سرشناسه : علوی عادل - 1955 عنوان و نام پديدآور : طالب العلم و السیره الاخلاقیه خصائص القائد الاسلامی فی القران الکریم اخلاق الطبیب فی الاسلام دوره الاخلاق المحمدیه فی تحکیم مبانی الوحده الاسلامیه رسالتنا/ تالیف عادل العلوی مشخصات نشر : قم الموسسه الاسلامیه العامه للتبلیغ و الارشاد، 1417ق = 1418 - 1375ق = 1376 [ج ]1376 :1. مشخصات ظاهری : 5 ج در یک مجلدجدول فروست : (موسوعه رسالات اسلامیه الجزآ الثالث اخلاق شابک : 15000ریال يادداشت : عربی يادداشت : چهارمین عنوان مربوط به "کنفرانس بین المللی وحدت اسلامی (هفتمین شهریور: 1373)" است یادداشت : کتابنامه موضوع : احادیث خاص (مستغنیات اهل کل بلد) -- نقد و تفسیر موضوع : اخلاق اسلامی موضوع : طلاب -- اخلاق موضوع : فرماندهی (اسلام -- جنبه های قرآنی موضوع : پزشکان اسلامی -- اخلاق موضوع : اسلام -- تبلیغات موضوع : وحدت اسلامی شناسه افزوده : موسسه اسلامی تبلیغ و ارشاد شناسه افزوده : کنفرانس بین المللی وحدت اسلامی (هفتمین = 1373: تهران رده بندی کنگره : BP145 /م5 ع8 1376 رده بندی دیویی : 297/218 شماره کتابشناسی ملی : م 78-8590
إلى طبيب نفوسنا وحبيب قلوبنا الرسول الأعظم خاتم النبيّين محمّد (صلى الله عليه وآله) .
إلى العلماء المخلصين والأطباء الحاذقين ، الذين جعل الله على عاتقهم حفظ سلامة الروح والجسد .
إلى كلّ من يحمل هموم المسلمين ، ويفكّر في إصلاحهم وسعادتهم ، ويناضل من أجل علاج المجتمع ، وشفاءه من
الأمراض والأسقام الروحية ، ونجاته من الانحطاط وتلوّثه بالأخلاق الذميمة .
إلى كلّ طبيب وطبيبة راجعتهما في حياتي ، لمعالجة الأمراض الجسدية والقلبية ، لي ولاُسرتي ، لا سيّما الدكتورة طاهرة السماواتي والدكتور علي الكاظمي الخالدي .
اُهدي هذا الجهد المتواضع شاكراً فضلهم وجهادهم وعلمهم ، سائلا من الله سبحانه لي ولهم التوفيق والسداد والرشاد ، إنّه سميع مجيب .
العبد
عادل العلوي
حوزة قم العلمية
الحمد لله المعافي الذي قدّر الداء ودبّر الدواء ، وجعل إسمه دواء وذكره شفاء ، والصلاة والسلام على طبيب النفوس ومربّي الأرواح ومزكّيها ، محمّد المصطفى ، وعلى آله الأطهار ، الهداة الميامين أئمة الحقّ والدين وسادة الخلق أجمعين.
أمّا بعد:
فإنّ الطبّ من العلوم القديمة[1] Medicine ، يعنى بدراسة الأمراض ومعالجتها والوقاية منها ، وهو أحد أقدم العلوم في العالم ، أمّا متى وكيف كان مبدأ علم الطبّ وظهوره ، ففيه اختلاف بين أرباب التأريخ ، ففي سومر وُضع أوّل دستور أخلاقي للطبّ والجراحة ، وفي بابل وضع حمورابي أنظمة خاصّة بممارسة الطبّ . ولقد عرف قدامى الهنود حركة الدمّ والصلة بين الجرذان والطاعون ، والصلة بين البعوض والملاريا.
وكان للمصريين القدماء اهتمام خاصّ بعلم الشفاء . ومنذ أقدم العصور مارس الصينيون التطبيب بطريقة الوخز الاُبري Acupunciune ، وأسهم اليونان إسهاماً كبيراً في علم الطبّ ، وبقراط الذي ينسب إليه الطبّ عني بالفحص السريري ومهّد الطريق لفهم الجسم البشري ، وإنّ أرسطو درس علم الأحياء وشرّح الحيوانات . وأنجبت الامبراطورية الرومانية جالينوس Galen الذي عُني بدراسة علم التشريح وعلم الفيسيولوجيا.
وفي ظلّ الحضارة العربية الإسلامية وصفت أمراض جديدة وركّبت أدوية نباتية عديدة ، ولمع نجم الشيخ الرئيس ابن سينا ومحمد بن زكريا الرازي ، وترجمت كتبهما كالقانون
والحاوي إلى اللاتينية ، فكانت مرجعاً لطلاب الطبّ في أوربا طوال قرون عديدة ولا زالت ، وفي عصر أوربا برز اسم فيزيليوس Vesulius الذي يعدّ أبا علم التشريح الحديث ، واكتشف وليم هارفي Hurvey الدورة الدموية ، واكتشف إدورد جنر Jenner لقاحاً ضدّ الجدري ، وفي القرن التاسع عشر وثب الطبّ وثبات عريضة ، وقفزات سريعة ، فاستخدم جوزيف ليستر Lister مضادّات العفونة ، واستخدم وليم مورتون Morton الأثير Ether كمخدّر ، فكان بذلك بمثابة ثورة في الجراحة ، وتعقّب لويس باستور Pasteur وروبرت كوخ Koch الجراثيم وأنشأ علم البكتريا ، ثمّ كان القرن العشرين فخطا طبّ النفس أو الطبّ العقلي Psychiatny خطوات سريعة وواسعة إلى الأمام ، وشاع استخدام المهدّئات وعقاقير السلفا والمرديات والهرمونات الصنعية والفيتامينات ، ولا يمرّ يوم إلاّ وتطالعنا الصحف ووسائل الإعلام بأنباء تطوّر جديد في علم الطبّ.
وإنّ هذا العلم الجليل لا يزال يواكب المسيرة الحضارية والتقدّم والازدهار ، حتّى كاد أن يكون نتائجه وحاصله أشبه بالخوارق والكرامات ، ودخل في عالم الكومبيوتر والتكنولوجيا الجديدة وعصر الذرّة ، فأوجد ثورة علمية هائلة.
