «3».

4- رواياته في تفسير شاهي … ص: 12

وقد وردت روايات أبي الجارود في (تفسير شاهي)، كالرواية بتفسير

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 9: 517- 520.

(2) الملل والنحل 1: 109.

(3) السيرة الحلبيّة 2: 302 باب بدء الأذان ومشروعيّته.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 13

قوله تعالي «قل هذه سبيلي أدعو إلي اللَّه علي بصيرةٍ أنا ومن اتّبعني» «1»

نقلًا عن بعض التفاسير: «في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر رضي اللَّه عنه، في قوله تعالي: «قل هذه سبيلي …» يعني نفسه، ومن تبعه علي بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه».

وهذا التفسير من التفاسير المشهورة المعروفة عند أهل السنّة، وقد ذكره صاحب (التحفة) وغيره في عداد تفاسير أهل السنّة المعتمدة.

5- رواياته في تفسير ابن شاهين … ص: 13

وللحافظ أبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين تفسير كبير، أكثر فيه من الرواية عن أبي الجارود في تفسير الآيات، بل أورد فيه كلّ تفسيره …

وابن شاهين، حافظ، واعظ، مفسّر، ثقة، صدوق، مكثر من الحديث …

كما بتراجمه … «2»

قال ابن حجر العسقلاني: «عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمّد بن أيّوب بن ازداد بن سراح، الواعظ، أبو حفص ابن شاهين. وشاهين أحد أجداد جدّه لُامّه. ولد سنة 297 … روي عنه: ابنه عبداللَّه وابن أبي الفوارس وهلال الحفّار والبرقاني والأزهري والخلال والتنوخي والعتيقي والجوهري وآخرون.

قال الخطيب: أنا أبو الحسن الهاشمي القاضي قال قال لنا ابن شاهين:

صنّفت ثلاثمائة وثلاثين مصنّفاً، منها: التفسير الكبير ألف جزء، والمسند …

__________________________________________________

(1)

سورة يوسف: 108.

(2) مرآة الجنان 2: 320 سنة 385، الأنساب- الشاهيني 3: 412.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 14

قال: وسمعت محمّد بن عمر الداودي يقول: كان ابن شاهين شيخاً ثقة يشبه الشيوخ، إلّاأنّه كان لحّاناً، وكان لا يعرف من الفقه قليلًا ولا كثيراً … قال الداودي: وقال لي الدارقطني يوماً:

ما أعمي قلب ابن شاهين! حمل إليّ كتابه الذي صنّفه في التفسير، وسألني أن اصلح ما أجد فيه من الخطأ، فرأيته وقد نقل تفسير أبي الجارود وفرّقه في الكتاب وجعله عن أبي الجارود عن زياد بن المنذر، وإنّما هو عن أبي الجارود زياد بن المنذر.

وقال حمزة السهمي: سمعت الدارقطني يقول: ابن شاهين يخطئ ويلحُّ علي الخطأ وهو ثقة» «1».

من غرائب أوهام صاحب منتهي الكلام … ص: 14

ومن غرائب أوهام صاحب كتاب منتهي الكلام أنّه لمّا كان- في كتابٍ آخر له- بصدد الطّعن في علي بن إبراهيم وتفسيره، بسبب الرواية عن أبي الجارود فيه، استند إلي كلام العلّامة الحلّي في (خلاصة الأقوال) وقوله فيه «أضرّ في وسط عمره»، فتوهّم أنّ هذه الكلمة جرحٌ من العلامة لأبي الجارود، ولم يفهم أنّ معني الكلمة: كونه ضريراً- أي أعمي- في وسط عمره … وهذا ليس بجرحٍ وقدح، كما هو واضح.

وقد ذكر هذا الوصف بترجمة كثير من العلماء:

كحمّاد بن زيد، أحد الأعلام، المتوفّي سنة 179.

وأحمد بن يوسف الكواشي المفسّر الفقيه الشافعي، المتوفّي سنة 680.

وابن كثير الدمشقي صاحب التاريخ والتفسير، المتوفّي سنة 774.

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 4: 327.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 15

وصف بعض الأعاظم ب «الشيطان» … ص: 15

وأمّا التشنيع علي تفسير القمّي: بإخراج روايات مؤمن الطّاق فيه، فتلك شكاة ظاهر عنك عارها … فإنّ الإماميّة يفتخرون بالرواية عن هذه الشخصيّة العظيمة … كيف؟ وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يقدّمه ويثني عليه «1».

وليس وصفه ب «الشيطان» بضائره أبداً … فلقد وصف غير واحدٍ من الأعلام بهذا الوصف …

فقد ذكروا بترجمة محمّد بن سعد بن أبي وقّاص: «كان يلقّب ظلّ الشيطان، لقصره» «2».

وبترجمة عمرو بن سعيد العاص: «سمّي لطيم الشيطان» «3».

بل ذكر الراغب الإصفهاني في (محاضرات الادباء): انّه قد مرّ عمر بصبيانٍ- وفيهم عبداللَّه بن الزبير- فعدا الصبيان ووقف عبداللَّه بن الزبير، فقال عمر: ولم لم تذهب مع الصبيان؟ فقال: يا أميرالمؤمنين لم أجن عليك فأخافك، ولم يكن للطريق ضيق فأوسع عليك. فقال: أيّ شيطانٍ يكون هذا؟

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 6: 379/ ضمن (7872).

(2) تقريب التهذيب 2: 163.

(3) فوات الوفيات 3: 161.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2،

ص: 16

قول بعض عرفائهم: أشهد أنْ لا إله لكم إلّاإبليس … ص: 16

وأيّ قبحٍ في أنْ يلقّب أحد باسم الشيطان، وهم ينقلون عن بعض كبار عرفائهم ما تقشعرّ منه الجلود؟

لقد ذكر الشيخ العارف الكبير عبدالوهّاب الشعراني بترجمة أحد كبار عرفائهم الأخيار، أنّه جاء يوم الجمعة فسألوه الخطبة فقال: بسم اللَّه، فطلع المنبر، وحمد اللَّه وأثني عليه ومجّده، ثمّ قال: «وأشهد أن لا إله لكم إلّاإبليس عليه السلام».

فقال الناس: كفر.

فسلّ السيف ونزل، فهرب الناس كلّهم.

فجلس عند المنبر إلي أذان العصر، وما يجرء أحد يدخل الجامع …» «1».

نقودٌ اخري لكلام الفيض آبادي … ص: 16

وبقيت نقاطٌ اخري ننبّه عليها:

أوّلًا: إنّ إسناد الروايات إلي أئمّة الهدي عليهم السلام في (تفسير القمّي) لا يدلُّ بالضرورة علي ثبوت صدور تلك الأخبار عنهم، وإلّا لزم أنْ يلتزم أهل السنّة بقطعيّة صدور كلّ ما اسند إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في كتبهم …

فلا صاحب (البحار) ولا صاحب كتاب (الفوائد المدنيّة) ولا غيرهما من علماء الإماميّة يري صحّة جميع ما جاء في هذا التفسير.

__________________________________________________

(1) لواقح الأنوار في طبقات الأخيار- ترجمة الشيخ محمّد الحضرمي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 17

وثانياً: دعوي أنّ (عليّ بن إبراهيم القمّي) من أصحاب الإمام عليه السلام لا دليل عليها في كتب أصحابنا الإماميّة أصلًا.

وثالثاً: دعوي أنّ جلّ روايات هذا التفسير عن أبي الجارود، مخالفة للواقع، إذْ أكثر رواياته هي عن غيره من الرواة، كما لا يخفي علي من لاحظه بالتفصيل.

ورابعاً: إنّه لا ملازمة بين فساد العقيدة والكذب في الحديث، وكم من محدّثٍ تكلّموا في عقيدته، ثمّ نصّوا علي كونه ثقةً في الرّواية …

وخامساً: انتساب كتاب (تذكرة الأئمّة) غير ثابت.

وسادساً: دعوي أنّ الشيخ المجلسي قد استدلّ أو استشهد بروايات تفسير أبي الجارود، عهدتها علي مدّعيها.

وبعد

فكأنّ هذا الرجل الذي يحاول الطّعن في (تفسير القمي) وسنده، في

غفلةٍ عن حال كتب أصحابه في التفسير ورواة أخبارها، فإليكم بعض الكلام في ذلك، تحت عنوان (التفسير والمفسّرون) عند أهل السنّة:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 19

مقدّمة: كلمات في ذمّ كتبهم التفسيريّة … ص: 19

روي عن أحمد بن حنبل كلمة موجزة في التفسير والمفسّرين عند القوم تدلّ علي معنيً عظيم، فقد جاء في (تذكرة الموضوعات):

«قال أحمد بن حنبل: ثلاث كتب ليس لها اصول: المغازي والملاحم والتفسير» «1».

وقد ثقل هذا الكلام علي القوم، وجعلوا يذكرون له المحامل والتأويلات …

«قال الخطيب: هذا محمول علي كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، لعدم عدالة ناقليها وزيادة القصّاص فيها» «2».

لكنْ لا يخفي عدم صحّة هذا الحمل … علي أنّ في كتب الحديث أيضاً كتباً غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقليها، فكان عليه أن يذكر كتب الحديث كذلك …

وقال السيوطي في (الإتقان) ناقلًا عن ابن تيميّة في أقسام التفسير:

«وأمّا القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود كثيراً وللَّه __________________________________________________

(1) تذكرة الموضوعات: 82.

(2) تذكرة الموضوعات: 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 20

الحمد، وإنْ قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي، وذلك لأنّ الغالب عليها المراسيل» «1».

لكنْ إذا كان الغالب عليها المراسيل، فما معني حمد اللَّه علي وجودها؟!

وكون الغالب عليها المراسيل وجهٌ آخر من وجوه الطعن في تفاسيرهم …

لكنّ بعض الأئمّة يصرّحون بأنّ كتب التفسير عندهم مشحونة بالموضوعات، فقد قال المناوي في (فيض القدير):

«اجتهدت في تهذيب عزو الأحاديث إلي مخرجيها من أئمّة الحديث من الجوامع والسنن والمسانيد، فلا أعزو إلي شي ء منها إلّابعد التفتيش عن حاله وحال مخرجه، ولا أكتفي بعزوه إلي من ليس من أهله وإنْ جلّ، كعظماء المفسّرين، قال ابن الكمال: كتب التفسير مشحونة بالأحاديث الموضوعة» «2».

بل لقد نصَّ

المحدّث شاه ولي اللَّه الدهلوي، في تفسيره (الفوز الكبير)، بأنّ الأخبار المطوَّلة المروية في كتب التفسير في قصص الأنبياء السابقين، كلّها منقولة عن علماء أهل الكتاب، وفي البخاري مرفوعاً: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم».

وقال شيخهم الأعظم ابن عربي، في الباب الثاني والسبعين بعد الثلاثمائة، من (الفتوحات المكيّة):

«وفيه علم تنزيه الأنبياء عمّا نسب إليهم المفسّرون من الطامّات ممّا لم يجي ء في كتاب اللَّه، وهم يزعمون أنّهم قد فسّروا كلام اللَّه فيما أخبر به __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 205.

(2) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 20.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 21

عنهم، نسأل اللَّه العصمة في القول والعمل، فلقد جاؤوا في ذلك بأكبر الكبائر، كمسألة إبراهيم الخليل عليه السلام وما نسبوا إليه من الشكّ، وما نظروا في قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: نحن أولي بالشكّ من إبراهيم، فإنّ إبراهيم ما شكّ في إحياء الموتي، ولكن لمّا علم أنّ لإحياء الموتي وجوهاً مختلفة، لم يدر بأيّ وجه منها يكون إحياء الموتي، وهو مجبول علي طلب العلم، فعيّن اللَّه له وجهاً من تلك الوجوه حتّي سكّن اللَّه قلبه فعلم كيف يحيي اللَّه الموتي.

وكذلك قصّة يوسف ولوط وموسي وداود ومحمّد، علي جميعهم أفضل الصّلاة والسّلام.

وكذلك ما نسبوه في قصّة سليمان عليه السلام إلي الملكين.

وكلّ ذلك نقلوه عن اليهود، واستحلّوا عرض الأنبياء والملائكة بما ذكرته اليهود الذين جرحهم اللَّه تعالي، وملأوا كتبهم في تفسير القرآن العزيز بذلك، وما في ذلك نصٌّ في كتاب اللَّه ولا في سنّة رسوله صلّي اللَّه عليه وسلّم، واللَّه يعصمنا من غلطات الأفكار والأقوال والأفعال».

وأورد الشيخ عبدالوهّاب الشعراني كلام الشيخ ابن عربي المتقدّم، حيث قال ما نصّه:

«قال الشيخ في الباب

الثاني والسبعين وثلاثمائة من الفتوحات المكّيّة:

يجب قطعاً تنزيه الأنبياء ممّا نسبه إليهم بعض المفسّرين من الطامّات، ممّا لم يجي ء في كتاب اللَّه ولا سنّة صحيحة، وهم يزعمون أنّهم قد فسّروا قصصهم الّتي قصّها اللَّه تعالي علينا.

وكذبوا واللَّه في ذلك، وجاؤوا فيه بأكبر الكبائر.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 22

وذلك كمسألة إبراهيم الخليل علي نبيّنا وعليه الصلاة والسلام، وما نسبوه إليه من وقوع الشكّ بحسب ما يتبادر إلي الأذهان، وما نظروا في قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: نحن أولي بالشكّ من إبراهيم، وذلك أنّ إبراهيم عليه السلام لم يشكّ في إحياء اللَّه تعالي الموتي معاذ اللَّه أن يشكّ نبيّ في مثل ذلك، وإنّما كان يعلم أنّ لإحياء الموتي طرقاً ووجوهاً متعدّدة، لم يدر بأيّ وجه منها يكون إحياء اللَّه تعالي للموتي، وهو مجبول علي طلب الزيادة من العلم، فعيّن اللَّه تعالي وجهاً من تلك الوجوه فسكّن ما كان عنده، وعلم حينئذٍ كيف يحيي الموتي، فما كان السّؤال إلّاعن معرفة الكيف لا غير.

وكذلك القول في قصّة سليمان وما نسبوه إلي الملكين هاروت وماروت.

كلّ ذلك لم يرد في كتاب ولا سنّة، وإنّما ذلك نقل عن اليهود، فاستحلّوا أعراض الأنبياء والملائكة بما ذكروه لهم من جرحهم أنبياء اللَّه تعالي، وملأوا تفاسيرهم للقرآن من ذلك، فاللَّه يحفظنا وإخواننا من غلطات الأفكار والأفعال والأقوال، آمين، إنتهي.

وأيضاً، قال في الباب الرابع والخمسين ومائة: ينبغي للواعظ أن يراقب اللَّه تعالي، في أنبيائه وملائكته ويستحي من اللَّه عزّ وجلّ، ويتجنّب الطامّات في وعظه، كالقول في ذات اللَّه بالفكر، والكلام علي مقامات الأنبياء عليهم الصّلاة والسلام، من غير أن يكون وارثاً لهم، فلا يتكلّم قطّ علي زلّاتهم بحسب ما يتبادر إلي أذهان الناس

بالقياس إلي غيرهم؛ فإنّ اللَّه تعالي قد أثني علي الأنبياء حسن الثناء بعد أن اصطفاهم من جميع خلقه، فكيف يستحلّ أعراضهم بما ذكره المؤرّخون عن اليهود.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 23

قال: ثمّ إنّ الداهية العظمي جعلهم ذلك تفسيراً لكلام اللَّه تعالي.

وفي تفسيرهم: قال المفسّرون في قصّة داود أنّه نظر إلي امرأة اوريا، فأعجبته فأرسله في غزاة ليموت فيأخذها.

وكقولهم في يوسف- علي نبيّنا وعليه الصلاة والسلام- أنّه همّ بالمعصية، وأنّ الأنبياء لم يُعصَموا عن مثل ذلك.

وكقولهم في قصّة لوط «لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلي ركنٍ شديدٍ» العجز والبحر ونحو ذلك.

ويعتمدون علي تأويلات فاسدة وأحاديث واهية نقلت عن قوم قالوا في اللَّه ما قالوا من البهتان والزّور.

فمن أورد مثل ذلك في مجلسه من الوعّاظ، مقته اللَّه والأنبياء والملائكة، لكونه جعل دهليزاً ومهاداً لمن في قلبه زيغ يدخل منه إلي ارتكاب المعاصي، ويحتجّ بما سمعه منه في حقّ الأنبياء ويقول: إذا كان الأنبياء وقعوا في مثل ذلك فمن أكون أنا، وحاشي الأنبياء كلّهم عن ذلك الذي فهمه هذا الواعظ، فواللَّه، لقد أفسد الواعظ الامّة، وعليه وزر كلّ من كان سبباً لاستهانته بما وقع فيه من المعاصي، ولكنّه قد ورد أنّه لا تقوم السّاعة حتّي يصعد الشيطان علي كرسي الوعظ ويعظ النّاس وهؤلاء من جنوده الذين يتقدّمونه» «1».

__________________________________________________

(1) اليواقيت والجواهر 2: 232- 233.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 27

طبقة الصّحابة … ص: 27

اشارة

وطبقات المفسّرين عند علمائهم المعتمدين ست.

فالطبقة الاولي: الخلفاء والصّحابة.

قال الحافظ جلال الدين السيوطي:

«النوع الثمانون- في طبقات المفسّرين:

اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود وابن عبّاس وابي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسي الأشعري وعبداللَّه بن الزبير» «1».

الخلفاء والتفسير … ص: 27
اشارة

والظاهر أنّ إدخال الخلفاء الثلاثة في زمرة المفسّرين من الصحابة، ليس إلّا من باب التأدّب تجاههم والتبرّك بأسمائهم! لتصريحهم بندرة رواية التفسير عن الثلاثة، والنادر كالمعدوم، ففي (الإتقان) مثلًا: «فأمّا الخلفاءُ، فأكثر من روي عنه منهم: علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جدّاً» ثمّ قال:

«ولا أحفظ عن أبي بكر في التفسير إلّاآثاراً قليلة جدّاً، لا تكاد تتجاوز العشرة» «2».

هذا، وسيأتي عن بعضهم التصريح بقلّة الرواية في التفسير عن __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 233.

(2) الإتقان في علوم القرآن 4: 233.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 28

أميرالمؤمنين أيضاً، حتّي كادت تكون معدومة عندهم، وإذا كان هذا حال الروايات عن «أكثر من روي عنه منهم» فما ظنّك بروايات البقيّة؟

والسبب في قلّة رواية التفسير عن الثلاثة: جهلهم بذلك وعدم تعلّم شي ء منه من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … جاء ذلك في (صحيح البخاري) عن أبي هريرة، فإنّه قال في مقام تبرئة نفسه عن الكذب علي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«إنّ إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإنّ إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإنّ أباهريرة كان يلزم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون» «1».

وقد أسمع ذلك ابي بن كعب عمر، حينما اعترض عليه في بعض الآيات، فاعترف عمر بن الخطّاب بجهله واعتذر إليه:

في (كنز العمّال): «عن ابن جريج عن

عمرو بن دينار قال: سمعت بجالة التميمي قال: وجد عمر بن الخطّاب مصحفاً في حجر غلام، فيه: النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم. فقال: احككها يا غلام. فقال: واللَّه لا أحكّها وهي في مصحف ابي بن كعب، فانطلقوا إلي ابي، فقال له ابي: شغلني القرآن وشغلك الصّفق بالأسواق، إذ تعرض رداءك علي عنقك بباب ابن العجماء» «2».

وفي (كنز العمّال) أيضاً: «عن الحسن: إنّ عمر بن الخطّاب ردّ علي ابي __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 1: 40 كتاب العلم، باب حفظ العلم.

(2) كنز العمّال 13: 259/ 36763.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 29

ابن كعب قراءة آيةٍ، فقال له ابي: لقد سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وأنت يلهيك- يا عمر- الصفق بالبقيع. فقال عمر: صدقت» «1».

بل لقد اعترف بذلك عمر نفسه في بعض الموارد، كالحديث في (البخاري)، في قضيّة خبر أبي موسي في حكم الإستيذان وشهادة أبي سعيد الخدري له، قال عمر: «خفي عليَّ هذا من أمر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ألهاني الصفق بالأسواق» «2».

وفي (حياة الحيوان): «كان أبوبكر الصدّيق بزّازاً، وكذلك عثمان وطلحة وعبدالرحمن بن عوف. وكان عمر دلّالًا يسعي بين البائع والمشتري» «3».

وأمّا عليّ عليه السلام، فإنّه وإنْ نصّ السيوطي علي أنّه أكثر من روي عند التفسير من الخلفاء، لكنّ بعض المتعصّبين منهم ينفي ذلك، ويحمله علي الأكثريّة الإضافيّة، ألا تري المتكلّمين منهم- حينما يريدون الردّ علي استدلال أهل الحقّ علي أعلميّة الإمام بالقرآن والتفسير، بانتشار هذا العلم عنه بين المسلمين- يبادرون إلي القول بأنّ ما روي عن علي ليس إلّاأخباراً آحاداً، حتّي أنّ ابن تيميّة يقول بأنّ رواية ابن عبّاس في التفسير عن علي «قليلة جدّاً، ولم يخرج أصحاب الصحيح

شيئاً من حديثه عن علي» «4» ويقول: «وما يعرف بأيدي المسلمين تفسير ثابت عن علي» «5».

بل لقد قال غير واحدٍ منهم بأنّ كلّ ما روي عنه عليه السلام فهو

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13: 261/ 36766.

(2) صحيح البخاري 3: 72 كتاب البيوع، باب الخروج في التجارة.

(3) حياة الحيوان 1: 275 «الجزور».

(4) منهاج السنّة 4: 242.

(5) منهاج السنّة 4: 242.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 30

مكذوب عليه:

قال الذهبي في (ميزان الإعتدال): «حصين، عن الشعبي: ما كذب علي أحدٍ من هذه الامّة ما كذب علي علي رضي اللَّه عنه. وقال أيّوب: كان ابن سيرين يري أنّ عامّة ما يروي عن علي باطل» «1».

وفي (البخاري): «وكان ابن سيرين يري أنّ عامّة ما يروي عن علي الكذب» «2».

وعلي هذا … فلنعطف عنان البحث والكلام نحو سائر الصحابة الأعلام، الذين ذكرهم السيوطي في الطبقة الاولي:

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 436/ 1627.

(2) صحيح البخاري 5: 24 باب مناقب المهاجرين- باب مناقب عليّ بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي اللَّه عنه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 31

عبداللَّه بن مسعود … ص: 31
اشارة

فأمّا ابن مسعود، فهذا ما رووه أو ذكروه في كتبهم، ممّا هو من القوادح علي اصولهم، فيه وفي مصحفه، وما أخرجوا عنه في التفسير:

بين عثمان وابن مسعود … ص: 31

إنّ من ضروريّات التاريخ أنّ عثمان بن عفّان قد أحرق مصحف ابن مسعود، فقال علماؤهم دفاعاً عنه وتبريراً لما فعل:

«إنّه لو بقي مصحفه في أيدي الناس لأدّي ذلك إلي فتنةٍ كبيرةٍ في الدين» ثمّ علّلوا ذلك بقولهم: «لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن» «1».

وقال الراغب الإصفهاني في (المحاضرات):

«أثبت ابن مسعود في مصحفه: ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغي إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب» «2».

وقال:

__________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 2: 273. وغيرهما.

(2) محاضرات الادباء 4: 434.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 32

«أثبت ابن مسعود بسم اللَّه في سورة البراءة» «1».

ومن المعلوم الواضح لدي كلّ أحدٍ: أنّ من أدرج في القرآن أدعية القنوت وغيرها ممّا ليس من القرآن، وكان قرآنه يشتمل علي الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن، بحيث لو بقي في أيدي الناس لأدّي إلي فتنةٍ كبيرةٍ في الدين، ولانجرَّ إلي قبائح كثيرةٍ، وصار المسلمون مختلفين في كتابهم كاختلاف اليهود والنصاري في كتابهم، ولم يرفع اليد عن كلّ ذلك إلّابالسبّ والشتم … كان من المقدوحين والمجروحين …

بل المستفاد من تتبّع كلمات القوم في المقام أنْ ليس لابن مسعود علي اصولهم من الإيمان والإسلام نصيب، فضلًا عن الجلالة والسيادة والفضل والسعادة، لأنّه كان من المخالفين لعثمان والمنكرين عليه، حتّي أنّه كان يدعو عليه علي رؤوس الأشهاد:

قال الحلبي في (السيرة):

«وكان الوليد شاعراً ظريفاً حليماً شجاعاً كريماً، يشرب الخمر كلّ ليلة من أوّل الليل إلي الفجر، فلمّا أذّن المؤذّن لصلاة الفجر، خرج

إلي المسجد وصلّي بأهل الكوفة الصبح أربع ركعات، وصار يقول في ركوعه وسجوده:

إشرب واسقني، ثمّ قاء في المحراب ثمّ سلّم وقال: هل أزيدكم؟

فقال له ابن مسعود: لا زادك اللَّه خيراً ولا من بعثك إلينا» «2».

هذا، وقد نصّ صاحب (التحفة) علي أن من يطعن في الصهرين- يعني: عليّاً وعثمان- فهو ليس من أهل الإيمان.

__________________________________________________

(1) محاضرات الادباء 4: 434.

(2) إنسان العيون/ السيرة الحلبيّة 2: 284، وفيه: شرب الخمر ليلةً …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 33

وقال ابن حجر في (الصواعق) في مطاعن عثمان:

«ومنها: أنّه حبس عطاء ابن مسعود وابي بن كعب، ونفي أباذر إلي الربذة، وأشخص عبادة بن الصّامت من الشام إلي المدينة لمّا اشتكاه معاوية، وهجر ابن مسعود، وقال لابن عوف: إنّك منافق، وضرب عمّار بن ياسر، وانتهك حرمة كعب بن عجرة، فضربه عشرين سوطاً ونفاه إلي بعض الجبال، وكذلك حرمة الأشتر النخعي.

وجواب ذلك: أمّا حبسه لعطاء ابن مسعود وهجره له، فلِما بلغه ممّا يوجب ذلك، إلقاءً ج إبقاءً ج لُابهّة الولاية» «1».

فكان قد وقع من ابن مسعود ما استحقّ به حبس العطاء والهجر، بل يظهر من ذلك أنّه ما كان يعتقد بولاية عثمان وخلافته، فلو كان يعتقد لما ألقي ابّهتها!

وقال الفخر الرازي في (نهاية العقول):

«قوله: سادساً: ضرب ابن مسعود وعمّاراً وسيّر أباذر إلي الربذة.

قلنا: كما فعل ذلك، فقد قيل عن هؤلاء أنّهم أقدموا علي أفعالٍ استوجبوا ذلك» «2».

ومن الضروري: إنّ الأفعال المستوجبة لضرب أعيان الصحابة وهتك عدولهم، ليست إلّاالكبائر الموبقة والمعاصي المهلكة …

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة 1: 334.

(2) نهاية العقول- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 34

مشكلة الفاتحة والمعوّذتين وطرق حلّها … ص: 34
اشارة

ثمّ إنّ ابن مسعود كان لا يري الفاتحة والمعوّذتين قرآناً، وهذا ممّا يحزّ في قلوب القوم، ويجعلهم

يضطربون في حلّه:

قال الراغب في فصل بيان ما ادّعي أنّه من القرآن ممّا ليس في المصحف وما ادّعي أنّه ليس منه وهو فيه: «وأسقط ابن مسعود من مصحفه ام القرآن والمعوّذتين» «1».

وفي (المسند): «عن عبدالرحمن بن يزيد قال: كان عبداللَّه يحكّ المعوّذتين من مصاحفه ويقول: إنّهما ليستا من كتاب اللَّه تبارك وتعالي» «2».

وفي (الدرّ المنثور): «أخرج عبد بن حميد ومحمّد بن نصر المروزي في كتاب الصّلاة وابن الأنباري في المصاحف عن محمّد بن سيرين: إنّ ابي ابن كعب كان يكتب فاتحة الكتاب والمعوّذتين، واللّهمّ إيّاك نعبد واللّهمّ إنّا نستعينك. ولم يكتب ابن مسعود شيئاً منهنَّ. وكتب عثمان بن عفّان فاتحة الكتاب والمعوّذتين» «3».

وفي (الدرّ المنثور) أيضاً: «أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال: كان عبداللَّه لا يكتب فاتحة الكتاب في المصحف وقال: لو كتبتها لكتبت في أوّل كلّ شي ء» «4».

وفي (تاريخ الخميس) بعد العبارة المنقولة آنفاً: «ولحذفه المعوّذتين من __________________________________________________

(1) محاضرات الادباء 4: 434.

(2) مسند أحمد بن حنبل 6: 154/ 20683.

(3) الدرّ المنثور 1: 10. وفيه: إيّاك نستعين، بدل: اللهمّ إنّا نستعينك.

(4) الدرّ المنثور 1: 10.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 35

مصحفه، مع الشهرة عند الصحابة أنّهما من القرآن» «1».

هذا، وقد قالوا بأنّ إنكار الفاتحة والمعوّذتين كفر، فقد جاء في (الإتقان):

«قال النووي في شرح المهذّب: أجمع المسلمون علي أنّ المعوّذتين والفاتحة من القرآن، وأنّ من جحد منها شيئاً كفر» «2».

وإذا كان «من أنكر شيئاً منها كفر» فقد أنكر ابن مسعود كلّها!!

ومن هنا وقعوا في المشكلة:

قال السيوطي في (الإتقان): «ومن المشكل علي هذا الأصل: ما ذكره الإمام فخرالدين الرازي قال: نقل في بعض الكتب القديمة أنّ ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوّذتين من

القرآن، وهو في غاية الصعوبة، لأنّا إنْ قلنا: إنّ النقل المتواتر كان حاصلًا في عصر الصحابة بكون ذلك من القرآن، فإنكاره يوجب الكفر، وإنْ قلنا: لم يكن حاصلًا في ذلك الزمان، فيلزم أن ج يكون ج القرآن ليس بمتواتر في الأصل» «3».

وتحيّروا كيف يخرجون من هذه العويصة:

1- تكذيب الأخبار … ص: 35

قال في (الإتقان) نقلًا عن الرازي بعد ما تقدّم: «والأغلب علي الظنّ أنّ نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه __________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 2: 273.

(2) الإتقان في علوم القرآن 1: 271.

(3) الإتقان في علوم القرآن 1: 270- 271.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 36

العقدة» «1».

وهكذا أجاب القاضي أبوبكر والنووي وابن حزم … وزعموا أنّ به يحصل الخلاص عن هذه العقدة، ولكنْ لات حين مناص، فقد تعقّب المحقّقون ذلك وتتبّعوا الأخبار به، ووجدوها صحيحةً، ولا مجال لتكذيب الأخبار الصحيحة أبداً..

ففي (الإتقان): «قال ابن حجر في شرح البخاري: قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك، فأخرج أحمد وابن حبّان عنه أنّه كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه. وأخرج عبداللَّه بن أحمد في زيادات المسند، والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد النخعي قال: كان ابن مسعود يحكّ المعوّذتين من مصاحفه ويقول: إنّهما ليستا من كتاب اللَّه.

وأخرج البزّار والطبراني من وجه آخر عنه أنّه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف ويقول: إنّما أمر النبي أن يتعوّذ بهما، وكان ج عبداللَّه ج لا يقرأ بهما.

أسانيدها صحيحة.

قال البزّار: لم يتابع ابن مسعود علي ذلك أحد من الصحابة. وقد صحّ أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قرأ بهما في الصّلاة.

قال ابن حجر: فقول من قال إنّه كذب عليه، مردود، والطعن في الروايات الصحيحة

بغير مستند لا يقبل، بل الروايات صحيحة» «2».

فهذا الطريق- طريق الطعن في هذه الروايات- لا يفيد.

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 1: 271.

(2) الإتقان في علوم القرآن 1: 271- 272.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 37

2- الإبهام … ص: 37

ومنهم من سلك طريق الإبهام، فوضع بدل كلمة حكّ ابن مسعود وإنكاره الفاتحة والمعوّذتين، كلمة «كذا وكذا» وتخيّل أنّه بذلك يمكن إخفاء الحقيقة والخروج عن العقدة … وقد جاء ذلك في (صحيح البخاري) حيث قال:

«حدّثنا علي بن عبداللَّه، حدّثنا سفيان، حدّثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زر ابن حبيش. وحدّثنا عاصم عن زر قال: سألت ابي بن كعب: يا أبا المنذر إنّ أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال ابي: سألت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال لي: قل، فقلت: ج قال ج فنحن نقول كما قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

علي أنّ في هذا النقل مزيداً من الطعن والجرح علي ابن مسعود …

وقال ابن حجر في (فتح الباري):

«هكذا وقع هذا اللّفظ مبهماً، وكأن بعض الرواة أبهمه استعظاماً، وأظنّ ذلك من سفيان، فإنّ الإسماعيلي أخرجه من طريق عبدالجبّار بن العلاء عن سفيان كذلك علي الإبهام، وكنت أظنّ أوّلًا أن الذي أبهمه البخاري …» «2».

3- التأويل والحمل … ص: 37

ومنهم من سلك طريق التأويل للأخبار المنقولة عن ابن مسعود:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 223 كتاب التفسير- سورة قل أعوذ بربّ الناس.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 603.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 38

قال ابن حجر في (فتح الباري):

«وقد تأوّل القاضي أبوبكر الباقلاني في كتاب الإنتصار، وتبعه عياض وغيره ما حكي عن ابن مسعود فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنّما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنّه كان يري أنْ لا يكتب في المصحف شيئاً، إلّاإنْ كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أذن في كتابته فيه، وكأنّه لم يبلغه الإذن في ذلك. قال: فهذا تأويل منه وليس جحداً لكونهما قرآناً. وهو تأويل حسن».

لكنّه تأويل عجيب

وتوجيه غريب، فأيّ مانعٍ من درج ما هو قرآن في القرآن حتّي لا يجوّز ابن مسعود ذلك، ويهتمّ بمحوه من المصحف؟ إنّ مثل هذا التأويل غير مجدٍ للدفاع عن حرمة ابن مسعود والمحافظة علي مقامه …

إنّ هذا التأويل لا يمكن قبوله أصلًا، ولذا قال ابن حجر بعد العبارة المتقدّمة:

«إلّا أنّ الرواية الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها: ويقول:

إنّهما ليستا من كتاب اللَّه» إلّاأنّه حاول التأويل لهذه الرواية فقال: «نعم، يمكن حمل لفظ «كتاب اللَّه» علي «المصحف» فيتمّ التأويل المذكور.

وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيّتهما، وإنّما كان في صفة من صفاتهما، إنتهي.

وغاية ما في هذا أنّه أبهم ما بيّنه القاضي» «1».

لكنّ هذا التأويل باطل أيضاً، إذ لا يساعده لفظ الرواية عند البزّار والطبراني التي أوردها ابن حجر أيضاً، فإنّها صريحة في أنّ ابن مسعود كان __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 604.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 39

يقول بأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إنّما عوّذ بالمعوّذتين، ولم يكن يقرأ بهما، وهذا يدلّ بكلّ وضوح علي أنّ ابن مسعود ما كان يري المعوّذتين قرآناً، اللّهمّ إلّاأن يزعموا أنّ عدم القراءة بالمعوّذتين لا يثبت عدم كونهما قرآناً، وحينئذٍ، فما هو الكلام المعبّر عن ذلك؟!

ومن هنا نري أنّ بعض المتكلّمين منهم لمّا لم يتمكّنوا من توجيه رأي ابن مسعود، ولا من إنكار ما لاقاه من عثمان، اضطرّ إلي هتك حرمة ابن مسعود وتوهينه … ولم يتعرّض لشي ء من هذه التأويلات …

وكيف يمكن تأويل ما اخرج في (المسند) من أنّه «لقد كان ابن مسعود يري رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يعوّذ بهما الحسن والحسين، ولم

يسمعه يقرؤهما في شي ء من صلواته، فظنّ أنّهما معوّذتان، وأصرَّ علي ظنّه، وبالغ في إنكار كونهما من القرآن» «1»؟

ولذا نري الحافظ ابن حجر يتراجع عن كلّ التأويلات، وقد قال في آخر كلامه السّابق:

«ومن تأمّل سياق الطرق التي أوردتها للحديث استبعد هذا الجمع».

واختار بالأخرة الحمل علي عدم تواتر المعوّذتين عند ابن مسعود، قال:

«قد قال ابن الصبّاغ في الكلام علي مانعي الزكاة: وإنّما قاتلهم أبوبكر علي منع الزكاة، ولم يقل إنّهم كفروا بذلك، وإنّما لم يكفروا، لأنّ الإجماع لم يكن استقر، قال: ونحن الآن نكفّر من جحدها، وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوّذتين، يعني: إنّه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثمّ حصل الإتفاق بعد ذلك.

__________________________________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 6: 154/ 20684.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 40

وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي فقال: إنْ قلنا: إنّ كونهما من القرآن كان متواتراً في عصر ابن مسعود، لزم تكفير من أنكرهما. وإنْ قلنا: إنّه لم يكن متواتراً، لزم أنّ بعض القرآن لم يتواتر. قال: وهذه عقدة صعبة.

واجيب: باحتمال أنّه كان متواتراً في عصر ابن مسعود، ولكنْ لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلّت العقدة بعون اللَّه تعالي» «1».

إلّاأنّ هذا الحمل أضعف وأفسد من الكلّ، وذلك:

أوّلًا: إنّه ينافي ما رواه القوم- كما في (الإستيعاب) وغيره- من أنّ ابن مسعود حضر العرض الأخير للقرآن الكريم، وعلم ما نسخ منه وما بدّل، وهذا نصّ ما رواه ابن عبدالبر حيث قال:

«روي وكيع وجماعة معه، عن الأعمش، عن أبي ظبيان قال: قال لي عبداللَّه بن عبّاس: أيّ القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الاولي قراءة ابن ام عبد.

فقال لي: بل هي الآخرة، إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يعرض القرآن علي

جبرئيل في كلّ عام مرّةً، فلمّا كان العام الذي قبض فيه، عرضه عليه مرّتين، فحضر ذلك عبداللَّه، فعلم ما نسخ من ذلك وما بدّل» «2».

وهل من الجائز أن يقال بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لم يعرض المعوّذتين، وجبريل أيضاً لم ينبّهه علي ذلك؟!

وثانياً: إذا كان تواتر المعوّذتين ثابتاً عند الصّحابة وغير ثابت عند ابن مسعود فقط، نقول: إنْ كان سائر الصحابة قد أخبروه بكون المعوّذتين من القرآن فلم يقبل منهم ولم يصدّقهم، أو لم يثبت بخبرهم تواترهما عنده، لزم __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 604.

(2) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 992/ 1659.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 41

فسق الصّحابة، بل دلّ ذلك علي كونهم أسوء حالًا من الكفّار والفسّاق، لأنّ التواتر يحصل بإخبار الكفّار أيضاً كما بُيّن في محلّه. وإنْ كان سائر الصّحابة لم يخبروه بكون المعوّذتين قرآناً، مع علمهم بأنّه كان يحكّهما من المصاحف- كما في (المسند): «عن زر قال: قلت لأبي: إنّ أخاك يحكّهما من المصحف»، وكما في (الرياض النضرة) في مطاعن عثمان: «وأمّا الخامسة عشر، وهي إحراق مصحف ابن مسعود، فليس ذلك ممّا يعتذر عنه، بل هو من أكبر المصالح، فإنّه لو بقي في أيدي الناس أدّي ذلك إلي فتنةٍ كبيرةٍ في الدين، لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن، ولحذفه المعوّذتين من مصحفه مع الشهرة عند الصحابة أنّهما من القرآن. وقال عثمان لمّا عوتب في ذلك: خشيت الفتنة في القرآن» «1» - فالصّحابة- وعلي رأسهم عثمان- كلّهم فسّاق!!

وبعد، فإذا كان ابن مسعود منكراً للمعوّذتين، فإنّ جميع ما يشنّع به المخالفون علي أهل الحق- لوجود بعض الأخبار الظاهرة في تحريف القرآن- القابلة للحمل

علي المحامل الصحيحة في كتبنا- يتوجّه علي ابن مسعود بالأولويّة القطعيّة، فإنّه ينكر بصراحة سورتين كاملتين، بل ثلاث سور، هي المعوّذتان وام الكتاب، وهو في نفس الوقت من أعلام الصحابة وأجلّائهم، ومن أئمّة القرآن والتفسير وأكابرهم!! بل هو محكوم عليه بالكفر والخروج عن زمرة المسلمين، وقد جاء في كتاب (فصول الأحكام) لعماد الدين حفيد برهان الدين صاحب الهداية «2»:

__________________________________________________

(1) الرياض النضرة في مناقب العشرة 3: 99.

(2) المعروف بكتاب (فصول العمادي) كما في (كشف الظنون 2: 1270) وهو في فروع الحنفيّة. وصاحب الهداية هو: برهان الدين المرغيناني المتوفّي سنة 593.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 42

«وبعض المشايخ علي أنّه- أي من زعم أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن- يكفر. وحكي عن خاله الإمام جلال الدين أنّه قد ذكر في آخر تفسير أبي اللّيث حديثاً: من زعم أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن فأولئك عليهم لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين. ومثل هذا الوعيد إنّما ورد في حقّ الكفّار دون المؤمنين».

وتلخّص:

سقوط جميع التأويلات، وبقاء العقدة العويصة علي حالها.

فهذا حال ابن مسعود عند القوم علي اصولهم.

ولعلَّ هذا هو السبب في توقّف عبداللَّه بن عمر عن قبول خبر ابن مسعود عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كما في (صحيح مسلم):

«عن أبي رافع عن عبداللَّه بن مسعود: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: ما من نبيّ بعثه اللَّه في امّةٍ قبلي، إلّاكان له من امّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن … وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل.

قال أبو رافع: فحدّثت عبداللَّه بن عمر، فأنكره عليَّ، فقدم ابن مسعود

فنزل بقناةٍ، فاستتبعني إليه عبداللَّه بن عمر يعوده، فانطلقت معه، فلمّا جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث، فحدّثنيه كما حدّثت ابن عمر» «1».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 70/ 80 كتاب الإيمان الباب 20.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 43

عبداللَّه بن العبّاس … ص: 43
اشارة

وأمّا الحبر الجليل والمفسّر النبيل عبداللَّه بن العبّاس، الذين لقّبوه ب «ترجمان القرآن»، وقالوا بأنّه علم تأويل القرآن بدعاء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كما قال ابن القيّم في (زاد المعاد) في الاستدلال علي أنّ الخلع ليس بطلاق بقوله تعالي: «الطلاق مرّتان» الآية: «وهذا فهم ترجمان القرآن، الذي دعا له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أن يعلّمه اللَّه تأويل القرآن، وهي دعوة مستجابة بلا شك» «1».

قوله بالمتعة وهي عند جمهورهم حرام … ص: 43

فهو- بمقتضي هفواتهم الشنيعة وخرافاتهم القبيحة- من المجوّزين للحرام، لأنّه كان يقول بحلّيّة المتعة وهي عندهم من السفاح والزنا، فاستحقّ بذلك أشدّ التشنيعات واتّصف بأقبح العيوب.

هذا، مضافاً إلي روايتهم في الصحيح- وهي مكذوبة يقيناً- عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قد زجره عن هذا القول، وحكم عليه بأنّه رجل تائه «2».

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 4: 37.

(2) صحيح مسلم 2: 1027/ 1407 كتاب النكاح الباب 3، المعجم الأوسط للطبراني 3: 127/ 2265، سنن البيهقي 7: 201 كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، الناسخ والمنسوخ للنحّاس: 99.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 44

وعن عبداللَّه بن الزبير أنّه وصفه بالفاجر، كما روي القاري في (المرقاة): «عن عروة بن الزبير: إنّ عبداللَّه بن الزبير قام بمكّة فقال: إنّ اناساً أعمي اللَّه قلوبهم كما أعمي أبصارهم يفتون بالمتعة،- يعرّض برجل- فناداه فقال: إنّك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين- يريد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم- فقال له ابن الزبير: فجرت بنفسك، فواللَّه لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك. الحديث. رواه النسائي.

ولا تردّد في أنّ ابن عبّاس هو الرجل المعرَّض به وكان قد كفّ بصره، فلذا قال ابن الزبير: كما أعمي أبصارهم، وهذا إنّما كان في حال خلافة

ابن الزبير، وذلك بعد وفاة علي، وقد ثبت أنّه كان مستمرّ القول علي جوازها» «1».

قوله برؤية النبي ربّه … ص: 44

وأيضاً، فإنّ ابن عبّاس- بحسب روايات القوم المكذوبة عليه قطعاً- كان من المفترين علي اللَّه والرسول، إذ كان يقول بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد رأي اللَّه- سبحانه وتعالي عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً- كما جاء في (صحيح الترمذي):

«عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: رأي محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم ربّه.

قلت: أليس اللَّه يقول: «لا تدركه الأبصارُ وهو يُدركُ الأبصارَ»؟ قال:

ويحك، ذاك إذا تجلّي بنوره الذي هو نوره، وقد رأي محمّد ربّه مرّتين. هذا حديث حسن غريب» «2».

__________________________________________________

(1) المرقاة في شرح المشكاة 6: 318/ 3158 كتاب النكاح الباب 3.

(2) صحيح الترمذي 5: 395/ 3279 كتاب تفسير القرآن، الباب 54.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 45

بل إنّه كان يبالغ في هذا الإعتقاد ويصرّ عليه، حتّي أنّه لمّا سئل عنه مرّةً جعل يكرّر ذلك ويؤكّده، ففي (عيون الأثر): «في تفسير النقاش: عن ابن عبّاس أنّه سئل هل رأي محمّد- صلّي اللَّه عليه وسلّم- ربّه؟ فقال: رآه رآه رآه، حتّي انقطع صوته» «1».

إنكار عائشة ذلك … ص: 45

وقد أخرجوا أنّ عائشة قد بالغت في الإنكار علي ابن عبّاس، فقد جاء في (صحيح الترمذي): «حدّثنا ابن أبي عمر، نا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي قال: لقي ابن عبّاس كعباً بعرفة، فسألهُ عن شي ءٍ، فكبّر حتّي جاوبته الجبال، فقال ابن عبّاس: إنّا بنو هاشم، فقال كعب: إنّ اللَّه قسّم رؤيته وكلامه بين محمّد وموسي، فكلّم موسي مرّتين، ورآه محمّد مرّتين.

قال مسروق: فدخلت علي عائشة فقلت: هل رأي محمّد ربّه؟ فقال:

لقد تكلّمت بشي ء قفّ له شعري. قلت: رويداً، ثمّ قرأتُ «لقد رأي من آيات ربّه الكبري» قالت: أين يذهب بك، إنّما هو جبرئيل. من أخبرك أنّ محمّداً رأي ربّه أو كتم شيئاً

ممّا امر به، أو يعلم الخمس التي قال اللَّه تعالي «إنّ اللَّه عنده علم الساعة وينزّل الغيث …» فقد أعظم الفرية، ولكنّه رأي جبرئيل، ولم يره في صورته إلّامرّتين: مرّةً عند سدرة المنتهي، ومرّةً في جياد، له ست مائة جناح، قد سدّ الافق» «2».

__________________________________________________

(1) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 250.

(2) صحيح الترمذي 5: 394/ 3278 كتاب تفسير القرآن 545.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 46

وقد أخرج البخاري ومسلم إنكار عائشة وتكذيبها رؤية النبي ربّه «1».

وفي (عيون الأثر):

«وقد تكلّم العلماء في رؤية النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لربّه ليلة الإسراء، فروي عن مسروق عن عائشة أنّها أنكرت أنْ يكون رآه. قالت: ومن زعم أنّ محمداً رأي ربّه فقد أعظم الفرية علي اللَّه، واحتجّت بقوله سبحانه: «لا تدركه الأبصارُ وهو يُدرك الأبصارَ»» «2».

وإذا كان ابن عبّاس قد أعظم الفرية علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فقد سقطت رواياته كلّها عن الإعتبار، سواء ما كان منها في الصحاح وفي غيرها من الكتب، لِما قرّروا في محلّه من أنّ من كذب في خبرٍ وجب إسقاط جميع أخباره:

قال النووي في (التقريب): «قال السمعاني: من كذب في خبرٍ واحدٍ وجب إسقاط ما تقدّم من حديثه».

وكذا قال شارحه السيوطي: «من كذب في حديثٍ واحدٍ رُدَّ جميع حديثه السابق» «3».

تأويل إنكار عائشة … ص: 46

ومن القوم من تجاسر علي عائشة، فزعم أنّ تكذيبها رؤية النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان رأياً منها لا رواية عنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ومن __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 175 كتاب التفسير- سورة والنجم، صحيح مسلم 1/ 159/ 177 كتاب الإيمان الباب 77.

(2) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 250.

(3) تدريب الراوي- شرح تقريب النواوي 1:

330 و 332.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 47

العجائب ذهاب النووي إلي ذلك، كما في (المواهب اللّدنيّة) حيث قال:

«قال النووي- تبعاً لغيره- لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديثٍ مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنّما اعتمدت الإستنباط علي ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصّحابي إذا قال قولًا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجّة اتفاقاً» «1».

لكنْ يبطله أنّ الحديث موجود في صحيح مسلم الذي شرحه النووي، وقد نبّه علي ذلك الحافظ ابن حجر أيضاً، حيث قال في (فتح الباري):

«وجزمه بأنّ عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع، تبع فيه ابن خزيمة، فإنّه قال في كتاب التوحيد من صحيحه: النفي لا يوجب علماً، ولم تحك عائشة أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أخبرها أنّه لم ير ربّه، وإنّما تأوّلت الآية.

إنتهي.

وهو عجب، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ، فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق في الطريق المذكور قال مسروق: وكنت متّكياً فجلست فقلت: ألم يقل اللَّه تعالي: «ولقد رآه نزلةً اخري»؟ فقالت: أنا أوّل هذه الامّة سأل رسول اللَّه عن ذلك، فقال: إنّما هو جبرئيل.

وأخرجه ابن مردويه من طريق اخري عن داود بهذا الإسناد: فقالت: أنا أوّل من سأل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن هذا، فقلت: يا رسول اللَّه، هل رأيت ربّك؟ فقال: لا، إنّما رأيت جبريل منهبطاً» «2».

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 389.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 493.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 48

أقول:

وإذا كان هذا في صحيح مسلم، فكيف يقول القائلون منهم برؤيته صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ربّه؟ نعوذ باللَّه من استيلاء الجهالة

والإنهماك في الضلالة!

إنكار الصحابة … ص: 48

وأنكر غير عائشة من الصحابة رؤية النبي ربّه، قال في (تاريخ الخميس):

«واختلف أيضاً في رؤية النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ربّه، فأنكرت عائشة رضي اللَّه عنها … وقال جماعة بقول عائشة، وهو المشهور عن ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة في قوله «ما كذب الفؤاد ما رأي» أنّه رأي جبرئيل له ستمائة جناح. ويؤيّد ذلك ما قال أبوذر: سألت رسول اللَّه: هل رأيت ربّك؟

قال: هو نورٌ أنّي أراه. وفي العروة الوثقي: قال أبو ذر: سألته عن رؤية ربّه ليلة المعراج، قال: لا، بل نوراً أري» «1».

وفي (سبل الهدي والرشاد):

«روي النسائي وابن خزيمة عن أبي ذر في الآية،- يعني الآية «ما كذب الفؤاد ما رأي» - قال: رآه بقلبه ولم يره بعينه» «2».

محاولة الجمع … ص: 48

وقد تكلّف بعض أكابر القوم الجمع بين إثبات ابن عبّاس- حسبما

__________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 1: 313.

(2) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 3: 63.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 49

يروون- وبين إنكار عائشة، كقول القسطلاني تبعاً لابن حجر:

«وعلي هذا، فيمكن الجمع بين إثبات ابن عبّاس، ونفي عائشة، بأن يحمل نفيها علي رؤية البصر وإثباته علي رؤية القلب» «1».

ولا يخفي بطلانه، لأنّ في حديث الترمذي عن عكرمة أنّه اعترض علي ابن عبّاس قوله بالمنافاة لقوله تعالي: «لا تدركهُ الأبصار»، فلو كان ابن عبّاس يريد الرؤية بالقلب لأجابه بذلك، لا بما جاء في الحديث، لأنّ رؤية القلب لا تختصّ بوقتٍ دون وقت.

علي أنّ هناك حديثاً صريحاً في إرادته الرؤية بالبصر، ولأجله استدرك القسطلاني الكلام قائلًا:

«لكنْ روي الطبراني في الأوسط بإسنادٍ رجاله رجال الصحيح خلا جهور بن منصور الكوفي- وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبّان في الثقات- عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: إنّ محمّداً

صلّي اللَّه عليه وسلّم رأي ربّه مرّتين، مرّة ببصره ومرّة بفؤاده» «2».

وذكر أيضاً: «جنح ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلي ترجيح الإثبات، وأطنب في الاستدلال بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عبّاس علي أنّ الرؤية وقعت مرّتين مرّةً بقلبه ومرّةً بعينه» «3».

وكذلك محمّد بن يوسف الشامي، فإنّه ذكر الجمع المزبور في الثالث من التنبيهات، ثمّ عدل عنه في الخامس منها حيث قال:

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.

(2) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.

(3) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 50

«قال ابن كثير: من روي عن ابن عبّاس أنّه رآه ببصره، فقد أغرب، فإنّه لا يصحّ في ذلك شي ء عن الصحابة، وقول البغوي: وذهب جماعة إلي أنّه رآه بعينه- وهو قول أنس والحسن وعكرمة- فيه نظر.

قلت: سبق البغوي إلي ذلك الإمام أبوالحسن الواحدي. وقول ابن كثير:

إنّه لا يصحّ في ذلك شي ء عن الصحابة، ليس بجيّد، فقد روي الطبراني بسند صحيح عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: نظر محمّد إلي ربّه مرّتين، مرّةً ببصره ومرّةً بفؤاده» «1».

وتلخص: إنّ الجمع المذكور ساقط، والأحاديث علي خلافه.

وممّا يشهد بسقوطه: كلام الزهري، فإنّه ردّ علي عائشة إنكارها علي ابن عبّاس، كما في (عيون الأثر) قال:

«وفي تفسير عبدالرزاق: عن معمر، عن الزهري، وذكر إنكار عائشة أنّه رآه فقال الزهري: ليست عائشة أعلم عندنا من ابن عبّاس. وفي تفسير ابن سلام عن عروة أنّه كان إذا ذكر إنكار عائشة يشتدّ ذلك عليه» «2».

فلو كان للجمع المذكور أو غيره وجه لما اتّخذ الزهري هذا الموقف.

هذا، علي أنّه لا فرق بين رؤية القلب ورؤية البصر، إذ ليس المراد من «رؤية القلب» هو «العلم باللَّه»، لأنّ هذا

يحصل في كلّ وقت، وليس له وقت مخصوص، بل المراد هو حصول خلقٍ له في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين، وهذا ما نصّ عليه الشهاب القسطلاني حيث قال:

«ثمّ إنّ المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرّد حصول العلم، لأنّه كان __________________________________________________

(1) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 3: 63.

(2) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 250- 251.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 51

عالماً باللَّه علي الدوام، بل مراد من أثبت له أنّه رآه بقلبه أنّ الرؤية التي حصلت له خلقت له في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شي ء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين» «1».

ومحمّد بن يوسف الشامي قال:

«قال الحافظ: المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرّد حصول العلم، لأنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان عالماً باللَّه تعالي علي الدوام، بل مراد من أثبت له أنّه رآه بقلبه: إنّ الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره.

وزاد صاحب السراج: بخلاف غيره من الأولياء، فإنّهم إذا أطلقوا الرؤية والمشاهدة لأنفسهم، فإنّهم إنّما يريدون المعرفة، فاعلمه فإنّه من الامور المهمّة التي يغلط فيها كثير من الناس. إنتهي.

والرؤية لا يشترط لها شي ء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين. قال الواحدي: وعلي القول بأنّه رأي بقلبه جعل اللَّه تعالي بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصراً حتّي رأي ربّه رؤية صحيحةً كما يري بالعين» «2».

والحاصل: إنّه لا يبقي- علي هذا- فرق بين رؤية القلب ورؤية البصر، وبأيّ وجهٍ تكون دعوي الرؤية بالبصر فرية عظيمةً، كذلك دعوي الرؤية بالقلب.

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.

(2) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 3: 63.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 52

إنكار عائشة علي ابن عبّاس في مسائل اخري … ص: 52

هذا، وقد أنكرت عائشة علي ابن عبّاس في مسائل اخري أيضاً، ففي (الصحيحين): «عن عمرة بنت عبدالرحمن: إنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلي عائشة إنّ عبداللَّه بن عبّاس قال: من أهدي هدياً حرم عليه ما يحرم علي الحاج، حتّي ينحر هديه، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمرك. قالت عمرة:

قالت عائشة: ليس كما قال ابن عبّاس …» «1».

قول ابن عبّاس بوقوع الغلط في القرآن … ص: 52

واشتهر عن ابن عبّاس القول بوقوع الخطأ والغلط في القرآن العظيم، الذي عليه مدار الإيمان وهو أصل الإسلام …

قال السيوطي- بعد ذكر بعض الأحاديث الدالّة علي وقوع اللّحن في القرآن:

«ويقرب ممّا تقدّم عن عائشة:

ما أخرجه ابن جرير وسعيد بن منصور في سننه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، في قوله «حتّي تستأنسوا وتسلّموا» قال: إنّما هي خطأ من الكاتب، حتّي تستأذنوا وتسلّموا.

أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ: هو- فيما أحسب- ممّا أخطأ به الكتّاب.

وما أخرجه ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ: أفلم __________________________________________________

(1) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من قلّد القلائد بيده. صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب بعث الهدي إلي الحرم …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 53

يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاء اللَّه لهدي النّاس جميعاً. فقيل له: إنّها في المصحف: «أفلم ييأس الذين آمنوا». قال: أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس.

وما أخرجه سعيد بن منصور، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّه كان يقول في قوله «وقضي ربّك» إنما هي: ووصّي ربّك، التزقت الواو بالصّاد.

وأخرجه ابن أشتة بلفظ: استمدّ الكاتب مداداً كثيراً، فالتزقت الواو بالصاد.

وأخرج هو من طريق الضحّاك عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ: ووصّي ربّك ويقول: أمر ربّك، إنّهما واوان التصقت إحداهما بالصّاد.

وأخرج من طريق اخري عن

الضحّاك أنّه قال: كيف تقرأ هذا الحرف؟

قال: «وقضي ربّك» قال: ليس كذلك نقرؤها نحن ولا ابن عبّاس، إنّما هي:

ووصّي ربّك، كذلك كانت تقرأ وتكتب، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد، ثمّ قرأ: «ولقد وصّينا الذين اوتوا الكتاب»، ولو كانت قضاء من ربّك لم يستطع أحد ردّ قضاء الربّ، ولكنّه وصيّة أوصي بها العباد.

وما أخرجه سعيد بن منصور وغيره، من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ: ولقد آتينا موسي وهارون الفرقان ضياء، ويقول: خذوا هذه الواو واجعلوها هاهنا «والذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم» الآية.

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الزبير بن خرّيت، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: إنزعوا هذه الواو فاجعلوها في: الذين يحملون العرش ومن حوله.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 54

وما أخرجه ابن أشتة وابن أبي حاتم من طريق عطا، عن ابن عبّاس، في قوله تعالي: «مثل نوره كمشكاة» قال: هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، إنّما هي مثل نور المؤمن من المشكاة» «1».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 5: 634، 6: 197.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 55

ابيّ بن كعب … ص: 55
اشارة

وأمّا ابيّ بن كعب، فقد زاد في القرآن الكريم، وأدخل فيه ما ليس منه، كما تقدّم سابقاً. كما أنّه نقص منه، إذ وافق ابن مسعود في إنكار المعوّذتين، كما جاء في كتاب (فصول الأحكام) حيث قال:

إنكاره المعوّذتين … ص: 55

«ومن زعم أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن، فقد ذكر في فتاوي أبي الليث أنّه لا يكفر، فإنّه روي عن ابن مسعود وابي بن كعب رضي اللَّه عنهما أنّهما ليستا من القرآن».

فابيّ علي هذا القول أيضاً، وأبو الليث وإنْ كان قد أفتي بعدم الكفر، فقد سبق أنّ جماعة من الأكابر يكفّرون المنكر، بل تقدّم عن النووي أنّه إجماع المسلمين …

بل إنّ القوم يرون بأنّ أدني المخالفة لمصحف عثمان تستوجب الهتك والتفسيق، والتضليل والتعزير، كما وقع بحقّ ابن شنبوذ:

قال ياقوت الحموي في (معجم الادباء) بترجمة محمّد بن أحمد بن أيّوب بن الصّلت بن شنبوذ:

«حدّث إسماعيل بن علي الخطيبي في كتاب التاريخ قال: واشتهر ببغداد أمر رجل يعرف بابن شنبوذ، يقرئ النّاس، ويقرأُ في المحراب بحروفٍ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 56

يخالف فيها المصحف، فيما يروي عن عبداللَّه بن مسعود وابي بن كعب وغيرهما، ممّا كان يقرأ به قبل المصحف الذي جمعه عثمان، ويتتبّع الشواذ فيقرأ بها ويجادل، حتّي عظم أمره وفحش وأنكره النّاس، فوجّه السلطان وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وحمل إلي دار الوزير محمّد ابن مقلة، واحضر القضاة والفقهاء والقرّاء، وناظره الوزير بحضرته، فأقام علي ما ذكر عنه ونصره، واستنزله الوزير عن ذلك فأبي أن ينزل عنه، أو يرجع عمّا يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد علي المصحف العثماني، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطرّه إلي الرجوع، فأمر بتجريده

وإقامته بين الخبّازين، وأمر بضربه بالدرّة علي قفاه، فضرب نحو العشرة ضرباً شديداً، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة، فخلّي عنه».

«قرأت في كتاب ألّفه القاضي أبو يوسف عبدالسَّلام القزويني، سمّاه:

أفواج القرّاء، قال: كان ابن شنبوذ أحد القرّاء المتنسّكين، وكان يرجع إلي ورع، ولكنّه كان يميل إلي الشواذّ ويقرأ بها، وربّما أعلن ببعضها في بعض صلواته التي يجهر فيها بالقراءة، وسمع ذلك منه، وأنكر عليه فلم ينته للإنكار.

فقام أبوبكر ابن مجاهد فيه حقّ القيام وأشهر أمره، ورفع حديثه إلي الوزير في ذلك الوقت، وهو أبو علي ابن مقلة، فأخذ وضرب أسواطاً زادت علي العشرة ولم تبلغ العشرين، وحبس واستتيب فتاب وقال: إنّي قد رجعت عمّا كنت أقرأ به، ولا اخالف مصحف عثمان، ولا أقرأ إلّابما فيه من القراءة المشهورة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 57

وكتب عليه بذلك الوزير أبو علي محضراً بما سمع من لفظه، وأمره أن يكتب في آخره بخطّه، وكان المحضر بخطّ أبي الحسين أحمد بن محمّد بن ميمون، وكان أبوبكر ابن مجاهد تجرّد في كشفه ومناظرته فانتهي أمره إلي أن خاف علي نفسه من القتل.

وقام أبو أيّوب السمسار في إصلاح أمره، وسأل الوزير أباعلي أن يطلقه وأن ينفذه إلي داره مع أعوانه بالليل خيفة عليه لئلّا يقتله العامّة، ففعل ذلك، ووجّه إلي المدائن سرّاً مدّة شهرين، ثمّ دخل بيته ببغداد مستخفياً من العامّة» «1».

من كفر بآية من القرآن كفر بكلّه … ص: 57

هذا، ومقتضي نصوص عبارات القوم وفتاواهم، وهو كفر من كفر بآيةٍ أو بحرفٍ من القرآن الكريم:

قال القاضي عياض في (الشفا):

«قال أبو عثمان ابن الحدّاد: جميع من ينتحل التوحيد متّفقون علي أنّ الجحد لحرفٍ من التنزيل كفر. وكان أبوالعالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له ليس كما قرأت،

ويقول: أمّا أنا فأقرأ كذا، فبلغ ذلك إبراهيم، فقال: أراه سمع أنّه من كفر بحرفٍ منه فقد كفر به كلية» «2».

قال: «وقال محمّد بن سحنون فيمن قال المعوّذتان ليستا من كتاب اللَّه:

__________________________________________________

(1) معجم الادباء 17: 168- 171/ 57.

(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 648- 649.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 58

يضرب عنقه إلّاأن يتوب» «1».

وقال الشهاب الخفاجي في (نسيم الرياض):

«وقال عبداللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه- فيما رواه عبدالرزاق عنه- من كفر بآيةٍ من القرآن فقد كفر به كلّه، لأنّه تكذيب لقائلها عزّ وجلّ. وقال أصبغ ابن الفرج- بالجيم- المصري- من كذّب- بالتشديد- ببعض القرآن فقد كذّب به كلّه، ومن كذّبه كلّه فقد كفر به، ومن كفر به فقد كفر باللَّه سبحانه» «2».

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 648.

(2) نسيم الرياض بشرح الشفا للقاضي عياض 4: 559.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 59

زيد بن ثابت … ص: 59
اشارة

وأمّا زيد بن ثابت … فقد قدح فيه الصحابي أبو حسن المازني الأنصاري بدعوته الأنصار يوم الدار لنصرة عثمان بن عفّان، فخاطبه أبو حسن بآية من القرآن الكريم مفادها الضلال والإضلال …

وقد ترجم الحافظ ابن حجر أباحسن المازني قائلًا:

«أبو حسن الأنصاري ثمّ المازني، جدّ يحيي بن عمارة بن أبي حسن، مشهور بكنيته، واسمه تميم بن عمرو، وقيل: ابن عبد عمرو، وقيل: ابن عبد قيس بن مخرمة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن. قال ابن السكن: بدري، له صحبة، وساق من طريق حسين بن عبداللَّه الهاشمي، ثنا عمرو بن يحيي بن عمارة بن أبي حسن، عن أبيه، عن جدّه أبي حسن- وكان عقبياً بدرياً-: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان جالساً ومعه نفر من أصحابه، فقام رجل ونسي نعليه،

فأخذهما آخر فوضعهما تحته، فجاء الرجل فقال: نعلي، فقال القوم: ما رأيناهما. فقال الرجل: أنا أخذتهما وكنت ألعب، فقال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: فكيف بروعة المؤمن. قالها ثلاثاً» «1».

توصيفه بالضلال والإضلال … ص: 59

وأمّا قضيّته مع زيد بن ثابت، فقد ذكرها الحافظ ابن عبدالبر بترجمته إذ

__________________________________________________

(1) الإصابة في معرفة الصحابة 7: 43/ 272.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 60

قال:

«له صحبة، يقال: إنّه ممّن شهد العقبة وبدراً. وأبو حسن المازني هو القائل لزيد بن ثابت حين قال يوم الدار: يا معشر الأنصار كونوا أنصار اللَّه- مرّتين- فقال له أبو حسن: لا واللَّه، لا نطيعك فنكون كما قال اللَّه تعالي:

«أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيل» ويقال: بل قال له ذلك: النعمان الزرقي» «1».

فكان زيد ودعوته لنصرة عثمان- عند هذا الصحابي- مصداقاً للآية المباركة: «إنّ اللَّه لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون وليّاً ولا نصيراً يوم تقلّب وجوههم في النّار يقولون ياليتنا أطعنا اللَّه وأطعنا الرسولا وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا ربّنا ءَاتِهِمْ ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً» «2».

هذا، ولا يخفي أن القول بكون القائل هو النعمان الزرقي لا يضرّ باستدلالنا لأنّه أيضاً من معارف الصحابة، وقد ترجم له في (الإستيعاب) وقال بأنّه: «كان لسان الأنصار وشاعرهم» ووصفه بأنّه «كان سيّداً» «3».

توصيفه بالجور في الحكم … ص: 60

وعن عمر بن الخطّاب- وهو خليفتهم الثاني، المدّعي له العصمة كما نقل الشيخ عبدالعلي الأنصاري في (شرح المثنوي) عن بعضهم- أنّه وصف __________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4: 1632/ 2915.

(2) سورة الأحزاب 33: 64- 68.

(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4: 1501/ 2619.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 61

زيد بن ثابت بالجور في الحكم، في خصومةٍ كانت بينه وبين ابي بن كعب فتحاكما إليه:

«عن الشعبي قال: كان بين عمر وبين ابي بن كعب خصومة، فقال عمر:

إجعل بيني وبينك رجلًا، فجعلا بينهما زيد بن ثابت، فأتياه، فقال عمر: أتيناك لتحكم بيننا، وفي بيته

يؤتي الحكم.

فلمّا دخلا عليه وسّع له زيد عن صدر فراشه، فقال: هاهنا يا أميرالمؤمنين، فقال له عمر: هذا أوّل جور جُرتَ في حكمك، ولكنْ أجلس مع خصمي، فجلسا بين يديه، فادّعي ابي وأنكر عمر، فقال زيد لُابي: اعف أميرالمؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحدٍ غيره، فحلف عمر، ثمّ أقسم لا يدرك زيد القضاء حتّي يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.

هق كر» «1» أي رواه سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في سننه، وابن عساكر في تاريخه.

«عن الشعبي قال: تنازع في جداد نخل ابي بن كعب وعمر بن الخطّاب، فبكي ابي ثمّ قال: أفي سلطانك يا عمر؟! فقال عمر: إجعل بيني وبينك رجلًا من المسلمين، قال ابي: زيد، قال: رضيت.

فانطلقا حتّي دخلا علي زيد، فلمّا رأي زيد عمر تنحّي عن فراشه، فقال عمر: في بيته يؤتي الحكم. فعرف زيد أنّهما جاءا ليتحاكما إليه، فقال لُابي: تقصُّ، فقصّ، فقال له عمر: تذكّر لعلّك نسيت شيئاً، فتذكّر ثمّ قصّ، حتّي قال: ما أذكر شيئاً. فقصّ عمر، قال زيد: بيّنتك يا ابي، فقال: مالي بيّنة، قال: فاعف ج عن ج أميرالمؤمنين من اليمين، فقال عمر: لا تعف أميرالمؤمنين __________________________________________________

(1) كنز العمّال 5: 808/ 14445.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 62

عن اليمين إنْ رأيتها عليه. كر» «1».

أقول:

لم يشأ الرواة أن ينقلوا الواقعة علي ما وقعت عليه كاملةً، وحاولوا التكتّم علي بعض جزئيّاتها المهمّة.. لكنّ الباحث المحقّق قد يعثر علي طرفٍ من ذلك في سائر الكتب:

قال الراغب في (المحاضرات):

«وكان زيد بن ثابت يقضي لعمر بالمدينة، وتقدَّم إليه عمر مع ابي في جداد تنازعاه، فخرج إليهما فقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين، هاهنا هاهنا.

ثمّ توجّهت اليمين علي عمر، فقال

زيد لُابي: اعف أميرالمؤمنين من اليمين.

فقال له عمر: ما زلت جائراً منذ اليوم! السلام عليك يا أميرالمؤمنين، وهاهنا هاهنا، واعف أميرالمؤمنين!!» «2».

ففي هذه الرواية: «فقال عمر: ما زلت جائراً منذ اليوم»، وهذه الجملة ممّا تكتَّم عليه القوم …

أحاديث في ذمّ القاضي الجائر … ص: 62

فكان «زيد بن ثابت» قاضياً بالمدينة، وكان «جائراً» كما ذكر عمر، والأحاديث في ذم القاضي الجائر مستفيضة في كتب المسلمين:

روي الحافظ المنذري في (الترغيب والترهيب) عن أبي سعيد الخدري __________________________________________________

(1) كنز العمّال 5: 839/ 14525.

(2) المحاضرات للراغب الأصفهاني 1: 194. وجِدادُ النَّخْل: صِرامُه، وقد جَدَّه يَجُدُّه. كتاب العين 6: 10 (جد).

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 63

رضي اللَّه عنه: «قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أحبّ النّاس إلي اللَّه يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل، وأبغض الناس إلي اللَّه تعالي وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر. رواه الترمذي والطبراني في الأوسط مختصراً إلّاأنّه قال:

أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة إمام جائر. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

وعن عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه أنّ النّبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

أفضل النّاس عند اللَّه منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق، وشرّ عباد اللَّه عند اللَّه منزلة يوم القيامة إمام جائر خرق. رواه الطبراني في الأوسط، من رواية ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات.

عن عبداللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ أشدّ أهل النّار عذاباً يوم القيامة، من قتل نبيّاً أو قتله نبي وإمام جائر.

رواه الطبراني، ورواته ثقات، إلّاليث بن أبي سليم، وفي الصحيح بعضه، ورواه البزّار بإسناد جيّد إلّاأنّه قال: وإمام ضلالة.

وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

أربعة يبغضهم اللَّه: البيّاع الحلّاف، والفتي

المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر. رواه النسائي وابن حبان في صحيحه، وهو في مسلم بنحوه إلّاأنّه قال: وملك كذّاب وعائل مستكبر.

وروي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ثلاثة لا يقبل اللَّه لهم شهادة أن لا إله إلّااللَّه، فذكر منهم: الإمام الجائر.

رواه الطبراني في الأوسط.

وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النّبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

السلطان ظلّ اللَّه في الأرض يأوي إليه كلُّ مظلوم من عباده؛ فإن عدل كان له استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 64

الأجر، وكان علي الرعيّة الشكر، وإن جار أو حَافَ أو ظلم كان عليه الوزر، وعلي الرعيّة الصبر، وإذا جارت الولاة قحطت السّماء، وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي، وإذا ظَهَرَ الزنا ظهر الفقر والمسكنة، وإذا أخفرت الذمّة اديل الكفّار أو كلمة نحوها.

عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

من طلب قضاء المسلمين حتّي يناله ثمّ غلب عدله جوره، فله النار ج وإن غلب جوره عدله فله النّار ج. رواه أبو داود.

وعن ابن بريدة، عن أبيه رضي اللَّه عنهما: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النّار وقاض في الجنّة: رجل قضي بغير الحق يعلم بذلك فذلك في النّار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النّار، وقاض قضي بالحقّ فذلك في الجنّة. رواه أبو داود- وتقدّم لفظه- وابن ماجة والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن غريب.

وعن ابن أبي أوفي رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلّي عنه ولزمه الشيطان. رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبّان في صحيحه،

والحاكم إلّاأنّه قال: فإذا جار تبرّأ اللَّه منه. رووه كلّهم من حديث عمران القطّان ج وقال الترمذي حديث حسن غريب لا نعرفه إلّامن حديث عمران القطّان ج وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

قال الحافظ: وعمران يأتي الكلام عليه إن شاء اللَّه تعالي» «1».

__________________________________________________

(1) الترغيب والترهيب 3: 167- 172/ 7 و 8 و 10 و 11 و 13 و 14 و 19 و 20 و 21.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 65

إنّه زاد في القرآن ونقص منه … ص: 65

وهذا ممّا ذكر عمر بن الخطّاب مخاطباً به زيد بن ثابت، وأخرجه القوم في كتب الحديث:

«عن زيد بن ثابت: إنّ عمر بن الخطّاب استأذن عليه يوماً، فأذن له ورأسه في يد جاريةٍ له ترجّله، فنزع رأسه، فقال له عمر: دعها ترجّلك؟ قال:

يا أميرالمؤمنين، لو أرسلت إليّ جئتك. فقال عمر: ليس هو بوحي حتّي نزيد فيه أو ننقص، إنّما هو شي ء نراه، فإنْ رأيته ووافقتني تبعته، وإلّا لم يكن عليك فيه شي ء. فأبي زيد، فخرج عمر مغضباً» «1».

فصريح هذا الكلام أنّ زيد بن ثابت زاد في القرآن ونقص منه، وقد ذكر القاضي عياض في (الشفاء) ما نصّه:

«قد أجمع المسلمون علي أنّ القرآن المتلوّ في جميع أقطار الأرض، المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، ممّا جمعه الدفّتان، من أوّل الحمد للَّه ربّ العالمين، إلي آخر: قل أعوذ بربّ النّاس: إنّه كلام اللَّه و وحيه المنزل علي نبيّه محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، وإنّ جميع ما فيه حق، وأنّ من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك أو بدّله بحرفٍ آخر مكانه، أو زاد فيه حرفاً ممّا لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه، وأجمع علي أنّه ليس من القرآن، عامداً لكلّ هذا، إنّه كافر» «2».

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 11: 63/

30631.

(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 647.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 66

ردّه عمر بن الخطّاب في آيةٍ مع قبوله خزيمة في اخري … ص: 66

وكما كان عمر لايعتمد علي زيد ويتكلّم فيه، كذلك زيد لم يعتمد علي عمر وردّه لمّا كان يجمع القرآن، حيث جاء عمر بآيةٍ ليكتبها فلم يقبل منه، مع أنّه قبل خزيمة بن ثابت في آية اخري وكتبها، هذا، وعمر أفضل- عندهم- من خزيمة مائة مرّة، ومع أنّهم يقولون بأنّ خبر مثل عمر بن الخطّاب بوحده مفيدٌ لليقين، كما ذكر عبدالعزيز الدهلوي، وقد ذكر القصّة الحافظ جلال الدين السيوطي حيث قال:

«قد أخرج ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال: أوّل من جمع القرآن أبوبكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آيةً إلّابشاهدي عدل، وإنّ آخِر سورة براءة لم يوجد إلّامع خزيمة بن ثابت فقال: اكتبوها، فإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وإنّ عمر أتي بآية الرجم فلم يكتبها، لأنّه كان وحده» «1».

فكيف قبل شهادة خزيمة ولم يقبل شهادة عمر؟

وإذا كان خبر عمر مفيداً لليقين، فالقرآن ناقص.

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 1: 206.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 67

أبو موسي الأشعري … ص: 67
اشارة

وأمّا أبو موسي الأشعري، فهذا طرف من حالاته وأخباره المسقطة له عن الإعتبار والإعتماد:

إنحرافه عن أميرالمؤمنين … ص: 67

لقد كان أبو موسي الأشعري من المنحرفين عن أميرالمؤمنين عليه السلام، وهذا من الامور الثابتة، وقد ذكر بترجمته من الكتب المعروفة:

قال ابن عبدالبرّ:

«ولم يزل علي البصرة إلي صدرٍ من خلافة عثمان، ثمّ لمّا دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أبا موسي، وكتبوا إلي عثمان يسألونه أنْ يولّيه، فأقرّه، فلم يزل علي الكوفة حتّي قتل عثمان، ثمّ كان منه بصفّين وفي التحكيم ما كان، وكان منحرفاً عن علي، لأنّه عزله ولم يستعمله، وغلبه أهل اليمن في إرساله في التحكيم» «1».

ترجمة ابن عبدالبر … ص: 67

وابن عبدالبر، المتوفّي سنة 463، من أكابر الحفّاظ المعتمدين، وتراجمه في كتب القدماء والمتأخّرين تنبي ء عن جلالة شأنه وعظمة قدره بين العلماء المشهورين:

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4: 1763- 1764/ 3193.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 68

ترجم له ابن خلّكان ووصفه ب «إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلّق بهما» ثمّ أورد عن أبي الوليد الباجي: «لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث» وأنّه «أحفظ أهل المغرب» وعن أبي علي الغسّاني «ابن عبدالبر شيخنا … برع براعةً فاق فيها من تقدّمه من رجال الأندلس» ثمّ ذكر بعض تواليفه. وعن ابن حزم: «لا أعلم في الكلام علي فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه» … «1»

وقال الذهبي بترجمته ما ملخّصه:

«ابن عبدالبر، الإمام العلّامة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام، أبو عمر، يوسف بن عبداللَّه، صاحب التصانيف الفائقة، طلب العلم وأدرك الكبار وطال عمره وعلا سنده، وتكاثر عليه الطلبة، فكان فقيهاً عابداً مجتهداً.

قال الحميري: أبو عمر فقيه حافظ مكثر … وقال أبو علي الغساني …

قلت: كان إماماً ديّناً، ثقة، متقناً، علّامة، متبحّراً، صاحب سنّةٍ واتّباع، ممّن بلغ رتبة الأئمّة المجتهدين.

قال أبو القاسم ابن بشكوال: ابن عبدالبر

إمام عصره وواحد دهره، يكنّي أبا عمر.

قال أبو علي ابن سكّرة: سمعت أبا الوليد الباجي يقول …» «2».

كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسي لانحرافه … ص: 68

وذكر ابن عبدالبرّ بترجمة أبي موسي في موضع آخر من كتابه:

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 7: 66- 67/ 837.

(2) سير أعلام النبلاء 18: 153/ 85.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 69

«ولّاه عمر البصرة في حين عزل المغيرة عنها ج فلم يزل عليها ج إلي صدر من خلافة عثمان، فعزله عثمان عنها وولّاها عبداللَّه بن عامر بن كريز، فنزل أبو موسي حينئذٍ الكوفة وسكنها، فلمّا دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أباموسي، وكتبوا إلي عثمان يسألونه أنْ يولّيه، فأقرّه عثمان علي الكوفة، إلي أنْ مات، وعزله علي رضي اللَّه عنه عنها، فلم يزل واجداً علي علي حتّي جاء منه ما قال حذيفة، فقد روي فيه لحذيفة كلام كرهت ذكره، واللَّه يغفر له.

ثمّ كان من أمره يوم الحكمين ما كان» «1».

إذنْ، فقد كان أبو موسي «منحرفاً» عن علي … و «لم يزل واجداً» علي الإمام عليه السلام … لكنْ ما هو كلام حذيفة فيه الذي «كره» ابن عبدالبر ذكره؟! وحذيفة صاحب سرّ رسول اللَّه، وهو الذي كان يعرف المنافقين من الصّحابة، لاسيّما الذين أرادوا اغتيال النبي في العقبة …

علي باب حطّة من خرج منه كان كافرا … ص: 69

وفي الحديث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أنّه قال: «علي باب حطّة، من دخل منه كان مؤمناً ومن خرج منه كان كافراً» أخرجه الدارقطني عن ابن عبّاس، وعنه ابن حجر المكّي في (الصواعق) والسيوطي في (الجامع الصغير) «2».

وكذا أخرجه الديلمي عن ابن عمر «3».

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 980/ 1639.

(2) الصواعق المحرقة 2: 365- 366، الجامع الصغير 2: 177/ 5592.

(3) فردوس الأخبار 3: 90/ 3998.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 70

كتم كلام حذيفة في أبي موسي … ص: 70

ثمّ إنّ عبدالبر كره أنْ يذكر كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسي الأشعري، تستّراً عليه، إلّاأنّ ما صرَّح به من كونه «منحرفاً عن علي» وأنّه «لم يزل واجداً» علي الإمام عليه السلام يكفي للتوصّل إلي كلام حذيفة، فإنّ الباحث اللبيب والمحقّق الخبير يفهم- من تلك القرائن، وبالنظر إلي كون حذيفة عارفاً بالمنافقين، وأنّ كلامه مقبولٌ في التعريف بهم- أنّ كلام حذيفة ليس إلّاالإعلان عن كون أبي موسي من المنافقين … وهذا ما كره ابن عبدالبر التصريح به مخالفةً منه لقوله تعالي: «ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون».

مع أنّ كتابه (الإستيعاب) مشتمل علي فضائح كثير من الأصحاب، وتكلّم بعضهم في البعض الآخر، والإفصاح عن مثالبه:

كروايته خطبة عبداللَّه بن بديل في ذمّ معاوية وهجوه وتضليله … «1»

وكروايته خطبة أميرالمؤمنين عليه السلام، وفيها التصريح بأنّ عائشة وطلحة والزبير هم الذين ألّبوا علي عثمان وقتلوه … «2»

وكروايته أنّ معاوية هو الذي دسّ السمّ إلي الإمام الحسن السبط عليه السلام «3».

وكروايته قتل معاوية حجر بن عدي … «4»

إلي غير ذلك من مخازي الصحابة التي تظهر لمن تتبّع كتاب (الاستيعاب).

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 873/ 1481.

(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب- ترجمة طلحة- 2:

767/ 1280.

(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1: 389/ 555.

(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1: 329/ 487.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 71

وإذا كان ابن عبدالبر يروي تلك الأخبار ويكره رواية كلام حذيفة في أبي موسي الأشعري … فلابدّ وأنْ يكون كلامه فيه أعظم من تلك الكلمات، التي رواها بتراجم الصحابة عن بعضهم في البعض الآخر …

هذا كلّه، وقد اشتهر الحديث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في كتب الفريقين في أنّ بغض علي نفاق، وعن غير واحدٍ من صحابته: «ما كنّا نعرف المنافقين إلّاببغضهم عليّ بن أبي طالب» وقد رواه ابن عبدالبر أيضاً بترجمة الإمام عليه السلام … وبعد ثبوت انحراف أبي موسي عنه وبغضه له، لم يبق أي ريب وشك في كون أبي موسي من المنافقين … ولا تبقي حاجة إلي ذكر الشواهد علي ذلك من كتب الحديث والتاريخ.

وإذا كان ابن عبد البر يكره رواية الخبر، فقد رواه غير واحدٍ من الأعلام، منهم ابن عساكر في (تاريخه) «1» بإسناده عن الأعمش عن شقيق قال: «كنا مع حذيفة جلوساً، فدخل عبداللَّه وأبو موسي المسجد، فقال: أحدهما منافق. ثم قال: إن أشبه الناس هدياً ودلّاً وسمتاً برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عبداللَّه».

من مشاهد انحراف أبي موسي عن علي … ص: 71

و مع ذلك نتعرّض لبعض الأخبار الشاهدة بانحراف الرجل عن أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام:

قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري):

«قوله: بعث عليّ عمّار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة، ذكر عمر بن شبة والطبري سبب ذلك بسندهما إلي ابن أبي ليلي قال: كان عليّ __________________________________________________

(1) تاريخ دمشق 32: 93 ترجمة عبداللَّه بن قيس وهو أبو موسي الأشعري.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 72

أقرّ أبا موسي علي إمرة

الكوفة، فلمّا خرج من المدينة أرسل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إليه أن أنهض من قبلك من المسلمين، وكن من أعواني إلي الحق، فاستشار أبو موسي السائب بن مالك الأشعري فقال: اتّبع ما أمرك به. قال: إنّي لا أري ذلك، وأخذ في تخذيل الناس عن النهوض، فكتب هاشم إلي علي بذلك وبعث بكتابه مع حجل بن خليفة الطائي، فبعث عليٌّ عمّار بن ياسر والحسن بن علي يستفزّان النّاس، وأمّر قرظة بن كعب علي الكوفة» «1».

وقال ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة):

«وذكروا أنّ عليّاً لمّا نزل قريباً من الكوفة، بعث عمّار بن ياسر ومحمّد ابن أبي بكر إلي أبي موسي الأشعري، وكان أبو موسي عاملًا لعثمان علي الكوفة، فبعثهما عليٌّ إليه وإلي أهل الكوفة يستفزّهم، فلمّا قدما عليه، قام عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر فدعوا النّاس إلي النصرة لعليّ، فلمّا أمسوا، دخل رجال من أهل الكوفة علي أبي موسي فقالوا: ما تري؟ أنخرج مع هذين الرجلين إلي صاحبهما أم لا؟ فقال أبو موسي: أمّا سبيل الآخرة ففي أن تلزموا بيوتكم، وأمّا سبيل الدّنيا وسبيل النار، فالخروج مع من أتاكم، فأطاعوه، فتبطأ النّاس علي علي، وبلغ عمّاراً ومحمّداً ما أشار به أبو موسي علي أولئك الرهط، فأتياه فأغلظا له في القول، فقال أبو موسي: واللَّه إنّ بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكما، ولئن أرادنا للقتال مالنا إلي قتال أحد من سبيل حتّي نفرغ من قتلة عثمان.

ثمّ خرج أبو موسي وصعد المنبر ثمّ قال: أيّها النّاس! إنّ أصحاب رسول اللَّه الذين صحبوه في المواطن أعلم باللَّه وبرسوله ممّن لم يصحبه، وإنّ لكم حقّاً عَلَيّ اؤدّيه إليكم، إنّ هذه الفتنة النائم فيها خير من اليقظان، والقاعد

__________________________________________________

(1) فتح الباري في

شرح صحيح البخاري 13: 48.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 73

خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والسّاعي خير من الراكب، فاغمدوا سيوفكم حتّي تنجلي هذه الفتنة» «1».

وأخرج البخاري:

«حدّثنا بدل الُمحبَّر قال حدّثنا شعبة قال: أخبرني عمرو قال: سمعت أبا وائل يقول: دخل أبو موسي وأبو مسعود علي عمّار- حيث بعثه علي إلي أهل الكوفة يستنفرهم- فقالا: ما رأيناك أتيت أمراً أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت. فقال عمّار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر، وكساهما حلّة حلّة، ثمّ راحوا إلي المسجد.

حدّثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة: كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسي وعمّار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحدٌ إلّالو شئت لقلت فيه، غيرك، وما رأيت منك شيئاً منذ صَحِبْتَ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر. قال عمّار: يا أبامسعود! وما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً، منذ صحبتما النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر. فقال أبو مسعود- وكان موسراً-: يا غلام! هات حلّتين، فأعطي إحداهما أباموسي والاخري عمّاراً وقال: روحا فيه إلي الجمعة» «2».

وقال الحاكم:

«أخبرنا عبدالرحمن بن الحسن القاضي بهمدان، حدّثنا إبراهيم بن الحسين، حدّثنا آدم بن أبي أياس، حدّثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبي __________________________________________________

(1) الامامة والسياسة 1: 65- 66.

(2) صحيح البخاري 9: 70- 71 كتاب الفتن.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 74

وائل قال: دخل أبوموسي الأشعري وأبو مسعود البدري علي عمّار وهو يستنفر النّاس، فقالا له: ما رأينا منك أمراً منذ أسلمت أكره عندنا من إسراعك

في هذا الأمر. فقال عمّار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر» «1».

وأخرج أيضاً:

«عن الشعبي قال: لمّا قتل عثمان وبويع لعلي رضي اللَّه عنهما، خطب أبو موسي وهو علي الكوفة، فنهي النّاس عن القتال والدخول في الفتنة، فعزله عليٌّ عن الكوفة من ذي قار، وبعث إليه عمّار بن ياسر والحسن بن علي فعزلاه» «2».

وفيما فعل أبو موسي من الوقاحة والتجاسر والإفتراء والكذب، ما لا يخفي، ولا بأس لتوضيح شناعة موقفه بأنْ نقول:

أوّلًا: ذكر المسعودي- وعنه سبط ابن الجوزي- أنّه لمّا خذّل أبو موسي الناس، كتب الإمام عليه السلام إليه:

«إنعزل عن هذا الأمر مذموماً مدحوراً، فإنْ لم تفعل، فقد أمرت من يقطّعك إرباً إرباً، يا ابن الحائك، ما هذا أوّل هناتك، وإنّ لك لهنات وهنات.

ثمّ بعث عليٌّ الحسن وعمّاراً إلي الكوفة، فالتقاهما أبو موسي، فقال له الحسن: لم ثبّطت القوم عنّا؟ فواللَّه ما أردنا إلّاالإصلاح. فقال: صدقت، ولكنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ستكون فتنة، يكون القاعد فيها خيراً من القائم، والماشي خيراً من الراكب. فغضب عمّار

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 117.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3: 117.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 75

وسبّه» «1».

فلقد وصفه الإمام عليه السلام بوصف أهل النّار، قال تعالي: «من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها مذموماً مدحوراً» «2»

وقال: «لا تجعل مع اللَّه إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولًا» «3»

وقال:

«ولا تجعل مع اللَّه إلهاً آخر فتلقي في جهنّم ملوماً مدحوراً» «4».

قال في (تفسير الجلالين): «ج مذموماً ج ملوماً ج مدحوراً ج مطروداً عن الرحمة» «5».

وفي كتاب (النهاية في غريب الحديث): «في حديث عرفة: ما

من يوم إبليس فيه أدحر ولا أدحق منه في يوم عرفة، الدحر: الدفع بعنف علي سبيل الإهانة والإذلال، والدحق: الطّرد والإبعاد» «6».

وفيه:

«وأصل اللّعن: الطرد والإبعاد من اللَّه» «7».

وقال الفخر الرازي بتفسير الآية: «من كان يريد العاجلة»:

«قال القفّال رحمه اللَّه: هذه الآية داخلة في معني قوله «وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه» ومعناه، أنّ الكمال في الدّنيا قسمان، فمنهم من يريد

__________________________________________________

(1) مروج الذهب 3: 104/ 1630 (بنحوه) تذكرة خواص الامّة: 70.

(2) سورة الإسراء 17: 18.

(3) سورة الإسراء 17: 22.

(4) سورة الإسراء 17: 39.

(5) تفسير الجلالين ط ذيل تفسير البيضاوي 1: 581.

(6) النهاية في غريب الحديث والأثر 2: 103 «دحر».

(7) النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 255.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 76

بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها، فهذا يأنف من الإنقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم، إشفاقاً من زوال الرياسة عنه، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً، لأنّه في قبضة اللَّه تعالي، فيؤتيه اللَّه في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء اللَّه، إلّا أنّ عاقبته جهنّم يدخله فيها فيصلاها مذموماً ملوماً مدحوراً منفيّاً مطروداً من رحمة اللَّه تعالي.

وفي لفظ هذه الآية فوائد:

الفائدة الاولي: إنّ العقاب عبارة عن مضرّة مقرونة بالإهانة والذمّ، بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة. فقوله: «ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها» إشارة إلي المضرّة العظيمة، وقوله: «مذموماً» إشارة إلي الإهانة والذم، وقوله: «مدحوراً» إشارة إلي البعد والطرد عن رحمة اللَّه، وهي تفيد كون تلك المضرّة خالية عن شوب النفع والرحمة، وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدّل بالراحة والخلاص» «1».

وقال أبو البركات النسفي بتفسيرها:

««من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء» لا

ما يشاء «لمن نريد» بدل من له بإعادة الجار، وهو بدل البعض من الكلّ، إذ الضمير يرجع إلي من، أي من كانت العاجلة همّه ولم يرد غيرها كالكفرة، تفضّلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيّد المعجّل بمشيّته والمعجّل له بإرادته، وهكذا الحال، تري كثيراً من هؤلاء يتمنّون ما يتمنّون ولا يعطون إلّابعضاً منه، وكثيراً منهم يتمنّون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدّنيا وفقر الآخرة، وأمّا

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 20: 178.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 77

المؤمن التقي، فقد اختار غني الآخرة، فإنّ أوتي حظّاً من الدنيا فبها، وإلّا فربّما كان الفقر خيراً له «ثمّ جعلنا له جهنّم» في الآخرة «يصلاها» يدخلها «مذموماً» ممقوتاً «مدحورا»» «1».

وقال البغوي:

««ولا تجعل مع اللَّه إلهاً آخر» خاطب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في هذه الآيات، والمراد منه الامّة «فتلقي في جهنّم ملوماً مدحوراً» مطروداً مبعداً من كلّ خير» «2».

وقال الرازي بتفسير الآية: «ولا تجعل مع اللَّه إلهاً آخر فتلقي في جهنّم ملوماً مدحوراً»:

«ثمّ إنّه تعالي ذكر في الآية الاولي: أنّ الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولًا، وذكر في الآية الأخيرة: أنّ الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنّم ملوماً مدحوراً، فاللّوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤه في جهنّم يحصل يوم القيامة.

ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول، وبين الملوم المدحور فنقول: أمّا الفرق بين المذموم وبين الملوم، فهو أن كونه مذموماً معناه أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر، فهذا معني كونه مذموماً، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له: لم فعلت مثل هذا الفعل؟ وما الذي حملك عليه؟ وما استفدت من هذا العمل إلّاإلحاق الضرر بنفسك، وهذا هو اللّوم،

فثبت أنّ أوّل الأمر هو أن يصير مذموماً، وآخره أن يصير

__________________________________________________

(1) تفسير النسفي/ مدارك التنزيل 1: 709.

(2) تفسير البغوي/ معالم التنزيل 3: 497.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 78

ملوماً، وأمّا الفرق بين المخذول وبين المدحور، فهو أنّ المخذول عبارة عن الضعيف، يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، وأمّا المدحور فهو المطرود، والطرد عبارة عن الإستخفاف والإهانة، قال تعالي: «ويخلد فيه مهاناً» فكونه مخذولًا عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلي نفسه، وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والإستخفاف به» «1».

وأيضاً: فقد ورد أنّ الإمام عليه السلام قال عن أبي موسي: «هو عندي غير مأمون، وقد هرب منّي» قال سبط ابن الجوزي في خبر قضيّة التحكيم:

«ولمّا فعل معاوية ما فعل قال: نبعث حكماً نرتضي به، وابعثوا أنتم حكماً ترضون به، فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، واختار أهل العراق أباموسي الأشعري، فقال علي عليه السلام: لا أرضي به، وهو عندي غير مأمون، وقد هرب منّي، وخذّل النّاس عنّي، ولكنْ هذا ابن عبّاس» «2».

وكما تكلّم الإمام عليه السلام في أبي موسي بما تقدّم ونحوه، كذلك تكلّم في سعد بن أبي وقّاص، لتخلّفه عنه وتركه نصرته، قال الحاكم:

«وأمّا ما ذكر من اعتزال سعد بن أبي وقّاص عن القتال، فحدّثناه أبو زكريّا يحيي بن محمّد العنبري، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، ثنا علي بن المنذر، ثنا ابن فضيل، ثنا مسلم الملائي، عن خيثمة بن عبدالرحمن قال: سمعت سعد بن مالك، وقال له رجل: إنّ عليّاً يقع فيك أنّك تخلَّفت عنه، فقال سعد:

واللَّه إنّه لرأي رأيته وأخطأ رأيي، إنّ علي بن أبي طالب اعطي ثلاثاً، لأنْ أكون اعطيت إحداهنّ أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها:

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 20: 214.

(2) تذكرة خواص الامّة:

93.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 79

لقد قال له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يوم غدير خم بعد حمد اللَّه والثناء عليه: هل تعلمون أنّي أولي بالمؤمنين؟ قلنا: نعم. قال: اللّهمّ من كنت مولاه فعليّ مولاه، وال من والاه وعاد من عاداه.

وجي ء به يوم خيبر وهو أرمد ما يبصر، فقال: يا رسول اللَّه، إنّي أرمد، فتفل في عينيه ودعا له، فلم يرمد حتّي قتل، وفتح عليه خيبر.

وأخرج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عمّه العبّاس وغيره من المسجد، فقال له العبّاس: تخرجنا ونحن عصبتك وعمومتك وتسكن عليّاً؟! فقال: ما أنا أخرجتكم وأسكنته، ولكنّ اللَّه أخرجكم وأسكنه» «1».

ثانياً: إنّ سبّ عمّار بن ياسر أبا موسي الأشعري دليل آخر علي كفر أبي موسي، لأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال- كما في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة- «سباب المسلم فسوق» «2»، فلا يجوز سبّ المسلم علي الإطلاق، فكيف بالصّحابي، فلو كان لأبي موسي حظّ من الإسلام لَما جاز سبّه أصلًا.

ثالثاً: إنّ ترك أبي موسي نصرة الإمام عليه السلام وتخذيله الناس عن القتال معه ونصرته، يُشمله قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: «اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله»، أخرجه الطبراني عن عمرو بن مرّة وزيد بن أرقم وحبشي بن جنادة مرفوعاً بلفظ:

«اللهمّ من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 116- 117 كتاب معرفة الصحابة.

(2) جامع الاصول 10: 67 و 760/ 7535 و 8437.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 80

من نصره، وأعن من أعانه» «1».

وأخرجه الحاكم بإسناده عن جابر بن عبداللَّه يقول: «سمعت

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ج يقول يوم الحديبيّة ج- وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه- وهو يقول: هذا أمير البررة ج و ج قاتل الفجرة، منصور من نصره ج و ج مخذول من خذله. ثمّ مدّ بها صوته. هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» «2».

رابعاً: لقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي» وهو حديث صادر عنه قطعاً … وقد اعترف بذلك كبار أهل السنّة من القدماء والمتأخّرين، وحتي الدهلوي صاحب (التحفة الإثني عشريّة)، وأضاف أنّ كلّ عقيدةٍ أو عملٍ مخالف للثقلين فهو باطل، ومن أنكرهما فهو ضالٌّ خارج من الدين، وهذه ترجمة كلامه في الباب الرابع من كتابه:

«واعلم أنّه قد ثبت باتّفاق الفريقين أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

إنّي تارك فيكم الثقلين ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي. وقد أفاد أنّ النبي قد دلّنا في معالم الدين وأحكام الشرع علي هذين الأمرين العظيمين، فكلّ مذهبٍ خالفهما في الامور الشرعيّة سواء في العقيدة أو العمل فهو باطل ولا اعتبار به، وكلّ من أنكرهما

__________________________________________________

(1) المعجم الكبير 4: 17/ 3514، و 5: 171/ 4985.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3: 129 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 81

فهو ضالّ وخارج من الدّين» «1».

ولا شكّ أنّ أباموسي الأشعري قد خالف الثقلين، فكان من الخارجين عن الدين والداخلين في زمرة الضالّين الهالكين.

خامساً: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوحٍ، من ركبها نجا

ومن تخلّف عنها غرق» وهو كذلك من الأحاديث الثابتة الصدور عنه عند الفريقين، وقد قال الدهلوي في (التحفة) في مقام الردّ علي استدلال أصحابنا بهذاالحديث علي الإمامة العامّة والولاية المطلقة- لأميرالمؤمنين عليه السلام- ما تعريبه:

«إنّ هذا الحديث لا يدلّ إلّاعلي إناطة الفلاح والهداية بحبّهم واتّباعهم، وأنّ التخلّف عن ذلك موجب للهلاك» «2».

ومن الواضح: أنّ حال أبي موسي الأشعري ليس إلّاالتخلّف عن أهل البيت والمخالفة لهم، فيكون من الضالّين الهالكين.

سادساً: إنّه لم يكن تخلّف أبي موسي عن أهل البيت عليهم السلام ومخالفته لهم في ترك النصرة وتخذيل النّاس فقط، بل تكلّم بكلماتٍ كشف فيها عن نصبه وعناده لأهل البيت، بما لا يقبل الحمل والتأويل، فكان من الهالكين والخاسرين، وقد اعترف بذلك سائر العلماء من أهل السنّة حتّي المتعصّبون منهم …

سابعاً: لقد عصي أبو موسي أميرالمؤمنين عليه السلام، ومن عصاه فقد عصي رسول اللَّه، ومن عصي رسول اللَّه فقد عصي اللَّه تعالي … وفي ذلك __________________________________________________

(1) التحفة الإثنا عشريّة، الباب الرابع: 130.

(2) التحفة الإثناعشريّة، الباب السابع: 219.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 82

أحاديث صحيحة عنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وقد أخرج الحاكم بإسناده عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: «قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصي اللَّه، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن عصي عليّاً فقد عصاني» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «1».

ثامناً: إنّه قد فارق أبو موسي أميرالمؤمنين عليه السلام بتركه نصرته والتخلّف عنه، وقد نصّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي أنّ من فارق عليّاً فقد فارق اللَّه ورسوله:

أخرج الحاكم بإسناده عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال:

«قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: من فارقني فقد فارق اللَّه ومن فارقك فقد فارقني» «2».

تاسعاً: إنّ من الواضح أنّ أبا موسي قد آذي بأفعاله وأقواله عليّاً أميرالمؤمنين، وهذا ممّا لا يرتاب فيه مرتاب ولا يشكّ فيه أحد من اولي الألباب، وإيذاء علي إيذاء رسول اللَّه، وإيذاؤه يوجب الدخول في النّار.

أخرج الحاكم بإسناده عن عمرو بن شاس الأسلمي، قال له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- في حديث-: «يا عمرو، أما واللَّه لقد آذيتني.

فقلت: أعوذ باللَّه أن اوذيك يا رسول اللَّه! قال: بلي، من آذي عليّاً فقد آذاني» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «3».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 121 كتاب معرفة الصحابة.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3: 146 كتاب معرفة الصحابة.

(3) المستدرك علي الصحيحين 3: 122 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 83

العاشر: لقد خالف أبو موسي رسول اللَّه، وعصي أوامره صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالقتال مع أميرالمؤمنين، في حروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين:

أخرج الحاكم بإسناده أنّ أباأيّوب الأنصاري قال في زمان عمر بن الخطّاب: «أمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين» «1».

وأخرج عنه أنّه قال: «سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول لعلي بن أبي طالب: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، بالطرقات والنهروانات وبالسعفات، قال أبو أيّوب: قلت: يا رسول اللَّه، مع من نقاتل هؤلاء الأقوام؟ قال: مع علي بن أبي طالب» «2».

وأخرج البغوي عن ابن مسعود قال: «خرج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فأتي منزل امّ سلمة، فجاء علي، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

يا ام سلمة، هذا- واللَّه- قاتل القاسطين والناكثين والمارقين

من بعدي» «3».

وروي المتقي حديث ابن مسعود المذكور عن الحاكم في الأربعين وابن عساكر «4».

وروي عن ابن عساكر عن زيد بن علي بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جدّه عن علي قال: «أمرني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بقتال الناكثين __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 139 كتاب معرفة الصحابة.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3: 140 كتاب معرفة الصحابة.

(3) شرح السنّة 6: 168/ 2009 كتاب قتال أهل البغي الباب 1.

(4) كنز العمّال 13: 110/ 36361.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 84

والمارقين والقاسطين» «1».

وأوضح ابن طلحة الشافعي معني الحديث- بعد أن رواه عن البغوي عن ابن مسعود- بقوله:

«ذكر في هذا الحديث فرقاً ثلاثةً، صرّح بأنّ عليّاً عليه السلام يقاتلهم من بعده، وهم الناكثون والقاسطون والمارقون، وهذه الصفات التي ذكرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قد سمّاهم بها، مشيراً إلي أن وجود كلّ صفةٍ منها في الفرقة المختصّة بها علّة لقتالهم مسلّطة عليه، وهؤلاء الناكثون هم الناقضون عقد بيعتهم الموجبة عليهم الطاعة والمتابعة لإمامهم الذي بايعوه حقّاً، فإذا نقضوا ذلك وصدفوا عن طاعة إمامهم، وخرجوا عن حكمه، وأخذوا في قتاله بغياً وعناداً، كانوا ناكثين باغين، فتعيَّن قتالهم، كما اعتمده طائفة. فمن تابع عليّاً عليه السلام وبايعه ثمّ نقض عهده وخرج عليه- وهم أصحاب واقعة الجمل- فقاتلهم علي عليه السلام، فهم الناكثون …» «2».

حديث خاصف النعل … ص: 84

هذا، وقد وردت عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أحاديث كثيرة- غير ما ذكر- في كون علي عليه السلام مأموراً بالقتال مع هؤلاء ومصيباً في حروبه …

منها: حديث خاصف النعل … وقد أخرجه من كبار الأئمّة والحفّاظ:

الحاكم في (المستدرك).

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13: 112- 113/ 36367.

(2) مطالب السئول: 104- 105.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 85

والنسائي في (الخصائص).

وابن أبي شيبة في (المصنّف).

وأحمد بن حنبل في (المسند).

وأبو يعلي في (المسند).

وابن حبّان في (الصحيح).

وأبو نعيم في (حلية الأولياء).

والضياء المقدسي في (المختارة).

والذهبي في (المعجم المختص).

والمحب الطبري في (الرياض النضرة) و (ذخائر العقبي).

وابن مندة في (كتاب الصحابة).

وابن الأثير في (اسد الغابة).

والزرندي في (نظم درر السمطين).

والبغوي في (شرح السنّة).

والسيوطي في (جمع الجوامع).

والمتقي في (كنز العمّال).

ومحمّد بن معتمدخان البدخشاني في (مفتاح النجا).

وابن طلحة الشافعي في (مطالب السئول).

ولنذكر نصوص رواياتهم مع الإختصار:

أخرج الحاكم: «عن أبي سعيد الخدري قال: كنّا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فانقطعت نعله، فتخلّف عليّ يصلحها، فمشي قليلًا ثمّ قال:

إنّ منكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله، فاستشرف لها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 86

القوم- وفيهم أبوبكر وعمر- قال أبوبكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟

قال: لا، ولكن خاصف النعل- يعني عليّاً- فأتيناه فبشّرناه، فلم يرفع به رأسه، كأنّه قد كان سمعه من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين، ولم يخرجاه» «1».

وترجم ابن الأثير «عبدالرحمن بن بشير» فأسند عنه قال: «كنّا جلوساً عند النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم إذ قال: ليضربنّكم رجل علي تأويل القرآن كما ضربتكم علي تنزيله، فقال أبوبكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال:

لا، ولكن خاصف النعل، وكان علي يخصف نعل النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

أخرجه الثلاثة» «2».

وأخرج النسائي بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: «كنّا جلوساً ننتظر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فخرج إلينا وقد انقطع شسع نعله، فرمي بها إلي علي فقال: إنّ منكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله، فقال أبوبكر:

أنا؟ فقال: لا، فقال عمر: أنا؟ فقال: لا. ولكن خاصف النعل» «3».

وفي (المسند): «عن أبي سعيد الخدري: كنّا جلوساً في المسجد، فخرج علينا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وعلي في بيت فاطمة، فانقطع شسع نعل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأعطاه عليّاً يصلحها، ثمّ جاء فقام علينا فقال …» «4».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 123 كتاب معرفة الصحابة.

(2) اسد الغابة في معرفة الصحابة 3: 325/ 3271.

(3) خصائص علي: 219/ 156.

(4) مسند أحمد بن حنبل 3: 501/ 11364 بنحوه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 87

وأورد العلّامة الحلّي هذا الحديث في (نهج الحق) محتجّاً به، فقال ابن روزبهان عند الجواب: «قد صحّ هذا الحديث» «1».

ورواه الذهبي في (المعجم المختص) بترجمة «عبداللَّه بن محمّد بن أحمد ابن المطري» بإسنادٍ فيه جماعة من الأعلام الحفّاظ … «عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ونحن في المسجد في نحو سبعين من أصحابه كأنّ علي رؤوسنا الطير فقال: إنّ رجلًا منكم يقاتل الناس علي تأويل القرآن كما قاتلتهم علي تنزيله، فقال أبوبكر: أنا؟ فقال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: هو خاصف النعل بالحجرة. فخرج علينا علي من الحجرة وفي يده نعل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يصلحها أو يخصفها» «2».

وهو في (كنز العمّال) عن أبي سعيد باللّفظ المذكور عن: ابن أبي شيبة في المصنّف، وأحمد في المسند، وأبي يعلي في المسند، وابن حبّان في الصحيح، والحاكم في المستدرك، وأبي نعيم في الحلية، والضياء في المختارة «3».

وكذلك البدخشي، رواه عن الجماعة والبغوي في شرح السنّة، عن أبي سعيد الخدري، وأضاف: «وأخرج الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان ابن السكن البغدادي في صحاحه،

عن الأخضر الأنصاري رضي اللَّه عنه، عن النبي صلّي اللَّه عليه سلّم: أنا اقاتل علي تنزيل القرآن وعلي يقاتل علي تأويله» «4».

دلّ هذا الحديث علي أنّ قتال أميرالمؤمنين عليه السلام علي تأويل __________________________________________________

(1) انظر: دلائل الصدق لنهج الحق 2: 429- 430/ 17.

(2) المعجم المختص: 91/ 143.

(3) كنز العمّال 13: 107- 108/ 36351.

(4) مفتاح النجاء في مناقب آل العباء. مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 88

القرآن بعد حياة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، إنّما يعدّ من المناقب المختصّة به، ومن خصائصه الجليلة التي قد تمنّاها أبوبكر وعمر وغيرهما من الصحابة … فكيف يجوز لأبي موسي الأشعري أو غيره أن يطعن في قتاله عليه السلام، وحروبه التي خاضها ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين؟ وكيف يجوز لأحد أن يسعي في حطّ مرتبة هذه الفضيلة والشرف العظيم الذي بشّر به رسول اللَّه؟ وكيف يجوز التعبير عن هذا القتال بأنّه كان للدنيا؟

هذا، ولا يخفي أنّ صاحب (التحفة) قد روي هذا الحديث، وأورده في باب الإمامة، مع إسقاط تمنّي أبي بكر وعمر، وقوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لهما: لا «1»!

الحادي عشر: لقد خالف أبو موسي الأشعري النصوص الصريحة الواردة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في أنّ الحقّ مع علي وأنّه لا يفارقه أبداً.

وقد أخرج هذه الأحاديث كبار الأئمّة الحفّاظ بأسانيدهم، وقد ذكر البدخشي طرفاً منها في كتابه (مفتاح النجا في مناقب آل العباء) حيث قال:

«الفصل الثامن عشر- في قول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: الحق معه.

أخرج الترمذي عن علي كرّم اللَّه وجهه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه عليّاً، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار.

وأخرج أبو يعلي والضياء عن أبي سعيد

رضي اللَّه عنه: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: الحقّ مع ذا، الحقّ مع ذا؛ يعني عليّاً.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنّ النبي صلّي اللَّه عليه __________________________________________________

(1) التحفة الاثني عشرية: 219، الباب السابع.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 89

وسلّم قال: الحق مع علي، يزول معه حيث ما زال.

وفي رواية اخري عنها: عليّ مع الحقّ والحقّ معه.

وأخرج الطبراني في الكبير، عن كعب بن عجرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يكون بين الناس فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه علي الحق؛ يعني عليّاً.

وأخرج أبو نعيم، عن أبي ليلي الغفاري رضي اللَّه عنه، عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: سيكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب، فإنّه الفاروق بين الحقّ والباطل.

وأخرج ابن مردويه، عن عائشة رضي اللَّه عنها: أنّها لمّا عقر جملها ودخلت داراً بالبصرة، فقال لها أخوها محمّد: انشدك اللَّه أتذكرين يوم حدّثتني عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال: الحقّ لن يزال مع علي وعليّ مع الحق لن يختلفا ولن يتفرقا؟ قالت: نعم.

وأخرج عن أبي موسي الأشعري رضي اللَّه عنه قال: أشهد أنّ الحقّ مع عليّ ولكن مالت الدنيا بأهلها، ولقد سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول له: يا علي أنت مع الحق والحق بعدي معك.

وأخرج عن ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت: كان عليّ علي الحق، من اتّبعه اتّبع الحق ومن تركه ترك الحق، عهداً معهوداً قبل يومه هذا.

وأخرج عن شهر بن حوشب قال: كنت عند ام سلمة رضي اللَّه عنها فسلّم رجل، فقيل: من أنت؟ قال: أنا أبو ثابت مولي أبي ذر. قالت: مرحباً بأبي ثابت

ادخل، فدخل، فرحّبت به وقالت: أين طار قلبك حين طارت القلوب مطائرها؟ قال: مع علي بن أبي طالب. قالت: وفّقت، والذي نفس ام استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 90

سلمة بيده لسمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتّي يردا علي الحوض، ولقد بعثت ابني عمر وابن أخي عبداللَّه بن أبي اميّة، وأمرتهما أن يقاتلا مع عليّ من قاتله، ولولا أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أمرنا أن نقرّ في حجالنا وفي بيوتنا، لخرجت حتّي أقف في صفّ عليّ.

وأخرج عن عليّ كرّم اللَّه وجهه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا علي! إنّ الحقّ معك والحقّ علي لسانك وفي قلبك وبين عينيك.

وأخرج عن عبيداللَّه بن عبداللَّه الكندي قال: حجّ معاوية، فأتي المدينة وأصحاب النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم متوافرون، فجلس في حلقة بين عبداللَّه ابن عبّاس وعبداللَّه بن عمر، فضرب بيده علي فخذ ابن عبّاس ثمّ قال:

أما كنت أحقّ وأولي بالأمر من ابن عمّك؟

قال ابن عبّاس: وبم؟

قال: لأنّي ابن عمّ الخليفة المقتول ظلماً.

قال: هذا- يعني ابن عمر- أولي بالأمر منك، لأنّ أبا هذا قتل قبل ابن عمّك.

قال: فانصاع عن ابن عبّاس وأقبل علي سعد، قال:

وأنت يا سعد الذي لم تعرف حقّنا من باطل غيرنا فتكون معنا أو علينا؟

قال سعد: إنّي لمّا رأيت الظلمة قد غشيت الأرض، قلت لبعيري هخ، فأنخته حتّي إذا أسفرت مضيت.

قال: واللَّه لقد قرأت المصحف يوماً بين الدفّتين ما وجدت فيه هخ.

فقال: أمّا إذا أبيت، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 91

لعلي: أنت مع الحق والحق معك.

قال: لتجيئنّي بمن

معك أو لأفعلنّ؟

قال: ام سلمة.

قال: فقام وقاموا معه حتّي دخل علي ام سلمة.

قال: فبدأ معاوية فتكلّم فقال: يا ام المؤمنين، إنّ الكذّابة قد كثرت علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بعده، فلا يزال قائل قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ما لم يقل، وإنّ سعداً روي حديثاً زعم أنّك سمعته معه.

قالت: ما هو؟

قال: زعم أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعلي: أنت مع الحق والحق معك.

قالت: صدق، في بيتي قاله.

فأقبل علي سعد وقال: الآن ما ألوم ما كنت عندي، واللَّه لو سمعت هذا من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ما زلت خادماً لعلي حتّي أموت.

وأخرج الطبراني- في الأوسط والصغير- عن ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: علي مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتّي يردا عليّ الحوض.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي اللَّه عنها أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: الحق مع عليّ وعليٌّ مع الحق، لن يفترقا حتّي يردا علَيّ الحوض.

وأخرج الديلمي عن عمّار بن ياسر وأبي أيّوب رضي اللَّه عنهما، أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعمّار: يا عمّار! إن رأيت عليّاً قد سلك وادياً

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 92

وسلك النّاس وادياً غيره، فاسلك مع علي ودع النّاس، إنّه لن يدلّك علي الردي ولن يخرجك من الهدي.

وأخرج الحاكم عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من أطاعني فقد أطاع اللَّه عزّ وجلّ، ومن عصاني فقد عصي اللَّه، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن عصي عليّاً فقد عصاني.

وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من فارق عليّاً فارقني، ومن فارقني فارق اللَّه.

وفي رواية الحاكم عن أبي ذر رضي اللَّه عنه مرفوعاً بلفظ: من فارقك يا علي فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق اللَّه» «1».

وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي في (رجال المشكاة):

«وورد أحاديث كثيرة في حقّانيّته وعدم مفارقته للحق قطعاً.

أخرج الحاكم- وصحّحه- عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: بعثني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه بعثتني رسولًا وأنا شابٌّ أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء؟ فضرب في صدري ثمّ قال: اللّهمّ اهد قلبه وثبّت لسانه. فوالذي فلق الحبّة ما شككت في قضاء بين اثنين.

وأخرج الحاكم- بسند صحيح- عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعليّ: إنّك تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله.

وأخرج الطبراني- في الأوسط والصغير- عن ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: عليّ مع القرآن والقرآن __________________________________________________

(1) مفتاح النجا في مناقب آل العباء، الفصل 18- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 93

مع علي، لا يفترقان حتّي يردا علَيّ الحوض.

وأورد السيوطي في جمع الجوامع من رواية الحديث عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أنا وهذا حجّة يوم القيامة. يعني عليّاً.

وأورد الطبراني عن سلمان وأبي ذر معاً والعقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل عن حذيفة أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ هذا أوّل من آمن بي، وهو أوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الامّة يفرق بين الحقّ والباطل، وهذا يعسوب المسلمين والمال يعسوب الظالمين؛ قاله لعلي.

إلي غير ذلك

من الأحاديث».

وقال الدهلوي في (إزالة الخفاء):

«أخرج الحاكم عن أبي ذر قال: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا علي من فارقني فقد فارق اللَّه، ومن فارقك يا علي فقد فارقني.

وأخرج الحاكم عن ام سلمة رضي اللَّه عنها: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا حتّي يردا علَيّ الحوض.

وأخرج الحاكم عن عليّ قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه عليّاً، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار» «1».

وفي (كنز العمّال):

«تكون بين النّاس فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه علي الحقّ.

__________________________________________________

(1) إزالة الخفاء في تاريخ الخلفاء، عن المستدرك علي الصحيحين 3: 124.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 94

يعني عليّاً. طب. عن كعب بن عجرة» «1».

وفي (مودّة القربي):

«عن النبي: أوّل ثلمة في الإسلام مخالفة عليّ» «2».

وفي (الإكتفاء) لليمني الوصابي الشافعي:

«فصل فيما جاء من الأخبار أنّ عليّ بن أبي طالب علي الحق:

عن ام المؤمنين ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: عليّ مع القرآن والقرآن مع علي. أخرجه أبو يعلي في المسند، والضياء في المختارة.

وعن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: الحق مع ذا الحق مع ذا، مشيراً إلي علي بن أبي طالب. أخرجه أبو يعلي في المسند، والضياء في المختارة.

وعن كعب بن عجرة رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه قال: سيكون بين يدي السّاعة فرقة واختلاف، فيكون هذا- مشيراً إلي عليّ بن أبي طالب- وأصحابه علي الحق. أخرجه الطبراني في الكبير.

وعن أبي ليلي الغفاري قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

سيكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب، فإنّه الفاروق بين

الحق والباطل. أخرجه أبو نعيم في المعرفة.

وعن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لعليّ بن أبي طالب: أما إنّك ستلقي بعدي جهداً. قال: في سلامة من ديني؟

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 11: 621/ 33016.

(2) مودّة القربي: 28 عنه ينابيع المودّة 2: 313.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 95

قال: نعم. أخرجه الحاكم في المستدرك.

وعنه- يعني أنّ علي رضي اللَّه عنه قال-: قال لي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لولا أن تقول فيك طوائف من امّتي ما قالت النصاري في المسيح، لقلت فيك قولًا، ثمّ لا تمرّ بملأ إلّاأخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك أو يستشفون بك، وحسبك أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه لا نبيّ بعدي، وإنّك تبري ء ذمّتي وتقاتل علي سنّتي، إنّك في الآخرة معي، وإنّك علي الحوض خليفتي، وإنّك أوّل من يكسي معي، وإنّك أوّل من يدخل الجنّة من امّتي، وإنّ محبّيك علي منابر من نور مبيضّة وجوههم، أشفع لهم ويكونوا غداً جيراني، وإنّ حربك حربي وسلمك سلمي، وسرّك سرّي وعلانيتك علانيتي، وأمرك أمري وسريرة صدرك كسريرة صدري، وإنّ ولدك ولدي، وأنت منجز عداتي، وإنّ الحقّ معك وعلي لسانك وفي قلبك وبين عينيك، والإيمان مخالط بلحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وإنّه لن يرد علي الحوض مبغض لك، ولا يغيب عنك محبّ لك حتّي ترد الحوض معي.

قال: فخرّ عليٌّ رضي اللَّه عنه ساجداً ثمّ قال: الحمد للَّه الذي أنعم علَيّ بالإسلام، وعلّمني القرآن، وحبّبني إلي خير البريّة خاتم النبيّين وسيّد المرسلين، إحساناً منه وتفضّلًا. أخرجه ابن اسبوع الأندلسي في كتابه الشفاء» «1».

وقال البدخشي في (نزل الأبرار) وقد التزم فيه بالصحّة:

«أخرج أبو علي والضّياء عن أبي سعيد رضي

اللَّه عنه، أنّ النبي صلّي اللَّه __________________________________________________

(1) الاكتفاء في مناقب الخلفاء- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 96

عليه وسلّم قال: الحقّ مع ذا الحقّ مع ذا، يعني علي بن أبي طالب» «1».

وفي (كنز العمّال):

«الحقّ مع ذا، الحقّ مع ذا، يعني عليّاً. ع ص عن أبي سعيد» «2».

وفي (مودّة القربي):

«عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

يا ابن عبّاس عليك بعليّ فإنّ الحقّ علي لسانه وإنّ النفاق بجانبه، إنّ هذا قفل الجنّة ومفتاحها، وقفل النّار ومفتاحها، به يدخلون الجنّة وبه يدخلون النّار» «3».

وقال الراغب الإصفهاني في (كتاب المحاضرات) في فضائل سيّدنا أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام:

«وقال صلّي اللَّه عليه وسلّم: الحقّ مع عليّ وعليّ مع الحقّ، لن يزولا حتّي يردا عليّ الحوض» «4».

وفي (الصواعق المحرقة):

«الحديث الحادي والعشرون: أخرج الطبراني في الأوسط والصغير، عن امّ سلمة قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: علي مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتّي يردا علَيّ الحوض» «5».

وقال الحاكم النيسابوري:

«أخبرنا أبوبكر محمّد بن عبداللَّه الحفيد، حدّثنا أحمد بن محمّد بن __________________________________________________

(1) نزل الأبرار بما صحّ من مناقب أهل البيت الأطهار: 24.

(2) كنز العمّال 11: 621/ 33018.

(3) مودّة القربي: 27، عنه ينابيع المودّة 2: 311.

(4) محاضرات الادباء 4: 478.

(5) الصواعق المحرقة 2: 361.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 97

نصر، حدّثنا عمرو بن طلحة القنّاد الثقة المأمون، حدّثنا عليّ بن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: حدّثني أبو سعيد التّيمي، عن أبي ثابت مولي أبي ذر قال: كنت مع عليّ رضي اللَّه عنه يوم الجمل، فلمّا رأيت عائشة واقفة دخلني بعض ما يدخل النّاس، فكشف اللَّه عنّي ذلك عند صلاة الظهر، فقاتلت

مع أميرالمؤمنين، فلمّا فرغ ذهبت إلي المدينة فأتيت امّ سلمة فقلت: إنّي واللَّه ما جئت أسأل طعاماً ولا شراباً ولكنّي مولي لأبي ذر، فقالت: مرحباً، فقصصت عليها قصّتي. فقالت: أين كنت حين طارت القلوب مطائرها؟ قلت: إلي حيث كشف اللَّه ذلك عنّي عند زوال الشمس. قالت: أحسنت، سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يتفرّقا حتّي يردا علَيّ الحوض. هذا حديث صحيح الإسناد، وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء، ثقة مأمون ولم يخرجاه.

أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدّثنا أبو قلابة، حدّثنا أبو عتاب سهل ابن حمّاد، حدّثنا المختار بن نافع التميمي، حدّثنا أبو حيّان التيمي، عن أبيه عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: رحم اللَّه عليّاً، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار. هذا حديث صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه» «1».

دلّت هذه الأحاديث المتكثّرة علي أنّ الحقّ ما فارق عليّاً عليه السلام ولا لحظةً من حياته المباركة، وأنّ حروبه كلّها كانت علي الحق، وأنّ من تخلّف عنه فقد فارق الحق وكان علي الباطل …

وقد خالف أبو موسي مقتضي هذه الأحاديث طلباً للحطام ومخالفة

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 124 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 98

للإمام عليه السلام، ومن العجب أنّ أبا موسي نفسه أيضاً من رواة هذا المعني عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كما تقدّم … فما عذره عند اللَّه ورسوله ممّا صنع؟ بل الأشنع من ذلك تخذيله الناس عن الإمام ومنعه إيّاهم من نصرته؟!

وأمّا ما اعتذر به من أنّه سمع النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول:

ستكون فتنة … فيبطله الأحاديث المتقدّمة، لاسيّما وأنّه

من الرواة فيها …

وأيضاً، فقد أبطله وردّ عليه الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، فيما أخرجه أبو يعلي وابن عساكر، والمتقي الهندي عنهما:

«عن أبي مريم قال: سمعت عمّار بن ياسر يقول: يا أبا موسي، انشدك اللَّه، ألم تسمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار؟ وأنا سائلك عن حديثٍ، فإنْ صدقت وإلّا بعثت عليك من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من يقررك به، انشدك اللَّه، أليس إنّما عناك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنت نفسك فقال: إنّها ستكون فتنة بين امّتي، أنت- يا أبا موسي- فيها نائماً خير منك قاعداً، وقاعداً خير منك قائماً، وقائماً خيرٌ منك ماشياً، فخصّك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ولم يعمّ النّاس؟ فخرج أبو موسي ولم يرد عليه شيئاً. ع، كر» أي: رواه أبو يعلي وابن عساكر «1».

قصّة التحكيم … ص: 98

وذاك موقف آخر من مواقف بغضه وعناده لأميرالمؤمنين عليه السلام __________________________________________________

(1) كنز العمّال 11: 273/ 31498.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 99

وتخلّفه عن الحق وسقوطه في دركات الجحيم:

روي سبط ابن الجوزي في قضيّة التحكيم:

«فقال عمرو- يعني لأبي موسي-: قد أردتك أن تبايع معاوية فأبيت، فهلمّ بنا نخلع عليّاً ومعاوية، ونجعل الأمر شوري يختار المسلمون من شاؤوا.

وقيل: إنّ الذي ابتدأ بذلك أبو موسي، فقال عمرو: نعم ما رأيت، فأخبر النّاس إنّا قد اتفقنا علي أمر فيه صلاح هذه الامّة. ثمّ قال: يا أبا موسي، قم فتكلّم.

فقال أبو موسي: قم أنت. فقال: أنت صاحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولا يسعني الكلام قبلك. فقال عبداللَّه بن عبّاس: ويحك يا عبداللَّه بن قيس، واللَّه إنّي لأظنّ ابن النابغة قد خدعك- وكان أبو

موسي رجلًا مغفّلًا- فقال: إنّا قد اتفقنا، فقال: أيّها النّاس إنّا نظرنا في هذا الأمر، فلم نر أصلح للُامّة من خلع عليّ ومعاوية، ونستقبل الامّة بهذا الأمر فيولّوا عليهم من أحبّوا، وإنّي قد خلعتهما، ثمّ تنحّي» «1».

وفي (مفتاح النجا):

«واتفق الحكمان علي أن يخلعا عليّاً، ويختارا للمسلمين خليفة رضوا به، وتفرّق النّاس علي هذا» «2».

وقال اليافعي في (مرآة الجنان) في وقائع سنة سبع وثلاثين:

«روي أنّه اجتمع في رمضان أبو موسي الأشعري ومن معه من الوجوه وعمرو بن العاص ومن معه كذلك بدومة الجندل للتحكيم، فخلا عمرو بأبي موسي وخدعه وقال له: تكلّم قبلي، فأنت أفضل وأكبر سنّاً منّي، وأري أن __________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 97.

(2) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 100

تخلع عليّاً ومعاوية، ويختار المسلمون لهم رجلًا يجتمعون عليه، فوافقه علي هذا ولم يشعر بخدعه، فلمّا خرجا وتكلّم أبو موسي وحكم بخلعهما، قام عمرو بن العاص وقال: أمّا بعد؛ فإنّ أبا موسي قد خلع عليّاً كما سمعتم، وقد وافقته علي خلعه، وولّيت معاوية. وقيل: إنّهما اتفقا علي أن يصعد أبو موسي علي المنبر وينادي: يا معشر المسلمين، اشهدوا عليَّ أنّي قد خلعت عليّاً من الخلافة كما خلعت خاتمي هذا، ففعل ذلك، وأخرج خاتمه من أصبعه ورمي به إليهم» «1».

وقال عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة):

«ثمّ إنّ عمراً غدا علي أبي موسي بالغد وجماعة الشهود فقال: يا أبا موسي، ناشدتك اللَّه تعالي من أحقّ بهذا الأمر، من وفي أو من غدر؟

قال أبو موسي: من وفي.

قال: ناشدتك باللَّه، ما تقول في عثمان؟

قال أبو موسي: قتل ج عثمان ج مظلوماً.

قال عمرو: فما الحكم فيمن قتله؟

قال أبو موسي: يقتل

بكتاب اللَّه.

قال: فمن يقتله؟

قال: أولياء عثمان.

قال: فإنّ اللَّه يقول في كتابه العزيز: «ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً».

قال: فهل تعلم أنّ معاوية من أولياء عثمان؟

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 1: 86- 87.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 101

قال: نعم.

قال عمرو للقوم: إشهدوا.

قال أبو موسي للقوم: اشهدوا علي ما يقول عمرو.

ثمّ قال أبو موسي لعمرو: قم يا عمرو، فقل وصرّح بما أجمع عليه رأيي ورأيك وما اتفقنا عليه.

فقال عمرو: سبحان اللَّه! أقوم قبلك، وقد قدّمك اللَّه قبلي في الإيمان والهجرة، وأنت وافد أهل اليمن إلي رسول اللَّه، ووافد رسول اللَّه إليهم، وبك هداهم اللَّه وعرّفهم شرائع دينه وسنّة نبيّه، وصاحب مغانم أبي بكر وعمر؟

ولكن أنت قم فقل، ثمّ أقوم فأقول.

فقام أبو موسي، فحمد اللَّه وأثني عليه ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّ خير النّاس للنّاس خيرهم لنفسه، وإنّي لا أهلك ديني بصلاح غيري، إنّ هذه الفتنة قد أكلت العرب، وإنّي ج قد ج رأيت وعمرو أن نخلع عليّاً ومعاوية، ونجعلها لعبداللَّه بن عمر، فإنّه لم يبسط في هذه الحرب يداً ولا لساناً» «1».

وقال نور الدين علي بن محمّد الصبّاغ الفقيه المالكي- وترجمته في كتاب الضوء اللّامع «2» -:

«ولمّا راود عمرو بن العاص أبا موسي علي معاوية وعلي ابنه عبداللَّه فأبي أبو موسي منه، راود أبو موسي عمراً علي تولية الخلافة لعبداللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، فأبي عمرو منه، ثمّ قال له: هات رأياً غير هذا.

فقال أبو موسي: أري أن نخلع هذين الرجلين- يعني عليّاً ومعاوية-

__________________________________________________

(1) الإمامة والسياسة: 136- 137.

(2) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، المجلّد 3: 283/ 958.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 102

ونجعل الأمر شوري، فيختار المسلمون من أحبّوه.

فقال عمرو: الرأي ما رأيت.

فأقبلا علي

النّاس بوجوههما، وهم مجتمعون ينظرون ما يتفقان عليه.

فقال عمرو: تكلّم يا أباموسي، وأخبرهم أنّ رأينا اتفق.

فقال أبو موسي: أيّها النّاس، إنّ رأينا قد اتفق علي أمر، نرجو أن يصلح اللَّه تعالي به أمر هذه الامّة ويلمّ شعثها ويجمع كلمتها.

فقال عمرو: صدق أبو موسي وبرّ فيما قال، فتقدّم يا أبا موسي فتكلّم.

فقام إليه عبداللَّه بن عبّاس وقال له: يا أبا موسي، إن كنت وافقته علي أمر فقدّمه يتكلّم به قبلك، فإنّي أخشي من خديعته لك، وإنّي لا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في النّاس خالفك.

فقال أبو موسي: قد توافقنا وتراضينا، وما ثمّ مخالفة أبداً.

وكان أبو موسي رجلًا سليم القلب، فتقدّم، فحمد اللَّه وأثني عليه ثمّ قال:

أيّها النّاس! إنّا قد نظرنا في أمر هذه الامّة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من أمر قد اجتمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليّاً ومعاوية، وتستقبل هذه الامّة هذا الأمر بأنفسها، فيولّوا عليهم من أحبّوا واختاروا، وإنّي قد خلعت عليّاً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه أهلًا لذلك» «1».

وفي (تاريخ الخميس):

«ولمّا سئم الفريقان القتال تداعيا إلي الحكومة، فرضي عليّ وأهل الكوفة بأبي موسي الأشعري، ورضي معاوية وأهل الشام بعمرو بن العاص، فاجتمع الحكمان بدومة الجندل، واتفقا علي أن يخلعاهما معاً، ويختارا

__________________________________________________

(1) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 99- 100.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 103

للمسلمين خليفة رضوا به، وقد عيّن للخلافة الحكمان يومئذٍ عبداللَّه بن عمر ابن الخطّاب، كذا في دول الإسلام، ثمّ اجتمعا بالنّاس، وحضر معاوية ولم يحضر عليّ، فبدأ أبو موسي وخلع عليّاً، ثمّ قام عمرو وقال: قد خلعت عليّاً كما خلعه، وأثبتُّ خلافة معاوية» «1».

كلام الإمام في أبي موسي بعد التحكيم … ص: 103

أمّا الإمام

عليه السلام، فلمّا بلغه ما صنعه أبو موسي خطب قائلًا:

«الحمد للَّه وإنْ أتي الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أنْ لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه. أمّا بعد، فإنّ المعصية تورث الحسرة وتعقب الندامة، وكنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة أمري فأبيتم، ونحلتكم رأيي فما ألويتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:

أمرتهم أمري بمنعرج اللّوي فلم تبيّنوا الرشد إلّاضحي الغد

أمّا بعد، فإنّ هذين الرجلين الذين قد اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتّبع كلّ واحد منهما هواه بغير هديً من اللَّه، فحكما بغير حجّة ولا سنّة مضيئة، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشدا، استعدّوا وتأهّبوا للمسير إلي الشام» «2».

وفي رواية عن الشعبي: «… وكلاهما لم يرشدا، فبرئا من اللَّه ورسوله وصالح المؤمنين، فاستعدّوا للجهاد …» «3».

وكفي بهذا شرفاً وفخاراً لأهل السنّة، حيث جعلوا هذا الملوم المذموم،

__________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 2: 277.

(2) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 101.

(3) تذكرة خواصّ الامّة في معرفة الأئمّة: 99.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 104

الخائن الفاسق، النابذ لحكم القرآن، المحيي ما أماته والمميت ما أحياه، والتابع لهواه المردي والتارك لهداه المنجي، والحاكم بغير حجّة، والقاضي بغير سنّة، والبري ء من اللَّه ورسوله وصالح المؤمنين، والتابع لإغواء الشيطان الرجيم اللّعين، إماماً وملجأً وسنداً وكهفاً ومرجعاً ومعتمداً!!

وفي كلامٍ له عليه السلام مخاطباً الخوارج:

«أيّها العصابة التي أخرجها عداوة المراء والحجاج، وصدّهم عن الحقّ اتّباع الهوي واللّجاج، إنّ أنفسكم الأمّارة بالسوء سوّلت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم بدأتموها وسألتموها وأنا لها كاره، وأنبأتكم أنّ القوم إنّما فعلوه مكيدة، فأبيتم علَيَّ إباء المخالفين، وعندتم عليَّ عناد العاصين، حتّي صرفت رأيي إلي رأيكم، وإنّي معاشرهم- واللَّه- صغار الهام

سفهاء الأحلام، فأجمع رؤساؤكم وكبراؤكم أنْ اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالقرآن ولا يتعدّيانه، فتاها وتركا الحق وهما يبصرانه، فبيّنوا لنا بم تستحلّون قتالنا والخروج عن جماعتنا، ثمّ تستعرضون الناس تضربون أعناقهم، إنّ هذا لهو الخسران المبين» «1».

وروي أبوالفرج ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) كتاب الإمام إلي الخوارج:

«أمّا بعد، فإنّ هذين الرجلين اللذين ارتضيا حكمين، قد خالفا كتاب اللَّه واتّبعا أهواءهما، ونحن علي الأمر الأوّل» «2».

لعن النبي أبا موسي الأشعري … ص: 104

وفي حديث أخرجه ابن عساكر بتاريخه:

__________________________________________________

(1) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 103.

(2) تلبيس إبليس: 108.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 105

«عن أبي يحيي حكيم قال: كنت جالساً مع عمّار، فجاء أبو موسي، فقال: مالي ولك! قال: ألست أخاك؟

قال: ما أدري، إلّاأنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يلعنك ليلة الجمل.

قال: إنّه قد استغفر لي.

قال عمّار: قد شهدت اللّعن ولم أشهد الإستغفار» «1».

أقول: ومراده من «ليلة الجمل» هي ليلة «العقبة» حيث أراد أبو موسي وأبو بكر وعمر وجماعة معهم اغتيال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بتنفير ناقته، فعرفهم عمّار وحذيفة، فقال عمّار في أبي موسي هذه الكلمة، وقال حذيفة كلمته التي كره ابن عبد البرّ ذكرها، وقد أوردناها هناك.

ترجمة ابن عساكر … ص: 105

وابن عساكر صاحب (تاريخ دمشق) المتوفّي سنة 571 وصفه الذهبي ب «الإمام العلّامة الحافظ الكبير المجوّد، محدّث الشام، ثقة الدين» ثمّ قال:

«كان فهماً حافظاً متقناً ذكيّاً بصيراً بهذا الشأن، لا يلحق شأوه، ولا يشقّ غباره، ولا كان له نظير في زمانه» ثمّ أطال الكلام في ترجمته، وذكر كلمات الأعلام في مدحه وثقته «2».

ثمّ إنّ هذا الحديث، وإنْ كذّبه ابن عدي وتبعه ابن الجوزي فأدرجه في __________________________________________________

(1) تاريخ دمشق 32: 93/ 3461.

(2) سير أعلام النبلاء 20: 554- 571، تذكرة الحفّاظ 4: 1328- 1334، وتوجد ترجمته في سائر كتب التاريخ والرجال.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 106

(الموضوعات)، إلّاأنّ السيوطي ردّ عليهما القول بوضعه، وأثبت وثاقة راويه، حيث قال في (اللآلي المصنوعة):

«ابن عدي، ثنا أحمد بن الحسين الصوفي، ثنا محمّد بن علي بن خلف العطّار، ثنا حسين الأشقر، عن قيس بن الربيع، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم أبي يحيي قال: كنت جالساً مع عمّار، فجاء

أبو موسي، فقال له عمّار:

إنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يلعنك ليلة الجمل. قال: إنّه استغفر لي. قال عمّار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الإستغفار.

موضوع. قال ابن عدي: والبلاء من العطّار لا من حسين.

قلت: العطّار وثّقه الخطيب في تاريخه» «1».

وقال ابن حجر في (لسان الميزان) بترجمة محمّد بن عليّ العطّار: «قال الخطيب: قال محمّد بن المنصور: كان ثقة مأموناً حسن العقل» «2».

فثبت كفر أبي موسي الأشعري علي لسان النبيّ الكريم صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

وفي حديثٍ آخر أورده الدهلوي في (إزالة الخفا عن سيرة الخلفا) قال:

أخرجه البيهقي:

«عن علي قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ بني إسرائيل اختلفوا، لم يزل اختلافهم بينهم حتّي بعثوا حكمين فضلّا وأضلّا. وإنّ هذه الامّة مختلفة، فلا يزال اختلافهم بينهم حتّي يبعثوا حكمين ضلّا وضلّ من اتّبعهما».

__________________________________________________

(1) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1: 428.

(2) لسان الميزان 6: 358/ 7842.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 107

قنوت علي بالدعاء علي أبي موسي في جماعة … ص: 107

هذا، وقد كان أميرالمؤمنين عليه السلام يقنت في صلاته بالدعاء علي جماعة فيهم أبو موسي الأشعري … روي ذلك ابن أبي شيبة، كما في (كنز العمّال):

«عن عبدالرحمن بن معقل قال: صلّيت مع علي صلاة الغداة، فقنت فقال في قنوته: اللّهمّ عليك بمعاوية وأشياعه، وعمرو بن العاص وأشياعه، …

وعبداللَّه بن قيس وأشياعه. ش» «1».

توقف عمر عن قبول خبر أبي موسي … ص: 107

وقد اشتهر أنّ عمر بن الخطاب توقّف عن قبول خبر أبي موسي في الإستيذان، وقد استدلّ به العلماء في مبحث خبر الواحد، ونكتفي هنا بكلام ابن حجر في (فتح الباري) إذ قال:

«احتجّ من ردّ خبر الواحد بتوقّفه صلّي اللَّه عليه وسلّم في قبول خبر ذي اليدين، ولا حجّة فيه، لأنّه عارض علمه، وكلّ خبرٍ واحدٍ إذا عارض العلم لم يقبل، وبتوقّف أبي بكر وعمر في حديثي المغيرة في الجدة وفي ميراث الجنين، حتّي شهد بهما محمّد بن مسلمة، وبتوقّف عمر في خبر أبي موسي في الاستيذان حتّي شهد له أبو سعيد، وبتوقّف عائشة في خبر ابن عمر في تعذيب الميّت ببكاء الحي.

واجيب: بأنّ ذلك إنّما وقع منهم، إمّا عند الإرتياب كما في قصّة أبي __________________________________________________

(1) كنز العمّال 8: 82/ 21989.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 108

موسي، فإنّه أورد الخبر عند إنكار عمر عليه ورجوعه بعد الثلاث وتوعّده، فأراد عمر الإستثبات، خشية أنْ يكون دفع بذلك عن نفسه» «1».

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 197- 198.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 109

تنبيه حول كتاب الإمامة والسياسة «1» … ص: 109
اشارة

قد يحاول بعض المكابرين التشكيك في نسبة كتاب (الإمامة والسياسة) إلي ابن قتيبة، بغية التخلّص من استدلال الإماميّة بأخبار هذا الكتاب واحتجاجهم بما روي فيه من الحقائق التاريخيّة، التي طالما حاول المؤرّخون والمحدّثون من كتمها وعدم نقلها.

فكان من اللّازم علينا التأكيد علي أنّ الكتاب المذكور هو من تآليف ابن قتيبة المؤرخ المعروف والأديب الشهير …

ترجمة ابن قتيبة «2» … ص: 109

وهو: أبو محمّد عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي، النحوي اللغوي المؤرّخ، صاحب التصانيف الكثيرة المتنوّعة، والمتوفّي سنة 276 عند الأكثر.

قال ابن خلّكان: كان فاضلًا ثقةً.

وكذا قال اليافعي.

وقال الخطيب: كان ثقةً ديّناً فاضلًا.

__________________________________________________

(1) موضوع هذا التنبيه موجود في (عبقات الأنوار) وفي (استقصاء الإفحام) وقد أضفنا إلي ما ذكره السيّد رحمه اللَّه مطالب اخري.

(2) وفيات الأعيان 1: 314، مرآة الجنان والعبر- سنة 276- لسان الميزان 3: 358، سير أعلام النبلاء 10: 625، الأنساب: القتيبي، جامع الاصول.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 110

وكذا قال ابن الأثير.

وقال الذهبي: صدوق، ووصفه في موضع آخر ب «الإمام الورع».

وكذا قال ابن حجر.

كتاب الإمامة والسياسة … ص: 110

وهذا الكتاب لابن قتيبة المذكور قطعاً، فلقد نقل عنه غير واحدٍ من أعلام أهل السنّة في مختلف القرون في كتبهم نصوصاً في موضوعات مختلفة هي موجودة في كتاب (الإمامة والسياسة):

1- يقول ابن العربي المالكي المتوفّي سنة 543 في كتابه (العواصم من القواصم) الذي شحنه بغضاً وحقداً لأهل البيت عليهم السلام وعناداً للحق وأهله:

«ومن أشدّ شي ء علي الناس جاهل عاقل أو مبتدع محتال. فأمّا الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبق ولم يذر للصحابة رسماً في كتاب الإمامة والسياسة، إنْ صحّ جميع ما فيه» «1».

2- ويقول أبو الحجاج يوسف بن محمّد البلوي الأندلسي المالكي المتوفّي سنة 604 «2» في كتابه (ألف باء): «ذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة:

أنّه لمّا قدم علي الحجاج سعيد بن جبير قال له: ما اسمك؟ قال: أنا سعيد بن جبير. فقال الحجاج: أنت شقي بن كسير. قال سعيد: امّي أعلم باسمي …» «3».

__________________________________________________

(1) العواصم من القواصم: 248.

(2) توجد ترجمته في معجم المؤلّفين 13: 330 وذكر كتابه في كشف الظنون 1/ 150.

(3) كتاب الألف باء

في المحاضرات: 478.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 111

3- ويقول تقي الدين الفاسي المكي المتوفّي سنة 832، في ذكر الولاة علي مكّة المكرّمة: «2458- مسلمة بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الاموي. أمير مكّة. ذكر ولايته عليها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة، لأنّه قال: ذكروا أنّ مسلمة بن عبدالملك كان والياً علي أهل مكّة، فبينا هو يخطب علي المنبر، إذ أقبل خالد بن عبداللَّه القسري …» «1».

4- وكذا يقول عمر بن فهد المكي المتوفّي سنة 885، في ذكر الولاة علي مكّة كذلك، لأنّه لم يذكر ولاية مسلمة بن عبدالملك عليها غير ابن قتيبة في كتابه، كما هو ظاهر عبارة التقي الفاسي المتقدّمة، فقد اعتمد ابن فهد أيضاً علي نقل ابن قتيبة في الإمامة والسياسة فقال: «وقال أبو محمّد عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة: كان مسلمة بن عبدالملك بن مروان والياً علي أهل مكّة …» «2».

5- ويقول ابن حجر المكي صاحب (الصواعق) متضجّراً من نقل ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة ما شجر بين الصحابة بعد وفاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، ويعترض عليه- تبعاً لابن العربي المالكي- روايته لمثل هذه الامور:

«مع تآليف صدرت من بعض المحدّثين كابن قتيبة، مع جلالته القاضية بأنّه كان ينبغي له أن لا يذكر تلك الظواهر، فإنْ أبي إلّاأن يذكرها، فليبيّن جريانها علي قواعد أهل السنّة …» «3».

__________________________________________________

(1) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 6: 72.

(2) إتحاف الوري بأخبار امّ القري. حوادث سنة 93.

(3) تطهير الجنان واللسان: 72.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 112

هذا، وقد نقل عن كتاب (الإمامة والسياسة) مع نسبته إلي ابن قتيبة، جماعة آخرون من أعلام القوم:

كابن خلدون

في: تاريخه المعروف … 2: 166.

وأبي عبداللَّه محمّد بن علي التوزري المصري في كتابه: صلة السمط وسمة المرط في الأدب والتاريخ «1»، في الفصل الثاني من الباب 34.

وشاه سلامة اللَّه البدايوني- أحد علماء الهند- في كتابه: معركة الآراء:

126.

وذكر حيدر علي الفيض آبادي في كتابه: منتهي الكلام في الردّ علي الشيعة: أنّهم- أي الشيعة- يعتمدون علي كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة إعتمادهم علي القرآن الكريم …!!

فنقول: والعياذ باللَّه من هذا الكلام … فالإماميّة إنّما تستند إلي هذا الكتاب لكونه من مؤلّفات أحد أعلام أهل السنّة المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام، ومن باب الإلزام والإحتجاج، ولا تقول الشيعة بصحّة كلّ ما فيه من الأخبار، بل شأنه شأن سائر الكتب، فيه الحق والباطل، فكيف يقاس بالقرآن الكريم الذي «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» «2».

هذا، وقد نسب كتاب (الإمامة والسياسة) إلي ابن قتيبة، جلّ المؤلّفين المعاصرين أمثال:

فريد وجدي في: دائرة المعارف.

وعمر رضا كحّالة في: معجم المؤلفين.

__________________________________________________

(1) انظر: معجم المؤلفين 11: 57.

(2) سورة فصّلت: 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 113

وإلياس سركيس في: معجم المطبوعات العربيّة.

وجرجي زيدان في: تاريخ آداب اللغة العربيّة.

وهاهوكتاب (الإمامة والسياسة) مطبوع- بتحقيق غير واحدٍ من المحقّقين- طبعات عديدة في بلاد مختلفة، قال جرجي زيدان: ومنه نسخ خطيّة في مكتبات باريس ولندن.

قلت: ومنه نسخة نفيسة جدّاً، ترجع إلي القرن الثالث أو الرابع في مكتبة المجلس بطهران.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 114

عبداللَّه بن الزبير … ص: 114
اشارة

وأمّا عبداللَّه بن الزبير، فقوادحه تفوق الحصر والعدّ، ونحن نتعرّض لبعضها مع الإختصار …

أوّل شهادة زور في الإسلام … ص: 114

إنّ أوّل ما نذكره من مطاعن الرجل وقبائحه: كذبه وإقامته شهادة زورٍ في قضيّة كلاب الحوأب، وذلك أنّه لمّا وصلت عائشة- في مسيرها إلي البصرة تقود الجيوش من أجل قتال علي عليه السلام- إلي منطقة الحوأب ونبحتها كلابها، تذكّرت قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وأرادت الرجوع إلي الحجاز، فرأي ابن الزّبير أنّها إنْ رجعت انكسر جيشهم وخسروا المعركة، فجاء وحلف بأنّ هذا المكان ليس الحوأب، وأقام شهوداً علي ذلك أيضاً، فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام، وقد قال رسول اللَّه: من سنّ سنّةً سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة … وهكذا انخدعت عائشة وواصلت سيرها، ووقعت الحرب واريقت الدماء وهتكت الأعراض … كما هو مثبت في كتب التاريخ …

ونحن نكتفي هنا بإيراد بعض الأخبار في كذب ابن الزبير وشهادته الكاذبة:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 115

قال السمعاني «1»:

«وورد في حديث عصام بن قدامة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لنساءه: ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب، وقيل: الأحمر، تنبحها كلاب الحوأب.

وروي إسماعيل بن أبي خالد كذلك، عن قيس بن أبي حازم عن عائشة: أنّها مرّت بماء، فنبحتها كلاب الحوأب، فسألت عن الماء، فقالوا: هذا ماء الحوأب، والقصّة في ذلك:

أنّ طلحة والزبير بعد قتل عثمان وبيعة علي، خرجا إلي مكّة، وكانت عائشة حاجّة تلك السنة، بسبب اجتماع أهل الفساد والعيث من البلاد بالمدينة لقتل عثمان، خرجت عائشة هاربة من الفتنة، فلمّا لحقها طلحة والزبير حملاها إلي البصرة في طلب دم عثمان من علي رضي اللَّه عنه، وكان ابن

الزبير عبداللَّه ابن اختها أسماء ذات النطاقين، فلمّا وصلت عائشة رضي اللَّه عنها معهم إلي هذا الماء نبحت الكلاب عليها، فسألت عن الماء واسمه، فقيل لها: الحوأب، فتذكّرت قول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: أيّتكنّ ينبح عليها كلاب الحوأب، فتوقّفت وعزمت علي الرجوع، فدخل عليها ابن اختها ابن الزبير وقال: ليس هذا ماء الحوأب، حتّي قيل أنّه حلف علي ذلك وكفّر عن يمينه واللَّه أعلم، ويمّمت عائشة إلي البصرة وكانت وقعة الجمل المعروفة» «2».

وقال قاضي القضاة محبّ الدين أبوالوليد محمّد بن محمّد بن الشحنة

__________________________________________________

(1) قال الذهبي: «الإمام الحافظ الكبير الأوحد الثقة، محدّث خراسان، أبو سعد عبدالكريم … السمعاني …» وأرخ وفاته بسنة 562. سير أعلام النبلاء 20: 456.

(2) الأنساب 2: 286.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 116

الحنفي الحلبي «1»:

«في سنة ست وثلاثين: أرسل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه إلي البلاد عمّاله، فبعث عمارة بن شهاب إلي الكوفة، وكان من المهاجرين، وولّي عثمان بن حنيف الأنصاري البصرة، وعبيداللَّه بن عبّاس اليمن، وقيس بن سعد الأنصاري مصر، وسهل بن حنيف الأنصاري الشام، فرجع من الطريق لمّا سمع بعصيان معاوية، وكذلك عمارة لقيه طلحة بن خويلد الذي كان ادّعي النبوّة في خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه فقال له: إن أهل الكوفة لا يستبدلون بأبي موسي الأشعري، فرجع، ولمّا وصل عبيداللَّه إلي اليمن خرج الذي كان بها من قبل عثمان- وهو يعلي بن منبّه- بما بها من الأموال إلي مكّة، وصار مع عائشة وطلحة والزبير، وجمعوا جمعاً عظيماً وقصدوا البصرة، ولم يوافقهم عبداللَّه بن عمر، وأعطي يعلي بن منبّه لعائشة رضي اللَّه عنها جملًا كان اشتراه بمائة دينار اسمه عسكر، وقيل بثمانين، وركبته، ومرّوا بمكان

اسمه الحوأب، فنبحتهم كلابه.

فقالت عائشة: أيّ ماء هذا؟

فقيل لها: هذا ماء الحوأب، فصرخت وقالت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول- وعنده نساؤه-: ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب، ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت:

ردّوني، فأقاموا يوماً وليلة.

فقال لها عبداللَّه بن الزبير: إنّه كذب، ليس هذا ماء الحوأب.

ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال: النجا النجا، فقد أدرككم علي.

__________________________________________________

(1) المتوفّي سنة 815 توجد ترجمته في: الضوء اللامع 10: 3 وشذرات الذهب 7: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 117

فارتحلوا فوصلوا البصرة» «1».

وقال ابن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة):

«فلمّا انتهوا إلي ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة، نبحها كلاب الحوأب، فقالت لمحمّد بن طلحة: أيّ ماء هذا؟ قال: هذا ماء الحوأب.

فقالت: ما أراني إلّاراجعة. قال: ولِمَ؟ قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول لنسائه: كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب، وإيّاك أن تكوني هي أنت يا حميراء، فقال لها محمّد بن طلحة: تقدّمي- رحمك اللَّه- ودعي هذا القول.

وأتي عبداللَّه بن الزبير، فحلف لها باللَّه لقد خلّفته أوّل الليل، وأتاها ببيّنة زور من الأعراب، فشهدوا بذلك» «2».

قبائح ابن الزبير في هذه القصّة … ص: 117

وقد ارتكب ابن الزبير في هذه القصّة قبائح عديدة، تكفي الواحدة منها للعنه والطعن فيه، فكيف إذا اجتمع الجميع في الواقع واتّسع الفتق علي الراقع؟:

1- إنّه ارتكب الكذب، إذ قال لعائشة: إنّ هذا المكان ليس «الحوأب».

2- وقد حلف علي ذلك كاذباً.

3- وأقام شهود الزور علي كذبه.

4- وجعل يقول: النجاء النجاء، فقد أدرككم علي.

__________________________________________________

(1) روضة المناظر في علم الأوائل والأواخر، حوادث السنة 36.

(2) الإمامة والسياسة: 63.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 118

5- وكان السبب في تلك المفسدة الكبيرة التي قاموا بها وأراقوا

الدماء فيها.

هذا، وقد جاء في بعض الأخبار مشاركة طلحة والزبير في إقامة تلك الشهادة الكاذبة والآثمة:

قال سبط ابن الجوزي: قال ابن جرير في تاريخه:

«… فمرَّت علي ماء يقال له الحوأب، فنبحتها كلابه، فقالت: ما هذا المكان؟ فقال لها سائق الجمل العرني: هذا الحوأب، فاسترجعت وصرخت بأعلي صوتها، ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته، ثمّ قالت: أنا- واللَّه- صاحبة كلاب الحوأب، ردّوني إلي حرم اللَّه ورسوله- قالتها ثلاثاً-.

قال ابن سعد- فيما حكاه عن هشام بن محمّد الكلبي- استرجعت وذكرت قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: كيف بك إذا نبحتك كلاب الحوأب؟

فقال لها طلحة والزبير: ما هذا الحوأب، وقد غلط العرني. ثمّ أحضروا خمسين رجلًا فشهدوا معهما علي ذلك وحلفوا.

قال الشعبي: فهي أوّل شهادة زور اقيمت في الإسلام» «1».

خروجه لقتال الإمام عليه السلام … ص: 118

ولا خلاف في أنّ عبداللَّه بن الزبير من الخارجين علي الإمام، والمبادرين لمحاربة أميرالمؤمنين عليه السلام، وهذا من أعظم معاصيه وأقبح مخازيه، وقد أفادت الأحاديث النبويّة الثابتة بأنّ قتال الإمام عليه السلام كفر،

__________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 68. وانظر: تاريخ الطبري 4: 469.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 119

لأنّ قتال المسلم أشنع وأقبح من سبابه، وإذا كان سبّ أميرالمؤمنين كفراً، فمحاربته وقتاله كفر، بالأولويّة القطعيّة.

أمّا الدليل علي أنّ المحاربة والقتال أشدّ من السب، فقد أخرج البخاري في كتاب الإيمان بإسناده عن عبداللَّه: «إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» «1».

وفي كتاب الفتن بإسناده: «قال عبداللَّه: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم:

سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» «2».

وفي كتاب الأدب، بإسناده عن عبداللَّه قال: «قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» «3».

وقال المنذري في (الترغيب والترهيب): «عن ابن مسعود رضي اللَّه

عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر.

رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة» «4».

فقال ابن حجر في شرحه:

«لمّا كان القتال أشدّ من السباب، لأنّه مفضٍ إلي إزهاق الروح، عبّر عنه بلفظ أشدّ من لفظ الفسق، وهو الكفر» «5».

وأمّا الدليل علي أنّ سبّ علي عليه السلام كفر، فالأحاديث الصحيحة

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 1: 19 كتاب الإيمان- باب خوف المؤمن من أن يحبط عملُهُ …

(2) صحيح البخاري 9: 63 كتاب الفتن- باب قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله: لا ترجعوا بعدي كفّاراً …

(3) صحيح البخاري 8: 18 كتاب الأدب باب ما يُنهي من السّباب واللعن.

(4) الترغيب والترهيب 3: 466/ 2.

(5) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 1: 93.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 120

الثابتة:

أخرج الحاكم:

«أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدّثنا محمّد بن سعد العوفي، حدّثنا يحيي بن أبي بكر، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبداللَّه الجدلي قال: دخلت علي ام سلمة رضي اللَّه عنها فقالت لي: أيسبّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فيكم؟ فقلت: معاذ اللَّه أو سبحان اللَّه أو كلمة نحوها. فقالت:

سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: من سبّ عليّاً فقد سبّني. هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

وقد رواه بكير بن عثمان البجلي، عن أبي إسحاق بزيادة ألفاظ: حدّثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد الحافظ بهمدان، حدّثنا أحمد بن موسي بن إسحاق التميمي، حدّثنا جندل بن والق، حدّثنا بكير بن عثمان البجلي قال: سمعت أبا إسحاق التميمي يقول: سمعت أبا عبداللَّه الجدلي يقول: حججت- وأنا غلام- فمررت بالمدينة، وإذا الناس عنق واحد فأتبعتهم، فدخلوا علي ام سلمة زوج النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسمعتها تقول:

يا شبث بن ربعي، فأجابها رجل جلف جاف: لبّيك يا امّاه. قالت: يسبّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في ناديكم؟! قال: وأنّي ذلك. قالت: فعليّ بن أبي طالب. قال: إنّا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا، قالت: فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: من سبّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ اللَّه تعالي» «1».

وأخرج الحاكم:

«أخبرني محمّد بن أحمد بن تميم القنطري، حدّثنا أبو قلابة الرقاشي،

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 121 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 121

حدّثنا أبو عاصم، عن عبداللَّه بن مؤمّل، حدّثني أبوبكر بن عبيداللَّه بن أبي مليكة عن أبيه قال: جاء رجل من أهل الشام، فسبّ عليّاً عند ابن عبّاس، فحصبه ابن عبّاس فقال: يا عدوّ اللَّه، آذيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم «إنّ الذين يؤذون اللَّه ورسوله لعنهم اللَّه في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً» لو كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حيّاً لآذيته. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «1».

وما ذكره بعض المتكلّمين المتعصّبين في الدفاع عن أصحاب الجمل الناكثين، من أنّهم ما كانوا يقصدون المحاربة، ووقوع الحرب كان بلا إرادة من الطرفين، فإنكار للبداهة، وتخديع للعوام، ويكفينا في هذا المقام كلام ابن عبّاس في جواب ابن الزبير، وإفحامه له، وذلك ما رواه ابن عبد ربّه في كتابه (العقد) حيث قال:

«قال ابن الزبير لعبداللَّه بن عبّاس: قاتلت ام المؤمنين وحواريَّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وأفتيت بتزويج المتعة.

فقال: أمّا ام المؤمنين، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سمّيت امّ المؤمنين، فكنّا لها خير بنين، فتجاوز اللَّه عنها. وقاتلت أنت وأبوك عليّاً، فإن كان عليّ مؤمناً، فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإنْ كان

علي كافراً فقد بؤتم بسخطٍ من اللَّه بفراركم من الزحف. وأمّا المتعة فإنّي سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم رخّص فيها، فأفتيت بها، ثمّ عمر نهي عنها. وأوّل مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير» «2».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 121- 122 كتاب معرفة الصحابة.

(2) العقد الفريد 4: 414.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 122

ترجمة ابن عبد ربّه … ص: 122

وقد ترجم كبار العلماء لابن عبد ربّه الأندلسي، وأثنوا عليه الثناء الجميل:

قال ابن ماكولا: «أحمد بن محمّد بن عبد ربّه … أندلسي مشهور بالعلم والأدب والشعر، وهو صاحب كتاب العقد في الأخبار، وشعره كثير جدّاً، وهو مجيد» «1».

وقال اليافعي: «كان رأس العلماء المكثرين ج من المحفوظات ج والإطّلاع علي أخبار النّاس» «2».

وقال ابن خلّكان: «كان من العلماء المكثرين من المحفوظات والإطّلاع علي أخبار الناس، وصنّف كتابه العقد، وهو من الكتب الممتعة، حوي من كلّ شي ء» «3».

وقال السيوطي: «قال ابن الفرضي: عالم الأندلس بالأخبار والأشعار وأديبها وشاعرها، كتب الناس تصنيفه وشعره، سمع من بقي بن مخلّد وابن وضّاح والخشني. مات يوم الأحد لثنتي عشرة بقيت من جمادي الاولي، سنة 328 وهو ابن 81 سنة وثمانية أشهر» «4».

وقال الذهبي: «الأديب الأخباري العلّامة، مصنّف العقد …» «5».

__________________________________________________

(1) الإكمال 6: 36.

(2) مرآة الجنان 2: 222 حوادث سنة 328.

(3) وفيات الأعيان 1: 110/ 46.

(4) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة 1: 371/ 727.

(5) العبر في خبر من غبر 2: 29.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 123

بل إنّ فساد التأويل المذكور يتّضح من كلام ابن الزبير أيضاً، إذ لو كان وقوع الحرب غير مقصود من الطرفين، لَما سأل ابن عبّاس عن السبب لحربه عائشة وأشياعها …

علي أنّ

هذا السؤال من أحسن الشواهد علي أنْ لاحياء لابن الزبير، إذْ يسأل ابن عبّاس عن الدليل علي كونه مع أميرالمؤمنين الذي يدور معه الحقّ حيثما دار!!

كان عمر يري الزبير وأصحابه مفسدين … ص: 123

ومن كلامٍ لعمر بن الخطّاب مع الزبير أيضاً يتّضح منه أنّ أهل الجمل إنّما خرجوا للإفساد، وأنّه لا يوجد أيّ محملٍ صحيح لخروجهم إلي البصرة ضدّ أميرالمؤمنين عليه السلام:

أخرج الحاكم في (المستدرك): «حدّثنا أبو علي الحافظ، حدّثنا الهيثم ابن خلف الدوري، حدّثنا إسماعيل بن موسي السدّي، حدّثنا عبدالسلام بن حرب، حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: جاء الزبير إلي عمر بن الخطّاب يستأذنه في الغزو، فقال عمر: إجلس في بيتك، فقد غزوت مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم. قال: فردّد ذلك عليه، فقال له عمر في الثالثة- أو التي تليها- اقعد في بيتك، فواللَّه إنّي لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا علي أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم» «1».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 119- 120 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 124

كلامٌ لابن طلحة الشافعي … ص: 124

وهكذا يبطل الإعتذار لأهل الجمل بوجهٍ من الوجوه، بما ذكره الفقيه محمّد بن طلحة الشّافعي، في هذا المقام، وهذا نصّ كلامه بطوله ضمن بيان وقائع شجاعة أميرالمؤمنين عليه السلام:

«فمنها: وقعة الجمل، فإنّ المجتمعين لها رفضوا عليّاً عليه السلام ونقضوا بيعته ونكثوا عهده وغدروا به، وخرجوا عليه، وجمعوا النّاس لقتاله، مستخفّين بعقد بيعته التي لزمهم فرض حكمها، مسفّين إلي إثارة فتنة عامّة باؤوا بإثمها، لم ير إلّامقاتلتهم علي إسراع نكثهم لبيعته، ومقابلتهم علي الإقلاع عن مكثهم علي الوفاء للَّه تعالي بطاعته.

وكان من الدّاخلين في البيعة أوّلًا، الملتزمين بها، ثمّ من المحرّضين ثانياً علي نكثها ونقضها، طلحة والزبير، فأخرجا عائشة وجمعها ممّن استجاب لهما، وخرجوا إلي البصرة، ونصبوا لعليّ حبائل الغوائل وألّبوا عليه مطيعيهم، من الرامح والنابل، مظهرين المطالبة بدم عثمان رضي

اللَّه عنه، مع علمهما في الباطن أنّ عليّاً ليس بالقاتل، فلمّا رحل من المدينة طالباً إلي البصرة وقرب منها، كتب إلي طلحة والزبير يقول:

أمّا بعد؛ فقد علمتما أنّي لم أرد النّاس حتّي أرادوني، ولم ابايعهم حتّي أكرهوني، وأنتما ممّن أرادوا بيعتي وبايعوا، ولم تبايعا لسلطان غالب ولا لغرض حاضر، فإن كنتما بايعتما طائعين، فتوبا إلي اللَّه عزّ وجلّ عمّا أنتما عليه، وإن كنتما بايعتما مكرهين فقد جعلتما السبيل عليكما بإظهاركما الطاعة وكتمانكما المعصية. وأنت- يا زبير- فارس قريش، وأنت- يا طلحة- شيخ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 125

المهاجرين، ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد إقراركما به. وأمّا قولكما إنّني قتلت عثمان بن عفّان، فبيني وبينكما من تخلف عنّي وعنكما من أهل المدينة، ثمّ يلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل، وهؤلاء بنو عثمان- إن قُتل مظلوماً كما تقولان- أولياؤه، وأنتما رجلان من المهاجرين، وقد بايعتماني ونقضتما بيعتي، وأخرجتما امّكما من بيتها الذي أمرها اللَّه عزّوجلّ أن تقرّ فيه، واللَّه حسبكما، والسّلام.

وكتب إلي عائشة:

أمّا بعد، فإنّك خرجت من بيتك عاصية للَّه تعالي ولرسوله صلّي اللَّه عليه وسلّم، تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً، ثمّ تزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين الناس، فخبّريني ما للنساء وقود العساكر؟ وزعمت أنّك طالبة بدم عثمان، وعثمان رجل من بني اميّة، وأنت امرأة من بني تيم بن مرّة، ولعمري، إنّ الذي عرّضك للبلاء وحملك علي المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان، وما غضبت حتّي أغضبت، ولا هجت حتّي هيّجت، فاتقي اللَّه يا عائشة، وارجعي إلي منزلك، واسبلي عليك سترك، والسّلام.

فجاء الجواب إليه:

يا ابن أبي طالب، جلّ الأمر عن العتاب، ولن ندخل في طاعتك، فاقض

ما أنت قاض، والسّلام.

ثمّ تراءي الجمعان، وقرب كلّ من الآخر، ورأي علي عليه السلام تصميم عزم أولئك علي قتاله، فجمع أصحابه ولم يترك منهم أحداً، وخطبهم خطبة بليغة منها:

واعلموا أيّها النّاس، أنّي قد تأنّيت هؤلاء القوم وراقبتهم وناشدتهم،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 126

كيما يرجعوا ويرتدعوا، فلم يفعلوا ولم يستجيبوا، وقد بعثوا إليّ أن أثبت للجلاد وأبرز للطعان، وقد كنت وما اهدّد بالحرب ولا أدعي إليها، وقد أنصف القارّة من راماها، ولعمري، لئن أبرقوا وأرعدوا ورأوا نكايتي، فأنا أبوالحسن الذي فللت حدّهم وفرّقت جماعتهم، فبذلك القلب ألقي عدوّي وأنا علي بيّنة من ربّي لما وعدني من النصر والظفر، وإنّي لعلي غير شبهة من أمري، ألا، وإنّ الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب، ومن لم يقتل يمت، وإنّ أفضل الموت القتل، والذي نفس عليّ بيده لألف ضربة بالسيف أهون علَيّ من ميتة علي الفراش.

ثمّ رفع يده إلي السّماء وهو يقول:

اللّهمّ، إنّ طلحة بن عبيداللَّه أعطاني صفقة يمينه طائعاً ثمّ نكث بيعتي، اللّهمّ فعاجله ولا تمهله، اللّهمّ وإنّ الزبير بن العوام قطع قرابتي، ونكث عهدي، وظاهر عدوّي، ونصب الحرب لي وهو يعلم أنّه ظالم، اللّهمّ فاكفنيه كيف شئت وأنّي شئت.

ثمّ تقارب النّاس للقتال، وتعبّؤوا متسلّحين لابسين دروعهم، متأهّبين لذلك، هذا كلّه، وعليٌّ بين الصفّين عليه قميص ورداء، وعلي رأسه عمامة سوداء، وهو راكب علي بغلة رسول اللَّه الشهباء، فلمّا رأي أنّه لم يبق إلّا التصافح بالصّفاح والتناطح بالرماح، صاح بأعلي صوته: أين الزبير بن العوام، فليخرج إليّ؟

فقال النّاس: يا أميرالمؤمنين! أتخرج إلي الزبير وأنت حاسر، وهو مدجّج في الحديد؟!

فقال عليٌّ: ليس علَيّ منه بأس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 127

ثمّ نادي الثانية: أين الزبير

بن العوّام، فليخرج إليّ.

فخرج إليه الزبير ج وقال: يا علي، أنا آمن من سيفك؟

فقال عليٌّ: أنت آمن ج.

فدنا منه حتّي واقفه، فقال له عليٌّ: يا أباعبداللَّه! ما حملك علي ما صنعت؟

فقال الزبير: حملني علي ذلك الطلب بدم عثمان.

فقال له علي: أنت وأصحابك قتلتموه، فيجب عليك أن تقيد من نفسك.

ولكن انشدك اللَّه الذي لا إله إلّاهو، الذي أنزل الفرقان علي نبيّه محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، أما تذكر يوم قال لك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا زبير أتحبُّ عليّاً؟ قلت: وما يمنعني من حبّه وهو ابن خالي. فقال لك: أمّا أنت فستخرج عليه يوماً وأنت ظالم له؟

فقال الزبير: اللّهمّ بلي قد كان ذلك.

فقال عليٌّ: فانشدك باللَّه الذي أنزل الفرقان علي نبيّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، أما تذكر يوم جاء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من عند ابن عوف وأنت معه وهو آخذ بيدك، فاستقبلته أنا فسلّمت عليه، فضحك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في وجهي وضحكت أنا إليه، فقلت أنت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه أبداً، فقال لك النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: مهلًا يا زبير، فليس به زهو، ولتخرجنّ عليه يوماً وأنت ظالم له.

فقال الزبير: اللّهمّ بلي، ولكن أنسيت، فأمّا إذ ذكّرتني ذلك لأنصرفنّ عنك، ولو ذكرت هذا لما خرجت عليك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 128

ثمّ رجع الزبير إلي عائشة فقالت: ما ورائك يا أباعبداللَّه؟

فقال الزبير: ج واللَّه ج ورائي أنّني ما وقفت موقفاً قطّ، ولا شهدت مشهداً في شرك ولا إسلام إلّاولي فيه بصيرة، وإنّي اليوم لعلي شكّ من أمري، وما أكاد أبصر موضع قدمي.

ثمّ شقّ الصفوف وخرج من بينهم، فنزل علي قوم من بني تميم، فقام

إليه عمرو بن جرموز المجاشعي وضيّفه، فلمّا نام قام إليه، فقتله، فنفذت دعوة علي فيه في عاجلته.

وأمّا طلحة، فجاءه سهم- وهو قائم للقتال- من مروان، فقتله.

ثمّ التحم القتال، واتّصلت الحرب وكثر القتل والجرح، ثمّ تقدّم رجل من أصحاب الجمل يقال له عبداللَّه، فجعل يجول بين الصفوف وهو يقول:

أين أبوالحسن؟ ويرتجز، فخرج إليه عليٌّ عليه السلام، وشدّ عليه بالسيف وضربه ضربة أسقط بها عاتقه، فسقط قتيلًا، فوقف عليه عليٌّ وقال: قد رأيت أبا الحسن فكيف وجدته؟ ثمّ لم يزل القتل يؤجّج ناره والجمل يفني أنصاره، حتّي خرج رجل مدجّج في السلاح، يظهر بأساً ويروم مراساً، ويعرّض بعليٍّ عليه السلام حتّي قال:

أضربكم ولو أري عليّاً عمّمته أبيض مشرفيّا

فخرج إليه عليٌّ عليه السلام متنكّراً وحمل عليه، فضربه ضربة علي وجهه، فرمي بنصف قحف رأسه، ثمّ انصرف.

فسمع صائحاً من ورائه، فالتفت فرأي ابن خلف الخزاعي من أصحاب الجمل، فقال: هل لك يا علي في المبارزة؟ فقال علي: ما أكره ذلك، ولكن ويحك يا ابن خلف، ما راحتك في القتل وقد علمت من أنا؟ فقال له ابن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 129

خلف: ذرني يا ابن أبي طالب من مدحك نفسك، وادن منّي لتري أيّنا يقتل صاحبه، فثني عليٌّ عنان فرسه إليه، فبدره ابن خلف بضربة فأخذها عليٌّ في جحظته، ثمّ عطف عليه بضربة أطار بها يمينه، ثمّ ثنّي باخري أطار بها قحف رأسه.

ثمّ استعرت الحرب حتّي عقر الجمل فسقط، وقد احمرّت البيداء بالدماء وخذل الجمل وحزبه، وقامت النوادب بالبصرة علي القتلي، وكان عدّة من قُتل من جند الجمل ستّة عشر ألفاً وسبعمائة وتسعين إنساناً، وكان جملتهم ثلاثين ألفاً، فأتي القتل علي أكثر من نصفهم، وقُتِل من أصحاب

عليِّ ألف رجل وسبعون رجلًا، وكان عدّتهم عشرين ألفاً، وفي مقابلة عليٍّ عليه السلام ثلاثين ألفاً بعشرين ومقاتلتهم، حتّي يقتل منهم أكثر من نصفهم ولم يقتل من أصحابه غير عشرهم، حجّة واضحة تشهد بشجاعته وتسجل بشهامته.

وإذا تأمّل الناظر البصير، ونظر المتأمّل الخبير فيما صدر من عليٍّ من أقواله وأفعاله، علم علماً لا يرتاب فيه: أنّه عليه السلام يخوض لجج الحروب، وينغمس في غمرات الموت، ويصادم ظباء الصوارم، ويغمد مصلت سيفه في لباب الكماة ونحور الأبطال، ولا يحمل لذلك عبأً ولا يبالي به.

ولمّا انقضت وقعة الجمل، وندمت عائشة علي ما كان، ورحلت إلي المدينة وسكنت النائرة، ورحل عليّ إلي الكوفة، قام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي فقال: يا أميرالمؤمنين أرأيت القتلي الذين قتلوا حول الجمل، بماذا قتلوا؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 130

فقال علي: قتلوا بما قتلوا من شيعتي وعمّالي بلا ذنب كان منهم إليهم، ثمّ صرت إليهم وأمرتهم أن يدفعوا إليّ قتلة أصحابي، فأبوا علَيّ وقاتلوني، وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من أصحابي من المسلمين، أفي شكٍّ أنت من ذلك يا أخا الأزد؟

فقال: الآن استبان لي خطاؤهم وأنّك أنت المحقّ المصيب» «1».

والنقاط المستفادة من هذا الكلام:

1- قوله: «فإنّ المجتمعين» ظاهر الدلالة في أنّ أصحاب الجمل قد رفضوا اتّباع الإمام عليه السلام ونكثوا العهد ونقضوا البيعة معه وغدروه.

2- كتابه عليه السلام، إلي طلحة والزبير، فيه دلالة علي أنّ طاعته كانت واجبةً في أعناق القوم.

3- إنّهما كانا يتّهمان عليّاً عليه السلام بقتل عثمان … وهذا كذب عليه.

4- قول الإمام: «وهؤلاء بنوا عثمان …» يفيد أوّلًا: أنّ الإمام كان لا يري عثمان مظلوماً، وأن طلحة والزبير وأمثالهما ليس لهم أن يطلبوا بدم عثمان

ثانياً.

5- إنّه قد أنّب الرجلين علي إخراجهما عائشة من بيتها، لأنّه منافٍ لما أمر به اللَّه ورسوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

6- وقد دعا عليهما بقوله: «اللَّه حسبكما» وحسبهما دعاء الإمام عليهما.

7- وكذا في كتابه إلي عائشة، فقد دلّ علي أنّ خروجها من بيتها كان معصيةً للَّه ورسوله، وأنّه لا مجوّز له أصلًا، ولا وجه لطلبها بدم عثمان أبداً.

8- وقد ذكر أنّ ذنب المخرجين لها من بيتها أكبر من ذنب قتل عثمان،

__________________________________________________

(1) مطالب السئول في مناقب آل الرسول: 154- 159.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 131

وإذا كان قتلة عثمان كفرة- كما في (التحفة الإثني عشريّة) وغيرها- فالمخرجون لها كفّار بالأولويّة.

9- وأشار بقوله: «وما غضبت حتّي أغضبت …» إلي أنّها قد أغضبت بفعلها رسول اللَّه، ومن أغضب رسول اللَّه فقد أغضب اللَّه، كما في الحديث الشريف عنه صلّي اللَّه عليه وآله عند الفريقين.

10- وقوله: «فاتّقي اللَّه يا عائشة» ظاهر في ارتكابها أمراً محرّماً ومعصية واضحة.

11- وقوله لها: «وارجعي إلي منزلك …» دليل صريحٌ علي أنّها هاتكة لسترها.

12- وما كتبته إلي الإمام عليه السلام خروجٌ عن حكم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بوجوب إطاعة أميرالمؤمنين والكون معه، بالأحاديث الصحيحة الثابتة المتّفق عليها، من حديث الثقلين وغيره … فتكون بمخالفتها لذلك من الضالّين الهالكين …

13- وصريح كلام ابن طلحة أنّ أهل الجمل جاءوا مصمّمين علي قتال الإمام ومحاربته، فبطل ما تفوّه به صاحب (التحفة) وغيره من أنّه لم يقصد الطرفان تسعير نار هذه الحرب.

14- والإمام عليه السلام خطب القوم ووعظهم، لعلّهم يرجعون عن ضلالتهم ويقلعون من كفرهم وعنادهم … لكنّهم تمادوا في غيّهم، وأصرّوا علي باطلهم، فدعا الإمام عليه السلام علي طلحة والزبير، وكان دعاؤه عند

اللَّه مستجاباً، فأعقبهما في الدنيا خسراناً وفي الآخرة عذاباً.

15- وقد تبيّن ممّا دار بين الإمام والزبير بن العوام، أنّ الزّبير كان يتعلّل استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 132

بالطلب بدم عثمان، ويتذرّع بذلك كاذباً، إذ ذكّره عليه السلام بكلام رسول اللَّه، ولم يجد مناصاً من الإذعان والرجوع … وبعد هذا التنبّه يأتي هذا السؤال:

هل أعلم عائشة وسائر أهل الجمل بما نبّهه الإمام عليه السلام به أو لا؟ فإن كان قد أعلمهم بذلك فلم ينفعهم النصح، كان ذلك دليلًا آخر علي كفرهم، لمحاربتهم الإمام مع العلم بكونهم ظالمين له، وإنْ لم يكن أعلمهم بالحق الذي ذكّره الإمام به، كان من الكاتمين للحقّ الُمخفين له.

عبداللَّه بن الزبير يحاول إقناع أبيه … ص: 132

ولكن عبداللَّه بن الزبير حاول إقناع أبيه بالبقاء في المعركة واستمرار المحاربة والمشاركة في البغي والعدوان، قال سبط ابن الجوزي:

«ثمّ التقوا منتصف جمادي الاولي من هذه السنة- يعني سنة ست وثلاثين- فلمّا تراءي الجمعان، خرج الزبير علي فرس وعليه سلاحه، وخرج طلحة، فخرج إليهما عليّ ودنا منهما وعليه قبا طاق، حتّي ا ختلفت أعنّة خيلهم، فقال لهما علي: لعمري لقد أعددتما خيلًا وسلاحاً، فهل أعددتما عند اللَّه عذراً؟ فاتّقيا اللَّه ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دمكما؟

فقال طلحة: ألّبت الناس علي عثمان.

فقال: لعن اللَّه من ألّب النّاس علي عثمان، وأين أنت يا طلحة ودم عثمان؟

وأنت يا زبير، أتذكر يوم مررت مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في بني غنم، فنظر إليّ فضحك صلّي اللَّه عليه وسلّم وضحكت إليه صلّي اللَّه عليه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 133

وسلّم، فقلتَ: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول

اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّه ليس بمزهو، ولتقاتلنّه وأنت ظالم له.

وفي رواية: أتذكر يوم لقيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في بني بياضة وهو راكب علي حمار، وذكّره.

فقال الزبير: اللّهمّ نعم، ولو ذكرت هذا ما خرجت من المدينة، وواللَّه لا اقاتلك أبداً.

وفي رواية: فقال الزبير: فما الذي أصنع وقد التقتا حلقتا البطان، ورجوعي علَيّ عار؟

فقال له عليٌّ: إرجع بالعار ولا تجمع بين العار والنّار.

فرجع الزبير وهو يقول:

اخترت عاراً علي نار مؤجّجة أنّي يقوم لها خلق من الطّين نادي عليٌّ بأمر لست أجهله عار لعمرك في الدّنيا وفي الدّين فقلت حسبك من لوم أباحسنٍ فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني وهذا من جملة أبيات الزبير قالها لمّا خرج من العسكر، وأوّلها:

ترك الامور التي يخشي عواقبها للَّه أجمل في الدنيا وفي الدين أخال طلحة وسط القوم منجدلًا ركن الضعيف ومأوي كلّ مسكين قد كنت أنصره حيناً وينصرني في النائبات ويرمي من يراميني حتّي ابتليت بأمر ضاق مصدره فأصبح اليوم ما يعنيه يعنيني ثمّ انصرف طلحة والزبير، فقال عليٌّ لأصحابه: أمّا الزبير فقد أعطي اللَّه عهداً أن لا يقاتلكم، ثمّ عاد الزبير إلي عائشة وقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت عقلي إلّاوأنا أعرف أمري، إلّاهذا.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 134

قالت له: فما تريد أن تصنع؟

قال: أذهب وأدعهم.

فقال له عبداللَّه ولده: جمعت هذين الفريقين، حتّي إذا جدّ بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب، أحسست برايات ابن أبي طالب فرأيت الموت الأحمر منها أو من تحتها، تحملها فتية أنجاد سيوفهم حداد.

فغضب الزبير وقال: ويحك قد حلفت أن لا اقاتله.

فقال: كفّر عن يمينك.

فدعا غلاماً له يقال له مكحول فأعتقه.

فقال عبدالرحمن بن سليمان التميمي:

لم أر كاليوم

أخا خوان أعجب من مكفّر الأيمان بالعتق في معصية الرحمن وقال آخر:

يعتق مكحولًا لصون دينه كفّارة للَّه عن يمينه والنكث قد لاح علي جبينه وفي رواية: إنّ الزبير- لمّا قال له ابنه ذلك- غضب، فقال له ابنه: واللَّه لقد فضحتنا فضيحة لا نغسل منها رؤوسنا أبداً. فحمل الزبير حملة منكرة» «1» إنتهي بقدر الضرورة.

وفي هذه العبارة أيضاً فوائد كثيرة لا تخفي علي من تأمّل فيها، فلا الإعتذار بأنّ الطرفين ما كانا قاصدين لاشتعال الحرب ينفع، ولا الإعتذار للزبير بنسيان ما قاله رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم له من قبل …

__________________________________________________

(1)

تذكرة خواص الامة في معرفة الأئمّة: 71- 72.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 135

لكن العجيب جدّاً: إصرار عبداللَّه علي الحرب، فإنّه لم يرتدع عنها بما ارتدع به أبوه، وهو كلام رسول اللَّه الذي ذكّره الإمام به، بل جعل يؤنّب أباه ويحاول أن يعيده إلي القتال ويغريه إلي الحرب.

كلام الإمام في عبداللَّه بن الزبير … ص: 135

وهكذا كان عبداللَّه يسعي في البغض والعداء لأميرالمؤمنين عليه السلام، حتّي أنّه حاول جاهداً لأنْ يورّط أباه بعد أنْ اختار الإنعزال، واعترض عليه قائلًا: «لقد فضحتنا فضيحةً لا نغسل منها رؤوسنا أبداً» …

والذي يظهر من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام- المروي في كتب الفريقين- أنّ عبداللَّه هو السبب في مفارقة الزبير لأهل البيت عليهم السلام …

روي سبط ابن الجوزي قال:

«وفي رواية: إنّ عليّاً رضي اللَّه عنه لمّا التقي بالزبير قال له: كنّا نعدّك من خيار بني عبدالمطّلب، حتّي بلغ ابنك السوء ففرّق بيننا وبينك، أليس رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لك كذا وكذا. وذكر الحديث» «1».

وروي ابن الأثير:

«وكان عليٌّ- رضي اللَّه عنه- يقول: ما زال الزبير منّا أهل البيت حتّي نشأ له عبداللَّه» «2».

وروي ابن

عبدالبر:

«قال عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه-: ما زال الزبير يعدُّ منّا أهل __________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 72.

(2) اسد الغابة في معرفة الصحابة 3: 139/ 2947.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 136

البيت حتّي نشأ عبداللَّه» «1».

بين عبداللَّه بن الزبير والإمام الحسين عليه السلام … ص: 136

ومن دلائل حبّه للدنيا وشدّة عداوته لأهل البيت الأطهار عليهم الصلاة والسلام: موقفه مع الإمام السبط الشهيد الحسين بن علي في مكّة المكرّمة، وهذا من القضايا التاريخيّة الثابتة:

قال ابن فهد المكّي في (إتحاف الوري بأخبار امّ القري):

«وفيها خرج الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه من المدينة إلي مكّة، فلقيه عبداللَّه بن مطيع فقال: جعلت فداك أين تريد؟ فقال: فأمّا الآن فمكّة وأمّا بعد، فإنّي أستخير اللَّه تعالي، قال: خار اللَّه لك وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكّة فإيّاك أن تقرب الكوفة فإنّها بلدة مشومة، بها قُتِل أبوك وخُذِل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي علي نفسه، ألزم الحرم فإنّك سيّد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحداً، ويتداما إليك الناس من كلّ جانب، لا تفارق الحرم فداك عمّي وخالي، فواللَّه لئن هلكت لنسترقّنّ بعدك.

فأقبل حتّي نزل مكّة وأهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة، فهو قائم يصلّي عندها عامّة النّهار ويطوف، ويأتي الحسين فيمن يأتيه، ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق اللَّه علي ابن الزبير، لأنّ أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين بالبلد.

وأرسل أهل الكوفة الحسين في المسير إليهم، فلمّا أراد المسير إلي __________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 906/ 1535.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 137

الكوفة أتاه عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: إنّي أتيتك لحاجة اريد ذكرها نصيحة

لك، فإن كنت تري أنّك مستنصح قلتها وأدّيت ما علَيّ من الحقّ فيها، وإن ظننت أنّك لا تستنصحني كففت عمّا اريد.

فقال: قل، فواللَّه ما أستغشّك وما أحملنّك بشي ءٍ من الهوي.

قال له: قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفق عليك أن تأتي بلداً فيها عمّاله وامراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما النّاس عبيد الدّنيا والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.

فقال له الحسين: جزاك اللَّه خيراً يا ابن عم، قد علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يقضي من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركت، فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح.

وأتاه عبداللَّه بن عبّاس فقال: قد ارجف النّاس أنّك سائر إلي العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟

فقال له: قد أجمعت السير في أحد يوميّ هذين، إن شاء اللَّه تعالي.

فقال له ابن عبّاس: فإنّي اعيذك باللَّه من ذلك، أخبرني أتسير إلي قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، فإن كانوا فعلوا فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم، وأميرهم عليهم قاهر عليهم وعمّاله تجبي بلاده، فإنّما دعوك إلي الحرب، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك، ويستنفروا إليك ويكونوا أشدّ النّاس عليك.

فقال الحسين: إنّي أستخير اللَّه وأنظر ما يكون.

فخرج ابن عبّاس.

وأتاه ابن الزبير، فحدّثه ساعة ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 138

وكفنّا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم، خبّر ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف النّاس، وأستخير اللَّه تعالي.

فقال له ابن الزبير: أمّا لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها.

ثمّ خشي أن يتّهمه فقال: أما

إنّك لو أقمت بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر هاهنا، حالفنا عليك وساعدناك وبايعنا لك ونصحنا لك.

فقال له الحسين: إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش.

قال: فأقم إن شئت، ولك الأمن تطاع ولا تعصي

قال: ولا اريد هذا أيضاً.

ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما، فالتفت الحسين إلي من هناك وقال: أتدرون ما يقول؟

قالوا: لا ندري جعلنا اللَّه فداك.

قال: إنّه يقول: أقم في هذا المسجد أجمع لك النّاس.

ثمّ قال له الحسين: واللَّه لأن اقتل خارجاً منها بشبر أحبُّ إليَّ من أن اقتل فيها، ولأن اقتل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ أن اقتل خارجاً منها بشبر، وأيم أللَّه لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّي يقضوا بي حاجتهم، واللَّه ليعتدّنّ علَيّ كما اعتدت يهود في السبت.

فقام ابن الزبير، فخرج من عنده.

فقال الحسين: إنّ هذا ليس شي ء من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 139

الحجاز، وقد علم أنّ النّاس لا يعدلونه بي، فودّ أنّي خرجت حتّي يخلو له.

فلمّا كان من العشي أو من الغداة أتاه ابن عبّاس فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك وهذا اليوم الهلاك والإستيصال، إنّ أهل العراق قوم غدر ولا تقربنّهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوّهم ثمّ أقدم عليهم، وإن أبيت إلّاأن تخرج فسر إلي اليمن، فإنّ فيها حصوناً وشعباً، وهي أرض طويلة عريضة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن النّاس في عزلةٍ، فتكتب إلي النّاس، وبُثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.

فقال الحسين: يا ابن

عمّ، إنّي أعلم- واللَّه- أنّك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت السير.

فقال له ابن عبّاس: فإن كنت سائراً، فلا تسر بنسائك وصبيتك، فإنّي خائف أن تقتل، كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.

ثمّ قال له ابن عبّاس: لقد أقررت عين ابن الزبير بالخروج من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، واللَّه الذي لا إله إلّاهو، لو أعلم أنّك إذا أخذت بشعري وأخذت بناصيتك حتّي يجتمع علينا النّاس أطعتني وأقمت، لفعلت ذلك، ثمّ خرج ابن عبّاس من عنده، فمرّ بابن الزبير، فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير، ثمّ قال:

يالك من قنبرة بمعمر خلا لك الجوّ فبيضي واصفري ونقّري ما شئت أن تنقّري استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 140

هذا حسين يخرج إلي العراق ويخلّيك والحجاز» «1».

فمن هذا يظهر خبث باطن ابن الزبير، وشدّة عدائه لأهل البيت عليهم السلام، وإلّا لكان الإمام الحسين عليه السلام أحبّ النّاس إليه، وبقاؤه في مكّة أقرّ لعينه، لكنّه كان بالعكس، فقد كان الإمام الحسين في مكّة أثقل النّاس إليه، وكان يقول له بلسانه غير ما كان بقلبه، ويبدي له خلاف ما يخفي عليه …

والإمام عليه السلام عارف بواقع أمره وحقيقة سرّه، وكذلك فهم ابن عبّاس، حتّي قال للإمام الحسين لمّا عزم علي الخروج: لقد أقررت عين ابن الزبير …

فلو كان له أدني حظٍّ من الإيمان وأقلّ قسط من الإيقان، لما صار قرير العين بمسير الحسين، بل بكي دماً وذاب ألماً، وصار قلبه مجروحاً وعينه مقروحاً، وأطال الحزن والكآبة ومني بالشجي والسآمة، وهل يسرّ بالفراق إلّاالشامت الكاشح والمبغض غير الناصح …

وكذا الخبر في رواية الجلال السيوطي في كتاب (تاريخ الخلفاء) حيث قال:

«فلمّا مات معاوية بايعه- يعني يزيد- أهل الشام، ثمّ بعث إلي

أهل المدينة من يأخذ له البيعة، فأبي الحسين وابن الزبير أن يبايعاه، وخرجا من ليلتهما إلي مكّة؛ فأمّا ابن الزبير فلم يبايع ولا دعا إلي نفسه، وأمّا الحسين فكان أهل الكوفة يكتبون إليه، يدعونه إلي الخروج إليهم زمن معاوية وهو يأبي، فلمّا بويع يزيد أقام علي ما هو مهموماً، يجمع الإقامة مرّة ويريد المسير إليهم اخري.

فأشار عليه ابن الزبير بالخروج.

__________________________________________________

(1) إتحاف الوري بأخبار امّ القري- حوادث السنة 60.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 141

وكان ابن عبّاس يقول له: لا تفعل.

وقال له ابن عمر: لا تخرج، فإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم خيّره اللَّه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة وإنّك بضعة منه، ولا تنالها- يعني الدنيا- واعتنقه وبكي وودّعه، فكان ابن عمر يقول: غلبنا حسين بالخروج، ولعمري لقد رأي في أبيه وأخيه عبرة.

وكلّمه في ذلك أيضاً جابر بن عبداللَّه وأبو سعيد وأبو واقد الليثي وغيرهم فلم يطع أحداً منهم.

وصمّم علي المسير إلي العراق، فقال له ابن عبّاس: واللَّه إنّي لأظنّك ستقتل بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان، فلم يقبل منه، فبكي ابن عبّاس وقال: أقررت عين ابن الزبير.

ولمّا رأي ابن عبّاس عبداللَّه بن الزبير قال له: قد أتي ما أحببت، هذا الحسين يخرج ويتركك والحجاز، ثمّ تمثّل:

يالك من قنبرة بمعمر خلا لك الجوّ فبيضي واصفري ونقّري ما شئت أن تنقري» «1»

أحاديث في ذمّ بغض علي وأهل البيت عليهم السلام … ص: 141

وإذْ ظهر بغض عبداللَّه بن الزبير وعداؤه لأميرالمؤمنين وأهل البيت الطاهرين، كان من المناسب إيراد نصوص روايات عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في ذمّ بغض عليّ أميرالمؤمنين وأبنائه وأهل البيت، والمبغض لهم … عن كتب أهل السنّة وبأسانيدهم:

__________________________________________________

(1) تاريخ الخلفاء: 164- 165.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 142

«أخرج الطبراني

عن عليّ كرّم اللَّه وجهه قال: إنّ خليلي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يا علي، إنّك ستقدم علي اللَّه وشيعتك راضين مرضيّين، ويقدم عليه عدوّك غضاباً مقمحين، ثمّ جمع عليٌّ يده إلي عنقه يريهم الإقماح.

وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: علي بن أبي طالب باب حطّة فمن دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً.

وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن زر بن حبيش قال: قال عليٌّ كرّم اللَّه وجهه: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنّه لعهد النبي الامّي صلّي اللَّه عليه وسلّم إليّ أن لا يحبّني إلّامؤمن ولا يبغضني إلّامنافق.