---
[1] الطب لغة : علاج الجسم ، والنفس ، والرفق ، والسحر . وفي الاصطلاح : علم باُصول تعرف بها أحوال أبدان البشر من جهة الصحّة وعدمها لتحفظ حاصلة ، وتحصل غير حاصلة ، وقد يقال بالاختصار : هو علم دفع الداء واجتنابه ، وقال الأقدمون : علم الشفاء ، وهو بلا ريب أوّل علم سعى الإنسان إلى تحصيله على أثر سعيه وراء الغذاء والكساء والمأوى . على أنّ هذا السعي لم يكن يتناول في أوّل الأمر ، إلاّ ما برّح بظاهر الجسم من جرح وكسر وصدع وما أشبه ،
لأنّ الأدواء والأوبئة والعلل الباطنة ، لم تكن في نظر الإنسان لأوّل عهده إلاّ عقوبات يقتصّ بها الخالق من المخلوق ، أو فواعل روح خبيثة ، أو عين شريرة فيلجأ لدفعها إلى الكهانة والرقية والنذر والقربان ، لأ نّها لا تتأتّى عن سبب محسوس ، فلا يمكن دفعها بعلاج محسوس حالة كون الجرح وما هو من قبيله إن لم يكن ناشئاً عن فعل يد بشرية ، فالفاعل فيه سبب مشهود لا مانع من معالجته بيد البشر ولهذا سارت الجراحة شوطاً بعيداً أمام فروع الطبّ ، بل بلغت مبلغاً مذكوراً من الإتقان عند القدماء ، وهم لا يكادون يعرفون شيئاً من علاج الأمراض. ( دائرة المعارف ، البستاني 11 : 203 ) . ثمّ قال المصنّف:
وليس لدينا في التأريخ ما يرشدنا إلى كيفية تدرّج الاُمم القديمة في مراقي التقدّم بهذا الفنّ ، ولا سيّما ما غمض تأريخها منهنّ كقدماء الصينيين والهنود والفرس ... ثمّ يذكر الطبّ عند البابليين وإنّهم وصلوا إليه بالتجارب ، ثمّ ازدهاره عند المصريين وكشفهم العقاقير والأدوية والحجامات والضمادات والمسهلات والمقيّئات ، ثمّ العبرانيين واليونانيين من عهد هوميروس وعظّموا الأطباء حتّى نسب الطبّ إليهم حتّى نظموا خيرون القنطوري طبيبهم الأوّل وتلميذه اسقليبيوس في سلك الآلهة ، وشادوا لهما المعابد . واستمرّ الحال حتّى ظهر أبقراط المولود سنة 460 قبل الميلاد فألّف وصنّف في الطبّ ، حتّى لقّب بأبي الطبّ وذهب مذهب من تقدّمه أنّ العناصر أربعة ، وأنّ الأمزجة أربعة أيضاً دموية وبلغمية وصفراوية وسوداوية ، وإنّه يجب على الطبيب أن يراقب المرض في سيره منذ ظهوره إلى نهايته ، وإنّ الأمراض تتأتّى عن الغذاء والهواء فينبغي أن نتحرّى أسبابها في الماء والهواء
والمنازل والفصول وألّف في ذلك كتابه « الماء والهواء والأمكنة» وكتب في الأمراض الحادّة وألّف كتابه « الفصول» وأودع فيه حكمته القائلة : « الصناعة طويلة والعمر قصير والوقت ضيّق والتجربة حظر والقضاء عسر» ، وله تآليف كثيرة ، ثمّ نبغ جالينوس في الطبّ من الرومانيين المولود سنة 130 بعد الميلاد وهو القائل : « إنّ الإنسان إلى اجتناب ما يضرّه أحوج منه إلى تناول ما ينفعه» ، وألّف كثيراً في الطبّ والفلسفة وشرح تآليف أبقراط ، ثمّ بزغ شموس الطبّ من بين المسلمين كمحمد بن زكريا الرازي والفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا حتّى قيل : « كان الطبّ معدوماً فأوجده أبقراط ، وميّتاً فأحياه جالينوس ، ومتفرّقاً فجمعه الرازي ، وناقصاً فكمّله ابن سينا البخاري» . وبُنيت المستشفيات في زمن الخلفاء العباسيين قبل أوربا بقرون ، كما تكلّم النبيّ الأكرم محمد وأهل بيته الأطهار في الطبّ والمعالجات ، والتأريخ يشهد على ذلك.
لقد فرّع علماء الطبّ علمهم إلى فروع وتقسيمات عديدة ، إلاّ أ نّه في علم الطبّ الحديث تنتظم فروع الطبّ الرئيسة إلى:
1 _ دراسة الجسم البشري.
2 _ الأمراض وعلاجها.
أمّا الأوّل فيتمّ من طريق علم التشريح Anatomy الذي يعنى بدرس بنية الجسم الأساسية ، وعلم الفيسيولوجيا Physiology الذي يعنى بدراسة وظائف الأعضاء ونشاطاتها ، وعلم التشريح Histology الذي يعنى بدراسة أنسجة الجسم.
وأمّا الثاني فتتمّ دراسته من طريق علم الأمراض أو الباتالوجيا Pathology الذي يبحث في طبيعة الأمراض وأسبابها وتطوّرها ، وأمّا معالجة الأمراض فيلزم أن نلمّ بعلم العقاقير Pharmacology ، وبراعة في الجراحة Surgery.
ومن فروع علم الطبّ أيضاً طبّ النفس أو الطبّ العقلي وهو يعنى بمعالجة
الاضطرابات العقلية . وعلم المناعة Immunology وهو يدرس
ظواهر المناعة من الأمراض وأسبابها . وعلم البكتيريا Bacteriology وهو يدرس الجراثيم وعلاقتها بالأمراض ، والطبّ الوقائي Preventive Medicine وهو يبحث في أساليب الوقاية من الأمراض ، ويحتلّ اليوم مكاناً بارزاً في الطبّ الحديث ، وقد عرفه الإنسان منذ عهد بعيد عندما عرف ضرورة عزل المصابين بالأمراض المعدية دفعاً لانتشار هذه الأمراض ، ولكنّه لم ينشأ بمعناه الدقيق إلاّ في أواخر القرن الثامن عشر عندما استحدث جَنَر Jenner التقيح . ثمّ خطا خطوات واسعة عندما كشف باستور في أواخر القرن التاسع عشر دور الجراثيم في الإصابة بمختلف الأمراض ، وفي مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين استحدثت عقاقير السلفا ثمّ المرديات Antibiotics فلعبت دوراً كبيراً في معالجة الأمراض والوقاية منها ، وفتح استخدام أشعّة أكس والموادّ ذات النشاط الإشعاعي في تشخيص الأمراض ( كالسلّ والسرطان ) ومعالجتها آفاقاً جديدة في حقل الطبّ الوقائي[1].
ومن فروع الطبّ : الطبّ الشرعي ، وهو يعنى بدراسة بعض المشكلات القانونية والقضائية في مثل إثبات البنوّة والجنون ، وتحديد الإصابات ومدى خطورتها ، وتشريح الجثث لتعيين أسباب الوفاة الناشئة عن أعمال العنف على اختلافها . وقد عرف الطبّ الشرعي في أوربا منذ القرن السادس للميلاد ، وفي عام 1532 م أجاز قانون العقوبات الصادر في عهد الامبراطور شارل الخامس ( شارلمان ) استعانة القضاة بشهادة الأطباء في حالات القتل والجرح والتسميم والشنق والإجهاض وغيرها . ونشر أوّل كتاب ضخم في الطبّ الشرعي الأوربي سنة 1602 للطبيب الإيطالي فورتوناتو فيديلي Fortunato Fedele ، وفي سنة
1808 اُنشئ في جامعة أدنبرة كرسي خاصّ بتدريس الطبّ الشرعي[2].
وهناك فروع وتشعّبات للطبّ ، منها باعتبار التخصّص في أعضاء الجسد كطبّ الأسنان[3] وطبّ الأسنان الترقيعي[4] وطبّ العيون والقلب وغير
ذلك ، ومنها طبّ الأطفال[5] والطبّ البيطري[6] لمعالجة الحيوانات ، والطبّ الجوي[7] ، والطبّ السيكوسوماتي أي الطبّ الجسدي النفسي[8] ، والطبّ الشعبي[9] الذي يكون التداوي فيه بالأعشاب والنباتات ، وطبّ النساء[10] يتعلّق بالجهاز التناسلي وما يختصّ بالنساء.
ثمّ يعدّ علم الطبّ من الصناعات أيضاً ، لأ نّه ( عُرّف الطبّ لغةً : بعلاج الجسم والنفس ، واصطلاحاً : يطلق على معرفة أدواء المرضى ومعالجتهم ، فهو علم لأ نّه دراسة أوّلا ، وفنّ بطريقة ممارسته تبعاً لناموس الارتقاء ، وهو صناعة لأ نّه مورد رزق لمحترفيه )[11].
كما هو فنّ من الفنون ، ويرى ابن أبي اُصيبعة : أنّ اختراع هذا الفنّ لا يجوز
نسبته إلى بلد خاصّ أو مملكة معيّنة أو قوم مخصوصين ، إذ من الممكن وجوده عند اُمّة قد انقرضت ولم يبقَ من آثارها شيء ، ثمّ ظهر عند قوم آخرين ، ثمّ انحطّ عندهم حتّى نسي ، ثمّ ظهر على أساس هؤلاء لدى غيرهم ، فنسب إليهم اختراعه أو اكتشافه.
هذا ... وثمّة رأي آخر يقول : إنّ صناعة الطبّ مبدؤها الوحي والإلهام ، وقد قال الشيخ المفيد قدّس الله نفسه الزكيّة:
« الطبّ صحيح والعلم به ثابت ، وطريقه الوحي ، وإنّما أخذه العلماء به عن الأنبياء ، وذلك أ نّه لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلاّ بالسمع ، ولا سبيل إلى معرفة الدواء إلاّ بالتوفيق ...»[12].
والظاهر أنّ تأريخ الطبّ يرجع إلى تأريخ الإنسان ، فولد معه ، فإنّه عانى من الداء ووفّق بإلهام من الله إلى كثير من الاُمور التي يمكن أن تعتبر دواء ، وربما كان معظمه من إرشادات الأنبياء (عليهم السلام) ، وبعضه من التجارب أو الصدفة أو الفكر والتأمّل في
الأشياء وطبائعها ، وما يتلائم مع طبيعة الإنسان وما بينهما التنافر.
وقد ذكرنا مجمل السير التأريخي لعلم الطبّ المدوّن بالخصوص عند الاُمم السالفة من المصريين والكلدانيين والبابليين والهنود والصينيين والفرس واليونان والرومان ، وعند العرب قبل الإسلام ، فإنّ الطبّ كان ولا يزال يقطع مراحل طفولته وكان العرب في علم الطبّ خاصّة أضعف من سائر الاُمم[13].
إلاّ أ نّه بعد الإسلام ، فقد نشط عند المسلمين الحركة الطبيّة وفاقوا كثير من الاُمم ، فإنّ الإسلام يعتبر العلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان ، ويرى الطبّ وظيفة شرعية ، وأحد الواجبات التي لا يمكن التساهل فيها ، وأ نّه من الواجب الكفائي ، فإن لم يتصدّ من به الكفاية والقدرة ، فإنّه يأثم الجميع.
وقد خلّف لنا النبيّ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ثروة عظيمة في الطبّ والعلاج تتّسم بالشمولية والعمق والدقّة ، ولا بدّ لنا من دراسة وسيعة وعميقة لتلك الثروة العلمية الهائلة واستخراج الكنوز الرائعة والحقائق الناصعة تنفع البشرية جمعاء ، والإسلام دين الله الحنيف هو العامل الأساسي في تفجير الطاقات المكمونة في النفوس ، وتحقيق الطموحات التي تكمن في الإنسان ، فإنّ الإسلام دين الفطرة التي تتلائم مع العقول الإنسانية والنفوس البشرية.
فعلم الطبّ بعد ظهور الإسلام كان يعتبر في كلّ البلاد الإسلامية شرقها وغربها ، من أرفع العلوم شأناً ، وأسماها مقاماً ، ثمّ كان للمسلمين بحوث قيّمة وعميقة في الطبّ ، وقد طوّروا علمه وفنّ الجراحة إلى أعلى الدرجات[14] . وبقيت أوربا تعتمد على تصانيف المسلمين في الطبّ والجراحة حتّى الأزمنة المتأخّرة ، فإنّ الرازي اكتشف السبيرتو ( الكحول ) وأسيد السولفوريك ، وشرح تشعّبات الأعصاب في
الرأس والرقبة بشكل واضح ، واكتشف الطبّ المفصلي ، وعشرات من الخدمات الطبية ، كما جاء في تأريخ الطبّ.
ولقد سبق الرازي في اكتشاف الحركة الدموية هارفي الذي لا يزال الكثيرون يهلّلون ويكبّرون ويهتفون باسمه ، على أ نّه هو مكتشف الدورة الدموية ، وقد سبق بها غيره.
بل الحقيقة أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) هو أوّل من نبّه إلى حقيقة الدورة الدموية وشرحها وأوضحها بشكل واف وكامل ، كما أثبته الخليلي في كتابه « طبّ الإمام
الصادق (عليه السلام)»[15].
هذا وعدد الأطباء طيلة فترة الحكم الإسلامي كثير جدّاً لا يمكن حصره ، ولا استطاع مؤلّفو الموسوعات والتراجم حتّى ذكر أسماء أقلّ القليل منهم ...
ويكفي أن نذكر : أ نّهم قد أحصوا أطباء بغداد وحدها في زمن المقتدر بالله من الخلفاء العباسيين سنة 309 وامتحنوهم ، فاُجيز منهم 860 طبيباً ، فأعطوهم الإذن في التطبيب ، سوى من استغنى عن الامتحان لشهرته ، وسوى من كان في خدمة السلطان.
وكان سيف الدولة إذا جلس على المائدة حضر معه أربعة وعشرون طبيباً ، وكان فيهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطيه علمين . وكان في خدمة المتوكّل 56 طبيباً.
وكان يخدم في المستشفى العضدي 24 طبيباً من مختلف الاختصاصات ، وحين بنى المعتضد المستشفى أراد أن يكون فيه جماعة من أفاضل الأطباء وأعيانهم ، فأمر أن يحضر له لائحة بأسماء الأطباء المشهورين حينئذ ببغداد وأعمالها ، فكانوا متوافرين على المئة فاختار منهم نحو خمسين[16] ...
ويمكن أن يقال أنّ أوّل مستشفى خصّص لنزول المرضى ومعالجتهم بعد ظهور الإسلام كان مسجد رسول الله في المدينة المنوّرة منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وكان الرسول والصحابة يتفقّدون المرضى النازلين به ، وكان في المسجد
خيمة لرفيدة أو كعيبة بنت سعيد تداوي فيها الجرحى[17].
فالإسلام العظيم دين الله القويم الشامل لكلّ ما فيه سعادة الإنسان وتكامله
في إنسانيّته وفوزه برضا الله سبحانه ، وذلك بكلّ دقّة وشمول لجميع حقول الحياة وشؤون الإنسان ومختلف أحواله ، سياسية كانت ، أو ثقافية أو فردية أو اجتماعية أو غير ذلك ، ولم يغفل عن الإنسان حتّى في مأكله ومشربه ومشيه وجلوسه وصوته ، وحتّى تقليم أظفاره ، وترجيل شعره في كمّه وكيفه.
ومن هذا المنطلق اعتبر علم الطبّ من أهمّ العلوم ، وأنّ الطبّ مسؤولية دينية ووظيفة شرعية ، وواجباً كفائياً ، يأثم ويعاقب الكلّ على تركه ، ويسقط عنهم بقيام بعضهم به ، كما جاء ذلك في النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة.
وليس الطبّ وظيفة شرعية ، بل ضرورة اجتماعية وتحتّم إنساني ورسالة أخلاقية ومسؤولية عقلية ، كما على كلّ ذلك الشواهد الكثيرة والواضحة.
ثمّ على الطبيب من يومه الأوّل ، وأيامه الاُولى في كلية الطبّ ، أن يتحلّى أوّلا قبل تعلّمه الطبّ بجميع مواصفات الإنسان المسلم ، الذي يمثّل الإسلام وعياً وعمقاً وخلقاً وسلوكاً ، ويعيش أهداف الإسلام وتعاليمه وقيمه بكلّ جهات وجوده ومختلف شؤون حياته.
فعليه أن يزكّي نفسه ويتحلّى بالأخلاق السامية والصفات الحميدة ، ويتجنّب الرذائل ومساوئ الأخلاق وما يتنافى مع الفطرة السليمة.
هذا ومقصودنا من هذه الرسالة المختصرة أن نشير إلى أهمّ الصفات الحميدة والأخلاق الطيّبة التي على الطبيب الحاذق أن يتحلّى ويتّصف بها ، وذلك من خلال النصوص الإسلامية ، وفي رحاب الإسلام الحنيف ، وجعلتها في مقدّمة وفصول ثلاثة وخاتمة ، ومن الله التوفيق والسداد.
---
[1] خلاصة مع تصرّف من كتاب موسوعة المورد 6 : 221.
[2] المصدر : 103.
[3] موسوعة المورد 3 : 177.
[4]
المصدر 8 : 88 .
[5] المصدر 7 : 220.
[6] 10 : 92.
[7] 1 : 46.
[8] 8 : 92.
[9] 4 : 146.