وأخرج أحمد والترمذي- وحسّنه- عن ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يحبّ عليّاً منافق ولا يبغضه مؤمن.

وفي رواية ابن أبي شيبة عنها بلفظ: لا يبغض عليّاً مؤمن ولا يحبّه منافق.

وعند الطبراني في الكبير عنها: لا يحبّ عليّاً إلّامؤمن ولا يبغضه إلّا منافق.

وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري والبزّار والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبداللَّه رضي اللَّه عنهما قالا: كنّا نعرف المنافقين ببغضهم عليّاً.

وأخرج الطبراني في الكبير عن سلمان رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لعليّ: محبّك محبّي ومبغضك مبغضي.

وأخرج عبدالرزاق الرسعني عن أنس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لعلي: كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 143

وأخرج الطبراني في الكبير عن ام سلمة رضي اللَّه عنها، عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: من أحبّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أحبّني فقد أحبّ اللَّه، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض اللَّه.

وأخرج

ابن عدي عن سلمان رضي اللَّه عنه قال: رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ضرب فخذ علي بن أبي طالب وصدره، وسمعته يقول: محبّك محبّي ومبغضك مبغضي ومبغضي مبغض اللَّه.

وأخرج الحاكم والخطيب عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: نظر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي عليّ بن أبي طالب فقال: أنت سيّد في الدنيا والآخرة، من أحبّك فقد أحبّني، وحبيبي حبيب اللَّه، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ اللَّه؛ فالويل لمن أبغضك بعدي.

وأخرج الطبراني في الكبير والحاكم والخطيب عن عمّار بن ياسر رضي اللَّه عنه قال: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا علي، طوبي لمن أحبّك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك.

وأخرج ابن مردويه عن أنس رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: من حسد عليّاً فقد حسدني، ومن حسدني فقد كفر.

وأخرج أبو يعلي والبزّار عن سعد بن أبي وقّاص رضي اللَّه عنه قال:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من آذي عليّاً فقد آذاني» «1».

وفي (مفتاح النجا) أيضاً:

«وأخرج الحاكم عن جابر رضي اللَّه عنه: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: عليٌّ إمام البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.

__________________________________________________

(1) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 144

وأخرج الطبراني في الكبير عن عمرو بن شراحيل رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: اللّهمّ انصر من نصر عليّاً، اللّهمّ أكرم من أكرم عليّاً، اللّهمّ اخذل من خذل عليّاً.

وأخرج عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: اللّهمّ أعنه وأعن به، وارحمه وارحم به، وانصره وانصر به، اللّهمّ وال من والاه وعاد

من عاداه- يعني عليّاً.

وأخرج عبدالرزاق الرسعني عن عبداللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال:

رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم آخذ بيد علي وهو يقول: اللَّه وليّي وأنا وليّك ومعادي من عاداك ومسالم لمن سالمك.

وأخرج الحافظ أبوبكر أحمد بن عبدالرحمن الجوال الشيرازي في كتاب ألقاب الرجال وابن النجّار في تاريخه عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: اللّهمّ اشهد لهم، اللّهمّ قد بلّغت، هذا أخي وابن عمّي وصهري وأبو ولدي، اللّهمّ كبّ من عاداه في النّار.

وأخرج ابن عدي عن جابر رضي اللَّه عنه أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعلي: يا علي لو أنّ امّتي أبغضوك، لكبّهم اللَّه علي مناخرهم في النّار.

وأخرج الديلمي عن الحسين رضي اللَّه عنه عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لو أنّ عبداً عَبَدَ اللَّه مثل ما أقام نوح في قومه، وكان له مثل احد ذهباً فأنفقه في سبيل اللَّه، ومُدَّ في عمره حتّي يحجّ ألف عام علي قدميه، ثمّ قُتِل مظلوماً بين الصّفا والمروة، ثمّ لم يوالك يا علي، لم يشمّ رائحة الجنّة ولم يدخلها.

وأخرج ابن مردويه عن عطيّة بن سعد قال: دخلنا علي جابر بن عبداللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 145

رضي اللَّه عنه وهو شيخ كبير، فقلنا: أخبرنا عن هذا الرجل علي بن أبي طالب. فرفع حاجبيه ثمّ قال: ذاك من خير البشر. فقيل له: ما تقول في رجل يبغض عليّاً؟ فقال: ما يبغض عليّاً إلّاكافر.

وأخرج عن سالم بن أبي الجعد قال: تذاكروا فضل عليٍّ عند جابر بن عبداللَّه رضي اللَّه عنه، فقال: وتشكّون فيه؟ فقال بعض القوم: إنّه أحدث.

قال: وما يشكّ فيه إلّاكافر أو منافق.

وأخرج عن

عطا قال: سألت عائشة عن عليّ رضي اللَّه عنهما، فقالت:

ذاك من خير البريّة، ولا يشكّ فيه إلّاكافر.

وأخرج أحمد والبزّار وأبو يعلي وابن عدي والحاكم وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي كرّم اللَّه وجهه قال: دعاني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال: إنّ فيك مثلًا من عيسي، أبغضته اليهود حتّي بهتوا امّه، وأحبّته النّصاري حتّي أنزلوه بالمنزل الذي ليس به، ألا وإنّه يهلك فيّ اثنان: محبّ مفرط يقرظني بماليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني علي أن يبهتني» «1».

ومن مساوئه في كتب التاريخ والحديث … ص: 145

وقد ذكر القوم مساوي ء اخري له، في كتبهم التاريخيّة والحديثيّة، نوردها باختصار:

قال ابن عبدالبرّ في (الإستيعاب):

«قال علي بن زيد الجدعاني: كان عبداللَّه بن الزبير كثير الصّلاة، كثير الصّيام، شديد البأس، كريم الجدّات والامّهات والخالات، إلّاأنّه كانت فيه __________________________________________________

(1) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 146

خلال لا تصلح معها الخلافة، لأنّه كان بخيلًا، ضيّق العطاء، سيّي ء الخلق، حسوداً، كثير الخلاف، أخرج محمّد بن الحنفيّة، ونفي عبداللَّه بن عبّاس إلي الطائف» «1».

وقال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان):

«ولمّا دعا ابن الزبير إلي نفسه وبايعه أهل الحجاز بالخلافة، دعا عبداللَّه ابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة- رضي اللَّه عنهما- إلي البيعة، فأبيا ذلك وقالا:

لا نبايعك حتّي تجتمع لك البلاد ويتّفق الناس، فأساء جوارهم وحصرهم وآذاهم وقال لهما: واللَّه لئن لم تبايعا أحرقتكما بالنّار» «2».

وذكر التنوخي في كتاب (الفرج بعد الشدّة):

«كتب محمّد بن الحنفيّة إلي عبداللَّه بن عبّاس رضي اللَّه عنه، حين سيّره عبداللَّه بن الزبير من مكّة إلي الطائف كتاباً نسخته:

أمّا بعد؛ فقد بلغني أنّ عبداللَّه بن الزبير سيّرك إلي الطائف، فأحدث اللَّه لك بذلك أجراً وحطّ به عنك وزراً، يا ابن عم، إنّما يبتلي

الصالحون، وتعدّ الكرامة للأخيار، ولو لم تؤجر إلّافيما تحبّ لقلّ الأجر، وقد قال اللَّه تعالي:

«وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم» الآية، عزم اللَّه لنا ولك بالصبر علي البلاء والشكر علي النعماء، ولا أشمت بنا الأعداء، والسلام» «3».

وقال ابن حجر العسقلاني في كتاب التفسير من (فتح الباري في شرح صحيح البخاري):

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 906/ 1535.

(2) وفيات الأعيان 4: 172/ 559.

(3) الفرج بعد الشدّة: 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 147

«وكان محمّد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفيّة وعبداللَّه بن عبّاس مقيمين بمكّة، مذ قتل الحسين، فدعاهما ابن الزبير إلي البيعة له فامتنعا وقالا: لا نبايع حتّي يجتمع الناس علي خليفة، وتبعهما علي ذلك جماعة، فشدّد عليهم ابن الزبير وحصرهم، فبلغ المختار، فجهّز إليهم جيشاً، فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال ابن الزبير، فامتنعا وخرجا إلي الطائف فأقاما بها، حتّي مات ابن عبّاس سنة ثمان وستّين، ورحل ابن الحنفيّة بعده إلي جهة رضوي- جبل بينبع- فأقام هناك، ثمّ أراد دخول الشام فتوجّه إلي نحو أيلة، فمات في آخر سنة ثلاث أو أوّل سنة أربع وسبعين، وذلك عقب قتل ابن الزبير، علي الصحيح، وقيل: عاش إلي سنة ثمانين أو بعد ذلك، وعند الواقدي أنّه مات بالمدينة سنة إحدي وثمانين، وزعمت الكيسانيّة أنّه حيٌّ لم يمت، وأنّه المهدي، وأنّه لا يموت حتّي يملك الأرض، في خرافات لهم كثيرة ليس هذا موضعها، وأنا لخّصت ما ذكرته من طبقات ابن سعد وتاريخ الطبري وغيرهما لبيان المراد.

وروي الفاكهي من طريق سعيد بن محمّد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كان ابن عبّاس وابن الحنفيّة بالمدينة، ثمّ سكنا مكّة، فطلب منهما ابن الزبير البيعة فأبيا حتّي يجتمع

النّاس علي رجل، فضيّق عليهما، فبعثا رسولًا إلي العراق، فخرج إليهما جيش في أربعة آلاف، فوجدوهما محصورين وقد احضر الحطب فجعل علي الباب يخوّفهما بذلك، فأخرجوهما إلي الطائف، وذكر ابن سعد أنّ هذه القصّة وقعت بين ابن الزبير وابن عبّاس في سنة ست وستّين» «1».

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح البخاري 8: 262.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 148

رواية موضوعة عن ابن عبّاس في مدح ابن الزبير … ص: 148

هذا، والعجب أنّهم قد وضعوا عن ابن عبّاس كلاماً في مدح عبداللَّه بن الزبير، ورواه البخاري في كتابه المشهور (الصحيح) حيث قال:

«حدّثني عبداللَّه بن محمّد، قال: حدّثني يحيي بن معين قال: حدّثنا حجّاج قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة- وكان بينهما شي ء- فغدوت علي ابن عبّاس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحلّ حرم اللَّه؟ فقال: معاذ اللَّه، إنّ اللَّه كتب ابن الزبير وبني اميّة محلّين، وإنّي واللَّه لا احلّه أبداً. قال: قال الناس بايع لابن الزبير فقلت: وأين بهذا الأمر عنه، أمّا أبوه فحواري النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- يريد الزبير- وأمّا جدّه فصاحب الغار- يريد أبابكر- وامّه فذات النطاق، يريد أسماء، وأمّا خالته فامّ المؤمنين، يريد عائشة، وأمّا عمّته فزوج النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، يريد خديجة، وأمّا عمّة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فجدّته، يريد صفيّة، ثمّ عفيف في الإسلام، قارئ للقرآن، واللَّه إن وصلوني وصلوني من قريب، وإن ربوني ربوني أكفاء كرام، فآثر التوتيات والآسامات والحميدات، يريد: أبطُناً من بني أسد بني تويت وبني اسامة وبني أسد، إنّ ابن أبي العاص برز يمشي القدمية يعني عبدالملك بن مروان، وإنّه لوي ذنبه يعني ابن الزبير» «1».

وفي (فتح الباري):

«قوله: قال ابن أبي مليكة: وكان بينهما شي ء، كذا أعاد الضمير بالتثنية علي غير مذكور

اختصاراً، ومراده ابن عبّاس وابن الزبير، وهو صريح في __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 83 كتاب التفسير- سورة براءة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 149

الرواية الاولي.

قوله: محلّين، أي إنّهم كانوا يبيحون القتال في الحرم، وإنّما نسب ابن الزبير إلي ذلك- وإن كان بنو اميّة هم الذين ابتدؤوه بالقتال وحصروه، وإنّما بدا منه أوّلًا دفعهم عن نفسه- لأنّه بعد أن ردّهم اللَّه عنه حصر بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن بإباحته القتال في الحرم، وكان بعض النّاس يسمّي ابن الزبير المحلّ لذلك …

قوله: لا أحلّه أبداً، أي لا أبيح القتال فيه، وهذا مذهب ابن عبّاس أنّه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه.

قوله قال: قال الناس: القائل هو ابن عبّاس، وناقل ذلك عنه ابن أبي مليكة فهو متّصل، والمراد بالنّاس من كان من جهة ابن الزبير.

وقوله: بايع، بصيغة الأمر.

وقوله: وأين بهذا الأمر عنه، أي الخلافة، أي ليست بعيدة عنه، لماله من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم، ثمّ صفته التي أشار إليها بقوله: عفيف في الإسلام قارئ القرآن.

قوله: وإنّه لوي ذنبه، يعني ابن الزبير، لوي بتشديد الواو وبتخفيفها أي ثناه، وكنّي بذلك عن تأخّره وتخلّفه عن معالي الامور، وقيل: كنّي به عن الجبن وإيثار الدعة، كما تفعل السباع إذا أرادت النوم، والأوّل أولي

قال الداودي: المعني أنّه وقف فلم يتقدّم ولم يتأخّر، ولا وضع الأشياء مواضعها، فأدني الناصح وأقصي الكاشح» «1».

وكأنّ واضع هذا الكلام قصد أداء شي ء من حقوق ابن الزبير عليه من __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 263- 265.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 150

أجل عدائه لأهل البيت عليهم السلام، وإلّا، فإنّ من وصفه العلماء بأوصافٍ قالوا إنّها لا تصلح للخلافة، كيف يصحّ

لمثل ابن عبّاس أنْ يراه أهلًا للخلافة ويمدحه بمثل هذا الكلام؟

لكنّ واضعه لم يحسن الوضع، فإنّ ما جاء في أوّل العبارة من «إنّ اللَّه كتب..» يدلّ علي كون ابن الزبير وبني اميّة سلكوا طريق إحلال الحرم وهتكوا حرمة البيت الحرام، وأيضاً: فما جاء في آخرها من قوله «لوي ذنبه» تهجين لابن الزبير، إذ شبّهه بالبهائم، وهو كناية عن الجبن وإيثار الدعة، أو كما قال بعض الشرّاح: يريد أنّه لم يتّزن لاكتساب المجد وطلب الحمد ولكنّه زاغ وتنحّي، أو كما قال غيره: إنّه مثل لترك المكارم والإعراض عن المعروف وإيلاء الجميل، ويجوز أن يكون كنايةً عن التخلّف.

بين عائشة وابن الزبير … ص: 150

وقد أساء ابن الزبير الأدب مع عائشة وتطاول عليها، حتّي نذرت أن تهجره ولا تكلّمه أبداً، وقد أخرج البخاري الخبر في كتاب الأدب من (الصحيح) «1».

وقال الحافظ السمهودي في (جواهر العقدين):

«وفي الصحيح أيضاً: قول عائشة: عليَّ نذر أنْ لا اكلّم ابن الزبير أبداً.

قال ابن عبدالبر: التقدير عليَّ نذر إنْ كلّمته. إنتهي. وهو موافق للرواية الاخري: للَّه عليّ نذر إنْ كلّمته، فالنذر معلَّق علي كلامها له، لأنّها نذرت ترك كلامه، وجعلت الترك قربةً تلزم بالنذر. وقصّتها في ذلك أنّها رأت أنّ ابن __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 8: 25 كتاب الأدب- باب الهجرة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 151

الزبير قد ارتكب أمراً عظيماً حيث قال: أما واللَّه لتنتهيّن عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرنّ عليها، وكانت لا تمسك شيئاً ممّا جاءها من رزق بل تتصدّق به، فرأت أنّ قوله ذلك جرأة عليها وتنقيصاً لقدرها، بنسبتها إلي ارتكاب التبذير الموجب لمنعها من التصرّف، مع كونها ام المؤمنين وخالته اخت امّه، ولم يكن أحد عندها في منزلته، فرأت ذلك منه نوع عقوق، فجعلت

مجازاته ترك مكالمته» «1».

ومن الغرائب: احتجاج بعض فقهاء القوم بهذه الزلّة الكبيرة الصّادرة من ابن الزبير، ولذا بادر ابن حزم إلي التشنيع عليه، فقال في (المحلّي):

«وأمّا الرواية عن ابن الزبير فطامّة الأبد، لا ندري كيف استحلّ مسلم أن يحتجّ بخطيئة ووهلة وزلّة كانت من ابن الزبير، واللَّه تعالي يغفر له، إذ أراد مثله مع كونه من أصاغر الصحابة أنْ يحجر علي مثل ام المؤمنين، التي أثني اللَّه تعالي عليها أعظم الثناء في نصّ القرآن، وهو لا يكاد يتجزي منها في الفضل عند اللَّه تعالي، وهذا خبر رويناه من طريق عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عوف بن الحارث ابن أخي عائشة ام المؤمنين لُامّها: إنّ عائشة ام المؤمنين حدّثت أنّ عبداللَّه بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته: لتنتهين عائشة أو لأحجرنّ عليها. فقالت عائشة: أو قال هذا؟ قالوا: نعم، فقالت عائشة: هو للَّه عليَّ نذر أنْ لا اكلّم ابن الزبير كلمةً أبداً. ثمّ ذكر الحديث بطوله وتشفّعه إليها وبكاؤه لعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث والمسور بن مخرمة الزهريين، حتّي كلّمته، وأعتقت في نذرها أنْ لا تكلّمه أربعين رقبة.

قال أبو محمّد: قد بلغت به عائشة رضي اللَّه عنها ج من ج الإنكار حيث __________________________________________________

(1) جواهر العقدين: 215- 216.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 152

بلغته، فلا يخلو الأمر من أنْ يكون ابن الزبير أخطأ وأصابت هي وهو كذلك بلا شك، فلا يحتجّ بقولٍ أخطأ فيه صاحبه، أو يكون ابن الزبير أصاب وأخطأت هي، ومعاذ اللَّه من هذا ومن أنْ تكون ام المؤمنين توصف بسفهٍ وتستحق أن يحجر عليها، نعوذ باللَّه من هذا القول. فصحّ أنّ ابن الزير أخطأ في قوله» «1».

فمن كلام ابن حزم

والسمهودي يفهم أنّ ما صدر من ابن الزبير بحقّ عائشة كان طعناً عظيماً وقدحاً جسيماً، يمنع منه الكتاب والسنّة، ويقبّحه العقل ويذمّ عليه العقلاء … فكيف يجوز هذا عندهم وهم لا يجوّزون صدور معشاره من أحدٍ من الشيعة بالنسبة إلي عائشة؟

محاولة التأويل … ص: 152

ولشدّة قبح ما كان بين ابن الزبير وعائشة، وأنّه يستوجب الطعن في كليهما أو أحدهما في الأقل، وهو ما لا يتحمَّل … حاول بعضهم تأويل الخبر، ففي (الكواكب الدراري) بشرحه:

«قال ابن بطّال: فإنْ قلت: لِمَ هجرت عائشة ابن الزبير أكثر من ثلاثة أيّام؟

قلت: معني الهجرة ترك الكلام عند التلاقي، وعائشة رضي اللَّه عنها لم تكن تلقاه فتعرض عن السلام عليه، وإنّما كانت من وراء الحجاب، ولا يدخل عليها أحد إلّابالإذن، فلم يكن ذلك من الهجرة، ويدلّ عليه لفظ «يلتقيان فيعرض» إذ لم يكن بينهما لقاء فإعراض.

__________________________________________________

(1) المحلّي في الفقه 8: 292- 293.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 153

ووجه آخر، وهو: إنّه إنّما ساغ لعائشة ذلك لأنّها ام المؤمنين، لاسيّما بالنسبة إلي ابن الزبير، لأنّها خالته، وذلك الكلام الذي قال في حقّها كان كالعقوق لها، فهجرتها منه كانت تأديباً له، وهذامن باب إباحة الهجران لمن عصي» «1».

لكنْ لا يخفي وهن التوجيه الأوّل وسخافته، وتفوّه هذا العالم النحرير به عجيب، ولكن العصبيّة والمراء عضال داءٍ ليس له دواء، وذلك، لأنّ الهجران ترك الملاقاة، وقد خصّه ابن بطال بترك السلام عند الملاقاة، وهذا تأويل عليل وليس عليه دليل، وكلمة «يلتقيان فيعرض» لا دلالة فيها عليه، لأنّها تفريع علي الهجران وليست نفس الهجران، لأنّ اللفظ في (البخاري) هكذا: «إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال فيلتقيان فيعرض

هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» «2».

فالصحيح هو الوجه الثاني فقط.

بل إنّ ألفاظ الخبر عند البخاري شاهدة علي بطلان التأويل الأوّل، فقد جاء فيه، في قضيّة شفاعة المسور وعبدالرحمن لابن الزبير عند عائشة:

«وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها إلّاما كلّمته وقبلت منه، ويقولان: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عمّا قد علمت من الهجرة، فإنّه لا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلمّا أكثرا علي عائشة من التذكرة والتحريج، طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إنّي نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتّي __________________________________________________

(1) الكواكب الدراري في شرح البخاري 21: 208، شرح صحيح البخاري لابن بطّال 9: 270.

(2) صحيح البخاري 8: 26 كتاب الأدب- باب الهجرة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 154

كلّمت ابن الزبير» «1».

فلو لم تكن بينهما هجرة لم يكن لهذه التفاصيل معني.

قول معاوية لابن الزبير: إنّك لمخالف … ص: 154

وتكلّم معاوية في عبداللَّه بن الزبير في حديثٍ كان بينهما، فقد جاء في (المسند):

«حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا محمّد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن يزيد ابن أبي زياد قال: سألت عبداللَّه بن الحارث عن الركعتين بعد العصر، فقال:

كنّا عند معاوية، فحدّث ابن الزبير عن عائشة رضي اللَّه عنها: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يصلّيهما، فأرسل معاوية إلي عائشة- وأنا فيهم- فسألناها فقالت: لم أسمعه من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولكنْ حدّثتني امّ سلمة، فسألناها فحدّثت ام سلمة: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم صلّي الظهر ثمّ اتي بشي ء فجعل يقسّمه حتّي حضرت صلاة العصر، فقام فصلّي العصر، ثمّ صلّي بعدها ركعتين، فلمّا صلّاها قال: هاتان الركعتان كنت اصلّيهما بعد الظهر.

فقالت امّ سلمة: ولقد حدّثتها إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عنهما.

قال: فأتيت معاوية فأخبرته

بذلك.

فقال ابن الزبير: أليس قد صلّاهما؟ لا أزال اصلّيهما.

فقال له معاوية: إنّك لمخالف، لا تزال تحبّ الخلاف ما بقيت» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 8: 25 كتاب الأدب- باب الهجرة.

(2) مسند أحمد بن حنبل 7: 439/ 26111.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 155

لعن أميرالمؤمنين عليه السلام ابن الزبير … ص: 155

ومن الطرائف: رواية القوم إنّ عليّاً عليه السلام لعن عبداللَّه بن الزبير، فقد رواه ابن السمان في كتاب (الموافقة) وعنه المحب الطبري في (الرياض النضرة).

ولا يخفي أنّ المحبّ الطبري من كبار الأئمّة الحفّاظ، كما ترجم له الأسنوي في (طبقات الشافعيّة) «1» وقال الذهبي في (المعجم المختص):

«أحمد بن عبداللَّه بن محمّد، الإمام الحافظ المفتي، شيخ الحرم، ومحبّ الدين أبوالعبّاس، الطبري، ثمّ المكّي، الشافعي، مصنّف الأحكام الكبري، كان عالماً عاملًا جليل القدر، عارفاً بالآثار، ومن نظر في أحكامه عرف محلّه من العلم والفقه. عاش ثمانين سنة، وكتب إليّ بمرويّاته في سنة ثلاث وسبعين وستمائة» «2».

وهذا نصّ ما رواه المحبّ الطبري في خبر قتل عثمان:

«فبلغ عليّاً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان بالمدينة، فخرجوا، وقد ذهبت عقولهم حتّي دخلوا علي عثمان، فوجدوه مقتولًا، فاسترجعوا، وقال علي لابنيه: كيف قتل أميرالمؤمنين وأنتما علي الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم محمّد بن طلحة، ولعن عبداللَّه بن الزبير، وخرج علي وهو غضبان» «3».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعيّة للأسنوي 2: 72/ 796.

(2) المعجم المختص للذهبي: 24/ 20.

(3) الرياض النضرة 3: 65- 66.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 156

وإذا كان في هذا الخبر فضيلة لعثمان، فهو يشتمل علي لعن الإمام عليه السلام عبداللَّه بن الزبير … وقد صرّحوا بأنّ اللعن دليل الكفر، لأنّ مرتكب الكبيرة لا يجوز لعنه عندهم كما في (التحفة الاثني عشرية) بل في (الصواعق): «لا يجوز أن

يلعن شخص بخصوصه، إلّاإن علم موته علي الكفر، كأبي جهلٍ وأبي لهبٍ. وأمّا من لم يعلم فيه ذلك فلا يجوز لعنه، حتّي أنّ الكافر الحيّ المعيَّن لا يجوز لعنه» «1».

فإذا كان أميرالمؤمنين قد لعن ابن الزبير، فلا ريب في أنّه قد مات علي الكفر، وإلّا لم يلعنه الإمام عليه السلام وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- كما في (صحيح البخاري)-: «لعن المؤمن كقتله» «2» فيشمله الوعيد في الآية: «ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب اللَّه عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً» «3».

وأيضاً: ففي الحديث ما معناه: إنّ اللعن غير السائغ يعود علي صاحبه، روي المتقي الهندي: «إذا خرجت اللعنة من فيّ صاحبها نظرت، فإنْ وجدت مسلكاً في الذي وجّهت إليه وإلّا عادت إلي الذي خرجت منه. هب عن عبداللَّه.

إنّ العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلي السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثمّ تهبط إلي الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثمّ تأخذ يميناً وشمالًا، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلي الذي لعن، إن كان لذلك أهلًا، وإلّا رجعت إلي __________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة 2: 637.

(2) صحيح البخاري 8: 19 كتاب الأدب- باب ما يُنهي من السباب واللعن.

(3) سورة النساء 4: 93.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 157

قائلها. د عن أبي الدرداء» «1».

تحريف الرواية … ص: 157

ومن هنا، فقد عمد غير واحدٍ من أئمّة القوم إلي تحريف الخبر، بحذف لفظ «اللعن»:

قال ابن حبّان في (كتاب الثقات):

«وبلغ الخبر علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعداً، فخرجوا مذهلين كادت عقولهم تذهب، لعظم الخبر الذي أتاهم، حتّي دخلوا علي عثمان، فوجدوه مقتولًا واسترجعوا، وقال علي لابنيه: كيف قتل أميرالمؤمنين وأنتما علي الباب؟ قالا: لم نعلم. قال: فرفع يده

ولطم الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم محمّد بن طلحة وعبداللَّه بن الزبير» «2».

وقال السيوطي في (تاريخ الخلفاء) نقلًا عن ابن عساكر:

«وقال علي لابنيه: كيف قتل عثمان أميرالمؤمنين وأنتما علي الباب؟

ورفع يده، فلطم الحسن وضرب صدر الحسين وشتم محمّد بن طلحة وعبداللَّه بن الزبير» «3».

ومنهم من روي الخبر بزيادة لعن الإمام أميرالمؤمنين ولديه- والعياذ باللَّه-!! ففي كتاب (الإعلام بسيرة النبي عليه السلام) للحافظ الزرندي:

«وخرج علي وهو غضبان يسترجع، يري أنّ طلحة قد أعان علي قتله،

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 3: 614/ 8169 و 8170.

(2) كتاب الثقات 2: 265.

(3) تاريخ الخلفاء: 127.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 158

فلقيه طلحة فقال له: مالك يا أباالحسن، ضربت الحسن والحسين؟ قال:

عليك وعليهم لعنة اللَّه، ألا يسؤني ذلك! يقتل أميرالمؤمنين، رجل من أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يقم عليه بيّنة ولا حجّة؟! فقال طلحة:

لو دفع مروان إليهم لم يقتل. فقال علي: لو خرج مروان إليكم لقتل قبل أن يثبت عليه حكومة» «1».

لكنّه يشتمل علي لعن طلحة أيضاً …

ثمّ عمد بعضهم إلي تحريف هذا اللفظ، فوضع كلمة «عليك كذا وكذا» بدلًا من كلمة «لعن» طلحة!.. «2»

قول النبي لابن الزبير: ويل للناس منك … ص: 158

ومن الدلائل علي سوء حال عبداللَّه بن الزبير: قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم له- في قضيّة-: «ويل للناس منك وويل لك من الناس» وذاك ما أخرجه الحكيم الترمذي في كتاب (نوادر الاصول) قال:

«حدّثنا موسي بن إسماعيل قال: حدّثنا الهند بن القاسم بن عبدالرحمن ابن ماعز قال: سمعت عامر بن عبداللَّه بن الزبير: إنّ أباه حدّثه أنّه أتي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو يحتجم، فلمّا فرغ قال: يا عبداللَّه، إذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد، فلمّا برز عن رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وسلّم عمد إلي الدم فشربه، فلمّا رجع قال: يا عبداللَّه، ما صنعت بها؟ قال: جعلتها في أخفي مكان- ظننت أنّه خاف علي الناس- قال: لعلّك شربته؟ قال: نعم،

__________________________________________________

(1) الإعلام بسيرة النبي عليه السلام- مخطوط.

(2) الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة 3: 66.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 159

قال: لم شربت الدم؟ ويل للناس منك وويل لك من النّاس».

وأخرجه الحاكم في (المستدرك) بالسند واللّفظ وفي آخره: «ومن أمرك أنْ تشرب الدم؟ ويل لك من الناس وويل للناس منك» «1».

فأشار صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلي الفتن التي أثارها ابن الزبير في حرب الجمل، والفتن التي أثارها في أيّام حكومته بمكّة، وقد ذهبت آلاف النّفوس ضحيّة لطلب ابن الزبير الدنيا والرئاسة، كما صرَّح بذلك الصحابي الجليل أبو برزة الأنصاري فيما أخرجوه عنه:

كلام أبي برزة في ابن الزبير … ص: 159

قال الحاكم في (المستدرك):

«أخبرني الحسن بن حكيم المروزي، ثنا أبوالموجة، أنبأ عبدان، أنبأ عبداللَّه، أنبأ عوف، عن أبي المنهال، عن أبي برزة الأسلمي رضي اللَّه تعالي عنه قال: إنّ ذلك الذي بالشام- يعني مروان- واللَّه إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا، وإنّ ذلك الذي بمكّة- يعني ابن الزبير- واللَّه إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا، وإنّ الذين تدعونهم قرّاءكم واللَّه إنْ يقاتلون إلّاعلي الدنيا. فقال له أبي: فما تأمرنا إذاً؟ قال: لا أري خير النّاس إلّا … خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دماءهم» «2».

وأبو برزة الأسلمي من الصحابة الذين يذكرونهم بالجهاد وبالورع والديانة، قال ابن حجر بترجمته في (الإصابة):

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 554 كتاب معرفة الصحابة.

(2) المستدرك علي الصحيحين 4: 470 كتاب الفتن والملاحم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 160

«قال أبو عمرو: كان إسلامه قديماً، وشهد فتح خيبر وفتح مكّة

وحنيناً …

وقال ابن سعد: كان من ساكني المدينة ثمّ نزل البصرة وغزا خراسان. وقال غيره: شهد مع علي قتال الخوارج بالنهروان وغزا خراسان بعد ذلك، ويقال:

إنّه شهد صفّين والنهروان مع علي. روي ذلك من طريق ثعلبة بن أبي برزة عن أبيه».

وذكر ابن حجر كلام أبي برزة في ابن الزبير وغيره عن البخاري قال:

«وقد أخرج البخاري في صحيحه: إنّه عاب علي مروان وابن الزبير والقرّاء بالبصرة، لمّا وقع الإختلاف بعد موت يزيد بن معاوية فقال في قصّة ذكرها حاصلها: إنّ الجميع إنّما يقاتلون علي الدنيا» «1».

وهذا نصّ الخبر في (صحيح البخاري):

«حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا أبو شهاب، عن عوف، عن أبي المنهال قال: لمّا كان ابن زياد و مروان بالشام، ووثب ابن الزبير بمكّة، ووثب القرّاء بالبصرة، فانطلقت مع أبي إلي أبي برزة الأسلمي، حتّي دخلنا عليه في داره وهو جالس في ظلّ عُليّةٍ له من قصب، فجلسنا إليه، فأنشأ أبي يستطعمه بالحديث، فقال: يا أبا برزة، ألا تري ما وقع فيه الناس، فأوّل شي ء سمعته تكلّم به: إنّي احتسبت عند اللَّه أنّي أصبحت ساخطاً علي أحياء قريش، إنّكم- يا معشر العرب- كنتم علي الحال الذي علمتم من الذلّة والقلّة والضلالة، وإنّ اللَّه أنقذكم بالإسلام وبمحمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، حتّي بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم، إنّ ذاك الذي بالشام- واللَّه- إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا، وإنّ ذاك الذي بمكّة- واللَّه- إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا، وإنّ هؤلاء الذين __________________________________________________

(1) الإصابة في معرفة الصحابة 6: 237- 238/ 8710.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 161

بين أظهركم- واللَّه- إنْ يقاتلون إلّاعلي الدنيا» «1».

وفي (فتح الباري) لابن حجر العسقلاني:

«قوله: إنّ ذاك الذي بالشام، زاد يزيد

بن زريع: يعني مروان. وفي رواية سكين: عبدالملك بن مروان، والأوّل أولي.

قوله: وإنّ ذاك الذي بمكّة. زاد يزيد بن زريع: يعني ابن الزبير.

قوله: وإنّ هؤلاء الذين بين أظهركم، في رواية يزيد بن زريع وابن المبارك نحوه: إنّ الذين حولكم الذين تزعمون أنّهم قرّاؤكم، وفي رواية سكين وذكر نافع ابن الأزرق وزاد في آخره: فقال أبي: فما تأمرني إذاً، فإنّي لا أراك تركت أحداً؟ قال: لا أري خير الناس اليوم إلّاعصابة خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دمائهم» «2».

وفي هذا الحديث دلالة علي القدح والذمّ لابن الزبير من وجوه:

1- قوله: «إنّي احتسبت عند اللَّه» يدلّ علي شدّة قبح أفعال ابن الزبير، بحيث كانت سبباً لسخط أبي برزة وغضبه عليه، وأنّه كان يطلب بذلك الأجر من اللَّه تعالي … قال ابن حجر بشرحه: «قوله: إنّي احتسبت عند اللَّه، في رواية الكشميهني: أحتسب، وكذا في رواية يزيد بن زريع. ومعناه: إنّه يطلب بسخطه علي الطوائف المذكورين من اللَّه الأجر علي ذلك، لأنّ الحبّ في اللَّه والبغض في اللَّه من الإيمان» «3».

وعليه، فإنّ بغض ابن الزبير من الإيمان، وموالاته توجب الخروج عنه،

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 9: 72 كتاب الفتن- باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 62.

(3) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 62.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 162

لكون الغضب عليه موجباً للأجر والثواب، وكذلك بيّن ابن الملقّن الكلمة المذكورة في (شرح البخاري) فقال: «وأمّا قول أبي برزة واحتسابه سخطه علي أحياء قريش عند اللَّه تعالي، فكأنّه قال: اللّهمّ لا أرضي ما صنع قريش من التقاتل علي الخلافة فاعلم ذلك من نيّتي، وأنّي أسخط أفعالهم

واستباحتهم للدماء والأموال، فأراد أنْ يحتسب ما يعتقده من إنكار القتال في الإسلام عند اللَّه أجراً وذخراً، فإنّه لم يقدر من التغيير عليهم إلّابالقول والنيّة التي بها يؤجر اللَّه عباده».

2- قوله: «وإنّكم يا معشر العرب …» ظاهر في أنّ ما صنعه ابن الزبير كان محض الضّلال …

3- قوله: «واللَّه إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا» نصٌّ لا يقبل أيّ تأويل أو حملٍ.

ومن الواضح أنّ التقاتل علي الدنيا من أقبح الفواحش وأفظع المثالب.

وقد ذكر المؤرّخون أنّ امّه قالت له: «إن كنت إنّما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك».

قال ابن فهد في (إتحاف الوري):

«فدخل- أي ابن الزبير- علي امّه أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه فقال: يا امّاه، قد خذلني الناس حتّي ولدي وأهل بيتي، ولم يبق معي إلّا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، وإنّ خصومي قالوا لي إن شئت سلّم نفسك لعبدالملك بن مروان، يري فيك رأيه ولك الأمان، فما رأيك؟

فقالت له: يا ولدي! أنت أعلم بنفسك، إن كنت قاتلت لغير اللَّه، فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قاتلت للَّه وتعلم أنّك علي حقّ وإليه تدعو، فامض استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 163

له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك يتلعّب بها غلمان بني اميّة، وإن كنت إنّما أردت الدنيا، فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: كنت علي حقّ فلمّا وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن، وإن قلت: لم يبق معي معين علي القتل، فلعمري إنّك مغدور، ولكن شأن الكرام أن يموتوا علي ما عاشوا عليه.

فقال: يا امّاه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثّلوا

بي ويصلّبوني.

فقالت: أي بني، إنّ الشاة لا تبالي بالسلخ، فامض علي بصيرتك واستعن باللَّه تعالي.

فقبّل رأسها وقال: هذا رأيي».

4- قوله: «لا أري خير الناس اليوم …» مفهومه أنّ ابن الزبير وأمثاله قد ملأوا بطونهم من أموال الناس، وباؤوا بغضبٍ من اللَّه ومأواهم جهنّم وبئس المصير.

كلمات الحفّاظ بشرح كلام أبي برزة … ص: 163

ثمّ إنّ علماء القوم- بالرَّغم من تأوّلهم للأحاديث القادحة في الصّحابة دفاعاً عنهم- لم يتمكّنوا من تأويل كلام أبي برزة ولو بالتمحّل، بل أيّدوا بشرحه دلالته علي الذمّ والقدح لابن الزّبير، كما عرفت من كلمات ابن حجر والملقّن.

وقال ابن حجر بشرحه:

«وفيه: استشارة أهل العلم والدين عند نزول الفتن، وبذل العالم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 164

النصيحة لمن يستشيره. وفيه: الإكتفاء في إنكار المنكر بالقول ولو في غيبة من ينكر عليه، ليتّعظ من يسمعه فيحذر من الوقوع فيه» «1».

وقال ابن الملقّن بشرحه:

«وأمّا يمينه: أنّ الذي بالشام ما يقاتل إلّاعلي الدنيا، وهو عبدالملك، فوجهه أنّه كان يريد أنْ يأخذ بسيرة عثمان والحسن. وأمّا يمينه علي الذي بمكّة، يعني ابن الزبير، فإنّه لمّا وثب بمكّة- بعد أنْ دخل فيما دخل فيه المسلمون- جعله نكثاً وحرصاً علي الدنيا، وهو في هذه أقوي رأياً منه في الاولي، وكذا القرّاء بالبصرة، لأنّه كان لا يري الفتنة في الإسلام أصلًا، وكان يري أنْ يترك صاحب الأمر حقّه لمن نازعه فيه، لأنّه مأجور في ذلك ممدوح بالإيثار علي نفسه، وكان يريد من المقاتل أنْ لا يقتحم النّار في قيامه وتفريقه الجماعة وتشتيت الكلمة، ولا يكون سبباً لسفك الدماء واستباحة الحرام، أخذاً بقول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا التقي المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النّار، فلم ير القتال البتة، وخشي أن يقول في ابن الزبير شيئاً،

لأنّه كان من العبادة بمكان، وممّا عيّر عليه في خلافته أنّه استأثر بشي ءٍ من مال اللَّه».

وما قاله ابن الملقّن في آخر كلامه من أنّ أبي برزة «خشي أنْ يقول في ابن الزبير شيئاً» واضحٌ مافيه، لأنّ أبابرزة يقسم قائلًا بأنّ ابن الزبير ما يقاتل إلّا علي الدنيا … وفي هذا الكلام كلُّ شي ء، لأنّ القتال علي الدنيا ام الخبائث والشرور وأصل الفسق والفجور، فكيف يقال أنّه لم يقل فيه شيئاً؟! وأيّ فائدةٍ مع هذا لكثرة العبادة؟

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 62.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 165

تكلّم ابن عمر في ابن الزبير … ص: 165

وتكلّم ابن عمر أيضاً في ابن الزبير بما لا يحتمل التأويل كذلك، فقد أخرج الحاكم بإسناده:

«عن نافع عن ابن عمر أنّه قال لرجلٍ يسأله عن القتال مع الحجاج أو مع ابن الزبير؟ فقال له ابن عمر: مع أيّ الفريقين قاتلت فقتلت، ففي لظي» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه» «1».

ومن المعلوم أنّه إذا كان من يقتل مع ابن الزبير في لظي، فإبن الزبير نفسه فيها بطريقٍ أولي، مع أنّه قد قتل في نفس هذه المعركة التي حكم عبداللَّه ابن عمر علي من قتل فيها بما حكم … هذا مضافاً إلي هتكه حرمة الحرم، ولأجل ذلك تكلّم فيه ابن عمر أيضاً، فيما رواه الحكيم الترمذي حيث قال:

«حدّثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال: حدّثني عبدالرحمان بن سليمان ابن غياث أبو زيد قال: سمعت أبي يذكر عن أبيه قال: صحبت ابن عمر من مكّة إلي المدينة، فقال لنافع: لا تمر بي علي المصلوب- يعني ابن الزبير-.

قال: فما فجئه في جوف الليل إلّاأن صكّ محمله جذعه، فجلس يمسح عينيه ثمّ قال: يرحمك اللَّه يا

أبا خبيب إن كنت وإن كنت، ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من يعمل سوء يجز به في الدنيا أو في الآخرة، فإن يك هذا بذاك فهه فهه.

قال أبو عبداللَّه: فأمّا في التنزيل فقد أجمله فقال: «فمن يعمل سوء يُجزَ به» ودخل فيه البرّ والفاجر والولي والعدو والمؤمن والكافر، ثمّ ميّز رسول __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 4: 471 كتاب الفتن والملاحم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 166

اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في هذا الحديث بين الموطنين فقال: يجز به في الدنيا وفي الآخرة، كأنّه أخبر بأن يجزي بذلك السوء في أحد الموطنين، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة، وليس يجمع عليك الجزاء في الموطنين.

ألا تري أنّ ابن عمر قال: فإن يك هذا بذاك فهه فهه، معناه أنّه قاتل في حرم اللَّه، وأحدث حدثاً عظيماً فيها، حتّي أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق، فانصدع حتّي ضبب بالفضة، فهو إلي يومنا كذلك، وسمع للبيت أنين آه آه، وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة: إنّها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنّما حلّت لي ساعة من نهار، وإنّها حرمت يوم خلقت السماوات والأرض.

ولمّا رأي ابن عمر فعله، ثمّ رآه مقتولًا مصلوباً، ذكر قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من يعمل سوء يجز به، ثمّ قال: إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهه، أي كأنّه جوزي بذلك السوء من هذا القتل والصلب» «1».

هذا، وقد رووا عن ابن عمر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إخباره عن صنع عبداللَّه، مع التعبير عن ذلك ب «الإلحاد»:

«يلحد رجل من قريش بمكة يقال له عبداللَّه،

عليه شطر عذاب العالم، طب عن ابن عمر».

«إنّه سيلحد في الحرم رجل من قريش، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت. حم ك عن ابن عمر».

«يحلّها ويحلّ به رجل من قريش، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها. حم عن ابن عمر».

__________________________________________________

(1) نوادر الأصول 2: 16. وقد اسقط منه: «قال أبو عبداللَّه …».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 167

«يلحد بمكّة كبش- أي سيّد- من قريش اسمه عبداللَّه، عليه مثل أوزار نصف الناس. حم عن عثمان.

يلحد رجل من قريش بمكّة، يكون عليه نصف عذاب العالم. حم عن عثمان. ورجال الحديثين ثقات» «1».

بل لقد رووا أنّ ابن عمر قد ذكّر ابن الزبير بقول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هذا، وحذّره من أن يكون الملحد القرشي هو:

في (جمع الجوامع) للسيوطي عن ابن أبي شيبة:

«عن إسحاق بن سعيد، عن أبيه قال: أتي عبداللَّه بن عمر عبداللَّه بن الزبير، فقال لابن الزبير: إياك والإلحاد في حرم اللَّه، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: إنّه سيلحد فيه رجل من قريش، لو أنّ ذنوبه توزن بذنوب الثقلين لرجحت عليه، فانظر لا تكونه. ش».

فكان هذا رأي عبداللَّه بن عمر في ابن الزبير … وبذلك صرّح الحجّاج عند أسماء ام ابن الزبير، إذ قال لها- كما في (السيرة الحلبيّة)-:

«رأيت كيف نصر اللَّه الحق وأظهر أنّ ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال تعالي: «ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذاب أليم» وقد أذاقه اللَّه ذلك العذاب الأليم» «2».

وقال في (إتحاف الوري):

«سنة ست وستّين: فيها دعا عبداللَّه بن الزبير محمّد ابن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلًا من وجوه أهل الكوفة، منهم أبوالطفيل __________________________________________________

(1) كنز العمّال 12:

208- 209/ 34691- 34695: وبعضه عن ابن عمرو.

(2) إنسان العيون/ السيرة الحلبيّة 1: 175.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 168

عامر بن واثلة الصحابي، ليبايعوه، فامتنعوا وقالوا: لا نبايع حتّي تجتمع الامّة.

فأكثر ابن الزبير الوقيعة في ابن الحنفيّة وذمّه، فأغلظ له عبداللَّه بن هاني الكندي وقال: لئن لم يضرّك إلّاتركنا بيعتك لا يضرّك شي ء، وإنّ صاحبنا يقول: لو بايعني الامّة كلّها غير سعد مولي معاوية قتلته، وإنّما عرّض بذكر سعد، لأنّ ابن الزبير أرسل إليه فقتله، فسبّه عبداللَّه وسبّ أصحابه وأخرجهم من عنده، فأخبروا ابن الحنفيّة بما كان منهم، فأمرهم بالصبر، ولم يلحّ عليهم ابن الزبير.

فلمّا استولي المختار علي الكوفة، وصارت الشيعة تدعو لابن الحنفيّة، خاف ابن الزبير أن يتداعي النّاس إلي الرماية، فحينئذٍ ألحّ علي ابن الحنفيّة وعلي أصحابه علي البيعة له، فحبسهم بزمزم وتوعّدهم بالقتل والإحراق، وأعطي اللَّه عهداً إن لم يبايعوه ينفذ فيهم ما توعّدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلًا.

فأشار بعض من كان مع ابن الحنفيّة عليه، أن يبعث إلي المختار وإلي من بالكوفة رسولًا يعلمهم حالهم وحال من معهم، وما كان توعّدهم به ابن الزبير، فوجد ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس علي باب زمزم، وكتب معهم إلي المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه وما توعّدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنّار، ويطلب منهم النجدة، ويسألهم أن لا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته.

فقدموا علي المختار، فدفعوا إليه الكتاب، فنادي في الناس، فقرأ عليهم الكتاب.

(إلي أن قال في إتحاف الوري): فوجّه- يعني المختار- أبا عبداللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 169

الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوّة، ووجّه ظبيان بن عمارة أخا بني

تميم ومعه أربعمائة، وبعث معه لابن الحنفيّة أربعمائة درهم، وسيّر أباالمعتمر في مائة، وهاني بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلي محمّد بن علي مع أبي الطفيل عامر ومحمّد بن قيس بتوجيه الجند إليه.

وخرج النّاس أثرهم في أثر بعض، وجاء أبو عبداللَّه الجدلي حتّي نزل ذات عرق في سبعين راكباً، فأقام بها حتّي أتاه عمير ويونس في ثمانين راكباً، فبلغوا مائة وخمسين رجلًا، فسار بهم حتّي دخلوا المسجد الحرام ومعهم الكافركوبات وهم ينادون: يالثارات الحسين، حتّي انتهوا إلي زمزم، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومان، فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم ودخلوا علي ابن الحنفيّة فقالوا: خلّ بيننا وبين عدوّ اللَّه ابن الزبير.

فقال لهم: إنّي لا أستحلّ القتال في حرم اللَّه.

فقال ابن الزبير: واعجبا لهذه الخشبية، ينعون حسيناً كأنّي أنا قتلته، واللَّه لو قدرت علي قتلته لقتلتهم.

وإنّما قيل لهم خشبيّة، لأنّهم وصلوا إلي مكّة وبأيديهم الخشب، كراهة إشهار السيوف في الحرم.

وقيل: لأنّهم أخذوا الحطب الذي أعدّه ابن الزبير.

وقال ابن الزبير: أيحسبون أنّي اخلّي سبيلهم دون أن ابايع ويبايعون.

فقال أبو عبداللَّه الجدلي: أي وربّ الكعبة والمقام وربّ الحلّ والحرام، لتخلّينّ سبيلهم أو لنجالدنّك بأسيافنا جلاداً يرتاب منه المبطلون.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 170

فقال ابن الزبير: هل أنتم- واللَّه- إلّاأكلة رأس، لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتّي تقطف رؤوسكم.

فقال له قيس بن مالك: أما واللَّه إنّي لأرجو إذ رمت ذلك، أن يرسل إليك قبل أن تري ما تحب.

فكفّ ابن الحنفيّة أصحابه وحذّرهم الفتنة.

ثمّ قدم أبوالمعتمر في مائة، وهاني بن قيس في مائة، وظبيان بن عمارة في مائتين ومعه المال، حتّي

دخلوا المسجد الحرام فكبّروا وقالوا: يالثارات الحسين.

فلمّا رآهم ابن الزبير خافهم.

فخرج محمّد بن الحنفيّة ومن معه إلي شعب علي، وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون محمّد بن الحنفيّة فيه، فيأبي عليهم، واجتمع مع محمّد في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسّم بينهم ذلك المال.

ويقال: إنّ ابن الزبير أرسل إلي ابن عبّاس وابن الحنفيّة أن يبايعا، فقالا:

حتّي يجتمع النّاس علي إمام ثمّ نبايع فإنّك في فتنة، فعظم الأمر بينهما وغضب من ذلك، وحبس ابن الحنفيّة في زمزم، وضيّق علي ابن عبّاس في منزله، وأراد إحراقهما، فأرسل المختار جيشاً كما تقدّم.

(إلي أن قال في إتحاف الوري): سنة سبع وستّين، فيها حجّ بالنّاس عبداللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنه، وفيها أو في التي بعدها- بعد أن قتل المختار بالكوفة- استوسقت البلاد لابن الزبير، وتضعضع حال ابن الحنفيّة وأصحابه واحتاجوا، فأرسل ابن الزبير أخاه عروة إلي ابن الحنفيّة أن ادخل في بيعتي وإلّا نابذتك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 171

فقال ابن الحنفيّة: بؤساً لأخيك، ما ألحّه فيما أسخط اللَّه تعالي، وأغفله عن ذات اللَّه عزّ وجلّ.

وقال لأصحابه: إنّ ابن الزبير يريد أن يثور بنا، وقد أذنت لمن أحبّ الإنصراف عنّا، فإنّه لا ذمام عليه ولا لوم، فإنّي مقيم حتّي يفتح اللَّه بيني وبين ابن الزبير وهو خير الفاتحين.

فقام إليه أبو عبداللَّه الجدلي وغيره، فأعلموه أنّهم غير مفارقيه.

وبلغ خبره عبدالملك بن مروان، فكتب إليه يعلمه أنّه إن قدم عليه أحسن مقدمه، وأنّه ينزل أيّ الشام أراد، حتّي يستقيم أمر النّاس.

فخرج ابن الحنفيّة وأصحابه إلي الشام.

(إلي أن قال في إتحاف الوري): فارتحل ابن الحنفيّة إلي مكّة، ونزل شعب آل أبي طالب، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عليه، وكتب إلي أخيه مصعب ابن

الزبير يأمره أن يسيّر نساء من مع ابن الحنفيّة، فسيّر نساء منهنّ امرأة أبي الطفيل عامر بن واثلة، فجاءت حتّي قدمت عليه.

فقال أبوالطفيل:

وإن يك سيّرها مصعب فإنّي إلي مصعب متعب أقود الكتيبة مسليما كأنّي أخو عرّة أجرب وهي عدّة أبيات.

وألحّ ابن الزبير علي ابن الحنفيّة بالانتقال عن مكّة، فاستأذنه أصحابه في قتال ابن الزبير فلم يأذن لهم وقال: اللّهمّ ألبس ابن الزبير لباس الذلّ والخوف، وسلّط عليه وعلي أشياعه من يسومهم الذي يسوم النّاس، ثمّ صار إلي الطائف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 172

فدخل ابن عبّاس علي ابن الزبير، فأغلظ له وجري بينهما كلام، وخرج ابن عبّاس أيضاً فلحق بالطائف، وأرسل ابنه عليّاً إلي عبدالملك بالشام وقال:

لأن يربّني بنو عمّي أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من بني أسد، يعني ببني عمّه بني اميّة، لأنّهم جميعهم من ولد عبد مناف، ويعني برجل من بني أسد ابن الزبير، فإنّه من بني أسد بن عبدالعزّي بن قصي» «1».

__________________________________________________

(1) إتحاف الوري بأخبار امّ القري- حوادث السنة 66.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 173

ثمّ قال السيوطي في (الإتقان): … ص: 173

«وقد ورد عن جماعةٍ من الصحابة غير هؤلاء اليسير من التفسير.

كأنس وأبي هريرة وابن عمر وجابر وأبي موسي الأشعري.

وورد عن عبداللَّه بن عمرو بن العاص أشياء تتعلّق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة وما أشبهها بأن يكون ممّا تحمّله عن أهل الكتاب، كالذي ورد عنه في قوله تعالي «في ظللٍ من الغمام»» «1».

أقول:

إنّه وإن كان يكفي معرفة أحوال الصحابة المذكورين، وهم الذين رووا عنهم الكثير من التفسير، لمعرفة شأن تفاسيرهم وقيمة رواياتهم وأخبارهم في التفسير، لكنّا نتعرّض لحال هؤلاء- الذين رووا عنهم اليسير- أيضاً ولو بإيجاز، فنقول:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 240.

استخراج المرام من استقصاء

الافحام، ج 2، ص: 174

أنس بن مالك … ص: 174
اشارة

أمّا أنس بن مالك، فهذه عدّةٌ من مطاعنه المسقطة له عن العدالة، والموجبة له العار والخسران وعذاب النيران:

كتمانه الشهادة … ص: 174

فمنها: كتمانه الشهادة بحديث الغدير، مع أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ناشده به، وطلب منه الشهادة، ودعا عليه لمّا كتم، فقد ذكر السيّد جمال الدين المحدّث الشيرازي في كتاب (الأربعين في فضائل أميرالمؤمنين) في بيان تواتر حديث الغدير:

«ورواه زر بن حبيش فقال: خرج علي عليه السلام من القصر، فاستقبله ركبان متقلّدي السيف، عليهم العمائم، حديثي عهد بسفر فقالوا: السلام عليك يا أميرالمؤمنين ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليك يا مولانا.

فقال علي عليه السلام بعد ما ردّ السلام: من هاهنا من أصحاب رسول اللَّه؟

فقام إثنا عشر رجلًا منهم: خالد بن زيد أبو أيّوب الأنصاري، وخزيمة بن ثابت ذوالشهادتين، وثابت بن قيس بن شماس، وعمّار بن ياسر، وأبوالهيثم بن التّيهان، وهاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وحبيب بن بديل بن ورقاء. فشهدوا أنّهم سمعوا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه. الحديث.

فقال علي لأنس بن مالك والبراء بن عازب: ما منعكما أنْ تقوما فتشهدا، فقد سمعتما كما سمع القوم؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 175

فقال: اللّهمّ إن كانا كتماها معاندةً فأبلهما؛ فأمّا البراء فعمي، فكان يسأل عن منزله فيقول: كيف يرشد من أدركته الدعوة. وأمّا أنس فقد برصت قدماه.

وقيل: لمّا استشهده علي عليه السلام علي قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: من كنت مولاه فعلي مولاه واعتذر بالنسيان فقال: اللّهمّ إن كانت كاذباً فأبله ببياض لا تواريه العمامة، فبرص وجهه، فسدل بعد ذلك برقعاً علي وجهه».

تحريف الحديث … ص: 175

وقد حرّف بعض علمائهم هذا الحديث، فوضع بدل الإسم الصريح كلمة «رجل» تستّراً علي أنس بن مالك، وخجلًا ممّا كان منه … فقد روي أبو نعيم الحافظ في (حلية الأولياء):

«حدّثنا سليمان بن

أحمد، ثنا أحمد بن إبراهيم بن كيسان، ثنا إسماعيل ابن عمرو البجلي، ثنا مسعر بن كدام، عن طلحة بن مصرف، عن عميرة بن سعد قال: شهدت عليّاً علي المنبر ناشداً أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وفيهم أبو سعيد وأبو هريرة وأنس بن مالك، وهم حول المنبر وعلي علي المنبر، وحول المنبر إثنا عشر رجلًا هؤلاء منهم. فقال علي: نشدتكم باللَّه هل سمعتم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه؟

فقاموا كلّهم فقالوا: اللّهمّ نعم، وقعد رجل، فقال: ما منعك أنْ تقوم؟

قال: يا أميرالمؤمنين! كبرت ونسيت.

فقال: اللّهمّ إنْ كان كاذباً فاضربه ببلاءٍ حسنٍ.

قال: فما مات حتّي رأينا بين عينيه نكتةً بيضاء لا تواريها العمامة.

غريبٌ من حديث طلحة، تفرّد به مسعر عنه مطوّلًا، ورواه ابن عائشة عن إسماعيل مثله، ورواه الأجلح وهاني بن أيّوب عن طلحة مختصراً» «1».

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 5: 26- 27/ 293.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 176

الكذب … ص: 176

ومنها: أنّه قد كذب في قضيّة الطائر المشوي المشهورة، وفي بعض الروايات إنه قد تكرّر ذلك منه:

قال الحاكم في (المستدرك) في الحديث:

«فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: يا أنس، انظر من علي الباب؟ فقلت: اللّهمّ اجعله رجلًا من الأنصار، فذهبت فإذا عليٌّ بالباب، فقلت: إنّ رسول اللَّه علي حاجة» «1».

وفي (كنز العمّال):

«عن عمرو بن دينار، عن أنس قال: كنت مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في بستان، فاهدي لنا طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك، فجاء علي بن أبي طالب، فقلت: رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله مشغول، فرجع. ثمّ جاء بعد ساعة ودقّ الباب، ورددته مثل ذلك، ثمّ قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

وآله: يا أنس! إفتح له، فطالما رددته. فقلت: يا رسول اللَّه! كنت أطمع أن يكون رجلًا من الأنصار. فدخل علي بن أبي طالب فأكل معه من الطير، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: المرء يحبّ قومه. كر وابن النجار» «2».

حضوره عند ابن زياد وهو ينكت ثنايا أبي عبداللَّه … ص: 176

ومنها: إنّه كان حاضراً عند عبيداللَّه بن زياد لمّا اتي برأس الإمام أبي عبداللَّه الحسين الشهيد، فجعل ينكت ثناياه ويقرعها بالقضيب، قال __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 132 كتاب معرفة الصحابة.

(2) كنز العمّال 13: 167/ 36507.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 177

البخاري:

«عن أنس بن مالك قال: اتي عبيداللَّه بن زياد برأس الحسين عليه السلام، فجعل في طست، فجعل ينكت وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: كان أشبههم برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وكان مخضوباً بالوسمة» «1».

فقال العيني في (عمدة القاري):

«قال سبط ابن الجوزي: أما كان لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم علي أنس من الحقوق أن ينكر علي ابن زياد فعله ويقبّح له ما وقع منه، من قرع ثنايا الحسين بالقضيب، كما فعل زيد بن أرقم» «2».

طعن أبي حنيفة فيه … ص: 177

وأنس بن مالك كان مطعوناً عند إمامهم الأعظم أبي حنيفة، ذكر ذلك الزندويستي الحنفي- ومن أكابر علماء القوم، وصفه الكفوي في (كتائبه) بأنّه «كان إماماً فقيهاً ورعاً» «3» وترجم له عبدالقادر في (طبقاته) «4» - حيث قال:

«روي عن أبي حنيفة رضي اللَّه عنه أنّه سئل فقيل له: إذا قلت قولًا، وكان كتاب اللَّه تعالي يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بكتاب اللَّه تعالي، فقيل:

إذا كان خبر الرسول يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بخبر الرسول، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالف قولك؟ فقال: أترك قولي بقول الصحابي، فقيل له:

إذا كان قول التابعين يخالف قولك؟ قال: إذا كان التابعي رجلًا فأنا رجل.

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 5: 32- 33 كتاب المناقب- باب مناقب الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما.

(2) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 16: 241. وفيه: لكن الفحل، بدل: كما فعل.

(3) كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار- مخطوط.

(4) وذكره

صاحب هديّة العارفين 1: 307 وأرّخ وفاته بحدود سنة 400.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 178

ثمّ قال: أترك قولي بجميع قول الصحابة إلّاثلاثة منهم: أبو هريرة وأنس ابن مالك وسمرة بن جندب. قال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه اللَّه:

إنّما لم يترك قوله بقول هؤلاء الثلاثة لأنّهم مطعونون» «1».

وقد روي محمّد بن سليمان الكفوي في (كتائب الأعلام) كلام أبي حنيفة حيث قال- بعد نقل كلام الصدر الشهيد في بيان وجه ترك أبي حنيفة أنس بن مالك وأباهريرة وعدم تقليدهما- وأمّا سمرة فما وجدت في نسختي ثمّ ظفرت في روضة الزندويستي في الباب السابع والتسعين في فضل الصحابة قال فيه:

وتقليد الصحابة يجوز أم لا؟ قال علماؤنا: في ظاهر الاصول يجوز، وأقاويل جميع الصحابة حجّة نعمل بها، حتّي روي عن أبي حنيفة أنّه سئل فقيل له: إذا قلت قولًا وكتاب اللَّه يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بكتاب اللَّه وقول الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم. فقيل: إذا كان قول الصّحابة يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بقول الصحابة. فقيل: إذا كان قول التابعين يخالف قولك؟ قال: هم رجال ونحن رجال.

ثمّ قال أبو حنيفة رحمه اللَّه: أترك قولي بقول الصحابة، إلّابقول ثلاثة منهم: أبو هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب.

قال الفقيه أبو جعفر الهندواني: وإنّما لم يترك قوله بقول هؤلاء الثلاثة، لأنّهم مطعونون» «2».

وأيضاً: قال الكفوي في (كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب نعمان المختار):

__________________________________________________

(1) روضة العلماء، ذكره له صاحب كشف الظنون 1: 928.

(2) كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 179

«قال الصدر الشهيد أيضاً: عن أبي حنيفة روايتان:

الأوّل: أنّه قال اقلّد من كان من القضاة المفتين من الصحابة، لقوله:

إقتدوا باللذين

من بعدي أبي بكر وعمر، وقد اجتمع في حقّهما القضاء والفتوي، فمن كان بمثابتهما مثل: عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وغيرهم ممّن كان في معناهم، فاقلّدهم ولا أستجيز خلافهم برأيي، وخرج عن هذا جماعة منهم: أبو أمامة وسهل بن سعد الساعدي وأبو حميد الساعدي والبراء ابن عازب وغيرهم.

والثاني: قال: اقلّد جميع الصحابة، ولا أستيجز خلافهم برأيي إلّاثلاثة نفر: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب.

فقيل له في ذلك.

فقال: أمّا أنس فقد بلغني أنّه اختلط عقله في آخر عمره، وكان يستفتي من علقمة، وأنا لا اقلّد علقمة، فكيف اقلّد من يستفتي من علقمة؟» «1».

كان يلبس الحرير … ص: 179

ومنها: إنّه كان يلبس الحرير كما في (الطبقات):

«عن عبدالسلام بن شداد قال: رأيت علي أنس عمامة حرير وجبّة خزّ ومطرف خز.

فقالوا: مالك تنهانا عن الحرير وتلبسه أنت؟

فقال: إنّ امراءنا يكسوناها، فنحبّ أنْ يروه علينا» «2».

هذا، وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله كما في (صحيح البخاري):

__________________________________________________

(1) كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار- مخطوط.

(2) الطبقات الكبري 7: 23- 24، وفي النسخة «الخز» بدل «الحرير».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 180

«عن أبي ذبيان خليفة بن كعب قال: سمعت ابن الزبير يقول: سمعت عمر يقول: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» «1».

وعن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «قال: إنّما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» «2».

تقصيره الصّلاة وتركه الصّيام مدّة سنتين … ص: 180

ومنها: أنّه لمّا ولي سابور من قبل الحجّاج، بقي مدّة سنتين يقصّر الصلاة، ولا يصوم شهر رمضان، معتذراً بأنّه لا يدري مدّة بقائه هناك، ومتي يعزل؟

روي ذلك أبو هلال العسكري في كتاب (الأوائل) الذي ترجم له العلماء وأثنوا عليه واعتمدوا علي إخباراته … قال السيوطي في (بغية الوعاة):

«الحسن بن عبداللَّه بن سهل … كان موصوفاً بالعلم والفقه، والغالب عليه الأدب والشعر، وكان يتبزّز احترازاً من الطمع والدناءة. روي عنه أبو سعد السمّان وغيره … له من التصانيف: كتاب صناعتي النظم والنثر، مفيد جداً، والتلخيص في اللغة، جمهرة الأمثال، شرح الحماسة، من احتكم من الخلفاء إلي القضاة، لحن الخاصة، الأوائل … قال ياقوت: لم يبلغني شي ء في وفاته، إلّا أنّه فرغ من إملاء الأوائل يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة 395» «3».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 194 كتاب اللباس- باب لبس الحرير …

(2) صحيح

البخاري 7: 194 كتاب اللباس- باب لبس الحرير …

(3) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة 1: 506/ 1046.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 181

أبو هريرة … ص: 181
اشارة

وأمّا أبو هريرة، فقوادحه ومطاعنه الشنيعة كثيرة، فمنها:

موالاته عدوّ علي … ص: 181

إنّه كان من المنحرفين عن أميرالمؤمنين، ومن المؤيّدين لمعاوية رئيس الفئة الباغية، حتّي لقد ذكّره الأصبغ بن نباتة بذلك، فلم يقل إلّا: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، فقد روي سبط ابن الجوزي في (تذكرته) أنّه:

«قال أصبغ: فقلت له: يا معاوية، لا تعتل بقتلة عثمان، فإنّك لا تطلب إلّا الملك والسلطان، ولو أردت نصرته ج حيّاً ج لفعلت، ولكنّك تربّصت به وتقاعدت عنه لتجعل ذلك سبباً إلي الدنيا، فغضب، فأردت أن أزيده فقلت:

يا أبا هريرة، أنت صاحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، اقسم عليك باللَّه الذي لا إله إلّاهو وبحقّ رسوله، هل سمعت رسول اللَّه يقول يوم غدير خم في حقّ أميرالمؤمنين: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه؟

فقال: إي واللَّه لقد سمعته يقول ذلك.

قال: فقلت: فإذن أنت يا أباهريرة واليت عدوّه وعاديت وليّه.

فتنفّس أبو هريرة وقال: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.

فتغيّر وجه معاوية وقال: يا هذا! كفّ عن كلامك، فلا تستطيع أن تخدع أهل الشام عن الطلب بدم عثمان، فإنّه قتل مظلوماً …» «1».

__________________________________________________

(1) تذكرة الخواص من الامّة: 83- 84.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 182

لعب القمار والشطرنج … ص: 182

وذكروا أنّه كان يلعب بالشطرنج، وكان يقامر … ففي (حياة الحيوان)- في كلام له عن الشطرنج-:

«وروي الصعلوكي تجويزه عن عمر بن الخطّاب وأبي هريرة … والمروي عن أبي هريرة من اللعب به مشهور في كتب الفقه» «1».

وقال ابن الأثير:

«وفي حديث بعضهم قال: رأيت أبا هريرة يلعب السدر. السدر لعبة يقامر بها، وتكسر سينها وتضم، وهي فارسية معربة ج عن «سه در» ج، يعني ثلاثة أبواب» «2».

وفي (مجمع البحار): «وحديث: رأيت أبا هريرة يلعب السّدر …» «3».

وقد نصَّ علماء القوم علي حرمة اللعب بالشطرنج، ونسب ابن تيميّة القول بالحرمة إلي جمهور العلماء، قال:

«مذهب جمهور

العلماء أنّ الشطرنج حرام، وقد ثبت عن علي بن أبي طالب مرّ بقومٍ يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، وكذلك النهي عنها معروف عن أبي موسي وابن عبّاس وابن عمر وغيرهم من الصحابة. وتنازعوا في أنّ أيّهما أشدّ تحريماً: الشطرنج أو النرد؟

فقال مالك: الشطرنج أشدّ من النرد، وهذا منقول عن ابن عمر. وهذا لأنّها

__________________________________________________

(1) حياة الحيوان «العقرب» 2: 62.

(2) النهاية في غريب الحديث 2: 354 «سدر».

(3) مجمع البحار «سدر».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 183

تشغل القلب بالفكر الذي يصدّ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة أكثر من النرد. وقال أبو حنيفة وأحمد: النرد أشد» «1».

أبو هريرة في نظر الصحابة … ص: 183

وقد كان أبو هريرة متّهماً بالكذب والإختلاق علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عند الصحابة، وعلي رأسهم أميرالمؤمنين عليه السلام، وكان عمر وعثمان وعائشة أيضاً من الطاعنين عليه، قال ابن قتيبة- في بحثٍ له مع بعضهم:

«فأمّا طعنه علي أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له، فإنّ أباهريرة صحب رسول اللَّه نحواً من ثلاث سنينٍ، وأكثر الرواية عنه، وعمَّر بعده نحواً من خمسين سنة، وكانت وفاته سنة تسع وخمسين … فلمّا أتي من الرواية عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم بما لم يأتِ بمثله من صحبه من أجلّة أصحابه والسابقين الأوّلين إليه، اتّهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟

ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة أشدّهم إنكاراً عليه لتطاول الأيّام بها وبه، وكان عمر أيضاً شديداً علي من أكثر الرواية» «2».

والمؤيّدات لما أفاده ابن قتيبة في كتب القوم كثيرة، ومن ذلك: قول الشمس الخلخالي بشرح الحديث عن أبي هريرة:

«قوله: إنّكم تقولون. الخطاب للصحابة، أكثر أبو هريرة عن النبي. أي:

أكثر الرواية عنه عليه السلام، واللَّه الموعد: أي: لقاء

اللَّه موعدنا يعني مرجعنا.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 3: 437- 438.

(2) تأويل مختلف الحديث: 41.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 184

يعني به يوم القيامة، فيظهر عنده صدق الصادق وكذب الكاذب لا محالة، لأنّ الأسرار تنكشف هنالك» «1».

فالقائلون والمتكلّمون في إكثار أبي هريرة هم «الصحابة» وقد كانوا يتّهمونه بالكذب، وفي يوم القيامة يظهر الصادق والكاذب!

وقول القاري في (المرقاة) بشرحه كذلك:

«وعنه- أي عن أبي هريرة- قال: إنّكم، أي معشر التابعين، وقيل:

الخطاب مع الصحابة المتأخرين، تقولون: أكثر أبو هريرة، أي الرواية عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، واللَّه الموعد، أي موعدنا، فيظهر عنده صدق الصادق وكذب الكاذب، لأنّ الأسرار تنكشف هنالك. وقال الطّيبي: أي: لقاء اللَّه الموعد، أي موعدنا يوم القيامة، فهو يحاسبني علي ما أزيد أو أنقص، لاسيّما علي رسول اللَّه، وقد قال: من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّء مقعده من النّار» «2».

والحاصل: إنّ الصّحابة والتابعين كانوا يكذّبون أباهريرة، ولا يصدّقونه في روايته، ولا يعتمدون عليه ولا يأخذون بها، كما سيأتي عن عائشة.

وفي (الجمع بين الصحيحين) عن أبي رزين قال:

«خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده علي جبهته فقال: ألا، إنّكم تحدّثون أنّي أكذب علي رسول اللَّه …» «3».

وفي هذا دليل واضح علي أنّه كان في نظر القوم مفترياً علي رسول اللَّه …

__________________________________________________

(1) المفاتيح في شرح المصابيح- مخطوط.

(2) المرقاة في شرح المشكاة 5: 458.

(3) الجمع بين الصحيحين 3: 123/ 2333.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 185

وأمّا ما أشار إليه ابن قتيبة من ردود عائشة عليه، وأنّه قد طال ذلك بينهما، فإنّ موارد ردّها عليه كثيرة، يجدها المتتبّع في كتب القوم.

تكذيب عائشة أباهريرة … ص: 185

من ذلك: حديثه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «قال: من لم يوتر فلا صلاة له، فبلغ

ذلك عائشة فقالت: ج و ج من سمع هذا من أبي القاسم؟ ج واللَّه ج ما بعد العهد وما نسيت، …» «1».

ومن ذلك: حديثه في شرّ الثلاثة:

«ولمّا سمعت أباهريرة يروي أنّ ولد الزنا شرّ الثلاثة قالت: كيف يصحّ هذا؟ وقد قال اللَّه تعالي: «ولا تزر وازرة وزر اخري» «2».

«وروي أنّ عائشة قالت لابن اختها: ألا تعجب من كثرة رواية هذا الرجل، ورسول اللَّه حدّث بأحاديث لو عدّها عادٌّ لأحصاها» «3».

وهذا الحديث أبطله ابن عمر أيضاً، والغالب علي الظنّ أنّهم يريدون بذلك الحماية عن أسلافهم وأكابرهم … فلا تغفل!! ففي (كنز العمّال):

«عن ميمون بن مهران: إنّه شهد ابن عمر صلّي علي ولد الزنا، فقيل له:

إنّ أبا هريرة لم يصلّ عليه وقال: هو شرّ الثلاثة، فقال ابن عمر: هو خير الثلاثة» «4».

ومن ذلك: حديثه إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمسنّ يده في __________________________________________________

(1) المعجم الأوسط 4: 393/ 4012.

(2) سورة الانعام 6: 124.

(3) الاصول لشمس الأئمّة السرخسي 1: 340- 341.

(4) كنز العمّال 5: 461/ 13617 و 11: 85/ 30716.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 186

الإناء، فقد أبطلته عائشة ووافقها ابن عبّاس «1».

ومن ذلك: حديثه في المشي في خفٍّ واحد، فقد روي ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه: «إنّ عائشة كانت تمشي في خفٍّ واحدٍ وتقول: لُاخيفنَّ أبا هريرة» «2».

فإنّ هذا تكذيب منها لأبي هريرة، ولا معني له سوي ذلك، لأنّه قد ادّعي سماع النهي عن المشي في خفٍّ واحدٍ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، فقد جاء في (الجمع بين الصحيحين):

«عن أبي هريرة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يمشي أحدكم في نعلٍ واحدٍ، لينعلهما أو

ليخلعهما جميعاً. وفي رواية القعنبي:

ليحفهما جميعاً أو لينعلهما جميعاً.

وأخرجه مسلم من حديث الأعمش عن أبي رزين قال: خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده إلي جبهته فقال: ألا إنّكم تحدّثون أنّي أكذب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لتهتدوا وأضل، ألا وإنّي أشهد لسمعت رسول اللَّه يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الاخري حتّي يصلحها» «3».

فهو يؤكّد علي أنّه قد سمع من رسول اللَّه ذلك … وقد كذّبته عائشة، لأنّ من قال سمعته يقول كذا وكذا لا يتطرَّق إليه إلّاالتكذيب، وهذا ما نصّ عليه ابن القيّم حيث قال: «ومعلوم قطعاً، أنّ تطرّق التكذيب إلي من قال سمعته يقول كذا وكذا أو أنّه لم يسمعه، فإنّ هذا لا يتطرّق إليه إلّاالتكذيب، بخلاف __________________________________________________

(1) شرح العضدي علي مختصر ابن الحاجب 1: 184.

(2) المصنّف لابن أبي شيبة 8: 229/ 4982 الباب 846.

(3) الجمع بين الصحيحين 3: 123/ 2333.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 187

خبر من أخبر عمّا ظنّه من فعله وكان واهماً، فإنّه لا ينسب إلي الكذب. وقد نزّه اللَّه عليّاً وأنساً والبراء وحفصة عن أن يقولوا سمعناه يقول كذا ولم يسمعوه» «1».

ولتكنْ هذه الإفادة من ابن القيّم منك علي ذكر، فإنّها تفيد فائدةً عظيمةً في مواقع شتّي، ثبت فيها ردّ بعض الصحابة علي بعض فيما رووه من الأحاديث، وادّعوا سماعه من النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

ومن ذلك: حديثه: الشؤم في ثلاثة … إذ كذّبته عائشة وغضبت علي أبي هريرة بشدّة، قال أبو زرعة ولي الدين العراقي في (شرح الأحكام):

«الثالثة: اختلف النّاس في هذا الحديث علي أقوال، أحدها: إنكاره، وإنّه عليه الصّلاة والسّلام إنّما حكاه عن معتقد أهل الجاهليّة. رواه ابن عبدالبر في التمهيد عن

عائشة رضي اللَّه عنها، أنّها أخبرت أنّ أباهريرة رضي اللَّه عنه يحدّث بذلك عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فطارت شقّة منها في السماء وشقّه في الأرض، ثمّ قالت: كذب والذي أنزل الفرقان علي أبي القاسم، من حدّث عنه بهذا؟ ولكن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يقول: كان أهل الجاهليّة يقولون: الطيرة في المرأة والدّار والدّابّة، ثمّ قرأت عائشة: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلّافي كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك علي اللَّه يسير»».

فانظروا معاشر المتسنّنين- صانكم اللَّه من التعصّب المهين- إلي امّكم الصدّيقة، التي ترون أنّ خاتم النبيّين صلوات اللَّه وسلامه عليه وآله أجمعين،

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 185 ما جاء عنه في الحج والعمرة، فصلٌ في أعذار الذين وهموا في صفة حجّته.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 188

قد أمر صحابته- فضلًا عن غيرهم- بأن يأخذوا عنها شطر الدين، وتزعمون أنّ الفاسق عنها والمعرض بها والطاعن عليها من الهالكين المعاندين والخاسرين الجاحدين، كيف ألقت جلباب الإستتار والخفاء عن انهماك أبي هريرة في الكذب والإفتراء، حيث أبانت أنّه قد افتري علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حديث أهل الجاهليّة الفجار، وعزي إليه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ما هو من مقولات الكفّار وترّهات الأشرار، وصرّحت رافعة عقيرتها بأنّه كذب، وهل بعد ذلك التصريح الصريح مجال لريبة مرتاب، أو فسحة لتأويل معاند كذّاب؟ لا، بل لو طاروا إلي السماء وغاروا في الغبراء، وقاموا وقعدوا، وتفيّروا وتربّدوا، لما وجدوا حيلة، ولما ألفوا إلي الخلاص وسيلة، وما زادهم التعمّق والتفكّر إلّاانزعاجاً، وما أورثهم الجدّ والجهد في التبرئة إلّااختلاجاً.

وهذا الحديث رواه ابن قتيبة أيضاً، قال:

«حدّثني محمّد

بن يحيي القطيعي قال: حدّثنا عبدالأعلي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسّان الأعرج: إنّ رجلين دخلا علي عائشة رضي اللَّه عنها فقالا: إنّ أباهريرة يحدّث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال: إنّما الطيرة في المرأة والدابّة والدار، فطارت شققاً ثمّ قالت: كذب والذي أنزل القرآن علي أبي القاسم، من حدّث بهذا عن رسول اللَّه؟ إنّما قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: كان أهل الجاهليّة يقولون: إنّ الطيرة في الدابّة والمرأة والدار، ثمّ قرأت «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلّافي كتاب من قبل أن نبرأها» «1».

__________________________________________________

(1) تأويل مختلف الحديث: 98.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 189

تحريف معني الحديث … ص: 189

ومنهم من تأوّل هذا الحديث تأويلًا عجيباً، وحرّفه تحريفاً معنويّاً، إذ حمل «الكذب» علي «الغلط»، فقد قال أبو زرعة بعد العبارة السابقة: (قال ابن عبدالبر: و «كذب» في كلامها بمعني «غلط») وهو مردود بوجوه:

الأوّل: إنّه لم يأت له بشاهدٍ من الكتاب والسنّة، وكلمات الفصحاء، وأئمّة اللغة الثقات.

والثاني: إنّه خلاف المتبادر من لفظ «الكذب»، فلو ثبت استعماله بمعني «الغلط» فهو مجاز.

والثالث: إنّه خلاف السّياق، لأنّ «الغلط» من المجتهد مأجور عليه، فضلًا عن أن يستوجب الغضب والسّخط، لكنّ عائشة لمّا سمعت هذا عن أبي هريرة طارت شقّة منها في السماء وشقّة في الأرض، وهذا لا يتناسب مع «الخطأ» و «الغلط» الذي لم يخلُ منه عائشة أيضاً.

وفي (فتح الباري):

«روي أحمد وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أبي حسان: إنّ رجلين من بني عامر دخلا علي عائشة فقالا: إنّ أباهريرة قال: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: الطيرة في الفرس والمرأة والدار. فغضبت غضباً شديداً وقالت: ما قاله، وإنّما قال: إنّ

أهل الجاهليّة كانوا يتطيّرون من ذلك» «1».

__________________________________________________

(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6: 47.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 190

تكذيب عمر أباهريرة … ص: 190

وعمر بن الخطّاب أيضاً ممّن كذّب أباهريرة، بل أوعده وهدّده، قال السرخسي في كتاب (الاصول):

«ولمّا بلغ عمر أنّ أباهريرة يروي ما لا يعرف قال: لتكفّنّ عن هذا أو لألحقنّك بجبال دوس» «1».

وفي (كنز العمّال):

«عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطّاب يقول لأبي هريرة:

لتتركنّ الحديث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أو لألحقنّك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركنّ الحديث أو لألحقنّك بأرض القردة. كر» «2».

فلولم يكن أبو هريرة يستحقُّ هذا التهديد والتحقير لكان عمر ظالماً جائراً، ولو كان أبو هريرة صادقاً في إخباراته ورواياته عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، لكان عمر مانعاً من إشاعة أقوال النبي وإرشاداته وأحكام الشّريعة وآدابها … وهذا ما لا تحتمله نفوس القوم.

عزله عن البحرين وهتكه … ص: 190

وأيضاً، فقد عزله عن البحرين، ونسبه إلي السرقة، وهتك ناموسه وفضحه علي رؤوس الأشهاد … قال الزمخشري في (الفائق):

«أبوهريرة: استعمله عمر علي البحرين، فلمّا قدم عليه قال له: يا عدوّ

__________________________________________________

(1) الاصول للسرخسي 1: 341.

(2) كنز العمّال 10: 291/ 29472.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 191

اللَّه وعدوّ رسوله، سرقت من مال اللَّه؟! فقال: لست بعدوّ اللَّه ولا عدوّ رسوله، ولكنّي عدوّ من عاداهما، وما سرقت ولكنّها سهام اجتمعت ونتاج خيل. فأخذ منه عشرة آلاف درهم، فألقاها في بيت المال، ثمّ دعاه إلي العمل فأبي فقال عمر: فإنّ يوسف قد سأل العمل، فقال: إنّ يوسف منّي بري ء وأنا منه براء، وأخاف ثلاثاً واثنتين. قال: أفلا تقول خمساً؟ قال: أخاف أنْ أقول بغير حكم، وأقضي بغير علم، وأخاف أنْ يضرب ظهري، ويشتم عرضي، وأن يؤخذ مالي» «1».

فكان أبو هريرة- في رأي عمر- يستحقّ العزل والإهانة والهتك ومصادرة الأموال، حتّي خاطبه ب «عدوّ اللَّه وعدوّ رسوله»،

ومن كان هذا حاله في نظر خليفتهم، كيف يكون أهلًا لأنْ يؤخذ منه معالم الدين من التفسير وغيره؟

أبو هريرة عند أبي حنيفة … ص: 191

وكان أبو هريرة مطعوناً عند أبي حنيفة أيضاً، كما جاء في (روضة العلماء) في بيان وجه ترك أبي حنيفة روايات أبي هريرة وسمرة وأنس، حيث قال نقلًا عن أبي جعفر الهندواني:

«أمّا أبو هريرة، فإنّه روي عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال:

من أصبح جنباً فلا صوم له، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: أخطأ أبو هريرة، لأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يصبح جنباً من غير احتلام، ثمّ يتمّ صومه وذلك في رمضان، قال أبو هريرة: هي أعلم، كنت سمعته من الفضل بن __________________________________________________

(1) الفائق في غريب الحديث 1: 102.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 192

عبّاس، والفضل كان يومئذٍ ميّتاً، فقد أحال خبره إلي الميّت، فصار مطعوناً» «1».

وأورده الكفوي في (كتائب الأعلام) كذلك …

وفيه- نقلًا عن الصدر الشهيد- في وجه عدم تقليد أبي حنيفة أباهريرة:

«وأمّا أبو هريرة، كان يروي كلّ ما بلغه وسمع، من غير تأمّل في المعني» «2».

أبو هريرة عند عيسي بن أبان … ص: 192

وفي (روضة العلماء) أيضاً:

«وقال عيسي بن أبان: اقلّد أقاويل جميع الصحابة إلّاثلاثة منهم: أبو هريرة ووابصة بن معبد وأبو سنابل بن بعل» «3».

فلماذا يخالف حنفيّة اليوم إمامهم في آرائه وفتاواه «4»؟ مع أنّ المستفاد من الكتب اتّباع السابقين منهم له في الطعن في أبي هريرة، ففي (المحلّي) في مسألة الخيار:

«وأمّا احتجاج أبي حنيفة بحديث المصراة، فطامّة من طوام الدهر، وهو أوّل مخالف له وزارٍ عليه وطاعن فيه، ومخالف كلّ ما فيه، فمرّةً يجعله ذو التورّع منهم منسوخاً بتحريم الربا، وكذبوا في ذلك، ما للربا هاهنا مدخل، ومرّةً يجعلونه كذباً ويعرّضون بأبي هريرة، واللَّه تعالي يخزيهم ج يجزيهم ج بذلك في الدنيا والاخري، وهم أهل الكذب لا الفاضل البرّ أبو هريرة رضي اللَّه __________________________________________________

(1)

روضة العلماء- مخطوط.

(2) كتائب أعلام الأخيار- مخطوط.

(3) روضة العلماء- مخطوط.

(4) وهو: فقيه العراق، تلميذ محمد بن الحسن، وقاضي البصرة، توفي سنة 221 كذا في سير أعلام النبلاء 10: 440، وتوجد ترجمته في تاريخ بغداد 11: 157 والجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة 1: 401 وغيرهما.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 193

عنه وعن جميع الصحابة، وكبّ الطاعن علي أحدٍ منهم لوجهه ومنخريه» «1».

فإنّ ظاهر هذا الكلام متابعة الحنفيّة لإمامهم في رأيه حول أبي هريرة، حتّي دعا عليهم ابن حزم وتكلّم فيهم …

ويستفاد ذلك أيضاً من كلام الفخر الرازي في رسالته في (مناقب الشافعي) إذ قال:

«وأمّا أصحاب الرأي، فإنّ أمرهم في باب الخبر والقياس عجيب، فتارةً يرجّحون القياس علي الخبر، وتارةً بالعكس. أمّا الأوّل فهو إنّ مذهبنا أنّ التصرية سبب مثبت للردّ، وعندهم ليس كذلك. ودليلنا: ما اخرج في الصحيحين عن أبي هريرة …

واعلم أنّ الخصوم لمّا لم يجدوا لهذا الخبر تأويلًا البتّة- بسبب أنّه مفسّر في محلّ الخلاف- اضطرّوا إلي أن يطعنوا في أبي هريرة وقالوا: إنّه كان متساهلًا في الرواية، وما كان فقيهاً …».

فإنّ المراد من أصحاب الرأي هم الحنفيّة كما هو واضح.

ويستفاد أيضاً من كلام ابن حجر في (فتح الباري):

«قال الحنابلة: واعتذر الحنفيّة عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار شتّي، فمنهم من طعن في الحديث، لكونه من رواية أبي هريرة، ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصّحابة، فلا يؤخذ بما رواه مخالفاً للقياس الجلي، وهو كلام آذي قائله به نفسه، وفي حكايته غنيً عن تكلّف الردّ عليه … وقال ابن السمعاني في الإصطلام: التعرّض إلي جانب الصحابة علامة علي خذلان __________________________________________________

(1) المحلّي في الفقه 8: 372.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 194

فاعله، بل هو

بدعة وضلالة …» «1».

أبو هريرة عند محمّد بن الحسن … ص: 194

وأبو هريرة مطعون عند محمّد بن الحسن الشيباني أيضاً، قال ابن حزم في (المحلّي) في مسألة أحقّيّة البائع بالمتاع إذا أفلس:

«روينا من طريق أبي عبيد أنّه ناظر في هذه المسألة محمّد بن الحسن، فلم يجد عنده أكثر من أنْ قال: هذا من حديث أبي هريرة.

قال أبو علي: نعم، هو- واللَّه- من حديث أبي هريرة البرّ الصّادق، لا من حديث مثل محمّد بن الحسن الذي قيل لعبداللَّه بن المبارك: من أفقه أبو يوسف أو محمّد بن الحسن؟ فقال: قل: أيّهما أكذب» «2».

__________________________________________________

(1) فتح الباري 4: 290 كتاب البيوع.

(2) المحلّي في الفقه 8: 178- 179.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 195

عبداللَّه بن عمر … ص: 195
اشارة

وأمّا عبداللَّه بن عمر، فإنّ من يقرأ سيرته يشهد بكونه من المنحرفين عن أميرالمؤمنين وأهل البيت الطّاهرين عليهم السلام وله مساوئ غير ذلك.

إباؤه عن البيعة لأميرالمؤمنين … ص: 195

فأوّل ما يجده هو امتناعه عن البيعة لأميرالمؤمنين عليه السلام بعد مقتل عثمان بن عفّان، وقد بايعه جمهور المسلمين إلّامن شذّ، وقد جاء في الأخبار أنّ بعضهم قد ندم بعد ذلك، ولات حين مندم! ومن هؤلاء عبداللَّه بن عمر …

فإنّه روي ابن عبدالبر وابن الأثير وغيرهما بترجمته بأسانيدهم، عن حبيب بن أبي ثابت وعن غيره قال: «قال ابن عمر حين حضره الموت: ما أجد في نفسي من الدنيا إلّاأنّي لم اقاتل الفئة الباغية مع علي» «1».

وقد نصّ ابن حجر في (فتح الباري) علي إباء ابن عمر عن البيعة مع الإمام عليه السلام، وستسمع عبارته.

وقال سبط ابن الجوزي في (تذكرة خواصّ الامّة):

«قال ابن جرير: وممّن امتنع من بيعته: حسان بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والنعمان بن بشير، ورافع بن خديج، في آخرين. وفي زيد بن ثابت ومحمّد بن مسلمة خلاف. وقال غير ابن جرير: لم يبايعه قدامة بن مظعون __________________________________________________

(1) الإستيعاب 3: 953.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 196

وعبداللَّه بن سلام والمغيرة بن شعبة وعبداللَّه بن عمر وسعد وصهيب وزيد بن ثابت واسامة بن زيد وكعب بن مالك. وهرب قوم إلي الشام وهؤلاء يسمّون العثمانيّة» «1».

بيعته ليزيد بن معاوية … ص: 196

لكن ابن عمر بايع يزيد بن معاوية، كما في كتابي (البخاري) و (مسلم) «2» وغيرهما من مصادر الحديث والتاريخ … بل لقد دافع عن ذلك وحمل أهله وولده والناس علي البيعة … وإذا ثبت أنّه قد بايع ليزيد، فقد ثبت كفره بلا ريب، لأنّ الرضا بإمام باطل كفر، كما نصّ عليه أئمّة القوم … قال أبو شكور محمّد بن عبدالسعيد الكشفي الحنفي في (التمهيد في بيان التوحيد):

«ثمّ كلّ سؤال من جهة الخصم يكون مردوداً، لموافقة علي لأبي بكر، لأنّه وإنْ

لم يبايعه فسكت ولم يخالفه، وقد بيّنّا أنّه بايعه بدليل ما ذكرنا، ولو لم يصحّ خلافة أبي بكر لا يكون إماماً حقّاً، لكان لا يجوز السكوت به والإغماض عنه، لأنّ من رضي بإمام باطلٍ فإنّه يكفر».

هذا، وقد دافع بعض علماء الهند عن ابن عمر، بحمل بيعته ليزيد علي التقيّة والإضطرار، لكنّهم غفلوا عمّا شنّع به أكابر طائفتهم علي أهل الحق للقول بالتقيّة والعمل بها … لاسيّما في مقابلة القول بأنّ بيعة أميرالمؤمنين وأصحابه مع المشايخ كانت عن تقيّةٍ واضطرار، فكيف يصحّ مع هذا حمل __________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 61.

(2) صحيح البخاري 9: 72 كتاب الفتن- باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه، صحيح مسلم 3: 1478/ 1851 كتاب الإمارة الباب 13.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 197

بيعة ابن عمر مع يزيد علي التقيّة؟

وممّا يشهد بعدم كون بيعة عبداللَّه بن عمر هذه عن تقيةٍ: تعجّب الزهري من ذلك، فيما رواه عنه سبط ابن الجوزي حيث قال: «قال الزهري:

والعجب أنّ عبداللَّه بن عمر وسعد بن أبي وقّاص لم يبايعا عليّاً، وبايعا يزيد ابن معاوية» «1».

ومن هنا، نجد أنّ بعض علماء الهند لمّا رأي ركاكة هذا العذر، التجأ إلي إنكار البيعة من أصلها … لكنّ بيعته له من الامور الثابتة غير القابلة للنفي والإنكار … كما أنّ موقفه من أهل المدينة وخلعهم يزيد بن معاوية مشهور ثابت:

قال ابن الملقّن في (شرح البخاري):

«بابٌ: إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه: الشرح: معني الترجمة إنّما هو في خلع أهل المدينة ليزيد بن معاوية، ورجوعهم عن بيعته وما قالوا له، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا بحضرته، وذلك أنّ ابن عمر بايعه فقال عنده بالطاعة بخلافته،

ثمّ خشي علي بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة، حيث نكثوا بيعة يزيد، فوعظهم وجمعهم وأخبرهم أنّ النكث أعظم الغدر» «2».

وقال ابن حجر بشرحه:

«ووقع عند الإسماعيلي من طرق مؤمل بن إسماعيل، عن حمّاد بن زيد، في أوّله من الزيادة، عن نافع: أنّ معاوية أراد ابن عمر علي أن يبايع __________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 61.

(2) شرح صحيح البخاري- كتاب الفتن، باب: إذا قال عند قوم شيئاً …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 198

ليزيد، فأبي وقال: لا ابايع لأميرين، فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم فأخذها، فدّس إليه رجلًا فقال له: ما يمنعك أن تبايع؟ فقال: إنّ ذاك لذاك، يعني عطاء ذلك المال لأجل وقوع المبايعة، إنّ ديني عندي إذاً لرخيص، فلمّا مات معاوية كتب ابن عمر إلي يزيد ببيعته، فلمّا خلع أهل المدينة، فذكره …» «1».

وقال ابن حجر في «باب ما كان من أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمرة» من كتاب المزارعة في شرح حديث نافع: «إنّ ابن عمر كان يكري مزارعه علي عهد النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان وصدراً من إمارة معاوية»:

«قوله: وصدراً من إمارة معاوية، أي خلافته، وإنّما لم يذكر ابن عمر خلافة عليّ، لأنّه لم يبايعه، لوقوع الاختلاف عليه، كما هو مشهور في صحيح الأخبار، وكان رأي ابن عمر أن لا يبايع لمن لم يجتمع عليه الناس، ولهذا لم يبايع أيضاً لابن الزبير ولا لعبدالملك، في حال اختلافهما، وبايع ليزيد بن معاوية، ثمّ لعبدالملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير» «2».

وقال الشهاب القسطلاني:

«عن نافع مولي ابن عمر أنّه قال: لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، وكان ابن عمر لمّا مات معاوية كتب

إلي يزيد ببيعته …» «3».

ثمّ إنّهم رووا عن ابن عمر أنّه مدح يزيد في جمعٍ من خلفائهم وقال:

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 59.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 5: 19.

(3) ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري 10: 199.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 199

«كلّهم صالح لا يوجد مثله» … ومن رواته السيوطي في (تاريخ الخلفاء) وهذه عبارته:

«أخرج ابن عساكر عن عبداللَّه بن عمر قال: أبوبكر الصدّيق أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، ابن عفّان ذوالنّورين قتل مظلوماً يؤتي كفلين من الرّحمة، معاوية وابنه ملكا الأرض المقدّسة، والسّفاح وسلام ومنصور وجابر والمهدي والأمين وأمير العصب، كلّهم من بني كعب ابن لؤي، كلّهم صالح لا يوجد مثله. قال الذهبي: له طرق عن ابن عمر، ولم يرفعه أحد» «1».

فمن العجيب جدّاً، أنْ يمتنع ابن عمر عن البيعة لأميرالمؤمنين، ثمّ يبايع يزيد ويمدحه بمثل هذا الكلام؟

بل إنّه كان لا يربّع بالإمام عليه السّلام، كما هو ظاهر الحديث المتقدّم وصريح الحديث في (كنز العمّال) قال:

«عن عبداللَّه بن عمر قال: يكون علي هذه الامّة إثنا عشر خليفة: أبوبكر الصدّيق أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، عثمان بن عفّان ذوالنّورين قتل مظلوماً اوتي كفلين من الرحمة، ملك الأرض المقدّسة معاوية وابنه، ثمّ يكون السفّاح والمنصور وجابر والأمين وسلام وأمير العصب، لا يُري مثله ولا يدري مثله، كلّهم من بني كعب بن لؤي …».

هذا، ولا يخفي أنّه في بعض نسخ (الكتابين المذكورين) نقل هذا الكلام عن «عبداللَّه بن عمرو» بدلًا عن «عبداللَّه بن عمر» «2»، وسواء كان قائل __________________________________________________

(1) تاريخ الخلفاء: 167- 168.

(2) كنز العمّال 11: 252/ 31421.

استخراج المرام من استقصاء الافحام،

ج 2، ص: 200

هذا الكلام ابن عمر أو ابن عمرو بن العاص أو كلاهما، فإنّه يدلُّ علي كفر قائله وضلاله.

ابن عمر في نظر عائشة … ص: 200

وقد أكثرت عائشة من الردّ علي عبداللَّه بن عمر، وأبطلت قوله في مسائل عديدة، فقد أخرج مسلم في (الصحيح) قال:

«حدّثني هارون بن عبداللَّه، أخبرنا محمّد بن بكر البرساني، أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يخبر قال: أخبرني عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلي حجرة عائشة، وإنّا لنسمع ضربها بالسواك تستن.

قال: فقلت: يا أباعبدالرحمن! اعتمر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في رجب؟

قال: نعم.

فقلت لعائشة: يا امتاه! ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمان؟

قالت: وما يقول؟

قلت: يقول: اعتمر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في رجب.

فقالت: يغفر اللَّه لأبي عبدالرحمن، لعمري ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلّاوإنّه لمعه. قال: وابن عمر يسمع، فما قال لا ولا نعم، سكت» «1».

وقال ابن القيّم في (زاد المعاد):

«أمّا عذر من قال: اعتمر في رجب، فحديث عبداللَّه بن عمر: أنّ النبي __________________________________________________

(1) صحيح مسلم بن الحجاج 2: 916/ 1255 كتاب الحج الباب 35.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 201

صلّي اللَّه عليه وسلّم اعتمر في رجب، متفق عليه، وقد غلّطته عائشة وغيرها كما في الصحيحين عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبداللَّه بن عمر جالس إلي حجرة عائشة، وإذا ناس يصلّون في المسجد صلاة الضّحي. قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة. قلنا له: كم اعتمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قال: أربعاً، إحداهنّ في رجب. فكرهنا أن نردّ عليه.

قال: وسمعنا استنان عائشة امّ المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا امة أو يا ام المؤمنين! ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمن؟

قالت: ما يقول؟

قال: يقول:

إنّ رسول اللَّه اعتمر أربع عُمَر، إحداهنّ في رجب.

قالت: يرحم اللَّه أباعبدالرحمان، ما اعتمر ج رسول اللَّه ج عمرة قط إلّا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط. وكذلك قال أنس وابن عبّاس أنّ عمره كلّها كانت في ذي القعدة، وهذا هو الصواب» «1».

وفي (صحيح البخاري):

«عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبداللَّه بن عمر جالس إلي حجرة عائشة، وإذا ناس يصلّون في المسجد صلاة الضّحي.

قال: فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة. ثمّ قال له: كم اعتمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قال: أربع، إحداهنّ في رجب. فكرهنا أن نردّ عليه.

قال: وسمعنا استنان عائشة ام المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا امّاه! يا امّ المؤمنين! ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمن؟

قالت: ما يقول؟

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 183- 184.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 202

قال: يقول: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم اعتمر أربع عمرات، إحداهنّ في رجب.

قالت: يرحم اللَّه أباعبدالرحمن، ما اعتمر عمرة إلّاوهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط» «1».

وأخرج البخاري ومسلم عن عبداللَّه بن أبي مليكة:

«قال: توفّيت ابنة لعثمان رضي اللَّه عنه بمكّة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عبّاس رضي اللَّه عنهم … فقال عبداللَّه بن عمر لعمرو بن عثمان:

ألا تنهي عن البكاء، فإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه.

فقال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما: قد كان عمر يقول بعض ذلك …

فذكرت ذلك لعائشة فقالت: رحم اللَّه عمر، واللَّه ما حدّث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّ اللَّه ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ اللَّه ليزيد الكافر

عذاباً ببكاء أهله عليه.

قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن «ولا تزر وازرة وزرَ اخري».

قال ابن أبي مليكة: واللَّه ما قال ابن عمر شيئاً» «2».

وأخرج الطبراني عن موسي بن طلحة:

«قال: بلغ عائشة أنّ ابن عمر يقول: موت الفجأة سخطة علي المؤمنين.

فقالت ج عائشة ج: يغفر اللَّه لابن عمر، إنّما قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 3: 3 أبواب العُمرة- باب كم اعتمر النبي صلّي اللَّه عليه وآله.

(2) صحيح البخاري 2: 101 كتاب الجنائز- باب قول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يُعذّب الميّت ببعض بكاء أهله عليه، صحيح مسلم 2: 641/ 928 كتاب الجنائز الباب 9.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 203

وسلّم: موت الفجأة تخفيف علي المؤمنين وسخطة علي الكافرين» «1».

وأخرج أحمد، عن يحيي بن عبدالرحمان، عن ابن عمر، عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«الشهر تسع وعشرون، فذكروا ذلك لعائشة، فقالت: يرحم اللَّه أباعبدالرحمن، إنّما قال الشهر لم ترد يكون تسعاً وعشرين» «2».

وأخرج البخاري عن ابن عمر:

«إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ بلالًا يؤذّن بليل، فكلوا واشربوا حتّي يؤذّن ابن ام مكتوم» «3».

والبيهقي، عن عروة، عن عائشة:

«قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ ابن امّ مكتوم رجل أعمي، فإذا أذّن فكلوا واشربوا حتّي يؤذّن بلال، وكان بلال يبصر الفجر، وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر» «4».

فقال ابن حجر بشرحه:

«جاء عن عائشة أيضاً أنّها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول: إنّه غلط، أخرج ذلك البيهقي، من طريق الدراوردي، عن هشام، عن أبيه عنها.

فذكر الحديث وزاد: قالت عائشة: و كان بلال يبصر الفجر. قال: وكانت عائشة تقول: غلط ابن عمر» «5».

__________________________________________________

(1) المعجم الأوسط 3: 402/ 3150.

(2) مسند أحمد بن

حنبل 7: 77/ 23726.

(3) صحيح البخاري 3: 225 كتاب الشهادات- باب شهادة الأعمي.

(4) سنن البيهقي 1: 382.

(5) فتح الباري 2: 81.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 204

ابن عمر عند سائر الصّحابة … ص: 204

وهكذا، فقد ردّ عليه سائر الصحابة أقواله وأبطلوا آرائه، قال السيوطي في كتاب (الإتقان في علوم القرآن):

«وإنْ عبّر واحد بقوله: نزلت في كذا، وصرّح الآخر بذكر سبب خلافه، فهو المعتمد، وذاك استنباط. مثاله: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال:

انزلت «نساؤكم حرثٌ لكم» في إتيان النساء في أدبارهنّ، وتقدّم عن جابر التصريح بذكر سبب خلافه، فالمعتمد حديث جابر، لأنّه نقل، وقول ابن عمر استنباط منه، وقد وهّمه فيه ابن عبّاس، وذكر مثل حديث جابر، كما أخرجه أبو داود والحاكم» «1».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 1: 117.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 205

عبداللَّه بن عمرو بن العاص … ص: 205
اشارة

وأمّا عبداللَّه بن عمرو بن العاص، فتفسيره كان «ممّا يحمله عن أهل الكتاب» كما نصَّ عليه السيوطي، وهذا يكفي للدلالة علي عدم الإعتبار بتفسيره.

وتوضيح ذلك: أنّهم ذكروا أنّه قد حصل في حرب اليرموك علي كتب لأهل الكتاب، فكان ينقل عنها الأخبار الإسرائيليّات ويحدّث بها، ولذا قسّموا الصحابي إلي من أخذ عن الإسرائيليّات ومن لم يأخذ، قال القاري:

«الذي عرف بالنظر في الإسرائيليّات، أي من كتب بني إسرائيل أو من أفواههم … كعبداللَّه بن سلام وكعبداللَّه بن عمرو بن العاص، فإنّه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من أهل الكتاب، وكان يخبر بما فيها من الامور المغيَّبة، حتّي كان بعض أصحاب رسول اللَّه ربّما قال: حدّثنا عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولا تحدّثنا من الصحيفة. ذكره السخاوي» «1».

وقال اللقاني في (الوطر من نزهة النظر):

«مثال الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليّات: أبوبكر وعمر وعثمان وعلي. ومثال من أخذ: عبداللَّه بن سلام، وقيل: عبداللَّه بن عمرو بن العاص، فإنّه لمّا فتح الشام، أخذ حمل بعير من كتب أهل الكتاب وكان يحدّث منها، فلذا

اتّقاه الناس فقلَّ حديثه، وإنْ كان أكثر حديثاً من أبي هريرة باعترافه،

__________________________________________________

(1) شرح شرح نخبة الفكر: 549.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 206

والمراد بها قصص بني إسرائيل وما جاء في كتبهم».

وعلي الجملة، فالرجل ممّن يُتّقي حديثه … فلا حاجة إلي ذكر سائر مطاعنه … ومع ذلك نذكر شيئاً منها:

خروجه لقتال الإمام في صفّين … ص: 206

ومن أعظم معاصيه، بل من أكبر الأدلّة علي كفره: خروجه لحرب أميرالمؤمنين عليه السلام في صفّين، ثمّ إنشاؤه الأشعار في التبجّح والافتخار بذلك!

فقد أخرج الحاكم في (المستدرك) قال:

«قال له أبوه يوم صفّين: أخرج فقاتل. قال: يا أبتاه، أتأمرني أن أخرج فاقاتل، وقد كان من عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ما قد سمعت، قال:

انشدك باللَّه، أتعلم أنّ ما كان من عهد رسول اللَّه إليك أنّه أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال: أطع أباك عمرو بن العاص؟ قال: نعم، قال: فإنّي آمرك أن تقاتل، قال: فخرج يقاتل، فلمّا وضعت الحرب، قال عبداللَّه:

لو شهدت جمل مقامي ومشهدي بصفّين يوم شاب منها الذوائب عشيّة جاء أهل العراق كأنّهم سحاب ربيع زعزعته الجنائب إذا قلت قد ولّوا سراعاً ثبتت لنا كتائب منهم وارجحنّت كتائب فقالوا لنا إنّا نري أن تبايعوا عليّاً فقلنا بل نري أنْ تضاربوا» «1»

وقال ابن الأثير في (اسد الغابة):

«وكانت معه راية أبيه يوم اليرموك، وشهد معه أيضاً صفّين، وكان علي __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 527 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 207

الميمنة، قال له أبوه: يا عبداللَّه، اخرج فقاتل.

فقال: يا أبتاه أتأمرني أنْ أخرج فاقاتل، وقد سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يعهد إليَّ ما عهد؟ قال: إنّي انشدك اللَّه يا عبداللَّه، ألم يكن آخر ما عهد إليك رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وسلّم أنْ أخذ بيدك ووضعها في يدي وقال: أطع أباك؟

قال: اللّهمّ بلي.

قال: فإنّي أعزم عليك أنْ تخرج فتقاتل.

فخرج وتقلّد سيفين.

وندم بعد ذلك، فكان يقول: مالي ولصفّين، مالي ولقتال المسلمين، لوددت أنّي متُّ قبله بعشرين سنة» «1».

قالوا: ولمّا عرض عمرو بن العاص علي أبي موسي ابنه عبداللَّه بن عمرو، قال أبو موسي: «قد غمست يده في هذه الفتنة، ولا يكون ذلك» «2».

هذا، وقد نصّ بعض علماء القوم علي أنّ محاربة الإمام أميرالمؤمنين من أعظم الكبائر «3».

تكذيب معاوية روايته … ص: 207

والعجب أنّه مع ذلك، يكذّبه معاوية في روايةٍ رواها، ويحذّر الناس من أن يقبلوها، فقد روي البخاري في (الصحيح):

__________________________________________________

(1) اسد الغابة في معرفة الصحابة 3: 246/ 3090.

(2) الفصول المهمّة: 99، تذكرة خواصّ الامّة في معرفة الأئمّة: 97.

(3) التحفة الإثنا عشريّة: 388.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 208

«عن الزهري قال: كان محمّد بن جبير بن مطعمٍ يحدّث أنّه بلغ معاوية- وهو عنده في وفدٍ من قريش- أنّ عبداللَّه بن عمرو بن العاص يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان.

فغضب معاوية، فقام فأثني علي اللَّه بما هو أهله ثمّ قال:

أمّا بعد؛ فإنّه بلغني أنّ رجالًا منكم يتحدّثون أحاديث ليست في كتاب اللَّه، لا تؤثر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأولئك جهّالكم، فإيّاكم والأماني التي تضلّ أهلها، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول:

إنّ هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلّاكبّه اللَّه علي وجهه ما أقاموا الدين» «1».

أقول:

فهذا مجمل أحوال المفسّرين عند القوم من الصحابة.

وإذا ثبت جرحهم، فلا حاجة إلي التكلّم في أحوال أئمّة التفسير منهم في سائر الطبقات، كما هو واضح.

ومع ذلك ننتقل إلي طبقة التابعين …

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 4: 217- 218 كتاب المناقب-

باب مناقب قريش.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 211

طبقة التابعين … ص: 211

اشارة

قال السيوطي:

«ومن ذلك طبقة التابعين.

قال ابن تيميّة: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنّهم أصحاب ابن عبّاس، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولي ابن عبّاس وسعيد بن جبير وطاووس وغيرهم. وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم، الذي أخذ عنه ابنه عبدالرحمان ابن زيد، ومالك بن أنس.

فمن المبرّزين منهم: مجاهد، قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهداً يقول: عرضت القرآن علي ابن عبّاس ثلاثين مرّة.

وعنه أيضاً قال: عرضت المصحف علي ابن عبّاس ثلاث عرضات، أقف عند كلّ آية منه وأسأله عنها، فيم نزلت وكيف كانت.

وقال خصيف: كان أعلمهم بالتفسير مجاهد.

وقال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.

وقال ابن تيميّة: ولهذا يعتمد علي تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم.

قلت: وغالب ما أورده الفريابي في تفسيره منه، وما أورده فيه عن ابن عبّاس أو غيره قليل جدّاً.

ومنهم: سعيد بن جبير، قال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 212

عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك.

وقال قتادة: كان أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام.

ومنهم: عكرمة مولي ابن عبّاس، قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة.

وقال سماك بن حرب: سمعت عكرمة يقول: لقد فسّرت مابين اللّوحين.

وقال عكرمة: كان ابن عبّاس يجعل في رجلي الكبل، ويعلّمني القرآن والسنن.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سماك قال: قال عكرمة: كلّ شي ء احدّثكم في القرآن فهو عن ابن عبّاس.

ومنهم: الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن أبي

سلمة الخُراساني، ومحمّد بن كعب القرظي، وأبوالعالية، والضحاك بن مزاحم، وعطيّة العوفي، وقتادة، وزيد بن أسلم، ومرّة الهمداني، وأبو مالك.

ويليهم: الربيع بن أنس، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، في آخرين.

فهؤلاء قدماء المفسّرين، وغالب أقوالهم تلقّوها عن الصحابة» «1».

__________________________________________________

(1) الاتقان في علوم القرآن 4: 240- 242.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 213

مجاهد … ص: 213
اشارة

أمّا مجاهد، الذي عرفته كما نقل السيوطي، بل نص الذهبي في (ميزان الإعتدال) علي إجماعهم علي إمامته وصحّة الإحتجاج به، وأنّه أحد الأعلام الأثبات، ونقل الشيخ عبدالحق الدهلوي بترجمته في (رجال المشكاة) عنه قوله: «كان ابن عمر يأخذ لي في الركاب ويسوّي عليَّ ثيابي».

تفسيره من أهل الكتاب … ص: 213

فقد أورده الذهبي في (ميزان الإعتدال)، وذكر أنّ ابن حبّان أدرجه في الضعفاء، قال:

«قال أبوبكر ابن عياش: قلت للأعمش: ما بال تفسير مجاهد مخالف، أو شي ء نحوه؟

قال: أخذها من أهل الكتاب» «1».

اشتماله علي المنكرات الشديدة … ص: 213

قال الذهبي:

«ومن أنكر ما جاء عن مجاهد في التفسير، في قوله «عسي أنْ يبعثك __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 439/ 7072.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 214

ربّك مقاماً محموداً» قال: يجلسه معه علي العرش» «1».

فيا سبحان اللَّه!! هذا حال تفسير أعلم التابعين بعلم التفسير، والتفسير الذي عرض علي ابن عبّاس ثلاثين مرّة!! وإذا كان هذا حاله فما ظنّك بسائر تفاسيرهم؟

نسبته المعصية إلي يوسف عليه السلام … ص: 214

وقال الرازي في (تفسيره) في قصّة يوسف عليه السلام:

«وأمّا الذين نسبوا المعصية إلي يوسف عليه السلام، فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان اموراً:

الأوّل: قالوا: إنّ المرأة قامت إلي صنم مكلّل بالدرّ والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب. فقال يوسف: لِمَ فعلت ذلك؟ قالت: أستحيي من إلهي أنْ يراني علي معصية. فقال يوسف: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحيي من إلهي القائم علي كلّ نفسٍ بما كسبت، فواللَّه لا أفعل ذلك أبداً.

قالوا: فهذا هو البرهان.

الثاني: نقلوا عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما أنّه تمثّل له يعقوب، فرآه عاضّاً علي أصابعه ويقول له: أتعمل عمل الفجّار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ قالوا: فاستحيي منه. وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومقاتل وقتادة والضحّاك وابن سيرين. قال سعيد بن جبير: تمثّل له يعقوب، فضرب في صدره، فخرجت شهوته من أنامله …» «2».

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 18: 120.

(2) تفسير الرازي 18: 120.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 215

وقد نصّ الرازي علي أنّ من نسب المعصية إلي يوسف فهو شرّ من إبليس، لإنّه- بعد أنْ ذكر شهادة اللَّه، وشهادة من شهد ببراءة يوسف، وكذا إقرار إبليس بذلك- قال:

«وعند هذا نقول: هؤلاء الجهّال الذين نسبوا إلي يوسف عليه السلام هذه الفضيحة، إنْ كانوا من أتباع دين

اللَّه تعالي، فليقبلوا شهادة اللَّه تعالي علي طهارته، وإنْ كانوا من أتباع إبليس وجنوده، فليقبلوا شهادة إبليس علي طهارته، ولعلّهم يقولون: كنّا في أوّل الأمر تلامذة إبليس، إلي أنْ تخرّجنا عليه، فزدنا عليه في السفاهة …» «1».

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 18: 117.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 216

عكرمة مولي ابن عبّاس … ص: 216
اشارة

وأمّا عكرمة، فإنّهم وإنْ ذكروا له محامد كثيرة ومناقب عالية، حتّي نقلوا عن الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة «1».

وعن سعيد بن جبير: أنّ عكرمة أعلم منه «2».

وعن البخاري وأبي حاتم وغيرهما: أنّه ثقة.

بل رووا عن يحيي بن معين قوله: «إذا رأيت إنساناً يقع في عكرمة وفي حمّاد بن سلمة، فاتّهمه علي الإسلام» «3».

بل عن شهر بن حوشب: «عكرمة حَبْرُ هذه الامّة» «4».

هو من أعلام الخوارج … ص: 216

لكنّ الرجل من أعلام الخوارج وكبار النواصب، وهذا ثابت مشهور عنه وممّا لا ريب فيه لأحدٍ، وقد نصَّ علي ذلك من الأئمّة أمثال: يحيي بن بكير، ومصعب الزبيري، وعطاء، وابن المديني، وأحمد، والحاكم، وأبي بكر الجعابي والرياشي، والذهبي، وابن خلّكان، وياقوت، والكرماني … وغيرهم ممّن __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 241.

(2) رجال المشكاة للشيخ عبدالحق الدهلوي- ترجمة عكرمة.

(3) تاريخ مدينة دمشق 41: 103/ 4743، تهذيب الكمال 7: 263/ 1482، سيرأعلام النبلاء 5: 31/ 9.

(4) ميزان الاعتدال 3: 93/ 5716.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 217

يطول المقام بذكرهم.

قوادحه كما في ميزان الاعتدال … ص: 217

وله قوادح ومعائب كثيرة أيضاً، ونحن نكتفي بإيراد ترجمته في (ميزان الإعتدال)، لاشتمالها علي طرفٍ من كلمات الأئمّة في ذمّه والطعن فيه:

«عفّان: ثنا وهيب، قال: شهدت يحيي بن سعيد الأنصاري وأيّوب، فذكرا عكرمة فقال يحيي: كذّاب. وقال أيّوب: لم يكن ج بكذّاب ج.

جرير بن يزيد عن يزيد، بن أبي زياد، عن عبداللَّه بن الحرث قال:

دخلت علي علي بن عبداللَّه، فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش، فقلت له:

ألا تتق اللَّه؟ فقال: إنّ هذا الخبيث يكذب علي أبي.

ويروي عن ابن المسيّب أنّه كذّب عكرمة.

الخصيب بن ناصح: ثنا خالد بن خداش: شهدت حمّاد بن زيد- في آخر يوم مات فيه- فقال: احدّثكم بحديث لم احدّث به قط، لأنّي أكره أن ألقي اللَّه ولم احدّث به، سمعت أيّوب يحدّث عن عكرمة قال: إنّما أنزل اللَّه متشابه القرآن ليضلّ به.

قلت: ما أسوءها عبارة بل أخبثها، بل أنزله ليهدي به، وليضلّ به الفاسقين.

فطر بن خليفة: قلت لعطاء: إنّ عكرمة يقول: قال ابن عبّاس: سبق الكتاب الخفّين. فقال: كذب عكرمة، سمعت ابن عبّاس يقول: لا بأس بمسح الخفّين وإن دخلت الغائط. قال عطاء:

واللَّه إن كان بعضهم ليري أنّ المسح علي القدمين يجزي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 218

إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس قال: لو أنّ مولي عبداللَّه بن عبّاس اتّقي اللَّه وكفّ من حديثه، لشدّت إليه المطايا.

مسلم بن إبراهيم: ثنا الصلت أبو شعيب قال: سألت محمّد بن سيرين عن عكرمة فقال: ما يسوءني أن يكون من أهل الجنّة، ولكنّه كذّاب.

إبراهيم بن المنذر: ثنا هشام بن عبداللَّه المخزومي، سمعت ابن أبي ذئب يقول: رأيت عكرمة وكان غير ثقة.

قال محمّد بن سعد: كان عكرمة كثير العلم والحديث، بحراً من البحور، وليس يحتجّ بحديثه، ويتكلّم النّاس فيه.

وقال مطرف بن عبداللَّه: سمعت مالكاً يكره أن يذكر عكرمة، ولا يري أن يروي عنه.

قال أحمد بن حنبل: ما علمت أنّ مالكاً حدّث بشي ء لعكرمة، إلّافي الرجل يطأ امرأته قبل الزيارة، رواه عن ثور عن عكرمة.

أحمد بن أبي خيثمة قال: رأيت في كتاب علي ابن المديني: سمعت يحيي بن سعيد يقول: حدّثوني- واللَّه- عن أيّوب أنّه ذكر له أنّ عكرمة لا يحسن الصلاة، فقال أيّوب: وكان يصلّي؟

الفضل السيناني عن رجل قال: رأيت عكرمة قد اقيم قائماً في لعب النرد.

يزيد بن هارون: قدم عكرمة البصرة، فأتاه أيّوب و يونس و سليمان التيمي فسمع صوت غناء فقال: اسكتوا، ثمّ قال: قاتله اللَّه، لقد أجاد. فأمّا يونس وسليمان فما عادا إليه.

عمرو بن خالد بمصر: حدّثنا خلّاد بن سليمان الحضرمي، عن خالد بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 219

أبي عمران قال: كنّا بالمغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم فقال: وددت أنّ بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالًا.

ابن المديني: عن يعقوب الحضرمي، عن جدّه قال: وقف عكرمة علي باب المسجد فقال: ما فيه

إلّاكافر. قال: وكان يري رأي الأباضية.

يحيي بن بكير، قال: قدم عكرمة مصر وهو يريد المغرب. قال:

فالخوارج الذين هم بالمغرب عنه أخذوا.

قال ابن المديني: كان يري رأي نجدة الحروري.

وقال مصعب الزبيري: كان عكرمة يري رأي الخوارج، وادّعي علي ابن عبّاس أنّه كان يري رأي الخوارج.

خالد بن يزيد ج نِزَار ج ثنا عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح: أنّ عكرمة كان أباضياً.

أبوطالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان عكرمة من أعلم النّاس، ولكنّه كان يري رأي الصفريّة، ولم يدع موضعاً إلّاخرج إليه: خراسان والشام واليمن ومصر وإفريقيّة، كان يأتي الامراء فيطلب جوائزهم، وأتي الجند إلي طاووس فأعطاه ناقة.

وقال مصعب الزبيري: كان عكرمة يري رأي الخوارج، فطلبه متولّي المدينة، فتغيّب عند داود بن الحصين حتّي مات عنده.

وروي سليمان بن معبد السنجي قال: مات عكرمة وكثير عزّة في يوم، فشهد النّاس جنازة كثير، وتركوا جنازة عكرمة.

وقال عبدالعزيز الدراوردي: مات عكرمة وكثير عزّة في يوم، فما شهدهما إلّاسودان المدينة.

إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن أبيه قال: اتي بجنازة عكرمة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 220

مولي ابن عبّاس وكثير عزّة بعد العصر، فما علمت أنّ أحداً من أهل المسجد حلّ حبوته إليهما.

قال جماعة: مات سنة خمس ومائة.

وقال الهيثم وغيره: سنة ست.

وقال جماعة: سنة سبع ومائة.

عن ابن المسيّب أنّه قال لمولاه برد: لا تكذب علَيّ كما كذب عكرمة علي ابن عبّاس» «1».

قوادحه كما في معجم الادباء … ص: 220

وقال ياقوت الحموي بترجمة عكرمة من (معجم الادباء):

«ومات- فيما قرأت بخط الصولي من كتاب البلاذري- سنة خمس ومائة، وقيل ست ومائة، وهو ابن ثمانين سنة.

قال: وكان موته وموت كثير عزّة في يوم واحد، فوضعا جميعاً وصلّي عليهما، وكان كثير شيعيّاً وعكرمة يري رأي الخوارج؛ ذكره الحاكم

أبو عبداللَّه محمّد بن عبداللَّه البيّع في تاريخ نيسابور.

وذكر القاضي أبوبكر محمّد بن عمر الجعابي- في كتاب الموالي- عن ابن الكلبي قال: وعكرمة هلك بالمغرب، وكان قد دخل في رأي الحروريّة الخوارج، فخرج يدعو بالمغرب إلي الحروريّة.

أبو علي الأهوازي قال: لمّا توفّي عبداللَّه بن عبّاس، كان عكرمة عبداً مملوكاً، فباعه علي بن عبداللَّه بن عبّاس من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فأتي عكرمة عليّاً فقال له: ما خير لك، أتبيع علم أبيك، فاستقال __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 94- 97/ 5716.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 221

خالداً فأقاله وأعتقه، وكان يري رأي الخوارج ويميل إلي استماع الغناء. وقيل عنه: إنّه كان يكذب علي مولاه.

وقال عبداللَّه بن الحارث: دخلت علي علي بن عبداللَّه بن عبّاس، وعكرمة موثّق علي باب الكنيف، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟ فقال: إنّ هذا يكذب علي أبي.

وقد قال ابن المسيّب لمولاه: لا تكذب علَيّ كما كذب عكرمة علي ابن عبّاس.

وقال يزيد بن هارون: قدم عكرمة مولي ابن عبّاس البصرة، فأتاه أيّوب السختياني وسليمان التيمي ويونس بن عبيد، فبينا هو يحدّثهم، إذ سمع غناء، فقال عكرمة: اسكتوا، فتسمّع ثمّ قال: قاتله اللَّه فلقد أجاد، أو قال: ما أجود ما قال. فأمّا سليمان ويونس فلم يعودا إليه، وعاد إليه أيّوب. فقال يزيد بن هارون: لقد أحسن أيّوب.

الرياشي: عن الأصمعي، عن نافع المدني قال: مات كثير الشاعر وعكرمة في يوم واحد.

قال الرياشي: فحدّثنا ابن سلام: أنّ أكثر النّاس كانوا في جنازة كثير، لأنّ عكرمة كان يري رأي الخوارج، وتطلّبه بعض الولاة، فتغيّب عند داود بن الحصين حتّي مات عنده سنة سبع ومائة في أيّام هشام بن عبدالملك، وهو يومئذٍ ابن ثمانين سنة.

حمّاد بن

زائدة: ثنا عثمان بن مرة قلت للقاسم: إنّ عكرمة مولي ابن عبّاس قال: ثنا ابن عبّاس أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عن المزفت والمُقَيَّر والدباء والحَنْثَم والجِرَار. فقال: يا ابن أخي! إنّ عكرمة كذّاب، يحدّث استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 222

غدوة حديثاً يخالفه عشيّاً.

يحيي بن بكير: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتّق اللَّه- ويحك يا نافع- ولا تكذب علَيّ كما كذب عكرمة علي ابن عبّاس.

يزيد بن أبي زياد ج عن عبداللَّه بن الحارث ج قال: دخلت علي علي بن عبداللَّه بن عبّاس، وعكرمة مقيّدٌ علي باب الحش، قلت: ما لهذا كذا؟ قال: إنّه يكذب» إنتهي بالإختصار «1».

__________________________________________________

(1) معجم الادباء 12: 182- 190/ 46.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 223

الحسنُ البَصري … ص: 223
اشارة

وأمّا الحسن، فمن أشهر الأئمّة وكبار الفقهاء والمحدّثين عندهم، وقد وصفوه بأعلي المناقب وأجلّ الفضائل، كما لا يخفي علي من راجع (تهذيب الكمال) و (تهذيب التهذيب) وغيرهما من كتب التراجم والرجال.

هو من القدريّة … ص: 223

لكنّه- بناءً علي اصولهم- محكومٌ عليه بالكفر، لأنّه كان لا يري الشرّ بقدرٍ من اللَّه، ومن قال بهذه المقالة فهو عندهم كافر … قال الذهبي في (تذهيب التهذيب):

«روي معمر عن قتادة عن الحسن قال: الخير بقدر والشرّ ليس بقدر.

قلت: هذه اللّفظة أبلغ ما نقل عن الحسن في القدر» «1».

ذم القدريّة في روايات القوم … ص: 223

ولا بأس بإيراد طرفٍ من الروايات الواردة في ذمّ القدريّة:

أخرج الترمذي:

«عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

صنفان من امّتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدريّة. وفي الباب __________________________________________________

(1) تذهيب التهذيب- مخطوط. تهذيب التهذيب 2: 236.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 224

عن عمر وابن عمر ورافع بن خديج. هذا حديث حسن غريب» «1».

وأخرج أبو داود:

«عن ابن عمر، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: القدريّة مجوس هذه الامّة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» «2».

وأخرج أيضاً:

«عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لكلّ امّة مجوس، ومجوس هذه الامّة الذين يقولون لا قدر؛ من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجّال، وحقّ علي اللَّه أن يلحقهم بالدجّال» «3».

وفي (التمهيد في بيان التوحيد):

«روي: إنّ رجلًا دخل علي عليّ بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه وقال:

أخبرني عن القدر.

فقال له: طريقٌ مظلم فلا تسلكه.

فسكت ساعة، ثمّ قال له: أخبرني عن القدر.

فقال: بحر عميقٌ لا تَلِجْهُ.

فسكت ساعة، ثمّ قال له: أخبرني عن القدر.

فقال: سرّ اللَّه فلا تُفشِه.

فسكت ساعة، ثمّ قال: أخبرني عن القدر.

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 4: 454/ 2149 كتاب القدر الباب 13.

(2) سنن أبي داود 5: 46/ 4691 كتاب السنة الباب 17.

(3) سنن أبي داود 5: 46/ 4692 كتاب السنة الباب 17.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 225

فبدأ علي رضي اللَّه عنه بالسؤال، فقال له: أخبرني مشيّتك مع مشيّة اللَّه أو دون مشيّة اللَّه؟

فتحيّر الرجل، فقال لعلي: قل أنت.

فقال له: إن قلت: بأنّ مشيّتي مع مشيّة اللَّه تعالي، فقد ادّعيت المشاركة مع اللَّه تعالي، وإن قلت: بأنّ مشيّتي دون مشيّة اللَّه، فقد ادّعيت الالوهيّة، فعلمت أنّ مشيّتك تحت مشيّة اللَّه.

فقال الرجل: تبت إلي اللَّه. وقام.

فقال عليّ رضي اللَّه عنه لأصحابه: قوموا وصافحوه، فإنّه الآن أسلم.

ففي هذا دليل علي أنّ من أنكر القدر يصير كافراً، ولأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: القدريّة مجوس هذه الامّة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشيّعوا جنائزهم، أولئك هم شيعة الدجّال، وحقّ علي اللَّه أن يلحقهم بالدجّال، ولأنّهم أنكروا النصّ، لأنّ اللَّه تعالي قال: «وما تشاؤون إلّاأن يشاءَ اللَّهُ»».

وجاء فيه أيضاً:

«فإن قال: بأنّ اللَّه تعالي لم يخلق الشر والكفر وذلك مخلوق غير اللَّه، فقد أثبت صانعاً وخالقاً غير اللَّه، فيكون مشركاً باللَّه تعالي ويكون كافراً، وإن قال: بأنّ الشرّ مخلوق اللَّه تعالي بدون إرادته ومشيّته، فقد اعتقد بأنّ اللَّه تعالي مجبور مكره في تخليقه، وهذا كفر؛ فثبت أنّ الكلّ بمشيّة اللَّه وبإرادته وقضاءه وقدره.

ومن أنكر القدر فهو كافر باللَّه العظيم» «1».

__________________________________________________

(1) التمهيد في بيان التوحيد: 24.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 226

وقال النووي في (المنهاج):

«قال الإمام- يعني إمام الحرمين- في كتاب الإرشاد في اصول الدين:

وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: القدريّة مجوس هذه الامّة، شبّههم بهم لتقسيمهم الخير والشرّ في حكم الإرادة كما قسمت المجوس، فصرفت الخير إلي يزدان والشر إلي أهرمن، ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدريّة» «1».

وفي (كنز العمّال):

«إنّ اللَّه عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً

قبلي إلّاكان في امّته من بعده مرجئة وقدريّة يشوشون عليه أمر امّته من بعده، ألا إنّ اللَّه عزّ وجلّ لعن المرجئة والقدريّة علي لسان سبعين نبيّاً، ألا وإنّ امّتي لُامّة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة وإنّما عذابها في الدنيا، ألا إنّ صنفين من امّتي لا يدخلون الجنّة:

المرجئة والقدريّة. ابن عساكر عن معاذ:

صنفان من امّتي لعنهم اللَّه علي لسان سبعين نبيّاً: القدريّة والمرجئة الذين يقولون: الإيمان إقرار ليس فيه عمل. الديلمي عن حذيفة» «2».

دفاع الذهبي عن الحسن البصري … ص: 226

ومن لطائف الامور: محاولة الذهبي للدفاع عن الحسن، بدعوي أنّه لمّا حوقق علي القول بالقدر تبرّأ من ذلك، قال الذهبي:

«الحسن بن يسار، مولي الأنصار، سيّد التابعين في زمانه بالبصرة، كان __________________________________________________

(1) شرح صحيح مسلم 1: 154 كتاب الإيمان- إثبات القَدَر.

(2) كنز العمّال 1: 135/ 635 و 636.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 227

ثقة في نفسه، حجّةً، رأساً في العلم والعمل، عظيم القدر. وقد بدت منه هفوة في القدر لم يقصدها لذاتها، فتكلّموا، فما ألتفت إلي كلامهم، لأنّه لمّا حوقق عليها تبرّأ منها» «1».

لكنْ ما معني «لم يقصدها لذاتها»؟ ألم يكن كلامه ظاهراً في معناه الذي فهمه القوم منه فتكلّموا فيه؟ إنّ ما يقوله الذهبي دعوي بلا دليل، بل هو مجرّد تخرّص وتخمين، بل هو أشبه بهذيان المجانين، ويكذّبه كلامه هو حيث قال بعد العبارة السابقة:

«قال حمّاد بن زيد عن أيّوب قال: كذب علي الحسن ضربان من الناس: قوم رأيهم القدر لينفقوه في الناس بالحسن، وقوم في صدورهم بغض له، وأنا نازلته في القدر غير مرّة حتّي خوّفته بالسلطان، فقال: لا أعود فيه بعد اليوم. وقال أيّوب: ولا أعلم أحداً يستطيع أنْ يعيب الحسن إلّابه، وأدركت الحسن- واللَّه- ما يقوله» «2».

وإذا

كان الحسن ينازله الرجال في القدر غير مرّة، ولا يرجع عن القول به إلّابعد التخويف بالسلطان، فما معني أنّه لم يكن قاصداً لما تفوَّه؟

وما ذكره الذهبي في الدفاع عنه من أنّه قد تاب عن المقالة المذكورة ورجع عنها، لا يرفع الإشكال، لأنّ الحسن من القائلين بالتقيّة إلي يوم القيامة، كما رواه البخاري عنه في (الصحيح) «3»، وأهل السنّة يقولون بعدم قبول التوبة ممّن يقول بالتقيّة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 527/ 1968.

(2) تذهيب التهذيب- مخطوط.

(3) صحيح البخاري 9: 25 كتاب الإكراه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 228

كان الحسن مدلّسا … ص: 228

وكان الحسن البصري يكثر التدليس في الحديث، نصَّ علي ذلك الذهبي «1».

وقال ابن حجر في (التقريب):

«وكان يرسل كثيراً ويدلّس. قال البزّار: كان يروي عن جماعةٍ لم يسمع منهم، فيتجوّز ويقول: حدّثنا وخطبنا، يعني قومه الذين حدّثوا وخطبوا بالبصرة» «2».

وفي (تهذيب التهذيب):

«قال ابن المديني: سمعت يحيي- يعني القطان- وقيل له: كان الحسن يقول: سمعت عمران بن حصين. قال: أمّا عن نفسه فلا. وقال ابن المديني وأبو حاتم: لم يسمع منه، وليس يصحّ ذلك من وجهٍ مثبت» «3».

هذا، وقد نصّ ابن حجر في (شرح نخبة الفكر) علي أنّ التدليس بصيغةٍ صريحة كذب «4»، وقد أوضح القاري في (شرحه) المراد من الصيغة الصريحة فقال: «وهي لفظة أخبرني أو حدّثني أو سمعته» «5».

وذكر ابن الجوزي أنّ التدليس من تلبيس إبليس، حيث قال في كتاب (تلبيس إبليس):

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 527/ 1968.

(2) تقريب التهذيب 1: 166/ 1357.

(3) تهذيب التهذيب 2: 234/ 488.

(4) شرح نخبة الفكر: 82.

(5) شرح شرح نخبة الفكر: 419.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 229

«ومن تلبيس إبليس علي علماء المحدّثين: رواية الحديث الموضوع من غير أنْ يبيّنوا أنّه موضوع، وهذه جناية

منهم علي الشرع، ومقصودهم تنفيق أحاديثهم وكثرة رواياتهم، وقد قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: من روي عنّي حديثاً يري أنّه كذب فهو أحد الكاذبين. ومن هذا الفن تدليسهم في الرواية، فتارة يقول أحدهم: فلان عن فلان، أو قال فلان عن فلان، يوهم أنّه سمع منه ولم يسمع، وهذا قبيح، لأنّه يجعل المنقطع في مرتبة المتّصل» «1».

وقال النووي في (شرح مسلم):

«التدليس قسمان: أحدهما: أن يروي عمّن عاصره ما لم يسمع منه، موهماً سماعه قائلًا: قال فلان أو عن فلان أو نحوه. وربّما يسقط شيخه أو أسقط غيره لكونه ضعيفاً أو صغيراً، تحسيناً لصورة الحديث، وهذا القسم مكروه جدّاً، ذمّه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدّهم ذمّاً له، وظاهر كلامه أنّه حرام وتحريمه ظاهر، فإنّه يوهم الإحتجاج بما لا يجوز الإحتجاج به، ويتسبّب أيضاً إلي إسقاط العمل بروايات نفسه، مع ما فيه من الغرور، ثمّ إنّ مفسدته دائمة، وبعض هذا يكفي في التحريم، فكيف باجتماع هذه الامور» «2».

لعبه بالشطرنج … ص: 229

وكان الحسن البصري يلعب بالشطرنج «3»، وقد ثبت في الأخبار أنّ اللّاعب بالشطرنج ملعون، إلي غير هذا من الأحاديث الواردة في تحريمه __________________________________________________

(1) تلبيس إبليس: 136- 137.

(2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 1: 33.

(3) حياة الحيوان 2: 62 «العقرب».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 230

وتحريم اللّعب به والنظر إليه …

نسبته المعصية إلي يوسف عليه السلام … ص: 230

وهو ممّن نسب المعصية إلي يوسف عليه السلام، كما عرفت من كلام الرازي، وعرفت أيضاً ما في هذه النسبة من كلامه.

فساد مذهبه يوجب الحكم بكفره … ص: 230

وعلي الإجمال، فقد كان هذا الرجل منحرفاً في العقيدة حتّي قالوا بكفره، وممّن نصَّ علي ذلك عبدالعزيز البخاري في (كشف الأسرار) حيث قال: «كثير من أصحاب الحديث قبلوا رواية سلفنا، كالحسن وقتادة وعمرو بن عبيد، مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم، وقد نصّوا علي ذلك» «1».

__________________________________________________

(1) كشف الأسرار- شرح اصول البزدوي 3: 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 231

عطاء بن أبي رباح … ص: 231
اشارة

وأمّا عطاء، فيكفيه فضلًا وفخراً: كونه شيخ الإمام الأعظم وما قاله أبو حنيفة في حقّه.

قال الذهبي في (ميزان الإعتدال):

«عطاء بن أبي رباح، سيّد التابعين علماً وعملًا وإتقاناً في زمانه بمكّة، روي عن عائشة وأبي هريرة والكبار، وعاش تسعين سنة أو أزيد، وكان حجةً، إماماً، كبير الشأن، أخذ عنه أبو حنيفة وقال: ما رأيت مثله» «1».

لعبه بالشطرنج … ص: 231

لكنّه كان يلعب بالشّطرنج، كما في (حياة الحيوان) «2». وقبائح الشطرنج كثيرة جدّاً، ولنذكر بعض ذلك فيما يلي من كتاب (كنز العمّال):

«ملعون من لعب بالشطرنج، والناظر إليها كالآكل لحم الخنزير. عبدان وأبو موسي وابن حزم عن حبة بن مسلم.

«ملعون من لعب بالشطرنج. الديلمي عن أنس.

«إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام والشطرنج والنرد وما كان من هذه، فلا تسلّموا عليهم، وإن سلّموا عليكم فلا تردّوا عليهم. الديلمي عن __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 70/ 5640.

(2) حياة الحيوان 2: 62.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 232

أبي هريرة.

«ألا إنّ أصحاب الشاه في النار، الذين يقولون قتلت واللَّه شاهك.

الديلمي عن ابن عبّاس.

إنّ اللَّه تعالي ينظر في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة، لا ينظر فيها إلي صاحب الشاه، يعني الشطرنج. الديلمي عن واثلة.

«إنّ للَّه تبارك لوحاً ينظر فيه في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة، يرحم بها عباده، ليس لأهل الشاه فيها نصيب. الخرائطي في مساوي الأخلاق عن واثلة.

«عن علي: النرد والشطرنج من الميسر. ش وابن المنذر وابن أبي حاتم ق.

«من لعب بالميسر ثمّ قام يصلّي، فمثله مثل الذي يتوضّأ بالقيح ودم الخنزير، فيقول اللَّه: لا يقبل له صلاة. طب عن أبي عبدالرحمن الخطمي.

«عن علي، أنّه مرّ علي قوم يلعبون بالشطرنج، فوثب عليهم فقال: أما واللَّه لغير هذا خلقتم، ولولا أن تكون سنّة لضربت بها وجوهكم. ق

كر.

«عن علي: إنّه مرّ علي قومٍ يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، لأنْ يمسّ أحدكم جمراً حتّي يطفي خير له من أن يمسّها. ش وعبد ابن حميد وابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم ق.

«عن علي قال: لا نسلّم علي أصحاب النردشير والشطرنج. كر.

«يأتي علي الناس زمانٌ يلعبون بها، ولا يلعب بها إلّاكلّ جبّار، والجبّار في النّار- يعني الشطرنج- ولا يوقّر فيه الكبير ولا يرحم فيه الصغير، يقتل بعضهم بعضاً علي الدنيا، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب، لا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 233

يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، يمشي الصالح فيهم مستخفّاً، أولئك شرار خلق اللَّه، لا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة. الديلمي عن أنس» «1».

هذا، وقد ذهب إلي حرمة الشّطرنج كافّة الأئمّة الأربعة، كما نصَّ علي ذلك صاحب (الصواقع) في فصل المكائد حيث قال:

«الثلاثون والمائة: طعن أهل السنّة بأنّهم يجوّزون اللّعب بالشطرنج، فإنّه ينخدع به أمرقعان، وهو افتراء، فإنّ اللّعب بالشطرنج حرام عند أبي حنيفة ومالك وأحمد علي الصحيح، وورد في حرمته أحاديث وآثار، وعند الشافعي في القول الأوّل مكروه، بشرط عدم إخراج الصّلوات عن وقتها، وإخلال تحفّظ الواجبات بواسطة الإشتغال به، وأن يخلو عن القمار، وأنْ لا يصير سبباً للنزاع والكذب، وأنْ لا يكون أسبابه مصوّرةً بصور الحيوانات، فإنْ فقد شي ء من هذه الشروط صار حراماً، وبالإصرار يصير كبيرةً. كذا في الإحياء،. وقد صحّ عن الشافعي أنّه رجع إلي قول الأئمّة الثلاثة، نصّ عليه الإمام أبو حامد الغزالي. واللّعب كلّه حرام عند أهل السنّة …» «2».

فظهر من هناك أنّ عطاء بن أبي رباح كان بعيداً عن الفضل والصّلاح، محروماً عن الرشد والفلاح، منحازاً

عن حيازة مغانم الأرباح، منهمكاً في الضلال والفسق والطلاح، حيث جوّز ما يلعن علي مرتكبه بالغداء والرواح.

تركه النهي عن المنكر … ص: 233

ومن قوادحه: إنّه لم ينكر علي خالد بن عبداللَّه القسري بدعته في مكّة

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 15: 215- 226.

(2) الصواقع الموبقة- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 234

المكرّمة، فقد جاء في كتاب (إتحاف الوري) ما نصّه:

«وقد فعل خالد بن عبداللَّه القسري بمكّة المشرّفة أفعالًا من غير معرفةٍ للسنّة التي فعل فيها، فأحببت ذكر ذلك هنا، لئلّا يخلو منه هذا الكتاب.

فمن ذلك: إنّ النّاس كانوا يقومون شهر رمضان في أعلي المسجد، تركز حربة خلف المقام بربوة، فيصلّي الإمام خلف الحربة والناس وراءه، فمن أراد صلّي مع الإمام، ومن أراد طاف وركع خلف المقام. فلمّا ولي خالد ابن عبداللَّه القسري بمكّة لعبدالملك بن مروان وحضر شهر رمضان، أمر خالد الأئمّة أنْ يتقدّموا فيصلّوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة، وذلك أنّ النّاس ضاق عليهم أعلا المسجد، فأدارهم حول الكعبة، فقيل له: يمتنع بذلك الناس من الطواف، قال: فأنا آمرهم يطوفون بين كلّ ترويحتين بطواف سبعاً، فأمرهم ففعلوا بين كلّ ترويحتين، فقيل له: فإنّه يكون في مؤخر الكعبة وجوانبها من لا يعلم بانقضاء طواف الطائفين من فصل وغيره، فيتهيّأ للصلاة، فأمر عبيد الكعبة أنْ يكبّروا حول الكعبة ويرفعوا أصواتهم في الطواف بالتكبير، فإذا بلغوا الركن الأسود في الطواف السادس سكتوا، فيكون ذلك إعلاماً للنّاس أنّ الطواف علي انقضاء، فيتهيّأ من في الحجر ومن في جوانب المسجد من مصلٍّ وغيره، فيخفّف صلاته، ثمّ يعود الطائفون للتكبير حتّي يفرغوا من السبع، ثمّ يقوم منادٍ فينادي: الصلاة رحمكم اللَّه، ولا تنقضي صلاتهم حتّي يطلع الفجر، وكان علي جبل أبي قبيس يرقب طلوع الفجر للمتسحرين،

فإذا بان له نادي: أمسكوا رحمكم اللَّه.

وكان عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ونظراؤهم من العلماء

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 235

يحضرون ذلك، فلا ينكرونه» «1».

كان يأخذ من كلّ أحدٍ ويروي المرسلات … ص: 235

قالوا: وكان عطاء بن أبي رباح متساهلًا في الرواية، يأخذ من كلّ أحدٍ، ويروي المراسيل، حتّي تكلّم فيه بعض الأئمّة، ففي (تدريب الراوي):

«تكلّم الحاكم علي مراسيل سعيد فقط دون سائر من ذكر معه، ونحن نذكر ذلك، فمراسيل عطاء قال ابن المديني: كان عطاء يأخذ من كلّ ضربٍ، مرسلات مجاهد أحبّ إليّ من مرسلاته بكثير. وقال أحمد بن حنبل:

مرسلات سعيد بن المسيّب أصحّ المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، ولا في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنّهما كانا يأخذان من كلّ أحد» «2».

وفي (ميزان الإعتدال):

«قال يحيي القطان: مرسلات مجاهد أحبّ إلينا من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ من كلّ ضرب. وقال أحمد: ليس في المرسل أضعف من مرسل الحسن وعطاء، كانا يأخذان عن كلّ أحد» «3».

بل لقد تركه بعض الأئمّة الكبار، وإنْ حاول الذهبي حمل الترك علي معنيً آخر، ففي (ميزان الإعتدال):

«روي محمّد بن عبدالرحيم عن علي بن المديني قال: كان عطاء بأخرة

__________________________________________________

(1) إتحاف الوري بأخبار ام القري- حوادث السنة: 93.

(2) تدريب الراوي- شرح تقريب النواوي 1: 203- 204.

(3) ميزان الاعتدال 3: 70/ 5640.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 236

قد تركه ابن جريج وقيس بن سعد. قلت: لم يَعْنِ الترك الإصطلاحي، بل عني أنّهما بطّلا الكتابة عنه، وإلّا فعطاء ثبت رضي» «1».

لكنّه حمل بارد جدّاً، لأنّ المتبادر من الترك في مثل هذه المواضع هو الترك الإصطلاحي، وهو عدم كونه أهلًا لأنْ يروي عنه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 70/ 5640.

استخراج المرام من استقصاء

الافحام، ج 2، ص: 237

عطاء بن أبي سلمة الخراساني … ص: 237

وأمّا عطاء بن أبي سلمة الخراساني، الذي ذكره السيوطي- بعد عطاء بن أبي رباح-، فلم أجده في الكتب الرجاليّة، نعم، لا يبعد أن يكون مراده عطاء ابن أبي مسلم الخراساني، فإنّه علي ما في (فتح الباري) وغيره كان له مصنَّف في التفسير، وقد وثّقه غير واحدٍ من الأعلام.

لكنْ في (ميزان الاعتدال) في ترجمته:

«وذكره العقيلي في الضعفاء، متشبّثاً بهذه الحكاية التي رواها حمّاد بن زيد عن أيّوب، حدّثني القاسم بن عاصم، قلت لسعيد بن المسيّب: إنّ عطاء الخراساني حدّثني عنك أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أمر الذي واقع أهله في رمضان بكفّارة الظهار. فقال: كذب، ما حدّثته، إنّما بلغني أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال له: تصدّق تصدّق.

وقد ذكر البخاري عطاء الخراساني في الضعفاء، فروي له هذا عن سليمان بن حرب عن حمّاد.

أحمد بن حنبل: ثنا عفّان، ثنا همام، أنا قتادة: أنّ محمّداً وعوناً حدّثاه أنّهما قالا لسعيد: إنّ عطاء الخراساني حدّثنا عنك في الذي وقع بأهله في رمضان، فأمره النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أن يعتق رقبة، فقال: كذب عطاء، إنّما قال له: تصدّق تصدّق.

وقال ابن حبّان في الضعفاء: أصله من بلخ، وعداده في البصريّين، وإنّما

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 238

قيل له الخراساني، لأنّه دخل خراسان وأقام بها مدّة طويلة ثمّ رجع إلي العراق، فنسب إلي خراسان، وكان من خيار عباد اللَّه، غير أنّه كان رديّ الحفظ، كثير الوهم، يخطئ ولا يعلم، فيحمل عنه، فلمّا كثُر ذلك في روايته بطل الإحتجاج به».

«قال الترمذي في كتاب العلل: قال محمّد يعني البخاري: ما أعرف لمالك رجلًا يروي عنه يستحقّ أن يترك حديثه، غير عطاء الخراساني. قلت:

ما شأنه؟ قال: عامّة

أحاديثه مقلوبة» «1».

وهذا أيضاً رأي السمعاني فيه، حيث قال:

«وكان من خيار عباد اللَّه، غير أنّه كان رديّ الحفظ، كثير الوهم، يخطئ ولا يعلم فحمل عنه، فلمّا كثر ذلك في روايته بطل الإحتجاج به» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 74- 75/ 5642.

(2) الأنساب 2: 337. «الخراساني».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 239

أبوالعالية … ص: 239

وأمّا أبوالعالية، الذي جاء بترجمته من (رجال المشكاة) للدهلوي:

«قالت حفصة بنت سيرين: سمعته يقول: قرأت القرآن علي عمر ثلاث مرّات، وزهد في الدنيا، وحجَّ خمساً وستّين حجّة» «1».

وفي (مرآة الجنان):

«أبوالعالية، رفيع بن مهران الرياحي، مولاهم، البصري، المقري ء المفسّر، وقد دخل علي أبي بكر، وقرأ القرآن علي ابي. قال أبوالعالية: كان ابن عبّاس يرفعني علي السرير وقريش أسفل. وقال أبوبكر ابن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير» «2».

وكذا في (تدريب الراوي) «3».

فقد أورده في (الميزان) وقال:

«قال ابن عدي: تُكلّم فيه من أجل حديث الضحك في الصّلاة» «4».

بل عن الشافعي أنّه تكلّم في حديثه كلّه وقال:

«حديث أبي العالية الرياحي رياح» «5».

__________________________________________________

(1) تحصيل الكمال في أسماء الرجال. رجال المشكاة، للشيخ عبدالحق الدهلوي.

(2) مرآة الجنان 1: 147 السنة 93.

(3) انظر تدريب الراوي 2: 400.

(4) ميزان الاعتدال 4: 543/ 10344.

(5) ميزان الاعتدال 2: 54/ 2790.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 240

وهذا الكلام- وإنْ حاول الذهبي تأويله- يدلُّ علي سقوط كافة روايات الرجل وعدم اعتباره عند الشافعي، ولذا قال السمعاني: «كان الشافعي سيّي ء الرأي فيه وفي رواياته» «1».

وفي (رسالة ترجيح مذهب الشافعي) للفخر الرازي:

«استدلّوا علي ضعف حرام بن عثمان بقول الشافعي: حديث حرام كاسمه حرام، وحديث الرياحي رياح، ومن روي عن أبي جابر البياضي بيّض اللَّه عينيه. ولمّا ثبت أنّ

العلماء رجعوا إلي فتواه في الجرح والتعديل، علمنا أنّ تقدّمه في علم الحديث كان معروفاً مسلّماً فيما بين النّاس».

وتكلّم ابن سيرين أيضاً في أبي العالية، بما لا يقبل الحمل والتأويل، فقد جاء في (العناية) بعد ما يرونه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله من الحديث: لا وضوء علي من نام قائماً أو قاعداً:

«فإنْ قيل: هذا الحديث غير صحيح، لأنّ مداره علي أبي العالية، وهو ضعيف عند النقلة، روي عن ابن سيرين أنّه قال: حدّث عمّن شئت إلّاعن أبي العالية، فإنّه لا يبالي عمّن أخذ، أي: لا يبالي أن يروي عن كلّ أحد …» «2».

__________________________________________________

(1) الأنساب 3: 111 الرياحي.

(2) العناية في شرح الهداية 1: 44 ط هامش فتح القدير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 241

الضحّاك بن مزاحم … ص: 241

وأمّا الضحاك بن مزاحم، فإنّهم وإنْ وثّقوه، وذكروا له مناقب كما في (مرآة الجنان) و (ميزان الاعتدال) وغيرهما من كتب الرجال «1».

لكنْ عن يحيي بن سعيد القطّان- الذي كان رأساً في الجرح والتعديل- أنّه ضعّفه. قال في (الميزان):

«قال يحيي بن سعيد: الضحاك ضعيفٌ عندنا … وكذا ابن عدي فإنّه قال:

الضحّاك بن مزاحم إنّما عرف بالتفسير، وأمّا رواياته عن ابن عبّاس وأبي هريرة وجميع من روي عنه، ففي ذلك كلّه نظر» «2».

وكذا شعبة، ففي (الكاشف):

«وقال شعبة: كان عندنا ضعيفاً» «3».

بل السيوطي نفسه نقل عن ابن الجوزي تضعيفه وأقرّه علي ذلك، كما في (اللآلي المصنوعة) في نزول قوله تعالي: «ومن يتّق اللَّه يجعل له مخرجاً..» الآية: «الضحاك ضعيف، ولم يسمع من ابن عبّاس».

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 1: 169 السنة 102، ميزان الاعتدال 2: 325/ 3942، تهذيب التهذيب 4: 397/ 794.

(2) ميزان الاعتدال 2: 326/ 3942.

(3) الكاشف 2: 36/ 2458.

استخراج المرام من استقصاء الافحام،

ج 2، ص: 242

عطيّة بن سعد العوفي … ص: 242

وأمّا عطيّة، فإنّه وإنْ ذكره السيوطي في عداد قدماء المفسّرين، إلّاأنّ نقدة الحديث والرجال قد تكلّموا فيه، ويكفي إيراد كلام الذهبي بترجمته من (ميزان الإعتدال) فإنّه قال:

«عطيّة بن سعد العوفي الكوفي، تابعي شهير، ضعيف، عن ابن عبّاس وأبي سعيد وابن عمر. وعنه: مسعر وحجاج بن أرطاة وطائفة وابنه الحسن.

قال أبو حاتم: يكتب حديثه، ضعيف.

وقال سالم المرادي: كان عطيّة يتشيّع.

وقال ابن معين: صالح.

وقال أحمد: ضعيف الحديث، وكان هُشيم يتكلّم في عطيّة.

وروي ابن المديني عن يحيي قال: عطيّة وأبو هارون وبشر بن حرب عندي سواء.

وقال أحمد: بلغني أنّ عطيّة كان يأتي الكلبي فيأخذ منه التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد. قلت: يعني يوهم أنّه الخدري.

وقال النسائي وجماعة: ضعيف» «1».

بل ادّعي ابن الجوزي الإجماع علي تضعيفه في كتاب (الموضوعات) «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 79- 80/ 5667.

(2) الموضوعات 1: 114 باب عظمة اللَّه عزّوجل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 243

قتادة … ص: 243
اشارة

وأمّا قتادة، فإنّه وإنْ وُصف ب «الحافظ أحد الأئمّة الأعلام» «1» وأنّه «ثقة ثبت» «2» وذكر بتراجمه مناقب كثيرة «3» بل قيل أنّهم أجمعوا علي جلالته وتوثيقه وحفظه وإتقانه وفضله «4» …

كان يتّهم بالقدر … ص: 243

لكنّ المحققين النقدة منهم لم يستحيوا من قول الحق وإظهار الحقيقة، فقالوا: كان يتّهم بالقدر، وقد عرفت أنّه الكفر والضلال عندهم، وأضاف بعضهم أنّه كان حاطب ليلٍ، وهو من عبائر التضعيف والقدح … قال الذهبي:

«كان قتادة يتّهم بالقدر.

وقال ابن المديني: قلت ليحيي بن سعيد: إنّ عبدالرحمان يقول: أترك ج كلّ ج من كان رأساً في بدعة يدعو إليها. قال: كيف يصنع بقتادة وابن أبي رواد وعمر بن ذر، وذكر قوماً. ثمّ قال يحيي: إن ترك هذا الضرب ترك ناساً كثيراً.

__________________________________________________

(1)

فيض القدير 1: 156.

(2) تقريب التهذيب 2: 130/ 6199.

(3) تهذيب الكمال 23: 498/ 4848، مرآة الجنان 1: 197 السنة 117 تهذيب التهذيب 8: 315/ 637.

(4) تهذيب الأسماء واللغات 2: 57/ 66.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 244

كان كحاطب ليل … ص: 244

وقال جرير بن عبدالحميد عن مغيرة عن الشعبي قيل له: هل رأيت قتادة؟ قال: نعم رأيته كحاطب ليل.

وقال سفيان بن عيينة: قال الشعبي لقتادة: حاطب ليل. قال سفيان: قال لي عبدالكريم الجزري: ما حاطب ليل؟ قلت: إلّاأن تخبرني. قال: هو الرجل يخرج في الليل يحتطب، فتقع يده علي أفعي فتقتله. هذا مثل ضرب لطالب العلم، إنّ طالب العلم إذا حمل من العلم ما لا يطيقه قتله علمه، كما قتل الأفعي حاطب ليل» «1».

كان يدلّس … ص: 244

والذهبي نسب إليه التدليس أيضاً حيث قال في (الميزان):

«قتادة بن دعامة السدوسي، حافظ ثقة ثبت، لكنّه مدلّس ورمي بالقدر.

قاله يحيي بن معين. ومع هذا فاحتجّ به أصحاب الصحاح، لاسيّما إذا قال حدّثنا. مات كهلًا» «2».

وقال ابن خلكان:

«قال معمر: سألت أباعمرو بن العلاء عن قوله تعالي: «وما كنّا له مقرنين» فلم يجبني. فقلت: إنّي سمعت قتادة يقول: مُطِيقين. فسكت، فقلت له: ما تقول يا أبا عمرو؟ فقال: حسبك قتادة، فلولا كلامه في القدر- وقد قال __________________________________________________

(1) انظر سير أعلام النبلاء 5: 278 و 272/ 132.

(2) ميزان الاعتدال 3: 385/ 6864.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 245

صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا ذكر القدر فأمسكوا- لما عدلت به أحداً من أهل دهره» «1».

قصّة أبي حنيفة معه … ص: 245

هذا، وقد جاء في (تاريخ بغداد) ما نصّه:

«ودخل قتادة الكوفة ونزل في دار أبي بردة، فخرج يوماً- وقد اجتمع إليه خلق كثير- فقال قتادة: واللَّه الذي لا إله إلّاهو، ما يسألني اليوم أحد عن الحلال والحرام إلّاأجبته.

فقام إليه أبو حنيفة فقال: يا أباالخطّاب! ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواماً، فظنّت امرأته أنّ زوجها مات، فتزوّجت، ثمّ رجع زوجها الأوّل، ما تقول في صداقها؟ وقال لأصحابه الذين اجتمعوا إليه: لئن حدّث بحديث ليكذبنّ، ولئن قال برأيه ليخطئنّ.

فقال قتادة: ويحك! أوقعت هذه المسألة؟

قال: لا.

قال: فلم تسألني عمّا لم يقع؟

قال أبو حنيفة: إنّا نستعدّ للبلاء قبل نزوله، فإذا وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه.

ج فقال ج قتادة: واللَّه لا احدّثكم بشي ء من الحلال والحرام، سلوني عن التفسير.

فقام إليه أبو حنيفة فقال له: يا أباالخطّاب! ما تقول في قوله تعالي:

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 4: 85/ 541.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 246

«قال الذي عنده علمٌ من

الكتاب أنا آتيك به قبلَ أنْ يرتدَّ إليكَ طَرْفُكَ»؟

قال: نعم، هذا آصف بن برخيا بن سمعيا كاتب سليمان بن داود، كان يعرف اسم اللَّه الأعظم.

فقال أبو حنيفة: وهل كان يعرف الإسم سليمان؟

قال: لا.

قال: فيجوز أن يكون في زمن نبي من هو أعلم من النبي؟

قال قتادة: واللَّه لا احدّثكم بشي ء من التفسير، سلوني عمّا اختلف فيه العلماء.

قال: فقام إليه أبو حنيفة فقال: يا أباالخطّاب! أمؤمن أنت؟

قال: أرجو.

قال: ولِمَ؟

قال: يقول إبراهيم عليه السلام «والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين».

فقال أبو حنيفة: هلّا قلت كما قال إبراهيم عليه السلام: «قال أولم تؤمن قال بلي» فهلّا قلت: بلي؟

قال: فقام قتادة مغضباً ودخل الدّار، وحلف أن لا يحدّثهم» «1».

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13: 348- 349/ 7297.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 247

زيد بن أسلم … ص: 247

وأمّا زيد بن أسلم، فيكفي عن ذكر مناقبه كما في (تهذيب الأسماء) «1» كونه مولي عمر بن الخطّاب، لأنّ هذه العلقة- كما ذكر الدهلوي في (التحفة)- توجب الاتّحاد بين المالك والمولي في العقيدة والطريقة.

والأهم من ذلك دعواهم حضور الإمام علي بن الحسين السجّاد عليه السلام عنده للإستفادة، حتّي قيل له: «غفر اللَّه لك، أنت سيّد النّاس وأفضلهمْ، تذهب إلي زيد بن أسلم وهو مولي فتجلس معه؟» فقال: «ينبغي للعلم أنْ يبتغي حيث هو»!! قالوا: «وكان يتخطّي حلق قومه حتّي يأتي زيد بن أسلم فيجلس عنده ويقول: إنّما يجلس الرجل إلي من ينفعه في دينه».

هكذا في (تحصيل الكمال في أسماء الرجال) «2».

وأعوذ باللَّه من هذا البهتان الذي افتراه أهل الضّلال، تنقصياً من شأن الإمام عليه السلام.

كما لا يخفي علي اولي الأبصار والأفهام …

لكن ابن عدي أدرج زيداً في كتاب (الكامل) «3» الذي صنّفه في أسماء الضعفاء، وهو

كما قال المناوي في (فيض القدير):

__________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 1: 200/ 185.

(2) تحصيل الكمال في أسماء رجال المشكاة للشيخ عبدالحق الدهلوي- ترجمة زيد بن أسلم.

(3) الكامل في ضعفاء الرجال 4: 163/ 704.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 248

«أصل من الاصول المعوّل عليها المرجوع إليها، طابق اسمه معناه، ووافق لفظه فحواه، من عينه انتجع المنتجعون، وبشهادته حكم الحاكمون، وإلي ما قاله رجع المتقدّمون والمتأخّرون» «1».

وهذا ما أزعج الذهبي فقال:

«زيد بن أسلم مولي عمر، تناكد ابن عدي بذكره في الكامل. فإنّه ثقة حجّة. فروي عن حمّاد بن زيد قال: قدمت المدينة وهم يتكلّمون في زيد بن أسلم، فقال لي عبيداللَّه بن عمر: ما نعلم به بأساً إلّاأنّه يفسّر القرآن برأيه» «2».

فقد اعترض الذهبي علي ابن عدي ذكره في الضعفاء، إلّاأنّه أضاف إلي ذلك «تكلّم أهل المدينة في زيد بن أسلم» وروي عن عبيداللَّه بن عمر أنّه «كان يفسّر القرآن برأيه» وهذا يكفي لسقوط تفسيره عن الاعتبار، وقد أخرج الترمذي:

«عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

اتّقوا الحديث عنّي إلّاما علمتم، فمن كذب علَيّ متعمّداً فليتبوّء مقعده من النّار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّء مقعده من النّار. هذا حديث حسن» «3».

__________________________________________________

(1) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 28- 29.

(2) ميزان الاعتدال 2: 98/ 2989.

(3) صحيح الترمذي 5: 199/ 2951 كتاب تفسير القرآن الباب 1.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 249

مُرّة بن شراحيل … ص: 249

وأمّا مرّة بن شراحيل، فلا يجوز الإعتماد عليه والأخذ بتفسيره، لأنّه كان من المعاندين لأميرالمؤمنين عليه السلام في حربه ضدّ الناكثين … قال أبو نعيم:

«حدّثنا عبداللَّه بن محمّد قال: ثنا أحمد بن الحسين قال: ثنا أحمد بن إبراهيم

الدورقي قال: حدّثني عبدالرحمن بن غزوان قال: ثنا محمّد بن طلحة ابن مصرف عن زبيد الأيامي قال: قيل لمرّة بن شراحيل: ألا تلحق بعليّ بصفّين؟ قال: إنّ عليّاً سبقني بخير أعماله، بدرٍ وذواتها، وأنا أكره أنْ أشركه فيما هان فيه» «1».

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 4: 163/ 269.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 250

عبدالرحمن بن زيد بن أسلم … ص: 250

وأمّا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، فقد أورده الذهبي في (الميزان) فقال:

«عبدالرحمن بن زيد بن أسلم العمري مولاهم المدني، أخوعبداللَّه واسامة.

قال أبو يعلي الموصلي: سمعت يحيي بن معين يقول: بنو زيد بن أسلم ليسوا بشي ء. وروي عثمان الدارمي عن يحيي: ضعيف. وقال أحمد: عبداللَّه ثقة، والآخران ضعيفان» «1».

وفي (الكاشف):

«ضعّفوه. له تفسير» «2».

وفي (حاشية الكاشف):

«قال البخاري وأبو حاتم: ضعّفه ابن المديني جدّاً وقال: أولاد زيد بن أسلم كلّهم ضعيف وأمثلهم عبداللَّه. وقال النسائي: ضعيف، وقال يحيي: ليس بشي ء، وقال أحمد: ضعيف» «3».

وقال ابن حجر: «ضعيف» «4».

وقال ابن القيّم في (زاد المعاد): «قال الترمذي: ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 564/ 4868.

(2) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة 2: 160/ 3228.

(3) حاشية الكاشف- مخطوط.

(4) تقريب التهذيب 1: 448/ 4312.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 253

الطبقة الثالثة … ص: 253

اشارة

قال السيوطي:

ثمّ بعد هذه الطبقة، الّفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبدالرزاق، وآدم بن أبي أياس، وإسحاق بن راهويه، وروح بن عبادة، وعبد بن حميد، وسُنيد، وأبي بكر بن أبي شيبة، وآخرين «1».

أقول:

وتفاسير هذه الطبقة أيضاً مقدوحة مطعون فيها، وكتب الرجال بجوارح أصحابها مشحونة، وإليك أحوال بعضهم:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 242.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 254

سفيان بن عيينة … ص: 254
اشارة

أمّا سفيان بن عيينة، فقد ذكروا:

كان يدلّس … ص: 254

إنّه كان يدلّس … قال القاري في (شرح شرح نخبة الفكر):

«قال الشيخ شمس الدين محمّد الجزري: التدليس قسمان: تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ. أمّا تدليس الإسناد، فهو أن يروي عمّن لقيه أو عاصره ما لم يسمعه منه، موهماً أنّه سمعه منه، ولا يقول: أخبرنا وما في معناه، بل يقول: قال فلان، أو عن فلان، أو إنّ فلاناً قال، وما أشبه ذلك، ثمّ قد يكون بينهما واحد، وقد يكون أكثر، وربّما لم يسقط المدلّس شيخه، لكن يسقط من بعده رجلًا ضعيفاً أو صغير السنّ، يحسّن الحديث بذلك. وكان الأعمش والثوري وابن عيينة وابن إسحاق وغيرهم يفعلون هذا النوع. ومن ذلك ما حكي ابن خشرم: كنّا يوماً عند سفيان بن عيينة فقال: عن الزهري، …

فقيل له: حدّثك الزهري؟ فسكت. ثمّ قال: قال الزهري، فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: حدّثني عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري» «1».

__________________________________________________

(1) شرح شرح نخبة الفكر: 420.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 255

من كلماتهم في ذمّ التدليس … ص: 255

هذا، وقد نقلنا سابقاً كلمات بعض أعلام القوم في ذمّ التدليس وتقبيحه وتحريمه، وعن شعبة: أنّه أشدّ من الزنا وأخو الكذب، قال السيوطي في أقسام التدليس:

«وأمّا القسم الأوّل فمكروه جدّاً، ذمّه أكثر العلماء، وبالغ شعبة في ذمّه فقال: لأنْ أزني أحبُّ إليَّ من أنْ ادلّس. وقال: التدليس أخو الكذب» «1».

وأمّا قول ابن الصلاح من أنّ هذا إفراط، وإنّه محمول علي الزجر والتنفير من التدليس، كما نقله السيوطي، ففيه: إنّه إنْ أراد صرف كلام شعبة عن ظهوره في حرمة التدليس، فلا سبيل إليه أصلًا، وقد تقدّم تصريح النووي بحرمته، وتقدّم أنّه من تلبيس إبليس كما نصّ عليه ابن الجوزي، علي أنّ جماعةً من المحدّثين ذهبوا إلي أنّ ارتكاب التدليس- ولو كان

مرّةً واحدة- يوجب الجرح وتردّ به الرواية، كما في (تدريب الراوي) حيث قال:

«ثمّ قال فريق منهم من أهل الحديث والفقهاء: من عرف به صار مجروحاً مردود الرواية مطلقاً وإنْ بيّن السماع» «2».

ومراده من «مطلقاً» هو عدم الفرق بين التدليس مرّةً أو أكثر، وهذا ما نصَّ عليه شرّاح (نخبة الفكر).

وقال ابن جماعة الكناني في (المنهل الروي):

«النوع الرابع: التدليس، وهو قسمان: تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ.

__________________________________________________

(1) تدريب الراوي- شرح تقريب النواوي 1: 228.

(2) تدريب الراوي- شرح تقريب النواوي 1: 229.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 256

الأوّل: تدليس الإسناد، وهو أنْ يروي عمّن لقيه أو عاصره ما لم يسمعه منه، موهماً أنّه سمعه منه، ولا يقول أخبرنا وما في معناه ونحوه، بل يقول: قال فلان أو عن فلان أو إنّ فلاناً قال، وشبه ذلك. ثمّ قد يكون بينهما واحد، وقد يكون أكثر.

وهذا القسم من التدليس مكروه جدّاً، وفاعله مذموم عند أكثر العلماء، ومن عرف به مجروح عند قومٍ لا تقبل روايته، بيّن السماع أو لم يبيّنه» «1».

وتلخص:

إنّ سفيان بن عيينة عند هذا الفريق من الفقهاء والمحدّثين مجروح مردود الرواية، وعند الأكثر مذموم مطعون فيه.

اختلط في آخر عمره … ص: 256

ثمّ إنّه قد اختلط في أواخر حياته، كما نصّ عليه علماء الرجال، قال الذهبي:

«روي محمّد بن عبداللَّه بن عمّار الموصلي، عن يحيي بن سعيد القطّان قال: أشهد أنّ سفيان بن عيينة اختلط سنة 197، فمن سمع منه فيها فسماعه لا شي ء».

ثمّ انبري الذهبي للدفاع عن روايات القوم عن سفيان، مستبعداً كلام القطّان، ومغلّطاً الموصلي في نقله- وقد قال الزهري في حقّه: صدوق ثقة صاحب حديث «2» - فقال:

__________________________________________________

(1) المنهل الروي في علم اصول حديث النبي: 72.

(2) ميزان الاعتدال- ترجمة محمّد بن عبداللَّه بن عمّار

3: 596/ 7753. وفيه: قال النسائي: ثقة صاحب حديث.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 257

«قلت: سمع منه فيها محمّد بن عاصم صاحب ذاك الجزء العالي، ويغلب علي ظنّي أنّ سائر شيوخ الأئمّة الستّة سمعوا منه قبل سنة سبع، فأمّا سنة ثمان وتسعين ففيها مات ولم يلقه أحد فيها، لأنّه توفّي ج بمكّة ج قبل قدوم الحاجّ بأربعة أشهر.

وأنا أستبعد هذا الكلام من القطّان، وأعدّه غلطاً من ابن عمّار، فإنّ القطّان مات في صفر من سنة ثمان وتسعين وقت قدوم الحاج، ووقت تحدّثهم عن أخبار الحجاز، فمتي تمكّن يحيي بن سعيد أن يسمع اختلاط سفيان ثمّ يشهد عليه بذلك، والموت قد نزل به، فلعلّه بلغه ذلك في أثناء سنة سبع، مع أنّ يحيي متعنّت جدّاً في الرجال، وسفيان ثقة مطلقاً، واللَّه أعلم» «1».

لكنْ كيف يجتمع هذا التهجّم علي يحيي بن سعيد القطّان، مع تلك المناقب الجليلة والدرجات الرفيعة التي يذكرونها، له في العلم والورع والإتقان، حتّي قال أحمد بن حنبل: «ما رأيت مثله في كلّ أحواله»؟

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال- ترجمة سفيان بن عيينة 2: 170- 171/ 3327.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 258

وكيع بن الجرّاح … ص: 258
اشارة

وأمّا وكيع بن الجرّاح … والذي قال اليافعي في حوادث سنة 197:

«وفيها توفي الإمام العالم أبو سفيان وكيع بن الجراح. روي عن الأعمش، قال أحمد: ما رأيت أوعي للعلم ولا أحفظ من وكيع … وقال يحيي ابن أكثم: صحبت وكيعاً، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كلّ ليلة. وقال أحمد: ما رأت عيني مثل وكيع» «1».

له قوادح … ص: 258

وقد ذكرت له قوادح، وتكلّم فيه بعض الأكابر منهم، ومن هنا، فقد أورده الذهبي في (الميزان) فقال:

«قال ابن المديني: كان وكيع يلحن، ولو حدّثت بألفاظه لكانت عجباً.

كان يقول: ثنا شعبي عن عيشة، وسئل أحمد بن حنبل: إذا اختلف وكيع وعبدالرحمان ابن مهدي بقول من نأخذ؟ فقال: عبدالرحمن يوافق أكثر وخاصّةً في سفيان، وعبدالرحمن يسلم منه السلف ويجتنب شرب المسكر، وكان لا يري أن تزرع أرض الفرات. قال ابن المديني في التهذيب: وكيع كان فيه تشيّع قليل. قال ابن حنبل: سمعت يحيي بن معين يقول: رأيت عند مروان بن معاوية لوحاً فيه فلان كذا وفلان رافضي، ووكيع رافضي، فقلت له:

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 1: 350- 351.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 259

وكيع خير منك. قال: منّي؟ قلت: نعم، فما قال لي شيئاً، ولو قال شيئاً لوثب عليه أصحاب الحديث، فبلغ ذلك وكيعاً فقال: يحيي صاحبنا» «1».

وإنّما نسب إلي الرفض، لأنّه كان يتكلّم في عثمان ولا يترحّم عليه، ففي ترجمة الحسن بن صالح من (ميزان الإعتدال) وغيره:

«قال وكيع: هو عندي إمام. فقيل: إنّه لا يترحّم علي عثمان. فقال:

أفتترحّم أنت علي الحجّاج» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الإعتدال 4: 336/ 9356.

(2) ميزان الإعتدال- ترجمة الحسن بن صالح 1: 499/ 1869.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 260

عبدالرزّاق بن همام … ص: 260

وأمّا عبدالرزاق بن همام … فقد ذكرت له المناقب العظيمة والفضائل الجليلة في مختلف الكتب، نكتفي منها بما جاء في (مرآة الجنان) حيث قال اليافعي في حوادث السنة 211:

«وفي السنة المذكورة: توفي الحافظ العلّامة المرتحل إليه من الآفاق، الشيخ الإمام عبدالرزاق بن همام، اليمني الصنعاني الحميري، صاحب المصنّفات، عن ست وثمانين سنة. روي عن: معمر وابن جريج والأوزاعي وطبقتهم. ورحل إليه الأئمّة إلي اليمن.

قيل: ما رحل النّاس إلي أحد بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مثل ما رحلوا إليه. وروي عنه خلائق من أئمّة الإسلام، منهم: الإمام سفيان بن عيينة، والإمام يحيي بن معين، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، ومحمود بن غيلان» «1».

وفي (ميزان الاعتدال):

«ج ع ج عبدالرزاق بن همام بن نافع، الإمام، أبوبكر، الحميري مولاهم، الصنعاني، أحد الأعلام الثقات. ولد سنة 126 وطلب العلم وهو ابن عشرين سنة فقال: جالست معمر بن راشد سبع سنين، وقدم الشام بتجارة فحجّ، وسمع من ابن جريج وعبيداللَّه بن عمر وعبداللَّه بن سعيد بن أبي هند وثور بن يزيد والأوزاعي وخلق، وكتب شيئاً كثيراً، وصنّف الجامع الكبير، وهو خزانة

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 2: 40.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 261

علم، ورحل النّاس إليه: أحمد وإسحاق ويحيي والذهلي والرمادي وعبد» «1».

ومع هذا كلّه، فقد تكلّم فيه بعض الأئمّة واتّهمه غيره بالكذب!

قال الذهبي:

«أبو زرعة عبيداللَّه: حدّثنا عبداللَّه المسندي قال: ودّعت ابن عيينة فقلت: اريد عبدالرزاق، قال: أخاف أن يكون من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا.

العقيلي: حدّثني أحمد بن دكين ج زُكير ج الحضرمي، ثنا محمّد بن إسحاق بن يزيد البصري، سمعت مخلد الشعيري يقول: كنت عند عبدالرزاق، فذكر رجل معاوية، فقال: لا تقذر مجلسنا بذكر ولد أبي سفيان.

محمّد بن عثمان الثقفي البصري قال: لمّا قدم العباس بن عبدالعظيم من صنعاء، من عند عبدالرزاق، أتيناه فقال لنا ونحن جماعة: ألست قد تجشّمت الخروج إلي عبدالرزاق ورحلت إليه وأقمت عنده؟ والذي لا إله إلّاهو: إنّ عبدالرزّاق كذّاب …» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 609/ 5044.

(2) ميزان الاعتدال 2: 610- 611/ 5044.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 262

إسحاق بن راهويه … ص: 262

وأمّا إسحاق بن راهويه …

فإنّه وإنْ كان من الأئمّة الأعلام والمحدّثين العظام، لكنّه تغيّر في آخر عمره واختلط. قال في (الميزان):

«قال أبو عبيداللَّه الآجري: سمعت أبا داود يقول: إسحاق بن راهويه تغيّر قبل أن يموت بخمسة أشهر، وسمعت منه في تلك الأيّام فرميت به».

قال:

«وذكر لشيخنا أبي الحجّاج حديث فقال: قيل: إسحاق اختلط في آخر عمره» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 183/ 733.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 263

روح بن عبادة … ص: 263

وأمّا روح بن عبادة، وقد أثني عليه جماعة من الأكابر كما في (تذهيب التهذيب) حيث قال:

«روح بن عبادة بن العلاء بن حسان القيسي، أبو محمّد، البصري، أحد الحفّاظ والرؤساء، عن حسين المعلم وابن عون وهشام بن حسان وحاتم بن أبي صغيرة وزكريا بن إسحاق وابن جريج وعوف الأعرابي وخلق كثير، وعنه:

أحمد وابن راهويه وإسحاق الكوسج وإبراهيم الجوزجاني وعبد بن حميد وأبوبكر الصاغاني ويحيي بن أبي طالب، وخلائق من آخرهم الكديمي.

قال الكديمي: سمعت علي بن المديني يقول: نظرت لروح بن عبادة في أكثر من مائة ألف حديث، كتبت منها عشرة آلاف.

قال يعقوب بن شبية: كان روح أحد من تحمّل الحمالات، وكان سريّاً مريّاً كثير الحديث جدّاً، صدوقاً، سمعت علي بن عبداللَّه يقول: من المحدّثين قوم لا يزالوا في الحديث … فطلبوا ثمّ صنّفوا ثمّ حدّثوا، منهم روح بن عبادة.

وقال ابن معين: صدوق» «1».

وقال ابن حجر:

«ثقة فاضل، له تصانيف» «2».

__________________________________________________

(1) تذهيب التهذيب- مخطوط. وانظر تهذيب التهذيب 3: 253/ 549.

(2) تقريب التهذيب 1: 249/ 2143.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 264

فإنّ القواريري تكلّم فيه وأنكر عليه جملةً من أحاديثه.

وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به.

وقال النسائي: ليس بقوي.

وطعن فيه جماعة من الأئمّة. قال الذهبي في (الميزان):

«روح بن عبادة بن العلاء بن حسان البصري، القيسي،

ثقة مشهور، حافظ، من علماء أهل البصرة. عن حسين المعلم وابن عون وخلق، وعنه:

أحمد وعبد بن حميد وأبوبكر الصاغاني وخلق.

وروي الكديمي عن ابن المديني قال: نظرت لروح في أكثر من مائة ألف حديث، كتبت منها عشرة آلاف.

وقال ابن معين وغيره: صدوق.

وتكلّم فيه القواريري بلا حجّة.

وقال ابن المديني: ذكر عبدالرحمان روح بن عبادة فقلت: لا تفعل، فإنّ هاهنا قوماً يحملون كلامك، فقال: أستغفر اللَّه، ثمّ دخل فتوضّأ، يذهب إلي أنّ الغيبة تنقض الوضوء.

وقيل: إنّ عبدالرحمان تكلّم فيه، لكونه وهم في إسناد، فلا ضير.

وقال يعقوب بن شيبة: قال محمّد بن عمر: قال يحيي بن معين: هذا القواريري يحدّث عن عشرين شيخاً من الكذّابين، ثمّ يقول: لا احدّث عن روح.

ثمّ قال يعقوب: وسمعتُ عفّان لا يرضي أمر روح بن عبادة، ثمّ بلغني عنه أنّه قوّاه.

وقال أحمد بن الفرات: طعن علي روح إثنا عشر رجلًا، فلم ينفذ قولهم فيه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 265

وروي الكتاني عن أبي حاتم قال: لا يحتجّ به.

وقال س في العلل وفي الكني: روح ليس بالقوي.

قلت: نعم، عبدالرحمان بن مهدي أقوي منه، وأمّا هو فصدوق صاحب حديث.

وقال يعقوب بن شيبة: كان روح أحد من يتحمّل الحمالات، وكان سرياً مريّاً، صدوقاً، كثير الحديث جدّاً.

وقال ابن المديني: لم يزل روح في الحديث منذ نشأ.

قال علي: وكان ابن مهدي يطعن علي روح وينكر عليه أحاديث ابن أبي ذئب عن الزهري مسائل، فلمّا قدمت علي معن أخرجها لي وقال: هي عند بصري لكم، سمعها معنا، فأتيت عبدالرحمان فأخبرته فأحسبه قال: استحلّه لي.

قال يعقوب بن شيبة: سمعت ج عن ج عفّان ج أنّه ج لا يرضي أمر روح بن عبادة.

وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: أكثر

ما أنكر القواريري علي روح تسعمائة حديث، حدّث بها عن مالك سماعاً.

مات روح سنة خمس ومائتين» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 58- 60/ 2802.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 266

عبد بن حميد … ص: 266

وأمّا عبد بن حُميد، فإنّ فضائله ومكارمه مذكورة في (تذكرة الحفّاظ) وغيره من الكتب «1».

لكنّ ابن تيميّة وأتباعه لا يرتضونه، لأنّه روي نزول قوله تعالي: «إنّما وليّكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة …» الآية، في أميرالمؤمنين عليه الصّلاة والسّلام، كما في (الدرّ المنثور) بتفسيرها:

«أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبوالشيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله: «إنّما وليّكم اللَّه ورسوله» الآية. قال: نزلت في علي ابن أبي طالب» «2».

فقال ابن تيميّة:

«أجمع أهل العلم بالنقل علي أنّها لم تنزل في علي بخصوصه».

ثمّ قال:

«وأمّا أهل العلم الكبار أصحاب التفسير، كمحمّد بن جرير الطبري وبقي بن مخلد وابن أبي حاتم وأبي بكر ابن المنذر وعبدالرحمن بن إبراهيم وأمثالهم، فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات، دع من هو أعلم منهم مثل:

أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، بل لا يذكر مثل هذا عبد بن حميد ولا

__________________________________________________

(1) تذكرة الحفّاظ 2: 89/ 551.

(2) الدر المنثور 3: 105.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 267

عبدالرزاق، مع أنّ عبدالرزاق كان يميل إلي التشيّع، ويروي كثيراً من فضائل علي، وإنْ كانت ضعيفة، لكنّه أجلّ قدراً من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر» «1».

ومفهوم هذا الكلام أنّ «عبد بن حميد» ليس من أهل العلم الكبار أصحاب التفسير، بل ليس من صغارهم، لأنّ إخراج مثل هذا الحديث ليس من شأن العلماء …

لكن ابن تيميّة في هذا الكلام ينكر أن يكون ابن جرير مثلًا من رواة هذا الحديث، سبحانك اللّهم هذا بهتان عظيم … فقد عرفت

من كلام السيوطي روايته، وكذا رواية ابن أبي حاتم …

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4: 5- 6، باختلافٍ يسير في بعض الألفاظ.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 268

سُنيد بن داود … ص: 268

وأمّا سُنيد، فإنّه وإنْ ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال ابن أبي حاتم:

صدوق. لكنْ تكلّم فيه غير واحدٍ من الأئمّة الأعلام.

قال الذهبي في (الميزان):

«سنيد بن داود المصيصي المحتسب، واسمه الحسين، عن حمّاد بن زيد وهشيم والطبقة، حافظ له تفسير، وله ما ينكر.

أنبأنا ابن علان، أنا الكندي، عن القزاز، أنا الخطيب، أنا ابن شاذان، ثنا أبوسهل القطان، ثنا عبدالكريم بن الهيثم، ثنا سنيد، نا فرج بن فضالة عن، معاوية بن صالح، عن نافع قال: سرت مع ابن عمر فقال: طلعت الحمراء؟

قلت: لا. ثمّ قلت: قد طلعت. فقال: لا مرحباً بها ولا أهلًا. قلت: سبحان اللَّه نجم سامع مطيع. قال: ما قلت إلّاما سمعت من رسول صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّ الملائكة قالت: يا ربّ! كيف صبرك علي بني آدم؟ قال: إنّي ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنّا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم، فاختاروا هاروت وماروت، فنزلا، فألقي اللَّه عليهما الشهوة، فجاءت امرأة يقال لها الزهرة، وذكر الحديث بطوله.

روي عنه أبو زرعة والأثرم وجماعة.

صدّقه أبو حاتم.

وقال أبو داود: ولم يكن بذاك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 269

وقال النسائي: الحسين بن داود ليس بثقة.

توفي سنيد سنة ست وعشرين ومائتين» «1».

وقال ابن حجر:

«ضعيف، مع إمامته ومعرفته، لكونه كان يلقن حجّاج بن محمّد شيخه» «2».

بل إنّ السيوطي ذكر في (اللآلي المصنوعة) تضعيف أبي داود والنسائي له، نقلًا عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 236/ 3567.

(2) تقريب التهذيب 1: 323/ 2925.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 270

ابن أبي شيبة … ص: 270

وأمّا أبوبكر ابن أبي شيبة، فمناقبه وفضائله أشهر من أنْ تذكر، وأكثر من أنْ تحصر، قال المناوي في (فيض القدير):

«ابن أبي شيبة، الحافظ الثبت العديم النظير، عبداللَّه بن محمّد

بن أبي شيبة العبسي الكوفي، صاحب المسند والأحكام والتفسير وغيرها … وعنه:

الشيخان وأبو داود وابن ماجة وخلق» «1».

لكنّه لمّا روي تهديد عمر بن الخطّاب فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه وبضعته، الصدّيقة الطاهرة، بإحراق بيتها بمن فيه، فقد قدح فيه وجرحه ابن روزبهان وبعض المتعصّبين من أمثاله.

*** أقول:

هذا بعض الكلام علي أئمّة التفسير الذين ذكرهم السيوطي.

وقد رأينا من اللازم التعرّض لحال جمعٍ آخر من أئمّة التفسير من الطبقة الثانية والطبقة الثالثة، الذين لم يذكرهم السيوطي، تتميماً للبحث وتكميلًا للمرام …

__________________________________________________

(1) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 271

ابن شهاب الزّهري … ص: 271

فمنهم: الزّهري … وصفه الشيخ عبدالحق الدهلوي في كتاب (تحصيل الكمال في أسماء الرجال) ب «الإمام، أحد الفقهاء والمحدّثين، والعلماء الأعلام من التابعين بالمدينة، المشار إليه في فنون الشريعة» «1» وإليه نسب الأعور الواسطي تفسير أهل السنّة، نافياً رجوعهم في تفسير القرآن إلي أميرالمؤمنين «2» …

إلّاأنّ الدهلوي قال بعد ذلك بترجمته:

«ويقال: إنّه قد ابتلي بصحبة الامراء بقلّة الديانة، لضرورات عرضت له، وكان أقرانه من العلماء والزهّاد يأخذون عليه وينكرون ذلك منه، وكان يقول:

أنا شريك في خيرهم دون شرّهم، فيقولون: ألا تري ما هم فيه وتسكت؟».

وهنا يناسب أن نورد كلام ابن الجوزي في ذمّ صحبة الامراء والسّلاطين، فإنّه قال في (تلبيس إبليس):

«ومن تلبيس إبليس علي الفقهاء: مخالطتهم للُامراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم، مع القدرة علي ذلك، وربّما رخّصوا لهم ما لا رخصة فيه، لينالوا من دنياهم، فيقع بذلك الفساد لثلاثة: الأوّل: الأمير، فيقول:

لولا أنّي علي صوابٍ لأنكر عليَّ الفقيه، وكيف لا أكون مصيباً وهو يأكل من __________________________________________________

(1) تحصيل الكمال/ رجال المشكاة.

(2) رسالة الأعور الواسطي- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص:

272

مالي؟ والثاني: العامي، فإنّه يقول: لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإنّ فلاناً الفقيه لا يزال عنده. والثالث: الفقيه، يفسد دينه بذلك» «1».

وقال الغزالي في (إحياء العلوم) في علامات علماء الآخرة:

«ومنها: أن يكون منقبضاً عن السلاطين، فلا يدخل عليهم البتّة، مادام يجد إلي الفرار عنهم سبيلًا، بل ينبغي أن يحترز من مخالطتهم وإن جاؤوا إليه، فإنّ الدنيا حلوة خضرة وزمامها بأيدي السلاطين، والمخالط لهم لا يخلو عن تكلّف في طلب مرضاتهم واستمالة قلوبهم، مع أنّهم ظلمة، ويجب علي كلّ متديّن الإنكار عليهم وتضييق صدورهم بإظهار ظلمهم وتقبيح فعلهم، فالداخل عليهم إمّا أن يلتفت إلي تجهلهم، فيزدري نعمة اللَّه عليه، أو يسكت عن الإنكار عليهم، فيكون مداهناً لهم، أو يتكلّف في كلامه كلاماً لمرضاتهم وتحسين أحوالهم، وذلك هو البهت الصريح، أو يطمع في أن ينال من دنياهم، وذلك هو السحت، وسيأتي في كتاب الحلال والحرام ما يجوز أن يؤخذ من أموال السلاطين وما لا يجوز من الأدرار والجوائز وغيرها.

وعلي الجملة، فمخالطتهم مفتاح الشرّ، وعلماء الآخرة طريقتهم الإحتياط، وقد قال صلّي اللَّه عليه وسلّم: من بدي جفا، يعني من سكن البادية جفا، ومن اتّبع الصيد غفل، ومن أتي السلطان افتتن.

وقال صلّي اللَّه عليه وسلّم: سيكون عليهم امراء تعرفون منه وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع أبعده اللَّه تعالي. قيل: أفلا نقاتلهم؟ قال صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا، ما صلّوا.

وقال سفيان: في جهنّم واد، لا يسكنه إلّاالقرّاء الزائرون للملوك.

__________________________________________________

(1) تلبيس ابليس: 140، مع بعض الاختلاف في الألفاظ.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 273

وقال حذيفة رضي اللَّه عنه: إيّاكم ومواقف الفتن. قيل: وما هي؟ قال:

أبواب الامراء، يدخل أحدكم علي

الأمير، فيصدّقه بالكذب ويقول له ما ليس فيه.

وقال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: العلماء امناء الرسل علي عباد اللَّه تعالي، ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل، فاحذروهم واعتزلوهم.

وقيل للأعمش: قد أحييت العلم لكثرة من يأخذه عنك. فقال: لا تعجلوا، ثلث يموتون قبل الإدراك، وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهم شرّ الخلق، والثلث الباقي لا يفلح منهم إلّاالقليل.

ولذلك قال سعيد بن المسيّب: إذا رأيتم العالم يغشي الامراء فاحترزوا منه، فإنّه لصّ.

وقال الأوزاعي: ما من شي ء أبغض إلي اللَّه عزّ وجلّ من عالم يزور عاملًا، قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: شرار العلماء الذين يأتون الامراء، وخيار الامراء الذين يأتون العلماء.

وقال مكحول الدمشقي: من تعلّم القرآن وتفقّه في الدين ثمّ أصحب السلطان تملّقاً إليه وطمعاً في يديه، خاض في بحر من نار جهنّم بعدد خطاه.

وقال سحنون: ما أقبح بالعالم أن يؤتي إلي مجلسه فلا يوجد فيُسئل عنه فيقال: إنّه عند الأمير.

قال: وكنت أسمع أنّه يقال: إذا رأيتم العالم يحبّ الدنيا فاتّهموه علي دينكم، حتّي جرّبت ذلك، إذ ما دخلت قط علي السلطان إلّاما رأيت نفسي بعد الخروج، وأنتم تعلمون وترون ما ألقاه به من الغلظة والفظاظة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 274

وكثرةالمخالفة لهواه ولوددت أن أنجو من الدخول كفافاً، مع أنّي لا آخذ منه شيئاً ولا أشرب لهم شربة ماء.

قال: وزماننا هذا شرّ من علماء بني إسرائيل، يخبرون السلطان بالرّخص وبما يوافق هواه، ولو أخبروه بالذي عليه وفيه نجاته لاستثقلهم، فكره دخولهم عليه، وكان ذلك نجاة لهم عند ربّهم.

وقال الحسن: كان فيمن كان قبلكم رجل له قدم في الإسلام وصحبة لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم- قال عبداللَّه بن المبارك: عني به

سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه- وكان يغشي السلاطين، فقعد عنهم، فقال له بنوه:

يأتي هؤلاء من ليس هو مثلك في الصحبة والقدم في الإسلام، فلو أتيتهم.

فقال: بني! إنّ الدنيا جيفة وقد أحاط بها قوم، واللَّه لئن استطعت لا اشاركهم فيها. قالوا: يا أبانا! إذاً تهلك هزلًا. قال: يا بني! لأن أموت مؤمناً مهزولًا، أحبّ إليّ من أن أموت منافقاً سميناً.

قال الحسن رحمه اللَّه تعالي: خصمهم واللَّه، إذ علم أنّ التراب يأكل اللّحم والسمن دون الإيمان، وفي هذا إشارة إلي أنّ الدخول علي السلطان لا يسلم فيه أحد من النفاق البتّة، وهو مضاد للإيمان.

وقال أبوذر لسلمة: يا سلمة! لا تغش أبواب السلاطين، فإنّك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلّاأصابوا من دينك أفضل منه.

وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم، لاسيّما من له لهجة مقبولة وكلام حلو، إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه أنّ في وعظك لهم ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم شعائر الشرع، إلي أن يخيّل إليه أنّ الدخول عليهم من الدين، ثمّ إذا دخل لم يلبث أن يتلطّف في الكلام استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 275

ويداهن، ويخوض في الثناء والإطراء، وفيه هلاك الدين.

وكان يقال: العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا.

وكتب عمر بن عبدالعزيز إلي الحسن رحمهما اللَّه تعالي: أمّا بعد؛ فأشر علَيّ بأقوام أستعين بهم علي أمر اللَّه تعالي. فكتب إليه: أمّا أهل الدين فلن يريدوك، وأمّا أهل الدنيا فلن تريدهم، ولكن عليك بالأشراف، فإنّهم يصونون شرفهم أن يدنّسوه بالخيانة.

هذا في عمر بن عبدالعزيز، وكان أزهد أهل زمانه، فإذا كان شرط أهل الدين الهرب منه، فكيف يستتب طلب غيره ومخالطته،

ولم يزل السلف العلماء مثل الحسن والثوري وابن المبارك والفضيل وإبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط يتكلّمون في علماء الدنيا من أهل مكّة والشام، إمّا لميلهم إلي الدّنيا أو لمخالطتهم السلاطين، حتّي قال بعضهم لو قيل: من أحمق الناس، لأخذت بيد القاضي وقلت: هذا» «1».

__________________________________________________

(1) إحياء علوم الدين 1: 68- 69.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 276

جويبر بن سعيد … ص: 276

ومنهم: جويبر بن سعيد، وهو من رجال ابن ماجة، ومن أئمّة التفسير عندهم.

قال الذهبي بترجمته من (ميزان الإعتدال):

«جويبر بن سعيد، أبوالقاسم الأزدي البلخي، المفسّر، صاحب الضحّاك:

قال ابن معين: ليس بشي ء.

وقال الجوزجاني: لا يشتغل به.

وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك الحديث.