[10] 5 : 50. 11] أخلاق الطبيب : 18 ، عن كتاب فلسفة الطبّ للدكتور حسني سبح.
[12] الآداب الطبية في الإسلام : 10 ، عن بحار الأنوار 62 : 75.
[13] المصدر : 26.
[14] المصدر : 48.
[15] الآداب الطبية : 50.
[16] المصدر : 63 ، عن عيون الأنباء : 302.
[17] المصدر : 70.
إنّ الله جلّ جلاله هو الطبيب الأوّل ، فهو المعافي والمشافي ، وقد ورد في نصوص الأدعية : « يا من اسمه دواء ، وذكره شفاء»[1] ، بيده أزمّة الاُمور طرّاً ، وهو القادر على كلّ شيء ، وهو العليم الحكيم.
خلق الإنسان وعلّمه البيان ، وركّبه من روح وجسد ، وابتلاه في جسده بالأسقام والأمراض ، واختلاف المزاج واعتداله وصحّته ، كما شاءت حكمته أن يبتليه بالصفات الذميمة والسجايا الحميدة ، فهداه النجدين ، إمّا شاكراً وإمّا كفوراً ، فإنّ الدنيا دار الامتحان والابتلاء:
(لِيَبْلُوَكُمْ أ يُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلا)[2].
ثمّ من اللطف الرحماني أنزل إليه الكتب السماوية ، وبعث إليه الرسل والأنبياء ليهتدي إلى ما فيه الخير والصلاح ، وسعادته في الدارين.
فعلّمه علم الأديان وعلم الأبدان ، وقرّر لسلامة روحه من الأمراض النفسية والأخلاق الذميمة ، شريعة سمحاء تتمثّل بالصحف الإلهية ، وبهداية الأنبياء (عليهم السلام) ، وورثتهم كعلماء الأخلاق ، كما علّمه ما يعالج به أمراضه الجسدية من خلال تشخيص الأطباء ، الذين تشرّفوا بمظهريّتهم لاسمه الشافي والمعافي والطبيب والمحيي جلّ جلاله.
قال الله تعالى:
(وَمَنْ أحْياها فَكَأ نَّما أحْيا النَّاسَ جَميعاً)[3].
والطبيب إنّما هو مظهر اسم الله المحيي والطبيب الشافي ، وإنّ الطبيب بمنزلة ماء
الرحمة لمرضاه ، وهو الوسيط بين الرحمة الخالقية وافتقار المخلوق.
الإنسان ثمرة شجرة الوجود ، لقد كرّمه الله سبحانه ، وتمدّح بخلقه ، وسخّر له كلّ شيء ، وجعله خليفته في أرضه.
هذا الإنسان العظيم الكائن الذي لا يزال مجهولا ، معرّض للأمراض والأسقام ، والمتولّي لمعالجته ومراقبة سلامة بدنه إنّما هو الطبيب.
وقيل في تعريف علم الطبّ وبيان موضوعه : « موضوع علم الطبّ بدن الإنسان ، ومن البديهيات أنّ هذا الموضوع في عالم الكون والفساد أجلّ وأشرف من سائر الكائنات ، فلا جرم العلم به أجلّ وأشرف من سائر العلوم ، لا سيّما إذ ورد به الخبر المأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث قال : العلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان» وقدّم علم الأبدان على علم الأديان ضرورة أنّ اكتساب سائر العلوم يحتاج إلى فهم سليم ومزاج مستقيم ، فاحتجنا ضرورة إلى علم يحفظ به الصحّة وهو علم الطبّ»[4].
والإنسان بطبعه مدني ، يحتاج إلى تشكيل المدينة الفاضلة التي يسودها العدل والحرية والأمن والسعادة ليتكامل فيها ، ويصل إلى اُنشودته ، وما خلق من أجله.
فهيكل الاجتماع المتكوّن من أفراد المجتمع لسلامته يفتقر إلى حكومة العدل الإلهي ، ولسلامة أبدان أفراده إلى طبيب حاذق ، ولسلامة أرواحهم إلى عالم بصير متّقي.
قال إمامنا الصادق (عليه السلام) : لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا ذلك كانوا همجاً : فقيه عالم ورع ، وأمير خير مطاع ،
وطبيب بصير ثقة.
فهؤلاء عمدة الأركان واُصول سعادة المجتمع ، وإن كان هناك عوامل اُخرى لسعادة المدينة الفاضلة كالتاجر الأمين والعامل المخلص والفلاّح الموفّق وغيرهم.
فسلامة البدن من وسائل التقدّم والازدهار ، ويقول الله
سبحانه في حقّ نبيّه عيسى ويحيى:
(وَالسَّلامُ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ)[5].
أي سلامة المولود ، فهي تعين الإنسان على سيره وسفره في أسرار الطبيعة وخزائن الكون.
وكمال الإنسان وطيّ مراحله العقليّة إنّما من عوامله الهامّة سلامة الجسد ، فإنّ البدن السقيم يشكل عليه الفكر المستقيم ، وإنّه بسفينته السليمة ومركبه السالم _ أعني بدنه _ إنّما يمكنه أن يخوض في بحار الوجود.
والمتكفّل لسلامة البدن وحفظه هو علم الطبّ الشريف . وإنّما أورث الله علم الطبّ الطبيب ، فأيّ نعمة للطبيب أعظم من هذه ، وأيّ موهبة أجمل من هذه.
أليس شكرها على الطبيب أن يتواضع لمريضه ، ويحسّ بآلامه وأسقامه ، فيتعامل معه بأخلاقه الحسنة وأنفاسه الطيّبة ، فإنّ نشاطه وانبساطه ونظراته تؤثّر في أعماق المريض وقلبه ، وكذا انقباضه وسوء خلقه وسريرته ، حتّى ثوبه الأبيض يفرّق بصره ويدخل السرور عليه ، كما أنّ الأسود قابض للبصر ، يجلب الحزن.
وما أكثر علاج الأمراض بخلق الطبيب الحسن ، وتدبيره النفساني ، وتأثير كلامه الروحاني ، ولطافة روحه.
ولا يكفي العلم في إصلاح المجتمع والنفوس البشرية ، بل لا بدّ أيضاً من العمل
الصالح ، فإنّما يُحلّق الإنسان في آفاق السعادة بجناحي العلم النافع والعمل الصالح ، فلا بدّ من تربية النفس وإصلاحها وتعديل الغرائز والميول والعواطف ، ولولا ذلك لكان كالأنعام بل أضلّ سبيلا . ولمثل هذا أنزل الله الكتب وأرسل الرسول وبعث الأنبياء ، ومن ثمّ الأوصياء وخلفائهم العلماء الصلحاء ، فمقصودهم تربية الإنسان تربية صحيحة ليعيش بمعرفة وحياة طيّبة وسير تكاملي نحو الكمال المطلق ومطلق الكمال وهو الله سبحانه ، وإلى الله ترجع الاُمور:
(وَإنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيهِ)[6].
وإلى الله المنتهى وإليه راجعون.
فلا بدّ من علم الأخلاق والحكمة العملية ،
والأخلاق عبارة عن تزكية النفس وطهارتها من الرذائل والذمائم والسجايا السيّئة ، وتحلّيها بالأخلاق الحميدة والمكارم والمحاسن والكمالات الخُلقية ، وتجليتها لنيل سعادتها الأبدية.
والأخلاق جمع الخلق وهو بمعنى الفطرة والخلقة والطبيعة:
(فِطْرَةَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)[7].
وبالفطرة السليمة يمكن للإنسان أن يطوي مراحل السعادة لولا تأثير الأبوين والبيئة والمجتمع الفاسد ، فعن النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) : « كلّ مولود يولد على الفطرة ، إلاّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».
وموضوع علم الأخلاق نفس الإنسان ، الذي بعث الأنبياء من أجل تكميل مكارم أخلاقها ، وهدايتها إلى فلسفة خلقتها ، ومبدئها ومعادها ...
وكلّ واحد من الناس عليه أن يبدأ أوّلا من نفسه وباطنه ، لأنّ الله قد جعل فيه رأس المال الأخلاقي ، كما في قوله تعالى:
(فَألْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها)[8].
ويقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « من لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظ وزاجر ، لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ»[9].
فلا بدّ من إعانة النفس على إصلاحها بضمير حيّ ووجدان واع ، ومن توفيقات الله أن يكون للإنسان واعظ من نفسه ، وأنّ وجدان الإنسان خير محكمة لا يحتاج فيها إلى قاض.
« كفاك أدباً لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك» ، « أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك».
فالسعادة إنّما تتمّ بتأديب النفس وإصلاحها ، ومكمّل علم الإنسان عمله ، ولا خير في علم لا عمل فيه.
ومن أصلح سريرته فإنّه يفوق الملائكة ، ومن تبع شهوته وغلبه هواه ، فإنّه يكون أضلّ من الحيوانات.
ثمّ بين الطبّ والأخلاق علاقة وثيقة ، فإنّ الطبّ لسلامة البدن وهو المركوب ، والأخلاق لسلامة الروح وهو الراكب ، فلا بدّ منهما ، وربما لمثل هذه
العلاقة الوثيقة ورد في الخبر « العلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان».
فالطبّ حافظ الجسم ، والأخلاق تحامي الروح ، والأوّل يلطّف الأجواء الفيزياوية ، والثاني يساعد على تحسين الروابط الاجتماعية . فالتغافل عن أحدهما يساوي التعاسة في الحياة.
والأنبياء وورثتهم كما كانوا يهدون الناس إلى الصراط المستقيم ، كانوا يعالجون الناس في أجسادهم ، فتوارثنا كتب طبيّة ، كطبّ النبيّ وطبّ الإمام الصادق وطبّ الرضا وطبّ الأئمة (عليهم السلام) . فهي مجموعة دساتير طبّية وعلاجية.
وحينما عنونّا رسالتنا هذه « أخلاق الطبيب في الإسلام» إنّما نشير إلى علمين شريفين متقارنين ، أحدهما يتعلّق بجسم الإنسان والآخر بروحه ، وهما علم الطبّ وعلم الأخلاق.
والطبّ من علوم الدنيا والأخلاق من علوم الآخرة ، كما جاء إشارة ذلك في الحديث النبويّ الشريف : « إنّما العلم ثلاث : آية محكمة ، وسنّة قائمة ، وفريضة عادلة» ، أي علم الكلام وعلم الأخلاق وعلم الفقه ، فإنّ الذي يتكفّل تهذيب نفس الإنسان ، وصيقلة روحه ، وتنوير قلبه ، وسلامة فطرته ، هو علم الأخلاق.
والرسول الأعظم خاتم النبيّين محمد (صلى الله عليه وآله) يشير إلى فلسفة بعثته في قوله الكريم : « إنّما بُعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق» ، وإنّ الله قد مدح خُلقه في قوله تعالى:
(وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم)[10].
وإنّ عائشة قالت في بيان خلق النبيّ : « وكان خلقه القرآن» ، فكان (صلى الله عليه وآله)يجسّم ويمثّل القرآن الكريم ، والله سبحانه قد أعطى المعجون الأوّل لتربية الإنسان فألهمه الخير والشرّ بفطرته السليمة:
(فَألْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها)[11].
وهذا الإلهام يُعدّ الرأس المال الأوّل لعلم الأخلاق ، ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لا يعلم ، ومن سار في آيات الله الآفاقيّة
والأنفسيّة يتبيّن له الحقّ ، ويصل إلى قمّة الكمال وذروة السعادة الأبديّة ، قاب قوسين أو أدنى.
قال الله تعالى:
(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا هَلْ أدُلُّكُمْ عَلى تِجارَة تُنْجيكُمْ مِنْ عَذاب أليم تُؤْمِنونَ بِاللهِ وَرَسولِهِ وَتُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ بِأمْوالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمونَ)[12].
(الَّذينَ يَذْكُرونَ اللهَ قِياماً وَقُعوداً وَعلى جُنوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرونَ في خَلْقِ السَّماواتِ وَالأرْضَ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ)[13].
(ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبَ)[14].
فمن يؤمن بالمبدأ والمعاد ويذكر الله على كلّ حال وفي جميع الأحوال ، فإنّه يطمئنّ قلبه ويسعد في حياته:
(إنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )[15].
(وَما الحَياةُ الدُّنْيا إلاّ مَتاعُ الغُرورِ)[16].
فمن غفل عن الله ويوم القيامة:
(يَعْلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ غافِلونَ)[17].
فإنّ له معيشة ضنكاً ، وله في الآخرة عذاب أليم.
فالإنسان بإمكانه واختياره أن يتصبّغ بصبغة الله جلّ جلاله ، فيما لو تخلّق بأخلاق الله ، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « تخلّقوا بأخلاق الله» ، ومن كان مظهراً لصفات الله وأسمائه الحسنى فإنّه يتخلّد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وأمّا الحياة البشرية فلا ريب أنّ فيها الخير والشرّ والصلاح والسوء والحقّ والباطل والعقل والجهل ، ولكلّ منهما جنود كما ورد في الأخبار المروية عن أهل البيت (عليهم السلام)[18].
والإنسان قد جعل في مفترق طرق لينتخب باختياره معسكر الخير أو معسكر الشرّ ، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين[19].
فكان الخير والشرّ ، وهذا ما يحكم به العقل ويؤيّده النقل ، فليس الخير ما كان خيراً عند الشرع وحسب كما عند الأشاعرة ، بل نعتقد بالحسن والقبح الذاتيين العقليين ، وإنّ الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ، كما إنّه ليس للإنسان
إلاّ ما سعى ، وإنّ الله خلق النفس وألهمها فجورها وتقواها ، وإنّه يقسم في قوله:
(وَلا اُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة)[20].
وإنّما النفس تلوم نفسها لعلمها بالخير والشرّ عقلا ، إلاّ أنّ الإنسان لا يمكنه
بعقله أن يطوي مراحل الكمال والهداية والصعود إلى الدرجات الرفيعة والمقامات العالية ، بل هلك من لم يكن له حكيم يرشده ، فيحتاج إلى معلّم ومربّي يأخذ بيده ليوصله إلى شاطيء السعادة وسواحل السلامة.
فيحتاج الإنسان إلى دين إلهي ، وقوانين رصينة من الشريعة السماوية السمحاء ، فإنّ الشيطان جالس له بالمرصاد ليغويه عن الصراط المستقيم:
(لأغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعينَ إلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلِصينَ)[21].
فالرحمة الإلهية واللطف الرباني اقتضى أن يرسل الله الأنبياء والمرسلين لهداية الناس وليقوموا بالقسط والعدل ، ويعلّموا الناس الأخلاق ويهدوهم إلى الحقّ ويتمّموا لهم مكارم الأخلاق.
لقد تقدّم العلم الحديث في الصناعة والتكنولوجيا وازدهر وتطوّر ، إلاّ أنّ البشرية أصابها الانحطاط الخلقي والفساد الاجتماعي ، لتخلّفهم عن الأديان السماوية واستدبارها ، فتفكّكت الاُسر ، وتهاوت صُرح الإيمان ، وتلاشت أبنية المعتقدات الدينية ، واندثرت معالم الأخلاق الإنسانية ، فترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، كلّ يجرّ النار إلى قرصه ، ويتكالب مع بني نوعه على حطام الدنيا ، ويوماً بعد يوم تزداد مشاكل البشرية ، والكلّ ينتظر بلهفة وحرقة يوم الخلاص ...
وممّا يعيد السعادة الإنسانية إلى العالم البشري هو رجوعنا إلى الأخلاق والمثل العليا والحكمة المتعالية.
والحكمة إمّا نظرية وإمّا عمليّة ، والثانية التي تعني ( فلسفة الأخلاق ) قد قسّمها علماء الأخلاق إلى ثلاثة مراحل:
1 _ تهذيب النفس.
2 _ تدبير المنزل.
3 _ سياسة المدن.