قلت: له عن أنس شي ء، وروي عنه حمّاد بن زيد بن أسلم وابن المبارك ويزيد بن هارون وطائفة.

أبو مالك: عن جويبر، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس مرفوعاً قال: تجب الصّلاة علي الغلام إذا عقل والصّوم إذا أطاق.

ويروي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عبّاس حديث: من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً.

قال أبو قدامة السرخسي: قال يحيي القطان: تساهلوا في أخذ التفسير عن قومٍ لا يثقونهم في الحديث، ثمّ ذكر ليث بن أبي سليم وجويبراً والضحّاك ومحمّد بن السائب وقال: هؤلاء لا يحمد حديثهم، ويكتب التفسير عنهم» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 427/ 1593.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 277

وفي (تقريب التهذيب):

«ضعيف جدّاً» «1».

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1: 139/ 1089.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 278

أبو صالح باذام … ص: 278

ومنهم: أبوصالح باذام، وهو من رجال السنن الأربعة، وذكروا له فضائل.

ولكن أورده الذهبي في (ميزان الإعتدال) ونقل الكلمات في قدحه وجرحه فقال ما نصّه:

«باذام أبو صالح، تابعي، ضعّفه البخاري، وقال النسائي: باذام ليس بثقة، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه تفسير.

قلت: روي عن مولاته ام هاني وأخيها علي وأبي هريرة.

وعنه: مالك بن مغول وسفيان الثوري وابن اخته عمّار بن محمّد.

وقال يحيي القطان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أباصالح مولي ام هاني.

وقال محمّد بن قيس عن حبيب بن أبي ثابت: كنّا نسمّي أباصالح باذام مولي ام هاني دروغزن.

وقال زكريا بن أبي زائدة: كان الشعبي

يمرّ بأبي صالح فيأخذ باذنه فيهزّها ويقول: ويلك، تفسّر القرآن وأنت لا تحفظ القرآن؟!

وقال إسماعيل بن أبي خالد: كان أبو صالح يكذب، فما سألته عن شي ء إلّا فسّره لي.

وروي ابن إدريس عن الأعمش قال: كنّا نأتي مجاهداً فنمرّ علي أبي صالح وعنده بضعة عشر غلاماً ما نري أنّ عنده شيئاً.

ابن المديني: سمعت يحيي بن سعيد يذكر عن سفيان قال: قال الكلبي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 279

قال لي أبو صالح: كلّ ما حدّثتك كذب.

وروي مفضّل بن مهلهل عن مغيرة قال: إنّما كان أبو صالح صاحب الكلبي يعلّم الصبيان، وضعّف تفسيره.

وقال ابن معين: إذا روي عنه الكلبي فليس بشي ء. وقال عبدالحق في أحكامه: ضعيف جدّاً، فأنكر هذه العبارة عليه أبوالحسن ابن القطّان» «1».

وفي (الميزان) أيضاً:

«أبو صالح مولي ام هاني، اسمه باذام، تركه ابن مهدي وقوّاه غيره، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وانتصر له يحيي القطّان وقال: لم أر أحداً من أصحابنا تركه، وما سمعنا أحداً يقول فيه شيئاً» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 296/ 1121.

(2) ميزان الاعتدال 4: 538/ 10302.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 280

ليث بن أبي سليم … ص: 280

ومنهم: ليث بن أبي سليم، وقد وصفه بعضهم بمحامد كثيرة ومناقب غزيرة، لكنَّ غير واحدٍ من أعلامهم تكلّم فيه وجرحه، فقد قال الذهبي في (ميزان الإعتدال):

«ليث بن أبي سليم الكوفي الليثي، أحد العلماء.

قال أحمد: مضطرب الحديث لكن حدّث عنه الناس.

وقال يحيي والنسائي: ضعيف.

وقال ابن معين أيضاً: لا بأس به.

وقال ابن حبّان: اختلط في آخر عمره.

وقال الدارقطني: كان صاحب سنّة، إنّما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد حسب.

وقال عبدالوارث: كان من أوعية العلم.

وقال أبوبكر ابن عيّاش: كان ليث من أكثر النّاس صلاة وصياماً.

قلت: حدّث عنه شعبة

وابن عليّة وأبو معاوية والنّاس.

وقال إبن إدريس: ما جلست إلي ليث إلّاسمعت منه ما لم أسمع منه.

وقال عبداللَّه بن أحمد: حدّثنا أبي قال: ما رأيت يحيي بن سعيد أسوأ رأياً في أحد منه في ليث ومحمّد بن إسحاق وهمام، لا يستطيع أحدٌ أن يراجعه فيهم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 281

وقال ابن معين: ليث أضعف من عطاء بن السائب» «1».

وفي (تذهيب التهذيب):

«قال عبداللَّه بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ليث بن أبي سليم مضطرب الحديث، ولكن حدّث عنه النّاس.

وقال أيضاً: سمعت أبي يقول: ما رأيت يحيي بن سعيد أسوأ رأياً في أحدٍ منه في ليث ومحمّد بن إسحاق وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم.

وقال أيضاً: سمعت عثمان بن أبي شيبة قال: سألت جريراً عن ليث وعن عطاء بن السائب وعن يزيد بن أبي زياد فقال: كان يزيد أحسنهم استقامة في الحديث، ثمّ عطاء وكان ليث أكثر تخليطاً.

قال عبداللَّه: وسألت أبي عن هذا فقال: أقول كما قال جرير.

وقال أيضاً: قلت ليحيي بن معين: ليث بن أبي سليب أضعف من يزيد ابن أبي زياد وعطاء بن السائب؟ قال: نعم.

وقال لي يحيي مرّة اخري: ليث أضعف من يزيد بن أبي زياد، ويزيد فوقه في الحديث.

وقال معاوية بن صالح: عن يحيي بن معين: ليث بن أبي سليم ضعيف إلّا أنّه يكتب حديثه.

وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدّثنا يحيي بن معين، عن يحيي بن سعيد القطّان أنّه كان لا يحدّث عن ليث بن أبي سليم.

وقال علي بن المديني: سمعت يحيي يقول: مجالد أحبّ إليّ من ليث وحجّاج بن أرطاة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 420- 421/ 6997.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 282

وقال أيضاً: قلت لسفيان: إنّ ليث

روي عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جدّه رأي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يتوضّأ، فأنكر ذلك سفيان وعجب منه أن يكون جدّه طلحة لقي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وقال أبو معمر القطيعي: كان ابن عيينة يضعّف ليث بن أبي سليم.

وقال علي بن محمّد الطنافسي: سألت وكيعاً عن حديث من حديث ليث بن أبي سليم، فقال: ليث كان سيفاً لا يسعي ليثاً.

وقال محمّد بن خلف التيمي عن قبيصة قال شعبة لليث بن أبي سليم:

أنّي اجتمع لك عطاء وطاوس ومجاهد؟ فقال: إذ أبوك يضرب بالخف ليلة عرسه.

قال قبيصة: فقال رجل كان جالساً لسفيان: فما زال شعبة مبغضاً لليث منذ يومئذ.

وقال- أي عبدالرحمان بن أبي حاتم-: سمعت أبي وأبازرعة يقولان:

ليث لا يشتغل به، هو مضطرب الحديث.

وقال أيضاً: سمعت أبازرعة يقول: ليث بن أبي سليم ليّن الحديث، لا يقوم به الحجّة عند أهل العلم بالحديث» «1».

__________________________________________________

(1) تذهيب التهذيب- مخطوط. تهذيب التهذيب 8: 418.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 283

عبداللَّه بن أبي نجيح … ص: 283

ومنهم: عبداللَّه بن أبي نجيح، وقد قال الذهبي بأنّه من الأئمّة الثقات، وعن ابن المديني كونه من المحدّثين الأثبات …

لكن البخاري نسب إليه القول بالقدر، وعن ابن المديني الجزم بكونه من القدريّة. قال الذهبي:

«عبداللَّه بن أبي نجيح المكي صاحب التفسير، أخذ عن مجاهد وعطاء، وهو من الأئمّة الثقات.

وقال يحيي القطان: لم يسمع التفسير كلّه من مجاهد، بل كلّه عن القاسم بن أبي بزّة.

وقال العقيلي: ثنا آدم بن موسي: سمعت البخاري قال: عبداللَّه بن أبي نجيح كان يتّهم بالإعتزال والقدر.

وقال ابن المديني: كان يري الإعتزال.

وقال أحمد: أفسدوه بآخره وكان جالس عمرو بن عبيد.

وقال علي: سمعت القطان يقول: ابن أبي نجيح من رؤوس الدعاة.

وقال ابن المديني أيضاً: أمّا الحديث

فهو فيه ثقة، وأمّا الرأي، فكان قدريّاً معتزليّاً، وقد ذكره الجوزجاني فيمن رمي بالقدر هو وزكريّا بن إسحاق وشبل بن عباد وابن أبي ذئب وسيف بن سليمان» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 515/ 4651.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 284

هذا، وقد ذكر في (الميزان) نقلًا عن النسائي أنّه كان يدلّس.

وكذا في (تقريب التهذيب) «1».

وقد تقدّم بعض الكلام في ذمّ القدريّة وذمّ التدليس. ولا نعيد.

__________________________________________________

(1) انظر تقريب التهذيب 1: 427/ 4061.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 285

عيسي بن ميمون … ص: 285

ومنهم: عيسي بن ميمون، الذي وثّقوه، ولكنْ قالوا: إلّاأنّه يري القدر.

ففي (ميزان الإعتدال):

«عيسي بن ميمون، أبو موسي المكي، الجرشي المعروف بابن دايه، له تفسير صغير، أخذ عن مجاهد وقيس بن سعد وابن أبي نجيح.

روي عنه ابن عيينة وأبو عاصم، وقرأ القرآن عن ابن كثير.

وثّقه أبو حاتم وأبو داود وزاد: إلّاأنّه يري القدر.

وقال ابن معين: ليس به بأس» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 327/ 6619.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 286

مقاتل بن حيّان … ص: 286

ومنهم: مقاتل بن حيّان، وقد وثّقه غير واحدٍ من الأئمّة، لكنْ نسبه بعضهم إلي الكذب، وحاول الذهبي تبرأته، وقال بعضهم: لا أحتجّ به، وهذا نصّ ما جاء في (الميزان):

«مقاتل بن حيان، أبو بسطام البلخي، الخراساني الخراز، أحد الأعلام.

روي عن الضحاك ومجاهد وعكرمة والشعبي وشهر بن حوشب وخلق، وعنه:

ابن المبارك وبكير بن معروف وعيسي غنجار وآخرون. وروي عنه من شيوخه علقمة بن مرثد، وذلك في صحيح مسلم.

وكان عابداً كبير القدر صاحب سنّة وصدق، هرب أيّام أبي مسلم الخراساني إلي كابل، ودعا خلقاً إلي الإسلام فأسلموا.

وثّقه يحيي بن معين وأبو داود وغيرهما.

وقال النسائي: ليس به بأس.

وقال أبوالفتح الأزدي: سكتوا عنه.

ثمّ ذكر أبوالفتح عن وكيع أنّه قال: ينسب إلي الكذب، كذا قال أبوالفتح، وأحسبه التبس عليه مقاتل بن حيان بمقاتل بن سليمان، فابن حيان صدوق قوي الحديث، والذي كذّبه وكيع فابن سليمان.

ثمّ قال أبوالفتح: ثنا أبو يعلي الموصلي، ثنا عثمان بن أبي شيبة، عن حميد الرؤاسي، عن الحسن بن صالح، عن هارون أبي محمّد، عن مقاتل،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 287

عن قتادة، عن أنس مرفوعاً قال: قلب القرآن يس، فمن قرأها كتب اللَّه له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرّات.

قلت: الظاهر أنّه مقاتل بن سليمان، وقد جاء

توثيق يحيي بن معين لابن حيّان من وجوه عنه.

وقال فيه الدارقطني: صالح الحديث.

نعم، أمّا ابن خزيمة فقال: لا أحتج بمقاتل بن حيان.

قلت: مات قبل الخمسين ومائة فيما أري» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 171- 172/ 8739.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 288

مقاتل بن سليمان … ص: 288

ومنهم: مقاتل بن سليمان، الذي قيل: إنّ النّاس كلّهم عيال عليه في التفسير، ووصفه الأعلام بالأوصاف الجليلة «1».

لكنّ تفسيره مشحون بالأخبار المصنوعة والآثار الموضوعة، بل إنّه متّخذ من اليهود والنصاري.

وكان هو من المشبّهة الذين يشبّهون الباري تعالي بالمخلوقين.

ومنهم من نسبه إلي الكذب …

وقد جاء التصريح بهذه الأضاليل في تراجمه علي لسان الأكابر، ففي (ميزان الإعتدال) ما نصّه:

«قال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه حتّي قال إنّه تعالي ليس بشي ء، وأفرط مقاتل- يعني في الإثبات- حتّي جعله مثل خلقه.

وقال وكيع: كان كذّاباً.

وقال البخاري: قال سفيان بن عيينة: سمعت مقاتلًا يقول: إنْ لم يخرج الدجّال في سنة خمسين ومائة فاعلموا أنّي كذّاب.

وقال الجوزجاني: كان دجّالًا جسوراً.

وقال ابن حبّان: كان يأخذ عن اليهود والنصاري من علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوق، وكان يكذب في الحديث.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 173/ 8741.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 289

وقال أبو معاذ الفضل بن خالد المروزي: سمعت خارجة بن مصعب يقول: لم أستحل دم يهودي، ولو وجدت مقاتل بن سليمان خلوةً لشققت بطنه» «1».

وفي (تنزيه الشريعة):

«مقاتل بن سليمان البلخي المفسّر: كذّاب، وهو من المعروفين بوضع الحديث» «2».

وفي (تاريخ بغداد):

«قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم في الدنيا نظير- يعني في البدعة والكذب-: جهم بن صفوان وعمر بن صبيح ومقاتل بن سليمان.

وروي أبو يوسف أنّه قال: بخراسان صنفان ما علي الأرض أبغض

إليَّ منهما: المقاتليّة والجهميّة» «3».

فهذا حال من كلّ النّاس عيال عليه في التفسير، وهذا حال تفسيره …

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 173- 175/ 8741.

(2) تنزيه الشريعة الغرّاء 1: 119.

(3) تاريخ بغداد 13: 164/ 7143.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 290

السدّي الكبير … ص: 290

ومنهم: السدي الكبير، أخرج عنه مسلم والأربعة، وأثني عليه العلماء وعلي تفسيره:

وقال السيوطي:

«قال أبوبكر ابن أبي إدريس: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير، وبعده السدّي، وبعده سفيان الثوري» «1».

وقال اليافعي:

«الإمام السدي المفسّر الكوفي المشهور» «2».

وقال الذهبي:

«قال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، صدوق» «3».

وقال السمعاني:

«والمشهور بهذه النسبة: إسماعيل بن عبدالرحمان بن أبي ذئب وقيل:

ابن أبي كريمة السدي الأعور، مولي زينب بنت قيس بن مخرمة، من بني عبد مناف، حجازي الأصل، سكن الكوفة، يروي عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه وعبد خير وأبي صالح، وقد رأي ابن عمر رضي اللَّه عنهما، وهو السديّ __________________________________________________

(1) تدريب الراوي 2: 400.

(2) مرآة الجنان 1: 211 السنة 127.

(3) تذهيب التهذيب- مخطوط. تهذيب التهذيب 1: 273.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 291

الكبير، ثقة مأمون.

روي عنه: الثوري وشعبة وزائدة وسماك بن حرب وإسماعيل بن أبي خالد وسليمان التيمي.

ومات سنة سبع وعشرين ومائة، في إمارة ابن هبيرة.

وكان إسماعيل بن أبي خالد يقول: السدي أعلم بالقرآن من الشعبي.

قال أبوبكر أحمد بن موسي بن مردويه الحافظ: إسماعيل بن عبدالرحمان السدّي، يكني أبامحمّد، صاحب التفسير، وإنّما سمّي السدّي لأنّه نزل بالسدّة، وكان أبوه من كبار أهل إصبهان، توفي سنة سبع وعشرين ومائة، في ولاية بني مروان.

روي عن أنس بن مالك، وأدرك جماعة من أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، منهم: سعد بن أبي وقاص وأبو سعيد الخدري وابن عمر

وأبو هريرة وابن عبّاس.

حدّث عنه: الثوري وشعبة وأبو عوانة والحسن بن صالح.

قال ابن أبي حاتم: إسماعيل بن عبدالرحمان السدّي الأعور، مولي زينب بنت قيس بن مخرمة، أصله حجازي، يعدّ في الكوفيّين، وكان شريك يقول: ما ندمت علي رجل لقيته أن لا أكون كتبت كلّ شي ء لفظ به، إلّا السدّي.

قال يحيي بن سعيد: ما سمعت أحداً يذكر السدّي إلّابخير، وما تركه أحد» «1».

وفي (الإتقان) نقلًا عن الحليمي في الإرشاد:

__________________________________________________

(1) الأنساب 3: 238- 239.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 292

«وتفسير إسماعيل السدّي يورده بأسانيد إلي ابن مسعود وابن عبّاس.

وروي عن السدّي الأئمّة مثل: الثوري وشعبة، لكن التفسير الذي جمعه رواه عنه أسباط بن نصر، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أنّ أمثل التفاسير تفسير السدّي» «1».

ومع ذلك كلّه … فإليك بعض الكلمات في جرحه والطعن عليه في كتبهم:

ففي (الميزان):

«إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي كريمة، السدّي، الكوفي. عن أنس وعبداللَّه البهيّ وجماعة. وعنه: الثوري وأبوبكر ابن عيّاش وخلق. ورأي أباهريرة.

قال يحيي بن القطّان: لا بأس به.

وقال أحمد: ثقة.

وقال ابن معين: في حديثه ضعف.

وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به.

وقال ابن عدي: هو عندي صدوق.

وروي شريك عن سَلْم بن عبدالرحمن قال: مرّ إبراهيم النخعي بالسدّي وهو يفسّر لهم القرآن فقال: أمّا إنّه يفسّر تفسير القوم.

قال عبداللَّه بن حبيب بن أبي ثابت: سمعت الشعبي وقيل له إنّ إسماعيل السدي قد اعطي حظّاً من علم القرآن. فقال: قد اعطي حظّاً من جهل بالقرآن.

وقال الفلّاس عن ابن مهدي: ضعيف.

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 238.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 293

وقال الجوزجاني عن معتمر عن ليث قال: كان بالكوفة كذّابان، فمات أحدهما: السدي والكلبي» «1».

وفي (الكاشف):

«قال أبو حاتم: لا يحتجّ به» «2».

وفي

هامشه للبدخشي:

«قال السعدي: هو كذّاب شتّام.

وقال أبو زرعة: ليّن» «3».

__________________________________________________

(1) ميزان الإعتدال 1: 236- 237/ 907.

(2) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة 1: 79/ 394.

(3) الحاشية علي الكاشف- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 294

محمّد بن السّائب الكلبي … ص: 294

ومنهم: محمّد بن السائب الكلبي «صاحب التفسير وعلم النسب، كان إماماً في هذين العلمين» «1».

وأخرج عنه الترمذي وغيره من كبار الأعلام «2».

وقال ابن عدي:

«وللكلبي غير ما ذكرت أحاديث صالحة، خاصّة عن أبي صالح، وهو معروف بالتفسير، وليس لأحدٍ تفسير أطول منه ولا أشبع منه، وبعده مقاتل بن سليمان، إلّاأنّ الكلبي يفضَّل علي مقاتل بن سليمان، لما قيل في مقاتل من المذاهب الرديّة.

وحدّث عن الكلبي الثوري وشعبة، وإن كانا حدّثا عنه بالشي ء اليسير غير المسند، وحدّث عنه: ابن عيينة وحمّاد بن سلمة وهشيم وغيرهم من ثقات الناس، ورضوه في التفسير …» «3».

«وقال الحسن بن عثمان القاضي: وجدت العلم بالعراق والحجاز ثلاثة:

علم أبي حنيفة وتفسير الكلبي ومغازي محمّد بن إسحاق» «4».

وقال البزدوي:

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 4: 309/ 634.

(2) تهذيب التهذيب 9: 157.

(3) تهذيب الكمال 25: 251- 252/ 5234.

(4) تاريخ بغداد 13: 347/ 7297.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 295

«ليس من اتّهم بوجهٍ مّا يسقط به كلّ حديثه، مثل الكلبي وأمثاله …» «1».

فقال شارحه بشرح هذه الجملة:

«قوله: مثل الكلبي. هو أبو سعيد محمّد بن السائب الكلبي صاحب التفسير ويقال له أبوالنضر أيضاً، طعنوا فيه بأنّه يروي تفسير كلّ آية عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، وتسمّي زوائد الكلبي، وبأنّه روي حديثاً عند الحجّاج، فسأله عمّن يرويه، فقال: عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، فلمّا خرج قيل له: هل سمعت ذلك من الحسن؟ فقال: لا، ولكنّي رويت عن الحسن غيظاً له.

وذكر في

الأنساب أنّ الثوري ومحمّد بن إسحاق يرويان عنه ويقولان:

حدّثنا أبوالنضر، حتّي لا يعرف.

قال: وكان الكلبي سبائيّاً من أصحاب عبداللَّه بن سبأ، من أولئك الّذين يقولون: إنّ عليّاً لم يمت، وأنّه راجع إلي الدنيا قبل قيام السّاعة، فيملؤها عدلًا كما ملئت جوراً، وإذا رأوا سحابة قالوا: أميرالمؤمنين فيها، والرعد صوته، والبرق سوطه، حتّي تبرّأ واحد منهم وقال:

ومن قوم إذا ذكروا عليّاً يفصّلون الصّلاة علي السحاب مات الكلبي سنة ست وأربعين ومائة.

وأمثاله: مثل عطاء بن السائب وربيعة بن عبدالرحمن وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم، اختلطت عقولهم فلم تُقبل رواياتهم التي بعد الإختلاط، وقبلت الروايات التي قبله.

فإن قيل: ما نقل عن الكلبي يوجب الطعن عامّاً، فينبغي أن لا تقبل __________________________________________________

(1) اصول الفقه (متن كشف الأسرار) 3: 72.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 296

رواياته جميعاً.

قلنا: إنّما يوجب ذلك إذا ثبت ما نقلوا عنه بطريق القطع، فأمّا إذا اتّهم به، فلا يثبت حكمه في غير موضع التهمة، وينبغي أن لا يثبت في موضع التهمة أيضاً، إلّاأنّ ذلك يورث شبهة في الثبوب، وبالشبهة تردّ الحجّة وينتفي ترجّح الصدق في الخبر، فلذلك لم يثبت. أو معناه ليس كلّ من اتّهم بوجه ساقط الحديث، مثل الكلبي وعبداللَّه بن لهيعة والحسن بن عمارة وسفيان الثوري وغيرهم، فإنّه قد طعن في كلّ واحد منهم بوجه، ولكن علوّ درجتهم في الدّين وتقدّم رتبتهم في العلم والورع، منع من قبول ذلك الطعن في حقّهم ومن ردّ حديثهم به، إذ لو ردّ حديث أمثال هؤلاء بطعن كلّ أحد، انقطع طريق الرواية واندرس الأخبار، إذ لم يوجد بعد الأنبياء عليهم السلام من لا يوجد فيه أدني شي ء ممّا يجرح، إلّامن شاء اللَّه تعالي، فلذلك لم يلتفت إلي مثل

هذا الطعن، فيحمل علي أحسن الوجوه، وهو قصد الصيانة كما ذكر» «1».

وقال القاضي العامري في كتاب (الناسخ والمنسوخ):

«قد خرّجت هذا من التفاسير التي سمعتها من الأئمّة رحمهم اللَّه، منها ما سمعت من الأستاذ الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الإسفرايني رحمه اللَّه، مثل تفسير مقاتل بن سليمان والحلبي والكلبي … ولم أعتمد إلّابما صحّ عندي بتواتر واستفاضة، أو روي في الصحاح بغير طعن الطاعن، واللَّه الموفّق لذلك» «2».

لكن العجب، أنّ أئمّة القوم يطعنون في الكلبي وتفسيره، فمنهم من __________________________________________________

(1) كشف الأسرار- شرح اصول البزدوي 3: 72- 73.

(2) الناسخ والمنسوخ للقاضي العامري- مقدّمة الكتاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 297

يقول هو كاذب، ومنهم من ينادي بضلالته وإلحاده، ومنهم من يحرّم أنْ يُنظر في تفسيره …

قال الذهبي في (ميزان الإعتدال):

«قال أحمد بن زهير لأحمد بن حنبل: يحلّ النظر في تفسير الكلبي؟

قال: لا.

عبّاس عن ابن معين قال: الكلبي ليس بثقة.

وقال الجوزجاني وغيره: كذّاب.

وقال الدارقطني وجماعة: متروك.

وقال ابن حبّان: مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه، أظهر من أن يحتاج إلي الإغراق في وصفه» «1».

وفي (تذكرة الموضوعات):

«قد قال أحمد في تفسير الكلبي: من أوّله إلي آخره كذب، لا يحلُّ النظر فيه» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 558- 559/ 7574.

(2) تذكرة الموضوعات: 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 298

علي بن أبي طلحة … ص: 298

ومنهم: علي بن أبي طلحة، وهو من رواة تفسير ابن عبّاس، ووصف السيوطي نسخته بالجودة، وأورد كلاماً لأحمد في الاعتماد عليه، قال في (الإتقان):

«وقد ورد عن ابن عبّاس في التفسير ما لا يحصي كثرةً، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيّدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه.

قال أحمد بن حنبل: بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل

رجل فيها إلي مصر قاصداً ما كان كثيراً. أسنده أبو جعفر النحاس في ناسخه.

قال ابن حجر: وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيراً، فيما يعلّقه عن ابن عبّاس. وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر كثيراً، بوسائط بينهم وبين أبي صالح» «1».

لكن المشكلة هي:

أوّلًا: إنّ في إسناد هذه النسخة إرسالًا، لأنّ ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عبّاس، قال في (الإتقان):

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 237.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 299

«وقال قوم: لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عبّاس التفسير، إنّما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير» «1».

لكنّ ابن حجر يحاول دفع هذا الإشكال، قال السيوطي:

«قال ابن حجر: بعد أنْ عرفت الواسطة وهو ثقة، فلا ضير في ذلك» «2».

وثانياً: إنّ الرجل مطعون في وثاقته، ففي (ميزان الإعتدال) للذهبي:

«علي بن أبي طلحة، عن مجاهد وأبي الوداك وراشد بن سعد، وأخذ تفسير ابن عبّاس عن مجاهد، فلم يذكر مجاهداً، بل أرسله عن ابن عبّاس.

قال أحمد بن محمّد بن عيسي في تاريخ حمص: إسم أبيه سالم بن مخارق، فأعتقه العبّاس.

ومات علي سنة ثلاث وأربعين ومائة.

وقال أحمد بن حنبل: له أشياء منكرات.

وقال أبو داود: كان يري السيف.

وقال النسائي: ليس به بأس.

قلت: حدّث عنه معاوية بن صالح وسفيان الثوري، عداده في أهل حمص، قال دحيم: لم يسمع علي بن أبي طلحة التفسير من ابن عبّاس.

قلت: روي معاوية بن صالح عنه عن ابن عبّاس تفسيراً كبيراً ممتعاً» «3».

وفي (حاشية الكاشف):

«قال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث، يعني علي

بن أبي طلحة» «4».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 237.

(2) الإتقان في علوم القرآن 4: 237.

(3) ميزان الاعتدال 3: 134/ 5870.

(4) حاشية الكاشف- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 300

وثالثاً: إنّ هذه النسخة يرويها أبو صالح عن معاوية بن صالح، وهو أيضاً مجروح جدّاً، قال في (الميزان):

«معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي، قاضي الأندلس، أبو عمرو، روي عن مكحول والكبار، وعنه: ابن وهب وعبدالرحمن بن مهدي وأبو صالح وطائفة.

وثّقه أحمد وأبو زرعة وغيرهما.

وكان يحيي القطان يتعنّت ولا يرضاه، وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به، ولذا لم يخرّج له البخاري، وليّنه ابن معين …» «1».

ورابعاً: إنّ أباصالح- كاتب الليث- أيضاً غير صالح. قال في (الميزان):

«عبداللَّه بن صالح بن محمّد بن مسلم الجهني المصري، أبو صالح، كاتب الليث بن سعد علي أمواله، هو صاحب حديث وعلم مكثر، وله مناكير، حدّث عن معاوية بن صالح والليث وموسي بن علي وخلق، وعنه شيخه الليث وابن وهب وابن معين وأحمد بن الفرات، والناس.

قال عبدالملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، سمع من جدّي حديثه.

وقال أبو حاتم: سمعت محمّد بن عبداللَّه بن عبدالحكم وسئل عن أبي صالح فقال: تسألني عن أقرب رجل إلي الليث، لزمه سفراً وحضراً، وكان يخلو معه كثيراً، لا ينكر لمثله أن يكون قد سمع منه كثرة ما أخرج عن الليث.

وقال أبوحاتم: سمعت ابن معين يقول: أقلّ أحواله أن يكون قرأ هذه الكتب علي الليث وأجازها له، ويمكن أن يكون ابن أبي ذئب كتب إليه بهذا الدرج.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 135/ 8624.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 301

قال: وسمعت أحمد بن صالح يقول: لا أعلم أحداً روي عن الليث عن ابن أبي ذئب إلّاأبو صالح.

وقال أحمد بن حنبل:

كان أوّل أمره متماسكاً ثمّ فسد بأخرة، يروي عن ليث عن ابن أبي ذئب، ولم يسمع الليث من ابن أبي ذئب شيئاً.

وقال أبو حاتم: هو صدوق أمين ما علمته.

وقال أبو زرعة: لم يكن عندي ممّن يتعمّد الكذب، وكان حسن الحديث.

وقال أبو حاتم: أخرج أحاديث في آخر عمره أنكروها عليه، يري أنّها ممّا افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان سليم الناحية، لم يكن وزن أبي صالح الكذب، كان رجلًا صالحاً.

وقال أحمد بن محمّد ج بن ج الحجاج بن رشدين: سمعت أحمد بن صالح يقول: متّهم ليس بشي ء- يعني الحمراوي عبداللَّه بن صالح-.

وسمعت أحمد بن صالح يقول في عبداللَّه بن صالح، فأجروا عليه كلمة اخري.

وقال ابن عبدالحكم: سمعت أبي عبداللَّه يقول ما لا احصي وقد قيل له:

إنّ يحيي بن بكير يقول في أبي صالح شيئاً، فقال: قل له: هل حدّثك الليث قطّ إلّاوأبو صالح عنده، وقد كان يخرج معه إلي الأسفار وهو كاتبه، فتنكر أن يكون عنده ما ليس عند غيره.

وقال سعيد بن منصور: كلّمني يحيي بن معين قال: أحبّ أن تمسك عن عبداللَّه بن صالح، فقلت: لا أمسك عنه وأنا أعلم النّاس به، إنّما كان كاتباً للضياع.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 302

وقال أحمد: كتب إليّ- وأنا بحمص- يسألني الزيارة.

قال الفضل بن محمّد الشعراني: إنّي مارأيت أباصالح إلّاوهو يحدّث أو يسبّح.

قال صالح جَزَرة: كان ابن معين يوثّقه، وهو عندي يكذب في الحديث.

وقال النسائي: ليس بثقة، يحيي بن بكير أحبّ إلينا منه.

وقال ابن المديني: لا أروي عنه شيئاً.

وقال ابن حبّان: كان في نفسه صدوقاً، إنّما وقعت المناكير في حديثه من قبل جارٍ له، فسمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار كان بينه وبينه

عداوة، كان يضع الحديث علي شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبداللَّه ويرميه في داره بين كتبه، فيتوهّم عبداللَّه أنّه خطّه فيحدّث به.

وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلّاأنّه يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمّد.

قلت: وقد روي عنه البخاري في الصحيح علي الصحيح، ولكنّه يدلّسه فيقول: ثنا عبداللَّه ولا ينسبه وهو هو، نعم علّق البخاري حديثاً فقال فيه: قال الليث بن سعد: حدّثني جعفر بن ربيعة، ثمّ قال في آخر الحديث: حدّثني عبداللَّه بن صالح، ثنا الليث، فذكره، ولكن هذا عند ابن حمويه السرخسي دون صاحبيه.

وفي الجملة؛ ما هو بدون نعيم بن حمّاد، ولا إسماعيل بن أبي أويس، ولا سويد بن سعيد، وحديثهم في الصحيحين، ولكلّ منهم مناكير تغتفر في كثرة ما روي، وبعضها منكر واهٍ، وبعضها غريب محتمل.

وقد قامت القيامة علي عبداللَّه بن صالح بهذا الخبر الذي قال: حدّثنا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 303

نافع بن يزيد، عن زهرة بن معبد، عن سعيد بن المسيّب، عن جابر، مرفوعاً:

إنّ اللَّه اختار أصحابي علي العالمين سوي النبيّين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبابكر وعمر وعثمان وعليّاً، فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلّهم خير.

قال سعيد بن عمرو، عن أبي زرعة: بُلي أبو صالح بخالد بن نجيح، في حديث زهرة بن معبد عن سعيد، وليس له أصل.

قلت: قد رواه أبو العبّاس محمّد بن أحمد الأثرم …» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 440- 442/ 4383.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 304

سعيد بن بشير … ص: 304

ومنهم: سعيد بن بشير، صاحب قتادة، من رجال السنن الأربعة، وهذه ترجمته في (الميزان):

«سعيد بن بشير، صاحب قتادة، سكن دمشق، وحدّث عن قتادة والزهري وجماعة، وعنه: أبو مسهر وأبوالجماهر ويحيي الوحاظي.

قال أبو مسهر: لم

يكن في بلدنا أحفظ منه، وهو منكر الحديث.

وقال أبو حاتم: محلّه الصّدق.

وقال البخاري: يتكلّمون في حفظه.

وقال بقيّة: سألت شعبة عنه فقال: ذاك صدوق اللّسان.

وقال عثمان عن ابن معين: ضعيف.

وقال عبّاس عن ابن معين: ليس بشي ء.

وقال الفلّاس: حدّثنا عنه ابن مهدي ثمّ تركه.

وقال النسائي: ضعيف.

وقال ابن الجوزي: قد وثّقه شعبة ودحيم.

وقال ابن عيينة: حدّثنا سعيد بن بشير وكان حافظاً.

وقال أبو زرعة النصري: قلت لأبي الجماهر: كان سعيد بن بشير قدريّاً؟

قال: معاذ اللَّه.

وسمعت أبا مسهر يقول: أتيت سعيداً أنا ومحمّد بن شعيب فقال: واللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 305

لا أقول إنّ اللَّه يقدّر الشر ويعذّب عليه، ثمّ قال: أستغفر اللَّه، أردت الخير فوقعت في الشرّ».

«قال يعقوب الفسوي: سألت أبا مسهر عن سعيد بن بشير فقال: لم يكن في جندنا أحفظ منه، وهو ضعيف، منكر الحديث.

وقال ابن نمير: يروي عن قتادة المنكرات.

وذكره أبو زرعة في الضعفاء وقال: لا يحتجّ به، وكذا قال أبو حاتم».

«ولسعيد تفسير رواه عنه الوليد.

قال ابن عدي: لا أري بما يروي بأساً، ولعلّه يهم ويغلط.

وله عند أهل دمشق تصانيف، رأيت له تفسيراً مصنّفاً، والغالب عليه الصّدق.

قيل: مات سنة ثمان وستّين ومائة» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 128- 130/ 3143.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 306

الفريابي … ص: 306

ومنهم: الفريابي … فإنّه وإنْ مدح ووثّق، كما في (الوافي بالوفيات) حيث قال:

«محمّد بن يوسف بن واقد، أبو عبداللَّه الفريابي، ولد سنة 120، كان عالماً زاهداً ورعاً، من الطبقة السادسة، قال: رأيت في المنام أنّي دخلت كرماً فيه عنب، فأكلت من عنبه كلّه إلّاالأبيض، فقصصت رؤياي علي سفيان الثوري فقال: تصيب من العلوم كلّها، إلّاالفرائض فإنّها جوهر العلم، كما أنّ العنب الأبيض جوهر العنب، وكان كما قال.

روي

عن الثوري وغيره. وروي عنه الإمام أحمد وغيره.

قال البخاري: كان الفريابي من أفضل أهل زمانه، وكان ثقة صدوقاً مجاب الدعوة.

توفي سنة اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة ومائتين» «1».

ومع هذا، فقد أورده الذهبي في (الميزان)، وحكي عن يحيي بن معين أنّه حكم علي بعض أحاديثه بالبطلان، وعن العجلي أنّ الفريابي أخطأ في مائة وخمسين حديثاً «2».

__________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات 5: 243/ 2310.

(2) ميزان الاعتدال 4: 71- 72/ 8340.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 307

عثمان بن أبي شيبة … ص: 307

ومنهم: عثمان بن أبي شيبة.

قال اليافعي في (تاريخه):

«الحافظ عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي، وكان أسنّ من أخيه أبي بكر. رحل وطوّف، وصنّف التفسير والمسند، وحضر مجلسه ثلاثون ألفاً» «1».

وقال الذهبي في (الميزان):

«خ م دق- عثمان بن أبي شيبة، أبوالحسن، أحد أئمّة الحديث الأعلام، كأخيه أبي بكر» «2».

ومع ذلك، فقد تُكلّم فيه من جهات، قال في (الميزان):

«قال عبداللَّه: وقلت لأبي: حدّثنا عثمان، ثنا جرير، عن شيبة بن نعامة، عن فاطمة بنت حسين بن علي، عن فاطمة الكبري، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لكلّ بني أب عصبة ينتمون إليه، إلّاولد فاطمة، أنا عصبتهم.

وقلت له: حدّثنا عثمان، ثنا أبو خالد الأحمر، عن ثور بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله قال: تسليم الرجل بأصبع واحدة يشير بها فعل اليهود.

فأنكر أبي هذه الأحاديث مع أحاديث من هذا النحو، أنكرها جدّاً وقال:

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 2: 92 السنة 239.

(2) ميزان الاعتدال 3: 35/ 5518.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 308

هذه موضوعة أو كأنّها موضوعة.

وقال أبي: أبو بكر أخوه أحبّ إليّ من عثمان.

فقلت: إنّ يحيي بن معين يقول: إنّ عثمان أحبّ إليّ.

فقال أبي: لا.

ورواها أبو علي ابن الصواف، عن عبداللَّه،

عن أبيه وزاد فقال: ما كان أخوه أبوبكر يُطَنِّف نفسه لشي ء من هذه الأحاديث، نسأل اللَّه السلامة.

وقال: كنّا نراه يتوهّم هذه الأحاديث» «1».

«قال يحيي: ثقة مأمون.

قلت: إلّاأنّ عثمان كان لا يحفظ القرآن فيما قيل.

فقال أحمد بن كامل: ثنا الحسن بن الحباب: أنّ عثمان بن أبي شيبة قرأ عليهم في التفسير: «ألم تر كيف فعل ربّك» قالها: الف لام ميم» «2».

«قلت: لعلّه سبق لسان، وإلّا فقطعاً كان يحفظ سورة الفيل، وهذا تفسيره قد حمله النّاس عنه» «3».

وقال السيوطي في (تدريب الراوي):

«أورد الدارقطني في كتاب التصحيف كلّ تصحيف وقع للعلماء حتّي في القرآن، من ذلك ما رواه أنّ عثمان بن أبي شيبة قرأ علي أصحابه في التفسير:

«وجعل السفينة في رجل أخيه. فقيل له: إنّما هو «جعل السقاية في رحل أخيه». فقال: أنا وأخي أبوبكر لا نقرأ لعاصم. قال: وقرأ عليهم في التفسير

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 36/ 5518.

(2) ميزان الاعتدال 3: 37/ 5518.

(3) ميزان الاعتدال 3: 37/ 5518.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 309

«ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل» قال: ا ل م. كأوّل البقرة» «1».

وفي (الميزان):

«قال الخطيب في جامعه: لم يحك عن أحد من المحدّثين من التصحيف في القرآن الكريم، أكثر ممّا حكي عن عثمان بن أبي شيبة، ثمّ ساق بسنده عن إسماعيل بن محمّد التستري: سمعت عثمان بن أبي شيبة يقرأ «فإن لم يصبها وابل فظل» وقرأ مرّة «من الخوارج مكلّبين».

وقال أحمد بن كامل القاضي: ثنا أبوالشيخ الأصبهاني محمّد بن الحسن قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة «بطشتم خبّازين».

وقال محمّد بن عبيداللَّه بن المنادي: قال لنا عثمان بن أبي شيبة: «ن والقلم» أي سورة هو؟

وقال مطين: قرأ عثمان بن أبي شيبة «فضرب لهم

سنور له ناب» فردّوا عليه فقال: قراءة حمزة عندنا بدعة.

وقال يحيي بن محمّد بن كاس النخعي: ثنا إبراهيم بن عبداللَّه الخصاف قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة تفسيره فقال: «جعل السفينة في رجل أخيه» فقيل: إنّما هو «السقاية». فقال: أنا وأخي لا نقرأ لعاصم» «2».

وكما حمل الذهبي خطأ عثمان في سورة الفيل علي سبق اللّسان، حاول حمل تصحيفاته علي المزاح والدعابة! فقال:

«قلت: فكأنّه كان صاحب دعابة، ولعلّه تاب وأناب» …

لكن الدعابة في ألفاظ القرآن توجب الفسق، ولذا قال «لعلّه تاب __________________________________________________

(1) تدريب الراوي 2: 175- النوع السادس والثلاثون.

(2) ميزان الاعتدال 3: 37/ 5518.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 310

وأناب» وهل يكفي «لعلّ» لو كان ذلك منه «دعابة»؟

والألطف من ذلك تمنّيه موت إسحاق من أجل الشهرة والرئاسة، قال في (الميزان):

«قال إبراهيم بن أبي طالب الحافظ: دخلت عليه فقال لي: إلي متي لا يموت إسحاق؟

فقلت: شيخ مثلك يتمنّي موت شيخ مثله؟!

فقال: دعني، فلو مات لصفا لي جوّي» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 38/ 5518.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 313

الطبقة الرابعة … ص: 313

اشارة

قال السيوطي:

«وبعدهم: ابن جرير الطبري، وكتابه أجلّ التفاسير وأعظمها، ثمّ ابن أبي حاتم، وابن ماجة، والحاكم، وابن مردويه، وأبوالشيخ ابن حيان، وابن المنذر، في آخرين.

وكلّها مسندة إلي الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك، إلّا ابن جرير، فإنّه يتعرّض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها علي بعض، والإعراب والإستنباط، فهو يفوقها بذلك» «1».

أقول:

إنّ أفضل وأشرف تفاسير هذه الطبقة:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 242.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 314

تفسير ابن جرير الطبري … ص: 314

كما قال السيوطي، بل لقد ادّعي الإجماع علي ذلك، حيث قال:

«فإن قلت: فأيّ التفاسير ترشد إليه، وتأمر الناظر أنْ يعوّل عليه؟

قلت: تفسير الإمام أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري، الذي أجمع العلماء والمفسّرون علي أنّه لم يُؤلّف في التفسير مثله» «1».

وقال النووي:

«له التاريخ المشهور، وكتاب في التفسير لم يصنّف أحد مثله» «2».

وقال ياقوت الحموي نقلًا عن الخطيب:

«وله الكتاب المشهور في تاريخ الامم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنّف أحدٌ مثله» «3».

قال ياقوت:

«ومن كتبه: الكتاب المسمّي جامع البيان عن تأويل آي القرآن.

قال أبوبكر ابن كامل: أملي علينا من كتاب التفسير مائة وخمسين آية، ثمّ خرجه بعد ذلك إلي آخر القرآن فقرأه علينا، وذلك في سنة سبعين ومائتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره. وأبوالعبّاس أحمد بن يحيي ثعلب __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 244.

(2) تهذيب الأسماء واللغات 1: 78/ 8.

(3) معجم الادباء 18: 41/ 17.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 315

وأبوالعبّاس محمّد بن يزيد المبرد يَحْيَيان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضاً في الوقت غيرهما مثل: أبي جعفر الرستمي وأبي الحسن ابن كيسان والمفضّل بن سلمة والجعد وأبي إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويّين من فرسان هذا الشأن، وحمل هذا الكتاب مشرقاً ومغرباً، وقرأه كلّ من كان

في وقته من العلماء، وكلّ فضّله وقدّمه.

قال أبو جعفر: حدّثتني به نفسي وأنا صبي.

قال أبو جعفر: استخرت اللَّه تعالي في عمل كتاب التفسير، وسألته العون علي ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله، فأعانني.

وقال أبو محمّد عبداللَّه بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أخبرني شيخ من جِسْرِ ابن عفيف قال: رأيت في النوم كأنّي في مجلس أبي جعفر والنّاس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفاً بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما انزل فليسمع هذا الكتاب.

ولم يتعرّض- أي الطبري- لتفسير غير موثوق به، فإنّه لم يدخل في كتابه شيئاً عن كتاب محمّد بن السائب الكلبي ولا مقاتل بن سليمان ولا محمّد بن عمر الواقدي، لأنّهم عنده أظنّاء» «1».

وقال السمعاني في (الأنساب):

«قال أبو حامد الإسفرائني: لو سافر رجل إلي الصين، حتّي يحصل له كتاب تفسير محمّد بن جرير، لم يكن ذلك كثيراً» «2».

وأمّا محمّد بن جرير الطبري نفسه، فتوجد مكارمه ومحامده في الكتب __________________________________________________

(1) معجم الادباء 18: 61- 65/ 17.

(2) الأنساب 4: 46.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 316

التالية:

تذكرة الحفّاظ 2: 710- 716.

طبقات الشافعيّة للسبكي 3: 120- 128.

طبقات الحفّاظ: 307- 308.

وفيات الأعيان 4: 191- 192.

مرآة الجنان 2: 260.

تاريخ بغداد 2: 162- 169.

تهذيب الأسماء واللغات 1: 78- 79.

سير أعلام النبلاء 14: 267- 282.

وغيرها من كتب التاريخ وتراجم الرّجال.

قال ياقوت الحموي في (معجم الادباء) نقلًا عن الخطيب:

«كان أحد أئمّة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلي رأيه، لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب اللَّه عزّ وجلّ، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً بأحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن

بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيّام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الامم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنّف أحد مثله، وكتاب سمّاه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه، لم يتمه.

قال ابن خزيمة- لمّا لاحظ تفسير ابن جرير-: ما أعلم علي أديم الأرض أعلم من ابن جرير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 317

قال أبو محمّد بن عبدالعزيز بن محمّد الطبري: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ علي ما لا يجهله أحد، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الامّة، ولا ظهر من كتب المصنّفين وانتشر من كتب المؤلّفين ما انتشر له، وكان راجحاً في علوم القرآن والقراءات وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك واختلاف الفقهاء مع الرواية لذلك، علي ما في كتابه البسيط والتهذيب وأحكام القراءات، من غير تعويل علي المناولات والإجازات، ولا علي ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة.

كان كالقاري الذي لا يعرف إلّاالقرآن، وكالمحدّث الذي لا يعرف إلّا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلّاالفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلّا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلّاالحساب، وكان عاملًا بالعبادات، جامعاً للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلًا علي غيرها» «1».

أقول:

وإذا كان الطبري بهذه المنزلة، فلماذا يسقط كلامه عن الإعتبار إذا احتجَّ به أصحابنا في موردٍ ويُتكلَّم فيه؟

لقد احتجّ العلّامة الحلّي برواية الطبري تهديد عمر بن الخطّاب فاطمة الزهراء الطاهرة عليها السلام بإحراق بيتها، فقال ابن روزبهان في جوابه:

«ومن أسمج ما افتراه الروافض هذا الخبر- وهو إحراق عمر بيت فاطمة- وما ذكر أنّ الطبري ذكره في التاريخ، فالطبري من الروافض مشهور بالتشيّع، حتّي أنّ علماء

بغداد هجروه، لغلوّه في الرفض والتعصّب، وهجروا كتبه __________________________________________________

(1) معجم الادباء 18: 41- 43 و 59 و 61/ 17.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 318

ورواياته وأخباره.

وكلّ من نقل هذا الخبر فلا يشك أنّه رافضي متعصّب، يريد إبداء القدح والطعن علي الأصحاب، لأنّ العاقل المؤمن الخبير بأخبار السلف ظاهر عليه أنّ هذا الخبر كذب صراح وافتراء بيّن، لا يكون أقبح منه ولا أبعد من أطوار السلف» «1».

وإذا كان الطبري من الروافض، شمله كلّ ما ذكره ابن تيميّة وغيره للروافض، من القبائح والمثالب التي تفوق الحصر وتتجاوز حدّ الشرح والتبيين …

هذا، وقد سبقه إلي الإتّهام بالتشيّع الفخر الرازي في كتابه (نهاية العقول) في الكلام علي النصّ علي إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«الثالث: إنّ هذا النص لو كان كذباً لما دعا إلي روايته إلّاالهوي، فكان ينبغي أنْ لا يرويه من لا يهوي مقتضاه، وقد رواه أصحاب الحديث كابن جرير الطبري، وليس هو من الإماميّة، فبطل أن يكون كذباً».

فأجاب الرازي أوّلًا بأنّ الطبري لم يرو هذا النص ثمّ قال:

«ثمّ إن سلّمنا أنّه ذكره، فلعلّه رواه قبل أن تثبت عنده صحّة هذا الحديث، فإنّ من المحدّثين من يروي كلّ غثّ وسمين.

ثمّ إن سلّمنا ذلك، فلا نسلّم أنّه ما كان متّهماً بالتشيّع» «2».

فكان ابن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ممّن يروي الغثّ __________________________________________________

(1) ورد القول في دلائل الصدق 3: 79.

(2) نهاية العقول- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 319

والسمين، وكان متّهماً بالتشيّع …!!

هذا، ومن العجائب تناقض ابن تيميّة تجاه ابن جرير وتفسيره، فإنّه لمّا لم يخرج ابن جرير حديث نزول آية الولاية في أميرالمؤمنين عليه السلام، جعل ابن تيميّة يمدحه ويمدح تفسيره،

وينصُّ علي خلوّه من الموضوعات «1»، حتّي إذا رأي أنّه قد روي بتفسير آية الإنذار نصّ النبي علي أمير المؤمنين علي عليه السلام، بالإمامة والخلافة والولاية من بعده … جعل يذمّ تفسير ابن جرير ومؤلِّفه بشدّةٍ …!! «2»

__________________________________________________

(1)

منهاج السنّة 4: 5.

(2) منهاج السنّة 4: 128.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 320

تفسير ابن أبي حاتم … ص: 320

المحدث الحافظ، الفقيه، المفسّر، الرجالي، الذي ترجم له ابن قاضي شهبة في (طبقات الشافعيّة) فقال:

«عبدالرحمان بن محمّد بن إدريس، أبو محمّد، ابن أبي حاتم، الحنظلي الرازي، أحد الأئمّة في الحديث والتفسير والعبادة والزهد والصلاح، حافظ ابن حافظ، أخذ عن أبيه وعن أبي زرعة، وصنّف الكتب المهمّة، كالتفسير الجليل المقدار، في أربع مجلّدات، غالبه آثار مسندة …» «1».

وفي (فوات الوفيات):

«قال أبو علي الخليلي: كان يعدّ من الأبدال، وقد أثني عليه جماعة بالزهد والورع التام والعلم والعمل» «2».

وذكر السيوطي في (اللآلي المصنوعة) بعد حديث تكليم اللَّه موسي:

«وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، وقد التزم أنْ يخرّج فيه أصحّ ما ورد، ولم يخرّج فيه حديثاً موضوعاً ألبتّة» «3».

وفي (الإتقان) بعد ذكر تفسير السدّي:

«ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئاً، لأنّه التزم أنْ يخرّج أصحّ ما ورد» «4».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعيّة 1: 111/ 58.

(2) فوات الوفيات 2: 288/ 257.

(3) اللآلي المصنوعة 1: 12.

(4) الإتقان في علوم القرآن 4: 238.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 321

لكنّ ابن تيميّة يقول- في الجواب عن الإستدلال بالحديث الوارد بذيل الآية «وأنذر عشيرتك الأقربين» الذي رواه ابن أبي حاتم أيضاً، كما في (الدرّ المنثور) «1» -:

«والجواب من وجوه:

الأوّل: المطالبة بصحّة النقل، وما ادّعاه من نقل النّاس كافّة، من أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث، فإنّ هذا الحديث ليس في شي ء من كتب

المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل، لا في الكتب الصحاح ولا في المسانيد والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتجّ به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف مثل تفسير الثعلبي والواحدي والبغوي بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرّد رواية واحد من هؤلاء دليلًا علي صحّته باتفاق أهل العلم، فإنّه إذا عرف أنّ تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف، فلابدّ من بيان أنّ هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف، وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغثّ والسمين، بل وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة، مع أنّ كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي والبغوي ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا».

وقال:

«الثالث: إنّ هذا الحديث كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلّاوهو يعلم أنّ هذا كذب موضوع، وهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأنّ أدني من له معرفة

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 6: 327- 328.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 322

بالحديث يعلم أنّ هذا كذب» «1».

وعلي هذا، فإنّ جميع المدائح المذكورة لابن أبي حاتم وتفسيره تذهب أدراج الرّياح.

هذا بالنسبة إلي تفسيره.

وأمّا بالنسبة إلي كتابه في الجرح والتعديل، فقد ذكر ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) ما نصّه:

«وبالإسناد عن أبي الحسن علي بن محمّد البخاري يقول: سمعت محمّد ابن الفضل العبّاسي يقول: كنّا عند عبدالرحمان بن أبي حاتم وهو يقرأ علينا كتاب الجرح والتعديل، فدخل عليه يوسف بن الحسين الرازي فقال: يا أبا محمّد، ما هذا الذي تقرؤه علي الناس؟ فقال: كتاب صنّفته في الجرح والتعديل. فقال: وما الجرح

والتعديل؟ فقال: أظهر أحوال أهل العلم من كان منهم ثقة أو غير ثقة. فقال له يوسف بن الحسين: استحييت لك يا أبامحمّد من هؤلاء القوم، قد حطّوا رواحلهم في الجنّة منذ مائة سنة ومائتي سنة، تذكرهم وتغتابهم علي أديم الأرض. فبكي عبدالرحمان وقال: يا أبا يعقوب لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفي هذا الكتاب لم اصنّفه» «2».

ولكنّ هذا الكلام يدلّ علي جهل ابن أبي حاتم وعدم فهمه، للزوم المفسدة العظيمة في الدين والشريعة لولا الجرح والتعديل للرجال … ولذا قال ابن الجوزي:

«قلت: عفا اللَّه عن ابن أبي حاتم، فإنّه لو كان فقيهاً لردّ عليه كما ردّ إمام __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4: 128- 129.

(2) تلبيس إبليس: 379.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 323

القوم في الجنّة أحمد علي أبي تراب، ولولا الجرح والتعديل من أين كان يعرف الصحيح من الباطل. ثمّ كون القوم في الجنّة لا يمنع أن نذكرهم بما فيهم، وتسمية ذلك غيبة حديث سوء. ثمّ من لا يدري الجرح والتعديل ما هو كيف يذكر كلامه؟» «1».

__________________________________________________

(1) تلبيس إبليس: 379 باختلافٍ في النص.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 324

تفسير الحاكم النّيسابوري … ص: 324

الذي قال عنه المناوي في (فيض القدير):

«قال السبكي: إتفق العلماء علي أنّه من أعظم الأئمّة الذين حفظ اللَّه بهم الدين» «1».

وقال ابن قاضي شهبة:

«وقد أطنب عبدالغافر في مدحه وذكر فضائله وفوائده ومحاسنه- إلي أنْ قال: - مضي إلي رحمة اللَّه تعالي ولم يخلّف بعده مثله» «2».

وقال ابن الأثير في وصف منزلته في علم الحديث:

«كان عالماً بهذا الفن، خبيراً بغوامضه، عارفاً بأسراره» «3».

إلّاأنّه لروايته بعض مناقب أميرالمؤمنين عليه السّلام، تكلّم فيه بعض أكابر القوم، قال الذهبي في (الميزان):

«قد قال ابن طاهر: سألت أباإسماعيل عبداللَّه الأنصاري عن الحاكم

أبي عبداللَّه فقال: إمام في الحديث، رافضي خبيث» «4».

بل إنّ الفضل ابن روزبهان اتّخذ اتّهامه بالتشيّع ذريعةً للردّ علي الإماميّة حين قال:

__________________________________________________

(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير 1: 26.

(2) طبقات الشافعية 1: 194/ 153.

(3) جامع الاصول- ترجمة الحاكم النيسابوري.

(4) ميزان الاعتدال 3: 608/ 7804.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 325

«وذكر الإمام الحاكم أبو عبداللَّه النيسابوري، المحدّث الكبير والحافظ المتقن الفاضل النحرير، في كتاب معرفة علوم الحديث، بإسناده عن الإمام أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه وعلي آبائه السلام أنّه قال: أبوبكر الصدّيق جدّي، وهل يسبُّ أحد آبائه، لاقدّمني اللَّه إنْ لا اقدّمه.

وقد اشتهر بين المحدّثين والعلماء: أنّ الحاكم أباعبداللَّه المذكور كان مائلًا إلي التشيّع».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 326

تفسير إبن ماجة … ص: 326

وأمّا تفسير ابن ماجة القزويني، فمن الرّجال الذين روي عنهم فيه:

عيسي بن قرطاس الكوفي: قال ابن حجر في (تقريب التهذيب):

«عيسي بن قرطاس الكوفي، متروك، وقد كذَّبه الساجي، من السادسة» «1».

محمّد بن عبداللَّه الأنصاري: قال الذهبي:

«قال العقيلي: منكر الحديث.

وقال ابن حبّان: منكر الحديث جدّاً.

وقال ابن طاهر: كذّاب، وله طامّات» «2».

وقال ابن حجر: «كذّبوه» «3».

نوح بن درّاج: قال ابن حجر:

«متروك، وقد كذّبه ابن معين» «4».

وقال الذهبي: «قال النسائي وغيره: ضعيف.

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 2: 107/ 5983.

(2) ميزان الاعتدال 3: 598/ 7764.

(3) تقريب التهذيب 2: 186/ 6763.

(4) تقريب التهذيب 2: 313/ 8112.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 327

وقال أبو داود: كذّاب يضع الحديث» «1».

نوح بن أبي مريم: وستعرفه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 276/ 9133.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 328

تفسير ابن مردويه … ص: 328

وأمّا تفسير ابن مردويه، فقد نصّ المولوي عبدالعزيز الدهلوي صاحب التحفة الإثني عشريّة في رسالته في (اصول الحديث) بأنّه من التفاسير المشهورة، إلّاأنّه أورده في عداد كتب الطبقة الرابعة، مصرّحاً بأنّ أحاديث هذه الكتب ليست بقابلةٍ للاعتماد للدلالة علي عقيدةٍ أو حكم.

كما أنّ ابن الجوزي قد حكم بالوضع علي أحاديث كثيرة في هذا التفسير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 329

تفسير ابن المنذر … ص: 329

الذي جاء في (طبقات الشافعيّة) لابن قاضي شهبة بترجمته:

«محمّد بن إبراهيم بن المنذر، أبوبكر النيسابوري، الفقيه، نزيل مكّة، أحد الأئمّة الأعلام، وممّن يقتدي بنقله في الحلال والحرام، صنّف كتباً معتبرة عند أئمّة الإسلام، منها … التفسير وغير ذلك، وكان مجتهداً لا يقلّد أحداً» «1».

لكنْ في (ميزان الاعتدال) ما نصّه:

«قال مسلمة بن قاسم الأندلسي: كان لا يحسن الحديث. ثمّ نسب إلي العقيلي: إنّه كان يحمل عليه وينسبه إلي الكذب، وكان يروي عن الربيع بن سليمان عن الشافعي، ولم ير الربيع ولا سمع منه، وذكر غير ذلك. توفي سنة 318، ولا عبرة بقول مسلمة فيه، وأمّا العقيلي فكلامه من قبيل كلام الأقران بعضهم في بعض، مع أنّه لم يذكره في كتاب الضعفاء له» «2».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 1: 98/ 44.

(2) ميزان الاعتدال 3: 450- 451/ 7123.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 330

تفسير ابن أبي داود السجستاني … ص: 330

الذي ذكر الذّهبي مناقبه فقال:

«قد كان أبوبكر من كبار الحفّاظ والأئمّة الأعلام، حتّي قال الخطيب:

سمعت الحافظ أبا محمّد الخلّال يقول: كان أبوبكر أحفظ من أبيه أبي داود.

وروي ابن شاهين عن أبي بكر أنّه كتب في شهر عن أبي سعيد الأشج ثلاثين ألفاً.

وقال أبوبكر النقّاش والعهدة عليه: سمعت أبابكر ابن أبي داود يقول:

إنّ تفسيره فيه مائة ألف وعشرون ألف حديث.

قلت: ولد سنة ثلاثين ومائتين، ورحل به أبوه، فلقي الكبار وسمع عيسي ابن حمّاد صاحب الليث بن سعد وطبقته، وانفرد عن طائفة.

قال أبوبكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان: ذهب أبوبكر إلي سجستان فاجتمعوا عليه وسألوه أن يحدّثهم فقال: ليس معي كتاب. فقالوا: ابن أبي داود وكتاب؟ قال: فأثاروني فأمليت عليهم من حفظي ثلاثين ألف حديث، فلمّا قدمت بغداد قال البغداديّون: لعبت بأهل سجستان ثمّ فيّجوا فيجاً اكتروه بستة

دنانير ليكتب لهم النسخة، فكتبت وجي ء بها فعرضت علي الحفّاظ فخطّأوني في ستّة أحاديث منها ثلاثة رويتها كما سمعت.

وقال الحافظ أبوعلي النيسابوري: سمعت ابن أبي داود يقول: حدّثت بأصبهان من حفظي بستّة وثلاثين ألف حديث، ألزموني الوهم في سبعة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 331

أحاديث، فلمّا رجعت وجدت في كتابي منها خمسة علي ما حدّثتهم» «1».

لكنّ ابن أبي داود مجروح ومقدوح بقوادح عظيمة كالنصب والكذب، حتّي أنّهم نقلوا عن أبيه- أبي داود صاحب السنن- اتّهامه بالكذب … وقد أورده الذهبي في (الميزان) فقال:

«عبداللَّه بن سليمان بن الأشعث السجستاني، أبوبكر، الحافظ الثقة، صاحب التصانيف، وثّقه الدارقطني فقال: ثقة إلّاأنّه كان كثير الخطأ في الكلام علي الحديث.

وذكره ابن عدي وقال: لولا ما شرطنا وإلّا لما ذكرته- إلي أن قال: - وهو معروف بالطلب، وعامّة ما كتب مع أبيه وهو مقبول عند أصحاب الحديث.

وأمّا كلام أبيه فيه فلا أدري أيش تبيّن له منه.

ثنا علي بن عبداللَّه الداهري، سمعت أحمد بن محمّد بن عمرو كركرة، سمعت علي بن الحسين بن الجنيد، سمعت أباداود يقول: ابني عبداللَّه كذّاب.

قال ابن صاعد: كفانا ما قال أبوه فيه.

ثمّ قال ابن عدي: سمعت موسي بن القاسم الأشيب يقول: حدّثني أبوبكر يقول: سمعت إبراهيم الأصبهاني يقول: أبوبكر ابن أبي داود كذّاب.

وسمعت أبا القاسم البغوي وقد كتب إليه أبوبكر ابن أبي داود يسأله عن لفظ حديث لجدّه، فلمّا قرأ رقعته قال: أنت- واللَّه- عندي منسلخ من العلم.

وسمعت عبدان، سمعت أبا داود السجستاني يقول: من البلاء أنّ عبداللَّه يطلب للقضاء.

وسمعت محمّد بن الضحّاك بن عمرو بن أبي عاصم يقول: أشهد علي __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 435/ 4368.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 332

محمّد بن يحيي

بن مندة بين يدي اللَّه أنّه قال: أشهد علي أبي بكر ابن أبي داود بين يدي اللَّه تعالي أنّه قال: روي الزهري عن عروة قال: حفيت أظافير فلان، من كثرة ما كان يتسلّق علي أزواج النّبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قلت: هذا لم يسنده أبوبكر إلي الزهري، فهو منقطع. ثمّ لا يسمع قول الأعداء بعضهم في بعض، ولقد كاد أن يضرب عنق عبداللَّه لكونه حكي هذا، فشدّ منه محمّد بن عبداللَّه بن حفص الهمداني وخلّصه من أمير أصبهان أبي ليلي، وكان انتدب له بعض العلويّة خصماً، ونسب إلي عبداللَّه المقالة، وأقام الشهادة عليه ابن مندة المذكور ومحمّد بن عبّاس الأخرم وأحمد بن علي الجارود، فأمر أبو ليلي بقتله، فأتي الهمداني وجرح الشهود …».

وأيضاً في (الميزان):

«قلت: كان- أي عبداللَّه بن سليمان- قوي النفس، وقع ج فتنة ج بينه وبين ابن صاعد وبين ابن جرير، نسأل اللَّه العافية.

قال ابن شاهين: أراد الوزير علي بن عيسي أن يصلح بين أبي بكر ابن أبي داود وابن صاعد، فجمعهما وحضر القاضي أبو عمر، فقال الوزير لأبي بكر: أبومحمّد ابن صاعد أكبر منك فلو قمت إليه. فقال: لا أفعل. فقال له:

أنت شيخ زيف. قال أبوبكر: الشيخ الزيف الكذّاب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. فقال الوزير: من الكذّاب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟

قال أبوبكر: هذا، ثمّ قال: إنّي أذلّ لأجل رزق يصل إليّ علي يدك، واللَّه لاأخذت من يدك شيئاً أبداً، وعليَّ مائة بدنة إن أخذت منك شيئاً، فكان المقتدر بعد يزن رزقه بيده ويبعثه علي يد خادم.

وقال محمّد بن عبداللَّه القطّان: كنت عند محمّد بن جرير فقال رجل:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 333

ابن أبي داود يقرأ علي النّاس

فضائل علي رضي اللَّه عنه. فقال ابن جرير:

تكبيرةٌ من حارس.

قلت: وقد قام ابن أبي داود وأصحابه- وكانوا خلقاً كثيراً- علي ابن جرير ونسبوه إلي بدعة اللّفظ، فصنّف الرجل معتقداً حسناً سمعناه، تنصّل فيه ممّا قيل عنه وتألّم لذلك» «1».

هذا، وقد ذمّه ابن الجوزي علي روايته الخبر الطويل الموضوع في فضائل السّور وفرَّقه عليها، مع علمه بوضعه وبطلانه! قال:

«وإنّما عجبت من أبي بكر ابن أبي داود كيف فرّقه علي كتابه الذي صنّفه في فضائل القرآن وهو يعلم أنّه حديث محال، ولكنْ شره جمهور المحدّثين، فإنّ من عادتهم تنفيق حديثهم ولو بالبواطيل، وهذا قبيح منهم، لأنّه قد صحَّ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال: من حدّث عنّي حديثاً يري أنّه كذب فهو أحد الكاذبين» «2».

وقد أورد السيوطي كلام ابن الجوزي هذا مع إسقاط الجملة الأخيرة منه التي فيها ذمّ لجمهور المحدّثين … «3»

فكان ابن أبي داود مطعوناً عند ابن الجوزي والسيوطي أيضاً.

وحرمة رواية الحديث الموضوع- مع العلم بوضعه- ممّا استفاض فيه الحديث النبوي واتفق عليه العلماء.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 433- 435/ 4368.

(2) كتاب الموضوعات 1: 240.

(3) اللآلي المصنوعة 1: 228.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 334

تفسير أبي بكر النقّاش … ص: 334

وهو من مشاهير مفسّريهم، وقد اعتمد علي تفسيره علماؤهم، حتّي أنّ صاحب (التحفة) رجّح روايته في نزول آية الولاية في المهاجرين والأنصار علي رواية الثعلبي نزولها في أميرالمؤمنين عليه السلام «1».

وقال السيوطي في (اللآلي المصنوعة):

«وأمّا النقّاش، فهو أحد العلماء بالقراءات، وأحد الأئمّة في التفسير، قال الذهبي: صار شيخ المقرين في عصره، علي ضعفٍ فيه، أثني عليه أبو عمرو الداني، وحدّث بمناكير».

واعتمد السبكي علي توثيق أبي عمرو الداني، قال:

«محمّد بن الحسن بن محمّد بن زياد بن هارون بن

جعفر بن سند، أبوبكر النقّاش، الموصلي ثمّ البغدادي، الإمام في القراءة والتفسير وكثير من العلوم … وثّقه أبو عمرو الداني وقبله وزكّاه …» «2».

لكنّ تكلّمهم فيه وفي تفسيره كثير:

قال السمعاني:

«ذكر طلحة بن محمّد بن جعفر النقّاشَ فقال: كان يكذب في الحديث والغالب عليه القصص.

__________________________________________________

(1) التحفة الإثنا عشريّة: 198.

(2) طبقات الشافعيّة 3: 145- 146/ 129.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 335

وسُئل أبوبكر البرقاني عن النقّاش فقال: كلّ حديثه منكر.

وقال البرقاني وذكر تفسير النقّاش فقال: ليس فيه حديث صحيح.

وكان هبة اللَّه الطبري اللالكائي يقول: تفسير النقّاش ذلك إشفاء الصدور ليس بشفاء الصدور» «1».

وأورد الذهبي الكلمات المذكورة في (الميزان) «2» وفيه أيضاً:

«محمّد بن الحسن، روي عنه إسحاق بن محمّد السيوطي أحاديث مختلفة في فضل معاوية، لعلّه النقّاش صاحب التفسير، فإنّه كذّاب» «3».

وكذا في (لسان الميزان) «4» و (وفيات الأعيان) «5».

__________________________________________________

(1) الأنساب 5: 517- 518 «النقّاش».

(2) ميزان الاعتدال 3: 520/ 7404.

(3) ميزان الاعتدال 3: 516/ 7390.

(4) لسان الميزان 6: 45/ 7288.

(5) وفيات الأعيان 4: 298/ 627.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 339

طبقة المتأخّرين … ص: 339

اشارة

قال السيوطي بعد الطبقات الأربع:

«ثمّ ألّف في التفسير خلائق، فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بتراً، فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل، ثمّ صار كلّ من يسنح له قول يورده ومن يخطر بباله شي ء يعتمده، ثمّ ينقل ذلك عنه من يجي ء بعده ظانّاً أنّ له أصلًا غير ملتفت إلي تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومن يرجع إليهم في التفسير، حتّي رأيت من حكي في قوله تعالي: «غير المغضوب عليهم ولا الضالّين» نحو عشر أقوال، وتفسيرها باليهود والنصاري هو الوارد عن النبي وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتّي قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافاً

بين المفسّرين».

ثمّ قال: بعد الطبقات الخمس:

«ثمّ صنّف بعد ذلك قوم برعوا في علومٍ، فكان كلٌّ منهم يقتصر في تفسيره علي الفن الذي يغلب عليه.

فالنحوي تراه ليس له همٌّ إلّاالإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه، ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافيّاته، كالزجاج والواحدي في البسيط وأبي حيان في البحر والنهر …

وصاحب العلوم العقليّة خصوصاً الإمام فخر الدين قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبهها، وخرج من شي ء إلي شي ء حتّي يقضي الناظر

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 340

العجب من عدم مطابقة المورد للآية، وقال أبو حيّان في البحر: جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كلّ شي ء إلّاالتفسير.

والمبتدع ليس له قصد إلّاتحريف الآيات وتسويتها علي مذهبه الفاسد، بحيث أنّه متي لاح له شاردة من بعيد اقتنصها أو وجد موضعاً له فيه أدني مجال، سارع إليه» «1».

أقول:

والآن، فلننظر في أحوال هذه الطبقة من المفسّرين:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 242- 243.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 341

الزجّاج … ص: 341

فأمّا الزجّاج، وتراجمه موجودة في وفيات الأعيان، ومرآة الجنان، وتاريخ بغداد، والوافي بالوفيات، وبغية الوعاة «1» وغيرها …

فقد ذكروا عنه قصّةً فيها الإعتراف بالخيانة والكذب طمعاً في حطام الدنيا، وذلك «أنّ القاسم بن عبيداللَّه، كان قد وعده أنّه إن صار وزيراً أن يعطي الزجاج عشرين ألف، فلمّا أصبح وزيراً قال للزجاج: «أجلس النّاس وخذ رقاعهم في الحوائج الكبار، واستجعل عليها ولا تمتنع من مسألتي في شي ء إلي أن يحصل لك القدر» قال الزجاج: «ففعلت ذلك. وكنت أعرض عليه كلّ يومٍ رقاعاً فيوقّع لي فيها، وربّما قال لي: كم ضمن لك علي هذا؟ فأقول: كذا وكذا، فيقول لي:

غبنت، هذا يساوي كذا وكذا، إرجع فاستزده، فاراجع القوم واماكسهم فيزيدونني، حتّي أبلغ الحدّ الذي رسمه، فحصلت عشرين ألف دينار فأكثر في مدّة فقال لي بعد شهورٍ: حصل مال النذر؟ فقلت: لا، وجعل يسألني في كلّ شهر هل حصل؟ فأقول: لا، خوفاً من انقطاع الكسب، إلي أنْ سألني يوماً فاستحييت من الكذب المتّصل فقلت: قد حصل ببركة الوزير» «2».

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 1: 49/ 13، مرآة الجنان 2: 198 السنة 311، تاريخ بغداد 6: 89/ 3126، الوافي بالوفيات 5: 347/ 2426، بغية الوعاة 1: 411/ 825.

(2) بغية الوعاة 1: 411- 412/ 825.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 342

أبو حيّان الأندلسي … ص: 342

وأمّا أثير الدين أبو حيّان الأندلسي، فترجمته في طبقات السبكي والوافي بالوفيات وبغية الوعاة والدرر الكامنة وفوات الوفيات وغيرها «1».

لكنّ أبا حيّان كان يتكلّم في ابن تيميّة ويتهجّم عليه ويرميه بكلّ سوء «2» وهذا من نقائصه، وهو يوجب الحطّ له من المحبّين لابن تيميّة …

وأبو حيّان- كما في (بغية الوعاة)-: «كان يفتخر بالبخل، كما يفتخر الناس بالكرم» «3» وهذه رذيلة عظيمة لا يخفي قبحها علي أحد!!

ومن معايبه ما ذكره الصفدي في (الوافي) قال:

«كان الشيخ تقي الدين قد نزل عن تدريس مدرسة لولده- نسيت أنا المدرسة واسم ابنه- فلمّا حضر الشيخ أثيرالدين درس قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز، قرأ آية تفسيرها درس ذلك اليوم وهي قوله تعالي:

«قد خسر الذين قتلوا أولادهم» الآية، فبرز أبو حيّان بين الحلقة وقال: يا مولانا قاضي القضاة قدّموا أولادهم، قدّموا أولادهم، يكرّر ذلك. فقال قاضي القضاة: ما معني هذا؟ قال ابن دقيق العيد: نزل لولده فلان عن تدريس المدرسة الفلانية، فنقل المجلس إلي تقي الدين ابن دقيق العيد فقال: أمّا أبو

__________________________________________________

(1)

طبقات السبكي 9: 276/ 1336، الوافي بالوفيات 5: 267/ 2345، بغية الوعاة 1: 28/ 516، الدرر الكامنة 4: 302/ 832، فوات الوفيات 4: 71/ 506.

(2) الدرر الكامنة 4: 308/ 832.

(3) بغية الوعاة 1: 282/ 516.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 343

حيّان ففيه دعابة أهل الأندلس ومجونهم، وأمّا أنت يا قاضي القضاة، يبدّل القرآن في حضرتك وما تنكر هذا الأمر.

فما كان عن قليل حتّي عزل ابن بنت الأعز من القضاء ابن دقيق العيد، وكان إذا خلا شي ء من الوظائف التي تليق بالشيخ أثيرالدين أبي حيان يقول الناس: هذه لأبي حيان يخرجها الشيخ تقي الدين لغيره.

فهذا هو السبب الموجب لحطّ أبي حيّان وشناعته عليه …».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 344

الفخر الرازي … ص: 344

وأمّا الفخر الرازي، فإنّه وإنْ كان من العلماء الأعلام وتفسيره في غاية الشهرة، لكنّ السّيوطي تكلّم عليه، ونقل بعض الكلام فيه، في (الإتقان).

أمّا الذهبي، فقد قال في (الميزان):

«الفخر ابن الخطيب، صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليّات، لكنّه عريّ من الآثار، وله تشكيكات علي مسائل من دعائم الدين تورث حيرة. نسأل اللَّه أن يثبّت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعلّه تاب من تأليفه إنْ شاء اللَّه» «1».

وابن تيميّة ذكر الرازي في عداد الجبريّة، وهذه عبارته:

«ثمّ المثبتون للصّفات، منهم: من يثبت الصّفات المعلومة بالسمع كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل، وهذا قول أهل السنّة الخاصّة: أهل الحديث ومن وافقهم، وهو قول أئمّة الفقهاء وقول أئمّة الكلام من أهل الإثبات، كأبي محمّد بن كلاب وأبي العبّاس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي عبداللَّه ابن مجاهد وأبي الحسن الطبري والقاضي أبي بكر الباقلاني، ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أصحابه. لكن المتأخرين

من أتباعه كأبي المعالي وغيره لا يثبتون إلّاالصّفات العقليّة.

وأمّا الجبريّة، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقّف فيها، كالرازي __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 340/ 6686.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 345

والآمدي وغيرهما، ونفاة الصفات الجبريّة، منهم من يتأوّل نصوصها ومنهم من يفوّض معناها إلي اللَّه» «1».

وجاء ابن حجر في (لسان الميزان) وفصّل الكلام حول الرازي بعد كلام الذهبي، وهذه عبارته:

«الفخر ابن الخطيب صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليّات لكنّه عريّ من الآثار، وله تشكيكات علي مسائل من دعائم الدين تورث حيرة، نسأل اللَّه أن يثبّت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعلّه تاب من تأليفه إن شاء اللَّه، إنتهي.

وقد عاب التاج السبكي علي المصنّف ذكره هذا الرجل في هذا الكتاب وقال: إنّه ليس من الرواة، وقد تبرّء المصنّف من الهوي والعصبيّة في هذا الكتاب فكيف ذكر هذا وأمثاله ممّن لا رواية لهم كالسيف الآمدي، ثمّ اعتذر عنه بأنّه يري أنّ القدح في هؤلاء من الديانة، وهذا بعينه التعصّب في المعتقد، والفخر كان من أئمّة الاصول، وكتبه في الأصلين شهيرة سائرة، وله ما يقبل وما يرد، وقد ترجم له جماعة من الكبار بما ملخّصه: أنّه ولد سنة 543 واشتغل علي والده، وكان من تلامذة البغوي، ثمّ اشتغل علي الكمال السمناني، وتمهّر في عدّة علوم، وعقد مجلس الوعظ، وكان إذا وعظ يحصل له وجد زائد، ثمّ أقبل علي التصنيف، فصنّف: التفسير الكبير، والمحصول في اصول الفقه، والمعالم، والمطالب العالية والأربعين، والخمسين، والملخّص، والمباحث المشرقيّة، وطريقة في الخلاف، ومناقب الشافعي.

وكان في أوّل أمره فقيراً، ثمّ اتفق أنّه صاهر تاجراً متموّلًا وله ولدان __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 222- 223.

استخراج المرام من استقصاء الافحام،

ج 2، ص: 346

فزوّجهما ابنتيه، ومات التاجر، فتقلّب الفخر في ذلك المال وصار من رؤساء ذلك الزّمان، يقوم علي رأسه خمسون مملوكاً بمناطق الذهب وحُلَل الوشي؛ قاله ابن الرسب في تاريخه. قال: وكانت له أوراد من صلاة وصيام لا يخلّ بها، وكان مع تبحّره في الاصول يقول: من التزم دين العجائز فهو الفائز، وكان يعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصّر في حلّها».

«وقد ذكره ابن دحية بمدح وذمّ، وذكره أبو شامة فحكي عنه أشياء رديّة، وكانت وفاته بهراة، يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة.

ورأيت في الأكسير في علم التفسير للنجم الطوفي ما ملخّصه: ما رأيت في التفاسير، أجمع لغالب علم التفسير من القرطبي، ومن تفسير الإمام فخر الدين، إلّاأنّه كثير العيوب، فحدّثني شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمياحي المصري أنّه صنّف كتاب المآخذ في مجلّدين، بيّن فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيراً ويقول: يورد شبه المخالفين في المذهب والدين علي غاية ما يكون من التحقيق … قال الطوفي:

ولعمري إنّ هذا دأبه في كتبه الكلاميّة والحكميّة حتّي اتّهمه بعض النّاس، ولكنّه خلاف ظاهر حاله، لأنّه لو كان اختار قولًا أو مذهباً ما كان عنده من يخاف منه حتّي يتستّر عنه، ولعلّ سببه أنّه كان يستفرغ قواه في تقرير دليل الخصم، فإذا انتهي إلي تقرير دليل نفسه لا يبقي عنده شي ء من القوي، ولا شكّ أنّ القوي النفسانيّة تابعة للقوي البدنيّة، وقد صرّح في مقدّمة نهاية العقول أنّه يقرّر مذهب خصمه تقريراً لو أراد خصمه أن يقرّره لم يقدر علي الزيادة علي ذلك.

وذكر ابن خليل السكوني في كتابه الرد علي الكشّاف: أنّ ابن الخطيب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 347

قال

في كتبه في الاصول: أنّ مذهب الجبر هو الصحيح، وقال بصحّة بقاء الأعراض وبنفي صفات اللَّه الحقيقيّة، ويزعم أنّها مجرّد نسب وإضافات كقول الفلاسفة، وسلك طريق أرسطو في دليل التمانع، ونقل عن تلميذه التاج الأرموي أنّه نصر كلامه، فهجره أهل مصر وهمّوا به فاستتر، ونقلوا عنه أنّه قال عندي كذا وكذا مائة شبهة علي القول بحدوث العالم، ومنها ما قاله شيخه ابن الخطيب في آخر الأربعين، والمتكلّم يستدلّ علي القدم بوجوب تأخّر الفعل ولزوم أوليّته، والفيلسوف يستدلّ علي قدمه باستحالة تعطّل الفاعل عن أفعاله.

وقال في شرح الأسماء الحسني: أنّ من أَخَّرَ عقاب الجاني مع علمه بأنّه سيعاقبه فهو الحقود. وقد تعقّب بأنّ الحقود من أخّر مع العجز، أمّا مع القدرة فهو الحكيم، والحقود إنّما يعقل في حقّ المخلوقين دون الخالق بالإجماع.

ثمّ أسند عن ابن الطبّاخ: أنّ الفخر كان شيعيّاً، يقدّم محبّة أهل البيت كمحبّة الشيعة، حتّي قال في بعض تصانيفه: وكان علي شجاعاً بخلاف غيره، وعاب عليه تسميته لتفسيره مفاتيح الغيب ولمختصره في المنطق بالآيات البيّنات، وتقريره لتلامذته في وصفه: بأنّه الإمام المجتبي، استاذ الدنيا، أفضل العالم، فخر ابن آدم، حجّة اللَّه علي الخلق، صدر صدور العرب والعجم. هذا آخر كلامه» «1» إنتهي.

وقال الشيخ عبدالوهّاب الشعراني في (إرشاد الطالبين إلي مراتب العلماء الكاملين):

«وقد طلب الشيخ فخرالدين الرازي الطريق إلي اللَّه تعالي، فقال له الشيخ نجم الدين الكبري: لا تطيق مفارقة صنمك الذي هو علمك، فقال: يا

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 5: 430- 435/ 6571.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 348

سيّدي، لابدّ إن شاء اللَّه تعالي، فأدخله الشيخ الخلوة وسلبه جميع ما معه من العلوم، فصاح في الخلوة بأعلي صوته: لا اطيق. فأخرجه وقال: أعجبني صدقك وعدم

نفاقك».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 349

أبو عبدالرحمن السّلمي … ص: 349

أقول:

ومن أعلام المفسّرين عند القوم: أبو عبدالرحمن السلمي، وهو من كبار مشايخ الصوفيّة، قال اليافعي بترجمته:

«الشيخ الكبير، العارف باللَّه الشهير، الحافظ أبو عبدالرحمن محمّد بن الحسين بن موسي النيسابوري السلمي الصوفي، صحب جدّه أبا عمرو بن نجيد، وسمع الأصم وطبقته، وصنّف التفسير والتاريخ وغير ذلك، وبلغت مصنّفاته مائة. وقال الخطيب: قدر أبي عبدالرحمن عند أهل بلده جليل» «1».

وفي (الأنساب):

«صاحب التصانيف للصوفيّة التي لم يسبق إليها، وكان مكثراً من الحديث» «2».

وقال عبدالغافر في (تاريخ نيسابور):

«شيخ الطريقة في وقته، الموفّق في جمع علوم الحقائق ومعرفة طريق التصوّف، … وقد ورث التصوّف عن أبيه وجدّه، وجمع من الكتب ما لم يسبق إلي ترتيبه» «3».

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 3: 21 السنة 412.

(2) الأنساب 3: 279.

(3) المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور: 19/ 4.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 350

وقال أبو نعيم في (الحلية):

«ومنهم: ذوالصيام والقيام، مقري الأئمّة والأعلام مدي السّنين والأعوام، في التعبّد لبيب وفي التعليم أريب، أبو عبدالرحمن السلمي» «1».

فالعجب كلّ العجب!! أن يكون هذا الصّوفي المتعبّد والعارف الكبير، كذّاباً مفترياً يضع الحديث علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) في حال الصوفيّة:

«وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع، حتّي جعلوا لأنفسهم سنناً، وجاء أبو عبدالرحمن السُّلَمي فصنّف لهم كتاب السنن، وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم، من غير إسنادٍ ذلك إلي أصلٍ من اصول العلم، وإنّما حملوه علي مذاهبهم، والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن، وقد أخبرنا أبو منصور بن عبدالرحمن القزاز قال: أخبرنا أبوبكر الخطيب قال قال لي محمّد بن يوسف القطّان النيسابوري:

كان

أبو عبدالرحمن السلمي غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلّاشيئاً يسيراً، فلمّا مات الحاكم أبو عبداللَّه ابن البيّع، حدّث عن الأصم بتاريخ يحيي ابن معين وبأشياء كثيرة سواه، وكان يضع للصوفيّة الأحاديث» «2».

وقال المناوي:

«نقل الذهبي وغيره عن الخطيب عن القطّان: إنّه كان يضع للصوفيّة.

وفي اللسان كأصله إنّه ليس بعمدة» «3».

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 4: 191/ 275.

(2) تلبيس إبليس: 188- 189.

(3) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 1: 189.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 351

وفي (الميزان):

«محمّد بن الحسين أبو عبدالرحمان السلمي النيسابوري، شيخ الصوفيّة وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم. تكلّموا فيه وليس بعمدة. روي عن الأصم وطبقته، عني بالحديث ورجاله، وسأل الدارقطني. قال الخطيب قال لي: محمّد بن يوسف القطّان كان يضع الأحاديث للصوفيّة» «1».

وقال السبكي عن الذهبي أنّه قال: «له كتاب سمّاه حقائق التفسير، ليته لم يصنّفه، فإنّه تحريف وقرمطة» «2».

وقال السيوطي في (الإتقان):

«قال ابن الصلاح في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسّر أنّه قال: صنّف أبو عبدالرحمان السلمي ج شيخ القشيري ج حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أنّ ذلك تفسير فقد كفر» «3».

وفي (منهاج السنّة) في غير موضع:

إنّ ما ينقل في كتاب حقائق التفسير عن الإمام جعفر الصادق عامّته كذب عليه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 523/ 7419.

(2) طبقات الشافعيّة 4: 147/ 320.

(3) الإتقان في علوم القرآن 4: 223.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 355

الباب الثالث: الصِّحاح الستّة … ص: 355

مقدّمة- الصحاح عند أهل السنة … ص: 355

اشارة

إعلم أنّ الصحاح الستّة عند أكثر أهل السنّة هي الموطأ وكتب: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، إلّاأنّها ليست في مرتبةٍ واحدة، فقد ذكر الشاه ولي اللَّه الدهلوي في كتاب (حجّة اللَّه البالغة): أنّ الطبقة الاولي من كتب الحديث هي: الموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم، ولعلّ أصحّها هو

الموطّأ، والطبقة الثانية هي: جامع الترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي، فإنّ هذه وإنْ لم تكن في مرتبة الصحيحين إلّاأنّها قريبة منها.

ولم يجعل صاحب (جامع الاصول) كتاب ابن ماجة في عداد الصّحاح، وإنّما جعل الموطّأ منها، قال الشيخ عبدالعزيز الدهلوي في رسالته في (اصول الحديث): «والحق معه»، ثمّ نقل عن والده ولي اللَّه أنّ (مسند أحمد) أيضاً في هذه المرتبة، لكونه أصلًا في معرفة الصحيح من السقيم، وبه يعرف ماله أصل عمّا ليس له أصل.

وعلي كلّ حالٍ، فلا خلاف في تقدّم كتاب البخاري ومسلم علي سائر كتبهم الحديثيّة.

قدح الفيض آبادي في الصحيحين … ص: 355

وينبغي- قبل الورود في تحقيق حال الصحيحين وصاحبيهما من كلمات أعلام القوم- أنْ نذكر رأي (المخاطب) نفسه فيهما، وذلك: أنّه لمّا الزم ببعض استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 356

الأحاديث المخرَّجة في الكتابين، اضطرّ في كتابه (إزالة الغين) إلي تكذيبها والطعن فيهما.

فكذّب حديث «إيتوني بدواةٍ وقرطاس» وحكي عن الآمدي في مسنده القول بأنّ حديث القرطاس لا أساس له.

وكذّب حديث «فدك» ونقل عن أبي السعادات ابن الأثير قوله في مقدّمة (جامع الاصول) في ذكر المجروحين: «ومنهم: قوم وضعوا الحديث لهويً يدعون الناس إليه، فمنهم من تاب عنه وأقرّ علي نفسه، قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أنْ تاب: إنّ هذه الأحاديث دين، فانظروا ممّن تأخذون دينكم، فإنّا كنّا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً.

وقال أبوالعيناء: وضعت أنا والجاحظ حديث فدك، وأدخلناه علي الشيوخ ببغداد، فقبلوه، إلّاابن أبي شيبة العلوي، فإنّه قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوّله، وأبي أنْ يقبله …».

فأين صارت دعوي إجماع الامّة علي صحّة ما في الكتابين؟ وأين راحت تلك الفضائل والمناقب التي يزعمونها لهما، والخرافات التي يلفّقونها لصاحبيهما؟ وأين ذهبت شدّة احتياط البخاري لدي

كتابة الأحاديث وتدوين صحيحه، حتّي أنّه لم يخرّج فيه شيئاً عن صادق أهل البيت عليه السلام!! مع روايته عن الكذّابين والنواصب والخوارج: كإسحاق بن سويد، وحريز بن عثمان، وعمران بن حطّان، وحصين بن نمير، وعبداللَّه بن سالم، وعكرمة مولي ابن عبّاس، وقيس بن أبي حازم، ووليد بن كثير، وأمثالهم، كما لا يخفي علي ناظر (ميزان الإعتدال) وغيره من كتب الرجال؟!

عجيبٌ أمر هؤلاء!!

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 357

إذا أرادوا تصحيح أحاديث هذين الكتابين والاستدلال بها أمام الإماميّة، بالغوا في مدحهما حتّي كفّروا من تكلّم فيهما وهوّن أمرهما، قال شاه ولي اللَّه في كتاب (حجة اللَّه البالغة):

«وأمّا الصحيحان، فقد اتفق المحدّثون علي أنّ جميع ما فيهما من المتّصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنّهما متواتران إلي مصنّفهما، وأنّه كلّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين».

وحتّي وضعوا ما يدلّ علي جلالتهما وعظمتهما علي لسان النبي الصادق الأمين صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم!! لقد جاء في (الدر الثمين في مبشّرات النبي الأمين) لشاه ولي اللَّه الدهلوي.

«الحديث الثالث والثلاثون: أخبرني الشيخ أبو طاهر قال: أخبرنا الشيخ أحمد النخلي قال: أخبرنا شيخنا السيّد السند أحمد بن عبدالقادر قال: أخبرنا الشيخ جمال القيرواني، عن شيخه الشيخ يحيي الخطّاب المالكي قال: أخبرنا عمّي الشيخ بركات الخطّاب، عن والده، عن جدّه الشيخ محمّد بن عبدالرحمان الخطّاب شارح مختصر الخليل قال: مشينا مع شيخنا العارف باللَّه تعالي الشيخ عبدالمعطي التونسي لزيارة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فلمّا قربنا من الروضة الشريفة ترجّلنا، فجعل الشيخ عبدالمعطي يمشي خطوات ويقف، حتّي وقف تجاه القبر الشريف، فتكلّم بكلام لم نفهمه، فلمّا انصرفنا سألناه عن وقفاته فقال: كنت أطلب الإذن من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

وسلّم في القدوم عليه، فإذا قال لي أقدم قدمت ساعة، ثمّ وقفت وهكذا حتّي وصلت إليه. فقلت:

يا رسول اللَّه، أكلّما روي البخاري عنك صحيح؟

فقال: صحيح.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 358

فقلت له: أرويه عنك يا رسول اللَّه؟

قال: أروه عنّي.

وقد أجاز الشيخ عبدالمعطي نفعنا اللَّه تعالي به الشيخ محمّد الخطّاب أن يرويه عنه، وهكذا كلّ واحد أجاز من بعده، وأجاز السيّد أحمد بن عبدالقادر النخلي أن يرويه عنه بهذا السند، وأجاز النخلي لأبي طاهر، وأجاز أبو طاهر لنا.

ووجدت هذا الحديث بخطّ الشيخ عبدالحق الدهلوي بإسناد له عن الشيخ عبدالمعطي بمعناه، وفيه: فلمّا فرغ من الزيارة وما يتعلّق بها، سأله أن يروي عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم صحيح البخاري وصحيح مسلم، فسمع الإجازة من النبي، فذكر صحيح مسلم أيضاً».

كما ذكروا مناماتٍ فيها أمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بدراسة كتاب البخاري،!! فراجع (مقدّمة فتح الباري) «1».

ثمّ إنّه قد نصّ بعضهم علي أنّ أحاديث الكتابين هي الدليل عندهم علي أنَّ فرقتهم هي الفرقة الناجية في القيامة، يقول المناوي بشرح حديث:

«افترقت اليهود علي إحدي وسبعين فرقة …»:

«فإن قيل: ما وثوقك بأنّ تلك الفرقة الناجية هي أهل السنّة والجماعة، مع أنّ كلّ واحدٍ من الفرق يزعم أنّه هي دون غيره؟

قلنا: ليس ذلك بالإدّعاء والتشبّث باستعمال الوهم القاصر والقول الزاعم، بل بالنقل عن جهابذة أهل الصنعة وأئمّة الحديث الذين جمعوا صحاح الأحاديث في أمر المصطفي صلّي اللَّه عليه وسلّم وأحواله وأفعاله __________________________________________________

(1) هدي الساري- مقدمة فتح الباري: 5.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 359

وحركاته وسكناته، وأحوال الصحب والتابعين، كالشيخين وغيرهما من الثقات المشاهير، الذين اتفق أهل المشرق والمغرب علي صحّة ما في كتبهم …» «1».

فكان المدرك لكون

أهل السنّة هم الفرقة الناجية ما رواه الشيخان البخاري ومسلم، في كتابيهما المعروفين بالصحيحين …

وإذا سقط الكتابان عن الإعتبار، لاشتمالهما علي الأخبار الموضوعة والمكذوبة، بطل دعواهم علي كونهم الفرقة النّاجية، وانهدم أساس مذهبهم، وتلك هي الكارثة العظيمة …

وبعد:

فهذا بعض الكلام علي الكتب المذكورة وأصحابها:

__________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 2: 20- 21.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 363

صحيح البخاري … ص: 363

اشارة

أمّا صحيح البخاري، فإنّ أوّل شي ء نذكره حوله، هو أن أبا زرعة وأبا حاتم الرّازيين قد تركا البخاري ومنعا من الرواية عنه والأخذ منه.

ترك أبي زرعة وأبي حاتم البخاري … ص: 363

ففي (طبقات السبكي) عن تقي الدين ابن دقيق العيد أنّه قال: «أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف علي شفيرها طائفتان من الناس:

المحدّثون والحكّام» فقال السبكي:

«قلت: ومن أمثلته قول بعضهم في البخاري: تركه أبوزرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ. فياللَّه وللمسلمين! أيجوز لأحدٍ أن يقول: البخاري متروك؟ وهو حامل لواء الصناعة ومقدَّم أهل السنّة والجماعة» «1».

وأورد الذهبي البخاريّ في كتاب (الضعفاء والمتروكين)، فقال المناوي متضجّراً من ذلك:

«زين الامّة، إفتخار الأئمّة، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن، ساحب ذيل الفضل علي ممرّ الزمان، الذي قال فيه إمام الأئمّة ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه، وقال بعضهم: إنّه آية من آيات اللَّه يمشي علي وجه الأرض.

قال الذهبي: كان من أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة.

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 230، سير أعلام النبلاء 12: 462.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 364

هذا كلامه في الكاشف. ومع ذلك غلب عليه الغض من أهل السنّة، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين: ما سلم من الكلام، لأجل مسألة اللّفظ، تركه لأجلها الرازيّان.

هذه عبارته، وأستغفر اللَّه تعالي، نسأل اللَّه تعالي السلامة، ونعوذ به من الخذلان» «1».

وقال في (ميزان الإعتدال) بترجمة علي بن المديني:

«علي بن عبداللَّه بن جعفر بن الحسن، الحافظ، أحد الأعلام الأثبات وحافظ العصر. ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع فقال: جنح إلي ابن أبي دؤاد والجهميّة، وحديثه مستقيم إن شاء اللَّه، قال لي عبداللَّه بن أحمد:

كان أبي حدّثنا عنه، ثمّ أمسك عن اسمه وكان يقول حدّثنا رجل، ثمّ ترك حديثه بعد ذلك.

قلت:

بل حديثه عنه في مسنده.

وقد تركه إبراهيم الحربي، وذلك لميله إلي أحمد بن أبي دؤاد، فقد كان محسناً إليه.

وكذا امتنع من الرواية عنه في صحيحه لهذا المعني، كما امتنع أبو زرعة وأبوحاتم من الرواية عن تلميذه محمّد لأجل مسألة اللّفظ.

وقال عبدالرحمن ابن أبي حاتم: كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة …» «2».

__________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 1: 24.

(2) ميزان الاعتدال 5: 167/ 5880.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 365

ترجمة أبي زرعة الرازي … ص: 365

وأبو زرعة الرازي، المتوفي سنة 264، من أعلام أئمّة القوم:

قال الذهبي: «م ت س ق- عبيداللَّه بن عبدالكريم، أبو زرعة الرازي، الحافظ، أحد الأعلام، عن أبي نعيم والقعنبي وقبيصة وطبقتهم في الآفاق.

وعنه: م ت س ق، وأبو عوانة، ومحمّد بن الحسين، والقطّان، وامم.

قال ابن راهويه: كلّ حديثٍ لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل.

مناقبه تطول» «1».

وقال ابن حجر: «م ت س ق- عبيداللَّه بن عبدالكريم بن يزيد بن فروخ، أبو زرعة الرازي، إمام، حافظ، ثقة، مشهور، من الحادية عشر» «2».

وقال اليافعي: «الحافظ، أحد الأئمّة الأعلام … قال أبو حاتم: لم يخلّف بعده مثله علماً وفقهاً وصيانةً وصدقاً، وهذا ممّا لا يرتاب فيه، ولا أعلم من المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله. وقال إسحاق بن راهويه: كلّ حديث لا يحفظه أبو زرعة ليس له أصل» «3».

وقال الخطيب البغدادي: «عبيداللَّه بن عبدالكريم بن يزيد بن فروخ، أبوزرعة الرازي … كان إماماً ربّانيّاً متقناً حافظاً مكثراً صادقاً. قدم بغداد غير مرّة، وجالس أحمد بن حنبل وذاكره وحدّث، فروي عنه من البغداديّين:

إبراهيم بن إسحاق الحربي وعبداللَّه بن أحمد بن حنبل وقاسم بن زكريّا

__________________________________________________

(1) الكاشف 2: 223/ 3607.

(2) تقريب التهذيب

1: 497/ 4850.

(3) مرآة الجنان 2: 131.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 366

المطرز …

حدّثني الأزهري، حدّثنا عبيداللَّه بن محمّد العكبري قال: سمعت أحمد بن سلمان قال: سمعت عبداللَّه بن أحمد بن حنبل قال: لمّا ورد علينا أبو زرعة نزل عندنا، فقال لي أبي: يا بنيّ قد اعتضت بنوافلي مذاكرة هذا الشيخ.

أخبرني إبراهيم بن عمر البرمكي: حدّثنا عبيداللَّه بن محمّد بن محمّد ابن حمدان العكبري، حدّثنا أبو حفص عمر بن محمّد بن رجاء قال: سمعت عبداللَّه ابن أحمد بن حنبل يقول: لمّا قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يوماً يقول: ما صلّيت غير الفرض، استأثرت بمذاكرة أبي زرعة علي نوافلي.

أخبرني محمّد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمّد بن نعيم الضبي، حدّثنا أحمد بن الحسين القاضي عن بعض شيوخه قال: سمعت عبداللَّه بن أحمد بن حنبل يقول: قلت لأبي: يا أبت مَنِ الحفّاظ؟ قال: يا بني، شباب كانوا عندنا من أهل خراسان وقد تفرّقوا، قلت: من هم يا أبت؟ قال: محمّد ابن إسماعيل ذاك البخاري، وعبيداللَّه بن عبدالكريم ذاك الرازي، وعبداللَّه بن عبدالرحمن ذاك السمرقندي، والحسن بن شجاع ذاك البلخي.

أخبرني محمّد بن علي المقرئ، أخبرنا أبو مسلم ابن مهران، أخبرنا عبدالمؤمن بن خلف النسفي قال: سمعت أبا علي صالح بن محمّد يقول:

سمعت أبازرعة يقول: كتبت عن رجلين مائتي ألف حديث، كتبت عن إبراهيم الفراء مائة ألف حديث، وعن ابن أبي شيبة عبداللَّه مائة ألف حديث.

أخبرني أبو زرعة روح بن محمّد الرازي- إجازة شافهني بها- أخبرنا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 367

عليّ ابن محمّد بن عمر القصّار، حدّثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم. قال: قلت لأبي زرعة: تحزر ما كتبت عن

إبراهيم بن موسي مائة ألف؟ قال: مائة ألف كثير، قلت: فخمسين ألفاً؟ قال: نعم، وستّين ألفاً، وسبعين ألفاً. أخبرني من عدّ كتاب الوضوء والصلاة فبلغ ثمانية عشر ألف حديث.

أخبرنا أبوبكر البرقاني قال: قال محمّد بن العبّاس العصمي، حدّثنا يعقوب ابن إسحاق بن محمود الفقيه قال: حدّثنا صالح بن محمّد الأسدي قال: حدّثني سلمة بن شبيب، حدّثني الحسن بن محمّد بن أعين، حدّثنا زهير بن معاوية قال: حدّثتنا ام عمرو بنت شمر قالت: سمعت سويد بن غفلة يقرأ (وعيسٌ عين) يريد حور عين. قال صالح: ألقيت هذا علي أبي زرعة فبقي متعجّباً، وقال: أنا أحفظ في القراءات عشرة آلاف حديث، قلت: فتحفظ هذا؟

قال: لا.

أخبرنا أبوالقاسم رضوان بن محمّد بن الحسن الدينوري: حدّثنا أبو علي حمد بن عبداللَّه الأصبهاني قال: سمعت أباعبداللَّه عمر بن محمّد بن إسحاق العطّار يقول: سمعت عبداللَّه بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: ما جاوز الجسر أفقه من إسحاق بن راهويه، ولا أحفظ من أبي زرعة.

حدّثنا أبوطالب يحيي بن علي بن الطيّب الدسكري- لفظاً بحلوان- أخبرنا أبوبكر ابن المقرئ- بأصبهان- حدّثنا عبداللَّه بن محمّد بن جعفر القزويني- بمصر- قال: سمعت أباحفص عمر بن مقلاص يقول: كان أبو زرعة هاهنا عندنا بمصر- سنة تسع وعشرين ومائتين- إذا فرغ من سماع ابن بكير وعمرو بن خالد والشيوخ، اجتمع إليه أصحاب الحديث، فيملي عليهم وهو ابن سبع وعشرين سنة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 368

وقال عبداللَّه: سمعت يزيد بن عبدالصمد يقول: قدم علينا أبو زرعة الرازي سنة ثمان وعشرن فما رأينا مثله، وكنّا نجلس إليه، فلمّا أراد الخروج قلت له: يا أبازرعة، إجعلني خليفتك في هذه الحلقة، قال: فقال لي: قد جعلتك.

قال عبداللَّه:

سمعت محمّد بن عوف يقول: قدم علينا أبو زرعة فما ندري ممّا يتعجّب منه؟! ممّا وهب اللَّه له من الصيانة والمعرفة، مع الفهم الواسع. قال محمّد: قال لي أبو زرعة: ولدت سنة مائتين.

أخبرنا أبو زرعة الرازي- إجازة- أخبرنا عليّ بن محمّد بن عمر القصار حدّثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبا زرعة يقول: أردت الخروج من مصر، فجئت لُاودّع يحيي بن عبداللَّه بن بكير فقلت: تأمر بشي ء؟ فقال:

أخلف اللَّه علينا بخير.

أخبرنا عليّ بن محمّد المقرئ: أخبرنا صالح بن أحمد بن محمّد الهمذاني الحافظ، أخبرنا عبدالرحمن بن حمدان المرزبان، قال: قال أبو حاتم الرازي: إذا رأيت الرازي وغيره يبغض أبازرعة فاعلم أنّه مبتدع.

أخبرنا أبو سعد الماليني- قراءة- حدّثنا عبداللَّه ابن عدي الحافظ قال:

سمعت محمّد بن إبراهيم المقرئ يقول: سمعت فضلك الصائغ يقول: دخلت المدينة، فصرت إلي باب أبي مصعب، فخرج إليّ شيخ مخضوب- وكنت أنا ناعساً فحرّكني- فقال: يا مردريك، من أين أنت؟ لأيّ شي ء تنام؟ فقلت:

أصلحك اللَّه، من الري، من بعض شاكردي أبي زرعة، فقال: تركت أبازرعة وجئتني؟! لقيت مالك بن أنس وغيره، فما رأت عيناي مثله.

وقال أيضاً: سمعت فضلك الصائغ يقول: دخلت علي الربيع بمصر،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 369

فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من أهل الري- أصلحك اللَّه- من بعض شاكردي أبو زرعة. فقال: تركت أبازرعة وجئتني؟! إنّ أبازرعة آية، وإنّ اللَّه إذا جعل إنساناً آية أبان من شكله حتّي لا يكون له ثان.

حدّثنا أبوطالب الدسكري، أنبأنا أبوبكر ابن المقرئ، حدّثنا عبداللَّه بن محمّد بن جعفر القزويني قاضي الرملة- بمصر- قال: سمعت يونس بن عبدالأعلي سنة تسع وخمسين ومائتين يقول- وذكر أبازرعة الرازي- فقال:

أبو زرعة آية، وإذا أراد اللَّه

أن يجعل عبداً من عباده آية جعله.

أخبرنا أبو سعد الماليني، أخبرنا عبداللَّه ابن عدي، أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد قال: حدّثني الحضرمي قال: سمعت أبابكر ابن أبي شيبة، وقيل له: من أحفظ من رأيت؟ قال: ما رأيت أحداً أحفظ من أبي زرعة الرازي.

كتب إليّ أبو حاتم أحمد بن الحسن بن محمّد بن خاموش الواعظ- من الري، بخطّه- قال: سمعت أحمد بن الحسن بن محمّد العطّار، يذكر عن محمّد بن أحمد بن جعفر الصيرفي، حدّثنا أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سليمان التستري قال: سمعت أبازرعة يقول: إنّ في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة، ولم اطالعه منذ كتبته، وإنّي أعلم في أيّ كتاب هو، في أيّ ورقة هو، في أيّ صفحة هو، في أيّ سطر هو. قال: وسمعت أبازرعة يقول: ما سمعت اذني شيئاً من العلم إلّاوعاه قلبي، وإنّي كنت أمشي في سوق بغداد فأسمع من الغرف صوت المغنّيات، فأضع أصبعي في اذني مخافة أن يعيه قلبي.

أخبرني أبوبكر أحمد بن محمّد بن عبدالواحد المروذي، حدّثنا محمّد ابن عبداللَّه بن محمّد الحافظ- بنيسابور- قال: سمعت أباحامد أحمد بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 370

محمّد المقرئ الفقيه الواعظ يقول: سمعت أباالعبّاس محمّد بن إسحاق الثقفي يقول: لمّا انصرف قتيبة بن سعيد إلي الري، سألوه أن يحدّثهم فامتنع وقال:

احدّثكم بعد أن حضر مجالسي أحمد بن حنبل، ويحيي بن معين، وعليّ بن المديني، وأبوبكر ابن أبي شيبة، وأبو خيثمة؟! قالوا له: فإنّ عندنا غلاماً يسرد كلّ ما حدّثت به مجلساً مجلساً، قم يا أبازرعة، فقام أبو زرعة، فسرد كلّ ما حدّث به قتيبة، فحدّثهم قتيبة.

حدّثنا محمّد بن يوسف القطان النيسابوري- لفظاً- أخبرنا محمّد بن عبداللَّه بن

محمّد بن حمدويه الحافظ قال: سمعت أباجعفر محمّد بن أحمد الرازي يقول: سمعت أباعبداللَّه محمّد بن مسلم بن وارة يقول: كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور، فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول: صحّ من الحديث سبعمائة ألف حديث وكسر، وهذا الفتي: - يعني أبازرعة- قد حفظ ستمائة ألف.

أخبرنا أبو سعد الماليني، حدّثنا عبداللَّه بن عدي قال: سمعت الحسن ابن عثمان التستري يقول: سمعت محمّد بن مسلم بن وارة يقول: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي ليس له أصل.

حدّثني أبو القاسم عبداللَّه بن أحمد بن علي السوذرجاني- لفظاً، بأصبهان- وأبوطالب يحيي بن علي بن الطيب الدسكري- لفظاً، بحلوان- قال يحيي حدّثنا، وقال الآخر: أنبأنا أبوبكر ابن المقرئ، حدّثنا عبداللَّه بن محمّد بن جعفر القزويني- بمصر- قال سمعت محمّد بن إسحاق الصاغاني يقول- في حديث ذكره من حديث الكوفة فقال: هذا أفادنيه أبو زرعة عبيداللَّه بن عبدالكريم، فقال له بعض من حضر: يا أبابكر، أبوزرعة من أولئك استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 371

الحفّاظ الذين رأيتهم؟ وذكر جماعة من الحفّاظ، منهم الفلاس. فقال: أبو زرعة أعلاهم، لأنّه جمع الحفظ مع التقوي والورع، وهو يشبه بأبي عبداللَّه أحمد بن حنبل.

أخبرنا أبو نعيم الحافظ: حدّثنا الحسن بن محمّد الزعفراني، حدّثنا أحمد بن محمّد بن عمر، حدّثنا أبوبكر ابن بحر، حدّثنا محمّد بن الهيثم بن علي النسوي، قال: لمّا أن قدم حمدون البرذعي علي أبي زرعة لكتابة الحديث، دخل عليه فرأي في داره أواني وفرشاً كثيراً، قال: وكان ذلك لأخيه، فهمّ أن يرجع ولا يكتب عنه، فلمّا كان من اللّيل رأي كأنّه علي شط بركة، ورأي ظلّ شخص في

الماء، فقال: أنت الذي زهدت في أبي زرعة؟! أعلمت أنّ أحمد بن حنبل كان من الأبدال، فلمّا أن مات أبدل اللَّه مكانه أبازرعة.

أخبرنا الماليني: أخبرنا عبداللَّه بن عدي، حدّثنا أحمد بن محمّد بن سليمان القطان، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثني أبو زرعة عبيداللَّه بن عبدالكريم بن يزيد القرشي، وما خلّف بعده مثله علماً وفهماً، وصيانةً وحذقاً، وهذا ما لا يرتاب فيه، ولا أعلم من المشرق والمغرب من كان يفهم من هذا الشأن مثله، ولقد كان من هذا الأمر بسبيل.

وقال ابن عدي: سمعت عبدالملك بن محمّد يقول: سمعت ابن خراش يقول: كان بيني وبين أبي زرعة موعد أن ابكّر عليه فاذاكره، فبكّرت فمررت بأبي حاتم وهو قاعد وحده، فدعاني فأجلسني معه يذاكرني حتّي أصبح النهار، فقلت له: بيني وبين أبي زرعة موعد، فجئت إلي أبي زرعة والناس عليه منكبّون، فقال لي: تأخّرت عن الموعد؟ قلت: بكّرت فمررت بهذا المستوحش فدعاني فرحمته لوحدته، وهو أعلا إسناداً منك، وضربت أنت بالدست. أو كما قال.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 372

أخبرنا أبو منصور محمّد بن عيسي بن عبدالعزيز البزاز- بهمذان- حدّثنا صالح بن أحمد بن محمّد الحافظ قال: سمعت القاسم بن أبي صالح يقول: سمعت أباحاتم الرازي يقول: أبو زرعة إمام.

أخبرنا البرقاني: أخبرنا علي بن عمر الدارقطني، أخبرنا الحسن بن رشيق حدّثنا عبدالكريم بن أبي عبدالرحمن النسائي عن أبيه. ثمّ حدّثني الصوري، أخبرنا الخصيب بن عبداللَّه قال: ناولني عبدالكريم- وكتب لي بخطّه- قال: سمعت أبي يقول: عبيداللَّه بن عبدالكريم أبو زرعة: رازي ثقة.

أخبرنا الماليني: أخبرنا عبداللَّه بن عدي قال: سمعت أبايعلي الموصلي يقول: ما سمعنا بذكر أحد في الحفظ إلّاكان اسمه أكثر من رؤيته، إلّاأبو زرعة الرازي، فإنّ

مشاهدته كانت أعظم من اسمه، وكان قد جمع حفظ الأبواب، والشيوخ، والتفسير، وغير ذلك، وكتبنا بانتخابه بواسط ستّة آلاف.

أخبرنا هناد بن هارون النسفي: أخبرنا محمّد بن أحمد بن محمّد بن سليمان الحافظ- ببخاري- أخبرنا أبوالأزهر ناصر بن محمّد بن النضر الأسدي- بكرمينية- قال سمعت أبايعلي أحمد بن علي بن المثنّي يقول: رحلت إلي البصرة للقاء المشايخ أبي الربيع الزهراني وهدبة بن خالد، وسائر المشايخ، فبينا نحن قعود في السفينة، إذا أنا برجل يسأل رجلًا فقال: ما تقول- رحمك اللَّه- في رجل حلف بطلاق امرأته ثلاثاً أنّك تحفظ مائة ألف حديث؟ فأطرق رأسه مليّاً ثمّ رفع فقال: إذهب يا هذا وأنت بارٌّ في يمينك، ولا تعد إلي مثل هذا، فقلت من الرجل؟ فقيل لي: أبو زرعة الرازي، كان ينحدر معنا إلي البصرة.

أخبرنا الماليني: حدّثنا عبداللَّه بن عدي قال: سمعت أبي عدي بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 373

عبداللَّه يقول: كنت بالري- وأنا غلام في البزازين- فحلف رجل بطلاق امرأته أنّ أبازرعة يحفظ مائة ألف حديث، فذهب قوم إلي أبي زرعة بسبب هذا الرجل هل طلّقت امرأته أم لا؟ فذهبت معهم، فذكر لأبي زرعة ما ذكر الرجل، فقال: ما حمله علي ذلك؟ فقيل له: قد جري الآن منه ذلك، فقال أبو زرعة:

قل له يمسك امرأته …» «1».

ترجمة أبي حاتم الرازي … ص: 373

وكذلك أبو حاتم الرازي المتوفي سنة 277:

قال الذهبي: «محمّد بن إدريس أبو حاتم الرازي، الحافظ، سمع الأنصاري وعبيداللَّه بن موسي. وعنه: د، س، وولده عبدالرحمن بن أبي حاتم، والمحاملي. قال موسي بن إسحاق الأنصاري: ما رأيت أحفظ منه. مات في شعبان سنة 277» «2».

وقال السمعاني: «إمام عصره والمرجوع إليه في مشكلات الحديث، من مشاهير العلماء المذكورين، الموصوفين بالفضل

والحفظ والرحلة، ولقي العلماء» «3».

وقال ابن حجر: «د، س، ق محمّد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي، أبو حاتم الرازي، الحافظ الكبير، أحد الأئمّة … روي عنه: أبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير … وقال الحاكم أبو أحمد في الكني: أبو

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 10/ 326- 337.

(2) الكاشف 3: 6/ 4761.

(3) الأنساب 2: 279.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 374

حاتم محمّد بن إدريس، روي عنه: محمّد بن إسماعيل الجعفي وابنه عبدالرحمن … ورفيقه أبوزرعة … وآخرون.

قال أبوبكر الخلال: أبو حاتم إمام في الحديث، روي عن أحمد مسائل كثيرة وقعت إلينا متفرقة، كلّها غريب.

وقال ابن خراش: كان من أهل الأمانة والمعرفة.

وقال النسائي: ثقة.

وقال اللّالكائي: كان إماماً، عالماً بالحديث، حافظاً له، متقناً متثبّتاً.

وقال الخطيب: كان أحد الأئمّة الحفاظ الأثبات، مشهوراً بالعلم، مذكوراً بالفضل … مات بالري 277» «1».

تكلّم الذهلي في البخاري … ص: 374

وممّن تكلّم في البخاري من الأئمّة الأعلام: محمّد بن يحيي الذهلي، فقد قدح فيه وطعن، وبدّعه في الدين، ومنع من الكتابة عنه والحضور عنده، قال السبكي بترجمة البخاري:

«قال أبو حامد ابن الشرقي: رأيت البخاري في جنازة سعيد بن مروان والذهلي يسأله عن الأسماء والكني والعلل، ويمرّ فيه البخاري مثل السهم، فما أتي علي هذا شهر حتّي قال الذهلي: ألا من يختلف إلي مجلسه فلا يأتنا، فإنّهم كتبوا إلينا من بغداد أنّه تكلّم في اللّفظ، ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه.

قلت: كان البخاري- علي ما روي وسنحكي ما فيه- ممّن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال محمّد بن يحيي الذهلي: من زعم أنّ لفظي بالقرآن __________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 9: 28- 30.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 375

مخلوق فهو مبتدع لا يجالَس ولا يكلَّم، ومن زعم أنّ القرآن

مخلوق فقد كفر».

وقال ابن حجر: «قال أبو حامد ابن الشرقي: سمعت محمّد بن يحيي الذهلي يقول: القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجالَس ولا يكلَّم، ومن ذهب بعد هذا إلي محمّد بن إسماعيل فاتّهموه، فإنّه لا يحضر مجلسه إلّامن كان علي مذهبه» «1».

نقد دفاع القوم عن البخاري … ص: 375

ثمّ إنّ القوم حاولوا تخليص البخاري من هذه الورطة، فأتعبوا أنفسهم وجهدوا كثيراً … فقد جاء في كتاب (الطبقات) بعد ما تقدَّم:

«وإنّما أراد محمّد بن يحيي- والعلم عند اللَّه- ما أراده أحمد بن حنبل كما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي، من النّهي عن الخوض في هذا، فلم يرد مخالفة البخاري، وإن خالفه وزعم أنّ لفظه الخارج من بين شفة المحدّثين قديم، فقد باء بإثم عظيم، والظنّ به خلاف ذلك، وإنّما أراد هو وأحمد وغيرهما من الأئمّة النهي عن الخوض في مسائل الكلام، وكلام البخاري عندنا محمول علي ذكر ذلك عند الإحتياج إليه، فالكلام عند الإحتياج واجب، والسكوت عنه عند عدم الإحتياج سنّة.

فافهم ذلك ودع خرافات المؤرخين، واضرب صفحاً عن تمويهات الضالّين، الذين يظنّون أنّهم محدّثون وأنّهم عند السنّة واقفون، وهم عنها مبعدون.

__________________________________________________

(1) هدي الساري: 492.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 376

وكيف يظنّ بالبخاري أنّه يذهب إلي شي ء من أقوال المعتزلة، وقد صحّ عنه فيما رواه الفربري وغيره أنّه قال: إنّي لأستجهل من لا يكفر الجهميّة، ولا يرتاب المنصف في أنّ محمّد بن يحيي الذهلي لحقته الحسد التي لم يسلم منها إلّاأهل العصمة، وقد سأل بعضهم البخاري عمّا بينه وبين محمّد بن يحيي فقال البخاري: كم يعتري محمّد بن يحيي الحسد في العلم، والعلم رزق اللَّه يعطيه من يشاء، ولقد أطرف البخاري وأبان عن عظيم ذكائه

حيث قال- وقد قال له أبو عمرو الخفّاف أنّ الناس خاضوا في قولك: لفظي بالقرآن مخلوق- يا أباعمرو، إحفظ ما أقول لك، من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمدان وبغداد والكوفة والبصرة ومكّة والمدينة: أنّي قلت لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كذّاب، فإنّي لم أقله، إلّاأنّي قلت: أفعال العباد مخلوقة.

قلت: تأمّل كلامه ما أذكاه! ومعناه- والعلم عند اللَّه- إنّي لم أقل لفظي بالقرآن مخلوق، لأنّ الكلام في هذا خوض في مسائل الكلام وصفات اللَّه التي لا ينبغي الخوض فيها إلّاللضرورة، ولكنّي قلت أفعال العباد مخلوقة، وهو قاعدة مغنية عن تخصيص هذه المسألة بالذكر، فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ لفظنا من جملة أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة، فألفاظنا مخلوقة.

ولقد أفصح بهذا المعني في رواية اخري صحيحة عنه، رواها حاتم بن أحمد الكيدري فقال: سمعت مسلم بن الحجّاج، فذكر الحكاية وفيها: أنّ رجلًا قام إلي البخاري فسأله عن اللّفظ بالقرآن فقال: أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا، وفي الحكاية: أنّه وقع بين القوم إذ ذاك اختلاف علي البخاري، فقال بعضهم: قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقال آخرون: لم يقل.

قلت: فلم يكن الإنكار إلّاعلي من تكلّم في القرآن، فالحاصل ما قدّمناه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 377

في ترجمة الكرابيسي، من أنّ أحمد بن حنبل وغيره من السادات الموفّقين، نهوا عن الكلام في القرآن جملة، وإن لم يخالفوا في مسألة اللفظ فيما نظنّه فيهم إجلالًا لهم وفهماً من كلامهم في غير رواية، ودفعاً لمحلّهم عن قول لا يشهد له معقول ولا منقول، وهو أنّ الكرابيسي والبخاري وغيرهما من الأئمّة الموفّقين أيضاً أفصحوا بأنّ لفظهم مخلوق لمّا احتاجوا إلي الإفصاح، هذا إن ثبت عنهم الإفصاح بهذا، وإلّا فقد نقلنا لك قول البخاري

أنّ من نقل عنه هذا فقد كذب عليه.

فإن قلت: إذا كان حقّاً لم لا يفصح به قلت: سبحان اللَّه، قد أنبأناك أنّ السرّ فيه في الخوض في علم الكلام، خشية أن يَجُرَّ الكلام فيه إلي ما لا ينبغي وليس كلّ علم يفصح به، فاحفظ ما نلقيه إليك واشدد عليه يديك، ويعجبني ما أنشد الغزالي في منهاج العابدين لبعض أهل البيت «1»:

إنّي لأكتم من علمي جواهره كي لا يري الحقّ ذوجهل فيفتننا

يا رُبَّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممّن تعبد الوثنا

ولاستحلّ رجال صالحون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا

وقد تقدّم في هذا أبو حسن الحسين ووصّي قبله الحسنا»

أقول:

لكن كلام السبكي متهافت وركيك، ألا تري أنّه يبادر إلي إنكار وقوع الخلاف بين الذهلي والبخاري، ثمّ يرجع فيرمي الذهلي بالحسد للبخاري، ثمّ تارةً يؤيّد القول بخلق التلفّظ بالقرآن، واخري ينكر أن يكون البخاري قائلًا بذلك!!

__________________________________________________

(1) منهاج العابدين: 5. نسبه للإمام زين العابدين عليه السلام.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 378

والحاصل: أنّه قد ذكر ثلاثة وجوه في الدفاع عن البخاري، أحدها: عدم الخلاف بين الذهلي والبخاري في المسألة. والثاني: إنّ ما قال الذهلي في البخاري ليس إلّاعن الحسد له. والثالث: إنّه لم يثبت عن البخاري القول بأنّ لفظي بالقرآن مخلوق.

لكن الأوّل واضح البطلان، ولا سبيل لحمل كلام الذهلي في البخاري علي أنّه إنّما كان نهياً عن الخوض في علم الكلام، وكيف يقول هذا؟ وهو ينقل عن الذهلي تكفير البخاري والردّ عليه والتكلّم فيه والمنع من الذهاب إليه والحضور عنده؟ وكيف يدّعي عدم وقوع الخلاف؟ وقد جاء في كتابه قبل هذا: «قصّته مع محمّد بن يحيي الذهلي» فقال: «قال الحسن بن محمّد بن جابر: قال لنا

الذهلي لمّا ورد البخاري بنيسابور: إذهبوا إلي هذا الرجل الصالح فاستمعوا منه، فذهب الناس إليه وأقبلوا علي السماع منه، حتّي ظهر الخلل في مجلس الذهلي، فحسده بعد ذلك وتكلّم فيه …» «1».

وذكر ابن حجر في مقدّمة شرح البخاري: «ذكر ما وقع بينه وبين الذهلي في مسألة اللّفظ، وما حصل له من المحنة بسبب ذلك وبراءته ممّا نسب إليه» فقال:

«قال الحاكم أبو عبداللَّه في تأريخه: قدم البخاري بنيسابور سنة خمس وثلاثين، فأقام بها مدّة يحدّث علي الدوام، قال: سمعت محمّد بن حازم البزار يقول: سمعت الحسن بن محمّد بن جابر يقول: سمعت محمّد بن يحيي يقول: إذهبوا إلي هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه. قال: فذهب الناس إليه وأقبلوا علي السماع منه، حتّي ظهر الخلل في مجلس محمّد بن يحيي.

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية للسبكي 2: 228.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 379

قال: فتكلّم فيه بعد ذلك».

قال: «وقال أبو أحمد ابن عدي: ذكر لي جماعة من المشايخ: أنّ محمّد ابن إسماعيل لمّا ورد نيسابور واجتمع الناس عنده، حسده بعض شيوخ الوقت فقال لأصحاب الحديث: إنّ محمّد بن إسماعيل يقول لفظي بالقرآن مخلوق، فلمّا حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أباعبداللَّه، ما تقول في اللّفظ بالقرآن، مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثاً، فألحّ عليه، فقال البخاري: القرآن كلام اللَّه تعالي غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والإمتحان بدعة، فشغب الرجل وقال: قد قال لفظي بالقرآن مخلوق».

قال: «وقال الحاكم: لمّا وقع بين البخاري وبين محمّد بن يحيي في مسألة اللّفظ، انقطع الناس عن البخاري إلّامسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة فقال الذهلي: ألا من قال باللّفظ فلا يحضرنا مجلسنا».

قال: «قال الحاكم أبو عبداللَّه: سمعت

محمّد بن صالح بن هاني يقول:

سمعت أحمد بن مسلمة النيسابوري يقول: دخلت علي البخاري فقلت: يا أباعبداللَّه، إنّ هذا الرجل مقبول بخراسان خصوصاً في هذه المدينة، وقد لجّ في هذا الأمر حتّي لا يقدر أحد أن يكلّمه، فما تري؟ قال: فقبض علي لحيته وقال: وافوّض أمري إلي اللَّه إنّ اللَّه بصير بالعباد، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً ولا طلباً للرياسة، وإنّما أبت نفسي الرجوع إلي الوطن لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسداً لما آتاني اللَّه. ثمّ قال لي: يا أباأحمد، إنّي خارج غداً لتتخلّصوا من حديثه لأجلي».

وقال الحاكم أيضاً عن الحافظ أبي عبداللَّه ابن الأخرم قال: «لمّا قام مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة من مجلس محمّد بن يحيي بسبب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 380

البخاري قال الذهلي: لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري وسافر» «1».

وكيف يجتمع القول بعدم وقوع الخلاف مع دعوي حسد الذهلي للبخاري؟

لكنّ دعوي الحسد أيضاً لا تحلّ المشكلة ولا تنفعهم بل تضرّهم، لُامور:

ترجمة الذهلي … ص: 380

الأوّل: جلالة قدر الذهلي وعظمته كما بتراجمه، فقد ذكروا أنّه من مشايخ البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وآخرين من كبار الأئمّة، وأنّ ابن أبي داود لقّبه ب «أميرالمؤمنين في الحديث»:

قال الذهبي: «وعنه: خ والأربعة وابن خزيمة وأبو عوانة وأبو علي الميداني، ولا يكاد البخاري يفصح باسمه لِما وقع بينهما. قال ابن أبي داود:

حدّثنا محمّد بن يحيي وكان أميرالمؤمنين في الحديث. وقال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه. توفي 258 وله ست وثمانون» «2».

وقال السمعاني: «إمام أهل نيسابور في عصره، ورئيس العلماء ومقدّمهم» «3».

وقال الصفدي: «الإمام الذهلي، مولاهم، النيسابوري، الحافظ، سمع من خلقٍ كثير، روي عنه

الجماعة خلا مسلم، قال: ارتحلت ثلاث رحلات __________________________________________________

(1) هدي الساري/ مقدّمة فتح الباري: 492.

(2) الكاشف 3: 88/ 5274.

(3) الأنساب 3: 181.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 381

وأنفقت مائة وخمسين ألفاً. قال النسائي: ثقة مأمون. قال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف: رأيت محمّد بن يحيي في المنام فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال:

غفر لي. قلت: ما فعل بحديثك؟ قال: كتب بماء الذهب ورفع في علّيّين» «1».

فهذه مقامات الذهلي ومنازله كما يقولون، فكيف يصدّق مع هذا رميه بالحسد للبخاري، وأنّ كلّ ما قاله فيه من التكفير وغيره هو عن الحسد له؟

اللّهمّ إلّاأن يلتجأ المدافعون عن البخاري إلي تكذيب هؤلاء المادحين للذهلي، وهذه شناعة عظيمة وداهية كبيرة بلا ارتياب، فإنّه مصداق الهرب من المطر والوقوف تحت الميزاب!!

الأمر الثاني:

إنّ هذا الوجه- المبطل للوجه السابق- لا ينفع القوم بل يضرّهم، لأنّه إذا ثبت حسد الذهلي- كما ذكر السبكي ونصَّ عليه البخاري- وأنّه كان من أجل الرياسة وحبّ الدنيا، توجّه الطعن إلي البخاري مرّةً اخري، وصار دليلًا آخر علي عدم احتياطه وتورّعه في الرواية والفتيا، لأنّ الامور التي حكاها الحاكم والسبكي وابن حجر العسقلاني مثبتة لكون الذهلي فاسقاً ضالّاً لا يجوز الأخذ منه والرواية عنه، لكنّ البخاري قد أخرج عنه في صحيحه كما في (تهذيب الكمال) «2» و (تهذيب التهذيب) «3» و (تقريب التهذيب) «4» و (الكاشف) «5» وغيرهما.

__________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات 5: 186/ 2235.

(2) تهذيب الكمال 26: 622/ 5686.

(3) تهذيب التهذيب 9: 452/ 843.

(4) تقريب التهذيب 2: 226/ 7193.

(5) الكاشف 3: 88/ 5274.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 382

وكيف جاز له أنْ يخرج عنه في كتابه الذي لم يخرج فيه عن الإمام أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام؟

ومن الطرائف

أن يلتزم بالرواية عنه وإخراجها في كتابه ولو مع عدم التصريح باسمه؟!

إنّه إن كان ثقة يصلح للرواية عنه، فالإخراج عنه مع إخفاء اسمه حسد له من البخاري، وإنْ كان من المجروحين عنده، فالإخراج عنه بهذه الكيفيّة خيانة وتدليس!!

الأمر الثالث:

إنّه إذا ثبت حسد الذهلي للبخاري وقدحه وتضليله إيّاه، وذمّ البخاري للذهلي وتكلّمه فيه، توجّه إلي أهل السنّة ما أورده الشاه عبدالعزيز الدهلوي في (التحفة الإثني عشريّة) بعنوان الطعن علي أهل الحق، من وجود التكاذب والتحاسد بين قدماء الأصحاب وردّ بعضهم علي البعض، كتأليف هشام بن الحكم كتاباً في الردّ علي هشام بن سالم الجواليقي ومؤمن الطاق.

يقول الدهلوي: «والعجب، إنّ قدماء الإماميّة وقدوتهم، الذين تنتهي إليهم سلاسل أسانيد أهل الأخبار منهم، كهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وصاحب الطاق، قد وقع بينهم أشدّ التكاذب والتحاسد، وكانوا يكذّبون بعضهم بعضاً في الروايات الواقعة بينهم، عن الأئمّة الثلاثة السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام ويضلّلون ويكفّرون فيما بينهم، كما أنّ لهشام ابن الحكم كتاباً في الردّ علي الجواليقي وصاحب الطاق. ذكر ذلك النجاشي، فسقط جميع أخبارهم عن حيّز الإعتبار وتساقطت بالتعارض» «1».

__________________________________________________

(1) التحفة الإثني عشرية: 118 الباب الرابع.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 383

لكنّ المناظرة وردّ البعض علي البعض في المسائل العلميّة أمر، والإهانة والتكذيب بل التضليل والتكفير أمر آخر، فهشام بن الحكم وضع كتاباً في الردّ علي هشام بن سالم في مسألة اختلفا فيها، أمّا ما كان بين الذهلي والبخاري فهو الحسد والتضليل والتكفير، كما هو صريح عبارات القوم، وهو الذي ينتهي إلي سقوط أخبارهم عن حيّز الاعتبار وتساقطها بالتعارض.

وأمّا إنكار السبكي أن يكون البخاري قائلًا: لفظي بالقرآن مخلوق، فليس إلّامكابرةً منه، لأنّه بنفسه قد حكي ذلك

عن البخاري، كما أنّ ابن حجرٍ أيضاً رواه، قال السبكي:

«قال محمّد بن يوسف الفربري: سمعت محمّد بن إسماعيل يقول: وأمّا أفعال العباد مخلوقة، فقد ثنا علي بن عبداللَّه، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه يصنع كلّ صانع وصنعته.

وسمعت عبيداللَّه بن سعيد، سمعت يحيي بن سعيد يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة. قال البخاري: حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأمّا القرآن المتلو المثبت في المصاحف، المسطور المكتوب الموعي في القلوب، فهو كلام اللَّه ليس بمخلوق. قال اللَّه تعالي: «بل هو آيات بيّنات في صدور الذين اوتوا العلم».

وقال: يقال فلان حسن القراءة ورديُّ القراءة، ولا يقال حسن القرآن ولا رديّ القرآن، وإنّما ينسب إلي العباد القراءة، لأنّ القرآن كلام الربّ والقراءة فعل العبد، وليس لأحد أن يشرع في أمر بغير علم، كما زعم بعضهم أنّ القرآن بألفاظنا وألفاظنا به، شي ء واحد، والتلاوة هي المتلو، والقراءة هي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 384

المقروء …» «1».

وقال ابن حجر في (مقدمة فتح الباري):

«قال حاتم بن أحمد بن محمود: سمعت مسلم بن الحجّاج يقول: لمّا قدم محمّد بن إسماعيل نيسابور، ما رأيت عالماً ولا والياً فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به، فاستقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث. فقال محمّد بن يحيي الذهلي في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمّد بن إسماعيل غداً فليستقبله، فإنّي أستقبله. فاستقبله محمّد بن يحيي وعامّة علماء نيسابور، فدخل البلد.

فقال محمّد بن يحيي: لا تسألوه من شي ء من الكلام، فإن أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه، وشمت بنا كلّ أباضيّ وجهميّ ومرجئ بخراسان، فازدحم

الناس علي محمّد بن إسماعيل حتّي امتلأت الدار والسطوح، فلمّا كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه، قام إليه رجل فسأله عن اللّفظ بالقرآن، فقال: أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا، فقال: فوقع بين الناس اختلاف؛ فقال بعضهم: قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتّي قام بعضهم إلي بعض. قال: فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم» «2».

وأيضاً قال ابن حجر: «قال الحاكم: حدّثنا أبوبكر ابن أبي الهيثم، ثنا الفربري قال: سمعت محمّد بن إسماعيل يقول: أمّا أفعال العباد مخلوقة، فقد حدّثنا عليّ ابن عبداللَّه، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه يصنع كلّ صانع __________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 228- 229.

(2) هدي الساري: 491.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 385

وصنعته.

قال: وسمعت عبيداللَّه بن سعيد- يعني أباقدامة السرخسي- سمعت يحيي ابن سعيد يقول: لا زلت أسمع أصحابنا يقولون إنّ أفعال العباد مخلوقة.

وقال محمّد بن إسماعيل: حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأمّا القرآن المبين المكتوب في المصاحف الموعي في القلوب، فهو كلام اللَّه تعالي غير مخلوق «بل هو آيات بيّنات في صدور الذين اوتوا العلم» «1».

وأمّا ما ذكره أخيراً في مقام الدفاع عن البخاري، وأنّه «ليس كلّ علمٍ يفصح به» فهو اعتراف بجواز التقيّة واستعمالها، فلماذا يرمون أهل الحقّ- المستعملين التقيّة من حكّام الجور وعملائهم- بأنواع التهم؟ ويسمّون «التقيّة» ب «النفاق»؟

وعلي الجملة، فإنّ قول البخاري بمقالة «لفظي بالقرآن مخلوق» وتضليل الذهلي إيّاه بهذا السبب، أمر ثابت لا ريب فيه، وكذلك سائر علماء القوم، يكفّرون من قال بذلك.

وهذا الذهبي ينصّ في غير موضع من تاريخه علي أنّ هذه المقالة

هي مذهب الجهميّة.

والعجب أنّ السبكي ينقل عن الذهبي هذا الكلام- بترجمة الحسين الكرابيسي- ويضطرب أمامه أشدّ الإضطراب.

قال السبكي: «وممّا يدلّك أيضاً علي ما نقوله، وأنّ السلف لا ينكرون أنّ لفظنا حادث، وأنّ سكوتهم إنّما هو عن الكلام في ذلك لا عن اعتقاده: أنّ الرواة رووا أنّ الحسين بلغه كلام أحمد فيه فقال: لأقولنّ مقالة حتّي يقول __________________________________________________

(1) هدي الساري: 491.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 386

أحمد بخلافها فيكفر، فقال: لفظي بالقرآن مخلوق، وهذه الحكاية قد ذكرها كثير من الحنابلة، وذكرها شيخنا الذهبي في ترجمة الإمام أحمد وفي ترجمة الكرابيسي، فانظر إلي قول الكرابيسي فيها إنّ مخالفها يكفر، والإمام أحمد- فيما نعتقده- لم يخالفها، وإنّما أنكر أن يتكلّم في ذلك.

فإذا تأمّلت ما سطرناه، ونظرت قول شيخنا في غير موضع من تاريخه إنّ مسألة اللفظ ممّا يرجع إلي قول جهم، عرفت أنّ الرجل لا يدري في هذه المضائق ما يقول، وقد أكثر هو وأصحابه من ذكر جهم بن صفوان، وليس قصدهم إلّاجعل الأشاعرة- الذين قدر اللَّه لقدرهم أن يكون مرفوعاً، وللزومهم للسنّة أن يكون مجزوماً به ومقطوعاً- فرقة جهميّة.

واعلم أنّ جهماً شرّ من المعتزلة- كما يدريه من ينظر الملل والنحل ويعرف عقائد الفرق- بل هو شرّ من القائلين بها، لمشاركته إيّاهم فيما قالوه وزيادته عليهم بطامّات، فما كفي الذهبي أن يشير إلي اعتقاد ما يتبرّء العقلاء عن قوله، من قدم الألفاظ الجارية علي لسانه، حتّي ينسب هذه العقيدة إلي مثل الإمام أحمد بن حنبل وغيره من السّادات، ويدّعي أنّ المخالف فيها يرجع إلي قول جهم، فليته دري ما يقول، واللَّه يغفر لنا وله، ويتجاوز عمّن كان السبب في خوض مثل الذهبي في مسائل هذا الكلام، وإنّه

ليعزّ عليّ الكلام في ذلك.

ولكن كيف يسعنا السكوت؟ وقد ملأ شيخنا تاريخه بهذه العظائم التي لو وقف عليها العامي لأضلّته ضلالًا مبيناً، ولقد يعلم اللَّه منّي كراهيّة الإزراء لشيخنا، فإنّه مفيدنا ومعلّمنا، وهذا النور اليسير الحديثي الذي عرفناه منه استفدناه، ولكن أري أنّ التنبيه علي ذلك حتم لازم في الدين» «1».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 118- 120.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 387

قول البخاري بخلق الإيمان … ص: 387

وكما قال البخاري بخلق التلفّظ بالقرآن، كذلك قال بخلق الإيمان، وهو كفر عند الجمهور وخاصةً الحنفيّة منهم، يقول صاحب كتاب (الفصول والأحكام) وهو حفيد صاحب (الهداية) ما هذا نصّه:

«من قال بخلق القرآن فهو كافر، وكذا من قال بخلق الإيمان فهو كافر.

وروي عن بعض السلف أنّه روي عن أبي حنيفة: إنّ الإيمان غير مخلوق.

وسئل الشيخ الإمام أبوبكر محمّد بن الفضل عن الصّلاة خلف من يقول بخلق الإيمان قال: لا تصلّوا خلفه. وذكر أبو سهل بن عبداللَّه- وهو أبو سهل الكبير- عن كثير من السلف: إنّ من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: الإيمان مخلوق فهو كافر.

وحكي أنّه وقعت هذه المسألة بفرغانة، فاتي بمحضر منها إلي أئمّة بخاري، فكتب فيه الشيخ الإمام أبوبكر ابن حامد والشيخ الإمام أبو حفص الزاهد والشيخ الإمام أبوبكر الإسماعيلي: إنّ الإيمان غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر.

وقد خرج كثير من الناس من بخاري، منهم محمّد بن إسماعيل صاحب الجامع، بسبب قولهم: الإيمان مخلوق».

ترجمة صاحب الفصول … ص: 387

وصاحب كتاب (الفصول والأحكام) من العلماء الأعلام المرموقين بين الفقهاء الحنفيّة، وقد ترجم له الكفوي حيث قال: «الشيخ الإمام أبوالفتح استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 388

زين الدين، صاحب الفصول العمادية، عبدالرحيم بن أبي بكر عماد الدين بن برهان الدين صاحب الهداية علي بن أبي بكر بن عبدالجليل الفرغاني المرغيناني الرشداني.

تفقّه علي أبيه عماد الدين ابن صاحب الهداية، وعلي صاحب مطلع المعاني حسام الدين العلياري، تلميذ الشيخ الإمام مجد الدين المفتي صاحب الفصول محمّد بن محمود الأسروشني، وهو تلميذ القاضي الإمام ظهيرالدين الحسن بن علي المرغيناني، وهو أخذ العلم عن برهان الدين عبدالعزيز بن عمر ابن مازه، عن شمس الأئمّة السرخسي، عن شمس الأئمّة الحلواني، عن أبي علي

النسفي، عن أبي بكر محمّد بن الفضل، عن الاستاد عبداللَّه السندمولي، عن أبي عبداللَّه بن أبي حفص الكبير، عن محمّد، عن أبي حنيفة رحمهم اللَّه تعالي.

رأيت في آخر فصوله: يقول جالب هذه الخصائل النفيسة، وكاتب هذه المسائل الأنيسة، أبوالفتح بن أبي بكر بن علي بن أبي بكر بن عبدالجليل المرغيناني نسباً والسمرقندي منشأ، بعد تقديم الحمد للَّه والصلاة علي محمّد عبده ونبيه، والثناء عليه وعلي آله في صباح كلّ يوم وعشيّة. إلي آخر كلامه.

ثمّ قال: نجزت كتابته في أواخر شعبان سنة إحدي وخمسين وستمائة» «1».

تصريح ابن دحية بانحراف البخاري عن أهل البيت … ص: 388

وقد كان ما لاقاه البخاري من الإهانة والتضليل، من كبار الأئمّة، كأبي __________________________________________________

(1) كتائب أعلام أخبار من فقهاء مذهب النعمان المختار- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 389

زرعة وأبي حاتم والذهلي وأئمّة بخاري، جزاءً لانحرافه عن أميرالمؤمنين وأهل البيت الطاهرين عليهم السلام، وإزرائه لهم وكتمانه فضائلهم ومناقبهم في دار الدنيا الأمر الذي صرَّح به العلامة ذوالنسبين ابن دحية في كتاب (شرح أسماء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم) حيث قال:

«ترجم البخاري في صحيحه في وسط المغازي ما هذا نصّه: بعث عليّ ابن أبي طالب وخالد بن الوليد إلي اليمن قبل حجّة الوداع: حدّثني أحمد بن عثمان قال: ثنا شريح بن مسلمة قال: ثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق قال: حدّثني أبي، عن أبي إسحاق سمعت البراء: بعثنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مع خالد بن الوليد إلي اليمن، ثمّ بعث عليّاً بعد ذلك مكانه فقال: مر أصحاب خالد، من شاء منهم أن يُعقّب معك فليُعَقِّب ومن شاء فليقبل، فكنت ممّن عَقَّب معه. قال: فغنمت اوَاقي ذات عدد.

حدّثني محمّد بن بشار قال: ثنا روح بن عبادة قال: ثنا علي بن

سويد ابن منجوق، عن عبداللَّه بن بريدة، عن أبيه قال: بعث النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم عليّاً إلي خالد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليّاً، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا تري إلي هذا، فلمّا قدمنا إلي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ذكرت له ذلك، فقال: يا بريدة أتبغض عليّاً؟ فقلت: نعم. قال: لا تبغضه، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك.

قال ذوالنسبين رحمه اللَّه:

أورده البخاري ناقصاً مُبتّراً كما تري، وهي عادته في إيراد الأحاديث التي من هذا القبيل، وما ذاك إلّالسوء رأيه في التنكّب عن هذه السبيل.

وأورده الإمام أحمد بن حنبل كاملًا محقّقاً، إلي طريق الصحّة فيه موفّقاً،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 390

فقال فيما حدّثني القاضي العدل، بقيّة مشايخ العراق، تاج الدين أبوالفتح محمّد بن أحمد بن المندائي- قراءة عليه، بواسط العراق- بحقّ سماعه علي الثقة الرئيس أبي القاسم ابن الحصين، بحق سماعه علي الثقة الواعظ أبي علي الحسين ابن المذهب، بحق سماعه علي الثقة أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، بحقّ سماعه من الإمام أبي عبدالرحمن عبداللَّه، بحق سماعه علي أبيه إمام أهل السنّة أبي عبداللَّه أحمد بن حنبل قال: ثنا يحيي بن سعيد، ثنا عبدالجليل قال: انتهيت إلي حلقة فيها أبو مجلز وابنا بريدة، فقال عبداللَّه ابن بريدة: أبغضت عليّاً بغضاً لم أبغضه أحداً قط. قال: وأحببت رجلًا لم احبّه إلّا علي بغضه عليّاً. قال: فبعث ذلك الرجل علي خيل فصحبته، وما أصحبه إلّا علي بغضه عليّاً. قال: فأصبنا سبياً. قال: فكتب إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إبعث علينا مَنْ يخمّسه. قال: فبعث إلينا عليّاً وفي السبي وصيفة هي أفضل من في السبي، قال: فخمّس وقسّم، فخرج ورأسه يقطر. فقلنا:

يا أباالحسن ما هذا؟ قال: ألم تروا إلي الوصيفة التي كانت في السبي، فإنّي قسّمت وخمّست فصارت في الخمس، ثمّ صارت في أهل بيت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ثمّ صارت في آل علي ووقعت بها. قال: فكتب الرجل إلي نبيّ اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. قلت: إبعثني، فبعثني مصدّقاً. قال: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول: صدق صدق، فأمسك يدي والكتاب قال: أتبغض عليّاً؟ قال:

قلت: نعم. قال: فلا تبغضه، وإن كنت تحبّه فازدد له حبّاً، فوالذي نفس محمّد بيده، لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة. قال: فما كان من الناس أحد بعد قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أحبّ إليّ من علي.

قال عبداللَّه: فوالذي لا إله غيره، ما بيني وبين النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 391

في هذا الحديث غير أبي بريدة» «1».

وقال ابن دحية في موضعٍ آخر من كتابه المذكور، بعد نقل حديثٍ عن مسلم:

«بدأنا بما أورده مسلم، لأنّه أورده بكماله، وقطّعه البخاري وأسقط منه علي عادته كما تري، وهو ممّا عيب عليه في تصنيفه علي ما جري، ولاسيّما إسقاطه لذكر علي رضي اللَّه عنه».

ترجمة أبي الخطّاب ابن دحية … ص: 391

ولا يخفي أنّ أباالخطّاب ابن دحية من أكبر علماء القوم وأشهر حفّاظهم.

قال ابن خلّكان بترجمته:

«أبوالخطّاب عمر بن الحسن بن علي بن محمّد بن الجميل بن فَرَح بن خلف بن قَومِس بن مُزْلال بن مَلّال بن بدر بن دِحْية بن فروة الكلبي، المعروف بذي النسبين، الأندلسي البلنسي الحافظ. نقلت نسبه علي هذه الصّورة من خطّه.

كان يذكر أنّ امّه: أمة الرحمن بنت أبي عبداللَّه بن أبي البسام موسي بن عبداللَّه بن الحسين بن جعفر بن علي بن محمّد بن علي بن موسي بن جعفر

ابن محمّد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم، فلهذا كان يكتب بخطّه: ذوالنّسبين بين دحية والحسين، وكان يكتب أيضاً سبط أبي البسام، إشارة إلي ذلك.

__________________________________________________

(1) المستكفي في أسماء النبي المصطفي- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 392

وكان أبوالخطّاب المذكور من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقناً لعلم الحديث النبوي وما يتعلّق به، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها، أكثر بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلاميّة، ولقي بها علماءها ومشائخها، ثمّ رحل منها إلي برّ العدوة، ودخل مراكش واجتمع بفضلائها، ثمّ ارتحل إلي إفريقيّة ومنها إلي الديار المصريّة، ثمّ إلي الشام والشرق وإلي العراق، وسمع ببغداد من بعض أصحاب ابن الحصين، وسمع بواسط من أبي الفتح محمّد بن أحمد بن المندائي، ودخل إلي عراق العجم وخراسان وما والاها ومازندران، كلّ ذلك في طلب الحديث والإجتماع بأئمّة الحديث، وأخذ عنهم، وهو في تلك الحال يؤخذ عنه ويستفاد منه، وسمع بأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني، وبنيسابور من منصور ابن عبدالمنعم الفراوي» «1».

وقال السيوطي في (بغية الوعاة):

«عمر بن الحسن بن علي بن محمّد بن الجميل بن فرح بن دحية الكلبي الأندلسي البلنسي الحافظ، أبوالخطّاب، كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقناً لعلم الحديث وما يتعلّق به، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها، سمع الحديث ورحل، وله بني الكامل دار الحديث الكامليّة بالقاهرة، وجعله شيخاً، حدثّ عنه ابن الصلاح وغيره، ومات ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة» «2».

وقال في كتابه (حسن المحاضرة):

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 3: 448- 450/ 497.

(2) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنّحاة 2: 218/ 1832.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 393

«ابن دحية، الإمام العلّامة الحافظ الكبير،

أبوالخطّاب، عمر بن الحسن الأندلسي البلنسي، كان بصيراً بالحديث متقناً به، له حظّ وافر من اللغة ومشاركة في العربيّة، له تصانيف، توطّن مصر وأدّب الملك الكامل، ودرّس بدار الحديث الكامليّة، مات أربع عشرة ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة» «1».

موقف البخاري من حديث الغدير وكلمات الأعلام فيه … ص: 393

ومن غرائب تعصّبات البخاري: طعنه في حديث الغدير المروي عن أكثر من مائة صحابي، والبالغ أضعاف شروط التواتر، والمصرَّح بتواتره من قبل الأئمّة الثقات المتبحّرين في الحديث عند أهل السنّة، كما لا يخفي علي من اقتطف الأزهار من (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة)، واستفاد من (الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة) وكلاهما للحافظ السيوطي، أو راجع (شرح الجامع الصغير) لنورالدين العزيزي، أو (شرح الجامع الصغير) للمناوي، أو (المرقاة) لعلي القاري، أو (الأربعين في مناقب أميرالمؤمنين) لجمال الدين المحدّث الشيرازي، أو (السيف المسلول) لثناء اللَّه تلميذ ولي اللَّه والد صاحب التحفة، أو (أسني المطالب) لابن الجزري، وغير هذه الكتب.

قال ابن تيميّة- في حديث الغدير-: «وأمّا قوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فليس في الصحاح، لكنْ ممّا رواه العلماء، وتنازع الناس في صحّته، فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم أنّهم طعنوا فيه __________________________________________________

(1) حسن المحاضرة بمحاسن مصر والقاهرة 1: 201.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 394

وضعّفوه» «1».

اللّهمّ إلّاأن يكون قد طعن في بعض طرقه، فنسب إليه ابن تيميّة الطعن في أصله …!!

فإنْ كان البخاري قد طعن في أصل حديث الغدير، فقد نصَّ غير واحدٍ من أعلام القوم علي عدم الإعتبار بكلام من طعن فيه كائناً من كان … يقول البدخشي: «هذا حديث صحيح مشهور، ولم يتكلَّم في صحّته إلّامتعصّب جاحد لا اعتبار بقوله، فإنّ الحديث كثير الطرق جدّاً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتابٍ

مفرد، وقد نصَّ الذهبي علي كثير من طرقه بالصحّة، ورواه من الصحابة عدد كثير» «2».

وكذلك نسب الحافظ ابن الجزري منكر حديث الغدير إلي الجهل والعصبيّة «3».

ترجمة ابن الجزري … ص: 394

وابن الجزري الشافعي، حافظٌ شهير، وله تآليف معتمدة، وقد أثني العلماء عليه وعلي كتبه:

فقد ترجم له ابن حجر ووصفه بالحافظ الإمام المقرئ، وقال: «إنتهت إليه رئاسة علم القراآت في الممالك، وكان قديماً صنّف الحصن الحصين في الأدعية، ولهج به أهل اليمن واستكثروا منه … وكانت عنايته بالقراءات أكثر،

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4: 136.

(2) نزل الأبرار بما صحَّ من مناقب أهل البيت الأطهار: 21.

(3) أسني المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب: 48.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 395

فجمع ذيل طبقات القرّاء للذهبي وأجاد فيه، ونظم قصيدةً في قرائة الثلاثة، وجمع النشر في القراءات العشر … وكان يلقّب في بلاده: الإمام الأعظم …

وبالجملة، فإنّه كان عديم النظير، طائر الصيت، انتفع الناس بكتبه وسارت في الآفاق مسير الشمس» «1».

وترجم له السخاوي ترجمةً مطوّلة، فذكر مشايخه في مختلف العلوم، وأنّه قد أذن له غير واحدٍ بالإفتاء والتدريس والإقراء، وأنّه ولي مشيخة الإقراء بالعادليّة ثمّ مشيخة دار الحديث الأشرفيّة … وهكذا ذكر أسفاره إلي البلاد المختلفة وأورد طرفاً من أخباره فيها … ثمّ ذكر تصانيفه ووصفها بكونها مفيدةً، ومنها (أسني المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب). قال: وقد ذكره الطاووسي في مشيخته وقال: إنّه تفرّد بعلوّ الرواية وحفظ الأحاديث والجرح والتعديل ومعرفة الرواة المتقدّمين والمتأخّرين … ثمّ ذكر السخاوي كلام ابن حجر في حقّه …» «2».

هذا، وقد توفي ابن الجزري سنة 833.

إسترابة البخاري في بعض حديث الإمام الصادق عليه السلام!! … ص: 395

ومن أمارات بغض البخاري لأهل بيت النبوّة وانحرافه عنهم: عدم إخراجه عن الإمام الصادق عليه السلام في كتابه، بل استرابته في بعض حديثه، والعياذ باللَّه!!

قال ابن تيميّة في كلامٍ له عن الإمام عليه السلام:

__________________________________________________

(1) إنباء الغمر بأبناء العمر 3: 467.

(2) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 9:

255- 260.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 396

«فهؤلاء الأئمّة الأربعة ليس منهم من أخذ عن جعفر شيئاً من قواعد الفقه، لكنْ رووا عنه الأحاديث كما رووا عن غيره، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه، وليس بين حديث الزهري وحديثه نسبة، لا في القوّة ولا في الكثرة، وقد استراب البخاري في بعض حديثه لمّا بلغه عن يحيي بن سعيد القطّان فيه كلام، فلم يخرج له، ويمتنع أن يكون حفظه للحديث كحفظ من يحتجّ بهم البخاري» «1».

فانظر إلي كلام هذا الناصب العنيد، كيف يطعن في الإمام العظيم استناداً إلي القطّان والبخاري، مع أنّ علمائهم الكبار، من السّابقين واللّاحقين، يقولون بضرورة حبّ أهل البيت واحترامهم والإقتداء بهم والأخذ منهم، وحتّي أنّهم ينزّهون أهل السنّة من بغض أهل البيت، ويبرؤن ممّن اعترض عليهم أو تكلّم فيهم أو أعرض عنهم، ويجعلون نسبة هذه الامور إلي أهل السنّة من تعصّبات الإماميّة ضدّهم، يقول الكابلي في تعداد تعصّبات الشيعة:

«التاسع عشر: إنّ أهل السنة أفرطوا في بغض أهل البيت، ذكر ذلك ابن شهرآشوب وكثير من علمائهم، ولقَّبوهم بالنواصب، وهو كذب صرد وعصبيّة ظاهره، فإنّهم يقولون إنّ اللَّه تعالي أوجب محبّة أهل بيت نبيّه علي جميع بريّته، ولا يؤمن أحد حتّي يكون عترة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أحبّ إليه من نفسه، ويروون في ذلك أحاديث منها: ما رواه البيهقي وأبوالشيخ والديلمي:

أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يؤمن أحد حتّي أكون أحبّ إليه من نفسه، ويكون عترتي أحبّ إليه من نفسه.

وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه أنّه صلّي اللَّه __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7: 533.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 397

عليه وسلّم قال: أحبّوا أهل بيتي بحبّي.

إلي غير ذلك من الأخبار.

ويقولون:

من ترك المودّة في أهل بيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقد خانه، وقد قال اللَّه تعالي: «لا تخونوا اللَّه ورسوله»، ومن كره أهل بيته فقد كرهه صلّي اللَّه عليه وسلّم. ولقد أجاد من أفاد:

فلا تعدل بأهل البيت خلقاً فأهل البيت هم أهل السعاده فبغضهم من الإنسان خسر حقيقيٌّ وحبّهم عباده ويوجبون الصّلاة عليهم في الصلوات. قال الشيخ الجليل فريدالدين أحمد بن محمّد النيسابوري رحمه اللَّه: من آمن بمحمّد ولم يؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن، أجمع العلماء والعرفاء علي ذلك ولم ينكره أحد» «1».

أقول:

فلو كانوا صادقين في قولهم «من آمن بمحمّدٍ ولم يؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن» وأنّه قد «أجمع العلماء والعرفاء علي ذلك ولم ينكره أحد» فما ظنّهم بالقطّان والبخاري وابن تيميّة وأمثالهم؟

وقد ذكر الشاه عبدالعزيز الدّهلوي- في الكلام علي حديث: مثل أهل بيتي كسفينة نوح … -: إنّ هذا الحديث يفيد بأنّ الفلاح والهداية منوط بحبّ أهل البيت واتّباعهم، وأنّ التخلّف عن ذلك موجب للهلاك، ثمّ زعم أنّ هذا المعني يختصُّ بأهل السنّة «2»!!

فإنْ كان صادقاً فيما يقول، فما رأيه فيمن تكلّم في الإمام أبي عبداللَّه __________________________________________________

(1) الصواقع الموبقة- مخطوط.

(2) التحفة الإثني عشرية: 219.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 398

الصّادق عليه السلام؟

هذا، ولا يتوهّمنّ أحدٌ أنّ تكلّم القطّان والبخاري وأتباعهما في الإمام ليس عن بغض له وعناد، وإنّما هو تحقيقٌ في العلم واحتياط في الدين، فإنّه توهّم فاسد جدّاً، فإنّه لو لم يكن ما ذكره ابن تيميّة انحرافاً وبغضاً وعناداً، فأين العناد والعداوة والبغض؟ وبماذا يكون؟ ومن المنحرف عنهم والمتعصّب ضدّهم والناصب لهم؟

وهل شدّة الإحتياط والتورّع أدّت إلي أخذ روايات عكرمة الضالّ المضلّ والناصب المقيت، وطرح أخبار الإمام الصادق وغيره من

أئمّة أهل البيت؟

وكيف يقبل هذا الإعتذار للبخاري؟! وكيف يعتذر له بذلك؟ وقد أخرج عن الذهلي- مع ما كان بينهما من الطعن الموجب للفسق- ومع التدليس في اسمه، ولم يخرج عن الإمام الصادق؟!

ولو كان لمثل هذا الإعتذار مجالٌ لَما قال ابن تيميّة: «ويمتنع أنْ يكون حفظه للحديث كحفظ من يحتجّ بهم البخاري»!!

طعن القطّان في الإمام الصادق!! … ص: 398

هذا، وطعن القطّان في الإمام الصّادق عليه السلام مذكور في سائر الكتب الرجاليّة، وهو في جملتين إحداهما: «في نفسي منه شي ء» والاخري:

«مجالد أحبّ إليّ منه»!!:

قال الذهبي: «جعفر بن محمّد الصادق أبو عبداللَّه، وامّه ام فروة بنت القاسم بن محمّد، وامّها أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر، فكان يقول:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 399

ولّدني الصديق مرّتين. سمع أباه والقاسم وعطاء. وعنه: شعبة والقطّان وقال:

في نفسي منه شي ء …» «1».

وقال: «جعفر بن محمّد بن علي، ثقة، لم يخرج له البخاري، وقد وثّقه يحيي بن معين وابن عدي، وأمّا القطّان فقال: مجالد أحبّ إليّ منه» «2».

ترجمة مجالد بن سعيد … ص: 399

هذا، والحال أنّ مجالد بن سعيد قد طعن فيه كثير من أئمّة القوم:

قال الذهبي: «مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، مشهور، صاحب حديثٍ علي لينٍ فيه. روي عن قيس بن أبي حازم والشعبي. وعنه: يحيي القطّان وأبو اسامة وجماعة.

قال ابن معين وغيره: لا يحتجّ به، وقال أحمد: يرفع كثيراً ممّا لا يرفعه الناس، ليس بشي ء. وقال النسائي: ليس بالقوي، وذكر الأشج: إنّه شيعي، وقال الدارقطني: ضعيف. وقال البخاري: كان يحيي بن سعيد يضعّفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وقال الفلّاس: سمعت يحيي بن سعيد يقول: لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلّها عن الشعبي عن مسروق عن عبداللَّه فعل.

وقيل لخاله الطحّان: دخلتَ الكوفة فلم لم تكتب عن مجالد؟ قال: لأنّه كان طويل اللّحية، قلت: من أنكر ما له عن الشعبي عن مسروق عن عائشة مرفوعاً: لو شئت لأجري اللَّه معي جبال الذهب والفضّة» «3».

__________________________________________________

(1) الكاشف 1: 139/ 807.

(2) المغني في الضعفاء 1: 211/ 1156.

(3) ميزان الاعتدال 6: 23/ 7076.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 400

فانظر من هذا الذي

قدّمه القطان علي الإمام الصّادق عليه السلام؟

واحكم علي القطّان والبخاري وأضرابهما بما يقتضيه الدين والعدل؟

موقف الذهبي … ص: 400

والذهبي، وإنْ وثّق الإمام عليه السلام، لكنّه لم يرد علي تعصّبات القطّان والبخاري ضد الإمام، بل بالعكس، فقد أورده في كتابه (الميزان) لتكلّمهما فيه، حيث قال:

«جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي، أبو عبداللَّه، أحد الأئمّة الأعلام، برّ، صادق، كبير الشأن، لم يحتج به البخاري، قال يحيي بن سعيد:

مجالد أحبّ إليّ منه، في نفسي منه شي ء، وقال مصعب بن عبداللَّه عن الدراوردي قال: لم يرو مالك عن جعفر حتّي ظهر أمر بني العبّاس، قال مصعب بن عبداللَّه: كان مالك لا يروي عن جعفر حتّي يضمّه إلي أحد. وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: سمعت يحيي يقول: كنت لا أسأل يحيي بن سعيد عن حديث جعفر بن محمّد، فقال لي: لم لاتسألني عن حديث جعفر؟

قلت: لا اريده، فقال لي: إنْ كان يحفظ فحديث أبيه المسند» «1».

هذا، في الوقت الذي بني في كتابه هذا علي أنْ لا يذكر فيه من قدح فيه البخاري وابن عدي، من الصحابة والأئمّة في الفروع … كما صرّح بذلك في مقدّمة الكتاب حيث قال:

«أمّا بعد، هدانا اللَّه وسدّدنا ووفّقنا لطاعته، فهذا كتاب جليل مبسوط، في إيضاح نقلة العلم النبوي وحملة الآثار، ألّفته بعد كتابي المنعوت بالمغني،

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 143/ 1521.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 401

وطوّلت فيه العبارة، وفيه أسماء عدّة من الرواة زائداً علي من في المغني، زدت معظمهم من الكتاب الحافل المذيّل علي الكامل لابن عدي.

وقد ألّف الحفّاظ مصنّفات جمّة في الجرح والتعديل مابين اختصار وتطويل، فأوّل من جمع كلامه في ذلك: الإمام الذي قال فيه أحمد بن حنبل:

ما رأيت بعيني

مثل يحيي بن سعيد القطّان، وتكلّم في ذلك بعده تلامذته:

يحيي بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وعمرو بن علي الفلاس، وأبو خيثمة، وتلامذتهم: كأبي زرعة، وأبي حاتم، والبخاري، ومسلم، وأبي إسحاق الجوزجاني السعدي، وخلق، ومن بعدهم مثل:

النسائي، وابن خزيمة، والترمذي، والدولابي، والعقيلي، وله مصنّف مفيد في معرفة الضعفاء، ولأبي حاتم ابن حبّان كتاب كبير عندي في ذلك، ولأبي أحمد ابن عدي كتاب الكامل هو أكمل الكتب وأجلّها في ذلك، وكتاب أبي الفتح الأزدي، وكتاب أبي محمّد ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل والضعفاء، وللدارقطني في الضعفاء، وللحاكم وغير ذلك، وقد ذيّل ابن طاهر المقدسي علي الكامل لابن عدي بكتاب لم أره، وصنّف أبوالفرج ابن الجوزي كتاباً كبيراً في ذلك، كنت اختصرته أوّلًا ثمّ ذيّلت عليه ذيلًا بعد ذيل.

والساعة، فقد استخرت اللَّه عزّ وجلّ في عمل هذا المصنّف، ورتّبته علي حروف المعجم حتّي في الآباء ليقرب تناوله، ورمزت علي اسم الرجل من أخرج له في كتابه من الأئمّة الستّة: البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، برموزهم السائرة، فإن اجتمعوا علي إخراج رجل فالرمز (ع)، وإن اتفق عليه أرباب السنن الأربعة فالرمز (غ).

وفيه من تُكُلّم فيه مع ثقته وجلالته بأدني لين وبأقلّ تجريح، فلولا أنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 402

ابن عدي أو غيره من مؤلّفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته، ولم أر من الرأي أن أحذف اسم أحد ممّن له ذكر بتليينٍ مّا في كتب الأئمّة المذكورين، خوفاً من أن يُتَعَقَّب عليّ، إلّاأنّي ذكرته لضعف فيه عندي إلّاما كان في كتب البخاري وابن عدي وغيرهما من الصّحابة، فإنّي أسقطتهم لجلالة الصحابة رضي اللَّه عنهم، ولا أذكرهم في هذا

المصنّف، فإنّ الضعف إنّما جاء من جهة الرواة إليهم، وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمّة المتبوعين في الفروع أحداً، لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس، فإن ذكرت أحداً منهم فأذكره علي الإنصاف، وما يضرّه ذلك عند اللَّه ولا عند الناس، إذ إنّما يضرّ بالإنسان الكذب والإصرار علي كثرة الخطأ والتجرّي علي تدليس الباطل فإنّه خيانة، والمرء المسلم يطبع علي كلّ شي ء إلّاالخيانة والكذب» «1».

أفهل كان شأن الإمام عليه السلام أقلّ من شأن عمرو بن العاص وبسر ابن أرطاة وأمثالهما من فسقة الصحابة؟

أفهل كان شأن الشافعي وغيره أجلّ من شأن الإمام الصّادق؟

لكنّه التعصّب والنّصب … والعياذ باللَّه …

ترجمة القطّان … ص: 402

ثمّ انظر إلي تراجم القطّان وكلماتهم في مدحه والثناء عليه، والمبالغة في تعظيمه وتبجيله:

قال السمعاني: «القطّان- بفتح القاف وتشديد الطاء الهملة في آخرها نون، هذه النسبة إلي بيع القطن، والمشهور بها هو: أبو سعيد يحيي بن __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 403

سعيد بن فروخ الأحول القطّان، مولي بني تميم، من أئمّة أهل البصرة، يروي عن يحيي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة، روي عنه أهل العراق، مات يوم الأحد سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان إذا قيل له في علّته يعافيك اللَّه قال:

أحبّه إليّ أحبّه إلي اللَّه عزّوجلّ، وكان من سادات أهل زمانه حفظاً وورعاً وعقلًا وفهماً وفضلًا وديناً وعلماً، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء، ومنه تعلّم علم الحديث أحمد بن حنبل ويحيي بن معين وعلي ابن المديني. ذكر عمرو بن علي الفلاس أنّ يحيي بن سعيد القطّان كان يختم القرآن كلّ يوم وليلة، ويدعو لألف إنسان، ثمّ يخرج بعد العصر فيحدّث الناس.

وكان يروي عن سميّه يحيي بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، والأعمش، وابن جريج، والثوري، وشعبة، ومالك، في آخرين. وكان يقول: لزمت شعبة عشرين سنة، فما كنت أرجع من عنده إلّابثلاثة أحاديث وعشرة أكثر ما كنت أسمع منه في كلّ يوم. وقال يحيي بن معين: أقام يحيي بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كلّ ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، وما رئي يطلب جماعة قط» «1».

وقال النووي:

«يحيي بن سعيد القطّان هو: أبو سعيد يحيي بن سعيد بن فروح التميمي مولاهم البصري، القطّان، الإمام، من تابعي التابعين، سمع: يحيي بن سعيد الأنصاري وحنظلة بن أبي سفيان وابن عجلان وسيف بن سليمان وهشام بن حسان وابن جريج وسعيد بن عروبة وابن أبي ذئب والثوري وابن __________________________________________________

(1) الأنساب 4: 519.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 404

عيينة ومالكاً ومسعراً وشعبة وخلائق.

وروي عنه: الثوري، وابن عيينة، وشعبة، وابن مهدي، وعفّان، وأحمد بن حنبل، ويحيي بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، وأبو خيثمة، وأبوبكر ابن أبي شيبة، ومسدد، وعبيداللَّه بن عمر القواريري، وعمرو بن علي، وابن مثنّي، وابن بشّار، وخلائق من الأئمّة وغيرهم.

واتفقوا علي إمامته وجلالته، ووفور حفظه وعلمه وصلاحه. قال أحمد بن حنبل: ما رأيت مثل يحيي القطّان في كلّ أحواله، وقال يحيي بن معين: أقام يحيي القطّان عشرين سنة يختم القرآن في كلّ يوم وليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، وما رئي يطلب جماعة قط- يعني ما فاتته فيحتاج إلي طلبها-. وقال أحمد بن حنبل: يحيي القطّان إليه المنتهي في التثبّت بالبصرة، وهو أثبت من وكيع وابن مهدي وأبي نعيم ويزيد بن هارون، وقد روي عن

خمسين شيخاً ممّن روي عنهم سفيان وقال: لم يكن في زمان يحيي مثله. وقال أبو زرعة: هو من الثقات الحفّاظ. وقال يحيي بن معين: قال لي عبدالرحمن بن مهدي: لا تري بعينك مثل يحيي بن القطّان. وقال ابن منجويه:

كان يحيي القطّان من سادات أهل زمانه ورعاً وحفظاً وفهماً وفضلًا وديناً وعلماً، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء. وقال بندار: كتب عبدالرحمن بن مهدي عن يحيي عن يحيي القطّان ثلاثين ألفاً وحفظها، قال زهير: رأيت يحيي القطّان بعد وفاته، عليه قميص، مكتوب بين كتفيه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، براءة ليحيي بن سعيد من النار. قال ابن سعد: توفي يحيي القطّان في صفر سنة ثمان وتسعين استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 405

ومائة، وكان مولده سنة عشرين ومائة» «1».

وقال الذهبي:

«يحيي بن سعيد بن فروخ، الحافظ الكبير، أبوسعيد التميمي مولاهم البصري القطّان، عن: عروة وحميد والأعمش، وعنه: أحمد وعلي ويحيي.

قال أحمد: ما رأيت مثله. وقال بندار: إمام أهل زمانه يحيي القطّان، واختلفت إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصي اللَّه قط، ولد القطّان 120 ومات 198 في صفر، وكان رأساً في العلم والعمل» «2».

وقال محمّد بن حبّان:

«يحيي بن سعيد بن فروخ القطّان مولي بني تميم، كنيته أبو سعيد، الأحول، من أهل البصرة، يروي عن يحيي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة، روي عنه أهل العراق، مات يوم الأحد يوم الثاني عشر من صفر سنة ثمان وسبعين ومائة، وكان إذا قيل له في علّته يعافيك اللَّه قال: أحبّه إليّ أحبّه إلي اللَّه جلّ وعلا، وصلّي عليه إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبداللَّه بن عبّاس، وهو أمير البصرة،

وكان من سادات أهل زمانه حفظاً وورعاً وعقلًا وفهماً وفضلًا وديناً وعلماً، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن الثقات، وترك الضعفاء، ومنه تعلّم علم الحديث أحمد ابن حنبل ويحيي بن معين وعلي بن المديني وسائر شيوخنا. حدّثني محمّد ابن الليث الورّاق قال: سمعت عبداللَّه بن جعفر بن الزبرقان يقول: سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول: كان يحيي بن سعيد القطّان يختم القرآن كلّ يوم __________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 2: 154/ 243.

(2) الكاشف 3: 243/ 6258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 406

وليلة، ويدعو لألف إنسان، ثمّ يخرج بعد العصر فيحدّث الناس» «1».

وقال اليافعي:

«الإمام أبو سعيد يحيي بن سعيد القطّان البصري الحافظ، أحد الأعلام.

قال بندار: اختلفت إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصي اللَّه قط. قال أحمد بن حنبل: ما رأيت مثله. وقال ابن معين: أقام يحيي القطّان عشرين سنة يختم في كلّ ليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة» «2».

وقال عبدالحق الدهلوي:

«يحيي بن سعيد القطان، بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة، أبو سعيد، الأحول التميمي، مولي بني تميم، ويقال: ليس لأحد عليه ولاء، البصري، إمام كبير، ثقة حافظ عالم، عارف بالحديث، مشهور مكثر، وكان رأساً في العلم والعمل. وقال ابن المديني: ما رأيت أعلم بالرجال منه ولا أعلم بصواب الحديث والخطأ من ابن مهدي، فإذا اجتمعا علي ترك حديث رجل ترك حديثه، وإذا حدّث عنه أحدهما حدّث عنه، وقال مرّة: لم أر أحداً أثبت من القطّان. وقال ابن معين: قال ابن مهدي: لا تري عينك مثل يحيي القطّان. وقال أحمد: ما رأيت مثله. وقال بندار: إمام أهل زمانه يحيي القطّان، واختلفت إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصي اللَّه قط. وقال

ابن سعد: كان ثقة مأموناً رفيعاً حجّة. وقال العجلي: بصريّ ثقة نقيّ الحديث، كان لا يحدّث إلّاعن ثقة.

وقال أبو حاتم: ثقة حافظ. وقال أبو زرعة: من الثقات الحفّاظ. وقال النسائي:

ثقة ثبت مرضي. وقال أبوبكر ابن منجويه: كان من سادات أهل زمانه حفظاً

__________________________________________________

(1) كتاب الثقات 7: 611.

(2) مرآة الجنان 1: 352.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 407

وورعاً وفهماً وفضلًا وديناً وعلماً وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء، ولد سنة عشرين ومائة، ومات في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة. روي عن: هشام بن عروة وعبداللَّه بن عمر العمري ويحيي بن سعيد الأنصاري والأعمش والثوري وشعبة ومالك وغيرهم من الأئمّة. وروي عنه: عبدالرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وعلي ابن المديني ومسدّد ويحيي بن معين ومحمّد بن المثنّي …» «1».

أقول:

ومن هذه العبارات وأمثالها في مدح القطّان- مع علم قائليها بمقالته في الإمام الصّادق عليه الصّلاة والسّلام- تعرف مواقف القوم من أئمّة أهل البيت، فلا يقبل دفاع بعض الناس عن أهل السنة وأسلافهم بأنّهم محبّون لأهل البيت ومحترمون لهم ومستمسكون بهم …

قصّة كتاب العلل لابن المديني … ص: 407

وممّا يذكر في مقام الطعن في البخاري وورعه وأمانته وثقته: قصّته مع كتاب شيخه ابن المديني في العلل:

قال مسلمة بن قاسم في (تاريخه)- علي ما نقل عنه «2» -: «وسبب تأليف البخاري الكتاب الصحيح: أنّ علي بن المديني ألّف كتاب العلل، وكان ضنيناً به لايخرجه إلي أحد، ولا يحدّث به، لشرفه وعظم خطره وكثرة فائدته، فغاب علي ابن المديني في بعض حوائجه، فأتي البخاري إلي بعض بنيه،

__________________________________________________

(1) رجال المشكاة/ تحصيل الكمال- ترجمة القطّان.

(2) انظر ترجمته في لسان الميزان 6: 43.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 408

فبذل له

مائة دينار علي أن يخرج له كتاب العلل، ليراه ويكون عنده ثلاثة أيّام، ففتنه المال وأخذ منه مائة دينار، ثمّ تلطّف مع امّه فأخرجت الكتاب، فدفعه إليه وأخذ عليه العهود والمواثيق أن لايحبسه عنه أكثر من الأمد الذي ذكر، فأخذ البخاري الكتاب- وكان مائة جزء- فدفعه إلي مائة من الورّاقين، وأعطي كلّ رجل منهم ديناراً علي نسخه ومقابلته في يوم وليلة، فكتبوا له الديوان في يوم وليلة وقوبل، ثمّ صرفه إلي ولد علي بن المديني وقال: إنّما نظرت إلي شي ء فيه.

وانصرف علي بن المديني فلم يعلم بالخبر، ثمّ ذهب البخاري فعكف علي الكتاب شهوراً واستحفظه، وكان كثير الملازمة لابن المديني، وكان ابن المديني يعقد يوماً لأصحاب الحديث، يتكلّم في علله وطرقه، فلمّا أتاه البخاري بعد مدّة قال له: ما حبسك عنّا؟ قال: شغلٌ عرض لي، ثمّ جعل عليٌّ يلقي الأحاديث ويسألهم عن عللها، فيبادر البخاري بالجواب بنصّ كلام عليٍّ في كتابه، فعجب لذلك ثمّ قال له: من أين علمت هذا، هذا قول منصوص، واللَّه ما أعلم أحداً في زماني يعلم هذا العلم غيري.

فرجع إلي منزله كئيباً حزيناً، وعلم أنّ البخاري خدع أهله بالمال حتّي أباحوا له الكتاب، ولم يزل مغموماً بذلك، ولم يلبث إلّايسيراً حتّي مات، واستغني البخاري عن مجالسة علي والتفقّه عنده بذلك الكتاب، وخرج إلي خراسان، وتفقّه بالكتاب، ووضع الكتاب الصحيح والتواريخ، فعظم شأنه وعلا ذكره، وهو أوّل من وضع في الإسلام كتاب الصحيح، فصار الناس له تبعاً، وبكتابه يقتدي العلماء في تأليف الصحيح».

يفيد هذا النص أنّ البخاري كان السبب في موت شيخه علي بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 409

المديني، لتصرّفه في كتاب العلل الذي وضعه شيخه، بعد أخذه من

أهله بالحيلة والخديعة والمكر والكذب …

طعن مسلم فيمن قال بمقالة البخاري … ص: 409

هذا، وقد صرّح مسلم بن الحجاج بالطعن والتشنيع علي بعض الأقوال وأصحابها في باب رواية الحديث ونقله، والحال أنّ البخاري من القائلين بذلك القول، وهذا نصّ كلام مسلم في باب ما تصحّ به رواية الرواة بعضهم عن بعض والتنبيه علي من غلط في ذلك:

«وقد تكلّم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها، بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحاً، لكان رأياً متيناً ومذهباً صحيحاً، إذ الإعراض عن القول المطرح أحري لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهاً للجهّال عليه، غير أنّا لمّا تخوّفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الامور، وإسراعهم إلي اعتقاد خطأ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله ورَدّ مقالته بقدر ما يليق بها من الردّ، أجدي علي الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء اللَّه.

وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام علي الحكاية عن قوله والإخبار عن سوء رويّته: أنّ كلّ إسناد لحديثٍ فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنّهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روي الراوي عمّن روي عنه قد سمعه منه وشافهه به، غير أنّه لا نعلم له منه سماعاً، ولم نجد في شي ء من الروايات أنّهما التقيا قط أو تشافها بحديث، أنّ الحجّة لا تقوم عنده بكلّ خبر جاء هذا المجي ء، حتّي يكون عنده العلم بأنّهما قد اجتمعا من دهرهما مرّة فصاعداً أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 410

اجتماعهما وتلاقيهما مرّة من دهرهما فما فوقها، فإن لم يكن عنده علم ذلك، ولم تأت به رواية صحيحة تخبر أنّ هذا الراوي

عن صاحبه قد لقيه مرّة وسمع منه شيئاً، لم يكن في نقله الخبر عمّن روي عنه علم ذلك والأمر كما وصفنا حجّة، وكان الخبر عنده موقوفاً حتّي يرد عليه سماعه منه لشي ء من الحديث، قلّ أو كثر في روايةٍ مثل ما ورد.

وهذا القول- يرحمك اللَّه- في الطعن في الأسانيد قول مخترع مستحدث غير مسبوق صاحبه إليه، ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وذلك أنّ القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً:

أنّ كلّ رجل ثقة روي عن مثله حديثاً، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد- وإن لم يأت في خبر قط أنّهما اجتمعا ولا تشافها بكلام- فالرواية ثابتة والحجّة بها لازمة، إلّاأن يكون هناك دلالة بيّنة أنّ هذا الراوي لم يلق من روي عنه، أو لم يسمع منه شيئاً، فأمّا والأمر مبهمٌ علي الإمكان الذي فسّرنا، فالرواية علي السماع أبداً حتّي تكون الدلالة التي بيّنّا.

فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته أو للذابّ عنه، قد أعطيت في جملة قولك أنّ خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجّة يلزم به العمل، ثمّ أدخلت فيه الشرط بعد، فقلت حتّي نعلم أنّهما قد كانا التقيا مرّةً فصاعداً أو سمع منه شيئاً، فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحد يلزم قوله، وإلّا فهلمّ دليلًا علي ما زعمت، فإن ادّعي قول أحد من علماء السلف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبر طولب به، ولن يجد هو ولا غيره إلي إيجاده سبيلًا».

وأيضاً قال: «وكان هذا القول الذي أحدثه القائل الذي حكيناه في توهين استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 411

الحديث بالعلّة التي وصف، أقلّ من أن يعرّج

عليه ويُثار ذكره، إذ كان قولًا محدثاً وكلاماً خلفاً، لم يقله أحد من أهل العلم سلف، ويستنكره من بعدهم خلف، فلا حاجة بنا في ردّه بأكثر ممّا شرحنا، إذا كان قدر المقالة وقائلها القدر الذي وصفناه، واللَّه المستعان علي دفع ما خالف مذهب العلماء، وعليه التكلان» «1».

وقال النووي في شرح هذا الكلام:

«حاصل هذا الباب أنّ مسلماً- رحمه اللَّه- ادّعي إجماع العلماء قديماً وحديثاً علي أنّ المعنعن- وهو الذي فيه عن فلان- محمول علي الإتصال والسماع، إذا أمكن لقاء من اضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضاً، يعني مع براءتهم من التدليس، ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنّه قال لا يقوم الحجّة بها، ولا الحمل علي الاتصال، حتّي يثبت أنّهما التقيا في عمرهما مرّة فأكثر، ولا يكفي إمكان تلاقيهما. قال مسلم: وهذا قول ساقط مخترع مستحدث، لم يسبق قائله إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وإنّ القول به بدعة باطلة، وأطنب مسلم في الشناعة علي قائله، واحتجّ مسلم بكلام مختصره: أنّ المعنعن عند أهل العلم محمول علي الإتصال، إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال، فكذا إذا أمكن التلاقي، وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون وقالوا: هذا الذي صار إليه مسلم ضعيف، والذي ردّه هو المختار الصحيح الذي عليه أئمّة هذا الفن، مثل علي بن المديني والبخاري وغيرهما» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 35.

(2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج 1: 127- 128.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 412

أحاديث باطلة في كتاب البخاري … ص: 412

اشارة

وكما تكلّمنا باختصارٍ عن البخاري، فلنتكلّم في كتابه الموصوف بالصحيح، علي ضوء أقوال كبار أئمّة الحديث، مقتصرين علي طعنهم وقدحهم في عدّةٍ من أحاديثه:

حديث خِطبة عائشة … ص: 412

(فمنها) الحديث في خطبة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عائشة وقول أبي بكر له: «إنّما أنا أخوك»، وهذا نصّه:

«عن عروة: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم خطب عائشة، فقال له أبوبكر: إنّما أنا أخوك، فقال: أنت أخي في دين اللَّه وكتابه، وهي لي حلال» «1».

قال ابن حجر عن الحافظ مغلطاي: «في صحّة هذا الحديث نظر، لأنّ الخلّة لأبي بكر إنّما كانت بالمدينة، وخِطبة عائشة كانت بمكّة، فكيف يلتئم قوله: إنّما أنا أخوك.

وأيضاً: فالنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ما باشر الخطبة بنفسه، كما أخرجه ابن أبي عاصم، من طريق يحيي بن عبدالرحمن بن حاطب، عن عائشة: إنّ النبي أرسل خولة بنت حكيم إلي أبي بكر يخطب عائشة، فقال لها أبوبكر:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 8.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 413

وهل تصلح له، إنّما هي بنت أخيه؟ فرجعت فذكرت ذلك للنبي فقال صلّي اللَّه عليه وسلّم: إرجعي فقولي له: أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي.

فأتت أبابكر فذكرت ذلك له، فقال: ادعي رسول اللَّه، فجاء فأنكحه» «1».

حديث شفاعة إبراهيم لآزر … ص: 413

(ومنها) الحديث في شفاعة سيّدنا إبراهيم عليه السلام لآزر في يوم القيامة.

وهذا الإفتراء ذكره البخاري علي حسب ديدنه في غير موضع من كتابه السقيم، وفيه غاية الإزراء بشأن إبراهيم علي نبيّنا وآله وعليه سلام الرب الرحيم، كما لا يخفي علي من له ذهن مستقيم، حيث أثبتوا له في ذلك أوّلًا:

مخالفة أمر اللَّه تعالي وثانياً: إصراره علي المخالفة والمجادلة حيث لم ينته- بناءً علي افتراءهم- لمّا نهي اللَّه عن الإستغفار له في دار الدنيا، وثالثاً: مخالفته للدلائل العقليّة الدالّة علي المنع من الإستغفار للمشركين، ورابعاً: الخطأ والغفلة في ظنّ أنّ تعذيب الكافر خزي له بل خزي أعظم، وأيّ خزي أعظم من

هذا؟ فإنّ ذلك ممّا لا يتخيّله من له أدني عقل ودراية، فضلًا عن النبي المعصوم المبعوث للهداية، وخامساً: الجهل بالمراد من وعده تعالي بأن لا يخزيه. وهذه هي ألفاظ الحديث في كتاب التفسير:

«حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يلقي إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنّك وعدتني ألّا تخزني يوم يبعثون، فيقول اللَّه: إنّي حرّمت __________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 9: 101.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 414

الجنّة علي الكافرين» «1».

وفي رواية اخري «فيقول: يا رب إنّك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأيّ خزي أخزي من أبي الأبعد» «2».

قال الفخر الرازي: «وأمّا قوله تعالي: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها إيّاه» ففيه مسائل: المسألة الاولي: في تعلّق هذه الآية بماقبلها وجوه:

الأوّل: إنّ المقصود منه أن لا يتوهّم إنسان أنّه تعالي منع محمّداً صلّي اللَّه عليه وسلّم من بعض ما أذن لإبراهيم عليه السلام فيه. والثاني: أن يقال: إنّا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بماقبلها المبالغة في إيجاب الإنقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم، ثمّ بيّن تعالي أنّ هذا الحكم غير مختصّ بدين محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، فتكون المبالغة في تقرير وجوب الإنقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيم عليه السلام، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفّار أكمل وأقوي. الثالث: إنّه تعالي وصف إبراهيم في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب، وبكونه أوّاهاً، أي كثير التوجّع والتفجّع عند نزول المضار بالناس، والمقصود أنّ من كان موصوفاً بهذه الصفة، كان ميل قلبه إلي الإستغفار لأبيه شديداً، وكأنّه قيل: إنّ إبراهيم مع جلالة

قدره، ومع كونه موصوفاً بالأوّاهيّة والحليميّة، منعه اللَّه من الإستغفار لأبيه الكافر، فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعني كان أولي» «3».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 202 كتاب التفسير، سورة الشعراء.

(2) صحيح البخاري 4: 277- 278 كتاب أحاديث الأنبياء.

(3) تفسير الرازي 16: 210.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 415

وعلي الجملة، فإنّه- بعد العلم بأنّ إبراهيم عليه السلام كان ممنوعاً من هذا الإستغفار، وأنّه قد تبرّء منه- لا يستريب مسلمٌ في أنّ حديث البخاري موضوع!

ومع قطع النظر عن هذا، فإنّ الدلائل العقليّة أيضاً قائمة علي منع الإستغفار للمشركين، كما قال الرازي:

«قوله تعالي: «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» يحتمل أن يكون المعني: ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف، وأن يكون معناه ليس لهم ذلك علي معني النهي. فالأوّل معناه: أنّ النبوّة والإيمان يمنع من استغفار المشركين، والثاني معناه: لا يستغفروا، والأمران متقاربان.

وسبب هذا المنع ما ذكره اللَّه تعالي في قوله: «من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم». وأيضاً: قال: «إنّ اللَّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك» والمعني: أنّه تعالي لمّا أخبر عنهم أنّه يدخلهم النّار فطلب الغفران لهم، جار مجري طلب أن يخلف اللَّه وعده ووعيده وإنّه لا يجوز، وأيضاً: لمّا سبق قضاء اللَّه تعالي بأنّه يعذّبهم، فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين، وذلك يوجب نقصان درجة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وحطّ مرتبته. وأيضاً: إنّه تعالي قال: «ادعوني أستجب لكم» وقال: «أنّهم أصحاب الجحيم»، فهذا الإستغفار يوجب دخول الخلف في أحد هذين النصّين وأنّه لا يجوز» «1».

وعلي الجملة، فإنّ هذا الحديث موضوع باطل، ولا سبيل إلي إصلاحه بوجهٍ من الوجوه.

ولعلّه لذا اضطرّ بعضهم إلي التصرّف في لفظه، بوضع كلمة

«رجل»

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 16: 209.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 416

مكان اسم سيّدنا إبراهيم عليه السلام، كما في (فتح الباري): «وفي رواية أيّوب: يلقي رجل أباه يوم القيامة فيقول له: أيّ ابنٍ كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم، فيقول: خذ بأزرتي، فيأخذ بأزرته، ثمّ ينطلق حتّي يأتي ربّه …» «1».

ولكنْ لا مناص من الإعتراف ببطلانه … كما عن الحافظ الإسماعيلي وغيره.

قال ابن حجر: «وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث من أصله، وطعن في صحّته، فقال بعد أن أخرجه: هذا حديث في صحّته نظر، من جهة أنّ إبراهيم عالم أنّ اللَّه لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما بأبيه خزياً له مع علمه بذلك؟

وقال غيره: هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالي: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّاعن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للَّه تبرّء منه»» «2».

وأمّا محاولة ابن حجر تأويل هذا الحديث وتوجيهه بقوله:

«والجواب عن ذلك: أنّ أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرّأ إبراهيم فيه من أبيه.

فقيل: كان ذلك في حياة الدنيا لمّا مات آزر مشركاً. وهذا الوجه أخرجه الطبري من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، وإسناده صحيح، وفي رواية: فلمّا مات لم يستغفر له، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس نحوه قال: استغفر له ما كان حيّاً، فلمّا مات أمسك،

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 8: 405.

(2) فتح الباري 8: 406.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 417

وأورد أيضاً من طريق مجاهد وقتادة وعمر بن دينار نحو ذلك.

وقيل: إنّما تبرّء منه يوم القيامة لمّا أيس منه حين مُسخ، علي ما صرّح به في رواية ابن المنذر التي

أشرت إليها، وهذا أخرجه الطبري أيضاً من طريق عبدالملك بن أبي سليمان: سمعت سعيد بن جبير يقول: إنّ إبراهيم يقول يوم القيامة: ربّ والدي، ربّ والدي، فإذا كانت الثالثة أخذ بيده فيلتفت إليه وهو غضبان فيتبرّء منه، ومن طريق عبيد بن عمير قال: يقول إبراهيم لأبيه: إنّي كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم، فخذ بحقوتي، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعاً، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرّء منه.

ويمكن الجمع بين القولين: بأنّه تبرّء منه لمّا مات مشركاً، فترك الإستغفار، لكن لمّا رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقّة فسأل فيه، فلمّا رآه مُسخ يئس منه حينئذٍ، وتبرّء منه تبرّياً أبديّاً.

وقيل: إنّ إبراهيم لم يتيقّن موته علي الكفر، لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم علي ذلك، ويكون وقت تبريته منه بعد الحالة التي وقعت في هذا الحديث» «1».

فسقوطها واضح لدي كلّ عاقلٍ فضلًا عن الفاضل.

لأنّ حاصل الجواب الأوّل هو بيان الإختلاف في وقت تبرّي إبراهيم من آزر، وأيّ ربطٍ لهذا بأصل الإشكال؟ اللّهمّ إلّاأن يريد ابن حجر أنّه بناءً علي القول بكون التبرّي في يوم القيامة، فلا منافاة بين ذلك وبين الآية المباركة «وما كان …»، لكنّه وجه سخيف جدّاً، وذلك لأنّه:

أوّلًا: تأويلٌ للآية «فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ للَّه تبرّء منه» الظاهرة في وقوع __________________________________________________

(1) فتح الباري 8: 406.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 418

ذلك في الزمان الماضي، ورفع اليد عن الظاهر بلا دليلٍ ممنوع، كما هو معلوم.

وثانياً: إذا كان التبرّي في دار الدنيا، كما هو مفاد رواياتٍ متعدّدة، وقد صحّح ابن حجر نفسه بعضها، فالتنافي بين الشفاعة والآية المباركة لازم لا محالة.

وثالثاً: علي فرض ثبوت الإختلاف في وقت التبرّي، ورجحان القول الثاني علي

الأوّل، يندفع الإشكال المنقول عن غير الإسماعيلي، أمّا إشكال الإسماعيلي فلا يندفع بما ذكر.

ورابعاً: حمل التبرّي علي يوم القيامة، يوجب الاختلاف في سياق الآية المباركة، لأنّ الغرض من ذكر القصّة إفادة أنّ إبراهيم عليه السلام قد منع من الإستغفار لأهل الشرك، وأنّه قد تبرّء من أبيه مع كونه أوّاهاً حليماً، فيكون غيره من سائر المؤمنين ممنوعاً من ذلك بالأولويّة … وهذا ما فهمه الفخر الرازي أيضاً إذ قال:

«إعلم أنّه تعالي إنّما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام، لأنّه تعالي وصفه بشدّة الرقّة والشفقة والخوف والوجل، ومن كان كذلك فإنّه تعظم رقّته علي أبيه وأولاده، فبيّن تعالي أنّه مع هذه العادة تبرّء من أبيه وغلظ قلبه عليه، لما ظهر له إصراره علي الكفر، فإنّهم بهذا المعني أولي، ولذلك وصفه أيضاً بأنّه حليم، لأنّ أحد أسباب الحلم رقّة القلب وشدّة العطف، لأنّ المرء إذا كان حاله هكذا اشتدّ حلمه عند الغضب» «1».

وعلي هذا، فلو كان المراد التبرّي في الآخرة، فأين تكون أولويّة امّة

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 16: 211.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 419

الإسلام بذلك؟

هذا، وكأنّ ابن حجر عالم بضعف هذا الجواب، فاضطرّ إلي أن يقول:

«ولايمكن الجواب …» لكنّه غير مطمئن بهذا الجواب، ولذا ذكره بلفظ «يمكن».

كما أنّ السيوطي قد اقتصر علي هذا الجواب إذ قال في كتاب (التوشيح): «واستشكل سؤال إبراهيم ذلك مع علمه بأنّه تعالي لا يخلف الميعاد في إدخال الكافرين النار.

واجيب: بأنّه لمّا رآه أدركته الرأفة والرقّة، فلم يستطع إلّاأنْ يسأل فيه» «1».

لكن هذا الجواب- في الحقيقة- التزام بالإشكال، لأنّه بيان للداعي إلي الإستغفار، وهو الرحمة والرأفة، فيعود الإشكال بأنّه كيف تحقّقت منه هذه الرأفة وصدرت هذه الرحمة، مع علمه بعدم الجواز والحرمة؟ اللّهمّ

إلّاأن يقولوا: بأنّ الرحمة والرأفة تجوّز طلب ما لا يجوز، وهذا بديهي البطلان وضحكة للصبيان، لا يقول به عاقل بل جاهل فضلًا عن فاضل!

وأمّا قول ابن حجر: «وقيل: إنّ إبراهيم …».