وبهذا المثلّث يسعد الإنسان ، وربما الآيات القرآنية تشير إليها في قوله تعالى:
(عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ)[22].
(قُوا أنْفُسَكُمْ وَأهْليكُمْ
ناراً وَقودُها النَّاسُ وَالحِجارَةُ)[23].
(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرْ وَأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكينَ إنَّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئينَ)[24].
فالإسلام ينظّم حياة الإنسان ، وإنّ كتابه المقدّس القرآن الكريم ، مصدر تشريعه الذي لا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين ، فيه تبيان كلّ شيء ، فإنّه يدعو إلى سلامة الروح والجسد ، فكما يقول سبحانه:
(قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاها)[25].
(يُزَكَّيهِمْ وَيُعَلِّمْهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ)[26].
كذلك يشير إلى أصل طبّي فائق في قوله تعالى:
(كُلوا وَاشْرَبوا وَلا تُسْرِفوا).
ثمّ النبيّ الأكرم وأهل بيته يفسّرون لنا الآيات القرآنية ، ويذكرون مصاديق
كلّياته ، ويشرحون لنا مفهوم الإسراف وجزئياته ، وإنّ المعدة اُمّ الأمراض.
فالإسلام يدعو معتنقيه إلى الأخلاق الطيّبة ، إلاّ أ نّه تارة يدعو بصورة عامّة ، وربما يصحّ لو أطلقنا على دعوته الأخلاقية والإصلاحية العامّة ب_ ( أخلاق عامة ) كالتواضع فإنّه حسن من كلّ أحد ، واُخرى يدعو إلى أخلاق خاصّة تتعلّق بطبقات خاصّة من المجتمع ، فإنّه لمكانتهم الاجتماعية وشريحتهم الخاصّة في المجتمع يمتازون عن غيرهم بأخلاق خاصّة ، أو يتجلّى فيهم الخلق العامّ أكثر من غيرهم.
فكأ نّما اختصّوا بهذا الخلق ، مثلا : التواضع ، فإنّه حسن من كلّ واحد كما ذكرنا ، ولكنّ التواضع من الأمير لرعيّته ، ومن العالم للمتعلّمين ومن الطبيب لمرضائه أحسن وأولى ، ولمثل هذا يقال من أخلاق الطبيب التواضع الخاصّ لمعالجيه ومرضائه.
فإنّما نقصد بأخلاق الطبيب بمثل هذه المفاهيم الأخلاقية ، وذلك من خلال نظرة الإسلام بالخصوص.
وعلى الأطباء أن ينظروا إلى طبّهم وعملهم الطبّي بمنظار العبادة ، لا الحرفة والتجارة ، فإنّما يمارسون الطبّ على أ نّه من الاُمور العبادية التي يتقرّب بها الإنسان إلى ربّه ، فمن أحيا نفساً كأ نّما أحيا الناس جميعاً.
وحينئذ لمّا كان الطبّ أمراً عبادياً ،
وليس من المهنة والحرفة التجارية ، فيلزم على الطبيب أن يراعي الأخلاق العامّة والخاصّة أكثر من غيره . هذا ما يحكم به العقل الرشيد والوجدان السليم والشرع المقدّس.
فالعمل الطبّي وظيفة شرعية ودينية ، كما أ نّها وظيفة إنسانية وعقلائية.
ويقال : طاء الطبّ عبارة عن الطهارة ، والباء عن الباطن ، وهذا يعني على الطبيب أن يطهّر باطنه من الأرجاس والآثام والمعاصي والخبائث ، ويتعلّق قلبه بالله ، ويتمكّن بنوره أن يشخّص الأمراض ويعرف معالجتها ، ويكون مظهراً لاسمه الطبيب المشافي المعافي جلّ جلاله.
وحينئذ كما يستحبّ بناء المساجد والمعابد ، كذلك ينبغي بناء المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحّية ، ومن هذا المنطلق كان بعض الأخيار يوقف ثروته على المستشفيات والمرضى.
فالطبيب لا بدّ أن يكون متخلّقاً بأخلاق الله وطاهراً مطهّراً من المعايب والآثام والأمراض الروحية ، وإلاّ فإنّه يلزم أن يكون من المثل المعروف : « طبيب يداوي الناس وهو عليل» ، ولو تجرّد من الأخلاق الكريمة ، فإنّه يصبح سفّاحاً للدماء ، فضّاحاً للأعراض.
فالطبيب مطالب في إعمال عقله وقمع هواه وتذليل شهواته ، بأن يكون قويّ الإرادة في ترك الملاذ التي تفقد سعادته ، ومن ثمّ يحقّق لغيره جزءاً من الهناء والسعادة بتخفيف آلامه وشفاء أسقامه.
علل الشرائع ، بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : كان يسمّي الطبيب ( المعالج ) ، فقال موسى بن عمران : يا ربّ ، ممّن الداء ؟ قال : منّي . قال : فممّن الدواء ؟ قال : منّي . قال : فما يصنع الناس بالمعالج ؟ قال : يطيّب بذلك أنفسهم ، فسمّي الطبيب لذلك[27].
ومثله عن الكافي ، وقال العلاّمة المجلسي في بيانه : « يطيّب أنفسهم»
في بعض النسخ بالباء الموحّدة ، وفي بعضها بالياء المثناة من تحت . قال الفيروزآبادي : طبّ تأنّى للاُمور وتلطّف . أي إنّما سمّوا بالطبيب لرفعهم الهمّ عن النفوس المرضى بالرفق ولطف التدبير ، وليس شفاء الأبدان منهم.
وأمّا على الثاني فليس المراد أنّ مبدأ اشتقاق الطبيب الطيب والتطبيب ، فإنّ أحدهما من المضاعف ، والآخر من المعتلّ.
بل المراد أنّ تسميتهم بالطبيب ليست لتداوي الأبدان عن الأمراض ، بل لتداوي النفوس عن الهموم والأحزان فتطيّب بذلك . قال الفيروزآبادي : الطبّ _ مثلّة الفاء _ علاج الجسم والنفس . انتهى كلامه رفع الله مقامه.
قال بعض المحقّقين : الطبيب : هو الحاذق في كلّ شيء ، وخصّ المعالج به عرفاً ، والطبّ نوعان : نوع طبّ جسد ، وهو المراد هنا ، وطبّ قلب ومعالجته خاصّة بما جاء به رسول الله عن ربّه تعالى : وأمّا طبّ الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه (صلى الله عليه وآله) ، ومنه ما جاء في غيره ، وغالبه راجع إلى التجربة.
ثمّ هو نوعان : نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر ، بل فطر الله عليه الحيوانات مثل ما يدفع الجوع والعطش ، ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن ممّا يخرجه عن الاعتدال ، وهو إمّا إلى حرارة أو برودة ، وكلّ منهما إمّا إلى رطوبة أو يبوسة ، أو إلى ما يتركّب منهما ، والدفع قد يقع من خارج البدن ، وقد يقع من داخله ، وهو أعسرهما ، والطريق إلى معرفته بتحقيق السبب والعلامة.
والطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضرّ بالبدن جمعه أو عكسه ، وفي تنقيص ما يضرّ بالبدن زيادته أو
عكسه.
ومدار ذلك على ثلاثة أشياء : حفظ الصحّة ، والاحتماء عن المؤذي ، واستفراغ المادّة الفاسدة.
وقد اُشير إلى الثلاثة في القرآن الكريم : فالأوّل من قوله تعالى:
(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أوْ عَلى سَفَر فَعِدَّهٌ مِنْ أيَّام اُخَر)[28].
وذلك إنّ السفر مظنّة النصب وهو من مغيّرات الصحّة ، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فاُبيح الفطر إبقاء على الجسد ، وكذا القول في المرض . والثاني وهو الحميّة من قوله تعالى:
(وَلا تَقْتُلوا أنْفُسَكُمْ )[29].
وإنّه استنبط منه جواز التيمّم عند خوف استعمال الماء البارد ، والثالث عن قوله:
(أوْ بِهِ أذىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ)[30].