فإنْ أراد من ذكره بيان ضعفه، فلا كلام فيه … وإنْ أراد دفع الإشكال به، فهو ينافي الأخبار الصحيحة الواردة في علم سيّدنا إبراهيم بموت آزر علي الكفر، وقد أورد ابن حجر بعضها، وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله «فلمّا تبيّن له» «2»

__________________________________________________

(1) التوشيح في شرح الصحيح 4: 250.

(2) سورة التوبة 9: 114.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 420

حين مات وعلم أنّ التوبة قد انقطعت منه.

وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ وأبوبكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة، عن ابن عبّاس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتّي مات «فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للَّه تبرّأ منه» يقول: لمّا مات علي كفره» «1».

حديث الصلاة علي ابن أبي سلول … ص: 420

(ومنها) ما أخرجه- وأخرجه مسلم أيضاً- في كتاب التفسير: «عن ابن عمر قال: لمّا توفّي عبداللَّه بن ابي، جاء ابنه عبداللَّه بن عبداللَّه إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسأله أنْ يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثمّ سأله أنْ يصلّي عليه.

فقام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ليصلّي عليه.

فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، تصلّي عليه وقد نهاك ربّك أنْ تصلّي عليه؟

فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّما خيّرني اللَّه فقال: «استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة» وسأزيده علي السبعين.

قال: إنّه منافق!

قال: فصلّي عليه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قال: فأنزل اللَّه «ولا تصلّ علي أحدٍ منهم مات أبداً ولا

تقم علي __________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 300.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 421

قبره»» «1».

وهذا الحديث- الذي وضعوه فضيلةً لعمر بن الخطّاب- مكذوب حتماً وموضوع قطعاً. وقد نصّ- والحمد للَّه- علي ذلك غير واحدٍ من أئمّة القوم:

كالغزالي بعد ذكر أخبارٍ: «هذا مزيّف، فإنّ هذه الوقائع لو جمعت ونقلت دفعةً واحدةً لم تورث العلم، وليس ذلك كوقائع حاتم وعلي مع كثرتها.

علي أنّ ما نقل في آية الإستغفار كذب قطعاً، إذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس من المغفرة، فلا يظنّ برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ذهول عنه» «2».

وكالباقلّاني وإمام الحرمين في جماعةٍ، كما ذكر شرّاح البخاري:

قال القسطلاني: «وقد استشكل فهم التخيير من الآية علي كثير، وسبق جواب الزمخشري عن ذلك، وقال صاحب الإنتصاف: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتّي أنكر القاضي أبوبكر الباقلاني صحّة الحديث وقال: لا يجوز أنْ يقبل هذا، ولا يصحّ أنّ الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم قاله. وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرّج في الصحيح. وقال في البرهان:

لا يصحّحه أهل الحديث. وقال الغزالي في المستصفي: الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح. وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ، وهذا عجيب …» «3».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 131.

(2) المنخول في علم الاصول: 212.

(3) إرشاد الساري إلي صحيح البخاري 7: 155.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 422

وقال ابن حجر: «قال ابن المنير: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتّي أنكر القاضي أبوبكر صحّة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصحّ أنّ الرسول قاله. إنتهي. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب: هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها، وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرّج في الصحيح،

وقال في البرهان: لا يصحّحه أهل الحديث، وقال الغزالي في المستصفي: الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح، وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ» «1».

حديث: كذب إبراهيم ثلاث كذبات … ص: 422

(ومنها) ما اخرج في الكتابين من أنّ إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، ففي (الجمع بين الصحيحين):

«عن محمّد عن أبي هريرة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

لم يكذب إبراهيم النبي قط إلّاثلاث كذبات، ثنتين في ذات اللَّه: قوله: «إنّي سقيم» وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» وواحدة في شأن سارة، فإنّه قدم أرض جبّار ومعه سارة- وكانت أحسن الناس- فقال لها: إنّ هذا الجبّار إنْ يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك، فإنْ سألك فأخبريه أنّك اختي في الإسلام» «2».

وقد تكلّم الفخر الرازي علي هذا الحديث وأبطله، وعبَّر عن رواته بالحشويّة، فانظر إلي نصّ كلامه حيث قال:

«واعلم أنّ بعض الحشويّة روي عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال:

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 8: 272.

(2) الجمع بين الصحيحين 3: 184/ 2415.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 423

ما كذب إبراهيم إلّاثلاث كذبات.

فقلت: الأولي أنْ لا يقبل مثل هذه الأخبار.

فقال- علي طريق الإستنكار- إنْ لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة.

فقلت له: يا مسكين، إنْ قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام، وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شكّ أنّ صون إبراهيم عن الكذب أولي من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب» «1».

هذا، وقد أورد عمر بن عادل كلام الرازي هذا وارتضاه «2».

حديث: أنّ نبيّاً أحرق بيت النمل … ص: 423

(ومنها) ما أخرجه البخاري من أنّ نبيّاً من الأنبياء أحرق بيت النمل بسبب أنّ نملةً لدغته! قال:

«حدّثنا إسماعيل، ثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فاخرج من تحتها، ثمّ أمر ببيتها فاحرق بالنار، فأوحي اللَّه إليه: فهلّا نملة واحدة!!» «3».

ويكفي في إبطال هذا الحديث

كلام الفخر الرازي، الذي أورده الشاه عبدالعزيز الدهلوي واستحسنه وارتضاه حيث قال: «وللإمام فخرالدين الرازي في هذا المقام كلام يصدّقه العقل ويقع في القلب إذ قال: إنّ الروافض عندي __________________________________________________

(1) تفسير الرازي 26: 148.

(2) اللباب في علوم الكتاب 16: 324.

(3) صحيح البخاري 4: 262، كتاب بدء الخلق.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 424

أقلّ عقلًا وفهماً من نملة سليمان، لأنّ النملة قد خاطبت رفيقاتها قائلةً: «يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» فهي قد علمت أنّ جنود سليمان قد أثّرت فيهم المعاشرة معه فكانوا مهذَّبين ببركة صحبته، حتّي أنّهم لا يحطّمون النمل عن علمٍ وعمدٍ، ولا يظلمون الضعيف عن قصدٍ، لكنّ الروافض لم يفهموا أنّ صحبة النبي الخاتم- وهو أفضل الأنبياء- تؤثّر في صحابته الملازمين له علي الدوام، فلا يرتكبون الخيانة والشرّ، فكيف ينسبون إليهم الظلم لبنت رسول اللَّه وصهره وولده، وإحراق بيتهم عليهم، والإستيلاء علي أموالهم، وإيذائهم بشتّي أنواع الأذي؟» «1».

وذلك: لأنّ البخاري وسائر من يقول بصحّة هذا الحديث سيكونون أقلّ فهماً من النملة، لأنّهم بتصديقهم هذا الحديث يجوّزون الظلم علي النّبي المعصوم!!

حديث أمر النبي بالأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه … ص: 424

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب الذبائح قال:

«حدّثنا معلّي بن أسد، حدّثنا عبدالعزيز بن المختار قال: حدّثنا موسي ابن عقبة قال: أخبرني سالم أنّه سمع عبداللَّه يحدّث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه لقي زيد بن عمرو بن فضيل بأسفل بلدح- وذاك قبل أنْ ينزل علي رسول اللَّه الوحي- فقدّم إليه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سفرةً فيها لحم، فأبي أنْ يأكل منها، ثمّ قال: إنّي لا آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم، ولا

__________________________________________________

(1) مختصر التحفة الإثنا عشريّة: 193- باب الإمامة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2،

ص: 425

نأكل إلّاممّا ذكر اسم اللَّه عليه» «1».

فهل يشكّ المسلم في كذب هذا الحديث؟

والعجب من واضعه، فلم يستح أن ينسب إلي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أمر الرجل بالأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه، في حين ينسب إلي الرجل الإباء عن الأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه، فيكون أورع وأفضل من النبي، والعياذ باللَّه؟! وكيف يصدّقون بمثل هذا علي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في حين يبذلون كلّ جهودهم لتبرّئه أبي بكر من شرب الخمر قبل التحريم، ويكذّبون الخبر في ذلك، ويقولون: قد أعاذ اللَّه الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله وإنْ كان قبل التحريم، كما في (نوادر الاصول) للحكيم الترمذي وسيجي ء عن قريب؟ ألم يكن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله سلّم من الصدّيقين؟

تصرّف بعضهم في لفظ الحديث! … ص: 425

لكنّ ابن روزبهان التجأ إلي الكذب والإفتراء علي العلّامة الحلّي، واضطرّ إلي وضع تتمّةٍ لهذا الحديث الموضوع، وذلك أنّه قال في الجواب عن كلام العلّامة الحلّي:

«أقول: من غرائب ما يستدلّ به علي ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق علي نقله: رواية هذا الحديث، فقد روي بعض الحديث ليستدلّ به علي مطلوبه وهو الطعن في رواية الصحاح، وما ذكر تمامه، وتمام __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 165.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 426

الحديث: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام قال: وإنّا أيضاً لا نأكل من ذبيحتهم وممّا لم يذكر عليه اسم اللَّه تعالي، فأكلا معاً.

وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية. نسأل اللَّه العصمة من التعصّب فإنّه بئس الضجيع» «1».

أقول:

لكنَّ هذا الذي وصف به العلّامة الحلّي يرجع إليه، وهو المتّصف به، لأنّ

الحديث في كتاب الذبائح من (صحيح البخاري) كما تقدّم، وهكذا نقله العلّامة الحلّي، ومن شاء فليراجع أصل كتاب البخاري!!

وقد أخرج البخاري هذا الحديث الموضوع في كتاب المناقب، وليس فيه التتمّة التي زعمها ابن روزبهان، وهذه عبارته «باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل، حدّثني محمّد بن أبي بكر قال: حدّثنا سالم بن عبداللَّه بن عمر: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أنْ ينزل علي النبي الوحي، فقدّمت إلي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم سفرة فأبي أنْ يأكل منها، ثمّ قال زيد: إنّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم ولا آكل إلّا ما ذكر اسم اللَّه عليه، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب علي قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها اللَّه، وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثمّ تذبحونها علي غير اسم اللَّه، إنكاراً لذلك وإعظاماً له» «2».

فقد تبيّن أنّ العلّامة الحلّي رحمه اللَّه لم يخن في نقل الحديث، فلم يزد عليه ولم يحذف منه شيئاً، بل ابن روزوبهان قد كذب في دعوي التتمّة،

__________________________________________________

(1) إبطال الباطل- مخطوط.

(2) صحيح البخاري 5: 124.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 427

لغرض الدفاع عن البخاري وكتابه، فحقّ أن يقال في جوابه: إنّ من غرائب ما يستدلّ به علي ترك أمانة هذا الرجل وعدم الإعتماد والوثوق علي نقله: رواية تتمّة مخترعة لهذا الحديث، وقد اخترعها ليستدلّ بها علي مطلوبه وهو دفع الطعن في رواية الصحاح، نسأل اللَّه العصمة من التعصّب فإنّه بئس الضجيع.

وظهر أيضاً: أنّهم يحاولون التّغطية علي شناعة بعض أحاديثهم بالزيادة فيه أو النقيصة عنه، علي حسب ما عرض لهم من ضيق الخناق.

وكما تصرّف ابن روزبهان في الحديث بدعوي الزيادة

كما تقدّم، فقد تصرّف محمّد بن يوسف الصالحي الدمشقي في لفظه بشكلٍ آخر، فقد قال في (سبل الهدي والرشاد):

«روي البخاري والبيهقي من طريق موسي بن عقبة، عن سالم بن عبداللَّه ابن عمر عن ابن عمر- رضي اللَّه عنهما- أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لقي زيد ابن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أنْ ينزل عليه الوحي، فقدّمت إلي رسول اللَّه سفرة فيها لحم، فأبي أن يأكل منها، ثمّ قال لزيد: إنّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم، ولا آكل إلّاما ذكر اسم اللَّه عليه، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب علي قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها اللَّه تعالي وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثمّ تذبحونها علي غير اسم اللَّه تعالي، إنكاراً لذلك وإعظاماً له» «1».

لقد التفت هذا الرجل إلي شناعة لفظ هذا الحديث، فلم يجد بُدّاً من أنْ يضيف اللّام الجارة إلي لفظ زيد، فصارت الجملة: «ثمّ قال لزيد» ليكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو فاعل «قال»، وتكون جملة: «إنّي لست __________________________________________________

(1) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 2: 182.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 428

آكل» مقول قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … والحال أنّ لفظ البخاري في كتاب المناقب من (صحيحه) خالٍ من اللام والجملة هي: «ثمّ قال زيد» فكان زيد الفاعل للفعل «قال» وهو القائل: «إنّي لست آكل»!

وأمّا الضمير في «أبي وإنْ احتمل- في رواية كتاب المناقب- عوده إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، لكنّه غير محتمل في لفظ رواية كتاب الذبائح، لأنّ الحديث هناك بلفظ «فقدم» - وكذلك هو في رواية الجرجاني والإسماعيلي كما سيأتي- وعليه، فلا يكون

الضمير في «أبي» عائداً علي النبي، بل يعود إلي زيد …

وسيأتي أنّ أحمد بن حنبل وغيره من الأئمّة ينسبون أكل ذبيحة الأنصاب في هذه القصّة إلي نفس رسول اللَّه … فيكون الضمير في «أبي» في حديث كتاب المناقب أيضاً عائداً علي «زيد»، لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً.

ومن هنا، فقد أسند ابن حجر والزركشي والسهيلي والقسطلاني وغيرهم من شرّاح الحديث الفعل «أبي» إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم …

والحاصل: إنّ القضيّة واحدة، والحديث واحد، فكما لا يكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله هو الفاعل للفظ «أبي» في حديث كتاب الذبائح، كذلك لا يكون هو الفاعل له في لفظ كتاب المناقب … وإلّا لزم تكذيب حديث كتاب الذبائح بحديث كتاب المناقب، فيكون الإشكال أقوي والإفحام آكد.

توجيه البعض معني الحديث … ص: 428

وكيف كان، فلا دلالة في حديث البخاري علي إباء رسول اللَّه صلّي اللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 429

عليه وآله عن الأكل من ذبيحة الأصنام، ولذا اعترض ابن حجر علي ابن بطّال لمّا ادّعي ذلك، وردّ عليه بعدم الوقوف علي ذلك في روايةٍ من روايات القصّة … وهذا نصّ كلام ابن حجر بشرح الحديث في كتاب المناقب:

«قوله: فقدّمت. بضم القاف. قوله: إلي النبي، كذا الأكثر، وفي رواية الجرجاني: فقدّم إليه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم سفرة. قال عياض: الصّواب الأول. قلت: رواية الإسماعيلي توافق رواية الجرجاني، ولذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما.

وقال ابن بطّال: كانت السفرة لقريش، قدّموها للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأبي أن يأكل منها، فقدّمها النبي لزيد بن عمرو بن نفيل، فأبي أن يأكل منها، وقال مخاطباً لقريش الذين قدّموها أوّلًا: إنّا لا نأكل ما ذبح علي أنصابكم. إنتهي. وما قاله يحتمل،

ولكنْ لا أدري من أين له الجزم بذلك؟

فإنّي لم أقف عليه في روايةٍ، وقد تبعه ابن المنير في ذلك» «1».

أقول:

لقد أجاد ابن حجر في الردّ علي ابن بطّال، لكنّ قوله «وما قاله يحتمل» باطل جدّاً، فقد نقل ابن حجر- كما سيأتي- عن أكابر الأئمّة تصريحهم بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- والعياذ باللَّه- قد أكل من ذبيحة الأصنام، ودعا زيداً إلي الأكل منها، فأبي زيد عن ذلك … فلا أساس لقول ابن بطّال من الصحّة أصلًا.

علي أنّ عبارة ابن بطّال صريحة في أنّ النبي- بعد أنْ أبي عن الأكل من تلك الذبيحة، دعا زيداً إلي الأكل منها. وهذا من القبح والشناعة بمكان، إذ

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 7: 112.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 430

كيف يحتمل أنّ النبي- مع ما عليه من الصيانة والأمانة والأخلاق الكريمة والأوصاف الحميدة- يأبي عن أمرٍ ثمّ يدعو غيره إليه بلا ضرورة، فيواجه بالإباء ويجاب بما يقتضي الطعن والملامة؟ كلّا وحاشا، لا يجوّز ذلك ذو دين وعقل …

إلتزام بعضهم بمفاده الباطل … ص: 430

إلّاأنّ أكثر المحقّقين منهم لم يسلكوا سبيل الخيانة والتحريف، كما صنع ابن روزبهان وصاحب سبل الهدي، بل استحوذ عليهم حبّ البخاري، فصدّقوا بأكاذيبه وافتراءاته، وسلّموا لغرائب مجعولاته وهفواته، فتري الدّاودي يذهب إلي أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان يأكل من ذبائح المشركين، لكونه جاهلًا بحرمة الأكل منها، أمّا زيد فقد علم بذلك فلم يأكل!!، قال ابن حجر:

«قال الداودي: كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قبل البعث يجانب المشركين في عباداتهم، ولكنْ لم يكن يعلم ما يتعلَّق بأمر الذبائح، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم» «1».

فكان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- والعياذ

باللَّه- يأكل من ذبائح أهل الكتاب عن جهلٍ بحكمها، وقد علم بذلك أهل الكتاب، وتعلّمه منهم زيد بن عمرو، ولم يأكل … فانظر كيف يطعن في رسول اللَّه ويحطّ عليه؟

وكيف يجوّز المؤمن الديّن في حقّ الرسول الأمين، المؤيّد بالتأييد الإلهي والمسدّد بالمدد الربّاني، أن يجهل حكماً من الأحكام الشرعيّة، ويرتكب شيئاً

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 7: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 431

من المحرّمات الإلهيّة، ويدعو غيره لارتكابه؟

تكلّفات الآخرين في حلّ العقدة … ص: 431

ومن القوم من يأبي تكذيب حديث البخاري، ويستحيي من الإلتزام بمدلوله ومعناه الظاهر بل الصريح فيه، فاشكل عليه الأمر، وجعل يتكلَّف للخروج من المأزق!

قال السهيلي- بعد نقل حديث البخاري في كتاب الذبائح-:

«وفيه سؤال: يقال: كيف وفّق اللَّه زيداً إلي ترك أكل ما ذبح علي النصب وما لم يذكر اسم اللَّه عليه، ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان أولي بهذه الفضيلة في الجاهليّة، لِما ثبت من عصمة اللَّه له؟

فالجواب من وجهين:

أحدهما: إنّه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح، فقدّمت إليه السفرة، إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أكل منها، وإنّما في الحديث إنّ زيداً قال حين قدّمت إليه السفرة: لا آكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه.

الجواب الثاني: إنّ زيداً إنّما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع متقدّم، وإنّما تقدّم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير اللَّه، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام، وبعض الاصوليّين يقولون: الأشياء قبل ورود الشرع علي الإباحة. فإن قلنا: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يأكل ممّا ذبح علي النصب، فإنّما فعل أمراً مباحاً وإن كان لا يأكل منها، فلا إشكال، وإن قلنا أيضاً: إنّها ليست علي الإباحة ولا علي التحريم، وهو الصحيح، فالذبائح

خاصّة لها أصل في تحليل الشرع المتقدّم، فالشاة والبعير ونحو ذلك ممّا أحلّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 432

اللَّه تعالي في دين من كان قبلنا، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدّم ما ابتدعوه، حتّي جاء الإسلام وأنزل اللَّه سبحانه «ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه»، ألا تري كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب علي أصل التحليل بالشرع المتقدم، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان، فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلّلًا بالشرع المتقدّم حتّي خصّه القرآن بالتحريم» «1».

أقول:

وهذا الكلام في غاية السخافة والركّة، فإنّ مناط الإشكال ليس علي مجرّد أكل ذبيحة الأصنام، بل إنّ تجويز أكلها ودعوة الغير إلي ذلك قبيح جدّاً، فحصر الإشكال في الأكل دليلٌ علي عدم التدبّر وقلّة التأمّل، وكيف يصدّق العاقل الديّن أنْ لا يتنزّه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله عمّا تنزّه منه زيد، وهو المعصوم بالعصمة الإلهيّة- بالإجماع القطعي- وأعقل الناس طُرّاً بلا خلاف:

قال القاضي عياض: «وأمّا وفور عقله، وذكاء لبّه، وقوّة حواسّه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مرية أنّه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمّل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم وسياسة العامّة والخاصّة، مع عجيب شمائله وبديع سيره- فضلًا عمّا أفاضه من العلم وقدّره الشرع، دون تعلّم سَبَقَ ولا ممارسة تقدّمت ولا مطالعة للكتب منه- لم يَمْتَرِ في رجحان عقله وثقوب فهمه لأوّل بديهة، وهذا ما لا يحتاج إلي تقرير لتحقّقه.

وقد قال وهب بن مُنَبِّه: قرأت في أحد وسبعين كتاباً، فوجدت في __________________________________________________

(1) الروض الأنف 2: 360- 363.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 433

جميعها أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأياً. وفي رواية اخري:

فوجدت في جميعها أنّ اللَّه تعالي لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلي انقضائها من العقل في جنب عقله صلّي اللَّه عليه وآله وصحبه وسلّم، إلّا كحبّة رمل من رمال الدنيا» «1».

فأيّ عاقل يقبل كلام السهيلي في حقّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، مع هذا المقام في العصمة والعقل والسداد؟

علي أنّ أكابر القوم وأئمّتهم يصرّحون بأكل النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من ذبيحة الأصنام بالفعل.

يقول ابن حجر: «وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدّمته، وهو عند أحمد: فكان زيد يقول: عذت بما عاذ إبراهيم، ثمّ يخرّ ساجداً للكعبة، قال: فمرّ بالنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعياه، قال: يا ابن أخي لا آكل ممّا ذبح علي النصب، قال: فما رؤي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يأكل ممّا ذبح علي النصب من يومه ذلك.

وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلي والبزار وغيرهما قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوماً من مكة وهو مردفي، فذبحنا شاةً علي بعض الأنصاب، فأنصجناها، فلقينا زيد بن عمرو، فذكر الحديث مطوّلًا وفيه:

فقال زيد: إنّي لا آكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه» «2».

فهذا حديث أحمد وغيره من الأئمّة الأعلام … فأيّ فائدةٍ في كلام السهيلي؟

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 161- 162.

(2) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 7: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 434

علي أنّ ما ادّعاه، من عدم حرمة أكل ما ذبح لغير اللَّه في شريعة سيّدنا إبراهيم عليه السلام، فكذب صرف، لكنّ القوم يرتكبونه، حمايةً لأسلافهم وخرافاتهم!!

وقد كان من فضل اللَّه أنْ ردّ الزركشي دعوي السهيلي هذه، ونصَّ علي حرمة ما

ذبح لغير اللَّه في الشريعة الإبراهيميّة، إذ قال في (التنقيح) بشرح الحديث من كتاب المناقب:

«فقدّمت له سفرة، فأبي أنْ يأكل.

إن قيل: كان نبيّنا صلّي اللَّه عليه وسلّم أولي بهذه الفضيلة.

قلنا: ليس في الحديث أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أكل من السّفرة.

وأجاب السهيلي: بأنّ زيداً إنّما قال ذلك برأي منه، لا بشرع متقدّم، وفي شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما ذبح لغير اللَّه، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام.

وهذا الذي قاله ضعيف، بل كان في شريعة الخليل تحريم ما ذبح لغير اللَّه، وقد كان عدوّ الأصنام، واللَّه تعالي يقول: «ثمّ أوحينا إليك أن اتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً» «1»» «2».

فالحمد للَّه علي أن جرت كلمة الحقّ هذه علي لسان الزركشي، وظهر أنّ دعوي السهيلي كذب وبهتان مبين، قصد به الحماية علي أسلافه الضالّين.

وجاء الخطّابي فسلك مسلكاً آخر … ذكره ابن حجر حيث قال:

«قوله: علي أنصابكم، بالمهملة، جمع نصب بضمّتين، وهي أحجار

__________________________________________________

(1) سورة النحل 19: 123.

(2) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح 2: 797.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 435

كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام.

قال الخطابي: كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا يأكل ممّا يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك، وإنْ كانوا لا يذكرون اسم اللَّه عليه، لأنّ الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم اللَّه عليه إلّابعد البعث بمدّة طويلة» «1».

أقول:

لكنّ هذا الكلام شعري خطابي، ولا يرفع الإشكال عن حديث البخاري، لأنّه صريح في أنّ اللّحم الذي أمر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم زيداً بالأكل منه كان مذبوحاً علي النصب، حتّي أنّ زيداً قال للنبي: إنّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم. ومن هنا أورد البخاري،

هذا الحديث في كتاب الذبائح، باب ما ذبح علي النصب والأصنام.

وأيضاً، فما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلي، ونقله ابن حجر العسقلاني، صريح في أنّ ذلك اللّحم كان مذبوحاً علي النصب.

علي أنّ القول بأنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان يأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه، باطل كذلك، لما تقدَّم في كلام الزركشي من تحريم ما ذبح لغير اللَّه في شريعة سيّدنا الخليل عليه السلام، فكيف ينسب ذلك إلي رسول اللَّه؟

فظهر أنّ كلام الخطابي أيضاً ضرب في بارد الحديد، لا ينفع أصلًا في الخلاص عن الإشكال الشديد، وكيف يجوّز ذوعقل وفهم سديد أنّ البشير النذير أكل ممّا ذبح علي غير اسم الملك الحميد؟ فاللَّه يعصمنا بفضله من اتّباع الشيطان المريد.

__________________________________________________

(1) فتح الباري 7: 112- 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 436

حديث نفي توريث الأنبياء … ص: 436

(ومنها) ما أخرجه البخاري، وهذه ألفاظه في كتاب الفرائض:

«حدّثنا عبداللَّه بن مسلمة، عن مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: إنّ أزواج النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم حين توفي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أردن أن يبعثن عثمان إلي أبي بكر يسألنه ميراثهنّ، فقالت عائشة:

أليس قد قال رسول اللَّه: لا نورّث ما تركناه صدقة» «1».

وقد بيّن علماؤنا الأعلام في كتبهم المبسوطة أنّ هذا موضوع «2»، وقد وضعوه لأن يحرموا بضعة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله ممّا ترك، فراجع كتاب (تشييد المطاعن) وغيره. ويكفي في تكذيبه أنّ عليّاً عليه السلام ردّ عليه في كلامٍ له مع أبي بكر، وأثبت مخالفته لكتاب اللَّه:

قال ابن سعد: «أخبرنا محمّد بن عمر، حدّثني هشام بن سعد، عن عبّاس بن عبداللَّه بن معبد، عن أبي جعفر قال: جاءت فاطمة إلي أبي بكر تطلب ميراثها، وجاء العبّاس

بن عبدالمطّلب يطلب ميراثه، وجاء معهما علي، فقال أبوبكر: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا نورّث ما تركنا صدقة،

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 8: 266.

(2) بل لقد أجري اللَّه هذه الحقيقة علي لسان أحد الأئمة الحفّاظ منهم، وهو الحافظ ابن خراش، المتوفي سنة 283، وقد ذكر ذلك عنه الحافظ الذهبي بترجمته من كتاب تذكرة الحفّاظ 2: 684/ 705:

«قال ابن عدي: سمعت عبدان يقول: قلت لابن خراش: حديث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل، اتّهم مالك بن أوس بالكذب» وكذا الحافظ ابن حجر بترجمته من لسان الميزان 3: 509: «وقال عبدان: قلت لابن خراش: حديث: لا نورّث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل. قلت: من تتّهم به؟ قال: مالك بن أوس».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 437

وما كان النبي يعول فعليَّ. فقال علي «وورث سليمان داود» «1»

وقال زكريّا:

«يرثني ويرث من آل يعقوب» «2»

قال أبوبكر: هو هكذا، وأنت تعلم مثل ما أعلم. فقال علي: هذا كتاب اللَّه ينطق. فسكتوا وانصرفوا» «3».

حديث مجادلة الإمام مع النبي في صلاة الليل … ص: 437

(ومنها) ما أخرجه البخاري، علي ما في كتاب (التحفة) للدهلوي، حيث جاء فيه:

«روي البخاري- الذي هو أصحّ الكتب عند أهل السنّة بعد القرآن- بطرقٍ متعدّدة أنّ الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم ذهب إلي بيت الأمير والبتول ليلةً وأيقظهما من مضجعهما، وأمرهما بصلاة التهجّد مؤكَّداً، فقال الأمير: واللَّه ما نصلّي إلّاما كتب اللَّه علينا. أي الصّلاة المفروضة، وإنّما أنفسنا بيد اللَّه.

يعني: لو وفّقنا اللَّه لصلاة التهجّد لصلّينا. فرجع النبي وهو يضرب علي فخذيه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شي ء جدلًا»» «4».

وإنّ هذا لمن أقبح الإفتراءات وأشنع الأكاذيب، أيّاً كان واضعه وراويه، لكنّ القوم لا يستحيون، وبه وبمثله يحتجّون؟

فهل يصَّدق أحد إباء أميرالمؤمنين عليه السلام عن قيام الليل والصلاة للَّه

نافلةً، مع ما هو عليه من العبادة والعبوديّة للَّه عزّ وجلّ؟

وهل يصدَّق مجادلته مع رسول اللَّه في دعوته إيّاه إلي القيام والصّلاة،

__________________________________________________

(1) سورة النمل 27: 16.

(2) سورة مريم 19: 6.

(3) الطبقات الكبري 2: 315.

(4) مختصر التحفة الإثني عشرية: 281، وانظر التحفة الاثني عشرية: 286.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 438

مع ما كان عليه من كثرة إطاعته له في كلّ شي ء؟

وهل يصدَّق أن يستدلّ أمام النبيّ كاستدلال أهل الجبر؟

إنْ هذا إلّامن وضع النواصب المبغضين للنبي والوصي، ولا يصدِّق به إلّا من كان علي شاكلتهم!!

إنّك لن تجد أحداً من آحاد المؤمنين يُؤمر بالصّلاة فيأبي بهذه الشدّة ويقول: «واللَّه لا نصلّي إلّاما كتب اللَّه لنا» لاسيّما والآمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، لأنّ مثل هذا الكلام معه- وفي قبال دعوته إلي الصلاة والعبادة- استخفاف به وبأمره، وهذا ما لا يصدر من أحدٍ من سائر المؤمنين، فكيف بمولانا علي عليه السلام، الممتثل لأوامر رسول اللَّه، والتابع له في كلّ شي ء، والذي كان أعبد الناس بعده؟ يقول ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي عن عبادته عليه السلام:

«وأمّا العبادة، فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنّك برجلٍ يبلغ من محافظته علي ورده أنْ يُبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير، فيصلّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه، وتمرّ علي صماخيه يميناً وشمالًا فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتّي يفرغ من وظيفته، وما ظنّك برجلٍ كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده!

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت علي ما فيها من تعظيم اللَّه سبحانه وإجلاله، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزّته والإستحذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من

أيّ قلبٍ خرجت، وعلي أيّ لسانٍ جرت.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 439

وقيل لعليّ بن الحسين عليه السلام- وكان الغاية في العبادة-: أين عبادتك من عبادة جدّك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله» «1».

ويقول الشيخ محمّد بن طلحة الشافعي:

«الفصل السابع: في عبادته وزهده وورعه: أمّا عبادته عليه السلام، فاعلم سلك اللَّه بنا وبك سبيل السعادة: أنّ حقيقة العبادة هي الطاعة؛ فكلّ من أطاع اللَّه تعالي، وقام بامتثال الأوامر واجتناب المناهي فهو عباد، ولمّا كانت متعلّقات الأوامر الصادرة من اللَّه تعالي علي لسان نبيّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كانت العبادة بحسب ذلك متنوّعة، فمنها الصلاة ومنها الصدقة ومنها الصيام إلي غيرها من الأنواع، وكلّ ذلك كان عليه السلام قائماً فيه، مقبلًا عليه مسارعاً إليه متحلّياً به، حتّي أدرك بمسارعته إلي طاعة اللَّه ورسوله ما فات غيره، فإنّه جمع بين الصلاة والصدقة، فتصدّق وهو راكع في صلاته، فجمع بينهما في وقت واحد، حتّي أنزل اللَّه تعالي فيه قرآناً يتلي إلي يوم القيامة».

وقال بعد ذكر قصّة الصدقة ونزول الآية «إنّما وليّكم اللَّه» في شأنه عليه السلام، وذكر تفرّده عليه السلام بالعمل بآية النجوي، ونزول «ويطعمون الطعام علي حبّه» في حقّه:

«إعلم أنّ أنواع العبادة كثيرة، وكان عليّ عليه السلام جامعاً لجميعها، فإنّ من تيقّن حقيقة الآخرة بأحوالها وتحقّق شدائد أهوالها، وأنّ كلّ نفس عند مردّها ومآلها تلزم بجواب سؤالها، وتجثو بين يدي خالقها لجدالها، وتجازي علي ما أسلفته من أعمالها، إمّا بنعيمها وإمّا بنكالها، خليق أن يكون عن ساق __________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة 1/ 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 440

جدّه في عبادته مشمّراً، وأن يجعل وقته علي اكتساب

طاعات ربّه متوفّراً، فإنّه لا يقصر في العبادة إلّامن فقد اليقين ولم يكن من المتّقين، وقد كان عليّ منطوياً علي يقين لا غاية لمداه ولا نهاية لمنتهاه، وقد صرّح بذلك تصريحاً مبيّناً فقال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، فكانت عبادته إلي الغاية القصوي تبعاً ليقينه، وطاعته في الذروة العليا لمتانة دينه».

وقال أيضاً بعد ذكر طائفة من الروايات والأخبار:

«فهذه الوقائع والقضايا المفصّلة- التي أسفر له فجر نهارها وأبدر لديه قمر شعارها، وظهر عليه سرّ آثارها وانتشر عنه خبر أسارها- شاهدة له أنّه في العبادة ابن جلاها وفارع ذروة علاها، وضارب في أعشارها بمعلاها، وراكب من مطيّتها غارب مطاها، قد صدعت منطوقها ومفهومها، بأنّه قد حوي مقامات العابدين حتّي حلّ مقام الإمامة، واتّصف بسمات الزاهدين، فبيده زمام الزعامة، فتحلّي بالأمانة والعبادة والمحبّة والزهد والورع والمعرفة والتوكّل والخوف والرجاء والصبر والشكر والرضا والخشية، فهو ذو إخبات وتفكّر، ونسك وتدبّر وتهجّد وتذكّر وتأوّه وتحسّر، وأذكار وأوراد وإصدار وإيراد، فكابد من أنواع العبادات ووظائف الطّاعات ما لا يكاد الأقوياء ينهضون بحمل أعبائه، إلي أن نزل القرآن الكريم بمدحته، وأسفر بالثناء عليه من التنزيل وجه صحّته، حتّي نقل الواحدي رضي اللَّه عنه في تفسيره، يرفعه بسنده إلي ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: إنّ عليّ ابن أبي طالب تملّك أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلًا، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم علانية، فنزلت فيه قوله تعالي: «الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ومن تأمّل ما قصصناه من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 441

الوقائع والقضايا، وتدبّر ألفاظها ومعانيها، وجدها صادعة بالشهادة له بهذه المقدّمات، جامعة فيه ما فصّله القلم من

الصفات، وكفاه شرفاً إنزال اللَّه عزّ وجلّ مدحه في السور والآيات، وإنّها تتلي بألسنة الامّة إلي يوم القيامة في وظائف الصلاة.

هذي المزايا بعض ما حُلّي بها وحُبِي من الخيرات والبركات وله وظائف طاعة أورادها معمورة الآناء والأوقات بعبادة وزهادة وتورّع وتخشّع وتدرّع الإخبات وتقلّل وتوكّل وتفكّر وتدبّر وتذكّر المثلات وإذا الظلام سجي يناجي ربّه متضرّعاً بالذكر والدعوات يعنو له بخضوع قلب خاشع وهموع طرف مسبل العبرات عِلمٌ علت درجاته وفضائل شرفت معارجها علي الشُرُفات ومناقبٌ نطقت بها آي الكتاب وحسبها إن جاء شاهدها من الآيات» «1»

قال: «ونقل أنّ معاوية قال بعد موت عليّ لضرار بن صرد: صف لي عليّاً. فقال: أوتعفني؟ قال: بل صفه. قال: أوتعفني؟ قال: لا أعفيك. قال: أمّا إذا لابدّ فأقول ما أعلمه منه:

كان- واللَّه- بعيد المدي، شديد القوي، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس باللّيل وظلمته، كان- واللَّه- غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان- واللَّه- كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا

__________________________________________________

(1) مطالب السؤول: 137.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 442

دعوناه، ونحن واللَّه مع تقريبه لنا وقربه منّا، لا نكلّمه هيبة ولا نبتديه عظمة، إن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعَظِّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فاشهد باللَّه لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخي الليل سجوفه وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضاً علي لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، وكأنّي أسمعه ويقول: يا دنيا يا دنيا، أبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت! هيهات هيهات،

غرّي غيري، قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كثير، آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال:

فذرفت دموع معاوية علي لحيته، فلم يملكها وهو ينشفها بكمّه، وقد أخفق القوم بالبكاء.

فقال معاوية: رحم اللَّه أباالحسن، كان- واللَّه- كذلك. فكيف حزنك عليه يا ضرار؟

قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، فلا ترقُ عبرتها ولا يسكن حزنها» «1».

وعلي الجملة، فلا يمكن وصف زهد الإمام في دار الدنيا، وعبادته للَّه تبارك وتعالي، ولا يمكن لأحدٍ إنكار ذلك، بل حتّي أعداؤه يعترفون، وليت أتباع معاوية اعترفوا كما اعترف، ولم يوافقوا علي الحديث الموضوع المختلق!

وأمّا ما في الحديث، من نسبة التمسّك بشبه الجبريّة إلي الإمام عليه السلام، فإنّها أقبح وأشنع من نسبة الإباء عن الصّلاة عليه، لأنّ التمسّك بالقدر

__________________________________________________

(1) مطالب السؤول: 131- 132.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 443

عند مثبتيه في غاية الشناعة، ونسبة ذلك إلي أميرالمؤمنين كفر وضلال …

وإليك جملةً من عبارات ابن تيميّة في بطلان الإحتجاج بالقدر:

«الإحتجاج بالقدر حجّة باطلة داحضة باتّفاق كلّ ذي عقل ودين من جميع العالمين، والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجّة إذا احتجّ بها في ظلم أتاه وترك ما يجب عليه من حقوقه، بل يطلب منه ماله عليه ويعاقبه علي عداوته، وإنّما هي من جنس شبه السوفسطائيّة التي تعرض في العلوم، فكما أنّك تعلم فسادها بالضرورة وإن كانت تعرض لكثير من الناس، حتّي قد يشكّ في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضروريّة، فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتّي يظنّ أنّها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك، وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك، ولكن يعلم القلوب بالضرورة أنّ هذه شبهة باطلة، وهذه لا

يقبلها أحد عند التحقيق، ولا يحتجّ بها أحد إلّامع عدم علمه بالحجّة بما فعله، فإذا كان مع علمه بأنّ فعله هو المصلحة وهو المأمور، وهو الذي ينبغي فعله، لم يحتج بالقدر، وكذلك إذا كان معه علم بأنّ الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله، أو ليس بمصلحة، أو ليس هو مأموراً به، لم يحتج بالقدر، بل إذا كان متّبعاً لهواه بغير علم احتجّ بالقدر، ولهذا لمّا قال المشركون «لو شاء اللَّه ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شي ء» قال اللَّه تعالي: «هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتّبعون إلّاالظنّ وإن أنتم إلّاتخرصون* قل فللَّه الحجّة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين».

فإنّ هؤلاء المشركين يعلمون- بفطرتهم وعقولهم- أنّ هذه الحجّة داحضة وباطلة، فإنّ أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرّاً علي الظلم، فنهاه الناس عن ذلك فقال: لو شاء اللَّه لم أفعل هذا،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 444

لم يقبلوا هذه الحجّة، وهو لا يقبلها من غيره، وإنّما يحتجّ بها المحتج دفعاً للّوم بلا وجه، فقال اللَّه لهم: «هل عندكم علم فتخرجوه لنا» بأنّ هذا السؤال من أمر اللَّه وأنّه مصلحة ينبغي أن يفعل «إن تتّبعون إلّاظنّاً وإن أنتم إلّاتخرصون» تحرزون وتفترون.

فعمدتكم في نفس الأمر طلبكم وحرصكم، ليس عمدتكم في نفس الأمر كون اللَّه شاء ذلك وقدّره، فإنّ مجرّد المشيّة والقدرة لا تكون عمدة لأحد في الفعل، ولا حجّة لأحد علي أحد، ولا عذراً لأحد، والناس كلّهم مشتركون في القدر، فلو كان هذا حجّة وعمدة، لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبرّ والفاجر، فلم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال

وما يفسدهم، وما ينفعهم وما يضرّهم.

وهؤلاء المشركون المحتجّون بالقدر علي ترك ما أرسل اللَّه به رسله من توحيده والإيمان به، لو احتجّ بعضهم علي بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه، بل كان هؤلاء المشركون يذمّ بعضهم بعضاً علي فعل ما يرونه تركاً لحقّهم أو ظلماً، فلمّا جاءهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يدعوهم إلي حقّ اللَّه علي عباده وطاعة أمره احتجّوا بالقدر، فصاروا يحتجّون بالقدر علي ترك حقّ ربّهم ومخالفة أمره بما لايقبلونه ممّن ترك حقّهم وخالف أمرهم» «1».

وله كلام آخر طويل في تقبيح الإحتجاج بالقدر وإبطاله، ثمّ إنّه في آخر الكلام،- لنصبه وعداوته لأميرالمؤمنين عليه السلام- ينسب القدر إليه، ويتعرّض للخبر الموضوع عليه، وهذه عبارته:

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 3- 5.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 445

«ثمّ نعلم إنّ هذه الحجّة باطلة بصريح العقل عند كلّ أحد مع الإيمان بالقدر وبطلان هذه الحجّة لا يقتضي التكذيب بالقدر، وذلك أنّ بني آدم مفطرون علي احتياجهم إلي جلب المنفعة ودفع المضرّة، ولا يعيشون ولا يصلح لهم دنيا ولا دين إلّابذلك، فلابدّ أن يأتمروا بما فيه تحصيل منافعهم ودفع مضارّهم، سواء بعث إليهم رسول أو لم يبعث، لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم، والرسل صلوات اللَّه عليهم بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك، والمكذّبون للرسل انعكس الأمر في حقّهم، فصاروا يتّبعون المفاسد ويعطّلون المصالح، فهم شرّ الناس، ولابدّ لهم مع ذلك من امور يجتلبونها وامور يجتنبونها، وأن يدافعوا جميعاً ما يضرّهم من الظلم والفواحش ونحو ذلك.

فلو ظلم بعضهم بعضاً في دمه وماله وحرمته، فطلب المظلوم الإقتصاص والعقوبة، لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاج بالقدر،

ولو قال:

اعذروني فإنّ هذا كان مقدّراً عليّ، لقالوا: وأنت لو فعل بك ذلك فاحتجّ عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه، وقبول هذه الحجّة توجب الفساد الذي لا صلاح معه، وإن كان الإحتجاج بالقدر مردوداً في فطر جميع الناس وعقولهم، مع أنّ جماهير الناس مُقرّون بالقدر، فعلم أنّ الإقرار بالقدر لا ينافي دفع الإحتجاج به، بل لابدّ من الإيمان به ولابدّ من ردّ الإحتجاج به.

ولمّا كان الجدل ينقسم إلي حقّ وباطل، وكان من لغة العرب أنّ الجنس إذا انقسم إلي نوعين أحدهما أشرف من الآخر، خصّوا الأشرف باسم الخاص وعبّروا عن الآخر باسم العام، كما في لفظ الجائز العام والخاص والمباح العام استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 446

والخاص، وذوي الأرحام العام والخاص، ولفظ الجواز العام والخاص، ويطلقون لفظ الحيوان علي غير الناطق، لاختصاص الناطق باسم الإنسان، غلوا في لفظ الكلام والجدل، فلذلك يقولون فلان صاحب كلام ومتكلّم إذا كان يتكلّم بلا علم، ولهذا ذمّ السلف أهل الكلام والكلام، وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجّة صحيحة لم يكن إلّاجدلًا محضاً.

والإحتجاج بالقدر من هذا الباب، كما في الصحيح: عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: طرقني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وفاطمة فقال: ألا تقومان تصلّيان؟ فقلت: يا رسول اللَّه، إنّما أنفسنا بيد اللَّه، إن شاء أن يبعثنا بعثنا. قال:

فولّي وهو يقول: «وكان الإنسان أكثر شي ء جدلًا»، فإنّه لمّا أمرهم بقيام اللّيل فاعتلّ علي بالقدر وأنّه لو شاء اللَّه لأيقظنا، علم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّ هذا ليس فيه إلّامجرّد الجدل الذي ليس بحق فقال: «وكان الإنسان أكثر شي ء جدلًا»» «1».

وإذا كان التمسّك والإحتجاج بالقدر بهذه المثابة من القبح، فإنّ نسبة ذلك إلي الإمام

عليه الصّلاة والسلام لا يكون إلّاعن النصب والعناد له، ولا يصدّق به أحد من ذوي الفهم والعقل، فضلًا عن أهل الإيمان والإيقان.

بل لقد ذكر ابن تيميّة في موضع آخر من كتابه، أنّ من يحتجُّ بالقدر فهو شرّ من اليهود والنصاري … إلي غير ذلك، وهذا نصّ كلامه:

«وهذا السؤال- أعني لزوم إفحام الأنبياء في جواب الكفّار- إنّما يتوجّه علي من يسوّغ الإحتجاج بالقدر، ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصي بأنّ هذا مقدّر، علي أنّ شهود الحقيقة الكونيّة- وهؤلاء كثيرون في الناس، وفيهم من __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 13- 15.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 447

يدّعي أنّه من الخاصّة العارفين أهل التوحيد، الذين فنوا في توحيد الربوبيّة- يقولون: إنّ العارف إذا فني في شهود توحيد الربوبيّة لم يستحسن حسنه ولم يستقبح قبحه، وهذا الضرب كثير في متأخّري الشيوخ النسّاك والصوفيّة والفقراء بل في الفقهاء والامراء والعامّة، ولا ريب أنّ هؤلاء شرّ من الشيعة والمعتزلة الذين يقرّون بالأمر والنهي وينكرون القدر.

وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلي السنّة، فإنّ من أقرّ بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترك المحرّمات، ولم يقل أنّ اللَّه خلق أفعال العباد، ولا يقدر علي ذلك ولا شاء المعاصي، هو قد قصد تعظيم الأمر وتنزيه اللَّه تعالي عن الظلم وإقامة حجّة اللَّه علي نفسه، لكن ضاق عَطْنه فلم يخيّل الجمع بين قدرة اللَّه التامّة، وبين المشيّة العامّة وخلقه الشامل، بين عدله وحكمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فجعل للَّه الحمد ولم يجعل له تمام الملك، والذين أثبتوا قدرته ومشيّته وخلقه، وعارضوا بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شرّ من اليهود والنصاري، كما قال هذا المصنّف، فإنّ قولهم يقتضي إفحام الرسل، ونحن إنّما نرد

من أقوال هذا وغيره ما كان باطلًا، وأمّا الحقّ فعلينا أن نقبله من كلّ قائل، وليس لأحدٍ أن يرد بدعة ببدعة ولا يقابل باطلًا بباطل، والمنكرون للقدر وإن كانوا في بدعة، فالمحتجّون به علي الأمر أعظم بدعة، وإن كان أولئك يشبهون المجوس، فهؤلاء يشبهون المشركين المكذّبين للرسل الذين قالوا «لو شاء اللَّه ما أشركنا ولا آباءنا ولا حرّمنا من شي ء» وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي اللَّه تعالي عنهم جماعة من هؤلاء القدريّة، وأمّا المحتجّون بالقدر علي الأمر، فلا يعرف لهم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 448

طائفة من طوائف المسلمين معروفة، وإنّما كثروا في المتأخّرين» «1».

حديث خطبة بنت أبي جهل … ص: 448

(ومنها) ما أخرجه البخاري: من أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام خطب بنت أبي جهل علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وفي حياة الصدّيقة الطاهرة … في قضيّة موضوعة مكذوبةٍ … قال:

«حدّثنا أبواليمان، أنا شعيب، عن الزهري، ثني علي بن حسين: أنّ المسور بن مخرمة قال: إنّ عليّاً خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقالت: يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل. فقام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسمعته حين تشهد يقول: أمّا بعد، فإنّي أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدّثني وصدقني، وإنّ فاطمة بضعة منّي وإنّي أكره أن يسوءها، واللَّه لا يجتمع بنت رسول اللَّه وبنت عدوّ اللَّه عند رجل. فترك علي الخطبة» «2».

فإنّ هذا الحديث فيه ذمّ ومنقصة، ولا يصدّق به مؤمن أبداً، وكيف يمكن صدوره من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وقد كان يعلن منذ بدء الإسلام إلي ساعة وفاته عن فضائل أميرالمؤمنين ومناقبه ويشيعها بين الناس؟

وقد اعترف بعض أئمّة

القوم بدلالته علي الذم، فهذا ابن حجر يقول بشرحه:

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 11- 12.

(2) صحيح البخاري 5: 95 و 4: 185.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 449

«ولا أزال أتعجّب من المسور كيف بالغ في [تغضيبه لعليّ بن الحسين، حتّي قال إنّه أودع عنده السيف لا يمكّن أحداً منه حتّي تزهق روحه، رعايةً لكونه ابن فاطمة، ولم يراع خاطره في أنّ ظاهر سياق الحديث غضاضة علي عليّ بن الحسين، لما فيه من إيهام غضّ من جدّه عليّ بن أبي طالب، حيث أقدم علي خطبة بنت أبي جهل علي فاطمة، حتّي اقتضي من النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في ذلك من الإنكار ما وقع» «1».

وقد ذكر الدهلوي صاحب (التحفة) خبر الكلام الذي دار بين أبي حنيفة والأعمش حول هذا الحديث، وقول أبي حنيفة للأعمش بأنّ نقل هذا الحديث من سوء الأدب «2».

فكيف يصدّق بأنّ الإمام السجّاد عليه السلام قد روي هذا الحديث وسكت عليه؟ «3»

حديث شأن نزول «وإنْ طائفتان من المؤمنين …» … ص: 449

(ومنها) ما أخرجه البخاري: من قصّة أصحاب النبي مع أصحاب عبداللَّه ابن ابي، الذي كان رئيس المنافقين بعد تظاهره بالإسلام، ونزول الآية «وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما» في القصّة، وهذه ألفاظه في كتاب الصّلح:

«حدّثنا مسدّد، ثنا معتمر قال: سمعت ابي أنّ أنساً قال: قيل للنّبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو أتيت عبداللَّه بن ابي، فانطلق إليه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلمّا أتاه __________________________________________________

(1) فتح الباري 7: 69، 6: 162، 9: 268- 269.

(2) التحفة الإثني عشرية: 355.

(3) وفي هذا الموضوع رسالة مطبوعة ضمن (الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة) تأليف السيد علي الحسيني الميلاني، فليرجع إليها من شاء التفصيل.

استخراج المرام من

استقصاء الافحام، ج 2، ص: 450

النبي قال: إليك عنّي، واللَّه لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: واللَّه لحمار رسول اللَّه أطيب ريحاً منك، فغضب لعبداللَّه رجل من قومه، فشتما، فغضب لكلّ واحدٍ منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنّها نزلت «وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما»» «1».

فإنّ القول بنزول الآية المباركة في هذه القضيّة كذب قطعاً، لأن هذه القضية قد وقعت قبل الإسلام الظاهري للرجل، ولو كانت بعده فلا ريب في كفره وضلاله وكذا أصحابه، لقوله لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «إليك عنّي، واللَّه لقد آذاني نتن حمارك» فكيف يسمّيه اللَّه وأصحابه ب «المؤمنين»؟

ومن هنا قال ابن بطال: «يستحيل نزولها في قصّة …» كما قال الزركشي في (التنقيح) في شرحه:

«فبلغنا أنّها نزلت «وإنْ طائفتان» قال ابن بطّال: يستحيل نزولها في قصّة عبداللَّه بن ابي وأصحابه، لأنّ أصحاب عبداللَّه ليسوا بمؤمنين، وقد تعصّبوا له بعد الإسلام في قصّة الإفك، وقد رواه البخاري في كتاب الإستيذان عن اسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم مرّ في مجلسٍ فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبداللَّه بن ابي، فذكر الحديث. فدلّ علي أنّ الآية لم تنزل فيه، وإنّما نزلت في قومٍ من الأوس والخزرج، اختلفوا في حقٍّ، فاقتتلوا بالعصي والنعال» «2».

ومن الطرائف محاولة ابن حجر الردّ علي كلام ابن بطّال بقوله:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 4: 19.

(2) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح 2: 596.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 451

«وقد استشكل ابن بطّال نزول الآية المذكورة وهي قوله تعالي «وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» «1»

في هذه القصّة، لأنّ المخاصمة وقعت بين من كان مع النبي

من الصحابة وبين عبداللَّه بن ابي، وكانوا إذ ذاك كفّاراً، فكيف ينزل فيهم «طائفتان من المؤمنين» ولاسيّما إن كانت قصّة أنس واسامة متّحدة، فإنّ في رواية اسامة: فاستبَّ المسلمون والمشركون.

قلت: يمكن أن يحمل علي التغليب، مع أنّ فيها إشكالًا من جهة اخري، وهي: إنّ حديث اسامة صريح في أنّ ذلك كان قبل وقعة بدر وقبل أنْ يسلم عبداللَّه بن ابي وأصحابه، والآية المذكورة في الحجرات ونزولها متأخّر جدّاً وقت مجي ء الوفود، لكنّه يحتمل أنْ يكون آية الإصلاح نزلت قديماً، فيندفع الإشكال» «2».

أقول:

إنّ الحمل علي التغليب بلا دليل من الكتاب أو السنّة غير مقبول، ولعلّه ملتفت إلي ضعفه فقال: «يمكن …».

خبر عدم تفضيل الإمام علي الصّحابة بعد الخلفاء … ص: 451

(ومنها) ما أخرجه البخاري في مناقب عثمان:

«عن ابن عمر قال: كنّا في زمن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة الحجرات 49: 9.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 5: 228.

(3) صحيح البخاري 5: 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 452

لكنّ الأدلّة القاطعة والبراهين الساطعة علي أفضليّة أميرالمؤمنين عليه السلام من الشيخين- فضلًا عن الثالث- كثيرة جدّاً، غير أنّ واضع هذه الفرية لم تسمح له نفسه الدنيّة لأنْ يقول بأفضليته عمّن سوي الثلاثة، فزعم المساواة بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما … والعياذ باللَّه.

وما أكثر الأحاديث والأخبار في بطلان هذه الفرية وسقوطها، حتّي من طرق أهل السنّة وأسانيدهم … ومن هنا، فقد بالغ ابن عبدالبرّ في ردّ الخبر، ونقل كلام ابن معين في إبطاله، فقال ما نصّه:

«أخبرنا محمّد بن زكريّا ويحيي بن عبدالرحمن وعبدالرحمن بن يحيي قالوا: حدّثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا أحمد بن خالد، ثنا

مروان بن عبدالملك قال: سمعت هارون بن إسحاق يقول: سمعت يحيي بن معين يقول: من قال: أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وعرف لعلي سابقته وفضله، فهو صاحب سنّة. فذكر له هؤلاء الذين يقولون: أبوبكر وعمر وعثمان ثمّ يسكتون، فتكلَّم فيهم بكلامٍ غليظ. وكان يحيي بن معين يقول: أبوبكر وعمر وعلي وعثمان.

قال أبو عمرو: من قال بحديث ابن عمر: كنّا نقول علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أبوبكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نسكت، يعني لا نفاضل، وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلامٍ غليظ، لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر: إنّ عليّاً أفضل الناس بعد عثمان، هذا ممّا لم يختلفوا فيه، وإنّما اختلفوا أيّهما أفضل علي أو عثمان، واختلف السّلف أيضاً في تفضيل علي وأبي بكر.

وفي إجماع الجميع الذي وصفنا دليل علي أنّ حديث ابن عمر وهم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 453

غليظ، وأنّه لا يصحّ معناه وإنْ كان إسناده صحيحاً، ويلزم من قال به أنْ يقول بحديث جابر وأبي سعيد: كنّا نبيع امّهات الأولاد علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وهم لا يقولون بذلك. فقد ناقضوا، وباللَّه التوفيق» «1».

حديث أخذ الأجر علي كتاب اللَّه … ص: 453

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب الطب:

«حدّثنا سيدان بن مضارب أبو محمّد الباهلي قال: حدّثنا أبو معشر يوسف ابن يزيد البراء قال: حدّثني عبيداللَّه بن الأخنس أبو مالك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاس: إنّ نفراً من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مرّوا بماءٍ فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل السماء فقال: هل فيكم من راق؟ إنّ في الماء رجلًا لديغاً أو

سليماً. فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب علي شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلي أصحابه، فكرهوا ذلك قالوا:

أخذت علي كتاب اللَّه أجراً، حتّي قدموا المدينة فقالوا: يا رسول اللَّه، أخذ علي كتاب اللَّه أجراً! فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللَّه» «2».

وهذا الحديث أورده أبوالفرج ابن الجوزي برواية عائشة في كتاب (الموضوعات) «3».

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 1116.

(2) صحيح البخاري 7: 241.

(3) كتاب الموضوعات 1: 229.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 454

حديث أسباط في الاستسقاء … ص: 454

(ومنها) ما أخرجه- بعد رواية ابن مسعود- في استسقاء الكفّار: عن مسروق قال:

«أتيت ابن مسعود فقال: إنّ قريشاً أبطؤا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأخذتهم سنة حتّي هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فجاء أبوسفيان فقال: يا محمّد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإنّ قومك قد هلكوا، فادع اللَّه، فقرأ: «فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين» الآية. ثمّ عادوا إلي كفرهم، فذلك قوله تعالي: «يوم نبطش البطشة الكبري» يوم بدر-:

وزاد أسباط عن منصور: فدعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً، وشكا الناس كثرة المطر فقال: اللّهمّ حوالينا ولا علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم» «1».

وقد تكلّم الأئمّة في هذه الزيادة:

قال العيني: «واعترض علي البخاري بزيادة أسباط هذا.

فقال الداودي: أدخل قصّة المدينة في قصّة قريش وهو غلط.

وقال أبو عبدالملك: الذي زاده أسباط وهم واختلاط، لأنّه ركّب سند عبداللَّه بن مسعود علي متن حديث أنس بن مالك، وهو قوله: فدعا رسول اللَّه فسقوا الغيث. إلي آخره.

وكذا قال الحافظ شرف الدين الدمياطي وقال: حديث عبداللَّه بن مسعود كان بمكة، وليس فيه هذا.

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 2: 74- 75.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 455

والعجب من البخاري كيف أورد هذا وكان مخالفاً لما رواه الثقات؟

وقد ساعد بعضهم البخاري بقوله: لا مانع أن يقع ذلك مرّتين.

وفيه نظر لا يخفي.

وقال الكرماني: فإنْ قلت: قصّة قريش والتماس أبي سفيان كانت في مكة لا في المدينة. قلت: القصة مكيّة، إلّاالقدر الذي زاد أسباط، فإنّه وقع في المدينة» «1».

حديث تكثر لكم الأحاديث من بعدي … ص: 455

(ومنها) حديث نصّ التفتازاني علي إيراد البخاري إيّاه في صحيحه، وقد طعن فيه المحدّثون، وقال يحيي بن معين بأنّه حديث وضعته الزنادقة، وهو قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «تكثر لكم الأحاديث من بعدي، فإذا روي لكم حديث فأعرضوه علي كتاب اللَّه» ذكر ذلك كلّه التفتازاني في (التلويح- شرح التوضيح) في كلام له حيث قال:

«قوله: وإنّما يرد خبر الواحد في معارضة الكتاب، لأنّه مقدّم لكونه قطعيّاً متواتر النظم لا شبهة في متنه ولا في سنده، لكنّ الخلاف إنّما هو في عمومات الكتاب وظواهرها، فمن يجعلها ظنّيّة يعتبر بخبر الواحد إذا كان علي شرائطه عملًا بالدليلين، ومن يجعل العام قطعيّاً، فلا يعمل بخبر الواحد في معارضته، ضرورة أنّ الظنّي يضمحلّ بالقطعي، فلا ينسخ الكتاب به ولا يزاد عليه أيضاً، لأنّه بمنزلة النسخ.

واستدلّ علي ذلك بقوله عليه السلام: تكثر لكم الأحاديث من بعدي،

__________________________________________________

(1) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 7: 27- 29.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 456

فإذا روي لكم حديث فأعرضوه علي كتاب اللَّه، فما وافق كتاب اللَّه فاقبلوه وما خالفه فردّوه.

واجيب: بأنّه خبر واحد قد خصّ منه البعض، أعني المتواتر والمشهور، فلا يكون قطعيّاً، فكيف يثبت به مسألة الاصول؟ علي أنّه ممّا يخالف عموم قوله تعالي: «وما آتاكم الرسول فخذوه».

وقد طعن فيه المحدّثون بأنّ في رواته يزيد بن ربيعة،

وهو مجهول، وترك في إسناده واسطة بين الأشعب وثوبان فيكون منقطعاً.

وذكر يحيي بن معين: إنّه حديث وضعته الزنادقة.

وإيراد البخاري إيّاه في صحيحه لا ينافي الإنقطاع أو كون أحد رواته غير معروفٍ بالرواية» «1».

حديث تحريم المعازف … ص: 456

(ومنها) حديث رواه ابن حزم عن البخاري وحكم بوضعه، قال:

«ومن طريق البخاري: قال هشام بن عمّار، نا صدقة بن خالد، نا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، نا عطية بن قيس الكلابي، نا عبدالرحمن بن غنم الأشعري، حدّثني أبوعامر أو أبو مالك الأشعري- وواللَّه ما كذبني- إنّه سمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ليكوننَّ من امّتي قوم يستحلّون الحرير والخمر والمعازف.

وهذا منقطع، لم يتّصل مابين البخاري وصدقة بن خالد، ولا يصحّ في __________________________________________________

(1) التلويح في شرح التوضيح 2: 21.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 457

هذا الباب شي ء أبداً، وكلّ ما فيه فموضوع» «1».

حديث المؤمن لا يزني حين يزني … ص: 457

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب الأشربة قال:

«حدّثنا أحمد بن صالح قال: ثنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة عن عبدالرحمن وابن المسيّب يقولان: قال أبوهريرة: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: المؤمن لا يزني حين يزني وهو مؤمن» «2».

وهذا الحديث كذَّبه أبو حنيفة، كما في كتاب (العالم والمتعلّم) «3»، فقد جاء فيه:

«قال المتعلّم: ما قولك في اناس رووا أنّ المؤمن إذا زني خلع الإيمان من رأسه كما يخلع القميص، ثمّ إذا تاب أعاد اللَّه إيمانه، أتشكّ في قولهم أو تصدّقهم؟ فإن صدّقت قولهم دخلت في قول الخوارج، وإن شككت في قولهم شككت في قول الخوارج ورجعت عن العدل الذي وصفت، وإن كذّبت قولهم الذي قالوا: كذّبت بقول النبي عليه السلام، فإنّهم رووا عن رجال شتّي حتّي انتهي به إلي رسول اللَّه عليه السلام.

قال العالم: كذب هؤلاء، ولايكون تكذيبي هؤلاء وردّي عليهم تكذيباً

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 193.

(2) صحيح البخاري 7: 190.

(3) هذا الكتاب لأبي حنيفة، والمقصود من «العالم» أبو حنيفة، ومن «المتعلّم» تلميذه:

أبو مطيع البلخي وهو راوي الكتاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 458

للنبي عليه السلام، إنّما يكون التكذيب لقول النبي عليه السلام أن يقول الرجل أنا مكذّب للنبي عليه السلام، وأمّا إذا قال أنا مؤمن بكلّ شي ء تكلّم به النبي عليه السلام، غير أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يتكلّم بالجور ولم يخالف القرآن، فهذا من التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف علي القرآن، ولو خالف النبي عليه السلام القرآن وتقوّل علي اللَّه، لم يدعه تبارك وتعالي حتّي يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين، كما قال تعالي في القرآن، ونبيّ اللَّه لا يخالف كتاب اللَّه، ومخالف كتاب اللَّه لا يكون نبيّ اللَّه.

وهذا الذي رووه خلاف القرآن، ألا تري إلي قوله تعالي: «الزّانية والزّاني» «1»

ثمّ قال: «اللّذان يأتيانها منكم» «2»

ولم يعن به من اليهود ولا من النصاري، ولكن عني به من المسلمين.

فردّي علي كلّ رجل يحدّث عن النبي عليه السلام بخلاف القرآن، ليس ردّاً علي النبي ولا تكذيباً له، ولكن ردّاً علي من يحدّث عن النبي عليه السلام بالباطل، والتهمة دخلت عليه لا علي نبيّ اللَّه، وكلّ شي ء تكلّم به النبي عليه السلام سمعنا به أو لم نسمعه، فعلي الرأس والعين، قد آمنّا به ونشهد أنّه كما قال النبي عليه السلام، ونشهد أيضاً علي النبي عليه السلام أنّه لم يأمر بشي ء نهي اللَّه عنه يخالف أمر اللَّه تعالي، ولم يقطع شيئاً وصله اللَّه تعالي ولا وصف أمراً وصف اللَّه تعالي ذلك الأمر بخلاف ما وصفه النبي عليه السلام، ونشهد أنّه كان موافقاً للَّه عزّ وجلّ في جميع الامور، لم يبتدع ولم يتقوّل غير ما قال اللَّه تعالي، ولا كان من المتكلّفين، ولذلك قال اللَّه تعالي: «من يطع

الرسول __________________________________________________

(1) سورة النور 24: 2.

(2) سورة النساء 4: 16.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 459

فقد أطاع اللَّه» «1»».

حديث شريك في الإسراء … ص: 459

(ومنها) حديث البخاري عن شريك في إسراء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهذا لفظه:

«حدّثنا عبدالعزيز بن عبداللَّه قال: حدّثني سليمان، عن شريك بن عبداللَّه، أنّه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة اسري برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة، إنّه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحي إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم: أيّهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم. فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتّي أتوه ليلة اخري فيما يري قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلّموه حتّي احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولّاه منهم جبرئيل، فشقّ جبرئيل مابين نحره إلي لبّته حتّي فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتّي أنقي جوفه، ثمّ اتي بطست من ذهب فيه نور من ذهب مَحْشُوٌّ إيماناً وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده- يعني عروق حلقه- ثمّ أطبقه، ثمّ عرج به إلي السماء الدنيا، فضرب باباً من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال جبرئيل: قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمّد، قالوا:

وقد بعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحباً به …» «2».

__________________________________________________

(1) سورة النساء 4: 80.

(2) صحيح البخاري 9: 265 كتاب التوحيد.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 460

وأخرجه مسلم قال: «حدّثنا هارون بن سعيد الأيلي، ثنا ابن وهب، قال:

أخبرني سليمان- وهو ابن بلال- قال: حدّثني شريك بن عبداللَّه بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك، يحدّثنا عن ليلة اسري برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة: أنّه

جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحي إليه، وهو نائم في المسجد الحرام. وساق الحديث بقصّته نحو حديث ثابت البناني، وقدّم فيه شيئاً وأخّر وزاد ونقص» «1».

قال النووي بشرحه:

«قوله: وذلك قبل أن يوحي إليه. وهو غلط لم يوافق عليه، فإنّ الإسراء أقلّ ما قيل فيه أنّه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً. وقال الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين. وقال ابن إسحاق: اسري به وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل.

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق، إذ لم يختلفوا أنّ خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف في أنّها توفّيت قبل الهجرة بمدّةٍ قيل بثلاث سنين وقيل بخمس.

ومنها: إنّ العلماء مجمعون علي أنّ فرض الصّلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون هذا قبل أن يوحي إليه؟

وأمّا قوله- في رواية شريك-: وهو نائم، وفي رواية الاخري: بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤيا نوم، ولا حجّة فيه، إذْ قد يكون ذلك حالة أوّل وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدلّ علي كونه نائماً في القصّة كلّها.

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 148/ 262 باب بدء الوحي من كتاب الإيمان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 461

هذا كلام القاضي. وهذا الذي قاله في رواية شريك وأنّ أهل العلم أنكروها قد قاله غيره.

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه، وأتي بالحديث مطوّلًا.

قال الحافظ عبدالحق في كتابه الجمع بين الصحيحين- بعد ذكر هذه الرواية- هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس. وقد زاد فيه زيادةً مجهولةً، وأتي فيه بألفاظٍ غير

معروفة. وقد روي حديث الإسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين، كابن شهاب وثابت البناني وقتادة- يعني عن أنس- فلم يأت أحد منهم بما أتي به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. قال: والأحاديث التي تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها. هذا كلام الحافظ عبدالحق» «1».

وقال الكرماني بشرحه:

«قال النووي: جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء، من جملتها:

أنّه قال: ذلك قبل أن يوحي إليه، وهو غلط لم يوافق عليه. وأيضاً: العلماء أجمعوا علي أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل الوحي؟

أقول: وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء إذ قال: أبعث؟ نعم، صريح في أنّه كان بعده» «2».

وقال ابن قيّم الجوزيّة:

«فصلٌ- قال الزهري: عرج بروح رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي __________________________________________________

(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، باب بدء الوحي، المجلّد 1 ج 2: 209- 210.

(2) الكواكب الدراري في شرح البخاري 25: 204.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 462

بيت المقدس وإلي السماء قبل خروجه إلي المدينة بسنةٍ، وقال ابن عبدالبر وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران. إنتهي. وكان الإسراء مرّةً واحدةً وقيل: مرّة يقظة ومرّةً مناماً، وأرباب هذا القول كأنّهم أرادوا أنْ يجمعوا بين حديث شريك وقوله ثمّ استيقظت، وبين سائر الروايات، ومنهم من قال: بل كان هذا مرّتين، مرّةً قبل الوحي، لقوله في حديث شريك: وذلك قبل أنْ يوحي إليه. ومرّةً بعد الوحي، كما دلّت عليه سائر الأحاديث، ومنهم من قال:

بل ثلاث مرّات، مرّةً قبل الوحي ومرّتين بعده.

وكلّ هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهريّة من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصّة لفظةً تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرّةً اخري، فكلّما اختلفت عليهم الروايات عدّدوا الوقائع.

والصواب الذي عليه

أئمّة النقل: أنّ الإسراء كان مرّةً واحدةً بمكة بعد البعثة.

ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنّه مراراً كيف ساغ لهم أنْ يظنّوا أنّه في كلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثمّ يتردّد بين ربّه وبين موسي حتّي تصير خمساً ثمّ يقول: أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي، ثمّ يعيدها في المرّة الثانية إلي خمسين، ثمّ يحطّها عشراً عشراً.

وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظٍ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثمّ قال: فقدّم وأخّر وزاد ونقص، ولم يورد الحديث فأجاد رحمه اللَّه» «1».

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 3: 41- 42 فصلٌ في المعراج النبوي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 465

صحيح مسلم … ص: 465

اشارة

وأمّا مسلم بن الحجّاج … فإنّه- كما قالوا- كان يرتكب الغمز بالرجال الصادقين الثقات عندهم بلا حجّة، ومن ذلك ما كان منه في «إبراهيم بن عبداللَّه السعدي» قال الذهبي: «إبراهيم بن عبداللَّه السعدي النيسابوري، صدوق، له عن يزيد بن هارون ونحوه.

قال أبو عبداللَّه الحاكم: كان يستخفُّ بمسلم، فغمزه مسلم بلا حجّة» «1».

ولا ريب أنّ هذا يضرّ بعدالة مسلم ويمنع من الإعتماد عليه وعلي رواياته في كتابه، ولذا قال ابن الجوزي: «ومن تلبيس إبليس علي أصحاب الحديث: قدح بعضهم في بعض، طلباً للتشفّي، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعملت قدماء هذه الامّة للذبّ عن الشرع» «2».

أبو زرعة الرازي وصحيح مسلم … ص: 465

هذا، وقد اشتهر بين الأعلام طعن الإمام أبي زرعة الرازي وتكلّمه في كتاب مسلم بن الحجّاج، ففي ترجمة أحمد بن عيسي المصري من (التهذيب) و (الميزان): «قد قال سعيد البردعي: شهدت أبازرعة ذُكر عنده صحيح مسلم فقال: هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه، فعملوا شيئاً

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 44.

(2) تلبيس إبليس: 135.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 466

يتسوّقون به» «1».

وقال أبوالفضل الأدفوي في (الإمتاع): «وكان أبو زرعة يذمّ وضع كتاب مسلم ويقول: كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان؟ فذكر جماعة».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 126.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 467

الموضوعات في صحيح مسلم … ص: 467

اشارة

وبعد الوقوف علي طرفٍ من أسباب القدح في مسلم بن الحجّاج، وعلي طعن من مثل أبي زرعة في كتابه عموماً، فلابدّ من إيراد بعض أحاديثه الموضوعة والباطلة:

حديث الضحضاح … ص: 467

فمن أحاديثه الموضوعة والمكذوبة: حديثه في أنّ أباطالب في ضحضاحٍ من النار، قال: «حدّثنا عبيداللَّه بن عمر القواريري ومحمّد بن أبي بكر المقدمي ومحمّد بن عبدالملك الأموي قالوا: حدّثنا أبو عوانة، عن عبدالملك بن عمير، عن عبداللَّه بن الحارث بن نوفل، عن العبّاس بن عبدالمطّلب أنّه قال: يا رسول اللَّه، هل نفعت أباطالب بشي ءٍ، فإنّه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاحٍ من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» «1».

وهذه الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم كلّها موضوعة مفتراة، قد وضعت للطعن في أميرالمؤمنين عليه السلام والتنقيص في شأنه، ولأجل رفع شأن أبي بكر بن أبي قحافة …

إنّه ليكفي لتكذيب ما رووه في موت سيّدنا أبي طالب علي الكفر: ما

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 134 كتاب الإيمان- باب شفاعة النبي لأبي طالب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 468

رواه ابن سعد في الطبقات قال: «حدّثني الواقدي قال: قال علي: لمّا توفّي أبوطالب أخبرت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فبكي بكاءً شديداً، ثمّ قال:

«إذهب فاغسله وكفّنه وواره، غفر اللَّه له ورحمه.

فقال له العبّاس: يا رسول اللَّه، إنّك ترجو له؟

فقال: إي واللَّه إنّي لأرجو له.

وجعل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يستغفر له أيّاماً لا يخرج من بيته.

وقال الواقدي: قال ابن عبّاس: عارض رسول اللَّه جنازة عمّه أبي طالب وقال:

وصلتك رحم وجزاك اللَّه خيراً» «1».

هذا، وقد أجمع أهل البيت عليهم السلام علي إيمان سيّدنا أبي طالب، وإجماعهم حجّة قطعيّة كما تقرّر في محلّه، وقد ذكر علماء السنّة إجماعهم علي ذلك،

ففي (روضة الأحباب) عن ابن الأثير في (جامع الاصول) قوله:

«زعم أهل البيت أنّ أباطالب مات مسلماً، واللَّه أعلم بصحّته».

علي أنّ أهل السنّة يدّعون المتابعة لأهل البيت والإنقياد لهم، كما جاء في كتبهم، بشرح «حديث الثقلين» وبذيل حديث «مثل أهل بيتي كسفينة نوح»، فإنْ كانوا صادقين في دعواهم تلك، فلا محالة لا يخالفون أهل البيت في إجماعهم علي إيمان أبي طالب عليه السلام.

علي أنّ أحاديث مسلم في هذا الباب متناقضة متهافتة، إذ الحديث المذكور يدلّ علي أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قد شفع له قبل القيامة وأخرجه بالفعل من غمرات العذاب إلي ضحضاحٍ من نارٍ، وحديث أبي سعيد

__________________________________________________

(1) الطبقات الكبري 1: 123- 124.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 469

صريحٌ في عدم وقوع الشفاعة في حقّه وأنّ عذابه لم يخفّف، بل إنّ النبي يرجو أن تناله شفاعته في يوم القيامة وتنفعه في خروجه من الدركات السافلة إلي الضحضاح … فكان بعض تلك الأحاديث صريحاً في وقوع تخفيف العذاب عن أبي طالب بالفعل وبعض صريحاً في عدم حصول التخفيف، فتهافتا وتناقضا بكلّ وضوح.

الحديث الدالّ علي تعيين أبي بكر للخلافة!! … ص: 469

ومن ذلك: حديثه المتضمّن تعيين النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أبابكر للخلافة من بعده، وهو حديث موضوع مفتري قطعاً. قال في كتاب المناقب:

«حدّثني عبيداللَّه بن سعيد، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، حدّثنا صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة عن عائشة- رضي اللَّه عنها- قالت: قال لي رسول اللَّه في مرضه: ادعي لي أبابكر أباك وأخاك حتّي أكتب كتاباً، فإنّي أخاف أن يتمنَّ متمنٍّ ويقول القائل: أنا أولي، ويأبي اللَّه والمؤمنون إلّاأبابكر» «1».

وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً، ولفظه في كتاب المرضي:

«لقد هممت أو أردت أن أرسل إلي أبي بكر

وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنّي المتمنّون، ثمّ قلت: يأبي اللَّه ويدفع المؤمنون، أو يدفع اللَّه ويأبي المؤمنون» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4: 1857/ 2387.

(2) صحيح البخاري 7: 218.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 470

وهذا الحديث الذي قال النووي بشرحه: «في هذا الحديث دلالة ظاهرة لفضل أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه، وإخبار منه صلّي اللَّه عليه وسلّم بما سيقع في المستقبل بعد وفاته، وأنّ المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره» «1» ظاهر الكذب والبطلان، لاتّفاق القوم أنفسهم علي أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لم ينصّ علي أبي بكر بالخلافة، ولو كان مثل هذا الكلام صادراً منه حقّاً لما احتجّوا بالأباطيل الواهيات، ولما وقعت الإختلافات والنزاعات …

ولقد نصّ النووي- بشرح حديث: من كان رسول اللَّه مستخلفاً لو استخلفه؟-: علي أنّ «فيه دلالة لأهل السنّة أنّ خلافة أبي بكر ليست بنصٍّ من النبي علي خلافته صريحاً، بل أجمعت الصحابة علي عقد الخلافة له وتقديمه بفضله، ولو كان هناك نصّ عليه أو علي غيره لم يقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلًا، ولذكر حافظ النص ما معه، ولرجعوا، ولكنْ تنازعوا أوّلًا ولم يكن هناك نص، ثمّ اتفقوا علي أبي بكر واستقرّ الأمر.

وأمّا ما تدّعيه الشيعة من النص علي علي والوصيّة إليه، فباطل لا أصل له باتّفاق المسلمين، والإتفاق علي بطلان دعواهم في زمن علي، وأوّل من كذّبهم علي بقوله: ما عندنا إلّاما في هذه الصحيفة» «2».

فتراه يستدلّ بما كان في السقيفة، ولو كان ما أورده مسلم صحيحاً لما احتاج إلي ذلك!!

وعلي الجملة، فإنّ هذا الحديث لو صحّ لاستدلّ به القوم علي إمامة

__________________________________________________

(1) شرح مسلم للنووي 15: 155.

(2) شرح مسلم للنووي 15: 154- 155.

استخراج المرام من استقصاء الافحام،

ج 2، ص: 471

أبي بكر ولم يقولوا بعدم النصّ علي خلافته، ولم يتشبّثوا بالخرافات والأباطيل الاخري، فإنّه حتّي لو كان وارداً مورد الإخبار عن الغيب، لكان الإستدلال به دون غيره أولي وأحري …

وقد نصّ أبوالسعادات ابن الأثير أيضاً علي عدم النصّ علي أبي بكر حيث قال: «ولا يصدّق الشيعة بنقل النص علي إمامة علي كرّم اللَّه وجهه والبكرية علي إمامة أبي بكر رضي اللَّه عنه، لأنّ هذا وضعه الآحاد أوّلًا وأفشوه، ثمّ كثر الناقلون في عصره وبعده من الأعصار، فلذلك لم يحصل التصديق» «1».

فوا أسفاه علي البخاري ومسلم، إذْ اشرب في قلوبهما حبّ الشيخين، فنقلا مثل هذه الأكاذيب والخرافات، التي نصّ أئمّتهم علي كونها من افتراءات البكريّة وأخبارهم الموضوعات.

حديث أنّ عمر أوّل من أمر بالأذان … ص: 471

ومن ذلك: ما أخرجه مسلم في كتاب الصّلاة، باب بدء الأذان:

«حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: حدّثنا محمّد بن بكر، ح وحدّثنا محمّد بن رافع قال: حدّثنا عبدالرزاق قال: أخبرنا ابن جريج، ح وحدّثني هارون ابن عبداللَّه- واللفظ له- قال: حدّثنا حجّاج بن محمّد قال:

قال ابن جريج: أخبرني نافع مولي ابن عمر، عن عبداللَّه بن عمر أنّه قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلّموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصاري، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون منادياً

__________________________________________________

(1) جامع الاصول 1: 121.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 472

ينادي بالصّلاة. قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا بلال قم فناد بالصّلاة» «1».

وهذا حديث موضوع، وضعه من يسعي وراء جعل المناقب لعمر بن الخطّاب، وهو ينافي ما وضعوه في الأذان من أنّ تشريعه كان برؤيا رآها رجل من الأنصار، كما في سنن أبي داود وغيره.

علي

أنّ الحقّ ما روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام من أنّ تشريع الأذان كان في ليلة الإسراء، وقد أذّن جبرئيل في بيت المقدس، وما سواه فمن وضع الملحدين.

حديثان متناقضان في موضع صلاة النبي الظهر في حجّة الوداع … ص: 472

ومن ذلك: حديثان متناقضان أخرجهما مسلم، وأخرج البخاري أحدهما، في موضع صلاة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الظهر يوم النحر في حجّة الوداع، فأخرج عن عائشة وجابر أنّه صلّاها بمكّة، وأخرج هو والبخاري عن ابن عمر أنّه صلّاها بمني، قال القاري في كتابه في (الرجال): «قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلا شك».

وقد اختلف القوم في تعيين الصدق من الكذب منهما، وقد شرح ابن القيّم اختلافهم في المقام حيث قال: «فصل: ثمّ رجع إلي مني، واختلف أين صلّي الظهر يومئذ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنّه أفاض يوم النحر ثمّ رجع فصلّي الظهر بمني، وفي صحيح مسلم عن جابر أنّه صلّي الظهر بمكّة، وكذلك قالت عائشة، واختلف في ترجيح أحد هذين القولين علي الآخر، فقال أبو

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 285.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 473

محمّد ابن حزم: قول عائشة وجابر أولي، وتبعه علي هذا جماعة ورجّحوا هذا القول بوجوه:

أحدها: إن راويه اثنان، وهما أولي من الواحد.

الثاني: أنّ عايشة أخصّ الناس به، ولها من القرب والإختصاص والمزيّة ما ليس لغيرها.

الثالث: أنّ سياق جابر لحجّة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم من أوّلها إلي آخرها أتمّ سياق، وقد حفظ القصّة وضبطها حتّي ضبط جزئيّاتها، حتّي ضبط منها أمراً لا يتعلّق بالمناسك، وهو نزول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ليلة جمع الطريق، فقضي حاجته عند الشعب ثمّ توضّأ وضوءاً خفيفاً، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط مكان صلاته يوم النحر بطريق أولي.

الرابع: أنّ حجّة الوداع كانت في

آذار، وهي تساوي الليل والنهار، وقد خرج من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلي مني وخطب بها الناس، ونحر بُدناً عظيمة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمي الجمرة وحلق رأسه وتطيّب وخطب ثمّ أفاض، فطاف وشرب من ماء زمزم ومن نبيذ السقاية ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلي مني بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار.

الخامس: إنّ هذين الحديثين جاريان مجري الناقل والمبقي، فإنّ عادته صلّي اللَّه عليه وسلّم كانت في حجّته صلاته في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين، فجري ابن عمر علي العادة، وضبط جابر وعائشة الأمر الذي هو خارج عن عادته، فهو أولي بأن يكون هو المحفوظ.

ورجحت طائفة اخري قول ابن عمر لوجوه:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 474

أحدها: أنّه لو صلّي الظهر بمكّة لم يُصَلِّ أصحابه بمني وحداناً ولا زرافات، بل لم يكن لهم بدّ من الصلاة خلف إمام يكون نائباً عنه، ولم ينقل هذا أحد قط، ولم يقل أحد أنّه استناب من يصلّي بهم، ولولا علمه أنّه يرجع إليهم فيصلّي بهم لقال: إن حضرت الصّلاة ولست عندكم فليصلّ بكم فلان، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلّي الصحابة هناك وحداناً قطعاً، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلّوا عزين، علم أنّهم صلّوا معه علي عادتهم.

الثاني: إنّه لو صلّي بمكّة، لكان خلفه بعض أهل البلد وهو مقيم، وكان يأمرهم أن يتمّوا صلاتهم، ولنقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا بل هو معلوم الإنتفاء قطعاً، علم أنّه لم يصلّ قطعاً حينئذٍ بمكّة.

وما نقله بعض من لا علم له أنّه قال:

يا أهل مكّة أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر، فإنّما قاله عام الفتح لا في حجّته.

الثالث: إنّه من المعلوم أنّه لمّا طاف ركع ركعتي الطواف، ومعلوم أنّ كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعلّه لمّا ركع ركعتي الطواف والناس خلفه يقتدون به، ظنّ الظانّ أنّها صلاة الظهر، ولاسيّما إذا كان ذلك في وقت الظهر، وهذا الوهم لا يمكن دفع احتماله، بخلاف صلاته بمني فإنّها لا تحتمل غير الفرض.

الرابع: إنّه لا يحفظ عنه في حجّه أنّه صلّي الفرض بجوف مكّة، بل إنّما كان يصلّي بمنزله بالمسلمين مدّة مقامه، كان يصلّي بهم أين نزلوا، لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام.

الخامس: إنّ حديث ابن عمر متفق عليه، وإنّ حديث جابر من أفراد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 475

مسلم، فحديث ابن عمر أصحّ منه، وكذلك هو في إسناده، فإنّ راويه أحفظ وأشهر وأنفق، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيداللَّه؟ وأين يقع جعفر من حفظ نافع؟

السادس: إنّ حديث عائشة قد اضطربت في وقت طوافه، فروي عنها علي ثلاثة أوجه: أحدها أنّه طاف نهاراً، الثاني: أنّه أخّر الطواف إلي الليل، الثالث: أنّه أفاض من آخر يومه، فلم يضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصّلاة، بخلاف حديث ابن عمر.

السابع: إنّ حديث ابن عمر أصحّ منه بلا نزاع، فإنّ حديث عائشة من رواية محمّد بن إسحاق، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه عنها، وابن إسحاق مختلف في الإحتجاج به، ولم يصرّح بالسماع بل عنعنه، فكيف يقدم علي قول عبيداللَّه حدّثني نافع عن ابن عمر؟

الثامن: إنّ حديث عائشة ليس بالبيّن إنّه صلّي الظهر بمكّة، فإنّ لفظه هكذا: أفاض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في آخر يوم

صلّي الظهر ثمّ رجع إلي مني، فمكث فيها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كلّ جمرة بسبع حصيات، فأين دلالة هذا الحديث الصريحة علي أنّه صلّي الظهر يومئذ بمكّة؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلي قول ابن عمر أفاض يوم النحر ثمّ صلّي الظهر بمني راجعاً؟ وأين حديث اتفق أصحاب الصحيح علي إخراجه إلي حديث اختلف في الإحتجاج به؟ واللَّه أعلم» «1».

__________________________________________________

(1) زاد المعاد 2: 280 كيفيّة حجّة الوداع.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 476

حديث في أوّل ما نزل من القرآن … ص: 476

ومن ذلك: ما أخرجه في أنّ أوّل ما نزل من القرآن «يا أيّها المدّثّر» وقد صرّح النووي بأنّه ضعيف بل باطل … قال ولي الدين أبو زرعة أحمد بن زين الدين عبدالرحيم العراقي في شرح حديث بدء الوحي من (شرح الأحكام الصغري): «فيه دلالة واضحة علي أنّ أوّل ما نزل من القرآن «إقرأ». وقد صحّ ذلك عن عائشة، وروي عن أبي موسي الأشعري وعبيد بن عمير، قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف. وفيه قولان آخران: أحدهما إنّ أوّل ما نزل «يا أيّها المدّثّر» رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبداللَّه وأبي سلمة بن عبدالرحمن، قال النووي: وهو ضعيف بل باطل …».

حديث في فضائل أبي سفيان … ص: 476

ومن ذلك: ما أخرجه في فضائل أبي سفيان وهذه عبارته:

«حدّثنا عبّاس بن عبدالعظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالا:

حدّثنا النضر- وهو ابن محمّد اليمامي- قال: حدّثنا عكرمة، حدّثنا أبو زميل، حدّثني ابن عبّاس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلي أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال لنبي اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا نبي اللَّه، ثلاث أعطنيهنّ، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله ام حبيبة بنت أبي سفيان ازوّجكها. قال: نعم، قال: معاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال:

وتؤمّرني حتّي اقاتل الكفّار كما كنت اقاتل المسلمين. قال: نعم. قال أبو زميل:

ولولا أنّه طلب ذلك من النبي ما أعطاه ذلك، لأنّه لم يكن يُسئل شيئاً إلّا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 477

قال: نعم» «1».

قال في (زاد المعاد):

«وأمّا حديث عكرمة بن عمّار: عن أبي زميل، عن ابن عبّاس: إنّ أباسفيان قال للنبي …

فهذا الحديث غلط ظاهر لا خفاء به.

قال أبو محمّد ابن حزم: وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمّار.

قال ابن الجوزي-

في هذا الحديث-: هو وهم من بعض الرواة، لا شكّ فيه ولا تردّد.

وقد اتّهموا به عكرمة بن عمّار، لأنّ أهل التواريخ أجمعوا علي أنّ امّ حبيبة كانت تحت عبيداللَّه بن جحش، ولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلي أرض الحبشة، ثمّ تنصّر وثبتت امّ حبيبة علي إسلامها، فبعث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي النجاشي يخطبها عليه، فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول اللَّه صداقاً، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة ودخل عليها فثنت فراش رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حتّي لا يجلس عليه.

ولا خلاف أنّ أباسفيان ومعاوية أسلما في فتح مكّة سنة ثمان.

وأيضاً: في هذا الحديث: إنّه قال له: وتؤمّرني حتّي اقاتل الكفّار كما كنت اقاتل المسلمين فقال: نعم.

ولا يعرف أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أمّر أباسفيان البتّة» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4: 1945/ 2501.

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 110.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 478

من كلمات الأئمّة في الكتابين … ص: 478

اشارة

وعلي الجملة، فإنّ الأحاديث الموضوعة والباطلة في كتاب مسلم كثيرة مثل كتاب البخاري، وقد أوردنا طرفاً منها ونكتفي بها.

ومن هنا، فقد قال الملّا علي القاري في كتاب (الرجال) ما نصّه:

«وقد وقع منه- أي من مسلم- أشياء لا تقوي عند المعارضة.

فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار كتاباً علي الأحاديث المقطوعة، وبيّنها الشيخ محي الدين النووي في أوّل شرح مسلم.

وما يقوله الناس: أنّ من روي له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التجاهل والتساهل.

فقد روي مسلم في كتابه عن الليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء.

فيقولون إنّما روي عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات.

وهذا لا يقوي، لأنّ الحفّاظ قالوا: الإعتبار امور يتعرّفون بها حال الحديث وكتاب مسلم التزم

فيه الصحّة، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطريق ضعيفة.

وقال الحافظ: أبو الزبير محمّد بن مسلم المكّي يدلّس في حديث جابر، فما يصفه بالعنعنة لا يقبل، وقد ذكر ابن حزم وعبدالحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير: علّم لي علي أحاديث سمعتها من جابر حتّي أسمعها منك، فعلَّم لي علي أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه. قال استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 479

الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر فصحيح.

وفي مسلم عن طريق الليث من أبي الزبير عن جابر بالعنعنة أحاديث.

وقد روي أيضاً في كتابه عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم توجّه إلي مكّة يوم النحر فطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّي الظهر بمني، فيوجّهون ويقولون: أعادها لبيان الجواز، وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين أحدهما كذب بلا شكّ.

وروي مسلم أيضاً حديث الإسراء فيه: وذلك قبل أن يوحي إليه، وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها.

وقد روي مسلم أيضاً: خلق اللَّه التربة يوم السبت. واتفق الناس علي أنّ السبت لم يقع فيه خلق، وأنّ ابتداء الخلق يوم الأحد.

وقد روي مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا أسلم: يا رسول اللَّه أعطني ثلاثاً: تزوّج ابنتي ام حبيبة، وابني معاوية أجعله كاتباً، وأمّرني أن اقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين، فأعطاه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ما سأله. والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم ما لا يُحصي، فامّ حبيبة تزوّجها النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وهي بالحبشة، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار وحضر وخطب وأطعم، والقصّة مشهورة، وأبوسفيان وابنه معاوية

إنّما أسلما عام الفتح، وبين الهجرة إلي الحبشة والفتح عدّة سنين، والجمهور علي أنّها تزوّجها سنة ست وقيل سبع، وأسلم أبوسفيان عام الفتح سنة ثمان من الهجرة، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحفّاظ أنّهم لا يعرفونها.

فيجيبون بأجوبة غير طائلة، فيقولون في إنكاح ابنته: إعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بالكفر، فأراد النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 480

تجديد النكاح، ويذكرون عن الزبير بن بكّار بأسانيد ضعيفة أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرفه الأثبات.

وقد قال الحافظ: أنّ مسلماً لمّا وضع كتابه الصحيح عرضه علي أبي زرعة، فأنكر عليه وتَغَيّظ وقال: سمَّيْتَه الصحيح وجعلته سُلَّماً لأهل البدع وغيرهم».

وقال ابن تيميّة: … ص: 480

«والمواضع المنتقدة غالبها في مسلم، وقد انتصر طائفة لهما- يعني للبخاري ومسلم- فيها، وطائفة قَوّت قول المنتقد، والصحيح التفصيل، فإنّ فيهما مواضع منتقدة بلا ريب مثل حديث: خلق اللَّه التربة يوم السبت، وحديث: صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر» «1».

وقال كمال الدين أبوالفضل الأدفوي في (الإمتاع في أحكام السماع): … ص: 480

«ثمّ أقول: إنّ الامّة تلقّت كلّ حديث صحيح وحسن بالقبول وعملت به عند عدم العارض، وحينئذٍ لا يختصّ بالصحيحين، وقد تلقّت الامّة الكتب الخمسة أو الستّة بالقبول وأطلق عليها جماعة إسم الصحيح، ورجّح بعضهم بعضها علي كتاب مسلم وغيره.

قال أبو سليمان أحمد الخطابي: كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنّف في الدين كتاب مثله، وقد رزق من الناس القبول كافّة، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء علي اختلاف مذاهبهم، وكتاب السنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم.

وقال الحافظ أبوالفضل محمّد بن طاهر المقدسي: سمعت الإمام __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7: 215 وانظر 5: 101.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 481

أباالفضل عبداللَّه بن محمّد الأنصاري بهراة يقول- وقد جري بين يديه ذكر أبي عيسي الترمذي وكتابه فقال-: كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم.

وقال الإمام أبوالقاسم سعد بن علي الزنجاني: إنّ لأبي عبدالرحمن النسائي شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم.

وقال أبو زرعة الرازي لمّا عرض عليه ابن ماجة السنن كتابه: أظنّ إنْ وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذه الجوامع كلّها، أو قال أكثرها.

ووراء هذا بحث آخر وهو: إنّ قول الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح: إنّ الامّة تلقّت الكتابين بالقبول.

إن أراد كلّ الامّة، فلا يخفي فساد ذلك، إذ الكتابان إنّما صُنِّفا في المائة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمّة المذاهب المتّبعة ورؤوس حفّاظ الأخبار ونقّاد الآثار المتكلّمين في الطرق

والرجال المميّزين بين الصحيح والسقيم.

وإن أراد بالامّة الذين وجدوا بعد الكتابين، فهم بعض الامّة، فلا يستقيم له دليله الذي قرّره من تلقّي الامّة وثبوت العصمة لهم، والظاهريّة إنّما يعتنون بإجماع الصحابة خاصّة، والشيعة لا تعتدّ بالكتابين وطعنت فيهما، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الإجماع وانعقاده.

ثمّ، إن أراد كلّ حديث فيهما تلقي بالقبول من الناس كافّة، فغير مستقيم، فقد تكلّم جماعة من الحفّاظ في أحاديث فيهما.

فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها.

وتكلّم ابن حزم في أحاديث، كحديث شريك في الإسراء قال: إنّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 482

خلط.

ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينهما، والقطع لا يقع التعارض فيه.

وقد اتفق البخاري ومسلم علي إخراج حديث محمّد بن بشّار بندار، وأكثرا من الإحتجاج بحديثه، وتكلّم فيه غير واحد من الحفّاظ وأئمّة الجرح والتعديل ونسب إلي الكذب، وحلف عمرو بن علي الفلّاس شيخ البخاري أنّ بنداراً يكذب في حديثه عن يحيي، وتكلّم فيه أبو موسي، وقال علي بن المديني في الحديث الذي رواه في السجود: هذا كذب، وكان يحيي لا يعبأ به ويستضعفه. وكان القواريري لا يرضاه.

وأكثرا من حديث عبدالرزّاق والإحتجاج به، وتُكُلِّم فيه ونسب إلي الكذب.

وأخرج مسلم لأسباط بن نصر، وتكلّم فيه أبو زرعة وغيره.

وأخرج أيضاً عن سماك بن حرب وأكثر عنه، وتكلّم فيه غير واحد، وقال الإمام أحمد بن حنبل: هو مضطرب الحديث، وضعّفه أميرالمؤمنين في الحديث شعبة وسفيان الثوري، وقال يعقوب بن شيبة: لم يكن من المتثبّتين.

وقال النسائي: في حديثه ضعف. قال شعبة: كان سماك يقول في التفسير:

عكرمة ولو شئت لقلت له ابن عبّاس لقاله. وقال ابن المبارك: سمّاك ضعيف في الحديث، وضعّفه ابن حزم وقال: كان يُلَقَّن فَيَتَلَقَّنُ.

وكان أبو زرعة يذمّ

وضع كتاب مسلم ويقول: كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان؟ فذكر جماعة.

وأمثال ذلك تستغرق أوراقاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 483

فتلك الأحاديث عندهما ولم يتلقّوها بالقبول.

وإن أراد غالب ما فيهما، سلم من ذلك ولم يبق له حجّة».

وقال الشيخ عبدالقادر القرشي: … ص: 483

«فائدة- حديث أبي حميد السّاعدي في صفة صلاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، في مسلمٍ وغيره، يشتمل علي أنواعٍ منها: التورّك في الجلسة الثانية، ضعّفه الطحاوي، لمجيئه في بعض الطرق عن رجل، عن أبي حميد، قال الطحاوي: فهذا منقطع علي أصل مخالفينا، وهم يردّون الحديث بأقلّ من هذا.

قلت: ولا يحنّق علينا لمجيئه في مسلم، وقد وقع في مسلم أشياء لا تقوي عند الإصطلاح، فقد وضع الحافظ الرّشيد العطّار علي الأحاديث المقطوعة المخرّجة في مسلم كتاباً سمّاه ب «غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة»، سمعته علي شيخنا أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن عبداللَّه الطاهري سنة اثنتي عشر وسبعمائة، بسماعه من مصنّفه الحافظ رشيد الدين، بقراءة الشيخ فخرالدين أبي عمرو عثمان المقابلي، وبيّنها الشيخ محي الدين في أوّل شرح مسلم.

وما يقوله الناس: إنّ من روي له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التحنّق ولا يقوي، فقد روي مسلم في كتابه عن ليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء، فيقولون: إنّما روي في كتابه للإعتبار والشواهد والمتابعات، وهذا لايقوي، لأنّ الحفّاظ قالوا: الإعتبار والشواهد والمتابعات والاعتبارات، امور يتعرّفون بها حال الحديث، وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطريق ضعيفة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 484

واعلم أنّ «عن» مقتضية للانقطاع عند أهل الحديث، ووقع في مسلم والبخاري من هذا النوع شي ء كثير، فيقولون علي سبيل التحنّق:

ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول علي الإتصال.

وروي مسلم في كتابه، عن أبي الزبير، عن جابر، أحاديث كثيرة بالعنعنة. وقال الحافظ: أبوالزبير محمّد بن مسلم بن مسلم بن تدرس المكّي يدلّس في حديث جابر، فما كان يصفه بالعنعنة لا يقبل، وقد ذكر ابن حزم وعبدالحق عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير: علّم لي أحاديث سمعتها من جابر حتّي أسمعها منك، فعلّم لي أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه، قال الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر، صحيح.

وقد روي مسلم في كتابه أيضاً، عن جابر وابن عمر، في حجّة الوداع، أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم توجّه إلي مكّة يوم النحر، وطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّي الظهر بمني، فيتحنّقون ويقولون: أعادها لبيان الجواز، وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلا شك.

وروي مسلم أيضاً حديث الإسراء وفيه: «وذلك قبل أن يوحي إليه» وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها.

وروي مسلم أيضاً: «خلق اللَّه التّربة يوم السبت»، واتفق الناس علي أنّ يوم السبت لم يقع فيه خلق.

وروي مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 485

أسلم: «يا رسول اللَّه! أعطني ثلاثاً، تزوّج ابنتي ام حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتباً، وأمّرني أن اقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين، فأعطاه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم» والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم ما لا يخفي، فامّ حبيبة تزوّجها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهي بالحبشة وأصدقها النجاشي عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أربعمائة دينار،

وحضر وخطب وأطعم، والقصّة مشهورة، وأبو سفيان إنّما أسلم عام الفتح، وبين الهجرة والحبشة والفتح عدّة سنين، ومعاوية كان كاتباً للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم من قبل، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحافظ: إنّهم لا يعرفونها.

فيجيبون علي سبيل التحنّق بأجوبة غير طائلة، فيقولون في نكاح ابنته:

اعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بكفر، فأراد من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم تجديد النكاح، ويذكرون عن الزبير بن بكار بأسانيد ضعيفة، أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرف.

وما حملهم علي هذا كلّه إلّابعض التعصّب، وقد قال الحافظ: إنّ مسلماً لمّا وضع كتابه الصحيح عرضه علي أبي زرعة الرازي فأنكر عليه وقال: سمّيته الصحيح، فجعلت سلّماً لأهل البدع وغيرهم، فإذا روي لهم المخالف حديثاً يقولون هذا ليس في صحيح مسلم. فرحم اللَّه تعالي أبا زرعة فقد نطق بالصواب فقد وقع هذا.

وما ذكرت ذلك كلّه إلّاأنّه وقع بيني وبين بعض المخالفين بحث في مسألة التورّك، فذكر لي حديث أبي حميد المذكور أوّلًا، فأجبته بتضعيف الطحاوي، فما تلفّظ وقال: مسلم يصحّح والطحاوي يضعّف، واللَّه تعالي يغفر

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 486

لنا وله، آمين» «1».

ترجمة عبدالقادر القرشي ترجم له الحافظ السيوطي بقوله: «عبدالقادر بن محمّد بن محمّد بن نصر اللَّه بن سالم، محيي الدين أبو محمّد بن أبي الوفا القرشي، درّس [وأفتي وصنّف، شرح معاني الآثار، وطبقات الحنفية، وشرح الخلاصة، وتخريج أحاديث الهداية، وغير ذلك. ولد سنة ست وسبعين وستمائة، ومات في ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين وسبعمائة» «2».

وقال محمود بن سليمان الكفوي بترجمته: «المولي الفاضل والنحرير الكامل عبدالقادر، كان عالماً فاضلًا، جامعاً للعلوم، له مجموعات وتصانيف وتواريخ

ومحاضرات وتواليف …» «3».

__________________________________________________

(1) الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2: 428- 430.

(2) حسن المحاضرة في محاسن مصر والقاهرة 1: 471.

(3) كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار للكفوي- مخطوط- وله ترجمة في الدرر الكامنة 2: 392 وشذرات الذهب 6: 238، وتاج التراجم: 28، وغيرها أيضاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 489

صحيح الترمذي … ص: 489

أمّا صحيح الترمذي الذي مدحوه وأثنوا عليه، وجعلوه قريباً من الصحيحين في الصحّة والإعتبار، ووصفوه بأنّه أحسن الكتب وأكثرها فائدة …

كما قال ابن الأثير بترجمة الترمذي: «وله تصانيف كثيرة في علم الحديث، وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيباً وأقلّها تكراراً، وفيه ماليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخره كتاب العلل، قد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفي قدرها علي من وقف عليها.

قال الترمذي رحمه اللَّه: صنّفت هذا الكتاب، فعرضته علي علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته علي علماء خراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنّما في بيته نبيّ يتكلّم» «1».

وقال القاري في (مجمع الوسائل- شرح الشمائل): «هو أحد أئمّة عصره وأجلّة حفّاظ دهره، قيل: ولد أكمه، سمع خلقاً كثيراً من العلماء الأعلام وحفّاظ مشايخ الإسلام، مثل قتيبة بن سعيد والبخاري والدارمي ونظرائهم، وجامعه دالّ علي اتّساع حفظه ووفور علمه، كأنّه كاف للمجتهد وشاف للمقلّد.

ونقل عن الشيخ عبداللَّه الأنصاري أنّه قال: جامع الترمذي عندي أنفع __________________________________________________

(1) جامع الاصول 1: 194.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 490

من كتابي البخاري ومسلم.

ومن مناقبه أنّ الإمام البخاري روي عنه حديثاً واحداً خارج الصحيح.

وأعلي ما وقع له في الجامع حديث ثلاثي الإسناد، وهو قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: يأتي

علي الناس زمان الصابر علي دينه كالقابض علي الجمر».

الموضوعات في صحيح الترمذي … ص: 490

اشارة

ولكنّ هذا الكتاب الذي وصفوه بهذه الأوصاف وشبّهوه بنبيٍّ يتكلّم …

قالوا: فيه موضوعات كثيرة …

قال الحافظ ابن دحية- في كلامٍ له علي الحديث في أنّ نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: أكرم ولد آدم علي ربّه- قال: «أخرجه الترمذي في جامعه الكبير، في باب أبواب المناقب، عن رسول اللَّه، وقد تقدّم بعض أسانيدي إليه. قال: ثنا الحسين بن يزيد الكوفي … هذا حديث حسن غريب.

قال ذوالنسبين- رحمه اللَّه-: الحسن ما دون الصحيح، ممّا لا تنتهي رواته إلي درجة العدالة ولا تنحطّ ا لي درجة الفسق. وقال الترمذي في آخر كتابه: وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنّما أردنا حسن إسناده عندنا، كلّ حديث يروي، لا يكون في إسناده ممّن يتّهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذّاً ويروي من غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن، وما ذكر في هذا الكتاب حديث غريب، فإنّ أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان، ربّ حديث يكون غريباً لا يروي إلّامن وجه واحد. ثمّ تمادي في شرح ذلك ووجوهه.

وقد ذكرت في كتابي المسمّي بالعلم المشهور أحاديث كثيرة، أوردها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 491

أبوعيسي في كتابه هذا، عن قوم كذّابين وحسّنها، وهي موضوعة ولا يصحّ أن تكون مرفوعة، فليرجع الناظر إليه فيما انتقدته عليه» «1».

وقال ابن تيمية بعد حديثٍ في مناقب أميرالمؤمنين عليه السلام:

«والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله، وفيها ما هو ضعيف بل موضوع» «2».

هذا، ونحن ذاكرون هنا بعض الأحاديث الموضوعة:

حديثٌ فيه بعث أبي بكر بلالًا مع النبي إلي الشام … ص: 491

فمن أحاديثه المكذوبة والباطلة: ما رواه في قضيّة سفر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلي الشام مع رجالٍ من قريش، وأنّ أبابكر بعث معه بلالًا، وهذه عبارته: «حدّثنا الفضل بن سهل أبوالعبّاس البغدادي، نا عبدالرحمن

بن غزوان، أنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسي الأشعري عن أبيه قال: خرج أبوطالب إلي الشام، وخرج معه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في أشياخ من قريش، فلمّا أشرفوا علي الراهب هبط فحلّوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب- وكانوا قبل ذلك يمرّون به فلايخرج إليهم ولا يلتفت- قال: فهم يحلّون رحالهم- فجعل يتخلّلهم الراهب حتّي جاء فأخذ بيد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال: هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربّ العالمين يبعثه اللَّه رحمة للعالمين.

فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟

__________________________________________________

(1) شرح أسماء النبي/ المستكفي- مخطوط.

(2) منهاج السنّة 5: 511.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 492

فقال: إنّكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلّاخرّ ساجداً، ولا يسجدان إلّالنبيّ، وإنّي أعرفه بخاتم النبوّة أسفل من غضروف كتفه مثل التفّاحة.

ثمّ رجع فصنع لهم طعاماً، فلمّا أتاهم به فكان هو في رعية الإبل فقال:

أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تُظِلُّه، فلمّا دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلي في ء الشجرة، فلمّا جلس مال في ء الشجرة عليه فقال: انظروا إلي في ء الشجرة مال عليه. قال: بينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلي الروم، فإنّ الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أنّ هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلّابعث إليه باناس وإنّا قد اخبرنا خبره بعثنا إلي طريقك هذا. فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنّما اخترنا خيرةً لك لطريقك. قال: أفرأيتم أمراً أراد اللَّه أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس ردّه؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه.

قال: انشدكم باللَّه أيّكم وليّه؟ قالوا:

أبوطالب. فلم يزل يناشده حتّي ردّه أبو طالب، وبعث معه أبوبكر بلالًا، وزوّده الراهب من الكعك والزيت.

قال أبو عيسي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلّامن هذا الوجه» «1».

فقد نصّ كبار الأئمّة علي أنّه حديث موضوع:

قال الذهبي- بترجمة عبدالرحمن بن غزوان- «قلت: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسي، في سفر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- وهو مراهق- مع أبي طالب إلي الشام وقصّة بحيرا، وممّا يدلّ __________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 5: 590/ 3620.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 493

علي أنّه باطل قوله: وردّه أبوطالب وبعث معه أبوبكر بلالًا، وبلال لم يكن بعد خلق، وأبوبكر كان صبيّاً» «1».

وقال ابن القيّم: «فلمّا بلغ اثني عشر سنة خرج به عمّه إلي الشام، وقيل:

كان تسع سنين، وفي هذه الخرجة رآه بحيرا الراهب وأمر عمّه أنْ لا يقدم به إلي الشام خوفاً عليه من اليهود، فبعثه عمّه مع بعض غلمانه إلي المدينة، ووقع في كتاب الترمذي وغيره: إنّه بعث معه أبوبكر بلالًا. وهو من الغلط الواضح، فإنّ بلالًا إذْ ذاك لعلّه لم يكن موجوداً، وإن كان فلم يكن معه عمّه ولا مع أبي بكر» «2».

وقال محمّد بن يوسف الشامي: «تنبيهات: الأوّل: وقع في حديث أبي موسي عند الترمذي: فلم يزل بحيرا يناشد جدّه حتّي ردّه وبعث معه أبوبكر بلالًا.

قال الحافظ شرف الدين الدمياطي- وتبعه في المورد والعيون- في قوله: وأرسل معه أبوبكر بلالًا نكارة، وأبوبكر حينئذٍ لم يبلغ العشر سنين، فإنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أسنّ من أبي بكر بأزيد من عامين، وقد قدّمنا ما كان سنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم حين سافر هذه

السفرة.

وأيضاً: فإنّ بلالًا لم ينتقل لأبي بكر إلّابعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً، فإنّه كان لبني خلف الجمحيين، وعندما عذّب في الإسلام اشتراه أبوبكر رحمة له واستنقاذاً له من أيديهم، وسيأتي بيان ذلك.

وذكر نحو ذلك الحافظ في الإصابة وزاد: أنّ هذا اللفظ مقتطع من __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 306/ 4939.

(2) زاد المعاد 1: 76- 77.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 494

حديث آخر ادرج في هذا الحديث.

وفي الجملة هو وهم من أحد رواته.

وروي ابن مندة بسند ضعيف عن ابن عبّاس قال: إنّ أبابكر صحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، حتّي إذا نزل منزلًا فيه سدرة فقعد في ظلّها، ومضي أبوبكر إلي راهب يقال له بحيرا يسأله عن شي ء، فقال له: من الرجل الذي في ظلّ السّدرة؟ فقال له: محمّد بن عبداللَّه بن عبدالمطّلب. فقال له: هذا واللَّه نبيّ هذه الامّة، ما استظلّ تحتها بعد عيسي بن مريم إلّامحمّد، وذكر الحديث.

قال الحافظ: فهذا- إن صحّ- يحتمل أن يكون في سفرة اخري بعد سفرة أبي طالب.

وذكر نحوه في الزهر وزاد: وقول ابن دحية يمكن أن يكون أبوبكر استأجر بلالًا حينئذ، أو يكون اميّة بن خلف بعثه، غير جيّد لأمرين: أحدهما:

إنّ أبابكر لم يكن معهم ولا كان في سنّ من يملك، وذكر نحو ما سبق في سنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم إذ ذاك، ثانيهما: إنّ بلالًا كان أصغر من أبي بكر، فلا يتّجه ما قاله بحال» «1».

وقال الدياربكري بعد ذكر هذا الحديث: «وفي حياة الحيوان: قال الحافظ الدمياطي: وفي الحديث وهم في قوله: وبعث معه أبوبكر بلالًا، إذ

لم يكونا معه ولم يكن بلال أسلم، ولا ملكه أبوبكر، بل كان أبوبكر حينئذٍ لم يبلغ عشر سنين، ولم يملك أبوبكر بلالًا إلّابعد ذلك بأكثر من ثلاثين، وكذا ضعّفه __________________________________________________

(1) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 2: 144.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 495

الذهبي.

قال ابن حجر: رجال هذا الحديث ثقات، وليس فيه منكر سوي قوله:

وبعث معه أبوبكر …» «1».

وقال ابن سيّد الناس: «قلت: ليس في إسناد هذا الحديث إلّامن خرّج له في الصحيح، وعبدالرحمن بن غزوان- أبو نوح لقبه قراد- انفرد به البخاري، ويونس بن أبي إسحاق انفرد به مسلم. ومع ذلك ففيه نكارة، وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بلالًا، وكيف؟ وأبوبكر حينئذٍ لم يبلغ العشر سنين، فإنّ النبي أسنّ من أبي بكر بأزيد من عامين، وكانت للنبي يومئذٍ تسعة أعوام علي ما قاله أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري وغيره، أو اثنا عشر عاماً علي ما قاله آخرون.

وأيضاً: فإنّ بلالًا لم ينتقل لأبي بكر إلّابعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً، فإنّه كان لبني خلف الجمحيين، وعندما عذّب في اللَّه علي الإسلام اشتراه أبوبكر استنقاذاً له من أيديهم، وخبره بذلك مشهور» «2».

حديث الإئتمام بأبي بكر!! … ص: 495

ومن ذلك: الحديث في فضل أبي بكر، وهذه ألفاظ الترمذي: «حدّثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي، نا أحمد بن بشير، عن عيسي بن ميمون الأنصاري، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا ينبغي لقومٍ فيهم أبوبكر أن يؤمّهم غيره. هذا حديث __________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 1: 258- 259.

(2) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 108.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 496

غريب» «1».

وقد أدرج ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات إذ

قال: «الحديث الثالث عشر- أخبرنا محمّد بن عبدالباقي … حدّثنا أحمد بن بشير قال: حدّثنا عيسي بن ميمون، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة … قال المصنّف: هذا حديث موضوع علي رسول اللَّه. أمّا عيسي فقال البخاري: منكر الحديث.

وقال ابن حبّان: لا يحتجّ بروايته. وأمّا أحمد بن بشير، فقال يحيي: هو متروك» «2».

حديث إعزاز اللَّه الإسلام بعمر بن الخطّاب! … ص: 496

ومن ذلك: روايته: «حدّثنا محمّد بن بشار ومحمّد بن رافع قالا: نا أبو عامر العقدي، نا خارجة بن عبداللَّه الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: اللّهمّ أعزّ الإسلام بأحبّ هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطّاب. قال: وكان أحبّهما إليه عمر. هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر» «3».

وهذا الحديث كذّبته عائشة.

قال الحلبي: «ثمّ قالوا: يا ابن الخطّاب، إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم دعا فقال: اللّهمّ أعزّ الإسلام بأحبّ هذين الرجلين بأبي جهل وعمر بن الخطّاب، وفي رواية: بعمر من غير ذكر أبي جهل. وعن عائشة إنّها قالت: إنّما

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 5: 614/ 3673.

(2) كتاب الموضوعات 1: 318.

(3) صحيح الترمذي 5: 617/ 3681.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 497

قال رسول اللَّه: اللّهمّ أعزّ عمر بالإسلام، لأنّ الإسلام يُعِزّ ولا يُعز» «1».

وقال السيوطي: «ذكر أبوبكر التاريخي عن عكرمة أنّه سئل عن حديث:

اللّهمّ أيّد الإسلام. فقال: معاذ اللَّه، دين الإسلام أعزّ من ذلك، ولكنّه قال: أعزّ عمر بالدين أو أباجهل» «2».

حديث عدم صلاة النبي علي من مات مبغضاً لعثمان!! … ص: 497

ومن ذلك: حديثه كما في (التحفة الإثني عشرية) حيث قال: «روي الترمذي أنّه اتي بجنازةٍ إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فلم يصلّ عليه وقال: إنّه كان يبغض عثمان فأبغضه اللَّه» «3».

وقد أورده ابن الجوزي في كتاب الموضوعات، حيث قال: «الحديث الثاني: أخبرنا محمّد بن عبدالملك بن خيرون قال: أخبرنا إسماعيل بن مسعدة قال: أخبرنا حمزة بن يوسف قال: أنا أبو أحمد ابن عدي قال: حدّثنا عبدالكريم بن إبراهيم بن حيّان قال: ثنا الليث بن الحارث البخاري قال: حدّثنا عثمان بن زفر قال: حدّثنا محمّد بن زياد عن محمّد بن عجلان عن

أبي الزبير عن جابر: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم اتي بجنازة رجل، فلم يصلّ عليها، فقيل له: يا رسول اللَّه، ما رأيناك تركت الصلاة علي أحدٍ إلّاهذا. قال:

إنّه كان يبغض عثمان أبغضه اللَّه عزّ وجلّ.

طريق آخر: أخبرنا علي بن عبيداللَّه الزاغوني قال: أنا علي بن أحمد بن __________________________________________________

(1) السيرة الحلبية 1: 330.

(2) كتاب الموضوعات 1: 332.

(3) التحفة الإثني عشريّة عن سنن الترمذي 5: 588 كتاب المناقب، باب مناقب عثمان بن عفّان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 498

البندار قال: أنبأنا عبيداللَّه بن محمّد الفقيه قال: ثنا أبوبكر أحمد بن هشام الأنماطي قال: ثنا يحيي بن أبي طالب قال: ثنا أحمد بن عمران الأخنسي قال:

ثنا محمّد بن زياد قال: حدّثنا محمّد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر قال:

توفي رجل من الأنصار، فأتينا النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فأخبرناه بجنازته، فلم يصلّ عليه فدفناه، ثمّ رجعنا فقلنا قد دفنّاه يرحمه اللَّه، فلم يترحّم عليه.

فقلنا: يا رسول اللَّه ما أخبرناك بميّت إلّاصلّيت عليه وترحّمت عليه فما بال هذا؟ قال: إنّه كان يبغض عثمان، أبغضه اللَّه.

قال المصنّف: الطريقان علي محمّد بن زياد، قال أحمد بن حنبل: هو كذّاب خبيث يضع الحديث. وقال يحيي: كذّاب خبيث. وقال السعدي والدارقطني: كذّاب. وقال البخاري والنسائي والفلاس وأبو حاتم الرازي:

متروك الحديث. وقال ابن حبّان: كان يضع الحديث علي الثقات، لا يحلّ ذكره في الكتب إلّاعلي وجه القدح فيه» «1».

حديث نزول «لا تقربوا الصلاة …» الآية … ص: 498

ومن ذلك: الحديث الموضوع المفتري علي أميرالمؤمنين وسيّد الوصيّين وإمام المتقين … وهذه عبارة الترمذي: «حدّثنا عبد بن حميد، نا عبدالرحمن بن مسعد، عن أبي جعفر الرازي، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال:

صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا الخمر، فأخذت الخمر منّا، وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأت «قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون» ونحن نعبد ما

__________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات 1: 333.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 499

تعبدون. فأنزل اللَّه «يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتّي تعلموا ما تقولون» هذا حديث حسن غريب صحيح» «1».

وإنّ بطلان هذا البهتان واضح من جهات:

1- إنّه يلزم بناءً علي هذا الحديث المكذوب أن يكون أميرالمؤمنين- والعياذ باللَّه- مرتكباً لشرب الخمر بعد نزول تحريمه في الكتاب، لأنّ تحريمه نازل قبل نزول الآية «يا أيّها الذين آمنوا …» التي زعم المفتري نزولها في هذه القضيّة، ولو أنّ المتعصّبين لا يقولون بعصمة مولانا أميرالمؤمنين، فإنّهم يقولون بعدالته ولو لساناً، فكيف يمكنهم تصديق هذا البهتان؟

أمّا أن تحريم الخمر كان قبل نزول الآية المذكورة، فلا يخفي علي المتتبّعين، لأنّ العلماء ينصّون علي نزول الآية «يسألونك عن الخمر …» قبل «يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا …» الآية … فقد جاء بتفسير النسفي ما نصّه:

«نزل في الخمر أربع آيات، نزل بمكة: «ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكراً» وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، ثمّ إنّ عمر ونفراً من الصحابة قالوا: يا رسول اللَّه، أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل «يسألونك عن الخمر والميسر» فشربها قوم وتركها آخرون، ثمّ دعا عبدالرحمن بن عوف جماعةً فشربوا وسكروا، فأمَّ بعضهم فقرأ: قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون، فنزل: «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري» فقلَّ من يشربها، ثمّ دعا عتبان بن مالك جماعةً، فلمّا سكروا منها تخاصموا وتضاربوا، فقال عمر: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل «إنّما الخمر

__________________________________________________

(1) صحيح

الترمذي 5: 238/ 3026.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 500

والميسر- إلي قوله- فهل أنتم منتهون» فقال عمر: انتهينا يا رب» «1».

وقال الجصّاص في بيان دلالة: «يسألونك عن الخمر …» الآية علي حرمة الخمر: «باب تحريم الخمر، قال اللَّه تعالي «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما» وهذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر، لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافيةً مغنية، وذلك لقوله: «قل فيهما إثم كبير» والإثم كلّه محرَّم بقوله تعالي: «قل حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم» فأخبر أنّ الإثم محرَّم، ولم يقتصر علي إخباره بأنّ فيهما إثماً حتّي وصفه بأنّه كبير، تأكيداً لحظرهما.

وقوله «منافع للناس» لا دلالة فيه علي إباحتها، لأنّ المراد منافع الدنيا، وإنّ في سائر المحرّمات منافع لمرتكبيها في دنياهم، إلّاأنّ تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحق بارتكابها، فذكره لمنافعها غير دالّ لإباحتها، لاسيّما وقد أكّد حظرها بقوله في سياق الآية «وإثمهما أكبر من نفعهما» يعني: إنّ ما يستحقّ بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي يبتغي منهما» «2».

2- لقد روي الحاكم هذا الخبر بإسنادٍ له من طريق أحمد عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي عليه السلام، وفيه أنّ الذي أمّهم وقرأ كذلك هو عبدالرحمن بن عوف فنزلت الآية، قال في المستدرك:

«حدّثنا أبو عبداللَّه محمّد بن يعقوب الحافظ، ثنا علي بن الحسن، ثنا

__________________________________________________

(1) تفسير النسفي 1: 120- 121.

(2) أحكام القرآن 1: 322.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 501

عبداللَّه بن الوليد، ثنا سفيان، حدّثنا أبو زكريّا يحيي بن محمّد العنبري، ثنا أبو عبداللَّه البوشنجي، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب

عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي رضي اللَّه عنه قال: دعانا رجل من الأنصار قبل أنْ تحرم الخمر، فتقدّم عبدالرحمن بن عوف فصلّي بهم المغرب فقرأ «قل يا أيّها الكافرون» فالتبس عليه فيها فنزلت «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري». هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «1».

فانظر كيف حرّف النواصب هذا الحديث، ووضعوا اسم أميرالمؤمنين في مكان عبدالرحمان؟

3- إنّه حتّي لو كانت القصّة قبل تحريم الخمر، فلا ريب في كونها مفتراة، لأنّ شرب الخمر كان قبيحاً عند أهل العقل والدّين، كما أنّ جعفر بن أبي طالب لم يشربه قط، لا في الجاهليّة ولا في الإسلام، قال: «لأنّي رأيتها تذهب العقول، وكنت إلي زيادة العقل أحوج من نقصانه».

فهل يعقل أن يدرك جعفر هذه الحقيقة ولا يدركها أميرالمؤمنين، وهو أفضل وأعقل وأفهم من جعفر بالقطع واليقين؟

وقد ذكر مثل ذلك عن قصي، كما في (السيرة الحلبيّة) قال:

«ولمّا احتضر قال لأولاده: اجتنبوا الخمرة، فإنّها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان» «2».

وقال صاحب (المستطرف) في الخمر:

«وممّن تركها في الجاهلية: عبداللَّه بن جدعان، وكان جواداً من سادات قريش، وذلك أنّه شرب مع اميّة بن الصّلت الثقفي، فضربه علي عينه،

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 4: 142.

(2) السيرة الحلبية 1: 13.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 502

فأصبحت عين اميّة مخضرّةً يخاف عليها الذهاب، فقال له عبداللَّه: ما بال عينك؟ فسكت، فألحّ عليه، فقال: ألست ضاربها بالأمس؟ فقال: أو بلغ منّي الشراب ما أبلغ معه إلي هذا؟ لا أشربها بعد اليوم، ثمّ دفع له عشرة درهم وقال: الخمر عليّ حرام لا أذوقها بعد اليوم أبداً.

وممّن حرّمها في الجاهليّة أيضاً: قيس بن عاصم، وذلك أنّه سكر ذات ليلة فقام لابنته أو لُاخته، فهربت منه، فلمّا أصبح سأل عنها فقيل

له: أوما علمت ما صنعت البارحة، فأخبر القصّة، فحرّم الخمر علي نفسه.

وممّن حرّمها في الجاهليّة أيضاً: العبّاس بن مرداس وقيس بن عاصم، وذلك أنّ قيساً شرب ذات ليلة، فجعل يتناول القمر ويقول: واللَّه لا أبرح حتّي أنزله، ثمّ يثب الوثبة بعد الوثبة ويقع علي وجهه، فلمّا أصبح وأفاق قال: مالي هكذا، فأخبروه بالقصة، فقال: واللَّه لا أشربها أبداً. وقيل للعبّاس بن مرداس:

لم تركت الشراب وهو يزيد في سماحتك؟ فقال: أكره أن أصبح سيّد قومي وامسي سفيههم» «1».

4- إنّه قد صرّح الإمام عليه السلام باجتنابه الخمر مطلقاً، فيما رواه الحافظ ابن شهر آشوب السروي «2» عن تفسير القطّان، عن عمر بن حمران،

__________________________________________________

(1) المستظرف من كلّ فنّ مستطرف 2: 261.

(2) هو: محمّد بن علي بن شهرآشوب، أبو جعفر السروي المتوفي سنة 588، ترجم له الصفدي (الوافي بالوفيات 4: 164). قال: «أحد شيوخ الشيعة، حفظ أكثر القرآن وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في اصول الشيعة، كان يرحل إليه من البلاد، ثمّ تقدّم في علم القرآن والغريب والنحو، ووعظ علي المنبر أيّام المقتفي ببغداد فأعجبه وخلع عليه، وكان بهيّ المنظر حسن الوجه والشيبة، صدوق اللهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجّد، لا يكون إلّاعلي وضوء».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 503

عن سعيد، عن قتادة عن الحسن البصري قال:

اجتمع عثمان بن مظعون وأبو طلحة وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسهيل ابن بيضاء وأبو دجانة في منزل سعد بن أبي وقّاص، فأكلوا شيئاً، ثمّ قدّم إليهم شيئاً من الفضيخ، فقام علي وخرج من بينهم، فقال عثمان في ذلك، فقال علي: لعن اللَّه الخمر، واللَّه لا أشرب شيئاً يذهب بعقلي، ويضحك بي من رآني، وازوّج كريمتي من لا اريد،

وخرج من بينهم فأتي المسجد، وهبط جبرئيل بهذه الآية «يا أيّها الذين آمنوا» يعني هؤلاء الذين اجتمعوا في منزل سعد «إنّما الخمر والميسر …» الآية. فقال علي: تبّاً لهما، واللَّه يا رسول اللَّه، لقد كان بصري فيها نافذاً منذ كنت صغيراً. قال الحسن: واللَّه الذي لا إله إلّا هو، ما شربها قبل تحريمها ولا ساعة قط» «1».

5- لقد سعي القوم سعياً حثيثاً وراء تبرئة أبي بكر وتنزيهه من شرب الخمر، ولو قبل التحريم، حتّي قال الحكيم الترمذي في كتاب (نوادر الاصول): «من الحديث الذي تنكره القلوب: حديث رووه عن عوف، عن أبي القموص قال: شرب أبوبكر الخمر- يعني من قبل نزول تحريمها- فقعد ينوح علي قتلي بدر وهو يقول:

تحيّي بالسلامة ام بكر وهل لك بعد رهطك من سلام ذريني أصطبح يا ام بكر رأيت الموت نقّب عن هشام فنقب عن أبيك وكان قرماً من الأشرافِ شرّاب المدام وودّ بنو المغيرة لو فدوه بألفٍ من رجال أو سوام كأنّي بالطوي طوي بدر من الفتيان والخيل الكرام فبلغ ذلك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فخرج يجرّ ثوبه من الفزع حتّي أتاه، فدفع عليه شيئاً في يده، فقال أبوبكر: أعوذ باللَّه من غضب اللَّه وغضب رسول اللَّه، فانزلت «يا أيّها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر …» الآية.

وزاد غيره في الأبيات:

يخبرنا رسول اللَّه بأن سنحيي فكيف حياة أصلاء وهام فهذا منكر من القول والفعل، وقد أعاذ اللَّه الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله، وإنْ كان قبل التحريم …» «1».

أقول:

فكيف ينسب الترمذي هذا الفعل الشنيع إلي أفضل الصدّيقين وإمام المتقين؟

وفي (الرياض النضرة) «عن أبي العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكر في مجمع من أصحاب رسول اللَّه: هل شربت الخمر

في الجاهلية؟ قال: أعوذ باللَّه. فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي وأحفظ مالي، فمن شرب الخمر كان مضيّعاً في عرضه ومروّته، فبلغ ذلك النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال:

صدق أبوبكر- مرّتين. أخرجه الدارمي» «2».

ومن هذا أيضاً يظهر شناعة الفرية التي افتراها الترمذي …

أقول:

لكنّ الحقيقة هي أنّ هؤلاء كانوا يشربون الخمر، فلمّا رأي المتعصّبون لهم ذلك، عمدوا إلي نسبة الشرب إلي أميرالمؤمنين حمايةً لهم وتغطيةً علي __________________________________________________

(1) نوادر الاصول، وقد حذفته الأيدي الأثيمة لكونه ممّا تنكره القلوب!!

(2) الرياض النضرة في مناقب العشرة 1: 201.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 505

مساويهم، وهذا هو السبب الأصلي لوضع حديث الترمذي …

لقد خرج البزّار وابن مردويه والفاكهي وغيرهم خبر شرب أبي بكر، واضطرّ ابن حجر للإعتراف بثبوت الخبر … قال البخاري: «حدّثنا إسماعيل بن عبداللَّه قال: حدّثني مالك بن أنس، عن إسحاق بن عبداللَّه بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أباعبيدة وأبا طلحة وابي بن كعب من فضيخ زهو وتمر، فجاءهم آتٍ فقال: إنّ الخمر قد حُرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها.

حدّثنا مسدّد قال: حدّثنا معتمر عن أبيه قال: سمعت أنساً قال: كنت قائماً علي الحيّ أسقيهم عمومتي وأنا أصغرهم الفضيخ، فقيل: حُرمت الخمر.

فقالوا: أكفأها فكفأناها. قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: رطب وبسر. فقال أبوبكر بن أنس: وكانت خمرهم، فلم ينكر أنس».

فقال ابن حجر بشرح الحديث الأوّل ما نصّه:

«قوله: كنت أسقي أباعبيدة هو ابن الجرّاح، وأمّا أبو طلحة هو زيد بن سهل زوج ام سليم ام أنس. وابي بن كعب. كذا اقتصر في هذه الرواية علي هؤلاء الثلاثة، فأمّا أبو طلحة، فلكون القصّة كانت في منزله كما مضي في التفسير من طريق

ثابت عن أنس: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة. وأمّا أبو عبيدة فلأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم آخي بينه وبين أبي طلحة، كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس، وأمّا ابي بن كعب، فكان كبير الأنصار وعالمهم.

ووقع في رواية عبدالعزيز بن صهيب عن أنس في تفسير المائدة: إنّي لقائم أسقي أباطلحة وفلاناً وفلاناً، كذا وقع بالإبهام.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 506

وسمّي في رواية مسلم منهم: أبا أيّوب.

وسيأتي- بعد أبواب- من رواية هشام عن قتادة عن أنس: إنّي لأسقي أباطلحة وأبادجانة وسهيل بن بيضاء. وأبو دجانة بضمّ المهملة وتخفيف الجيم وبعد الألف نون اسمه سماك بن خرشة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات.

ولمسلم من طريق سعيد عن قتادة نحوه، وسمّي فيهم معاذ بن جبل.

ولأحمد عن يحيي القطّان عن حميد عن أنس: كنت أسقي أباعبيدة وابي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة.

ووقع عند عبدالرزاق عن معمر عن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس: أنّ القوم كانوا أحد عشر رجلًا.

وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم، وأنّهم هم في رواية سليمان التيمي عن أنس وهي في هذا الباب ولفظه: كنت قائماً علي الحي أسقيهم عمومتي، موضع خفض علي البدل من قوله الحي، وأطلق عليهم عمومته، لأنّهم كانوا أسنّ منه، ولأنّ أكثرهم من الأنصار.

ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره، من طريق عيسي بن طهمان عن أنس: أنّ أبابكر وعمر كانا فيهم، وهو منكر مع نظافة سنده، وما أظنّه إلّاغلطاً.

وقد أخرج أبو نعيم في الحلية، في ترجمة شعبة، من حديث عائشة قالت: حرّم أبوبكر الخمر علي نفسه، فلم يشربها في جاهليّة ولا إسلام.

ويحتمل- إن كان محفوظاً- أن يكون أبوبكر وعمر زارا

أباطلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 507

ثمّ وجدت عند البزّار من وجه آخر عن أنس قال: كنت ساقي القوم، وكان في القوم رجل يقال له أبوبكر، فلمّا شرب قال: تحيي بالسلامة امّ بكر …

الأبيات.

فدخل علينا رجل من المسلمين فقال: قد نزل تحريم الخمر، الحديث.

وأبوبكر هذا يقال له ابن شعوب فظنّ بعضهم أنّه أبوبكر الصدّيق وليس كذلك، لكن قرينة ذكر عمر تدلّ علي عدم الغلط في وصف الصدّيق، وفي كتاب مكّة للفاكهي من طريق مرسل ما يشدّ ذلك.

فحصلنا علي تسمية عشر، وقد قدّمت في غزوة بدر من المغازي ترجمة أبي بكر بن شعوب المذكور» «1».

وقد علم ممّا رواه ابن حجر شرب عمر أيضاً.

وفي (المستطرف) في الباب الرابع والسّبعين، في ذم الخمر وتحريمه:

«أنزل اللَّه تعالي في الخمر ثلاث آيات. الاولي قوله تعالي: «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما» فكان في المسلمين من شاربٍ ومن تارك، إلي أنْ شربها رجل ودخل في الصلاة فهجر، فنزل قوله تعالي «يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري» فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها، حتّي شربها عمر، فأخذ بلحي بعيرٍ فشجّ به رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح علي قتلي بدر بشعر الأسود بن يعفر، وهو:

وكاين بالقليب قليب بدر من الفتيان والشرب الكرام أيوعدني ابن كبشة أن سنحيي وكيف حياة أصداء وهام __________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 10: 30- 31.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 508

أيعجز أن يردّ الموت عنّي وينشرني إذا بليت عظامي ألا من مبلغ الرحمن عنّي بأنّي تارك شهر الصيام فقل للَّه يمنعني شرابي وقل للَّه يمنعني طعامي فبلغ ذلك

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فخرج مغضباً يجرّ رداءه، فرفع شيئاً كان في يده، فضربه به، فقال: أعوذ باللَّه من غضب اللَّه وغضب رسوله، فأنزل اللَّه تعالي: «إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللَّه وعن الصلاة فهم أنتم منتهون».

فقال عمر: انتهينا انتهينا» «1».

هذا، وقد نصّ الجصّاص علي دلالة الآية «يسألونك عن الخمر …»

علي التحريم، وعلي أنّ عمر كان يعلم بدلالتها علي الحرمة، حيث قال في (أحكام القرآن):

«قوله: «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير» قال: الميسر هو القمار، كان الرجل في الجاهليّة يخاطر علي أهله وماله. قال: وقوله «ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتّي تعلموا ما تقولون» قال: كانوا لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلّوا العشاء شربوها فقابلوا بعضهم بعضاً وتكلّموا بما لا يرضي اللَّه، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ «إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه». قال: فالميسر القمار، والأنصاب الأوثان، والأزلام القداح كانوا يستقسمون بها.

قال: وحدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا عبدالرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: قال عمر: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر،

__________________________________________________

(1) المستطرف من كلّ فنّ مستظرف 2: 260.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 509

فنزلت: «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتّي تعلموا ما تقولون» فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر، فنزلت: «قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما» فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر، فنزلت: «إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون- إلي قوله- فهل أنتم منتهون» فقال عمر: انتهينا، إنّها تذهب المال وتذهب العقل.

قال: وحدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا هشيم قال: أخبرنا المغيرة عن أبي

رزين قال: شربت الخمر بعد الآية التي في البقرة وبعد الآية التي في النساء، فكانوا يشربونها حتّي يحضر الصلاة فإذا حضرت تركوها، ثمّ حرمت في المائدة في قوله: «فهل أنتم منتهون» فانتهي القوم عنها فلم يعودوا فيها.

فمن الناس من يظنّ أنّ قوله: «قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس» لم يدلّ علي التحريم لأنّه لو كان دالّاً لما شربوه، ولما أقرّهم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولما سأل عمر البيان بعده، وليس هذا كذلك عندنا، لأنّه جائز أن يكونوا تأوّلوا في قوله «ومنافع للناس» جواز استباحة منافعها بأنّ الإثم مقصور علي بعض الأحوال دون بعض، فإنّما ذهبوا عن حكم الآية بالتأويل.

وأمّا قوله إنّها لو كانت حراماً لما أقرّهم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم علي شربها، فإنّه ليس في شي ء من الأخبار علم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بشربها ولا إقرارهم بعد علمه، وأمّا سؤال عمر بياناً بعد نزول هذه الآية، فإنّه كان للتأويل فيه مساغ، وقد علم هو وجه دلالتها علي التحريم، ولكنّه سأل بياناً يزول معه احتمال التأويل، فأنزل اللَّه تعالي: «إنّما الخمر والميسر» الآية» «1».

وقال الزمخشري في (ربيع الأبرار):

__________________________________________________

(1) أحكام القرآن للجصّاص 1: 322- 324.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 510

«أنزل اللَّه سبحانه وتعالي في الخمر ثلاث آيات، أوّلها: «يسألونك عن الخمر والميسر» فكان المسلمون بين شاربٍ وتارك، إلي أنْ شربها رجل ودخل في صلاته فهجر، فنزلت «يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري» فشربها من شربها من المسلمين، حتّي شربها عمر بن الخطّاب، فأخذ بلحي بعير فشجّ رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح علي قتلي بدر بشعر الأسود بن يعفر:

وكاين بالقليب قليب بدر …».

فذكر الزمخشري الشعر كلّه، وأنّه بلغ

ذلك رسول اللَّه … فأنزل اللَّه «إنّما يريد الشيطان …».

فقال عمر: انتهينا انتهينا» «1».

فعلم أنّ الآية «يسألونك …» دالّة علي التحريم، وأنّ عمر شرب بعد نزولها وهو عالم بدلالتها علي ذلك …

والخمر كانت محرّمةً في سائر الشرائع أيضاً، كما روي الفقيه أبوالليث السمرقندي في كتابه (تنبيه الغافلين):

«عن عطاء بن يسار: إنّ رجلًا سأل كعب الأحبار: هل حرّمت الخمر في التوراة؟ قال: نعم، هذه الآية: «إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام …»

مكتوبة في التوراة: إنّما انزل بالحقّ ليذهب الباطل ويبطل اللعب والدفّ والمزامير وهو الرقص، والخمر وهي مرّة، أي فتنة لشاربها، أقسم اللَّه بعزّته وجلاله لمن انتهكها أي ذاقها واستعملها في الدنيا لأعطشنّه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرّمتها إلّاسقيته إيّاها في حظيرة القدس. قيل: وما حظيرة

__________________________________________________

(1) ربيع الأبرار 4: 51 وما بعدها.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 511

القدس؟ قال اللَّه تعالي: القدس وحظيرته الجنّة».

وأيضاً: روي عن أويس بن سمعان أنّه قال للنبي: «والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي لأجد في التوراة أنّ الخمر محرّمة خمساً وعشرين مرّة، وويل لشارب الخمر، وحقّ علي اللَّه أن لا يشربها عبد من عبيده في الدنيا إلّاسقاه اللَّه تعالي من طينة الخبال».

وأيضاً: روي عن عائشة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «من أطعم شارب الخمر لقمة سلّط اللَّه علي جسده حيّة وعقرباً، ومن قضي له حاجة فقد أعان علي هدم الإسلام، ومن أقرضه قرضاً فقد أعان علي قتل مؤمن، ومن جالسه حشره اللَّه يوم القيامة أعمي لا حجّة له، ومن شرب الخمر فلا تزوّجوه فإن مرض فلا تعودوه، فوالذي بعثني بالحقّ نبيّاً إنّه ما يشرب الخمر إلّا ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن شرب الخمر

فقد كفر بجميع ما أنزل اللَّه تعالي علي أنبيائه، ولا يستحلّ الخمر إلّا كافر، ومن استحلّ الخمر فأنا بري ء منه في الدنيا والآخرة» «1».

وقال الحاكم: «حدّثنا علي بن جمشاد العدل، ثنا عبيد بن شريك، ثنا سعيد بن مريم، أنبأ الدراوردي، حدّثني داود بن صالح، عن سالم بن عبداللَّه ابن عمر، عن أبيه: أنّ أبابكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنهما أو ناساً من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جلسوا بعد وفاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم ينتهون إليه، فأرسلوني إلي عبداللَّه بن عمر وأسأله عن ذلك، فأخبرني أنّ أعظم الكبائر شرب الخمر فأخبرتهم فأنكروا ذلك ووثبوا إليه جميعاً في داره،

__________________________________________________

(1) تنبيه الغافلين: 148.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 512

فأخبرهم أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ ملكاً من ملك بني إسرائيل أخذ رجلًا فخيّره: بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفساً أو يزني أو يأكل لحم الخنزير أو يقتلوه إن أبي، فاختار أن يشرب الخمر، وإنّه لمّا شرب لم يمتنع من شي ء أراد منه …» «1».

هذا، وما اكتفي القوم بنسبة شرب الخمر إلي أميرالمؤمنين عليه السلام، بل نسبوا ذلك إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أيضاً- والعياذ باللَّه- جاء ذلك في كتاب (مدارج النبوّة) للشيخ عبدالحق الدهلوي، في كلامٍ له حول «مسجد الفضيخ» بالمدينة المنوّرة، وهو مسجد ردّ الشمس، فقال في بيان سبب تسميته بالاسم المذكور:

«وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: أنّه قد اتي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في هذا الموضع بكوزٍ فيه فضيخ فشربه، فسمّي بمسجد الفضيخ لذلك» «2».

ونعوذ باللَّه من هذا

الكذب الصريح والبهتان القبيح والإفتراء الفضيح …

فانظر إلي هؤلاء القوم، كيف يحاولون صيانة أئمّتهم وحمايتهم من المعائب والمثالب، حتّي لا يمنعهم ذلك من نسبة شنائعهم وفظائعهم إلي النبي والوصي …؟ …

ثمّ ألجأهم ذلك إلي الفتيا بجواز شرب الخمر للتقوّي … قال سعد بن عيسي بن أميرخان المفتي في (حاشية العناية): «ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرجل صالحاً في اموره، تغلب حسناته سيّئاته، ولا يعرف بالكذب ولا

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 4: 147.

(2) مدارج النبوة: 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 513

شي ء من الكبائر غير أنّه يشرب الخمر أحياناً، لصحّة البدن والتقوّي لا للتلهّي، يكون عدلًا، وعامّة مشايخنا علي أنّه لا يكون عدلًا، لأنّ شرب الخمر يكون كبيرةً محضة وإنْ كانت للتداوي».

الجزء (3)

صحيحُ أبي داود … ص: 7

اشارة

الذي يصلح لأنْ يسمّي «زبور أهل السنّة والجماعة» لأنّهم قد شبّهوا مصنّفه بداود عليه السلام فقالوا: «الين له الحديث كما الين لداود الحديد» لكنّهم جعلوا سننه ك «المصحف» كما في (فيض القدير) قال: «أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الشافعي، أخذ عن أحمد وخلق، وعنه الترمذي ومن لا يحصي، ولد سنة 202 ومات سنة 275، قالوا: ألين له الحديث كما ألين لداود الحديد. وقال بعض الأعلام: سننه ام الأحكام، ولمّا صنّفه صار لأهل الحديث كالمصحف» «1» … وعليه، فهو أجلّ من أنْ يلقّب ب «الزبور»!!

وترجم له النووي، فأورد كلماتهم في مدحه والثناء علي كتابه، قال:

«أبو داود السجستاني، صاحب السنن … روي عنه: الترمذي والنسائي وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني … واتفق العلماء علي الثناء علي أبي داود ووصفه بالحفظ التام والعلم الوافي والإتقان والورع والدين والفهم الثاقب في الحديث وغيره.

روينا عن الحافظ أحمد بن محمّد بن ياسين الهروي قال: كان أبو داود أحد

حفّاظ الإسلام لحديث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وعلمه وعلله وسنده، في أعلي درجة النسك والعفاف والورع، ومن فرسان الحديث.

__________________________________________________

(1)

فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 24- 25.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 8

وقال الحاكم أبوعبداللَّه: كان أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة.

قال علّان بن عبدالصمد: كان أبو داود من فرسان هذا الشأن.

روينا عن موسي بن هارون قال: خلق أبو داود في الدنيا للحديث وفي الآخرة للجنّة.

وقال أبو حاتم ابن حبّان: أبو داود أحد أئمّة الدنيا فقهاً وعلماً وحفظاً ونسكاً وإتقاناً، جمع وصنّف وذبّ عن السنن.

وروينا عن إبراهيم الحربي قال لمّا صنّف أبو داود هذا الكتاب- يعني كتاب السنن-: الين لأبي داود الحديث كما الين لداود الحديد.

وروينا عن أبي عبداللَّه محمّد بن مخلد قال: كان أبو داود يفي بمذاكرة ألف حديث، فلمّا صنّف كتاب السنن وقرأه علي الناس، صار كتابه لأصحاب الحديث كالمصحف، يتبعونه ولا يخالفونه، وأقرّ له أهل زمانه بالحفظ والتقدّم فيه.

وروينا عن الإمام أبي سليمان الحربي قال: سمعت أباسعيد ابن الأعرابي- ونحن نسمع منه كتاب السنن لأبي داود، وأشار إلي النسخة وهي بين يديه- يقول: لو أنّ رجلًا لم يكن عنده من العلم إلّاالمصحف ثمّ هذا الكتاب، لم يحتج معهما إلي شي ء من العلم ألبتّة. قال الخطابي: وهذا كما قال …

قال الخطابي: واعلموا- رحمكم اللَّه- أنّ كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنَّف في حكم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من الناس كافّة، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء علي اختلاف مذاهبهم، وعليه معوَّل أهل العراق ومصر والمغرب وكثير من أقطار الأرض …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 9

ومناقب أبي داود وكتابه كثيرة مشهورة،

وفيما أشرت إليه كفاية.

ولد أبو داود سنة 102.

وتوفي بالبصرة، لأربع عشرة بقيت من شوال، سنة 275» «1».

وقال ابن الأثير: «قال أبو سليمان الخطابي: كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنَّف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من كافّة الناس علي اختلاف مذاهبهم، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء، فلكلٍّ فيه ورد ومنه شرب، وعليه معوَّل أهل العراق ومصر وبلاد الغرب وكثير من مدن أقطار الأرض … وحلّ هذا الكتاب عند أئمّة الحديث وعلماء الحديث محلّ العجب، فضربت إليه أكباد الإبل ودامت إليه الرحل.

قال إبراهيم الحربي لمّا صنّف أبو داود هذا الكتاب: الين لأبي داود الحديث كما الين لداود عليه السلام الحديد. وقال ابن الأعرابي عن كتاب أبي داود: ولو أنّ رجلًا لم يكن عنده من العلم إلّاالمصحف الذي فيه كتاب اللَّه عزّ وجلّ ثمّ هذا الكتاب، لم يحتج معهما إلي شي ء من العلم ألبتّة» «2».

قدح العلماء في أحاديث سنن أبي داود … ص: 9

ومع هذا كلّه، فقد طعن علماء القوم في كثيرٍ من أحاديث كتاب أبي داود:

قال الذهبي في (الميزان):

«جعفر بن سعد بن سمرة، عن أبيه، وعنه سليمان بن موسي وغيره، له __________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 2/ 224- 227.

(2) جامع الاصول 1: 192.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 10

حديث في الزكاة عن ابن عمٍّ له، ردّه ابن حزم فقال: هما مجهولان.

قلت: ابن عمّه هو حبيب بن سليمان بن سمرة، يجهل حاله، عن أبيه، قال القطّان: ما من هؤلاء من يعرف حاله، وقد جهد المحدّثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروي به جماعة، قد ذكر البزار منها نحو المائة. وقال عبدالحق الأزدي: حبيب ضعيف، وليس جعفر ممّن يعتمد عليه.

قلت: فممّا ورد بهذا السند: أمر عليه السلام ببناء المساجد وتصلح ضعفها،

وحديث: أمرنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أن نخرج الزكاة من الذي نعدّه للبيع، وقال عليه السلام: من يكتم- فإنّه مثله.

ففي سنن أبي داود من ذلك ستّة أحاديث بسند وهو: حدّثنا محمّد بن داود، ثنا يحيي بن حسّان، عن سليمان بن موسي، عن جعفر، عن ابن عمّه حبيب عن أبيه عن جدّه. فسليمان هذا زهري من أهل الكوفة ليس بالمشهور، وبكلّ حال، هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم» «1».

وقال: «أبو عبدالرحمن الخراساني إسحاق، مرّ، ومن مناكيره في سنن أبي داود، حدّثنا عطاء الخراساني: إنّ نافعاً حدّثه عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد، سلّط اللَّه عليكم ذلّاً لا ينزعه حتّي ترجعوا إلي دينكم.

فهذا هو إسحاق بن أسيد، سكن مصر، روي عنه هذا الخبر حيوة بن شريح. قال ابن أبي حاتم: ليس هو بالمشهور. وقال أبو حاتم: لا يشتغل به» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 135/ 1506.

(2) ميزان الاعتدال 7: 393/ 10386.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 11

الموضوعات في سنن أبي داود … ص: 11

وإلي جنب تلك الأحاديث المقدوح فيها، أحاديثٌ حكم العلماء عليها بالوضع:

(منها): قال: «حدّثنا عبدالرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري، ثنا موسي بن عبدالعزيز، ثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عبّاس: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال للعبّاس بن عبدالمطّلب: يا عبّاس يا عم، ألا اعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك، ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر اللَّه لك ذنبك أوّله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سرّه وعلانيته؟ عشر خصال: أن تصلّي أربع ركعات، تقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أوّل ركعة

وأنت قائم قلت: سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلّااللَّه واللَّه أكبر، خمس عشرة مرّة، ثمّ تركع وتقولها وأنت راكع عشر مرّات، ثمّ ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثمّ تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثمّ ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثمّ تسجد فتقولها عشراً، ثمّ ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون، في كلّ ركعةٍ تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصلّيها في كلّ يوم مرّة فافعل، فإن لم تفعل ففي كلّ جمعةٍ مرّةً، فإن لم تفعل ففي كلّ شهر مرّةً، فإن لم تفعل ففي كلّ سنةٍ مرّة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرّة» «1».

__________________________________________________

(1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، صلاة التسبيح 2: 46- 47/ 1297.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 12

وهذا الحديث أدرجه ابن الجوزي في (كتاب الموضوعات)، لأنّ موسي ابن عبدالعزيز مجهول «1».

وقد ترجم الذهبي هذا الرجل في (الميزان) قال:

«دق، موسي بن عبدالعزيز، أبو شعيب العدني القنباري، ما أعلمه روي عن غير الحكم بن أبان، فذكر صلاة التسبيح، روي عنه بشر بن الحكم وابنه عبدالرحمن بن بشر وإسحاق بن أبي إسرائيل، وغيرهم. لم يذكره أحد في كتب الضعفاء أبداً، ولكن ما هو الحجّة؟ قال ابن معين: لا أري به بأساً، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن حبّان: ربّما أخطأ، وقال أبوالفضل السليماني: منكر الحديث، وقال ابن المديني: ضعيف.

قلت: حديثه من المنكرات، لاسيّما والحكم بن أبان ليس أيضاً بالثبت» «2».

(ومنها) قال: «حدّثنا موسي بن إسماعيل قال: أخبرني أبوبكرة بكّار بن عبدالعزيز قال: أخبرتني عمّتي كيسة بنت أبي بكرة: إنّ أباها كان ينهي أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم عن رسول اللَّه: إنّ يوم الثلاثاء يوم الدم …» «3».

وهذا الحديث

أيضاً، أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) «4».

(ومنها) قال: «حدّثنا سعيد بن منصور، نا أبو معشر عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا تقطعوا

__________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات 2: 143.

(2) ميزان الاعتدال 6: 550/ 8900.

(3) سنن أبي داود 4: 128/ 3862.

(4) كتاب الموضوعات 3: 213.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 13

اللّحم بالسكّين فإنّه من صنع الأعاجم، وانهشوه نهشاً فإنّه أهنأ وأمرء» «1».

قال ابن القيّم: «وأمّا حديث عائشة الذي رواه أبو داود مرفوعاً: لا تقطعوا اللّحم بالسكّين فإنّه من صنيع الأعاجم، وانهشوه نهشاً فإنّه أهنأ وأمرء.

فردّه الإمام أحمد بما صحّ عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم من قطعه بالسكين، في حديثين، وقد تقدّما» «2».

وقد أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) «3».

(ومنها) قال: «حدّثنا موسي بن إسماعيل، نا عبدالعزيز بن أبي حازم، حدثني- بمني عن أبيه، عن ابن عمر عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

القدريّة مجوس هذه الامّة …» «4».

وقد أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) فقال:

«أخبرنا ابن السمرقندي قال: أخبرنا ابن مسعدة قال: أخبرنا حمزة قال:

حدّثنا ابن عدي قال: أنبأ أحمد بن جعفر بن محمّد البغدادي قال: حدّثنا سوار ابن عبداللَّه القاضي قال: حدّثنا معتمر بن سليمان قال: حدّثنا أبوالحسن- يعني يزيد بن هارون، كذا كنّاه- عن جعفر بن الحارث عن يزيد بن ميسرة عن عطاء الخراساني عن مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وعلي آله وسلّم:

إنّ لكلّ امّة مجوساً وإنّ مجوس هذه الامّة القدريّة؛ فلا تعودوهم إذا

__________________________________________________

(1) سنن أبي داود 4: 94/ 3778.

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد 4: 304.

(3) كتاب الموضوعات 2: 303.

(4) سنن أبي داود 5: 45/ 4691.

استخراج المرام من

استقصاء الافحام، ج 3، ص: 14

مرضوا، ولا تصلّوا عليهم إذا ماتوا.

قال المصنّف: وهذا لا يصحّ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. قال:

يحيي بن جعفر بن الحارث ليس بشي ء.

وقد روي عتبان بن ناقد عن أبي الأشهب النخعي، عن الأعمش، وعن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلّي اللَّه عليه وعلي آله وسلّم نحوه. قال أبو حاتم الرازي: عتبان مجهول، وهذا الحديث حديث باطل.

طريق آخر: أخبرنا علي بن عبدالواحد الدينوري قال: أنبأ علي بن عمران القزويني قال: حدّثنا محمّد بن علي بن سويد قال: ثنا أحمد بن محمّد العسكري قال: ثنا أبوالوليد عبدالملك بن يحيي بن عبداللَّه بن بكير قال: ثنا أبي قال: حدّثني الحسن بن عبداللَّه بن أبي عون الثقفي، عن رجا بن الحارث، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يكونون قدرية ثمّ يكونون زنادقة ثمّ يكونون مجوساً، وإنّ لكلّ امّة مجوساً وإنّ مجوس امّتي المكذّبة بالقدر؛ فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا يُتبع لهم جنازة.

قال المصنّف: هذا حديث لا يصحّ، وفيه مجاهيل. قال أبوعبدالرحمن النسائي: هذا الحديث باطل كذب» «1».

(ومنها) قال: «حدّثنا هارون بن عبداللَّه، نا ابن أبي فديك عن الضحّاك- يعني ابن عثمان- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة إنّها قالت: أرسل النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بام سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثمّ مضت فأفاضت، فكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول اللَّه تعني عندها» «2».

__________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات 1: 274- 275.

(2) سنن أبي داود 2: 329/ 1942.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 15

قال ابن القيّم: «وأمّا حديث عائشة: أرسل رسول اللَّه … رواه أبو داود، فحديث منكر، أنكره الإمام أحمد

وغيره. وممّا يدلّ علي إنكاره أنّ فيه: إنّ رسول اللَّه أمرها أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة، وفي رواية: توافيه، وكان يومها، فأحبّ أن توافيه، وهذا من المحال قطعاً. قال الأثرم: قال لي أبو عبداللَّه: ثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن زينب بنت ام سلمة أنّ النبي أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة. لم يسنده غيره، وهو خطأ. وقال وكيع عن أبيه مرسله: إنّ النبي أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، أو نحو هذا، وهذا عجب أيضاً، النبي يوم النحر وقت صلاة الصبح ما يصنع بمكة؟

ينكر ذلك» «1».

(ومنها) قال: «حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، نا حمّاد بن خالد، نا محمّد ابن عمرو، عن محمّد بن عبداللَّه، عن عمّه عبداللَّه بن زيد قال: أراد النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في الأذان أشياء لم يصنع منها شيئاً، قال: فاري عبداللَّه بن زيد الأذان في المنام، فأتي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فأخبره فقال: ألقه علي بلال فألقاه عليه، فأذّن بلال، فقال عبداللَّه: أنا اريته وأنا كنت أُريده، قال: فأقم أنت» «2».

وهذا الحديث كذّبه محمّد بن الحنفيّة كما في (السيرة الحلبية):

«عن أبي العلاء قال: قلت لمحمّد بن الحنفيّة: إنّا لنتحدّث أنّ بدء هذا الأذان كان رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، قال: ففزع له محمّد بن الحنفيّة فزعاً شديداً وقال: عمدتم إلي ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم __________________________________________________

(1) زاد المعاد 2: 249.

(2) سنن أبي داود 1: 250/ 512.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 16

دينكم، فزعمتم أنّه إنّما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب، وقد تكون أضغاث أحلام.

فقلت له: هذا الحديث قد استفاض في

الناس.

قال: هذا- واللَّه- هو الباطل. ثمّ قال:

وإنّما أخبرني أبي: أنّ جبرئيل عليه السلام أذّن في بيت المقدس ليلة الإسراء وأقام، ثمّ أعاد جبرئيل عليه السلام الأذان لمّا عرج بالنبي إلي السماء، فسمعه عبداللَّه بن زيد وعمر بن الخطّاب، وفي رواية عنه: إنّه لمّا انتهي إلي مكانٍ في السماء وقف به وبعث اللَّه ملكاً فقيل له: علّمه الأذان، فقال الملك:

اللَّه أكبر، فقال اللَّه: صدق عبدي أنا اللَّه الأكبر، إلي أن قال: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة..» «1».

وقد كذّب هذا أئمة أهل البيت عليهم السلام أيضاً، ففي (المستدرك) مثلًا:

«حدّثني نصر بن محمّد، ثنا أحمد بن محمّد بن سعيد الحافظ، ثنا أحمد بن يحيي البجلي، ثنا محمّد بن إسحاق البلخي، ثنا نوح بن دراج عن الأجلح عن الشعبي عن سفيان بن ليلي قال: لمّا كان من أمر الحسن بن علي ومعاوية ما كان قِدمته علي المدينة وهو جالس في أصحابه- فذكر الحديث بطوله- قال: فتذاكرنا عنده الأذان فقال بعضنا: إنّما كان بدء الأذان رؤيا عبداللَّه ابن زيد بن عاصم، فقال له الحسن بن علي: إنّ شأن الأذان أعظم من ذاك. أذّن جبرئيل عليه الصلاة والسلام في السماء مثني مثني، وعلّمه رسول اللَّه وأقام __________________________________________________

(1) السيرة الحلبية 2: 96.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 17

مرةً مرةً، فعلمه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم» «1».

(ومنها) الأحاديث التي كذّبها السراج القزويني «2» وحكم بوضعها، وهي في سنن أبي داود، ونقلها البغوي في المصابيح، ومنها:

«عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.

حدّثنا ابن بشّار أبو عامر وأبو داود قال: حدّثنا زهير بن محمّد، حدّثني موسي بن وردان، عن أبي هريرة أنّ النبي صلّي

اللَّه عليه وسلّم قال: الرجل علي دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل».

«حدّثنا محمّد بن كثير، أنا سفيان ثنا مصعب بن محمّد بن شرحبيل، حدّثني يعلي بن أبي يحيي، عن فاطمة بنت حسين، عن حسين بن علي قال:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: للسائل حقّ وإن جاء علي فرس».

«حدّثنا حمّاد عن محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم رأي رجلًا يتبع حمامة فقال: شيطان يتبع شيطانه».

«حدّثنا نصر بن علي: أخبرني أبو أحمد، ثنا سفيان، عن الحجّاج بن فراقِصَة عن رجل، عن أبي سلمة، وثنا محمّد بن المتوكّل العسقلاني، ثنا عبدالرزاق، أنا بشر بن رافع، عن يحيي بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: المؤمن غرّ كريم والفاجر

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 171.

(2) وهو: سراج الدين أبو حفص عمر بن عبدالرحمن القزويني المتوفي سنة 745.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 18

خبّ لئيم».

وأمّا حكم سراج الدين بوضع هذه الأحاديث، فقد قال حسن بن محمود بن عبدالمجيد الدجاني في (رسالته) «1» التي ذكر فيها الأحاديث التي انتقدها سراج الدين علي المصابيح ما هذا لفظه بنصّه:

أخبرني الشيخ العالم سراج الملّة والدين أبو حفص عمر بن علي بن عمر القزويني، المقرئ عليّ حين قراءتي كتاب المصابيح عليه قال: وقد وقع في هذا الكتاب- يعني كتاب المصابيح- أحاديث موضوعة.

فمن ذلك: في باب الإيمان بالقدر: صنفان من امّتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية، والقدرية مجوس هذه الامّة. إلي آخر الحديث.

وفي باب الأذان: اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله إلي آخره. وأمّا صدر هذا الحديث، وهو قوله

عليه الصلاة والسلام لبلال: إذا أذّنت فترسّل وإذا أقمت فاحدر، فليس بموضوع.

وفي باب التطوّع: صلاة التسبيح موضوع، نقله الشيخ سراج الدين عن الإمام أحمد بن حنبل وكثير من الأئمّة.

وفي باب البكاء علي الميّت: من عزّي مصاباً فله مثل أجره.

وفي باب فضائل القرآن: حديثان موضوعان، أحدهما: من شغله القرآن عن ذكري، والثاني: ألا إنّها ستكون فتنة.

وفي باب الإجارة: أعطوا السائل وإن جاء علي فرس. وأمّا صدر هذا الحديث: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه، فليس بموضوع.

وفي كتاب الحدود: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلّاالحدود.

__________________________________________________

(1)

ذكر السيّد رحمه اللَّه أنّ عنده نسخةً من هذه الرسالة وينقل عنها مباشرة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 19

وفي باب الترجّل: يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد كحواصل الحمام لا يجدون رائحة الجنّة.

وفي باب التصاوير: رأي رجلًا يتبع حمامة فقال: شيطان يتبع شيطاناً.

وفي كتاب الآداب: إذا كتب أحدكم كتاباً فليزيّنه فإنّه أنجح للحاجة.

وفي باب حفظ اللّسان والغيبة: لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه اللَّه ويبتليك.

وفي باب المفاخرة والعصبية: حبّك الشي ء يعمي ويصم.

وفي باب الحبّ في اللَّه ومن اللَّه: المرء علي دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.

وفي باب الحذر والتأنّي في الامور: لا حليم إلّاذو عثرة، ولا حكيم إلّا ذوتجربة.

وفي باب الرفق والحياء: الحياء حسن الخلق، والمؤمن غِرّ كريم، والمنافق خب لئيم».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 23

صحيحُ النسائي … ص: 23

اشارة

هذا الكتاب الذي أطلق عليه إسم الصحيح جمع كبير من الأئمّة، كأبي علي النيسابوري وابن عدي والدارقطني والخطيب وغيرهم، ووصفه الأكابر بأوصاف جليلة … ففي كتاب (زهر الربي علي المجتبي للحافظ السيوطي، بعد كلامٍ نقله عن الحافظ ابن حجر:

«قال الحافظ ابن حجر: وإذا تقرّر ذلك، ظهر أنّ الذي يتبادر إلي الذهن من

أنّ مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع، ليس كذلك، فكم من رجلٍ أخرج له أبو داود والترمذي تجنّب النسائي إخراج حديثه، كما تجنّب النسائي إخراج حديث جماعةٍ من رجال الصحيحين. فحكي أبوالفضل ابن طاهر قال:

سئل سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثّقه، فقلت له: إنّ النسائي لم يحتج، فقال: يا بني، إنّ لأبي عبدالرحمن شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم.

وقال أحمد بن محبوب الرملي: سمعت النسائي يقول: لمّا عزمت علي جمع السنن، استخرت اللَّه في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشي ء، فوقعت الخيرة علي تركهم، فتنزّلت في جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم.

قال الحافظ أبوطالب أحمد بن نصر شيخ الدارقطني: من يصبر علي ما يصبر عليه النسائي! كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة، فما حدّث منها بشي ء.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 24

قال الحافظ ابن حجر: وكان عنده عالياً عن قتيبة عنه ولم يحدّث به، لا في السنن ولا في غيرها.

وقال أبو جعفر ابن الزبير: أولي ما أرشد إليه ما اتفق المسلمون علي اعتماده وذلك: الكتب الخمسة، والموطأ الذي تقدمها وضعاً ولم يتأخّر عنها رتبة، وقد اختلف العلماء فيها، وللصحيحين فيها شفوف، وللبخاري لمن أراد التفقه مقاصد جميلة، ولأبي داود في حصر أحاديث الأحكام واستيعابها ما ليس لغيره، وللترمذي في فنون الصناعة الحديثيّة ما لم يشاركه غيره، وقد سلك النسائي أغمض تلك المسالك وأجلّها.

وقال أبوالحسن المعافري: إذا نظرت إلي ما يخرجه أهل الحديث، فما خرّجه النسائي أقرب إلي الصحّة ممّا أخرجه غيره.

وقال الإمام أبو عبداللَّه ابن رشيد: كتاب النسائي أبدع الكتب المصنّفة في السنن تصنيفاً وأحسنها ترصيفاً، وكان كتابه جامعاً بين طريقي البخاري ومسلم، مع حظّ كثير

من بيان العلل.

وفي الجملة، فكتاب السنن أقلّ الكتب بعد الصحيحين حديثاً ضعيفاً ورجلًا مجروحاً، ويقاربه كتاب أبي داود وكتاب الترمذي».

«وقال محمّد بن معاوية الأحمر الراوي عن النسائي: قال النسائي: كتاب السنن كلّه صحيح، وبعضه معلول إلّاأنّه يبيّن علّته، والمنتخب المسمّي بالمجتبي صحيح كلّه.

وذكر بعضهم: أنّ النسائي لمّا صنّف السنن الكبري أهداه إلي أمير الرملة فقال له الأمير: أكلّ ما في هذا صحيح؟ قال: لا. قال: فجرّد الصحيح منه.

فصنّف له المجتبي وهو بالباء الموحّدة. قال الزركشي في تخريج الرافعي:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 25

ويقال بالنون أيضاً.

وقال القاضي تاج الدين السبكي: سنن النسائي التي هي أحد الكتب الستّة هي الصغري لا الكبري، وهي التي يخرّجون عليها الرجال ويعلمون الأطراف.

وقال الحافظ أبوالفضل ابن حجر: قد أطلق اسم الصحّة علي كتاب النسائي أبو علي النيسابوري، وأحمد ابن عدي، وأبوالحسن الدارقطني، وأبو عبداللَّه الحاكم، وابن مندة، وعبدالغني بن سعيد، وأبو يعلي الخليلي، وأبو علي الخليلي، وأبو علي ابن السكن، وأبوبكر الخطيب وغيرهم.

وقال الخليلي في الإرشاد، في ترجمة بعض الرواة الدينوريين: سمع من أبي بكر ابن السني صحيح أبي عبدالرحمن النسائي.

وقال أبو عبداللَّه ابن مندة: الذين أخرجوا الصحيح أربعة: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.

وقال السلفي: الكتب الخمسة اتفق علي صحّتها علماء المشرق والمغرب. قال النووي: مراده أنّ معظم كتب الثلاثة سوي الصحيحين يحتجّ به».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 26

القدح في النسائي وكتابه … ص: 26

لكنّ الأئمّة الأعلام تكلّموا- مع هذا كلّه- في النسائي وكتابه وحطّوا عليه، في مواضع كثيرة:

(منها): عندما تكلّم في أحمد بن صالح المصري، فإنّهم بعدما ذكروا سبب تكلّمه فيه، عادوا فتكلّموا في النسائي نفسه، لأنّه بعد العلم بسبب ذلك- كما ذكروا- يظهر قلّة ديانة النسائي ومتابعته للهوي في الجرح والتعديل،

وسقوط كلماته في الرجال:

قال السبكي: «قال الحافظ أبو يعلي في كتاب الإرشاد: ابن صالح ثقة حافظ، واتفق الحفّاظ علي أنّ كلام النسائي فيه تحامل، ولا يقدح كلام أمثاله فيه، وقد نقم علي النسائي كلامه فيه. وقال ابن العربي في كتاب الأحوذي:

إمام ثقة من أئمّة المسلمين لا يؤثر فيه تجريح، وإنّ هذا القول ليحط من النسائي أكثر ممّا حطّ من ابن صالح، وكذا قال الباجي» «1».

قال: «لا يلتفت إلي كلام ابن أبي ذئب في مالك، وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح، لأنّ هؤلاء أئمّة مشهورون، صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صحّ لتوفّرت الدواعي علي ما نقله، فكان القاطع قائماً علي كذبه فيما قاله» «2».

__________________________________________________

(1) طبقات السبكي 2: 8.

(2) طبقات السبكي 2: 12.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 27

وقال العراقي في (شرح الألفية): «ثمّ إنّ الجارح وإن كان إماماً معتمداً في ذلك فربّما أخطأ فيه، كما جرح النسائي أحمد بن صالح المصري بقوله: غير ثقة ولا مأمون، وهو ثقة إمام حافظ، احتجّ به البخاري في صحيحه وقال ثقة، ما رأيت أحداً يتكلّم فيه بحجّة، وكذا وثّقه أبو حاتم الرازي والعجلي وآخرون، وقد قال أبو يعلي الخليلي: اتفق الحفّاظ علي أنّ كلام النسائي فيه تحامل، ولا يقدح كلام أمثاله فيه، وقد بيّن ابن عدي سبب كلام النسائي فيه فقال: سمعت محمّد بن هارون البرقي يقول: حضر مجلس أحمد فطرده من مجلسه، فحمله ذلك علي أن تكلّم فيه. قال الذهبي: آذي النسائي نفسه بكلامه فيه».

وقال الذهبي وابن حجر بترجمة أحمد بن صالح نقلًا عن ابن عدي:

«وأمّا سوء ثناء النسائي عليه- أي علي أحمد بن صالح- فسمعت محمّد بن هارون البرقي يقول: هذا الخراساني

يتكلّم في أحمد بن صالح، حضر مجلس أحمد ابن صالح فطرده من مجلسه، فحمله ذاك علي أن يتكلّم فيه» «1».

وقال الذهبي بترجمة أحمد بن صالح: «وقال ابن عدي: كان النسائي سيّئ الرأي فيه- أي أحمد بن صالح- وأنكر عليه أحاديث، فسمعت محمّد بن هارون البرقي يقول: هذا الخراساني يتكلّم في أحمد بن صالح، لقد حضرت مجلس أحمد بن صالح فطرده من مجلسه، فحمله ذلك علي أن يتكلّم فيه- إلي أن قال ابن عدي- ولولا أنّي شرطت أن أذكر في كتابي كلّ من تكلّم فيه لكنت أجلّ أحمد بن صالح أن أذكره» «2».

__________________________________________________

(1) انظر: تذهيب التهذيب، تهذيب التهذيب 1: 35.

(2) ميزان الاعتدال 1: 242.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 28

هذا، ومن الأحاديث التي أبطلوها في كتابه، حديث أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم طاف في حجة الوداع طواف الزيارة بالليل، فقد قال ابن قيّم الجوزيّة ما نصّه:

«الطائفة الثالثة الذين قالوا أخّر طواف الزيارة إلي الليل، وهم طاوس ومجاهد وعروة، ففي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة، من حديث ابن الزبير المكي عن عائشة وجابر أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أخّر طواف يوم النحر إلي الليل. وفي لفظ طواف الزيارة. قال الترمذي: حديث حسن.

وهذا الحديث غلط بيّن، خلاف المعلوم من فعله صلّي اللَّه عليه وسلّم الذي لا يشكّ فيه أهل العلم بحجّته صلّي اللَّه عليه وسلّم، ونحن نذكر كلام الناس فيه:

قال الترمذي في كتاب العلل له: سألت محمّد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث وقلت له: سمع ابن الزبير من عائشة وابن عبّاس؟ قال: أمّا من ابن عبّاس فنعم، وإنّ في سماعه من عائشة نظراً.

وقال أبوالحسن ابن القطّان: عندي أنّ هذا الحديث ليس بصحيح،

إنّما طاف النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يومئذ نهاراً، وإنّما اختلفوا هل صلّي الظهر بمكّة أو رجع إلي مني فصلّي الظهر بعد أن فرغ من طوافه؛ فابن عمر يقول:

إنّه رجع إلي مني فصلّي الظهر بها، وجابر يقول: إنّه صلّي الظهر بمكّة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنّه أخّر الطواف إلي الليل، وهذا شي ء لم يرو إلّامن هذه الطريق.

وأبو الزبير مدلّس ولم يذكر هاهنا سماعاً من عائشة، وقد عهد يروي عنها بواسطة، ولا أيضاً من ابن عبّاس فقد عهد كذلك يروي عنه بواسطة وإن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 29

كان قد سمع منه، فيجب التوقّف فيما يرويه أبوالزبير عن عائشة وابن عبّاس ممّا لا يذكر فيه سماعاً منهما، لما عرف به من التدليس، ولو عرف سماعه منهما لغير هذا، فأمّا ولم يصحّ لنا أنّه سمع من عائشة فالأمر بيّن في وجوب التوقّف فيه، وإنّما تختلف العلماء في قبول حديث المدلّس إذا كان عمّن قد علم لقاؤه له وسماعه منه، هاهنا يقول قوم يقبل ويقول آخرون يردّ ما يعنعنه عنهم حتّي يبيّن في حديث حديث، وأمّا ما يعنعنه المدلّس عمّن لم يعلم لقاؤه له ولا سماعه منه، فلا أعلم الخلاف فيه بأنّه لا يقبل، ولو كنّا نقول بقول مسلم أنّ معنعن المتعاصرين محمول علي الاتصال ولو لم يعلم التقاؤهما، فإنّما ذلك في غير المدلّسين.

وأيضاً، فما قدّمناه من صحّة طواف النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يومئذٍ نهاراً، والخلاف في ردّ حديث المدلّسين حتّي يعلم اتّصاله أو قبوله حتّي تعلم اتّصاله، إنّما هو إذا لم يعارضه ما لا شكّ في صحّته، وهذا فقد عارضه ما لا شكّ في صحّته. إنتهي

كلامه.

ويدلّ علي غلطه علي عائشة: أنّ أبا سلمة بن عبدالرحمن روي عن عائشة أنّها قالت: حججنا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فأفضنا يوم النحر.

وروي محمّد بن إسحاق عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عنها: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة، وزار رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مع نسائه ليلًا، وهذا غلط أيضاً. قال البيهقي:

وأصحّ هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر، وحديث جابر وحديث أبي سلمة عن عائشة، يعني أنّه طاف نهاراً.

قلت: وإنّما نشأ الغلط من تسمية الطواف، فإنّ النبي صلّي اللَّه عليه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 30

وسلّم أخّر طواف الوداع إلي الليل، كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فذكرت الحديث- إلي أن قالت- فنزلنا المحصّب، فدعا عبدالرحمن بن أبي بكر فقال: اخرج باختك من الحرم، ثمّ أفرغا من طوافكما ثمّ تأتياني هاهنا بالمحصّب. قالت: فقضي اللَّه العمرة وفرغنا من طوافنا من جوف الليل فأتيناه بالمحصّب فقال: فرغتما؟ قلنا:

نعم. فأذن بالناس بالرحيل، فمرّ بالبيت فطاف به ثمّ ارتحل متوجّهاً إلي المدينة.

فهذا هو الطّواف الذي أخّره إلي الليل بلا ريب، فغلط أبوالزبير أو من حدّث به وقال طواف الزيارة، واللَّه الموفّق» «1».

ومن ذلك: حديث جواز فسخ الحج بعمرة لخصوص أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وآله، وهذه عبارته:

«أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبدالعزيز- وهو الدراوردي- عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن الحارث بن بلال، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول اللَّه فسخ الحج لنا خاصّةً أم للناس عامّة؟ قال: بل لنا خاصّةً» «2».

فهذا الحديث باطل، ويخالفه ما أخرجه البخاري ومسلم، بل النسائي نفسه قال:

«عن سراقة بن مالك بن جعشم أنّه قال: يا رسول اللَّه: أرأيت عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: للأبد» «3».

وقد أطنب الكلام ابن القيّم في ردّ هذه الأحاديث، فقال بعد إبطال ما روي عن أبي ذر في تخصيص متعة الحجّ بالأصحاب: «وأمّا حديثه المرفوع،

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 2: 275- 276.

(2) سنن النسائي 2: 367/ 3790.

(3) سنن النسائي 2: 366/ 3788.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 31

حديث بلال بن الحارث، فحديث لا يثبت، ولا يعارض بمثله تلك الأساطين الثابتة.

قال عبداللَّه بن أحمد: كان أبي يري المهلّ بالحجّ أن يفسخ حجّه إذا طاف بالبيت وسعي بين الصفا والمروة. وقال في المتعة: هو آخر الأمرين من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وقال صلّي اللَّه عليه وسلّم: إجعلوا حجّكم عمرة. قال عبداللَّه: فقلت لأبي: فحديث بلال بن الحارث في فسخ الحجّ، يعني قوله: لنا خاصّة؟ قال: لا أقول به، لا يعرف هذا الرجل، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف، وليس حديث بلال بن الحارث عندي بثبت. هذا لفظه.

قلت: وممّا يدلّ علي صحّة قول الإمام أحمد، وأنّ هذا الحديث لا يصحّ: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أخبر عن تلك المتعة التي أمرهم أن يفسخوا حجّهم إليها، أنّها للأبد، فكيف يثبت عنه بعد هذا أنّها لهم خاصّة، هذا من أمحل المحال، وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول: دخلت العمرة في الحجّ إلي يوم القيامة، ثمّ يثبت عنه أنّ ذلك مختصّ بالصحابة دون من بعدهم.

فنحن نشهد باللَّه أنّ حديث بلال بن الحارث هذا، لا يصحّ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وهو غلط عليه.

وكيف تقدّم رواية بلال بن الحارث علي روايات الثقات الأثبات

حملة العلم، الذين رووا عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم خلاف روايته؟ ثمّ كيف يكون هذا ثابتاً عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وابن عبّاس يفتي بمخالفه ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاصّ والعام، وأصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم متوافرون، ولا يقول له رجل واحد منهم هذا كان مختصّاً بنا ليس لغيرنا، حتّي يظهر بعد موت الصحابة أنّ أباذر كان يروي ويروي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 32

اختصاص ذلك لهم» «1».

ومن ذلك: الحديث في ميقات أهل العراق، وقد أنكره أحمد بن حنبل، قال ولي الدين أبو زرعة في (شرح الأحكام الصغري):

«روي أبو داود والنسائي بإسناد صحيح- كما قال النووي- عن عائشة رضي اللَّه عنها: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ذات عرق، وذكر ابن عدي عن يحيي بن محمّد بن صاعد: أنّ الإمام أحمد كان ينكر علي أفلح بن حميد هذا الحديث، قال ابن عدي: قد حدّث عنه ثقات الناس وهو عندي صالح، وأحاديثه أرجو أنْ تكون مستقيمةً كلّها. وهذا الحديث تفرّد به معافي بن عمران عنه، وإنكار أحمد قوله: ولأهل العراق ذات عرق، ولم ينكر الباقي من إسناده».

ومن ذلك: الحديث: «إنّ الشمس انخسفت، فصلّي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ركعتين ركعتين حتّي انجلت، ثمّ قال: إنّ الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد، ولكنّهما خلقان من خلقه، وإنّ اللَّه يحدث في خلقه ما يشاء، وإنّ اللَّه عزّوجلّ إذا تجلّي لشي ء من خلقه يخشع له» «2».

قال أبو حامد الغزالي: «فإن قيل: فقد روي في الحديث: ولكن اللَّه إذا تجلّي لشي ء خشع، فيدلّ علي أنّ الكسوف خشوع بسبب التجلّي.

قلنا: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها، فيجب تكذيب ناقلها»

«3».

وأورد ابن القيّم كلامه مرتضياً له في كتاب (مفتاح السعادة).

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 2: 192- 193.

(2) سنن النسائي 1: 577.

(3) تهافت الفلاسفة: 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 35

سنن ابن ماجة … ص: 35

اشارة

هذا الكتاب الذي فضّله أبو زرعة الرازي علي كتاب مسلم وسائر جوامع الحديث، واستشهد صاحب (الإمتاع) بكلامه لترجيح هذا الكتاب علي كتاب مسلم كما سمعت سابقاً … وقال ابن خلكان بترجمة ابن ماجة:

«أبو عبداللَّه محمّد بن يزيد بن ماجة الربعي بالولاء، القزويني، المشهور، مصنّف كتاب السنن في الحديث، كان إماماً في الحديث، عارفاً بعلومه وجميع ما يتعلّق به، ارتحل إلي العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث، وله تفسير القرآن الكريم وتاريخ مليح، وكتابه في الحديث أحد الصحاح الستّة، وكانت ولادته سنة 209 وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة 273» «1».

وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي: «ابن ماجة- هو أبو عبداللَّه محمّد بن يزيد بن ماجة القزويني الربعي، مولاهم، أحد الأئمّة الحفّاظ، صاحب السنن ذوالتصانيف النافعة والرحلة الواسعة، سمع بخراسان والعراق والحجاز ومصر والشام وغيرها من البلاد، سمع أصحاب مالك والليث، وروي عنه أبوالحسن القطان وطائفة، وكتابه أحد الكتب الإسلاميّة المشهورة بالاصول الستّة والكتب الستّة وبالصحاح الستّة، ثقة كبير …» «2».

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 4: 279.

(2) رجال المشكاة/ تحصيل الكمال في أسماء الرجال- ترجمة ابن ماجة القزويني.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 36

الموضوعات في سنن ابن ماجة … ص: 36

ومع هذا كلّه، فقد نصّوا علي أنّ فيه أحاديث منكرة وموضوعة:

قال الصلاح الصفدي بترجمته: «قال الشيخ شمس الدين: إنّما نقص رتبة كتابه بروايته أحاديث منكرة فيه» «1».

وقال الذهبي بترجمة داود بن المحبر بن قحدم، بعد حديث ستفتح مدينة يقال لها قزوين … «فلقد شان ابن ماجة سننه بإدخاله هذا الحديث الموضوع فيها» «2».

وقال الدهلوي في (رجال المشكاة): «وروي في فضل قزوين حديثاً في سننه وطعنوا وعابوا عليه من هذه الجهة، لأنّه منكر بل موضوع، وجاءت

في فضل قزوين أحاديث كلّها موضوعة عند المحدّثين، وضعها ميسرة أحد الوضّاعين».

هذا، وقد أدرج ابن الجوزي في (الموضوعات) كثيراً من أحاديث (سنن ابن ماجة):

(منها): «حدّثنا محمّد بن عبدالملك بن أبي الشوارب، نا أبو عاصم العباداني نا الفضل الرقاشي، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر بن عبداللَّه- رضي اللَّه عنهما- قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: بينا أهل الجنّة في __________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات 5: 220.

(2) ميزان الاعتدال 3: 33- 34/ 2649.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 37

نعيمهم، إذْ سطع لهم نور، فرفعوا رؤسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنّة، قال: وذلك قول اللَّه تعالي: «سلام قولًا من ربّ رحيم» قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلي شي ء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّي يحتجب عنهم ويبقي نوره وبركته عليهم في ديارهم» «1».

فهذا الحديث أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) وذكر له السيوطي في (اللآلي المصنوعة) طريقاً آخر، فرواه عن غير الفضل الرقاشي، لكنّه غير صحيح كذلك، قال:

«ثنا أحمد بن محمّد بن عبدالخالق، ثنا الحسين بن علي الصدائي، ثنا عبداللَّه بن أبي بكر المقدمي، ثنا عبداللَّه بن عبيداللَّه القرشي، عن الفضل الرقاشي عن محمّد بن المنكدر، عن جابر بن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: بينا أهل الجنّة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فنظروا فإذا الربّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنّة، فذلك قوله «سلام قولًا من ربّ رحيم» قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يزالون كذلك حتّي يحتجب فيبقي نوره وبركته عليهم وفي دارهم.

موضوع، الفضل رجل سوء. قال العقيلي: هذا الحديث لا يعرف إلّا بعبداللَّه بن

عبيداللَّه، ولا يتابع عليه.

قلت: أخرجه ابن ماجة في سننه: ثنا محمّد بن عبدالملك بن أبي الشوارب، ثنا أبو عاصم العباداني- وهو عبداللَّه بن عبيداللَّه- ثنا الفضل الرقاشي به.

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 1: 116/ 184.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 38

وورد من حديث أبي هريرة، أخرجه ابن النجار في تاريخه قال: كتب إليّ أبو عبداللَّه محمّد بن حمد الأرتاحي: أنّ أباالحسن علي بن الحسين بن عمر الفراء أخبره، أنا أبوالحسين نصر بن عبدالعزيز بن أحمد المقري الشيرازي، ثنا أبوالحسين محمّد بن يزيد القصري، ثنا أبوالقاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا بكر بن سهل الدمياطي، ثنا عمرو بن هاشم البيروتي، ثنا سليمان بن أبي كريمة، عن ابن جريج عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: بينا أهل الجنّة في مجلس لهم، إذ لمع لهم نور غلب علي نور الجنّة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ تبارك وتعالي قد أشرف عليهم، فقال سبحانه: سلوني. فقالوا: نسألك الرضي. فقال: رضاي أحلّكم داري وأنالكم كرامتي وهذا أوانها، فشكّوا فيقولون: نسألك الزيارة إليك، فيؤتون بنجائب من نور، تضع حوافرها عند منقمي طرفها وتقودهم الملائكة بأزمّتها، فتنتهي بهم إلي دار السرور، فينصبغون بنور الرحمن ويسمعون قوله مرحباً بأحبابي وأهل طاعتي، فرجعوا بالتحف إلي منازلهم، ثمّ تلا النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم هذه الآية «نزلًا من غفور رحيم».

سليمان بن أبي كريمة، قال ابن عدي: عامّة أحاديثه مناكير، ولم أر للمتقدّمين فيه كلاماً، واللَّه أعلم» «1».

أقول:

و «الفضل الرقاشي» - وإنْ أوجز ابن الجوزي الكلام فيه علي ما نقل عنه السيوطي- فيه طعن كثير، قال ابن حجر بترجمته:

«ق- الفضل بن عيسي بن أبان الرقاشي، أبو عيسي البصري الواعظ،

__________________________________________________

(1) اللآلي

المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 2: 460.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 39

روي عن: عمّه يزيد بن أبان الرقاشي وعن أنس وأبي عثمان النهدي ومحمّد ابن المنكدر والحسن البصري وأبي الحكم البجلي. روي عنه: ابن أخيه المعتمر بن سليمان وأبو عاصم العباداني وأبو عاصم النبيل والحكم بن أبان العبدي وعلي بن عاصم الواسطي وآخرون.

قال سلّام بن أبي مطيع عن أيّوب: لو أنّ فضلًا ولد أخرس لكان خيراً له.

وقال عبداللَّه بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ضعيف.

وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان قاصاً وكان رجل سوء. قلت:

كيف حديثه؟ قال: لا تسأل عن القدري الخبيث.

وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: سئل عنه ابن عيينة. فقال: لا شي ء.

وقال أبو زرعة: منكر الحديث.

وقال أبو حاتم: منكر الحديث في حديثه بعض الوهن، ليس بقوي.

وقال الآجري: قلت لأبي داود: أكتب حديث الفضل الرقاشي قال: لا ولا كرامة. وقال مرّة: سَلْ مالكاً. وقال مرّة: حدّث حمّاد بن عدي، عن الفضل ابن عيسي وكان من أخبث الناس قولًا، وقال مرّة: حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا حمّاد بن زيد، عن فضل الرقاشي، عن ابن المنكدر عن جابر رفعه:

ينادي رجل يوم القيامة: واعطشاه، الحديث. فقال أبو داود: هذا حديث نسبه فضل الرقاشي.

وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة.

وقال ابن عدي: الضعف بيّن علي ما يرويه.

قلت: وقال البخاري في الأوسط عن ابن عيينة: كان يري ا لقدر وكان استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 40

أهلًا أن لا يُروي عنه.

وقال الساجي: كان ضعيف الحديث قدريّاً. قال: وسمعت ابن مثنّي يقول: كان يحيي وعبدالرحمن لا يحدّثان عنه، وكان يشبّهه بأبان بن أبي عيّاش وأمثاله.

وكذا رواه العقيلي في الضعفاء عن الساجي، ونقل كثيراً

ممّا تقدّم.

وقال يعقوب بن سفيان: مفتر ضعيف الحديث.

وقال ابن حبّان في الثقات: الفضل بن عيسي روي عن أنس، إن كان هو الرقاشي فليس بفضل» «1».

وقال الذهبي: «الفضل بن عيسي الرقاشي ابن أخي يزيد الرقاشي، يروي عن أنس وغيره، ضعّفوه، وهو بصري خال للمعتمر بن سليمان.

قال أحمد: ضعيف. وقال البخاري: يروي عن عمّه يزيد والحسن. قال ابن عيينة: كان يري القدر.

وقال سلّام بن أبي مطيع: لو أنّ فضلًا الرقاشي ولد أخرس كان خيراً له …

قال أحمد بن زهير: سألت ابن معين عن الفضل الرقاشي فقال: كان قاصّاً، رجل سوء. قلت: فحديثه؟ قال: لا تسأل عن القدري الخبيث.

وقال أبو سلمة التبوذكي: لم يكن أحد ممّن يتكلّم في القدر أخبث قولًا من الفضل الرقاشي، وهو خال المعتمر» «2».

وأيضاً قال: «الفضل بن عيسي بن أبان الرقاشي الواعظ، عن أنس وأبي __________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 8: 254- 255.

(2) ميزان الاعتدال 5: 431.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 41

عثمان النهدي، وعنه أبو عاصم وعلي بن عاصم وجمع. ساقط» «1».

وأمّا «سليمان بن أبي كريمة» الراوي في الطريق الآخر، ففي (الميزان):

«سليمان بن أبي كريمة، شامي، عن هشام بن عروة … ضعّفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عامّة أحاديثه مناكير ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً» «2».

(ومنها): «حدّثنا إسماعيل بن محمّد الطلحي، ثنا ثابت بن موسي أبو يزيد عن شريك عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» «3».

قال السيوطي في (مصباح الزجاجة):

«قال العقيلي: هذا الحديث باطل ليس له أصل ولا يتابع ثابتاً عليه ثقة.

وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وقال: هذا الحديث لا يعرف إلّا بثابت، وهو رجل صالح، وكان دخل

علي شريك وهو يملي ويقول: ثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي. فلمّا رأي ثابتاً قال: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار- وقصد به ثابتاً- فظنّ أنّه متن الإسناد، وسرقه منه جماعة ضعفاء. إنتهي.

وأخرج البيهقي في الشعب عن محمّد بن عبدالرحمن بن كامل بن الأصبغ قال: قلت لمحمّد بن نمير: ما تقول في ثابت بن موسي؟ قال: شيخ له فضل وإسلام ودين وصلاح وعبادة. قلت: ما تقول في هذا الحديث؟ قال:

غلط من الشيخ، وأمّا غير ذلك فلا يتوهّم عليه.

__________________________________________________

(1) الكاشف 2: 369/ 4525.

(2) ميزان الاعتدال 3: 312/ 3505.

(3) سنن ابن ماجة 2: 144/ 1333.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 42

وقد تواردت أقوال الأئمّة أنّ هذا الحديث من الموضوع علي سبيل الغلط لا التعمّد، وخالفهم القضاعي في مسند الشهاب فمال إلي ثبوته، وقد سقت كلامه في اللآلي المصنوعة».

فانظر إلي أيّ مرتبةٍ تنزل روايات سنن ابن ماجة؟! ومع ذلك يجعلون هذا الكتاب من الصحاح الستّة؟!

(ومنها): «حدّثنا عمرو بن رافع قال: نا علي بن عاصم، عن محمّد بن سوقة عن إبراهيم عن الأسود، عن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من عزّي مصاباً فله مثل أجره» «1».

وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وتكلّم فيه غيره. قال السيوطي:

«هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات وقال: تفرّد به علي ابن عاصم عن محمّد بن سوقة، وقد كذّبه شعبة ويزيد بن هارون ويحيي بن معين.

وقال الترمذي بعد إخراجه: يقال: أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم هذا الحديث، نقموه عليه.

وقال البيهقي: تفرّد به علي بن عاصم، وهو أحد ما أنكر عليه قال: وقد روي أيضاً عن غيره.

وقال الخطيب: هذا الحديث ممّا أنكره الناس علي علي

بن عاصم، وكان أكثر كلامهم فيه بسببه».

(ومنها): «حدّثنا أحمد بن يوسف قال: حدّثنا عبدالرزاق قال: أنا ابن جريج.

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 2: 284/ 1602.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 43

ح ونا أبو عبيدة بن أبي السفر قال: حدّثنا حجّاج بن محمّد قال قال ابن جريج: أخبرني إبراهيم بن محمّد بن أبي يحيي، عن موسي بن وردان، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من مات مريضاً مات شهيداً ووقّي فتنة القبر، وغدي وريح عليه برزقه من الجنّة» «1».

قال السيوطي: «هذا الحديث رواه ابن الجوزي في الموضوعات، وأعلّه بإبراهيم بن محمّد بن أبي يحيي الأسلمي، فإنّه متروك.

قال: وقال أحمد بن حنبل: إنّما هو من مات مرابطاً.

وقال الدارقطني: ثنا ابن مخلد، ثنا أحمد بن علي الأبار، ثنا ابن أبي سكينة الحلبي سمعت إبراهيم بن أبي يحيي يقول: حدّثت ابن جريج بهذا الحديث: من مات مرابطاً، فروي عنّي: من مات مريضاً وما هكذا حدّثته …».

وقال بعد أن رواه من طريق عبدالرزاق: «لا يصحّ، ومداره علي إبراهيم ابن محمّد بن أبي يحيي …» «2».

(ومنها): «حدّثنا الحسن بن علي الخلال، ثنا بشر بن ثابت البزار، نا نصر بن القاسم، عن عبدالرحيم بن داود، عن صالح بن صهيب عن أبيه قال:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ثلاث فيهنّ البركة: البيع إلي أجل والمقارضة وإخلاص البر بالشعير للبيت لا للبيع» «3».

قال ابن الجوزي: موضوع … قال السيوطي: «قلت: أخرجه ابن ماجة في سننه من طريق عبدالرحمن وقال الذهبي: إنّه حديث واه» «4».

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 2: 291/ 1615.

(2) اللآلي المصنوعة 2: 413.

(3) سنن ابن ماجة 3: 88/ 2289.

(4) اللآلي المصنوعة 2: 152.

استخراج المرام من استقصاء الافحام،

ج 3، ص: 44

(ومنها): «حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن سمرة، حدّثني محمّد بن يعلي السلمي، ثنا عمر بن صبح، عن عبدالرحمن بن عمرو، عن مكحول عن ابي ابن كعب قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لرباط يوم في اللَّه من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان، أعظم من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها، ورباط يوم في سبيل اللَّه من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان، أفضل عند اللَّه وأعظم أجراً. أراه قال: من عبادة ألف سنة …» «1».

قال السيوطي: «قال الحافظ زكي الدين المنذري في الترغيب: آثار الوضع لائحة علي هذا الحديث، ولا عجب وراويه عمر بن صبح.

وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير في جامع المسانيد: خلق بهذا الحديث أن يكون موضوعاً، لما فيه من المجازفة، ولأنّ راويه عمر بن صبح أحد الكذّابين المعروفين بوضع الحديث».

(ومنها): «حدّثنا إسماعيل بن أسد، ثنا داود بن المحبر، أنا الربيع بن صبيح عن يزيد بن أبان عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ستفتح عليكم الآفاق، وستفتح عليكم مدينة يقال لها قزوين، من رابط فيها أربعين يوماً …» «2».

قال السيوطي: «والحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق ابن ماجة وقال: موضوع، داود وضّاع، وهو المتّهم به. والربيع ضعيف، ويزيد متروك.

وقال المزّي في التهذيب: هو حديث منكر لا يعرف إلّامن رواية داود».

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 3: 348/ 2768.

(2) سنن ابن ماجة 3: 354/ 2780.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 45

(ومنها): «حدّثنا هشام بن عمّار، نا عبدالملك بن محمّد الصنعاني، نا أبو سلمة العاملي، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لأكثم

بن الجون الخزاعي: يا أكثم، اغز مع غير قومك، يحسن خلقك وتكرم علي رفقائك، يا أكثم، خير الرفقاء أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلّة» «1».

قال السيوطي: «قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: العاملي متروك والحديث باطل».

وقال الذهبي: «الحكم بن عبداللَّه بن خطّاف أبو سلمة. قال أبو حاتم:

كذّاب، وقال الدارقطني: كان يضع الحديث. روي عن الزهري عن ابن المسيّب نسخةً نحو خمسين حديثاً لا أصل لها، وقال ابن معين وغيره: ليس بثقة» «2».

(ومنها): «حدّثنا عبدالوهّاب بن الضحاك، نا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنّة يوم القيامة تجاهين، والعباس بيننا مؤمن بين خليلين» «3».

وهذا الحديث قلبه الوضّاعون من أميرالمؤمنين إلي العبّاس، وقد حكم الحفاظ بوضعه:

قال السيوطي- نقلًا عن ابن الجوزي-: «موضوع.

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 3: 377/ 2827.

(2) ميزان الاعتدال 2: 337/ 2182.

(3) سنن ابن ماجة 1: 97/ 141.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 46

قال العقيلي: عبدالوهّاب متروك الحديث، وليس لهذا الحديث أصل عن ثقة ولا يتابعه إلّامن هو دونه أو مثله.

وقال ابن عدي: هذا الحديث يعرف بعبدالوهّاب وسرقه منه الباهلي، وكان يسرق الحديث ويحدّث عن الثقات بالأباطيل» «1».

وقد ترجم ابن حجر «عبدالوهّاب» هذا فقال:

«قال البخاري: عنده عجائب.

وقال أبو داود: كان يضع الحديث قد رأيته.

وقال النسائي: ليس بثقة، متروك.

وقال العقيلي والدارقطني والبيهقي: متروك.

وقال صالح بن محمّد الحافظ: منكر الحديث، عامة حديثه كذب.

وقال ابن أبي حاتم: سمع منه ابن أبي سلمة وترك حديثه والرواية عنه.

وقال محمّد بن عون: قيل لي إنّه كان يأخذ فوائد ابن اليمان

يحدّث بها عن إسماعيل بن عيّاش، وحدّث بأحاديث كثيرة موضوعة. قال: فرحت إليه فقلت: ألا تخاف اللَّه تعالي، فضمن لي أن لا يُحدّث بها، فحدّث بها بعد ذلك.

وقال ابن عدي: وأظنّ قال عبدان كان البغداديّون يلعنونه فمنعتهم.

قلت: وقال الدارقطني في موضع آخر: له عن إسماعيل بن عيّاش وغيره مقلوبات وبواطيل.

وقال الآجري: عن أبي داود غير ثقة ولا مأمون.

وقال ابن حبّان: كان يسرق الحديث لا يحلّ الإحتجاج به.

__________________________________________________

(1) اللآلي المصنوعة 1: 430.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 47

وقال الحاكم: روي أحاديث موضوعة» «1».

وقال الذهبي: «ق- عبدالوهاب بن الضحاك الحمصي العرضي عن إسماعيل بن عيّاش وبقيّة.

كذّبه أبو حاتم.

وقال النسائي وغيره: متروك.

وقال الدارقطني: منكر الحديث.

وقال البخاري: عنده عجائب ثمّ قال: حدّثني عبداللَّه، ثنا عبدالوهّاب بن الضحّاك، ثنا ابن عيّاش، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قال لنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ويحك، فجزعت منها، فقال يا حميراء: لا تجزعي منها، فإن وَيْسَك وويحك رحمة، لكن اجزعي من الويل.

ثمّ قال البخاري: يوسف بن موسي، ثنا عبدالوهّاب، ثنا إسماعيل بن عيّاش عن صفوان بن عمرو عن عبداللَّه بن بُسَر عن أبي امامة مرفوعاً: حبّبوا اللَّه إلي الناس يحبّكم اللَّه. ومن بلاياه روايته عن إسماعيل، عن صفوان بن عمرو، عن عبدالرحمن بن جبير، عن كثير بن مرّة، عن عبداللَّه بن عمرو حديث: إنّ اللَّه اتّخذني خليلًا، ومنزلي ومنزل إبراهيم في الجنّة تجاهين والعبّاس بيننا مؤمن بين خليلين.

وقال ابن حبّان: يكني أبا الحرث السلمي، كان ممّن يسرق الحديث.

حدّثنا عنه جماعة. ثمّ ذكر ابن حبّان أنّ الحديث المذكور حدّثه عنه به عمر بن سنان وأبو عروبة وغيرهما» «2».

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 6: 393- 394/ 829.

(2) ميزان الاعتدال 4: 433/ 5321.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 48

وقال أيضاً: «عبدالوهّاب بن الضحاك السلمي العرضي ثمّ الحمصي نزيل سلمية. عن: عبدالعزيز أبي حازم وإسماعيل بن عيّاش. وعنه: ق والحسن بن سفيان وأبو عروبة قال: ويضع الحديث، مات 245» «1».

ثمّ إنّ السيوطي قد ذكر الحديث الحقّ الوارد في الباب، وذلك أنّه قال بعد الكلمات المتقدمة في حديث عبدالوهاب: «وله طريق آخر: قال الحاكم …» وهذا نصّ عبارته كاملةً:

«العقيلي: ثنا أحمد بن داود القومسي، ثنا عبدالوهّاب بن الضحّاك، ثنا إسماعيل بن عيّاش، عن صفوان بن عمرو، عن عبدالرحمن بن جبير، عن كثير بن مرّة عن عبداللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه عزّ وجلّ اتّخذني خليلًا كما اتّخذ إبراهيم خليلًا، ومنزلي ومنزل إبراهيم يوم القيامة في الجنّة تجاهين والعبّاس بيننا مؤمن بين خليلين.

ابن عدي: ثنا محمّد بن عبدة بن حرب، ثنا أحمد بن معاوية الباهلي، ثنا إسماعيل بن عيّاش به. موضوع.

قال العقيلي: عبدالوهّاب متروك الحديث وليس لهذا الحديث أصل عن ثقة، ولا يتابعه إلّامن هو دونه أو مثله.

وقال ابن عدي: هذا الحديث يعرف بعبدالوهّاب، وسرقه منه الباهلي، وكان يسرق الحديث ويحدّث عن الثقات بالأباطيل.

قلت: أخرجه ابن ماجة: ثنا عبدالوهّاب به.

وله طريق آخر: قال الحاكم في تاريخه: ثنا أبو حبيب المصاحفي، ثنا أبي، ثنا أحمد بن أبي الوجيه الجوزجاني، ثنا أبو معقل يزيد بن معقل عن __________________________________________________

(1) الكاشف 2: 213/ 3552.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 49

موسي بن عقبة عن سالم عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

إنّ اللَّه اتّخذني خليلًا كما اتّخذ إبراهيم خليلًا، فقصري في الجنّة وقصر إبراهيم في الجنّة متقابلان، وقصر عليّ بين قصري وقصر إبراهيم، فياله من

حبيب بين خليلين» «1».

فهذا هو الحديث الصحيح الحق، وقوله «وله طريق آخر …» غلط واضح.

وقد أخرج حديث حذيفة سائر الحفّاظ أيضاً، قال المحبّ الطبري- في فضائل علي عليه السلام-: «ذكر قصره وقبّته في الجنّة: عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه اتّخذني خليلًا، وإنّ قصري في الجنّة وقصر إبراهيم في الجنّة متقابلان، وقصر علي بن أبي طالب بين قصري وقصر إبراهيم، فياله من حبيب بين خليلين. أخرجه أبوالخير الحاكمي» «2».

(ومنها): «حدّثنا إسماعيل بن محمّد الطلحي، أنا داود بن عطا المديني، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أوّل من يصافحه الحق عمر، وأوّل من يسلّم عليه، وأوّل من يأخذ بيده فيدخله الجنّة» «3».

قال السيوطي: «قال الحافظ عماد الدين ابن كثير في جامع المسانيد:

هذا الحديث منكر جدّاً، وما أبعد أن يكون موضوعاً، والآفة فيه داود بن عطا».

__________________________________________________

(1) اللآلي المصنوعة 1: 43 ورواه عن الحاكم بالإسناد والمتن الحافظ أبو الخير أحمد بن إسماعيل الحاكمي الطالقاني القزويني، المتوفي سنة 590 في كتاب (الأربعين المنتقي من مناقب علي المرتضي) الباب 30، الحديث 37.

(2) الرياض النضرة 3: 185.

(3) سنن ابن ماجة 1: 82/ 104.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 50

وقال الذهبي بترجمة داود هذا: «داود بن عطا المدني، أبو سليمان، من موالي الزبير، ويقال فيه: داود بن أبي عطا، عن زيد بن أسلم وصالح بن كيسان، وعنه: الأوزاعي شيخه وإبراهيم بن المنذر وعبداللَّه بن محمّد الآذري.

قال أحمد: ليس بشي ء، قد رأيته. وقال البخاري: منكر الحديث.

قال ابن أبي عاصم في كتاب السنّة: ثنا إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل ابن

محمّد بن يحيي بن زكريّا بن طلحة بن عبيداللَّه، ثنا داود بن عطا عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه: أوّل من يصافحه الحقّ عمر وأوّل من يأخذه بيد فيدخله الجنّة. هذا منكر جدّاً» «1».

(ومنها): «حدّثنا يونس بن عبدالأعلي، ثنا محمّد بن إدريس الشافعي حدّثني محمّد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس ابن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يزداد الأمر إلّاشدّة، ولا الدنيا إلّاإدباراً، ولا الناس إلّا شحّاً، ولا تقوم الساعة إلّاعلي شرار الناس، ولا مهدي إلّاعيسي بن مريم» «2».

قال السيوطي: «هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: إنّه يعدّ في أفراد الشافعي.

وقال الذهبي في الميزان: هذا خبر منكر تفرّد به يونس بن عبدالأعلي عن الشافعي.

ووقع في جزء من حديث يونس بن عبدالأعلي قال: حُدِّثت عن __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 19/ 2634.

(2) سنن ابن ماجة 4: 420/ 4039.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 51

الشافعي، فهو علي هذا منقطع، علي أنّ جماعة رووه عن يونس قال: حدّثنا الشافعي، والصحيح أنّه لم يسمعه منه.

ومحمّد بن خالد، قال الأزدي: منكر الحديث. وقال الحاكم: مجهول، وكذا قال ابن الصلاح في أماليه، وقد وثّقه يحيي بن معين، وروي عنه ثلاثة رجال سوي الشافعي، وأبان بن صالح صدوق ما علمت به بأساً، لكن قيل إنّه لم يسمع من الحسن، ذكره ابن الصلاح.

وللحديث علّة اخري: قال البيهقي: أنا الحاكم، ثنا عبدالرحمن بن عبداللَّه بن يزداذ المذكور في كتابه، ثنا عبدالرحمن بن أحمد بن محمّد بن الحجّاج بن رشدين، حدّثنا المفضّل بن محمّد الجندي، ثنا صامت بن معاذ قال: عدلت

إلي الجند، فدخلت علي محدّث لهم، فوجدت عنده، عن محمّد ابن خالد الجندي، عن أبان بن أبي عيّاش، عن الحسن، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم. قال الذهبي: فانكشف ووهي.

وقال الحافظ جمال الدين المزي في التهذيب: قال أبوبكر ابن زياد:

هذا حديث غريب. وقال أبوالحسن محمّد بن حسين الآبري الحافظ في مناقب الشافعي: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفي صلّي اللَّه عليه وسلّم في المهدي، وأنّه من أهل البيت، وأنّه يملك سبع سنين، ويملأ الأرض عدلًا، وأنّه يخرج مع عيسي بن مريم فيساعده علي قتل الدجّال بباب اللّد بأرض فلسطين، وأنّه يؤمّ هذه الامّة وعيسي عليه السلام يصلّي خلفه في طول قصّته وأمره.

ومحمّد بن خالد الجندي وإن كان يذكر عن يحيي بن معين أنّه وثّقه، فإنّه غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل. وقال البيهقي: هذا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 52

حديث تفرّد به محمّد بن خالد الجندي، قال أبو عبداللَّه الحافظ: وهو رجل مجهول واختلفوا عليه في إسناده: فرواه صامت بن معاذ، ثنا يحيي ابن السكن، ثنا محمّد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن عن النبي. قال صامت بن معاذ: عدلت إلي الجند، فدخلت علي محدّث لهم، وطلبت هذا الحديث فوجدته عنده عن محمّد بن خالد الجندي، عن أبان بن أبي عيّاش، عن الحسن، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قال البيهقي: فرجع الحديث إلي رواية محمّد بن خالد الجندي، وهو مجهول، عن أبان بن أبي عياش وهو متروك، عن الحسن، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم …» «1».

(ومنها): «حدّثنا الحسن بن علي الخلال، ثنا عون بن عمارة، ثنا عبداللَّه ابن المثني بن ثمامة بن أنس بن مالك،

عن أبيه، عن جدّه عن أنس بن مالك، عن أبي قتادة قال: قال رسول اللَّه: الآيات بعد المائتين» «2».

وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات «3».

وقال القرطبي في (التذكرة في أحوال الموتي وامور الآخرة): «وفي عموم إنذار النبي بفساد الزمان وتغيير الدين وذهاب الأمانة ما يغني عن ذكر التفاصيل الباطلة والأحاديث الكاذبة في أشراط الساعة، من ذلك: حديث رووه عن قتادة عن أنس بن مالك عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أنّ في سنة مائتين يكون كذا وكذا، وفي العشر والمائتين يكون كذا وكذا، وفي العشر

__________________________________________________

(1) راجع: تهذيب الكمال 25: 147- 150.

(2) سنن ابن ماجة 4: 431/ 4057.

(3) كتاب الموضوعات 3: 198.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 53

والمائتين كذا، وفي العشرين كذا، وفي الثلاثين كذا، وفي الأربعين كذا، وفي الخمسين كذا، وفي الستين والمائتين تعتكف الشمس ساعة فيموت نصف الجنّ والإنس، فهل كان هكذا وقد مضت هذه المدّة، وهذا شي ء يعمّ، وسائر الامور التي ذكرت قد تكون في بلدة وتخلو منه اخري، فهذا عكوف الشمس لا يخلو منه أحد في شرق ولا في غرب، فإن كان المائتان من الهجرة فقد مضت وإن كانت من موت النبيّ فقد مضت، وأيضاً دلالة اخري علي أنّه مفتعل: أنّ التاريخ لم يكن علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وإنّما وضعوه علي عهد عمر، فكيف يجوز هذا علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أن يقال في سنة مائتين وفي سنة عشرين ومائتين ولم يكن وضع شي ء من التاريخ» «1».

وقال الحكيم الترمذي في (نوادر الاصول): «ومن الحديث الذي تنكره القلوب: حديث رووه عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أنّ

في سنة مائتين يكون كذا وكذا، وفي العشر والمائتين كذا، وفي العشرين كذا، وفي الثلاثين كذا، وفي الخمسين كذا، وفي الستين والمائتين تعتكف الشمس ساعة فيموت نصف الجنّ والإنس، فهل كان كذا وكذا وقد مضت هذه المدّة وهذا شي ء يعمّ، وسائر الامور التي ذكرت قد تكون في بلدة وتخلو منها اخري، فهذا عكوف الشمس لا يخلو منها أحد في شرق وغرب، فإن كان المائتان من الهجرة فقد مضت، وإن كانت من موت الرسول فقد مضت، وأيضاً دلالة اخري علي أنّه مفتعل: أنّ التاريخ لم يكن علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وإنّما وضعوه علي عهد عمر، فكيف __________________________________________________

(1) التذكرة في امور الآخرة: 712.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 54

يجوز هذا علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أن يقال في سنة مائتين وسنة عشر ومائتين، ولم يكن وضع شي ء من التاريخ؟» «1».

هذا … ولا يخفي أنّ اعتمادنا هنا علي أقوال ابن الجوزي إنّما هو بالنظر إلي استناد العلماء إلي أقواله وآرائه في الأحاديث والرجال، كاحتجاج الدهلوي في (التحفة) برأيه في ردّ حديث «أنا مدينة وعلي بابها» وغيره من مناقب الأئمّة الطاهرين من أهل بيت سيّد المرسلين، وكاحتجاج ابن روزبهان بكلماته في مواضع من ردّه علي العلّامة الحلّي، وكاحتجاج ابن تيميّة واستناده إلي ابن الجوزي في كتابه (منهاج السنّة) وهكذا …

فإنْ كان الإحتجاج بأقوال ابن الجوزي غير صحيح، فكلّ احتجاجات القوم بأقواله غير صحيحة … وهذا ما ينفعنا ولا يضرّنا ألبتّة …

أمّا نحن فغير ملزمين بأقواله وآرائه، لكونه غير معتمَد عندنا، وأقواله ليست بحجّةٍ علينا، حتّي لو كان مقبولًا عندهم جميعاً، فكيف وقد تكلّم جماعة منهم علي كتبه وآرائه في موارد كثيرة؟

__________________________________________________

(1)

لم نجده في كتاب (نوادر الاصول) وكأنّه قد اسقط منه لكونه ممّا «تنكره القلوب» كما قال.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 55

تذييلات … ص: 55

اشارة

* الكبار الكذّابون * الكذّابون في الصحاح الستّة

* من تحريفات الصحابة للأحاديث النبويّة

* من تصحيفات النسّاخ للأحاديث النبويّة وغيرها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 59

1) الكبار الكذّابون … ص: 59

وقد اتّهم كثير من كبار القوم وأئمّتهم في الفقه والحديث وغير ذلك بالكذب … في الكتب الرجاليّة …

نكتفي بذكر عدّةٍ منهم،:

1- أبو مطيع البلخي الفقيه الكبير، صاحب أبي حنيفة. قال الذهبي بترجمته:

«الحكم بن عبداللَّه، أبو مطيع البلخي، الفقيه، صاحب أبي حنيفة … تفقّه به أهل تلك الدّيار، وكان بصيراً بالرأي، علّامةً، كبير الشأن، ولكنّه واهٍ في ضبط الأثر، وكان ابن المبارك يعظّمه ويُجلّه لدينه وعلمه …» «1».

ومع هذا … فقد تكلَّم فيه الأئمّة، وضعّفوه، وتركوا حديثه، حتّي

قال أبو حاتم: مرجئ كذّاب.

وقال الجوزقاني: كان يضع الحديث «2».

وقال ابن الجوزي- بعد حديثٍ في أنّ الإيمان يزيد وينقص:

«هذا حديث موضوع بلا شك، وهو من وضع أبي مطيع، واسمه الحكم ابن عبداللَّه، قال أحمد بن حنبل: لا ينبغي أن يروي عنه شي ء. وقال يحيي:

__________________________________________________

(1) ميزان الإعتدال 1: 574.

(2) تنزيه الشريعة الغرّاء 1: 54.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 60

ليس بشي ء. وقال أبو حاتم الرازي: كان أبو مطيع مرجئاً كاذباً» «1».

وقال الذهبي: «قال ابن معين: ليس بشي ء. وقال مرّةً: ضعيف.

وقال البخاري: ضعيف صاحب رأي.

وقال النسائي: ضعيف.

وقال ابن الجوزي، في الضعفاء: الحكم بن عبداللَّه بن سلمة، أبو مطيع الخراساني القاضي، يروي عن إبراهيم بن طهمان وأبي حنيفة ومالك.

وقال أحمد: لا ينبغي أن يروي عنه شي ء، قال: وتركوا حديثه وكان جهميّاً.

وقال ابن عدي: هو بيّن الضعف، عامّة ما يرويه لا يتابع عليه.

وقال ابن حبّان: كان من رؤساء المرجئة ممّن يبغض السنن وينتحلها.

وقال العقيلي: حدّثنا عبداللَّه بن أحمد: سألت أبي عن أبي مطيع البلخي فقال:

لا ينبغي أن يروي عنه، حكوا عنه أنّه يقول: الجنّة والنار خلقتا فسيفنيان، وهذا كلام جهم» «2».

2- ثوبان بن إبراهيم وهو- كما قال الجوزقاني- ذوالنون المصري من كبار الأولياء العظام الذين يعتقدون ويقتدون بهم، وقد ترجم له في غير واحدٍ من كتب التراجم:

قال ابن خلّكان: «كان أوحد وقته علماً وورعاً وحالًا وأدباً، وهو معدود في جملة من روي الموطّأ عن الإمام مالك رضي اللَّه عنه …» ثم ذكي له مناقب __________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات 1: 130.

(2) ميزان الاعتدال 2: 339.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 61

قال: «ومحاسن الشيخ ذي النون كثيرة» «1».

لكن في (تنزيه الشريعة الغرّاء): «ثوبان بن إبراهيم المصري. اتّهمه ابن الجوزي بالوضع، وهو ذوالنون المصري، الصوفي المشهور كما قاله الجوزقاني.

قال الحافظ ابن حجر: ورأيت علي هامش كتاب الجوزقاني: الصواب ثوبان أخو ذي النون» «2».

3- أحمد بن صالح المصري من كبار الحفّاظ وأعلام الحديث، وثّقه البخاري وغيره ووصفوه بأعظم الصفات ولقّبوه بأعلي الألقاب «3»، ومع ذلك، فقد كذّبه بعض الأئمّة وتكلّم فيه آخر، وهذه عبارة الذهبي المشتملة علي ذلك كلّه:

«أحمد بن صالح، أبو جعفر، المصري، الحافظ الثبت، أحد الأعلام، آذي النسائي نفسه بكلامٍ فيه. ولد سنة 170 وحدّث عن ابن عيينة وابن وهب وخلق، وآخر من حدّث عنه ابن أبي داود.

قال ابن نمير: قال أبو نعيم: ما قدم علينا أحد أعلم بحديث أهل الحجاز من هذا الفتي، يريد أحمد بن صالح.

وقال أبو زرعة الدمشقي: سألني أحمد بن حنبل: من خلَّفت بمصر؟

فقلت: أحمد بن صالح. فسرَّ بذكره ودعا له.

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 1: 280 رقم 126.

(2) تنزيه الشريعة الغرّاء 1: 43.

(3) انظر: سير أعلام النبلاء 12: 160/ 59.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 62

وقال الفسوي:

كتبت عن ألف شيخ، وكثيرٌ مّا أحد منهم أتّخذه عند اللَّه حجّة، إلّاأحمد بن صالح وأحمد بن حنبل.

وقال البخاري: أحمد بن صالح ثقة، ما رأيت أحداً يتكلّم فيه بحجّة.

وقال ابن وارة: أحمد بن صالح بمصر، وأحمد بن حنبل ببغداد، ومحمّد بن عبداللَّه بن نمير بالكوفة، والنفيلي بحرّان، هؤلاء أركان الدين.

وقال أبو حاتم والعجلي وجماعة: ثقة.

وقال أبو داود: كان يقوّم كلّ لحنٍ في الحديث.

وقال النسائي: ليس بثقة ولا مأمون.

وقال أبو سعيد ابن يونس: لم يكن عندنا- بحمد اللَّه- كما قال النسائي، لم يكن له آفة غير الكبر.

وقال النسائي أيضاً: تركه محمّد بن يحيي.

ورماه يحيي بن معين بالكذب.

وقال ابن عدي: كان النسائي سيّئ الرأي فيه وأنكر عليه أحاديث، فسمعت محمّد بن هارون البرقي يقول: هذا الخراساني يتكلّم في أحمد بن صالح! لقد حضر مجلس أحمد بن حنبل فطرده من مجلسه، فحمله ذلك علي أنْ يتكلّم فيه … ولولا أنّي شرطت أنْ أذكر في كتابي كلَّ من تُكلّم فيه لكنت اجلّ أحمد بن صالح أنْ أذكره.

وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: أحمد بن صالح كذّاب» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 241/ 405.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 63

4- محمّد بن عمر الواقدي من أعلام القوم في الحديث والمغازي، حتّي وصفه بعضهم بأميرالمؤمنين في الحديث! قال الذهبي:

«قال محمّد بن سلام الجمحي: هو عالم دهره.

وقال إبراهيم الحربي: الواقدي أمين الناس علي الإسلام، وكان أعلم الناس بأمر الإسلام، فأمّا الجاهليّة فلم يعلم فيها شيئاً.

وقال مصعب الزبيري: واللَّه ما رأينا مثل الواقدي قط.

وعن الدراوردي قال: الواقدي أميرالمؤمنين في الحديث.

وقال ابن سعد: قال الواقدي: ما من أحدٍ إلّاوكتبه أكثر من حفظه، وحفظي أكثر من كتبي.

وقال يعقوب بن شيبة: لمّا تحوّل الواقدي من

الجانب الغربي يقال إنّه حمل كتبه علي عشرين ومائة وقر، وقيل: كان له ستمائة قمطر كتب.

وقد وثّقه جماعة، فقال محمّد بن إسحاق الصنعاني: واللَّه لولا أنّه عندي ثقة ما حدّثت عنه.

وقال مصعب: ثقة مأمون.

وسئل معن القزاز عنه فقال: أنا اسأل عن الواقدي!

وقال جابر بن كردي: سمعت يزيد بن هارون يقول: الواقدي ثقة.

وكذا وثّقه أبو عبيد.

وقال إبراهيم الحربي: من قال إنّ مسائل مالك وابن أبي ذئب تؤخذ عن أصدق من الواقدي فلا يصدّق.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 64

قال الخطيب في تاريخه: قدم الواقدي بغداد وولي قضاء الجانب الشرقي منها. قال: وهو ممّن طبّق الأرض شرقها وغربها ذكره، ولم يخف علي أحدٍ عرف أخبار الناس أمره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم من المغازي والسير والطبقات وأخبار النبي والأحداث الكائنة في وقته وبعد وفاته، وكتب الفقه واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك … وكان جواداً مشهوراً بالسخاء».

«قال مجاهد بن موسي: ما كتبت عن أحد أحفظ من الواقدي.

قلت: صدق. كان إلي حفظه المنتهي في السير والأخبار والمغازي والحوادث وأيّام الناس والفقه وغير ذلك» «1».

هذا، وقد جعل بعض المتكلّمين عدم رواية الواقدي حديث الغدير من أدلّة ضعف هذا الحديث واستندوا إلي ذلك في مقام الجواب عن استدلال الإماميّة به، كما في شرح المقاصد للتفتازاني وغيره.

ومع ذلك كلّه، فقد طعن في الرجل جماعة من الأئمّة، حتّي رماه بعضهم بوضع الحديث، فقد قال الخوارزمي في (جامع مسانيد أبي حنيفة) بعد حديث أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أعطي المقداد سهمين:

«فقد ذكره الواقدي كذلك في المغازي، وقد طعنوا فيه:

فقال يحيي بن معين: وضع الواقدي علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عشرين ألف حديث.

وقال أحمد بن حنبل: الواقدي يركّب

الأسانيد.

وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 273/ 7999.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 65

وقال الشافعي: كتب الواقدي كذب …».

وفي (ميزان الاعتدال): «قال أبو غالب ابن بنت معاوية بن عمرو:

سمعت ابن المديني يقول: الواقدي يضع الحديث».

«قال ابن راهويه: هو عندي ممّن يضع الحديث» «1».

5- محمّد بن إسحاق صاحب السيرة

الذي أثني عليه الأئمّة كالزهري والشافعي وغيرهما، ولقّبه بعضهم بأميرالمؤمنين في الحديث … «2»:

«قال سليمان التيمي: كذّاب.

وقال وهيب: سمعت هشام بن عروة يقول: كذّاب.

وقال وهيب: سألت مالكاً عن ابن إسحاق فاتّهمه.

وقال عبدالرحمن بن مهدي: كان يحيي بن سعيد الأنصاري ومالك يجرحان ابن إسحاق.

وقال يحيي بن آدم: ثنا ابن إدريس قال: كنت عند مالك فقيل له: إنّ ابن إسحاق يقول: أعرضوا عليَّ علم مالك فإنّي بيطاره. فقال مالك: انظروا إلي دجّالٍ من الدجاجلة» «3».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 273/ 7999.

(2) سير أعلام النبلاء 7: 33.

(3) ميزان الاعتدال 6: 57/ 7203.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 66

6- نعيم بن حمّاد

أثني عليه أكابر الأئمّة الثناء الجميل، وهو من رجال البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة «1».

لكنّه رمي بالوضع علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم والكذب علي أبي حنيفة:

قال الذهبي: «قال الأزدي: كان نعيم يضع الحديث في تقوية السنّة وحكايات مزوّرة في ثلب النعمان كلّها كذب» «2».

وفي (حاشية الكاشف): «قال ابن عدي: كان يضع الحديث في تقوية السنّة، وحكايات عن العلماء في ثلب أبي حنيفة كلّها كذب. وقال ابن عدي:

وقال هذا ابن حمّاد أبو بشر محمّد بن أحمد الدولابي.

وقال ابن يونس: روي أحاديث مناكير عن الثقات.

وذكره ابن حبّان في الثقات وقال: ربّما أخطأ ووهم.

ونسبه جماعة إلي الوضع».

7- محمّد بن عثمان بن أبي شيبة

الحافظ الجليل والمحدّث الكبير،

كما بتراجمه، ففي (الأنساب) مثلًا:

«أبو جعفر، محمّد بن عثمان بن محمّد بن أبي شيبة إبراهيم ابن العبسي مولاهم، من أهل الكوفة، سكن بغداد، كان كثير الحديث، واسع الرواية، ذا

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 10: 595.

(2) ميزان الاعتدال 7: 44/ 9109.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 67

مروّة وفهم وإدراك، وله تاريخ كبير في معرفة الرّجال …

روي عنه: أبوبكر محمّد بن محمّد ابن الباغندي، ويحيي بن محمّد بن صاعد، والقاضي المحاملي، ومحمّد بن مخلد، وأبو عمرو ابن السماك، وأبوبكر الشافعي، وأبو علي الصواف، وغيرهم.

وثّقه صالح جزرة الحافظ» «1».

وإليك الكلمات في ذم هذا الحافظ العظيم!:

«وأمّا عبداللَّه بن أحمد بن حنبل فقال: كذّاب.

وقال ابن خراش: كان يضع الحديث.

قال ابن عقدة: سمعت عبداللَّه بن اسامة الكلبي وإبراهيم بن إسحاق الصوّاف وداود بن يحيي يقولون: محمّد بن عثمان كذّاب. زادنا داود: قد وضع أشياء علي قومٍ ما حدّثوا بها قط.

ثمّ حكي ابن عقدة نحو هذا عن طائفةٍ في حقّ محمّد» «2».

8- الزبير بن بكّار

الإمام في الأنساب … قال الخطيب بترجمته:

«الزبير بن بكّار بن عبداللَّه بن مصعب بن ثابت بن عبداللَّه بن الزبير بن العوام، المديني، العلّامة، كان ثقةً عالماً بالنسب، عارفاً بأخبار المتقدّمين ومآثر الماضين. قال جحظة: كنت بحضرة الأمير محمّد بن عبداللَّه بن طاهر

__________________________________________________

(1) الأنساب 4: 141، وانظر: سير أعلام النبلاء 14: 21، تاريخ بغداد 3: 42، مرآة الجنان 2: 230 وغيرها.

(2) ميزان الاعتدال 6: 255.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 68

فاستؤذن عليه للزبير بن بكار حين قدم من الحجاز، فلمّا دخل عليه أكرمه وعظّمه وقال له: لئن باعدت بيننا الأنساب لقد قرّبت بيننا الآداب، وإنّ أميرالمؤمنين ذكرك واختارك لتأديب ولده، وأمر لك بعشرة آلاف درهم وعشر تخوت من

الثياب، وعشرة أبغل تحمل عليها رحلك إلي حضرته بسرّ من رأي. فشكر ذلك وقبله» «1».

وترجم له ابن خلكان واليافعي واللّفظ للأخير:

«أبو عبداللَّه الزبير المعروف بابن بكّار القرشي الأسدي الزبيري. كان من أعيان العلماء، تولّي قضاء مكة، وصنّف الكتب النافعة، منها: كتاب أنساب قريش، جمع فيه شيئاً كثيراً، وعليه اعتماد الناس في معرفة أنساب القرشيّين، وله مصنّفات غيره دلّت علي فضله واطّلاعه.

روي عن: ابن عيينة ومن في طبقته. وروي عنه: ابن ماجة القزويني وابن أبي الدنيا وغيرهما» «2».

وقال الذهبي وابن حجر: «قال الخطيب: كان ثقةً ثبتاً، عالماً بالنسب، عارفاً بأخبار المتقدّمين ومآثر الماضين، وله الكتاب المصنّف في مآثر قريش وأخبارها رحمه اللَّه» «3».

وتوجد ترجمته أيضاً في:

تذكرة الحفاظ 2: 528، سير أعلام النبلاء 12: 311، الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة 1: 318، العبر 2: 12، تهذيب الكمال في أسماء الرجال __________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 8: 467 ملخّصاً.

(2) مرآة الجنان 2: 124، وفيات الأعيان 2: 311.

(3) تذهيب التهذيب، تهذيب التهذيب 3: 269.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 69

9: 293، البداية والنهاية 11: 24، تهذيب التهذيب 3: 312، تاريخ بغداد 8: 467.

وغيرها من كتب الرجال والتراجم …

ولكنّ السليماني- وهو الحافظ الكبير «1» - ذكره في عداد من يضع الحديث «2».

9- ابن قتيبة

عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة بن محمّد، صاحب كتاب المعارف وغيره من المصنّفات، والمترجم له بكلّ إطراء وثناء وتوثيق في:

وفيات الأعيان والأنساب 4: 431.

والمنتظم 5: 102.

وتاريخ بغداد 10: 170.

والبداية والنهاية 11: 48.

وبغيةالوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة 2: 63.

قال ابن خلّكان: «أبو محمّد عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل:

المروزي، النحوي اللغوي، صاحب كتاب المعارف وأدب الكاتب … كان فاضلًا ثقة، سكن بغداد وحدّث بها … وتصانيفه كلّها

مفيدة …» «3».

لكنّ بعض الأعلام تكلّم فيه، بل ادّعي الحاكم النيسابوري الإجماع علي __________________________________________________

(1) أحمد بن علي البخاري، المتوفي سنة 404، توجد ترجمته في سير أعلام النبلاء 17: 200.

(2) ميزان الاعتدال 3: 98.

(3) وفيات الأعيان 3: 42- 44.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 70

أنّه كذّاب … وهذه عبارة الذهبي:

«عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة بن محمّد، صاحب التصانيف، صدوق، قليل الرواية. روي عن إسحاق بن راهويه وجماعة.

قال الخطيب: كان ثقة ديّناً فاضلًا.

وقال الحاكم: اجتمعت الامّة علي أنّ القتيبي كذّاب.

قلت: هذه مجازفة قبيحة وكلام من لم يخف اللَّه.

ورأيت في مرآة الزمان أنّ الدارقطني قال: كان ابن قتيبة يميل إلي التشبيه، منحرف عن العترة، وكلامه يدلّ عليه.

وقال البيهقي: كان يري رأي الكراميّة.

وقال ابن المنادي: مات في رجب سنة 276 من هريسةٍ بلعها سخنة فأهلكته» «1».

10- أسد بن عمرو

من أعلام الفقهاء وأكابر أصحاب أبي حنيفة، ومن مشايخ أحمد وأمثاله من الأئمّة … كما قال السمعاني بترجمته:

«روي عنه: أحمد بن حنبل ومحمّد بن بكار بن الريّان وأحمد بن منيع والحسن بن محمّد الزعفراني. ولي القضاء ببغداد وواسط، كان عنده حديث كثير، وهو ثقة إن شاء اللَّه. هكذا قال أبوبكر الخطيب، ومات سنة 188 وقيل:

190.» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 198- 199/ 4606.

(2) الأنساب 4: 476 «القسري».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 71

وإليك عبارة الذهبي المشتملة علي كلماتهم في الطعن عليه:

«أسد بن عمرو، أبوالمنذر البجلي، قاضي واسط، عن ربيعة الرأي ومطرف.

قال يزيد بن هارون: لا يحلّ الأخذ عنه.

وقال يحيي: كذوب ليس بشي ء.

وقال البخاري: ضعيف.

وقال ابن حبّان: كان يسوي الحديث علي مذهب أبي حنيفة.

وقال أحمد بن حنبل: صدوق، وقال مرّةً: صالح الحديث، كان من أصحاب الرأي.

وما قدّمناه من قول ابن معين،

إنّما رواه أحمد بن سعيد بن أبي مريم، وقد روي عن يحيي بن محمّد العبسي أنّه قال: لا بأس به. وقال عبّاس:

سمعت يحيي يقول: هو أوثق من نوح بن دراج ولم يكن به بأس، وقد سمع من ربيعة الرأي وغيره، وقال: ولمّا أنكر بصره ترك القضاء رحمه اللَّه.

وقال ابن عمّار الموصلي: لا بأس به.

قلت: صحب الإمام أبا حنيفة وتفقّه عليه. كان من أهل الكوفة، فقدم بغداد وولي قضاء الشرقية بعد القاضي العوفي.

وضعّفه الفلّاس.

وقال النسائي: ليس بقوي.

وقال الدارقطني: يعتبر به.

وقال ابن سعد: مات سنة 190.

وقال ابن عدي: لم أر له شيئاً منكراً وأرجو أنّه لا بأس به.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 72

ومات سنة 190 قاله ابن حبّان» «1».

11- محمّد بن عبداللَّه بن عبدالحكم تلميذ الشافعي، وقال ابن خزيمة: ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصّحابة والتابعين منه … إلي غير ذلك ممّا قيل في مدحه.

لكنّ ابن الجوزي أدرجه في الضعفاء وقال: «كذّبه الربيع بن سليمان».

قال الذهبي: «محمّد بن عبداللَّه بن الحكم، فقيه أهل مصر، روي عن ابن وهب والشافعي وتفقّه به، وأنس بن عياض، أكثر عنه الأصم وغيره.

وقال ابن الجوزي في الضعفاء: روي عن مالك.

وهذا خطأ ظاهر من أبي الفرج، ما أدرك مالكاً.

ثمّ قال ابن الجوزي: كذّبه الربيع بن سليمان.

قلت: بل هو صدوق. قال النسائي: هو أظرف من أن يكذب.

قد احتجّ به النسائي وكان ثقة. وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: صدوق ثقة.

وقال ابن خزيمة: ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين منه. وكان أعلم من رأيت بمذهب مالك. أمّا الإسناد فلم يكن يحفظه» «2».

والألطف من ذلك: كذبه علي شيخه الشافعي في مسألة وطي المرأة في الدّبر، إذ نسب إليه القول بالجواز،

وهو عندهم من القبائح الشنيعة:

قال الذهبي: «أخبرتنا خديجة بنت الرضي، أخبرنا أحمد بن عبدالواحد، أنا عبدالمنعم الفراوي، أنا عبدالغفّار بن محمّد، أنا أبو سعيد الصيرفي، ثنا

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 363/ 815.

(2) ميزان الاعتدال 6: 219- 220/ 7821.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 73

أبوالعبّاس الأصم: سمعت محمّد بن عبداللَّه، سمعت الشافعي يقول: ليس فيه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في التحليل والتحريم حديث ثابت، والقياس أنّه حلال.

قلت: هذا منكر من القول، بل القياس التحريم، يعني الوطئ في دبر المرأة. وقد صحّ الحديث فيه. وقال الشافعي: إذا صحَّ الحديث فاضربوا بقولي علي الحائط. قال ابن الصبّاغ في الشامل عقيب هذه الحكاية: قال الربيع: واللَّه لقد كذب علي الشافعي، فإنّ الشافعي ذكر تحريم هذا في ستّة كتبٍ من كتبه» «1».

12- الحسن بن علي بن شبيب المعمري من أعلام الحفّاظ الأجلّاء، وأكابر المحدّثين النبلاء، كما لا يخفي علي من يراجع تراجمه في: كتاب الأنساب للسمعاني، وتذكرة الحفّاظ للذهبي، وغيرهما من معاجم الرجال.

قال السمعاني: «أبو علي الحسن بن علي بن شبيب المعمري الحافظ، إنّما اشتهر بهذه النسبة لأنّه عني بجمع حديث معمر، وقيل: إنّ امّه بنت سفيان ابن أبي سفيان صاحب معمر بن راشد فانسب إليها، وكان جليل القدر، كثير السماع، صاحب كتاب اليوم والليلة، كثرت الرواية عنه، وسمعت جزءً من هذا الكتاب بواسط عن قاضيها أبي عبداللَّه الجلابي، وروي الكتاب كلّه محمّد بن إدريس الجرجرائي الحافظ عن أبي بكر محمّد بن أحمد المعيد عنه، سمع هدبة بن خالد وعبيداللَّه بن معاذ العنبري وعلي بن المديني ويحيي بن معين __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 219- 220/ 7821.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 74

وداود بن عمرو الضبّي ودحيم بن

اليتيم وأحمد بن عمرو بن السرح وخلقاً يطول ذكرهم.

روي عنه: يحيي بن صاعد ومحمّد بن مخلد وأبوبكر ابن النجاد وأبو سهل ابن زياد» «1».

ومع هذا، فقد اتّهمه غير واحدٍ من الأعلام:

قال الذهبي: «الحسن بن علي بن شبيب المعمري الحافظ، واسع العلم والرحلة، سمع علي بن المديني وشيبان وطبقته، وله غرائب يرفعها.

قال الدارقطني: صدوق حافظ.

وقال ابن عبدان: ما رأيت في الدنيا صاحب حديثٍ مثله.

وقال البردعي: ليس بعجيب أن يتفرّد المعمري بعشرين أو ثلاثين حديثاً في كثرة ما كتب.

قال عبدان: سمعت فضلك الراوي وجعفر بن الجنيد يقولان: المعمري كذّاب. قال عبدان: حسداه، لأنّه كان رفيقهما، فكان إذا كتب حديثاً غريباً لايفيدهما.

وقال ابن عدي: سمعت أبا يعلي يقول: كتب إليّ موسي بن هارون: أنّ المعمري حدّث عن العبّاس البرسي عن يحيي القطّان عن عبيداللَّه عن نافع عن ابن عمر يحدّث: لعن اللَّه الواصلة.. فزاد فيه: ونهي عن النوح، فاكتب إلينا بصحّته، فإنّ النسخة عندك عند العبّاس. فكتب إليه: ما فيه هذا» «2».

__________________________________________________

(1) الأنساب 5: 232 «المعمري».

(2) ميزان الاعتدال 2: 253/ 1897.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 77

2) الكذّابون في الصّحاح الستّة … ص: 77

وفي رجال صحاح القوم أيضاً عدّة كبيرةً من الرواة اتّهموا في الكتب الرجاليّة بالكذب والوضع، رأينا من المناسب ذكر بعضهم في هذه الرسالة، فمنهم:

1- إبراهيم بن بشار

أخرج عنه أبو داود والترمذي.

قال الذهبي: «إبراهيم بن بشار الرمادي، صاحب سفيان بن عيينة، من أهل جرجرايا، ليس بالمتقن، وله مناكير.

قال يحيي بن معين: رأيته ينظر في كتاب وابن عيينة يقرأ ولا يغيّر شيئاً، ليس معه ألواح ولا دواة.

وقال عبداللَّه بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عنه، فلم يعجبه وقال: كان يكون عند سفيان فيقوم ويجيئون إليه الخراسانية فيملي عليهم ما لم يقل ابن

عيينة، فقلت له: أما تتّقي اللَّه؟ أما تراقب اللَّه، أو كما قال» «1».

«قال عبداللَّه بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: كان سفيان الذي يروي عنه إبراهيم بن بشار ليس هو ابن عيينة، كان إبراهيم يحضر معنا عند ابن عيينة فكان يملي علي الناس ما يسمعونه من سفيان، وكان ربما يملي عليهم ما لم يسمعوا، فقلت له يوماً: ألا تتقي اللَّه، ويحك، تملي عليهم ما لم __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 141.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 78

يسمعوا؟ ولم يحمده أبي في ذلك، وذمّه ذمّاً شديداً.

وقال ابن معين: لم يكن بشي ء» «1».

2- إبراهيم بن محمّد الأسلمي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي وابن حجر: «قال يحيي القطّان: سألت مالكاً: أكان ثقة؟ قال:

لا ولا ثقة في دينه.

وقال عبداللَّه بن أحمد عن أبيه: كان قدريّاً معتزليّاً جهميّاً، كلّ بلاء فيه.

قال أبوطالب عن أحمد بن حنبل: ترك الناس حديثه، وكان يأخذ أحاديث الناس فيضعها في كتبه.

وقال يحيي القطّان: كذّاب.

وقال البخاري: جهمي، تركه ابن المبارك والناس.

وقال عبّاس عن ابن معين: ليس بثقة.

وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: قلت ليحيي بن معين: فابن أبي يحيي؟ قال: كذّاب، وكان قدريّاً رافضيّاً، قال لي نعيم بن حمّاد: أنفقت علي كتبه خمسين ديناراً، ثمّ أخرج إلينا يوماً كتاباً فيه القدر وكتاباً فيه رأي جهم، فقرأته فعرفته، فقلت: هذا رأيك؟ قال: نعم، فحرقت بعض كتبه وطرحتها.

وقال النسائي: لا يكتب حديثه» «2».

وقال الذهبي: «إبراهيم بن أبي يحيي، هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد

__________________________________________________

(1) تذهيب التهذيب، تهذيب التهذيب 1: 94.

(2) تذهيب التهذيب، تهذيب التهذيب 1: 137.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 79

ابن أبي يحيي الأسلمي المدني، أحد الضعفاء.

قال إبراهيم بن عرعرة: سمعت يحيي بن سعيد

يقول: سألت مالكاً عنه أكان ثقة في الحديث؟ فقال: لا ولا في دينه.

قال يحيي بن معين: سمعت القطّان يقول: إبراهيم بن أبي يحيي كذّاب.

وروي أبوطالب عن أحمد بن حنبل قال: تركوا حديثه، قدريّ معتزليّ يروي أحاديث ليس لها أصل.

وقال البخاري: تركه ابن المبارك والناس.

وقال البخاري أيضاً: كان يري القدر وكان جهميّاً.

وروي عبداللَّه بن أحمد عن أبيه قال: قدري جهمي، كلّ بلاءٍ فيه، ترك الناس حديثه.

وروي عبّاس عن ابن معين: كذّاب رافضي.

وقال محمّد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت عليّاً يقول: إبراهيم بن أبي يحيي كذّاب، وكان يقول بالقدر».

«قال ابن حبّان: كان يري القدر، ويذهب إلي كلام جهم، ويكذب مع ذلك في الحديث».

«وقال أبو محمّد الدارمي: سمعت يزيد بن هارون يكذّب إبراهيم بن أبي يحيي».

هذا، والعجيب جدّاً أن يروي الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيي، مع علمه بحاله، ويدلّسه!!

قال الذهبي عن ابن حبّان: «فإنّه كان يجالس إبراهيم في حداثته ويحفظ عنه حفظ الصبي، والحفظ في الصغر كالنقش في الحجر، فلمّا دخل مصر في استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 80

آخر عمره وأخذ يصنّف الكتب المبسوطة، احتاج إلي الأخبار ولم يكن معه كتبه، فأكثر ما أودع الكتب من حفظه، وربّما كنّي عنه ولا يسمّيه في كتبه» «1».

3- أحمد بن إسماعيل، أبو حذافة السهمي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «قال ابن عدي: حدّث عن مالك وغيره بالبواطيل، وامتنع ابن صاعد من التحديث عنه مدّةً … إلي أن قال بعد ذكر حديث: ولم ينقم علي أبي حذافة متنه بل إسناده ولم يكن ممّن يتعمّد. قال أبوالعبّاس السراج:

سمعت الفضل بن سهل الأعرج ذكر أبا حذافة صاحب مالك فكذّبه» «2».

4- أحمد بن عبدالرحمن بن وهب أخرج عنه مسلم بن الحجّاج.

قال الذهبي:

«أحمد بن عبدالرحمن بن وهب، أبو عبيداللَّه البصري، ويعرف ببحشل.

قال ابن عدي: رأيت شيوخ مصر مجمعين علي ضعفه، والغرباء لا يمتنعون عن الأخذ عنه، أبو زرعة وأبو حاتم فمن دونهما …

وقال النسائي في الضعفاء له: كذّاب.

وقال ابن يونس: لا تقوم به حجّة» «3».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 182/ 188.

(2) ميزان الاعتدال 1: 215/ 298.

(3) ميزان الاعتدال 1: 253/ 443.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 81

5- أحمد بن محمّد بن أيّوب صاحب المغازي أخرج عنه أبو داود.

قال الذهبي: «روي إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين قال: كذّاب» «1».

6- أبوالوليد أحمد بن عبدالرحمن البسري أخرج عنه الترمذي والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «أحمد بن عبدالرحمن البسري، أبوالوليد، دمشقي، صدوق، روي عن الوليد بن مسلم.

قال إسماعيل بن عبداللَّه السكري القاضي: لم يسمع أبوالوليد من ابن مسلم شيئاً، ولو شهد عندي ما قبلته، وإنّما كان محلّلًا يحلّل النساء، يعطي الشي ء فيطلّق، وكان سيّئ الحال بدمشق، فاتّقوا اللَّه وإيّاكم والسّماع من الكذّابين» «2».

7- إسماعيل بن أبي أويس أخرج عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «إسماعيل بن أبي أويس، عبداللَّه بن عبداللَّه بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو عبداللَّه المدني، محدّث مكثر، فيه لين.

روي عن خاله مالك وأخيه عبدالحميد وأبيه، وأقدم من لقي عبدالعزيز

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 277/ 535.

(2) ميزان الاعتدال 1: 255/ 444.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 82

الماجشون وسلمة بن وردان. وعنه: صاحبا الصحيح وإسماعيل القاضي والكبار.

قال أحمد: لا بأس به.

وقال ابن عدي: قال أحمد بن أبي يحيي: سمعت ابن معين يقول: هو وأبوه يسرقان الحديث.

وقال الدولابي في الضعفاء: سمعت النضر بن سلمة المروزي يقول:

كذّاب، كان يحدث عن مالك بمسائل ابن وهب.

روي عنه

البخاري كثيراً» «1».

وفي (حاشية الكاشف):

«قال ابن معين: صدوق ضعيف العقل ليس بذاك. وقال مرّةً: هو وأبوه يسرقان الحديث. وقال مرّةً: هما ضعيفان، يعني: هو وأبوه. وقال مرّةً: مخلّط يكذب ليس بشي ء».

8- أيّوب بن جابر بن سيّار

أخرج عنه أبو داود والترمذي.

قال الذهبي: «أيّوب بن جابر بن سيّار اليمامي، عن سماك بن حرب وغيره.

قال يحيي: ليس بشي ء.

وقال ابن المديني: يضع حديثه.

وقال أبو زرعة وغيره: واه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 379/ 854 ملخّصاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 83

وقال النسائي: ضعيف» «1».

9- ثابت بن موسي الضبّي أخرج عن ابن ماجة.

قال الذهبي: «ثابت بن موسي الضبّي الكوفي الضرير العابد، عن شريك والثوري.

قال يحيي: كذّاب.

وقال أبو حاتم وغيره: ضعيف.

وقال أبو حاتم: لا يجوز الإحتجاج بأخباره …

قال ابن معين الرازي: سمعت يحيي بن معين يقول: ثابت أبو يزيد كذّاب» «2».

10- جبارة بن المغلس أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «جبارة بن المغلس الحماني الكوفي، عن كثير بن سليم وشبيب بن شيبة. وعنه: ابن ماجة ومطين وأبو يعلي وعفان.

قال ابن نمير: صدوق، وما هو ممّن يكذب.

وقال البخاري: حديثه مضطرب.

وقال أبو حاتم: هو علي يدي عدل.

وروي أبو معين الحسين بن الحسن عن يحيي بن معين: كذّاب.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 454/ 1070.

(2) ميزان الاعتدال 2: 88/ 1377.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 84

وقال ابن نمير: يوضع له الحديث فيرويه ولا يدري» «1».

«قال الحسين بن الحسن الرازي عن ابن معين: كذّاب» «2».

11- جعفر بن الزبير

أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «جعفر بن الزبير، عن القاسم أبي عبدالرحمن وجماعة، وعنه: وكيع ويزيد بن هارون وعدّة.

كذّبه شعبة، فقال غندر: رأيت شعبة راكباً علي حمار فقال: أذهب فأستعدي علي جعفر بن الزبير، وضع علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

وسلّم أربعمائة حديث.

وقال ابن معين: ليس بثقة.

وقال البخاري: تركوه.

وقال ابن عدي: الضعف علي حديثه بيّن.

وقال القطّان: لو شئت أنْ أكتب عنه ألفاً كتبت عنه» «3».

وقال: «قال أحمد بن سعيد الدارمي عن يزيد بن هارون قال: كان جعفر ابن الزبير وعمران بن جدير في مسجدٍ واحد، وكان الزحام علي جعفر بن الزبير، وليس عند عمران أحد، وكان شعبة يمرّ بهما فيقول: يا عجباً للناس، اجتمعوا علي أكذب الناس وتركوا أصدق الناس، يعني عمران، فما أتي علينا

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 111/ 1435.

(2) تذهيب التهذيب، تهذيب التهذيب 2: 50.

(3) ميزان الاعتدال 2: 133/ 1504.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 85

إلّا القليل حتّي رأيت ذلك الزحام علي عمران وتركوا جعفراً وليس عنده أحد.

وقال غندر: رأيت شعبة راكباً علي حمار فقال: أذهب فأستعدي علي هذا، يعني جعفر بن الزبير، وضع علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أربعمائه حديث.

وقال ابن معين: ليس بثقة.

وقال البخاري: تركوه.

وقال ابن عدي: الضعف علي حديثه بيّن.

وقال الدارقطني: متروك» «1».

ثمّ إنّ الذهبي أورد في (التذهيب) بعد تلك المثالب والقوادح منقبةً له، وهذا عجيبٌ جدّاً …

12- الحارث بن عمران أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «الحارث بن عمران الجعفري، عن محمّد بن سوقة وهشام ابن عروة. وعنه: علي بن حرب وأحمد بن سليمان.

قال ابن حبان: كان يضع الحديث علي الثقات.

قال ابن عدي: الضعف علي رواياته بيّن.

وقال أبو حاتم: ليس بالقوي.

وقال أبو زرعة: واهي الحديث» «2».

__________________________________________________

(1) تذهيب التهذيب، تهذيب التهذيب 2: 78.

(2) ميزان الاعتدال 2: 175/ 1639.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 86

13- حبيب بن أبي حبيب المصري كاتب مالك بن أنس قال الذهبي: «حبيب بن أبي حبيب، واسم أبيه رزيق، وقيل: مرزوق، أبو محمّد المصري وقيل:

المدني، كاتب مالك. روي عن مالك وأبي العصّ ثابت وابن أبي ذئب. وعنه: أحمد بن الأزهر وأحمد بن سعيد بن أبي مريم ومقدام بن داود الرعيني.

قال أحمد: ليس بثقة.

وقال ابن معين: كان يقرأ علي مالك ويتصفّح ورقتين وثلاثة، فسألوني عنه بمصر فقلت: ليس بشي ء.

وقال أبو داود: كان من أكذب الناس.

وقال أبو حاتم: روي عن ابن أخي الزهري أحاديث موضوعة.

وقال ابن عدي: أحاديثه كلّها موضوعة.

وقال ابن حبّان: كان يورق بالمدينة علي الشيوخ ويروي عن الثقات الموضوعات، كان يدخل عليهم ماليس عندهم» «1».

14- الحارث بن عمير البصري أخرج عنه البخاري في التفسير والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «الحارث بن عمير البصري، نزيل مكة، عن أيّوب وأبي طوالة وعدّة. وعنه: ابنه حمزة وعبدالرحمن بن مهدي ولوين وطائفة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 190/ 1697.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 87

روي عن الأثبات الأشياء الموضوعات.

وقال الحاكم: روي عن حميد وجعفر الصادق أحاديث موضوعة» «1».

وقال: «ذكره ابن حبّان في كتاب الضعفاء وقال: روي عن الأثبات الأشياء الموضوعات.

وقال أبو عبداللَّه الحاكم: روي عن حميد الطويل وجعفر الصّادق أحاديث موضوعة» «2».

15- الحسن بن عمارة الكوفي أخرج عنه البخاري في التفسير والترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «الحسن بن عمارة الكوفي، الفقيه، مولي بجيلة. عن ابن أبي مليكة وعمرو بن مرّة وخلق. وعنه: السفيانان ويحيي القطّان وشبابة وعبدالرزاق …

قال شعبة: روي الحسن بن عمارة أحاديث عن الحكم، فسألنا الحكم عنها فقال: ما سمعت منها شيئاً.

وروي أبو داود عن شعبة قال: يكذب.

وقال أحمد: متروك.

وقال ابن معين: ليس حديثه بشي ء.

وقال ابن المديني: ما أحتاج إلي شعبة فيه، أمره أبين من ذلك، قيل:

أكان يغلط؟ قال: إيش الغلط، وذهب إلي أنّه كان يضع الحديث.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 176/

1640 مختصراً.

(2) تذهيب التهذيب، تهذيب التهذيب 2: 132.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 88

وقال الجوزجاني: ساقط.

وقال أبو حاتم ومسلم والدارقطني وجماعة: متروك» «1».

وفي (حاشية الكاشف): «قال شعبة: يكذب.

وقال عيسي بن يونس: شيخ صالح تكلّم فيه شعبة وأعانه عليه سفيان.

وقال أحمد: متروك الحديث.

وقال ابن معين: ليس بشي ء.

وقال ابن المديني: ما أحتاج فيه إلي شعبة، أمره أبين من ذلك، قيل:

أكان يغلط؟ قال: إيش الغلط؛ وذهب إلي أنّه كان يضع الحديث.

وقال الدارقطني والنسائي: متروك الحديث.

وكذلك قال مسلم وأبو حاتم.

وقال زكريا الساجي: متروك أجمع أهل الحديث علي ضعفه».

وفي (التذهيب): «قال أبو داود عن شعبة: يكذب، فقلت له: ما علامة ذلك؟ قال: يروي عن الحكم أشياء لم نجد لها أصلًا» «2».

16- الحسن بن مدرك الطحّان أخرج عنه البخاري والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «الحسن بن مدرك البصري الطحّان، أبو علي، الحافظ، عن يحيي بن حمّاد ومحمود بن الحسن. وعنه: البخاري والنسائي وابن ماجة وابن صاعد وجماعة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 265/ 1921.

(2) تذهيب التهذيب، تهذيب التهذيب 2: 132.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 89

وكذّبه أبو داود، وقد وثّقه غيره فقال أحمد بن الحسين الصوفي الصغير: كان ثقة.

وروي أبو عبيدة عن أبي داود قال: الحسن بن مدرك كذّاب، كان يأخذ أحاديث فهد بن عوف فيقلبها علي يحيي بن حمّاد» «1».

17- حصين بن عمر الأحمسي أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «حصين بن عمر الأحمسي، عن إسماعيل بن أبي خالد وأبي الزبير. وعنه: منجاب بن الحارث ومحمّد بن مقاتل وجماعة.

وقال البخاري: منكر الحديث ضعّفه أحمد.

وقال ابن معين: ليس بشي ء.

وقال أبو حاتم: واه جدّاً، واتّهمه بعضهم.

وقال ابن عدي: عامّة أحاديثه معاضيل، يتفرّد عن كلّ من روي عنه» «2».

18- حمزة بن أبي حمزة الجزري أخرج عنه

الترمذي.

قال الذهبي: «حمزة بن أبي حمزة الجزري النصيبي، عن ابن أبي مليكة ومكحول وطائفة. وعنه: علي بن ثابت وشبابة وجماعة.

قال ابن معين: لا يساوي فلساً.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 274/ 1952.

(2) ميزان الاعتدال 1: 312/ 8090.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 90

وقال البخاري: منكر الحديث.

وقال الدارقطني: متروك.

وقال ابن عدي: عامّة رواياته موضوعة …» «1».

وقال ابن حجر: «متروك، متّهم بالوضع» «2».

19- خارجة بن مصعب أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «خارجة بن مصعب بن الحجّاج السرخسي، الفقيه، عن بكير بن الأشج وزيد بن أسلم وأيّوب وطائفة. وعنه: ابن مهدي ويحيي بن يحيي وطائفة.

وهّاه أحمد.

وقال ابن معين: ليس بثقة.

وقال أيضاً: كذّاب.

وقال البخاري: تركه ابن المبارك ووكيع.

وقال الدارقطني وغيره: ضعيف» «3».

20- خالد بن عمرو القرشي أخرج عنه أبو داود وابن ماجة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 379/ 2302.

(2) تقريب التهذيب 1: 322/ 1519.

(3) ميزان الاعتدال 1: 403/ 2400.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 91

قال الذهبي: «خالد بن عمرو القرشي الأموي السعيدي، من ولد سعيد ابن العاص، الكوفي، عن مالك بن مغول وهشام الدستوائي وجماعة. وعنه:

الحسن الحلواني والرمادي وجماعة.

قال أحمد: ليس بثقة.

وقال البخاري: منكر الحديث.

وقال صالح جزرة: يضع الحديث.

وضرب أبو زرعة علي حديثه …

وقال ابن عدي: له عن الليث وغيره مناكير:

أبو نعيم الحلبي، ثنا خالد بن عمرو، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي قنبل، عن أبي هريرة وابن عمر قالا: ابتاع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من أعرابي قلائص إلي أجلٍ، فقال: أرأيت إنْ أتي عليك أمر اللَّه؟

قال: أبوبكر يقضي ديني وينجز موعدي. قال: فإنْ قبض؟ قال: عمر يحذوه يقوم مقامه لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، فإنْ أتي علي عمر أجله فإنْ استطعت أن تموت

فمت.

… قال ابن عدي: عندي أنّه وضع هذه الأحاديث …» «1».

21- خالد بن يزيد الدمشقي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «خالد بن يزيد بن عبدالرحمن بن أبي مالك الدمشقي …

وهّاه ابن معين.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 419/ 2450.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 92

وقال أحمد: ليس بشي ء.

وقال النسائي: ليس بثقة.

وقال الدارقطني: ضعيف.

وقال ابن عدي عن ابن أبي عصمة عن أحمد بن يحيي: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: خالد بن أبي مالك ليس بشي ء.

وقال ابن أبي الجواري: سمعت ابن معين يقول: بالعراق كتاب ينبغي أن يدفن: تفسير الكلبي عن أبي صالح، وبالشام كتاب ينبغي أن يدفن: كتاب الديات لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب علي أبيه حتّي كذب علي الصحابة …» «1».

22- داود الزبرقاني الرقاشي أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «داود الزبرقاني الرقاشي، بصري نزل بغداد، عن: ثابت وزيد بن أسلم وخلق. وعنه: ابن أبي عروبة وشعبة- وهما من شيوخه- وأحمد بن منيع وابن عرفة.

قال البخاري: حديثه مقارب.

وقال ابن معين: ليس بشي ء.

وقال أبو زرعة: متروك.

وقال أبو داود: ضعيف ترك حديثه.

وقال الجوزجاني: كذّاب.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 431/ 2478.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 93

وقد ذكره ابن عدي وساق له بضعة عشر حديثاً استنكرها وقال: عامّة ما يرويه لا يتابع عليه.

قلت: مات في حدود نيف وثمانين ومائة. وقال ابن المديني: كتبت عنه ورميت به. وقال النسائي: ليس بثقة» «1».

23- داود بن المحبر

أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «داود بن المحبر بن قحذم، أبو سليمان البصري، صاحب كتاب العقل- وليته لم يصنّفه- روي عن شعبة وهمام وجماعة وعن مقاتل بن سليمان. وعنه: أبو اميّة والحارث بن أبي اسامة وجماعة.

قال أحمد: كان لا يدري ما

الحديث.

وقال ابن المديني: ذاهب حديثه.

وقال أبو زرعة وغيره: ضعيف.

قال أبو حاتم: ذاهب الحديث غير ثقة.

وقال الدارقطني: متروك.

وأمّا عبّاس، فروي عن ابن معين قال: ما زال معروفاً بالحديث، ثمّ تركه وصحب قوماً من المعتزلة فأفسدوه، وهو ثقة.

وقال أبو داود: شبه الضعيف.

وروي عبدالغني بن سعيد، عن الدارقطني قال: كتاب العقل وضعه ميسرة بن عبد ربّه، ثمّ سرقه منه داود بن المحبّر، فركّبه بأسانيد غير أسانيد

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 11/ 2609.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 94

ميسرة» «1».

وقال الذهبي: «قال صالح جزرة: يكذب ويضع» «2».

24- السرّي بن إسماعيل الكوفي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «السرّي بن إسماعيل الكوفي، صاحب الشعبي.

قال يحيي بن سعيد القطّان: استبان لي كذبه في مجلسٍ واحدٍ.

وقال النسائي: متروك.

وقال غيره: ليس بشي ء.

وقال أحمد: ترك الناس حديثه.

وروي عبّاس الدوري عن يحيي: ليس بشي ء» «3».

25- سعد بن طريف الإسكاف أخرج عنه أبو داود وابن ماجة.

قال الذهبي: «سعد بن طريف الإسكاف الحنظلي الكوفي، عن عكرمة وأبي وائل.

قال ابن معين: لا يحلّ لأحدٍ أن يروي عنه.

وقال أحمد وأبو حاتم: ضعيف الحديث.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 33/ 2649.

(2) ميزان الاعتدال 3: 173/ 3090.

(3) ميزان الاعتدال 3: 173/ 3090.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 95

وقال النسائي والدارقطني: متروك.

وقال ابن حبّان: كان يضع الحديث علي الفور» «1».

26- سعيد بن سنان الحمصي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «سعيد بن سنان، أبو مهدي، الحمصي.

ضعّفه أحمد.

قال يحيي: ليس بثقة.

وقال مرّةً: ليس بشي ء.

وقال الجوزجاني: أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة.

وقال البخاري: منكر الحديث.

وقال النسائي: متروك» «2».

وقال ابن حجر: «متروك. ورماه الدارقطني وغيره بالوضع» «3».

27- سعيد بن عبدالجبّار الزبيدي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «سعيد بن عبدالجبّار الزبيدي الحمصي، عن روح بن جناح.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 181/ 3121.

(2)

ميزان الاعتدال 3: 210- 211/ 3211.

(3) تقريب التهذيب 2: 33/ 2333.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 96

قال النسائي: ليس بثقة.

وقال ابن عدي: سكن البصرة، يكنّي أبا عثمان.

وقال ابن المديني: لم يكن بشي ء.

وقال قتيبة: رأيته بالبصرة. وكان جرير يكذّبه» «1».

وقال ابن حجر: «ضعيف. كان جرير يكذّبه» «2».

28- سلم بن إبراهيم الوراق أخرج عنه أبو داود وابن ماجة.

قال الذهبي: «سلم بن إبراهيم الوراق. عن مبارك بن فضالة.

ضعّفه ابن معين بل قال: كذّاب» «3».

29- سلم بن عبدالرحمن النخعي أخرج عنه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «سلم بن عبدالرحمن النخعي. عن أبي زرعة البجلي.

قوّاه ابن معين. واتّهمه بعض الحفاظ. وقال إبراهيم النخعي: هو كذّاب» «4».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 214- 215/ 3226.

(2) تقريب التهذيب 2: 35/ 2343.

(3) ميزان الاعتدال 3: 262/ 3369.

(4) ميزان الاعتدال 3: 264/ 3377.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 97

30- سيف بن محمّد الكوفي أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «سيف بن محمّد الكوفي، ابن اخت سفيان الثوري، روي عن عاصم الأحول والأعمش وطائفة. وعنه: محمود بن خداش وأحمد بن أبي شريح وطائفة.

روي عبداللَّه بن أحمد عن أبيه: كذّاب.

روي عثمان بن سعيد عن يحيي: كذّاب خبيث كان هاهنا.

وقال أبو حاتم: لا يكتب حديثه.

وعن ابن معين: كذّاب وأخوه عمّار ثقة.

وقال النسائي: ضعيف. وقال مرّةً: متروك ليس بثقة.

وقال الدارقطني وغيره: متروك.

وقال الجوزجاني: سيف وعمّار ابنا اخت الثوري ليسا بالقويين» «1».

وفي (حاشية الكاشف): «وقال أبو داود: كذّاب.

وقال النسائي: ضعيف. وقال في موضع آخر: ليس بثقة ولا مأمون، متروك.

وقال زكريّا بن يحيي الساجي: يضع الحديث».

وقال ابن حجر: «كذّبوه» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 354/ 3644.

(2) تقريب التهذيب 2: 101/ 2726.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 98

31- سيف بن

هارون البرجمي أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «سيف بن هارون البرجمي، عن إسماعيل بن أبي خالد وسليمان التيمي.

قال يحيي: ليس بشي ء. وقال مرّةً: ليس بذاك.

وقال النسائي والدارقطني: ضعيف.

وقال ابن حبّان: يروي عن الأثبات الموضوعات» «1».

32- صالح بن أبي الأخضر

أخرج عنه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «صالح بن أبي الأخضر البصري. صالح الحديث.

ضعّفه يحيي بن معين والنسائي والبخاري.

وروي عبّاس وعثمان عن ابن معين: ليس بشي ء.

وقال ابن حبّان: هو مولي هشام بن عبدالملك الأموي، بالحريّ أنْ لا يحتجّ به.

وقال العجلي: يكتب حديثه وليس بالقوي.

وقال الجوزجاني: اتّهم في أحاديثه.

وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث.

وقال أبو حاتم: ليّن الحديث.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 356/ 3648.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 99

وقال الترمذي: يضعَّف في الحديث، ضعّفه يحيي القطّان وغيره» «1».

33- صبّاح بن محمّد البجلي أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «صبّاح بن محمّد البجلي. عن مرّة الطبيب عن ابن مسعود، فرفع حديثين هما من قول عبداللَّه.

قال ابن حبّان: يروي الموضوعات.

وقد ذكره ابن أبي حاتم فقال: روي عنه أبان بن إسحاق الأسدي، لم يزد، فلا تعرّض له بجرحٍ وتعديل» «2».

34- ضرار بن صرد

أخرج عنه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «ضرار بن صرد، أبو نعيم الطحّان …

قال أبو عبداللَّه البخاري وغيره: متروك.

وقال يحيي بن معين: كذّابان بالكوفة، هذا وأبو نعيم النخعي» «3».

35- طلحة بن زيد

أخرج عنه ابن ماجة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 395/ 3774.

(2) ميزان الاعتدال 3: 420/ 3853.

(3) ميزان الاعتدال 3: 449/ 3955.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 100

قال الذهبي: «طلحة بن زيد الرقي، وقيل: الكوفي، وقيل: الشامي، نزيل واسط يقال: إنّه قرشي، والظاهر أنّه الأوّل، لكن فرّق بينهما ابن أبي حاتم.

روي عن هشام بن عروة وإبراهيم بن

أبي عبلة والأوزاعي وعدّة.

وعنه أحمد بن يونس وجماعة.

قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك. وقال ابن حبّان:

منكر الحديث جدّاً، لا يحلّ الإحتجاج بخبره.

أبو يعلي: ثنا حسين بن الحسن السليماني، ثنا وضّاح بن حسان الأنباري، ثنا طلحة بن زيد، عن عبيدة بن حسان، عن عطاء، عن جابر أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعمر: أنت وليّي في الدنيا ووليّي في الآخرة. رواه ابن عدي عنه.

وقال ابن حبّان: ثنا أبو يعلي: ثنا شيبان، ثنا طلحة بن زيد الدمشقي، عن عبيدة بن حسان، عن عطا الكيخاواني، عن جابر قال: بينا نحن مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في نفر من المهاجرين- فيهم أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وابن عوف وسعد- فقال: لينهض كلّ رجل إلي كفوه، ونهض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي عثمان فاعتنقه ثمّ قال: أنت وليّي في الدنيا والآخرة.

ابن عدي عن ثقتين عن أبي فروة الرهاوي، عن أبيه، عن طلحة بن زيد، عن الأوزاعي، عن يحيي بن أبي كثير، عن أنس مرفوعاً: من تكلّم بالفارسيّة زادت في خبّه ونقصت من مروّته.

وبالإسناد فذكر ستّة أحاديث موضوعة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 101

محمّد بن شعيب وصدقة بن عبداللَّه، عن طلحة بن زيد، عن موسي بن عبيدة، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسي مرفوعاً: يبعث اللَّه العلماء فيقول: إنّي لم أضع علمي فيكم إلّالعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لُاعذّبكم، انطلقوا فقد غفرت لكم. وهذا باطل؛ قاله ابن عدي.

محمّد بن هامان، ثنا طلحة بن زيد، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مرفوعاً: لا يبرمنّ أحدٌ منكم أمراً حتّي يشاور. وهذا باطل عن عقيل.

قال ابن المديني: كان طلحة بن

زيد يضع الحديث.

وقال صالح جزرة: لا يكتب حديثه» «1».

36- عامر بن صالح بن عبداللَّه أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «عامر بن صالح بن عبداللَّه بن عروة بن الزبير بن العوام.

واهٍ، لعلّ ما روي أحمد بن حنبل عن أحدٍ أوهي من هذا، ثمّ سئل عنه فقال: ثقة لم يكن يكذب.

وقال ابن معين: كذّاب.

وقال الدارقطني: يترك.

وقال النسائي: ليس بثقة. وقال: سمعت يحيي بن معين يقول: جُنّ أحمد؟! يحدّث عن عامر بن صالح؟!

وقال ابن معين أيضاً: ليس بشي ء، يروي عن هشام عن أبيه عن عائشة:

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 463/ 4005.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 102

إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إيّاكم والزنج فإنّه خلق مشوّه.

وروي أحمد بن محمّد بن محرز عن ابن معين قال: كذّاب خبيث عدوّ اللَّه» «1».

37- عباد بن راشد البصري أخرج عنه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «عباد بن راشد، بصري، صدوق …

أخرج له البخاري مقروناً بغيره، لكنّه ذكره في كتاب الضعفاء!

وقال ابن عدي: له أحاديث كما لأبيه أحاديث، وما يرويانه لا يتابعان عليه.

وقال أبو حاتم: صالح الحديث.

وقال النسائي: ليس بالقوي.

وأمّا ابن حبّان فاتّهمه» «2».

38- عباد بن كثير الثقفي أخرج عنه أبو داود وابن ماجة.

قال ابن حجر: «عباد بن كثير الثقفي البصري.

متروك. قال أحمد: روي أحاديث كذب» «3».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 17.

(2) ميزان الاعتدال 4: 26/ 4118.

(3) تقريب التهذيب 2: 179/ 3139.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 103

وقال الذهبي: «تركوه» «1».

39- عبداللَّه بن إبراهيم الغفاري أخرج عنه أبو داود والترمذي.

قال الذهبي: «عبداللَّه بن إبراهيم الغفاري، وهو عبداللَّه بن أبي عمرو، يدلّسونه لوهنه.

ونسبه ابن حبان إلي أنّه يضع الحديث.

وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه لا يتابع عليه.

وقال الدارقطني: حديثه منكر.

وذكر له

ابن عدي الحديثين اللذين في جزء ابن عرفة في فضل أبي بكر وعمر، وهما باطلان» «2».

وقال ابن حجر: «متروك، نسبه ابن حبان إلي الوضع» «3».

40- عبداللَّه بن خراش أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «عبداللَّه بن خراش بن حوشب، عن عمّه العوام بن حوشب.

ضعّفه الدارقطني وغيره.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 35/ 4139.

(2) ميزان الاعتدال 4: 56/ 4195.

(3) تقريب التهذيب 2: 190/ 3199.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 104

وقال أبو زرعة: ليس بشي ء.

وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث، وهو أخو شهاب.

قال البخاري: منكر الحديث» «1».

وقال ابن حجر: «ضعيف، وأطلق عليه أبو عمّار الكذب» «2».

41- عبداللَّه بن زياد المخزومي أخرج عنه أبو داود في المراسيل وابن ماجة.

قال الذهبي: «عبداللَّه بن زياد بن سمعان، المدني، الفقيه.

تركوه. يكني أباعبدالرحمن، مولي امّ سلمة.

قال البخاري: سكتوا عنه. وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال مرّةً:

ضعيف، وقال مرّةً: ليس حديثه بشي ء.

وقال أحمد: سمعت إبراهيم بن سعد يحلف أنّ ابن سمعان يكذب.

وقال الجوزجاني: ذاهب الحديث.

وروي ابن القاسم عن مالك: كذّاب» «3».

وقال ابن حجر: «متروك. اتّهمه بالكذب أبو داود وغيره» «4».

أقول: فكيف روي عنه في مراسيله؟

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 88/ 4292.

(2) تقريب التهذيب 2: 204/ 3293.

(3) ميزان الاعتدال 4: 101.

(4) تقريب التهذيب 2: 210/ 3326.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 105

42- عبداللَّه بن سعيد المقبري أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «عبداللَّه بن سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري، عن أبيه.

واهٍ بمرّة. يكنّي أباعباد.

قال ابن معين: ليس بشي ء، وقال مرّةً: ليس بثقة، وقال الفلاس: منكر الحديث متروك.

وقال يحيي بن سعيد: استبان لي كذبه في مجلس.

وقال الدارقطني: متروك ذاهب الحديث.

وقال أحمد مرّةً: ليس بذاك، ومرّةً قال: متروك» «1».

43- عبداللَّه بن شريك العامري أخرج عنه النسائي.

قال الذهبي: «عبداللَّه

بن شريك العامري. حدّث عن ابن عمر وجماعة.

كان في أوّل أمره من أصحاب المختار ولكنّه تاب. وثّقه أحمد وابن معين وغيرهما.

وليّنه النسائي.

وقال الجوزجاني: كذّاب» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 108/ 4358.

(2) ميزان الاعتدال 4: 119/ 4384.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 106

44- عبداللَّه بن صالح أبو صالح كاتب الليث أخرج عنه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «قال صالح جزرة: كان ابن معين يوثّقه، وهو عندي يكذب في الحديث.

وقال النسائي: ليس بثقة، يحيي بن بكير أحبّ إلينا منه.

وقال ابن المديني: لا أروي عنه شيئاً» «1».

45- عبداللَّه بن محمّد العدوي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «عبداللَّه بن محمّد العدوي، أبوالحباب، التيمي، عن ابن عقيل والزهري.

قال البخاري: منكر الحديث.

وقال وكيع: يضع الحديث.

وقال ابن حبّان: لا يجوز الإحتجاج بخبره» «2».

46- عبداللَّه بن معاذ الصنعاني أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 119/ 4384.

(2) ميزان الاعتدال 4: 176/ 4543.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 107

قال الذهبي: «كان عبدالرزاق يكذّبه» «1».

47- عبداللَّه بن أبي أويس أخرج عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «وثّقه يحيي بن معين وغيره.

وأمّا الأزدي فقال: كان يضع الحديث».

48- عبدالرحمن بن عبداللَّه بن عمر بن حفص أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «عبدالرحمن بن عبداللَّه بن عمر بن حفص العمري المدني. عن أبيه.

هالك.

قال يحيي بن معين: سمعت منه مجلساً وهو ضعيف.

وقال أحمد: ليس يسوي حديثه شيئاً، سمعت منه ثمّ تركناه، وكان ولي قضاء المدينة، أحاديثه مناكير، وكان كذّاباً، فمزّقت حديثه.

وقال البخاري: هو وأخوه القاسم يتكلَّمون فيهما.

وذكر البخاري عبدالرحمن في موضعٍ آخر فقال: سكتوا عنه.

وقال النسائي: متروك» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 202/ 4620.

(2) ميزان الاعتدال 4: 295/ 4905.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3،

ص: 108

49- عبدالرّحمن بن قيس الضبّي أخرج عنه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «عبدالرحمن بن قيس، أبو معاوية الزعفراني البصري …

كذّبه ابن مهدي وأبو زرعة.

وقال البخاري: ذاهبٌ حديثه.

وقال أحمد: لم يكن بشي ء» «1».

وقال ابن حجر: «متروك. كذّبه أبو زرعة وغيره» «2».

50- عبدالرحمن بن هاني أخرج عنه أبو داود وابن ماجة.

قال الذهبي: «عبدالرحمن بن هاني، أبو نعيم النخعي، عن سفيان الثوري.

قال أحمد: ليس بشي ء.

ورماه يحيي بالكذب.

وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه لا يتابع عليه» «3».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 309/ 4949.

(2) تقريب التهذيب 2: 344/ 3989.

(3) ميزان الاعتدال 4: 324/ 4999.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 109

51- عبدالرّحيم بن زيد العمي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «عبدالرحيم بن زيد بن الحواري العميّ. عن أبيه وغيره.

قال البخاري: تركوه.

وقال يحيي: كذّاب. وقال مرّةً: ليس بشي ء.

وقال الجوزجاني: غير ثقة.

وقال أبو حاتم: ترك حديثه.

وقال أبو زرعة: واه.

وقال أبو داود: ضعيف» «1».

وقال ابن حجر: «كذّبه ابن معين» «2».

52- عبدالرحيم بن هارون الغساني أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «عبدالرحيم بن هارون الغساني الواسطي، أبو هشام، عن شعبة وعبدالعزيز بن أبي رواد.

قال الدارقطني: متروك الحديث، يكذب.

وروي عنه الدقيقي وإسحاق بن وهب، وقد ساق له ابن عدي عدّة

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 336/ 5035.

(2) تقريب التهذيب 2: 359/ 4055.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 110

أحاديث استنكرها» «1».

53- عبدالعزيز بن أبان أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «عبدالعزيز بن أبان، أبو خالد، الأموي الكوفي.

أحد المتروكين …

قال أحمد بن حنبل: لمّا حدّث بحديث المواقيت تركته.

قال يحيي: كذّاب خبيث، حدّث بأحاديث موضوعة.

وقال أبو حاتم: لا يكتب حديثه.

وقال البخاري: تركوه» «2».

وقال ابن حجر: «متروك. كذّبه ابن معين وغيره» «3».

54- عبدالملك الأصمعي أخرج عنه أبو داود والترمذي.

قال الذهبي: «قد روي

الحسين الكوكبي عن أحمد بن عبيد أنّه سئل أبو زيد الأنصاري عن أبي عبيدة والأصمعي فقال: كذّابان. وسئلا عنه فقالا: ما شئت من عفاف وتقوي» «4».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 339/ 5044.

(2) ميزان الاعتدال 4: 357/ 5087.

(3) تقريب التهذيب 2: 364/ 4083.

(4) ميزان الاعتدال 4: 408/ 5245.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 111

55- عبدالوهّاب بن الضحّاك أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «كذّبه أبو حاتم. وقال النسائي وغيره: متروك. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال البخاري: عنده عجائب» «1».

وقال ابن حجر: «متروك، كذّبه أبو حاتم» «2».

56- عبدالوهّاب بن مجاهد

أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «عبدالوهّاب بن مجاهد بن جبر المكي، عن أبيه …

عن يحيي قال: ليس يكتب حديثه.

وروي عثمان بن سعيد عن يحيي: ليس بشي ء.

وقال أحمد: ليس بشي ء، ضعيف.

وقال البخاري: قال وكيع: يقولون لم يسمع من أبيه.

وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه لا يتابع عليه» «3».

وقال ابن حجر: «متروك. وكذّبه الثوري» «4».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 432/ 5321.

(2) تقريب التهذيب 2: 397/ 4257.

(3) ميزان الاعتدال 4: 436/ 5329.

(4) تقريب التهذيب 2: 398/ 4263.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 112

57- عبيداللَّه بن زجر

أخرج عنه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد بن حنبل وغيرهم.

قال الذهبي: «روي عنه الكبار …

روي عثمان بن سعيد عن يحيي قال: حديثه عندي ضعيف.

وروي عبّاس عن يحيي: ليس بشي ء.

وقال ابن المديني: منكر الحديث.

وقال الدارقطني: ليس بالقوي وشيخه علي متروك.

وقال ابن حبّان: يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روي عن علي ابن زيد أتي بالطامّات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيداللَّه وعلي بن زيد والقاسم أبو عبدالرحمن لم يكن ذلك الخبر إلّاما عملته أيديهم.

قلت: أخرج له أرباب السنن وأحمد في مسنده» «1».

58- عبيد بن القاسم الأسدي أخرج

عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «عبيد بن القاسم بن هشام بن عروة.

ليس بثقةٍ، قد حدّث عنه أحمد ويحيي وأحمد بن المقدام.

قال البخاري: ليس بشي ء.

وقال يحيي: ليس بثقة، وقال مرّةً: كذّاب.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 9/ 5364.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 113

وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث.

وقال أبو زرعة: لا ينبغي أنْ يحدّث عنه.

وقال ابن حبّان: روي عن هشام نسخةً موضوعة.

قال الدارقطني: ضعيف.

وقال صالح جزرة: كذّاب يضع الحديث.

وقال أبو داود: كان يضع الحديث.

وقال النسائي: متروك الحديث» «1».

59- عثمان بن عبدالرحمن أخرج عنه الترمذي قال ابن حجر: «عثمان بن عبدالرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقّاص …

متروك. وكذّبه ابن معين» «2».

وقال الذهبي: «قال البخاري: تركوه …

قال ابن معين: ليس بشي ء، وقال مرّةً: يكذب.

وضعّفه علي جدّاً. قال النسائي والدارقطني: متروك» «3».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 28/ 5441.

(2) تقريب التهذيب 2: 441/ 4493.

(3) ميزان الاعتدال 5: 56- 57/ 5537.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 114

60- عثمان بن فائد

أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «عثمان بن فائد، عن جعفر بن يرقان.

قال ابن حبّان: لا يحتجّ به».

ثمّ ساق أحاديث فنقل عن البخاري أنّها موضوعة والمتّهم بوضعها عثمان «1».

61- عطاء بن عجلان أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «عطاء بن عجلان الحنفي البصري، عن أنس وأبي عثمان النهدي، وعنه: حمّاد بن سلمة وسعد بن أبي الصّلت.

قال ابن معين: ليس بشي ء، كذّاب. وقال مرّةً: كان يضع الحديث فيحدّث به.

وقال الفلاس: كذّاب.

وقال البخاري: منكر الحديث.

وقال أبو حاتم والنسائي: متروك.

وقال الدارقطني: ضعيف يعتبر به، وقال مرّةً: متروك» «2».

وقال ابن حجر: «متروك.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 65/ 5558.

(2) ميزان الاعتدال 5: 95/ 5650.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 115

بل أطلق عليه ابن معين والفلّاس وغيرهما: الكذّاب» «1».

62- عطيّة بن

سفيان الثقفي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «عطيّة بن سفيان الثقفي، تفرّد عنه عيسي بن عبداللَّه بن مالك كذّاب» «2».

63- عكرمة البربري أخرج عنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

وقد تقدّم في الكتاب أنّ عدّةً من الكبار كذّبوه، كيحيي بن سعيد، وعلي ابن عبداللَّه بن العبّاس، وسعيد بن المسيّب، وعبداللَّه بن عمر، وابن سيرين وغيرهم.

64- العلاء بن خالد الواسطي أخرج عنه الترمذي.

وقال الذهبي: «العلاء بن خالد الواسطي، مولي قريش. عن قتادة، ورأي الحسن. وعنه: مسدّد وهدبة.

قوّاه ابن حبّان.

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 3: 15/ 4594.

(2) ميزان الاعتدال 5: 101/ 5674.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 116

وكذّبه أبو سلمة» «1».

وقال ابن حجر: «ضعيف. رماه أبو سلمة بالكذب، وتناقض ابن حبّان» «2».

65- العلاء بن زيد الثقفي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «العلاء بن زيد الثقفي، عن أنس بن مالك، يكنّي أبا محمّد، بصري.

قال ابن المديني: كان يضع الحديث.

وقال أبو حاتم والدارقطني: متروك الحديث.

وقال البخاري وغيره: منكر الحديث.

وقال ابن حبّان: روي عن أنس نسخةً موضوعة» «3».

وقال ابن حجر: «متروك، رماه أبوالوليد بالكذب» «4».

66- العلاء بن مسلمة بن عثمان أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «العلاء بن مسلمة الرواس، حدّث ببغداد، عن ضمرة بن ربيعة وجماعة. وعنه، الترمذي ويحيي بن صاعد.

قال الأزدي: لا تحلّ الرواية عنه، كان لا يبالي ما روي.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 122/ 5732.

(2) تقريب التهذيب 3: 128/ 5234.

(3) ميزان الاعتدال 5: 123/ 5736.

(4) تقريب التهذيب 3: 128/ 5239.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 117

وقال ابن طاهر: كان يضع الحديث.

وقال ابن حبّان: يروي الموضوعات عن الثقات» «1».

وقال ابن حجر: «متروك، رماه ابن حبّان بالوضع» «2».

67- علي بن المجاهد الكابلي أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «علي بن مجاهد الكابلي.

كذبّه يحيي

بن الضريس، ومشّاه غيره ووثّق.

وقال ابن معين: كان يضع الحديث.

وقال السليماني: فيه نظر» «3».

68- عمارة بن جوين العبدي أخرج عنه الترمذي وابن ماجة والبخاري في أفعال العباد.

قال الذهبي: «عمارة بن جوين، أبو هارون، العبدي، تابعي.

ليّن بمرّة.

كذّبه حمّاد بن زيد.

وقال شعبة: لأن اقدَّم فتضرب عنقي أحبّ إليّ من أن احدّث عن أبي هارون.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 130/ 5749.

(2) تقريب التهذيب 3: 131/ 5256.

(3) ميزان الاعتدال 5: 184/ 5925.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 118

وقال أحمد: ليس بشي ء.

وقال ابن معين: ضعيف لا يصدّق في حديثه.

وقال النسائي: متروك الحديث.

وقال الدارقطني: يتلوّن، خارجي وشيعي، فيعتبر بما روي عنه الثوري.

وقال ابن حبّان: كان يروي عن أبي سعيد ماليس من حديثه.

وروي معاوية بن صالح عن يحيي: ضعيف.

يحيي القطّان قال قال شعبة: كنت أتلقّي الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي، فقدم، فرأيت عنده كتاباً فيه أشياء منكرة في علي رضي اللَّه عنه، فقلت: ما هذا الكتاب؟ قال: هذا الكتاب حق.

قال القطّان: لم يزل ابن عون يروي عن أبي هارون حتّي قال الجوزجاني: أبو هارون كذّاب مفتر.

ابن عدي: ثنا الحسن بن سفيان، حدّثني عبدالعزيز بن سلام، حدّثني علي بن مهران، سمعت بهز بن أسد سمعت شعبة يقول: أتيت أباهارون، فقلت: أخرج إليَّ ما سمعته من أبي سعيد، فأخرج إليَّ كتاباً، فإذا فيه: ثنا أبو سعيد: إنّ عثمان ادخل حفرته وإنّه لكافر باللَّه. فدفعت الكتاب في يده وقمت.

الأثرم: ثنا أحمد، ثنا يحيي بن آدم، ثنا معلي بن خالد قال لي شعبة: لو شئت أن يحدّثني أبو هارون العبدي عن أبي سعيد بكلّ شي ء رأي أهل واسط يصنعونه باللّيل، لفعلت.

وقال ابن معين قال لي شعبة: كان عند أبي هارون العبدي صحيفة يقول: هذه صحيفة الوصي.

استخراج

المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 119

قال السليماني: سمعت أبابكر ابن خليد يقول: سمعت صالح بن محمّد أبا علي- وسئل عن أبي هارون العبدي- فقال: أكذب من فرعون» «1».

وقال ابن حجر: «متروك، ومتّهم، بيّن كذبه» «2».

69- عمر بن صبح الخراساني أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «ليس بثقة ولا مأمون.

قال ابن حبّان: كان ممّن يضع الحديث …

قال الدارقطني وغيره: متروك.

وقال الأزدي: كذّاب.

قال أحمد بن علي السليماني: عمر بن الصبح الذي وضع آخر خطبة النبي» «3».

وفي (حاشية الكاشف):

«قال أبو حاتم ابن حبّان: يضع الحديث علي الثقات، لا يحلّ كتب حديثه إلّاعلي وجه التعجّب.

وقال أبوالفتح الأزدي: كذّاب.

وقال الدارقطني: متروك.

وقال إسحاق بن راهويه: ثلاثة لم يكن لهم في الدنيا نظير- يعني في __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 209/ 6024.

(2) تقريب التهذيب 3: 62/ 4840.

(3) ميزان الاعتدال 5: 248/ 6153 ملخّصاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 120

البدعة والكذب- جهم بن صفوان وعمر بن الصبح ومقاتل بن سليمان».

وقال ابن حجر: «متروك. كذّبه ابن راهويه» «1».

70- عمر بن هارون البلخي أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «عمر بن هارون البلخي، أبو حفص، مولي ثقيف. عن جعفر بن محمّد وابن جريج. وعنه: قتيبة وأحمد ونصر بن علي وخلق. وقد تزوَّج ابن جريج باخته وجاور عنده، وكان من أوعية العلم علي ضعفه. وقال قتيبة: كان شديداً علي المرجئة، من أعلم الناس بالقراءات.

وقال ابن مهدي وأحمد والنسائي: متروك الحديث.

وقال يحيي: كذّاب خبيث.

وقال أبو داود: غير ثقة.

وقال الدارقطني: ضعيف جدّاً.

وقال ابن المديني: ضعيف جدّاً.

وقال صالح جزرة: كذّاب.

وقال زكريّا الساجي: فيه ضعف.

وقال أبو علي النيسابوري: متروك» «2».

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 3: 76/ 4922.

(2) ميزان الاعتدال 5: 275/ 6243.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 121

71- عمرو بن جابر

أبو زرعة الحضرمي أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «هالك.

قال سعيد بن أبي مريم: سمعت ابن لهيعة يقول: عمرو بن جابر خفيف العقل، كان يقول: علي في السحاب، كان يجلس معنا فيبصر سحابةً فيقول:

هذا قد مرّ في السحاب، كان شيخاً أحمق.

وقال أحمد: روي عن جابر مناكير، وبلغني أنّه كان يكذب» «1».

وفي (حاشية الكاشف): «قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: غير ثقة علي جهلٍ وحمق. وقال أبو حاتم ابن حبان: لا يحتجّ بخبره. وقال أبوالفتح الأزدي: كذّاب».

72- عمرو بن خالد القرشي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «عمرو بن خالد القرشي، كوفي، أبو خالد، تحوّل إلي واسط.

قال وكيع: كان في جوارنا، يضع الحديث، فلمّا فُطن له تحوّل إلي واسط».

«روي عبّاس عن يحيي قال: كذّاب غير ثقة.

حدّث عنه الأبار وغيره، فروي عن زيد بن علي عن آبائه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 303/ 6347.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 122

روي عثمان بن سعيد عن يحيي قال: عمرو بن خالد الذي يروي عنه الأبّار كذّاب.

روي أحمد بن ثابت عن أحمد بن حنبل قال: عمرو بن خالد الواسطي كذّاب.

وقال النسائي: روي عن حبيب بن أبي ثابت، كوفي، ليس بثقة.

وقال الدارقطني: كذّاب» «1».

وفي (حاشية الكاشف): «قال إسحاق وأبو زرعة: كان يضع الحديث.

وقال أبو حاتم: متروك الحديث، ذاهب الحديث، لا يشتغل به، وقال:

كذّاب».

73- عمرو بن واقد الدمشقي أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «قال أبو مسهر: ليس بشي ء.

وقال البخاري: منكر الحديث.

وقال ابن عدي: يكتب حديثه مع ضعفه.

وقال الدارقطني: متروك.

وروي الفسوي عن دحيم قال: لم يكن شيوخنا يحدّثون عنه، وقال:

لم نشك أنّه كان يكذب.

وكذّبه مروان بن محمّد» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 311/ 6365.

(2) ميزان الاعتدال 5: 349/ 6471.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 123

74- عنبسة

بن عبدالرحمن أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «عنبسة بن عبدالرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص القرشي الأموي. عن الحسن وغيره.

قال البخاري: تركوه.

روي الترمذي عن البخاري: ذاهب الحديث.

وقال أبو حاتم: كان يضع الحديث» «1».

75- قاسم بن عبداللَّه بن عمر

أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «القاسم بن عبداللَّه بن عمر العمري المدني، عن ابن المنكدر وعبداللَّه بن دينار.

قال أحمد: ليس بشي ء، كان يكذب ويضع الحديث.

وقال يحيي: ليس بشي ء، وقال مرّةً: كذّاب.

وقال أبو حاتم والنسائي: متروك.

وقال الدارقطني: ضعيف.

وقال البخاري: سكتوا عنه» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 362/ 6518.

(2) ميزان الاعتدال 5: 451/ 6818.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 124

76- كثير بن عبداللَّه بن عمرو

أخرج عنه أبو داود والترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «قال ابن معين: ليس بشي ء.

وقال الشافعي وأبو داود: ركن من أركان الكذب.

وضرب أحمد علي حديثه.

وقال الدارقطني وغيره: متروك.

وقال أبو حاتم: ليس بالمبيّن.

وقال النسائي: ليس بثقة.

وقال مطرف بن عبداللَّه المدني: رأيته كان كثير الخصومة، لم يكن أحد من أصحابنا يأخذ عنه، قال له عمران القاضي: يا كثير، أنت رجل بطّال، تخاصم فيما لا تعرف وتدّعي فيما ليس لك، ومالك بيّنة، فلا تقربني إلّاأنْ تراني تفرّغت لأهل البطالة.

وقال ابن حبّان: له عن أبيه عن جدّه نسخة موضوعة» «1».

77- محمّد بن حسن بن زبالة

أخرج عنه أبو داود.

قال الذهبي: «محمّد بن الحسن بن زبالة المخزومي، المدني، عن مالك وذويه.

قال أبو داود: كذّاب!!

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 5: 492/ 6949.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 125

وقال يحيي: ليس بثقة.

وقال النسائي والأزدي: متروك الحديث.

وقال أبو حاتم: واهي الحديث.

وقال الدارقطني وغيره: منكر الحديث» «1».

وقال ابن حجر: «كذّبوه» «2».

78- محمّد بن عبدالرحمن القشيري أخرج عنه ابن ماجة.

قال ابن حجر: «كذّبوه» «3».

79- محمّد بن الفرات أخرج

عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «محمّد بن الفرات، أبو علي التيمي، كوفي، عن أبي إسحاق ومحارب بن دثار.

كذّبه أحمد وأبوبكر ابن أبي شيبة.

وقال أبو داود: روي عن محارب أحاديث موضوعة.

وقال البخاري: منكر الحديث.

وقال الدارقطني: ليس بالقوي.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 108/ 7386.

(2) تقريب التهذيب 3: 228/ 5815.

(3) تقريب التهذيب 3: 282/ 6090.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 126

وقال ابن معين: ليس بشي ء …» «1».

وقال ابن حجر: «كذّبوه» «2».

80- محمّد بن إسحاق بن عكاشة

أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «قال البخاري: منكر الحديث.

وقال ابن معين: كذّاب.

وقال الدارقطني: يضع الحديث» «3».

81- محمّد بن بشّار- بندار

أخرج عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «كذّبه الفلّاس».

«وقال عبداللَّه ابن الدورقي: كنّا عند يحيي بن معين، فجري ذكر بندار، فرأيت يحيي لا يعبأ به ويستضعفه، ورأيت القواريري لا يرضاه وقال: كان صاحب حمام.

قلت: احتجّ به أصحاب الصحاح كلّهم، وهو حجّة بلا ريب» «4».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 293/ 8053.

(2) تقريب التهذيب 3: 304/ 6217.

(3) ميزان الاعتدال 6: 63/ 7208.

(4) ميزان الاعتدال 6: 79/ 7275.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 127

82- مبارك بن حسان أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «مبارك بن حسان. عن عطا.

قال الأزدي: يرمي بالكذب.

وقال ابن معين: ثقة.

ذكره البخاري فما ذكر فيه جرحاً.

وقال أبو داود: منكر الحديث.

وقال النسائي: ليس بالقوي» «1».

83- محمّد بن الحسن الهمداني أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «محمّد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني الكوفي.

قال ابن معين: قد سمعنا منه ولم يكن بثقة، وقال مرّةً: كان يكذب.

وقال أحمد: ما أراه يسوي شيئاً.

وقال النسائي: متروك.

وقال أبو داود: ضعيف، وقال مرّةً: كذّاب.

وقال أبو حاتم: ليس بالقوي» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 13/ 7044.

(2) ميزان الاعتدال 6: 109/ 7388.

استخراج المرام من

استقصاء الافحام، ج 3، ص: 128

84- محمّد بن حميد بن حبان الرازي أخرج عنه الترمذي وأبو داود وابن ماجة.

قال الذهبي: «من بحور العلم وهو ضعيف.

قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير.

وقال البخاري: فيه نظر.

وكذّبه أبو زرعة.

وقال فضلك الرازي: عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث، ولا احدّث عنه بحرف.

وعن الكوسج قال: أشهد أنّه كذّاب.

وقال صالح جزرة: كنّا نتّهم ابن حميد في كلّ شي ء يحدّثنا، ما رأيت أجرأ علي اللَّه منه، كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضه علي بعض.

قال ابن خراش: ثنا ابن حميد، وكان- واللَّه- يكذب.

وجاء عن غير واحدٍ: إنّ ابن حميد كان يسرق الحديث.

وقال النسائي: ليس بثقة.

وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب من ابن حميد» «1».

85- محمّد بن خالد الواسطي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «محمّد بن خالد بن عبداللَّه الواسطي الطحّان، عن أبيه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 7459126 ملخّصاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 129

قال يحيي: كان رجل سوء. وقال مرّةً: لا شي ء.

وقال ابن عدي: أشدّ ما أنكر عليه أحمد ويحيي رواية له عن أبيه عن الأعمش، ثمّ له مناكير غير ذلك.

وقال أبو زرعة: ضعيف، توفي سنة 240.

وقال ابن عدي: سمعت محمّد بن سعد، سمعت ابن الجنيد أو صالح جزرة يقول: سمعت يحيي بن معين يقول: محمّد بن خالد بن عبداللَّه كذّاب، إنْ لقيتموه فأضعفوه، وقد لحقه عبدان وكاسر عن السماع منه» «1».

86- محمّد بن سعيد المصلوب أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «محمّد بن سعيد المصلوب الشامي، من أهل دمشق، أُتّهم بالزندقة فصلب، واللَّه أعلم، وكان من أصحاب مكحول …

قال أبو أحمد الحاكم: كان يضع الحديث.

وقال أبو زرعة الدمشقي: حدّثنا محمود بن خالد عن أبيه سمعت محمّد ابن سعيد يقول: لا بأس إذا

كان كلاماً حسناً أنْ تضع له إسناداً.

وروي عيسي بن يونس عن الثوري قال: كذّاب.

وروي أبو زرعة الدمشقي عن أحمد بن حنبل: كان كذّاباً» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 130/ 7473.

(2) ميزان الاعتدال 6: 164/ 7598.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 130

87- محمّد بن عبداللَّه بن أبي سبره أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «محمّد بن عبداللَّه بن أبي سبره، أبوبكر المدني، شيخ الواقدي، معروف بكنيته.

قال أحمد بن حنبل: كان يضع الحديث» «1».

88- محمّد بن الفضل بن عطيّة المروزي أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «محمّد بن الفضل بن عطيّة المروزي، وقيل: الكوفي، أبوعبداللَّه، مولي بني عبس، نزيل بخارا. روي عن أبيه وزياد بن علاقة ومنصور. وعنه: يحيي بن يحيي، وعنه: عباد الرواجني ومحمّد بن عيسي بن حيّان المدايني، وهو آخر أصحابه موتاً.

قال أحمد: حديثه حديث أهل الكذب.

وقال يحيي: لا يكتب حديثه.

وقال غير واحد: متروك.

ويقال: حجَّ بضعاً وثلاثين حجّة.

وعنه قال: كنت وأنا ابن خمس سنين حيث كان يذهب بي أبي إلي العلماء.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 204/ 7757.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 131

وقال البخاري: سكتوا عنه، سكن بخارا.

رماه ابن أبي شيبة بالكذب.

وقال الفلّاس: كذّاب» «1».

وقال ابن حجر: «كذّبوه» «2».

89- مبشّر بن عبيد الحمصي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «مبشّر بن عبيد الحمصي، عن الزهري.

قال أحمد: كان يضع الحديث.

وقال البخاري: عنه: بقيّة. منكر الحديث.

وقد طوّل ابن عدي ترجمته بالواهيات وقال: أصله كوفي» «3».

90- معلّي بن عبدالرحمن الواسطي أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «معلّي بن عبدالرحمن الواسطي، عن جرير بن حازم وعبدالحميد بن جعفر، وعنه: كردوس ومحمّد بن عبدالملك الدقيقي.

قال الدارقطني: ضعيف كذّاب.

وقال أبو حاتم: متروك.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 296/ 8062.

(2) تقريب التهذيب 3: 306/ 6225.

(3) ميزان الاعتدال 6:

17/ 7058.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 132

وذهب ابن المديني إلي أنّه كان يضع الحديث.

وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث» «1».

91- مقاتل بن سليمان أخرج عنه أبو داود.

قال ابن حجر: «كذّبوه وهجروه، ورمي بالتجسيم» «2».

92- مينا بن أبي مينا

أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «ما حدّث عنه سوي همام الصنعاني والد عبدالرزاق.

قال أبو حاتم: يكذب» «3».

93- نصر بن حمّاد الورّاق أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «نصر بن حمّاد الورّاق، أبوالحارث، حدّث ببغداد، عن شعبة وغيره.

قال النسائي وغيره: ليس بثقة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 6: 474/ 8679.

(2) تقريب التهذيب 3: 413/ 6868.

(3) ميزان الاعتدال 6: 582/ 8988.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 133

وقال البخاري: يتكلّمون فيه.

وذكر له ابن عدي مناكير منها …

وقال فيه مسلم: ذاهب الحديث.

وقال صالح جزرة: لا يكتب حديثه.

وقال عبداللَّه بن أحمد عن ابن معين: كذّاب» «1».

94- نضر بن كثير، أبو سهل البصري أخرج عنه أبو داود والنسائي.

قال الذهبي: «النضر بن كثير، أبو سهل البصري، عن ابن طاوس.

قال أبو حاتم: فيه نظر.

وقال ابن حبّان: يروي الموضوعات عن الثقات علي قلّة روايته.

وقال البخاري: عنده مناكير» «2».

95- نفيع بن الحارث النخعي، أبو داود الأعمي أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال ابن حجر: «متروك. وقد كذّبه ابن معين» «3».

وقال الذهبي: «قال العقيلي: كان يغلو في الرفض.

وقال البخاري: يتكلّمون فيه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 7: 20/ 9036.

(2) ميزان الاعتدال 7: 33/ 9088.

(3) تقريب التهذيب 4: 23/ 7181.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 134

وقال يحيي بن معين: ليس بشي ء.

وقال النسائي: متروك.

ويقال لأبي داود هذا: السبيعي، لأنّهم مواليه، وقد دلّسه بعض الرواة فقال: نافع بن أبي نافع.

كذّبه قتادة.

وقال الدارقطني وغيره: متروك الحديث.

وقال أبو زرعة: لم يكن بشي ء.

وقال ابن حبّان: لا تجوز الرواية عنه …» «1».

96-

نهشل بن سعيد الورداني أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «نهشل بن سعيد البصري، عن الضحاك بن مزاحم وغيره.

قال إسحاق بن راهويه: كان كذّاباً.

وقال أبو حاتم وأبو داود والنسائي: متروك.

وقال يحيي والدارقطني: ضعيف» «2».

وقال ابن حجر: «متروك، كذّبه إسحاق بن راهويه» «3».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 7: 46/ 9122.

(2) ميزان الاعتدال 7: 50/ 9134.

(3) تقريب التهذيب 4: 25/ 7198.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 135

97- نوح بن أبي مريم أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «نوح بن أبي مريم يزيد بن عبداللَّه، أبو عصمة، المروزي، عالم أهل مرو، وهو نوح الجامع … ولي قضاء مرو في خلافة المنصور واقتدت حياته.

قال نعيم: سئل ابن المبارك عنه فقال: لا إله إلّااللَّه.

وقال أحمد: لم يكن بذاك في الحديث، وكان شديداً علي الجهميّة.

وقال مسلم وغيره: متروك الحديث.

وقال الحاكم: وضع أبو عصمة حديث فضائل القرآن الطويل.

وقال البخاري: منكر الحديث» «1».

وقال ابن حجر: «كذّبوه في الحديث، وقال ابن المبارك: كان يضع» «2».

98- هارون بن هارون أخرج عنه ابن ماجة.

قال الذهبي: «هارون بن هارون بن عبداللَّه بن محرر بن الهدير، التيمي المدني، عن مجاهد والأعرج وابن المنكدر وغيرهم، وهو أخو محرر بن هارون.

قال البخاري: لا يتابع في حديثه.

وقال النسائي: ضعيف.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 7: 55/ 9150.

(2) تقريب التهذيب 4: 27/ 7210.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 136

وقال ابن حبّان: يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يجوز الإحتجاج به» «1».

99- الوليد بن عبداللَّه الهمداني أخرج عنه أبو داود والترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «ضعّفه أحمد وصالح جزرة وغيرهما، ولم يترك.

مات سنة 172.

وقال فيه محمّد بن عبداللَّه بن نمير: ليس بشي ء، كذّاب.

وقال ابن معين:

وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجّ به.

وقال أبو زرعة: منكر الحديث، يهم كثيراً. وقال

مرّةً: في حديثه وهاء.

وساق له ابن عدي أحاديث مقاربة تحمل ومتونها قويّة» «2».

100- الوليد بن محمّد الموقري صاحب الزهري أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «قال أبو حاتم: ضعيف الحديث.

وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه.

وقال ابن خزيمة: لا أحتجّ به.

وكذّبه يحيي بن معين.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 7: 66/ 9184.

(2) ميزان الاعتدال 7: 133/ 9385.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 137

وقال أبو زرعة الدمشقي: لم يزل حديثه مقارباً، يقال توفي سنة 181.

وقال النسائي: متروك الحديث» «1».

وفي (حاشية الكاشف):

«قال ابن حبّان: روي عن الزهري أشياء موضوعة لم يروها الزهري قط، ويرفع المراسيل ويسند الموقوف، لا يجوز الإحتجاج به بحال».

101- يحيي بن عمرو بن مالك النكري أخرج عنه الترمذي.

قال الذهبي: «ضعّفه أبو داود وغيره.

ورماه حمّاد بن زيد بالكذب» «2».

102- يحيي بن العلاء البجلّي أخرج عنه أبو داود وابن ماجة.

قال الذهبي: «كان فصيحاً مفوّهاً، من النبلاء.

قال أبو حاتم: ليس بالقوي.

وضعّفه ابن معين وجماعة.

وقال الدارقطني: متروك.

وقال أحمد بن حنبل: كذّاب يضع الحديث» «3».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 7: 139/ 9408.

(2) ميزان الاعتدال 7: 208/ 9603.

(3) ميزان الاعتدال 7: 205/ 9599.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 138

103- يزيد بن عياض أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «يزيد بن عياض بن يزيد بن جعدية الليثي، حجازي، حدّث بالبصرة عن نافع وابن شهاب والمقبري. وعنه: علي بن الجعد وشيبان وعدّة.

قال البخاري وغيره: منكر الحديث.

وقال يحيي: ليس بثقة.

وقال علي: ضعيف.

ورماه مالك بالكذب.

وقال النسائي وغيره: متروك.

وقال الدارقطني: ضعيف.

وقال عبّاس عن يحيي: ليس بشي ء، ضعيف.

وروي يزيد بن الهيثم عن ابن معين: كان يكذب.

وروي أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: ليس بشي ء، لا يكتب حديثه» «1».

104- يعقوب بن الوليد

أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «قال أحمد: حرّق

حديثه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 7: 258/ 9748.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 139

وكذّبه أبو حاتم ويحيي.

وقال أبو داود: غير ثقة.

وقال الدارقطني: ضعيف.

وقال أحمد أيضاً: كان من الكذّابين الكبار، يضع الحديث» «1».

105- يوسف بن إبراهيم التميمي أخرج عنه الترمذي وابن ماجة.

قال الذهبي: «قال ابن حبّان: يروي عن أنس ماليس من حديثه، لا يحلّ الرواية عنه.

وقال أبو حاتم: ضعيف، عنده عجائب» «2».

106- يونس بن حباب الأسدي أخرج عنه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

قال الذهبي: «كان رافضياً، قال لعباد بن عباد: عثمان قتل بنتي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقلت له: قتل واحدةً، فلم أنكحه الاخري؟

قال يحيي بن سعيد: كان كذّاباً.

وقال ابن معين: رجل سوء، ضعيف.

وقال ابن حبّان: لا تحلّ الرواية عنه.

وقال النسائي: ضعيف.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 7: 282/ 9837.

(2) ميزان الاعتدال 7: 291/ 9863.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 140

وقال الدارقطني: رجل سوء فيه شيعيّة مفرطة.

وقال البخاري: منكر الحديث» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 7: 314/ 9911.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 143

3) من تحريفات الصحابة للأحاديث النبويّة … ص: 143

اشارة

وفي كتب القوم- من الصّحاح وغيرها- أحاديث يرويها بعض الصحابة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بصورة محرّفة، وإنّ البعض الآخر منهم يردّ عليه ويبيّن له ويذكّره باللفظ الذي قاله النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم …

ونحن نكتفي هنا بعددٍ من تلك الأحاديث:

1- الحديث في البكاء علي الميّت … ص: 143

لقد نسب عمر بن الخطّاب وولده عبداللَّه إلي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أنّه قال بأنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه، فنبّهت عائشة علي أنّ ما يرويانه تحريفٌ لكلامه، ثمّ ذكرت حقيقة الأمر كما قال عليه وآله الصلاة والسلام.

أخرج البخاري: «حدّثنا عبدان قال: أخبرنا عبداللَّه بن عبيداللَّه بن أبي مليكة قال: توفّيت بنت لعثمان بمكّة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عبّاس وإنّي لجالس بينهما- أو قال: جلست إلي أحدهما ثمّ جاء الآخر فجلس إلي جنبي- فقال عبداللَّه بن عمر لعمرو بن عثمان:

ألا تنهي عن البكاء؟ فإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه!

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 144

فقال ابن عبّاس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثمّ حدَّث قال: صدرت مع عمر من مكّة، حتّي إذا كنّا بالبيداء إذا هو بركبٍ تحت ظلّ سمرة فقال:

إذهب فانظر من هؤلاء الركب، قال: فنظرت فإذا صهيب، فأخبرته، فقال:

ادعه لي، فرجعت إلي صهيب فقلت: ارتحل فالحق أميرالمؤمنين، فلمّا اصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول: وا أخاه واصاحباه! فقال له عمر: يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ الميّت يعذّب ببعض بكاء أهله عليه.

قال ابن عبّاس: فلمّا مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت:

يرحم اللَّه عمر، واللَّه ما حدّث رسول اللَّه إنّ اللَّه ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول

اللَّه قال: إنّ اللَّه ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه.

قالت: حسبكم القرآن «ولا تزر وازرة وزر اخري».

قال ابن عبّاس عند ذلك: واللَّه هو أضحك وأبكي.

قال ابن أبي مليكة: واللَّه ما قال ابن عمر شيئاً» «1».

فانظر كيف حرّف عمر وولده كلام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وما استحيت عائشة من تكذيبهما …؟

وفي (الإنصاف في بيان سبب الإختلاف) ما نصّه:

«ومنها: اختلاف الضبط. مثاله: ما روي عن ابن عمر عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم من أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه.

نقضت عائشة بأنّه لم يأخذ الحديث علي وجهه: مرّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم علي يهوديّة يبكي عليها أهلها، فقال صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّهم __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 2: 173.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 145

يبكون عليها وإنّها تعذَّب في قبرها.

وظنّ العذاب معلولًا بالبكاء، وظنّ الحكم عامّاً علي كلّ ميّت».

أقول:

وهذا الذي ذكره وليّ اللَّه الدهلوي موجود في صحيح مسلم وغيره «1».

ثمّ لا يخفي أنّ التحريف في الألفاظ النبويّة من عبداللَّه بن عمر كثير، ممّا يظهر أنّ التحريف والتصرّف في الأحاديث كان سجيّةً له.

2- الحديث في موت الفجأة … ص: 145

ومن ذلك: الحديث في موت الفجأة، فانظر ما هو أصل الحديث- كما ترويه عائشة- وكيف حرّفه عبداللَّه بن عمر:

أخرج الطبراني في (الأوسط) عن موسي بن طلحة قال:

«بلغ عائشة أن ابن عمر يقول: إنّ موت الفجأة سخطة علي المؤمنين.

فقالت: يغفر اللَّه لابن عمر! إنّما قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

موت الفجأة تخفيف علي المؤمنين وسخطة علي الكافرين» «2».

3- حديث خطاب النبي لأهل قليب بدر … ص: 145

وحرّف عبداللَّه بن عمر كلام النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم مخاطباً أهل قليب بدر، فقد أخرج عنه البخاري قال:

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 3: 41، كتاب الجنائز، باب الميت يعذّب ببكاء أهله عليه.

(2) المعجم الأوسط 4: 104 رقم 3153.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 146

«وقف النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم علي قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ ثمّ قال: إنّهم الآن يسمعون ما أقول.

فذكر ذلك لعائشة فقالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم حق» «1».

4- حديث الأذان … ص: 146

وحرّف عبداللَّه بن عمر كلام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في جواز الأكل والشرب بعد أذان ابن ام مكتوم، وتركهما بعد أذان بلال، إذ قد عكس الكلام تماماً، فروي عنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الإذن في الأكل والشرب بعد أذان بلال والامتناع عنهما بعد أذان ابن ام مكتوم.

فنبّهت عائشة علي هذا التحريف، كما ذكر ابن حجر العسقلاني وغيره «2».

أقول:

وقد وقع نظائر ذلك من غير عمر وابنه من الصّحابة، كأبي هريرة.

5- حديث اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ … ص: 146

وهذا من غرائب التحريفات والتصرّفات منهم …!

قال البخاري: «حدّثنا محمّد بن المثنّي قال: حدّثنا الفضل بن مساور- ختن أبي عوانة- قال: حدّثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 5: 187.

(2) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 2: 43.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 147

سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: اهتزّ العرش لموت سعد بن معاذ.

وعن الأعمش: حدّثنا أبو صالح عن جابر عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم مثله.

فقال رجل لجابر: فإنّ البراء يقول: اهتزّ السرير.

فقال: إنّه كان بين هذين الحيّين ضغائن، سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» «1».

فانظر كيف تصرّف الصحابي في الحديث النبوي بسبب بغضه وعدائه لسعد بن معاذ …

والأعجب من ذلك ما نقلوه عن عبداللَّه بن عمر، من تأويل حديث النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وتغيير معناه إلي ما ذكره البراء بن عازب فقد قال الحكيم الترمذي في (نوادر الاصول):

«حدّثنا الحسين بن علي العجلي قال: حدّثنا عمرو ابن محمّد العبقري قال: حدّثنا عبداللَّه بن إدريس، عن عبيداللَّه بن عمرو، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه: اهتزّ العرش لموت سعد بن معاذ.

حدّثنا

سفيان بن وكيع، حدّثنا يزيد بن هارون، عن محمّد بن عمرو، عن أبيه عن جدّه، عن عائشة، عن اسيد بن حصين قال قال رسول اللَّه: اهتزّ العرش لوفاة سعد بن معاذ.

قال أبو عبداللَّه: فتأوّل ناس في هذا الحديث وقالوا: العرش سريره الذي حمل عليه، واحتجّوا بحديث رووه عن ابن عمر أنّه تأوّله هكذا:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 5: 116.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 148

حدّثنا الجارود قال: جرير، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: ذكر يوماً عنده حديث سعد: إنّ العرش يهتزّ بحبّ اللَّه لقاء سعد.

قال ابن عمر: إنّ العرش ليس يهتزّ لموت أحد، ولكنّه سريره الذي حمل عليه.

قال: فهذا مبلغ ابن عمر- رحمه اللَّه- من علم ما ألقي اللَّه من ذلك، وفوق كلّ ذي علم عليم».

أقول:

فهذه نماذج من تحريفات الصحابة.

وأمّا تحريفات الرواة من غير الصحابة فلا يمكن حصرها، وقد أورد الحافظ القاضي عياض بعضها في كتاب (مشارق الأنوار).

وأمّا أكاذيبهم ومختلقاتهم في خصوص المناقب والفضائل … فكذلك، كما لا يخفي علي من راجع كتاب (عبقات الأنوار) و (شوارق النصوص) وأمثالهما.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 151

4) من تصحيفات الناسخين … ص: 151

وأمّا التصحيفات في ألفاظ الروايات وأسماء الرواة وغير ذلك- كما ذكر علماؤهم الأعلام-، فلا يمكن استقصاؤها وحصرها في كتابٍ، وقد رأينا الإكتفاء بجملةٍ منها في هذا المقام:

- 1-

قال العراقي في (التقييد والإيضاح):

«قوله حكاية عن عبدالرحمن بن مهدي أنّه قال: الثقة شعبة وسفيان.

وقد اعترض عليه: بأنّ الذي في كتاب الخطيب وغيره: الثقة شعبة ومسعر، لم يذكر سفيان جملة.

والجواب: إنّ المصنّف لم يحك ذلك عن الخطيب، وعلي تقدير كونه في كتاب الخطيب هكذا فيحتمل أنّه من النسّاخ، فليس غلط المصنّف بأولي من تغليطهم» «1».

- 2-

قال سبط ابن

الجوزي، في مدّة حياة الصدّيقة الزهراء عليها السلام بعد أبيها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

__________________________________________________

(1) التقييد والإيضاح لما أطلق أو أغلق من كتاب ابن الصلاح: 153.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 152

«وأقامت مع علي بعد وفاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سبعين يوماً.

وفي روايةٍ: أربعين يوماً، وتوفّيت وهي بنت ثمان عشرة سنة.

قلت: وليست هذه الرواية بشي ء، لإجماع المؤرّخين علي أنّها ولدت قبل الهجرة النبويّة بخمس سنين علي ما ذكرناه، ويحتمل أنّ الغلط من الناسخ، أراد أنْ يكتب ثمان وعشرين، فكتب ثمان عشرة» «1».

- 3-

قال الحلبي، في ذكر غزوة تبوك:

«ووقع في البخاري: أنّها كانت بعد حجّة الوداع. قيل: وهو من غلط النسّاخ» «2».

- 4-

وقال المزّي بترجمة عيّاش بن الأزرق:

«قال أبوبكر ابن أبي عاصم: مات سنة 227. وفي ذلك نظر، فإنّ جعفر ابن محمّد الفريابي قد سمع منه، وإنّما كانت رحلته بعد الثلاثين، فلعلّه يكون سنة سبع وثلاثين» «3».

__________________________________________________

(1) تذكرة الخواص من الامّة: 288.

(2) السيرة الحلبيّة 3: 129.

(3) تهذيب الكمال 22: 553.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 153

- 5-

وقال العيني بترجمة مالك بن عامر وهو والد أنس بن مالك:

«قال محمّد بن سرور المقدسي: قال الواقدي: توفي سنة 112 وهو ابن سبعين أو اثنين وسبعين سنة. وكذا حكي عنه محمّد بن طاهر المقدسي وأبو نصر الكلاباذي. وقال الحافظ زكي الدين المنذري: كيف يصحّ سماعه عن طلحة مع أنّه توفّي سنة 112 وهو ابن سبعين أو اثنين وسبعين؟ فعلي هذا يكون مولده سنة 40 من الهجرة، ولا خلاف أنّ طلحة قتل يوم الجمل سنة 36 من الهجرة. والإسناد صحيح. أخرجه الأئمّة وفيه أنّه سمع طلحة بن عبيداللَّه.

قلت: فلعلّ السبعين صوابها التسعين وتصحّفت بها» «1».

-

6-

وقال السيوطي في (مرقاة الصعود) بشرح ما أخرجه أبو داود قال:

«حدّثني شعبة، حدّثني عبد ربّه بن سعيد، عن أنس بن أبي أنس، عن عبداللَّه بن نافع، عن عبداللَّه بن الحارث بن عبدالمطّلب عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: الصلاة مثني … الحديث».

قال: «قال الخطابي: أصحاب الحديث يغلّطون شعبة في رواية هذا الحديث. قال البخاري: أخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع: قال: عن أنس بن أبي أنس. وإنّما هو عمران بن أبي أنس. وقال: عن عبداللَّه بن الحارث، وإنّما هو: عن عبداللَّه بن نافع، عن ربيعة بن الحارث، وربيعة بن __________________________________________________

(1) عمدة القاري في شرح البخاري 1: 218 باب علامات المنافق.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 154

الحارث هو ابن المطّلب فقال هو: عن المطّلب. والحديث عن الفضل ابن عبّاس، ولم يذكر فيه الفضل.

قال: ورواه اللّيث بن سعد، عن عبدربّه بن سعيد، عن عمران بن أبي أنس، عن عبداللَّه بن نافع، عن ربيعة بن الحارث، عن الفضل بن عبّاس، عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم. وهو الصحيح.

وقال يعقوب بن سفيان في هذا الحديث مثل قول البخاري، وخطّأ شعبة وصوّب الليث. وكذا قال محمّد بن إسحاق بن خزيمة. انتهي كلام الخطابي» «1».

- 7-

وقال التوربشتي بشرح الحديث في أنّ المسيح الدجّال أعور عين اليمني، كأنّ عينه غلبة طافية.

«وفي الأحاديث التي وردت في وصف الدجّال وما يكون منه كلمات متنافرة يشكل التوفيق بينها، ونحن نسأل اللَّه التوفيق في التوفيق بينها، وسنبيّن كلّاً منها علي حدته في الحديث الذي ذكر فيه أو تعلّق به.

ففي هذا الحديث إنّها «طافية» علي ما ذكرناه، وفي آخر: إنّه جاحظ العين كأنّها كوكب، وفي آخر إنّها ليست بناتية ولا جحراء. والسبيل في التوفيق

بينهما أن نقول: إنّما اختلف الوصفان بحسب اختلاف العينين. وذلك يؤيّد ما في حديث ابن عمر هذا أنّه أعور عين اليمني. وفي حديث حذيفة أنّه ممسوح العين عليها ظفرة غليظة، وفي حديث أيضاً: أعور عين اليسري.

ووجه الجمع بين هذه الأوصاف المتنافرة: أنْ نقدر فيها أنّ إحدي عينيه ذاهبة

__________________________________________________

(1) وانظر معالم السنن 1: 241 كتاب الصلاة، باب صلاة النهار.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 155

والاخري معيبة، فيصحّ أن يقال لكلّ واحدة عوراء، لأنّ الأصل في العور العيب. هذا

وليس بمستبعد أن يكون سمعُ بعض الرواة قد أخطأ في اليمني واليسري، فإنّهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ، وهذا قول لا يملّ المحدّث من فرضه وسمعه، ونحن نري نفي الإحالة عن كلام من تكفّل اللَّه له بالعصمة أحقّ وأولي من الذبّ عمّن لا يلزمنا القول بعصمته، بل لا نري له العصمة.

وقلّما يسلم الإنسان من سهو أو نسيان، والقلم عن عثرةٍ أو طغيان» «1».

- 8-

وقال التوربشتي بشرح حديث ابن مسعود: «لمّا اسري رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم انتهي به إلي سدرة المنتهي وهي في السماء السادسة …» قال:

«لا خفاء بأنّ بعض الرواة وهم في السادسة. وإنّما الصواب: في السابعة» «2».

- 9-

إدخال بعضهم تفسير القرآن في القرآن.

وهذا من ألطف الامور!!

قال السيوطي في قول اللَّه تعالي: «وإنْ منكم إلّاواردها» عن ابن الأنباري:

__________________________________________________

(1) شرح المصابيح- مخطوط.

(2) شرح المصابيح- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 156

«أخرج عن الحسن أنّه كان يقرأ: وإنْ منكم إلّاواردها الورود الدخول.

قال ابن الأنباري: قوله: الورود الدخول تفسير من الحسن لمعني الورود، وغلط فيه بعض الرواة وألحقه بالقرآن» «1».

- 10-

قال ابن القيّم- بعد ذكر سرية الخبط وكانت في رجب سنة ثمان:

«فصل- في فقه هذه القصّة، ففيها جواز القتال

في الشهر الحرام إنْ كان ذكر التاريخ فيها برجب محفوظاً، والظاهر- واللَّه أعلم- أنّه وهم غير محفوظ، إذ لم يحفظ عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه غزا في الشهر الحرام ولا أغار فيه ولا بعث فيه سرية» «2».

- 11-

وقال ابن القيّم:

«وأمّا قول ابن عبّاس: إنّ النبي تزوّج ميمونة وهو محرم وبني بها وهو حلال، ممّا استدرك عليه وعدّ من وهمه. قال سعيد بن المسيّب: وَهَل ابن عبّاس وإنْ كانت خالته، ما تزوّجها إلّابعد ما حلّ. ذكره البخاري» «3».

__________________________________________________

(1) عن الإتقان في علوم القرآن ولم نجده فيه!

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد 2: 158.

(3) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 157

- 12-

وقال ابن القيّم:

«وممّا وقع في حديث الإفك أنّ في بعض طرق البخاري عن أبي وائل عن مسروق قال: سألت ام رومان عن حديث الإفك فحدّثتني. قال غير واحدٍ:

وهذا غلط ظاهر، فإنّ ام رومان ماتت علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ونزل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في قبرها وقال: من سرّه أن ينظر إلي امرأة من الحور فلينظر إلي هذه. قالوا: ولو كان مسروق قدم المدينة في حياتها وسألها للقي رسول اللَّه وسمع منه، ومسروق إنّما قدم المدينة بعد موت رسول اللَّه. قالوا: وقد روي مسروق عن ام رومان حديثاً غير هذا، فأرسل الرواية عنها، فظنّ الرواة أنّه سمع منها، فحمل هذا الحديث علي السماع» «1».

- 13-

وقال ابن القيّم في الأوهام في أخبار حجّة الوداع:

«فصلٌ في الأوهام: فمنها وهم لأبي محمّد بن حزم في حجّة الوداع حيث قال: إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم أعلم الناس وقت خروجه إنّ عمرةً في رمضان

تعدل حجّة، وهذا وهم ظاهر، فإنّه إنّما قال ذلك بعد رجوعه إلي المدينة من حجّته، قال لُام سنان الأنصاريّة: ما منعك أن تكوني حججت معنا؟ قالت: لم يكن لنا إلّاناضحان، فحجّ أبو ولدي وابني علي ناضح، وترك __________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 3: 266.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 158

لنا ناضحاً ننضح عليه. فقال: فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإنّ عمرة في رمضان تقضي حجّة. هكذا رواه مسلم في صحيحه.

وكذلك قال أيضاً هذا لُام معقل بعد رجوعه إلي المدينة، كما رواه أبو داود من حديث يوسف بن عبداللَّه بن سلام عن جدّته ام معقل قالت: لمّا حجّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حجّة الوداع، وكان لنا جمل، فجعله أبو معقل في سبيل اللَّه، فأصابنا مرض فهلك أبو معقل، وخرج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فلمّا فرغ جئته فقال: ما منعك أن تخرجي معنا؟ فقالت: لقد تهيّأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي يحجّ عليه، فأوصي به أبو معقل في سبيل اللَّه. قال: فهلّا خرجت عليه، فإنّ الحجّ من سبيل اللَّه، فإذ فاتتك هذه الحجّة معنا فاعتمري في رمضان فإنّه حجّة.

فصلٌ: ومنها وهم آخر، أنّ خروجه كان يوم الخميس لستّ بقين من ذي القعدة. وقد تقدّم أنّه خرج لخمس، وأنّ خروجه كان يوم السبت.

فصلٌ: ومنها وهم آخر لبعضهم، ذكره الطبري في حجّة الوداع أنّه خرج يوم الجمعة بعد الصلاة، والذي حمله علي هذا الوهم القبيح قوله في الحديث: خرج لستّ بقين، فظنّ أنّ هذا لا يمكن إلّاأن يكون الخروج يوم الجمعة، إذ تمام الستّ يوم الأربعاء وأوّل ذي الحجّة كان الخميس بلا ريب، هذا خطأ فاحش، فإنّه من المعلوم الذي لا

ريب فيه: أنّه صلّي الظهر يوم خروجه بالمدينة الأربعاء والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثبت ذلك في الصحيحين.

وحكي الطبري في حجّته قولًا ثالثاً، أنّ خروجه كان يوم السبت وهو اختيار الواقدي، وهو القول الذي رجّحناه أوّلًا، لكن الواقدي وهم في ذلك استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 159

ثلاثة أوهام: أحدها: أنّه زعم أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم خروجه الظهر بذي الحليفة ركعتين، الوهم الثاني: أنّه أحرم ذلك اليوم عقيب صلاة الظهر، وإنّما أحرم من الغد بعد أن بات بذي الحليفة، والوهم الثالث: أنّ الوقفة كانت يوم السبت، وهذا لم يقله غيره، وهذا وهم بيّن.

فصلٌ: ومنها وهم للقاضي عياض وغيره: أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم تطيّب هناك قبل غسله، ثمّ غسل الطيب عنه لما اغتسل، ومنشأ هذا الوهم من سياق وقع في صحيح مسلم في حديث عائشة أنّها قالت: طيّبت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ثمّ طاف علي نسائه بعد ذلك، ثمّ اغتسل ثمّ أصبح محرماً، والذي يردّ هذا الوهم قولها: طيّبت رسول أللَّه لإحرامه، وقولها: كأنّي أنظر إلي وبيص الطيب، أي بريقه في مفارق رسول اللَّه وهو محرم، وفي لفظ:

وهو يلبّي بعد ثلاث من إحرامه، وفي لفظ: كان رسول اللَّه إذا أراد أن يحرم، تطيّب بأطيب ما يجد ثمّ أري وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك. وكلّ هذه الألفاظ ألفاظ الصحيح.

وأمّا الحديث الذي احتجّ به، فهو حديث إبراهيم بن محمّد بن المنتشر عن أبيه عنها: كنت أطيّب رسول اللَّه ثمّ يطوف علي نسائه ثمّ يصبح محرماً، وهذا ليس فيه ما يمنع الطيب الثاني عند إحرامه.

فصلٌ: ومنها وهم آخر لأبي محمّد ابن حزم: أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أحرم قبل الظهر، وهو وهم

ظاهر، لم ينقل في شي ء من الأحاديث، وإنّما أهلّ عقيب صلاة الظهر في موضع مصلّاه، ثمّ ركب ناقته واستوت به علي البيداء وهو يهلّ، وهذا يقيناً كان بعد صلاة الظهر.

فصلٌ: وهمٌ آخر له وهو قوله: وساق الهدي مع نفسه وكان هدي تطوّع،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 160

وهذا بناء منه علي أصله الذي انفرد به عن الأئمّة أنّ القارن لا يلزمه هدي، وإنّما يلزم المتمتّع، وقد تقدّم بطلان هذا القول.

فصلٌ: ومنها وهم آخر لمن قال لم يعيّن في إحرامه نسكاً بل أطلقه.

ووهم من قال إنّه عيّن عمرة مفردة كان متمتّعاً بها، كما قاله القاضي أبو يعلي وصاحب المغني وغيرهما. ووهم من قال إنّه عيّن أفراداً مجرّداً لم يعتمر معه.

ووهم من قال عيّن عمرة ثمّ أدخل عليها الحجّ. ووهم من قال: عيّن حجّاً مفرداً ثمّ أدخل عليه العمرة بعد ذلك وكان من خصائصه، وقد تقدّم بيان مستند ذلك ووجه الصواب فيه.

فصلٌ: ومنها وهم لأحمد بن عبداللَّه الطبري في حجّة الوداع له، أنّهم لمّا كانوا ببعض الطريق صاد أبو قتادة حماراً وحشيّاً ولم يكن محرماً، فأكل منه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم. وهذا إنّما كان في عمرة الحديبيّة كما رواه البخاري.

فصلٌ: ومنها وهم آخر لبعضهم حكاه الطبري عنه أنّه دخل مكّة يوم الثلاثاء، وهو غلط، فإنّما دخلها يوم الأحد الرابع من ذي الحجّة.

فصلٌ: ومنها وهم من قال: أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حلّ بعد طوافه وسعيه كما قاله القاضي وأصحابه، وقد بيّنّا أنّ مستند هذا الوهم وهم معاوية- أو من روي عنه- أنّه قصّر عن رسول اللَّه بمشقص علي المروة في حجّته.

فصلٌ: ومنها وهم من زعم أنّه كان يقبّل الركن اليماني في طوافه، وإنّما ذلك الحجر

الأسود وسمّاه اليماني، لأنّه يطلق عليه وعلي الآخر باليمانيّين، فعبّر بعض الرواة عنه باليماني مفرداً.

فصلٌ: ومنها وهم فاحش لأبي محمّد ابن حزم: أنّه رمل في السعي ثلاثة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 161

أشواط ومشي أربعة، وأعجب من هذا الوهم، وهمه في حكاية الإتّفاق علي هذا القول الذي لم يقله سواه.

فصلٌ: ومنها وهم من زعم أنّه طاف بين الصّفا والمروة أربعة عشر شوطاً، وكان ذهابه وسعيه مرّة واحدة، وقد تقدّم بيان بطلانه.

فصلٌ: ومنها وهم من زعم أنّه صلّي الصبح يوم النحر قبل الوقت، ومستند هذا الوهم حديث ابن مسعود أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم صلّي الفجر يوم النحر قبل ميقاتها، وهذا إنّما أراد به قبل ميقاتها الذي كانت عادته أن يصلّيها فيه، فجعلها عليه يومئذٍ، ولابدّ من هذا التأويل، وحديث ابن مسعود إنّما يدلّ علي هذا، فإنّه في صحيح البخاري عنه. أيضاً قال: هما صلاتان تحوّلان عن وقتها: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين ينزع الفجر. وقال جابر في حجّة الوداع: فصلّي الصبح حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة.

فصلٌ: ومنها وهم من وهم في أنّه صلّي الظهر والعصر يوم عرفة، والمغرب والعشاء تلك الليلة بأذانين وإقامتين، ووهم من قال صلّاهما بإقامتين بلا أذان أصلًا، ووهم من قال جمع بينهما بإقامة واحدة. والصحيح أنّه صلّاهما بأذان واحد وإقامة لكلّ صلاة.

فصلٌ: ومنها وهم من زعم أنّه خطب بعرفة خطبتين جلس بينهما، ثمّ أذّن المؤذّن فلمّا فرغ أخذ في الخطبة الثانية، فلمّا فرغ منها أقام الصلاة، وهذا لم يجي ء في شي ء من الأحاديث البتّة، وحديث جابر صريح في أنّه لمّا أكمل الخطبة أذّن بلال وأقام، فصلّي الظهر بعد الخطبة.

فصلٌ: ومنها وهم لأبي ثور، أنّه

لمّا صعد أذّن المؤذّن، فلمّا فرغ قام استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 162

فخطب، وهذا وهمٌ ظاهر، فإنّ الأذان إنّما كان بعد الخطبة.

ومنها: وهم من روي أنّة قدّم ام سلمة ليلة النحر وأمرها أن توافيه صلاة الصبح بمكّة، وقد تقدّم بيانه.

فصلٌ: ومنها وهم من زعم أنّه أخّر طواف الزيارة يوم النحر إلي الليل، وقد تقدّم بيان ذلك، وأنّ الذي أخّره إلي الليل طواف الوداع. ومستند هذا الوهم- واللَّه أعلم- أنّ عائشة قالت: أفاض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من آخر يومه كذلك، قال عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عنها، فحمل عنها علي المعني وقيل آخر طواف الزيارة إلي الليل.

فصلٌ: ومنها وهم من وهم وقال أنّه أفاض مرّتين: مرّة بالنهار ومرّة نسائه بالليل، ومستند هذا الوهم ما رواه عمرو بن قيس عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أذِن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرةً، وزار رسول اللَّه مع نسائه ليلًا، وهذا غلط، والصحيح عن عائشة خلاف هذا، إنّه أفاض نهاراً إفاضة بعد أن بالغ في الردّ علي من رام دفع هذا الوهم.

فصلٌ: ومنها: وهم من زعم أنّه طاف للقدوم يوم النحر ثمّ طاف بعده للزيارة. وقد تقدّم مستند ذلك وبطلانه.

ومنها: وهم من زعم أنّه يومئذٍ سعي مع هذا الطواف، واحتجّ بذلك علي أنّ القارن يحتاج إلي سعيين، وقد تقدّم بطلان ذلك عنه، وأنّه لم يسع إلّا سعياً واحداً كما قالت عائشة وجابر.

فصلٌ: ومنها- علي القول الراجح- وهم من قال أنّه صلّي الظهر يوم النحر بمكّة، وفي الصحيح أنّه صلّاها بمني كما تقدّم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 163

ومنها وهم من زعم أنّه لم يسرع في

وادي محسِّر حين أفاض من جمع إلي مني، أنّ ذلك إنّما هو من فعل الأعراب. ومستند هذا الوهم قول ابن عبّاس إنّما كان بدء الإيضاع من أهل البادية، كانوا يقفون جانبي الناس قد علّقوا العقاب والعصا فإذا أفاضوا تقعقوا فانفرت بالناس، فلقد رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وإن ذفري ناقته لتمسّ حاركها وهو يقول: يا أيّها الناس عليكم بالسكينة، وفي لفظ: أنّ البرّ ليس بإيجاف الخيل والإبل، فعليكم بالسكينة، فما رأيتها رافعة يديها حتّي أتي منه، رواه أبو داود ولذلك أنكره طاوس والشعبي.

وقال الشعبي: حدّثني اسامة بن زياد أنّه أفاض مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من عرفة، فلم ترفع راحلته رجليها عادية حتّي بلغ جمعاً. قال:

وحدّثني الفضل بن عبّاس أنّه كان رديف رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من جمع، فلم ترفع راحلته رجليها عادية حتّي رمي الجمرة.

وقال عطا: إنّما أحدث هؤلاء الإسراع يريدون أن يفوتوا الغبار، ومنشأ هذا الوهم اشتباه الإيضاع وقت الرفع من عرفة الذي تفعله الأعراب وجفاة الناس بالإيضاع في وادي محسّر، فإنّ الإيضاع هناك بدعة لم يفعله رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بل نهي عنه، والإيضاع في وادي محسّر سنة نقلها عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جابر وعلي بن أبي طالب والعبّاس بن عبدالمطّلب وفعله عمر بن الخطّاب، وكان ابن الزبير يوضع أشدّ الإيضاع، وفعلته عائشة وغيرهم من الصحابة، والقول في هذا قول من أثبت لا قول من نفي، واللَّه أعلم.

فصلٌ: ومنها وهم طاوس وغيره أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كان استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 164

يفيض كلّ ليلة من ليالي مني إلي البيت. وقال البخاري في صحيحه: ويذكر عن أبي حسان

عن ابن عبّاس أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يزور البيت أيّام مني، ورواه ابن عروة قال: دفع إلينا معاذ بن هشام كتاباً قال: سمعته عن أبي ولم يقرأه. قال: وكان فيه عن أبي حسان عن ابن عبّاس أنّ نبيّ اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يزور البيت كلّ ليلة مادام بمني. قال: وما رأيت أحداً واطأه عليه. إنتهي. رواه الثوري في جامعه عن ابن طاوس عن أبيه مرسلًا، وهو وهم، فإنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يرجع إلي مكّة بعد أن طاف للإفاضة ورجع إلي مني إلي حين الوداع، واللَّه أعلم.

فصلٌ: ومنها وهم من قال أنّه ودّع مرّتين، ووهم من قال: إنّه جعل مكّة دائرة في دخوله وخروجه، فبات بذي طوي ثمّ دخل من أعلاها ثمّ خرج من أسفلها، ثمّ رجع إلي المحصّب عن يمين مكّة، فكملت الدائرة.

ومنها: وهم من زعم أنّه انتقل من المحصّب إلي ظهر العقبة.

فهذه كلّها الأوهام نبّهنا عليها مفصّلًا ومجملًا. وباللَّه التوفيق» «1».

- 14-

وقال القاضي عياض والنووي في حديث أخرجه مسلم في صحيحه:

«فيه تصحيف».

قال القاضي عياض: «قوله في كتاب مسلم: نحن نجي يوم القيامة علي كذا وكذا، انظر أي: ذلك فوق الناس.

كذا في جميع النسخ. وفيه تغيير كثير أوجبه تحرّي مسلم في بعض __________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 242- 245.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 165

ألفاظه، فأشكلت علي من بعده، وأدخل بينهما لفظة «انظر» التي نبّه بها علي الإشكال، وظنّ أنها من الحديث.

والحديث إنّما هو: نحن يوم القيامة علي كوم فوق الناس.

فتغيّرت لفظه «كوم» علي مسلم أو راويه له أو عنه، فعبّر عنها ب «كذا وكذا» ثم نبّه بقوله «انظر» أي: فوق الناس، أو

كان عنده فوق الناس، علي ما في بعض الحديث. فجاء من لم يفهم الغرض وظنّه كلّه من الحديث، فضمّ بعضه إلي بعض …» «1».

وقال النووي بشرحه:

«هكذا وقع هذا اللفظ في جميع الاصول من صحيح مسلم، واتفق المتقدّمون والمتأخّرون علي أنّه تصحيف وتغيير واختلاط في اللفظ …» «2».

__________________________________________________

(1) مشارق الأنوار علي صحاح الآثار 1: 424.

(2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج 3: 47.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 168

الباب الرابع: أئمّة المذاهب الأربعة … ص: 168

اشارة

وبعد الفراغ من البحث والتّحقيق عن التفسير والمفسرين، وعن الصّحاح الستّة وأصحابها، تصل النوبة إلي دراسةٍ موجزة عن الأئمة الأربعة:

مالك وموطّئه، وأبي حنيفة وفقهه، والشافعي، وأحمد ومسنده … علي ضوء أقوال كبار علماء القوم، كما في أشهر كتبهم:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 169

مالك بن أنس … ص: 169

اشارة

فقد تكلّم غير واحدٍ من الأئمّة … في مالك … وذكروا لذلك عدّة أسباب:

إطلاق لسانه في الصالحين … ص: 169

منها: إنّه قد أطلق لسانه في قومٍ معروفين بالصلاح والثقة، فقد قال المزّي:

«قال الحافظ أبوبكر الخطيب: قد ذكر بعض العلماء إنّ مالكاً عابه جماعة من أهل العلم في زمانه بإطلاق لسانه في قومٍ معروفين بالصلاح والديانة والثقة والأمانة، واحتجّ بما أخبرني الرمّاني قال: حدّثني محمّد بن أحمد بن محمّد بن عبدالملك الآدمي قال: حدّثنا محمّد بن علي الأيادي قال:

ثنا زكريّا بن يحيي الساجي قال: حدّثني أحمد بن محمّد البغدادي قال: حدّثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدّثنا محمّد بن فليح قال: قال لي مالك بن أنس:

هشام بن عروة كذّاب …» «1».

ولا يخفي: أنّ إطلاق اللسان في الصالحين ذنب عظيم وفسق كبير، وقد ذكر ابن الجوزي أنّ من تلبيس إبليس علي أصحاب الحديث قدح بعضهم في __________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 24: 415/ 5057.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 170

بعض طلباً للتشفّي … «1»

وهشام بن عروة من أكابر الثقات عند القوم، قال الذهبي: «هشام بن عروة أبوالمنذر، وقيل: أبو عبداللَّه، القرشي، أحد الأعلام، سمع عمّه ابن الزبير، وعنه: شعبة ومالك والقطّان، توفي سنة 146. قال أبو حاتم: ثقة إمام في الحديث» «2».

وكما تكلّم في «هشام بن عروة» بلا دليل، فقد تكلّم في «محمّد بن إسحاق» فقد قال سبط ابن الجوزي بعد حديثٍ: «فإن قيل: الحديث ضعيف، في إسناده ابن إسحاق، كذّبه مالك، وفيه أيضاً: علي بن عاصم متروك …

والجواب: قد أخرجه أحمد في الفضائل. وأمّا ابن إسحاق فقد قال أحمد: يقبل قوله في المغازي والسير، وأثني عليه جماعة من العلماء، وكان إماماً كبيراً، وإنّما طعن عليه مالك لأنّه لمّا صنّف الموطّأ قال: أروني إيّاه

فأنا بيطاره، فبلغ ذلك مالكاً فشقّ عليه وقال: ذاك دجّال من الدجاجلة. وقد أخذوا علي مالك في هذا، فإنّه لا يقال من الدجاجلة بل من الدجّالين» «3».

وقد قال الذهبي: «محمّد بن إسحاق بن يسار أبوبكر ويقال: أبو عبداللَّه، المطلّبي مولاهم، المدني، الإمام، رأي أنساً وروي عن عطاء والزهري، وعنه: شعبة والحمّادان والسفيانان ويونس بن بكير وأحمد بن خالد. كان صدوقاً، من بحور العلم …» «4».

وقال اليافعي: «الإمام محمّد بن إسحاق بن يسار المطلبي، مولاهم،

__________________________________________________

(1) تلبيس إبليس: 135.

(2) الكاشف 3: 211/ 6051.

(3) تذكرة خواص الامّة 3: 7/ 4768.

(4) الكاشف 3: 7/ 4768.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 171

المدني صاحب السيرة، وكان بحراً من بحور العلم، ذكيّاً حافظاً، طلابة للعلم، أخبارياً نسابةً ثبتاً في الحديث عند أكثر العلماء. وأمّا في المغازي والسير فلا يجهل إمامته. قال ابن شهاب الزهري: من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق.

وذكر البخاري في تاريخه، وروي عن الشافعي أنّه قال: من أراد أن يتبحّر في المغازي فهو عيال علي ابن إسحاق، وقال سفيان بن عيينة: ما أدركت أحداً يتّهم ابن إسحاق في حديثه، وقال شعبة بن الحجّاج: محمّد بن إسحاق أميرالمؤمنين في الحديث» «1».

تكلّم جماعة من الأئمّة فيه … ص: 171

من لطائف الامور: أنّ ابن أبي ذئب وعبدالعزيز بن ماجشون وابن أبي حازم ومحمّد بن إسحاق، وهم أئمّة ثقات من الأعلام، تكلّموا في مالك وجرحوه.

قال المزي: «قال إبراهيم بن المنذر: حدّثني عبداللَّه بن نافع قال: كان ابن أبي ذئب وعبدالعزيز بن ماجشون وابن أبي حازم ومحمّد بن إسحاق يتكلّمون في مالك بن أنس، وكان أشدّهم فيه كلاماً محمّد بن إسحاق، كان يقول: ايتوني ببعض كتبه حتّي ابيّن عيوبه، أنا بيطار كتبه» «2».

هذا، ولا بأس بذكر طرفٍ من كلماتهم في الثناء علي

هؤلاء الأشخاص:

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 1: 244.

(2) تهذيب الكمال 24: 415/ 5057.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 172

ترجمة ابن أبي ذئب … ص: 172

قال الذهبي بترجمة ابن أبي ذئب: «ع- محمّد بن عبدالرحمن بن المغيرة ابن أبي ذئب، أبوالحرث العامري، أحد الأعلام، عن عكرمة ونافع والزهري، وعنه: معمر وابن المبارك وابن وهب والقطّان وعلي بن الجعد، وكان كبير الشأن، ثقة» «1».

وقال ابن حجر: «ثقة فقيه فاضل» «2».

ترجمة عبدالعزيز بن ماجشون … ص: 172

وقال اليافعي بترجمة ابن ماجشون: «عبدالعزيز بن عبداللَّه بن أبي سلمة الماجشون، المدني، الفقيه، كان إماماً مفتياً صاحب حلقة» «3».

وقال السمعاني: «عبدالعزيز بن عبداللَّه … عنه: الليث بن سعد وبشر بن المفضّل ووكيع بن الجراح وعبدالرحمن بن مهدي ويزيد بن هارون وعلي بن الجعد وأبو نعيم الفضل بن دكين وغيرهم. وكان عالماً فقيهاً، قدم بغداد وحدّث بها إلي حين وفاته، وحجّ أبو جعفر المنصور فشيّعه المهدي، فلمّا أراد الوداع قال: يا بني استهد لي، قال: استهديك رجلًا عاقلًا، فأهدي له عبدالعزيز الماجشون» «4».

__________________________________________________

(1) الكاشف 3: 52/ 5056.

(2) تقريب التهذيب 2: 194/ 6846.

(3) مرآة الجنان 1: 273.

(4) الأنساب 5: 157.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 173

وابن حجر: «ثقة فقيه مصنّف» «1».

وقال الذهبي: «كان إماماً معظّماً. قال أبوالوليد: كان يصلح للوزارة» «2».

ترجمة ابن أبي حازم … ص: 173

وقال الذهبي بترجمة ابن أبي حازم:

«عبدالعزيز بن أبي حازم المديني، عن أبيه وسهيل والعلاء وابن الهاد، وعنه: أبو مصعب وقتيبة وابن حجر. قال أحمد: لم يكن يعرف بطلب الحديث ولم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، ويقال: إنّ كتب سليمان بن بلال وقعت إليه ولم يسمعها، وقال ابن معين: ثقة» «3».

وقال ابن حجر: «صدوق فقيه» «4».

وقال اليافعي: «فقيه المدينة عبدالعزيز بن أبي حازم» «5».

هذا، وفي (طبقات السبكي): ذكر ابن عبدالبر كلام ابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد في مالك بن أنس. وقال: «قد تكلّم أيضاً في مالك:

عبدالعزيز بن أبي سلمة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم ومحمّد بن إسحاق وابن أبي يحيي وابن أبي الزناد، وعابوا أشياء من مذهبه. وقد برّأ اللَّه عزّ وجلّ مالكاً عمّا قالوا، وكان عند اللَّه وجيهاً» «6».

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1: 472/ 4602.

(2) الكاشف 2: 193/ 3432.

(3) الكاشف 2: 191/ 3417.

(4) تقريب

التهذيب 1: 471/ 4583.

(5) مرآة الجنان 1: 306.

(6) طبقات الشافعية 2: 10.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 174

تكلّم الشافعي فيه لقدحه في عكرمة وروايته عنه! … ص: 174

ومن دلائل ضلال مالك ومتابعته للهوي: قدحه في عكرمة البربري وروايته عنه في كتابه! الأمر الذي حمل الشافعي علي الطعن فيه، وذلك ما حكاه الفخر الرازي في (مناقب الشافعي) حيث قال في عداد اعتراضات الشافعي علي مالك:

«ومنها: أخبرنا مالك، عن أبي الزبير، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عبّاس أنّه: سئل عن رجلٍ واقع أهله وهو محرم بمني قبل أنْ يفيض، فأمره أن ينحر بدنة. قال الشافعي: وبه نأخذ. وقال مالك: عليه عمرة وحجّة تامّة وبدنة، ورواه عن ربيعة، وعن ثور بن زيد عن عكرمة يظنّه عن ابن عبّاس، فإن كان قد ترك قول ابن عبّاس لرأي ربيعة فهو خطأ، وإنْ ترك لرأي عكرمة فهو يسي ء القول في عكرمة، ولا يري لأحدٍ أنْ يقبل حديثه وهو يروي بيقين عن عطاء عن ابن عبّاس خلافه، وعطاء ثقة عنده وعند الناس.

قال الشافعي: والعجب أنّه يقول في عكرمة ما يقول ثمّ يحتاج إلي شي ء من علمه يوافق قوله، فيسمّيه مرّة ويسكت عنه اخري، ويروي عن ثور بن زيد عن ابن عبّاس في الرضاع وذبائح نصاري العرب وغيره ويسكت عن ذكر عكرمة، وإنّما يحدّثه ثور عن عكرمة، وهذا من الامور التي ينبغي لأهل العلم أنْ يتحفّظوا فيها».

وعلي الجملة، فإنّ قدحه في عكرمة والرواية عنه مع ذلك! يوجب الطعن فيه، وهذا ما نصّ عليه الفخر الرازي أيضاً علي تقدير صحّته إذ قال:

«وأمّا الإعتراض الثاني وهو: إنّ مالكاً كان إذا احتاج إلي التمسّك بقول عكرمة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 175

ذكره وإذا لم يحتج إليه تركه، فهذا إنْ صحّ من

مالك أورث ذلك طعناً في روايته وفي ديانته، ولو كان الأمر كذلك، فكيف جاز للشافعي أنْ يتمسّك بروايات مالك؟ وكيف يجوز أنْ يقول: إذا ذكرت الأئمّة فمالك النجم؟».

لكنّ المقدّم- وهو قدح مالك في عكرمة وروايته عنه- ثابت بنقل الرازي نفسه عن الشافعي، فالتالي- وهو إيراث ذلك الطعن في روايته وديانته- ثابت … وتشكيك الرازي باطل مردود، وإلّا لتوجّه الطعن إلي الشافعي، وقد وضع الرازي كتابه للإشادة بفضله وترجيح مذهبه علي المذاهب وإقامة الحجّة علي ذلك كقوله:

تكلّم أحمد بن حنبل فيه … ص: 175

«الحجّة الثالثة: إنّ أكابر علماء الحديث أقرّوا له بالفضل والقوّة في هذا العلم، روي أنّ أحمد بن حنبل سئل هل كان الشافعي صاحب حديث؟ فقال:

إي واللَّه كان صاحب حديث. وكرّرها ثلاثاً. وروينا أنّه سمع الموطّأ عليه وقال: إنّه ثبت فيه. وسئل أحمد بن حنبل عن مالك فقال: حديث صحيح ورأي ضعيف، وسئل عن الأوزاعي فقال كذلك، وسئل عن الشافعي فقال:

حديث صحيح ورأي قوي، وسئل عن أبي فلان فقال: لا رأي ولا حديث.

قال البيهقي: وإنّما قال أحمد عن مالك ذلك، لأنّه كان يترك الحديث الصحيح لعمل أهل المدينة، وإنّما قال عن الأوزاعي ذلك، لأنّه كان يحتجّ بالمقاطيع والمراسيل في بعض المسائل ثمّ يقيس عليها، وإنّما قال في الشافعي ذلك، لأنّه كان لا يري الإحتجاج إلّابالحديث الصحيح ثمّ يقيس الفروع عليها، وإنّما قال في أبي فلان ذلك، لأنّه كان يقبل المجاهيل والمقاطيع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 176

والمراسيل وما وقع إليه من حديث بلده وإنْ كان ضعيفاً يترك القياس لأجله، وما رفع إليه من أحاديث سائر البلاد وإنْ كان صحيحاً لم يقبله بل عدل إلي الإستحسان والقياس».

ففي هذا النقل توهينٌ من أحمد بن حنبل لمالك بن أنس والأوزاعي وأبي حنيفة،

ومدح وتفضيلٌ للشافعي عليهم.

وأيضاً: فإنّ الفخر الرازي يري أنّ تخطئة الشافعي في شي ء إيذاء للَّه وللرسول، إذ قال في الرسالة المذكورة في حجج ترجيح الشافعي علي غيره من المجتهدين: «الحجّة السادسة: القول بأنّ قول الشافعي أخطأ في مسألة كذا، إهانة للشافعي القرشي، وإهانة قرشي غير جائز.

إنّما قلنا إنّ تخطئته إهانة، لأنّ اختيار الخطأ إن كان للجهل، فنسبة الجهل إلي الإنسان إهانة، وإن كان مع العلم فإنّ مخالفة الحق مع العلم بكونه حقّاً من أعظم أنواع المعاصي، وكانت نسبة الإنسان إليه إهانة له، وإنّما قلنا إنّ إهانة القرشي غير جائزة، لما روي الحافظ بإسناده عن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: من يرد هوان قريش أهانه اللَّه. وروي أيضاً بإسناده عن أبي هريرة: أنّ سبيعة بنت أبي لهب جاءت إلي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه، إنّ الناس يصيحون بي ويقولون إنّك ابنة حمّالة حطب النار، فقام عليه السلام- وهو مغضب شديد الغضب- فقال: ما بال أقوام يؤذونني في قرابتي، ألا من آذي قرابتي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذي اللَّه، ومن آذي اللَّه كان ملعوناً لقوله تعالي: «إنّ الذين يؤذون اللَّه ورسوله لعنهم اللَّه في الدنيا والآخرة» فإذن ظهر وجه الاستدلال ظهوراً لا يرتاب فيه عاقل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 177

وكان الحاكم أبو عبداللَّه الحافظ يقول: يجب علي الرجل أن يعذر من معاندة الشافعي وبغضه وعداوته، لئلّا يدخل تحت هذا الوعيد».

وإذا كان كذلك فلامعني لتشكيكه في كلام الشافعي في مالك بقوله: «لو كان الأمر كذلك فكيف جاز للشافعي …» وأمثال ذلك …

وعلي الجملة، فقضيّة عكرمة مورد من موارد تكلّم الشافعي في مالك.

تكلّم الشافعي فيه بسبب ردّه الأحاديث الصحيحة … ص: 177

وأيضاً: فقد تكلّم فيه بسبب ردّه للأحاديث الصحيحة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وعدم عمله بها … قال الرازي- بعد نقل قاعدةٍ في الأحاديث عن الشافعي-:

«ولمّا قرّر الشافعي هذه القاعدة، ذكر أنّ مالكاً اعتبر هذه القاعدة في بعض المواضع دون البعض، ثمّ ذكر المسائل التي ترك الأخبار الصحيحة فيها لقول واحدٍ من الصحابة أو لقول بعض التابعين أو لرأي نفسه، ثم ذكر ما ترك فيه من أقاويل الصحابة لرأي بعض التابعين أو لرأي نفسه، وذلك أنّه ربّما يدّعي الإجماع وهو مختلف فيه، ثمّ بيّن الشافعي أن ادعاء أنّ إجماع أهل المدينة حجّة قول ضعيف، وذكر من هذا الباب أمثلة منها: أنّ مالكاً قال أقول:

أجمع الناس علي أنّ سجود القرآن إحدي عشرة سجدة وليس في المفصّل منها شي ء. ثمّ قال الشافعي: قد روي هو عن أبي هريرة عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه سجد في «إذا السماء انشقّت»، وإنّ عمر بن الخطّاب سجد في النّجم، فقد روي السجود في المفصل عن النبي عليه السلام وعن عمر وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنهما، فليت شعري من الناس الذين أجمعوا علي أنه لا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 178

سجدة في المفصّل، ثمّ بين أنّ أكثر الفقهاء ذهبوا إلي أنّ في المفصّل سجوداً.

ومنها: أنّ مالكاً زعم أنّ الناس أجمعوا علي أنه لا سجدة في الحجّ إلّامرّةً واحدة، وهو يروي عن عمر وابن عمر أنّهما سجدا في الحجّ سجدتين. ثمّ قال الشافعي: وليت شعري من هؤلاء المجمعون الذين لا يسمّون، فإنّا لا نعرفهم، ولا يكلّف اللَّه أحداً أن يأخذ دينه عمّن لا يعرفه» «1».

وقال أيضاً بعد كلام الشافعي في عكرمة: «ولقائل أن يقول: حاصل هذه

الإعتراضات يرجع إلي أمرين:

الاعتراض الأوّل: أنّ مالكاً يروي الحديث ثمّ إنّه يترك العمل به لأجل أنّ أهل المدينة تركوا العمل به، وهذا يقتضي تقديم عمل علماء المدينة علي قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وإنّه لا يجوز.

ولمالك أن يجيب عنه فيقول: هذه الأحاديث ما وصلت إلينا إلّابرواية علماء المدينة، فهؤلاء إمّا أن يكونوا من العدول أو لا يكونوا من العدول؛ فإن كانوا من العدول وجب أن يعتقدوا أنّهم إنما تركوا العمل بهذا الحديث لاطّلاعهم علي ضعف فيه، إمّا لأجل ضعف في الرواية أو لأجل أنّه وجد ناسخ أو مخصّص، وعلي جميع التقديرات فترك العمل به واجب.

فإن قالوا: فلعلّهم اعتقدوا في هذا الحديث تأويلًا خاطئاً، فلأجل ذلك التأويل الخاطي ء تركوا العمل به، وعلي هذا التقدير لا يلزم من تركهم العمل بالحديث حصول ضعف فيه. قلنا: إنّ علماء المدينة الذين كانوا قبل مالك كانوا أقرب الناس إلي زمان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وأشدّهم مخالطة للصحابة وأقواهم رغبة في الدين، وأبعدهم عن الميل إلي الباطل، فيبعد اتفاق __________________________________________________

(1) مناقب الامام الشافعي: 53.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 179

جمهور علماء المدينة علي تأويل فاسد.

وأمّا إن قلنا: إنّ علماء المدينة ليسوا بعدول، كان الطعن فيهم يوجب الطعن في الخبر.

فثبت بهذا الطريق أنّ الدليل الذي ذكرناه يقتضي ترجيح عمل علماء المدينة علي ظاهر خبر الواحد، وليس هذا قولًا بأنّ إجماعهم حجّة، بل هو قول بأنّ عملهم إذا كان علي خلاف ظاهر الحديث أورث ذلك قدحاً وطعناً في الحديث …» «1».

أقول:

وما ذكره الرازي حمايةً لمالك ومذهبه ركيك جدّاً، لأنّه تخطئة للشافعي، وقد اعترف هو بأنّه إيذاء للَّه ورسوله وموجب للّعن والعذاب، ولأنّ القول بوجوب ترك العمل بالأحاديث الصحيحة بسبب

عمل أهل المدينة علي خلافها وكذا ما قاله في الجواب عن احتمال الخطأ في التأويل … من غرائب الهفوات، ويكفي للردّ علي دعوي حجّيّة إجماع أهل المدينة كلام وليّ الدين العراقي، حيث قال في مقام بيان تأويلات حديث خيار المجلس الذي أخذ به المالكيّة والحنفيّة:

«أحدها- ما تقدّم من مخالفته لإجماع أهل المدينة، وتقدّم ردّه بأنّهم لم يجمعوا علي مخالفته، وأيضاً: فإجماعهم ليس بحجّة، وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: الحق الذي لا شكّ فيه أنّ إجماعهم لا يكون حجّة فيما طريقه الاجتهاد والنظر، لأنّ الدليل العاصم للُامّة من الخطأ في الإجتهاد لا

__________________________________________________

(1) مناقب الإمام الشافعي: 54- 55.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 180

يتناول بعضهم، ولا مستند للعصمة سواه، وكيف يمكن أن يقال: إنّ من كان بالمدينة من الصحابة يقبل خلافه مادام مقيماً بها فإذا خرج منها لم يقبل خلافه، هذا محال. فإنّ قبول قوله باعتبار صفاتٍ قائمة به حيث حلّ، وقد خرج منها علي وهو أفضل أهل زمانه بإجماع أهل السنّة، وقال أقوالًا بالعراق كيف يمكن أن تهدر إذا خالفها أهل المدينة وهو كان رأسهم، وكذلك ابن مسعود …» «1».

تكلّم الشافعي فيه لروايته حديث خيار المجلس ومخالفته له … ص: 180

وأيضاً: فقد تكلّم الشافعي في مالك بسبب مخالفته لحديث خيار المجلس مع إيراده إيّاه في الموطّأ، فقال كلمةً موجزةً لكنّ معناها عظيم، قال:

«ما أدري أتّهم مالكاً نفسه أو نافعاً»؟!

قال ولي الدين العراقي في (شرح الأحكام الصغري :

«وذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلي إنكار خيار المجلس وقالوا:

إنّة يلزم البيع بنفس الإيجاب والقبول، وبه قال إبراهيم النخعي واختلف في ذلك عن ربيعة وسفيان الثوري. قال ابن حزم الظاهري: مانعلم لهم من التابعين سلفاً إلّاإبراهيم وحده ورواية مكذوبة عن شريح، والصحيح عنه موافقة الحقّ، وكذا قال

ابن عبدالبر: لا أعلم أحداً ردّه غير هذين الاثنين إلّاما روي عن إبراهيم النخعي، إنتهي.

وقال مالك في الموطّأ لمّا روي هذا الحديث: وليس هذا عندنا حدّ معروف ولا أمر معمول به.

__________________________________________________

(1) شرح الأحكام الصغري مبحث خيار المجلس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 181

قال ابن عبدالبرّ: واختلف المتأخّرون من المالكيّين في تخريج قول مالك هذا، فقال بعضهم: دفعه بإجماع أهل المدينة علي ترك العمل به، وإجماعهم حجّة. وقال بعضهم: لا يصحّ دعوي إجماعهم في هذه المسألة، لأنّ سعيد بن المسيّب وابن شهاب- وهما أجلّ فقهاء أهل المدينة- روي عنهما منصوصاً العمل به، ولم يرو عن أحد من أهل المدينة ترك العمل به نصّاً إلّاعن مالك وربيعة، وقد اختلف فيه علي ربيعة. وكان ابن أبي ذئب- وهو من فقهاء أهل المدينة في عصر مالك- ينكر علي مالك اختياره ترك العمل به، حتّي جري منه لذلك في مالك قول خشن.

قال: وإنّما أراد مالك بهذا إنكار القول بأنّ خيار الشرط لا يكون إلّاثلاثة أيّام، فإنّه عند مالك وأهل المدينة يكون ثلاثاً وأكثر وأقل بحسب المبيع.

وقال: وأمّا خيار المجلس فإنّما ردّه اعتبار أو نظراً مال فيه إلي رأي بعض أهل بلده، إنتهي.

وحكي ابن العربي حمل كلام مالك هذا علي دفع الحديث بعمل أهل المدينة عمّن لا تحصيل له من أصحابهم قال: وقد توهّم ذلك عليه ابن الجويني يعني إمام الحرمين، فقال: يروي الحديث عن نافع عن ابن عمر عن فَلْق في رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ثمّ يتركه لعمل أهل المدينة قال: ولم يفهم ابن الجويني عنه.

ثمّ ذكر ابن العربي ما حاصله، أنّ مقصود مالك ردّ الحديث بأنّ وقت التفريق غير معلوم، فالتحق ببيوع الغرر، كالملامسة والمنابذة، وسنحكي

عبارته في ذلك.

وسبق إمام الحرمين إلي إنكار ذلك علي مالك الشافعي فقال: ما أدري استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 182

أتّهم مالكاً نفسه أو نافعاً، واعظِم عبداللَّه بن عمر أن أذكره إجلالًا له» «1».

ولا يخفي أنّ ما قاله الشافعي في مالكٍ يتوجّه علي أبي حنيفة أيضاً، فإنّه قدخالف كلام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كذلك، حتّي قال ابن المديني: «إنّ اللَّه سائله عمّا قال» ذكر ذلك ولي الدين العراقي حيث قال:

«روي البيهقي في سننه عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة أنّه حدّث الكوفيّين بحديث ابن عمر عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في أنّ البيّعين بالخيار ما لم يتفرّقا، قال: فحدّثوا به أباحنيفة فقال: ليس هذا بشي ء، أرأيت إن كانا في سفينة! قال علي: إنّ اللَّه سائله عمّا قال» «2».

كما أنّ المالكيّة والحنفيّة قد خالفوا الحديث عن النبي تقليداً لإماميهما، وجعلوا يؤوّلونه بتأويلاتٍ سخيفة ردّ عليها ولي الدين أبو زرعة، وقد بلغت في الضعف والركّة حدّاً اضطرّ ابن عبدالبرّ- وهو من أئمّة المالكيّة- لأنْ يعترف بسقوطها، قال أبو زرعة بعد الردّ علي التأويلات:

«وقد ظهر بما بسطناه أنّه ليس لهم متعلّق صحيح في ردّ هذا الحديث، فلذلك قال ابن عبدالبر: أكثر المتأخّرين من المالكيّين والحنفيّين من الإحتجاج لمذهبنا في ردّ هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره تشغيب لا يحصل منه علي شي ء لازم لا مدفع له.

وقال النووي في شرح مسلم: الأحاديث الصحيحة تردّ عليهم، وليس لهم عنها جواب صحيح، فالصواب ثبوته كما قاله الجمهور».

__________________________________________________

(1) شرح الأحكام الصغري مبحث خيار المجلس، بشرح الحديث: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا.

(2) شرح الأحكام الصغري- مبحث خيار المجلس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 183

هذا، وقد

تعرّض أبو زرعة لكلام ابن العربي المالكي في الإنتصار والدفاع عن مذهب المالكيّة، وأجاب عنه بالتفصيل.

تكلّم أحمد وغيره فيه لمخالفته أخبار التبكير إلي الجمعة … ص: 183

ومن موارد التكلّم في مالك والطعن عليه: مخالفته لأخبار التبكير إلي الجمعة، إذْ تكلّم فيه بهذه المناسبة أحمد بن حنبل، وكذا ابن حبيب- وهو من أصحاب مالك-. ذكر ذلك ولي الدين أبو زرعة حيث قال بشرح الحديث الثالث من أحاديث باب صلاة الجمعة: «عن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا كان يوم الجمعة كان علي كلّ باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأوّل فالأوّل، فإذا خرج الإمام طويت الصحف. وعنه عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: المهجر إلي الجمعة كالمهدي بدنة، والذي يليه كالمهدي كبشاً حتّي ذكر الدجاجة والبيضة».

قال أبو زرعة: «وقال القاضي عياض: وأقوي معتمد مالك في كراهيّة البكور إليها، عمل أهل المدينة المتّصل بترك ذلك وسعيهم إليها قرب صلاتها، وهذا نقل معلوم غير منكر عندهم ولا معمول بغيره، وما كان أهل عصر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ومن بعدهم ممّن يترك الأفضل إلي غيره ويتمالؤن علي العمل بأقلّ الدرجات.

وذكر ابن عبدالبر أيضاً أنّ عمل أهل المدينة يشهد له، إنتهي.

وما أدري أين العمل الذي يشهد له، وعمر ينكر علي عثمان رضي اللَّه عنهما التخلّف، والنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يندب إلي التبكير، في أحاديث كثيرة منها حديث أوس بن أوس: من بكَّر وابتكر، وفي آخره كان له بكلّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 184

خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها، وهو في السنن الأربعة وصحيحي ابن حبّان والحاكم.

وقد أنكر غير واحد من الأئمّة علي مالك- رحمه اللَّه- في هذه المسألة فقال الأثرم: قيل لأحمد: كان مالك يقول: لا ينبغي التهجير يوم

الجمعة فقال:

هذا خلاف حديث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وقال: سبحان اللَّه إلي أيّ شي ء ذهب في هذا والنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: كالمهدي جزوراً؟

وأنكر علي مالك أيضاً ابن حبيب إنكاراً بليغاً فقال: هذا تحريف في تأويل الحديث ومحال من وجوه، لأنّه لا يكون ساعات في ساعة واحدة، فشرح الحديث بيّن في لفظه، ولكنّه حرف عن موضعه وشرح بالخلف من القول وزهد فيما رغب فيه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من التهجير في أوّل النهار، وزعم أنّ ذلك كلّه إنّما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس، حكاه عنه ابن عبدالبرّ وقال: هذا منه تحامل علي مالك».

حكمه علي السائل عن خلق القرآن بالزندقة! … ص: 184

ومن غرائب مالك الموبقة: حكمه علي من سأل عن أنّ القرآن مخلوق أو غير مخلوق، بأنّه زنديق، ثمّ أمره بقتله، فقد أسند أبو نعيم في (الحلية) إلي يحيي بن خلف بن الربيع الطرطوسي- قال: وكان من ثقات المسلمين وعبّادهم- أنه قال: «كنت عند مالك بن أنس ودخل عليه رجل فقال: يا أبا عبداللَّه، ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال مالك: هذا زنديق فاقتلوه.

فقال: يا أبا عبداللَّه، إنّما أحكي كلاماً سمعته، فقال مالك: لم أسمعه أنا من أحدٍ، إنّما سمعته منك، وعظّم هذا القول تعظيماً كبيراً» «1».

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 6: 325.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 185

هذا، وقد أخرج البخاري: «عن أبي ذر أنّه سمع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلّاارتدّت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك» «1».

بل لقد أخرج مالك نفسه في الموطأ: «عن عبداللَّه بن دينار عن عبداللَّه ابن عمر: إنّ رسول اللَّه قال: من قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما» «2».

قوله لمن سأله عن الاستواء: أظنّك صاحب بدعة … ص: 185

ومن ذلك: قوله لمن سأله عن الإستواء: «أظنّك صاحب بدعة»! والحال أنّ مجرّد السؤال لا يجوّز الهتك للسائل وإساءة الظن به، وقد جاء الخبر في (حلية الأولياء) حيث أسند أبو نعيم إلي جعفر بن عبداللَّه قال: «كنّا عند مالك ابن أنس، فجاءه رجل فقال: يا أبا عبداللَّه، «الرحمن علي العرش استوي» كيف استوي؟ فما وجد مالك من شي ء ما وجد من مسألته، فنظر إلي الأرض وجعل ينكت بعودٍ في يده حتّي علاه الرحضاء- يعني العرق- ثمّ رفع رأسه ورمي العود فقال: الكيف منه غير معقول، والإستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال منه بدعة، وأظنّك صاحب بدعة، وأمر به فاخرج»

«3».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 8: 27/ 6045.

(2) الموطأ 2: 984/ 56.

(3) حلية الأولياء 6: 325- 326.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 186

تركه للجمعة والجماعة وهو خروج من الإيمان … ص: 186

ومن ذلك: ما ذكروا من أنّ مالكاً لم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، وقد جاء هذا في غير واحدٍ من الكتب:

قال ابن قتيبة: «قال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد ويشهد الصلاة والجمعة والجنائز ويعود المرضي ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد ويجمع أصحابه، ثمّ ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلّي ثمّ ينصرف إلي منزله، وترك حضور الجنائز فكان يأتي أصحابها ويعزّيهم، ثمّ ترك ذلك كلّه فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحداً يعزّيه ولا يقضي له حقّاً، واحتمل الناس له ذلك حتّي مات عليه، وكان ربّما كلّم في ذلك فيقول: ليس كلّ الناس يقدر أن يتكلّم بعذره» «1».

وقال الغزّالي: «قيل: كان مالك بن أنس يشهد الجنازة ويعود المرضي ويعطي الإخوان حقوقهم، فترك ذلك واحداً واحداً حتّي تركها كلّها، وكان يقول: لا يتهيّأ للمرء أن يخبر بكلّ عذر له …» «2».

وقال ابن خلّكان: «قال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضي ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه، ثمّ ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلّي وينصرف إلي مجلسه، وترك حضور الجنائز فكان يأتي أهلها فيعزّيهم، ثمّ ترك ذلك كلّه فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحداً

__________________________________________________

(1) كتاب المعارف: 498- 499.

(2) إحياء علوم الدين 2: 222 كتاب العزلة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 187

يعزّيه ولا يقضي له حقّاً، واحتمل الناس له ذلك حتّي مات عليه. وكان ربّما قيل له في ذلك فيقول: ليس كلّ الناس يقدر أن يتكلّم بعذره» «1».

هذا،

وقد ذكر يوسف الأعور الواسطي في مطاعنه علي الإماميّة: «ومنها:

تسمية أنفسهم مؤمنين، ومن أين جاءهم الإيمان ولم يكن عندهم شي ء من شروطه، الأوّل: قوله تعالي: «يا أيّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر اللَّه وذروا البيع» وهم تاركون لمسجد الجمعة».

تكلّمه في أميرالمؤمنين بسبب حروبه … ص: 187

ومن قوادحه العظيمة وبراهين نصبه لمولانا أميرالمؤمنين عليه السلام:

أنّه كان يفضّل عثمان ويقول: لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها، مع أنّ حروب الإمام عليه السلام كانت بأمرٍ من اللَّه ورسوله، فهي شرف جليل وفخر عظيم، فكيف تكون منقصةً له وعيباً حتّي يقال له مثل هذا الكلام؟ إنّ هذا الكلام- في الحقيقة- ردّ علي اللَّه ورسوله … وقد أورده ابن تيميّة متبجّحاً به مرتضياً إيّاه حيث قال:

«أمّا جمهور الناس، ففضّلوا عثمان، وعليه استقرار أهل السنّة، وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوّف وأئمّة الفقهاء، كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه، وهو احدي الروايتين عن مالك وعليها أصحابه، قال مالك: لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها، وقال الشافعي وغيره: إنّه بهذا السبب قصد والي المدينة الهاشمي ضرب مالك، وجعل طلاق المكره سبباً ظاهراً، وهو أيضاً مذهب جماهير أهل __________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 4: 136.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 188

الكلام: الكرامية والكلابية والأشعرية والمعتزلة، وقال أيوب السختياني: من لم يقدّم عثمان علي علي فقد أزري بالمهاجرين والأنصار، وهكذا قال أحمد بن حنبل وأبوالحسن الدارقطني وغيرهما أنّهم اتفقوا علي تقديم عثمان، ولهذا تنازعوا فيمن لم يقدّم عثمان هل يعدّ مبتدعاً؟ علي قولين هما روايتان عن أحمد، فإذا قام الدليل علي تقديم عثمان كان ما سواه أوكد» «1».

وعلي الجملة، فإنّ أميرالمؤمنين عليه السلام أفضل الصحابة

قاطبةً، بل هو أفضل من سائر الأنبياء عدا سيّد المرسلين، وجهاده في سبيل اللَّه ومقاتلاته لأعداء اللَّه من أشهر مناقبه وأفضل مقاماته ومنازله، وقد قال علماء القوم بأنّ حروبه كلّها كانت علي الحق وكان الحق معه فيها، وحتّي أنّ الدهلوي ينصّ علي أن من اعترض علي أميرالمؤمنين عليه السلام في شي ء من آرائه وأقواله فهو جاهل أحمق «2».

ويقول الدهلوي أيضاً في كلامٍ له حول الحديث «قال لعلي: إنّك تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله»: «ولا دلالة في هذا الحديث علي أنّ الأمير إمام بلا فصل، إذ لا ملازمة بين المقاتلة علي تأويل القرآن والإمامة بلا فصل بوجه من الوجوه، بل لو استدلّ به علي مذهب أهل السنّة لأمكن، لأنّه يفهم منه بالصراحة أنّ الأمير قد يكون إماماً في عصرٍ يقاتل فيه علي تأويل القرآن ووقت قتاله معلوم متي كان، وهو من دلائل أهل السنّة علي أنّ الحقّ كان في جانب الأمير وكان مقاتلوه علي الخطأ، حيث لم يفهموا معني القرآن وأخطأوا في اجتهادهم، وإنكار تأويل القرآن ليس بكفر إجماعاً. وإنْ أنكر أحد

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 8: 225.

(2) التحفة الإثني عشرية: 302- 303، جواب المطعن الحادي عشر من مطاعن عمر.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 189

معني القرآن الظاهر بسوء فهمه ففي كفره تأمّل …» «1».

لكنّ مالكاً لم يكتف في الطعن بأميرالمؤمنين بالكلمة الخبيثة المذكورة، بل قال أكثر من ذلك وأشد، قال ابن تيمية: «وعلي لم يخص أحداً من أقاربه بعطاء، لكن ابتدء بالقتال لمن لم يكن مبتدئاً له بالقتال، حتّي قتل بينهما الوف مؤلّفة من المسلمين، وإن كان ما فعله هو متأوّل فيه تأويلًا وافقه عليه طائفة من العلماء وقالوا: إنّ هؤلاء بغاة واللَّه

تعالي أمر بقتال البغاة بقوله تعالي:

«فقاتلوا التي تبغي حتّي تفي ء إلي أمر اللَّه» لكن نازعه أكثر العلماء كما نازع عثمان أكثرهم وقالوا: إنّ اللَّه تعالي قال: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علي الاخري فقاتلوا التي تبغي حتّي تفي ء إلي أمر اللَّه فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ اللَّه يحبّ المقسطين» قالوا:

فلم يأمر اللَّه بقتال البغاة ابتداء، بل إذا وقع قتال بين طائفتين من المؤمنين فقد أمر اللَّه بالإصلاح بينهما، وحينئذ فإن بغت إحداهما علي الاخري قوتلت، ولم يقع الأمر كذلك، ولهذا قالت عائشة: ترك الناس العمل بهذه الآية؛ رواه مالك بإسناده المعروف عنها.

ومذهب أكثر العلماء أنّ قتال البغاة لا يجوز، إلّاأن يبتدؤا الإمام بالقتال، كما فعلت الخوارج مع علي، فإنّ قتاله الخوارج متفق عليه بين العلماء ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبي، بخلاف قتال صفين، فإنّ أولئك لم يبتدؤا بقتال بل امتنعوا عن مبايعته، ولهذا كان أئمّة السنيّة كمالك وأحمد وغيرهما يقولون أنّ قتاله للخوارج مأمور به، أمّا قتال الجمل وصفّين فهو قتال فتنة، فلو قال قوم نحن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ولا ندفع زكاتنا إلي الإمام ونقوم __________________________________________________

(1) مختصر التحفة الإثني عشرية: 196، الحديث الحادي عشر من باب الإمامة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 190

بواجبات الإسلام، لم يجز للإمام قتالهم عند أكثر العلماء كأبي حنيفة وأحمد، وأبوبكر الصدّيق إنّما قاتل مانعي الزكاة لأنّهم امتنعوا من أدائها مطلقاً، وإلّا فلو قالوا نحن نؤتيها بأيدينا ولا ندفعها إلي أبي بكر، لم يجز قتالهم عند الأكثرين كأبي حنيفة.

ولهذا كان علماء الأمصار علي أنّ القتال كان قتال فتنة، وكان من قعد عنه أفضل ممّن قاتل فيه، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل والأوزاعي

بل الثوري، وكذلك نقل عن أبي حنيفة ومن لا يحصي عدده» «1».

وقال ابن تيمية: «اضطرب الناس في خلافة علي علي أقوال:

فقالت طائفة: إنّه إمام وإنّ معاوية إمام، وإنّه يجوز نصب إمامين في وقت إذا لم يكن الإجتماع علي إمام واحد، وهذا يحكي عن الكرامية وغيرهم.

وقالت طائفة: لم يكن في ذلك الزمان إمام بل كان زمان فتنة، وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريّين وغيرهم، ولهذا لمّا أظهر الإمام أحمد التربيع بعلي في الخلافة وقال: من لم يربّع بعلي في الخلافة فهو أضلّ من حمار أهله، أنكر ذلك طائفة من هؤلاء وقالوا: قد أنكر خلافته من لا يقال هو أضلّ من حمار أهله، يريدون من تخلّف عنها من الصحابة، واحتجّ أحمد وغيره علي خلافة علي بحديث سفينة عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: تكون خلافة النبوّة ثلاثين سنة ثمّ تصير ملكاً، وهذا الحديث قد رواه أهل السنن كأبي داود وغيره.

وقالت طائفة ثالثة: بل هو الإمام، وهو مصيب في قتاله لمن قاتله،

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4: 436- 437.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 191

وكذلك من قاتله من الصحابة كطلحة والزبير، كلّهم مجتهدون ومصيبون، وهذا قول من يقول كلّ مجتهد مصيب، كقول البصريّين من المعتزلة أبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم ومن وافقهم من الأشعريّة كالقاضي أبي بكر وأبي حامد وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري، وهؤلاء أيضاً يجعلون معاوية مجتهداً مصيباً في قتاله كما أنّ عليّاً مصيب، وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، ذكره أبو عبداللَّه ابن حامد، ذكر لأصحاب أحمد في المقاتلين يوم الجمل وصفّين ثلاثة أوجه: أحدهما: كلاهما مصيب، والثاني:

المصيب واحد لا بعينه، والثالث: إنّ عليّاً هو المصيب و من خالفه مخطئ،

والمنصوص عن أحمد وأئمّة السنّة أنّه لا يذم أحد منهم وإنّ عليّاً أولي بالحقّ من غيره، أمّا تصويب القتال فليس هو قول أئمّة السنّة، بل هم يقولون إنّ تركه كان أولي.

وطائفة رابعة: تجعل عليّاً هو الإمام، وكان مجتهداً مصيباً في القتال، ومن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين، وهذا قول كثير من أهل الكلام والرأي من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

وطائفة خامسة تقول: إنّ عليّاً مع كونه خليفة وهو أقرب إلي الحقّ من معاوية، فكان ترك القتال أولي وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء، فإنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الساعي، وقد ثبت أنّه قال للحسن: إنّ ابني هذا سيّد وسيصلح اللَّه به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين، فأثني علي الحسن بالإصلاح، ولو كان القتال واجباً أو مستحبّاً لما مدح تاركه. قالوا: وقتال البغاة لم يأمر اللَّه به ولم يأمر بقتال باغ بل قال: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 192

بغت إحداهما علي الاخري فقاتلوا التي تبغي حتّي تفي ء إلي أمر اللَّه» فأمر إذا اقتتل المسلمون بالإصلاح بينهم فإن بغت إحداهما قوتلت. قالوا: ولهذا لم يحصل بالقتال مصلحة، والأمر الذي يأمر اللَّه به لابدّ أن يكون مصلحة راجحة علي مفسدته.

وفي سنن أبي داود: حدّثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد، ثنا هشام عن محمّد يعني ابن سيرين قال: قال حذيفة: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلّاأنا أخافها عليه إلّامحمّد بن مسلمة، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: لا تضرّك الفتنة.

قال أبو داود: حدّثنا عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة عن الأعمش بن سليم، عن

أبي بردة عن ثعلبة بن ضبيعة قال: دخلت علي حذيفة فقال: إنّي أعرف رجلًا لاتضرّه الفتن شيئاً، فخرجنا فإذا فسطاط مضروب فإذا فيه محمّد بن مسلمة، فسألناه عن ذلك، فقال: ما اريد أن يشتمل علي شي ء من أمصاركم حتّي تنجلي عمّا انجلت.

فهذا الحديث يبيّن أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أخبر أنّ محمّد بن مسلمة لا تضرّه الفتنة، وهو ممّن اعتزل في القتال فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية، كما اعتزل سعد بن أبي وقّاص واسامة بن زيد وعبداللَّه بن عمر وأبو بكرة وعمران بن حصين وأكثر السابقين الأوّلين، وهذا يدلّ علي أنّه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب، إذ لو كان كذلك لم يكن ترك ذلك ممّا يمدح به الرجل بل كان من فعل الواجب، وفاعل الواجب أفضل ممّن تركه، ودلّ ذلك علي أنّ القتال قتال فتنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّه قال: ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 193

الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من المرضع، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة تبيّن أنّ ترك القتال كان خيراً من فعله من الجانبين.

وعلي هذا جمهور أئمّة أهل الحديث والسنّة، وهو مذهب مالك والثوري وأحمد وغيرهم، وهذه أقوال من يحسن القول في عليّ وطلحة والزبير ومعاوية» «1».

فأيّ ريبٍ وشك يبقي في ضلال مالك وهلاكه بعد هذا؟ لاسيّما بالنظر إلي كلام الفخر الرازي في أنّ من تكلّم في الشّافعي فقد آذي اللَّه ورسوله واستحقّ اللّعن، وذلك ليس إلّالكونه قرشيّاً، فكيف بمن تكلّم في علي أميرالمؤمنين، الذي هو بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم سيّد

قريش وبني هاشم، وهو سيّد الوصيّين؟!

أللّهمّ إلّاانْ يكون ابن تيميّة كاذباً في نسبة تلك الأقوال إلي مالك!!

كان لا يروي عن الإمام الصادق حتّي يضمّه إلي أحد!

ومن ذلك: ما ذكره الذهبي قال: «قال مصعب بن عبداللَّه عن الدراوردي قال: لم يرو مالك عن جعفر حتّي ظهر أمر بني العبّاس. قال مصعب بن عبداللَّه: كان مالك لا يروي عن جعفر حتّي يضمّه إلي أحد» «2».

وكفي طعناً في مالك وكتابه ورواياته أن يكون هذا رأيه في الإمام أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام؟ وكيف يكون القادح في الإمام الصادق ثقةً؟

وعلي الجملة، فهذا حال مالك وديانته وثقته وأمانته!!

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4: 437.

(2) ميزان الاعتدال 2: 144/ 1521.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 194

من الأباطيل والموضوعات في الموطأ … ص: 194

وكيف يطمئنّ بروايات من هذا حاله وبكتابه؟ وكيف يقال بصحّة كتابٍ ربع رواياته- تقريباً- عن هشام بن عروة الذي قال مالك عنه: «كذّاب» كما تقدّم؟

بل لقد ذكر الغزالي أنّه «كان أحمد بن حنبل ينكر علي مالك في تصنيفه الموطأ ويقول: ابتدع مالم يفعله الصحابة» «1».

وفي هذا الكتاب أباطيل وموضوعات كثيرة، نكتفي بإيراد بعضها:

حديث لا نورّث (فمنها) حديثه: «عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة: «إنّ أزواج النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم حين توفي رسول اللَّه أردن أن يبعثن عثمان ابن عفّان إلي أبي بكر الصدّيق فيسألنه ميراثهنّ من رسول اللَّه. فقالت لهنّ عائشة: أليس قد قال رسول اللَّه: لا نورّث ما تركناه صدقة» «2».

فقد تقدّم سابقاً: أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كذّب هذا الحديث، وكيف يصدق ما كذّبه علي؟

علي أنّ أبابكرٍ نفسه أيضاً يكذّبه، فقد جاء في الأحاديث الصحيحة

__________________________________________________

(1) إحياء علوم الدين 1: 79.

(2) الموطأ 2: 993/ 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 195

تصريحه بأنّ

الوارث لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أهله وليس غيرهم:

أخرج أحمد بإسناده عن أبي الطفيل قال: «لمّا قبض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، أرسلت فاطمة إلي أبي بكر: أنت ورثت رسول اللَّه أم أهله؟ قال:

فقال: لا بل أهله. قالت: فأين سهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قال:

فقال أبوبكر: إنّي سمعت رسول اللَّه …» «1».

وقد رواه المتّقي عن جماعة من الأئمّة: أحمد في المسند، وأبي داود، وابن جرير والبيهقي «2».

والمحبّ الطبري تحت عنوان «ذكر اقتفائه آثار النبوّة واتّباعه إيّاها» «3».

فهذا الحديث صريحٌ في أنّه كان يري أنّ لرسول اللَّه إرثاً ووارثاً.

بل لقد روي أنّه لمّا قالت له ذلك نزل عن المنبر وكتب لها كتاباً بفدك …

قال سبط ابن الجوزي: «قال علي بن الحسين رضي اللَّه عنهما: جاءت فاطمة بنت رسول اللَّه إلي أبي بكر- وهو علي المنبر- فقالت: يا أبابكر، أفي كتاب اللَّه أن ترثك ابنتك ولا أرث أبي؟ فاستعبر أبوبكر باكياً ثمّ قال: يا بأبي أنتِ، ثمّ نزل فكتب لها بفدك. ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة ميراثها من أبيها. قال: فماذا تنفق علي المسلمين وقد حاربتك العرب كما تري؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه» «4».

فظهر أنّ الحديث المذكور كذب مفتري

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 1: 9/ 15.

(2) كنز العمّال 5: 604/ 14069، وورد بنحوه في مواضع عدّة.

(3) الرياض النضرة 1: 190.

(4) مرآة الزمان، ورواه عن سبط ابن الجوزي: نور الدين الحلبي في السّيرة النبوية 3: 488: باب يذكر فيه مدّة مرضه وما وقع فيه ووفاته.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 196

حديث ولاء بريرة

(ومنها) الحديث: «مالك: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلّي اللَّه

عليه وسلّم أنّها قالت: جاءت بريرة فقالت: إنّي كاتبت أهلي علي تسع أواق في كلّ عام أوقية فأعينيني، فقالت عائشة: إنْ أحبّ أهلك أن أعدّها لهم عنك عددتها، ويكون لي ولاؤك، فعلت. فذهبت بريرة إلي أهلها، فقالت ذلك لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عند أهلها ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جالس، فقالت لعائشة: إنّي قد عرضت عليهم ذلك فأبوا عليّ، إلّاأنْ يكون الولاء لهم، فسمع ذلك رسول اللَّه، فسألها فأخبرته عائشة، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنّما الولاء لمن أعتق …» «1».

وقد أنكر هذا الحديث بعض العلماء:

منهم: قاضي قضاتهم يحيي بن أكثم، فقد جاء بشرحه في (عمدة القاري): «الموضع الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: اشتريها. إلي آخره.

مشكل، من حيث الشراء وشرط الولاء لهم وإفساد البيع بهذا الشرط ومخادعة البايعين وشرط ما لا يصحّ لهم ولا يحصل لهم وكيفيّة الإذن لعائشة. ولهذا الإشكال أنكر بعض العلماء هذا الحديث بجملته، وهذا منقول عن يحيي بن أكثم …» «2».

ومنهم: الشافعي، قال ابن حجر في (الفتح): «واستشكل صدور الإذن __________________________________________________

(1) الموطأ 2: 780/ 17.

(2) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 13: 122.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 197

منه في البيع علي شرط فاسد. واختلف العلماء في ذلك، فمنهم من أنكر الشرط في الحديث، فروي الخطابي في المعالم بسنده إلي يحيي بن أكثم أنّه أنكر ذلك، وعن الشافعي في الام الإشارة إلي تضعيف رواية هشام المصرّحة بالإشتراط، لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، وروايات غيره قابلة للتأويل …» «1».

حديث انتقاض الوضوء بمسّ الذكر

(ومنها) حديثه في انتقاض الوضوء بمسّ الذكر، الذي أبطله كبار علماء القوم، وهو: «مالك: عن عبداللَّه بن أبي بكر بن

محمّد بن عمرو بن حزم: أنّه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت علي مروان بن الحكم، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مسّ الذكر الوضوء. فقال عروة: ما علمت هذا، فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنّها سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: إذا مسّ أحدكم ذكره فليتوضّأ» «2».

فهذا الحديث ردّوه بوجوه عقلية ونقليّة كثيرة، وأقاموا البراهين الجليّة علي كذبه وبطلانه، بل لم يستدل به القائلون بهذا القول أيضاً، لكون راويه مروان بن الحكم الفاسق الفاجر.

وقال الشيخ عبدالعلي الأنصاري في (الأركان الأربعة):

«ولا ينقض مسّ الذكر الوضوء عندنا، وقال الإمام الشافعي: وإن مسّ بلا حائل ينقض، وكذا عند الإمام مالك. وقال الإمام أحمد في رواية: ينقض مسّ __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 5: 144- 145.

(2) الموطّأ 1: 42/ 58.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 198

الرجل ذكره ودبره ومسّ المرأة فرجها.

وحجّتهم ما روي الإمام الشافعي عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا أفضي أحدكم بيده إلي ذكره ليس بينه وبينها حجاب فليتوضّأ.

قال في فتح القدير: إسناده مضعّف.

وبما روي النسائي عن بسرة بنت صفوان أنّها قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من مسّ ذكره فليتوضّأ.

وتحقيق حال هذا الحديث: قال مشايخنا في اصول الفقه: إنّ مسّ الذكر ممّا يتكرّر به البلوي ويبتلي به كلّ أحد من الرجال، ولم يطّلع عليه أحد من الرجال مع حاجتهم إلي معرفة حكم مسّ الذكر، واطّلعت عليه امرأة غير محتاجة إلي معرفة حكم مسّ الذكر، وهذا في غاية البعد.

وقد قال الطحاوي: ولا نعلم أحداً من الصحابة أفتي بوجوب الوضوء من مسّ الذكر إلّاابن عمر ولم يتمسّك هو أيضاً بهذا الحديث.

وقال في فتح

القدير: وقد ثبت عن أميرالمؤمنين علي وعمّار وابن مسعود وحذيفة وعمران بن الحصين وأبي الدرداء وسعد بن أبي وقاص رضوان اللَّه عليهم أنّهم لا يرون النقض منه، ولو كان هذا الحديث ثابتاً لكان لهم معرفة بذلك، والقائلون بنقض الوضوء من مسّ الذكر لم يستدلّوا بذاك الحديث، ولم يقل أحد إنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وروي من روي عن بسرة، ويبعد كلّ البعد أن يُلقي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حكماً إلي من لا يحتاج إليه ولا يلقي إلي من يحتاج إليه، فعلم أنّ فيه انقطاعاً باطناً والحديث غير صحيح.

ثمّ ينظر في سنده، فروي الإمام مالك في الموطأ عن محمّد بن عمرو

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 199

ابن حزم قال: سمعت عروة يقول: دخلت علي مروان فتذاكرنا ما يكون فيه الوضوء فقال مروان: من مسّ الذكر فليتوضّأ. فقال عروة: ما علمت هذا.

فقال: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنّها سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: إذا مسّ أحدكم ذكره فليتوضّأ.

وأخرج أبو داود والترمذي رواية الموطأ وللنسائي نحوه وفيه: وقال عروة: ولم أزل اماري مروان حتّي دعي رجلًا من حرسه، فأرسل إلي بسرة وسألها عمّا حدّثت من ذلك، فأرسلت إليه بسرة مثل الذي حدّثني عنها مروان، كذا في جامع الاصول.

فقد علم من ذلك أنّ عروة لم يسمع من بسرة، إنّما سمع من شرطي مروان، والشرطي مجهول لا يقوم روايته حجّة.

وأمّا مروان، وإن قبله جماعة من المحدّثين وكتبوا روايته في صحاحهم ومسانيدهم، لكن مروان- في الإنصاف- لم يكن قابلًا لقبول شهادته وروايته، وقد تواتر عنه أفعال أعاذنا اللَّه عنها وجميع المسلمين، وإنّه قد احتال حيلًا ومكراً عظيماً في خلافة أميرالمؤمنين عثمان وهو غير

شاعر، حتّي انجرّ إلي أنّ الأشقياء قتلوه، فقتل شهيداً مظلوماً.

ثمّ هو كان شريكاً للذين جاءوا لتخريب المدينة في زمان يزيد الشقي، حتّي أعانهم، وغدر هو وغدروا بأهل المدينة وفعلوا ما فعلوا؛ فإن كان عنده هذا الصنع حراماً- كما هو في الواقع- فهو فاسق معلن، فلا تقبل روايته بل لا يكتب حديثه، وإن كان يزعم هذا الصنع مباحاً لشبهة عرضت له كشبهة الخوارج، فهو من أهل الأهواء، ثمّ كان هو داعياً إلي هذا الصنع فهو مبتدع داع إلي بدعته، ورواية المبتدع الداعي إلي بدعته غير مقبول ولا صالح للكتابة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 200

بالإجماع، ثمّ ملاحظة هذه القصّة في التواريخ المعتبرة يحكم أنّه قد ارتكب كذباً، والمبتدع الكاذب- وإن كان مستحلّاً للكذب- لا يقبل روايته بالإجماع.

ثمّ كان هو يسبُّ أميرالمؤمنين عليّاً في المجالس بل علي المنبر، والمبتدع المظهر سبّ السلف مردود الشهادة والرواية باتّفاق الامّة، بخلاف الكاتم، فإنّه يقبل شهادته عندنا إن كان مجتنباً عن الكبائر في زعمه وعن الكذب، ويقبل روايته أيضاً عند أكثر أهل الحديث بذلك الشرط، وعند محقّقي أصحابنا لا تقبل روايته أصلًا وهو الحقّ، وقد بيّنّا في فواتح الرحموت شرحنا للمسلّم.

وإذ قد علمت أنّ هذا الحديث المروي عن بسرة غير صحيح ألبتّة، وحديث أبي هريرة أيضاً ضعيف، فلم يدلّ دليل علي نقض مسّ الذكر، فيبقي علي أصله غير ناقض كمسّ سائر الأعضاء».

وقال الزرقاني المالكي: «… هو علي شرط البخاري، وإنْ كان المخالف يقول: إنه من رواية مروان، ولا صحبة له ولا كان من التابعين بإحسان … وزعم الحنفيّة أن مسّ الذكر في حديث بسرة كناية عمّا يخرج منه … وقالوا أيضاً: إن خبر الواحد لا يعمل به فيما يعمّ به

البلوي …» «1».

هذا، وسيأتي في فصل (مسائل فقهيّة) البحث عن هذه المسألة، وفيه الكلام علي حديث مروان، وطعن يحيي بن معين فيه.

حديث تحريم المتعة يوم خيبر

(ومنها) حديثه: «عن ابن شهاب، عن عبداللَّه والحسن ابني محمّد بن __________________________________________________

(1) شرح الموطأ 1: 152 كتاب الطهارة، باب الوضوء من مسّ الفرج.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 201

علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة» «1».

وهو حديث باطل لوجوه:

الأول: لقد نصّ علماء القوم علي بطلان القول بتحريم النبي صلّي اللَّه عليه وآله المتعة يوم خيبر، وقد تقدم الإيماء إلي قول صاحب (التحفة) بأنّ هذه الدعوي تشهد بجهل وحمق مدّعيها «2».

الثاني: إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان علي رأس القائلين بحليّة المتعة، قال الرازي: «أمّا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب، فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة، وروي محمّد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي رضي اللَّه عنه أنّه قال: لولا أن عمر نهي عن المتعة ما زنا إلّاشقي» «3».

وفي (الدر المنثور) بتفسير «فما استمتعتم …» الآية: «أخرج عبدالرزاق وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن الحكم أنّه سئل عن هذه الآية أمنسوخة؟

قال: لا. وقال علي: لولا أن عمر نهي عن المتعة ما زنا إلّاشقي» «4».

ورواه المتقي كذلك عن الثلاثة «5».

الثالث: إنّ فتوي مالك نفسه بإباحة المتعة تكذّب هذا الحديث، وقد ذكرت فتواه هذه في كتب القوم، نذكر بعضها:

قال المرغيناني: «ونكاح المتعة باطل، وهو أنْ يقول لامرأة: أتمتّع بك __________________________________________________

(1) الموطأ 2: 542/ 41.

(2) التحفة الإثني عشرية: 303.

(3) تفسير الرازي 10: 50.

(4) الدر المنثور 2: 486.

(5) كنز العمّال 16: 522/ 45728.

استخراج المرام من

استقصاء الافحام، ج 3، ص: 202

كذا مدّة بكذا من المال. وقال مالك رحمه اللَّه: هو جائز، لأنّه كان مباحاً فيبقي إلي أنْ يظهر ناسخه» «1».

وقال أبوالبركات النسفي في (كنز الدقائق): «ويبطل نكاح المتعة، خلافاً لمالك، صورة المتعة أنْ يقول الرجل لامرأة: خذي هذه العشرة لأتمتّع بك أيّاماً. وقال مالك رحمه اللَّه: هو جائز».

قال الزيلعي بشرحه: «وقال مالك هو جائز، لأنّه كان مشروعاً، فيبقي إلي أنْ يظهر ناسخه. واشتهر عن ابن عبّاس تحليلها، وتبعه علي ذلك أكثر أصحابه من أهل اليمن ومكّة».

وقال العيني بشرحه: «وقال مالك هو جائز، لأنّه كان مشروعاً، واشتهر عن ابن عبّاس تحليلها».

وقال أكمل الدين البابرتي بشرح الهداية:

«قال: ونكاح المتعة باطل. صورة المتعة ما ذكره في الكتاب أن يقول الرجل لامرأة: أتمتّع بك كذا مدّة بكذا من المال، أو يقول: خذي منّي هذه العشرة لأتمتّع بك أيّاماً، أو متّعيني نفسك أيّاماً أو عشرة أيّام، أو لم يقل أيّاماً.

وهذا عندنا باطل. وقال مالك رحمه اللَّه: هو جائز، وهو الظاهر من قول ابن عبّاس رضي اللَّه عنه. لأنّه كان مباحاً بالاتّفاق فيبقي إلي أنْ يظهر ناسخه …

وقيل: في نسبة جواز المتعة إلي مالك نظر، لأنه روي الحديث في الموطّأ عن ابن شهاب عن عبداللَّه والحسن ابني محمّد بن علي عن أبيهما عن عليّ بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة. وقال في المدوّنة: ولا

__________________________________________________

(1) الهداية في الفقه 1: 195.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 203

يجوز النكاح إلي أجل قريب أو بعيد وإنْ سمّي صداقاً، وهذه المتعة.

وأقول: يجوز أن يكون شمس الأئمّة الذي أخذ منه المصنّف، قد اطّلع علي

قولٍ له علي خلاف ما في المدوّنة، وليس كلّ من يروي حديثاً يكون واجب العمل، لجواز أن يكون عنده ما يعارضه أو يرجّح عليه» «1».

__________________________________________________

(1) العناية في شرح الهداية 3: 149- 150 ط علي هامش فتح القدير لابن الهمام.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 205

أبو حنيفة النعمان بن ثابت … ص: 205

رسالة إمام الحرمين … ص: 205

لقد ألَّف إمام الحرمين الجويني «1» رسالةً في ذمّ أبي حنيفة والطعن علي أقواله وفتاواه، وأسماها «مغيث الخلق في اختيار الحق». وقد تركت هذه الرسالة أثراً بالغاً في نفوس الناس، وتحيّر الحنفيّة في علاج الأمر، ولم يجد بعضهم بدّاً من انكار الرسالة ونفي كونها لإمام الحرمين وزعم أنّها موضوعة عليه، كالشيخ ملّا علي القاري، فإنّه كتب جواباً عنها وقال في خطبته:

«يقول أفقر عباد اللَّه الغني الباري علي بن سلطان الهروي القاري: رأيت رسالة مصنوعةً في ذمّ مذهب السّادة الحنفيّة- الذين هم قادة الامّة الحنفيّة وأكثر أهل الملّة الاسلاميّة- وموضوعة، فيها أشياء من أعجب العجاب التي تشير إلي أنّ قائلها جاهل أو كذّاب، وهي منسوبة إلي أبي المعالي عبدالملك ابن عبداللَّه بن يوسف الجويني المشهور بإمام الحرمين، من أكابر علماء مذهب الشافعي، وحسن ظنّي به أنّ أحداً من الخوارج أو الرافضة- الحاسدين لاجتماع أهل السنّة والجماعة علي طريقة واحدة مشتملة علي المستنبط من __________________________________________________

(1) وهو: أبو المعالي عبدالملك الشافعي، المتوفي سنة 478، توجد ترجمته في: طبقات الشافعية للسبكي 5: 165، وفيات الأعيان 3: 167، المنتظم 9: 18، سير أعلام النبلاء 18: 468.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 206

الكتاب والسنّة وإجماع الامّة والقياس المعتبر عند الأئمة- كتب هذه الرسالة ونسبها إليه، ليكون سبباً لرواج بضاعته المزجاة لديه، ووسيلة إلي مهابة العوام والجهلة في الردّ عليه، كما يدلّ علي ما قلنا ركاكة

ألفاظه …».

إلّاأنّ القاري تنبّه في آخر الرسالة إلي غفلته والتفت إلي سوء ظنّه وفساد توهّمه فقال:

«ثمّ اعلم أنّي كنت أظنّ أنّ الرسالة المصنوعة إنّما يكون علي إمام الحرمين موضوعة، لكن رأيت في بعض الكتب أنّه ذكرها اليافعي في كتابه مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقلّب أحوال الإنسان».

أقول: وهذه نصوص ألفاظ ما جاء في (مرآة الجنان) في ذلك:

«وممّا ذكروا عن السلطان محمود ما هو مشهود، ومن فضل مذهب الشافعي معدود: ما سيأتي الآن ذكره ويعلم منه فضل المذهب المذكور وفخره، قصّة عجيبة مشتملة علي نادرة غريبة، وهي ما ذكر إمام الحرمين، فحل الفروع والأصلين، أبوالمعالي عبدالملك ابن الشيخ الإمام أبي محمّد الجويني، في كتابه الموسوم ب «مغيث الخلق في اختيار الحق»: إنّ السلطان محمود المذكور كان علي مذهب أبي حنيفة رضي اللَّه عنه، وكان مولعاً بعلم الحديث، وكان الناس- أو قال: الفقهاء- يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه …» «1».

قضيّة صلاة القفّال … ص: 207

هذا، وقد جاء في الرسالة المذكورة بعد الكلام علي فضائح أبي حنيفة

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 3: 19.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 207

في مسائل الطهارة:

«جئنا إلي الصّلاة، فوافق الشافعي الأصل الذي عليه بناء الصّلاة من الدعاء والخضوع والخشوع وقال: المعني المطلوب من الصّلاة الخضوع والخشوع واستكانة النفس، ومحادثة القلب بالموعظة الحسنة والحكمة البالغة، والفكر في معاني القرآن والإبتهال إلي اللَّه سبحانه، وأبو حنيفة لا يلزم الأصل ويخالفه حتّي طرح أركانها وشرائطها، حتّي رجع حاصل الصّلاة إلي نقرات كنقرات الديك، وإذا عرض- مثلًا- صلاته علي كلّ عامي جلف امتنع عن اتّباعه، فإنّ من غمس في مستنقع نبيذ، ولبس جلد كلب مدبوغ، وأحرم بالصّلاة مبدّلًا بصيغة التكبير ترجمته تركياً كان أو هندياً، ويقتصر

في قراءة القرآن علي ترجمة قوله «مُدهامّتان» ثمّ يترك الركوع فينقر نقرتين، لا قعود بينهما ولا يقرأ التشهّد، ثمّ يحدث عمداً في آخر صلاته بدل التسليم، ولو اتفق منه أن سبقه الحدث يعيد الوضوء في أثناء الصلاة ويحدث، فإنّه إن لم يكن قاصداً لحدثه الأوّل لم يتحلّل عن صلاته علي الصحّة.

والذي ينبغي أن يقطع به كلّ ذي دين: أنّ مثل هذه الصّلاة لم يبعث اللَّه به نبيّاً، ولا بعث محمّد بن عبداللَّه المصطفي- صلوات اللَّه وسلامه عليه- لدعاء الناس إليه، وهي قطب الإسلام وعماد الدين، وقد زعم أنّ هذا القدر أقلّ الواجب، وهي الصّلاة التي بعث بها النبيّ عليه الصّلاة والسلام، وما عداها آداب وسنن.

ويحكي أنّ السلطان يمين الدولة وأمين الملّة أباالقاسم محمود بن سبكتكين، كان علي مذهب أبي حنيفة، وكان مولعاً بعلم الحديث، وكان ندماؤه وجلساؤه يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع، وكان استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 208

يستفسر الأحاديث، فوجد الأحاديث أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي، فوقع في خلده حبّه، فجمع الفقهاء من الفريقين في المرو، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين علي الآخر، فوقع الإتفاق علي أن يصلّوا بين يديه ركعتين علي مذهب الشافعي وركعتين علي مذهب أبي حنيفة، لينظر فيه السلطان ويتفكّر فيه ويختار ما هو أحسن.

فصلّي القفّال المروزي من أصحاب الشافعي بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والستر واستقبال القبلة، وأتي بالأركان والهيئات والسنن والآداب والفرائض علي وجه الكمال والتمام، وكان صلاة لا يجوّز الشافعي دونها.

ثمّ صلّي ركعتين علي ما يجوّز أبو حنيفة، فلبس جلد كلب مدبوغ ولطخ ربعه بالنجاسة، وتوضّأ بنبيذ التمر، وكان في صميم الصيف بالمفازة، فاجتمع عليه الذباب والبعوض، وكان وضوءه معكوساً منكوساً، ثمّ

استقبل القبلة وأحرم بالصلاة من غير نيّة، وأتي بالتكبير بالفارسيّة، ثمّ قرأ آية بالفارسيّة «دو برك سبز» ثمّ نقر نقرتين كنقرات الديك، من غير فصل ومن غير ركوع، وتشهّد وضرط في آخره من غير سلام.

وقال: أيّها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة.

فقال السلطان: إن لم تكن هذه صلاة أبي حنيفة لقتلتك؛ لأنّ مثل هذه الصلاة لا يجوّزها ذو دين.

وأنكرت الحنفيّة أن يكون هذه صلاة أبي حنيفة.

وأمر القفّال بإحضار كتب العراقيّين.

وأمر السلطان نصرانيّاً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 209

فوجدت الصّلاة علي مذهب أبي حنيفة علي ما حكاه القفال.

فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة وتمسّك بمذهب الشافعيّ.

ولو عرضت الصلاة التي جوّزها أبو حنيفة علي العامّي لامتنع من قبولها».

وكذلك جاء في كتاب (السيف المسلول في ضرب القفال والمقفول)، فإنّه وإنْ حاول صاحبه في بدء الأمر تكذيب القصّة، لكنّه اضطرّ إلي الإقرار بثبوتها، وهذه عباراته:

«يقول أضعف عباد اللَّه القوي علم اللَّه بن عبدالرزاق الحنفي أصلح اللَّه حاله وحقّق آماله: كنت أسمع من أفواه الرجال قصّة المروزي القفال مع السلطان محمود الغزنوي المغتال، في تحويله بالشعبذة والإحتيال وتنقيله عمّا كان عليه من سنيّ الأحوال، من مذهب الإمام أبي حنيفة الأعظم إلي مذهب الإمام محمّد بن إدريس المحترم، ولمّا كانت القصّة مشتملة علي قبايح شنيعة وشنائع فظيعة لا تليق به، بل يستحيل أن تصدر عمّن له حظّ قليل من الأخلاق الرضيّة والآداب المرضيّة، بل من له أدني رائحة من طيب الإسلام فضلًا عمّن يعدّه جمع من العلماء الأعلام، كنت كذّبتها وما صدّقتها وخطّأتها وما صوّبتها وقلت: حاشاه حاشاه! أين هذا وأين علمه وتقواه، مطهّر جنابه من هذه الأنجاس، منزّه لسانه عن لوث هذه الأدناس، شأنه أجلّ من

أن يكون معروفاً بهذي الفضائح ومشهوراً بتلك القبائح، من البطالات المزخرفة والخرافات المستطرفة، واضحوكات المضحكة ومهملات المتمسخرة، وتكلّمات المجانين وحكايات المغمورين، وخطابات المسحورين وهذيانات المحمومين، هزل لا فصل، جهل لا فضل، وكنت علي ذلك برهة من الزمان استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 210

ومدّة من الأكوان».

ثمّ قال بعد هذا كلّه:

«حتّي وقفت علي تاريخ اليافعي من أعيان مقلّدي الشافعي، فرأيته قد ذكر القصّة علي ما شاعت في الخافقين، نقلًا عن الكتاب المسمّي بمغيث الخلق لإمام الحرمين، فظهر أنّ القصة واقعة وأنّ الحكاية علي ما هي شائعة، ليس في صدقها ريب ولا فيها من الافتراء شوب، فلمّا عرفت أنّ هذا اليقين لا يستراب زدتُ تحيّراً وقلت: إنّ هذا لشي ءٌ عجابٌ، وأعجب من هذا، أنّ هؤلاء الذين عدّوّا أجلّاء الشافعيّة عظماء، ذكروا القصّة تبجّحاً وافتخاراً، وأوردوا الحكاية تبهّجاً وابتشاراً، كما يدلّ علي ذلك عباراتهم ويجلو ما هنالك إشاراتهم».

ترجمة القفّال المروزي … ص: 210

هذا، وإليك طرفاً من ترجمة أبي بكر القفال، المتوفي سنة 417، وفضائله ومحامده في كتب تراجم الرجال والتاريخ: فقد قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان):

«أبوبكر عبداللَّه بن أحمد بن عبداللَّه الفقيه الشافعي المعروف بالقفال المروزي، كان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً، وورعاً وزهداً، له في مذهب الإمام الشافعي من الآثار ماليس لغيره من أبناء عصره، وتخاريجه كلّها جيّدة وإلزاماته لازمة، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، منهم الشيخ أبو علي السبخي والقاضي حسين بن محمّد، وقد تقدّم ذكرهما، والشّيخ أبو محمّد الجويني والد إمام الحرمين، وسيأتي ذكرهما إن شاء اللَّه تعالي وغيرهم، وكلّ واحد من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 211

هؤلاء صار إماماً يشار إليه، ولهم التصانيف النافعة ونشروا علمه في البلاد، وأخذ عنهم أئمّة كبار أيضاً» «1».

وقال

ابن جماعة في (طبقات فقهاء الشافعية):

«عبداللَّه بن أحمد بن عبداللَّه المروزي، الإمام الجليل، أبوبكر القفال الصغير، شيخ طريقة خراسان، وإنّما قيل له القفال لأنّه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره، وبرع في صناعتها حتّي صنع قفلًا بالآلة ومفتاحه وزن أربع حبّات، فلمّا كان ابن ثلاثين سنة أحسّ من نفسه ذكاء فأقبل علي الفقه، فاشتغل به علي الشيخ أبي زيد وغيره، فصار إماما يقتدي به فيه، وتفقّه عليه خلق من أهل خراسان، وسمع الحديث، وحدّث وأملي.

قال الفقيه ناصر العمري: لم يكن في زمان أبي بكر القفال أفقه منه، ولا يكون بعده مثله، وكنّا نقول: إنّه ملك في صورة إنسان.

وقال الحافظ أبوبكر السمعاني في أماليه: أبوبكر القفال وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، وله في المذاهب من الآثار ما ليس لغيره من أهل عصره، وطريقته المهذبة في مذهب الشافعي التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة وأكثرها تحقيقاً، رحل إليه الفقهاء من البلاد وتخرّج به أئمّة» «2».

وقال اليافعي في (مرآة الجنان):

«الإمام أبوبكر القفال المروزي، عبداللَّه بن أحمد شيخ الشافعية بخراسان، حذق في صنعته حتّي عمل قفلًا بمفتاحه وزن أربع حبّات، فلمّا صار ابن ثلاثين سنة، أحسّ بنفسه ذكاءً وحبّب اللَّه إليه الفقه، فاشتغل به فشرع __________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 3: 46/ 331.

(2) طبقات الشافعية لابن جماعة، وانظر: لابن قاضي شهبة 1: 186 برقم 144.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 212

فيه، وهو صاحب طريقة الخراسانيّين في الفقه، عاش تسعين سنة.

قال ناصر العمري: لم يكن في زمانه أفقه منه ولا يكون بعده، كنّا نقول:

إنّه ملك في صورة آدمي.

قلت: وهو القفال المتقدم ذكره مع السلطان محمود الملقّب بيمين الدولة وأمين الملّة ابن ناصر الدين سبكتكين، وله ذكر في صلاته علي مذهب

الشافعي فقهاً والمجزية علي مذهب أبي حنيفة القصّة المتقدم ذكرها في سنة عشرة وأربعمائة.

قالوا: وكان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، واشتغل عليه خلق كثير منهم الأئمة الكبار: القاضي حسين والشيخ أبومحمّد الجويني وابنه إمام الحرمين والشيخ أبو علي السنجي وغيرهم، وكلّ واحد من هؤلاء صار إماماً يشار إليه، ولهم التصانيف النافعة، وأخذ عنهم الأئمة كبار أيضاً» «1».

وإليك كلمات الشيخ علي القاري في الطعن والذم لهذا الفقيه الكبير …

«ثمّ رأيت بعض أصحابنا إنّه أفاد في هذه الحكاية ما أجاد حيث قال:

وما أقبح صلاة هذا المصلّي وأشنعها وما أسوء ضرطته وأفظعها، لقد لبس ثوب الخلاعة وارتدي برداء الشناعة، وأصمّ بضرطته الأسماع، وأتي بما تنفر عنه الطباع، وفعل فعل السفلة الخفاف، واستخفّ بالدين غاية الإستخفاف، فضلّ به عن سواء الصراط، والتحق بالأراذل والأسقاط بصلاته هذه وختمها بالضراط.

لقد ساعدته استه كلّ المساعدة، وباعدته عن الحياء والدين كلّ المباعدة؛ أمّا عن الدين فظاهر لأرباب اليقين، لأنّه تعمّد الحدث في حال __________________________________________________

(1) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 3: 24 حوادث السنة 417.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 213

مناجاته لربّ العالمين، وأمّا عن الحياء فذلك شي ء لا ينكره أحد من العقلاء، فواعجباه! كيف أقدم هذا الذي ينسب إلي العلم علي هذا الفعل القبيح، بحضرة جماعة منهم السلطان، فصيّر نفسه ضحكة لأهل الزمان بأمر الشيطان، ثمّ مع هذا ظنّ أنّ ضرطته هذه له نافعة وإنّما هي له عن رتبة العقلاء واضعة، إذ لو فعل مثل ذلك أحد من العوام لقيل إنّه ملحد مستخفّ بالإسلام، بل من ترك الصلاة رأساً أهون في مقام القبائح من هذه السيّئة المشتملة علي الفضائح، إذ هي الشناعة العظمي والداهية الدَّهياء.

وإنّما حمله علي ذلك اتّباع الهوي لأجل أغراض

الدنيا، فليته حين مات مات فعله هذا معه ولم يذكر، ولم يكتب في الدفاتر ولم يُسطر، لكنّه اثبت في التواريخ واشتهر، وتشدّق به من لا خلاق له وافتخر، فلو عرفوا ما فيه من أنّ الشناعة راجعة إليهم لما ذكروا مثل هذا فيما لديهم، ولكن كما قال سبحانه «أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فإنّ اللَّه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء» فنعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، ونستغفره من زلل في أقلامنا وخطل في أقوالنا».

ثمّ إنّ فتاوي أبي حنيفة في أحكام الصّلاة هذه التي حكاها القفال، مذكورة في سائر الكتب أيضاً، فالسيوطي مثلًا يقول في رسالته (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) في بيان فضائل مذهب الشافعي:

«ومنها: كثرة الإحتياط في مذهبه وقلّته في مذهب غيره، فمن ذلك الإحتياط في العبادات وأعظمها شأناً الصلاة، ومن أدّي صلاته علي مذهب الشافعي كان علي يقين من صحّتها، ومن أدّاها علي مذهب مخالفه وقع الخلاف في صحّة صلاته من وجوه: إجازتهم الوضوء بنبيذ التمر، وتطهير

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 214

البدن والثوب عن النجاسات بالمايعات، وأجازوا الصلاة في جلد الكلب المذبوح من غير دباغ، و أجازوا الوضوء بغير نيّة ولا ترتيب وأسقطوه في مسّ الفرج والملامسة، وأجازوا الصّلاة علي ذرق الحمام ومع قدر الدرهم من النجاسات الجامدة، وتلطّخ ربع الثوب من البول ومع كشف بعض العورة، وأبطلوا تعيين التكبير والقراءة، وأجازوا القرآن منكوساً، وبالفارسيّة، وأسقطوا وجوب الطّمأنينة في الركوع والسجود والإعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين، والتشهّد والصلاة علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في الصلاة، مع الخروج عنها بالحدث.

وأبطلنا نحن الصّلاة في هذه الوجوه، وأوجبنا الإعادة علي من صلّي خلف واحد من هؤلاء».

وابن تيمية الذي

له الباع الطويل في تكذيب الحقائق وإنكار الثوابت، قد نصَّ علي صحّة ما نسب إلي أبي حنيفة، وأن هذه الصلاة ينكرها جمهور أهل السّنة، ففي (منهاج السنة):

«وأمّا ما ذكره من الصّلاة التي يجيزها أبوحنيفة وفعلها عند بعض الملوك حتّي رجع عن مذهبه، فليس بحجّة علي فساد مذهب أهل السنّة، لأنّ أهل السنّة يقولون إنّ الحقّ لا يخرج عنهم، لا يقولون إنّه لا يخطي أحد منهم، وهذه الصّلاة ينكرها جمهور أهل السنّة، كمالك والشافعي وأحمد، والملك الذي ذكره هو محمود بن سبكتكين، وإنّما رجع إلي ما ظهر عنده أنّه من سنّة النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، وكان من خيار الملوك وأعدلهم، وكان من أشدّ الناس قياماً علي أهل البدع لاسيّما الرافضة» «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 3: 430.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 215

بين الشافعي وتلامذة أبي حنيفة … ص: 215

ولو أنّ أحداً من الحنفيّة جوّز لنفسه الطعن والتشنيع علي هؤلاء الأئمة والتكذيب لهم، فليس له أن يقدم علي تكذيب الشافعيّ نفسه، لأنّه أحد أركان الدين عند أهل السنّة كلّهم، وقد جاء في غير واحد من الكتب طعن الشافعي علي أبي حنيفة وأصحابه وفتاواه، فالسبكي يروي في (طبقات الشافعية) عن إمامه الشافعي أنّه قال:

«كتب مطرف بن مازن إلي هارون الرشيد: إن أردت اليمن لا يفسد عليك ولا يخرج من يديك، فأخرج عنه محمّد بن إدريس- وذكر أقواماً من الطالبيّين- قال: فبعث إليَّ حمّاد البربري، فاوثِقْتُ بالحديد حتّي قدمنا علي هارون بالرقّة. قال: دخلت علي هارون. قال: فاخرجت من عنده. قال:

وقدمت ومعي خمسون ديناراً. قال: ومحمّد بن الحسن يومئذ بالرقّة. قال:

فأنفقت تلك الخمسين ديناراً علي كتبهم. قال: فوجدت مثلهم ومثل كتبهم مثل رجل كان عندنا يقال له فروخ وكان يحمل الدهن في زقّ له،

فكان إذا قيل له عندك فرستان؟ قال: نعم. فإن قيل عندك زنبق؟ قال: نعم، فإذا قيل له:

أرني- وللزق رؤوس كثيرة- فيخرج من تلك الرؤوس وإنّما هي من واحدة، وكذلك وجدت كتاب أبي حنيفة، إنّما يقولون كتاب اللَّه وسنّة نبيّه عليه السلام، وإنّما هم مخالفون له» «1».

قال السبكي:

«قال- أي الشافعي-: فسمعت ما لا احصيه محمّد بن الحسن يقول: إن __________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 121- 122 مع اختلافٍ يسير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 216

بايعكم الشافعي، فما عليكم من حجازي كلفة بعده، فجئت يوماً فجلست إليه وأنا من أشدّ النّاس همّاً وغمّاً من سخط أميرالمؤمنين، وزادي قد نفد.

قال: فلمّا أن جلست إليه، أقبل محمّد بن الحسن يطعن علي أهل دار الهجرة.

فقلت: علي من تطعن، علي البلد أم علي أهله؟ واللَّه لئن طعنت علي أهله، إنّما تطعن علي أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وإن طعنت علي البلدة، فإنّها بلدتهم التي دعا لهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أن يبارك لهم في صاعهم ومدّهم، وحرّمها كما حرّم إبراهيم مكّة لا يقصد صيدها، فعلي أيّهم تطعن؟

فقال: معاذ اللَّه أن أطعن علي أحد منهم أو علي بلدته، وإنّما أطعن علي حكم من أحكامه.

فقلت له: وما هو؟

قال: اليمين مع الشاهد.

فقلت له: ولم طعنت؟

قال: فإنّه مخالف لكتاب اللَّه.

فقلت له: فكلّ خبر يأتيك مخالفاً لكتاب اللَّه أيسقط؟

قال: فقال لي: كذا يجب.

فقلت له: ما تقول في الوصيّة للوالدين؟ فتفكّر ساعة.

فقلت له: أجب.

فقال: لا يجوز.

قال: فقلت له: فهذا مخالف لكتاب اللَّه؟ لم قلت إنّه لا يجوز؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 217

قال: فقال: لأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا وصيّة للوالدين.

قال: فقلت له: أخبرني عن شاهدين حتم من اللَّه لا غيره؟

قال:

فماذا تريد من ذا؟

قال: فقلت له: لئن زعمت أنّ الشاهدين حتم من اللَّه لا غيره، كان ينبغي لك أن تقول إذا زنا زان فشهد عليه شاهدان إن كان محصناً رجمته وإن كان غير محصن جلدته.

قال: فإن قلت لك ليس هو حتم من اللَّه؟

قال: قلت له إذا لم يكن حتماً من اللَّه فتنزل كلّ الأحكام منازله، في الزنا أربعاً وفي غيره شاهدين، وفي غيره رجلًا وامرأتين، وإنّما أعني في القتل لا يجوز إلّاشاهدين، فلما رأيت قتلًا وقتلًا أعني بشهادة الزنا وأعني بشهادة القتل، فكان هذا قتلًا وهذا قتلًا، غير أنّ أحكامهما مختلفة، فكذلك كلّ حكم تنزله حيث أنزله اللَّه منها بأربع، ومنها بشاهدين، ومنها برجل وامرأتين، ومنها بشاهد واليمين، فرأيتك تحكم بدون هذا.

قال: وما أحكم بدون هذا؟

قال: فقلت له: ما تقول في الرجل والمرأة إذا اختلفا في متاع البيت؟

فقال: أصحابي يقولون فيه ما كان للرجال فهو للرجال، وما كان للنساء فهو للنساء.

قال: فقلت: أبكتاب اللَّه هذا أم بسنّة رسول اللَّه؟

قال: فقلت له: فما تقول في الرجلين إذا اختلفا في الحائط؟

فقال: في قول أصحابنا إذا لم يكن لهم بيّنة ينظر إلي العقد من أين هو فأحكم لصاحبه.

قال: فقلت له: أبكتاب اللَّه هذا أم بسنّة رسول اللَّه؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 218

فقلت: ما تقول في رجلين بينهما خصومة فيختلفان، لمن تحكم إذا لم يكن لهم بيّنة؟

قال: أنظر إلي معاقده من أيّ وجه هو فأحكم له.

قلت له: بكتاب اللَّه تعالي قلت هذا أم بسنّة رسول اللَّه؟

قال: فقلت له: فما تقول في ولادة المرأة إذا لم يكن يحضرها إلّاامرأة واحدة وهي القابلة ولم يكن غيرها؟

قال: فقال: الشهادة جائزة بشهادة القابلة وحدها نقبلها.

قال: فقلت له: قلت هذا بكتاب اللَّه

أم بسنّة رسول اللَّه؟

قال: ثمّ قلت له: من كانت هذه أحكامه فلا يطعن علي غيره.

قال: ثمّ قلت له: أتعجب من حكم حكم به رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وحكم به أبوبكر وعمر، وحكم به عليّ بن أبي طالب بالعراق، وقضي به شريح؟

ورجل من ورائي يكتب ألفاظي وأنا لا أعلم.

قال: فأدخل علي هارون وقرأه عليه.

قال فقال لي هرثمة بن أعين: كان متّكياً فاستوي جالساً وقال: اقرءه علَيّ ثانياً.

قال: فأنشأ هارون يقول: صدق اللَّه ورسوله، صدق اللَّه ورسوله، صدق اللَّه ورسوله، قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: تعلّموا من قريش ولا تعلّموها، قدّموا قريشاً ولا تؤخّروها، ما أنكر أن يكون محمّد بن إدريس أعلم من محمّد بن الحسن» «1».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 122- 124.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 219

وقد روي ياقوت الحموي هذه المناظرة في (معجم الادباء) وجاء في نقله أنْ قال الشافعي لمحمد:

«وأمّا كتابك الذي ذكرت أنّك وضعته علي أهل المدينة، فكتابك من بعد بسم اللَّه الرحمن الرحيم خطأ إلي آخره، قلت في شهادة القابلة كذا وكذا وهو خطأ، وقلت في مسألة الحامل كذا وكذا وهو خطأ، وقلت في مسألة كذا كذا وكذا وهو خطأ، فاصفرّ محمّد بن الحسن ولم يُحرِ جواباً» «1».

وأورد الفخر الرازي هذه المناظرة في (رسالته) في ترجيح مذهب الشافعي «2».

وحكي شاه ولي اللَّه طرفاً منها في رسالته (الإنصاف) قال:

«مثاله ما بلغنا أنّه دخل- أي الشافعي- علي محمّد بن الحسن وهو يطعن علي أهل المدينة في قضائهم بالشاهد الواحد مع اليمين ويقول: هذا زيادة علي كتاب اللَّه.

فقال الشافعي: أثبت عندك إنّه لا تجوز الزيادة علي كتاب اللَّه بخبر الواحد؟

قال: نعم.

قال: فلم قلت إنّ الوصيّة للوارث لا تجوز لقوله صلّي اللَّه

عليه وسلّم:

ألا لا وصيّة لوارث وقد قال اللَّه تعالي: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت» الآية.

__________________________________________________

(1) معجم الادباء 5: 195.

(2) مناقب الإمام الشافعي: 88- 91.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 220

وأورد عليه أشياء من هذا القبيل فانقطع كلام محمّد بن الحسن» «1».

وفي كتاب (معدن اليواقيت الملتمعة في مناقب الأئمة الأربعة):

«قال الشافعي: لمّا حبست في دار العامة، ضاق قلبي في الحبس، وكنت لا أري أحداً أستأنس به إلّامحمّد بن الحسن، وكنت أميل إليه لفقهه، وآمل أن يشفع لي عند السلطان، فحضر يوماً وأقبل يذمّ المدينة ويضع من أهلها ويعظّم أصحابه ويرفع من أقدارهم، وذكر أنّه وضع علي أهل المدينة كتاباً، وزعم أنّه لو وجد أحداً في الدنيا ينقض منه حرفاً أو يردّ عليه منه شيئاً- تبلّغني إليه الإبل- لسرت إليه وناظرته.

قال الشافعي: فرأيت وجوه أولاد المهاجرين والأنصار إنّها تسوّد لما سمعوا من ذمّ المدينة وأهلها، ورأيت أصحاب محمّد بن الحسن وإنّ وجوههم لتشرق ببياض ممّا سمعوا من مدح أصحابهم. قال: فبقيت بين أمرين: بين أن اجيب عن كلامه وابيّض وجوه أولاد المهاجرين والأنصار ويزداد به علَيّ غضب السلطان، وبين أن أسكت عن ذلك رجاء أن يكون محمّد بن الحسن شفيعاً لي عند السلطان، فاخترت رضا اللَّه عزّ وجلّ في ذلك الموضع، فجثوت بين يديه ثمّ قلت:

يا أباعبداللَّه! أراك أصبحت تهجو المدينة وتذمّ أهلها، فإن كنت أردتها، فإنّها حرم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ودار هجرته، وبها نزل الوحي، ومنها خلق النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم وبه طابت، وبها روضة من رياض الجنّة، وقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: المدينة لا يدخلها الدجّال والطاعون، والمدينة علي كلّ ثقب من أثقابها ملك شاهر سيفه. ولئن كنت أردت

أهلها،

__________________________________________________

(1) الانصاف في بيان اسباب الاختلاف: 41- 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 221

فهم أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وأصهاره وأنصاره الذين مَهَّدوا الإيمان وحفظوا الوحي وجمعوا السنن. وإن كنت أردت من بعدهم فهم أبناؤهم والتابعون بعدهم، وهم الأخيار من هذه الامّة. ولئن كنت أردت من القوم رجلًا واحداً وهو مالك بن أنس فما عليك لو سمّيت من أردت، ولم تذكر المدينة كما ذكرت.

فقال: ما أردت إلّامالك بن أنس.

قال: فقلت: قد نظرت في كتابك هذا، فإذا- بعد بسم اللَّه الرحمن الرحيم- خطأ كلّه.

قال: فما ذاك؟

قلت له: قلتَ فيه: قال أهل المدينة. ولست تخلو في قولك قال أهل المدينة: من أن يكون أردت جميع علماء أهل المدينة، أو تكون أردت بقولك قال أهل المدينة مالك بن أنس وأردت انفراده؛ فإن كنت أردت بقولك قال أهل المدينة جميع أهل المدينة فقد أخطأت، لأنّ علماء أهل المدينة لم يقفوا علي ما حكيت عنهم، وإن كنت أردت به مالك بن أنس علي انفراده وجعلته أهل المدينة، فقد أخطأت، لأنّ بالمدينة من علمائها من يري استتابة مالك فيما خالفه فيه، فأيّ الأمرين قصدت له فقد أخطأت.

قال: قصدت ذمّ القائلين بالشاهد مع اليمين، لأنّهم قالوا بخلاف كتاب اللَّه عزّ وجلّ.

قال: فقلت له: وأين خالف الكتاب؟

فقال: قال اللَّه تعالي: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم» وقال سبحانه: «ذوي عدل منكم» فقالوا: شاهداً واحداً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 222

فقال: فقلت له: أخبرني عن قوله عزّ وجلّ: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم» أحتم، ولا يجوز أقلّ من شاهدين أم ذلك ليس بحَتْم؟

قال: بل هو حتم، ولا يجوز أقلّ من شاهدين.

فقلت: إن كان ما قلت كما قلت، فقد خالفت أنت وصاحبك الكتاب.

قال: وأين

خالفنا الكتاب؟

فقلت له: ما تقول في شهادة القابلة وحدها علي انفرادها علي الولادة؟

فقال: شهادتها وحدها جائزة.

فقلت له: قد أجزت شهادة امرأة واحدة لا شاهد معها، قد خالفت الكتاب.

وقلت في رجلين تداعيا جداراً ولا بيّنة لهما: إنّ الجدار من يليه أنصاف اللبن ومعاقد القمط.

وقلت في متاع البيت يدّعيه الزوجان: ما كان يصلح للرجال فهو للرجل، وما كان يصلح للنساء فهو للمرأة.

وقلت في الزقوق إذا ادّعاها صاحب الحانوت وساكنه: إن كانت منفصلة غير مستمرّة فهي للساكن، وإن كانت متّصلة مستمرّة فهي لربّ الحانوت.

فقضيت للمدّعي في هذه الصور بغير بيّنة ولا يمين، ثمّ أنكرت علينا الشاهد واليمين وهو سنّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وقول عليّ بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه، وقول الحكّام عندنا بالحجاز، وأنت تقول هذا برأيك وتردّ علينا السنّة.

قال: وذكرت أشياء ممّا خالفنا وترك السنن وقلت له: خالفت أنت في كتابك هذا في سبعين موضعاً كتاب اللَّه تعالي علي قولك، ثمّ حكيتها له قولًا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 223

قولًا، منها كذا ومنها كذا.

قال: فتغيّر وجه محمّد بن الحسن وانقطع، فتبيّن لأهل المجلس ذلك وأسرّ به أكثر من حضرنا من أهل الحجاز، وابيضّت وجوه أولاد المهاجرين والأنصار بما سمعوا في دار الهجرة من نصرة الحقّ، وكان علي الدار يومئذ هرثمة، فكتب الخبر وبعث به إلي هارون.

قال الشافعي: وتوقّعت البلاء، فلمّا قري ء الخبر علي هارون الرشيد قال:

وما ينكر لرجل من بني عبد مناف أن يقطع محمّد بن الحسن.

قال: فبعث إليّ هارون الرشيد بألف دينار، وبعث إليّ المأمون بخمسمائة دينار وقال: أحبّ أن تجعل انقطاعك إليّ.

قال: فجاءني هرثمة وأخبرني برضا أميرالمؤمنين، وأقرأ علَيّ منه السلام ووضع المال الذي أمر به هارون بين يديّ ثمّ

قال: لولا أنّ الخليفة لا يساوي لأمرت لك بمثلها وقد أمرت لك بأربعمائة دينار.

قال الشافعي: جزاك اللَّه عنّا خيراً، لولا أنّي لا أقبل جائزة إلّالمن هو فوقي لقبلت جائزتك.

فردّ الشافعي جائزة هرثمة وقبل جائزةهارون الرشيد، ثمّ جعل يصرّه صرّة فيقسمه في أهل مكّة والقرشيّين الذين بالحضرة، فما انصرف إلي منزله إلّا بأقلّ من مائة».

وقال الرازي في تلك الرسالة:

«المسألة السادسة: قال الشافعي: قلت لمحمّد بن الحسن: زعمتم أنّه لا يجوز أن يدعو الرجل في صلاته إلّابما في القرآن إمّا مجملًا وإما مفصّلًا، ثمّ رأينا أنّ طلب جميع الخيرات في الدنيا والآخرة والإستعاذة من جميع شرور

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 224

الدنيا والآخرة مذكورة في القرآن، فما معني قولكم لا يدعو الرجل إلّابما في القرآن؟ ألا تري إنّ إبراهيم عليه السلام قال: «واجنبني وبَنيّ أن نعبد الأصنام» وقال: «وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم باللَّه واليوم الآخر» فطلب خيرات الدنيا والآخرة، وقال موسي عليه السلام: «ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالًا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس علي اموالهم واشدد علي قلوبهم» وقال زكريّا عليه السّلام: «فهب لي من لدنك وليّاً» وقال سليمان عليه السّلام: «هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي» وقال نوح عليه السّلام لقومه: «استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً» وقال تعالي: «زيّن للنّاس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث» وقال تعالي

«وهو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع» الآية.

فقال الشافعي: لو أنّ الرجل قال: اللهمّ هب لي خيلًا أركبها وفاكهة آكلها وامرأة أتزوّج بها،

فكلّ ذلك مذكور في القرآن، فما معني قولكم لا يجوز أن يدعو إلّابما في القرآن؟

قال: فسكت محمّد ولم يذكر جواباً.

قلت: والذي يؤكّد هذا الكلام، أنّهم جوّزوا قراءة الفاتحة بالفارسيّة وقالوا: المقصود هو المعني وذلك لا يختلف فكذا ههناك، المقصود من الدعاء طلب هذه الأشياء ولا يتفاوت ذلك بأن يذكر بالعربية أو بالفارسية وكذا ههنا المقصود من ههنا طلب هذه الأشياء، طلب أعيانها ومنافعها، وإذا كانت بأسرها مذكورة في قوله تعالي «ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 225

وقنا عذاب النار» فالقول بأنّ طلب هذه الأشياء لا يجوز مع القول بجواز قراءة الفاتحة بالمعني كالمتناقض.

ثمّ قال الشافعي: وقد دعا النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم لقوم وسمّاهم بأسمائهم ونسبهم إلي قبائلهم، وهذا كله يدلّ علي أنّ المحرّم من الكلام إنّما هو كلام الناس بعضهم بعضاً في حوائجهم، فأمّا إذا دعا ربّه وسأله حاجته فهذا لا أعلم أحداً من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم اختلف فيه، وقد صحّ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنه قال: وأمّا السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فإنّه قمن أن يستجاب لكم. ولم يخصّ رسول اللَّه دعاءً دون دعاء» «1».

وفيها أيضاً:

«المسألة الخامسة: روي الربيع أنّه جرت مناظرة بين الشافعي وبين محمّد بن الحسن في باب الماء، فقال: زعمت أنّ فارةً إن وقعت في بئر فماتت، نزح منها عشرون دلواً ويطهر البئر، أرأيت شيئاً قط ينجس كلّه فيخرج بعضه فتذهب النجاسة عن الباقي؟

فقال: إنّما أخذنا بهذا المذهب لورود الأثر فيه. قلنا: ههنا تركتم هذا القياس اليقيني بسبب هذا الأثر، ثم تركتم النصّ الصريح في مسألة المصراة بسبب قياس ضعيفٍ! وذلك عجيبٌ جدّاً حيث

يترك القياس اليقيني بسبب أثر ضعيف اتفق المحدّثون علي ضعفه، ويترك النص الصريح الذي أجمع المحدثون علي صحّته بسبب قياس ضعيف.

ثمّ قال الشافعي لمحمّد بن الحسن: وزعمت أنّك إذا أدخلت يدك في __________________________________________________

(1) مناقب الإمام الشافعي: 276- 278.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 226

بئر لتتوضّأ بها إنّ ماء البئر ينجس كلّه ولا يطهر البئر حتّي ينزح الماء بالكليّة، وإنْ سقطت فيه نجاسة ميتة، طهر بعشرين دلواً أو ثلاثين دلواً، فهل يعقل أنْ يقال إنّ البئر ينجس بدخول اليد التي لا نجاسة عليها أكثر ممّا ينجس بسبب وقوع النجاسة فيه؟

قلت: والإلزام أظهر فيما إذا فرضنا أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان محدثاً، فأدخل يده المباركة في البئر أنه ينجس ماء البئر عندهم بالكليّة، ولا يطهر إلّابأن ينزح الماء بالكليّة، وتمام التقرير معلوم» «1».

وفيها أيضاً:

«المسألة الثانيه عشرة: روي أنّ محمّد بن الحسن قال للشافعي يوماً:

بلغني أنّك تخالفنا في مسائل الغصب.

قال الشافعي: فقلت له: أصلحك اللَّه، إنّما هو شي ء أتكلّم به في المناظرة.

قال: فناظرني.

قلت: إنّي اجلّك عن المناظرة.

فقال: لابدّ منه.

ثمّ قال: ما تقول في رجل غصب ساجةً، وبني عليها جداراً وأنفق عليه ألف دينار، فجاء صاحب الساجة وأقام شاهدين علي أنّها ملكه؟

فقال الشافعي: قلت: أقول لصاحب الساجة ترضي أن نأخذ قيمتها؟ فإن رضي وإلّا قلعت البناء ودفعت ساجته إليه.

قال محمّد بن الحسن: فما تقول في رجل غصب لوحاً من خشب __________________________________________________

(1) مناقب الإمام الشافعي: 275- 276.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 227

فأدخله في سفينة، ووصلت السفينة إلي لجّة البحر، فأتي صاحب اللّوح بشاهدين عدلين أنها ملكه، أكنت تنزع اللّوح من السفينة؟

قلت: لا.

قال: اللَّه أكبر، تركت قولك.

ثمّ قال: ما تقول في رجل غصب خيطاً من

إبريسم، فمُزّق بطنه وخاط بذلك الأبريسم تلك الجراحة، فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أنّ هذا الخيط مغصوب منه، أكنت تنزع الخيط من بطنه؟

قلت: لا.

قال: اللَّه أكبر تركت قولك. وقال أصحابه: تركت قولك.

قال الشافعي: فقلت: لا تعجلوا، أرأيت لو كان اللّوح لوح نفسه، ثمّ أراد أن ينزع ذلك اللّوح من السفينة حال كونها في لجّة البحر، أيباح له ذلك أم محرم؟

قال: بل يحرم.

قلت: أفرأيت لو كان الخيط خيط نفسه، وأراد أن ينزعه من بطنه ويقتل نفسه، أمباح له ذلك أم محرّم؟

قال: بل محرّم.

قلت: أرأيت لو جاء مالك الساجة وأراد أن يهدم البناء وينزعها، أمحرّم له ذلك أم مباح؟

قال: بل مباح.

قال الشافعي: يرحمك اللَّه، فكيف تقيس مباحاً علي محرّم؟!

فقال محمّد: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 228

فقلت له: آمره أن يسيرها إلي أقرب السواحل، ثمّ أقول له: إنزع اللّوح وادفعه إليه.

فقال محمّد بن الحسن: قد قال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

قال الشافعي: ومن ضرّه؟ هو الذي ضرّ نفسه.

ثمّ قال الشافعي: ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة، ثمّ أولدها عشرة كلّهم قضاة سادات أشراف خطباء، فأتي صاحب الجارية بشاهدين عدلين علي أنّ هذه الجارية التي هي امّ هؤلاء الأولاد كانت مملوكة له، ماذا تعمل؟

فقال محمّد بن الحسن: أحكم بأنّ أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل.

فقال الشافعي: فقلت: أنشدك اللَّه، أيّ هذين أعظم ضرراً، أن تقلع الساجة وتردّها إلي مالكها، أو تحكم بردّ الجارية إلي مولاها وتحكم برقّ هؤلاء الأولاد؟

فانقطع محمّد بن الحسن» «1».

وفيها أيضاً:

«المسألة الثالثه عشرة: قال محمّد بن الحسن للشافعي في مسألة العارية:

أنتم لا تعرفون معني حديث صفوان، وذلك، لأنّ

العارية هناك إنّما صارت مضمونة، لأنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: عارية مضمونة.

قال الشافعي: فقلت: من استعار الساعة عارية وبشرط أن يضمنها، هل يضمن؟

قال محمّد: لا.

__________________________________________________

(1) مناقب الإمام الشافعي: 284- 286.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 229

قال الشافعي: فقلت: إنّما أنت تسخر من هؤلاء الذين عندك. وفي رواية أخري ما تقول في الشي ء الذي لا يكون مضموناً لو ضمنه هل يصير مضموناً عليه. قال محمد: لا. قال الشافعي: فقلت له: إنما تخدع هؤلاء!. والحاصل أنّ ما لا يكون مضموناً في الأصل لا يصير مضموناً بشرط الضمان، كالوديعة وغيرها من الأمانات» «1».

وفيها أيضاً:

«وحكي الشافعي عن أبي يوسف أنّه قال لأرمينّ الليلة أهل المدينة بقاصمة الظهر في اليمين والشاهد، فقال رجل: وماذا تقول؟

قال أبويوسف: أتمسّك بقوله تعالي: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم».

فقال الرجل: لو سألوك عن الشاهدين اللذين أمر اللَّه تعالي بقبول شهادتهما؟

فقال أبو يوسف: هما عدلان مسلمان.

قال الشافعي: فقلت: لو قالوا لكم فأجزت شهادة أهل الذمّة في الحقوق وقد قال اللَّه تعالي: «من رجالكم» وقال: «ممّن ترضون من الشهداء»؟

قال: فتفكّر ساعة ثمّ قال: هم في الحماقة أشدّ من أن يهتدوا إلي ذلك.

فقلت: أنت إنّما تحتجّ علي ضعفاء الناس» «2».

أقول:

فهذه موارد من ردود الشافعي علي فتاوي أبي حنيفة، ونماذج من __________________________________________________

(1) مناقب الإمام الشافعي: 286- 287.

(2) مناقب الإمام الشافعي: 293.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 230

مناظراته مع تلامذته … ومن أراد التوسّع في هذا الباب فليرجع إلي (كتاب الردّ علي محمّد بن الحسن) من مصنفات الشافعي، كما ذكروه له بتراجمه كما في (معجم الادباء) وغيره.

الغزالي وأبو حنيفة … ص: 230

ومن الأعلام الذين ردّوا وشنّعوا علي أبي حنيفة في فقهه وفتاواه هو:

أبو حامد الغزالي، الذي يكفي في الوقوف علي مقامه

ومعرفة شأنه ومنزلته عند القوم: مباهاة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم به، فيما رواه الدميري في (حياة الحيوان) بالسند الصحيح عن الشيخ الإمام العارف باللَّه أبي الحسن الشاذلي إنّه قال: «رأيت النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في المنام وقد باهي موسي وعيسي: في امّتكما حبر هكذا- وأشار إلي الغزالي-.

وقال الشيخ الإمام العارف باللَّه الاستاد ركن الشريعة والحقيقة أبوالعبّاس المرسي- وقد ذكر الغزالي فشهد له بالصدّيقيّة العظمي-: وحسبك من باهي النبي به موسي وعيسي، وشهد له الصدّيقون بالصدّيقيّة العظمي» «1».

فمن ذلك قوله في (المنخول) في كتاب الفتوي:

«الفصل الرابع: في التنصيص علي مشاهير المجتهدين من الصحابة والتابعين وغيرهم، ولا خفاء بأمر الخلفاء الراشدين، إذ لا يصلح للإمامة إلّا مفت، وكذا كلّ من أفتي في زمنهم، كالعبادلة وزيد بن ثابت، ومعاوية قلّده الشافعي في مسألة، وأصحاب الشوري قيل إنّهم كانوا مفتين؛ لأنّ عمر جعل الأمر فيما بينهم، فدلّ علي صلاح كلّ واحد له.

__________________________________________________

(1) حياة الحيوان للدميري 1: 370.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 231

قال القاضي: وهذا فيه نظر، إذ ما من واحد إلّاوشبّب عمر فيه بشي ء لمّا أن عرض عليه؛ فقال في طلحة: صاحب ختر وانْهٍ واستكبارٍ، وفي الزبير:

إنّه صاحب المدّ والصاع، وفي سعدٍ: إنّه صاحب مقنب، وفي عليّ: إنّ فيه دعابة، وفي عثمان: إنّه كلف بأقاربه، فلا يتلقّي حكم اجتهادهم من هذا المأخذ.

وأبوهريرة لم يكن مفتياً فيما قاله القاضي، وكان من الرواة.

والضابط عندنا فيه أنّ كلّ من علمنا قطعاً أنّه يتصدّي للفتوي في أعصارهم ولم يمنع عنه، فهو من المجتهدين، ولمن لم يتصدّ له قطعاً فلا، ومن تردّدنا في ذلك في حقّه تردّدنا في صفته، وقد انقسمت الصحابة إلي متنسّكين لا يعتنون بالعلم وإلي معتنين

به، وأصحاب العمل منهم لم يكن لهم مرتبة الفتوي، والذين يعلمون وأفتوا فهم المفتون، ولا مطمع في عدّ آحادهم بعد ذكر الضابط، وهو الضابط أيضاً في التابعين، وللشافعي في الحسن البصري كلام.

وأمّا مالك، فكان من المجتهدين، نعم له زلل في الإسترسال علي المصالح، وتقديم عمل علماء المدينة، وله وجه كما ذكرناه من قبل.

وأمّا أبو حنيفة، فلم يكن مجتهداً، لأنّه كان لا يعرف اللغة، وعليه يدلّ قوله: لو رماه بأبوقبيس، وكان لا يعرف الأحاديث؛ ولهذا عزي بقبول الأحاديث الضعيفة وردّ الصحيح منها، ولم يكن فقيه النفس بل كان يتكايس لا في محلّه علي مناقضة مآخذ الاصول» «1».

وذكر في (المنخول) في كتاب الترجيح:

__________________________________________________

(1) المنخول في علم الاصول: 469- 471.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 232

«الباب الثاني: في ترجيح بعض الأقيسة المتعارضة علي البعض، وممّا لابدّ من تقديمه علي الخوض في ترجيح المقاييس، فصل ذكره القاضي في ترتيب النظر في قواعدالأقيسة، فقال: النظر فيها ينقسم إلي ما لا يتفاوت في نفسه وإلي المتفاوت في نفسه وإلي المتفاوت؛ وعني بالمتفاوت ما يتفاوت فيه نظر النظّار ويتعارض فيه الخواطر. قال: والنظر الذي لا يتفاوت ينقسم إلي ما يقع في مرتبة البديهي، كعلمنا أنّ المخنق والقتال بالمثقل عامد للقتل، ومن أضمر خلافه يُسَفَّهُ في عقله، وإلي ما يقع في مرتبة النظري، كعلمنا بوجوب القصاص عليه، فإنّ من علم مقصود الشارع من القصاص في الحقن والعصمة استبان بأدني نظر علي القطع إيجاب القصاص، ولا ينبغي أن يتماري فيه، وكذلك علمنا بأنّ العقوبات الرادعة عن الفواحش شُرِعت زجراً عنها، وإذا تجمّعت أسبابها من ارتكاب الفاحشة مع تمحّض التحريم ومسيس الحاجة إلي الزجر فلابدّ منه، كعلمنا بأنّ العدول إذا شهدوا علي الزنا فلا يسقط

الحدّ بقول المشهود عليه: صدقوا، كما قاله أبو حنيفة، وكعلمنا بأنّ الحدّ لا يتعلّق إلّا بفاحشة، ولكن الشرع تولّي بيانه فإنّا لا ندركه بأفهامنا، وقد خصّصها بتغييب الحشفة واستثني مقدّماته من معانقة وتقبيل ومماسّة منها، وعلمنا بأنّ أقلّ مراتب موجب العقوبة أن يتمحّض تحريمه، فالوطي ء بالشبهة لا يوجب الحدّ، وإشارته إلي الذي صادف امرأة علي فراشه ظنّها حليلته القديمة.

قال: فهذه جهة لا يتفاوت فيها نظر العقلاء، ولا اكتراث بمخالفة أبي حنيفة، فإنّي أقطع بخطائه في تسعة أعشار مذاهبه التي خالف فيها خصومه، فإنّه أتي فيها بالزلل في قواعد اصوليّة يترقّي القول فيها عن مظانّ الظنون، كتقديمه القياس علي الخبر ورجوعه إلي الإستحسان الذي لا مستند له،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 233

وزعمه أنّ الزيادة علي النصّ نسخ في مسائل ذكرناه، وتمسكه بمسائل شاذّه في خرم القواعد، فليس الكلام معه فيها مظنّة النظر في المظنونات، والعشر الباقي يستوي فيه قدمه وقدم خصومه ولعلّهم يرجّحون عليه» «1».

وفي (المنخول) أيضاً:

«قال الشافعي: من استحسن فقد شرّع، ولابدّ أوّلًا من بيان حقيقة الإستحسان، وقد قال قائلون من أصحاب أبي حنيفة: الإستحسان مذهب لا دليل عليه.

وهذا كفر من قائله وممّن يجوّز التمسّك به بلا حاجة فيه إلي دليل» «2».

وفيه:

«قال أبو حنيفة: لا يجري القياس في الحدود و … والمقدّرات والرخص، ثمّ أفحش القياس في درء الحدود في السرقة والقصاص حتّي أبطل قاعدة الشرع، وفي إثباتها حتّي أوجب الحدّ في شهود الزوايا، وأوجب قطع السرقة بشهادة شاهدين يشهد أحدهما علي أنّه سرق بقرة بيضاء ويشهد الآخر علي بقرة سوداء، لاحتمال أنّ البقرة كانت ملمّعة، وقاس غير الجماع علي الجماع في الصوم في إيجاب الكفّارة، والخطاء في قتل الصيد علي العمد في

إيجاب الجزاء مع اختصاص النصّ بالعمد، وقدّر نزح ماء البئر عند نجاسته بثلاثين دلواً قياساً، ولا ينفعهم قولهم إنّا قلّدنا الأوزاعي، فإنّهم أبوا عن تقليد الصحابة في مسائل فكيف قلّدوه؟ وقدّروا العفو عن النجاسة بربع الثوب والمسح علي الرأس بربعه، وقاسوا في الرخص سائر النجاسات علي __________________________________________________

(1) المنخول من علم الاصول: 438- 439.

(2) المنخول: 374- 375.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 234

مقدار ما عفي عنه علي محلّ النَّجْو رخصة، فقد خبطوا هذه الاصول» «1».

وجاء في آخر كتاب (المنخول):

«إنّ أباحنيفة نزق حمام ذهنه في تصوير المسائل وتقرير المذاهب، فكثر خبطه لذلك، ولهذا استنكف أبو يوسف ومحمّد عن اتّباعه في ثلثي مذهبه، لما رأيا فيه من كثرة الخبط والخلط والتورّط في المتناقضات، وصرف الشافعي ذهنه إلي انتخاب المذاهب وتقديم الأظهر فالأظهر، وأقدم عليه بقريحة وقّادة وفطنة منقادة وعقل ثاقب ورأي صائب، بعد الإستظهار بعلم الاصول والإستمداد من جملة أركان النظر في المعقول والمنقول، فيستبان علي القطع أنّه أبعد عن الزلل والخطأ ممّن اشتغل بالتمهيد، وتشوّش الأمر عليه في روم التأسيس والتقعيد.

وعلي الجملة، إذا قدم مذهب أبي حنيفة علي مذهب أبي بكر لتأخّره وشدّة اعتنائه بالنخل، فاعتبار التأخّر في نسبة الشافعي إلي أبي حنيفة ومن قبله أبين وأوضح» «2».

ثمّ قال:

«المسلك الثالث أن نستقري مذاهب الأئمة، ليتبيّن تقديم الشافعي علي القطع:

فأمّا مالك، فقد استرسل علي المصالح إسترسالًا جرّه ذلك إلي قتل ثلث الامّة لاستصلاح ثلثيها، وإلي القتل في التعزير والضرب بمجرّد التّهم، إلي غيره ممّا أومأنا إليه في أثناء الكتاب …

__________________________________________________

(1) المنخول: 385- 386.

(2) المنخول: 496.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 235

وأمّا أبو حنيفة، فقد قلّب الشريعة ظهراً لبطن وشوّش مسلكها وغيّر نظامها» «1».

إلي أن قال:

«ولا يخفي

فساد مذهبه في تفاصيل الصلاة، والقول في تفاصيلها يطول، وثمرة خبطه بيّن فيما عاد إليه أقلّ الصلاة عنده، وإذا عرض أقلّ صلاته علي كلّ عامي جلف كاعٍّ امتنع عن اتّباعه، فإنّ من انغمس في مستنقع نبيذ، وخرج في جلد كلب مدبوغ، ولم ينو، وأحرم للصلاة مبدّلًا صيغة التكبير بترجمته تركيّاً كان أو هنديّاً، ويقتصر في قراءة القرآن علي ترجمة قوله «مدهامّتان» ثمّ يترك الركوع وينقر نقرتين لا قعود بينهما، ولا يقرأ التشهّد، ثمّ يحدث عمداً في آخر صلاته بدلًا عن التسليم، ولو انفلت منه أو سبقت له حدث يعيد الوضوء في أثناء صلاته، ويحدث بعده عمداً فإنّه لم يكن قاصداً في حدثه الأوّل، تحلّل عن صلاته علي الصحّة.

والذي ينبغي أن يقطع به كلّ ذي دين: أنّ مثل هذه الصلاة لا يبعث اللَّه بها نبيّاً، وما بعث محمّد بن عبداللَّه صلوات اللَّه عليه بدعاء الناس إليه، وهي قطب الإسلام وعماد الدين، وقد زعم أنّ هذا القدر أقلّ الواجب فهي الصلاة التي بعث بها النبيّ وما عداها آداب وسنن.

وأمّا الصوم، فقد استأصل ركنه وردّه إلي نصفه، حيث لم يشترط تقديم النيّة.

وأمّا الزكاة، فقد قضي أنّها علي التراخي، فيجوز تأخيرها وإن كانت الحاجة ماسّة، وأعين المساكين إليها ممتدّة، ثمّ زعم أنّها تسقط بموته قبل __________________________________________________

(1) المنخول: 499- 500.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 236

أدائها، وكان قد جاز له التأخير، وهل هذا إلّاإبطال غرض الشارع من مراعاة حقّ المساكين.

ثمّ عكس هذا في الحجّ الذي لا ترتبط به حاجة مسلم، وزعم أنّه علي الفور.

فهذا صنيعه في العبادات.

وأمّا العقوبات، فقد أبطل مقاصدها وخرم أصولها وقواعدها، فإنّ ممّا رام الشرع عصمة الدماء والفروج والأموال، وقد هدم قاعدة القصاص بالقتل بالمثقل، فمهّد

التخنيق والتغريق والقتل بأنواع المثقلات ذريعة إلي درء القصاص، ثمّ زاد عليه حتّي ناكر الحسّ والبديهة وقال: لم يقصد قتله وهو شبه عمد.

وليت شعري كيف يجد العاقل من نفسه أن يعتقد مثل ذلك تقليداً، لولا فرط الغباوة وشدّة الخذلان؟!

وأمّا الفروج، فإنّه مهّد ذرائع أسقط الحدّ بها، مثل الإجارة ونكاح الامّهات، وزعم أنّها دارئة للحدّ، ومن يبغ البغاء بمؤمنة كيف يعجز عن استيجارها، ومن عذيرنا من ذلك؟

ثمّ دقّق نظره منعكساً في إيجاب الحدّ في مسألة شهود الزوايا، زاعماً إنّي تفطّنت لدقيقة وهي انزحافهم في زنية واحدة علي الزوايا، ثمّ قال: لو شهد عليه أربعة عدول بالزنا فأقرّ مرّة واحدة سقط الحدّ عنه، ثمّ أوجب الحدّ في الوطي بالشبهة إذا صادف أجنبيّة علي فراشه فظنّ أنّها حليلته القديمة، وأقلّ موجبات العقوبات ما تمحّض تحريمه، والذاهل المخطي لا يوصف فعله بالتحريم.

وأمّا الأموال، فإنّه زعم أنّ الغصب فيها مع أدني تغيير مزيل ملك المالك عنها، كطحن الحنطة وشيّ الشاة» «1».

__________________________________________________

(1) المنخول: 500- 502.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 237

إلي أن قال:

«ثمّ أردف جميع قواعد الشريعة بأصل هدم به شرع محمّد صلّي اللَّه عليه قطعاً حيث قال: شهود الزور إذا شهدوا كاذبين علي نكاح زوجة الغير وقضي به القاضي بخطأ، حلّت الزوجة للمشهود له وإن كان عالماً بالتزوير، وحرمت علي الأوّل بينه وبين اللَّه تعالي» «1».

قال:

«ولولا شدّة الغباوة وقلّة الدراية وتدرّب القلوب علي اتّباع التقليد والمألوف، لما اتّبع مثل هذا المتصرّف في الشرع من سلم حسّه فضلًا عمّن يشتدّ نظره، ولهذا اشتدّ المطعن والملعن من سلف الأئمة فيه، إلي أن اتّهموه برومه خرم الشرع، وهو الذي قطع به القاضي أبوبكر في قوله في مسألة المثقل قال: من زعم أنّ

القاتل لم يتعمّد القتل به إن لم يعلم نقيضه فليس من العقلاء وإن علمه فقد رام خرم الدين» «2».

أقول:

هكذا يتكلّم الغزالي في أبي حنيفة، ثمّ بالتالي يلعنه بصراحةٍ، وإذا علمنا أنّ الغزالي يمنع من لعن المسلم، بل لا يجوّز لعن يزيد بن معاوية، عرفنا حال أبي حنيفة عنده! وهذه عباراته علي ما في (تاريخ ابن خلّكان) وغيره من كتب أكابرهم الأعيان:

«لا يجوز لعن المسلم أصلًا، ومن لعن مسلماً فهو الملعون، وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: المسلم ليس بلعّان، وكيف يجوز لعن المسلم __________________________________________________

(1) المنخول: 503.

(2) المنخول: 503- 504.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 238

ولا يجوز لعن البهائم وقد ورد النهي عن ذلك؟ وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنصّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، ويزيد صحّ إسلامه وما صحّ قتله الحسين رضي اللَّه عنه ولا أمره ولا رضاه بذلك، ومهما لم يصحّ ذلك منه لا يجوز أن يظنّ ذلك به، فإنّ إساءة الظنّ أيضاً بالمسلم حرام وقد قال اللَّه تعالي: «إجتنبوا كثيراً من الظنِّ إنّ بعض الظنّ إثمٌ» وقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه تعالي حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء، ومن زعم أنّ يزيد أمر بقتل الحسين أو رضي به فينبغي أن يعلم به غاية حماقته، فإنّ من قُتِلَ من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله ومن الذي رضي به ومن الذي كرهه، لم يقدر علي ذلك وإن كان قد قتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف لو كان في بلد بعيد وفي زمن بعيد وقد انقضي عليه قريب من أربع مائة سنة في مكان بعيد،

وقد تطرّق التقصير في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب؟، فهذا أمر لا يعرف حقيقته أصلًا، وإذا لم يعرف وجب إحسان الظنّ بكلّ مسلم، ومع هذا، فلو ثبت علي مسلم أنّه قتل مسلماً فمذهب أهل الحقّ أنّه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر، بل هو معصية، وربّما مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره لم يجز لعنته فكيف من تاب عن قتل، وبم يعرف أنّ قاتل الحسين رضي اللَّه عنه مات قبل التوبة «وهو الذي يقبل التوبة عن عباده».

فإذاً لا يجوز لعن أحد ممّن مات من المسلمين، ومَنْ لعنه كان فاسقاً عاصياً للَّه تعالي، ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة لم لم تلعن إبليس ويقال للّاعن:

لمن لعنت؟ ومن أين عرفت أنّه مطرود ملعون؟ والملعون هو المبعد من اللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 239

تعالي، وذلك غيب لا يعرف إلّافي مَنْ مات كافراً، فإنّ ذلك علم بالشرع، وأمّا الترحّم عليه فهو جائز، بل مستحب، بل هو داخل في قولنا في كلّ صلاة:

اللّهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات فإنّه كان مؤمناً. واللَّه أعلم» «1».

كتاب المنخول للغزالي … ص: 239

ثم إنّ بعضهم لمّا رأي هذا الطعن والذمّ الشديد من إمامهم الغزالي في أبي حنيفة في كتاب المنخول، ولم يتمكن من تكذيب الغزالي، إضطرّ إلي نفي نسبة الكتاب المذكور إليه، فقال بأنّه ليس من تصانيف الغزالي صاحب إحياء العلوم، بل هو تأليف محمود الغزالي المعتزلي.

ولكنّ هذه المحاولة أيضاً للدفاع والحماية عن أبي حنيفة لا تجدي نفعاً، فالكتاب للغزالي قطعاً … وقد ذكره له كبار العلماء والمؤرخين المشاهير، كابن خلّكان، واليافعي، بترجمة الغزالي في عداد مصنّفاته «2».

كما اعترف الملّا علي القاري بذلك

في كتابه المؤلَّف ردّاً علي إمام الحرمين فقال:

«ثمّ رأيت الإمام الكردري صنّف تصنيفاً في الردّ علي الغزالي فيما نقل عنه أنّه ذكر في كتابه المنخول طعناً في أبي حنيفة وأصحابه الفحول، ولعلّه كان في أيّام جهالته وزمان حيرته ومبدأ ضلالته، قبل أن يدخل في طريق الأولياء وتصنيفه الإحياء، علي ما تدلّ عليه ترجمته للإمام الأعظم مع سائر العلماء».

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 3: 288- 289.

(2) وفيات الأعيان 4: 218، مرآة الجنان 3: 137.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 240

وقال الحافظ الزين العراقي في (شرح ألفيّة الحديث):

«اختلف في التعديل والجرح هل يقبلان أو أحدهما من غير ذكر أسبابهما أم لا يقبلان إلّامفسَّراً، علي أربعة أقوال؟» ثمّ قال:

«القول الثاني عكس القول الأوّل: إنّه يجب بيان سبب العدالة ولا يجب بيان سبب الجرح، لأنّ أسباب العدالة يكثر التصنّع فيها، فيبني المعدّلون علي الظاهر. حكاه صاحب المحصول وغيره، ونقله إمام الحرمين في البرهان والغزالي في المنخول تبعاً له عن القاضي أبي بكر» ثمّ قال بعد ذكر القول الثالث:

«والقول الرابع عكسه، إنّه لا يجب ذكر سبب واحدٍ منهما، إذا كان الجارح أو المعدّل عالماً بصيراً، وهو اختيار القاضي أبي بكر ونقله عن الجمهور فقال: قال الجمهور من أهل العلم: إذا جرح من لا يعرف الجرح، يجب الكشف عن ذلك، ولم يوجبوا ذلك علي أهل العلم بهذا الشأن. قال:

والذي يقوي عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالماً، كما لا يجب استفسار المعدّل عمّا به صار عنده المزكّي عدلًا. إلي آخر كلامه.

وممّن حكاه عن القاضي أبي بكر الغزالي في المستصفي خلاف ما حكاه عنه في المنخول».

وذكر ابن جماعة كتاب المنخول بترجمة الغزالي في عداد مصنّفاته «1»، وحكي بترجمة القاضي الحسين بن الحسن

السعدي المقدسي الأصل __________________________________________________

(1) طبقات الشافعية لابن جماعة- ترجمة الغزالي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 241

الدمياطي، عن الحافظ الدمياطي أنّه قرأ عليه المنخول للغزالي «1».

ونقل الحافظ السيوطي في رسالته في الإجتهاد- (جزيل المواهب)- كلاماً عن الغزالي في المنخول قائلًا: «قال الغزالي في المنخول: الإجتهاد ركن عظيم في الشريعة …».

هذا، وإنّ عدّةً من الأعلام يروون بالأسانيد كتاب (المنخول) للغزالي، فقد قال الشيخ تاج الدين الدهان المكّي الحنفي في كتاب (كفاية المتطلع لما ظهر وخفي من غالب مرويّات شيخنا العلّامة الحسن بن علي العجيمي) ما نصّه:

«كتاب المستصفي والمنخول، للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي الشافعي: أخبر بهما عن الشيخ صفي الدين أحمد بن محمّد القشاشي والشهاب أحمد بن محمّد الخفاجي، عن العلّامة شمس الدين محمّد بن أحمد الرملي، عن أبي الفضائل عبدالحق بن محمّد السنباطي، عن الشيخ الزاهد شرف الدين أبي الفتح محمّد بن الزين أبي بكر ابن الحسين المراغي قال: أخبرنا بهما جماعة أعلاهم الحافظ بهاء الدين عبداللَّه بن محمّد بن خليل العثماني المكي إذناً، عن الرضي إبراهيم بن محمّد الطبري المكي قال: أخبرنا أبوالحسن علي ابن المقيّر البغدادي إذناً قال: أخبرنا أبوالعبّاس أحمد بن طاهر الميهني قالا: أخبرنا بهما مؤلّفهما الإمام حجّة الإسلام أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي الطوسي. فذكرهما» «2».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية لابن جماعة- ترجمة القاضي حسين بن الحسن الدمياطي (2) كفاية المتطّلع- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 242

ثمّ إنّه ممّا يبطل دعوي كون (المنخول) لمحمود المعتزلي وجود الردود الكثيرة علي المعتزلة فيه:

فقد جاء في (المنخول):

«مسألة: لا يستدرك حسن الأفعال وقبحها بمسالك العقول، بل يتوقف دركها علي الشرع المنقول، إذ الحسن عندنا ما حسّنه الشرع

بالحثّ عليه، والقبيح ما قبّح بالزجر عنه والذمّ عليه، وقد خالف في ذلك المعتزلة والكراميّة والرافضة …» «1».

وفيه:

«مسألة: صيغة النفي إذا اتّصل بالجنس لم يقتض الإجمال كقوله: لا عمل إلّابالنيّة ولا صيام ولا صلاة، وزعمت المعتزلة أنّها مجملة من حيث أنّه يتردّد بين نفي العمل حسّاً وبين نفيه حكماً وهذه جهالة …» «2».

وفيه:

«الأمر قسم من أقسام الكلام، وأصل الكلام ممّا أنكره المعتزلة، فلابدّ من تقديمه، والكلام فيه في ثلاثة فصول: الفصل الأوّل في إثباته عليهم، فالكلام عندنا معني قائم بالنفس علي حقيقة وخاصيّة يتميّز بها عمّا عداها، وأمّا العبارات فإنّها تسمّي كلاماً مجازاً أو حقيقة؟ تردّد فيه شيخنا أبوالحسن وهو متلقّي من اللغة، وأنكرت المعتزلة جنس الكلام وزعمت أنّه فعل حركات مخصوصة وأصوات مقطوعة، وزعموا أنّ الباري سبحانه متكلّم بمعني أنّه فاعل للكلام، والدليل علي إثباته ثلاثة مسالك …» «3».

__________________________________________________

(1) المنخول: 8.

(2) المنخول: 77.

(3) المنخول: 98- 99.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 243

وفيه:

«مسألة: عند المعتزلة المأمور يخرج عن كونه مأموراً حالة الامتثال وحدوث الفعل المطلوب، لأنّ الأمر طلب والكائن لا يطلب، كما قالوا يخرج عن كونه مقدوراً، لأنّ القدرة لا تتعلّق بالموجود، وخالفهم أصحابنا في مسألتين وبنوا الأمر علي القدرة» «1».

وفيه:

«قال شيخنا أبوالحسن: المعدوم مأمور علي تقدير الوجود، إذ عنده ثبت الكلام القديم وثبت كون الباري آمراً أزلًا، وأبي المعتزلة وقالوا: الأمر طلب فكيف يتوجّه علي المعدوم …» «2».

وفيه:

«قالت المعتزلة: لا يخصّص عموم القرآن بأخبار الآحاد، فإنّ الخبر لا يقطع بأصله بخلاف القرآن. وقال الفقهاء: يخصّص به- إلي أن قال- والمختار أنّه يخصّص، لعلمنا أنّ الصحابة كانوا يقبلون حديثاً نصّاً ينقل لهم الصدّيق في تخصيص عموم القرآن …» «3».

وفيه:

«القول في أفعال رسول اللَّه صلّي

اللَّه عليه وسلّم، ولا يتوصّل إلي ذلك إلّا بذكر مقدّمة في عصمة الأنبياء عن المعاصي، وهي منقسمة إلي الصغائر والكبائر، وقد تقرّر بمسلك النقل كونهم معصومين عن الكبائر، وأمّا الصغائر،

__________________________________________________

(1) المنخول: 122- 123.

(2) المنخول: 124.

(3) المنخول: 174.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 244

ففيه تردّد العلماء، والغالب علي الظنّ وقوعه، وإليه يشير بعض الآثار والحكايات، هذا كلام في وقوعه، أمّا جوازه فقد أطبقت المعتزلة علي وجوب عصمته عليه السلام عقلًا عن الكبائر، تعويلًا علي أنّه يورث التنفير وهو مناقض لغرض النبوّة، وهذا يبطل بكون الحرب سجالًا بينه وبين الكفّار، وبه اعتصم بعض اليهود في تكذيبه.

والمختار ما ذكره القاضي وهو أنّه لا يجب عقلًا عصمتهم، إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظر، وليس مناقضاً لمدلول المعجزة، فإنّ مدلوله صدق اللّهجة فيما يخبر عن اللَّه تعالي، فلا جرم لا يجوز وقوع الكذب فيما يخبر به عن اللَّه تعالي؛ لا عمداً ولا سهواً، ومعني التنفير باطل، فإنّا نجوّز أن ينبّي ء اللَّه تعالي كافراً ويؤيّده بالمعجزة، والمعتزلة يأبون ذلك أيضاً» «1».

أقول:

وإذ وقفت علي كلمات الشّافعي وغيره في أبي حنيفة، فهلمّ لننظر إلي كلمات سائر الأئمة فيه، وقد أوردها الحافظ الخطيب البغدادي بترجمته من (تاريخ بغداد) «2».

أبو حنيفة في تاريخ الخطيب … ص: 244

وقد قال الخطيب بعد أن أورد عن جماعةٍ من الأئمة المدح لأبي حنيفة:

«والمحفوظ عند نقلة الحديث من الأئمة المتقدمين- وهؤلاء المذكورون منهم- في أبي حنيفة خلاف ذلك، وكلامهم فيه كثير، لُامور شنيعةٍ

__________________________________________________

(1) المنخول: 123- 124.

(2) ترجمة أبي حنيفة في تاريخ بغداد 13: 323- 454.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 245

حفظت عليه، متعلّق بعضها باصول الديانات وبعضها بالفروع، ونحن ذاكروها بمشية اللَّه عزوجل، ومعتذرون إلي من وقف عليها وكره سماعها، بأنّ

أبا حنيفة عندنا مع جلالة قدره اسوة غيره من العلماء الذين دوّنّا ذكرهم في هذا الكتاب، وأوردنا أخبارهم وحكينا أقوال الناس فيهم علي تباينها، واللَّه الموفق للصواب» «1».

أقول:

وهذه أسماء الأئمة الذين ذكر الخطيب آرائهم في أبي حنيفة، فهم:

ابن عيينة، وابن المبارك، وأبو يحيي الحماني، وابن عيّاش، وأحمد الخزاعي، والقاسم بن معن، ومالك بن أنس، ومحمّد بن إدريس الشافعي، والأوزاعي، ومسعر بن كدام، وإسرائيل، ومعمر، والفضيل بن عياض، وأبو يوسف، وأيّوب، وسفيان، وأبو مطيع الحكم بن عبداللَّه، ويزيد بن هارون، وأبو عاصم النبيل، وعبداللَّه بن داود الخريبي، وعبداللَّه بن يزيد المقري، وشداد بن حكيم، ومكي بن إبراهيم، ووكيع، والنضر بن شميل، ويحيي بن سعيد القطان، وأبو عبيد، والحسن بن عثمان العاضي، ويزيد بن ذريع، وجعفر بن ربيع، وإبراهيم بن عكرمة القزويني، وعلي بن عاصم، والحكم بن هشام، وعبدالرزاق، والحسن بن محمّد الليثي، ويحيي بن أيّوب، وحفص بن عبدالرحمن، وزافر بن سليمان، وأسد بن عمرو، والحسن بن عمارة، ويحيي ابن فضيل، وأبوالجويرية، وزائدة، ويزيد الكميت، وعلي بن حفص البزاز، ومليح بن وكيع، ومحمّد بن عبدالرحمن المسعودي، ويوسف السمتي،

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13: 370.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 246

وخارجة بن مصعب، وقيس بن الربيع، وحجر بن عبدالجبّار، وحفص بن حمزة القرشي، والحسن بن زياد، وجعفر بن عون العمري، وعبداللَّه بن رجا الغداني، ومحمّد بن عبداللَّه الأنصاري، وعبداللَّه بن عباب، وحجر بن عبداللَّه الحضرمي، وابن وهب العابد، وابن عائشة».

قال الخطيب:

«ذكر القوم الذين ردّوا علي أبي حنيفة: أيّوب السختياني، وجرير بن حازم، وهمام بن يحيي، وفلان وفلان، فعدّد خمسة وثلاثين رجلًا، العجب أنّ فيهم عبداللَّه بن المبارك وحفص بن غياث، وهذان من أصحاب أبي حنيفة؛ أمّا عبداللَّه بن المبارك

فأخذ العلم عنه واشتهر بذلك، وأمّا حفص بن غياث فمن مشهوري أصحابه والآخذين عن أصحابه» «1».

ثمّ إنّ الخطيب جعل يروي بالأسانيد كلمات القوم في أبي حنيفة، كروايته عن الحميدي قال: «حدّثنا حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه قال:

سمعت رجلًا يسأل أبا حنيفة في المسجد الحرام:

عن رجل قال: أشهد أنّ الكعبة حقّ، ولكن لا أدري هل هي هذه التي بمكّة أم لا؟ فقال: مؤمن حقّاً. وسأله عن رجل قال: أشهد أنّ محمّد بن عبداللَّه نبيّ، ولكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم لا؟ فقال: مؤمن حقّاً.

وقال الحميدي: ومن قال هذا فقد كفر» «2».

وروي بإسناده عن يحيي بن حمزة- وسعيد يسمع-: «أن أبا حنيفة قال: لو أنّ رجلًا عبد هذه النعل يتقرّب بها إلي اللَّه لم أر بذلك بأساً. فقال __________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13: 370.

(2) تاريخ بغداد 13: 372.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 247

سعيد: هذا الكفرصراحاً» «1».

وجاء في (تاريخ بغداد) قول الخطيب في أبي حنيفة:

«إنّه كان مذهبه مذهب جهم» «2».

وقوله:

«وأمّا القول بخلق القرآن فقد قيل: إنّ أباحنيفة لم يكن يذهب إليه، المشهور إنّه كان يقوله واستتيب منه» «3».

وذكر الروايات في من حكي عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن وأطال، فروي أشياء منها: «كان أبو حنيفة في مجلس عيسي بن موسي فقال: القرآن مخلوق. فقال: أخرجوه فإن تاب وإلّا فاضربوا عنقه» «4».

والقول يخلق القرآن كفرٌ، كما هو في أسفارهم مذكور وعلي ألسنتهم مشهور …

وروي بإسناده عن شريك بن عبداللَّه- قاضي الكوفة-: «إن أبا حنيفة استتيب من الزندقة مرّتين».

وعن عبداللَّه بن أحمد بن حنبل- إجازةً- حدثني أبو معمر قال: قيل لشريك: «ممّ استتبتم أبا حنيفة؟ قال: من الكفر».

وعن معاذ بن معاذ ويحيي بن سعيد: سمعنا

سفيان يقول: «استتيب أبو

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13: 374.

(2) تاريخ بغداد 13: 381.

(3) تاريخ بغداد 13: 383.

(4) تاريخ بغداد 13: 386.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 248

حنيفة من الكفر مرتين. وقال يعقوب: مراراً».

وعن أبي بكر ابن أبي داود السجستاني أنه قال يوماً لأصحابه: «ما تقولون في مسألةٍ اتفق عليها مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والحسن بن صالح وأصحابه، وسفيان الثوري وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه؟

فقالوا له: يا أبا بكر، لا تكون مسألة أصحّ من هذه.

فقال: هؤلاء كلّهم اتفقوا علي تضليل أبي حنيفة» «1».

أقول:

ومن هنا تري أن عارفهم الرّباني الشيخ عبدالقادر الجيلاني يقول في كتابه (غنية الطالبين) إن أبا حنيفة مرجئ والحنفيّة مرجئة، فيخرجهم عن الإسلام بمقتضي الحديث في صحيح الترمذي، وهذا كلامه:

«عن عبداللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ بني إسرائيل افترقوا علي إحدي وسبعين فرقة كلّها في النّار إلّافرقة واحدة، وستفترق امّتي علي ثلاثة وسبعين فرقة كلّها في النّار إلّاواحدة. قالوا: يا رسول اللَّه! وما تلك الواحدة؟ قال صلّي اللَّه عليه وسلّم: من كان علي مثل ما أنا عليه وأصحابي».

فقال:

«فأصل ثلاث وسبعين فرقة عشر: أهل السنّة والخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة والمشبّهة والجهميّة والضراريّة والنجاريّة والكلابيّة، فأهل __________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13: 394.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 249

السنّة طائفة واحدة».

ثمّ قال:

«أمّا المرجئة، ففرقها اثنا عشر فرقة: الجهمية والصالحيّة والشمريّة واليونسيّة واليونانيّة والنجاريّة والغيلانيّة والشبيهيّة والحنفيّة والمعاذيّة والمريسيّة والكرامية».

ثمّ قال:

«أمّا الحنفيّة، فهم أصحاب أبي حنيفة نعمان بن ثابت، زعم أنّ الإيمان هو المعرفة والإقرار باللَّه ورسوله وبما جاء به من عنده جملة، علي ما ذكره البرهوقي في كتاب الشجرة».

وقد تألّم الشيخ علي القاري من هذا الكلام بشدّةٍ فقال في (شرح

الفقه الأكبر):

«وأمّا ما وقع في الغنية للشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي اللَّه عنه، عند ذكر الفرق الغير الناجية حيث قال: ومنهم القدريّة، وذكر أصنافاً منهم ثمّ قال:

ومنهم الحنفيّة وهم أصحاب أبي حنيفة نعمان بن ثابت، زعم أنّ الإيمان هو المعرفة والإقرار باللَّه ورسوله وبما جاء من عنده جملة علي ما ذكره البرهوقي في كتاب الشجرة، فهو اعتقاد فاسد وقول كاسد، مخالف لاعتقاده في الفقه الأكبر …» «1».

أما ابن قتيبة، فقد ذكر في عداد المرجئة القاضي أبا يوسف واستاده أبا حنيفة واستاد أستاده أعني حماداً، وكذا رفيقه أعني محمّداً، وذلك في (كتاب المعارف) حيث قال:

__________________________________________________

(1) شرح الفقه الأكبر للقاري: 119.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 250

«أسماء المرجئة: إبراهيم التيمي، عمرو بن مرّة، أبوذر الهمداني، طلق ابن حبيب، حمّاد بن أبي سليمان، أبو حنيفة الفقيه، عبدالعزيز بن أبي رواد، ابنه عبدالحميد، خارجة بن مصعب، عمر بن قيس الماصر، أبو معاوية الضرير، يحيي بن زكريا، ابن أبي زائدة، أبو يوسف صاحب الرأي، محمّد بن الحسن، محمّد بن السائب، مسعر بن كدام» «1».

وعن السليماني القول بكون أبي حنيفة من المرجئة كما في كتاب (ميزان الإعتدال):

«أمّا مسعر بن كدام فحجّة إمام، ولا عبرة بقول السليماني: كان من المرجئة مسعر وحمّاد بن أبي سليمان والنعمان وعمرو بن مرّة وعبدالعزيز بن أبي رواد وأبو معاوية وعمر بن ذر، وسرد جماعة. قلت: الإرجاء مذهب لعدّة من جلّة من العلماء لا ينبغي التحامل علي قائله» «2».

وقال ابن الجوزي في (تلبيس ابليس) عن المرجئة:

«قالت المرجئة: إنّ من أقرّ بالشهادتين وأتي بكلّ المعاصي لم يدخل النّار أصلًا، وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحّدين من النّار. قال ابن عقيل: ما أشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقاً، فإنّ صلاح

العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، والمرجئة لمّا لم يمكنهم جحد الصانع- لما فيه من نفور الناس ومخالفتهم- أسقطوا فائدة الإثبات وهي الحسبة والمراقبة، وهدموا سياسة الشرع، فهم شرّ طائفة علي الإسلام» «3».

__________________________________________________

(1) المعارف لابن قتيبة: 625.

(2) ميزان الاعتدال 6: 409/ 8476.

(3) تلبيس ابليس: 97.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 251

والأفظع من ذلك كلّه ما رواه الحافظ الخطيب البغدادي مسنداً إلي أبي إسحاق الفزاري أنّه قال: «كنت آتي أبا حنيفة أسأله عن الشي ء من أمر الغزو، فسألته عن مسألة فأجاب فيها.

فقلت له: إنّه يروي عن النبيّ كذا وكذا.

قال: دعنا من هذا.

وقال: وسألته يوماً آخر عن مسألة فأجاب فيها.

فقلت له: إن هذا يروي عن النبيّ فيه كذا وكذا.

فقال: حُكّ هذا بذَنَبِ خنزير» «1».

ولهذه الامور وغيرها، فقد أطال الخطيب البغدادي الكلام بترجمة أبي حنيفة، فذكر:

«ما قاله العلماء في أمر رأيه والتحذير عنه» وبدأ بالطعن علي من قال بالرأي، وما ورد من الأخبار فيه، وأورد السباب، وأنّه دجّال، وأنّه ما ولد في الإسلام مولود أضرّ منه.

وهكذا سعي الخطيب في ذكر عيوب أبي حنيفة والحطّ عليه والطعن فيه … بما لا يمكن تأويله وتوجيهه وحمله، وقد اعتذر قبل أن يشرع في ذلك بأن قال: «قد سقنا عن أيّوب السنحتياني وسفيان الثوري وابن عيينة وأبي بكر ابن عيّاش وغيرهم من الأئمّة أخباراً كثيرة تتضمّن تقريظ أبي حنيفة والمدح له والثناء عليه. والمحفوظ عند نقلة الحديث من الأئمة المتقدّمين وهؤلاء المذكورين منهم في أبي حنيفة خلاف ذلك وكلامهم فيه كثير، لُامور شنيعةٍ حفظت عليه».

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13: 401.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 252

وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي في (تحصيل الكمال) في ترجمة أبي حنيفة في ذكر مسنده الذي جمعه أبوالمؤيّد

الخوارزمي: «ورتّبه علي أبواب الفقه وذبّ عنه ما تكلّم فيه بعض النّاس، خصوصاً الخطيب البغدادي المتعصّب المكابر مع هذا الإمام العظيم الشأن، ولقد ناقض هذا الرجل المكابر نفسه في ما ذكر من المطاعن والعيوب، وتهافت كلامه في ذلك وتساقط من القلوب».

بين أبي حنيفة وسفيان الثوري … ص: 252

إلّاأنّ هذا لا يجدي نفعاً، وقد ذكر البخاري في (التاريخ الصغير):

«حدّثنا نعيم بن حمّاد قال: حدّثنا الفزاري قال: كنت عند سفيان، فنعي النعمان فقال: الحمد للَّه. كان ينقض الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام أشأم منه» «1».

واضطرّ بعض الأعلام لأنْ ينصحوا الناس بعدم الإصغاء لمثل هذه القضايا، فيقول السبكي:

«فإيّاك ثمّ إيّاك أن تصغي إلي ما اتّفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبي ذئب، أو بين أحمد بن صالح والنسائي، أو بين أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي، وهلمّ جرّاً إلي زمان الشيخ عزّالدين بن عبدالسلام والشيخ تقي الدين ابن الصلاح.

فإنّك إن اشتغلت بذلك خشيت عليك الهلاك» «2».

__________________________________________________

(1) التاريخ الصغير للبخاري 2: 93.

(2) طبقات الشافعية للسبكي 2: 278 ترجمة الحارث بن اسد المحاسبي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 253

لكن ليس بين سفيان وأبي حنيفة فحسب، فهذا الحميدي شيخ البخاري يقول فيه كما نقل البخاري حيث قال:

«قال أبو حنيفة: قدمت مكّة فأخذت من الحجّام ثلاث سنن: لمّا قعدت بين يديه قال لي: استقبل الكعبة، فبدأ بشقّ رأسي الأيمن، وبلغ إلي العظمين.

قال الحميدي: فرجل ليس عنده سنن من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وأصحابه في المناسك وغيرها، كيف يقلّد في أحكام اللَّه في المواريث والفرائض والزكاة والصلاة وامور الإسلام» «1».

ذكره البخاريّ في الضعفاء … ص: 253

والبخاري نفسه … ذكر أبا حنيفة في الضعفاء … قال الرازي في (رسالته):

«وأمّا البخاري، فقد ذكر الشافعي في تاريخه الكبير فقال في باب الميم:

محمّد بن إدريس الشافعي القرشي، مات سنة أربع ومائتين، ثمّ إنّه ما ذكره في باب الضعفاء، مع علمه بأنّه كان قد روي شيئاً كثيراً من الحديث.

ولو كان من الضعفاء في هذا الباب لذكره، كما ذكر أبا حنيفة في هذا

الباب».

أبو حنيفة في كتاب المنتظم لابن الجوزي … ص: 253

وابن الجوزي أيضاً أورد كلمات الأئمة في ذم أبي حنيفة، ففي (المنتظم):

__________________________________________________

(1) التاريخ الصغير للبخاري 2: 41.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 254

بإسناده المتصل إلي سعيد بن أبي مريم إنّه قال: سألت يحيي بن معين عن أبي حنيفة قال: لا يكتب حديثه.

وإلي عبداللَّه بن علي بن عبداللَّه المديني قال: سألت أبي عن أبي حنيفة فضعّفه جدّاً وقال: روي خمسين حديثاً أخطأ فيها.

وإلي أبي حفص عمرو بن علي قال: أبو حنيفة ليس بحافظ، مضطرب الحديث، واهي الحديث.

وقال أبوبكر ابن أبي داود: جميع ما روي أبو حنيفة من الحديث مائة وخمسون حديثاً أخطأ- أو قال غلط- في نصفها «1».

وتكلّم في أبي حنيفة جماعة آخرون من الأئمة، قال الذهبي في (ميزان الإعتدال):

«النعمان بن ثابت بن زوطي، أبو حنيفة الكوفي، إمام أهل الرأي، ضعّفه النسائي من جهة حفظه وابن عدي وآخرون، وترجم له الخطيب في فصلين من تاريخه، واستنوع كلام الفريقين معدّليه ومضعّفيه» «2».

وفي (الميزان) أيضاً:

«إسماعيل بن حمّاد بن النعمان بن ثابت الكوفي، عن أبيه عن جدّه، قال ابن عدي ثلاثتهم ضعفاء» «3».

وقال المناوي بشرح حديث «إذا طلعت الثريا أمن الزرع من العاهة» في (فيض القدير):

__________________________________________________

(1) المنتظم في تاريخ الامم 8: 134- 135.

(2) ميزان الاعتدال 7: 37- 38/ 9099.

(3) ميزان الاعتدال 1: 382/ 867.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 255

«وفيه شعيب بن أيّوب الصريفني، أورده الذهبي في الضعفاء، وقال أبوداود: أخاف اللَّه في الرواية عنه. والنعمان بن ثابت الإمام، أورده الذهبي في الضعفاء وقال: قال ابن عدي: عامّة ما يرويه غلط وتصحيف وزيادات، وله أحاديث صالحة» «1».

تكلّم أحمد في أبي حنيفة … ص: 255

وأحمد بن حنبل أيضاً تكلّم في أبي حنيفة، وأوضح ذلك البيهقي، قال الرازي في الثناء علي الشافعي:

«الحجّة الثالثة: إنّ أكابر

علماء الحديث أقرّوا له بالفضل والقوّة في هذا العلم. روي أنّ أحمد بن حنبل سئل: هل كان الشافعي صاحب حديث؟ فقال:

إي واللَّه كان صاحب حديث، وكرّرها ثلاثاً.

وروينا أنّه سمع الموطأ عليه وقال: إنّه ثبت فيه.

وسئل أحمد بن حنبل عن مالك فقال: حديث صحيح ورأي ضعيف.

وسئل عن الأوزاعي فقال كذلك.

وسئل عن الشافعي فقال: حديث صحيح ورأي قويّ.

وسئل عن أبي فلان، فقال: لا رأي ولا حديث.

قال البيهقي: وإنّما قال أحمد عن مالك ذلك، لأنّه كان يترك الحديث الصحيح لعمل أهل المدينة.

وإنّما قال عن الأوزاعي ذلك، لأنّه كان يحتجّ بالمقاطيع والمراسيل في بعض المسائل ثمّ يقيس عليها.

__________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 1: 399.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 256

وإنّما قال في الشافعي ذلك؛ لأنّه كان لا يري الاحتجاج إلّابالحديث الصحيح ثمّ يقيس الفروع عليها.

وإنّما قال في أبي فلان ذلك، لأنّه كان يقبل المجاهيل والمقاطيع والمراسيل وما وقع إليه من حديث بلده وإن كان ضعيفاً يترك القياس لأجله، وما رفع إليه من أحاديث سائر البلاد وإن كان صحيحاً لم يقبله بل عدل إلي الاستحسان والقياس».

جهله بعلم الحديث وطلبه الرئاسة … ص: 256

والسبب في ذلك كلّه جهله بعلم الحديث واصوله وقواعده، وطلبه لعلم الفقه حبّاً للدنيا وطلباً للرياسة والشهرة، كما ذكر فيما روي بالإسناد عن أبي يوسف قال:

«قال أبو حنيفة: لمّا أردت طلب العلم جعلت أتخيّر العلوم وأسأل عن عواقبها.

فقيل لي: تعلّم القرآن.

فقلت: إذا تعلّمت القرآن وحفظته فما يكون آخره؟

قالوا: تجلس في المجلس بالمسجد ويقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثمّ لا تلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك في الحفظ فيذهب رياستك.

قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حتّي لم يكن في الدنيا أحفظ منّي؟

قالوا: إذا كبرت وضعفت حدّثت واجتمع عليك الأحداث والصبيان، ثمّ

لا يأمن أن تغلط فيرموك بالكذب، فيصير عاراً عليك في عقبك.

فقلت: لا حاجة لي في هذا.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 257

ثمّ قلت: أتعلّم النحو، فقلت: إذا حفظت النحو والعربيّة ما يكون آخر أمري؟

قالوا: تقعد مُعلِّماً فأكبر رزقك ديناران أو ثلاثة.

قلت: وهذا لا عاقبة له.

قلت: فإن نظرت في الشعر، فلم يكن أحد أشعر منّي ما يكون أمري؟

قالوا: تمدح هذا، فيهب لك أو يحملك علي دابّة ويخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته فصرت تقذف المحصنات.

فقلت: لا حاجة لي في هذا.

قلت: فإن نظرت في الكلام ما يكون آخره؟

قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشنّعات الكلام، فيرمي بالزندقة، فإمّا أن يؤخذ فيقتل وإمّا أن يسلم فيكون مذموماً ملوماً.

قلت: فإن تعلّمت الفقه؟

قالوا: تُسئل وتفتي الناس وتطلب للقضاء وإن كنت شابّاً.

قلت: ليس في العلوم شي ء أنفع من هذا. فلزمت الفقه وتعلّمته» «1».

فظهر أن الرجل لم يتعلّم القرآن والحديث والكلام، ولو صرفنا النظر عن علم الكلام واعتذرنا له بترك غيره من علمائهم هذا العلم أيضاً، كالشافعي الذي ذمّ الكلام بشدّةٍ، فما العذر في ترك القرآن والحديث؟

فضل علم الحديث … ص: 257

قال الكرماني في (شرح البخاري):

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13: 331.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 258

«أمّا بعد؛ فإنّ علم الحديث بعد القرآن هو أفضل العلوم وأعلاها وأجلّ المعارف وأسناها، من حيث أنّه به يعلم مراد اللَّه تعالي من كلامه، ومنه يظهر المقاصد من أحكامه؛ لأنّ أحكام القرآن جلّها بل كلّها كليّات، والمعلوم منه ليس إلّاامور إجماليّات، كقوله: «أقيموا الصّلاة وآتوا الزكاة»، فإنّ السنّة هي المُعرِّفة بجزئيّاتها، كمقادير أوقات الصلاة وأعداد ركعاتها وكميّاتها وكيفيّاتها وفرائضها ونوافلها وهيئآتها وآدابها وأوضاعها وصفاتها، وهي الموضحة لمعضلاتها كأقدار نصب الزكاة وأنواع ما يجب فيها وأوقات الأداء، ومن

وجبت عليه وما وجب منها وهلمّ جرّاً.

ولذلك كان أعلي العلماء قدراً وأنورهم بدراً وأفخمهم خطراً وأنبلهم شأناً وأعظمهم عند اللَّه منزلة ومنزلًا وأكرمهم مكانة ومكاناً: حملة السنّة النبويّة وناقلوا أخبارها وحفظة الأحاديث وعاقلوا أسرارها ومحقّقوا ألفاظها وأرباب رواياتها ومدقّقوا معانيها وأصحاب درايتها، وهم الطائفة المنصورة المشيدة لمباني الحقّ والمسالك، ولن يزالوا ظاهرين عليه حتّي يأتي أمر اللَّه وهم علي ذلك» «1».

وما أكثر الأحاديث في فضل رواية الحديث، وقد روي في (كنز العمال):

«اللهم ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي وسنّتي ويعلّمونها الناس. طس عن علي.

رحمة اللَّه علي خلفائي. قيل: ومن خلفاؤك يا رسول اللَّه؟ قال الذين يحييون سنّتي ويعلّمونها الناس. أبو نصر السجزي في الإبانة وابن عساكر عن __________________________________________________

(1) الكواكب الدراري في شرح البخاري- مقدّمة الكتاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 259

الحسن بن علي» «1».

ذمّ طلب الشهرة … ص: 259

وما أكثر الأحاديث أيضاً في ذمّ طلب الشهرة والرياسة. روي في (كنزالعمال):

«إحذروا الشهوة الخفيّة: العالم يُحبّ أن يجلس إليه. فر عن أبي هريرة.

من ابتغي العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يقبل أفئدةالناس إليه، فإلي النّار. ك هب عن كعب بن مالك.

من تعلّم علماً ممّا يبتغي به وجه اللَّه، لا يتعلّمه إلّاليصيب عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة. حم ده ك عن أبي هريرة.

من تعلّم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله اللَّه جهنّم. ه عن أبي هريرة.

من تعلّم صرف الكلام ليسبي به قلوب الناس، لم يقبل اللَّه منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلًا. د عن أبي هريرة.

لا تعلّموا العلم لتباهوا به العلماء أو لتماروا به السفهاء أو لتصرفوا وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك

فهو في النار. ه عن حذيفة.

لا تعلّموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا لتحبروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنّار النّار. ه حب ك عن جابر.

من تعلّم العلم لغير اللَّه فليتبوّأ مقعده من النّار. ت عن ابن عمر.

من تعلّم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به __________________________________________________

(1) كنز العمال 10: 221/ 29167 و 10: 229/ 29209.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 260

وجوه الناس إليه، أدخله اللَّه النّار. ت عن كعب بن مالك.

من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء في المجالس، لم يرح رائحة الجنّة. طب عن معاذ.

من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يكاثر به العلماء أو يصرف وجوه الناس، فليتبوّأ مقعده من النّار. أبو نعيم في المعرفة كر عن أنس.

من طلب علماً ليباهي به الناس فهو في النّار. ابن عساكر عن ام سلمة» «1».

ذمّ حبّ الرئاسة … ص: 260

هذا، وقد حمل أبا حنيفة حبّ الجاه وخدمة السلطان الجائر من أجل الوصول إلي الأغراض الدنيوية الدنيئة، علي أن يحاول إفحام الامام أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام في مسائل، لكي يسقط من أعين الناس، وقد حكي هو الخبر عن ذلك كما في كتاب (جامع مسانيد أبي حنيفة) لقاضي القضاة الخوارزمي حيث جاء فيه:

«أبو حنيفة، قال: جعفر بن محمّد أفقه من رأيت، ولقد بعث إليّ أبو جعفر المنصور أنّ النّاس قد فتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّي ء له مسائل شداداً، فلخّصت أربعين مسألة وبعثت بها إلي المنصور بالحيرة، ثمّ أبرد إليّ، فوافيته علي سريره وجعفر بن محمّد عن يمينه، فوجدت من جعفر هيبة لم أجدها من المنصور، فأجلسني.

__________________________________________________

(1) كنز العمال 10: 185- 202. الأحاديث: 28965، 29015، 29020، 29021، 29022، 29032، 29033،

29035، 29036، 29056، 29057.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 261

ثمّ التفت إلي جعفر قائلًا: يا أباعبداللَّه! هذا أبو حنيفة.

فقال: نعم أعرفه.

ثمّ قال المنصور: سله ما بدا لك يا أبا حنيفة.

فجعلت أسأله ويجيب الإجابة الحسنة، ويفحم، حتّي أجاب عن أربعين مسألة، فرأيته أعلم النّاس باختلاف الفقهاء، فلذلك أحكم أنّه أفقه من رأيت.

أخرجه الحافظ طلحة، عن أبي العباس أحمد بن محمّد، عن جعفر بن محمّد بن الحسين، عن أبي نجيح إبراهيم بن محمّد، عن الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة» «1».

رأي الفيروزآبادي في أبي حنيفة … ص: 261

وفي المتأخرين من العلماء أيضاً من يطعن في أبي حنيفة بشدّة بل يكفّره بصراحة، كالفيروزآبادي صاحب القاموس، وهذا ما حمل الشيخ علي القاري علي أن يقول في (رسالته):

«وقد أبدع صاحب القاموس، حيث ترك المروة والناموس، وأطنب في وصف ابن عربي إلي حدّ يعتقد الجاهل أنّه أفضل الخلائق، وطعن في إمام الأئمة ومقتدي الامّة مولانا أبي حنيفة بل قيل: وكفّره، لكنّه أنكره، مع علمه بأنّ علم الإمام ملأ الخافقين، وعلمه وزهده اشتهر بين الثقلين، ومن المعلوم عند صاحب الدين علي وجه اليقين أنّ قلامة ظفر الإمام خير من ملأ الأرض من مثل ابن عربي فيما بين الأنام.

ولم ينكر علي ابن عربي في: أنّه يبيح المكث للجنب والحائض في __________________________________________________

(1) جامع مسانيد أبي حنيفة 1: 222- 223.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 262

المسجد، مصادمة لقوله عليه السلام: لا احلّ المسجد لجنب ولا حائض، وفي قوله: الرياضة إذا كملت اختلط ناسوت صاحبها باللاهوت، مع أنّه عين مذهب النصاري، وفي قوله: مات فرعون طاهراً مطهّراً، مع كونه معارضاً للآيات والأحاديث الواضحات كما بيّنته في رسالة مستقلّة، وقد قال صلّي اللَّه عليه وسلّم: من ترك الصلاة ثلاثة أيّام عامداً

متعمّداً دخل النّار خالداً مخلّداً، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي خلف، علي ما رواه الإمام أحمد وغيره، ونقل الجزري وابن عبدالسلام والسبكي عنه إنّه يقول بقدم العالم، وبتحليل كلّ فرج من بني آدم، وأمثال ذلك ممّا هو كفر صريح وليس له تأويل صحيح».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 263

محمّد بن إدريس الشافعي … ص: 263

اشارة

وقد عدّوا في الطبقة الثالثة مسند الشّافعي، ولم يجعلوه من الصحاح الستّة، لكونه يجمع بين الصحيح والسقيم، والصدق والكذب، والغثّ والسمين …

وقد أخرج مسلم وغيره عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: من روي حديثاً يري أنّه كذب فهو أحد الكاذبين «1».

وعليه، فلا اعتبار بكتاب الشافعي ورواياته وفتاواه عند القوم، وإنّه ليشمله كلّ ما ذكر في كتبهم من الذمّ لرواية الأخبار المكذوبة، من الأحاديث وكلمات العلماء، كابن الجوزي في (تلبيس إبليس).

مضافاً إلي تكلّم ابن معين في الشافعي وجرحه بصراحة، قال الذهبي- فيمن لا يضرّه قدح القادحين-:

«ومنهم محمّد بن إدريس الشافعي، الإمام الذي سارت الركبان بفضائله ومعارفه، فهو حافظ ثبت نادر الغلط، حتّي أنّ أبازرعة قال: ما عند الشافعي حديث غلط فيه. وقال أبو داود: ما أعلم للشافعي قط حديثاً أخطأ فيه. وقد روي أنّ ابن معين قال فيه: ليس بثقة …» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 10.

(2) ميزان الاعتدال، سير أعلام النبلاء 10: 47- 48.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 264

تكلّم ابن معين فيه … ص: 264

وقد ذكر السبكي تكلُّم ابن معين في الشافعي في كلامٍ له في تكلّم الأئمّة بعضهم في بعض … كما تقدّم نصّه سابقاً.

وقال القاضي أبواليمن في (مختار تاريخ بغداد) بعد ذكر اعتذار الخطيب من إيراد مطاعن أبي حنيفة: «ما اتفق قول الخطيب في هذا الفصل وفعله، بل اختلفا وتباينا، فإنّه قال: نحن معتذرون بأنّ أباحنيفة … ولِمَ لم يذكر عند ذكره أخبار محمّد بن إدريس الشافعي في هذا الكتاب بعض ما قاله فيه الناس، هل أورد الحسن ولم يورد القبيح، ولا حكي عن يحيي بن معين ما قاله فيه ممّا لا نستجيز نحن- بحمد اللَّه- تسطيره، ونعم ما فعل الخطيب في ذلك الإمام

الجليل القدر أعني الشافعي …».

فمن هذا الكلام يظهر أنّ ابن معين قال القبيح في حقّ الشافعي.

ثمّ إنّ ابن معين ينصّ علي أنّ كلّ من تكلّم هو فيه فهو كذّاب … فقد «قال هارون بن بشير الرازي: رأيت يحيي بن معين استقبل القبلة رافعاً يديه يقول: اللّهمّ إن كنت تكلّمت في رجلٍ ليس هو عندي كذّاباً فلا تغفر لي» «1».

ومن هذا الكلام يفهم أنّه ما تكلّم في أحدٍ وكذّبه إلّابعد ثبوت ذلك عنده.

ترجمة ابن معين … ص: 264

وكما يفهم من هذا الكلام شدّة ورعه وقوّة علمه، كذلك تجد

__________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 2: 157.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 265

التصريحات بحقّه من سائر العلماء الأعلام:

قال النووي:

«هو إمام الحديث في زمانه والمعوَّل عليه فيه …

روي عنه: أحمد بن حنبل وزهير بن حرب ومحمّد بن يحيي الذهلي ومحمّد بن سعد وأبو زرعة الرازي والدمشقي وأبو حاتم والبخاري ومسلم وأبو داود … وخلائق لا يحصون.

وأجمعوا علي إمامته وتوثيقه وحفظه وجلالته وتقدّمه في هذا الشأن واضطلاعه فيه.

قال الخطيب: كان إماماً ربّانيّاً عالماً حافظاً ثبتاً متقناً.

قال أحمد بن حنبل: السماع من يحيي بن معين شفاء لما في الصدور.

وقال علي بن المديني: ما رأيت في الناس مثله.

وقال أحمد بن حنبل: يحيي بن معين رجل خلقه اللَّه لهذا الشأن، يظهر كذب الكذّابين، وكلّ حديث لا يعرفه يحيي ليس بحديث.

وقال عباس الدوري: رأيت أحمد بن حنبل في مجلس روح بن عبادة يسأل يحيي بن معين عن أشياء، يقول له: يا أبازكريا، كيف حديث كذا وكذا؟

كيف حديث كذا وكذا؟ يستثبته في أحاديث سمعوها، فكلّ ما قال يحيي كتبه أحمد.

وقال هارون بن بشير الرازي: رأيت يحيي بن معين استقبل القبلة رافعاً يده يقول: اللّهمّ إن كنت تكلّمت في رجل ليس

هو عندي كذّاباً فلا تغفر لي.

وقال يحيي: لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما علّقناه.

وروينا عن أحمد بن عقبة قال: سمعت يحيي بن معين يقول: كتبت استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 266

بيدي هذه ستمائة ألف حديث. قال ابن عقبة: وأظنّ المحدّثين كتبوا له ستمائة ألف وستمائة ألف.

وقال محمّد بن عبداللَّه: خلّف يحيي من الكتب مائة قمطراً وأربعة عشر قمطراً وأربعة حباب مملوءة كتباً.

وقال علي بن المديني: ما أعلم أحداً كتب من الحديث ما كتب يحيي ابن معين …

وذكر ابن أبي حاتم- في أوّل كتابه الجرح والتعديل- بإسناده عن أبي عبيد القاسم بن سلّام قال: انتهي العلم إلي أربعة: أحمد بن حنبل ويحيي بن معين- وهو أكتبهم- وعلي بن المديني وأبي بكر ابن أبي شيبة …

وأحواله وفضائله- رضي اللَّه عنه- غير منحصرة. واتفقوا علي أنّه توفّي بمدينة رسول اللَّه وغسّل علي السرير الذي غسّل عليه رسول اللَّه، وحمل علي السرير الذي حمل عليه رسول اللَّه. ونودي عليه: هذه جنازة يحيي بن معين ذابّ الكذب عن رسول اللَّه، والناس يبكون، واجتمعوا في جنازته خلق لا يحصون، ودفن بالبقيع» «1».

وقال السمعاني:

«كان إماماً ربانيّاً عالماً حافظاً ثبتاً متقناً مرجوعاً إليه في الجرح والتعديل …

روي عنه من رفقائه: أحمد بن حنبل وأبو خيثمة ومحمّد بن إسحاق الصّغاني ومحمّد بن إسماعيل البخاري وأبو داود السجستاني وعبداللَّه بن أحمد بن حنبل وغيرهم.

__________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 2/ 156- 159.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 267

وانتهي علمُ العلماء إليه حتّي قال أحمد بن حنبل: هاهنا رجل خلقه اللَّه لهذا الشأن، يظهر كذب الكذّابين- يعني: يحيي بن معين.

وقال علي بن المديني: لا نعلم أحداً من لدن آدم كتب من الحديث ما

كتب يحيي بن معين.

قال أبو حاتم الرازي: إذا رأيت البغدادي يحبّ أحمد بن حنبل فاعلم أنّه صاحب سنّة، وإذا رأيته يبغض يحيي بن معين فاعلم أنّه كذّاب.

… مات لسبع ليالٍ بقين من ذي الحجّة سنة 233» «1».

وقال الذهبي:

«هو الإمام الحافظ الجهبذ شيخ المحدّثين … أحد الأعلام …

قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سئل أبي عن يحيي فقال: إمام.

وقال النسائي: أبو زكريا أحد الأئمّة في الحديث ثقة مأمون.

وقال محمّد بن هارون الفلّاس: إذا رأيت الرجل يقع في يحيي بن معين فاعلم أنّه كذّاب يصنع الحديث، وإنّما يبغضه لما يبيّن من أمر الكذّابين.

قال حنبل: سمعت أبا عبداللَّه يقول: كان أعلمنا بالرجال يحيي بن معين …» «2».

هذا، وتوجد ترجمة يحيي بن معين في الكتب التالية أيضاً:

1- الطبقات الكبري 7: 354.

2- تاريخ بغداد 14: 177.

3- وفيات الأعيان 6: 139.

__________________________________________________

(1) الأنساب 5: 154.

(2) سير أعلام النبلاء 11: 71- 96.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 268

4- تهذيب الكمال 31: 543.

5- تذكرة الحفّاظ 2: 429.

6- تهذيب التهذيب 11: 280.

7- النجوم الزاهرة 2: 273.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 269

أحمد بن حنبل … ص: 269

اشارة

قال السبكي في وصف مسند أحمد بترجمته:

«وألّف مسنده، وهو أصل من اصول هذه الامّة.

قال الإمام الحافظ أبو موسي محمّد بن أبي بكر المديني رضي اللَّه عنه:

هذا الكتاب- يعني مسند الإمام أبي عبداللَّه أحمد بن محمّد بن حنبل الشيباني قدّس اللَّه روحه- أصل كبير ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقي من حديث كثير ومسموعات وافرة، فجعل إماماً ومعقداً وعند التنازع ملجأ مسنداً، علي ما أخبرنا والدي وغيره: أنا المبارك بن عبدالجبار، أنا الحسين كتب إليهما من بغداد قال: أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي قراءة عليه، أنا أبو عبداللَّه ابن محمّد

بن محمّد بن حمدان بن عمر ابن بطة قراءةً عليه، ثنا أبو حفص عمير بن محمّد محمد بن رجاء، ثنا موسي بن حمدون البزار قال: قال لنا حنبل بن إسحاق: جمعنا عمّي يعني الإمام أحمد لي ولصالح ولعبداللَّه وقرأ علينا المسند وما سمعه منه- يعني تامّاً- غيرنا، وقال لنا:

إنّ هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلّا ليس بحجّة.

وقال عبداللَّه بن أحمد: كتب أبي عشرة ألف ألف حديث، لم يكتب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 270

سواداً في بياض إلّاحفظه.

وقال عبداللَّه أيضاً: قلت لأبي: لم كرهت وضع الكتب وقد عملت المسند؟ فقال: عملت هذا الكتاب إماماً إذا اختلف الناس في سنّة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يرجع إليه.

وقال أيضاً: خرّج أبي المسند من سبع مأة ألف حديث.

قال أبو موسي المديني: ولم يخرج إلّاعمّن ثبت عنده صدقه وديانته، دون من طعن في أمانته، ثمّ ذكر بإسناده إلي عبداللَّه بن الإمام أحمد قال:

سألت أبي عن عبدالعزيز بن أبان فقال: لم أخرج عنه في المسند شيئاً، لمّا حدّث بحديث المواقيت تركته» «1».

«قال أبو موسي: ومن الدليل علي أنّ ما أودعه الإمام أحمد مسنده قد احتاط فيه إسناداً ومتناً، ولم يورد فيه إلّاما صحّ سنده: ما أخبرنا أبو علي الحدّاد قال: أنا أبو نعيم قال: أنا ابن الحسين وأنا ابن المذهب قالا: أنا القطيعي ثنا عبداللَّه قال: حدّثني أبي، ثنا محمّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي التيّاح قال: سمعت أبازرعة يحدّث عن أبي هريرة عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

إنّه يهلك امّتي هذا

الحيّ من قريش.

قالوا: فما تأمرنا يا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟

قال: لو أنّ الناس اعتزلوهم.

قال عبداللَّه: قال لي أبي- في مرضه الذي مات فيه-: إضرب علي هذا الحديث، فإنّه خلاف الأحاديث عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، يعني قوله:

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 31.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 271

إسمعوا وأطيعوا.

وهذا مع ثقة رجال إسناده حيث شذّ لفظه من الأحاديث المشاهير أمر بالضرب عليه، فكان دليلًا علي ما قلناه» «1».

وفي كتاب (مناقب احمد) للنهرواني المدني: «قال ابن عساكر «أمّا بعد، فإنّ حديث المصطفي به يعرف سبل الإسلام والهدي، ويبني عليه أكثر الأحكام، ويؤخذ منه معرفة الحلال والحرام، وقد دوّن جماعة من الأيمّة ما وقع إليهم من حديثه عليه السلام، فكان أكبر الكتب التي جمعت فيه هو المسند عظيم الشأن والقدر، مسند الإمام أحمد وهو كتاب نفيس يرغب في سماعه وتحصيله ويرحل إليه، إذ كان مصنّفه الإمام أحمد، المقدم في معرفة هذا الشأن، والكتاب كبير القدر والحجم مشهور عند أرباب العلم، يبلغ أحاديثه ثلاثين ألفاً سوي المعاد وسوي ما ألحق به ابنه عبداللَّه من أعالي الأسناد، وكان مقصود الإمام في جمعه أن يرجع إليه في الاعتبار من بلغه أو رواه.

وقال ابن الجوزي: صحّ عند الإمام أحمد من الأحاديث سبع مائة ألف وخمسين ألفاً- والمراد بهذه الأعداد الطرق، أخرج منها مسنده المشهور الذي تلقته الامّة بالقبول والتكريم وجعله حجّة يرجع إليه ويعوّل عند الإختلاف عليه.

قال حنبل بن إسحاق: جمعنا عمّي لي ولصالح ولعبداللَّه وقرأ علينا المسند وما سمعه منه تامّاً غيرنا ثمّ قال لنا:

هذا الكتاب قد جمعته وانتخبته من أكثر من سبع مائة ألف وخمسين __________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 32.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص:

272

ألفاً، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه فذاك وإلّا فليس بحجّة.

وكان يكره وضع الكتب فقيل له في ذلك، فقال: قد عملت هذا المسند إماماً إذا اختلف الناس في سنّةٍ من سنن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم رجعوا إليه».

وعلي أساس هذه المدائح يتّضح صحّة احتجاج أهل الحق بالأحاديث المخرجة في (مسند أحمد بن حنبل) وإلزام القوم بها …

القول بأنّ في مسنده موضوعات … ص: 272

لكن بعض العلماء ذهب إلي أنّ في مسند أحمد أحاديث موضوعة، قال المناوي:

«وقال العراقي: وجود الضعيف في مسند أحمد محقّق، بل فيه أحاديث موضوعة، فجمعتها في جزء» «1».

فوضع ابن حجر في ردّه كتاب (القول المسدّد في الذبّ عن المسند).

قول أحمد بأنّ قتال صفّين فتنة … ص: 272

وأحمد نفسه عندنا مطعون فيه، لأنّ القول بأنّ قتال أميرالمؤمنين عليه السلام الفئة الباغية قتال فتنة، تخطئة للإمام عليه السلام في جهاده وردّ عليه، وهذا نصب للعداء وعناد صريح له، … وقد حكي ذلك عنه ابن تيميّة حيث قال:

__________________________________________________

(1) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 26.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 273

«ومذهب أكثر العلماء إنّ قتال البغاة لا يجوز، إلّاأنْ يبتدؤا الإمام بالقتال، كما فعلت الخوارج مع علي، فإنّ قتاله الخوارج متفق عليه بين العلماء ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم. بخلاف قتال صفين، فإنّ أولئك لم يبتدؤا بالقتال، بل امتنعوا عن مبايعته، ولهذا كان أئمّة السنّة كمالك وأحمد وغيرهما يقولون: إنّ قتاله للخوارج مأمور به، وأمّا قتال الجمل وصفّين فهو قتال فتنة، فلو قال قوم: نحن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ولا ندفع زكاتنا إلي الإمام ونقوم بواجبات الإسلام، لم يجز للإمام قتالهم عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة وأحمد. وأبوبكر الصدّيق إنّما قال مانعي الزكاة، لأنّهم امتنعوا من أدائها مطلقاً، وإلّا فلو قال: نحن نؤدّيها بأيدينا ولا ندفعها إلي أبي بكر لم يجز قتالهم عند الأكثرين كأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهما، ولهذا كان علماء الأمصار علي أنّ القتال كان قتال فتنة، وكان من قعد عنه أفضل ممّن قاتل فيه، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل والأوزاعي بل والثوري …» «1».

يقول هذا، والحال أنّ الشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب كتاب (التحفة) ينصّ-

وتبعاً لغيره من أكابر القوم- علي أنّ مذهب أهل السنّة هو أنّ الإمام عليه السلام كان في حروبه علي الحقّ وكان مصيباً فيها.

وأيضاً، فقد نصّ غير واحدٍ منهم علي وجوب متابعة أهل البيت عليهم السلام وإطاعتهم، وأنّ الفلاح والنجاح في الآخرة منوط بالإهتداء بهديهم والتمسّك بهم، وأنّ من تخلّف عنهم فهو هالك خاسر … وهذه الكلمات تقتضي الحكم علي أحمد بن حنبل بالخروج عن أهل السنّة والوقوع في دركات الهلاك والضلال.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4: 436- 437.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 274

وأيضاً: فإنّ القول المذكور ردّ علي اللَّه والرسول، للأحاديث المستفيضة الدالّة علي كون الإمام عليه السلام مأموراً بتلك الحروب …

وإنّ واحداً من هذه الوجوه ليكفي لسقوط آراء أحمد وفتاواه عن الإعتبار وبطلان القول بإمامته في الفقه والحديث … نعم، لقد نصّ أبو جعفر ابن جرير الطبري وصرّح بهذه الحقيقة، فيما نقل عنه ياقوت الحموي حيث قال:

«فلمّا قدم- يعني الطبري- إلي بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها، تعصّب عليه أبو عبداللَّه ابن الجصّاص وجعفر بن عرفة والبياضي، وقصده الحنابلة، فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة، وعن حديث الجلوس علي العرش، فقال أبو جعفر: أمّا أحمد بن حنبل فلا يُعدّ خلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الإختلاف: فقال: ما رأيته روي عنه، ولا رأيت له أصحاباً يعوَّل عليهم. وأمّا حديث الجلوس علي العرش فمحال.

سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس» «1»

وكذا الخطيب البغدادي، فيما نقل عنه أبوالمؤيّد الخوارزمي، فإنّه بعد أنْ حكي عن أحمد «إنّه سئل عن النظر في كتب أبي حنيفة أيجوز؟ فقال: لا» جعل يردّ عليه بوجوه، فقال:

«الثالث: إنّ الخطيب قد طعن في أحمد أكثر من

هذا فقال: قدوثّق أحمد ابن حنبل حريز بن عثمان فقال: هو ثقة ثقة، وحريز كان يبغض أميرالمؤمنين عليّاً، ولا فرق بينه وبين من يبغض أبابكر وعمر. ثمّ قال الخطيب: وكان حريز كذّاباً فاسقاً، وروي عنه ابن عيّاش أنّه قال: هذا الذي يروي عن النبي صلّي اللَّه __________________________________________________

(1) معجم الادباء 5: 253.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 275

عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب: أنت منّي بمنزلة هارون من موسي خطأ. قال ابن عيّاش: قلت: فما هو؟ قال: سمعت الوليد بن عبدالملك يرويه علي المنبر فيقول: علي منّي بمنزلة قارون بن موسي. ثمّ أكّد الخطيب هذه الشناعة علي أحمد فقال: بلغني عن يزيد بن هارون أنّه قال: رأيت ربّ العزّة في النوم فقال: يا يزيد، تكتب عن حريز بن عثمان؟ فقلت: يا ربّ ما علمت عليه إلّا خيراً، فقال: لاتكتب عنه فإنّه يسبّ عليّاً. وهذه حكايته عن أحمد أنّه طعن في أميرالمؤمنين، وقصد الخطيب به تنفير القلوب عنه، فلذلك جاز أن يكون مقصوده في حكايته الطعن عليه في أبي حنيفة تنفير قلوب أصحابه عنه» «1».

وكذا أبو علي الكرابيسي، فقد ذكر السبكي بترجمته: «الحسين بن علي ابن يزيد، أبو علي الكرابيسي، كان إماماً جليلًا جامعاً بين الفقه والحديث، تفقّه أوّلًا علي مذهب أهل الرأي، ثمّ تفقّه للشافعي وسمع منه الحديث ومن يزيد بن هارون وإسحاق الأزرق ويعقوب بن إبراهيم وغيرهم …

قال الخطيب: حديث الكرابيسي يعزّ جدّاً، وذلك أنّ أحمد بن حنبل كان يتكلّم فيه بسبب مسألة اللفظ، وهو أيضاً يتكلّم في أحمد، فتجنّب الناس الأخذ عنه لهذا السبب.

قلت: كان أبو علي الكرابيسي من متكلّمي أهل السنّة، استاذاً في علم الكلام، كما هو استاذ في الحديث والفقه وله

كتاب المقالات. قال ابن الخطيب الإمام فخرالدين في كتاب غاية المرام: علي كتابه في المقالات معوّل المتكلّمين في معرفة الخوارج وسائر أهل الأهواء» «2».

__________________________________________________

(1) جامع مسانيد أبي حنيفة 1: 67- 68.

(2) طبقات الشافعية 2: 117- 118.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 277

الملحقات … ص: 277

اشارة

* مسائل فقهيّة

* القياس * الاستحسان * تكفير بعضهم لبعض استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 281

1) مسائل فقهيّة … ص: 281

اشارة

حاول البعض التشنيع علي الإماميّة لِما يروونه ويذهبون إليه في عدّةٍ من الأحكام الشرعيّة، ونحن نذكر تلك المسائل ونتكلَّم حولها علي ضوء روايات الفريقين:

حكم الشطرنج … ص: 281

فمن ذلك: أنه طعن في مذهب أهل البيت عليهم السلام و فقه الإماميّة، لذهابهم إلي حرمة الشّطرنج، وكأنّه يزعم أنّ جوازه من ضروريّات الإسلام!!

والحال أنّ الأحاديث المرويّة بطرق أهل السنّة في ذمّ الشطرنج، ولعن من لعب الشطرنج، كثيرة:

روي الشيخ علي المتقي في (كنز العمّال):

«ملعون من لعب الشطرنج، والناظر إليها كالآكل للحم الخنزير. عبدان وأبو موسي وابن حزم، عن حبة بن مسلم»

«ملعون من لعب بالشطرنج. الديلمي عن أنس»

«إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام والشطرنج والنرد وما كان من هذه، فلا تسلّموا عليهم، وإن سلّموا عليكم فلا تردّوا عليهم. الديلمي عن أبي هريرة»

«ألا إنّ أصحاب الشاه في النّار، الذين يقولون قتلت واللَّه شاهك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 282

الديلمي عن ابن عبّاس»

«إنّ للَّه تعالي في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة لا ينظر فيها إلي صاحب الشاه يعني الشطرنج. الديلمي عن واثلة»

«للَّه تبارك وتعالي لوح ينظر فيه في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة يرحم بها عباده ليس لأهل الشاه فيها نصيب. الخرائطي في مساوي الأخلاق، عن واثلة عن علي»

«النرد والشطرنج من الميسر. ش وابن المنذر وابن أبي حاتم ق»

«عن علي أنّه مرّ علي قوم يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، لأنْ يمسّ أحدكم جمراً حتّي يطفي ء خير له من أن يمسّها.

ش وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم ق»

«يأتي علي الناس زمان يلعبون بها، ولا يلعب بها إلّاكلّ جبّار، والجبّار في النّار. يعني الشطرنج، ولا يوقّر فيه الكبير ولا يرحم فيه الصغير، يقتل

بعضهم بعضاً علي الدنيا، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، يمشي الصالح فيهم مستخفياً، أولئك شرار خلق اللَّه، لا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة. الديلمي عن علي» «1»

فمن قال بجواز الشطرنج من أهل السنّة، فقد خالف الحكم الإلهي وعارض الأحاديث النبويّة المتفق عليها بين المسلمين …

وهل تظنّ أنّ للشافعي وأتباعه القائلين بجواز الشطرنج حجّة يتمسّكون بها أو دليلًا يتشبّثون به؟ لا واللَّه، بل لقد أفتوا بذلك بمحض الرأي والتخمين،

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 15: 215- 218/ 40636، 40644، 40652- 40657.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 283

تلاعباً بالدين وتخريباً لشريعة سيّد المرسلين …

ومن العجب أنّهم يروون عن عمر بن الخطّاب الذمّ الشديد لأصحاب الرأي، فياليتهم- إذ خالفوا أهل البيت النبوي- أطاعوا في هذه المسألة خليفتهم، ففي (إزالة الخفا) عن سعيد بن المسيّب قال:

«قام عمر بن الخطّاب في النّاس فقال: أيّها الناس، ألا إنّ أصحاب الرأي أعداء السنّة، أعيتهم الأحاديث أنْ يحفظوها وتفلّتت منهم أن يعوها، واستحيوا إذا سألهم الناس أنْ يقولوا لاندري، فعاندوا السنن برأيهم، فضلّوا وأضلّوا كثيراً …».

حكم العَبَث في الصَّلاة … ص: 283

وقالت الإماميّة بجواز العبث في الصلاة، وأنّ مسّ الذكر غير ناقض للوضوء وغير مبطلٍ لها، وبذلك أخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام «1».

وقد شنّع بعض المخالفين علي هذه الفتوي، وجَعَل يستهزأ بفقهاء الطائفة المحقّة ويطعن في كتبها وأخبارها ورواتها …

ولم يظهر لتشنيعهم وجه أصلًا، وذلك لأنّه:

إن كان المراد: كون لمس الذكر والعبث به في أثناء الصلاة فعلًا مخلّاً بها، فبطلان هذا التوهّم وفساده واضح جدّاً، علي أنّ القوم قالوا بعدم منافاة الأكثر من ذلك من الأفعال للصّلاة …

وإن كان المراد: منافاة هذا الفعل للخضوع والخشوع، فإنّ الخضوع والخشوع، ليس من الواجبات في

الصلاة، وقد نصَّ في (الأشباه والنظائر)

__________________________________________________

(1) وسائل الشيعة، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 284

علي أنّه «لا يستحبّ إعادتها- أي الصلاة- لترك الخشوع» «1» وقال شارحه الحموي: «إذ لا شكَّ في عدم بطلانها مع عدم الخشوع» «2».

وإن كان المراد: أنّ الطهارة تنتقض بمسّ الذكر، فتفسد الصلاة لذلك، فهذا مندفع: بأنّ المرويّ عندهم عن أميرالمؤمنين وجماعةٍ من الأصحاب، وهو قول إمامهم الأعظم وأتباعه وجماعة من الفقهاء: عدم انتقاض الوضوء بمسّ الذكر.

روي في (كنز العمال):

«عن قيس بن السكن: أنّ عليّاً وابن مسعود وحذيفة بن اليمان وأباهريرة، لا يرون من مسّ الذكر وضوء وقالوا: لا بأس به. (عب)

عن ابن عبّاس: أنّه كان لا يري في مسّ الذكر وضوء. (ص)

عن حذيفة قال: ما ابالي مسست ذكري أو طرف أنفي.

عن أبي الدرداء: أنّه سُئل عن مسّ الذكر، فقال: إنّما هو بضعة منك. (ص)

عن إبراهيم: أنّه سُئل عن مسّ الذكر، فقال: كان يكره أن يقال إنّ في المؤمن عضواً نجساً. (ص)

عن ابن مسعود: أنّه سئل عن مسّ الذكر، فقال: إنّما هو بضعة منك. (ص)

عن ابن مسعود: قال: ما ابالي أذكري أمسست أو اذني. (ص)

عن عليّ قال: ما ابالي أمسست ذكري أو طرف اذني. (ص)» «3».

وفي (مصنف ابن أبي شيبة) في من كان لا يري في مسّ الذكر وضوء:

__________________________________________________

(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 169.

(2) شرح الأشباه والنظائر للحموي 2: 35/ 48 كتاب الصّلاة، الفن الثاني، في الفوائد.

(3) كنز العمّال 9: 500- 508/ 27149، 27180، 27181، 27183، 27184، 27185، 27186.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 285

«ثنا وكيع عن سفيان عن أبي قبيس عن هذيل: أنّ أخاه ابن شرحبيل سأل ابن مسعود فقال: إنّي أحكّ

فأُفضي بيدي إلي فرجي. فقال ابن مسعود:

إن علمت أنّ منك بضعة نجسة فاقطعها.

ثنا وكيع عن إسماعيل عن قيس قال: سأل رجل سعداً عن مسّ الذكر، فقال: إن علمت أنّ منك بضعة نجسة فاقطعها.

ثنا ابن فضيل عن حسين عن سعد بن عبيدة عن أبي عبدالرحمان عن حذيفة بن اليمان أنّه قال: ما ابالي مسست ذكري أو اذني.

ثنا ابن فضيل عن الأعمش عن المنهال عن قيس بن سكن قال: قال عبداللَّه: ما ابالي مسست ذكري أو اذني أو إبهامي أو أنفي.

ثنا ابن الفضيل عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله» «1».

وفي (المصنّف) أيضاً:

«ثنا محمّد بن عدي عن حميد عن الحسن أنّ عمران بن حصين قال: ما ابالي إيّاه مسست أو بطن فخذي. يعني ذكره.

ثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه قال: سُئل عليّ عن الرجل يمسّ ذكره قال: لا بأس به» «2».

«ثنا ابن عليّة، عن أبي حمزة، عن إبراهيم قال: قال حذيفة: ما ابالي مسسته أو طرف أنفي.

__________________________________________________

(1) المصنّف لابن أبي شيبة 1: 164 من كان لا يري فيه وضوء.

(2) المصنّف لابن أبي شيبة 1: 164- 165.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 286

وقال عليّ: ما ابالي مسسته أم طرف اذني» «1».

«ثنا وكيع، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي امامة: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم سئل عن مسّ الذكر فقال: هل هو إلّاخدرة.

ثنا حسين بن علي، ثنا زائدة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن عبدالرحمن ابن علقمة، عن عبداللَّه: أنّه سئل عن مسّ الذكر فقال: لا بأس به» «2».

بل في (البحر الرائق):

«وفي شرح الآثار للطحاوي: لا نعلم أحداً من الصحابة أفتي بالوضوء من مسّ الذكر إلّاابن عمر، وقد خالفه في ذلك

أكثرهم، وأسند عن ابن عيينة أنّه عدّ جماعة لم يكونوا يعرفون الحديث- يعني حديث بسرة- ومن رأيناه يحدّث به عنهم سخرنا منه» «3».

وفي (كتاب الآثار) لمحمد بن حسن تلميذ أبي حنيفة:

«باب الوضوء من مسّ الذكر: محمّد قال: أخبرنا أبو حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم، عن عليّ بن أبي طالب في مسّ الذكر أنّه قال: ما ابالي أمسسته أو طرف أنفي.

قال محمّد: وهو قول أبي حنيفة وبه نأخذ.

محمّد قال: أخبرنا أبو حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم أنّ ابن مسعود سُئل عن الوضوء من مسّ الذكر فقال: إن كان نجساً فاقطعه. يعني إنّه لا بأس به» «4».

وقال ابن عبدالبرّ في (الإستذكار) لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمّنه __________________________________________________

(1) المصنّف لابن أبي شيبة 1: 165.

(2) المصنف لابن أبي شيبة 1: 165.

(3) البحر الرائق في شرح كنز الدقائق 1: 44.

(4) كتاب الآثار لمحمد بن حسن الشيباني 1: 35- 36/ 22- 23.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 287

الموطّأ من معاني الرأي والآثار:

«أمّا أهل العراق، فجمهور علمائهم علي أن لا وضوء في مسّ الذكر، وعلي ذلك مضي أسلافهم بالكوفة والبصرة، روي ذلك عن عليّ بن أبي طالب وعبداللَّه ابن مسعود وعمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وعبداللَّه بن عبّاس وأبي الدرداء وعمران بن الحصين، لم يختلف عن هؤلاء في ذلك، واختلف في ذلك عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقّاص، فروي عنهما القولان جميعاً، وبإسقاط الوضوء منه قال ربيعة بن أبي عبدالرحمن وسفيان الثوري وشريك والحسن بن حي وأبوحنيفة وأصحابه وعبداللَّه بن الحسن.

ذكر عبدالرزاق عن الثوري قال: دعاني وابن جريج بعض امرائهم فسألنا عن مسّ الذكر، فقال ابن جريج: يتوضّأ من مسّ الذكر. وقلت أنا: لا وضوء علي من مسّ ذكره، فلمّا

اختلفنا قلت لابن جريج: أرأيت لو أنّ رجلًا وضع يده في منيّ؟ قال: يغسل يده. قلت: فأيّما أنجس المني أم الذكر؟ قال:

المني. قلت: وكيف هذا؟ قال: ما ألقاها علي لسانك إلّاشيطان.

قال أبو عمرو: يقول الثوري: إذا لم يجب الوضوء من مسّ المنيّ فأحري أن لا يجب من مسّ الذكر، وإذا لم يجب من النجس فأحري أن لا يجب من الطاهر.

وإنّما ساغت المناظرة وجازت المعارضة عنده في هذه المسألة، لاختلاف الأثر فيها عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم واختلاف الصحابة رحمهم اللَّه ومن بعدهم في ذلك، ولو كان فيها أثر لا معارض له ولا مطعن له، لسلّم الجميع له وقالوا به، ومن ذهب مذهب العراقيّين في مسّ الذكر من أهل الحديث ضعّف الأحايث الواردة عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في إيجاب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 288

الوضوء منه، وعلّلها ولم يثبت شيئاً منها.

وقد حكي عن أبي زرعة عن ابن معين أنّه قال: أيّ إسناد رواية مالك في حديث بسرة، لولا أن قاتل طلحة في الطريق.

قال أبو عمرو: المسقط للوضوء من مسّ الذكر أحسن أسانيده: ما رواه مسدد وغيره، عن ملازم بن عمرو، عن عبداللَّه بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي قال:

قدمنا علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فجاء رجل كأنّه بدوي فقال:

يا رسول اللَّه! ما تري في مسّ الرجل ذكره بعد ما يتوضّأ؟ فقال: وهل هو إلّا بضعة منك.

ورواه أيّوب بن عتبة قاضي اليمامة، عن قيس بن طلق، عن أبيه عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم.

ورواه هشام بن حسان وشعبة والثوري وابن عيينة وجرير الرازي عن محمّد بن جابر اليماني عن قيس بن طلق عن أبيه مثله»

«1».

وإنْ كان المراد: أنّ العبث بالذكر يحرّك الشهوة ويسبّب الإنعاظ في الصلاة، فهو ممّا يضحك عليه الثكلان، إذ لا يدلّ علي هذا الزعم لفظٌ من ألفاظ الحديث، ومن ادّعي فعليه البيان، بل إنّ لفظ «العبث» يدلّ علي عدم وقوع الفعل لحصول غرضٍ مقصود، لأنّ العبث هو الفعل الذي لا لذّة فيه، كما نصّ عليه في (السراج الوهّاج) حيث قال:

«العبث هو كلّ لعبٍ لا لذّة فيه، فأمّا الذي فيه لذّة فهو لعب».

__________________________________________________

(1) الإستذكار الجامع لمذاهب علماء الأقطار 3: 37- 39/ 2580- 2591، كتاب الطهارة، باب الوضوء من مسّ الفرج.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 289

هذا، ولكن الأمر فوق ذلك، كما نصّ عليه النووي في (شرح مسلم) فإنّه قال:

«لو صار المني في وسط الذكر وهو في صلاة، فأمسك بيده علي ذكره فوق حائل، فلم يخرج المني حتّي سلّم من صلاته، صحّت صلاته، فإنّه ما زال متطهّراً حتّي خرج» «1».

وبعد هذا كلّه، فلو كان للتشنيع وجه، لتوجّه إلي أعاظم أئمّة القوم وأكابر شيوخهم وحفّاظهم، كعبدالرزاق وابن أبي شيبة ومحمّد بن الحسن الشيباني والدارقطني والنسائي وأبي داود والطحاوي وعلي بن المديني والفلاس وأحمد بن حنبل وابن حبان وسعيد بن منصور وابن مندة وأبي نعيم وابن الأثير والسيوطي والمتقي والقاري وزين الدين الحنفي وغيرهم …

وإلي كبار التابعين، كسعيد بن جبير وإبراهيم …

وإلي أجلّة الصحابة، كسعد وعمّار.

وإلي شخص رسول اللَّه … والعياذ باللَّه.

وذلك … لأنّ أكابر المحدّثين يروون بأسانيدهم عن التابعين عن الصحابة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم جواز مسّ الذكر في الصلاة:

فقد أخرج ابن أبي شيبة:

«ثنا ملازم بن عمرو، عن عبداللَّه بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي قال: خرجنا وفداً حتّي

قدمنا علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فبايعناه فصلّينا معه، فجاء رجل فقال: يا رسول اللَّه! ما تري في مسّ __________________________________________________

(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج 3: 220.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 290

الذكر في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلّابضعة- أو مضغة- منك» «1».

وأخرج أيضاً:

«ثنا ابن فضيل ووكيع، عن مسعر، عن عمير بن سعد: كنت جالساً في مجلس فيه عمّار بن ياسر، فسئل عن مسّ الذكر في الصلاة فقال: ما هو إلّا بضعة منك، وإنّ لكفّك موضعاً غيره» «2».

وأخرج:

«ثنا عبدالوهّاب الثقفي، عن عبداللَّه بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير قال: سألته عن مسّ الذكر في الصلاة، فقال: ما ابالي مسسته أو أنفي.

ثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: لا بأس أن يمسّ الرجل ذكره في الصلاة» «3».

وأخرج النسائي:

«أخبرنا هناد، عن ملازم بن عمرو قال: نا عبداللَّه بن بدر، عن قيس بن طلق بن علي عن أبيه قال: خرجنا وفداً حتّي قدمنا علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فبايعناه وصلّينا معه، فلمّا قضي الصلاة جاء رجل كأنّه بدوي فقال:

يا رسول اللَّه! ما تري في رجل مسّ ذكره في الصلاة؟ قال: وهل هو إلّامضغة منك- أو بضعة- منك» «4».

وأخرج الدارقطني:

__________________________________________________

(1) المصنّف لابن أبي شيبة 1: 165.

(2) المصدر 1: 164.

(3) المصنّف 1: 165.

(4) سنن النسائي 1: 101 باب ترك الوضوء من ذلك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 291

«حدّثنا عبداللَّه بن محمّد بن عبدالعزيز قال: نا محمّد بن زياد بن فروة البلدي أبو روح قال: نا ملازم بن عمرو قال: نا عبداللَّه بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي قال: خرجنا وفداً إلي نبيّ اللَّه صلّي

اللَّه عليه وسلّم حتّي قدمنا عليه فبايعناه وصلّينا معه، فجاء رجل كأنّه بدويّ قال: فقال: يا رسول اللَّه! ما تري في مسّ الرجل ذكره في الصلاة؟ فقال: وهل هي إلّابضعة منه أو بعضه. كذا قال أبو روح» «1».

وأخرج أحمد:

«حدّثنا بشر بن موسي، ثنا أبو زكريّا السلحيني، ثنا محمّد بن جابر، عن قيس بن طلق عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللَّه! إنّي أكون في الصلاة فأمسّ ذكري بيدي. فقال: إنّما هو بضعة منك.

حدّثنا إبراهيم بن علي، ثنا يحيي بن يحيي، أنا محمّد بن جابر، عن قيس ابن طلق عن أبيه قال: كنت قاعداً عند رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فسأله رجل فذكر مثله».

وأخرج:

«حدّثنا الحسين بن الكميت، ثنا معلي بن مهدي، أنا أيوب بن جابر، حدّثني أخي محمّد بن جابر، عن قيس بن طلق عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللَّه! الرجل يمسّ ذكره في الصلاة؟ قال: لا بأس به إنّما هو بضعة منك».

«حدّثنا موسي بن داود قال: ثنا محمّد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم فسأله رجل فقال:

مسست ذكري أو الرجل يمسّ ذكره في الصلاة عليه الوضوء؟ قال: لا، إنّما

__________________________________________________

(1) سنن الدارقطني 1: 149/ 17 كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 292

هو بضعة منك» «1».

«حدّثنا قران بن تمام، عن محمّد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: قال رجل: يا رسول اللَّه! أيتوضّأ أحدنا إذا مسّ ذكره في الصلاة؟ قال:

هل هو إلّامنك أو بضعة منك» «2».

وفي (اسد الغابة):

«جري الحنفي، روي حديثه حكيم بن سلمة فقال: عن رجل من بني حنيفة يقال له

جري أنّ رجلًا أتي النبي فقال: يا رسول اللَّه! إنّي ربّما أكون في الصلاة فيقع يدي علي فرجي، فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّما ربّما كان ذلك، إمض في صلاتك. أخرجه ابن مندة وأبو نعيم» «3».

وروي في (كنز العمال):

«مسند طلق بن علي: خرجنا وفداً حتّي قدمنا علي نبيّ اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فبايعناه فصلّينا معه، فجاء رجل فقال: يا رسول اللَّه! ما تري في مسّ الذكر في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلّابضعة منك. عب ش» أي رواه عبدالرزاق في الجامع وابن أبي شيبة في المصنّف.

وأيضاً فيه:

«وهل هو إلّابضعة منك. حب» أي رواه ابن حبّان في صحيحه.

«عن طلق: إنّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه! إنّ أحدنا يكون في صلاة، فيحتكّ فتصيب يده ذكره. قال: فذكره لا بأس به إنّه كبعض جسدك. حب» أي __________________________________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 4: 600/ 15857.

(2) مسند أحمد بن حنبل 4: 601/ 15860.

(3) اسد الغابة في معرفة الصحابة 1: 334/ 732.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 293

رواه ابن حبان في صحيحه عن طلق.

«لا بأس، إنّما هو جذبة منك. عبدالرزاق عن أبي امامة»

«إنّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه، مسست ذكري وأنا اصلّي؟ قال:

فذكره» «1».

وفي (كنز العمال) أيضاً:

«مسند علي بن قيس بن أبي حازم قال: قال رجل لسعد: إنّه مسّ ذكره وهو في الصلاة. قال: إنّما هو بضعة منك. ص ش» «2» أي رواه سعيد بن منصور في سننه وابن أبي شيبة في المصنّف.

إزاحة وهم … ص: 293

هذا، ولا يتوهمنَّ أحد عدم صحّة هذا الحديث، فقد أخرجه ابن حبّان في (صحيحه) وقد ذكر الحافظ السيوطي في أوائل كتابه (جمع الجوامع):

«ورمزت للبخاري خ ولمسلم م ولابن حبّان حب وللحاكم في المستدرك ك وللضياء المقدسي

في المختارة ض. وجميع ما في هذه الكتب الخمسة صحيح، فالعزو إليها معلَّم بالصحّة، سوي ما في المستدرك من المتعقّب فانبّه عليه» «3».

وأيضاً، فهو من أحاديث (مسند أحمد) الذي يعدّونه أصلًا من اصول الإسلام، وقد أخرجه فيه بعدّة طرق كلّها صحيح علي اصولهم يقيناً.

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 9: 507/ 27182 و 9: 339/ 26331 و 9: 482/ 26333.

(2) كنز العمّال 9: 507/ 27178.

(3) جمع الجوامع- مقدّمة الكتاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 294

وأيضاً، فقد أخرجه الترمذي باختصار في (صحيحه) وصرّح بأنّه أحسن شي ء يروي في هذا الباب، وهذه عبارته:

«باب ترك الوضوء من مسّ الذكر:

حدّثنا هنّاد، نا ملازم بن عمرو، عن عبداللَّه بن بدر، عن قيس بن طلق ابن علي الحنفي عن أبيه عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: وهل هو إلّا مضغة منه أو بضعة.

وفي الباب عن أبي أمامة.

قال أبو عيسي: وقد روي من غير واحدٍ من أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وبعض التابعين أنّهم لم يرو الوضوء من مسّ الذكر، وهو قول أهل الكوفة وابن المبارك. وهذا الحديث أحسن شي ء روي في هذا الباب.

وقد روي هذا الحديث أيّوب بن عتبة ومحمّد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه. وقد تكلّم بعض أهل الحديث في محمّد بن جابر وأيّوب بن عتبة، وحديث ملازم بن عمرو عن عبداللَّه بن بدر أصح وأحسن» «1».

ولا يتوهمنَّ أحد كذلك: أنّ الحديث غير معمول به، لأنّ كلّ حديث صحيح فهو- باعتراف النووي في (شرح مسلم) وابن حجر العسقلاني في (شرح النخبة)- واجب العمل بالإجماع «2».

علي أنّ الظاهر من (الصواقع) و (التحفة) هو التشنيع علي الإماميّة بمجرَّد روايتهم الخبر في جواز المسّ ونسبتهم ذلك إلي أئمّة أهل البيت

عليهم السلام … فيندفع ذلك: بأنّ القوم أنفسهم يروون ذلك في امّهات كتبهم __________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 1: 131/ 85، كتاب الطهارة باب 62.

(2) شرح نخبة الفكر: 47، خبر الواحد في الإصطلاح.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 295

ويصحّحونه، سواء عملوا به أو لا.

علي أنّ هذا الحديث معمول به ومفتي به عندهم يقيناً، كما لا يخفي علي من راجع كتب الحنفيّة في الفقه والاصول.. وهذا نصّ كلام زين الدين الحنفي المصري في كتاب (البحر الرائق):

«قوله: ومسّ ذكر بالرفع عطف علي المنفي، أي لا ينقض الوضوء مسّ الذّكر، وكذا مسّ الدبر والفرج مطلقاً، خلافاً للشافعي، فإنّ المسّ لواحد من الثلاثة ناقض للوضوء إذا كان بباطن الأصابع.

واستدلّ النووي له في شرح المهذّب بما روت بسرة بنت صفوان أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إذا مسّ أحدكم ذكره فليتوضّأ. وهذا حديث حسن، رواه مالك في الموطّأ وأبو داود والترمذي وابن ماجة بأسانيد صحيحة.

ولنا: ما رواه الجماعة، أصحاب السنن- إلّاابن ماجة- عن ملازم بن عمرو عن عبداللَّه بن بدر عن قيس بن طلق بن علي عن أبيه عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: أنّه سُئل عن الرجل يمسّ ذكره في الصلاة، فقال: هل هو إلّا بضعة منك.

وقد رواه ابن حبّان في صحيحه.

قال الترمذي: هذا الحديث أحسن شي ء يروي في هذا الباب وأصحّ.

ورواه الطحاوي أيضاً وقال: هذا حديث مستقيم الإسناد غير مضطرب في إسناده ومتنه.

فهذا حديث صحيح معارض لحديث بسرة بنت صفوان.

ويرجّح حديث طلق علي حديث بسرة بأنّ حديث الرجال أقوي، لأنّهم أحفظ للعلم وأضبط، ولهذا جعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل، وقد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 296

أسند الطحاوي إلي ابن المديني أنّه قال: حديث ملازم بن عمرو أحسن

من حديث بسرة، وعن عمرو بن علي الفلاس أنّه قال: حديث طلق عندنا أثبت من حديث بسرة بنت صفوان.

وقول النووي في شرح المهذّب: أنّ حديث طلق اتّفق الحفّاظ علي ضعفه، لا يخفي ما فيه، إذ قد علمت ما قاله الترمذي وغيره أنّ حديث بسرة ضعّفه جماعة حتّي قال يحيي بن معين: ثلاثة أحاديث لم تصحّ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم منها حديث مسّ الذكر.

وقول النووي أيضاً- ترجيحاً لحديث بسرة- بأنّ حديث طلق منسوخ، لأنّ قدومه علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم كان في السنة الاولي من الهجرة ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يبني مسجده، وراوي حديث بسرة أبوهريرة، وإنّما قدم أبو هريرة علي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم سنة سبع من الهجرة، فغير لازم، لأنّ ورود طلق إذ ذاك ثمّ رجوعه لا ينفي عوده بعد ذلك، وهم قد رووا عنه حديثاً ضعيفاً: من مسّ ذكره فليتوضّأ وقالوا: سمع من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم الناسخ والمنسوخ، ولأنّ حديث طلق غير قابل للنسخ، لأنّه صدر علي سبيل التعليل، فإنّه عليه الصلاة والسلام ذكر أنّ الذكر قطعة لحم فلا تأثير لمسّه في الانتفاض، وهذا المعني لا يقبل النسخ، كذا في معراج الدراية.

وقول النووي أيضاً: إنّ حديث طلق محمول علي المسّ فوق حائل لأنّه قال: سألت عن مسّ الذكر في الصلاة، والظاهر أنّ الإنسان لا يمسّ ذكره في الصلاة بلا حائل، مردود، بأنّ تعليله صلّي اللَّه عليه وسلّم بقوله هل هو إلّا بضعة منك يأبي الحمل، والبضعة بفتح الموحّدة القطعة من اللّحم» «1».

__________________________________________________

(1) البحر الرائق في شرح كنز الدقائق 1: 43- 44.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 297

وفي (كشف الأسرار):

«وعن يحيي بن معين أنّه

قال: ثلاثةمن الأخبار لا تصحّ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: خبر مسّ الذكر، ووقعت هذه المسألة في زمن عبدالملك بن مروان فشاور الصحابة، فأجمع من بقي منهم علي أنّه لا وضوء فيه وقالوا: ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت؟

يعنون بسرة بنت صفوان.

ومعني قولهم كتاب ربّنا: إنّ اللَّه تعالي بيّن الأحداث وما كانت نجسة من دم حيض وغايط ومني، وشرّع الاستنجاء بالماء بقوله «فيه رجالٌ يحبّون أن يتطهّروا» والإستنجاء بالماء لا يتصوّر إلّابمسّ الفرجين، فلمّا ثبت بالنص أنّه من التطهير لم يجز أنْ يجعل حدثاً بمثل هذا الخبر.

وأمّا السنّة: فما روي عن قيس بن طلق عن أبيه أنّه قال: قلت: يا رسول اللَّه! أفي مسّ الذكر وضوء؟ فقال: لا.

وروت عائشة رضي اللَّه عنها أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سئل عن مسّ الذكر، فقال: ما ابالي مسسته أم مسست أنفي.

فنبّه علي العلّة وهو أنّه عضو طاهر.

وعن أبي أيّوب الأنصاري رضي اللَّه عنه: سألت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقلت: مسست ذكري وأنا في الصلاة، فقال: لا بأس به» «1».

وقال الشيخ علي القاري في (شرح الوقاية):

«ولنا: ما رواه الجماعة- إلّاابن ماجة- عن قيس بن طلق عن أبيه عن __________________________________________________

(1) كشف الأسرار في شرح اصول البزدوي 2: 569- 570. باب تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجةً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 298

النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: أنّه سئل عن الرجل يمسّ ذكره في الصلاة، فقال:

هل هو إلّابضعة منك. قال الترمذي: هذا الحديث أحسن شي ء يروي في الباب، واجيب: بأنّ المراد به المسّ بحائل، ورُدَّ: بأنّ تعليله عليه الصلاة والسلام يأبي ذلك، والبضعة بفتح الموحّدة القطعة من اللحم».

وقال

عبدالعلي الأنصاري في (فواتح الرحموت) بشرح «خبر الواحد فيما يتكرّر ويعمّ البلوي كخبر ابن مسعود في مسّ الذكر لا يثبت الوجوب …»

قال:

«خبر الواحد فيما يتكرّر وقوعه ويعمّ البلوي، كخبر ابن مسعود في مسّ الذكر أنّه ينقض الوضوء رواه مالك وأحمد، ورواه بسرة أيضاً بلفظ: إذا مسّ أحدهم ذكره فليتوضّأ، ورواه أبو هريرة أيضاً بلفظ: إذا أفضي أحدكم بيده إلي ذكره ليس بينه وبينها حجاب فليتوضّأ، رواه الشافعي والدارقطني، وممّن يري من الصحابة الإنتقاض بالمسّ: عبداللَّه بن عمر وأبو أيّوب الأنصاري وزيد بن خالد وأبوهريرة وأميرالمؤمنين عمر، علي ما هو المشهور، فعلي هذا في كونه من الباب نظر.

فإنْ قلت: فما يصنع الحنفيّة في حكمهم بعدم الإنتقاض؟

قلت: إنّ الرواية عن أبي هريرة لم تصحّ، فإنّ في سنده يزيد بن عبدالملك، وهو مضعف. كذا في فتح القدير.

ولم يصحّ الرواية عن ابن مسعود كما قال الشيخ عبدالحق.

وأمّا حديث بسرة- مع كونه مضعفاً أيضاً عند بعض أهل الحديث- ففي سنده عن عروة عن بسرة، ولم يلاق عروة بسرة، فهو منقطع، فلا يعارض ما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والترمذي- وقال أحسن شي ء يروي في استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 299

هذا الباب- عن طلق عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وأصحابه وسلّم: أنّه سئل عن الرجل يمسّ ذكره في الصلاة فقال: هل هو إلّاقطعة منك.

وقد تأيّد قولنا بعدم الإنتقاض بما ثبت عن أميرالمؤمنين علي وعمّار وابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمران بن الحصين وأبي الدرداء وسعد بن أبي وقّاص، فإنّهم لا يرون النقض منه. كذا في فتح القدير» «1».

فإنْ لم يكف ما نقلناه عن هؤلاء الأعلام في الفقه والاصول من الحنفيّة، ذكرنا كلام إمامهم محمّد بن الحسن الشيباني

في كتابه (الموطّأ) بشرح الشيخ علي القاري، وهذا نصّه:

«باب الوضوء من مسّ الذكر، أي باب ما ورد في إثباته ونفيه:

أخبرنا مالك، حدّثنا إسماعيل بن محمّد بن سعد بن أبي وقّاص، عن مصعب بن سعد، زاد يحيي بن وقّاص ومصعب هذا سمع أباه وعليّاً وابن عمر، وروي عنه سماك بن حرب وغيره قال: كنت أمسك المصحف (أي آخذه) علي سعد (أي لأجل قرائته غيباً أو نظراً، وهو ابن وقّاص) فاحتككت (أي ماتحت إزاري) فقال: لعلّك مسست (بكسر السين الاولي وتفتح أي لمست) بكفّ يدك ذكرك (أي من غير حائل)؟ فقلت: نعم، فقال: قم فتوضّأ.

قال: فقمت فتوضّأت ثمّ رجعت.

وفيه: أنّه يحتمل أن يراد به الوضوء اللغوي وهو غسل اليد، دفعاً لشبهة ملاقاة النجاسة.

أخبرنا مالك، أخبرني (أي وحدي) ابن شهاب (أي الزهري) عن سالم ابن عبداللَّه (هو القرشي العدوي المدني أحد فقهاء المدينة، من سادات __________________________________________________

(1) فواتح الرحموت- شرح مسلّم الثبوت- ط مع المستصفي 2: 128.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 300

التابعين وعلمائهم وثقاتهم، مات بالمدينة سنة ست ومائة) عن أبيه (أي عبداللَّه ابن عمر ابن الخطّاب، شهد الخندق وما بعدها من المشاهد، وكان من أهل العلم والورع والزهد. قال جابر بن عبداللَّه: ما منّا أحد إلّامالت به الدنيا ومال بها إلّاعمر وابنه عبداللَّه. وقال نافع: ما مات ابن عمر حتّي أعتق ألف إنسان أو زاد) روي عنه خلق كثير أنّه كان يغتسل ثمّ يتوضّأ، فقال له (أي قال سالم ابنه): أما يجزيك الغسل (أي ما يكفيك) لاسيّما مع سبق الوضوء الذي هو السنّة من الوضوء (أي الكائن بعد الغسل) فإنّ الجزء يندرج في الكل؟ قال:

بلي (أي يجزي) ولكنّي أحياناً أمسّ ذكري ونحوه، فإنّه إذا غسله حال

الإستنجاء يجوز به الإكتفاء) فأتوضّأ (أي لذلك المسّ).

قال محمّد: لا وضوء (أي لازم) في مسّ الذكر (أي علي أيّ وجه كان) وهو قول أبي حنيفة رحمه اللَّه (أي خلافاً للشافعي فإنّه يقول: ينتقض بالمسّ بباطن كفّه دون ظاهره من غير حائل سواء كان بشهوة أم بغيرها) وهو المشهور (عن أحمد) والراجح (من مذهب مالك إن مسّه بشهوة انتقض وإلّا فلا، وأقوي أدلّتهم) ما رواه مالك (وأخذه الأربعة) والحاكم عن بسرة بنت صفوان مرفوعاً: من مسّ ذكره فيتوضّأ. وفي ذلك (أي في دفعه) آثار كثيرة (أي أخبار شهيرة) مرفوعة وموقوفة وبها نأخذ لقوّتها وكثرتها فإنّها بلغت ستّة عشر حديثاً:

منها: قال محمّد: أخبرنا أيّوب بن عتبة التميمي قاضي اليمامة (وهو عزيز الحجاز) عن قيس بن طلق (وهو طلق بن علي يكني أباعلي الحنفي اليماني ويقال له طلق بن تمامة) روي عنه ابنه قيس أنّ أباه (وهو من الصحابة) حدّثه أنّ رجلًا سأل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن رجل مسّ ذكره استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 301

أيتوضّأ؟ قال (أي له): هل هو (أي ذكرك) إلّابضعة (بفتح الموحّدة أي قطعة) من جسدك (أي فحكمه حكم سائر الأعضاء حيث لم ينتقض الوضوء شي ء من الأجزاء).

قال محمّد: أخبرنا طلحة بن عمر والمكّي، أخبرنا عطاء بن رباح (بفتح الراء فموحّدة، من أجلّ الفقهاء تابعي مكّي. قال الأوزاعي: مات يوم مات وهو أرضي أهل الأرض عند النّاس. وقال أحمد بن حنبل: العلم خزائن يقسمه اللَّه لمن أحبّ لو كان يخصّ بالعلم أحداً لكان بنسب النبي صلّي اللَّه عليه وسأله وسلّم أولي كان عطاء حبشيّاً، إنتهي. وكان جعد الشعر أسود أفطس أشل أعور ثمّ عمي، مات سنة عشرة ومائة وله

ثمان وثمانون سنة.

سمع ابن عبّاس وأباهريرة وغيرهما من الصحابة وروي عنه جماعة) عن ابن عبّاس قال في مسّ الذكر إن كانت (خطاب عام) في الصلاة (والجملة حالية والمعني) قال (في جواب هذا السؤال وأعاد قال لطول المقال) ما ابالي مسسته (في نسخة أمسسته أي ذكري) أو مسست أنفي (حيث لا تفاوت بينهما لا في الصلاة ولا في غيرها).

قال محمّد: أخبرنا إبراهيم بن محمّد المدني (وفي نسخة: محمّد بن المدني وهو بفتحتين منسوب إلي المدينة السكينة) أخبرنا صالح مولي التوئمة (بفتح فسكون فهمزة) عن ابن عبّاس قال: قال: ليس في مسّ الذكر وضوء واجب أو نقض وضوء.

قال: أخبرنا إبراهيم بن محمّد المدني، أخبرنا الحارث بن أبي ذباب (بضمّ الذال المعجمة وبالموحّدتين) أنّه سمع سعيد بن المسيّب (بفتح الياء أشهر من كسرها، وهو من سادات التابعين، جمع بين الفقه والحديث والزهد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 302

والورع والعبادة) يقول: ليس في مسّ الذكر وضوء.

قال: أخبرنا أبوالعوّام (بتشديد الواو) البصري (بكسر الباء أفصح من فتحها في النسخة عكس العلم) قال: سأل رجل عطاء بن أبي رباح قال:

يابامحمّد! (لا تكتب الهمزة وتقرأ، هذه كنية لعطاء بن أبي رباح) رجل مسّ فرجه (أي ذكره) أو دبره بعد ما توضّأ (وكذا إذا اغتسل)؟ قال رجل من القوم (أي قبل جواب عطاء): إنّ ابن عبّاس كان يقول: إن كنت تستنجسه (أي تعتقد نجاسة ذاته) فاقطعه فإنّه لا يجوز لك الصلاة مع وجوده. قال عطاء بن رباح:

هذا واللَّه قول ابن عبّاس (أي بلا شكّ ولا شبهة فهذا من باب المطابقة في الجواب إذا كان علي وجه الصواب).

قال محمّد: أخبرنا أبو حنيفة رحمه اللَّه عن حمّاد (أي ابن أبي سليمان، كوفيّ يعدّ من

التابعين، سمع جماعة من الصحابة، روي عنه شعبة والثوري وغيرهما، وكان أعلم الناس برأي إبراهيم النخعي، مات سنة عشرين ومائة) عن إبراهيم النخعي (بفتح النون والخاء المعجمة وهو من أجلّاء التابعين) عن علي بن أبي طالب في مسّ الذكر قال: ما ابالي مسسته أو طرف أنفي (أي حيث هما عضوان طاهران وفي حقّ المسّ مستويان).

قال محمّد: أخبرنا أبو حنيفة رحمه اللَّه عن حمّاد عن إبراهيم أنّ ابن مسعود سُئل عن الوضوء (أي عن تجديده) من مسّ الذكر (أي ذكره)؟ فقال:

إن كان (أي ذكرك) في زعمك نجساً (بفتح الجيم هو المشهور عند الفقهاء ويراد عين النجاسة بخلاف كسرها فإنّه المتنجّس عندهم وهما مصدران في أصل اللّغة) فاقطعه (أي لا تترك له وجوداً).

قال محمّد: أخبرنا مِحِلّ (بكسر الميم والحاء المهملة كسحل اسم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 303

جماعة من المحدّثين) الضبّي (بتشديد الموحّدة) عن إبراهيم النخعي في مسّ الذكر في الصلاة هل يبطلها بسبب نقض الوضوء منه؟ قال: إنّما هو بضعةمنك (أي قطعة منك كسائر أعضائك).

قال محمّد: أخبرنا سلّام (بتشديد اللّام) بن سليم (بالتصغير) الحنفي (منسوب إلي أبي حنيفة رحمه اللَّه بحذف الزوائد كالفرضي) عن منصور بن المعتمر (بكسر الميم الثانية) عن أبي قيس عن أرقم بن شرحبيل (بضمّ ففتح فسكون فكسر موحّدة فسكون تحتيّة) قال: قلت لعبداللَّه بن مسعود: إنّي أحكّ جسدي (أي أحياناً) وأنا في الصلاة فأمسّ (بفتح الميم أي فألمس) ذكري (أي بعذر بي) فهل ينقض وضوئي؟ فقال: إنّما هو بضعة منك (أي كما سبق في الحديث مرفوعاً).

قال محمّد: أخبرنا سلّام بن سليم عن المنصور بن المعتمر عن السدوسي (بفتح فضمّ، نسبة إلي سدوس بن شيبان، وبضمّتين إلي سدوس بن أصبع بن

أبي عبيد بن ربيعة بن نضر بن سعد بن نبهان الطائي، وليس في العرب سدوس بالضم غيره، ذكره السيوطي) عن البراء بن قيس قال: سألت حذيفة بن اليمان (بكسر النون من غير ياء في آخره، وهو صاحب سرّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، روي عنه عمر و علي رضي اللَّه عنه وغيرهما من الصحابة والتابعين، مات بالمدائن وبها قبره، سنة خمس وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة) عن الرجل مسّ الذكر؟ فقال: إنّما هو (أي مسّه ذكره) كمسّه رأسه.

قال محمّد: أخبرنا مِسْعَرْ (بكسر الميم وفتح العين) بن كدام (بكسر الكاف) عن عمير بن سعد النخعي قال: كنت في مجلس (أي في أهل استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 304

مجلس) فيه عمّار بن ياسر (وهو عنسي مولي بني مخزوم، وكان من المهاجرين الأوّلين وشهد المشاهد كلّها، قُتل بصفّين وكان مع عليّ سنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، روي عنه جماعة منهم علي رضي اللَّه عنه) فذُكر (بصيغة المجهول أي فذكر بعض أهل ذلك المجلس) مسّ الذكر (أي هل ينقض الوضوء أم لا) فقال (أي للسائل): إنّما هو بضعة منك وإنّ لكفّك لموضعاً غيره. دلّ علي أنّ الإحتياط في عدم مسّه.

قال محمّد: أخبرنا مِسعر بن كدام، عن إياد (بكسر الهمزة) ابن لقيط (بفتح فكسر) عن البراء بن قيس قال: قال حذيفة بن اليمان في مسّ الذكر مثل أنفك. فعنه روايتان في الحكم يتفقان.

قال محمّد: أخبرنا مِسعر بن كدام حدّثنا قابوس عن أبي ظبيان (بفتح الظاء المعجمة) عن عليّ بن أبي طالب قال: ما ابالي إيّاه (أي الذكر) مسست أو أنفي أو اذني.

قال محمّد: أخبرنا أبو كدينة (بضمّ الكاف وفتح الدال المهملة) يحيي ابن

المهلّب (بتشديد اللام المفتوحة) عن أبي إسحاق الشيباني عن أبي قبيس ابن عبدالرحمن بن ثروان (بفتح المثلّثة وسكون الراء) عن علقمة (وهو ابن أبي علقمة بلال مولي عائشة امّ المؤمنين، روي عن أنس بن مالك وعن امّه وعنه مالك بن أنس وغيره) عن قيس قال: جاء رجل إلي عبداللَّه بن مسعود قال: إنّي مسست ذكري وأنا في الصلاة. قال عبداللَّه: أفلا قطعته إن كنت تزعم أنّه نجس العين فإنّ وجوده مانع لصحّة الصلاة. ثمّ قال (أي عبداللَّه): وهل ذكرك إلّاكسائر جسدك (أي عضو من أعضائك فلا تتفاوت في مسّ أجزائك).

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 305

قال محمّد: أخبرنا يحيي بن المهلّب، عن إسماعيل بن خالد، عن قيس ابن أبي حازم قال: جاء رجل إلي سعد بن أبي وقّاص (أحد العشرة المبشّرة) قال: أيحلّ لي أن أمسّ ذكري وأنا في الصلاة؟ فقال: إن علمت أنّ منك (أي من جملة أعضائك) بضعة نجسة فاقطعها.

قال: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدّثني جرير بن عثمان، عن حبيب ابن عبيد، عن أبي الدرداء (أي أحد أكابر الصحابة وزهّادهم) أنّه سُئل عن مسّ الذكر فقال: إنّما هو بضعة منك» «1».

ولا يتوهمنَّ أحد الفرق بين «العبث بالذكر في الصّلاة» الوارد في أخبار القوم و «مسّ الذكر في الصلاة» الوارد في (الإستبصار) من كتبنا، فإنّ «العبث» هو اللعب والعمل بلا فائدة، كما في (المصباح المنير) وغيره من كتب اللغة …

بل ليس مراد السائل من «المسّ» إلّا «العبث» وممّا يشهد بذلك الخبر التالي في (تهذيب الأحكام) من كتب أصحابنا الإماميّة:

«محمّد بن علي بن محبوب، عن العباس بن معروف، عن عبداللَّه بن مغيرة قال: حدّثني أبوالقاسم معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

قلت

له: الرجل يعبث بذكره في الصلاة المكتوبة. قال: وما له فعل؟ قلت:

عبث به حتّي مسّ بيده. قال: لا بأس» «2».

__________________________________________________

(1) شرح موطأ محمّد بن الحسن الشيباني للشيخ علي القاري- باب الوضوء من مسّ الذكر.

(2) تهذيب الأحكام للشيخ أبي جعفر الطوسي 2: 333/ 1373، كتاب الصلاة، باب كيفيّة الصلاة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 306

حكم الرجل يضمّ الجارية إليه في الصلاة … ص: 306

وشُنّع بعضهم علي الإماميّة روايتهم عدم البأس بأنْ يضمّ الرجل الجارية إليه في الصلاة، وذكر الخبر التالي:

«في الوافي، نقلًا من الاصول، عن مسمع، قال: سألت أباالحسن عليه السلام فقلت: أكون اصلّي فتمرّ بي الجارية، فربّما ضممتها إليَّ. قال: لا بأس …» «1».

أقول:

وهذا التشنيع أيضاً في غير محلّه، وإنّما نشأ من الغلط في فهم الرّواية، لأنّه قد ظنّ أنّ «الجارية» هي المرأة أو خصوص «الأمة» الكبيرة، وأنّ «الضمّ» المذكور في الرواية بمعني «المعانقة والتقبيل» وغير ذلك ممّا يفعله الرجل مع حليلته … وليس المقصود ذلك قطعاً …

أمّا «الجارية» ففي (الصحاح) و (مجمع البحار) وغيرهما من كتب اللغة:

«الصبيّة ومن لم تبلغ الحلم من النساء» «2».

وأمّا «ضمّ الجارية» فالمراد منه حملها في أثناء الصّلاة، وبذلك باب في كتاب البخاري، حيث قال: «باب إذا حمل جارية صغيرة علي عنقه في الصلاة» فأخرج فيه الحديث أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول اللَّه … «3».

__________________________________________________

(1) الوافي للشيخ محمّد محسن الكاشاني 8: 892/ 7329- 6، كتاب الصلاة، باب الضحك والعبث.

(2) صحاح اللغة 6: 2398 مادّة صبا.

(3) صحيح البخاري 1: 137/ باب 106: إذا حمل جارية صغيرة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 307

وأخرجه مسلم في كتابه كذلك «1».

وكذا تجد هذا الحديث وما بمعناه في

سائر الكتب، كمسند أحمد، وموطّأ مالك، وفي السنن لأبي داود والنسائي، وفي المصابيح والمشكاة وغيرها … وقد رواه صاحب (جامع الاصول) عن أكثرها حيث قال:

«أبو قتادة: إنّ رسول اللَّه كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.

وفي رواية: رأيت النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص علي عاتقه، فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها. أخرجه البخاري ومسلم.

وأخرج الموطّأ وأبو داود والنسائي الاولي.

وفي اخري لأبي داود ومسلم: بينا نحن جلوس في المسجد إذ خرج علينا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يحمل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وامّها زينب بنت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم- وهي صبيّة- علي عنقه، فصلّي رسول اللَّه وهي علي عاتقه، يضعها إذا ركع ويعيدها إذا قام حتّي قضي صلاته، يفعل ذلك بها.

وفي اخري له قال: بينا نحن ننتظر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في الظهر والعصر وقد دعاه بلال إلي الصلاة، إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت بنته علي عنقه، فقام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في مصلّاه وقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه. قال: فكبّر فكبّرنا، حتّي إذا أراد رسول __________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 385/ 543، كتاب المساجد، الباب 9.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 308

اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أن يركع أخذها فوضعها، ثمّ ركع وسجد حتّي إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردّها في مكانها، فما زال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يصنع بها ذلك في كلّ ركعة حتّي فرغ من صلاته.

وأخرج النسائي

أيضاً الرواية التي لأبي داود قبل هذه» «1».

وقد أجاب الحفّاظ عن التوهّمات التي تعترض هذا الحديث والحكم به:

قال النووي بشرحه: «قوله: رأيت النبي …

هذا يدلّ لمذهب الشافعي ومن وافقه أنّه يجوز حمل الصبي والصبيّة وغيرهما من الحيوان الطاهر في صلاة الفرض وصلاة النفل، ويجوز ذلك للإمام والمأموم والمنفرد.

وحمله أصحاب مالك علي النافلة ومنعوا جواز ذلك في الفريضة.

وهذا التأويل فاسد؛ لأنّ قوله يؤمّ النّاس صريح أو كالصريح في أنّه كان في الفريضة.

وادّعي بعض المالكيّة أنّه منسوخ وبعضهم أنّه خاصّ بالنبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، وبعضهم أنّه كان لضرورة.

وكلّ هذه الدعاوي باطلة مردودة، فإنّه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع؛ لأنّ الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسة معفوّ عنه لكونه في معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم علي الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة علي هذا، والأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلّت أو تفرّقت، وفعل النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم هذا بياناً للجواز وتنبيهاً به علي هذه القواعد التي ذكرها.

__________________________________________________

(1) جامع الاصول 5: 524- 525/ 3749، الفرع الثامن.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 309

وهذا يرد ما ادّعاه الإمام أبو سليمان الخطابي أنّ هذا الفعل يشبه أن يكون كان بغير تعمد لحملها في الصلاة، لكنّها كانت تتعلق به صلّي اللَّه عليه وسلّم فلم يدفعها، وإذا قام بقيت معه. قال: ولا يتوهّم أنّه حملها أو وضعها مرّة بعد اخري عمداً، لأنّه عمل كثير وشغل القلب وإذا كان علم الخميصة شغله فكيف لا يشغله، هذا كلام الخطابي.

وهو باطل ودعوي مجرّدة، وممّا يردّه قوله في صحيح مسلم: فإذا قام حملها. وقوله: فإذا رفع من السجود أعادها. وقوله في رواية

غير مسلم: خرج علينا حاملًا أمامة فصلّي، وذكر الحديث.

وأمّا قضيّة الخميصة، فلأنّها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا يسلّم أنّه يشغل القلب، وإن شغله فتترتّب عليه فوائد وبيان قواعد ممّا ذكرنا وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة.

فالصواب الذي لا معدل عنه: أنّ الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه علي هذه القواعد فهو جائز لنا وشرع مستمر للمسلمين إلي يوم الدين، واللَّه أعلم» «1».

وابن حجر العسقلاني اقتفي أثر النووي، فقال في (فتح الباري):

«قوله: فإذا سجد وضعها كذا لمالك أيضاً، ورواه مسلم من طريق عثمان ابن أبي سليمان ومحمّد بن عجلان، والنسائي من طريق الزبيدي، وأحمد من طريق ابن جريج، وابن حبّان من طريق أبي العميس، كلّهم عن عامر بن عبداللَّه شيخ مالك فقالوا: إذا ركع وضعها، ولأبي داود من طريق المقبري عن عمرو بن سليم: حتّي إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثمّ ركع وسجد حتّي إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردّها في مكانها.

__________________________________________________

(1) شرح صحيح مسلم 5: 32- 33، كتاب المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 310

وهذا صريح في أنّ فعل الحمل والوضع كان منه لا منها.

بخلاف ما أوّله الخطابي حيث قال: يشبه أن تكون الصبية كانت قد أَلِفَتْه فإذا سجد تعلّقت بأطرافه والتزمته فينهض من سجوده فتبقي محمولة كذلك إلي أن يركع فيرسلها. قال: هذا وجهه عندي.

وقال ابن دقيق العيد: من المعلوم أنّ لفظ حمل لا يساوي لفظ وضع في اقتضاء فعل الفاعل، لأنّا نقول فلان حمل كذا ولو كان غيره حمله بخلاف وضع، فعلي هذا فالفعل الصادر منه هو الوضع لا الرفع فيقلّ العمل. قال: وقد كنت أحسب هذا حسناً، إلي أن رأيت

في بعض طرقه الصحيحة: فإذا أقام أعادها.

قلت: وهي رواية لمسلم، ورواية أبي داود التي قدّمناها أصرح في ذلك وهي: ثمّ أخذها فرّدها في مكانها. ولأحمد من طريق ابن جريج: وإذا قام حملها فوضعها علي رقبته.

قال القرطبي: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، والذي أحوجهم إلي ذلك أنّه عمل كثر، فروي ابن القاسم عن مالك أنه كان في النافلة، وهو تأويل بعيد، فإنّ ظاهر الأحاديث أنّه كان في فريضة، وسبقه إلي استبعاد ذلك المازري وعياض، لما ثبت في مسلم: رأيت النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يؤمّ الناس وأمامة علي عاتقه.

قال المازري: إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة».

ثمّ قال ابن حجر:

«قال القرطبي: وروي عبداللَّه بن يوسف التنيسي عن مالك أنّ الحديث منسوخ.

قلت: روي ذلك الإسماعيلي عقب روايته للحديث من طريقه، لكنّه غير صريح ولفظه: قال التنيسي: قال مالك: من حديث النبيّ صلّي اللَّه عليه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 311

وسلّم ناسخ ومنسوخ وليس العمل علي هذا.

وقال ابن عبداللَّه: لعلّه نسخ بتحريم العمل في الصلاة، وتعقّب بأنّ النسخ لا يثبت بالإحتمال، وبأنّ هذه القصّة كانت بعد قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ في الصلاة لشغلًا؛ لأنّ ذلك كان قبل الهجرة، وهذه القصّة كانت بعد الهجرة قطعاً بمدّة مديدة.

وذكر عياض عن بعضهم: إنّ ذلك كان من خصائصه صلّي اللَّه عليه وسلّم لكونه كان معصوماً من أن تبول وهو حاملها، ورُدّ: بأنّ الأصل عدم الإختصاص، وبأنّه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك» «1».

من فتاوي القوم في الباب … ص: 311

لكنّ العجيب أنّ للقوم فتاوي بجواز تقبيل المرأة في حال الصلاة وعدم فسادها به، وكذا النظر إلي فرجها بشهوةٍ … فقد جاء في

(فتح القدير):

«ولو قبّلت المصلّي ولم يشتهها لم تفسد- أي الصلاة- كذا في الخلاصة» «2».

وفي (السراج الوهّاج):

«عن أبي يوسف: إذا كانت هي تصلّي فقبّلها رجل لا تفسد صلاتها لعدم الفعل منها».

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 1: 469 باب إذا حمل جاريةً صغيرة …

(2) فتح القدير لابن الهمام 1: 351.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 312

وفي (البحر الرائق):

«وأمّا قولهم- كما في الخانية والخلاصة- لو كانت المرأة هي المصلّية دونه، فقبّلها، فسدت، بشهوةٍ أو بغير شهوة. ولو كان هو المصلّي فقبّلته ولم يشتهها، فصلاته تامّة. فمشكل.

إذ ليس من المصلّي فعل في الصورتين، فمقتضاه عدم الفساد فيهما.

وإن جعلنا تمكينه من الفعل بمنزلة فعله اقتضي الفساد فيهما، وهو الظاهر، علي اعتبار أنّ العمل الكثير ما لو نظر إليه الناظر لتيقّن أنّه ليس في الصّلاة أو ما استفحشه المصلّي» «1».

وفي (فتح القدير):

«ولو رأي فرج المطلقة رجعياً بشهوةٍ يصير مراجعاً ولا تفسد في رواية، وهو المختار» «2».

بل في (البحر الرائق):

«لو جامعها فيما دون الفرج من غير إنزال، بخلاف النظر إلي فرجها بشهوة فإنّه لا يفسد علي المختار كما في الخلاصة» «3».

وفي (السراج الوهاج):

«وإنْ قبّلت المصلّي امرأته ولم يقبّلها هو فصلاته تامّة، وإنْ قبّلها هو بشهوةٍ أو بغير شهوةٍ، فسدت صلاته. وفي الفتاوي: لا تفسد إلّاإذا قبّلها بشهوة».

__________________________________________________

(1) البحر الرائق 2: 12- 13.

(2) فتح القدير لابن الهمام 1: 351.

(3) البحر الرائق 2: 12.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 315

2) القياس … ص: 315

أوّل من قاس إبليس … ص: 315

قال الشعراني في كتاب (لواقح الأنوار) بترجمة الإمام أبي عبداللَّه جعفر ابن محمّد الصادق عليه السلام:

«ودخل عليه أبو حنيفة فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنّك تقيس، لا تفعل، فإنّ أوّل من قاس إبليس» «1».

وقال الفخر الرازي في (مناقب الشافعي):

«والعجب

أنّ أبا حنيفة رحمة اللَّه عليه كان تعويله علي القياس، وخصومه كانوا يذمّونه بسبب كثرة القياسات. ونقل أنّ جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام أورد عليه الدلائل الكثيرة في إبطال القياس، ثمّ إنّه رحمه اللَّه مع أنه أفني عمره في العمل بالقياس، وكان ممتحناً فيما بين الناس بهذا السبب، لم ينقل عنه ولا عن أحدٍ من أصحابه أنّه صنّف في إثبات القياس ورقةً، ولا أنّه ذكر في تقريره شبهة فضلًا عن حجّة، ولا أنّه أجاب عن دليل لخصومه في إنكار القياس» «2».

وقال شاه ولي اللَّه الدهلوي في (الإنصاف):

«عن ابن سيرين قال: أوّل من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر

__________________________________________________

(1) لواقح الانوار في طبقات الأخيار- ترجمة الإمام أبي عبداللَّه جعفر الصادق عليه السلام.

(2) مناقب الإمام الشافعي: 158.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 316

إلّا بالمقاييس.

وعن الحسن أنّه تلا هذه الآية: «خلقتني من نارٍ وخلقته من طين» وقال: قاس إبليس وهو أوّل من قاس.

وعن الشعبي قال: واللَّه لئن أخذتم بالمقاييس لتحرمنَّ الحلال ولتحلنّ الحرام» «1».

وقال السيوطي في (الدر المنثور):

«أخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال اللَّه له: اسجد لآدم، فقال: «أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ» قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه اللَّه تعالي يوم القيامة بإبليس لأنّه تبعه بالقياس» «2».

وفي (كتاب الوسائل إلي مسامرة الأوائل):

«وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال: أوّل من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلّابالمقاييس» «3».

وروي المتقي في (كنز العمال):

«من قال في الدين برأيه فقد اتّهمني. أبو نعيم عن جابر.

لا تقيسوا الدين

فإنّ الدين لا يقاس، وأوّل من قاس إبليس. الديلمي عن علي» «4».

__________________________________________________

(1) حجة اللَّه البالغة 1: 121.

(2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 3: 425 والآية في سورة الأعراف: 12.

(3) الوسائل إلي مسامرة الأوائل: 116.

(4) كنز العمال 1: 208/ 1048- 1049.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 317

وفيه:

«تعمل هذه الامّة برهة بكتاب اللَّه، ثمّ تعمل برهة بسنّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ثمّ تعمل بالرأي، فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا. عن أبي هريرة» «1».

من الأخبار والآثار في ذمّ القياس … ص: 317

وأخرج البخاري:

«باب ما يذكر من ذمّ الرأي وتكلّف القياس وقول اللَّه «ولا تَقْفُ ما ليس لك به علمٌ».

حدّثنا سعيد بن تليد قال: حدّثني ابن وهب قال: حدّثني عبدالرحمان ابن شريح وغيره عن أبي الأسود عن عروة قال: حجّ علينا عبداللَّه بن عمرو فسمعته يقول: سمعت النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: إنّ اللَّه لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينزعه عنهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقي ناس جهّال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلّون ويضلّون.

فحدّثت عائشة زوج النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّ عبداللَّه بن عمرو حجّ بعد فقالت: يا ابن اختي إنطلق إلي عبداللَّه فاستثبت لي منه الذي حدّثتني عنه، فجئته فسألته فحدّثني به كنحو ما حدّثني، فأتيت عائشة فأخبرتها، فعجبت فقالت: واللَّه لقد حفظ عبداللَّه بن عمرو» «2».

وأخرج ابن ماجة:

__________________________________________________

(1) كنز العمال 1: 180/ 915.

(2) صحيح البخاري 9: 123/ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 318

«حدّثنا سويد بن سعيد، ثنا ابن أبي الرجال، عن عبدالرحمان بن عمرو الأوزاعي، عن عبده ابن أبي لبابة عن عبداللَّه بن عمرو بن العاص، رضي اللَّه عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: لم يزل أمر

بني إسرائيل معتدلًا حتّي نشأ فيهم المولودون وأبناء سبايا الامم فقالوا بالرأي، فضلّوا وأضلّوا» «1».

كلام الفخر الرازي في ذمّ القياس … ص: 318

ولقد أطال الفخر الرازي الكلام في ذمّ الرأي والقياس بنقل الروايات وحكم بكون الحنفية من الضالّين والمضلّين، فقال في (مناقب الشافعي):

«الفصل الرابع: في بيان أنّ تلقيب الإنسان بأنّه من أصحاب الرأي ليس من ألقاب الشرف والمدح، ويدلّ عليه القرآن والأخبار والآثار المقبولة:

أمّا القرآن فقوله تعالي: «إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً». وقوله: «ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْمٌ». وقوله: «لا تُقدّموا بين يدي اللَّه ورسوله».

الثاني: قوله تعالي: «لو كنّا نسمع أو نعقل» قدّم السمع علي الرأي في كونه سبباً للخلاص عن السعير.

فإن قالوا: هذا معارض بقوله: «إنّ في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع» فقدّم القلب الذي هو معدن الفهم والرأي علي السمع.

قلنا: المراد هاهنا العقل الذي هو شرط التكليف.

الثالث: قوله تعالي: «يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم» أطيعوا اللَّه إشارة للكتاب، والرسول إشارة للسنّة، واولي __________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 1: 21/ 56. المقدّمة. باب اجتناب الرأي والقياس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 319

الأمر إشارة للإجماع. ثمّ قال: «فإن تنازعتم في شي ء فردّوه إلي اللَّه والرسول» إشارة إلي القياس.

فاللَّه تعالي أخبر عن جميع الدلائل، وجعل جواز التمسّك به مشروطاً بعدم وجدان سائر الدلائل علي ما بيّنّا ذلك في كتاب التفسير الكبير، وهذا يدلّ علي أنّ أصحاب الحديث أعلي شأناً من أصحاب الرأي.

ويقرب منه قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم لمعاذ حين بعثه إلي اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب اللَّه. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنّة رسول اللَّه. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيي. فقال: الحمد للَّه الذي وفّق رسول رسول

اللَّه لما يرتضيه رسول اللَّه.

والإستدلال به عين ما تقدّم.

وأمّا الأخبار والأحاديث الكثيرة فناطقة بذلك:

أحدها: ما روي عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من قال في ديننا برأيه فاقتلوه.

وثانيها: ما روي أنّ عمر قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه لا ينزع العلم انتزاعاً من أهله ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتّخذ النّاس رؤساء جهّالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا.

وجه الإستدلال به أنّ الفتوي بغير علم هي الجواب بالرأي.

وثالثها: ما روي عوف بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: تفترق امّتي علي بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة علي امّتي قوم يفتون النّاس برأيهم.

ورابعها: روي أبو هريرة عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّه قال: يعمل استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 320

هذه الامّة برهة بالرأي، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا.

وخامسها: روي جابر عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّه قال: من تكلّم في الدّين برأيه فقد اتّهمني.

وأمّا الآثار فكثير منها ناطق بذلك:

قال عمر بن الخطّاب: إتّهموا الرأي في الدين، فإنّ الرأي المأخوذ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّما كان صواباً، لأنّ اللَّه تعالي كان يريه إيّاه، ودعوا ما تكلّف وظنّ، فإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

وعنه: إيّاكم ومجالسة أصحاب الرأي فإنّهم أعداء الدين، قالوا برأيهم فضلّوا وأضلّوا كثيراً.

وقال ابن عبّاس: إيّاكم والرأي، فإنّ اللَّه تعالي ردّ الرأي علي الملائكة إذ قالوا: «أتجعل فيها من يفسد فيها» قال تعالي: «إنّي أعلم ما لا تعلمون» يعني لا اطّلاع لكم علي أسرار أفعالي وأحكامي، فاتركوا الأقيسة.

وقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: «وأن احكم بينهم بما أنزل اللَّه» ولم

يقل بما رأيت.

وسُئل عن نبيّ فقال: لا أدري، فقال الرجل: قل فيها برأيك. فقال: إنّي أخاف أن أقول برأيي فتزلّ قدم بعد ثبوتها.

وقال ابن مسعود: يذهب خياركم ولا تجدون منهم خلفاً، ثمّ يجي ء قوم يفتشون الامور برأيهم فينهدم الإسلام.

وعن عمر بن عبدالعزيز، إنّه كتب إلي النّاس: لا رأي لأحد مع سنّة سنّها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وكان الشعبي يقول في أصحاب الرأي: ما قالوا برأيهم فبُل عليه، وما

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 321

حدّثوك عمّن كان قبلهم من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فخذ به.

وروي: أنّ أبا سلمة بن عبدالرحمن والحسين البصري التقيا، فقال أبوسلمة: يا حسين! قيل لي أنّك تحدّث النّاس برأيك، إتّق اللَّه واتّق رأيك.