وإنّه اُشير بذلك إلى جواز حلق الرأس ، والذي مُنع منه المحرم ، لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس[31].
زبدة الكلام :
وزبدة المخاض أنّ الله سبحانه هو الطبيب الأوّل وبيده الداء والدواء ، وهو المعافي والمشافي ، كما قال في كتابه الكريم عن لسان إبراهيم الخليل (عليه السلام):
(وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفينِ)[32].
وإنّ الطبيب في الأرض كان خليفته في مظهريّة اسمه المبارك ، ولا بدّ له أن يتخلّق بأخلاق ربّه وخالقه.
باعتقادي أنّ الأطباء خلفاء الله في أرضه ، وسفرائه على خلقه ، واُمنائه في بريّته ، ليتجلّى فيهم صفاته الأفعالية من الشفاء والمعافاة والطبابة والمداواة والسلامة والقوّة . فإنّه الشافي المعافي الطبيب المداوي السلام القويّ جلّ جلاله ، وعمّ نواله وإحسانه ، وعظم شأنه.
ويقول الرازي في فضل الأطبّاء أ نّه : « قد اجتمع لهم خمس خصال لم تجتمع لغيرهم:
الاُولى : اتّفاق أهل الملل والأديان على تفضيل صناعتهم.
الثانية : اعتراف الملوك والسوقة بشدّة الحاجة إليهم ، إذ هم المفزع والغياث حين لا ينفع عُدّة ولا عشيرة.
الثالثة : مجاهدة ما غاب عن أبصارهم.
الرابعة : اهتمامهم الدائم بإدخال السرور والراحة
على غيرهم.
الخامسة : الاسم المشتقّ من أسماء الله تعالى.
ولو لم يكن من فضل الطبيب ، إلاّ أنّ الإنسان ربما يتشوّق إليه ، حين يسأم أكرم الناس عليه ، فأخصّهم لديه ، فإنّه في العلل الصعبة ربما كره الإنسان لقاء أهله وولده ، ويشتاق إلى الطبيب ، ويتروّح لرؤيته ، وتطيب نفسه بحضوره ومشاهدته ، لكان فيه مندوحة دون غيره»[33].
ثمّ لا ريب أنّ طبّ النفوس والأرواح أسمى وأشرف من طبّ الأبدان ، لأنّ الروح باقية والبدن ينعدم ، وإنّ طبّ الأبدان مهمّته إصلاح الصور والأعضاء وسلامة الجسد الفاني طيلة الحياة الدنيوية ، وطبّ النفوس غايته إصلاح المعاني وسلامة الروح الباقية في الحياة الاُخرويّة.
والمتكفّل لطبابة الأبدان هم الأطباء ، وأمّا سلامة الروح ونزاهتها ، فإنّها من الله سبحانه على لسان أنبيائه ورسله وأوصيائهم ، وما جاء في كتبه وصحفه.
فإنّ كتاب الإسلام دين الله القويم هو القرآن الكريم فيه تبيان كلّ شيء:
(ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِنْ شَيْء )[34].
وأنزل فيه من كلّ حكمة ونبأ على نبيّه الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله):
( يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ)[35].
وإنّ خلق القرآن والتكلّم به ، إنّما كان قبل خلق الإنسان ، الذي سخّر الله له كلّ شيء بحكمته : « فإنّ مرتبة تكلّم الحقّ بالقرآن سابقة على خلق الإنسان كما جاء في قوله تعالى:
(الرَّحْمنُ عَلَّمَ القُرْآنَ خَلَقَ الإنْسانَ عَلَّمَهُ البَيانَ)[36].
فجاءت مرتبة علم القرآن سابقة على خلق الإنسان ، فتكون مرتبة التكلّم بالقرآن سابقة على مرتبتي علم القرآن وخلق الإنسان ، وإذا أمعنّا النظر بعناية وتدبّر في الآيات ، لوجدنا أنّ خلق الإنسان محاط بعلمين : الأوّل : علم القرآن ، والثاني : علم البيان ، فكأنّ علم القرآن منحة وعطاء من خالق الأرض
والسماء حيث أتى بذروة العلوم ، وأرقى صنوف الحكمة في قوله سبحانه:
(ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِنْ شَيْء)[37].
وقوله جلّ شأنه:
(وَشِفاءٌ لِما في الصُّدورِ)[38].
وعلم البيان اختصّ بنعمة النطق والكشف عن أسرار الكون والطبيعة ، وما أودع الله فيهما من الأسرار ، والحقّ جلّ وعلا جعل القرآن محاطاً بسرّه المكنون الذي لا يبلغ منتهاه إلاّ هو ، وأنزل مقترناً بالحكمة في قوله:
(وَأنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ)[39] ، الآية ، وقد جاء القرآن بأعلى مراتب الحكمة وصفوة الشفاء ، ورفع الخالق سبحانه قدر الإنسان وكرمه على سائر المخلوقات بالعقل ، وبوحي العلم وإدراك العقل ، جعله يأخذ من الطبيعة لكلّ داء دواء.
وتبارك المُنزل:
(وَعَلَّمَك ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظيماً)[40].
وصلّى الله على سيّدنا محمد القائل : تداووا أ يّها الناس فإنّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء»[41].
ثمّ الإنسان خلقه الله مختاراً ، وجعله بين مبدء ومعاد ، وصراط متّصل بينهما ، فالمبدأ هو الله سبحانه ، علّة العلل واجب الوجود لذاته ، المستجمع لجميع صفات الجلال والجمال الكمال ، وهو الهدف في سير الإنسان وسلوكه ، فإنّ للإنسان هدفاً ووجهة في حياته هو المسؤول عنها ، وهو مولّيها ، وقد أشار الله في كتابه إلى هذا المعنى في قوله تعالى:
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها)[42].
فالإنسان وليّ هذا الهدف وهو المسؤول عن كمّية وكيفيّة طيّ الطريق ونهجه ، وقد أتمّ الله الحجّة في كلّ شيء ، وقد سخّر للإنسان كلّ شيء:
(رَبَّنا أعْطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)[43].
وأمّا المعاد فهو يوم القيامة يوم يبعثون ليرى الإنسان ما قدّم من عمل وليجزَ المطيع بثواب الله ويعاقب العاصي بعذاب الله ، يوم يرى الإنسان كلّ شيء محضراً ، ومن يعمل مثقال ذرّة خيراً
يره ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره.
وأمّا الصراط المستقيم فهو عبارة عن النبوّة والإمامة ، والمتمثّلة في سلوك الإنسان بالعلم والعمل بالإيمان بالله واليوم الآخر وبرسل الله وكتبه ، والعمل الصالح ، وإنّ الإنسان لفي خسر في دنياه وآخرته ، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر.
وإنّ الآيات القرآنية والروايات الشريفة وكلمات الحقّ كلّها تدور حول محاور ثلاثة:
1 _ المبدأ.
2 _ المعاد.
3 _ الصراط.
والطبيب الإسلامي من كان يؤمن بالله والمعاد ويكون في صراط الله ، علماً وعملا ، جوانحاً وجوارحاً ، فكراً وعقيدة ، إيماناً وسلوكاً ، ويكون مظهراً لأسماء الله وصفاته العليا ، وإنّ قلب الإنسان المؤمن يطمئنّ بذكر الله:
(ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبُ )[44].
فلا بدّ للطبيب المسلم أن يكون موضعاً للطمأنينة الإلهية بالنسبة إلى مريضه ، ولا بدّ للمريض أن يطمئن قلبه إلى طبيبه ، وذلك لو وجد طبيبه متحلّياً بالأخلاق الحميدة والآداب المجيدة ، وقد ورد في الخبر الشريف : « لا ميراث كالأدب» ، « الآداب حللٌ مجدّدة» ، وإنّ امتياز الإنسان عن الحيوانات إنّما هو بعقله وناطقيّته ووجدانه وسجاياه الأخلاقية الفاضلة ، ولولا ذلك لكان الإنسان كالأنعام ، بل أضلّ سبيلا ، وقيمة كلّ امرء ما يحسنه ، وقدر الرجل على قدر همّته.