وعن جعفر الصادق ابن محمّد الباقر إنّه قال: من وكّل إلي نفسه أخذ برأيه.

وقد روي: من أخذ برأيه وكّل إلي نفسه.

وعن الحسن البصري: إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ المؤمن من أخذ دينه عن اللَّه تعالي، وإنّ المنافق يصيب رأياً فيأخذ دينه عنه.

وقال ابن المبارك: أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه قال: ما زال أمر بني إسرائيل مستقيماً حتّي كثرت فيهم أبناء السبايا، فوضعوا فيهم الرأي فأهلكوهم.

وقال اللّيث بن سعد: جئت ابن شهاب يوماً بشي ء من الرأي، فقبض وجهه كالكاره، ثمّ جئته يوماً آخر بأحاديث من السنن فتهلّل وجهه وقال: إذا جئتني ائتني بهذا.

وقال الشعبي: إنّما هلكتم لأنّكم تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس.

وقال ابن سيرين: أوّل من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس.

وقال أيضاً: ما حدّثوك من أصحاب محمّد فاقبله، وما حدّثوك عن رأيهم فألقه في الحش.

وكان الثوري يقول: من قال برأيه فقل رأيي مثل رأيكم، إنّما العلم بالآثار.

استخراج المرام من استقصاء

الافحام، ج 3، ص: 322

وذكر عند عبدالرحمن بن مهدي قوم من أهل البدع، فقال: لا يقبل اللَّه إلّا ما كان مبنيّاً علي الأثر والسنّة، ثمّ قرأ: «ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم».

واعلم: إنّ أقوال الصحابة والتابعين في ذمّ الرأي كثيرة، ولنكتف بهذا القدر من الروايات، ونحن ننقلها من كتاب الإنتصار لأصحاب الحديث، من تصانيف الشيخ أبي المظفّر السمعاني.

فإن قيل: هذه الروايات معارضة بروايات اخر عن الصحابة، تدلّ علي أنّهم كانوا قائلين بالرأي:

قال أبوبكر الصدّيق: أقول في الكلالة برأيي.

وقال ابن مسعود في المفوّضة: أقول فيها برأيي.

والجواب: إنّ الصدّيق إنّما قال في الكلالة برأيه ثمّ قال بعده: فإن يك صواباً فمن اللَّه، وإن يك خطأ فمنّي ومن الشيطان، وهذا يدلّ علي أنّه كان كالخائف من الرأي.

ونحن نفرّق بين هذه الروايات فنقول: الروايات التي ذكرناها تدلّ علي أنّه يجب الحذر عن الرأي، والتي ذكرتموها تدلّ علي أنّه يجوز استعمال الرأي عند الضرورة الشديدة، بشرط الحذر والإحتراز عن مخالفة النصوص، وعلي جميع التقديرات، فإنّه يخرج منه أنّ كون الإنسان صاحباً للحديث خير من أن يكون صاحب الرأي.

وأمّا الوجوه العقليّة في بيان تقديم النصّ علي القياس والرأي، فكثيرة:

أحدها: أنّ التمسّك بالنصّ محمود عند جميع الطوائف، وأمّا التمسّك بالقياس فمذموم عند البعض دون البعض، والشي ء الذي يكون محموداً عند

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 323

الكلّ خير من الذي أقصي درجاته أن لا يكون مذموماً.

وثانيها: أنّ الحديث أصل والرأي فرع، والأصل خير من الفرع. وأيضاً الحديث بمنزلة الماء في الطهارات والرأي بمنزلة التراب، فكما كان الماء مقدّماً علي التراب في طهوريّة الظواهر، كان الحديث مقدّماً علي الرأي في طهوريّة البواطن، ومثل من قدّم الرأي علي الحديث كمثل من قدّم التراب علي الماء.

وثالثها: قال

بعض العلماء: الماء نوعان: ما نزل من السماء وما نبع من الأرض؛ فالماء النازل من السماء يكون في طعم واحد من اللذّة والطيب، وعلي لون واحد من الصفاء والنقاء، وجوهر واحد في الطهارة والنظافة، فكذا العلم النازل من السماء يكون طاهراً نقيّاً عن شوائب الشبهات وممازجة الكدورات والظلمات، وأمّا الذي نبع من الأرض فإنّه يختلف لونه وطعمه ورائحته وطبعه بحسب اختلاف المعادن، تارة يكون طيّباً وتارة يكون منتناً، وتارة يكون لطيفاً واخري يكون كثيفاً، وكذا العلم الذي يظهر من القياس والرأي، تارة يكون فاسداً باطلًا وتارة يكون نافعاً، لكن كيف كان، فإنّ النفع فيه قليل».

وكان غرض الرازي من كلّ ذلك ذم الحنفيّة وتقديم الشافعيّة، لأنّه قد قال من قبل:

«إعلم أنّ أتباع الشافعي ملقّبون عند جمهور الخلف بأنّهم أصحاب الحديث، وأتباع أبي حنيفة ملقّبون عند جمهور الخلف بأنّهم أصحاب الرأي، وذلك يوجب رجحان مذهب الشافعي.

بيان المقام الأوّل من وجوه، الأوّل: إنّ جميع الفرق لو حضروا في استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 324

محفل واحد، ثمّ قام إنسان وذكر أصحاب الحديث بمدح أو بذمّ، فإنّه يتسارع إلي فهم كلّ أحد أنّ المراد بذلك الكلام أصحاب الشافعي، وذلك يدلّ علي اتّفاق الكلّ علي أنّهم هم المختصّون بهذا اللقب، وأمّا أصحاب أبي حنيفة فإنّهم المختصّون بأنّهم أصحاب الرأي، والدليل عليه ما ذكرناه بعينه.

ثمّ نقول: إنّهم معترفون بأنّهم هم المخصوصون بهذا اللّقب بل يفتخرون به.

وبيان أنّ الأمر كذلك كالمعلوم بالضرورة فلا حاجة فيه إلي الإستدلال».

وذكر الرازي في بيان عدم صدق لقب أصحاب الحديث علي الحنفيّة:

«أمّا أصحاب أبي حنيفة، فهم في غاية البعد عن هذا اللقب، لأنّهم لمّا كان مذهبهم أنّ القياس مقدّم علي الخبر، فكيف يليق بهم هذا اللقب،

لقولهم إنّا نقبل المراسيل والمجاهيل، بل نقول هذا الكلام بالعكس أولي، لأنّ صاحب الشي ء هو الذي يكون مشفقاً عليه كثير الإجتهاد في صلاحه، والمشفق علي الأخبار النبويّة هو الراغب في صونها عن الآفات والأخطار، فإنّ الشافعي إنّما لم يقبل المراسيل والمجاهيل لغاية حرصه علي صون الأخبار عن الأكاذيب، وذلك من أدلّ الدلائل علي أنّه بهذا اللقب الشريف أولي.

والعجب أنّ أباحنيفة قبل روايات المجاهيل وقبل المراسيل ثمّ قال: لا أقبل الحديث الصحيح إذا كان مخالفاً للقياس، ولا أقبل الحديث الصحيح في الواقعة التي يعمّ بها البلوي، ولا أقبل الحديث الصحيح الذي يكون راوي الفرع قاطعاً بصحّته وراوي الأصل غير حافظ للرواية عنه.

فليت شعري- إذن- أكان هذا الخبر أولي أم خبر مجهول لا يعرف حاله ولا صفته».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 325

كلام ابن الجوزي في ذمّ القياس … ص: 325

هذا، وقد ذكر ابن الجوزي تلبيس إبليس علي الفقهاء بالأخذ بالقياس وغيره، حيث قال في كلامٍ طويل:

«ذكر تلبيسه علي الفقهاء: كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث، فما زال الأمر يتناقص حتّي قال المتأخّرون: يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن، وأن نعتمد علي الكتب المشهورة في الحديث كسنن أبي داود ونحوها، ثمّ أهونوا بهذا الأمر أيضاً وصار أحدهم يحتجّ بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا، وربّما اعتمد علي قياس يعارضه حديث صحيح ولا يعلم، وإنّما الفقه استخراج من الكتاب والسنّة فكيف يستخرج من شي ء لا يعرف، ومن القبيح تعليق حكم علي حديث لا يدري أصحيح هو أم لا؟

ولقد كانت معرفة هذا تصعب، ويحتاج الإنسان إلي السفر الطويل والتعب الكثير حتّي يعرف، فيصنّف الكتب ويقرّر السّنن ويعرف الصحيح من السقيم، ولكن غلب المتأخرين الكسل بمرّة عن

أن يطالعوا علم الحديث، حتّي إنّني رأيت بعض الأكابر من الفقهاء يقول في تصنيفه عن ألفاظ الصحاح:

لا يجوز أن يكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال هذا، ورأيته يحتجّ في مسألة فيقول: دليلنا: ما روي بعضهم أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال كذا، ويجعل الجواب عن حديث صحيح قد احتجّ به خصمه أن يقول: هذا الحديث لا يعرف.

وهذا كلّه خيانة علي الإسلام.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 326

ومن تلبيس إبليس علي الفقهاء: أنّ جلّ اعتمادهم علي تحصيل علم الجدل يطلبون بزعمهم تصحيح الدليل علي الحكم والاستنباط لدقائق الشرع وعلل المذاهب، ولو صحّت هذه الدعوي منهم لتشاغلوا بجميع المسائل، وإنّما يتشاغلون بالمسائل الكبار ليتّسع فيها الكلام، فيقدم المناظر بذلك عند الناس في خصام النظر فيهم أحدهم بترتيب المجادلة والتفتيش عن المناقضات طلباً للمفاخرة والمباهلة، وربّما لم يعرف الحكم في مسألة صغيرة يعمّ بها البلوي.

ومن تلبيسه عليهم: إدخالهم في الجدل كلام الفلاسفة، واعتمادهم علي تلك الأوضاع.

ومن ذلك: إيثارهم للقياس علي الحديث المستدلّ به في المسألة، ليتّسع لهم المجال في النظر، وإن استدلّ أحدهم بالحديث هجن، ومن الأدب تقديم الاستدلال بالحديث.

ومن ذلك: أنّهم جعلوه جلّ اشتغالهم ولم يمزجوه بما يرقّق القلوب من قراءة القرآن وسماع الحديث وسيرة الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، ومعلوم أنّ القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغيّر، وهي محتاجة إلي التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة، ومسائل الخلاف وإن كانت في علوم الشرع إلّاأنّها لا تنهض بكلّ المطلوب، ومن لم يطلع علي أسرار سير السلف وحال الذي تمذهب له، لم يمكنه سلوك طريقهم.

وينبغي أن يعلم أنّ الطبع لصّ، فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق من طباعهم فصار مثلهم،

وإذا نظر في سير القدماء فزاحمهم وتأدّب بأخلاقهم.

وقد كان بعض السلف يقول: حديث يرقّ له قلبي أحبّ إليّ من مائة قضيّة من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 327

قضايا شريح، وإنّما قال هذا، لأنّ رقّة القلب مقصودة ولها أسباب.

ومن ذلك: أنّهم اقتصروا علي علم المناظرة، وأعرضوا عن حفظ المذهب وباقي علوم الشرع، فتري الفقيه المفتي يسئل عن آية أو حديث لا يدري، وهذا عين التقصير، فأين الفقه من التقصير.

ومن ذلك: أنّ المجادلة إنّما وضعت لتبيين الصواب، وقد كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق، وقد كانوا ينتقلون من دليل إلي دليل، وإذا خفي علي أحدهم شي ء نبّهه الآخر، لأنّ المقصود كان إظهار الحقّ، فصار هؤلاء إذا قاس الفقيه علي أصل لفقيه بعلّة يظنّها فقيل له: ما الدليل علي أنّ الحكم في الأصل معلّل بهذه العلّة؟ فقال: هذا الذي يظهر لي، فإن ظهر لكم ما هو أولي من ذلك فاذكروه. قال المعترض: لا يلزمني ذلك، ولقد صدق في أنّه لا يلزمه، ولكن فيما ابتدع من الجدل، بل في باب النصح وإظهار الحقّ يلزمه.

ومن ذلك: أنّ أحدهم يتبيّن له الصواب مع خصمه ولا يرجع، ويضيق صدره كيف ظهر الحقّ مع خصمه، وربّما اجتهد في ردّه مع علمه أنّه الحقّ، وهذا من أقبح القبيح؛ لأنّ المناظرة إنّما وضعت لبيان الحقّ، وقد قال الشافعي: ما ناظرت أحداً فباليت مع من كانت الحجّة؛ إن كانت معه صرت إليه.

ومن ذلك: إنّ طلبهم الرياسة بالمناظرة يثير الكامن في النفس من حبّ الرياسة، فإذا رأي أحدهم في كلامه ضعفاً يوجب قهر خصمه له خرج إلي المكابرة، وإن رأي خصمه قد استطال عليه بلفظة ظهرت حميّة الكبر، فقابل ذلك بالسبّ، فصارت المجادلة مجالدة.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 328

ومن ذلك: ترخّصهم في الغيبة بحجّة الحكاية عن المناظر، فيقول أحدهم: تكلّمت مع فلان فما قال شيئاً، ويتكلّم بما يوجب التشفّي من غرض خصمه بتلك الحجّة.

ومن ذلك: أنّ إبليس لبّس عليهم بأنّ الفقه هو وحده علم الشرع ليس ثَمّ غيره، فإن ذُكِر لهم محدّث قالوا: ذاك لا يفهم شيئاً، وينسون أنّ الحديث هو الأصل، فإن ذكر لهم كلام يَلين به القلب قالوا: ذا كلام الوعّاظ.

ومن ذلك: إقدامهم علي الفتوي وما بلغوا مرتبتها، وربّما أفتوا بالمخالف للمنصوص، ولو توقّفوا في المشكلات كان أولي، وفي الحديث مرفوعاً إلي عبدالرحمان بن أبي ليلي قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وما منهم من يحدّث حديثاً إلّاودّ أنّ أخاه كفاه الحديث، ولا يُسئَل عن فتيا إلّاودَّ أنّ أخاه كفاه الفتيا.

وقد روينا عن إبراهيم النخعي: أنّ رجلًا سأله عن مسألة، فقال: ما وجدت من تسأله غيري؟

وعن مالك بن أنس إنّه قال: ما أفتيت حتّي سألت سبعين شيخاً هل يرون لي أن أُفتي؟ فقالوا: نعم. فقيل له: لو نهوك؟ قال: لو نهوني انتهيت.

وقال رجل لأحمد بن حنبل: إنّي حلفت ولا أدري كيف حلفت؟ فقال:

ليتك إذا دريت كيف حلفت دريت كيف أفتيك.

وإنّما كانت هذه سجيّة السلف، لخشيتهم اللَّه عزّ وجلّ وخوفهم منه، ومن نظر في سيرتهم تأدّب.

ومن تلبيس إبليس علي الفقهاء: مخالطتهم للُامراء والسلاطين ومداهنتم وترك الإنكار عليهم مع القدرة علي ذلك، وربّما رخّصوا لهم ما لا رخصة فيه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 329

لينالوا من دنياهم، فيقع بذلك الفساد لثلاثة:

الأوّل: الأمير، فيقول: لولا أنّي علي صواب لأنكر علَيّ الفقيه، وكيف لا أكون مصيباً وهو يأكل من مالي.

والثاني: العامي، فإنّه

يقول: لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإنّ فلاناً الفقيه لا يزال عنده.

والثالث: الفقيه، يفسد دينه بذلك.

وقد لبّس إبليس عليهم في الدخول علي السلطان فيقول: إنّما تدخل لتشفع في مسلم، وينكشف هذا التلبيس بأنّه لو دخل غيره يشفع لما أعجبه ذلك، ولربّما قدح في ذلك الشخص لينفرد بالسلطان، ويلبّس عليه إبليس في أخذ أموالهم فيقول: لك فيه حقّ، ومعلوم إنّها إن كانت حراماً لم يحل له منها شي ء، وإن كانت من شبهة فتركها أولي، وإن كانت من مباحٍ جاز له الأخذ بمقدار مكانه من الدين، لا علي وجه انفاقه في مقام الرعونة، وربّما اقتدي العوام بظاهر فعله واستباحوا ما لا يستباح.

وقد تلبّس إبليس علي قوم من العلماء، فيقطعون عن السلطان إقبالًا علي التعبّد والدين، فزيّن لهم غيبة من يدخل علي السلطان من العلماء، فيجتمع اثنان: غيبة الناس ومدح النفس.

وفي الجملة، الدخول علي السلطان خطر عظيم، لأنّ النيّة قد تحسن في أوّل الدخول، ثمّ تتغيّر بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم، ولا يتماسك عن مداهنتم وترك الإنكار عليهم، وقد كان سفيان الثوري يقول: ما أخاف من إهانتهم لي، إنّما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم.

وقد كان علماء السلف يبعدون عن الامراء، لما يظهر من جورهم،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 330

فيطلبهم الامراء لحاجتهم إليهم في الفتاوي والولايات، فنشأ أقوام قويت رغبتهم في الدنيا فتعلّموا العلوم التي تصلح للُامراء وحملوها إليهم لينالوا من دنياهم، ويدلّك علي أنّهم قصدوا بالعلوم الامراء: أنّ الامراء كانوا قديماً يميلون إلي سماع الحجج في الاصول، فأظهر النّاس علم الكلام، ثمّ مال بعض الامراء إلي المناظرة في الفقه، فمال الناس إلي الجدل، ثمّ مال بعض الامراء إلي المواعظ، فمال خلق كثير

من المتعلّمين إليها، ولمّا كان جمهور العوام يميلون إلي القصص كثر القصّاص وقلّ الفقهاء.

ومن تلبيس إبليس علي الفقهاء: أنّ أحدهم يأكل من وقف المدرسة المبنيّة علي المتشاغلين بالعلم، فيمكث فيها سنين فلا يتشاغل ويقنع بما قد عرف أو ينتهي في العلم، فلا يبقي له في الوقف حظّ، لأنّه إنّما جعل لمن يتعلّم، إلّاأن يكون ذلك الشخص معيداً أو مدرّساً فإنّ شغله دائم.

ومن ذلك ما يحكي عن بعض عوام المتفقهة من الإنبساط في المنهيّات؛ فبعضهم يلبس الحرير ويتختّم بالذهب ويحال علي المكس فيأخذ، إلي غير ذلك من المعاصي، وسبب انبساط هؤلاء يختلف: فمنهم من يكون فاسد العقيدة في أصل الدين، فهو يتفقه فيشهر نفسه أو ليأخذ من الوقف أو ليرؤس أو ليناظر، ومنهم من عقيدته صحيحة لكن يغلبه الهوي وحبّ الشهوات وليس عنده صارف عن ذلك، لأنّ نفس الجدل والمناظرة تتحرّك إلي الكبر والعجب، وإنّما يتقوّم الإنسان بالرياضة ومطالعة سير السلف، وأكثر القوم في بعد عن هذا، وليس عندهم إلّاما يعين الطبع علي سموحه، فحينئذ يسرح الهوي بلا رادّ.

ومنهم من يلبس عليه إبليس: بأنّك عالم وفقيه ومفت، والعلم يدفع عن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 331

أربابه وهيهات، فإنّ العلم أولي أن يحاجّه ويضاعف عذابه كما ذكرنا في حقّ القرّاء، وقد قال البصري: إنّما الفقيه من يخشي اللَّه عزّ وجلّ.

قال ابن عقيل: رأيت فقيهاً خراسانيّاً عليه حرير وخواتيم ذهب، فقلت له:

ما هذا؟ فقال: خلع السلطان وكمد الأعداء. فقلت: بل هو شماتة الأعداء بك إن كنت مسلماً؛ لأنّ إبليس عدوّك، فإذا بلغ منك مبلغاً ألبسك ما يسخط الشرع فقد أشمته بنفسك، وهل خلع السلطان إلّاسائقة لنهي الرحمان يا مسكين! خلع عليك السلطان فانخلعت به من الإيمان،

وقد كان ينبغي أن يخلع عنك السلطان لباس الفسق ويلبسك لباس التقوي، رماكم اللَّه بخزيه حيث هوّنتم أمره، ليتك قلت: هذه رعونات الطبع والهوي، والآن تمّت محنتك، لأنّ عذرك دليل علي فساد باطنك.

ومن تلبيسه عليهم: أن يُحسّن لهم ازدراء الوعّاظ ويمنعهم من الحضور عندهم، فيقولون: من هؤلاء؟ هؤلاء قصّاص، ومراد الشيطان أن لا يحضروا في موضع يلين فيه القلب ويخشع، والقصّاص لا يذمّون من حيث هذا الاسم؛ لأنّ اللَّه تعالي قال: «نحن نقصّ عليك أحسن القصص» وقال: «فاقصص القصص» وإنّما ذمّ القصاص لأنّ الغالب منهم الاقتناع منهم بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد، ثمّ غالبهم يخلط فيما يورده، وربّما اعتمد علي ما أكثره محال، فأمّا إذا كان القصص صدقاً ويوجب وعظاً فهو ممدوح، وقد كان أحمد بن حنبل يقول: ما أحوج الناس إلي قاصّ صدوق» «1».

فهذه حالات علماء القوم وفقهائهم، العاملين بالرأي والقياس وغيرهم.

__________________________________________________

(1) تلبيس ابليس: 137- 142.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 332

كلام ابن عربي في ذمّ القياس … ص: 332

وتكلّم غوثهم الأعظم ابن عربي في الأخذ بالرأي والعمل بالقياس، حيث قال في (الفتوحات):

«قال اللَّه تعالي لنبيّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: «لتحكم بين النّاس بما أراك اللَّه» ولم يقل: بما رأيت، بل عتبه سبحانه وتعالي لما حرّم علي نفسه باليمين في قضيّة عائشة وحفصة، فقال تعالي: «يا أيّها النبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللَّه لك تبتغي مرضات أزواجك» فكان هذا ممّا أرته نفسه، فهذا يدلّك أنّ قوله تعالي:

«بما أراك اللَّه» إنّه ما يوحي به إليه لا ما يراه في رأيه، فلو كان الدين بالرأي لكان رأي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم أولي من رأي كلّ ذي رأي، فإذا كان هذا حال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم فيما أرته نفسه، فكيف

رأي من ليس بمعصوم ومن الخطأ أقرب إليه من الإصابة؟ فدل أن الاجتهاد الذي ذكره رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّما هو في طلب الدليل علي تعيين الحكم في المسألة الواقعة لا في تشريع حكم في النازلة، فإنّ ذلك شرع لم يأذن به اللَّه.

ولقد أخبرني القاضي عبدالوهّاب الأزدي الإسكندري بمكّة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال: رأيت رجلًا من الصالحين بعد موته في المنام فسألته: ما رأيت؟ فذكر أشياء منها قال: ولقد أريت كتباً موضوعة وكتباً مرفوعة، فسألت: ما هذه الكتب المرفوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الحديث.

فقلت: وما هذه الكتب الموضوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الرأي، حتّي يُسئَل عنها أصحابها، فرأيت الأمر فيه شدّة.

إعلم- وفّقك اللَّه- إنّ الشريعة هي المحجّة البيضاء، محجّة السعداء،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 333

وطريق السعادة، من مشي عليها نجا ومن تركها هلك، فإنّ رسول اللَّه صلوات اللَّه عليه وسلّم لمّا نزل عليه قوله تعالي: «وأنّ هذا صراطي مستقيماً» خطّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في الأرض خطّاً وخطّ خطوطاً عن جانبي الخطّ يميناً وشمالًا ثم وضع اصبعه علي الخط وقال تالياً: «وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُّبُل» وأشار إلي تلك الخطوط التي خطّها عن يمين الخط ويساره «فتفرّق بكم عن سبيله» وأشار إلي الخط المستقيم.

ولقد أخبرني بمدينة سلا- مدينة بالمغرب علي شاطئ البحر المحيط يقال لها منقطع التراب وليس وراءها أرض- رجل من الصالحين الأكابر من عامّة النّاس قال: رأيت في النوم محجّة بيضاء مستوية عليها نور سهلة، ورأيت عن يمين تلك المحجّة وشمالها خنادق وشعاباً وأودية كلّها شوك، لا تنسلك لضيقها وتوعّر مسالكها وكثرة شوكها والظلمة التي فيها، ورأيت جميع الناس يخبطون فيها عشوا ويتركون المحجّة

البيضاء السهلة، وعلي المحجّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ونفر قليل معه يسير وهو ينظر إلي من خلفه، وإذا في الجماعة- متأخّر عنها لكنّه عليها- الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن قرقور المحدّث- كان سيّداً فاضلًا في الحديث، اجتمعت بابنه- فكان يفهم عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّه يقول له: ناد في النّاس بالرجوع الي الطريق، فكان ابن قرقور يرفع صوته ويقول في ندائه ولا من داع ولا من مستدع: هلمّوا إلي الطريق هلمّوا. قال: فلا يجيبه أحد ولا يرجع إلي الطريق أحد.

واعلم: إنّه لمّا غلبت الأهواء علي النفوس وطلبت العلماء المراتب عند الملوك، تركوا المحجّة البيضاء، وجنحوا إلي التأويلات البعيدة ليمشّوا أغراض الملوك فيما لهم فيه هوي نفس، ليستندوا في ذلك إلي أمر شرعي، مع كون استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 334

الفقيه ربّما لا يعتقد ذلك ويفتي به، وقد رأينا منهم جماعة علي هذا من قضاتهم وفقهائهم.

ولقد أخبرني الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد وقع بيني وبينه في مثل هذا كلام، فنادي بمملوك وقال: جئني بالحرمدان. فقلت له: ما شأن الحرمدان؟ قال: أنت تنكر علي ما يجري في بلدي ومملكتي من المنكرات والظلم، وأنا- واللَّه- أعتقد مثل ما تعتقد أنت فيه من أنّ ذلك كلّه منكر، ولكن واللَّه- يا سيّدي- ما منه منكر إلّا بفتوي فقيه، وخطّ يده عندي بجواز ذلك، فعليهم لعنة اللَّه، ولقد أفتاني فقيه هو فلان- وعَيَّن لي أفضل فقيه عنده في بلده في الدين والتقشّف- بأنّه لا يجب علَيّ صوم شهر رمضان هذا بعينه، بل الواجب علَيّ شهر في السنة، والإختيار لي فيه أيّ شهر شئت من شهور السنة. قال السلطان:

فلعنته في باطني ولم أظهر له ذلك وهو فلان، وسمّاه لي، رحم اللَّه جميعهم.

فلتعلم: أنّ الشيطان قد مكّنه اللَّه من حضرة الخيال وجعل له سلطاناً فيها، فإذا رأي الفقيه يميل إلي هوي يعرف أنّه يردي عند اللَّه زيّن له سوء عمله بتأويل غريب يمهّد له فيه وجهاً يحسّنه في نظره ويقول له: إنّ الصدر الأوّل قد دانوا اللَّه بالرأي، وقاس العلماء في الأحكام واستنبطوا العلل للأشياء وطردوها، وحكموا في المسكوت عنه بما حكموها به في المنصوص عليه للعلّة الجامعة بينهما، والعلّة من استنباطه، فإذا مهّد له هذا السبيل جنح إلي نيل هواه وشهوته بوجه شرعيّ في زعمه، فلا يزال هكذا فعله في كلّ ما له أو لسلطانه فيه هوي نفس، ويردّ الأحاديث النبويّة ويقول: لو أنّ هذا الحديث يكون صحيحاً وإن كان صحيحاً يقول: لو لم يكن له خبر آخر يعارضه وهو

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 335

ناسخ له لقال به الشافعي، إن كان هذا الفقيه شافعياً، أو لقال به أبو حنيفة إن كان هذا الرجل حنفيّاً، وهكذا قول أتباع هؤلاء الأئمة كلّهم، ويرون أنّ الحديث والأخذ به مضلّة، وأنّ الواجب تقليد هؤلاء الأئمة وأمثالهم فيما حكموا وإن عارضت أقوالهم الأخبار النبويّة، فالأولي الرجوع إلي أقاويلهم وترك الأخذ بالأخبار والكتاب والسنة.

فإذا قلت لهم: قد روينا عن الشافعي- رضي اللَّه عنه- أنّه قال: إذا أتاكم الحديث يعارض قولي فاضربوا بقولي الحائط وخذوا بالحديث فإنّ مذهبي الحديث، وقد روينا عن أبي حنيفة إنّه قال لأصحابه: حرام علي كلّ من أفتي بكلامي ما لم يعرف دليلي، وما روينا شيئاً من هذا عن أبي حنيفة إلّامن طريق الحنفيّين، ولا عن الشافعي إلّامن طريق الشافعيّة، وكذلك المالكيّة والحنابلة، فإذا جادلتهم

في مجال الكلام هربوا وسكتوا.

وقد جري لنا هذا معهم هذا مراراً بالمغرب وبالمشرق، فما منهم أحد علي مذهب من يزعم أنّه علي مذهبه.

فقد انتسخت الشريعة بالأهواء وإن كانت الأخبار موجودة مسطرة في الكتب الصحاح، وكتب التواريخ بالتجريح والتعديل موجودة، والأسانيد محفوظة مصونة من التغيير والتبديل، ولكن إذا ترك العمل بها واشتغل الناس بالرأي ودانوا أنفسهم بفتاوي المتقدمين مع معارضة الأخبار الصحاح لها، فلا فرق بين عدمها ووجودها إذا لم يبق لها حكم عندهم، وأيّ نسخ أعظم من هذا. وإذا قلت لأحدهم في ذلك شيئاً يقول لك: هذا هو المذهب، وهو- واللَّه- كاذب، فإنّ صاحب المذهب قال له إذا عارض الخبر كلامي فخذ بالحديث واترك كلامي في الحش، فإنّ مذهبي الحديث، فلو أنصف لكان علي مذهب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 336

الشافعي من ترك كلام الشافعي للحديث المعارض، فاللَّه يأخذ بيد الجميع» «1».

كلام وليّ اللَّه الدهلوي في ذمّ القياس … ص: 336

وقال شاه ولي اللَّه الدهلوي في (الإنصاف):

«ولا ينبغي أن يردّ حديثاً أو أثراً تطابق عليه كلام القوم، لقاعدة استخرجها هو أو أصحابه، كردّ حديث المصراة وكإسقاط سهم ذوي القربي، فإن رعاية الحديث أوجب من رعاية تلك القاعدة المخرجة، وإلي هذا المعني أشار الشافعي حيث قال:

مهما قلت من قول أو أصّلت من أصل فبلغكم عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله صلّي اللَّه عليه وسلّم.

ومن شواهد ما نحن فيه ما صدّر به الإمام أبو سليمان الخطابي كتابه معالم السنن»، حيث قال: رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلي فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكلّ واحدة منهما لا تتميّز عن اختها في الحاجة ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية

والإرادة؛ لأنّ الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكلّ بناء لم يوضع علي قاعدة وأساس فهو منهار، وكلّ أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.

ووجدت هذين الفريقين- علي ما بينهم من التداني في المحلّين والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلي بعض، وشمول الفاقة اللّازمة لكلّ منهم إلي صاحبه- إخواناً متهاجرين، وعلي سبيل الحقّ بلزوم __________________________________________________

(1) الفتوحات المكية: 5: 100- 102.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 337

التناصر والتعاون غير متظاهرين.

فأمّا هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر، فإنّ الأكثرين إنّما وكدهم الروايات وجمع الطرق وطلب الغريب والشاذّ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب؛ لا يراعون المتون ولا يتفهّمون المعاني ولا يستنبطون سرّها ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربّما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن وادّعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنّهم عن مبلغ ما اوتوه من العلم قاصرون وبسوء القول فيهم آثمون.

وأمّا الطبقة الاخري وهم أهل الفقه والنظر، فإنّ أكثرهم لا يعرّجون من الحديث إلّاعلي أقلّه، ولا يكادون يميّزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيّده من رديّه، ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجّوا به علي خصومهم، إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ووافق آرائهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا علي مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي و غبنا فيه.

وهؤلاء- وفّقنا اللَّه وإيّاهم- لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاده من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة واستبرؤا له العهدة.

فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلّاما كان من

رواية ابن القاسم وأشهب وضربائهما من تلاد أي قدماء أصحابه، فإذا جاءت رواية عبداللَّه بن عبدالحكم وأضرابه لم يكن عندهم طائلًا.

وتري أصحاب أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالي لا يقبلون من الرواية عنه إلّا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 338

ما حكاه أبو يوسف ومحمّد بن الحسن والعليّة من أصحابه والأجلّة من تلامذته، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه، لم يقبلوه ولم يعتمدوه.

وكذلك نجد أصحاب الشافعي، إنّما يعوّلون في مذهبه علي رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما، لم يلتفتوا إليها ولم يعتدوا بها في أقاويله.

وعلي هذا عادةكلّ فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمّتهم واستاذتهم.

فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع ورواياتها عن هؤلاء الشيوخ إلّابالوثيقة والتثبّت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم، وأن يتواكلوا في الرواية والنقل عن إمام الأئمّة ورسول ربّ العزّة الواجب حكمه، اللّازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والإنقياد لأمره، من حيث لا نجد في أنفسنا حرجاً ممّا قضاه ولا في صدورنا غلّاً من شي ء أبرمه وأمضاه؟!

أرأيتم إذا كان الرجل يتساهل في أمر نفسه ويسامح غرمائه في حقّه، فيأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حقّ غيره إذا كان نائباً عنه، كوليّ الضعيف ووصيّ اليتيم ووكيل الغائب؟

وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلّاخيانة للعهد وإخفاراً للذمّة؟

فهذا هو ذاك إمّا عيان حس وإمّا عيان مثل.

ولكن أقواماً عساهم استوعروا طريق الحقّ واستطالوا المدّة في درك الخطّ وأحبّوا عجالة النيل، فاختصروا طريق العلم واقتصروا علي نتف استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 339

وحروف منتزعة من معاني اصول

الفقه سمّوها عللًا، وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسّم برسم العلم، واتخذوها جنّة عند لقاء خصومهم، ونصبوها دريئة للخوض والجدال يتناظرون بها ويتلاطمون عليها وعند التصادر عنها قد حكم للغالب بالحذق والتبريز، فهو الفقيه المذكور في عصره والرئيس المعظّم في بلده ومصره.

هذا، وقد دسّ لهم الشيطان حيلة لطيفة وبلغ منهم مكيدة بليغة فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام وصِلُوه بمقطّعات منه واستظهروا باصول المتكلّمين، يتّسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر، فصدّق عليهم إبليس ظنّه وأطاعه كثير منهم واتّبعوه إلّافريقاً من المؤمنين، فياللرجال والعقول، أين يُذهب وأنّي يخدعهم الشيطان عن حظّهم وموضع رشدهم، واللَّه المستعان.

إنتهي كلام الخطابي» «1».

وقال شاه ولي اللَّه الدهلوي في رسالته (عقد الجيد في الاجتهاد والتقليد) أيضاً:

«فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال: التقليد حرام ولا يحلّ لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بلا برهان- ونقل كلاماً طويلًا عنه ثمّ قال-: إنّما يتمّ فيمن له ضرب من الإجتهاد ولو في مسألة واحدة، وفيمن ظهر عليه ظهوراً بيّناً أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم أمر بكذا ونهي عن هذا وأنّه ليس بمنسوخ، إمّا بأن يتتبّع الأحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة فلا يجد لها نسخاً، أو بأن يري جمّاً غفيراً من المتبحّرين __________________________________________________

(1) الانصاف في بيان أسباب الاختلاف: 63- 67.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 340

في العلم يذهبون إليه، ويري المخالف له لا يحتجّ إلّابقياس أو استنباط أو نحو ذلك، فحينئذٍ لا سبب لمخالفة حديث النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم إلّا نفاق خفي أو حمق جلي.

وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عزّالدين بن عبدالسلام حيث قال:

ومن عجب العجيب: أنّ الفقهاء المقلّدين يقف أحدهم علي ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً، وهو مع ذلك يقلّده فيه ويترك من شهد الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جموداً علي تقليد إمامه، بل يتحيّل لدفع ظاهر الكتاب والسنّة ويتأوّلهما بالتأويلات البعيدة الباطلة».

وذكر شاه ولي اللَّه في (الإنصاف) أيضاً ما نصّه:

«وممّن نظم البلقيني في سلك المجتهدين المطلقين المنتسبين، تلميذه الولي أبو زرعة، فقال: قلت مرّة لشيخنا الإمام البلقيني: ما تقصير بالشيخ تقي الدين السبكي عن الإجتهاد وقد استكمل إليه؟ وكيف يقلّد؟ قال: ولم أذكره هو- أي شيخه البلقيني- استحياء منه، لما أردت أن ارتّب علي ذلك. فسكت.

فقلت: فما عندي أنّ الإمتناع من ذلك إلّاللوظائف التي قدرت للفقهاء علي المذاهب الأربعة، وإنّ من خرج عن ذلك واجتهد لم ينله شي ء من ذلك، وحرم ولاية القضاء وامتنع الناس من استفتائه ونسب إليه البدعة.

فتبسّم ووافقني علي ذلك، إنتهي.

قلت: أمّا أنا فلا أعتقد أنّ المانع لهم من الإجتهاد ما أشار إليه، حاشا منصبهم العليّ علي ذلك، وأن يتركوا الإجتهاد مع قدرتهم عليه لغرض القضاء والأسباب، هذا ما لا يجوز لأحدٍ أن يعتقده فيهم، وقد تقدّم أنّ الراجح عند الجمهور وجوب الإجتهاد في مثل ذلك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 341

كيف ساغ للولي نسبتهم إلي ذلك ونسبة البلقيني إلي موافقته علي ذلك» «1».

كلام ابن دحية في ذمّ القياس … ص: 341

وقال ذوالنسبين ابن دحية في كتاب (شرح أسماء النبي):

«وقد كره الآن جماعة من أهل الرأي والمتصرّفة حبس الشعر وقالوا:

لأنّه علامة للجند، وكذلك كره جماعة منهم التختّم في اليمين لمّا تختّمت الروافض في اليمين.

وهذا ليس بشي ء، لأنّه ردّ للسنّة الثابتة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقد جاء الوجهان عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

وسلّم وهما تختّم في اليمين وفي الشمال، فقولهم فيه أنّهم تنزّهوا عنه بسبب الروافض، وفي الشعر لئلّا يتشبّه بالجند، فهذا تغيير للسنّة الثابتة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بدون دليل يرجع إليه، وهو باطل بالإجماع، ولا يدّعون قياساً، إذ لا أصل لهم في ذلك يختصّ بما نحن فيه، ولو كان لبطل أيضاً، فإنّ القياس في مقابل السنّة الثابتة باطل، وإنّما يرجع إليه عند عدمها، هل هذا إلّامحض العناد والتقليد المخالف للسنّة الثابتة والقرآن المجيد؟!

قال مالك: لا يحلّف القاضي المدّعي عليه إلّاأن يثبت المدّعي مخالطة بينه وبين المدّعي عليه.

وقال ابن أبي رقد: ولا يمين حتّي تثبت الخلطة وبذلك قضي حكّام المدينة.

__________________________________________________

(1) الانصاف في بيان سبب الاختلاف: 73- 74.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 342

فاعجبوا- رحمكم اللَّه- لهذا الكلام المخالف لسيّد الأنام، ثبت باتفاق في الصحيحين من حديث علقمة بن وائل عن أبيه قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقال الحضرمي: يا رسول اللَّه! إنّ هذا قد غلبني علي أرض لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حقّ. فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم للحضرمي: ألك بيّنة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. قال: يا رسول اللَّه! إنّ الرجل فاجر لا يبالي علي ما حلف عليه وليس يتورّع من شي ء. فقال: ليس لك منه إلّا ذلك، الحديث بطوله.

وفي حديث منصور عن أبي وائل، عن عبداللَّه بن مسعود، عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّه قال: شاهداك أو يمينه.

مقتضي هذا الحديث الصحيح يدلّ دلالة ظاهرة أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سمع هذه الدعوي ولم يشترط علي المدّعي فيها شرطاً، ولو أنّ

مدّعياً في هذا العصر حضر إلي قاضٍ من مقلّدي المذاهب، وأمره علي أن لا يدّعي إلّاهكذا، لأخرج من بين يديه وقيل له حرّر دعواك: أين موضع هذه الأرض؟ وكم مساحتها طولًا وعرضاً؟ مع ما يشترطون من الشرائط، أتري الشارع صلّي اللَّه عليه وسلّم تسامح في الأحكام أم وكّل الخلق بعده إلي من ينقّح شرعه من الأنام؟

وهذه واحدة ينبغي لذوي العقول أن يعلموا منها أنّ كلّ أحد يؤثر أن يسمع ما يقول ولا يردّ حوادث الفروع إلي الاصول.

واخري: أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يقل: هل بينكما خلطة أو معاشرة، أم أنت من البادية وهو من الحاضرة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 343

ولو أنّ بعض المقلّدين حكم بمذهب من مذاهب الماضين لأخرج هذا المدّعي بغير حقّ، إلّاأن يثبت الخلطة بين المتداعيين وقال: هذا خبرٌ واحدٌ خرج عن ظاهره لأجل الإستصلاح والإستحسان، وهما عند الصحابة والتابعين مهجوران، ولم يمت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حتّي ترك الشريعة بيضاء نقيّة ولم يُبْقِ منها لخالف بعده بقيّة، وأكمل اللَّه الدين ثمّ توفّي محمّداً سيّد المهتدين، ولكن طال الامّة فترك ما ينبغي أن يكون عليه المعتمد.

فاللَّه تعالي يرشد سلاطين المسلمين أن يتمسّكوا بكتاب ربّ العالمين وبالسنّة الثابتة عن سيّد المرسلين ويعضّوا عليها بالنواجذ، ولا يمكّنوا أن يأخذ بخلافهما أحد، هذا ما وجب ذكره من النصيحة في الدين، والحمد للَّه ربّ العالمين.

فحكم أهل الرأي بخلاف ما حكم به رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وقد قال اللَّه جلّ وعلا: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي اللَّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» وذكر البخاري في صحيحه في كتاب الحيل، باب إذا غصب جارية فزعم أنّها ماتت فقضي

بقيمة الجارية الميتة ثمّ وجدها صاحبها فهي له ويرد القيمة ولا تكون القيمة ثمناً:

وقال بعض الناس- وهو أبو حنيفة-: الجارية للغاصب لأخذه القيمة.

وفي هذا احتيال لمن اشتهي جارية رجل لا يبيعها فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتّي يأخذ ربّها قيمتها فيطيب للغاصب جارية غيره، وقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: أموالكم عليكم حرام، ولكلّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة.

حدّثنا أبو نعيم قال: ثنا شيبان، عن يحيي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا تنكح الأيّم حتّي تُستأمر،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 344

ولا تنكح البكر حتّي تُستأذن. قالوا: كيف إذنها؟ قال: تسكت.

وقال بعض الناس- يعني أباحنيفة- إن احتال إنسان بشاهدي زورٍ علي تزويج امرأة ثيّب بأمرها فأثبت القاضي نكاحها إيّاه والزوج يعلم أنّه لم يتزوّجها قط، فإنّه يسعه هذا النكاح ولا بأس بالمقام له معها.

حدّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ذكوان عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: البكر تستأذن. قلت: إنّ البكر تستحي. فقال: إذنها صماتها.

وقال بعض الناس: إن هوي إنسان جارية ثيّبة أو بكراً فاحتال فجاء بشاهدي زورٍ علي أنّه تزوّجها فرضيت الثيّبة فقبل القاضي شهادة الزور والزوج يعلم بطلان ذلك، حلّ له الوطء.

… ولو تتبّعنا أقوال أهل الرأي والفروع لخرجنا عن غرضنا في هذا المجموع.

فلنرجع إلي حديث من ايِّد بالوحي والتنزيل وعصم من التغيير والتبديل، فليس لأحد مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قول.

قال عبداللَّه بن عبّاس صاحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وابن عمّه: هي سنّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وكتاب اللَّه عزّ وجلّ، فمن قال بعد برأيه فلا أدري أمن حسناته

أم سيّئاته.

وقال أبو عمرو الشعبي- وقد أدرك من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أكثر من خمس مائة، فيما ذكره أبوبكر ابن أبي خيثمة-: ما حدّثوك عن أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فخذ به، وما حدّثوك برأيهم فبل عليه» «1».

__________________________________________________

(1) المستكفي في شرح أسماء النبي المصطفي- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 345

كلام الغزالي في ذمّ القياس … ص: 345

وللغزالي أيضاً كلمات في ذمّ علماء أهل السنّة العاملين بالآراء والتابعين للأهواء، ففي كتاب العلم من (إحياء العلوم):

«الباب الرّابع: في سبب إقبال الخلق علي علم الخلاف، وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشرّ إباحتها:

إعلم أنّ الخلافة بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم تولّاها الخلفاء الراشدون رضي اللَّه عنهم، وكانوا أئمة وعلماء باللَّه، فقهاء في أحكامه وكانوا مستقلّين بالفتاوي في الأقضية، وكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلّانادراً في وقايع لا يستغني فيها عن المشاورة، فتفرّع العلماء لعلم الآخرة وتجرّدوا لها، وكانوا يتدافعون الفتاوي وما يتعلّق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا علي اللَّه تعالي بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم.

فلمّا أفضت الخلافة بعدهم إلي أقوام تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوي والأحكام، اضطرّوا إلي الاستعانة بالفقهاء وإلي استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمرّ علي الطراز الأوّل وملازم صفوا الدين ومواظب علي سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، واضطرّ الخلفاء إلي الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، فرأي أهل تلك الأعصار عزّ عن العلماء وإقبال الأئمّة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبوا لطلب العلم توصّلًا إلي نيل العزّ ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبّوا علي علم الفتاوي وعرضوا أنفسهم علي الولاة وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصّلات منهم،

استخراج المرام من

استقصاء الافحام، ج 3، ص: 346

فمنهم من حُرِم ومنهم من انجح، والمنجح لم يخل عن ذُلّ الطلب ومهانة الابتذال. فأصبح الفقهاء- بعد أن كانوا مطلوبين- طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين، أذلّة بالإقبال عليهم، إلّامن وفّقه اللَّه تعالي في كلّ عصر من علماء دينه، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار علي علم الفتاوي والأقضية، لشدّة الحاجة إليها في الولايات والحكومات.

ثمّ ظهر بعدهم من الصدور والامراء من يسمع مقالات النّاس في قواعد العقائد، ومالت نفسه إلي سماع الحجج فيها، فعلم رغبته إلي المناظرة والمجادلة في الكلام، فأكبّ النّاس علي علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف، ورتّبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أنّ غرضهم الذبّ عن دين اللَّه تعالي والنضال عن السنّة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أنّ غرضهم الاستقلال بفتاوي الدين وتقلّد أحكام المسلمين، إشفاقاً علي خلق اللَّه ونصيحة لهم.

ثمّ ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام ولا فتح باب المناظرة فيه، لما كان قد تولّد من فتح بابه من التعصّبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلي إهراق الدماء وتخرّب البلاد، ومالت نفسه إلي المناظرة في الفقه وبيان الأولي من مذاهب الشافعي وأبي حنيفة رضي اللَّه عنهما علي الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وأقبلوا علي المسائل الخلافيّة بين الشافعي وأبي حنيفة رضي اللَّه عنهما علي الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد بن حنبل وغيرهم، وزعموا أنّ غرضهم استنباط دقائق الشرع وتقرير علل المذهب وتمهيد اصول الفتاوي، وأكثروا فيها التصنيفات والإستنباطات، ورتّبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 347

مستمرّون عليه إلي الآن، ولسنا ندري ما الذي يحدث اللَّه تعالي فيما

بعدنا من الأعصار، فهذا هو الباعث علي الإكباب علي الخلافيّات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلي الخلاف مع إمام آخر من الأئمّة، أو إلي علم آخر من العلوم، لمالوا أيضاً معهم، ولم يسكتوا عن التعلّل بأنّ ما اشتغلوا به علم الدين، وزعموا أن لا مطلب لهم سوي التقرّب إلي ربّ العالمين، واللَّه أعلم» «1».

الكلام في حديث معاذ … ص: 347

هذا، وقد نص الأئمة علي بطلان ما رووه عن معاذ بن جبل في الإجتهاد والعمل بالرأي.

قال الذهبي في (الميزان):

«الحارث بن عمرو الثقفي، ابن أخي المغيرة، عن رجال، عن معاذ، بحديث الإجتهاد، قال البخاري: لا يصحّ حديثه.

قلت: تفرّد به أبو عون محمّد بن عبيداللَّه الثقفي عنه، وما روي عن الحارث غير أبي عون، فهو مجهول.

وقال الترمذي: ليس إسناده عندي بمتّصل» «2».

وفي كتاب (المغني):

«الحارث بن عمرو، عن رجال، عن معاذ. قال البخاري: لايصحّ __________________________________________________

(1) إحياء علوم الدين 1: 41- 42/ كتاب العلم، الباب الرابع.

(2) ميزان الاعتدال 2: 175/ 1637.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 348

حديثه» «1».

وفي (مرقاة الصعود) للسيوطي في شرح هذا الحديث:

«قال الحافظ جمال الدين المزي: الحارث بن عمرو لا يعرف إلّابهذا الحديث.

قال البخاري: لا يصحّ حديثه ولا يعرف».

وفي (تذهيب التهذيب):

«الحارث بن عمرو الثقفي ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن اناس من أهل حمص عن معاذ، وعنه أبو عون محمّد بن عبيداللَّه الثقفي: حديث أجتهد رأيي. قال البخاري: لا يصحّ» «2».

وفي (الكاشف):

«الحارث بن عمرو ابن أخ للمغيرة بن شعبة عن اناس من أهل حمص، عن معاذ، وعنه أبو عون محمّد الثقفي في الاجتهاد. قال البخاري: لا يصحّ» «3».

وفي (التقريب):

«الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثففي، ويقال ابن عون مجهول. من السادسة» «4».

وهذا نصّ كلام الترمذي:

__________________________________________________

(1) المغني

في الضعفاء 1: 225/ 1242.

(2) تذهيب التهذيب تهذيب التهذيب 2: 132.

(3) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستة 1: 150/ 875.

(4) تقريب التهذيب 1: 143.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 349

«باب ما جاء في القاضي كيف يقضي: حدّثنا هناد، ثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي عون، عن الحارث بن عمرو، عن رجال من أصحاب معاذ، عن معاذ:

أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بعث معاذ إلي اليمن فقال: كيف تقضي؟

فقال: أقضي بما في كتاب اللَّه. قال: فإن لم يكن في كتاب اللَّه؟ قال: فبسنّة رسول اللَّه. قال: إن لم يكن في سنّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قال:

أجتهد رأيي. قال: الحمد للَّه الذي وفّق لرسول رسول اللَّه.

حدّثنا محمّد بن بشار، ثنا محمّد بن جعفر وعبدالرحمان بن مهدي قالا:

ثنا شعبة، عن أبي عون، عن الحارث بن عمرو ابن أخ للمغيرة بن شعبة، عن اناس من أهل حمص، عن معاذ عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم بنحوه.

هذا حديث لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتّصل، وأبو عون الثقفي اسمه محمّد بن عبيداللَّه» «1».

وقال ابن حزم- وهو شيخ الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين- في (المحلّي):

«وحديث معاذ الذي فيه: أجتهد برأيي ولا آلو، لا يصحّ، لأنّه لم يروه إلّا الحارث بن عمرو، وهو مجهول الحال لا يدري من هو، عن رجال من أهل حمص لم يسمّهم، عن معاذ» «2».

بل في (مرقاة الصعود) عن الجوزقاني:

«هذا حديث باطل، رواه جماعة عن شعبة، وقد تصفّحت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل __________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 3: 616- 617/ 1327- 1328 كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي.

(2) المحلّي في الفقه 1:

62.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 350

عنه، فلم أجد له طريقاً غير هذا، والحارث بن عمرو هذا مجهول، وأصحاب معاذ من حمص لا يعرفون، ومثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من اصول الشريعة.

فإن قيل: إنّ الفقهاء قاطبة أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه!

قيل: هذا طريقه، والخلف قلّد فيه السلف، فإن أظهروا طريقاً غير هذا ممّا يثبت عند أهل النقل رجعنا إلي قولهم، وهذا ممّا لا يمكنهم البتّة».

وإليك كلمة شاه ولي اللَّه في (حجة اللَّه البالغة) بعد كلامٍ له:

«وإذا تحقّقت هذه المقدّمة، اتّضح عندك أنّ أكثر المقاييس التي يفتخر بها القوم، ويتطاولون لأجلها علي معشر أهل الحديث، يعود وبالًا عليهم من حيث لا يعلمون» «1».

إنكار الإمام الصادق علي أبي حنيفة برواية ابن شبرمة … ص: 350

وروي كمال الدين الدميري، إنكار الإمام أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام علي أبي حنيفة العمل بالقياس، قال:

«قال ابن شبرمة: دخلت أنا وأبو حنيفة علي جعفر بن محمّد الصادق رضي اللَّه عنه.

فقلت: هذا رجل فقيه من أهل العراق.

فقال: لعلّه الذي يقيس الدين برأيه، أهو نعمان بن ثابت، ولم أعرف __________________________________________________

(1) حجة اللَّه البالغة 1: 131.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 351

اسمه إلّاذلك اليوم؟

فقال له أبو حنيفة: نعم أنا ذاك، أصلحك اللَّه.

فقال له جعفر: إتّق اللَّه ولا تقس الدين برأيك، فإنّ أوّل من قاس برأيه إبليس، إذ قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فأخطأ بقياسه وضلّ.

ثمّ قال له: أتحسن أن تقيس رأسك من جسدك؟

قال: لا.

قال جعفر رضي اللَّه عنه: فأخبرني لما جعل اللَّه الملوحة في العينين والمرارة في الاذنين والماء في المنخرين والعذوبة في الشفتين؟ لأيّ شي ء جعل اللَّه ذلك؟

قال: لا أدري.

قال جعفر رضي اللَّه عنه: إنّ اللَّه خلق العينين فجعلهما شحمتين، وخلق الملوحة فيهما منّاً

منه علي ابن آدم، ولولا ذلك لذابتا فذهبتا، وجعل المرارة في الاذنين منّاً منه عليه، ولولا ذلك لهجمت الدوابّ فأكلت دماغه، وجعل الماء في المنخرين ليصعد منه النفس وينزل ويجد منه الرائحة الطيّبة من الرائحة الرديّة، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم لذّة المطعم والمشرب.

ثمّ قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أوّلها شرك وآخرها إيمان ما هي؟

قال: لا أدري.

قال جعفر رضي اللَّه عنه: كلمة لا إله إلّااللَّه، فلو قال: لا إله ثمّ سكت كان شركاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 352

ثمّ قال: ويحك! أيّما أعظم عنداللَّه إثماً: قتل النفس التي حرّم اللَّه عزّ وجلّ بغير حقّ أو الزنا؟

قال: بل قتل النفس.

فقال جعفر رضي اللَّه عنه: إنّ اللَّه تعالي قبل في قتل النفس شهادة شاهدين ولم يقبل في الزنا إلّاأربعة، فأنّي يقوم لك القياس.

ثمّ قال: أيّما أعظم عند اللَّه: الصوم أو الصلاة؟

قال: الصلاة.

قال: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟

إتّق اللَّه يا عبداللَّه ولا تقس الدين برأيك، فإنّا نقف غداً ومن خالفنا بين يدي اللَّه فنقول: قال اللَّه تعالي وقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا، فيفعل اللَّه تعالي بنا وبكم ما شاء» «1».

ترجمة ابن شبرمة … ص: 352

هذا، ولا بأس بالتعرض لترجمة ابن شبرمة بإيجاز:

قال النووي في (تهذيب الأسماء واللّغات):

«عبداللَّه بن شبرمة، التابعي، مذكور في المهذّب في أوّل نكاح المشرك هو:

أبو شبرمة، عبداللَّه بن شبرمة بن الطفيل بن حسان المنذر بن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد ابن ضبة الضبي، الكوفي التابعي، فقيه أهل الكوفة، روي عن الشعبي __________________________________________________

(1) حياة الحيوان 2: 4.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3،

ص: 353

وابن سيرين وآخرين.

روي عنه: السفيانان وشعبة ووهيب وغيرهم.

اتفقوا علي توثيقه والثناء عليه بالجلالة، وكان قاضياً لأبي جعفر المنصور علي سواد الكوفة. وقال الثوري: مفتينا ابن أبي ليلي وابن شبرمة. وقال: وكان ابن شبرمة عفيفاً عاقلًا فقيهاً يشبه النسّاك، ثقة في الحديث، شاعراً حسن الخلق، جواداً.

توفّي سنة أربع وأربعين ومائة» «1».

وقال الذهبي في (الكاشف):

«عبداللَّه بن شبرمة الضبي، قاضي الكوفة وفقيهها، عن أنس بن مالك وأبي الطفيل وأبي وائل.

وعنه: عبداللَّه بن المبارك وعبدالوارث التنوري وطائفة.

وثّقه أحمد وأبو حاتم، توفي 144» «2».

وفي حاشية الكاشف: «قال أبو معمر بن عبدالوارث: ما رأيت أحداً أسرع جواباً من ابن شبرمة، ما كان الرجل يتمّ المسألة حتّي يرميه بالجواب.

قال الثوري: جالس ابن سيرين بواسط، استشهد به البخاري في الصحيح، ويروي عنه في الأدب».

وقال اليافعي في وفيات سنة 144:

«وفيها توفّي فقيه الكوفة: أبو شبرمة عبداللَّه بن شبرمة الضبي القاضي، روي عن أنس والتابعين، وكان عفيفاً عارفاً عاقلًا، يشبه النسّاك، شاعراً

__________________________________________________

(1) تهذيب الاسماء واللغات 1: 271/ 307.

(2) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستة 2: 91/ 2797.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 354

جواداً» «1».

وقال ابن حجر:

«عبداللَّه بن شبرمة- بضمّ المعجمة وسكون الموحّدة وضمّ الراء- ابن الطفيل بن حسان الضبي، أبو شبرمة الكوفي القاضي، ثقة، فقيه، من الخامسة، مات سنة أربع وأربعين» «2».

هذا، ولا يتوهّم أن الدميري يخدش في صحّة الخبر، بل إنّ محاولته للجواب بزعمه عن أسئلة الامام مثبتة له ولبلادة أبي حنيفة، فيقول الدميري:

«والجواب في أنّ الزناء لا يقبل فيه الأربعة طلباً للستر، وفي الحائض لا تقضي الصّلاة دفعاً للمشقّة، لأنّ الصّلاة تتكرّر في اليوم واللّيلة خمس مرّات، بخلاف الصوم فإنّه في السنة مرّة، واللَّه أعلم» «3».

فمقصود الدميري- كالرازي في رسالة (مناقب

الشافعي)- ليس إلّاإظهار عجز أبي حنيفة عن الجواب، ويشهد بذلك ما حكاه عن ابن خلكان تأييداً لرواية ابن شبرمة قبلها في هذا الباب حيث قال:

«وذكر ابن خلكان في ترجمة جعفر الصادق إنّه سأل أباحنيفة: ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي؟

فقال: يا ابن بنت رسول اللَّه! لا أعلم ما فيه.

فقال: إنّ الظبي لا يكون رباعياً وهي ثني أبداً.

كذا حكاه كشاجم في كتاب المصائد والمطارد.

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 1: 233- وفيات السنة 144.

(2) تقريب التهذيب 1: 422/ 372.

(3) حياة الحيوان 2: 4.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 355

وقال الجوهري في مادة سنن في قول الشاعر في وصف الإبل:

فجاءت كسن الظبي لم أر مثلها سناء فتيل أو حلوبة جائع أي هي ثنيات، لأنّ الثني هو الذي يلقي ثنية، والظبي لا رباعيّة له فهو ثني أبداً.

وقال ابن شبرمة …» «1».

وهذا أصل ألفاظ ابن خلكان:

«وحكي كشاجم في كتاب المصائد والمطارد: أنّ جعفر المذكور سأل أبا حنيفة فقال: ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي؟

فقال: يا ابن رسول اللَّه! ما أعلم فيه.

فقال له: أنت تتداهي ولا تعلم أنّ الظبي لا يكون له رباعية، وهي ثني أبداً» «2».

ورواه اليافعي أيضاً:

«وذكر بعض المؤرخين إنّه- يعني جعفر الصادق عليه السلام- سأل أبا حنيفة فقال: ما تقول في محرم كسر رباعيّة ظبي؟

فقال: يا ابن رسول اللَّه! ما أعلم ما فيه؟

فقال له: أنت تتداهي ولا تعلم أنّ الظبي لا يكون له رباعية وهو ثني أبداً؛ يعني من الدهاء: قوّة الفهم وجودة النظر» «3».

__________________________________________________

(1) حياة الحيوان 2: 4.

(2) وفيات الأعيان 1: 328/ 131.

(3) مرآة الجنان 1: 328.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 356

تحريم أهل البيت العمل بالقياس … ص: 356

وكما علم من الكلمات السابقة إنكار الإمام الصادق عليه السلام وتحريمه القياس

في الشريعة، فقد صرّح غير واحدٍ منهم باشتهار هذا المعني عن أهل البيت كلّهم عليهم السلام، وممّن نصّ علي ذلك: العبري الفرغاني بشرح قول القاضي البيضاوي: «نقل الإماميّة إنكاره- أي القياس- عن العترة.

قلنا: معارض بنقل الزيديّة» فإنّه قال:

«والحقّ أنّه قد اشتهر من أهل البيت كالباقر والصادق وغيرهما من الأئمّة- رضوان اللَّه عليهم- إنكار القياس، كما اشتهر من أبي حنيفة والشافعي ومالك القول بوجوب العمل به» «1».

وأمّا عمل الحنفيّة بالقياس وبعدهم عن الحديث، فمشهور جدّاً ولا ينكره أحد أبداً:

قال الفخر الرازي في (رسالته) في ترجيح مذهب الشافعي: «وأمّا أصحاب الرأي، فإنّ أمرهم في باب الخبر والقياس عجيب، فتارة يرجّحون القياس علي الخبر وتارة بالعكس؛ أمّا الأوّل، فهو أنّ مذهبنا أنّ التصرية سبب مثبت للرد وعندهم ليس كذلك، ودليلنا: ما اخرج في الصحيحين عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا تُصرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو يخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردّها، وردّ معها صاعاً من تمر.

واعلم: أنّ الخصوم لمّا لم يجدوا لهذا الخبر تأويلًا البتّة، بسبب أنّه __________________________________________________

(1) شرح المنهاج في الاصول للعبري الفرغاني- مخطوط، وانظر شرح شمس الدين الاصفهاني 2: 654- 655.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 357

مفسّر في محلّ الخلاف، اضطرّوا إلي أن يطعنوا في أبي هريرة وقالوا: إنّه كان متساهلًا في الرواية وما كان فقيهاً، والقياس علي خلاف هذا الخبر، لأنّه يقتضي تقدير خيار العيب بالثلث، ويقتضي تقويم اللّبن بصاع من تمر من غير زيادة ولا نقصان، ويقتضي إثبات عوض في مقابلة لبن حادث بعد العقد، وهذه الأحكام مخالفة للأصول، فوجب ردّ ذلك الخبر لأجل القياس.

هذا كلامهم في ترجيح القياس علي الخبر،

أمّا كلامهم في ترجيح الخبر علي القياس الجلي فهو من وجوه:

أحدها: إنّ انتقاض الطهارة بسبب القهقهة في الصلاة أمر يأباه القياس الظاهر، ثمّ إنّهم أثبتوا ذلك بسبب خبر ضعيف ما قبله أحد من علماء الحديث.

وثانيها: وهو أعجب من الأوّل، إنّهم يقدّمون عمل الصحابة علي القياس الجلي، بل علي الدليل المستفاد من نصّ القرآن.

أمّا الأوّل: فلأنّه إذا وقعت عصفورة في بئر وتفسّخت قالوا ينزح منها عشرة أدل ويصير الباقي طاهراً، وصريح العقل يشهد بدفع هذا الحكم، لأنّ ماء البئر شي ء متشابه الأجزاء، فكيف يعقل أن يكون نزح بعض ذلك الماء سبباً لصيرورة الباقي طاهراً، فعند هذا قالوا إنّما حكمنا بذلك لأنّه نقل هذا المذهب عن بعض الصحابة.

وأمّا الثاني: فإنّ البائنة في مرض الموت، صريح كتاب اللَّه يقتضي إنّها ليست زوجة له، لأنّها لو كانت زوجة لكان إذا ماتت يجب أن يرث عنها لقوله تعالي: «ولكم نصف ما ترك أزواجكم» الآية، وبالإجماع الزوج لا يرث منها، فثبت إنّها ليست زوجة له، وإذا ثبت هذا، وجب أن لا ترث هي منه، لأنّ الربع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 358

نصيب الزوجات، فمنع أن يكون شي ء منه نصيباً لهذه البائنة، لدليل ظاهر من كتاب اللَّه تعالي في هذه المسألة. ثمّ إنّهم قالوا إنّها ترث بدليل أنّ عثمان بن عفّان قضي بذلك في حقّ تماضر زوجة عبدالرحمن بن عوف، والعجب أنّ ابن عوف وابن الزبير كانا مخالفين لعثمان في هذه الفتوي ثمّ إنّهم قدّموا فتوي عثمان في هذه المسألة علي ظاهر كتاب اللَّه تعالي.

فثبت أنّهم تارة يقدّمون القياس علي الخبر، وتارة يقدّمون عمل بعض الصحابة علي الكتاب، وتارة يعكسون الأمر في هذه الأبواب، وذلك يدلّ علي أنّ طريقتهم غير

مبنيّة علي قانون مستقيم، أنشد بعضهم:

دين النبيّ محمّد آثار نعم المطيّة للفتي الأخبار

ولربّما غلط الفتي سبل الهدي والشمس واضحة لها أنوار

لا تغفلنّ عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار»

العبري من الحنفية … ص: 358

هذا، والعبري الفرغاني من علماء الحنفيّة، وقال بعضهم: كان مدرّساً متقناً لمذهب الحنفي والشافعي كليهما، قال اليافعي بترجمته:

«سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، فيها توفّي الإمام العلّامة قاضي القضاة عبيداللَّه بن محمّد العبيدي الفرغاني، الحنفي، البارع العلّامة المناظر، يضرب بذكائه ومناظراته المثل، كان إماماً بارعاً متقناً، خرج به الأصحاب، يعرف المذهبين الحنفي والشافعي، أقرأهما وصنّف فيهما، وأمّا الاصول والمعقول فتفردّ فيهما بالإمامة، وله تصانيف منها شرح الغاية في الفقه في مذهب الشافعي، وشرح الطوالع، وشرح المصباح، وشرح المنهاج للبيضاوي، وغير

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 359

ذلك من التصانيف والأمالي والتعاليق، وولي تبريز وأعمالها إلي أن توفّي، وكان استاذ الاستاذين في وقته» «1».

وقال ابن حجر:

«عبيداللَّه بن محمّد الهاشمي الحسيني الفرغاني الشريفي المعروف بالعبري- بكسر المهملة وسكون الموحّدة- كان عارفاً بالأصلين، وشرح مصنّفات القاضي ناصرالدين البيضاوي المنهاج والمطالع والغاية في الفقه والمصباح، وسكن سلطانيّة ثمّ تبريز وولي قضاءها، ذكره الأسنوي في طبقات الشافعيّة ويقال: إنّه كان يقرأ المذهبين وكان أوّلًا حنفيّاً. وذكره الذهبي في المشتبه في العبري فقال: عالم كبير في وقتنا وتصانيفه سائرة.

ومات في شهر رجب سنة 643.

قلت: رأيت بخط بعض فضلاء العجم أنه مات في غرّة ذي الحجّة منها- وهو أثبت- ووصفه فقال:

هو الشريف المرتضي قاضي القضاة، كان مطاعاً عند السلاطين، مشهوراً في الآفاق، مشاراً إليه في جميع الفنون، ملاذاً للضعفاء، كثير التواضع والإنصاف، ومال في أوخر عمره إلي الإشتغال في العلوم الدينيّة، وشرح كتاب المصابيح في المسجد الجامع بحضرة الخاص والعام، بعبارات عذبة فصيحة قريبة من الأفهام،

وكانت وفاته بتبريز» «2».

وقال ابن جماعة في (طبقات الشافعية):

«عبيداللَّه بن محمّد الشريف برهان الدين الحسيني الفرغاني المعروف __________________________________________________

(1) مرآة الجنان 4: 230.

(2) الدرر الكامنة بأعيان المائة الثامنة 2: 433/ 2560.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 360

بالعبري، قاضي تبريز، كان جامعاً لعلوم شتّي من الأصلين والمعقولات، وله تصانيف مشهورة، وسكن السلطانيّة مدّة ثمّ انتقل إلي تبريز، وشرح كتب البيضاوي: المنهاج والغايةالقصوي والمصباح والمطالع، ذكره الأسنوي في طبقاته لكن قال الحافظ الزين العراقي في ذيل العبر: كان حنفيّاً يقرأ مذهب أبي حنيفة والشافعي، وصنّف فيهما. وقال الذهبي في المشتبه: النبيل العبري عالم كبير في وقتنا، توفي بتبريز في رجب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، والعبري- بكسر العين المهملة وسكون الباء الموحّدة- لا أدري نسبة إلي ماذا».

وقال ابن قاضي شهبة:

«عبيداللَّه بن محمد بن الشريف برهان الدين الحسيني الفرغاني، المعروف بالعبري، قاضي تبريز، كان جامعاً لعلومٍ شتّي من الأصلين والمعقولات، وله تصانيف مشهورة. وسكن السلطانيّة مدةً، ثم انتقل إلي تبريز، وشرح كتب البيضاوي: المنهاج، والغاية القصوي، والمصباح، والطوالع.

ذكره الإسنوي في طبقاته.

لكنْ قال الحافظ زين الدين العراقي في ذيل العبر: كان حنفيّاً، يقري ء مذهب أبي حنيفة والشافعي، وصنّف فيهما … توفي سنة 743» «1».

وأمّا الإماميّة فيتّبعون السنّة المكرَّمة، فإنّ أحكام الشّريعة المطهّرة عندهم متّخذة من الأخبار الواصلة إليهم من أئمّة العترة المعصومين، ومن هنا قال ابن تيميّة مشنّعاً عليهم:

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعيّة 3: 183 برقم 597.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 361

«وأمّا الفقه، فهم من أبعد النّاس عن الفقه، وأصل دينهم في الشريعة هي مسائل ينقلونها عن بعض علماء أهل البيت، كعليّ بن الحسين وابنه أبي جعفر وابنه جعفر بن محمّد، وهؤلاء رضي اللَّه عنهم من أئمّة الدين وسادات المسلمين،

لكن لا ينظرون في الإسناد إليهم هل يثبت النقل إليهم أم لا؟ فإنّه لا معرفة لهم بصناعة الحديث والأسناد.

ثمّ إنّ الواحد من هؤلاء إذا قال قولًا لا يطلب دليله من الكتاب والسنّة ولا ما يعارضه، ولا يردّون ما تنازع فيه المسلمون إلي اللَّه والرسول كما أمر اللَّه به ورسوله، بل قد أصّلوا لهم ثلاثة اصول: أحدها: أنّ هؤلاء معصومون.

والثاني: أنّ كلّما يقولون فإنّه نقل عن النبي. والثالث: إنّ إجماع العترةحجّة وهؤلاء هم العترة، فصاروا لذلك لا ينظرون إلي دليل ولا تعليل … وإنْ كانت المسألة ممّا انفردوا بها اعتمدوا علي الاصول الثلاثة التي فيها من الجهل والضلال ما لا يخفي» «1».

فتاوي تُوُهّم كونها قياسا … ص: 361

ثمّ إنّ بعض أهل السنّة توهّم استناد الإماميّة في بعض الفتاوي الفقهيّة إلي القياس … ولكنْ لا علاقة لشي ء منها بالقياس أصلًا، وما ذكره بهذه المناسبة كلّه سخيف موهون:

فإنّ الحكم بتطهير الأرض لخشبة الأقطع وأسفل العصا وأسفل الرمح ونحوها، ليس من قبيل القياس الذي هو دأب أهل الخلاف والوسواس، بل منشأ هذا الحكم كما لا يخفي علي الممارس للأخبار المتفحّص للآثار، هو

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 6: 380.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 362

الأحاديث المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام، الدالّة بالعموم والإطلاق علي تطهير الأرض للمتنجّسات بالأقذار:

فمنها: ما عن المعلّي بن خنيس قال: «سألت الصادق عليه السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمرّ علي الطريق فيسيل منه الماء، أمرُّ عليه حافياً؟

فقال: أليس ورائه شي ء جاف؟ قلت: بلي. قال: لا بأس، إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً» «1».

وعن محمّد الحلبي في الموثّق قال: «نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر، فدخلت علي الصادق عليه السلام، فقال: أين نزلتم؟ فقلت: نزلنا في دار فلان. فقال: إنّ

بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً، أو قلنا له: إنّ بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً، فقال: لا بأس، الأرض يطهّر بعضها بعضاً» «2».

ومنها: ما في مستطرفات السرائر نقلًا عن نوادر أحمد بن أبي نصر عن المفضّل بن عمر، عن محمّد بن علي الحلبي، عن الصادق عليه السلام قال:

«قلت له: إنّ طريقي إلي المسجد في زقاق يبال فيه، فربّما مررت فيه وليس علَيّ حذاء فيلصق برجلي من نداوته، فقال: أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ فقلت: بلي. قال: لا بأس، إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً. قلت: فأطأ علي الروث الرطب؟! قال: لا بأس، أنا واللَّه ربّما وطأت عليه ثمّ اصلّي ولا أغسله» «3».

وفي الحسن أو الصحيح عن محمّد بن مسلم قال: «كنت مع الباقر عليه __________________________________________________

(1) الكافي 3: 39/ 5، كتاب الطهارة، باب: الرجل يطأ علي العذرة …

(2) المصدر نفسه 3: 38/ 3.

(3) كتاب السرائر في الفقه. المستطرفات 3: 555.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 363

السلام، إذ مرّ علي عذرة يابسة فوطأ عليه فأصاب ثوبه، فقلتُ: جعلت فداك! وطأت علي عذرة فأصابت ثوبك. فقال عليه السلام: أليست يابسة؟ فقلت:

بلي. قال: لا بأس، إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً» «1».

فما تكرّر من قولهم عليهم السلام في هذه الأخبار إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً، معناه علي ما أفاده الأعلام: أنّ بعضها يطهّر ما تنجّس ببعض، وإنّما أسند إلي البعض مجازاً كما يقال الماء مطهّر للبول أي لنجاسة البول، فالمطهّر- بصيغة اسم المفعول- ما ينجّس بالبعض لا نفس البعض، وهذا بالإطلاق يدلّ علي تطهير الأرض لكلّ ما ينجس، خرج منه ما أخرجه الدليل وبقي الباقي علي حاله.

وأمّا التعميم لكلّ ما يوطأ به من الخفّ والنعل وخشبة الأقطع، فمع قطع

النظر عن دلالة هذا القول عليه، يدلّ عليه إطلاق صحيحة الأحول أيضاً:

روي ثقة الإسلام في الصحيح عن الأحول عن الصادق عليه السلام قال:

«في الرجل يطأ علي الموضع الذي ليس بنظيف ثمّ يطأ بعده مكاناً نظيفاً؟ قال:

لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعاً ونحو ذلك» «2».

وهكذا إطلاق موثّقة الحلبي السابقة.

فإنّ هذين الخبرين يدلّان علي طهارة ما يوطأ به، أعمّ من أن يكون أسفل القدم أو غيره، وهذا الفقيه الكبير، الشيخ يوسف البحراني- الذي لا يختلف في جلالة فضله وعظمة شأنه من الأخباريّة اثنان، وتصفه بفضائل ومدائح عظيمة الشأن باهرة البرهان- قد أقرّ بإمكان استفادةهذا الحكم من __________________________________________________

(1) الكافي 3: 38/ 2.

(2) الكافي 3: 38/ 1.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 364

الأحاديث، حيث قال في (الحدائق) مشيراً إلي صحيحة الأحول وموثّقة الحلبي:

«والظاهر أنّه إلي إطلاق هذين الخبرين استند من عمّم الحكم في كلّ ما يوطأ به من خفّ أو نعل ولو من خشب مثل خشبة الأقطع».

وقال أيضاً: «ربّما أمكن شمول الحكم لها- أي خشبة الأقطع- من حيث قوله عليه السلام في جملة من الأخبار المتقدّمة: إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً، بل ربّما استفيد منه تطهير أسفل العصا والرمح …» «1».

فهيهات ثمّ هيهات أن يطعن في مثل هذه الأحكام المستندة إلي أحاديث المعصومين الكرام بأنها مبنيّة علي الرأي والقياس، ويرمي الأمر الواضح الجلي بالإرتياب والإلتباس، ولكن حبّ المماراة يحدو علي هذه العظائم، والاستبداد بالرأي يوقع في هذه المقاحم.

وهكذا الحكم بطهارة ما لا ينقل ولا يحوّل، نحو الأبواب والأخشاب والأوتاد والأشجار والثمار التي علي الشجر، بتجفيف الشمس إيّاها، وجهه أوضح من الشمس وليس بقياس، ولا يقول بكونه قياساً إلّامن لا يعرف معني القياس، ولم يجتن من شجرة التحقيق

ثمراً، ولم يصب من التدقيق عيناً ولا أثراً، فإنّ هذا الحكم مستند إلي عموم الأحاديث الواردة في هذا الباب، الشاملة لنحو الأخشاب والأبواب.

قال في (الحدائق)- بعد ذكر رواية أبي بكر الحضرمي عن الباقر عليه السلام قال: يا أبابكر! ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر- ما هذا لفظه:

«وهي- كما تري- ظاهرة في القول المشهور من طهارة الأرض والحصر

__________________________________________________

(1) الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة 5: 455.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 365

والبواري وما لا ينقل ولا يحوّل، وهي وإن كانت مطلقة بالنسبة إلي ما زاد علي ذلك، إلّاأنّه لابدّ من تقييدها بما ذكروه، وأنّ ما ينقل ويحوّل لابدّ من غسله بالأدلّة الكثيرة، وكذلك بالنسبة إلي النجاسة بجميع النجاسات.

وبالجملة، فإنّها ظاهرة الدلالة علي القول المشهور، وإن أمكن تطرّق المناقشة إلي الطهارة فيها بالتأويل المتقدّم، إلّاأنّه خلاف الظاهر».

وقال بعد كلام: «ويعضد هذه الرواية أيضاً ما في الفقه الرضوي حيث قال عليه السلام: ما وقعت عليه الشمس من الأماكن التي أصابها شي ء من النجاسات مثل البول وغيره طهر منها، وأمّا الثياب فإنّها لا تطهر إلّابالغسل، وهي ظاهرة تمام الظهور في القول المشهور» «1».

ولقد وضح الصبح لذي عينين ولم يبق مجال لرواج البهت والمين، حيث أسفر الحقّ إسفاراً ووضح الأمر جهاراً، فكيف يمكن للمنصف الذي لم يردعه رمص التعصّب عن إدراك الحقيقة، والبصير الناقد الذي لم يعتره ريب في الامور الواضحة التي هي بالإذعان حقيقة، أن يقول إنّ هذا الحكم الذي يدلّ عليه الأحاديث بالظهور ويشير إليه روايات أهل العصمة من غير حجاب مستور، مبني علي القياس الممنوع والدليل الفاسد المردوع.

ولعمري، إنّ من يرمي هذا الحكم بالقياس مع اندراجه في عموم الأحاديث المأثورة عن هداة الناس، ورعاتهم وحفّاظهم عن

وسواس الخنّاس، كيف لا يتوقّي من اتّساع الخرق عليه بلزوم الحكم بالقياس علي جلّ الجزئيّات التي حكم عليها الأصحاب لانسلاكها في الإطلاقات والعمومات.

وأعجب من ذلك كلّه زعم هذا القائل وادّعاء هذا المجادل: أنّ منع __________________________________________________

(1) الحدائق الناضرة 5: 438- 439.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 366

العلّامة الحلّي من إخراج الرواشن والأجنحة إلي الطرق النافذة إذا استلزمت الإشراف علي جاره وضرّ به وإن لم تضرّ بالمارّة، من باب القياس، وهذا أعجب من كلّ عجيب وأغرب من كلّ غريب.

وليت شعري أيّة مناسبة ومشابهة للقياس بذلك، إنّما هو مستند إلي الأحاديث الدالّة علي عدم جواز التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، والطريق يصير ملكاً للمسلمين كلّهم بإحيائهم إيّاه وكذا قراره وهواؤه، فالمنع من التصرّف فيه بإخراج الرواشن والأجنحة كيف يكون من القياس الموجب للجناح؟ وهذا واضح بيّن صراح.

وأمّا تصريح العلّامة بأنّه لا يعرف نصّاً من الخاصّة والعامّة في هذا الباب، وإنّما أفتي بما أفتي عن الإجتهاد، فمعناه واضح صحيح كما لا يخفي علي أهل السداد، لأنّ مراده قدّس اللَّه روحه- كما ينادي به ألفاظه جهاراً- أنّه لم يجد نصّاً علي هذه المسألة بخصوصها من العامّة والخاصّة، لا أنّه لم يجد عليها دليلًا من الكتاب والسنّة أصلًا وقاله بمحض الرأي والتشهّي، وكيف يظنّ به ذلك- العياذ باللَّه منه- مع أنّه يصرّح بأنّه إنّما صار إلي ما أفتي به عن الإجتهاد، والإجتهاد- كما فسّره هو وغيره من العلماء- هو استنباط الأحكام من القرآن والسنّة الغرّاء، فقد ظهر أنّه ادّعي العلّامة أنّ هذا الحكم مستنبط من الكتاب والسنّة، وإنّما نفي كونه وارداً في النصوص بالخصوص.

وكيف يظنّ بالعلّامة الحلّي رحمه اللَّه أنّه عمل بالقياس أو حكم بمحض الرأي، مع أنّه قد

صرّح رحمه اللَّه في كتبه ومصنّفاته بتحريم ذلك وعدم جوازه وثبت تحريمه بضرورة دين الإماميّة، ولم يختلف في عدم جوازه منهم اثنان، واللَّه الهادي والمستعان والعاصم من المجازفة والعدوان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 367

وأمّا مسألة العوض في الخلع إذا كان معيّناً ثمّ ظهر معيباً، فما قال فيها العالم الربّاني ذو النّور الشعشعاني والمجد الصمداني الشهيد الثاني، فوجهه غير خفيّ علي القاصي والداني، فإنّ استحسانه- رحمه اللَّه- تعيّن أخذ الأرش في صورة فوات الوصف، نشأ نظراً إلي الحديث المشهور والنصّ المأثور من أنّه لا ضرر ولا ضرار، وغيره من الأحاديث الدالّة علي عدم جواز التسلّط علي ملك الغير المأثورة عن المعصومين الأخيار، خرج منها ما أخرجه الدليل وبقي الباقي علي حاله. وأيضاً يؤيّده أصل عدم التسلّط وعدم ثبوت اختيار المطالبة بالمثل والقيمة، أمّا أخذ الأرش فصار إليه لمكان الدليل عليه، ولم يزد عليه من المطالبة بالقيمة أو المثل لعدم ثبوت ذلك عنده.

وأمّا حكم المحقّق الحلّي بإجزاء أذان المنفرد إذا أراد الجماعة، فذلك أيضاً غير مبنيّ علي القياس المذموم والرأي الملوم، فإنّ القياس هو تعدية الحكم من جزئيّ إلي جزئيّ آخر، والأمر هاهنا ليس كذلك، بل مبني هذا الحكم في الواقع هو أصل عدم لزوم الإعادة، والحكم بصحّة الأفعال الواقعة علي نهج الشرع واعتبارها، حتّي يظهر دليل علي عدم اعتبارها، فإنّ المنفرد الذي أذّن لنفسه ثمّ أراد الجماعة، قد وقع منه الأذان صحيحاً، فعدم اعتبار ذلك الأذان والحكم بإعادته يحتاج إلي دليل يدلّ عليه.

و كون إرادة الجماعة موجبة للإعادة، غير ثابت عند من يقول بعدم لزوم الإعادة، لأنّ الرواية الواردة بذلك ضعيفة السند، وقد عارضها خبر أبي مريم الأنصاري قال: صلّي بنا أبو جعفر عليه

السلام في قميص بلا إزار ولا رداء ولا إقامة فقال: إنّ قميصي كثيف فهو يجزي أن لا يكون علَيّ إزار ولا رداء، وإنّي مررت بجعفر وهو يؤذّن ويقيم فلم أتكلّم فأجزأني ذلك، إنتهي. وظاهره استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 368

ترتّب الإجزاء علي مجرّد سماع الأذان من غير مدخليّة لما عدا ذلك كما أفيد.

وأمّا الإستدلال بالأولويّة، فهو تأييد لذلك الدليل الدالّ علي الاجتزاء، مع أنّه لو بنينا الحكم علي هذا أيضاً لم يكن فيه شنعة، لأنّ الإستدلال بالأولويّة ممّا قد ثبت حجيّته بالدلائل القاطعة والبراهين الصادعة، وهو ليس من القياس المذموم في شي ء.

وأمّا المسألة الأخيرة التي نقلها البعض عن الذكري، فالمنقول منها في غاية السقم والغلط، حيث ترك فيه صورة المسألة ونقل الحكم فقط وقطع العبارة من غير موضع القطع، فكان كمن ألغي الأصل وأخذ بالفرع، ونحن ننقل أوّلًا عبارة الذكري وبعد ذلك نبيّن بطلان توهّم كونه مبنيّاً علي القياس.

قال في (الذكري): لو أحسّ في أثناء القراءة بداخل، لم يستحبّ له تطويل القراءة لحصول الغرض بإدراكه في الركوع، ولو قلنا باشتراط إدراك تكبير الركوع فلا بأس بتطويل القراءة بل يستحبّ، وهل يكره تطويلها علي القول بإدراكه راكعاً؟ قال الفاضل: لا يكره، لما روي عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله قال: إنّي أحياناً أكون في الصلاة فأفتتح السورة اريد أن أتمّها فأسمع بكاء صبيّ فأتجوّز في صلاتي مخافة أن تفتتن امّه. فإذا جاز الإختصار رعاية لحقّ الطفل، جازت الزيادة رعاية لحقّ اللّاحق، ويتأكّد زوال الكراهة لعلمه أنّه لا يلحق بتطويل الركوع، بل يستحب هنا تطويل القراءة «1».

وهذا الحكم مستند حقيقةً إلي ظهور عدم دليل علي كراهة التطويل، وأما الإستدلال بالحديث فتأييد لذلك، مع أنّه يرجع

عند التحقيق والتأمّل إلي تنقيح المناط، وهو غير القياس الذي جوّزته العامّة الراكبة متن الإختباط الناكبة

__________________________________________________

(1) ذكري الشيعة في أحكام الشريعة 4: 453.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 369

عن سويّ الصراط.

ثمّ نقول لهذا المعترض: إنّ هذه المسألة حكم بها العلّامة الحلّي، لأنّ المراد بالفاضل هو رحمه اللَّه تعالي.

وهو من أشهر علماء أهل الحق الذين منعوا العمل بالظن وبالغوا في حظره وتحريمه والتشنيع علي مجوّزيه.

فلزم عليك أن ترجع عمّا كنت فيه من الإتهام علي الأعلام، لقصور الفهم وقلّة التدرّب وتتوب عنه، وتشمر عن ساق الجدّ في إبطال ما تفوّهت به وسطّرته.

هذا ما سطرناه في توجيه هذه المسائل والإشارة والتلميح إلي الدلائل، وليس المقصود اختيارها وترجيحها جزماً، ونصرتها وتصحيحها حتماً، فإنّها مسائل خلافيّة بعضها للنظر فيه مجال، لكن الغرض إبطال قول من قال إنّها مبنيّة علي القياس والرأي والضلال، والعياذ باللَّه المتعال من التفوّه بهذه الأقوال.

رجوع ابن الجنيد عن القول بالقياس … ص: 369

وتلخّص: إنّ مذهب الإماميّة الإثني عشريّة هو حرمة القياس وعدم جواز استعماله في الدين.

نعم، كان أبو علي الإسكافي- المعروف بابن الجنيد- يقول بالقياس في أوّل الأمر، ثمّ رجع عنه وتركه، كما نصَّ علي ذلك كبار علماء الطائفة:

قال الشيخ والد الشيخ بهاء الدين العاملي: «ابن الجنيد كان يعمل بالقياس ثمّ رجع عنه» «1».

__________________________________________________

(1) هداية الأبرار: 306.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 370

وقال الشيخ محمّد حسين صاحب (الفصول): «وإنْ ظنّ غلبة العلّة بحدس وشبهه فهو مستنبط العلّة، وقد أطبق أصحابنا علي عدم حجيّته، إلّاابن الجنيد، فإنّه قال بحجيّته علي ما حكي عنه في أوائل الأمر ثمّ رجع عنه، وبطلانه في مثل زماننا يعدّ من ضروريّات المذهب عند المحصّلين» «1».

وقال السيّد الطباطبائي: «اختلف علماء الإسلام في حجيّة ما عدا القياس المستنبط بالطريق

الأولي، والقياس المنصوص العلّة في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة، وهو القياس المستنبط علّته، علي قولين، الأوّل: إنّه حجّة كظاهر الكتاب وهو لمعظم العامّة، وحكي أيضاً عن ابن الجنيد من قدماء الإماميّة.

الثاني: ليس بحجّة، وهو للذريعة والعدّة والغنية والمعارج ويب ونهج الحق ويه ودي وشرحه والمنية والزبدة والمعالم وغاية المأمول والوافية. وبالجملة، عليه معظم الإماميّة كلّهم إذ حكي عن ابن الجنيد الرجوع عمّا كان عليه، وهو المعتمد» «2».

وقال الشيخ أبوالقاسم القمي في كتاب (قوانين الاصول): «وأمّا الأوّل، فذهب الأصحاب كافة عدا ابن الجنيد من قدمائنا في أوّل أمره وبعض العامة إلي حرمة العمل به، وذهب الآخرون إلي جوازه».

وهم ودفع … ص: 370

ثمّ إنّه ذكر المولوي عبدالعزيز الدهلوي في كتاب (التحفة) اسم «أبو نصر هبة اللَّه بن الحسين» وزعم أنّه من علماء الإماميّة، ونسب إليه القول __________________________________________________

(1) الفصول الغرويّة في الاصول الفقهيّة (حجري): 382- 383.

(2) مفاتيح الاصول: 659 (حجري)

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 371

بالقياس، ثمّ أضاف في هامش كتابه في هذا الموضع ما نصّه:

«هبة اللَّه بن الحسين بن هبة اللَّه بن رطبة السواري ظهيرالدين، كان من علماء الإماميّة، أخذ عن أبيه وسمع من محمّد القمي وأبي جعفر بن أبي القاسم الطبري. روي عن علي بن يحيي، كان علي رأس الستمائة. ذكره ابن أبي طي، وهو من محدّثي الشيعة وصاحب رجالهم. لسان الميزان».

وتحقيق المطلب هو: إنّه لا يوجد بين علماء الإماميّة من اسمه «هبةاللَّه ابن الحسين» وكنيته «أبو نصر» فضلًا عن أن يقول بالقياس أو لا يقول به، ودعوي اتّحاده مع الذي نقله في الهامش عن لسان الميزان لابن حجر العسقلاني باطلة جدّاً … علي أنّ جملة «وهو من محدّثي الشيعة وصاحب رجالهم» غير موجودة في لسان الميزان، وهذا نصّ

عبارته:

«هبة اللَّه بن الحسين بن هبة اللَّه بن رطبة السواري ظهيرالدين أبو طاهر.

كان من علماء الإماميّة. أخذ عن أبيه وسمع عن محمّد بن علي القمي وأبي جعفر بن أبي القاسم الطبري وغيرهما. روي عنه علي بن يحيي بن علي الحلي والحسن ابن صبيح الحائري وآخرون. وكان علي رأس الستمائة. ذكره ابن أبي طي» «1».

فأين الكنية «أبو نصر»؟

وأين الجملة: «وهو من محدِّثي الشيعة وصاحب رجالهم»؟

بين المثبتين والمنكرين من أهل السنّة … ص: 371

ثمّ إنّ المثبتين للقياس من أهل السنّة يشنّعون علي المنكرين له __________________________________________________

(1) لسان الميزان 7: 252/ 8983.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 372

ويذمّونهم الذمّ الشديد، حتّي جاء في (شرح البخاري) لابن الملقّن أنّه: «قال المزني: فوجدنا بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أئمّة الدين فهموا عن اللَّه تعالي وما انزل إليهم وعن الرسول ما أوجب عليهم، ثمّ الفقهاء إلي اليوم هلمّ جرّاً استعملوا المقاييس والنظائر في أمر دينهم، فإذا ورد ما لم ينصّ عليه نظروا، فإنْ وجدوه مشبّهاً لما سبق الحكم فيه من الشارع أجروا حكمه عليه، وإنْ كان مخالفاً له فرّقوا بينه وبينه، فكيف يجوز لأحدٍ إنكار القياس؟ ولا ينكر ذلك إلّامن أعمي اللَّه قلبه وحبّب إليه مخالفة الجماعة».

وإذا كان هذا حال المنكرين للقياس، فهلمّ معي لنري من هم المنكرون له؟

قال الحافظ ابن حجر في (شرح البخاري) نقلًا عن ابن بطّال:

«أوّل من أنكر القياس إبراهيم النظّام وتبعه بعض المعتزلة، وممّن ينسب إلي الفقه داود بن علي، وما اتّفق عليه الجماعة هو الحجّة، فقد قاس الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار، وباللَّه التوفيق» «1».

ثمّ قال ابن حجر:

«وتعقّب بعضهم الأوليّة التي ادّعاها ابن بطّال: بأنّ إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصحابة، ومن التابعين عن عامر الشعبي من فقهاء

الكوفة، وعن محمّد بن سيرين والحسن من فقهاء البصرة، وذلك مشهور عنهم، نقله ابن عبدالبر، ومن قبله الدارمي وغيره عنهم وعن غيرهم» «2».

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح البخاري 13: 253.

(2) المصدر نفسه 13: 253.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 373

ومن المنكرين للقياس: أبو بكر أحمد بن أبي عاصم النبيل، قال ابن حجر في (لسان الميزان):

«أبوبكر ابن أبي عاصم، عن عبدالجبّار بن العلاء العطّار، وعنه عبداللَّه ابن محمّد بن جعفر شيخ أبي نعيم. قال ابن القطّان: لا أعرفه، كذا قال، وهو إمام ثقة حافظ مصنّف لا يجهل مثله انتهي كلام شيخنا.

وهو: أحمد بن عمر وبن أبي عاصم النبيل، واسم أبي عاصم الضحاك ابن مخلد الشيباني …

وله الرحلة الواسعة والتصانيف الكثيرة في الأبواب.

روي عنه: محمّد بن حسان، وأبو أحمد الغسّاني وأحمد بن بندار الشعار وأحمد بن المفيد السمسار، وآخرون.

قال أبو سعد ابن الأعرابي في طبقات النسّاك: سمعت إنّه كان يذكر أنّه يحفظ لشقيق البلخي ألف مسألة، وكان من حفّاظ الحديث والفقه، وكان يذهب إلي القول للقول بترك القياس.

قال أبو نعيم الحافظ: كان ظاهري المذهب، ولي القضاء بعد صالح بن أحمد، وترجم له موسي ومات في ربيع الآخر سنة 287» «1».

ومنهم: داود الظاهري كما عرفت، وهو من كبار الأئمة، فقد قال السبكي في (الطبقات) بترجمته:

«داود بن علي بن خلف بن سليمان البغدادي الإصبهاني، إمام أهل الظاهر، ولد سنة مائتين وقيل سنة اثنتين ومائتين، وكان أحد أئمة المسلمين وهداتهم، وله في فضل الشافعي رحمه اللَّه مصنّفات، سمع سليمان بن حرب __________________________________________________

(1) لسان الميزان 7: 592- 593/ 9669 وفي ط 7: 20.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 374

والقعنبي وعمرو ابن مرزوق ومحمّد بن كثير العبدي ومسدداً وأبا

ثور وإسحاق ابن راهويه، رحل إليه إلي نيسابور، فسمع منه المسند والتفسير، وجالس الأئمة وصنّف الكتب.

قال أبوبكر الخطيب: كان إماماً ورعاً ناسكاً زاهداً …» «1».

وقال ابن خلّكان:

«أبو سليمان داود بن علي بن خلف الإصبهاني، الإمام المشهور المعروف بالظاهري، كان زاهداً متقلّلًا كثير الورع، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور، كان من أكثر الناس تعصّباً للإمام الشافعي رضي اللَّه عنه، وصنّف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقلّ، وتبعه جمع كثير يعرفون بالظاهريّة، وكان ولده أبوبكر محمّد علي مذهبه، وسيأتي ذكره إن شاء اللَّه تعالي، وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد. وقيل: إنّه كان يحضر مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر» «2».

ومنهم: ابن حزم الأندلسي، الذي قال ابن خلكان بترجمته:

«كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنّة، بعد أن كان شافعيّ المذهب، فانتقل إلي أهل الظاهر، وكان متقناً في علوم جمّة، عاملًا بعلمه زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الملك، متواضعاً ذا فضائل وتواليف كثيرة …

قال ابن بشكوال في حقّه: كان أبو محمّد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم أهل الإسلام وأوسعهم معرفة، مع توسّعه في علم اللسان ووفور حظّه __________________________________________________

(1) طبقات الشافعية الكبري 2: 284/ 66.

(2) وفيات الأعيان 2: 255/ 223.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 375

من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار، أخبر ولده أبو رافع الفضل إنّه اجتمع عنده بخطّ أبيه من تواليفه نحو أربعمائة مجلّد يشتمل علي قريب من ثمانين ألف ورقة.

وقال الحافظ أبو عبداللَّه محمّد بن فتوح: ما رأيت مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدّين» «1».

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 3: 325/ 448.

استخراج المرام من استقصاء

الافحام، ج 3، ص: 379

3) الإستحسان … ص: 379

حقيقة الإستحسان … ص: 379

لا يخفي أن موارد فتاوي القوم علي خلاف الكتاب والسنّة، بل إتّباعاً للهوي، كثيرة لا تحصي …

ومع ذلك، فإنّ من جملة أدلّتهم هو «الإستحسان» وهو ليس إلّاالحكم بما تهواه الأنفس، ولا شاهد عليه من الكتاب والسنّة، ومن هنا قال الشافعي بأنّ الإستحسان تشريع محض كما حكاه شارح (مختصر الاصول):

«الإستحسان: قال الحنفيّة والحنابلة يكون دليلًا، وأنكره غيرهم.

قال الشافعي: من استحسن فقد شرّع، يعني من أثبت حكماً بأنّه مستحسن عنده من غير دليل من قبل الشارع فهو الشارع لذلك الحكم، لأنّه لم يأخذه من الشارع، وهو كفر أو كبيرة» «1».

فقال الكرماني في حاشيته (النقود والردود):

«قوله: فهو الشارع، أي الواضع، وإثبات الحكم من تلقاء نفسه بلا دليل كفر إن اعتقد جوازه له، أو كبيرة إن لم يعتقد الجواز».

وقال الدهلوي في (الإنصاف) في بيان موارد مخالفة الشافعي:

«ومنها: إنّه رأي قوماً من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوّغه الشرع بالقياس الذي أثبته، فلا يميّزون واحداً منهما من الآخر، ويسمّونه تارة

__________________________________________________

(1) شرح مختصر الاصول 2: 459.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 380

بالاستحسان، وأعني بالرأي أن ينصب مظنّة حرج أو مصلحة علّة لحكم، وإنّما القياس أن تخرج العلّة من الحكم المنصوص ويدار عليها الحكم، فأبطل هذا النوع أتمّ إبطال وقال: من استحسن فإنّه أراد أن يكون شارعاً؛ حكاه ابن الحاجب في مختصر الاصول.

مثاله: رشد اليتيم أمر خفي، فأقاموا مظنّة الرشد- وهو بلوغ خمس وعشرين سنة- مقامه وقالوا: إذا بلغ اليتيم هذا العمر سلّم إليه ماله، قالوا: هذا إستحسان، والقياس أن لا يسلم إليه.

وبالجملة، فلمّا رأي الشافعي في صنيع الأوائل مثل هذه الامور أخذ الفقه من الرأس، فأسّس الاصول وفرّع الفروع، وصنّف الكتب، فأجاد وأفاد واجتمع عليها الفقهاء»

«1».

أقول:

فبمثل هذه الكلمات يعرف حال أبي حنيفة وغيره ممّن يستعمل الاستحسان في الدين!

وكذلك قال الدهلوي في كتابه (حجة اللَّه البالغة).

فتأمّل حتّي يأتيك اليقين، ولا تكن ممّن يضلّ عن الدين بتسويلات الشياطين، واللَّه الموفّق والمعين.

الإستحسان من أسباب تحريف الدين … ص: 380

وهذه عبارة الدهلوي في بيان أسباب تحريف الدين:

__________________________________________________

(1) الانصاف في بيان اسباب الاختلاف: 44- 45.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 381

«ومنها: الإستحسان، وحقيقته أن يري رجل الشارع يضرب لكلّ حكمة مظنّة مناسبة، ويراه يعقد التشريع، فيختلس بعض ما ذكرنا من أسرار التشريع، فيشرع للنّاس حسبما عقل من المصلحة، كما أنّ اليهود رأوا أنّ الشارع إنّما أمر بالحدود زجراً عن المعاصي للإصلاح، ورأوا أنّ الرجم يورث اختلافاً وتقاتلًا بحيث يكون في ذلك أشدّ الفساد، واستحسنوا تحميم الوجه والجلد، فبين النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أنّه تحريف ونبذ لحكم اللَّه المنصوص في التوراة بآرائهم» «1».

وقال الغزالي في (المنخول) في كتاب القياس:

«الباب السادس في الاستحسان: قال الشافعيّ: من استحسن فقد شرّع.

ولابدّ أوّلًا من بيان حقيقة الاستحسان، وقد قال قائلون من أصحاب أبي حنيفة: الاستحسان مذهب لا دليل عليه، وهذا كفر من قائله وممّن يجوّز التمسّك به، فلا حاجة فيه إلي دليل.

وقال قائلون: هو معني خفي مقيس لا عبارة عنه، وهذا أيضاً هوس، فإنّ معاني الشرع إذا لاحت في العقول انطلقت الألسن بالتعبير عنها، فما لا عبارة عنه لا يعقل.

والصحيح في ضبط الإستحسان ما ذكره الكرخي، وقد قسّمه أربعة أقسام:

منها: إتّباع الحديث وترك القياس، كما فعلوا في مسألة القهقهة ونبيذ التمر.

ومنها: إتّباع قول الصحابي علي خلاف القياس، كما قالوا في تقدير

__________________________________________________

(1) حجة اللَّه البالغة 1: 121.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 382

اجرة ردّ العبد الآبق بأربعين درهماً، اتّباعاً لابن عبّاس، وتقدير ما

يحطّ عن قيمة العبد إذا ساوي دية الحرّ أو زاد بعشرة، اتّباعاً لابن مسعود.

ومنها: إتّباع عادات النّاس وما يطّرد به عرفهم، كمصيرهم إلي أنّ المعاطاة صحيحة؛ لأنّ الأعصار لا تنفك عنه، ويغلب علي الظنّ جريانه في عصر الرسول.

ومنها: إتّباع معني خفي هو أخصّ بالمقصود وأمسّ له من المعني الجلي.

فنقول: أمّا اتّباع الخبر تقديماً له علي القياس فواجب عندنا، وأبو حنيفة لم يفت به في مسألة المصراة والعرايا وخيار المتبايعين، فلم يستحسنوا اتّباع هذه الأحاديث مع اتّفاق أئمة الحديث علي صحّتها وضعف حديث القهقهة.

وأمّا قول الصحابي إذا خالف القياس، فهو متّبع عندنا، وخالف أبو حنيفة في مسألة تغليظ الدية مع ما نقل فيه من الصحابة، وتقدير ابن عبّاس اجرة الآبق بأربعين يحتمل أن يكون بحكم مصالحة أو مصلحة اقتضاها نزاع في تلك الحال، وقول ابن مسعود في قيمة العبد يلتفت إلي قياس الدية ومراعاتها، وتقديره في الحطّ ملاحظة لنصاب السرقة فإنّه عظيم في الشرع يظهر التفاوت به فلذلك لم نتّبعه.

وأمّا دعواه بأنّ عمل النّاس متّبع في المعاطاة؛ لأنّ الأعصار فيه تتقارب، تحكّم؛ فإنّا نعلم أنّ العقود الفاسدة والربويّات في عصرنا أكثر منه في ابتداء الإسلام وصفوته، وعوام الناس لا مبالاة بإجماعهم حتّي يتمسّك بعملهم.

وأمّا اتّباع المعني الخفي إذا كان أخصّ، فهو متّبع، لأنّ الجلي الذي لا يمسّ المقصود باطل معه إذ هو مقدّم عليه، ولكن أباحنيفة لم يفت بموجبه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 383

حتّي أتي بالعجائب والآيات وسمّاه استحساناً فقال: يجب الحدّ علي من شهد عليه أربعة بالزناء في أربع زوايا كلّ واحد يشهد علي زاوية. وقال: لعلّه كان ينزحف في زنية واحدة في الزوايا، وأيّ استحسان في سفك دم مسلم بمثل هذا الخيال،

مع أنّه لو خصّص كلّ واحد شهادته بزمان وتقاربت الأزمنة واحتمل استدامة الزنا في مثلها لا حدّ، وذلك أغلب في العرف من شغل زوايا البيت بزناء واحد، فهذا وأمثاله من الإستحسانات باطلة، وما استند إلي مأخذ ممّا ذكرناه صحيح فهو مقول به» «1».

__________________________________________________

(1) المنخول للغزالي: 374- 377.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 387

4) تكفير بعضهم بعضا … ص: 387

* قد عرفت آنفاً أنّ أكابر الأساطين من أهل السنّة يكفّرون أباحنيفة النعمان، فقد نقل ذلك الحافظ الخطيب عن الحميدي- شيخ البخاري- وعن سعيد بن المسيّب وغيرهما …

* وأنّ الشيخ عبدالقادر الجيلاني قال بضلال الحنفيّة، وأنّهم من الفرق الهالكة في النّار …

* وأنّ الغزالي قال في (المنخول) بكفر أبي حنيفة وضلالته …

* وأنّ القاضي العضد والكرماني صرّحا بأنّ القول بالإستحسان من الكبائر أو من أسباب الكفر، وأنّ الشافعي قال: من استحسن فقد شرّع …

* وأنّ الثوري قال: بأنّ أباحنيفة قد نقض الإسلام عروةً عروة، وأنّه لم يولد في الإسلام أشأم منه …

* وأنّ قصّةصلاة القفال أيضاً تشتمل علي تكفير أبي حنيفة وأتباعه، فكان حكاية ذلك سبباً لتكفير عليم اللَّه بن عبدالرزاق المكي الحنفي في كتابه (السيف المسلول) الغزاليَّ وإمام الحرمين، إذ قال في جواب اليافعي: «وأمّا رابعاً: فلأنّكم حكمتم بمقتضي قولكم هذه الصلاة لا يجوّزها ذو دين: أنّ الإمام لا دين له، وأنّ ما ذهب إليه باطل. وفي هذا إنكار الإجماع وهو كفر».

* وقال القاري في كتابه في جواب رسالة إمام الحرمين: «ثمّ اعلم أنّي كنت أظنّ أنّ الرسالة المصنوعة إنّما تكون علي إمام الحرمين موضوعة، لكنْ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 388

رأيت في بعض الكتب أنّه ذكرها اليافعي في كتابه (مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان

وتقلّب أحوال الإنسان) إلّاأنّ ما حسبوه شراباً كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، أو كدواء لا يزيد العليل إلّاداء، وقد قال اللَّه عزّ وجلّ «وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون» وقال عزّ وجلّ: «ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون» وقال سبحانه: «يريدون ليطفئوا نور اللَّه بأفواههم ويأبي اللَّه إلّاأن يتمّ نوره ولو كره الكافرون».* وكلام القاري في جواب صلاة القفال صريح في تكفير القفال …

* وقال الفخر الرازي في رسالته في ترجيح مذهب الشافعي في ذكر فتاوي الحنفيّة: «مسألة: يجوز عندهم الخروج من الصلاة بالضراط وسائر الأحداث، والدليل علي بطلانه ما ذكرنا من أنّ الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يفعل ذلك، فوجب أنْ يجب علينا أنْ لا نفعله، لقوله تعالي: «فاتّبعوه». ثمّ نقول: إنّ أحداً من فسّاق المسلمين لا يفعل ذلك، ولو فعل أحد ذلك لقالوا إنّه ملحد قد استخفّ بالدين والشرع، بل عندهم أنّ ترك الصلاة أهون بكثير من الصلاة المشتملة علي هذه الفضائح».

* وابن قتيبة عدّ أباحنيفة وأبايوسف ومحمّد بن الحسن في المرجئة «1»، والمرجئة- كما في الأحاديث الكثيرة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- زنادقة ملحدون.

* وقد صرّح الذهبي بكون حمّادٍ من المرجئة «2».

* وقال يحيي بن معين في محمّد بن الحسن: جهمي كذّاب ومبطل __________________________________________________

(1) كتاب المعارف: 625.

(2) ميزان الاعتدال 2: 364- 365/ 2256.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 389

مرتاب «1».

* وقال أبوالمؤيّد الخوارزمي (في جامع المسانيد) بضلال سفيان الثوري ومحمّد بن عبدالرحمن بن أبي ليلي وشريك والحسن بن صالح، ونسبهم إلي مذهب الخوارج.

* وذكر في كتاب (الدرّ المختار) أشعارٌ لابن المبارك في مدح أبي حنيفة منها قوله:

«فلعنة ربّنا أعداد رملٍ علي من ردّ قول أبي حنيفة»

«2»

وهذه اللعنة تتوجّه إلي الشافعي وأتباعه … بل إنّها تشمل محمّد بن الحسن والقاضي أبا يوسف أيضاً، لأنّهما ردّا علي كثيرٍ من أقوال أبي حنيفة.

* وكفّر الفضلي- وهو من الأئمّة المشاهير- الشافعيّة، علي ما نقل عنه شمس الدين القهستاني في كتاب (جامع الرموز) فقد جاء فيه: «[ولا] للمسلم نكاح امرأة [كافرة غير كتابية] كالوثنيّة والمجوسيّة والمرتدّة، كما أشار إليه، فلا يجوز به الوطي كما بملك اليمين. وفيه إشارة إلي أنّه يصحّ نكاح صابئية، قوم من النصاري يعظّمون الكواكب كتعظيم المسلمين الكعبة، وإلي أنّه لا يصحّ نكاح كتابيّة، قوم يعبدونها كعبادة الكافرين الأوثان، والأوّل قوله والثاني قولهما، فالخلاف بينهما لفظيّ كما تري، وإلي أنّه لا يصحّ نكاح المعتزلة، لأنّها كافرة عندنا، وإلي أنّه لا يصحّ نكاح الشافعيّة، لأنّها صارت كافرة بالاستثناء، علي ما روي عن الفضلي، ومنهم من قال نتزوّج بناتهم، الكلّ في __________________________________________________

(1) انظر الضعفاء الكبير للعقيلي 4: 52/ 1606، الكامل في ضعفاء الرجال 6: 2183.

(2) الدر المختار 1: 68.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 390

المحيط. ولعلّ ترك التعرّض بمثله أولي، فإنّهم متأوّلون في ذلك كما بُيّن في محلّه».

* وقال أبو شكور السلمي الحنفي بكفر الأشاعرة، وأخرجهم من أهل السنّة والجماعة عندما قال في (التمهيد في بيان التوحيد): «قال أهل السنّة والجماعة: إنّ اللَّه تعالي لم يزل خالقاً موصوفاً بهذه الصفة وسائر الصفات من صفات الفعل، وقالت الأشعريّة والكراميّة: ما لم يخلق الخلق لم يكن خالقاً، وهذا كفر».

* ونقل شهاب الدين الكازروني في (رسالة علم الباري) عن الغزالي أنّه قال: «الكفر تكذيب الرسول في شي ء ممّا جاء به ضرورةً، فالأشعري يكفّر الحنبلي بإثباته الفوق واليد والاستواء، لأنّه تكذيب «ليس كمثله شي ء» والحنبلي الأشعريَّ بنفيها،

لأنّه تكذيب صريح للنصوص».

* وتكلّم ابن حجر المكّي في (شرح الشمائل) في ابن تيميّة وابن القيّم، وجعلهما من الظالمين والجاحدين، وصرّح بأنّهما يثبتان الجهة والجسميّة للباري تعالي، ووصفهما بسوء الإعتقاد وقول الزور والكذب، وبالضلال والبهتان ثمّ قال في حقّهما: «قبّحهما اللَّه وقبّح من قال بقولهما»، وأيضاً، فقد نصَّ علي أنّ اعتقادهما كفر عند الأكثرين.

* وقول ابن تيميّه بقدم العرش- وهو كفر محض- مذكور في (شرح العقائد) للدواني.

* وفي (تاريخ اليافعي) أنّه قد نودي في دمشق وغيره أنّ من كان علي عقيدة ابن تيميّة فدمه وماله حلال «1».

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 4: 180.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 391

* وقال ابن حجر العسقلاني في (الدرر الكامنة) إنّهم قالوا في ابن تيميّة: زنديق، ومنافق «1».

* وقد تناول ابن حجر المكّي ابن تيميّة بالتضليل في سائر مؤلَّفاته، ففي (الجوهر المنظّم في زيارة القبر المعظّم):

«فإن قلت: كيف تحكي الإجماع السابق علي مشروعيّة الزيارة والسفر إليها وطلبهما، وابن تيميّة من متأخّري الحنابلة منكر لمشروعيّة ذلك كلّه، كما رواه السبكي في حطّه، وأطال- أعني ابن تيميّة- في الاستدلال لذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمةالسفر لها إجماعاً، وأنّه لا تقصر فيه الصلاة، وأنّ جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة، وتبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه.

قلت: مَن ابن تيميّة حتّي ينظر إليه أو يعوّل في شي ء من امور الدين عليه؟ وهل هو إلّاكما قال جماعة من الأئمة- الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتّي أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعزّ ابن جماعة-: عبد أضلّه اللَّه وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه، وبوّأه من قوّة الإفتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان؟!

ولقد تصدّي شيخ الإسلام وعالم الأنام المجمع

علي جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته التقي السبكي- قدّس اللَّه روحه ونوّر ضريحه- للردّ عليه في تصنيف مستقل، أفاد فيه وأجاد فأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الثواب، فشكر اللَّه مسعاه وأفاض عليه شآبيب رحمته ورضاه.

ومن عجائب الوجود ما تجاسر عليه بعض الحنابلة، فغبر في وجوه __________________________________________________

(1) الدرر الكامنة 1: 155.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 392

مخدّراته الحسان التي لم يطمثهنّ إنس قبله ولا جان، وأتي بما دلّ علي جهله وأظهر به عوار غباوته وعدم فضله، فليته إذا جهل استحيي من ربّه وعساه إذا فرّط وأفرط رجع إلي لبّه، لكن إذا غلبت الشقاوة واستحكمت الغباوة فعياذاً بك اللّهمّ من ذلك، وضرعة إليك في أن تديم لنا سلوك أعظم المسالك.

هذا، وما وقع من ابن تيميّة ممّا ذكر- وإن كان عثرة لا تقال أبداً، ومصيبة يستمرّ عليه شؤمها دواماً وسرمداً- ليس بعجيب، فإنّه سوّلت له نفسه وهواه وشيطانه إنّه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، وما دري المحروم أنّه أتي بأقبح المعائب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة، وتدارك علي أئمّتهم- سيّما الخلفاء الراشدين- باعتراضات سخيفة شهيرة، وأتي من نحو هذه الخرافات بما يمجّه الأسماع وتنفر عنه الطباع، حتّي تجاوز إلي الجناب الأقدس المنزّه عن كلّ نقص، والمستحقّ لكلّ كمال أنفس، فنسب إليه العظائم والكبائر، وخرق سياج عظمته وكبرياء جلالته بما أظهره للعامة علي المنابر، من دعوي الجهة والتجسيم وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدّمين والمتأخرين، حتّي قام عليه علماء عصره، وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره، فحبسه إلي أن مات وخمدت تلك البدع، فزالت تلك الظلمات، ثمّ انتصر له أتباع لم يرفع اللَّه لهم رأساً، ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً، بل «ضربت عليهم الذلّة والمسكنة وباؤوا

بغضب من اللَّه ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون»».* وكفَّر بعض فقهاء اليمن فقهاء زبيد، كما ذكر اليافعي في (مرآة الجنان):

«وفقهاء جبال اليمن مخالفون لفقهاء تهامتها، كما ذكر ابن سمرة أنّه وقع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 393

في زمان صاحب البيان تكفير من بعض فقهاء الجبال لفقهاء زبيد، هذا كلّه لانطوائهم علي الجمود، وعدولهم عن الطريق المحمود» «1».

* وقال الحنفيّة بكفر البخاري، كما في كتاب (فصول الإحكام في أصول الأحكام):

«ذكر أبو سهل بن عبداللَّه، وهو أبو سهل الكبير، عن كثير من السلف رحمهم اللَّه أنّ من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال الإيمان مخلوق فهو كافر. وحكي أنّه وقعت هذه المسألة بفرغانة، فاتي بمحضر منها إلي أئمة بخارا فكتب فيه الشيخ الإمام أبوبكر بن حامد والشيخ الإمام أبو حفص الزاهد والشيخ الإمام أبوبكر الإسماعيلي رحمهم اللَّه: أنّ الإيمان غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر، وقد خرج كثير من الناس من بخارا منهم محمّد بن إسماعيل صاحب الجامع بسبب قولهم الإيمان مخلوق».

* ومضر وكهمس وأحمد الهجيمي، كفّرهم القوم، لما ذهبوا إليه واعتقدوه من العقائد الفاسدة.

* وكذلك مقاتل بن سليمان.

* ونعيم بن حماد.

وهو من كبار علماء القوم ومن مشايخ البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة، من مشاهير المجسّمة، وقد حكي الحافظ ابن الجوزي عنه القول بإثبات الوجه والأعضاء للباري عزّوجلّ «2».

* وابن مندة أيضاً من القائلين بالجهة، بل لقد ردّ اليافعي شهادة الذهبي __________________________________________________

(1) مرآة الجنان 3: 249- 250.

(2) دفع شبه التشبيه: 152 تحقيق حسن السقّاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 394

ببراءته من التجسيم وقال بأنّها شهادة علي أمرٍ باطل.

* وصرّح اليافعي بأنّ مذهب المتأخّرين من الحنابلة هو القول بالجهة وبالصوت والحروف في

كلامه تعالي، فقد ذكر اليافعي بعد ما أورده عن ابن سمرة أنّ يحيي بن أبي الخير صاحب كتاب البيان- وهو شافعي المذهب- كان ينتصر للحنابلة:

«أمّا ما ذكر من كون عقيدته حنبليّة، فصحيح بالنسبة إلي الحنابلة المتأخرين، حاشي الإمام أحمد والمتقدمين منهم، وقد أوضحت ذلك وأشبعت الكلام فيه في كتاب المرهم، وإليه أشرت بقولي:

وفي حشوٍ مات كسوفان أظلما هما جهة وأحرف حاشا ابن حنبل أعني: أنّ ذلك مذهب الحشويّة بعد أن استقرّت البدور لأئمّة كلّ مذهب، وذكرت أنّ بدور المذاهب الثلاثة أنارت، وأنّه حصل في بدور مذهب كسوفان مظلمان، وهما ما ذكرت من القول بالجهة والحرف والصوت في كلام اللَّه تعالي.

أمّا ما ذكرت من كون الإمام أحمد والمتقدّمين من أصحابه براء ممّا ادّعاه المتأخرون منهم، فممّن نصّ علي ذلك بعض الحنابلة وهو الإمام أبوالفرج ابن الجوزي، حتّي ذكر أنّهم صاروا سبَّةَ علي المذهب باعتقادهم الذي يتوهّم غيرهم أنّه مذهب أحمد، وليس العجب من حنابلة الفروع وإنّما العجب من شافعيّة الفروع كصاحب البيان المذكور، ومن تابعه من أهل الجبال» «1».

أقول: القول بجسمية الباري وإثبات الجهة والمكان له، وإنكار صفاته __________________________________________________

(1) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 3: 247.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 395

الأزلية، موجب للكفر بالإجماع كما في (التحفة الاثني عشرية) «1».

وكما قال الحنابلة بقدم الحرف والصوت، فقد قالوا بقدم جلد كلام اللَّه أيضاً كما في (المواقف):

«ثمّ قال الحنابلة كلامه تعالي حرف وصوت يقومان بذاته وإنّه قديم، وقد بالغوا فيه حتّي قال بعضهم جهلًا: الجلد والغلاف قديمان» «2».

* وابن حبّان، وهو من كبار أئمة القوم في الفقه والحديث والجرح والتعديل، قالوا بكفره، لبعض عقائده «3».

* وكذا الحكيم الترمذي، قال المناوي في (فيض القدير):

«قال السّلمي: نفوه من ترمذ

وشهدوا عليه بالكفر، بسبب تفضيله الولاية علي النبوّة، وإنّما مراده ولاية النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم» «4».

وفي (مفتاح كنز الدراية):

«قال السّلمي: نفوه من ترمذ بسبب تاليفه كتاب ختم الولاية وكتاب علل الشريعة وقالوا: زعم أنّ للأولياء خاتماً وأنّه يفضّل الولاية علي النبوّة، واحتجّ بقوله عليه السلام: يغبطهم النبيّون والشهداء، وقال: لو لم يكونوا أفضل منهم لم يغبطوهم …» «5».

وفي (لسان الميزان):

«وممّا أنكر عليه أنّه كان يفضّل الولاية علي النبوّة، ويحتجّ بحديث:

__________________________________________________

(1) التحفة الاثنا عشرية: 141- 142.

(2) شرح المواقف في علم الكلام 3: 128.

(3) ميزان الاعتدال 6: 99/ 7352، لسان الميزان 6: 9/ 7233 ترجمة ابن حبان.

(4) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 1: 116.

(5) مفتاح كنز دراية المجموع- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 396

يغبطهم النبيّون، قال: لو لم يكونوا أفضل لما غبطوهم» «1».

* وصاحب (قوت القلوب) كفّروه ونقلوا عنه قوله:

«ليس علي المخلوقين أضرّ من الخالق» ففي (ميزان الاعتدال):

«محمّد بن عليّ بن عطيّة، أبوطالب المكي، الزاهد الواعظ، صاحب القوت حدّث عن عليّ بن أحمد المصيصي والمفيد، وكان مجتهداً في العبادة، وحدّث عنه عبدالعزيز الأزجي وغيره.

قال الخطيب: ذكر في القوت أشياء منكرة في الصفات، وكان من أهل الجبل ونشأ بمكّة، قال لي أبوطالب العلّاف: إنّ أباطالب وعظ ببغداد وخلط في كلامه وحفظ عنه أنّه قال: ليس علي المخلوقين أضرّ من الخالق، فبدّعوه وهجروه، فبطل الوعظ، مات سنة ست وسبعين وثلاثمائة» «2».

* وفي القوم جماعة- كالسهيلي وابن قتيبة وغيرهما- يقولون بوجود السّفاح في نسب نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم. وقد قال عدّة من الأعلام- كالحافظ مغلطاي والقطب الحلبي ومحمد بن يوسف الشامي- بأنّ من يقول هذا فهو كافر وخارج من جماعة المسلمين.

* ومنهم من يقول بكفر

مجوّز المتعة، كما في كتاب (التمهيد في بيان التوحيد):

«وأمّا المتعة، فكانت مباحة ثمّ نسخت بآية النكاح، واجتمعت الامّة علي نسخها، ومن أباح يصير كافراً».

* والشيخ علي القاري قال في (شرح الشمائل) بكفر من قرأ الشعر

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 6: 393/ 7888.

(2) ميزان الاعتدال 6: 266- 267/ 7982.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 397

المتضمّن أنّ هجرة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كانت فراراً، فقد ذكر بعد نقل قول سلمة بن الأكوع «مررت علي رسول اللَّه منهزماً»:

«فقال العلماء: قوله «منهزماً» حال من ابن الأكوع كما صّح الخبر بانهزامه، ولم يرد أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم انهزم، إذ لم يقل أحد من الصحابة أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم انهزم في موطن من المواطن، ومن ثمّ أجمع المسلمون علي أنّه لا يجوز عليه الإنهزام، فمن زعم أنّه انهزم في موطن من مواطن الحرب، ادّب تأديباً عظيماً لائقاً بعظم جريمته، إلّاأن يقوله علي جهة التنقيص، فإنّه يكفر فيقتل، ما لم يتب علي الأصح عندنا ومطلقاً عند مالك وجماعة من أصحابنا، وبالغ بعضهم فنقل فيه الإجماع، بل لو أطلق ذلك قتل عندهم، علي ما أشار إليه بعض محقّقيهم، إنتهي.

فما وقع لبعض سلاطين ماوراء النهر- وهو عبيداللَّه خان- في بيته المشهور المنسوب إلي الملّا جامي، حيث جعل هجرته صلّي اللَّه عليه وسلّم من مكّة إلي المدينة فراراً، أقبح من ذلك كلّه، فالحذر الحذر من التلفّظ ببيته علي وجه الاستحسان، فإنّه كفر صريح عند العلماء الأعيان العارفين بالمعاني والبيان».

وفي (الشفاء) عن القاضي أبي عبداللَّه بن مرابط المالكي:

«من قال إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم هزم، يستتاب، فإن تاب وإلّا فيقتل، لأنّه تنقّص، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصّته، إذ هو علي

بصيرة من أمره ويقين من عصمته» «1».

__________________________________________________

(1) الشفا في بيان حقوق المصطفي 2: 482- 483.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 399

الخاتمة … ص: 399

اشارة

* حديث الحوض * ممّا ورد عن أئمّة أهل البيت في الصحابة

* من نوادر الأخبار في أمر الخلافة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 403

حديث الحوض … ص: 403

حديث الحوض وضرورة الاعتقاد به … ص: 403

قال العلّامة الحلّي رحمه اللَّه:

«المطلب الخامس، فيما رواه الجمهور في حقّ الصحابة.

روي الحميدي، في الجمع بين الصحيحين، في مسند سهل بن سعد، في الحديث الثامن والعشرين، من المتّفق عليه، قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: أنا فرطكم علي الحوض، من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنَّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثمّ يحال بيني وبينهم.

قال أبو حازم: فسمع النعمان بن أبي عياش- وأنا احدّثهم- هذا الحديث فقال: هكذا سمعت سهلًا يقول؟ قال: فقلت: نعم. قال: أشهد علي أبي سعيد الخدري سمعته يزيد: إنّهم من امّتي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي» «1».

قال:

«وروي الحميدي، في الجمع بين الصحيحين، من المتّفق عليه، في الحديث الستين، من مسند عبداللَّه بن عباس قال: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: ألا وإنّه سيجاء برجال من امّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد

__________________________________________________

(1) نهج الحق وكشف الصدق: 314.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 404

الصالح «وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت علي كلّ شي ء شهيد* إنْ تعذّبهم فإنّهم عبادك» فيقال لي: فإنّهم لم يزالوا مرتدّين علي أعقابهم منذ فارقتهم» «1».

وفي الجمع بين الصّحيحين أيضاً، في الحديث السابع والستّين بعد المأتين من المتّفق عليه، في مسند أبي هريرة، من عدّة طرق، قال قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا قائم، إذا زمرة، حتّي إذا

عرفتهم، خرج رجل بيني وبينهم فقال: هلمّوا، فقلت: إلي أين؟ فقال: إلي النار واللَّه. قلت: ما شأنهم؟

قال: إنّهم ارتدّوا بعدك علي أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلّامثل همل النعم» «2».

وقال الشيخ الصدوق رحمه اللَّه:

«اعتقادنا في الحوض:

إنّه حقّ، وأنّ عرضه مابين أيلة وصنعاء، وهو للنبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وأنّ فيه من الأباريق عدد نجوم السماء، وأنّ الساقي عليه أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب، يسقي منه أوليائه ويذود عنه أعدائه، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً. وقال النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: ليختلج قوم من أصحابي دوني وأنا علي الحوض فيؤخذ بهم ذات الشمال، فانادي يا رب أصحابي أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» «3».

وفي تفسير الشيخ عليّ بن إبراهيم القمي، في قوله تعالي: «يا أيّها

__________________________________________________

(1) نهج الحق وكشف الصدق: 314.

(2) نهج الحق وكشف الصدق: 314.

(3) الاعتقادات: 65/ 20.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 405

الرسول بلّغ ما انزل إليك …»:

«قال: نزلت هذه الآية في منصرف رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من حجّة الوداع، وحجّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حجّة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة، وكان من قوله بمني أن حمد اللَّه وأثني عليه ثمّ قال:

أيّها الناس إسمعوا قولي فاعقلوه عنّي، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا.

ثمّ قال: هل تعلمون أيّ يوم أعظم حرمة؟

قال النّاس: هذا اليوم.

قال: فأيّ شهر؟

قال النّاس: شهرنا هذا.

قال: وأيّ بلد أعظم حرمة؟

قالوا: بلدنا هذا.

قال: فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلي يوم تلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت أيّها النّاس؟

قالوا: نعم.

قال: اللّهمّ اشهد.

ثمّ قال:

ألا وكلّ مأثرةٍ أو بدع كانت في الجاهليّة، أو دم أو مال فهو تحت قدميّ هاتين، ليس أحد أكرم من أحد إلّابالتقوي، ألا هل بلّغت؟

قالوا: نعم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 406

قال: اللّهمّ اشهد.

ثمّ قال: ألا وكلّ ربا في الجاهليّة فهو موضوع، وأوّل موضوع منه ربا للعبّاس بن عبدالمطّلب، ألا وكلّ دم كان في الجاهليّة فهو موضوع وأوّل دم موضوع منه دم ربيعة، ألا هل بلّغت؟

قالوا: نعم.

قال: اللّهمّ اشهد.

ثمّ قال: ألا، وإنّ الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ولكنّه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنّه إذا اطيع فقد عبد، ألا أيّها النّاس، إنّ المسلم أخو المسلم حقّاً، ولا يحلّ لامرء مسلم دم امرئ مسلم وماله إلّاما أعطي بطيبة نفس منه، وإنّي امرت أن اقاتل النّاس حتّي يقولوا لا إله إلّااللَّه، فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم لابحقّها وحسابهم علي اللَّه، ألا هل بلّغت أيّها النّاس؟

قالوا: نعم.

قال: اللّهمّ اشهد.

ثمّ قال: أيّها النّاس، إحفظوا قولي لتنتفعوا به بعدي وافهموه تنتعشوا، ألا لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف علي الدنيا، فإن أنتم فعلتم ذلك ولتفعلنّ، لتجدوني في كثيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف، ثمّ التفت عن يمينه فسكت ساعة ثمّ قال: إن شاء اللَّه أو عليّ بن أبي طالب.

ثمّ قال: ألا وإنّي قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بها لن تضلّوا: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّي يردا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 407

عليّ الحوض، ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا، ومن خالفهما فقد هلك، ألا هل بلّغت؟

قالوا: نعم.

قال: اللّهمّ اشهد.

ثمّ قال: ألا، واللَّه سيرد علي الحوض منكم رجال فيدّعون عنّي،

فأقول ربّ أصحابي، فيقال: يا محمّد إنّهم قد أحدثوا بعدك وغيّروا سنّتك، فأقول:

سحقاً سحقاً …» «1».

الكلام في فقه الحديث … ص: 407

ويقع البحث في معني الحديث، والمراد من «الإرتداد»، ومن هم «المرتدّون»؟

إنّ للإرتداد معنيين، عام وخاص، أمّا العام فهو المعني اللّغوي، أي الإعراض عن الشي ء والرجوع عنه، وهو يشمل جميع أنواع الإرتداد، سواء كان الإرتداد عن الإسلام أو الإرتداد عن الإيمان أو الإرتداد عن الأخلاق الحسنة والعادات الجميلة وأمثال ذلك.

وأمّا الإرتداد الخاص، فهو الإرتداد الشرعي، أي: الرجوع عن الإسلام واختيار الكفر، الموجب لجريان أحكام الكفّار في دار الدنيا علي الشخص.

وحمل حديث الحوض- لكونه مقيّداً بقوله «علي أعقابهم» - علي الإرتداد الشرعي غير جائز، فهو محمول- لا محالة- علي المعني العام، الشامل للإرتداد الشّرعي وغيره، فهو بهذا المعني يجتمع مع الإسلام الظاهري __________________________________________________

(1) تفسير القمي 1: 172.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 408

ولا منافاة بينهما.

ولمّا كان الواقع من أكثر الصّحابة هو الإرتداد الشرعي، والإرتداد عمّا كانوا عليه علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلم، أمكن حمل حديث الحوض علي كلا المعنيين.

فمتي اطلق عنوان الارتداد علي أهل السقيفة وشاركهم غيرهم من المرتدّين ممّن لم يصل إلي حدّ الكفر، فالمراد الرجوع عن أصل الدين وواقعه، الذي يجتمع مع الإسلام الظاهري، ومتي اطلق عليهم أو علي من يماثلهم فقط، احتمل إرادة المعني الخاص واحتمل إرادة المعني العام، وإرادة الإرتداد الشرعي من لفظ «المرتدين» في «حديث الحوض» لا تستلزم كونه نصّاً في هذا المعني، لأنّ جعل هذا اللّفظ نصّاً في كفر أصحاب هذا الحديث أمر، وتطبيقه عليهم أمر آخر، ولا ملازمة بين الأمرين.

وبما ذكرنا ظهر: عدم جواز حمل الإرتداد في حديث الحوض علي خصوص الإرتداد الشرعي- فلا يدخل في المراد منه من

لم يصل إلي هذا الحدّ- وجواز حمله علي المعني العام الشامل للمعني الخاص، فيكون لفظ «الارتداد» في الحديث المذكور نظير لفظ «الدابة» مثلًا، فإنّه موضوع في الأصل ل «ما يدبّ علي الأرض» والمنقول في العرف إلي «ما له ظهر يركب من الحيوانات» فكان مستعملًا في كلا المعنيين، لكنْ لم يجز حمله في بعض الموارد إلّاعلي المعني العام وإن كان المعني الخاص داخلًا فيه، كما في قولهم: «الدابّة ما يدبّ علي الأرض» فإنّه لا يصحّ أن يراد منه خصوص «ما يركب من الحيوانات» بل المراد هو المعني العام، وإنْ كان شاملًا للمعني الخاص ويثبت له من الحكم ما ثبت للعام.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 409

ولفظ «الإرتداد» في حديث الحوض كذلك، فإنّه وإنْ لم يجز حمله علي المعني الخاص، وتجب إرادة المعني العام منه، لكنّ المعني الخاص داخل في المعني العام.

وإذا تبيّن معني «الارتداد» المراد في حديث الحوض، تبيّن مَن «المرتدون» فيه …

فإنّ المراد منهم كلّ الذين رجعوا عن الإسلام وأنكروا الشهادتين أو إحداهما، وكلّ الذين نقضوا ما عاهدوا عليه اللَّه ورسوله وإن كانوا يشهدون الشهادتين بألسنتهم.

نقد تمحّلات القوم في معني الحديث … ص: 409

فلا وجه لأن يحمل الحديث علي خصوص الذين ارتدّوا عن الإسلام وأنكروا رسالة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كما في كلام بعضهم كابن روزبهان، حيث قال:

«ما روي من الجمع بين الصحيحين: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقال له: لا تدري ما أحدثوا بعدك. فاتّفق العلماء أنّ هذا في أهل الردّة الذين ارتدّوا بعد وفاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهم كانوا أصحابه في حياته ثمّ ارتدّوا بعده. ويدلّ عليه الأحاديث والأخبار التي سنذكر بعد هذا.

ولا شكّ أنّ هذا لم يرد في شأن جميع أصحاب

محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم بالاجماع، لأنّ فيهم من لم يتغيّر ولم يبدّل بعده بلا خلاف، فهو من أهل النجاة بلا نزاع.

فإنْ اريد به من بدّل بعض التبديل ولم يبلغ الإرتداد، فليس في الأصحاب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 410

إلّا من بدّل بعض التبديل، فيرجع الوعيد إلي الأكثر، فلزم أن لا يهتدي بمحمّدٍ صلّي اللَّه عليه وسلّم إلّانفر معدود في كلّ عصرٍ من الأعصار، وهذا ينافي ما ذكره رسول اللَّه من كثرة امّته يوم القيامة، وإنّه يباهي بهم الامم، كما ورد في صحاح الأحاديث.

وإنْ اريد به التبديل إلي حدّ الكفر فهو عين المدّعي.

فلزم من هذه المقدّمات إنّ هذا الحديث وأمثاله في هذا الباب واردة في شأن أهل الردّة كما قاله العلماء» «1».

فكما أنّ أحداً من علماء الإماميّة لا يقول بأنّ المراد من حديث الحوض خصوص أهل السقيفة وأتباعهم، كذلك لا يجوز حمل الحديث وتنزيله علي خصوص المرتدين عن الإسلام كمسيلمة وأصحابه، بل الحديث عام ينطبق علي هؤلاء وهؤلاء، وأنّ جميعهم يستحقّون النار مخلَّدون في الجحيم والعذاب الأليم.

هذا، وربّما قال بعض أهل السنّة بأنّ في بعض ألفاظ الحديث أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال: «فأقول: اصيحابي اصيحابي، فيقال: إنّهم لم يزالوا مرتدّين علي أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح عيسي: «كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم- إلي قوله- العزيز الحكيم»».

(قال): وتعبيره ب «اصيحابي اصيحابي» ثمّ تلاوته الآية المباركة، يتضمّن معني الشّفاعة لأصحابه.

(قال): واللّفظ المذكور وارد من طرق الإماميّة أيضاً، فهم ملزمون بذلك.

__________________________________________________

(1) إبطال نهج الحق ط ضمن: دلائل الصدق 3: 400- 401.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 411

ويردّه:

أوّلًا: هذا اللفظ غير واردٍ في طرق أصحابنا الإماميّة أصلًا.

وثانياً: إنّ الاستدلال

إنّما هو بما جاء في صحاح القوم خالياً من ذكر تلك الآية المباركة.

وثالثاً: إنّه لو فرض وجود الآية المباركة في رواية أصحابنا، فالآية غير مفيدة لمطلوب القوم، ولا يتمّ لهم إلزامنا، لما ذكره علماؤنا في تفسيرها:

قال أبو علي الطبرسي:

«في هذا تسليم الأمر إلي مالكه وتفويضه إلي مدبّره وتبرٍّ من أن يكون إليه شي ء من امور قومه، كما يقول الواحد منّا إذا تبرّء من تدبير أمر من الامور ويريد تفويضه إلي غيره: هذا الأمر لا مدخل لي فيه، فإنْ شئت فافعله وإنْ شئت فاتركه، مع علمه وقطعه علي أنّ أحد الأمرين لا يكون منه» «1».

وقال السيّد المرتضي علم الهدي:

«مسألة: فإن قيل: فما معني قوله تعالي حاكياً عن عيسي عليه السلام «إنْ تعذّبهم فإنّهم عبادك وإنْ تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم»؟ وكيف يجوز هذا القول مع علمه عليه السلام بأنّه لا يغفر للكفّار؟

الجواب: قلنا المعني بهذا الكلام تفويض الأمر إلي مالكه وتسليمه إلي مدبّره والتبرّي من أن يكون إليه شي ء من امور قومه، وعلي هذا يقول أحدنا إذا أراد أن يتبرّء من تدبير أمر من الامور ويسلم منه ويفوّض أمره إلي غيره:

هذا الأمر لا مدخل لي فيه، فإنْ شئت أن تفعله وإن شئت أن تتركه، مع علمه وقطعه علي أن أحد الأمرين لابدّ أن يكون منه، وإنّما حسن منه ذلك لما

__________________________________________________

(1) مجمع البيان في تفسير القرآن 3: 539.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 412

أخرج كلامه مخرج التفويض والتسليم» «1».

وعلي الجملة، فإنّ أصحابنا يستدلّون بهذه الأحاديث علي ارتداد الصّحابة بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالمعني العام، وأنّهم في الآخرة من أصحاب النار وبئس المصير، فهي تدلّ علي بطلان ما أسّسه القوم من عدالة

الصّحابة أجمعين … ومن هنا، فقد ذكرها العلّامة تحت عنوان «ما رواه الجمهور في حقّ الصّحابة» كما تقدّم.

وروي الشيخ محمد باقر المجلسي رحمه اللَّه في كتاب (بحار الأنوار) عن كتاب الكافي:

«عن أبان عن الفضيل عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ الناس لمّا صنعوا ما صنعوا، إذ بايعوا أبابكر، لم يمنع أميرالمؤمنين من أن يدعو إلي نفسه إلّانظراً للناس وتخوّفاً عليهم أن يرتدّوا عن الإسلام، فيعبدوا الأوثان ولا يشهدوا أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه وكان الأحب إليه أن يقرّهم علي ما صنعوا من أن يرتدّوا عن الإسلام، وإنّما هلك الذين ركبوا ما ركبوا، فأمّا من لم يصنع ذلك ودخل فيما دخل فيه الناس علي غير علم ولاعداوة لأميرالمؤمنين، فإن ذلك لايكفره ولا يخرجه من الإسلام، فلذلك كتم علي أمره وبايع مكرهاً حيث لم يجد أعواناً» «2».

ثمّ قال:

«بيان- قوله عليه السلام: من أن يرتدّوا عن الإسلام. أي عن ظاهره والتكلّم بالشهادتين، فإبقاؤهم علي ظاهر الإسلام كان صلاحاً للُامّة، ليكون أو

__________________________________________________

(1) تنزيه الأنبياء والأئمّة: 104.

(2) الكافي 8: 295/ 454.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 413

لأولادهم طريق إلي قبول الحق وإلي الدخول في الإيمان في كرور الأزمان، وهذا لا ينافي ما مرّ وسيأتي أنّ الناس ارتدّوا إلّاثلاثة، لأنّ المراد فيها ارتدادهم عن الدين واقعاً، وهذا محمول علي بقائهم علي صورة الإسلام وظاهره، وإن كانوا في أكثر الأحكام الواقعيّة في حكم الكفّار، وخصّ هذا بمن لم يسمع النص علي أميرالمؤمنين عليه السلام ولم يبغضه ولم يعاده، فإن من فعل شيئاً من ذلك فقد أنكر قول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وكفر ظاهراً أيضاً، ولم يبق له شي ء من أحكام الإسلام ووجب قتله» «1».

فكلامه-

رحمه اللَّه- صريحٌ في دلالة الحديث علي ارتداد عموم الصحابة بالمعني العام للإرتداد كما تقدَّم، …

ثمّ إنّ بعض المتعصّبين من القوم ذكر وجوهاً حاول بها تنزيل حديث الحوض علي الصحابة الذين هم شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام، أعني:

المقداد بن الأسود الكندي، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وأمثالهم …

ولمّا كانت هذه الدعوي في غاية الغرابة والسخافة، كان من اللّازم إيراد تلك الوجوه والنظر فيها بالتفصيل:

الوجه الأوّل عن كتاب سليم بن قيس الهلالي، أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال: «ليجيئنّ قوم من أصحابي …» «2» وهذا اللفظ آبٍ عن التطبيق علي أهل الردّة، لأنّ المراد من «الأصحاب» إمّا المعني اللغوي، المفهوم عند العرف العام __________________________________________________

(1) بحارالأنوار 28: 255.

(2) كتاب سليم بن قيس: 163.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 414

وهو المصاحب الملازم، أو المعني الشرعي المشروط بالموت علي الإسلام.

أمّا بالمعني الأوّل فلا يصحّ إطلاقه علي أهل الردّة، لأنّهم كانوا من أهل الخلاف والشقاق ومن أرباب العداوة والنفاق، وما كانوا يجالسون رسول اللَّه فضلًا عن أن يصاحبوه، بل كانوا يكيدون له المكائد، وقد قصدوا قتله غير مرّة، كما في مفتريات الإماميّة، ففي تفسير العيّاشي عن عبدالصمد بن بشير عن الصادق عليه السلام: «قال: تدرون مات النبي صلّي اللَّه عليه وآله أو قتل؟

إنّ اللَّه يقول «أَفإن ماتَ أوْ قُتلَ انقلبْتم عَلي أَعْقابِكُم» فسمّ قبل الموت، أنهما سقتاه قبل الموت.

فقلنا: إنّهما وأبوهما شرّ من خلق اللَّه.

وعن الحسين بن المنذر، قال:

«سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه «أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ» القتل أم الموت؟ فقال: يعني أصحابه الذين فعلوا ما فعلوا» «1».

وكما يروونه في قضيّة العقبة عند عودته صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من تبوك، كرواية

الطبرسي إذ قال:

«وفي كتاب دلائل النبوة للشيخ أبي بكر أحمد البيهقي: أخبرنا أبو عبداللَّه الحافظ- وذكر الإسناد مرفوعاً إلي أبي الأسود- عن عروة قال: لمّا رجع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قافلًا من تبوك إلي المدينة، حتي إذا كان ببعض الطريق، مكر به ناس من أصحابه، فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق أرادوا آنْ يسلكوها معه، فأخبر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله خبرهم فقال: من شاء منكم أنّ يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم.

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي 1: 200.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 415

فأخذ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم العقبة، وأخذ الناس بطن الوادي، إلّا النفر الذين أرادوا المكر به، استعدّوا وتلثّموا، وأمر رسول اللَّه حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر، فمشيا معه مشياً، وأمر عمّاراً أنْ يأخذ بزمام الناقة وأخذ حذيفة يسوقها، فبيناهم يسيرون إذ سمعوا ركزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلم، وأمر حذيفة أنْ يردّهم، فرجع ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها ضرباً بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلمّثون، فرعّبهم اللَّه حين أبصروا حذيفة، وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتي خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتي أدرك رسول اللَّه، فلمّا أدركه قال: إضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمّار.

فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي: يا حذيفة، هل عرفت من هؤلاء الرهط- أو الركب- أحداً؟ فقال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان، وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون. فقال صلّي اللَّه عليه وآله:

هل علمتم ما شأن الركب وما أرادوا؟ فقالا: لا يا رسول اللَّه. قال: فإنّهم مكروا ليسيروا معي، حتي إذا أظلمّت بي العقبة طرحوني منها. قالا: أفلا تأمر

بهم- يا رسول اللَّه- إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم؟ قال: أكره أنْ يتحدّث الناس ويقولون: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه. فسمّاهم لهما وقال: اكتماهم.

وفي كتاب أبان بن عثمان: قال الأعمش: وكانوا اثني عشر، سبعة من قريش» «1».

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 5: 68 بتفسير الآية 74 من سورة التوبة، عن الزجاج والواقدي والكلبي. والقصة مشروحة في كتاب الواقدي، إعلام الوري بأعلام الهدي 1: 245- 246 ط مؤسسة آل البيت. دلائل النبوة للبيهقي 5: 259، البداية والنهاية 5: 20.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 416

ورواية شيخ مشايخهم الصدوق بالإسناد:

«عن حذيفة بن اليمان أنه قال: الذين نفروا برسول اللَّه ناقته في منصرفه من تبوك أربعة عشر: أبو الشرور، وأبو الدواهي، وأبو المعازف، وأبوه، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وأبو الأعور، والمغيرة، وسالم مولي أبي حذيفة، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبو موسي الأشعري، وعبدالرحمن بن عوف. وهم الذين أنزل اللَّه عزّ وجلّ فيهم «وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ»» «1».

وما في تفسير الإمام الحسن العسكري وغيره من كتبهم، ممّا أورده صاحب البحار، وترجمه إلي الفارسيّة في كتابه حياة القلوب.

وعلي الجملة، فإنّ الحديث المذكور لا يشمل هؤلاء، بناءً علي الاصول الموضوعة عند الإماميّة.

وأمّا بالمعني الثاني، فمن البديهي أيضاً أن لا يكون المقصود هم الأصحاب بالمعني الثاني، فإنّه غير صادق علي المرتدّين الذين حرّقوا بيت بنت سيّد المرسلين، وحرّقوا آيات القرآن المبين، وبدّلوا شعائر الدين وسلكوا مسلك إبليس اللّعين.

وإذا كان «الأصحاب» في الحديث لا يراد منهم المعني الأوّل ولا المعني الثاني، فلا محالة يكون المراد من «الأصحاب» الجماعة المتّصفون بالإحداث، وهم المشهورون عند الإماميّة بالمناقب والمحامد، مثل صدّيق الإماميّة أعني أباذر، وأخوهم الأكبر أعني سلمان المحمّدي، وعمّار،

وحذيفة، وابن مسعود، وخزيمة ذي الشهادتين، وعامر بن واثلة، وسعد بن عبادة، والعبّاس __________________________________________________

(1) الخصال: 470، باب الأربعة عشر.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 417

عمّ أشرف الناس صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وأبنائه …

فهؤلاء هم المقصودون بالحديث، لا الذين توهّم المجلسي وأمثاله.

نقد الوجه الأوّل إنّ حصر مفهوم «الأصحاب» في المعنيين المذكورين هو: إمّا علي اصول الإماميّة، وإمّا علي اصول جمهور العامّة.

فإن كان علي اصول الإماميّة، فما الدليل علي قولهم بذلك؟ إنّهم لا يقولون بانحصار معني هذه الكلمة في المعنيين، بل إنّ كلمة «الصاحب» لا تدلّ إطلاقاً علي مدح أبداً، وهذا هو العمدة، ولذا صحّ إطلاقها عندهم علي أهل الردّة وسائر أهل النّار من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ومن هنا تراهم يناقشون في دلالة آية الغار علي حسن حال أبي بكر من جهة وصفه ب «الصاحب»، وقد أخذوا ذلك من المعصوم عليه السلام كما في بعض الأخبار «1».

وإنْ كان دعوي حصر مفهوم «الصاحب» في المعنيين بناءً علي اصول أهل السنّة، فذكر مبناهم أمام الإماميّة في مقام الإلزام دليل علي قلّة الفهم!! فإنّه إذا كانت الكلمة منحصرةً في المعنيين، ولا شي ء منهما بصادقٍ علي الشيخين، فما الملزم للإماميّة بأنْ لا يقولوا بانطباق الحديث عليهما؟

وعلي الجملة، فإنّ الإماميّة لا يرون انحصار معني الكلمة في المعنيين المزبورين، فلا يكون حديث الحوض آبياً عن الإنطباق علي الخلفاء وعلي المرتدّين، بل يصدق علي هؤلاء وهؤلاء ويطابق أحوالهم جميعاً، والمراد من __________________________________________________

(1) انظر: البرهان في تفسير القرآن 2: 777 ط مؤسّسة البعثة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 418

«الإصحاب» هنا مطلق المصاحبين، ولا دلالة لمجرّد الصحبة علي الشرف والفضيلة الدينيّة … فإنّ كلّ من كان يصاحب رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ويجالسه في الظاهر يصدق عليه عنوان «الصاحب»؛ كافراً كان أو مسلماً، مؤمناً كان أو منافقاً، معادياً كان أو مخلصاً، فلا منافاة بين «الصحبة» و «الردة»، ولا منافاة بين «الصحبة» و «المكر والخديعة والدسيسة لقتل رسول اللَّه» في «العقبة» وغيرها.

ثمّ إنّ ما زعمه من كون الأخبار في سعي القوم في قتل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- ولاسيّما قصّة «العقبة» - أخباراً مفتريات، فالأصل فيه قولهم بأنّ الخلفاء وأتباعهم كانوا من الصحابة المخلصين لرسول اللَّه، الواصلين إلي أقصي مدارج الإيمان والتقوي والعرفان، ممّا هو أوّل الكلام عند الإماميّة، ومن الطبيعي أنْ لا يقول الخصم بصحّة ما يدلّ علي بطلان مذهبه!!

الوجه الثاني إنّ حديث الحوض يشتمل علي قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «يا رب أصحابي» مرّةً أو مرّتين، وهذا ظاهر في الشفاعة لهم، ومن الواضح أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم سوف لا يشفع في القيامة للظالمين والغاصبين والكفرة والمرتدّين، فلا يعمّ حديث الحوض أهل السّقيفة وأتباعهم.

نقد هذا الوجه ويرد عليه بعد التسليم بدلالة ذلك علي الشفاعة، إنّ الشّفاعة الممنوعة في حقّ الظالمين والغاصبين والمرتدّين، هي الشفاعة التي ترتجي فيها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 419

الإجابة، والغرض منها تخليص المشفوع له من العذاب وإنقاذه من الهلكة، وهكذا شفاعة في حقّ أصحاب حديث الحوض غير ثابتة، بل الشفاعة- المفروض صدورها منه صلّي اللَّه عليه وآله في حقّ هؤلاء- الغرض منها تفضيحهم علي رؤس الأشهاد وإظهار شناعة حالهم لأهل القيامة والمعاد.

إنّ من له أدني إلمام بالأحاديث النبويّة وأقلّ تأمّل في الآيات القرآنيّة، ليعلم بأنّ الأنبياء والأوصياء قد تصدر منهم امور توهم عدم إطّلاعهم علي الامور الواقعيّة والحقائق كما هي، لكنّ

الغرض من ذلك شي ء آخر، ويترتّب عليه مصلحة عظمي، كما في سؤال موسي عليه السلام من اللَّه أن ينظر إليه، فإنّه كان يعلم باستحالة ذلك، لكنّه أراد أن يسمع النّاس الإستحالة من اللَّه، كما قال السيّد المرتضي في كتاب (تنزيه الأنبياء) إذ جاء فيه الكلام علي قوله تعالي: «ولمّا جاء موسي لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك» قال:

«أولي ما اجيب به عن هذه الآية أنْ يكون موسي عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه وإنّما سألها لقومه، فقد روي أن قومه طلبوا ذلك منه، فأجابهم بأنّ الرؤية لا تجوز عليه تعالي، فلجّوا به وألحّوا عليه في أن يسأل اللَّه تعالي أن يريهم نفسه، وغلب في ظنّه أنّ الجواب إذا ورد من جهته جلّت عظمته كانت أحسم للشبهة وأنفي لها، واختار السبعين الذين حضروا الميقات ليكون المسألة بمحضر منهم فيعرفوا ما يرد من الجواب، فسأله عليه السلام علي ما نطق به القرآن، واجيب بما يدلّ علي أنّ الرؤية لا تجوز عليه عزّوجلّ» «1».

وكما في قول اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم عليه السلام- لمّا طلب منه أن يريه كيف يحيي الموتي : «أولم تؤمن» مع أنّه عليه السلام كان أفضل أهل __________________________________________________

(1) تنزيه الأنبياء والأئمّة: 75.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 420

الإيمان، واللَّه أعلم بحاله، لكنّ الغرض من طلبه، ومن سؤاله تعالي منه عن إيمانه، شي ء آخر اريد بيانه للناس، وقد نبّه علي ذلك المفسّرون بتفسير الآية المباركة … قال البيضاوي:

«قال له ذلك وقد علم أنّه أعرق الناس في الإيمان، ليجيب بما أجاب فيعلم السامعون غرضه» «1».

هذا، وإنّ بعض ألفاظ حديث الحوض ظاهر فيما ذكرناه، ومن ذلك: ما أخرجه مسلم:

«حدّثنا يونس بن عبدالأعلي الصّدفي: أخبرنا عبداللَّه

بن وهب، أخبرني عمرو- وهو ابن الحارث- إنّ بكيراً حدّثه عن القاسم بن عبّاس الهاشمي، عن عبداللَّه بن رافع مولي امّ سلمة عن امّ سلمة زوج النبي أنّها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فلمّا كان يوماً من ذلك والجارية تمشّطني، فسمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: أيّها الناس، فقلت للجارية: استأخري عنّي، قالت: إنّما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت: إنّي من الناس، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّي لكم فرط علي الحوض، فإيّاي لا يأتينّ أحدكم فيذبّ عنّي كما يذبّ البعير الضالّ، فأقول: فبم هذا؟ فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً» «2».

فإنّ السؤال في هذا الحديث غير محمول علي الإستفهام الحقيقي قطعاً، وإنّما يحمل علي إظهار إحداث القوم من بعده، وأنّ ذلك سبب ذودهم عنه __________________________________________________

(1) تفسير البيضاوي 1: 136.

(2) صحيح مسلم 4: 1795/ 2295.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 421

صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وذلك:

أوّلًا: لأنّ ذبَّ القوم عن رسول اللَّه وسوقهم إلي جهنّم يكون بأمر من اللَّه تعالي، فلا وجه لسؤاله عن السبب إلّاتفضيح القوم وهتك أستارهم.

وثانياً: لأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان علي علمٍ بسبب ذود القوم عنه، كما هو مفاد هذا الحديث أيضاً، فلا يكون سؤاله عن السبب إلّا لمصلحةٍ، وإلّا لزم اللّغو، وتلك المصلحة ليست إلّاإظهار ارتداد القوم وإحداثهم الموجب للدخول في النار.

وعلي هذا أيضاً يحمل قوله- في بعض الألفاظ- «أصحابي أصحابي».

وممّا يشهد بما ذكرناه- من عدم استحقاق القوم للشفاعة الحقيقيّة، وأنّ قول رسول اللَّه ذلك إنّما هو لتفضيحهم في يوم القيامة- أخبارٌ مرويّة في كتب أهل السنّة:

منها:

ما رواه السمهودي في (جواهر العقدين) قال:

«أخبرني الشيخ الإمام العلّامة المحقق شيخ المالكيّة في زمنها شهاب الدين أحمد بن يونس القسطنطيني المغربي، نزيل الحرمين الشريفين- في مجاورته بالمدينة النبويّة سنة خمس وسبعين وثمانمأة- أنّ بعض مشائخه الأثبات ممّن يثق به أخبره: أنّ شخصاً من أعيان المغاربة عزم علي التوجّه من بلاده إلي الحجّ قال: فأحضر إليه شخص من أهل الثروة مبلغاً- أظنّه قال إنّه مائة دينار- وقال له: إذا وصلت إلي المدينة النبويّة، فاسأل عن شخص من الأشراف يكون صحيح النسب فتدفع إليه ذلك، عسي أن يكون لي بذلك وصلة بجدّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قال: فلمّا رجع إليهم ذلك المغربي أخبر: أنّه قدم المدينة وسأل عن أشرافها.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 422

فقيل: إنّ نسبهم صحيح غير أنّهم من الشيعة الذين يسبّون.

قال: فكرهت دفع ذلك لأحدٍ منهم.

قال: ثمّ جلس إلي واحد منهم وقال: جلست إليه فسألت عن مذهبه.

فقال: شيعي.

فقلت له: لو كنت من أهل السنّة لدفعت إليك مبلغاً عندي.

قال: فشكي فاقة وشدّة حاجة، يسألني شيئاً منه.

فقلت له: لا سبيل إلي أن أعطيك شيئاً منه. فذهب عنّي.

قال: فلمّا نمت تلك الليلة، رأيت أنّ القيامة قامت والناس يجوزون علي الصراط، فأردت أن أجوز، فأمرت فاطمة رضي اللَّه عنها بمنعي، فصرت أستغيث فلا أجد مغيثاً، حتّي أقبل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فاستغثت به وقلت:

يا رسول اللَّه، فاطمة تمنعني الجواز علي الصراط.

فالتفت إليها صلّي اللَّه عليه وسلّم وقال: لم منعت هذا؟

فقالت: لأنّه منع ولدي رزقه.

قال: فالتفت وقال: قد قالت إنّك منعت ولدها رزقه؟

فقلت: واللَّه يا رسول اللَّه، ما منعته إلّاأنّه يسبّ الشيخين رضي اللَّه عنهما!

فالتفتت فاطمة رضي اللَّه عنها إلي الشيخين وقالت لهما: أتؤاخذان ولدي بذلك؟

فقالا:

لا بل سامحناه بذلك.

قال: فالتفتت إليّ وقالت: فما أدخلك بين ولدي وبين الشيخين؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 423

فانتبهت فزعاً، فأخذت المبلغ وجئت به إلي ذلك الشريف فدفعت له …» «1».

وذكر أبوالعبّاس القرطبي في (شرح صحيح مسلم) بشرح حديث صلاة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي عبداللَّه بن أبي سلول: أنّ الاستغفار علي قسمين، فمنه حقيقي، ومنه غير حقيقي وإنّما يكون لغرضٍ آخر، قال:

«وقوله عليه السلام: إنّي خيّرت، مشكل، مع قوله تعالي: «ما كان للنبيّ والذين آمنوا أنْ يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربي» الآية، نزلت بعد موت أبي طالب حين قال عليه السلام: واللَّه لأستغفرنّ لك ما لم انه عنك، وهذا يفهم منه النهي عن الإستغفار لمن مات كافراً، وهو متقدّم علي الآية التي فهم منها التخيير.

والجواب عن الإشكال: إنّ المنهي عنه في هذه الآية استغفار مرجوّ الإجابة، حتّي يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم كما فعل بأبي طالب، فإنّه إنّما استغفر له كما استغفر إبراهيم لأبيه علي جهة أن يجيبهما اللَّه فيغفر للمدعوّ لهما، وفي هذا الإستغفار استأذن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ربّه في أن يأذن له فيه لُامّه فلم يؤذن له فيه، فهذا النوع هو الذي تناوله منع اللَّه تعالي ونهيه.

وأمّا الاستغفار لأولئك المنافقين الذين خيّر فيه استغفار لساني، علم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه لايقع ولا ينفع وغايته لو وقع تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر لهم، فانفصل المنهي عنه من المخيّر فيه وارتفع الإشكال والحمد للَّه» «2».

__________________________________________________

(1) جواهر العقدين 1: 269/ ق 2.

(2) المفهم- شرح صحيح مسلم 2: 641.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 424

وقوله: إنّه لو كان أهل السقيفة وأتباعهم كفّاراً مخلَّدين في النّار،

فلا يشفعُ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لهم، لعدم جواز الشفاعة للكفّار، لكنّه سيشفع لهم، فليسوا بكفّار …

كلامٌ ساقط، إذ قد عرفت أنّ الحديث لو دلَّ علي الشفاعة فالغرض منها تفضيح القوم لا الشفاعة الواقعيّة.

علي أنّ هذا الكلام يدلُّ علي جهل هذا القائل بروايات قومه، الصّريحة في شفاعة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم للكفّار يوم القيامة، إلّاأنّها لا تقبل:

«أخرج ابن مردويه عن عبدالرحمن بن ميمون: إنّ كعباً رضي اللَّه عنه دخل يوماً علي عمر بن الخطّاب، فقال له عمر: حدّثني إلي ما ينتهي شفاعة محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم يوم القيامة، فقال كعب رضي اللَّه عنه: قد أخبرك اللَّه في القرآن إنّ اللَّه يقول: «ما سلككم في سقر» إلي قوله «المصلّين» قال كعب رضي اللَّه عنه: فيشفع يومئذٍ حتّي يبلغ من لم يصلّ صلاةً قط، ولم يطعم مسكيناً قط، ولم يؤمن ببعث قط، فإذا بلغت هؤلاء لم يبق أحد فيه خير» «1».

وكذلك رووا عن سائر الأنبياء … ففي البخاري:

«عن أبي هريرة عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يلقي إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلي وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصيني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول: يا رب، إنّك وعدتني أنْ لا تخزيني يوم يبعثون؟ فأيّ خزي أخزي من أبي الأبعد، فيقول اللَّه: إنّي حرّمت __________________________________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8: 337.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 425

الجنّة علي الكافرين» «1».

وإذا كان القوم يروون في صحاحهم مثل هذا الحديث الدالّ علي شفاعة النبي لكافرٍ حقيقي بزعمهم، ولابدّ وأن يكون لمصلحة، فأيّ مانع من أن يشفع لأصحابه بقوله «أصحابي أصحابي» لمصلحةٍ تقتضي ذلك؟

علي أنّ غير

واحدٍ من أعلام القوم قالوا- في مقام الجواب عن استدلال أصحابنا بحديث الحوض علي سوء حال الصحابة في الآخرة- بأنّ حديث الحوض وارد بحقّ الكفّار والمرتدّين، فإذا كان يدلّ علي الشفاعة، فستكون للكفّار والمرتدّين … فكيف يقال بأنّها محرّمة في حقّ الكفّار والمرتدّين؟

والحاصل: إنّ هذه الشفاعة إن كانت حقيقيّة فلا تكون للكفّار وأهل الردّة، وإنْ كانت ظاهريّة- ولمصلحةٍ اخري- فلا يأبي حديث الحوض عن الشمول لأهل السقيفة وأنصارهم …

الوجه الثالث إنّ تصغير لفظ «أصحابي» - كما ورد في كتاب سليم وبعض كتب الإماميّة- لمّا لم يكن من أجل تقليل عدد الأصحاب يقيناً، فالمراد منه الإشفاق والإستعطاف، نظير قولهم: يا بُنيّ، وأمثاله … فالشيخان وأحزابهما يقعون في القيامة موقع الاستعطاف … فكيف يروي الإماميّة مثل هذا الحديث، ثمّ يقولون بخلود الشيخين وأتباعهما في النار؟

وإذا كانوا يروون عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أنّ شفاعته لا تنال __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 4: 277.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 426

من آذي أهل بيته وذرّيّته … فإنّ مقتضي اللّفظ المذكور في حديث الحوض أنّ القوم لم يكونوا قد آذوا أهل بيته، فيبطل كلّ ما يروونه ويزعمونه في باب إيذاء الصحابة لأهل بيت النبي.

نقد الوجه الثالث إنّ أساس هذا الوجه ورود لفظ «اصيحابي» في رواية أصحابنا الإماميّة، وهذا افتراء محض، فاللّفظ المذكور غير وارد في شي ء من رواياتنا، ودعوي وجوده في خبر كتاب سليم كاذبة، فنسخة كتاب سليم الموجودة عندنا- وهي نسخة قديمة جدّاً- هي بلفظ «أصحابي» وكذا الخبر في كتاب (البحار) نقلًا عن كتاب سليم … لكنّ القوم من عادتهم الكذب والإفتراء، وقد تقدّم في الكتاب التنبيه علي موارد من هذا القبيل كثيرة.

وعلي فرض وجود لفظ «اصيحابي» في

روايات أهل الحق، فغاية ما يدّعي هو دلالة هذا اللّفظ علي الشفقة والعطف من النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالنسبة إلي القوم، فيكون مآل هذا الوجه إلي الوجه السابق، وقد عرفت أنْ لا مانع من ذلك، لكونه لمصلحة تفضيح القوم وظهور سوء حالهم وعدم شمول الشفاعة لهم.

هذا، وقد تكرّر من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم تفضيح المشايخ علي رؤس الأشهاد في الدنيا، وكان ذلك منه في مواطن عديدة معهم، من أشهرها قضيّة إبلاغ سورة براءة، هذه القضيّة التي رواها أئمّة القوم وكبار حفّاظهم أمثال:

الترمذي، وأحمد، وعبداللَّه بن أحمد، والطبري، والبغوي، والنيسابوري، والنسائي، والسهيلي، والثعلبي، والحاكم، وابن مردويه، وابن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 427

أبي شيبة، وابن حبّان، وعبدالرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي عوانة، والطبراني، والدارقطني، والبيهقي، وابن حجر العسقلاني، والقسطلاني، والعيني، وابن كثير … وغيرهم …

وهذا أحد ألفاظه كما أخرجه النسائي قال:

«أخبرنا العبّاس بن محمّد الدوري، قال: حدّثنا أبو نوح قراءةً، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن زيد بن بثيع، عن عليّ رضي اللَّه عنه: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بعث ببراءة إلي أهل مكة مع أبي بكر، ثمّ أتبعه بعلي، فقال له: خذ الكتاب فامض به إلي مكة، قال: فلحقته فأخذت الكتاب منه، فانصرف أبوبكر- وهو كئيب- فقال: يا رسول اللَّه، أنزل فيَّ شي ء؟ قال: لا، إلّاأنّي امرت أن ابلّغه أنا أو رجل من أهل بيتي.

أخبرنا زكريّا بن يحيي قال: حدّثنا عبداللَّه بن عمر قال: حدّثنا أسباط، عن فطر، عن عبداللَّه بن شريك، عن عبداللَّه بن رقيم، عن سعد، قال: بعث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أبابكر ببراءة، حتّي إذا كان

ببعض الطريق، أرسل عليّاً فأخذها منه، ثمّ سار بها، فوجد أبوبكر في نفسه فقال: قال رسول اللَّه: إنّه لا يؤدّي عنّي إلّاأنا أو رجل منّي» «1».

وتلخص: أنْ لا منافاة بين إظهار الشفقة، وطلب الرحمة، لمصلحة الإعلان عن خسران القوم وخلودهم في العذاب الأليم … وما ذكره من أنّ الشفاعة لا تكون للمخلَّدين في الجحيم، مردود بما جاء في شرح الحديث من كتب أصحابه، فإنّهم لمّا ادّعوا أنّ المراد من حديث الحوض هم المرتدّون الذين حاربهم أبوبكر، نصّوا علي موت هؤلاء المرتدّين علي الكفر … قال ابن حجر:

__________________________________________________

(1) خصائص علي: 114/ 77.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 428

«هم الذين ارتدّوا علي عهد أبي بكر، فقاتلهم أبوبكر حتّي قتلوا وماتوا علي الكفر» «1».

وقال الكرماني: «سحقاً، أي بعداً، وكرّر للتأكيد، وهو نصب علي المصدر، وهذا مشعر بأنّهم مرتدّون عن الدين، لأنّه يشفع للعصاة ويهتمّ بأمرهم ولا يقول لهم مثل ذلك» «2».

الوجه الرابع كلمة «لا تدري» - في حديث الحوض- نصٌّ في نفي علم النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم بإحداث الأصحاب في الدين من بعده، ولا أحد من المسلمين يجوّز الكذب علي اللَّه، تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً، لكنّ عدم علم النبي ينافي ما ثبت بالضرورة من مذهب الإماميّة من أنّه كان عالماً بأحوال الغاصبين- الكلّيّة والجزئيّة- وأنّه قد أخبر أهل بيته الطاهرين بجميع تلك الحقائق.

فلو كان المراد من «الأصحاب» في «حديث الحوض» هم «أهل السقيفة» عاد المحذور، واللّازم باطل عند جميع المليّين، فالملزوم مثله.

والروايات الموضوعة في كتبهم لإثبات الدعوي المذكورة، كثيرة جدّاً.

نقد هذا الوجه أوّلًا: مذهب الإماميّة أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يعلم جميع ما في هذا العالم وأحوال أهله مطلقاً، وفي كتب

أهل السنّة أيضاً تصريحاتٌ __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح البخاري 11: 324، كتاب الرقاق، باب الحشر.

(2) الكواكب الدراري في شرح البخاري 23: 67، كتاب الرقاق، باب الحوض.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 429

بهذا الإعتقاد.

ففي (حاشية شرح عقائد العضدي) للشيخ محسن الكشميري:

«واعلم أنّ المراد الرؤية في عالم التكليف، فلا يشكل بما روي أنّه عليه السلام رأي ليلة المعراج جميع الامّة في عالم الأرواح والمثال، ولا بأنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في قبره حيّ يري جميع الامّة» «1».

وفي (المواهب اللدنيّة):

«قد روي ابن المبارك عن سعيد بن المسيّب: ليس يوم إلّاويعرض علي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أعمال امّته غدوةً وعشيّةً، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم» «2».

وفي (جامع مسانيد أبي حنيفة) بعد أنْ أورد ما حكاه الخطيب عن أحمد ابن الحسن الترمذي أنّه قال:

«رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في المنام فقلت له: يا رسول اللَّه، ما تري ما فيه الناس من الإختلاف؟ قال: في أيّ شي ء؟ قلت: فيما بين أبي حنيفة ومالك والشافعي. فقال: أمّا أبو حنيفة فلا أعرفه، وأمّا مالك فكتب العلم، وأمّا الشافعي فمنّي وإليّ».

قال الخوارزمي:

«صحّ في الحديث أنّه يعرض علي رسول اللَّه أعمال امّته يوم الإثنين والخميس فكيف لا يعرفه؟ وإنّه عليه السلام يعرف كلّ برٍّ وفاجر تعرض __________________________________________________

(1) الحاشية علي شرح العقائد- تعريف الصحابي.

(2) شرح المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 5: 337، القسم الرابع: ما اختصّ «ص» به من الفضائل والكرامات.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 430

أعماله عليه، فكيف لا يعرف أبا حنيفة وأعمال أكثر امّته علي مذهبه؟ …» «1».

وثانياً: إنّ ما ذكره معارَض بأنّه إذا كان نفي علم النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بارتداد القوم، دليلًا علي عدم

انطباق الحديث علي أهل السقيفة وأصحابهم، فإنّه يكون دليلًا كذلك علي عدم انطباقه علي سلمان وأبي ذكر وعمّار وغيرهم أيضاً، لأنّ أعمال هؤلاء أيضاً معروضة عليه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فهو عالم بأحوالهم، فيلزم الكذب في «إنّك لا تدري».

بل إنّ مقتضي أحاديث عرض أعمال الامّة عليه، عدم انطباق حديث الحوض علي أحدٍ من أفرادها مطلقاً، وإلّا لزم الكذب في حديث الحوض …

وثالثاً: إنّ الصحيح رفع اليد عن ظهور «لا تدري» في نفي العلم، وحمله علي ظاهره غير صحيح قطعاً، لدلالة نفس حديث الحوض علي علمه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بارتداد القوم من بعده؛ فلا يأخذ بظاهر كلمة «لا تدري» إلّا الجاهل الغبي، أو المتعصّب المفتري!

ورابعاً: إنّ المعاني المحتملة في لفظ «لا تدري» في «حديث الحوض» عديدة:

منها: أنْ يكون الإستفهام في «إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» إنكاريّاً، أي: ألا تعلم بارتداد هؤلاء وما أحدثوا في الدين من بعدك؟ فهؤلاء لا يستحقّون الشفاعة منك، بل هم في العذاب خالدون.

ومنها: أنْ يكون المراد نفي درايته بحسب الظاهر، أي: إنّ ظواهر الأحوال تقتضي أنْ لا تعلم بما كان منهم، لخروجك من هذا العالم قبل وقوع تلك الامور.

__________________________________________________

(1) جامع مسانيد أبي حنيفة 1: 64.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 431

ومنها: أنْ يكون المراد نفي الدراية بالإدراك الظاهري، أي: إنّك لم تر بعينك ما صنعوا، وإنْ كنت عالماً به بإعلام اللَّه تعالي.

ومنها: أن يكون المراد سلب دراية النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بذلك بحسب معتقد بعض الحاضرين، كما عليه جماعة أهل السنّة المنكرين لعلم النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالامور تفصيلًا، فيسلب دراية النبي بذلك حسب معتَقدهم تقبيحاً لهذا الإعتقاد.

ومنها: حمل سلب الدراية ونفي العلم

علي المبالغة، أي: إنّك تشفع لهؤلاء القوم وكأنّك لا تدري بأحوالهم من بعدك؟

ومنها: أنْ يكون المعني: إنّك لا تدري كما ندري، إذ لا ريب في أنّ علم اللَّه تعالي أوسع وأفضل من علم من سواه حتّي الأنبياء.

وبعد ورود هذه الإحتمالات كيف يكون الكلام نصّاً في جهل النبي؟

وكيف يكون الحديث نصّاً في جهله بما سيكون من بعده وهو دليلٌ علي علمه بذلك؟

وإذا كان نصّاً في جهله مع ذلك، لزوم تجويز الكذب علي اللَّه، وهذا ما لا يتفوّه به مسلم كما قال، فافهم!!

لكنّ أهل السنّة يجوّزون جميع القبائح علي اللَّه، تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً … فيكون صدور الكذب جائزاً عليه …

مضافاً إلي تصريح بعضهم بجواز الكذب عليه … فقد جاء في (شرح العقائد العضديّة) للدواني ما نصّه:

«واعلم أنّ بعض العلماء ذهب إلي أنّ الخلف في الوعيد جائز علي اللَّه تعالي، وممّن صرّح به الواحدي في التفسير الوسيط في قوله تعالي في سورة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 432

النساء: «ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم» الآية حيث قال: والأصل في هذا أنّ اللَّه تعالي يجوز أن يخلف في الوعيد، وإن كان لا يجوز أن يخلف في الوعد، وبهذا اوردت السنّة من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فيما أخبرنا أبوبكر أحمد بن محمّد الأصفهاني السنجري، حدّثنا عبداللَّه بن محمّد الأصفهاني وزكريّا بن يحيي الساجي وأبو حفص جعفر السّلمي وأبو يعلي الموصلي قالوا: حدّثنا هدية بنت خالد، حدّثنا سهيل بن أبي حرم، حدّثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: من وعده اللَّه تعالي علي عمله ثواباً فهو منجز له ومن أوعده علي عمله عقاباً فهو بالخيار.

وأخبرنا أبوبكر، ثنا

محمّد بن عبداللَّه بن حمزة، حدّثنا أحمد بن الخليل، حدّثنا الأصمعي قال: جاء عمرو بن عبيد إلي عمرو بن العلاء قال: يا أبا عمرو، أيخلف اللَّه ما وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من أوعده اللَّه تعالي علي عمله عقاباً إنّه يخلف اللَّه تعالي وعيده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت أباعثمان، إنّ الوعد غير الوعيد، إنّ العرب لا تعدّ عيباً ولا خلفاً أن تعد شرّاً ثمّ لا تفعل، بل تري ذلك كرماً وفضلًا، وإنّما الخلف المحال أن تعد خيراً ثمّ لا تفعله. قال: فوجد هذا في العرب؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:

وإنّي إذا أوعدته أو وعدته لمخلف ميعادي ومنجز موعدي والذي ذكره أبو عمرو مذهب الكرام، ومستحسن عند كلّ أحد خلف الوعيد كما قال السري الموصلي:

إذا وعد السرّاء أنجز وعده وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانعه وأحسن يحيي بن معاذ في هذا المعني حيث قال: الوعد والوعيد حقّ؛

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 433

فالوعد حقّ العباد علي اللَّه تعالي، إذ ضمن لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم كذا، ومن أولي بالوفاء من اللَّه تعالي؟ والوعيد حقّه علي العباد إذ قال لا تفعلوا كذا فإنّي اعذّبكم، ففعلوا، فإن شاء عفا وإن شاء أخذ لأنّه حقّه، وأولاهما العفو والكرامة لأنّه غفور رحيم».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 437

ممّا ورد عن أهل البيت في الصّحابة … ص: 437

اشارة

الحديث الأوّل في قوله تعالي: «فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنّه الحق …» «1»:

قال علي بن إبراهيم: «حدّثني أبي، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن المعلّي بن خنيس، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: إنّ هذا المثل ضربه اللَّه لأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب؛ فالبعوضة أميرالمؤمنين وما فوقها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم،

والدليل علي ذلك قوله: «فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم» يعني أميرالمؤمنين كما أخذ رسول اللَّه الميثاق عليهم «وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللَّه بهذا مثلًا يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً» فردّ اللَّه عليهم فقال: «وما يضلّ به إلّاالفاسقين* الذين ينقضون عهد اللَّه من بعد ميثاقه» في علي «ويقطعون ما أمر اللَّه به أنْ يوصل» يعني من صلة أميرالمؤمنين والأئمّة عليهم السلام «ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون» «2».

الحديث الثاني في قوله تعالي: «وإذْ أخذنا ميثاقكم …» «3»:

قال علي بن إبراهيم:

«وأمّا قوله: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ» الآية.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية 25.

(2) تفسير علي بن إبراهيم القمّي 1: 35.

(3) سورة البقرة، الآية 63.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 438

وإنما نزلت في أبي ذر- رحمه اللَّه- وعثمان بن عفان. وكان سبب ذلك:

لمّا أمر عثمان بنفي أبي ذر إلي الربذة، دخل عليه أبوذر وكان عليلًا متوكئاً علي عصاه، وبين يدي، عثمان مأة ألف درهم قد حملت اليه من بعض النواحي، وأصحابه حوله ينظرون إليه ويطمعون أن يقسمها فيهم.

فقال أبوذر لعثمان: ما هذا المال؟

فقال عثمان: مأة ألف درهم حملت إليّ من بعض النواحي، اريد أضم إليها مثلها، ثم أري فيها رأيي.

فقال أبوذر: يا عثمان أيّما أكثر مأة ألف درهم أو أربعة دنانير؟

فقال عثمان: بل مأة ألف درهم.

قال: أما تذكر أنا وأنت وقد دخلنا علي رسول اللَّه عشياً، فرأيناه كئيباً حزيناً فسلّمنا عليه فلم يرد علينا السلام، فلما أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكاً مستبشراً، فقلنا له بآبائنا وامهّاتنا، دخلنا إليك البارحة فرأيناك كئيباً حزيناً، ثم عدنا إليك اليوم فرأيناك فرحاً مستبشراً.

فقال: نعم كان قد بقي

عندي من في ء المسلمين أربعة دنانير لم أكن قسمتها، وخفت أن يدركني الموت وهي عندي، وقد قسمتها اليوم واسترحت منها.

فنظر عثمان إلي كعب الأخبار وقال له: يا أبا إسحاق: ما تقول في رجل أديّ زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيئاً؟

فقال: لا، ولو اتّخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شي ء.

فرفع أبوذر عصاه فضرب بها رأس كعب ثم قال له يابن اليهودية الكائرة ما أنت والنظر في احكام المسلمين، قول اللَّه أصدق من قولك حيث قال «والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَي عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَي بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 439

كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ» فقال عثمان: يا أباذر إنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، ولولا صحبتك لرسول اللَّه لقتلتك، فقال: كذبت يا عثمان. أخبرني حبيبي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فقال: لا يفتنونك يا أباذر ولا يقتلونك، وأما عقلي فقد بقي منه ما أحفظه حديثاً سمعته من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فيك وفي قومك، فقال: وما سمعت من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في وفي قومي؟ قال: سمعت يقول إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثون رجلًا صيّروا مال اللَّه دولًا، وكتاب اللَّه دخلًا وعباده خولًا والفاسقين حزباً والصالحين حرباً، فقال عثمان: يا معشر أصحاب محمد، هل سمع أحد منكم هذا من رسول اللَّه؟ فقالوا: لا ما سمعنا هذا من رسول اللَّه.

فقال عثمان: ادع علياً. فجاء أمير المؤمنين عليه السلام. فقال له عثمان: يا أبا الحسن انظر ما يقول هذا الشيخ الكذّاب. فقال أمير

المؤمنين: مه يا عثمان، لا تقل كذّاب فإني سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء علي ذي لهجة أصدق من أبي ذر. فقال أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: صدق أبوذر وقد سمعنا هذا من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

فبكي أبوذر عند ذلك فقال: ويلكم، كلّكم قد مدّ عنقه إلي هذا المال، ظنتم أني أكذب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ثم نظر إليهم فقال:

من خيركم؟ فقالوا: من خيرنا؟ فقال: أنا. فقالوا: أنت تقول إنك خيرنا؟ قال:

نعم خلفت حبيبي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في هذه الجبة وهو عني راض، وأنتم قد أحدثتم أحداثاً كثيرة واللَّه سائلكم عن ذلك ولا يسألني.

فقال عثمان: يا أباذر أسألك بحق رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلّا ما أخبرتني عن شي ء أسألك عنه. فقال أبوذر: واللَّه لو لم تسألني بحق محمد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أيضاً لأخبرتك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 440

فقال: أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها؟ فقال: مكة حرم اللَّه وحرم رسول اللَّه، أعبد اللَّه فيها حتي يأتيني الموت.

فقال: لا ولا كرامة لك.

قال: المدينة حرم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

قال: لا ولا كرامة لك.

فسكت أبوذر.

فقال عثمان: أيّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها؟ قال: الربذة التي كنت فيها علي غير دين الاسلام.

فقال عثمان: سر إليها.

فقال أبوذر: قد سألتني فصدقتك، وأنا اسألك فاصدقني.

قال: نعم.

قال: أخبرني لو بعثتني في بعث من أصحابك إلي المشركين فأسروني فقالوا: لا نفديه إلّابثلث ما تملك.

قال: كنت أفديك.

قال: فان قالوا لا نفديه إلّابنصف ما تملك.

قال: كنت أفديك.

قال: فإن قالوا

لا نفديه إلّابكلّ ما تملك.

قال: كنت أفديك.

قال أبوذر: اللَّه أكبر قال حبيبي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يوماً: يا أباذر وكيف أنت إذا قيل لك أي البلاد أحب إليك أن تكون فيها؟ فتقول: مكة حرم اللَّه وحرم رسوله أعبداللَّه فيها حتي يأتيني الموت. فيقال لك: لا ولا كرامة لك. فتقول: فالمدينة حرم رسول اللَّه. فيقال لك: لا ولا كرامة لك. ثم يقال لك:

فايّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها؟ فتقول: الربذة التي كنت فيها علي غير دين استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 441

الاسلام فيقال لك: سر إليها. فقلت: وإن هذا لكائن؟ فقال: إي والذي نفسي بيده إنه لكائن. فقلت: يا رسول اللَّه أفلا أضع سيفي هذا علي عاتقي فأضرب به قدماً قدماً؟ قال: لا إسمع واسكت ولو لعبد حبشي. وقد أنزل اللَّه فيك وفي عثمان آية. فقلت: وما هي يا رسول اللَّه. فقال: قوله تعالي «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَي تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَي أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»» «1».

الحديث الثالث في قوله تعالي: «ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا …» «2».

قال علي بن إبراهيم: «نزلت في الثاني. ويقال: في معاوية».

والعيّاشي عن الصادق: «فلان وفلان».

وفي (الصافي): «تشمل عامّة المنافقين وإنْ نزلت خاصة» «3».

الحديث الرابع في قوله تعالي: «فمن يكفر بالطّاغوت …» «4».

قال القمي: «هم الذين غصبوا آل محمد حقّهم» «5».

__________________________________________________

(1)

تفسير علي بن إبراهيم القمّي 1: 52- 54.

(2) سورة البقرة، الآية 204.

(3) الصّافي في تفسير القرآن 1: 220.

(4) سورة البقرة، الآية 256.

(5) تفسير القمي، عنه الصافي 1: 261.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 442

الحديث الخامس في قوله تعالي: «ألم تر إلي الذين يزكّون …» «1».

قال علي بن إبراهيم: «هم الذين سمّوا أنفسهم بالصدّيق والفاروق وذي النورين …» «2».

الحديث السادس في قوله تعالي: «إنّ الذين يكفرون باللَّه ورسله …» «3».

قال القمي: «هم الذين أقرّوا برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وأنكروا أمير المؤمنين عليه السلام» «4».

الحديث السابع في قوله تعالي: «إنّ الذين آمنوا ثمّ كفروا …» «5».

القمي: «نزلت في الذين آمنوا برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله إقراراً لا تصديقاً، ثم كفروا لمّا كتبوا الكتاب فيما بينهم أن لا يردّوا الأمر في أهل بيته أبداً، فلمّا نزلت الولاية وأخذ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله الميثاق عليهم لأمير المؤمنين عليه السلام آمنوا إقراراً لا تصديقاً، فلمّا قضي رسول اللَّه كفروا

__________________________________________________

(1) سورة النساء، الآية 49.

(2) الصّافي 1: 424.

(3) سورة النساء، الآية 150.

(4) الصّافي 1: 477.

(5) سورة النساء، الآية 137.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 443

فازدادوا كفراً.

والعياشي عن الباقر عليه السلام قال: هما والثالث والرابع وعبدالرحمن وطلحة، وكانوا سبعة (الحديث) وذكر فيه مراتب إيمانهم وكفرهم.

وعن الصادق عليه السلام: نزلت في فلان وفلان وفلان، آمنوا برسول اللَّه في أوّل الأمر، ثم كفروا حين عرضت عليهم الولاية، حيث قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام، حيث قالوا له بأمر اللَّه وأمر رسوله فبايعوه، ثم كفروا حيث مضي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، فلم يقرّوا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعوه

بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شي ء» «1».

الحديث الثامن في قوله تعالي: «… فإنْ يكفر بها هؤلاء …» «2».

قال علي بن إبراهيم: «يعني: أصحابه وقريش ومن أنكروا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام «فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ» يعني شيعة أمير المؤمنين عليه السلام» «3».

الحديث التاسع في قوله تعالي: «… لتفسدنَّ في الأرض مرّتين …» «4».

__________________________________________________

(1) تفسير الصّافي 1: 473.

(2) سورة الأنعام، الآية 89.

(3) تفسير القمي 1: 209- 210.

(4) سورة الإسراء، الآية 4.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 444

قال في (الصافي): «وفي الكافي والعيّاشي عن الصّادق عليه السلام أنّه فسّر الإفسادتين بقتل علي بن أبي طالب عليه السلام وطعن الحسن عليه السلام، والعلّو الكبير بقتل الحسين عليه السلام، والعباد أولي بأس، بقومٍ يبعثهم اللَّه قبل خروج القائم، فلا يدعون وتراً لآل محمد إلّاقتلوه، ووعد اللَّه بخروج القائم عليه السلام وردّ الكرّة عليهم بخروج الحسين عليه السلام في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهب، حين كان الحجة القائم بين أظهرهم.

وزاد العياشي: ثم يملكهم الحسين عليه السلام حتي بلغ حاجباه إلي عينيه.

والعياشي عنه عليه السلام: أوّل من يكرّ إلي الدنيا الحسين بن علي ويزيد بن معاوية وأصحابه، فيقتلهم حذو القذة بالقذة. ثم تلا هذه الآية «ثمّ رددنا …».

وفي روايةٍ اخري للعياشي عن الباقر عليه السلام: إن العباد أولي بأس هم القائم وأصحابه عليهم السلام.

والقمّي: «وَقَضَيْنَا إِلَي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ» أي أعلمناهم ثم انقطعت مخاطبة بني إسرائيل، وخاطب اللَّه امّة محمد صلّي اللَّه عليه وآله فقال:

«لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ» يعني فلاناً وفلاناً ولأصحابهما ونقضهم العهد «وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً» ما ادّعوه من الخلافة «فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا» يعني يوم الجمل «بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا

أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» يعني أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه …» «1».

__________________________________________________

(1) تفسير الصافي 3: 179.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 445

الحديث الحادي عشر

في قوله تعالي: «قل أعوذ بربّ …» «1»: «قال: الفلق جبٌّ في جهنّم يتعوّذ أهل النار من شدّة حرّه، فسأل اللَّه أن يأذن له أنْ يتنفّس، فأذن له فتنفّس فأحرق جهنم.

قال: وفي ذلك الجبّ صندوق من نارٍ يتعوّذ أهل الجبّ من حرّ ذلك الصندوق، وهو التابوت، وفي ذلك التابوت ستة من الأوّلين وستة من الآخرين.

فأمّا الستّة من الأوّلين: فابن آدم الذي قتل أخاه، ونمرود إبراهيم الذي ألقي إبراهيم في النار، وفرعون موسي والسّامري الذي اتخذ العجل، والذي هوّد اليهود، والذي نصّر النصاري.

وأمّا الستة من الآخرين، فهو الأوّل والثاني والثالث والرابع وصاحب الخوارج وابن ملجم» «2».

الحديث الحادي عشر

في قوله تعالي: «… أو كظلمات في بحر لجّيّ …» «3».

في (تفسير الصافي): «وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: «أَوْ كَظُلُمَاتٍ» قال: الأول وصاحبه «يَغْشَاهُ مَوْجٌ» الثالث «من فوقه موج ظلمات» الثاني «بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ» معاوية لعنه اللَّه، وفتن بني امية «إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ»

__________________________________________________

(1) سورة الفلق، الآية 1.

(2) تفسير القمي 2: 449.

(3) سورة النور، الآية 40.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 446

المؤمن في ظلمة فتنتهم «لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً» إماماً من ولد فاطمة عليها السلام «فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ» يوم القيامة.

والقمي عنه عليه السلام: «أَوْ كَظُلُمَاتٍ» فلان وفلان «فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ» يعني نعثل «مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ» طلحة والزبير «بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ» معاوية ويزيد لعنهم اللَّه وفتن بني اميّة «إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ» في ظلمة فتنتهم «لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً» يعني إماماً من ولد

فاطمة عليها السلام «فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ» فما له من إمام يمشي بنوره كما في قوله تعالي «يَسْعَي نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ …» …» «1».

الحديث الثاني عشر

في (البحار) عن (الأمالي) قال:

«ابن موسي، عن الأسدي، عن النخعي، عن النوفلي، عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن سعيد بن جبير

عن ابن عبّاس قال: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان جالساً ذات يوم، إذ أقبل الحسن، فلمّا رآه بكي ثمّ قال: إليَّ إليَّ يا بني، فما زال يدنيه حتّي أجلسه علي فخذه اليمني، ثمّ أقبل الحسين، فلمّا رآه بكي ثمّ قال:

إليَّ إليَّ يا بني، فما زال يدنيه حتّي أجلسه علي فخذه اليسري، ثمّ أقبلت فاطمة، فلمّا رآها بكي، ثمّ قال: إليَّ إليَّ يا بنيّة، فأجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أميرالمؤمنين عليه السلام، فلمّا رآه بكي ثمّ قال: إليَّ إليَّ يا أخي، فما زال يدنيه حتّي أجلسه إلي جنبه الأيمن.

__________________________________________________

(1) تفسير الصافي 3: 438.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 447

فقال له الصحابة: يا رسول اللَّه، ما تري واحداً من هؤلاء إلّابكيت، أوما فيهم من تسترّ برؤيته؟

فقال صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: والذي بعثني بالنبوّة واصطفاني علي جميع البريّة: إنّي وإيّاهم لأكرم الخلق علي اللَّه عزّ وجلّ، وما علي وجه الأرض نسمة أحبّ إليّ منهم:

أمّا عليّ بن أبي طالب، فإنّه أخي وشقيقي وصاحب الأمر بعدي وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولي كلّ مسلم، وإمام كلّ مؤمن وقائد كلّ تقيّ، وهو وصيّي وخليفتي علي أهلي وامّتي؛ في حياتي وبعد موتي، محبّه محبّي ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت امّتي مرحومة وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة، وإنّي بكيت حين أقبل لأنّي ذكرت

غدر الامّة به بعدي، حتّي إنّه ليزال عن مقعدي وقد جعله اللَّه له بعدي، ثمّ لا يزال الأمر به حتّي يضرب علي قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور، شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن وهدي للناس وبيّنات من الهدي والفرقان.

وأمّا ابنتي فاطمة، فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الإنسيّة، متي قامت في محرابها بين يدي ربّها جلّ جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول اللَّه عزّ وجلّ لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلي أمتي فاطمة سيّدة إمائي قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت بقلبها علي عبادتي، اشهدكم أنّي قد أمنت شيعتها من النار، وإنّي لمّا رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي؛ كأنّي بها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 448

وقد دخل الذلّ بيتها وانتهكت حرمتها وغصبت حقّها ومنعت إرثها وكسر جنبها واسقطت جنينها وهي تنادي: يا محمّداه فلا تجاب وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال محزونة مكروبة باكية تتذكّر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة وتتذكّر فراقي اخري، وتستوحش إذا جنّها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدت بالقرآن، ثمّ تري نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيّام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها اللَّه تعالي ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة إنّ اللَّه اصطفاك وطهّرك واصطفاك علي نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين، ثمّ يبتدئ بها الوجع فتمرض، فيبعث اللَّه عزّ وجلّ إليها مريم بنت عمران تمرّضها وتؤنسها في علّتها، فتقول عند ذلك:

يا رب، إنّي قد سئمت الحياة، وتبرّمت

بأهل الدنيا، فألحقني بأبي.

فيلحقها اللَّه عزّ وجلّ بي، فتكون أوّل من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم عليَّ محزونة مكروبةً مغمومة مغصوبةً مقتولةً، فأقول عند ذلك: اللّهمّ العن من ظلمها وعاقب من غصبها وذّلّل من أذلّها وخلّد في نارك من ضرب جنبها حتّي ألقت ولدها، فتقول الملائكة عند ذلك: آمين» «1».

الحديث الثالث عشر

الطوسي في (الأمالي) بإسناده:

عن ابن عباس قال: «لمّا حضرت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الوفاة بكي حتّي بلّت دموعه لحيته، فقيل: يا رسول اللَّه، ما يبكيك؟ فقال:

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 43: 172- 173 و 28: 37- 40.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 449

أبكي لذرّيّتي وما يصنع بهم شرار امّتي من بعدي، كأنّي بفاطمة بنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي: يا أبتاه يا أبتاه، فلا يعينها أحد من امّتي، فسمعت ذلك فاطمة عليها السلام فبكت، فقال لها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: لا تبكينّ يا بنيّة، فقالت: لست أبكي لما يصنع بي بعدك، ولكنّي أبكي لفراقك يا رسول اللَّه، فقال لها: أبشري يا بنت محمّد بسرعة اللّحاق، فإنّك أوّل من يلحق بي من أهل بيتي» «1».

الحديث الرابع عشر

في (البحار) عن عبدالرحمان بن أبي ليلي قال:

قال أبي: دفع النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الراية يوم خيبر إلي علي ابن أبي طالب عليه السلام، ففتح اللَّه عليه، وأوقفه يوم غدير خم فأعلم الناس أنّه مولي كلّ مؤمنٍ ومؤمنة. وقال عليه السلام له: أنت منّي وأنا منك، وقال له:

تقاتل علي التأويل كما قاتلت علي التنزيل، وقال له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسي. وقال له: أنا سلم لمن سالمت وحرب لمن حاربت، وقال له: أنت العروة الوثقي، وقال له: أنت تبيّن لهم ما اشتبه عليهم

بعدي، وقال له: أنت إمام كلّ مؤمن ومؤمنةٍ بعدي، وقال له: أنت الذي أنزل فيه «وأذان من اللَّه ورسوله إلي الناس يوم الحج الأكبر»، وقال له: أنت الآخذ بسنّتي والذابُّ عن ملّتي، وقال له: أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض وأنت معي، وقال له: أنا عند الحوض وأنت معي، وقال له: أنا أوّل من يدخل الجنّة وأنت بعدي تدخلها والحسن والحسين وفاطمة. وقال له: إنّ اللَّه أوحي إليَّ بأن أقوم بفضلك فقمت __________________________________________________

(1) الأمالي للشيخ الطوسي: 188/ 316.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 450

به في الناس وبلّغتهم ما أمرني اللَّه بتبليغه، وقال له: اتّق الضغائن التي في صدور من لا يظهرها إلّابعد موتي …» «1».

الحديث الخامس عشر

في (البحار): «عن أبي سعيد الخدري قال: أخبر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عليّاً عليه السلام بما يلقي بعده، فبكي عليّ عليه السلام وقال:

يا رسول اللَّه، أسألك بحقّي عليكم وحقّ قرابتي وحقّ صحبتي لما دعوت اللَّه عزّ وجلّ أنْ يقبضني إليه، فقال رسول اللَّه: أتسألني أنْ أدعو ربّي لأجلٍ مؤجّل؟ قال: فعلي ما اقاتلهم؟ قال: علي الإحداث في الدين» «2».

الحديث السادس عشر

الصدوق في كتاب (الامالي):

عن عليّ قال: «بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، إذ التفت إلينا فبكي.

فقلت: ما يبكيك يا رسول اللَّه؟

فقال: أبكي ممّا يصنع بكم بعدي.

فقلت: وما ذاك يا رسول اللَّه؟

قال: أبكي من ضربتك علي القرن، ولطم فاطمة خدّها، وطعنة الحسن في الفخذ والسمّ الذي يسقي، وقتل الحسين.

قال: فبكي أهل البيت جميعاً.

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 28: 45 و 37: 192.

(2) بحارالأنوار 28: 47 و 34: 334.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 451

فقلت: يا رسول اللَّه، ما خلقنا ربّنا إلّاللبلاء.

قال:

أبشر يا علي، فإنّ اللَّه عزّ وجلّ قد عهد إليّ أنّه لا يحبّك إلّامؤمن ولا يبغضك إلّامنافق» «1».

الحديث السابع عشر

رواه الشيخ الطوسي في (الأمالي) عن قيس بن سعد بن عبادة قال:

«سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: أنا أوّل من يجثو بين يدي اللَّه عزّ وجلّ يوم القيامة للخصومة» «2».

الحديث الثامن عشر

في (كتاب سليم بن قيس) قال: «سمعت سلمان الفارسي قال:

«لما أن قبض النبي وصنع الناس ما صنعوا، جاءهم أبو بكر و عمر وأبو عبيدة بن الجراح فخاصموا الأنصار فخصموهم بحجة علي فقالوا: يا معشر الأنصار، قريش أحق بالأمر منكم، لأن رسول اللَّه من قريش، والمهاجرون خير منكم، لأن اللَّه بدأ بهم في كتابه وفضَّلهم وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: الأئمة من قريش.

قال سلمان: فأتيت علياً عليه السلام وهو يغسِّل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وقد كان رسول اللَّه أوصي علياً أن لا يلي غسله غيره، فقال: يا رسول اللَّه، فمن يعينني علي ذلك؟ فقال: جبرائيل. فكان علي لا يريد عضواً

__________________________________________________

(1) كتاب الامالي للشيخ الصدوق: 1975، المجلس 28 رقم 2.

(2) كتاب الأمالي للشيخ الطوسي: 85 المجلس 3 رقم 128.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 452

إلا قلِّب له.

فلما غسَّله وحنَّطه وكفَّنه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فتقدَّم علي عليه السلام وصفَفْنا خلفه وصلّي عليه، وعائشة في الحجرة لا تعلم قد أخذ اللَّه ببصرها.

ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار؛ فكانوا يدخلون ويدعون ويخرجون، حتي لم يبق أحد شهد من المهاجرين والأنصار إلّاصلّي عليه.

قال سلمان الفارسي: فأخبرت علياً عليه السلام- وهو يغسِّل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله- بما صنع القوم، وقلت: إن أبا بكر الساعة لعَلي منبر

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، ما يرضون يبايعونه بيد واحدة وإنهم ليبايعونه بيديه جميعاً، بيمينه وشماله!

فقال علي عليه السلام: يا سلمان، وهل تدري من أوّل من بايعه علي منبر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله؟ قلت: لا، إلّاأني رأيته في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار، وكان أوّل من بايعه المغيرة بن شعبة، ثم بشير بن سعيد ثم أبو عبيدة الجراح، ثم عمر بن الخطاب، ثم سالم مولي أبي حذيفة ومعاذ بن جبل.

قال عليه السلام: لست أسألك عن هؤلاء، ولكن هل تدري من أوّل من بايعه حين صعد المنبر؟ قلت: لا، ولكني رأيت شيخاً كبيراً يتوكَّأ علي عصاه، بين عينيه سجّادة شديدة التشمير، صعد المنبر أوّل من صعد وخرَّ وهو يبكي ويقول: الحمد للَّه الذي لم يمتني حتي رأيتك في هذا المكان، ابسط يدك.

فبسط يده فبايعه، ثم قال: يوم كيوم آدم! ثم نزل فخرج من المسجد.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 453

فقال علي عليه السلام: يا سلمان، أتدري من هو؟ قلت: لا، لقد ساءتني مقالته كأنَّه شامت بموت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

قال علي عليه السلام: فإن ذلك إبليس لعنه اللَّه.

أخبرني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: إن إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله إياي يوم غدير خم بأمر اللَّه، وأخبرهم بأني أولي بهم من أنفسهم وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب. فأقبل إلي إبليس أبالسته ومردة أصحابه فقالوا: إن هذه الامّة أمة مرحومة معصومة، فمالك ولا لنا عليهم سبيل، وقد اعلموا مفزعهم وإمامهم بعد نبيِّهم.

فانطلق إبليس كئيباً حزيناً.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: أخبرني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بعد ذلك وقال: يبايع الناس أبا بكر في ظلة

بني ساعدة بعد تخاصمهم بحقّنا وحجّتنا. ثم يأتون المسجد فيكون أوّل من يبايعه علي منبري إبليس في صورة شيخ كبير مشمَّر يقول كذا وكذا. ثم يخرج فيجمع أصحابه وشياطينه وأبالسته فيخرّون سجَّداً فيقولون: يا سيِّدنا، يا كبيرنا، أنت الذي أخرجت آدم من الجنة. فيقول: أيَّ أمة لن تضلَّ بعد نبيّها؟ كلّا، زعمتم أن ليس لي عليهم سلطان ولا سبيل؟ فكيف رأيتموني صنعت بهم حين تركوا ما أمرهم اللَّه به من طاعته وأمرهم به رسول اللَّه، وذلك قوله تعالي «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ» «1».

__________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس: 143- 145، الطبعة المحققة في مجلَّد واحد.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 454

الحديث التاسع عشر

في (تفسير الإمام الحسن العسكري) في حديثٍ طويل: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«يا علي، إنّ أصحاب موسي اتّخذوا بعده عجلًا وخالفوا خليفته، وستتّخذ امّتي بعدي عجلًا ثم عجلًا ثم عجلًا ويخالفونك، وأنت خليفتي علي هؤلاء يضاهون أولئك في اتّخاذهم العجل، ألا فمن وافقك وأطاعك فهو معنا في الرفيع الأعلي، ومن اتّخذ العجل بعدي وخالفك ولم يتب، فاولئك مع الذين اتّخذوا العجل زمان موسي عليه السلام ولم يتوبوا، في نار جهنّم خالدين مخلَّدين» «1».

الحديث العشرون في (كشف الغمة) عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري:

«قال: دخلت فاطمة عليها السلام علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- وهو في سكرات الموت- فانكبّت عليه تبكي، ففتح عينه وأفاق ثمّ قال: يا بنيّة، أنت المظلومة بعدي وأنت المستضعفة بعدي، فمن آذاك فقد آذاني، ومن غاضك فقد غاضني، ومن سرّك فقد سرّني، ومن تركك فقد تركني، ومن جفاك فقد جفاني، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن

أنصفك فقد أنصفني، ومن ظلمك فقد ظلمني، لأنّك منّي وأنا منك، وأنت بضعة منّي وروحي التي بين جنبيّ.

ثمّ قال: إلي اللَّه أشكو ظالميك من امّتي.

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام العسكري عليه السلام: 409.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 455

ثمّ دخل الحسن والحسين، فانكبّا علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وهما يبكيان ويقولان: أنفسنا لنفسك الفداء يا رسول اللَّه. فذهب علي لينحّيهما عنه، فرفع رأسه إليه ثمّ قال: دعهما- يا أخي- يشمّاني وأشمّهما، ويتزوّدان وأتزوّد منهما، فإنّهما مقتولان بعدي ظلماً وعدواناً. فلعنة اللَّه علي من يقتلهما.

ثمّ قال: يا علي، أنت المظلوم بعدي، وأنا خصم لمن أنت خصمه يوم القيامة» «1».

الحديث الحادي والعشرون في كتاب (المحتضر) للحسن بن سليمان، بإسناده إلي سعيد بن جبير:

عن ابن عبّاس قال: «كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ذات يوم جالساً، إذ أقبل الحسن، فلمّا رآه بكي ثمّ قال: إليَّ يا بنيّ، فما زال يدنيه حتّي أجلسه علي فخذه اليسري، ثمّ أقبلت فاطمة، فلمّا رآها بكي ثمّ قال: إليّ يا بنيّة، فما زال يدنيها حتّي أجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، فلمّا رآه بكي، ثمّ قال: إليّ يا أخي، فما زال بدنيه حتّي أجلسه إلي جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه: يا رسول اللَّه، ما تري أحداً من هؤلاء إلّابكيت؟

قال: يا ابن عبّاس: لو أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين اجتمعوا علي بغضه ولن يفعلوا يعذّبهم اللَّه بالنار.

قلت: يا رسول اللَّه، هل يبغضه أحد؟

__________________________________________________

(1) كشف الغمة في معرفة الأئمّة 1: 497.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 456

فقال: يا ابن عبّاس، نعم يبغضه قوم، يذكرون أنّهم من امّتي، لم يجعل اللَّه لهم في الإسلام نصيباً.

يا ابن عبّاس: إنّ

من علامة بغضهم له تفضيل من هو دونه عليه، والذي بعثني بالحق نبيّاً، ما خلق اللَّه نبيّاً أكرم عليه منّي، وما خلق وصيّاً أكرم عليه من وصيّي علي.

قال ابن عبّاس: فلم أزل له كما أمرني رسول اللَّه ووصّاني بمودّته، وإنّه لأكبر عمل عنده.

قال ابن عبّاس، ثمّ قضي من الزمان، وحضرت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الوفاة، فحضرته فقلت له: فداك أبي وامّي يا رسول اللَّه، قد دنا أجلك، فما تأمرني؟

فقال: يا ابن عبّاس، خالف من خالف عليّاً ولا تكوننّ له ظهيراً ولا وليّاً.

قلت: يا رسول اللَّه، فَلِمَ لا تأمر الناس بترك مخالفته؟

قال: فبكي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حتّي اغمي عليه.

ثمّ قال: يا ابن عبّاس، سبق الكتاب فيهم وعلم ربّي، والذي بعثني بالحق نبيّاً، لا يخرج أحد ممّن خالفه وأنكر حقّه من الدنيا حتّي يغيّر اللَّه ما به من نعمة.

يا ابن عبّاس: إن أردت وجه اللَّه ولقائه وهو عنك راض فاسلك طريق عليّ بن أبي طالب، ومل معه حيثما مال، وارض به إماماً، وعاد من عاداه ووال من والاه.

يا ابن عبّاس: إحذر أن يدخلك شك فيه، فإن الشكّ في علي كفر» «1».

__________________________________________________

(1) المحتضر: 130.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 457

الحديث الثاني والعشرون روي في (الكافي) بإسناده عن عيسي بن المستفاد أبي موسي الضرير، قال:

«حدّثني موسي بن جعفر عليهما السلام قال: قلت لأبي عبداللَّه: أليس كان أمير المؤمنين عليه السلام كاتب الوصيّة ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقرَّبون عليهم السلام شهودٌ؟ قال: فأطرق طويلًا ثمّ قال: يا أبا الحسن قد كان ما قلت، ولكن حين نزل برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله الأمر، نزلت الوصيّة من عند اللَّه

كتاباً مسجّلًا، نزل به جبرئيل مع امناء اللَّه تبارك وتعالي من الملائكة، فقال جبرئيل: يا محمّد مر بإخراج مَن عندك إلّاوصيّك، ليقبضها منّا وتشهدنا بدفعك إيّاها إليه ضامناً لها- يعني عليّاً عليه السلام- فأمر النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله بإخراج من كان في البيت ماخلا عليّاً عليه السلام؛ وفاطمة فيما بين الستر والباب، فقال جبرئيل: يا محمّد، ربّك يقرئك السلام ويقول: هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليك وأشهدت به عليك ملائكتي وكفي بي يا محمّد شهيداً، قال: فارتعدت مفاصل النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله، فقال: يا جبرئيل ربّي هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام صدق عزَّ وجلَّ وبرَّ، هات الكتاب، فدفعه إليه وأمره بدفعه إلي أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: إقرأه، فقرأه حرفاً حرفاً، فقال: يا عليُّ! هذا عهد ربّي تبارك وتعالي إليَّ وشرطه عليَّ وأمانته، وقد بلّغت ونصحت وأدَّيت، فقال عليٌّ عليه السلام وأنا أشهد لك ج بأبي وأمّي أنت ج بالبلاغ والنصيحة والتصديق علي ما قلت ويشهد لك به استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 458

سمعي وبصري ولحمي ودمي، فقال جبرئيل عليه السلام: وأنا لكما علي ذلك من الشاهدين، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: يا عليٌّ أخذت وصيّتي وعرفتها وضمنت للَّه ولي الوفاء بما فيها؟ فقال عليٌّ عليه السلام: نعم بأبي أنت وامّي، عليَّ ضمانها وعلي اللَّه عوني وتوفيقي علي أدائها، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: يا عليٌّ إنّي اريد أن اشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة، فقال عليٌّ عليه السلام نعم أشهد، فقال النبيُّ صلّي اللَّه عليه وآله: إنَّ جبرئيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن وهما حاضران معهما الملائكة المقرَّبون لُاشهدهم

عليك، فقال: نعم ليشهدوا وأنا- بأبي أنت وامّي- اشهدهم، فأشهدهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

وكان فيما اشترط عليه النبيُّ بأمر جبرئيل عليه السلام فيما أمر اللَّه عزَّوجلَّ أن قال له: يا عليُّ، تفي بما فيها من موالاة من والي اللَّه ورسوله والبراءة والعداوة لمن عادي اللَّه ورسوله والبراءة منهم، علي الصبر منك جوج علي كظم الغيظ وعلي ذهاب حقّي وغصب خمسك وانتهاك حرمتك؟ فقال:

نعم يا رسول اللَّه.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لقد سمعت جبرئيل عليه السلام يقول للنبيّ: يا محمّد عرّفه أنّه يُنتهك الحرمة وهي حرمة اللَّه وحرمة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وعلي أن تُخضب لحيته من رأسه بدم عبيط.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل حتّي سقطت علي وجهي وقلت: نعم قبلت ورضيت، وإن انتهكت الحرمة وعُطّلت السنن ومزّق الكتاب وهدّمت الكعبة وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط صابراً محتسباً أبداً حتّي أقدم عليك.

ثمَّ دعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فاطمة والحسن والحسين وأعلمهم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 459

مثل ما أعلم أمير المؤمنين، فقالوا مثل قوله فختمت الوصيّة بخواتيم من ذهب، لم تمسّه النار ودفعت إلي أمير المؤمنين عليه السلام.

فقلت لأبي الحسن عليه السلام: بأبي أنت وامّي ألا تذكر ما كان في الوصيّة؟ فقال: سنن اللَّه وسنن رسوله، فقلت: أكان في الوصيّة توثّبهم وخلافهم علي أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقال: نعم واللَّه شيئاً شيئاً، وحرفاً حرفاً، أما سمعت قول اللَّه عزَّ وجلَّ: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَي وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ ءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»؟ واللَّه لقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لأمير المؤمنين

وفاطمة عليهما السلام: أليس قد فهمتما ما تقدّمت به إليكما وقبلتماه؟

فقالا: بلي وصبرنا علي ما ساءنا وغاظنا» «1».

الحديث الثالث والعشرون عن أبي عبداللَّه عليه السّلام قال:

«لما اخرج علي عليه السلام ملبّباً، وقف عند قبر النبي صلّي اللَّه عليه وآله فقال: «ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي»، قال: فخرجت يد من قبر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يعرفون أنها يده وصوت يعرفون أنه صوته نحو أبي بكر: يا هذا «أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا»» «2».

الحديث الرابع والعشرون في كتاب (كامل الزيارات): «وبهذا الإسناد عن عبداللَّه بن بكير

__________________________________________________

(1) الكافي 1: 281- 283.

(2) كتاب الاختصاص: 275.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 460

الأرجاني قال:

صحبت أبا عبداللَّه عليه السلام في طريق مكة إلي المدينة، فنزلنا منزلًا يقال له عسفان، ثم مررنا بجبل أسود عن يسار الطريق موحش، فقلت له:

يا ابن رسول اللَّه، ما أوحش هذا الجبل! ما رأيت في الطريق مثل هذا.

فقال لي: يا ابن بكير، أتدري أيّ جبلٍ هذا؟

قلت: لا.

قال: هذا جبل يقال له الكمد، وهو علي وادٍ من أودية جهنم، وفية قتلة أبي الحسين، استودعهم فيه، تجري من تحتهم حياة جهنم من الغسلين والصديد والحميم، وما يخرج من جب الجوي، وما يخرج من الفلق، وما يخرج من اثام، وما يخرج من طينة الخبال، وما يخرج من جهنم، وما يخرج من لظي ومن الحطمة، وما يخرج من سقر، وما يخرج من الحميم، وما يخرج من الهاوية، وما يخرج من السعير.

وما مررت بهذا الجبل في سفري فوقفت به إلّارأيتهما يستغيثان إليّ، وإني لأنظر الي قتلة أبي وأقول لهما: هؤلاء فعلوا ما أسّستما، لم ترحمونا إذ ولّيتم، وقتلتمونا وحرمتمونا، ووثبتم علي حقّنا،

واستبددتم بالأمر دوننا، فلا رحم اللَّه من يرحمكما، ذوقا وبال ما قدّمتما، وما اللَّه بظلّام للعبيد، وأشدهما تضرّعاً واستكانة الثاني، فربما وقفت عليهما ليتسلّي عني بعض ما في قلبي، وربما طويت الجبل الذي هما فيه، وهو جبل الكمد.

قال: قلت له: جعلت فداك، فإذا طويت الجبل فما تسمع؟

قال: أسمع أصواتهما يناديان: عرّج علينا نكلّمك فإنا نتوب، وأسمع من الجبل صارخاً يصرخ بي: أجبهما، وقل لهما: «اخسؤوا فيها ولاتكلّمون».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 461

قال: قلت له: جعلت فداك ومن معهم؟

قال: كلّ فرعون عتي علي اللَّه وحكي اللَّه عنه فعاله، وكلّ من علّم العباد الكفر.

فقلت: من هم.

قال: نحو بولس الذي علّم اليهود أن يد اللَّه مغلولة، ونحو نسطور الذي علّم النصاري أن المسيح ابن اللَّه، وقال لهم: هم ثلاثة، ونحو فرعون موسي الذي قال: أنا ربّكم الأعلي، ونحو نمرود الذي قال: قهرت أهل الأرض وقتلت من في السماء، وقاتل أمير المؤمنين عليه السلام، وقاتل فاطمة ومحسن، وقاتل الحسن والحسين عليهما السلام، فأما معاوية وعمرو فما يطمعان في الخلاص، ومعهم كلّ من نصب لنا العداوة، وأعان علينا بلسانه ويده وماله.

قلت له: جعلت فداك، فأنت تسمع ذا كلّه ولا تفزع.

قال: يابن بكير، إن قلوبنا غير قلوب الناس، إنا مطيعون مصفّون مصطفون، نري ما لا يري الناس ونسمع ما لا يسمعون، وإن الملائكة تنزل علينا في رحالنا وتتقلب في فرشنا، وتشهد طعامنا، وتحضر موتانا، وتأتينا بأخبار ما يحدث قبل أن يكون، وتصلّي معنا وتدعو لنا، وتلقي علينا أجنحتها، وتتقلّب علي أجنحتها صبياننا، وتمنع الدواب أن تصل إلينا، وتأتينا مما في الأرضين من كلّ نبات في زمانه، وتسقينا من ماء كلّ أرض نجد ذلك في آنيتنا.

وما من يوم ولا ساعة

ولا وقت صلاة إلا وهي تنبّهنا لها، وما من ليلة تأتي علينا إلّاوأخبار كلّ أرض عندنا وما يحدث فيها، وأخبار الجن وأخبار

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 462

أهل الهوي من الملائكة، وما من ملك يموت في الأرض ويقوم غيره إلّاأتانا خبره، وكيف سيرته في الذين قبله، وما من أرض من ستة أرضين إلي السابعة إلّا ونحن نؤتي بخبرهم.

فقلت: جعلت فداك، فأين منتهي هذا الجبل؟

قال: إلي الأرض السادسة، وفيها جهنم، علي وادٍ من أوديته، عليه حفظة أكثر من نجوم السماء وقطر المطر، وعدد ما في البحار وعدد الثري، قد وكّل كلّ ملك منهم بشي ء وهو مقيم عليه لا يفارقه.

قلت: جعلت فداك، إليكم جميعاً يلقون الأخبار؟

قال: لا، إنما يلقي ذلك إلي صاحب الأمر، وإنا لنحمل ما لا يقدر العباد علي الحكومة فيه فنحكم فيه، فمن لم يقبل حكومتنا جبرته الملائكة علي قولنا، وأمرت الذين يحفظون ناحيته أن يقسروه علي قولنا، وإن كان من الجن من أهل الخلاف والكفر، أوثقته وعذّبته حتّي يصير إلي ما حكمنا به.

قلت: جعلت فداك، فهل يري الإمام ما بين المشرق والمغرب.

فقال: يابن بكير، فكيف يكون حجة اللَّه علي ما بين قطريها وهو لا يراهم ولا يحكم فيهم؟ وكيف يكون حجة علي قوم غيّب لا يقدر عليهم ولا يقدرون عليه؟ وكيف يكون مؤدّياً عن اللَّه وشاهداً علي الخلق وهو لا يراهم؟

وكيف يكون حجة عليهم وهو محجوب عنهم، وقد حيل بينهم وبينه أن يقوم بأمر ربّه فيهم، واللَّه يقول: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ» يعني به من علي الأرض والحجة من بعد النبي صلّي اللَّه عليه وآله يقوم مقام النبي.

وهو الدليل علي ما تشاجرت فيه الامّة، والآخذ بحقوق الناس، والقائم بأمر اللَّه، والمنصف لبعضهم

من بعض، فإذا لم يكن معهم من ينفذ قوله، وهو

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 463

يقول: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ»، فأيّ آية في الآفاق غيرنا أراها اللَّه أهل الآفاق، وقال: «مَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا»، فأيّ آية أكبر منّا.

واللَّه إن بني هاشم وقريشاً لتعرف ما أعطانا اللَّه، ولكن الحسد أهلكهم كما أهلك إبليس، وإنهم ليأتوننا إذا اضطرّوا وخافوا علي أنفسهم، فيسألونا فنوضّح لهم فيقولون: نشهد أنكم أهل العلم، ثم يخرجون فيقولون: ما رأينا أضلّ ممن اتّبع هؤلاء ويقبل مقالتهم.

قلت: جعلت فداك، أخبرني عن الحسين عليه السلام لو نبش كانوا يجدون في قبره شيئاً؟

قال: يابن بكير، ما أعظم مسائلك! الحسين عليه السلام مع أبيه وامّه وأخيه الحسن، في منزل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، يحبون كما يحبي ويرزقون كما يرزق، فلو نبش في أيّامه لوجد، وأمّا اليوم فهو حيّ عند ربّه ينظر إلي معسكره، وينظر إلي العرش متي يؤمر أن يحمله، وإنه لعلي يمين العرش متعلّق، يقول: يا رب أنجزلي ما وعدتني.

وإنه لينظر إلي زوّاره، وهو أعرف بهم وبأسماء آبائهم وبدرجاتهم وبمنزلتهم عند اللَّه من أحدكم بولده وما في رحله، وإنه ليري من يبكيه فيستغفر له رحمة له ويسأل أباه الإستغفار له، ويقول: لو تعلم أيّها الباكي ما اعدّ لك لفرحت أكثر مما جزعت، فيستغفر له كلّ من سمع بكائه من الملائكة في السماء وفي الحائر، وينقلب وما عليه من ذنب» «1».

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 539- 544.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 464

الحديث الخامس والعشرون في كتاب (سليم بن قيس): «إنّه لمّا قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، بكي ابن عبّاس بكاءاً شديداً ثمّ قال:

ما بقيت هذه الامّة بعد نبيّها، اللّهمّ إنّي اشهدك إنّي لعليّ بن أبي طالب وولده وليّ، ولعدوّه عدوّ، ومن عدوّ ولده بريّ، وإنّي سلم لأمرهم.

ولقد دخلت علي ابن عمّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بذي قار فأخرج لي صحيفة وقال لي: يا ابن عبّاس، هذه صحيفة أملاها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وخطّي بيدي.

قال: فقلت: يا أميرالمؤمنين إقرأها عليّ.

فقرأها، فإذا فيها كلّ شي ء منذ قبض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وكيف يقتل الحسين ومن يقتله ومن ينصره ومن يستشهد معه، وبكي بكاء شديداً وأبكاني، وكان فيما قرأه كيف يصنع به، وكيف تستشهد فاطمة، وكيف يستشهد الحسين، وكيف تغدر به الامّة، فلمّا قرأ مقتل الحسين ومن يقتل أكثر البكاء، ثمّ أدرج الصحيفة وفيها ما كان وما يكون إلي يوم القيامة.

وكان فيما قرأ أمر أبي بكر وعمر وعثمان، وكم يملك كلّ إنسان منهم، وكيف يقع علي عليّ بن أبي طالب، ووقعة الجمل، ومسير عائشة وطلحة والزبير، ووقعة صفين ومن يقتل بها، ووقعة النهروان وأمر الحكمين، وملك معاوية ومن يقتل من الشيعة، وما يصنع الناس بالحسن، وأمر يزيد بن معاوية، حتّي انتهي إلي قتل الحسين، فسمعت ذلك، فكان كما قرأ ولم ينقص، ورأيت خطّه في الصحيفة لم يتغيّر …» «1».

__________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 915.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 465

بحوثٌ حول الأحاديث المذكورة … ص: 465

هذه الأحاديث طرفٌ من الأحاديث الكثيرة جدّاً، المرويّة بالأسانيد في كتبنا المشتهرة، المتضمّنة علم النبي الأكرم صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بما سيقع من بعده، وما سيصنعه أصحابه الذين كانوا من حوله، وما صدر منهم في حقّ بضعته الطاهرة، وسائر عترته وأهل بيته الكرام، وأنّه قد أخبرهم بذلك كلّه.

وقد اشتملت هذه الروايات

علي أنّ شفاعته يوم القيامة سوف لا تشمل أولئك الذين آذوا أهل بيته وعادوهم في دار الدنيا، فلو أنّ «حديث الحوض» دلَّ علي شفاعته صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فإنّها سوف لا تنال من خالف وصيّته في أهل بيته، ونقض العهد معه في السير علي منهاجه والعمل بتعاليمه.

فهذه هي عقيدة الإماميّة، وهذه رواياتهم …

إلّاأنّ مضامين غير واحدٍ من هذه الأخبار الواردة من طرقنا، موجودة في روايات أهل السنّة، كما أنّ بعضها يشتمل علي بحوثٍ وفوائد ينبغي بيانها …

فنقول:

معني حديث: فالبعوضة أميرالمؤمنين … ص: 465

لقد جاء في الحديث الأوّل عن (تفسير القمي) عن أبي عبداللَّه الصّادق عليه السلام، بتفسير قوله تعالي: «إنّ اللَّه لا يستحيي أنْ يضرب مثلًا مّا بعوضة فما فوقها …» إنّ «البعوضة» أميرالمؤمنين عليه السلام، و «ما فوقها» هو رسول استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 466

اللَّه، صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فما معني هذا التفسير الذي ربّما ذكره بعض المخالفين للتعريض بالأئمّة الأطهار والروايات المرويّة عنهم؟

إنّ معني الحديث واضح لا سترة فيه لمن له أدني معرفة بفنون العربيّة.

وبيان ذلك هو: إنّ «البعوضة» ضرب اللَّه المثل بها لأميرالمؤمنين، و «ما فوقها» ضرب اللَّه المثل به لرسول اللَّه، فهذا معني الخبر كما يدلّ عليه السياق، ولأجل السّياق اختصر الكلام، فكانت العبارة: فالبعوضة لأميرالمؤمنين، وما فوقها لرسول اللَّه … ثمّ حذفت اللّام الجارّة، وكانت الجملة: فالبعوضة أميرالمؤمنين …

وحذف اللّام في مثل المقام شائع في كلام العرب، وقد صرّح به علماء العربيّة:

قال في (مجمع البيان): «تقول العرب: لاه أبوك، تريد للَّه أبوك، قال ذوالإصبع العدواني:

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني أي: تسوسني.

قال سيبويه: حذفوا لام الإضافة واللّام الاخري، ولا ينكر بقاء عمل اللّام بعد حذفها،

فقد حكي سيبويه من قولهم: اللَّه لأخرجنّ، يريدون واللَّه، ومثل ذا كثير» «1».

وعلي هذا، فإن لفظ «أميرالمؤمنين» في الرواية مجرور..، وذلك قرينة علي حذف اللّام، فاستبصر ولا تكن من الغافلين …

فالمعني: إنّ اللَّه تعالي ضرب مثلًا بالبعوضة لأميرالمؤمنين، أنّ المراد من __________________________________________________

(1) مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 28.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 467

البعوضة هو أميرالمؤمنين! وضرب مثلًا بما فوقها لرسول اللَّه، لا أنّ ما فوقها هو رسول اللَّه!

ويدلّ علي هذا المعني قوله عليه السلام في الخبر: إنّ هذا المثل ضربه اللَّه لأميرالمؤمنين، فعليّ عليه السلام هو الذي ضرب له هذا المثل، أعني مثل البعوضة، لا أنّه المضروب به المثل في هذا الكلام.

نعم، بناء علي كون خطبة البيان من كلام أميرالمؤمنين- كما عليه المولوي عبدالعزيز الدهلوي، صاحب (التحفة الإثني عشرية) «1» وغيره من علماء أهل السنّة، حتّي أنّ بعضهم كتب عليه شرحاً سمّاه خلاصة الترجمان في تأويل خطبة البيان- فقد جاء فيها: «أنا البعوضة التي ضرب اللَّه بها المثل مثلًا»، وحينئذٍ يلزم علي القائلين بأنّها من كلامه عليه السلام تفسيرها علي وجهٍ صحيح مقبول.

علي أنّ لهذا التمثيل نظائر في كتب القوم، فقد رووا عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أنّه شبّه الإمام الحسن أو الإمام الحسين بالبقّة وهي البعوضة، قال الدميري:

«وقد ذكر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم البق في حديثٍ رواه الطبراني بإسنادٍ جيّد عن أبي هريرة قال: سمعت اذناي وأبصرت عيناي هاتان رسول اللَّه وهو آخذ بيديه جميعاً حسناً أو حسيناً، وقدماه علي قدمي رسول اللَّه وهو يقول:

خرقة خرقة ترقَّ عين بقّة

فيرقي الغلام، فتقع قدماه علي صدر رسول اللَّه.

__________________________________________________

(1)

التحفة الاثني عشريّة: 4 و 228.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 468

ثمّ

قال: افتح فاك، ثمّ قبّله ثمّ قال: اللّهمّ من أحبّه فإنّي احبّه.

ورواه البزّار ببعض هذه الألفاظ.

والخرقة الضعيف المتقارب الخطوة، ذكر ذلك له رسول اللَّه علي سبيل المداعبة والتأنيس، وترقّ معناه إصعد، وعين بقّة كناية عن صغر العين، مرفوع علي أنّه خبر مبتدء محذوف» «1».

ورووا عنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم تشبيه نفسه الشريفة للحسنين عليهما السلام بالجمل، رواه الشهاب الدولت آبادي في (هداية السعداء) عن كتاب (شرف النبوّة) قال «قال جابر بن عبداللَّه: دخلت علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو يمشي علي أربع والحسن والحسين علي ظهره وهو يقول:

نعم الجمل جملكما ونعم الراكبان أنتما» «2».

وفي (المصابيح):

«قال ابن عبّاس: جاء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو حامل الحسن علي عاتقه، فقال رجل: نعم المركب ركبت يا غلام، فقال: نعم الراكب هو» «3».

بل لقد رووا عن اللَّه سبحانه أنّه شبّه نفسه بالدجاجة!! قال السيوطي:

«أخرج أحمد في الزهد عن خالد بن ثابت الربعي قال: لمّا قتل فجرة بني إسرائيل يحيي بن زكريّا، أوحي اللَّه إلي نبيّ من أنبيائهم أن قل لبني إسرائيل: إلي متي تجترؤن علي أنْ تعصوا أمري وتقتلوا رسلي، حتّي متي أضمّكم في كنفي كما تضمّ الدجاجة أولادها في كنفها فتجترون عليَّ؟ اتّقوا

__________________________________________________

(1) حياة الحيوان 1: 217- 218.

(2) هداية السعداء- مخطوط.

(3) مصابيح السنّة 4: 196/ 4836.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 469

لأخذكم بكلّ دم كان بين بني آدم ويحيي بن زكريّا، واتّقوا أنْ أضرب عنكم وجهي، فإنّي إنْ صرفت عنكم وجهي لم اقبل عليكم إلي يوم القيامة» «1».

بل لقد رووا عن شيخهم الأكبر ابن عربي أنّه قال: «رأيت ربّي علي صورة فرس»!! … وحكاه الشيخ علاء الدين السمناني في (أربعينه) والشيخ الكاشفي

في (رشحاته)!!

تكذيب الحديث الثاني لاشتماله علي نفي أبي ذر … ص: 469

وكذَّب بعضهم الحديث الثاني- بسبب اشتماله علي نفي عثمان أباذر الغفاري رضي اللَّه عنه من المدينة المنوّرة- مدّعياً أنّ هذا من مفتريات الإماميّة وموضوعاتهم.

لكنّ نفي أبي ذر من المدينة المنوّرة من الامور الثابتة في التاريخ، وإنكاره عناد محض وتعصّب، فالواقدي روي القضيّة في (تاريخه) كما في (الشافي) وغيره، وكذا سبط ابن الجوزي في (تذكرته)، وأحمد بن عبدالعزيز الجوهري روي الخبر ومكالمة أميرالمؤمنين وعقيل والحسن والحسين عليهم السلام معه لدي خروجه، وروي القصّة أيضاً: جمال الدين المحدّث الشيرازي في (روضة الأحباب).

وتجد الخبر في (المعارف) و (وفيات الأعيان) و (تاريخ الخميس) و (حياة الحيوان) و (شرح الجامع الصغير) للعلقمي وغيرها.

وروي الخبر شاه وليّ اللَّه الدهلوي والد صاحب التحفة في كتاب (إزالة الخفا في سيرة الخلفا).

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 5: 492.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 470

وقد أخبر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أباذر بذلك … وهذا أيضاً موجود في روايات القوم وكتبهم المعتبرة، أمثال (جامع عبدالرزاق) و (مسند أحمد) و (مسند أبي يعلي) و (فتح الباري) و (جمع الجوامع) و (الجامع الصغير) و (كنز العمال).

ففي (فتح الباري):

«ولأحمد وأبي يعلي من طريق أبي الحرث عن أبي الأسود عن عمّه عن أبي ذر قال: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال له:

كيف تصنع إذا اخرجت من المسجد النبوي؟

قال: آتي الشام.

قال: كيف تصنع إذا اخرجت منها؟

قال: أعود إليه.

قال: كيف تصنع إذا اخرجت منه؟

قال: أضرب بسيفي.

قال صلّي اللَّه عليه وسلّم: ألا أدلّك علي ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشداً؟ تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك.

وعند أحمد أيضاً من طريق شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، عن أبي ذر نحوه» «1».

وفي (مسند أحمد بن حنبل):

«عن

عبدالرّحمان بن غنم عن أبي ذر قال: كنت أخدم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ثمّ آتي المسجد إذا أنا فرغت من عملي فأضطجع فيه، فأتاني النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يوماً وأنا مضطجع فغمزني برجله فاستويت جالساً

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 3: 213.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 471

فقال:

يا أباذر، كيف تصنع إذا اخرجت منها؟

فقلت: أرجع إلي مسجد النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وإلي بيتي.

قال: فكيف تصنع إذا اخرجت منها؟

قال: إذاً آخذ بسيفي فأضرب به من يخرجني.

فجعل النبي يضرب يده علي منكبه فقال: غفراً يا أباذر- ثلاثاً- بل تنقاد معهم حيث قادوك وتنساق معهم حيث ساقوك ولو عبداً أسود.

قال أبوذر: فلمّا نفيت إلي الربذة واقيمت الصلاة فتقدّم عبد أسود كان فيها علي نعم الصدقة …» «1».

وفي (كنز العمّال): «عن طاوس قال: قال النبي لأبي ذر: مالي أراك لقّابقّا كيف بك إذا أخرجوك من المدينة؟

قال: آتي الأرض المقدّسة.

قال: فكيف بك إذا أخرجوك منها؟

قال: آتي المدينة.

قال: فكيف بك إذا أخرجوك منها؟

قال: آخذ سيفي فأضرب به.

قال: لا ولكن إسمع وأطع وإن كان عبداً أسود.

فلمّا خرج أبوذر إلي الربذة، وجد بها غلاماً لعثمان أسود، فأذّن وأقام ثمّ قال: تقدّم يا أباذر. قال: لا، إنّ رسول اللَّه أمرني أن أسمع واطيع وإن كان عبداً أسود.

__________________________________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 6: 177/ 20784.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 472

فتقدّم فصلّي خلفه. عب» «1» أي رواه عبدالرزاق في جامعه.

وفي (شرح الجامع الصغير) لنورالدين علي العزيزي:

«جندب بن جنادة الغفاري، كنيته أبوذر طريد امّتي، أي: مطرودها، يطردونه، يعيش وحده، ويموت وحده، واللَّه يبعثه يوم القيامة وحده» «2».

اضطراب القوم في تبرير صنيع عثمان … ص: 472

ومن العجب دفاع بعضهم عن عثمان وتبريره صنيعه: بأنّ أباذر كان يستحقّ الإجلاء عن

المدينة، لأنّه كان يتجاسر علي عثمان، قال: «أمّا نفي بعض الصحابة كأبي ذر، فلأنّه كان يتجاسر عليه، ويجيبه بالكلام الخشن، وكان ذلك يؤدّي إلي ذهاب هيبته وتقليل حرمته» «3».

أمّا أوّلًا: فهذا الكلام دليلٌ علي أنّ عثمان لم يكن له حرمة عند خلّص المؤمنين من أصحاب رسول ربّ العالمين، كأبي ذر وسلمان وعمّار وأمثالهم.

وأمّا ثانياً: فمن أين ثبت أنّ تجاسره علي عثمان وتكلّمه معه بكلامٍ خشن كان غير جائز؟ إنّه لابدّ من إثبات ذلك بالكتاب والسنّة، حتّي يجوز ما فعله عثمان!!

وأمّا ثالثاً: فإنّ القول بأنّ نفي عثمان أباذر كان علي حقٍّ، ردّ صريح علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، بل تكذيب لكلامه، لأنّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ذكر طرد أبي ذر من المدينة في مقام المدح له- كما في (الجامع __________________________________________________

(1) كنز العمّال 5: 782/ 14376 و 12: 256/ 34926.

(2) السراج المنير في شرح الجامع الصغير 2: 464.

(3) تحصيل الكمال في أسماء رجال المشكاة، لعبدالحق الدهلوي. ترجمة أبي ذر.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 473

الصغير) وغيره- فلو كان إخراجه بحقٍّ فأين موضع المدح؟

وهذا من موارد تقديم القوم خلفائهم علي رسول اللَّه!!

وأمّا رابعاً: فإنّه كيف الجمع بين هذه القصّة، وذلك التعظيم والتجليل الذي يذكرونه للصحابة عامّةً، ويحرّمون تحقيرهم والتنكيل فيهم والطعن عليهم، وينفون عنهم أيّة منقصة، ويذمّون بل يكفّرون كلّ من ناقش في عدالتهم؟

فعجيب أمر هؤلاء، إنّهم إذا أرادوا تثبيت الخلافة البكريّة جعلوا يبالغون في مدح الصحابة أقصي المبالغة، ثمّ لمّا رأوا الصّحابة يطعنون في عثمان وخلافته رموهم بالقبيح وأفتوا باستحقاقهم للهتك والضرب والطّرد …!!

وأفرط بعضهم- كالشيخ ولي اللَّه الدهلوي في (إزالة الخفا)- في ذمّ أبي ذر- دفاعاً عن عثمان- فاتّهمه بأنّه قد أوجد

ثلمة في القواعد الشرعيّة المقرّرة، فلذا نفاه عثمان!!

فهكذا يتّهم أباذر … وينسي كلّ ما يقولونه في فضل الصحابة، وما يرويه الفريقان في فضل أبي ذر خاصّة؟ والحال أنّهم إذا سمعوا مثل هذا الكلام من بعض الإماميّة ولو بحقّ معاوية وعمرو بن العاص، أقاموا الدنيا وأقعدوها، لكونهما من الصحابة!!

لكنّ البعض الآخر يجعل السبب في طرد أبي ذر «تزهيده الناس في الدنيا»؟! ففي (تاريخ الخميس): «قال ابن خلّكان وغيره … نفي أباذر الغفاري إلي الربذة، لأنّه كان يزهّد الناس في الدنيا …» «1».

__________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 2: 259.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 474

وهكذا في كتاب (حياة الحيوان) «1».

سبحان اللَّه!! أصبح «تزهيد الناس في الدنيا» مجوّزاً للهتك وللطّرد من مدينة المصطفي؟!

أفهكذا يعتذر لخليفة المسلمين فيما أتي به مع هذا الصحابي العظيم؟!

رواية أبي الليث السمرقندي في فضل أبي ذر الغفاري … ص: 474

ومن التأييدات الإلهيّة والألطاف الربّانيّة: الرواية التالية التي يرويها الفقيه أبوالليث السمرقندي بأسانيده، وهذا نصّها:

«حدّثني عبدالوهّاب بن محمّد الفضلاني بسمرقند بإسناده عن محمّد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيداللَّه بن عبداللَّه بن عتبة، عن أبيه قال: قال عبداللَّه ابن مسعود رضي اللَّه عنه:

لمّا خرج النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي غزوة تبوك صحبه رجال من المنافقين، وكانوا يتخلّفون عنه الرجال والرجلان فيقولون: يا رسول اللَّه، تخلّف فلان فيقول صلّي اللَّه عليه وسلّم: دعوه؛ فمن يك فيه خير فسيلحقه اللَّه بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللَّه منه.

فقالوا: يا رسول اللَّه، تخلّف أبوذر.

فقال: فإن يك فيه خير فسيلحقه اللَّه بكم.

وكان أبوذر تخلّف، لأنّه أبطأ بعيره فتلوم بعيره فلمّا أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله علي ظهره، ثمّ رجع يتبع أثر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ماشياً حاملًا علي ظهره في شدّة الحرّ وحده.

__________________________________________________

(1) حياة الحيوان 1:

76.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 475

فقالوا: يا رسول اللَّه، أقبل إلينا رجل يمشي وحده.

فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ليكن يا أباذر.

فلمّا تأمّله الناس قالوا: يا رسول اللَّه، هذا واللَّه أبوذر.

فدمعت عينا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وقال: رحم اللَّه أباذر، يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده.

قال محمّد بن إسحاق: فحدّثني بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمّد بن كعب رضي اللَّه عنهم قال: لمّا سار أبوذر رضي اللَّه عنه إلي الربذة في عهد عثمان رضي اللَّه عنه وأصابه بها قدره، ولم يكن معه إلّاامرأته وغلامه، فأوصي إليهما أن اغسلاني وكفّناني، ثمّ ضعاني علي قارعة الطريق، فأوّل ركب يمرّ عليكم فقولوا: هذا أبوذر صاحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فأعينونا علي دفنه.

فلمّا مات فعلا به ذلك، ثمّ وضعاه علي قارعة الطريق.

فأقبل عبداللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه في رهط من العراق، فلمّا رآهم الغلام قام إليهم فقال: هذا أبوذر صاحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأعينونا علي دفنه.

فأقبل ابن مسعود رضي اللَّه عنه وهو يبكي رافعاً صوته ثمّ قال: صدق رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك.

ثمّ واروه ومضوا وهو يحدّثهم بما قال رسول اللَّه في مسيره إلي تبوك.

وعن أبان بن مسلم عن أبيه عن أبي ذر الغفاري رضي اللَّه عنه: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: سيصيبك بعدي بلاء.

قال: قلت: في اللَّه؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 476

قال: في اللَّه.

قلت: فمرحباً بأمر اللَّه.

قال: يا أباذر، إسمع وأطع ولو صلّيت خلف أسود.

فلمّا توفّي رسول اللَّه واستخلف أبوبكر رضي اللَّه عنه، دعاه فحباه وبكي فقال: قد سمعت قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فيك،

فأعوذ باللَّه أن أكون صاحبك- يعني أعوذ باللَّه أن يصيبك البلاء بسببي أو في زماني-.

فلمّا توفّي أبوبكر رضي اللَّه عنه وولّي عمر، دعاه وأثني عليه وقال: قد سمعت قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فيك، فأعوذ باللَّه أن يصيبك البلاء بسببي أو في زماني.

فلمّا توفّي عمر رضي اللَّه عنه وولّي عثمان رضي اللَّه عنه، قال عبداللَّه ابن عبّاس رضي اللَّه عنه: كنت قاعداً عند عثمان رضي اللَّه عنه فاستأذن أبوذر رضي اللَّه عنه.

فقلت: يا أميرالمؤمنين، هذا أبوذر يستأذن.

قال: ائذن له إن شئت.

قال: فأذنت له.

فدخل حتّي جلس فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنّك خير من أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما؟

قال: ما قلت هذا.

قال: أنا أقيم عليك البيّنة.

قال أبوذر نضر اللَّه وجهه: لا أدري ما بيّنتك، وقد علمت كيف قلت.

قال: كيف قلت؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 477

قال: قلت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم الذي يأخذ بالعهد الذي تركته عليه حتّي يلحقني، وكلّكم قد أصاب من الدنيا غيري.

قال عثمان رضي اللَّه عنه: إلحق بمعاوية، فأخرجه إلي الشام.

فلمّا قدم إلي الشام، أخذ يعلّم النّاس، فأبكي عيونهم وأحزن صدورهم، وكان فيما يقول: لا يبيتنّ أحدكم وفي بيته دينار ولا درهم إلّاشي ء ينفقه في سبيل اللَّه أو يعدّه لغريم. فأبكي معاوية والناس، فبعث إليه بألف دينار، فأراد أن يخالف قوله فعله وسريرته علانيته، فأخذ الألف وقسّمه كلّه فلم يبق عنده شي ء.

فدعي معاوية الرسول في اليوم الثاني فقال له: إذهب إلي أبي ذر وقل له: إنّما أرسلني بالألف دينار إلي غيرك فأخطأت، فجاءه الرسول وقال له:

أنقذني من عذاب معاوية، فإنّما أرسلني بالألف إلي غيرك فأخطأت به فدفعته إليك. فقال للرّسول: إقرأ

معاوية منّي السلام وقل له: ما أصبح عندنا من دنانيرك شي ء، فإن أردتها فأنظرنا ثلاثة أيّام نجمعها لك.

فلمّا رأي معاوية أنّ فعله يصدّق قوله كتب إلي عثمان رضي اللَّه عنه: إن كان لك بالشام حاجة فأرسل إلي أبي ذر واستدعه.

قال: فكتب عثمان رضي اللَّه عنه أن إلحق بي.

قال: فقدم أبوذر وعثمان في المسجد، فأقبل حتّي سلّم عليه، فردّ عليه السلام وقال له:

كيف أنت يا أباذر؟

قال: بخير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 478

ثمّ خرج عثمان رضي اللَّه عنه فقال له: يا أباذر حدّثنا عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قال: نعم حدّثني حبيبي أنّ في الإبل صدقة، وفي الزرع صدقة، وفي الدرهم صدقة، وفي الشاة صدقة، ومن بات وفي بيته دينار أو درهم لا يعدّه لغريمه أو ينفقه في سبيل اللَّه فهو كنز يكوي به يوم القيامة.

قالوا: يا أباذر، إتّق اللَّه وانظر ما تحدّث، فإنّ هذه الأموال قد فشت في الناس.

فقال: أما تقرؤن القرآن «والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه فبشّرهم بعذاب أليم» فمكث ليلتين أو ثلاثاً.

فأرسل إليه عثمان رضي اللَّه عنه فقال: إلحق بالربذة. وهي قرية خربة.

فخرج إلي الربذة، فوجدهم يؤمّهم أسود، فقيل لأبي ذر: تقدّم، فأبي وصلّي خلف الأسود وقال: صدق اللَّه ورسوله، قال لي: إسمع وأطع وإن صلّيت خلف الأسود.

ومكث هناك حتّي مات رحمه اللَّه» «1».

وفي هذه الأخبار فوائد:

منها: قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «رحم اللَّه أباذر …» فإنّه دليل علي أنّ موت أبي ذر كذلك، الواقع بأمر عثمان، يعدّ من مناقبه ومآثره، فيكون إخراجه ظلماً له وجوراً عليه.

ومنها: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لأبي ذر: «سيصيبك بعدي …»

وقوله في الجواب: «… فمرحباً بأمر اللَّه

…» فإنّه نصّ قاطع علي مزيد جور

__________________________________________________

(1) تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي: 585 وما بعدها.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 479

عثمان وظلمه وعدوانه، وكون أبي ذر علي الحق والصّواب.

ومنها: كلام الشيخين مع أبي ذر، واستعاذتهما باللَّه من أنْ يصيبه بلاءٌ بسببهما أو في زمانهما … مشيرين إلي كلام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فإنّه دليلٌ آخر علي ثبوت الكلام المذكور عن النبي، ومظلوميّة أبي ذر، وظلم عثمان.

لقد صدر من عثمان ما احترز من وقوعه الشيخان، فيالها من وقاحةٍ شديدة، وقلّة حياءٍ، وشدّة قسوة!!

ومنها: صدور أنواعٍ من الفسق والفجور من معاوية بن أبي سفيان …

كلام أميرالمؤمنين في نفي أبي ذر … ص: 479

هذا، وقال أميرالمؤمنين عليه السلام في هذه القصّة كلاماً يعرف به حال عثمان وحزبه، فقد قال الحافظ سبط ابن الجوزي:

«روي الشّعبي عن أبي أراكة قال: لمّا نفي أبوذر إلي الربذة كتب إليه عليّ رضي اللَّه عنه: أمّا بعد؛ يا أباذر، فإنّك غضبت للَّه تعالي فارج من غضبت له، إنّ القوم خافوك علي دنياهم وخفتهم علي دينك فاترك لهم ما خافوك عليه واهرب منهم لما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلي ما منعتهم وما أغناك عمّا منعوك، وستعلم من الرابح غداً، فلو أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً علي عبد ثمّ اتّقي اللَّه لجعل له منها مخرجاً.

لا يؤنسنّك إلّاالحقّ ولايوحشنّك إلّاالباطل.

ولو قبلت دنياهم لأحبّوك، ولو رضيت منها لأحقّوك، إنتهي» «1».

__________________________________________________

(1) تذكرة خواصّ الامّة: 143.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 480

وما بعد ذلك الكلام الصّريح والحقّ الصّحيح المجاهر بأسرار الأشرار والهاتك لعوار أئمّة النار، الموسع عليهم خرقهم الموهي لهم رتقهم، المضيّق عليهم مجالهم القاطع لهم مقالهم، مطمع لطامع ولا تمويه لمموّه ولا حيلة لمحتال ولا مناص لهارب ولا ملجأ لملتج.

أوما تراه كيف

يصرّح بالتشنيع الصريح والتعنيف العنيف والتغليظ العظيم والتنديد الشديد والطعن الكبير علي عثمان؟ وكيف يظهر رداءة فعله وبلوغه كلّ مبلغ من الشناعة والفظاعة وعظم المحلّ عند أهل الدين ووقعه كلّ موقع من القبح في نفوس أهل اليقين؟ ويبدي إنّه لقد عزّ ذلك الفعل عليه سلام اللَّه عليه وأنّ أباذر رضي اللَّه عنه كان في ذلك مظلوماً ملهوفاً منجوداً مكروباً بلا استحقاق ولا علّة، بل كان الباعث علي ذلك لهم هو غضبه للَّه تعالي، وكان الحامل لهم علي نفيه وإخراجه وتهوينه وتوهينه هو الخوف علي الدنيا.

وأيضاً: يظهر أنّ أباذر خاف من هؤلاء علي دينه، وما بعد ذلك ستر ولا حجاب في كون عثمان من الخارجين عن دين الإسلام، وكونه وأتباعه ممّن يخافهم المؤمن علي دينه، وهذا أشنع المعائب وأفظع المثالب.

وأيضاً: قوله عليه السلام «ستعلم من الرابح غداً» يصرّح جهاراً وينادي رافعاً عقيرته بأنّ عثمان وأتباعه ليسوا غداً برابحين، ولا هم في أعمالهم وأفعالهم من الصالحين، فيحشرون يوم القيامة كالحين ويساقون إلي جهنّم حايرين خاسرين كافرين طالحين.

وأيضاً: قوله عليه السلام «لا يوحشنّك إلّاالباطل» يوضح إيضاحاً ويوحي إيحاء إلي أنّ عثمان ومن معه من الأعوان والخوّان هم أصحاب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 481

الباطل، ينبغي أن يستوحش منهم المؤمن الكامل وينفر منهم المسلم الفاضل.

وأيضاً: قوله عليه السلام «لو أنّ السماوات والأرض …» صريح وأيّ صريح في أنّ أباذر لم يعمل إلّابمقتضي التقوي وما سلك إلّاسبيل الرّشد والهدي، وعثمان وأتباعه من أهل الضلال والهوي، وهم وإن ضيّقوا عليه الأمر حتّي كأنّهم بزعمهم رتقوا عليه السّماوات والأرض فلم يدعوا له من ملجأ ولا مناص ولم يبقوا له حيلة إلي خلاص، لكن اللَّه يجعل لأبي ذر- لورعه وتقواه وانقطاعه

إلي اللَّه ومتاركته لما سواه- فرجاً وحيّاً ومخرجاً سريعاً، ويخلّصه من الضيق إلي السّعة وينقله من الضنك والقشف إلي الدعة.

وبالجملة: فقد وضح الصّبح لذي عينين وانشقّ دجي ضلال البهت والمين، وظهر ظلم عثمان وفسقه بل كفره ونفاقه وجوره وظلمه وتعسّفه وعناده ومخالفته للَّه ورسوله وتهتّكه حرمة المؤمنين والصحابة، وعدم مراعاته الإيمان والإسلام والفضل والمدح والثناء الذي يأثرونه من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي بصير وعامه ومهتد وتائه.

تفسير «العروة الوثقي» ب «علي» … ص: 481

وجاء في الحديث الرابع تفسير «العروة الوثقي» بمولانا أميرالمؤمنين «علي» عليه الصلاة والسلام …

وقد زعم بعضهم أنّ هذا التفسير تحريف للكتاب الكريم، في حين أنّهم يروون عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم توصيف الشيخين ب «العروة الوثقي»، ففي (الدرّ المنثور) بتفسير الآية المذكورة:

«وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 482

وسلّم: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، فإنّهما حبل اللَّه الممدود، فمن تمسّك بهما فقد تمسّك بالعروة الوثقي التي لا انفصام لها» «1».

فمن المحرّف للكتاب؟

علي أنّه قد نقلنا فيما تقدّم عن كتبهم رواياتٍ كثيرة تضمّنت آياتٍ قرآنيّة كثيرةٍ غير موجودة في القرآن.

مظلوميّة الزهراء عليها السلام … ص: 482

وما جاء في الحديث الثالث عشر من مظلوميّة الزهراء عليها الصّلاة والسلام، فهو وارد في كتب القوم أيضاً، وإنْ كانوا في الأغلب يتجنّبون من نقل مثل هذه الأخبار:

قال سبط ابن الجوزي بترجمة الزهراء الطاهرة من (تذكرته):

«قال الشعبي: لمّا منعت ميراثها لاثت خمارها علي رأسها- أي عصبت، يقال: لاث العمامة علي رأسه يلوثها لوثاً أي عصبها، وقيل: اللّوث الإسترخاء؛ فعلي هذا يكون معني لاثت أي أرخت- وحمدت اللَّه وأثنت عليه ووصفت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بأوصاف، فكان ممّا قالت:

كان كلّما فغرت فاغرة من المشركين أو نجم قرن من الشيطان وطئ صماخه بأخمصه وأخمد لهيبه بسيفه وكسر قرنه بعزمته، حتّي إذا اختار اللَّه له دار أنبيائه ومقرّ أصفيائه وأحبّائه، أطلعت الدنيا رأسها إليكم فوجدتكم لها مستجيبين، ولغرورها ملاحظين، هذا والعهد قريب والمدي غير بعيد، والجرح لمّا يندمل، فأنّي تؤفكون وكتاب اللَّه بين أظهركم.

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 2: 23.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 483

يا ابن أبي قحافة، أتَرِث

أباك ولا أرث أبي؟ دونكها مرحولة مذمومة، فنعم الحاكم الحق والموعد القيامة «لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ثمّ أومأت إلي قبر النبي وقالت:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكبر النوب إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها واغتيل أهلك لمّا اغتالك الترب وقد رزينا بما لم يرزه أحد من البريّة لا عجم ولا عرب ثمّ إنّها اعتزلت القوم، ولم تزل تندب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حتّي لحقت به» «1».

حديث الضغائن في صدور الأقوام … ص: 483

وما جاء في الحديث الخامس عشر الذي رواه الشيخ المجلسي عن كتاب الأمالي من حديث الضغائن في صدور الأقوام … رواه كبار أئمّة القوم بأسانيدهم في أشهر كتبهم أيضاً:

فقد أخرج أبو يعلي والبزّار بسندٍ- صحّحه الحاكم وابن حبان والذهبي- عن عليّ بن أبي طالب قال: «بينا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة، إذ أتينا علي حديقة.

فقلت: يا رسول اللَّه، ما أحسنها من حديقة.

قال: لك في الجنّة أحسن منها.

ثمّ مررنا باخري فقلت: يا رسول اللَّه ما أحسنها من حديقة.

قال: لك في الجنّة أحسن منها.

__________________________________________________

(1) تذكرة خواص الأمة: 317- 318.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 484

ثمّ مررنا باخري فقلت: يا رسول اللَّه ما أحسنها من حديقة.

قال: لك في الجنّة أحسن منها.

حتّي مررنا بسبع حدائق، كلّ ذلك أقول: ما أحسنها، ويقول: لك في الجنّة أحسن منها.

فلمّا خلا له الطريق اعتنقني ثمّ أجهش باكياً.

قال قلت: يا رسول اللَّه ما يبكيك؟

قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلّامن بعدي.

قال قلت: يا رسول اللَّه، في سلامة من ديني؟

قال: في سلامة من دينك» «1»

حديث: أنا أوّل من يجثو بين يدي اللَّه … ص: 484

والحديث الثامن عشر في أنّ عليّاً عليه السلام أوّل من يجثو بين يدي اللَّه يوم القيامة للخصومة، حديث متَّفق عليه، فإنّ البخاري رواه في غير موضع من (صحيحه) وهذه ألفاظه في كتاب المغازي:

«حدّثني محمّد بن عبداللَّه الرقاشي قال: حدّثنا معتمر قال: سمعت أبي يقول: حدّثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن عليّ بن أبي طالب إنّه قال: أنا أوّل من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة» «2».

فكيف يزعم بعض القوم أنّ هذا المعني من مفتريات الإماميّة؟

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9: 118، وهو في المستدرك 3: 139 منقوصاً!

(2)

صحيح البخاري 5: 183.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 485

حديث: عليّ قسيم الجنّة والنار … ص: 485

ثمّ إنّ من المناقب الثابتة لأميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قسيم الجنّة والنار، لكنّ القوم- لشدّة عنادهم لأميرالمؤمنين- يحاولون ردّ هذه المنقبة التي تعدّ من خصائص الإمام.

فمنهم: من يكذّب بها، كالشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب (التحفة الإثني عشرية).

ومنهم: من يناقش في صحّتها، بزعم المنافاة بينها وبين حديث «أنا أوّل من يجثو بين يدي اللَّه للخصومة».

أو يبطلها بدعوي استلزامها لأفضليّة الإمام من النبي عليه وآله السلام.

لكنّ الحديث ثابت لا ريب فيه، والحديث المذكور لا ينافيه، وقد رواه ثقات القوم بأسانيدهم المتّصلة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وغيرهم:

قال الحافظ السمهودي: «قال الجمال الزرندي: قال المأمون لعليّ الرضا: بأيّ وجهٍ جدّك عليّ بن أبي طالب قسيم الجنّة والنار؟

فقال: يا أميرالمؤمنين، ألم ترو عن أبيك عن عبداللَّه بن عبّاس قال:

سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: حبّ عليّ إيمان وبغضه كفر؟ فقال:

بلي. قال الرضا: فقسمة الجنّة والنّار علي حبّه. فقال المأمون: لا أبقاني اللَّه بعدك يا أباالحسن، أشهد أنّك وارث علم رسول اللَّه.

قال أبوالصّلت عبدالسلام بن صالح الهروي: فلمّا رجع الرضا إلي بيته، قلت له: يا ابن رسول اللَّه، ما أحسن ما أجبت به أميرالمؤمنين؟ فقال: يا أبا الصلت، إنّما كلّمته من حيث هو، ولقد سمعت أبي يحدّث عن أبيه عن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 486

عليّ قال قال رسول اللَّه: أنت قسيم الجنّة والنّار، فيوم القيامة تقول للنّار هذا لي وهذا لك» «1».

فهل رأي هذا الحديث عن هذا الإمام المعصوم من يكذّب به أو يناقش فيه؟

هذا، ومن رواته: أبو داود الطيالسي، والزمخشري، والدارقطني، والديلمي، وشاذان الفضلي، والسيوطي، وابن الأثير، والقاضي عياض، والمناوي، والمتقي …

قال ابن حجر

المكي في (الصواعق):

«أخرج الدارقطني: إنّ عليّاً قال للستّة الذين جعل عمر الأمر شوري بينهم كلاماً طويلًا من جملته: انشدكم باللَّه، هل فيكم أحد قال له رسول اللَّه:

يا علي، أنت قسيم النّار والجنّة يوم القيامة، غيري؟ قالوا: اللّهمّ لا.

ومعناه ما رواه غيره عن عليّ الرضا أنّه قال له: أنت قسيم الجنّة والنّار، فيوم القيامة تقول للنار: هذا لي وهذا لك» «2».

وفي (كنز العمال) وهو ترتيب (جمع الجوامع):

«عن علي: أنا قسيم النار. شاذان الفضلي في ردّ الشمس» «3».

وفي (كنوز الحقائق):

«عليّ قسيم النّار. طيا» «4». أي: رواه أبو داود الطيالسي.

وفي (الشفاء) في فصل إخباره صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عن المغيّبات:

__________________________________________________

(1) جواهر العقدين 2 ق 2: 429.

(2) الصواعق المحرقة 2: 369.

(3) كنز العمال 13: 151/ 36475.

(4) كنوز الحقائق- حرف العين، ط هامش الجامع الصغير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 487

«وأخبر بملك بني اميّة، وولاية معاوية ووصّاه، واتّخاذ بني اميّة مال اللَّه دولًا، وخروج ولد العبّاس بالرايات السود، وملكهم أضعاف ما ملكوا، وخروج المهدي، وما ينال أهل بيته وتقتيلهم وتشريدهم، وقتل علي، وأنّ أشقاها الذي يخضب هذه من هذه، أي لحيته من رأسه، وأنّه قسيم النّار؛ يدخل أولياءه الجنّة وأعدائه النار» «1».

وفي (النهاية الأثيرية):

«وفي حديث علي رضي اللَّه عنه: أنا قسيم النّار والجنّة. أراد: إنّ الناس فريقان، فريق معي، فهم علي هدي، وفريق عليَّ، فهم علي ضلال، فنصف معي في الجنّة، ونصف عليَّ في النار. وقسيم فعيل بمعني فاعل، كالجليس والسمير. قيل: أراد بهم الخوارج، وقيل: كلّ من قاتله» «2».

وفي (الفائق):

«علي: أنا قسيم النّار. أي: مقاسمها ومساهمها، يعني: إنّ أصحابه علي شطرين، مهتدون وضالّون، فكأنّه قاسم النّار إيّاهم، فشطر لها وشطر معه في الجنّة» «3».

وفي (المودّة في القربي):

«المودّة

التاسعة: في أنّ مفاتيح الجنّة والنّار بيد عليّ رضي اللَّه عنه، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه تعالي أعطاني مفاتيح الجنّة والنّار فقال: قل إلي عليّ قولًا تخرج من تشاء

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 338.

(2) النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 54 «قسم».

(3) الفائق في غريب الحديث 3: 195 «قسم».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 488

وتدخل من تشاء.

وعن زيد بن أسلم رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لعليّ: يا علي، بخ بخ، من مثلك والملائكة تشتاق إليك والجنّة لك، إنّه إذا كان يوم القيامة ينصب لي منبر من نور، ولإبراهيم منبر من نور، ولك منبر من نور فتجلس عليه، وإذا مناد ينادي: بخ بخ من وصيٍّ بين حبيب وخليل، ثمّ اوتي بمفاتيح الجنّة والنّار فأدفعها إليك.

وعن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

يا ابن عبّاس، عليك بعليّ، فإنّ الحقّ علي لسانه، وإنّ النفاق يجانبه، وإنّ هذا قفل الجنّة ومفتاحها وقفل النّار ومفتاحها؛ به يدخلون الجنّة وبه يدخلون النّار.

وعن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة، يأتيني جبرئيل وميكائيل بخزنتين من المفاتيح، خزنة من مفاتيح الجنّة وخزنة من مفاتيح النار، علي مفاتيح الجنّة أسماء المؤمنين من شيعة محمّد وعليّ، وعلي مفاتيح النّار أسماء المبغضين من أعدائه، فيقولان لي: يا أحمد، هذا مبغضك وهذا محبّك، فأودعها إلي عليّ بن أبي طالب فيحكم فيهم بما يريد، فوالذي قسّم الأرزاق لا يدخل مبغضه الجنّة، ولا محبّه النّار أبداً» «1».

هذا، ولا يخفي سقوط المعني الذي ذكره ابن الأثير

أمام كلام الإمام الرضا عليه السلام في المعني الحقيقي للحديث … وكذلك في ألفاظ الحديث كما في رواية القاضي عياض وغيره.

ثمّ إنّ في بعض ألفاظ الحديث زيادةً جليلةً، رواها العاصمي بسنده في __________________________________________________

(1) انظر: كتاب ينابيع المودّة: المودّة في القربي- المودّة التاسعة 2: 311/ 888.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 489

(زين الفتي) حيث قال:

«أخبرنا الحسين بن محمّد البستي قال: حدّثنا عبداللَّه بن أبي منصور بن عدي قال: حدّثنا محمّد قال: حدّثنا محمّد قال: حدّثنا محمّد قال: حدّثني حميد عن أنس عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم:

ينادي يوم القيامة لعليّ بن أبي طالب أربعة مناد ويسمّونه بأربعة أسماء، يا عليّ بن أبي طالب، جعلت الميزان بيدك فرجّح من شئت واخفض من شئت. ويا أسد اللَّه، جعلت حوض محمّد بيدك فاسق من شئت واحبس من شئت. ويا سيف اللَّه علي أعدائه إذهب إلي الصراط فاحبس عليها من شئت وجوّز من شئت. ويا وليّ اللَّه إذهب إلي باب الجنّة فأدخل من شئت واصرف عنها من شئت، فإنّه لايدخلها إلّامن أحبّك بقلبه. قلت: ومن هذا أخذ الشاعر قوله:

قسيم النار والجنّة عليٌّ سيّد الامّة» «1»

ثمّ إنّه لا عجب من جهل الكابلي والدهلوي وأتباعهما بمناقب أهل البيت أو إنكارهم لها، إذ لا ارتباط بينهم وبين الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، لكنّ العجب جهلهم بمناقب مشايخهم وعدم اطّلاعهم علي موضوعات أسلافهم …

وإذا كان عنادهم لأهل البيت يحملهم علي إنكار مناقبهم، أو المناقشة في مداليلها ومعانيها- كقول بعضهم بأنّ حديث قسيم الجنّة والنّار باطل لاستلزامه أفضليّة عليّ من النبيّ- فماذا يقولون في معني الحديث الموضوع لمشايخهم في هذا الباب؟

__________________________________________________

(1) زين الفتي بتفسير سورة هل أتي 2: 404/ 527.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3،

ص: 490

فقد قال الحكيم الترمذي في (نوادر الاصول):

«حدّثنا الفضل بن محمّد قال: حدّثنا الحسن بن أيّوب الدمشقي قال:

قرأت علي عبداللَّه بن صالح المصري قال: حدّثني سليم بن عبداللَّه الأيلي قال:

حدّثني ابن جريج، عن عطاء عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

إذا كان يوم القيامة نادي مناد ليقم أهل اللَّه، فيقوم أبوبكر الصدّيق وعمر الفاروق وعثمان ذوالنورين وعليّ بن أبي طالب.

فيقال لأبي بكر: قم علي باب الجنّة فأدخل فيها من شئت برحمة اللَّه وردّ منها من شئت بقدرة اللَّه.

ويقال لعمر: قم عند الميزان فثقّل ميزان من شئت برحمة اللَّه وأخفف ميزان من شئت بقدرة اللَّه.

ويقال لعثمان: خذ هذه العصا فذد بها الناس عن الحوض.

ويقال لعلي: إلبس هذه الحلّة فإنّي خبّأتها لك منذ خلقت السماوات والأرض إلي اليوم.

ولذلك قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أرحم امّتي بامّتي أبوبكر، وأقواهم في دين اللَّه عمر، وأصدقهم حياء عثمان بن عفّان رضي اللَّه عنهم.

فهذا الحديث الأوّل يبيّن منازل القوم أنّهم أهل اللَّه وخاصّته وأنّه يكشف ذلك لأهل الموقف غداً يظهره عليهم عند خلقه، وأنّ الرحمة حظّها من الناس أبوبكر، وأنّ الحقّ حظّه من الناس عمر، فلذلك يقوم أبوبكر عند باب الجنّة، ويقوم عمر عند الميزان. بيّن هذا القول عن الرجلين أن كليهما كانا قد استويا للَّه وكانا في قبضته، فلا يرحمان إلّامن يرحم ولا يخيّبان إلّامن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 491

يخيب، وهذا من الأمانة، فإذا صار الأمين بحال يستكمل الأمانة فوّض إليه، فيكون مشيّته قد وافقت مشيّة اللَّه التي ائتمنه.

فهؤلاء قوم قد صاروا امناء اللَّه، ووقفت قلوبهم بين يديه رافضين لمشيّتهم، فلذلك قال أهل اللَّه. والأهل والآل بمعني واحد يؤولون إليه أي يرجعون إليه

في كلّ شي ء فيبرز لأهل الموقف، فينقادهم بقلوبهم وضمائرهم التي كانت فيما بينهم. وبيّن اللَّه كرامة لهم وتنويهاً بأسمائهم في ذلك الجمع، فكان الغالب علي أبي بكر الرحمة في أيّام الحياة، والغالب علي عمر القيام بالحقّ وتعزيزه، فكأنّهما كانا ممّن هو في قبضته يستعمله، فاستعمل هذا بالرحمة وهذا بالحقّ، فإذا كان يوم القيامة وقف هذا عند باب الجنّة، وهذا عند الميزان» «1».

ولا يخفي أنّ واضعه إنّما ذكر إسم أميرالمؤمنين عليه السلام ليروّج باطله علي عوام الناس، ويخدع به المستضعفين، إلّاأنّه لم يذكر ما وضعه لأولئك، فأين لبس الحلّة من ذلك المقام الرّفيع الذي وضعه لهم؟ ومن هنا يظهر: أنّه كما غصب القوم الخلافة من الإمام عليه السلام فسمّوا بالخلفاء، كذلك سعي أولياؤهم لأنْ يغصبوا مناقب الإمام وألقابه ويجعلوها لهم!!

لكنّ المحبّ الطبري أورد هذا الحديث الموضوع في (الرياض النضرة) فجعل فضيلة الإمام عليه السلام لعثمان! وهذا نصّ روايته:

«ذكر اختصاص كلّ واحدٍ منهم يوم القيامة بخصوصيّة شريفة:

عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ينادي منادٍ يوم القيامة من تحت العرش:

__________________________________________________

(1) نوادر الاصول: 205.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 492

أين أصحاب محمّد؟

فيؤتي بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي.

فيقال لأبي بكر: قف علي باب الجنّة، فأدخل من شئت برحمة اللَّه تعالي ودع من شئت بعلم اللَّه تعالي.

ويقال لعمر بن الخطّاب: قف عند الميزان فثقّل من شئت برحمة اللَّه تعالي وخفّف من شئت بعلم اللَّه تعالي.

ويكسي عثمان حلّتين ويقال له: إلبسهما فإنّي خلقتهما وادّخرتهما حين أنشأت خلق السماوات والأرض.

ويعطي عليّ بن أبي طالب عصا من عوسج، من الشجرة التي غرسها اللَّه تعالي بيده في الجنّة فيقال: ذد الناس عن الحوض.

فقال بعض أهل العلم: لقد واسا اللَّه

تعالي بينهم في الفضل والكرامة.

رواه ابن غيلان» «1».

وحاصل الكلام في هذا المقام:

إنّ حديث: أنا قسيم الجنّة والنّار، هو من الأحاديث الثابتة، ومن أنكره فهو جاهل أو متعصّب، ومن ناقش فيه من جهة استلزامه الأفضليّة من رسول اللَّه بزعمه، فمناقشته مردودة عليه …

وأيضاً: فإنّ كلام الكابلي، الدهلوي وأتباعهما يدلّ علي كذب واختلاق ما رواه الحكيم الترمذي والمحبّ الطبري … إذ لا مناص لهم من الإلتزام بلوازم كلامهم.

__________________________________________________

(1) الرياض النضرة 1: 54.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 495

من نوادر الأخبار في أمر الخلافة … ص: 495

قال الراغب الإصفهاني في (المحاضرات):

«عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال:

كنت أسير مع عمر بن الخطّاب في ليلة، وعمر علي بغلة وأنا علي فرس، فقرأ آية فيها ذكر علي بن أبي طالب.

فقال: أما واللَّه يا بني عبدالمطّلب، لقد كان علي فيكم أولي بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر.

فقلت في نفسي: لا أقالني اللَّه إنْ أقلت، فقلت: أنت تقول ذاك يا أميرالمؤمنين، وأنت وصاحبك اللذان وثبتما وانتزعتما منّا الأمر دون الناس؟

فقال: إليكم يا بني عبدالمطّلب، أمّا إنّكم أصحاب عمر بن الخطّاب.

فتأخّرت وتقدّم هنيئةً.

فقال: سر لا سرت.

فقال: أعد علَيَّ كلامك.

فقلت: إنّما ذكرت شيئاً ورددت عليك جوابه، ولو سكتَّ لسكتنا.

فقال: أما واللَّه ما فعلنا الذي فعلنا عن عداوةٍ، ولكن استصغرناه وخشينا أنْ لا تجتمع عليه العرب، وقريش مواتروه.

قال: فأردت أن أقول: كان رسول اللَّه يبعثه في الكتيبة فينطح كبشها ولم يستصغره، فتستصغره أنت وصاحبك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 496

فقال: لاجرم فكيف تري واللَّه ما نقطع أمراً دونه، ولا نعمل شيئاً حتّي نستأذنه» «1».

وروي الزبير بن بكار في (الموفقيات) باللفظ الآتي:

«عن عبداللَّه بن عبّاس قال: إنّي لُاماشي عمر بن الخطّاب في سكّةٍ من سكك المدينة، إذ قال لي:

يا ابن عبّاس! ما

أري صاحبك إلّامظلوماً.

فقلت في نفسي: واللَّه لا يسبقنّي بها، فقلت:

يا أميرالمؤمنين! فاردد إليه ظلامته.

فانتزع يده من يدي ومضي يهمهم ساعةً، ثمّ وقف فلحقته.

فقال يا ابن عبّاس! ما أظنّهم منعهم إلّاأنّهم استصغروا سنّه.

فقلت في نفسي: هذه شرّ من الاولي.

فقلت: واللَّه ما استصغره اللَّه ورسوله حين أمره أن يأخذ براءة من صاحبك.

فأعرض عنّي وأسرع. ورجعت عنه».

وروي الحافظ الزرندي في (نظم درر السمطين):

«عن نبيط بن شريط قال: خرجت مع علي بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه ومعنا عبداللَّه بن عبّاس، فلمّا صرنا إلي بعض حيطان الأنصار وجدنا عمر بن الخطّاب جالساً وحده ينكت في الأرض.

فقال له علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: ما أجلسك يا أميرالمؤمنين هاهنا وحدك؟

__________________________________________________

(1) محاضرات الادباء 2: 478/ علي بن أبي طالب، من فضائله.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 497

قال: لأمر همّني.

فقال له علي: أفتريد أحدنا؟

فقال عمر: إن كان فعبداللَّه.

قال: فخلا معه عبداللَّه، ومضيت مع علي وأبطأ علينا ابن عبّاس، ثمّ لحق بنا.

فقال له علي: ما وراءك؟

فقال: يا أبا الحسن! اعجوبة من عجائب أميرالمؤمنين اخبرك بها واكتم علَيّ.

قال: لمّا أن وَلّيت، لرأيت عمر ينظر إليك وإلي أثرك ويقول: آه آه.

فقلت: بم تتأوّه يا أميرالمؤمنين؟

قال: من أجل صاحبك يا ابن عبّاس، وقد اعطي ما لم يعط أحد من آل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولولا ثلاث هنّ فيه ما كان لهذا الأمر يعني الخلافة أحد سواه.

قلت: يا أميرالمؤمنين! وما هنّ؟

قال: كثرة دعابته، وبغض قريش له، وصغر سنّه.

فقال له عليّ: فما رددت؟

قال: داخلني ما يداخل ابن العمّ لابن عمّه.

فقلت: يا أميرالمؤمنين! أمّا كثرة دعابته، فقد كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يداعب ولا يقول إلّاحقّاً، ويقول للصبيّ ما يعلم أنّه يستميل به

قلبه أو يسهل علي قلبه. وأمّا بغض قريش له، فواللَّه ما يبالي ببغضهم، بعد أن جاهدهم في اللَّه حتّي أظهر اللَّه دينه، فقصم أقرانها وكسر آلهتها وأثكل نساءها في اللَّه. وأمّا صغر سنّه، فلقد علمت أنّ اللَّه تعالي حيث أنزل علي رسول اللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 498

صلّي اللَّه عليه وسلّم «براءة من اللَّه ورسوله» وجّه بها صاحبه ليبلغ عنه، فأمر اللَّه تعالي أن لا يبلغ عنه إلّارجل منه، فوجّهه في أثره وأمره أن يؤذن ببراءة، فهل استصغر اللَّه تعالي سنّه؟

فقال عمر: أمسك عليّ واكتم واكتم، فإنْ سمعتها من غيرك لم أنم بين لابيتها» «1».

هذا، وفي حديث رواه بدرالدين محمّد بن عبداللَّه الشبلي «2» في كتاب (آكام المرجان) عن عبداللَّه بن مسعود ما يدلُّ علي عدم رضا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم باستخلاف الشيخين … وهذا نصّ الحديث كما رواه الشبلي بإسناده عن طريق جمع من الأكابر في كلام له حيث قال:

«وقد ورد ما يدلّ علي أنّ ابن مسعود حضر ليلة اخري بمكّة غير ليلة الحجون.

فقال أبو نعيم: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا محمّد بن عبداللَّه الحضرمي، حدّثنا علي بن الحسين بن أبي بردة البجلي، حدّثنايحيي بن يعلي الأسلمي، عن حرب بن صبيح، حدّثنا سعيد بن مسلم، عن أبي مرّة الصنعاني، عن أبي عبداللَّه الجدلي، عن عبداللَّه بن مسعود قال:

استتبعني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ليلة الجنّ فانطلقت حتّي بلغنا أعلا مكّة، فخطّ علَيّ خطّاً وقال: لا تبرح، ثمّ انصاع في الجبال، فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤوس الجبال حتّي حالوا بيني وبينه، فاخترطت السيف وقلت: لأضربنّ حتّي أستنقذ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ثمّ ذكرت قوله: لا

تبرح حتّي آتيك.

__________________________________________________

(1) نظم درر السمطين: 132 فصل في ذكر آثارٍ عن الصحابة في حقّه.

(2) توجد ترجمته في الدرر الكامنة 3: 487 وغيرها. توفي سنة 769.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 499

قال: فلم أزل كذلك حتّي أضاء الفجر، فجاء النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم وأنا قائم فقال: ما زلت علي حالك؟

قلت: لو مكثت شهراً ما برحت حتّي تأتيني، ثمّ أخبرته بما أردت أن أصنع.

فقال: لو خرجت ما التقيت وأنا وأنت إلي يوم القيامة، ثمّ شبك أصابعه في أصابعي وقال: إنّي وعدت أن تؤمن بي الجنّ والإنس؛ فأمّا الإنس فقد آمنت بي وأمّا الجنّ فقد رأيت، وما أظنّ أجلي إلّاوقد اقترب.

قلت: يا رسول اللَّه! ألا تستخلف أبابكر.

فأعرض عنّي، فرأيت أنّه لم يوافقه.

قلت: يا رسول اللَّه! ألا تستخلف عمر؟

فأعرض عنّي فرأيت أنّه لم يوافقه.

قلت: يا رسول اللَّه! ألا تستخلف عليّاً؟

قال: ذلك والذي لا إله غيره لو بايعتموه وأطعتموه أدخلكم الجنّة أكتعين» «1».

ورواه الحافظ سبط ابن الجوزي في كتاب (تذكرة خواصّ الامّة) عن أحمد بن حنبل بإسناده عن عبداللَّه بن مسعود كذلك، قال:

«قد روي الإمام أحمد عن عبدالرزاق عن أبيه عن مينا عن عبداللَّه بن مسعود قال: كنت مع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ليلة وفد الجن، فتنفّس، فقلت: يا مالك يا رسول اللَّه؟

قال: نعيت إليَّ نفسي، يا ابن مسعود.

__________________________________________________

(1) آكام المرجان في أحكام الجان: 51.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 500

قلت: استخلف.

قال: ومن؟

قلت: أبوبكر.

قال: فسكت. ثمّ مضي ساعة، ثمّ تنفّس، فقلت: ما شأنك بأبي وامّي يا رسول اللَّه؟

قال: نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود.

قلت: استخلف.

قال: من؟

قلت: عمر.

فسكت، ثمّ مضي ساعة ثمّ تنفّس.

قلت: ما شأنك؟

قال: نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود.

قلت: فاستخلف.

قال: من؟

قلت: علي.

قال: أما والذي

نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلون الجنّة أكتعين».

وأخرجه الطبراني وابن عساكر بإسنادهما عن مينا كذلك- كما في مجمع الزوائد «1» وبترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق-، و «مينا ابن أبي مينا» من التابعين- إن لم تكن له صحبة- وقد أخرج عنه الترمذي في صحيحه، وقد اتّهم بالتشيّع، بل وكذّب، لروايته مثل هذا الحديث.

__________________________________________________

(1)

مجمع الزوائد 5: 185.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 505

الفهارس العامة … ص: 505

اشارة

* الآيات * الأحاديث والآثار

* الأشعار

* الأعلام المترجمين * المصادر

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 507

فهرس الآيات … ص: 507

اتجعل فيها من يفسد فيها ج 3/ 320

اجتنبوا كثيراً من الظنِّ انّ بعض الظنّ اثمٌ ج 3/ 238

احسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون ج 1/ 11

اخسؤوا فيها ولاتكلّمون ج 3/ 460

ادعوني أستجب لكم ج 2/ 415

اذا السماء انشقّت ج 3/ 177

اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الي ذكر اللَّه ج 1/ 137، 138

اذْ ذهب مغاضباً ج 1/ 243

اذ قال ابراهيم لابيه آزر أتتّخذ أصناماً ج 1/ 296

اذ قال لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ج 1/ 316

استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرّة ج 2/ 420

استغفروا ربّكم انّه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ج 3/ 224

اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيل ج 2/ 60

افان ماتَ أوْ قُتلَ انقلبْتم عَلي أَعْقابِكُم ج 3/ 414

افلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء اللَّه لهي الناس جميعاً ج 1/ 153- ج 2/ 53

افمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فانّ اللَّه يضلّ من يشاء ج 3/ 213

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 508

اقتربت السّاعة وانشقّ القمر ج 1/ 290

اقيموا الصّلاة وآتوا الزكاة ج 3/ 258

اكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ج 3/ 459

الّا قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي ج 1/ 244

الذين قال لهم النّاس انّ النّاس قد جمعوا لكم ج 1/ 156

الذين يحملون العرش ومن حوله ج 1/ 157

الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية ج 2/ 440

الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين ج 1/ 308، 313، 316

الرحمن علي

العرش استوي ج 1/ 214- ج 3/ 185

الزّانية والزّاني ج 2/ 458

الطلاق مرّتان ج 2/ 43

اللَّه خالق كلّ شي ء ج 1/ 337

اللَّه لا اله الّا هو الحيُّ القَيُّومُ ج 1/ 440

الم تر الي الذين يزكّون ج 3/ 442

الم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل ج 2/ 308، 309

النّار يُعرضون عليها غدوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة ج 1/ 271

انا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين ج 3/ 316

انّ الذين آمنوا ثم كفروا ج 3/ 442

انّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون والنّصاري ج 1/ 160

انّ الذين يكفرون باللَّه ورسله ج 3/ 442

انّ الذين يؤذون اللَّه ورسوله لعنهم اللَّه ج 1/ 303- ج 2/ 121- ج 3/ 176

انّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً ج 3/ 318

انّ اللَّه عنده علم الساعة وينزّل الغيث ج 2/ 45

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 509

انّ اللَّه لا يستحيي أنْ يضرب مثلًا مّا بعوضة فما فوقها ج 3/ 465

انّ اللَّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك ج 2/ 415

انّ اللَّه لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيراً ج 2/ 60

انّ اللَّه ليس بظلّامٍ للعبيد ج 1/ 338

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَي وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ج 3/ 459

ان تتّبعون الّا ظنّاً وان أنتم الّا تخرصون ج 2/ 444

ان تعذّبهم فانّهم عبادك وان تغفر لهم فانّك ج 1/ 355- ج 3/ 411

انّ في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع ج 3/ 318

انّك لعلي خُلُقٍ عظيم ج 1/ 173

انّما المشركون نَجَسٌ ج 1/ 308، 310، 314، 317

انّما وليّكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ج 2/ 266، 439

انّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ج 2/

508، 510

ان هذان لساحران ج 1/ 142، 149، 150، 151، 160

انّهم أصحاب الجحيم ج 2/ 415

انّي أراك وقومك في ضلال مبين ج 1/ 318

انّي أعلم ما لا تعلمون ج 3/ 320

انّي سقيم ج 2/ 422

او كظلمات في بحر لجّيّ ج 3/ 445

اولئكَ هم الوارثون ج 1/ 364

اولم تؤمن ج 3/ 419

براءة من اللَّه ورسوله ج 3/ 498

بل فعله كبيرهم هذا ج 2/ 422

بل هو آيات بيّنات في صدور الذين اوتوا العلم ج 2/ 383، 385

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 510

تري الذين كذبوا علي اللَّه وجوههم مسوّدة ج 1/ 417

تنزيل العزيز الرّحيم ج 1/ 161

ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن انّ اللَّه معنا ج 1/ 71

ثمّ استوي الي السماء وهي دخان فقال لها وللارض ج 1/ 261

ثمّ أوحينا اليك أن اتّبع ملّة ابراهيم حنيفاً ج 2/ 434

ثمّ جاءكم رسول مصدّقاً لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه ج 1/ 160، 265

ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها ج 2/ 76

ثُمّ نُفِخ فيه اخري ج 1/ 267، 277

جعل السقاية في رحل أخيه ج 2/ 308

حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي ج 1/ 134، 135، 136، 137

حتّي تستأنسوا وتسلّموا علي أهلها ج 1/ 153- ج 2/ 52

خلقكم وما تعملون ج 1/ 337

ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النّار ج 1/ 351

ذوي عدل منكم ج 3/ 221

ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ج 3/ 224

ربّنا انّك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالًا في الحياة الدنيا ج 3/ 224

زيّن للنّاس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير ج 3/ 224

سلام عليك سأستغفر لك ربّي ج 1/ 318

سلام قولًا من ربّ رحيم ج 3/

37

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ج 3/ 463

شاهدين علي أنفسهم بالكفر ج 1/ 261

صلّوا عليه وسلّموا تسليماً ج 1/ 328

ضربت عليهم الذلّة والمسكنة وباؤوا بغضب من اللَّه ذلك ج 3/ 392

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 511

عسي أنْ يبعثك ربّك مقاماً محموداً ج 2/ 213

غير المغضوب عليهم ولا الضالّين ج 2/ 339

فاتّبعوه ج 3/ 388

فاذا نُفخ في الصور ج 1/ 272

فاذا نُقِر في الناقور ج 1/ 268، 275، 276

فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ج 2/ 454

فاقصص القصص ج 3/ 331

فامّا الذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم ج 3/ 437

فان تنازعتم في شي ء فردّوه الي اللَّه والرسول ج 3/ 319

فانْ يكفر بها هؤلاء ج 3/ 443

فصعق من في السماوات ومن في الارض ج 1/ 267

فقاتلوا التي تبغي حتّي تفي ء الي أمر اللَّه ج 3/ 189

فقدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ج 3/ 443

فقولا له قولًا ليّناً ج 1/ 318

فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ للَّه تبرّأ منه ج 1/ 315، 316- ج 2/ 417، 420

فما استمتعتم ج 3/ 201

فمن يعمل سوء يُجزَ به ج 2/ 165

فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً ج 1/ 344

فمن يكفر بالطاغوت ج 3/ 441

فنفخنا فيه من روحنا ج 1/ 277

فهب لي من لدنك وليّاً ج 3/ 224

فهل أنتم منتهون ج 2/ 509

في ظللٍ من الغمام ج 2/ 173

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 512

فيه رجالٌ يحبّون أن يتطهّروا ج 3/ 297

قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبلَ أنْ يرتدَّ اليكَ طَرْفُكَ ج 2/ 246

قال أولم تؤمن قال بلي ج 2/ 246

قد خسر الذين قتلوا أولادهم ج 2/ 342

قل أعوذ

بربّ الفلق ج 3/ 445

قل حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم ج 2/ 500

قل فيهما اثم كبير ج 2/ 500

قل هذه سبيلي أدعو الي اللَّه علي بصيرة أنا ومن اتّبعني ج 1/ 176- ج 2/ 13

قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ج 2/ 498، 501

كتب عليكم اذا حضر أحدكم الموت ج 3/ 219

كلّ حزب بما لديهم فرحون ج 1/ 11

كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ج 3/ 410

لئن لم تنته لارجمنّك ج 1/ 318

لا تجعل مع اللَّه الهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولًا ج 2/ 75

لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ج 1/ 330

لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّي تستأنسوا ج 1/ 152

لا تدركه الابصارُ وهو يُدركُ الابصارَ ج 2/ 44، 46، 49

لا تُطِعْ كُلَّ حلّاف مهين همّاز ج 1/ 374

لا تُقدّموا بين يدي اللَّه ورسوله ج 3/ 318

لا تقل لهما افٍّ ولا تنهرهما ج 1/ 318

لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ج 2/ 112

لا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون ج 1/ 259

لا يكلّف اللَّه نفساً الّا وسعها ج 1/ 338

لتحكم بين النّاس بما أراك اللَّه ج 3/ 332

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 513

لتفسدنَّ في الارض مرّتين ج 3/ 443

لقد رأي من آيات ربّه الكبري ج 2/ 45

لكلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ج 3/ 483

لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون … ج 1/ 142

لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي الي ركنٍ شديدٍ ج 2/ 23

لو شاء اللَّه ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شي ء ج 2/ 443، 447

لو كنّا نسمع أو نعقل ج 3/ 318

لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم

أعين لا يبصرون بها ولهم آذانٌ ج 1/ 356

ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ج 3/ 388

ليس كمثله شي ء ج 3/ 390

ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم الّا في كتاب ج 2/ 187، 188

ما سلككم في سقر ج 3/ 424

ما كان استغفار ابراهيم لابيه ج 1/ 316

ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا ج 1/ 300، 302، 323- ج 2/ 415- ج 3/ 423

ما كذب الفؤاد ما رأي ج 2/ 48

ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ج 1/ 295

ما نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ج 3/ 463

ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ج 1/ 296

مثل نوره كمشكاة ج 1/ 157- ج 2/ 54

مُدهامّتان ج 3/ 207

ملّة أبيكم ابراهيم ج 1/ 199

ممّن ترضون من الشهداء ج 3/ 229

من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم ج 2/ 415

من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ج 2/ 75

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 514

من يطع الرسول فقد أطاع اللَّه ج 2/ 458

نحن نقصّ عليك أحسن القصص ج 3/ 331

نزلًا من غفور رحيم ج 3/ 38

نساؤكم حرثٌ لكم ج 2/ 204

نعبد الهك واله آبائك ابراهيم واسماعيل ج 1/ 319

واتّبعت ملّة آبائي ابراهيم واسماعيل واسحاق ج 1/ 199

واتممناها بعشر ج 1/ 244

واجنبني وبَنيّ أن نعبد الاصنام ج 3/ 224

واذ أخذ اللَّه ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ج 1/ 160، 265

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكم ج 3/ 437، 441

واذ قال ابراهيم لابيه آزر ج 1/ 315، 317، 323

واذ قال ابراهيم لابيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناماً ج

1/ 296

وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم باللَّه واليوم الآخر ج 3/ 224

واستشهدوا شهيدين من رجالكم ج 3/ 221

والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ج 2/ 246

والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّاتهم بايمان ألحقنا بهم ذرّيّاتهم ج 1/ 375

والذين اتّبعوهم باحسان رضي اللَّه عنهم ج 1/ 328

والذين قال لهم النّاس انّ النّاس قد جمعوا لكم ج 2/ 53

والذين يكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا ج 3/ 438

واللّذان يأتيانها منكم ج 2/ 458

والليل اذا يغشي ج 1/ 164، 165

والمقيمين الصلاة ج 1/ 160

والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة ج 1/ 149، 150

واله آبائي ابراهيم واسماعيل ج 1/ 312

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 515

وامّا الذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللَّه بهذا مثلًا يضلّ به كثيراً ج 3/ 437

وانا اخترتك ج 1/ 161

وان احكم بينهم بما أنزل اللَّه ج 3/ 320

وانّا لنحن الصافّون وانّا لنحن المسبّحون ج 1/ 263

وانذر عشيرتك الاقربين ج 2/ 321

وانْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ج 2/ 449، 450- ج 3/ 189

وانْ منكم الّا واردها ج 3/ 155

وانّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُّبُل ج 3/ 333

وانّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون ج 1/ 172

وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ج 3/ 388

وتقلّبك في الساجدين ج 1/ 306، 307، 311، 313، 314، 317، 319، 320، 321

وجادلهم بالتي هي أحسن ج 1/ 318

ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم ج 3/ 322

وصلِّ عليهم انّ صلاتك سَكَنٌ لهم ج 1/ 328

وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون باللَّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة ج 1/ 350

وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ج 2/ 146

وقضي ربّك ج 2/ 53

وقضي ربّك ألّا تعبدوا الّا ايّاه وبالوالدين احساناً ج

1/ 155، 318

وقضيْنَا إِلَي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ ج 3/ 444

وكان الانسان أكثر شي ء جدلًا ج 2/ 437، 446

وكلّ انسان ألزمناه طائره في عنقه ج 2/ 75

وكنّا نخوض مع الخائضين ج 1/ 69

وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم ج 3/ 404

ولا الذين يموتون وهم كفّار ج 1/ 301

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 516

ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه ج 2/ 432

ولا تجعل مع اللَّه الهاً آخر فتلقي في جهنّم ملوماً مدحوراً ج 2/ 75، 77

ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيلِ اللَّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون ج 1/ 271

ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ اخري ج 1/ 185، 363، 365، 375- ج 2/ 202- ج 3/ 144

ولا تصلّ علي أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم علي قبره ج 2/ 420

ولا تَقْفُ ما ليس لك به علمٌ ج 3/ 317، 318

ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون ج 2/ 70

ولقد رآه نزلةً اخري ج 2/ 47

ولقدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعُوهُ ج 3/ 453

ولقد وصّينا الذين اوتوا الكتاب ج 2/ 53

ولكم نصف ما ترك أزواجكم ج 3/ 357

ولمّا جاء موسي لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر اليك ج 3/ 419

وليحملنّ أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم ج 1/ 361

وما آتاكم الرسول فخذوه ج 2/ 456

وما اوتيتم من العلم الّا قليلًا ج 1/ 200

وما أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ ج 3/ 462

وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدّث ج 1/ 400

وما تشاؤون الّا أن يشاءَ اللَّهُ ج 2/ 225

وما كان استغفار ابراهيم لابيه الّا عن موعدة ج 1/ 301، 302 315،- ج 2/ 414، 416

وما كان

لرسول أن يأتي بآية الّا باذن اللَّه ج 1/ 233

وما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ج 1/ 299

وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضي اللَّه ورسوله أمراً ج 3/ 343

وما كنّا له مقرنين ج 2/ 244

وما كنّا معذّبين حتّي نبعث رسولًا ج 1/ 298

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 517

وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره الّا في كتاب ج 1/ 247، 249

ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللَّه ج 1/ 71

ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ج 3/ 441

ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ج 3/ 441

ومن ثمرات النخيل والاعناب تتّخذون منه سكراً ج 2/ 499

ومن ذرّيّته داود وسليمان ج 1/ 319

ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً ج 2/ 100

ومن ورائهم برزخٌ الي يوم يُبعثون ج 1/ 273

ومن يتّق اللَّه يجعل له مخرجاً ج 2/ 241

ومن يرد فيه بالحادٍ بظلمٍ نذقه من عذاب أليم ج 2/ 167

ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ج 1/ 162

ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها ج 2/ 156- ج 3/ 432

ونريد أنْ نمنَّ علي الَّذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمّةً ج 1/ 183

ونفختُ فيه من روحي ج 1/ 273، 277

ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض ج 1/ 265

ونكتب ما قدّموا وآثارهم ج 1/ 342

وواعدنا موسي ثلاثين ليلة ج 1/ 244

وورث سليمان داود ج 2/ 437

ووصّينا الذين اوتوا الكتاب ج 1/ 156

وهمُّواْ بِمَا لَمْ ينالوا ج 3/ 416

وهو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع ج 3/ 224

وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ج 3/ 238

ويطعمون الطعام علي حبّه ج 2/ 439

ويعذّب

المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ج 1/ 350

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 518

ويوم ينفخ في الصور ج 1/ 268، 279

هب لي ملكاً لا ينبغي لاحد من بعدي ج 3/ 224

هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ان تتّبعون الّا الظنّ ج 2/ 443

هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ج 1/ 331

يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ج 3/ 459

يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ج 1/ 318

يا أيّها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ج 3/ 187

يا أيّها الذين آمنوا انّما الخمر والميسر ج 2/ 499، 504، 510

يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأولي الامر منهم ج 1/ 186- ج 3/ 18

يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري ج 2/ 499، 507

يا أيّها الرسول بلّغ ما انزل اليك ج 3/ 404

يا أيّها المدّثّر ج 2/ 476

يا أيّها النبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللَّه لك تبتغي مرضات أزواجك ج 3/ 332

يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده ج 2/ 424

يرثني ويرث من آل يعقوب ج 2/ 437

يريدون ليطفئوا نور اللَّه بأفواههم ويأبي اللَّه الّا أن يتمّ نوره ج 3/ 388

يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس ج 2/ 500، 507

يقولون ربّنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ج 1/ 328

يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب ج 1/ 233، 234، 237، 238، 239، 240، 252، 253

يوم نبطش البطشة الكبري ج 2/ 454

يوم يُنْفَخ في الصور ج 1/ 267، 269، 275، 276، 278

يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة ج 1/ 277

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3،

ص: 519

فهرس الأحاديث والآثار … ص: 519

ابشر يا علي، فانّ اللَّه عزّ وجلّ قد عهد اليّ أنّه لا يحبّك الّا مؤمن ج 3/ 451

ابكي لذرّيّتي وما يصنع بهم شرار امّتي من بعدي ج 3/ 449

ابكي من ضربتك علي القرن، ولطم فاطمة خدّها، وطعنة الحسن ج 3/ 450

ابوبكر يقضي ديني وينجز موعدي ج 3/ 91

ابو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه ج 1/ 39

اتّق الضغائن التي في صدور من لا يظهرها الّا بعد موتي ج 3/ 450

اتّق اللَّه ولا تقس الدين برأيك، فانّ أوّل من قاس برأيه ابليس ج 3/ 351

اتّهموا الرأي في الدين ج 3/ 320

اجعل بين أذانك واقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله ج 3/ 18

اجعلوا حجّكم عمرة ج 3/ 31

احتفظوا بكتبكم فانّكم سوف تحتاجون اليها ج 1/ 26

احذروا الشهوة الخفيّة: العالم يُحبّ أن يجلس اليه ج 3/ 259

اخبرني جبرئيل سيّد الملائكة قال: قال اللَّه تعالي سيّد السادات: ج 1/ 203

اخطأ الكاتب، انّما هي: حتّي تستأذنوا ج 1/ 153

ادعي لي أبابكر أباك وأخاك حتّي أكتب كتاباً ج 2/ 469

اذا أفضي أحدكم بيده الي ذكره ليس بينه وبينها حجاب فليتوضّأ ج 3/ 198

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 520

اذا بلغ آل أبي العاص ثلاثون رجلًا صيّروا مال اللَّه دولًا ج 3/ 439

اذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد ج 3/ 10

اذا جمع اللَّه الخلائق يوم القيامة، أذن لُامّة محمّد (ص) بالسجود ج 1/ 362

اذا خرجت اللعنة من فيّ صاحبها نظرت ج 2/ 156

اذا كان يوم القيامة دفع اللَّه الي كلّ مسلم يهوديّاً أو نصرانيّاً فيقول: … ج 1/ 367

اذا كان يوم القيامة نادي مناد ليقم أهل اللَّه، فيقوم أبوبكر الصدّيق … ج 3/ 490

اذا كان

يوم القيامة، يأتيني جبرئيل وميكائيل بخزنتين من المفاتيح ج 3/ 488

اذا كتب أحدكم كتاباً فليزيّنه فانّه أنجح للحاجة ج 3/ 19

اذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الازلام والشطرنج والنرد ج 2/ 231- ج 3/ 281

اذا مسّ أحدكم ذكره فليتوضّأ ج 3/ 197، 199

اذهب فاغسله وكفّنه وواره، غفر اللَّه له ورحمه ج 2/ 468

اربعة نجباء امناء اللَّه علي حلاله وحرامه ج 1/ 42

ارحم امّتي بامّتي أبوبكر ج 3/ 490

استأذنت ربّي في زيارة قبر امّي فأذن لي ج 1/ 304

اشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة امام جائر ج 2/ 63

اشهد أنّ الحقّ مع عليّ ولكن مالت الدنيا بأهلها ج 2/ 89

اشهد أنّ رسول اللَّه (ص) كذلك كان يقرؤها، وكذلك انزلت ولكن ج 1/ 152

اصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ج 1/ 395

اظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس ج 1/ 154- ج 2/ 53

اعطوا الاجير أجره قبل أن يجفّ عرقه ج 3/ 18

اعطوا السائل وان جاء علي فرس ج 3/ 18

اعمار امّتي مابين الستّين الي السبعين ج 1/ 374

افضل النّاس عند اللَّه منزلة يوم القيامة امام عادل رفيق ج 2/ 63

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 521

اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ج 3/ 482

اقضاكم علي ج 1/ 18

اقضانا علي ج 1/ 15

اقضاهم علي ج 1/ 15

اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم الّا الحدود ج 3/ 17، 18

اكتبوا، فانّكم لا تحفظون الّا بالكتاب ج 1/ 26

اكتبوا، فانّكم لا تحفظون حتّي تكتبوا ج 1/ 26

اكره أنْ يتحدّث الناس ويقولون: ان محمداً قد وضع يده في أصحابه ج 3/ 415

الائمة من قريش ج 3/ 451

الا انّ أصحاب الشاه في النار ج 2/ 232- ج 3/ 281

الا، انّكم تحدّثون أنّي أكذب علي رسول اللَّه

ج 2/ 184

الا انّكم تحدّثون أنّي أكذب علي رسول اللَّه (ص) لتهتدوا وأضل ج 2/ 186

الا انّها ستكون فتنة ج 3/ 18

الا أدلّك علي ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشداً؟ ج 3/ 470

الا لا وصيّة لوارث ج 3/ 219

الا، واللَّه سيرد علي الحوض منكم رجال فيدعّون عنّي ج 3/ 407

الا وانّه سيجاء برجال من امّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ج 3/ 403

الا وانّي قد تركت فيكم أمرين ان أخذتم بها لن تضلّوا: كتاب اللَّه وعترتي ج 3/ 406

الآيات بعد المائتين ج 3/ 52

البكر تستأذن. قلت: انّ البكر تستحي. فقال: اذنها صماتها ج 3/ 344

التزقت الواو بالصاد وأنتم تقرؤونها: وقضي ربّك ج 1/ 155

الّتي تسمّون سورة التّوبة هي سورة العذاب، واللَّه ما تركت أحداً ج 1/ 118

الحقّ لن يزال مع علي وعليّ مع الحق لن يختلفا ولن يتفرقا؟ قالت: نعم ج 2/ 89

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 522

الحقّ مع ذا، الحقّ مع ذا؛ يعني عليّاً ج 2/ 88

الحقّ مع عليّ وعليّ مع الحقّ، لن يزولا حتّي يردا عليّ الحوض ج 2/ 96

الحمد للَّه الذي وفّق رسول رسول اللَّه لما يرتضيه رسول اللَّه ج 3/ 319، 349

الحياء حسن الخلق، والمؤمن غِرّ كريم، والمنافق خب لئيم ج 3/ 19

الرجل علي دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ج 3/ 17

السلام عليك يا أميرالمؤمنين ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليك يا مولانا ج 2/ 174

السلطان ظلّ اللَّه في الارض يأوي اليه كلُّ مظلوم من عباده ج 2/ 63

الصلاة مثني ج 3/ 153

الطيرة في الفرس والمرأة والدار ج 2/ 189

العلماء امناء الرسل علي عباد اللَّه ج 2/ 273

القدريّة مجوس هذه الامّة؛ ان مرضوا فلا تعودوهم ج 2/ 224- ج

3/ 13

القضاة ثلاثة ج 2/ 64

القه علي بلال فألقاه عليه، فأذّن بلال ج 3/ 15

الك بيّنة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه ج 3/ 342

اللَّه تعالي يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنّة ج 1/ 270

اللّهمّ ائتني بأحبّ الخلق اليك، فجاء علي بن أبي طالب ج 2/ 176

اللّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك علي آل سعد بن عبادة ج 1/ 331

اللهم ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي ج 3/ 258

اللّهمّ اشهد لهم، اللّهمّ قد بلّغت، هذا أخي وابن عمّي ج 2/ 144

اللّهمّ انصر من نصر عليّاً، اللّهمّ أكرم من أكرم عليّاً ج 2/ 144

اللهمّ ان كنت كتبت عليّ شقاوة أو ذنباً فامحه ج 1/ 236

اللّهمّ اهد قلبه وثبّت لسانه ج 1/ 18- ج 2/ 92

اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً، اللّهمّ دعّهما الي النّار دعّاً ج 1/ 333

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 523

اللّهمّ أعزّ الاسلام بأحبّ هذين الرجلين اليك: بأبي جهل أو بعمر ج 2/ 496

اللّهمّ أعزّ عمر بالاسلام، لانّ الاسلام يُعِزّ ولا يُعز ج 2/ 497

اللّهمّ أعنه وأعن به، وارحمه وارحم به، وانصره وانصر به ج 2/ 144

اللّهمّ حوالينا ولا علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه ج 2/ 454

اللّهمّ عليك بمعاوية وأشياعه، وعمرو بن العاص وأشياعه ج 2/ 107

اللَّه وليّي وأنا وليّك ومعادي من عاداك ومسالم لمن سالمك ج 2/ 144

الم تر الي الذين يزكّون ج 3/ 442

المدينة لا يدخلها الدجّال والطاعون ج 3/ 220

المرء علي دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ج 3/ 19

المسلم ليس بلعّان ج 3/ 237

المهدي من عترتي من ولد فاطمة ج 1/ 193

المهديّ منّي أجلي الجبهة ج 1/ 193

الم يكن أعلم الناس ج 1/ 15

المؤمن غرّ كريم والفاجر

خبّ لئيم ج 3/ 17

المؤمن لا يزني حين يزني وهو مؤمن ج 2/ 457

النرد والشطرنج من الميسر ج 2/ 232

الهاني الصفق بالاسواق ج 2/ 29

اليَّ اليَّ يا بني، فما زال يدنيه حتّي أجلسه علي فخذه اليمني ج 3/ 446

اليس قد فهمتما ما تقدّمت به اليكما وقبلتماه؟ ج 3/ 459

اما انّك ستلقي بعدي جهداً. قال: في سلامة من ديني ج 2/ 94

امّا بعد، فانّي أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدّثني وصدقني ج 2/ 448

امّا عليّ بن أبي طالب، فانّه أخي وشقيقي وصاحب الامر بعدي ج 3/ 447

اما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلون الجنّة أكتعين ج 3/ 500

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 524

اما واللَّه يا بني عبدالمطّلب، لقد كان علي فيكم أولي بهذا الامر مني ج 3/ 495

امّتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عقاب ج 1/ 361

امرت أن ابلّغه أنا أو رجل من أهل بيتي ج 3/ 427

امر رسول اللَّه (ص) علي بن أبي طالب بقتال الناكثين و … ج 2/ 83

امرني رسول اللَّه (ص) بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين ج 2/ 83

انا اقاتل علي تنزيل القرآن وعلي يقاتل علي تأويله ج 2/ 87

انا أوّل الانبياء خلقاً وآخرهم بعثاً ج 1/ 262

انا أوّل من تنشقّ عنه الارض وأنت معي ج 3/ 449

انا أوّل من سأل رسول اللَّه (ص) عن هذا، فقلت: يا رسول اللَّه ج 2/ 47

انا أوّل من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة ج 3/ 484

انا أوّل من يجثو بين يدي اللَّه عزّ وجلّ يوم القيامة للخصومة ج 3/ 451

انا أوّل من يدخل الجنّة وأنت بعدي تدخلها والحسن والحسين وفاطمة ج 3/ 449

انّ ابن امّ مكتوم رجل أعمي، فاذا

أذّن فكلوا واشربوا حتّي يؤذّن بلال ج 2/ 203

انّ اخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالاسواق ج 2/ 28

انا سلم لمن سالمت وحرب لمن حاربت ج 3/ 449

انا عند الحوض وأنت معي ج 3/ 449

انا فرطكم علي الحوض، من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً ج 3/ 403

انا قسيم النار ج 3/ 486

انا قسيم النّار والجنّة ج 3/ 487

انّ الارض يطهّر بعضها بعضاً ج 3/ 362

انّ البرّ ليس بايجاف الخيل والابل، فعليكم بالسكينة ج 3/ 163

انّ الحذر لا يردّ القدر ج 1/ 244

انّ الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ج 3/ 32

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 525

ان العباد أولي بأس هم القائم وأصحابه عليهم السلام ج 3/ 444

انّ القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وانّي استأذنت ربّي في زيارتها ج 1/ 300

انّ اللَّه اتخذني خليلًا كما اتخذ ابراهيم خليلًا ج 3/ 45

انّ اللَّه اتّخذني خليلًا، وانّ قصري في الجنّة وقصر ابراهيم في الجنّة ج 3/ 49

انّ اللَّه أوحي اليَّ بأن أقوم بفضلك ج 3/ 449

انّ اللَّه تبارك وتعالي لم يدع شيئاً يحتاج اليه الامّة الّا أنزله في كتابه ج 1/ 12

انّ اللَّه تعالي أعطاني مفاتيح الجنة والنّار فقال: قل الي عليّ قولًا تخرج من تشاء ج 3/ 487

انّ اللَّه خلق الارواح قبل الاجساد بألفي عام ج 1/ 262

انّ اللَّه عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً قبلي الّا كان في امّته من بعده مرجئة ج 2/ 226

انّ اللَّه لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعاً ج 3/ 317

انّ اللَّه ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ج 2/ 202- ج 3/ 144

انّ اللَّه مع القاضي ما لم يجر ج 2/ 64

انّ الملائكة تقول لروح المؤمن:

صلّي اللَّه عليك وعلي جسدك ج 1/ 331

انّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه ج 2/ 202- ج 3/ 143

انّ المؤمن من أخذ دينه عن اللَّه تعالي، وانّ المنافق يصيب رأياً ج 3/ 321

انا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ج 1/ 13

انا واللَّه هكذا سمعت رسول اللَّه يقرأ، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ «ما خلق» فلا اتابعهم ج 1/ 164

انا وهذا حجّة يوم القيامة. يعني عليّاً ج 2/ 93

انّ أبابكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب أو ناساً من أصحاب ج 2/ 511

انّ أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللَّه ج 2/ 453

انّ أسماء ولدت محمّد بن أبي بكر بالبيداء ج 1/ 402

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 526

انّ أشدّ أهل النّار عذاباً يوم القيامة، من قتل نبيّاً أو قتله نبي وامام جائر ج 2/ 63

انّ بلالًا يؤذّن بليل، فكلوا واشربوا حتّي يؤذّن ابن ام مكتوم ج 2/ 203

انّ بني اسرائيل اختلفوا، لم يزل اختلافهم بينهم حتّي بعثوا حكمين ج 2/ 106

انّ بني اسرائيل افترقوا علي احدي وسبعين فرقة كلّها في النّار الّا فرقة ج 3/ 248

انت الآخذ بسنّتي والذابُّ عن ملّتي ج 3/ 449

انت الذي أنزل فيه (وأذان من اللَّه ورسوله الي الناس …) ج 3/ 449

انت العروة الوثقي ج 3/ 449

انت امام كلّ مؤمن ومؤمنةٍ بعدي ج 3/ 449

انت أخي في الاسلام وابنتك تصلح لي ج 2/ 413

انت أخي في دين اللَّه وكتابه، وهي لي حلال ج 2/ 412

انت تبيّن لهم ما اشتبه عليهم بعدي ج 3/ 449

انت قسيم الجنّة والنّار، فيوم القيامة تقول للنّار هذا لي وهذا لك ج 3/ 486

انت منّي بمنزلة هارون من موسي ج 3/ 449

انت منّي وأنا منك

ج 3/ 449

انت ورثت رسول اللَّه أم أهله؟ ج 3/ 195

انت وليّي في الدنيا ووليّي في الآخرة ج 3/ 100

انتهينا، انّها تذهب المال وتذهب العقل ج 2/ 509

انّ ثلاثة في بني اسرائيل: أبرص وأقرع وأعمي، بدا للَّه أنْ يبتليهم ج 1/ 241

انّ جبرئيل عليه السلام أذّن في بيت المقدس ليلة الاسراء وأقام ج 3/ 16

انّ خليلي (ص) قال: يا علي، انّك ستقدم علي اللَّه وشيعتك راضين ج 2/ 142

انّ رجلًا منكم يقاتل الناس علي تأويل القرآن كما قاتلتهم علي تنزيله ج 2/ 87

انّ رسول اللَّه (ص) كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت زينب ج 3/ 306

انّ رسول اللَّه (ص) نهي عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر ج 3/ 201

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 527

انزل اللَّه هذا الحرف علي لسان نبيّكم: ووصّي ربّك ألّا تعبدوا الّا اياه … ج 1/ 155

انّ سعيد بن جبير كان يأتمّ بعلي بن الحسين ج 1/ 38

انّ شأن الاذان أعظم من ذاك. أذّن جبرئيل عليه الصلاة والسلام ج 3/ 16

انّ عثمان ادخل حفرته وانّه لكافر باللَّه ج 3/ 118

ان علمت أنّ منك بضعة نجسة فاقطعها ج 3/ 285

انّ عمر قيل له: سورة التّوبة. قال: هي الي العذاب أقرب ج 1/ 119

انّ عمرةً في رمضان تعدل حجّة ج 3/ 157

انّ في القرآن لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ج 1/ 143

انّ فيك مثلًا من عيسي، أبغضته اليهود حتّي بهتوا امّه، وأحبّته ج 2/ 145

انّ فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ج 1/ 143

انّك تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله ج 2/ 92

انّك رسولي الي خلقي وانّ عليّاً وليّ المؤمنين … ج 1/ 259

انّكم تسمّونها سورة التوبة، واللَّه ما تركت

أحداً الّا نالت منه ج 1/ 119

انّ لكلّ امّة مجوساً وانّ مجوس هذه الامّة القدريّة ج 3/ 13

انّ للَّه تبارك لوحاً ينظر فيه في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة ج 2/ 232

انّ للَّه تعالي في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة لا ينظر فيها ج 3/ 282

انّما الطيرة في المرأة والدابّة والدار ج 2/ 188

انّما خيّرني اللَّه فقال … وسأزيده علي السبعين ج 2/ 420

انّما هي خطأ من الكاتب: حتّي تستأذنوا وتسلّموا ج 1/ 152- ج 2/ 52

انّما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة ج 2/ 180

انّ محمّداً صلّي اللَّه عليه وسلّم رأي ربّه مرّتين، مرّة ببصره ومرّة بفؤاده ج 2/ 49

انّ محمّد بن أبي بكر بايع عليّاً عليه السلام علي البراءة من أبيه ج 1/ 404

انّ ملكاً من ملوك بني اسرائيل أخذ رجلًا فخيّره ج 2/ 512

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 528

انّ منكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله ج 2/ 85

انّ موت الفجأة سخطة علي المؤمنين ج 3/ 145

انّ ولد الزنا شرّ الثلاثة ج 2/ 185

انّها الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتّي خشينا أن لا تدع ج 1/ 119

انّه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحي اليه، وهو نائم في المسجد الحرام ج 2/ 460

انّ هذا الامر في قريش، لا يعاديهم أحد الّا كبّه اللَّه علي وجهه ج 2/ 208

انّ هذا المثل ضربه اللَّه لاميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب؛ فالبعوضة ج 3/ 437

انّ هذا أوّل من آمن بي، وهو أوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا ج 2/ 93

انّ هذه امّة مرحومة، عذابها بأيديها ج 1/ 362

انّه سيلحد فيه رجل من قريش، لو أنّ ذنوبه توزن بذنوب

الثقلين ج 2/ 167

انّه كان في بني اسرائيل ملكان أخوان علي مدينتين ج 1/ 249

انّه كان يبغض عثمان أبغضه اللَّه عزّ وجلّ ج 2/ 497، 498

انّه كان يقرأ: ووصي ربّك ويقول: أمر ربّك، انّهما واوان التصقت احداهما ج 2/ 53

انّه لا يؤدّي عنّي الّا أنا أو رجل منّي ج 3/ 427

انّهم ألصقوا احدي الواوين بالصاد فصارت قافاً ج 1/ 161

انّه مرّ علي قومٍ يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها ج 2/ 232

انّه مرّ علي قوم يلعبون بالشطرنج، فوثب عليهم فقال: أما واللَّه ج 2/ 232

انّهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم حق ج 3/ 146

انّهم يبكون عليها وانّها تعذَّب في قبرها ج 3/ 145

انّي استأذنت ربّي في زيارة قبر امّي فأذن لي ج 1/ 299

انّي سألت ربّي عزّ وجلّ في الاستغفار لُامّي فلم يأذن لي ج 1/ 299

انّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم ج 2/ 427

انّي لكم فرط علي الحوض ج 3/ 420

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 529

انّ يوم الثلاثاء يوم الدم ج 3/ 12

انّ يونس دعا قومه، فلمّا أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب ج 1/ 242

اوتاد الارض وأعلام الدين أربعة ج 1/ 41

اوّل ثلمة في الاسلام مخالفة عليّ ج 2/ 94

اوّل من قاس أمر الدين برأيه ابليس ج 3/ 316

اوّل من يصافحه الحق عمر ج 3/ 49

اوّل من يكرّ الي الدنيا الحسين بن علي ج 3/ 444

اهتزّ العرش لموت سعد بن معاذ ج 3/ 147

اهتزّ العرش لوفاة سعد بن معاذ ج 3/ 147

اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ج 3/ 147

ايّاكم والزنج فانّه خلق مشوّه ج 3/ 102

ايّكم يقرأ علي قرائة عبداللَّه؟ ج 1/ 165

اين أصحاب محمّد؟

ج 3/ 492

ايّها الناس اسمعوا قولي فاعقلوه عنّي، فانّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد ج 3/ 405

بايع محمّد بن أبي بكر علي البراءة من الثاني ج 1/ 404

بل كلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلّي اللَّه عليه وآله ج 1/ 12

بلي واللَّه، انّي لاستغفر لابي كما استغفر ابراهيم لابيه ج 1/ 302

بينا أنا قائم، اذا زمرة، حتّي اذا عرفتهم، خرج رجل بيني ج 3/ 404

بينا أهل الجنّة في مجلس لهم، اذ لمع لهم نور غلب علي نور الجنّة ج 3/ 38

بينا أهل الجنّة في نعيمهم، اذْ سطع لهم نور، فرفعوا رؤسهم، فاذا الرب ج 3/ 36

تحشر هذه الامّة علي ثلاثة أصناف ج 1/ 361

تحشر هذه الامّة يوم القيامة علي ثلاثة أصناف ج 1/ 361

تعلّموا من قريش ولا تعلّموها، قدّموا قريشاً ولا تؤخّروها ج 3/ 218

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 530

تعمل هذه الامّة برهة بكتاب اللَّه، ثمّ تعمل برهة بسنّة رسول اللَّه (ص) ج 3/ 317

تعيبَ علي قوم يونس يوم عاشورا ج 1/ 243

تفترق امّتي علي بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة علي امّتي قوم ج 3/ 319

تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ج 2/ 83

تقاتل علي التأويل كما قاتلت علي التنزيل ج 3/ 449

تكثر لكم الاحاديث من بعدي، فاذا روي لكم حديث فأعرضوه ج 2/ 455

تكون بين النّاس فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه علي الحقّ ج 2/ 93

تكون خلافة النبوّة ثلاثين سنة ثمّ تصير ملكاً ج 3/ 190

ثلاث فيهنّ البركة: البيع الي أجل والمقارضة واخلاص البر بالشعير ج 3/ 43

ثلاثة لا يقبل اللَّه لهم شهادة أن لا اله الّا اللَّه، فذكر منهم: الامام الجائر ج 2/ 63

ثلاثة لا يكلّمهم اللَّه يوم القيامة ولا يزكّيهم

ولهم عذاب أليم ج 1/ 418

جئت أسألك عن آية من كتاب اللَّه كيف كان رسول اللَّه (ص) يقرؤها ج 1/ 151

جاء رجل من أهل الشام، فسبّ عليّاً عند ابن عبّاس فحصبه ابن عبّاس ج 2/ 121

حبّبوا اللَّه الي الناس يحبّكم اللَّه ج 3/ 47

حبّ عليّ ايمان وبغضه كفر ج 3/ 485

حبّك الشي ء يعمي ويصم ج 3/ 19

حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول اللَّه … فمن قالها دخل حصني ج 1/ 24

خذوا هذه الواو واجعلوها هاهنا ج 1/ 156

خذيها واشترطي لهم الولاء، فانّما الولاء لمن أعتق ج 3/ 196

خلق اللَّه التربة يوم السبت ج 2/ 479، 484

دعانا رجل من الانصار قبل أنْ تحرم الخمر، فتقدّم عبدالرحمن ج 2/ 501

دعوه؛ فمن يك فيه خير فسيلحقه اللَّه بكم ج 3/ 474

ذاك أخوك ابليس، وصدقك أنّ القاتل والمقتول منهم في النار ج 1/ 436

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 531

ذاك من خير البريّة، ولا يشكّ فيه الّا كافر ج 2/ 145

ذكرنا محمد بن أبي بكر عند أبي عبداللَّه (ع) فقال أبو عبداللَّه (ع): ج 1/ 403

رآه بقلبه ولم يره بعينه ج 2/ 48

رأيت رسول اللَّه (ص) ضرب فخذ علي بن أبي طالب وصدره ج 2/ 143

رأي رجلًا يتبع حمامة فقال: شيطان يتبع شيطاناً ج 3/ 19

رحم اللَّه أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده ج 3/ 475

رحم اللَّه عليّاً، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار ج 2/ 88، 93

رحمة اللَّه علي خلفائي ج 3/ 258

سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت: أكون اصلّي فتمرّ بي الجارية ج 3/ 306

سألت رسول اللَّه: ما الايمان؟ قال: معرفة بالقلب واقرار باللّسان ج 1/ 24

سألت عليّ بن أبي طالب: لم لم يكتب في

براءة بسم اللَّه الرحمن الرحيم ج 1/ 118

سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ج 2/ 119

ستفتح عليكم الآفاق، وستفتح عليكم مدينة يقال لها قزوين ج 3/ 44

ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم ج 3/ 191

ستكون فتنة، يكون القاعد فيها خيراً من القائم ج 2/ 74

سيصيبك بعدي بلاء ج 3/ 475

سيكون بين يدي السّاعة فرقة واختلاف، فيكون هذا- مشيراً الي عليّ ج 2/ 94

سيكون من بعدي فتنة، فاذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب ج 2/ 89

شاهداك أو يمينه ج 3/ 342

شرار العلماء الذين يأتون الامراء، وخيار الامراء الذين يأتون العلماء ج 2/ 273

شيطان يتبع شيطانه ج 3/ 17

صدق أبوبكر ج 2/ 504

صنفان من امّتي لعنهم اللَّه علي لسان سبعين نبيّاً: القدريّة والمرجئة ج 2/ 226

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 532

صنفان من امّتي ليس لهما في الاسلام نصيب: المرجئة والقدرية ج 3/ 18

ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك الّا من بعدي ج 3/ 484

طيّبت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ثمّ طاف علي نسائه بعد ذلك ج 3/ 159

عارية مضمونة ج 3/ 228

عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول اللَّه (ص) ج 2/ 439

علماء الارض ثلاثة ج 1/ 17

علي الاحداث في الدين ج 3/ 450

عليٌّ امام البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله ج 2/ 143

علي أخي ووزيري ووارثي ج 1/ 419

عليّ أعلم الناس بالسنّة ج 1/ 15

علي باب حطّة، من دخل منه كان مؤمناً ومن خرج منه كان كافراً ج 2/ 69

علي بن أبي طالب باب حطّة فمن دخل منه كان مؤمناً ج 2/ 142

عليّ مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتّي يردا عليَّ الحوض ج

2/ 92

علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتّي يردا علي الحوض ج 2/ 90، 93

عليَّ نذر أنْ لا اكلّم ابن الزبير أبداً ج 2/ 150

عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه في قوله (يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت) قال: … ج 1/ 233

عن ابن عبّاس (يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت) قال: من أحد الكتابين ج 1/ 238

فأملي عليّ ما أراد أن يكتب في الكتف ج 1/ 419

فمن يكفر بالطّاغوت ج 3/ 441

قتلوا بما قتلوا من شيعتي وعمّالي بلا ذنب كان منهم اليهم ج 2/ 130

قد أحسنتم وأجملتم، أري شيئاً من لحن ج 1/ 143

قد شهدت اللّعن ولم أشهد الاستغفار ج 2/ 105

قد عرفنا اللَّه والرسول، فمن أولوا الامرالذين قرن اللَّه طاعتهم بطاعتك؟ … ج 1/ 186

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 533

قرأت سورة الاحزاب علي النّبيّ، فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها ج 1/ 116

قلت لابن عبّاس: سورة التّوبة. قال: التّوبة! بل هي الفاضحة ج 1/ 119

كان المسلمون لا ينظرون الي أبي سفيان ولا يقاعدونه ج 2/ 476

كان أهل الجاهليّة يقولون: الطيرة في المرأة والدّار والدّابّة ج 2/ 187

كانت سورة الاحزاب تقرء في زمان النّبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم مائتي آية ج 1/ 116

كانت سورة الاحزاب مثل سورة البقرة أو أطول، وكانت فيها آية الرّجم ج 1/ 116

كان رسول اللَّه اذا أراد أن يحرم، تطيّب بأطيب ما يجد ج 3/ 159

كان عليّ علي الحق، من اتّبعه اتّبع الحق ومن تركه ترك الحق ج 2/ 89

كان عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر لا يرضيان أن يعصي اللَّه ج 1/ 403

كان فيمن قبلكم رجل يأتي وكر طائر كلّما أفرخ يأخذ فرخه ج 1/ 245

كان

مع أميرالمؤمنين عليه السلام خمسة نفر من قريش ج 1/ 403

كأنّي باحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب، وايّاك أن تكوني هي ج 2/ 117

كأنّي قد دعيت فأجبت، وانّي قد تركت فيكم الثقلين ج 1/ 13

كأيّن تعدّ سورة الاحزاب؟ ج 1/ 115

كتاب اللَّه فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ج 1/ 12

كتبها الكاتب وهو ناعس ج 1/ 154

كثير النوا وسالم بن أبي حفصة وأبو الجارود كذّابون مكذّبون كفّار ج 2/ 8

كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ج 2/ 142

كنّا في زمن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحداً ج 2/ 451

كنّا نتحدّث أنّ أقضي أهل المدينة علي ج 1/ 15

كنّا نعدّك من خيار بني عبدالمطّلب، حتّي بلغ ابنك السوء ففرّق بيننا ج 2/ 135

كنّا نعرف المنافقين ببغضهم عليّاً ج 2/ 142

كنّا نقرأ سورة نشبّهها باحدي المسبّحات ج 1/ 118

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 534

كنّا نقرأ سورة نشبّهها في الطّول والشدّة ببراءة فأنسيتها ج 1/ 117

كنت أطيّب رسول اللَّه ثمّ يطوف علي نسائه ج 3/ 159

كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين ج 1/ 262

كيف أنتم اذا نزل ابن مريم فيكم وامامكم منكم ج 1/ 194

كيف بك اذا أخرجوك من المدينة؟ ج 3/ 471

كيف بك اذا نبحتك كلاب الحوأب؟ ج 2/ 118

لا أبقاني اللَّه بعدك يا أباالحسن، أشهد أنّك وارث علم رسول اللَّه ج 3/ 485

لا أبقاني اللَّه بعدك يا علي ج 1/ 15

لا تخونوا اللَّه ورسوله ج 2/ 397

لا تُصرّوا الابل والغنم ج 3/ 356

لا تضرّك الفتنة ج 3/ 192

لا تظهر الشماتة لاخيك فيرحمه اللَّه ويبتليك ج 3/ 19

لا تعلّموا العلم لتباهوا به العلماء أو لتماروا به السفهاء ج 3/ 259

لا تعلّموا

العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ج 3/ 259

لا تغيّروها فانّ العرب ستغيّرها- أو قال: ستعربها- بألسنتها ج 1/ 144

لا تقطعوا اللّحم بالسكّين ج 3/ 12

لا تقولوا في عثمان الّا خيراً ج 1/ 159

لا تقيسوا الدين فانّ الدين لا يقاس، وأوّل من قاس ابليس ج 3/ 316

لا تنقضي الدنيا حتّي يملك العرب رجل من أهل بيتي ج 1/ 194

لا تنكح الايّم حتّي تُستأمر ج 3/ 343

لا تؤذوا الاحياء بسبب الاموات، واللَّه عزّ وجلّ يقول: (انّ الذين يؤذون اللَّه ج 1/ 304

لا حليم الّا ذو عثرة، ولا حكيم الّا ذو تجربة ج 3/ 19

لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ج 3/ 228

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 535

لُاقرّنّ عينك بتفسيرها، ولُاقرّنّ عين امّتي بعدي بتفسيرها ج 1/ 235

لا نسلّم علي أصحاب النردشير والشطرنج ج 2/ 232

لا نورّث ما تركناه صدقة ج 2/ 436- ج 3/ 194

لانْ يمسّ أحدكم جمراً حتّي يطفي ء خير له من أن يمسّها ج 3/ 282

لا وضوء علي من نام قائماً أو قاعداً ج 2/ 240

لا يبرمنّ أحدٌ منكم أمراً حتّي يشاور ج 3/ 101

لا يبغض عليّاً مؤمن ولا يحبّه منافق ج 2/ 142

لا يحبّ عليّاً منافق ولا يبغضه مؤمن ج 2/ 142

لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده ج 1/ 374، 375

لا يزداد الامر الّا شدّة، ولا الدنيا الّا ادباراً ج 3/ 50

لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه ج 1/ 115

لا يمشي أحدكم في نعلٍ واحدٍ ج 2/ 186

لا ينبغي لقومٍ فيهم أبوبكر أن يؤمّهم غيره ج 2/ 495

لا ينفع الحذر من القدر، ولكن اللَّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر ج 1/ 236

لا يؤنسنّك

الّا الحقّ ولايوحشنّك الّا الباطل ج 3/ 479

لرباط يوم في اللَّه من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان ج 3/ 44

لعن اللَّه الخمر، واللَّه لا أشرب شيئاً يذهب بعقلي ج 2/ 503

لعن المؤمن كقتله ج 2/ 156

لك في الجنّة أحسن منها ج 3/ 483

لكلّ امّة مجوس، ومجوس هذه الامّة الذين يقولون لا قدر ج 2/ 224

لكلّ أحد منزل في الجنّة ومنزل في النّار ج 1/ 365

للسائل حقّ وان جاء علي فرس ج 3/ 17

للَّه تبارك وتعالي لوح ينظر فيه في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة يرحم ج 3/ 282

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 536

لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين ج 1/ 306

لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين الي أرحام الطاهرات ج 1/ 308

لم يبعث اللَّه نبيّاً آدم ومن بعده الّا أخذ عليه العهد في محمّد ج 1/ 160

لم يزل أمر بني اسرائيل معتدلًا حتّي نشأ فيهم المولودون ج 3/ 318

لم يكذب ابراهيم النبي قط الّا ثلاث كذبات ج 2/ 422

لو أنّ الملائكة المقرّبين والانبياء المرسلين اجتمعوا علي بغضه ج 3/ 455

لو أنّ عبداً عَبَدَ اللَّه مثل ما أقام نوح في قومه، وكان له مثل احد ذهباً ج 2/ 144

لو علم النّاس ما في القول بالبداء من الاجر ما فتروا عن الكلام فيه ج 1/ 231

لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف ج 1/ 144

لو كان المملي من هُذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا ج 1/ 143

لولا آية في كتاب اللَّه لاخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن ج 1/ 239

لولا آية في كتاب اللَّه لانبأتك بما هو كائن الي يوم القيامة ج

1/ 239

لولا آية في كتاب اللَّه لحدّثتكم بما يكون الي يوم القيامة ج 1/ 240

لولا أن تقول فيك طوائف من امّتي ما قالت النصاري في المسيح ج 2/ 95

لولا أن عمر نهي عن المتعة ما زنا الّا شقي ج 3/ 201

لولا علي لهلك عمر ج 1/ 15

لو لم يبق من الدنيا الّا يوم واحد لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتّي يبعث ج 1/ 194

لو لم يبق من الدهر الّا يوم لبعث اللَّه رجلًا من أهل بيتي يملؤها عدلًا ج 1/ 193

لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم مثل الذي صنعوا بمصحفي ج 1/ 166

ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب ج 2/ 116

ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الادبب ج 2/ 115

ليجيئنّ أقوام من امّتي بمثل الجبال ذنوباً فيغفرها اللَّه لهم ج 1/ 360

ليجيئنّ قوم من أصحابي ج 3/ 413

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 537

ليختلج قوم من أصحابي دوني وأنا علي الحوض ج 3/ 404

ليذادنّ رجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي ج 1/ 395

ليس في جنّة عدنٍ منزل أفضل ولا أشرف ولا أقرب من العرش من ج 1/ 418

ليس في مسّ الذكر وضوء واجب أو نقض وضوء ج 3/ 301

ليس يعذّب في القبر كلّ ميّت، وانّما يعذّب من جملتهم من محّض الكفر ج 1/ 270

ليضربنّكم رجل علي تأويل القرآن كما ضربتكم علي تنزيله ج 2/ 86

ليكوننَّ من امّتي قوم يستحلّون الحرير والخمر والمعازف ج 2/ 456

ليلة اسري برسول اللَّه (ص) من مسجد الكعبة، انّه جاءه ثلاثة نفر ج 2/ 459

لينهض كلّ رجل الي كفوه، ونهض رسول اللَّه (ص) الي عثمان ج 3/ 100

ما ابالي أمسست ذكري أو طرف اذني ج 3/ 284

ما ابالي مسسته أم مسست

أنفي ج 3/ 297

ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء علي ذي لهجة أصدق من أبي ذر ج 3/ 439

ما بال أقوام يؤذونني في قرابتي ج 3/ 176

ما تقرؤون ثلثها. يعني سورة التوبة ج 1/ 119

ما تقرؤون ربعها. يعني براءة ج 1/ 118

ما خلت الارض من بعد نوح من شعبة يدفع اللَّه بهم عن أهل الارض ج 1/ 310

ما دعا عبدٌ قط بهذه الدعوات الّا وسّع اللَّه عليه في معيشته ج 1/ 237

ما زال الزبير منّا أهل البيت حتّي نشأ له عبداللَّه ج 2/ 135

ما عبد اللَّه بمثل البداء ج 1/ 231

ما عُظِّم اللَّه بمثل البداء ج 1/ 231

ما فرغ من تنزيل براءة حتّي ظننّا أنّه لم يبق منّا أحد الّا تنزل فيه ج 1/ 119

ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان الّا وله أصلٌ في كتاب اللَّه عزّ وجلّ ج 1/ 12

ما من أهل بيتٍ الّا ومنهم نجيب من أنفسهم، وأنجب النجباء من أهل بيت ج 1/ 404

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 538

ما من شي ء الّا وفيه كتاب أو سنّة ج 1/ 12

ما منعك أن تخرجي معنا؟ ج 3/ 158

ما منعك أن تكوني حججت معنا؟ ج 3/ 157

ما من نبيّ بعثه اللَّه في امّةٍ قبلي الّا كان له من امّته حواريّون ج 2/ 42

ما وجدتم في كتاب اللَّه عزّ وجلّ، فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه ج 1/ 394

ما يبغض عليّاً الّا كافر ج 2/ 145

ما يمنعكم من الكتاب؟ انّكم لن تحفظوا حتّي تكتبوا ج 1/ 26

مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ج 2/ 81

محبّك محبّي ومبغضك مبغضي ج 2/ 142

مرحباً برسول اللَّه، انّي امرأة مصبية، وليس أحد من أوليائي حاضراً

ج 1/ 410

مع أيّ الفريقين قاتلت فقتلت، ففي لظي ج 2/ 165

ملعون من لعب الشطرنج ج 3/ 281

ملعون من لعب بالشطرنج ج 2/ 231

ممّن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: من أيّهم؟ … ج 1/ 164

من آذي عليّاً فقد آذاني ج 2/ 82، 143

من ابتغي العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء ج 3/ 259

من أحبّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أحبّني فقد أحبّ اللَّه ج 2/ 143

من أخذ برأيه وكّل الي نفسه ج 3/ 321

من أطاعني فقد أطاع اللَّه عزّ وجلّ، ومن عصاني فقد عصي اللَّه ج 2/ 92

من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصي اللَّه، ومن أطاع عليّاً ج 2/ 82

من أطعم شارب الخمر لقمة سلّط اللَّه علي جسده حيّة وعقرباً ج 2/ 511

من بكَّر وابتكر ج 3/ 183

من تعلّم العلم لغير اللَّه فليتبوّأ مقعده من النّار ج 3/ 259

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 539

من تعلّم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء ج 3/ 259

من تعلّم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ج 3/ 259

من تعلّم صرف الكلام ليسبي به قلوب الناس ج 3/ 259

من تعلّم علماً ممّا يبتغي به وجه اللَّه ج 3/ 259

من تكلّم بالفارسيّة زادت في خبّه ونقصت من مروّته ج 3/ 100

من تكلّم في الدّين برأيه فقد اتّهمني ج 3/ 320

من حسد عليّاً فقد حسدني، ومن حسدني فقد كفر ج 2/ 143

من روي حديثاً يري أنّه كذب فهو أحد الكاذبين ج 3/ 263

من روي عنّي حديثاً يري أنّه كذب فهو أحد الكاذبين ج 2/ 229

من سبّ عليّاً فقد سبّني ج 2/ 120

من سبّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ اللَّه

تعالي ج 2/ 120

من شغله القرآن عن ذكري ج 3/ 18

من طلب علماً ليباهي به الناس فهو في النّار ج 3/ 260

من طلب قضاء المسلمين حتّي يناله ثمّ غلب عدله جوره، فله النار ج 2/ 64

من عزّي مصاباً فله مثل أجره ج 3/ 18، 42

من فارق عليّاً فارقني، ومن فارقني فارق اللَّه ج 2/ 92

من فارقك يا علي فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق اللَّه ج 2/ 92

من فارقني فقد فارق اللَّه ومن فارقك فقد فارقني ج 2/ 82

من قال في ديننا برأيه فاقتلوه ج 3/ 319

من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ج 3/ 41

من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار ج 2/ 98

من كنت مولاه فعلي مولاه ج 2/ 174

من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ج 2/ 180

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 540

من لعب بالميسر ثمّ قام يصلّي، فمثله مثل الذي يتوضّأ بالقيح ج 2/ 232

من مات مريضاً مات شهيداً ووقّي فتنة القبر ج 3/ 43

من وعده اللَّه تعالي علي عمله ثواباً فهو منجز له ومن أوعده علي عمله ج 3/ 432

من وكّل الي نفسه أخذ برأيه ج 3/ 321

من يعمل سوء يجز به في الدنيا أو في الآخرة ج 2/ 165

موت الفجأة تخفيف علي المؤمنين وسخطة علي الكافرين ج 3/ 145

نحن ولد عبدالمطّلب سادة أهل الجنّة: أنا وحمزة وجعفر وعليّ و … ج 1/ 194

نزل نبيّ من الانبياء تحت شجرة، فلدغته نملة ج 2/ 423

نظر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم الي عليّ بن أبي طالب ج 2/ 143

نعم الجمل جملكما ونعم الراكبان أنتما ج 3/ 468

نعم الراكب هو ج 3/ 468

والذي بعثني بالنبوّة واصطفاني علي جميع

البريّة ج 3/ 447

والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، انّه لعهد النبي الامّي صلّي اللَّه عليه وسلّم ج 2/ 142

والذي لا اله غيره لو بايعتموه وأطعتموه أدخلكم الجنّة أكتعين ج 3/ 499

واللَّه انّه لرأي رأيته وأخطأ رأيي، انّ علي بن أبي طالب اعطي ثلاثاً ج 2/ 78

واللَّه لان اقتل خارجاً منها بشبر أحبُّ اليَّ من أن اقتل فيها ج 2/ 138

واللَّه، لقد اعطي عليّ بن أبي طالب تسعة أعشار العلم ج 1/ 15

وانّا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها في الطّول والشّدّة ببراءة ج 1/ 117

وانّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها لتذكّركم زيارتها خيراً ج 1/ 299

وأمّا السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء ج 3/ 225

وصلتك رحم وجزاك اللَّه خيراً ج 2/ 468

وكّلني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان ج 1/ 440

وكيف تأمرونني أن أقرأ علي قرائة زيد بن ثابت ج 1/ 162

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 541

ولا مهدي الّا عيسي بن مريم ج 3/ 50

وما يشكّ فيه الّا كافر أو منافق ج 2/ 145

ومن زعم أنّ محمداً رأي ربّه فقد أعظم الفرية علي اللَّه ج 2/ 46

وهل هو الّا بضعة- أو مضغة- منك ج 3/ 290

ويل للناس منك وويل لك من النّاس ج 2/ 159

هذا أمير البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره ومخذول من خذله ج 2/ 80

هل رأي محمّد ربّه؟ فقال: ج 2/ 45

هل رأي محمّد ربّه؟ فقال: رآه رآه رآه، حتّي انقطع صوته ج 2/ 45

هل نفعت أباطالب بشي ءٍ، فانّه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم ج 2/ 467

هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ ثمّ قال: انّهم الآن يسمعون ما أقول ج 3/ 146

هو أعلم من بقي بالمناسك ج

1/ 16

هو خاصف النعل بالحجرة ج 2/ 87

هو خطأ من الكاتب انّما هو تستأذنوا وتسلّموا ج 1/ 153

هو غلط من الكاتب ج 1/ 160

هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة … ج 1/ 157

هي خطأ من الكتّاب ج 1/ 160

هؤلاء حفّاظ الدين وامناء أبي علي حلاله وحرامه ج 1/ 42

يا ابن أخي هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتاب ج 1/ 150

يا ابن عبّاس، عليك بعليّ، فانّ الحقّ علي لسانه ج 3/ 488

يا ابن عبّاس عليك بعليّ فانّ الحقّ علي لسانه وانّ النفاق يجانبه ج 2/ 96

يا ام سلمة، هذا- واللَّه- قاتل القاسطين والناكثين والمارقين من بعدي ج 2/ 83

يا أبا بكر، أفي كتاب اللَّه أن ترثك ابنتك ولا أرث أبي؟ ج 3/ 195

يا أبا حنيفة، بلغني أنّك تقيس، لا تفعل، فانّ أوّل من قاس ابليس ج 3/ 315

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 542

يا أباذر، وكيف أنت اذا قيل لك أي البلاد أحب اليك أن تكون فيها؟ ج 3/ 440

يا أنس، انظر من علي الباب؟ فقلت: اللّهمّ اجعله رجلًا من الانصار ج 2/ 176

يا أيّها الناس عليكم بالسكينة ج 3/ 163

يا بريدة أتبغض عليّاً؟ فقلت: نعم. قال: لا تبغضه ج 2/ 389

يا بلال قم فناد بالصّلاة ج 2/ 472

يا بنيّة، أنت المظلومة بعدي وأنت المستضعفة بعدي ج 3/ 454

يا حميراء: لا تجزعي منها، فان وَيْسَك وويحك رحمة ج 3/ 47

يا سليم، انّ أوصيائي أحد عشر رجلًا من ولدي، أئمّة هداة مهديون ج 1/ 419

يا عبّاس يا عم، ألا اعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك، ألا أفعل بك عشر خصال ج 3/ 11

يا علي! انّ الحقّ معك والحقّ علي لسانك

وفي قلبك وبين عينيك ج 2/ 90

يا علي، انّ أصحاب موسي اتّخذوا بعده عجلًا وخالفوا خليفته ج 3/ 454

يا علي، أنت المظلوم بعدي ج 3/ 455

يا علي، بخ بخ، من مثلك والملائكة تشتاق اليك والجنّة لك ج 3/ 488

يا علي، طوبي لمن أحبّك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك ج 2/ 143

يا علي لو أنّ امّتي أبغضوك، لكبّهم اللَّه علي مناخرهم في النّار ج 2/ 144

يا علي من فارقني فقد فارق اللَّه، ومن فارقك يا علي فقد فارقني ج 2/ 93

يا عليُّ! هذا عهد ربّي تبارك وتعالي اليَّ وشرطه عليَّ وأمانته ج 3/ 457

يا عمّار! ان رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره ج 2/ 91

يا معشر المسلمين أُعزل عن نسخ المصاحف و يتولّاها رجل- واللَّه- ج 1/ 162

يأتي علي الناس زمان الصابر علي دينه كالقابض علي الجمر ج 2/ 490

يأتي علي الناس زمان يلعبون بها ج 3/ 282

يأتي علي الناس زمانٌ يلعبون بها، ولا يلعب بها الّا كلّ جبّار ج 2/ 232

يأتي عليك مع امداد أهل اليمن أويس بن عامر من مراد ثمّ قرن ج 1/ 196

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 543

يبعث اللَّه العلماء فيقول: انّي لم أضع علمي فيكم الّا لعلمي بكم ج 3/ 101

يجي ء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها اللَّه ج 1/ 363

يرحم اللَّه عمر، واللَّه ما حدّث رسول اللَّه انّ اللَّه ليعذّب المؤمن ببكاء ج 3/ 144

يعمل هذه الامّة برهة بالرأي، فاذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا ج 3/ 320

يكون بين الناس فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه علي الحق ج 2/ 89

يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد ج 3/ 19

يكونون قدرية ثمّ

يكونون زنادقة ثمّ يكونون مجوساً ج 3/ 14

يلقي ابراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلي وجه آزر قترة وغبرة ج 3/ 424

يلقي ابراهيم أباه فيقول: يا رب انّك وعدتني ألّا تخزني يوم يبعثون ج 2/ 413

يلي رجل من أهل بيتي يواطي ء اسمه اسمي ج 1/ 194

ينادي منادٍ يوم القيامة من تحت العرش ج 3/ 491

ينادي يوم القيامة لعليّ بن أبي طالب أربعة مناد ويسمّونه بأربعة أسماء ج 3/ 489

ينزل اللَّه تعالي في آخر ثلاث ساعات يبقين من اللّيل ج 1/ 234

يوشك أن تبقي حتّي تلقي ولداً لي من الحسين يقال له محمّد ج 1/ 20

يوم الخميس وما يوم الخميس ج 1/ 38

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 545

فهرس الأشعار … ص: 545

آمين آمين لا أرضي بواحدة حتّي اضيف إليها ألف آمينا ج 1/ 101

اخترت عاراً علي نار مؤجّجة أنّي يقوم لها خلق من الطّين ج 2/ 133

إذا وعد السرّاء أنجز وعده وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانعه ج 3/ 432

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها واغتيل أهلك لمّا اغتالك الترب ج 3/ 483

إنّ السري إذا سري فبنفسه وابن السرّي إذا سري أسراهما ج 1/ 103

إنّي اجِلّ قدرك أن اسمي مؤنته ومن كناك فقد سماك للعرب ج 1/ 199

إنّي لأكتم من علمي جواهره كي لا يري الحقّ ذوجهل فيفتننا ج 2/ 377

أضربكم ولو أري عليّاً عمّمته أبيض مشرفيّا ج 2/ 128

ألم تر أنّ اللَّه أعطاك سورة تري كلّ ملك دونها يتذبذب ج 1/ 279

أمرتهم أمري بمنعرج اللّوي فلم تبيّنوا الرشد إلّاضحي الغد ج 2/ 103

تحيّي بالسلامة ام بكر وهل لك بعد رهطك من سلام ج 2/ 503

ترك الامور التي يخشي عواقبها للَّه أجمل في الدنيا وفي الدين ج 2/ 133

خرقة خرقة

ترقَّ عين بقّة ج 3/ 467

دين النبيّ محمّد آثار نعم المطيّة للفتي الأخبار ج 3/ 358

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 546

سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس ج 3/ 274

فالشبل من ذاك الهِزَبر وإنّما تلد الاسود الضاريات اسودا ج 1/ 84

فجاءت كسن الظبي لم أر مثلها سناء فتيل أو حلوبة جائع ج 3/ 355

فلا تعدل بأهل البيت خلقاً فأهل البيت هم أهل السعاده ج 2/ 397

فلعنة ربّنا أعداد رملٍ علي من ردّ قول أبي حنيفة ج 3/ 389

فليس حياة الدين بالسيف والقنا فأقلام أهل العلم أمضي من السيف ج 1/ 98

فهذا الخلف الحجّة قد أيّده اللَّه هداه منهج الحقّ وآتاه سجاياه ج 1/ 192

قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكبر النوب ج 3/ 483

قسيم النار والجنّة عليٌّ سيّد الامّة ج 3/ 489

لا تغفلنّ عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار ج 3/ 358

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني ج 3/ 466

لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحاً شديداً لا كنطح الصورين ج 1/ 275

لمّا أتي خبر الزبير تواضعت سور المدينة ج 1/ 273

لم أر كاليوم أخا خوان أعجب من مكفّر الأيمان ج 2/ 134

لم تزل في ضمائر الكون تختار لك الامّهات والآباء ج 1/ 310

لو شهدت جمل مقامي ومشهدي بصفّين يوم شاب منها الذوائب ج 2/ 206

لولا ابن جعدة لم يفتح قهندركم ولا خراسان حتّي ينفخ الصور ج 1/ 268

ما آن للسّرداب أن يلد الذي كلّمتموه بجهلكم ما آنا ج 1/ 204

وإنّي إذا أوعدته أو وعدته لمخلف ميعادي ومنجز موعدي ج 3/ 432

وإن يك سيّرها مصعب فإنّي إلي مصعب متعب ج 2/ 171

وفي

حشوٍ مات كسوفان أظلما هما جهة وأحرف حاشا ابن حنبل ج 3/ 394

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 547

وقد رزينا بما لم يرزه أحد من البريّة لا عجم ولا عرب ج 3/ 483

وكاين بالقليب قليب بدر من الفتيان والشرب الكرام ج 2/ 507

ولربّما غلط الفتي سبل الهدي والشمس واضحة لها أنوار ج 3/ 358

ومن قوم إذا ذكروا عليّاً يفصّلون الصّلاة علي السحاب ج 2/ 295

هذي المزايا بعض ما حُلّي بها وحُبِي من الخيرات والبركات ج 2/ 441

هو البحر لا بل دون ما علمه البحر هو البدر لا بل دون طلعته البدر ج 1/ 84

يالك من قنبرة بمعمر خلا لك الجوّ فبيضي واصفري ج 2/ 139، 141

يخبرنا رسول اللَّه بأن سنحيي فكيف حياة أصلاء وهام ج 2/ 504

يعتق مكحولًا لصون دينه كفّارة للَّه عن يمينه ج 2/ 134

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 549

فهرس الأعلام المترجمين … ص: 549

ابان بن أبي عياش فيروز ج 1/ 427

ابراهيم بن بشار ج 3/ 77

ابراهيم بن عمر الصنعاني ج 1/ 430

ابراهيم بن محمّد الأسلمي ج 3/ 78

ابراهيم بن مهاجر ج 1/ 382

ابن أبي حازم ج 3/ 173

ابن أبي داود السجستاني ج 2/ 330

ابن أبي ذئب ج 3/ 172

ابن أبي شيبة ج 2/ 270

ابن الجزري الشافعي ج 2/ 394

ابن شهاب الزّهري ج 2/ 271

ابن شهرآشوب السروي ج 1/ 50

ابن عبدالبر ج 2/ 68

ابن عساكر ج 2/ 105

ابن معين ج 3/ 264

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 550

ابو إسرائيل الملائي ج 1/ 382

ابوالخطّاب عمر بن الحسن ابن دحية ج 2/ 391

ابوالعالية ج 2/ 239

ابوالفتح الكراجكي ج 1/ 49

ابوالفتح محمّد بن عبدالكريم بن أحمد الشهرستاني ج 1/ 210

ابو الفرج ابن الجوزي الحنبلي ج 1/ 414

ابوالوليد

أحمد بن عبدالرحمن البسري ج 3/ 81

ابو برزة الأسلمي ج 2/ 159

ابو بكر ابن أبي عاصم ج 3/ 373

ابو جعفر ابن بابويه ج 1/ 47

ابو جعفر الطوسي ج 1/ 49

ابو جعفر الكليني ج 1/ 46

ابو حفص ابن شاهين ج 2/ 13

ابو حمزة الثمالي ج 1/ 39

ابو حنيفة النعمان بن ثابت ج 3/ 205

ابو داود السجستاني ج 3/ 7

ابو سالم محمّد بن طلحة بن محمّد القرشي العدوي الشافعي ج 1/ 201

ابو صالح باذام ج 2/ 278

ابو عبدالرحمن محمّد بن الحسين السلمي الصوفي ج 2/ 349

ابو موسي الأشعري ج 2/ 67

ابو هريرة ج 2/ 181

ابيّ بن كعب ج 2/ 55

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 551

احمد بن إسماعيل، أبو حذافة السهمي ج 3/ 80

احمد بن حنبل ج 3/ 269

احمد بن صالح، أبو جعفر، المصري ج 3/ 61

احمد بن عبدالرحمن بن وهب ج 3/ 80

احمد بن محمّد بن أيّوب صاحب المغازي ج 3/ 81

احمد بن محمّد بن عبد ربّه ج 2/ 122

اسحاق بن راهويه ج 2/ 262

اسد بن عمرو ج 3/ 70

اسماعيل بن أبي أويس ج 3/ 81

اسماعيل بن حمّاد بن النعمان بن ثابت الكوفي ج 3/ 254

اسماعيل بن عبدالرحمان بن أبي ذئب ج 2/ 290

الأصبغ بن نباته ج 1/ 37

انس بن مالك ج 2/ 174

ايّوب بن جابر بن سيّار ج 3/ 82

بهاء الدين العاملي ج 2/ 9

ثابت بن موسي الضبّي ج 3/ 83

ثوبان بن إبراهيم ج 3/ 60

جابان ج 1/ 382

جابر بن يزيد الجعفي ج 1/ 40

جبارة بن المغلس ج 3/ 83

جعفر بن الزبير ج 3/ 84

جعفر بن سعد بن سمرة ج 3/ 9

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 552

جعفر بن محمّد بن علي ج

2/ 399

جمال الدين عطاء اللَّه ابن السيّد غياث الدين فضل اللَّه ج 1/ 187

جويبر بن سعيد ج 2/ 276

الحارث الهمداني ج 1/ 37

الحارث بن عمران ج 3/ 85

الحارث بن عمرو الثقفي ج 3/ 347

الحارث بن عمير البصري ج 3/ 86

الحاكم النّيسابوري ج 2/ 324

حبيب بن أبي حبيب المصري كاتب مالك بن أنس ج 3/ 86

الحسنُ البَصري ج 2/ 223

الحسن بن الحسين النوبختي ج 1/ 46

الحسن بن علي بن شبيب المعمري ج 3/ 73

الحسن بن عمارة الكوفي ج 3/ 87

الحسن بن محبوب السرّاد ج 1/ 45

الحسن بن مدرك الطحّان ج 3/ 88

حصين بن عمر الأحمسي ج 3/ 89

الحكم بن عبداللَّه، أبو مطيع البلخي ج 3/ 59

الحكم بن عبداللَّه بن خطّاف أبو سلمة ج 3/ 45

حمران بن أعين ج 1/ 43

حمزة بن أبي حمزة الجزري ج 3/ 89

حيدر علي الفيض آبادي ج 1/ 72، 73

خارجة بن مصعب ج 3/ 90

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 553

خالد بن عمرو القرشي ج 3/ 90

خالد بن يزيد الدمشقي ج 3/ 91

داود الزبرقاني الرقاشي ج 3/ 92

داود بن المحبر ج 3/ 93

داود بن علي بن خلف بن سليمان البغدادي الإصبهاني ج 3/ 373

الذهلي ج 2/ 380

روح بن عبادة ج 2/ 263

الزبير بن بكّار ج 3/ 67

زيد بن أسلم ج 2/ 247

زيد بن ثابت ج 2/ 59

السدّي الكبير ج 1/ 45- ج 2/ 290

السرّي بن إسماعيل الكوفي ج 3/ 94

سعد بن طريف الإسكاف ج 3/ 94

سعيد بن بشير ج 2/ 304

سعيد بن جبير ج 1/ 38

سعيد بن سنان الحمصي ج 3/ 95

سعيد بن عبدالجبّار الزبيدي ج 3/ 95

سفيان بن عيينة ج 2/ 254

سلم بن إبراهيم الوراق ج 3/ 96

سلم بن عبدالرحمن

النخعي ج 3/ 96

سليمان بن أبي كريمة ج 3/ 41

سليم بن قيس الهلالي ج 1/ 416

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 554

سُنيد بن داود ج 2/ 268

السيّد المرتضي ج 1/ 48

السيّد محمّد قلي ج 1/ 80

السيّد مير حامد حسين ج 1/ 79

السيّد ناصر حسين ج 1/ 103

سيف بن محمّد الكوفي ج 3/ 97

سيف بن هارون البرجمي ج 3/ 98

الشيخ المفيد ج 1/ 47

الشيخ زين العابدين المازندراني الحائري ج 1/ 101

الشيخ نصيرالدين الطوسي ج 1/ 51

صالح بن أبي الأخضر ج 3/ 98

صبّاح بن محمّد البجلي ج 3/ 99

الضحّاك بن مزاحم ج 2/ 241

ضرار بن صرد ج 3/ 99

طلحة بن زيد ج 3/ 99

عامر بن صالح بن عبداللَّه ج 3/ 101

عباد بن راشد البصري ج 3/ 102

عباد بن كثير الثقفي ج 3/ 102

عبدالحق بن سيف الدين الدهلوي ج 1/ 184

عبدالرحمان بن محمّد بن إدريس، ابن أبي حاتم، الحنظلي الرازي ج 2/ 320

عبدالرحمن بن أحمد الجامي ج 1/ 183

عبدالرحمن بن زيد بن أسلم ج 2/ 250

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 555

عبدالرحمن بن عبداللَّه بن عمر بن حفص ج 3/ 107

عبدالرحمن بن قيس الضبّي ج 3/ 108

عبدالرحمن بن هاني ج 3/ 108

عبدالرحيم بن زيد العمي ج 3/ 109

عبدالرحيم بن هارون الغساني ج 3/ 109

عبدالرزّاق بن همام ج 2/ 260

عبدالعزيز بن أبان ج 3/ 110

عبدالعزيز بن ماجشون ج 3/ 172

عبدالقادر بن محمّد بن محمّد ج 2/ 486

عبدالكريم بن أبي المخارق ج 1/ 382

عبدالكريم بن مالك الجزري ج 1/ 382

عبداللَّه بن إبراهيم الغفاري ج 3/ 103

عبداللَّه بن أبي أويس ج 3/ 107

عبداللَّه بن أبي نجيح ج 2/ 283

عبداللَّه بن الزبير ج 2/ 114

عبداللَّه بن خراش ج 3/ 103

عبداللَّه

بن زياد المخزومي ج 3/ 104

عبداللَّه بن سعيد المقبري ج 3/ 105

عبداللَّه بن شبرمة ج 3/ 352

عبداللَّه بن شريك العامري ج 3/ 105

عبداللَّه بن صالح أبو صالح كاتب الليث ج 3/ 106

عبداللَّه بن عمر ج 2/ 195

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 556

عبداللَّه بن عمرو بن العاص ج 2/ 205

عبداللَّه بن محمّد العدوي ج 3/ 106

عبداللَّه بن مسعود ج 2/ 31

عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري ج 2/ 109، ج 3/ 69

عبداللَّه بن معاذ الصنعاني ج 3/ 106

عبدالملك الأصمعي ج 3/ 110

عبدالوهاب بن الضحاك الحمصي العرضي ج 3/ 47، 111

عبدالوهّاب بن علي الشعراني ج 1/ 176

عبدالوهّاب بن مجاهد ج 3/ 111

عبد بن حميد ج 2/ 266

عبيداللَّه بن زجر ج 3/ 112

عبيداللَّه بن عبدالكريم، أبو زرعة الرازي ج 2/ 365

عبيداللَّه بن محمّد العبيدي الفرغاني، الحنفي ج 3/ 358

عبيد بن القاسم الأسدي ج 3/ 112

عثمان بن أبي شيبة ج 2/ 307

عثمان بن عبدالرحمن ج 3/ 113

عثمان بن فائد ج 3/ 114

عطاء بن أبي رباح ج 2/ 231

عطاء بن أبي سلمة الخراساني ج 2/ 237

عطاء بن عجلان ج 3/ 114

عطيّة بن سعد العوفي ج 2/ 242

عطيّة بن سفيان الثقفي ج 3/ 115

عكرمة مولي ابن عبّاس ج 2/ 216، ج 3/ 115

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 557

العلّامة الحلّي ج 1/ 52

العلاء بن خالد الواسطي ج 3/ 115

العلاء بن زيد الثقفي ج 3/ 116

العلاء بن مسلمة بن عثمان ج 3/ 116

علي بن أبي طلحة ج 2/ 298

علي بن المجاهد الكابلي ج 3/ 117

علي بن المديني ج 2/ 364

علي بن عبداللَّه بن جعفر بن الحسن، الحافظ ج 2/ 364

علي بن محمّد المالكي المكي ج 1/ 191

عماد الدين حفيد

برهان الدين صاحب الهداية ج 2/ 41

عمارة بن جوين العبدي ج 3/ 117

عمر بن صبح الخراساني ج 3/ 119

عمر بن هارون البلخي ج 3/ 120

عمرو بن جابر أبو زرعة الحضرمي ج 3/ 121

عمرو بن خالد القرشي ج 3/ 121

عمرو بن واقد الدمشقي ج 3/ 122

عنبسة بن عبدالرحمن ج 3/ 123

عيسي بن أبان ج 2/ 192

عيسي بن ميمون ج 2/ 285

الفخر ابن الخطيب صاحب التصانيف ج 2/ 345

الفضل بن عيسي بن أبان الرقاشي ج 3/ 38

قاسم بن عبداللَّه بن عمر ج 3/ 123

قتادة بن دعامة السدوسي ج 2/ 244

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 558

القطّان ج 2/ 402

القفّال المروزي ج 3/ 210

كثير بن عبداللَّه بن عمرو ج 3/ 124

كميل بن زياد ج 1/ 38

ليث بن أبي سليم ج 2/ 280

مالك بن أنس ج 3/ 169

مبارك بن حسان ج 3/ 127

مبشّر بن عبيد الحمصي ج 3/ 131

مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني ج 2/ 399

مجاهد بن جبر ج 2/ 213

محمّد بن إبراهيم بن المنذر، أبوبكر النيسابوري ج 2/ 329

محمّد بن أحمد بن أيّوب بن الصّلت بن شنبوذ ج 2/ 55

محمّد بن إدريس أبو حاتم الرازي ج 2/ 373

محمّد بن إدريس الشافعي ج 3/ 263

محمّد بن إسحاق بن عكاشة ج 3/ 126

محمّد بن إسحاق صاحب السيرة ج 3/ 65

محمّد بن الحسن الهمداني ج 3/ 127

محمّد بن الحسن بن محمّد بن زياد بن هارون أبو بكر النقّاش ج 2/ 334

محمّد بن السّائب الكلبي ج 2/ 294

محمّد بن الفرات ج 3/ 125

محمّد بن الفضل بن عطيّة المروزي ج 3/ 130

محمّد بن بشّار- بندار ج 3/ 126

محمّد بن جرير الطبري ج 2/ 314

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 559

محمّد

بن حسن بن زبالة ج 3/ 124

محمّد بن حميد بن حبان الرازي ج 3/ 128

محمّد بن خالد الواسطي ج 3/ 128

محمّد بن سعيد المصلوب ج 3/ 129

محمّد بن عبدالرحمن القشيري ج 3/ 125

محمّد بن عبداللَّه بن أبي سبره ج 3/ 130

محمّد بن عبداللَّه بن عبدالحكم ج 3/ 72

محمّد بن عثمان بن أبي شيبة ج 3/ 66

محمّد بن عمر الواقدي ج 3/ 63

محمّد بن محمّد بن محمود البخاري المعروف بخواجة پارسا ج 1/ 182

محمّد بن مسلم ج 1/ 41

محمّد بن يزيد بن ماجة الربعي ج 3/ 35

محمّد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي ج 1/ 188

محمّد بن يوسف بن واقد، أبو عبداللَّه الفريابي ج 2/ 306

محيي الدين أبو محمّد بن أبي الوفا القرشي ج 2/ 486

مُرّة بن شراحيل ج 2/ 249

معاوية بن عمّار ج 1/ 42

معروف بن خرّبوذ ج 1/ 44

معلّي بن عبدالرحمن الواسطي ج 3/ 131

مقاتل بن حيّان ج 2/ 286

مقاتل بن سليمان ج 1/ 222- ج 2/ 288- ج 3/ 132

مقاتل بن سليمان الخراساني ج 1/ 222

موسي بن عبدالعزيز ج 3/ 12

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 560

الميرزا حسين النوري ج 1/ 99

مينا بن أبي مينا ج 3/ 132

نصر بن حمّاد الورّاق ج 3/ 132

نضر بن كثير، أبو سهل البصري ج 3/ 133

نعيم بن حمّاد ج 1/ 222- ج 3/ 66

نفيع بن الحارث النخعي، أبو داود الأعمي ج 3/ 133

نوح بن أبي مريم ج 3/ 135

نهشل بن سعيد الورداني ج 3/ 134

وكيع بن الجرّاح ج 2/ 258

وليّ اللَّه عبدالرحيم الدهلوي ج 1/ 203

الوليد بن عبداللَّه الهمداني ج 3/ 136

الوليد بن محمّد الموقري صاحب الزهري ج 3/ 136

هارون بن هارون ج 3/ 135

هبة اللَّه بن

الحسين بن هبة اللَّه بن رطبة السواري ج 3/ 371

هشام بن الحكم ج 1/ 41

يحيي بن العلاء البجلّي ج 3/ 137

يحيي بن عمرو بن مالك النكري ج 3/ 137

يزيد بن عياض ج 3/ 138

يعقوب بن الوليد ج 3/ 138

يوسف بن إبراهيم التميمي ج 3/ 139

يوسف بن عبداللَّه ج 2/ 68

يوسف سبط أبي الفرج ابن الجوزي ج 1/ 189، 414

يونس بن حباب الأسدي ج 3/ 139

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 561

فهرس مصادر الكتاب … ص: 561

1- آكام المرجان في أحكام الجان، للشبلي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408.

2- اتحاف الوري بأخبار امّ القري، لابن فهد المكّي.

3- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، منشورات مكتبة الشريف الرضي، قم 1363 ه. ش.

4- الاحتجاج علي أهل اللجاج، للطبرسي، مطبعة الباقري، قم، 1413.

5- احسن الوديعة في تراجم أشهر مشاهير الشيعة، للسيد محمد مهدي الإصفهاني، النجف الأشرف.

6- احكام القرآن، لأبي بكر الجصّاص، دار الفكر، بيروت.

7- احياء علوم الدين، للغزالي، دار الندوة الجديدة، بيروت.

8- اخبار أصبهان، لأبي نعيم الإصفهاني، ليدن 1934 م.

9- اختيار معرفة الرجال/ رجال الكشي، للشيخ الطوسي، جامعة الإلهيات والمعارف الإسلامية، مشهد، إيران.

10- الأربعين في إمامة أمير المؤمنين، لجمال الدين المحدّث الشيرازي، مطبعة الأمير 1418.

11- ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري، لشهاب الدين القسطلاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

12- ازالة الخفا في سيرة الخلفا، لولي اللَّه الدهلوي، لاهور پاكستان 1396.

13- الإستذكار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، لابن عبد البر، مؤسّسة الرسالة، القاهرة، 1413.

14- الإستيعاب في معرفة الاصحاب، لابن عبد البر، دار الجيل، بيروت، 1412.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 562

15- اسد الغابة في معرفة الصّحابة، لابن الأثير، دار الفكر، بيروت، 1409.

16- اسرار التنزيل، للفخر الرازي، دار واسط، العراق.

17- الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة، لعلي

القاري، المكتب الإسلامي، بيروت 1406. اً

18- الأسماء والصفات، لأبي بكر البيهقي، دار الجيل، بيروت.

19- اسني المطالب بمناقب علي بن أبي طالب، لابن الجزري، مكتبة أمير المؤمنين (ع)، إصفهان.

20- الأشباه والنظائر، لابن نجيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406.

21- الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، بيروت.

22- الاصول، لشمس الدين السرخسي، دار المعرفة، بيروت.

23- اصول الفقه (متن كشف الأسرار)، للبزدوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418.

24- الأعلام، لخير الدين الزركلي، ار العلم للملايين، بيروت 1984 م.

25- الإعلام بسيرة النبي عليه السلام، للزرندي، مخطوط.

26- اعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين العاملي، دار التعارف، بيروت 1403.

27- الاكتفاء في مناقب الخلفاء، للوصّابي اليمني، مخطوط.

28- الإكمال في الرجال، لابن ماكولا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411.

29- الإمامة والسياسة، لابن قتيبة، مؤسّسة الوفاء، بيروت، 1401.

30- انباء الغمر بأبناء العمر، لابن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية 1406.

31- الأنساب، لأبي سعد السمعاني، دار الفكر، بيروت، 1419.

32- انساب الأشراف، للبلاذري، مؤسّسة الأعلمي، بيروت.

33- انسان العيون في سيرة الأمين والمأمون/ السيرة الحلبية، لنور الدين الحلبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

34- الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، لوليّ اللَّه الدهلوي، دار النفائس، بيروت 1414.

35- انوار التنزيل، تفسير، للبيضاوي البابي الحلبي، 1388.

36- الأوائل، لأبي هلال العسكري، دار الكتب العلمية، بيروت 1407.

37- بحر العلوم/ تفسير، لأبي الليث السمرقندي، دار الكتب العلمية، بيروت 1413.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 563

38- بحار الأنوار من أخبار الأئمة الأطهار، للشيخ محمد باقر المجلسي، مؤسّسة الوفاء، بيروت 1403.

39- البحر الرائق في شرح كنز الدقائق، لابن نجيم، المطبعة العربية، لاهور.

40- البداية والنهاية، تاريخ، لابن كثير، دار الفكر، بيروت، 1402.

41- البدور السافرة عن امور الآخرة، للسيوطي، مؤسّسة الكتب الثقافية، بيروت 1411.

42- البرهان في تفسير القرآن، للسيد

هاشم البحراني، مؤسّسة البعثة، قم.

43- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي، دار الفكر، بيروت، 1399.

44- البيان في أخبار صاحب الزمان، للكنجي الشافعي، ط مع كفاية الطالب، دار إحياء تراث أهل البيت، طهران 1404.

45- تاج العروس في شرح القاموس للزبيدي، دار صادر، بيروت.

46- تاريخ الإسلام، للذهبي، دار الكتاب العربي، بيروت 1990 م.

47- تاريخ الامم والملوك، للطبري، دار سويدان، بيروت، 1387.

48- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت.

49- تاريخ الخلفاء، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408.

50- تاريخ الخميس، للديار بكري، مؤسّسة شعبان للنشر والتوزيع، بيروت.

51- تاريخ دمشق، لابن عساكر، دار الفكر، بيروت 1416.

52- التاريخ الصغير، للبخاري، دار المعرفة، بيروت، 1406.

53- التاريخ الكبير، للبخاري، دار الفكر العربي، بيروت 1407.

54- تاريخ الكوفة، للسيد حسين البراقي، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف.

55- تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، للسيد حسن الصدر، الأعلمي، بيروت.

56- تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405.

57- تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، المكتبة العلمية، المدينة المنورة 1401، المكتبة العلمية، بيروت 1404.

58- تبيين الحقائق في شرح كنز الدقائق، للزيلعي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1420.

59- تحصيل الكمال/ أسماء رجال المشكاة، لعبد الحق الدهلوي، ط مع شرح استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 564

المشكاة، بالهند.

60- التحفة الاثني عشرية، لعبد العزيز الدهلوي، لاهور، پاكستان.

61- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت 1399.

62- تذكرة الحفاظ، للذهبي، دار احياء التراث العربي، بيروت.

63- تذكرة الموضوعات، لمحمد طاهر الهندي، دار إحياء التراث العربي، 1415.

64- تذكرة خواص الامّة في معرفة الأئمة، لسبط ابن الجوزي، مؤسّسة أهل البيت، بيروت، 1401.

65- التذكرة في أحوال الموتي وامور الآخرة، للقرطبي، دار الفكر، بيروت، 1405.

66- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، للمنذري، دار الفكر، بيروت، 1401.

67-

تصحيح الاعتقاد، للشيخ المفيد البغدادي، (ضمن مصنفات الشيخ المفيد) المؤتمر العالمي، قم 1413.

68- تطهير الجنان واللسان، لابن حجر المكّي، شركة الطباعة الفنية، القاهرة 1385.

69- التفسير لعلي بن إبراهيم القمي، دار الكتاب، قم 1404.

70- التفسير المنسوب إلي الإمام العسكري، مدرسة الامام المهدي (ع)، قم.

71- تفسير الجلالين، مصطفي البابي الحلبي، مصر، 1388.

72- تفسير القرآن، للعيّاشي، المكتبة العلمية الاسلامية، طهران.

73- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، دار طيبة، الرياض، 1418.

74- تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، 1417.

75- التقييد والإيضاح لما اطلق أو اغلق من كتاب ابن الصّلاح، للزين العراقي، مؤسّسة الكتب الثقافية، بيروت 1418.

76- تكملة نجوم السماء، للكشميري، مكتبة البصيرتي، قم.

77- تلبيس إبليس، لابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414.

78- التلويح في شرح التوضيح، دار الأرقم، بيروت، 1419.

79- التمهيد في بيان التوحيد، للكشي الحنفي، كابل، أفغانستان.

80- تنبيه الغافلين، دار ابن كثير، دمشق، 1415.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 565

81- تنزيه الأنبياء والأئمة، للسيد المرتضي الموسوي، مكتبة الشريف الرضي، قم.

82- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لابن عرّاق الكناني، دار الكتب العلمية، بيروت 1401.

83- التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح، للبدر الزركشي، مكتبة الرشد 1424.

84- التوشيح في شرح الجامع الصحيح، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت 1420.

85- تهافت الفلاسفة، للغزالي، دار المشرق، بيروت، 1990 م.

86- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1364.

87- تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، دار الكتب العلمية، بيروت.

88- تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، دار الفكر بيروت، 1405.

89- تهذيب الكمال للمزي، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1405.

90- جامع الأحاديث، للسيوطي، دار الفكر، بيروت 1414.

91- الجامع لأحكام القرآن/ تفسير، للقرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت 1408.

92- جامع الاصول، لابن الأثير، دار الفكر، بيروت، 1403.

93- الجامع الصحيح، للترمذي، دار إحياء التراث

العربي، بيروت.

94- الجامع الصغير، للسيوطي، دار الفكر، بيروت 1401.

95- جامع مسانيد أبي حنيفة، للخوارزمي، دار الكتب العلمية، بيروت.

96- الجمع بين الصحيحين، للحميدي، دار ابن حزم، بيروت، 1419.

97- جوامع الجامع، تفسير، لأبي علي الطبرسي، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1420.

98- جواهر العقدين في فضل الشرفين، السمهودي، مطبعة العاني، بغداد، 1405.

99- الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة، لعبد القادر القرشي، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1413.

100- حاشية علي الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستة، للبدخشاني، مخطوط.

101- حجة اللَّه البالغة، لوليّ اللَّه الدهلوي، المكتبة السلفية، لاهور پاكستان.

102- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، للشيخ يوسف البحراني، دار الكتب الاسلامية، قم، 1378.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 566

103- حسن المحاضرة بمحاسن مصر والقاهرة، للسيوطي، عيسي البابي، القاهرة.

104- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الإصفهاني، دار الكتب العربي، بيروت، ط 4، 1405 ه.

105- حياة الحيوان، للدميري، منشورات مكتبة الشريف الرضي، قم، 1406.

106- خصائص علي، للنسائي، دار الثقلين للطباعة والنشر، قم، 1419.

107- الخصال، للشيخ أبي جعفر ابن بابويه الصدوق القمي، منشورات جماعة المدرسين، قم.

108- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للمحبّي، دار صادر، بيروت.

109- خلاصة الأقوال في علم الرجال، للعلّامة الحلي، المطبعة الحيدرية، النجف، 1381.

110- الدر المختار، للحصكفي الحنفي، 1302.

111- الدر المصون، تفسير، لابن السّمين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414.

112- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، دار الفكر، بيروت 1403.

113- الدرج المنيفة في الآباء الشريفة (ضمن الرسائل العشر)، لجلال الدين السيوطي، حيدرآباد 1334.

114- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر العسقلاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

115- دلائل الصدق، للمظفر، دار المعلّم للطباعة، القاهرة 1396.

116- ذكري الشيعة في أحكام الشريعة، للشيخ محمد بن مكي الشهيد الأول، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1419.

117-

ربيع الأبرار، للزمخشري، منشورات مكتبة الشريف الرضي، قم، 1410.

118- الرجال، للشيخ أبي جعفر الطوسي، المطبعة الحيدرية، النجف.

119- الرجال، لأبي العباس النجاشي، منشورات جماعة المدرسين، قم.

120- رسالة الردّ علي الرّافضة، ليوسف الواسطي، مخطوط.

121- الروض الانف، شرح سيرة ابن هشام، لأبي القاسم السهيلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1412.

122- روض المناظر/ تاريخ، لابن الشحنة الحنفي، ط مع مروج الذهب 1303.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 567

123- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، للشيخ محمد تقي المجلسي، المطبعة العلمية، قم، 1399.

124- الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة، للمحبّ الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت.

125- ريحانة الأدب في المعروفين بالكنية واللقب، للشيخ التبريزي، طهران.

126- زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيّم، دار الفكر، بيروت، مؤسّسة الرسالة ومكتبة المنار الاسلامية 1408.

127- زين الفتي في تفسير سورة هل أتي للعاصمي، مجمع إحياء الثقافة الاسلامية، قم 1418.

128- سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد، للصالحي الدمشقي، دار الكتب العلمية، بيروت 1414.

129- السرائر في الفقه، لابن إدريس الحلّي، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1411.

130- السراج المنير في شرح الجامع الصغير، لعلي العزيزي، دار الفكر بيروت.

131- سرّ العالمين، (مجموعة رسائل الإمام الغزالي) دار الكتب العلمية، بيروت، 1409.

132- السنن، لأبي داود، دار ابن حزم، بيروت، 1418.

133- السنن، للنسائي، دار الفكر، بيروت، 1348.

134- السنن، لابن ماجة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419.

135- السنن، للدارقطني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة، 1386.

136- السنن الكبري، للبيهقي، دار الفكر بيروت.

137- سير أعلام النبلاء للذهبي، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1405.

138- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، دار ابن كثير، بيروت 1406.

139- شرح الأشباه والنظائر، للحموي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405.

140- شرح الألفية في الحديث/ فتح المغيث، للزين العراقي،

مكتبة السنّة، القاهرة 1408.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 568

141- شرح السنّة، للبغوي، دار الفكر، بيروت، 1414.

142- شرح العقائد العضدية، للدواني، ط في كتاب (الشيخ محمد عبدة بين الفلاسفة والمتكلّمين، بتعاليق الدكتور سليمان دنيا) دار إحياء الكتب العربية، عيسي البابي الحلبي، القاهرة 1377.

143- شرح الفقه الأكبر، لعلي القاري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1416.

144- شرح المصابيح، للتوربشتي، مخطوط.

145- شرح المواقف في علم الكلام، للجرجاني، مطبعة السعادة، القاهرة، 1325.

146- شرح المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للزرقاني المالكي، دار المعرفة، بيروت 1414.

147- شرح الموطّأ، للزرقاني المالكي، دار المعرفة، بيروت 1409.

148- شرح تجريد الاعتقاد، للقوشجي، حجري، ايران.

149- شرح شرح نخبة الفكر، لأبي علي القالي، دار الأرقم، بيروت.

150- شرح مختصر ابن الحاجب في علم الاصول، للإيجي، مطبعة حسن حلمي، 1307.

151- شرح نخبة الفكر/ نزهة النظر، لابن حجر العسقلاني، دار الخير، 1414.

152- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1378.

153- الشفا بتعريف حقوق المصطفي، للقاضي عياض، مؤسّسة علوم القرآن، دار الفيحاء، عمان، 1407.

154- شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور، للشيخ أبي الفضل الطهراني، قم.

155- الصافي في تفسير القرآن، للشيخ محمد محسن الكاشاني، مؤسّسة الأعلمي، بيروت.

156- صحاح اللغة وتاج العربية، للجوهري، دار العلم للملايين، بيروت، 1407.

157- الصحيح، لمسلم بن الحجاج، دار الفكر، بيروت، 1398.

158- الصحيح، للبخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

159- صفة الصفوة لابن الجوزي، دار المعرفة، بيروت 1406.

160- الصواعق المحرقة، لابن حجر المكي، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1417.

161- الصواقع الموبقة، لنصر اللَّه الكابلي، مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 569

162- الضعفاء الكبير، لأبي جعفر العقيلي، دار الكتب العلمية، بيروت 1404.

163- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للسخاوي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.

164- طبقات الشافعية، للأسنوي، دار الكتب العلمية، بيروت،

1407.

165- طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة الأسدي، عالم الكتب، بيروت 1407.

166- طبقات الشافعية الكبري، للسبكي، دار إحياء الكتب العربية، بيروت.

167- الطبقات الكبري، لابن سعد كاتب الواقدي، دار صادر، بيروت.

168- طبقات أعلام الشيعة، للشيخ آغا بزرگ الطهراني، دار الكتاب العربي، بيروت 1390.

169- العبر في خبر من غبر، للذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405.

170- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، للفاسي المكي، مؤسّسة الرسالة، بيروت 1406.

171- العقد الفريد، لابن عبد ربّه، دار الكتاب العربي، بيروت، 1403.

172- علوم الحديث، مقدمة ابن الصلاح، مكتبة الفارابي، جامعة دمشق، 1404.

173- عمدة القاري في شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني الحنفي، دار الفكر، بيروت.

174- العناية في شرح الهداية، للبابرتي، ط مع فتح القدير لابن الهمام.

175- العواصم من القواصم، لابن العربي المالكي، بتعاليق محب الدين الخطيب، القاهرة.

176- عيون الأثر في المغازي والسير، لابن سيّد الناس، مكتبة دار التراث المدينة المنورة، دار ابن كثير، دمشق، 1413.

177- عيون أخبار الرضا، لأبي جعفر ابن بابويه الصدوق القمي، انتشارات جهان، طهران.

178- غاية النهاية في طبقات القرّاء، لابن الجزري، مكتبة الخانجي، القاهرة 1351.

179- الغدير في الكتاب والسنة والأدب، للشيخ عبد الحسين الأميني، مركز الغدير للراسات الاسلامية، قم.

180- غرائب القرآن، تفسير، لنظام الدين النيسابوري، دار الكتب العلمية،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 570

بيروت، 1416.

181- غرر الفوائد ودرر القلائد/ الأمالي للسيد المرتضي دار الكتاب العربي، بيروت، 1387 ه.

182- غريب القرآن، للسجستاني، دار طلاب، دمشق، 1993 م.

183- الفائق في غريب الحديث، للزمخشري، دار المعرفة، بيروت.

184- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

185- فتح الباقي في شرح ألفيّة العراقي، دار الكتب العلمية، بيروت.

186- فتح القدير في الفقه الحنفي، لابن الهمام الحنفي، دار إحياء

التراث العربي.

187- فتح القدير/ تفسير، للشوكاني عالم الكتب، بيروت.

188- الفتوحات المكية، لابن عربي الاندلسي.

189- الفرج بعد الشدّة، للتنوخي، منشورات مكتبة الشريف الرضي، قم، 1364 ه ش.

190- فردوس الأخبار، للديلمي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407.

191- الفصول الغروية في الاصول الفقهية، للشيخ محمد حسين الاصفهاني الحائري، حجري، ايران.

192- الفصول المهمة في أصول الأئمة، للشيخ الحرّ العاملي، مؤسّسة المعارف الإسلامية للإمام الرضا، ايران، 1418.

193- الفصول المهمة في معرفة الأئمة، لابن الصبّاغ المالكي، دار الأضواء، بيروت 1409.

194- الفضل الجلي في ترجمة السيد محمد قلي، للسيد صدر الأفاضل، مقدّمة تشييد المطاعن، ط پاكستان.

195- الفوائد الرضوية بترجمة علماء الإمامية، للشيخ عباس القمي، إيران.

196- فوات الوفيات، لمحمد بن شاكر الكتبي، دار صادر، بيروت 1973 م.

197- فواتح الرحموت، شرح مسلّم الثبوت للأنصاري الهندي، ط مع المستصفي للغزالي.

198- الفهرست، لأبي جعفر الطوسي، مؤسّسة نشر الفقاهة، قم، 1417.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 571

199- الفهرست، للنديم، مطبعة مروي، طهران.

200- فيض القدير في شرح الجامع الصغير، للمناوي، دار الفكر، بيروت، 1391.

201- قاموس الرجال، للشيخ محمد تقي التستري، منشورات جماعة المدرسين، قم.

202- الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستة، للذهبي، دار الفكر، بيروت، 1418.

203- الكافي، لأبي جعفر الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1391.

204- كامل الزيارات، للشيخ ابن قولويه، النجف الأشرف 1356.

205- الكامل في الضعفاء لابن عدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1418 ه، 1997 م.

206- كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار، للكفوي، مخطوط.

207- كتاب الآثار، لمحمد بن الحسن الشيباني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413.

208- كتاب الإختصاص، للشيخ المفيد البغدادي، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف.

209- كتاب الألف والباء في المحاضرات، للبلوي، عالم الكتب، بيروت 1405.

210- كتاب الأمالي، لأبي جعفر ابن بابويه الصدوق القمي، مؤسّسة البعثة،

قم 1417.

211- كتاب الأمالي، للشيخ الطوسي، مؤسّسة البعثة، قم 1414.

212- كتاب التوحيد، لأبي جعفر ابن بابويه القمّي الملقب بالصدوق، مكتبة الصدوق، طهران.

213- كتاب الثقات، لابن حبان، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، 1393.

214- كتاب الخراج، للقاضي أبي يوسف، دار المعرفة، بيروت، 1399.

215- كتاب الغيبة، للشيخ أبي جعفر الطوسي، مؤسّسة المعارف الاسلامية، قم 1411.

216- كتاب سليم بن قيس الهلالي، مطبعة الهادي، قم، 1415.

217- الكشاف في تفسير القرآن، للزمخشري، دار العبيكان، الرياض، 1418.

218- كشف الأسرار، شرح أصول البزدوي، لعبد العزيز البخاري، دار الكتاب العربي، بيروت، 1418.

219- كشف الحجب والأستار عن الكتب والأسفار، للسيد إعجاز حسين الكنتوري، منشورات مكتبة السيد المرعشي، قم.

220- كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون، لحاج خليفة، دار إحياء التراث العربي،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 572

بيروت.

221- كشف الغمة في معرفة الأئمة، للشيخ الإربلي، ار الأضواء، بيروت 1405.

222- كشف اللبس في حديث ردّ الشمس، للسيوطي.

223- الكشف والبيان، تفسير، لأبي إسحاق الثعلبي، دار احياء التراث العربي.

224- كفاية المتطلّع، لتاج الدين الدهّان، مخطوط.

225- الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1409.

226- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، لعلي المتقي الهندي، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1405.

227- كنوز الحقائق، للمناوي البابي الحلبي، القاهرة.

228- الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، للكرماني، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1401.

229- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، دار المعرفة، بيروت، 1403.

230- اللباب في علوم الكتاب، تفسير، لعمر بن عادل الحنبلي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419.

231- لسان الميزان لابن حجر العسقلاني، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1416 ه.

232- لواقح الأنوار في طبقات الأخيار، للشعراني، ار العلم للجميع، القاهرة 1374.

233- المآثر والآثار بترجمة رجال دولة القاجار، طهران.

234- مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل

ولطائف الأخبار، لمحمد طاهر الفتني الهندي.

235- مجمع البيان في تفسير القرآن، لأبي علي الطبرسي، رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية، طهران، 1417.

236- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لأبي بكر الهيثمي، دار الكتب العلمية، بيروت 1408.

237- مجمع الوسائل في شرح الشمائل، للقاري، دار المعرفة، بيروت.

238- مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 573

239- محاضرات الأدباء، للراغب الإصفهاني، مكتبة الشريف الرضي، قم.

240- المحتضر، للشيخ حسن بن سليمان الحلّي، مكتبة الشريف الرضي، قم.

241- المحلّي في الفقه، لابن حزم الاندلسي، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

242- مختصر التحفة الاثني عشر، للآلوسي، المكتبة السلفية، القارهة 1373.

243- مدارج النبوّة، للشيخ عبد الحق الدهلوي، طبعة الهند.

244- مدارك التنزيل، تفسير، للنسفي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415.

245- مرآة الجنان وعبرة اليقظان، لليافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417.

246- المراجعات، للسيد عبد الحسين شرف الدين، قم.

247- مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح، للقاري، دار الفكر، بيروت، 1414.

248- مروج الذهب، للمسعودي، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1966 م.

249- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، للشيخ النوري الطبرسي، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، قم ايران.

250- المستدرك علي الصحيحين، للحاكم النيسابوري، دارالفكر، بيروت، 1398.

251- المستصفي في علم الاصول، للغزالي، مكتبة الشريف الرضي، قم.

252- المستظرف من كلّ فنٍ مستطرف، للابشيهي، دار إحياء التراث العربي.

253- المستكفي في أسماء النبي المصطفي، لابن دحية الاندلسي، مخطوط.

254- المسند، لأحمد بن حنبل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1414.

255- المسند، لأبي يعلي الموصلي، دار الثقافة العربية، دمشق 1412.

256- مشارق الأنوار علي صحاح الآثار، للقاضي عياض، دار الفكر 1418.

257- مشرق الشمسين، للشيخ بهاء الدين العاملي، ط حجري، ايران.

258- مصباح السنة، للبغوي، دار المعرفة، بيروت 1407.

259- مصفي المقال في مصنّفي علم الرجال، للشيخ آغا بزرگ الطهراني، النجف الأشرف.

260-

المصنف، لابن أبي شيبة، الدار السلفية، بومباي، الهند.

261- مطالب السئول في مناقب آل الرسول، لابن طلحة الشافعي، مؤسّسة البلاغ، بيروت، 1419.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 574

262- المعارف، لابن قتيبة، منشورات مكتبة الشريف الرضي، قم، 1415.

263- معالم التنزيل، تفسير، للبغوي، دار الفكر، بيروت، 1405.

264- معالم السنن، للخطابي، دار الكتب العلمية 1416.

265- معاني الأخبار، لأبي جعفر ابن بابويه الصدوق القمي، دار المعرفة، بيروت، 1399.

266- معجم الادباء، لياقوت الحموي، دار الفكر، بيروت، 1400.

267- المعجم الأوسط، للطبراني، دار الحديث، القاهرة، 1417.

268- معجم الشيوخ، للذهبي، مكتبة الصديق، الطائف، 1408.

269- المعجم الكبير، للطبراني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1414.

270- المعجم المختص، للذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413.

271- معجم المؤلفين، لعمر رضا كحّالة، دار الكتب العلمية، بيروت 1957 م.

272- معجم رجال الفكر والأدب منذ ألف عام في النجف الأشرف، للشيخ محمد هادي الأميني، النجف الأشرف.

273- المغني في الضعفاء، للذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418.

274- مفاتيح الاصول، للسيد محمد المجاهد الطباطبائي، حجري، ايران.

275- مفاتيح الغيب، تفسير، للفخر الرازي، المطبعة البهيّة المصرية، بالقاهرة.

276- المفاتيح في شرح المصابيح، للخلخالي، مخطوط.

277- مفتاح النجا في مناقب آل العبا، للبدخشاني، مخطوط.

278- مفتاح كنز دراية المسموع، لتاج الدين الدّهان، مخطوط.

279- المفهم في شرح صحيح مسلم، للقرطبي، دار ابن كثير ودار الكلب الطيّب 1417.

280- المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة علي الألسنة، للسخاوي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1417.

281- المقنع، لأبي عمرو الداني، دار الفكر، دمشق، 1403.

282- المكاشفات، حاشية نفحات الانس، للمودودي.

283- الملل والنحل للشهرستاني، دار المعرفة، بيروت.

284- مناقب آل أبي طالب، لابن شهر آشوب، دار الأضواء، بيروت، 1412.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 575

285- مناقب الإمام الشافعي، للفخر الرازي، الكلّيات الازهرية، القاهرة 1406.

286- المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور،

لعبد الغافر الفارسي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1409.

287- المنتظم في تاريخ الأمم، لابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412.

288- منتهي المقال في علم الرجال، لأبي علي الحائري، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1416.

289- المنح المكيّة، شرح القصيدة الهمزية، لابن حجر المكي، المطبعة البهية، مصر 1304.

290- المنخول في علم الاصول، للغزالي، دار الفكر، دمشق، 1400.

291- منهاج السنة النبوية، لابن تيميّة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1420.

292- منهاج العابدين إلي الجنة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1409.

293- المنهاج في شرح صحيح مسلم الحجاج، للنووي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407.

294- منهج المقال في علم الرجال، للإسترابادي، الطبعة الحجرية، ايران.

295- المنهل الرويّ في علم اصول حديث النبي، لابن جماعة، دار الفكر، دمشق، 1406.

296- المواقف في علم الكلام، للقاضي الإيجي، دار الجيل، بيروت 1417.

297- المواهب اللدنيّة بالمنح المحمدية، لشهاب الدين القسطلاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1416.

298- مودة القربي، للسيّد علي الهمداني، موجود في ينابيع المودّة.

299- الموضوعات، لابن الجوزي، دار الفكر، بيروت، 1421.

300- الموطّأ، لمالك بن أنس، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بتعاليق محمد فؤاد عبد الباقي، 1370.

301- الميزان، للشعراني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418.

302- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، دار المعرفة، بيروت.

303- الناسخ والمنسوخ، للنحّاس، مؤسّسة الكتب الثقافية، بيروت 1409.

304- نزل الأبرار بما صحّ من مناقب أهل البيت الأطهار، للبدخشاني، شركة الكتبي،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 3، ص: 576

بيروت 1413.

305- نزهة الخواطر، للندوي الهندي، حيدرآباد، الهند، 1382.

306- نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض، للخفاجي، دار الفكر، بيروت.

307- نظم درر السمطين، للزرندي، مكتبة نينوي طهران.

308- نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار، للسيد علي الميلاني، قم.

309- نوادر الاصول، للحكيم الترمذي، دار الجيل، بيروت، 1412.

310- نهاية العقول، للفخر الرازي، مخطوط.

311- النهاية

في غريب الحديث، لابن الأثير، دار الكتب العلمية، بيروت.

312- نهج الحق وكشف الصدق، للعلّامة الحلي، دار الهجرة، قم.

313- الوافي، للشيخ محمد محسن الكاشاني، مكتبة الإمام أمير المؤمنين، اصفهان، 1406.

314- الوافي بالوفيات، للصفدي، دار النشر فرانزشتايز، 1962 م.

315- وسائل الشيعة في مسائل الشريعة، للشيخ الحرّ العاملي، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، قم ايران.

316- وفيات الأعيان لابن خلكان، دار صادر، بيروت، 1398.

317- هداية الأبرار، للشيخ حسين العاملي، بغداد، 1977 م.

318- هداية السعداء، لملك العلماء الهندي، مخطوط.

319- الهداية في الفقه، للمرغيناني، شركة ومكتبة البابي الحلبي وأولاده بمصر.

320- هدي الساري، مقدمة فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

321- هدية الأحباب في المعروفين بالكني والألقاب، للشيخ عباس القمي، طهران.

322- هدية العارفين في أسماء المصنفين، لإسماعيل باشا، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

323- ينابيع المودة لذوي القربي، للقندوزي الحنفي، دار الاسوة، قم 1416.

324- اليواقيت والجواهر، للشعراني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.