وذهب جمع إلى أنّ الأخلاق إنّما هو الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط ، واُصولها أربعة : العفّة والشجاعة والحكمة والعدالة . وقد ورد في الخبر النبويّ الشريف : « خير الاُمور أوسطها» ، فالكمال والفضيلة إنّما عبارة عن الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط ، فبين الجبن والتهوّر الخلق الحسن هو الشجاعة ، وبين البخل والإسراف الاقتصاد ، وبين التكبّر والحقارة التواضع ، وبين العصبية
والمداهنة الرفق والمجاملة ، وهكذا باقي الصفات الأخلاقية ، كما هي مذكورة في كتب الأخلاق ، كجامع السعادات للمحقّق المولى النراقي (قدس سره) ، فراجع.
وزبدة الكلام كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « تخلّقوا بأخلاق الله» . وقال الإمام السجّاد في دعاء مكارم الأخلاق : « وهب لي معالي الأخلاق» ، فصاحب الهمّة العالية إنّما يطلب من ربّه معالي الأخلاق وسموّها ، وهي أخلاق الله المتجلّية في أسماءه الحسنى وصفاته العليا سبحانه وتعالى.
والكمال المطلق هو الله سبحانه ، وكلّما قرب الإنسان من ربّه زاد في كماله ، ويكون ذلك برعاية ما وجب على الإنسان من الحقوق الخاصّة والعامّة ، بتعديل غرائزه وعواطفه ، ورعاية الحقّ والعدالة ، والمقصود من العدل هو وضع الشيء في موضعه ، فكلّ شيء في موضعه يكون من الخلق الحسن.
فإذا كانت الرحمة والشفقة الإلهية في نطاق العدل الإلهي ، كذلك غضبه وقهاريّته في نطاق العدل ، فهو أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة ، فالعدل هو الأصل الأوّلي في الأخلاقيات.
والطبيب المتخلّق بأخلاق الله ، من كان يراعي العدالة في حياته الطبّية ، كما عليه أن يراعيها في كلّ جوانب الحياة وحقولها ، بإيمان وإخلاص ، مع رعاية حقوق الآخرين ، قال الله تعالى:
(الَّذينَ آمَنوا وَلَمْ يُلْبِسوا إيْمانَهُمْ بِظُلْم اُولئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدونَ)[45].
والإيمان بالله واليوم الآخر هو العامل الأساسي في تحكيم المباني الأخلاقية في الفرد والمجتمع ، كما لا بدّ من الاعتقاد باختيار الإنسان وخلوده حتّى تتمّ الأخلاق وتحيى ، ويعيش الإنسان في مدينة فاضلة رغيداً سعيداً.
وعظمة الإنسان بأخلاقه السامية الرفيعة ، وأولى الناس بالأخلاق الأطباء والعلماء . فهم أطباء الروح والجسد.
وإنّ الطبيب
إنّما يعاشر في حياته آلاف المرضى الذين يتصارعون مع الموت ، وبان الانكسار على وجوههم وأصابهم اليأس والخمول ، يتململون كتململ السليم من شدّة الأوجاع والآلام ، لم يبرحوا عن السرير أياماً ، شهوراً ، يقضون أيامهم الأخيرة وربما أنفاسهم الأخيرة ، قد غسلوا أيديهم عن الحياة وانهارت أعصابهم يتصارعون مع الفقر والحبوب والأقراص والإبر والعمليات ذات القيم الباهضة ، وتكسّرت ضلوعهم بين الأنين والحسرات ، وليس لهم إلاّ برحمة الله المتجلّية في محيّا الطبيب ووجهه الباسم ، وأخلاقه الطيّبة التي تزرع في وجود المريض روح الأمل وعشق الحياة.
فلو لم يكن الطبيب خلوقاً ، ولم يحمل بين حناياه الرحمة واللطف ، ولم يتّصف بالأخلاق الحسنة ، ولم يحبّ الإنسان ، عارياً من الشفقة والعطوفة ، يركض وراء الماديات والملاذّ والشهوات ، محبّاً للجاه والمقام ، هلوعاً طمّاعاً سيء الخلق ، كيف يسعد المريض بعلاجه وطبابته ؟ ! !
ومن هنا يعلم الأهمية البالغة لدروس الأخلاق في الجامعات الطبية ، ومع كلّ الأسف الشديد تفقد جامعاتنا هذا الجانب الأساسي في حياة الطبيب.
ثمّ علم الطبّ ليس من العلوم الطبيعية وحسب كما هو المشهور والمعروف ، بل في الواقع يعدّ من العلوم الإلهية أيضاً ، فإنّه من خير السبل إلى معرفة الله سبحانه وتوحيده ، فإنّ الطبيب عندما يقف على صنع بدن الإنسان يبقى مندهشاً ومتحيّراً من دقّة النظام والحكمة ولطافة الخلقة والأسرار المودعة في وجوده ، فيسبّح الله على حكمته وعظيم صنعه:
(إنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوْم يَتَفَكَّرونَ)[46].
وفي الحديث النبويّ والعلويّ الشريف : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه» ،
وقال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:
(سَنُريهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أ نَّهُ الحَقُّ)[47].
كما
إنّ الطبّ من الواجبات الكفائية التوصّلية في الفقه الإسلامي ، فلولاه لاختلّ النظام الاجتماعي ، فلا بدّ من ثلّة صالحة أن تقوم بهذا الواجب ، وإلاّ فإنّه يأثم الجميع ، وهذا يعني أنّ الطبابة للطبيب ليست وظيفة اجتماعية وحسب ، بل من الوظائف الإلهية أيضاً ، وربما يكون الكفائي عينياً فيما لو انفرد قيام الواجب به ، كما هو مذكور في علم الفقه ، ولو كان في بلد من به الكفاية من طبيب ، فعلى الآخر أن يذهب إلى المناطق التي تحتاجه وتفتقر إليه ، وأن يبذل الطبيب كلّ جهده في معالجة مرضى البلد.
ولمّا كان موضوع الطبّ هو الإنسان فعلى الطبيب أن يعرفه في كلّ أبعاده ، لا سيّما في البعدين الأساسيين ، وهما : الروح والجسد ، فلا بدّ أن يعرف روح الإنسان كما يعرف خفايا بدنه ، لأنّ الطبيب بطبّه ، ليس مع ماكنة متحرّكة من دون روح ، حتّى يهتمّ بالظاهر وبالحركة الفيزيكية ، بل لا بدّ أن يطّلع على العالم الميتافيزيقي أيضاً . فلا بدّ للطبيب أن يكون طبيب الروح والجسد ( الطبيب الروحاني والطبيب الجسماني ) ( الطبّ الروحاني والطبّ الجسماني ) والمتكفّل لمعرفة الطبّ الروحاني هو علم الأخلاق ، فيلزم على الطبيب أن يكون متخلّقاً بالطبّ الروحاني وبالأخلاق الطبّية الروحية.
ثمّ هنا روابط وعلائق وثيقة بين الروح والجسد ، فكلّ واحد يؤثّر على الآخر ، فإنّ العقل السليم في الجسم السليم ، وإنّ الخجل يؤثّر على احمرار الوجه ، كما أنّ صفعة الوجه توجب احمراره . وربما العقد النفسية تخلق أمراضاً جسدية ، تزول العقد ولكن يبقى الأثر من الأمراض والأسقام . والعمدة في الأخلاق ، ليس الأخلاق الفطرية والحكمة
النظرية ، بل الأخلاق العملية وتطبيق الحكمة النظرية في مقام العمل ، وربما تكون دروس النظريات سهلة التناول والحفظ ، ولكن ما أصعب العمل . فالأخلاق نور ينفذ في القلوب المظلمة ، وإفاضات تحيط الروح الإنسانية الخالدة.
فالأخلاق لا بدّ فيها من وجدان يقظ وضمير حيّ ، ومن تذوّقها ، لا مَن سمعها ، ومن لمسها ، لا من قرأها . كما قال سبحانه وتعالى:
(إنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ وَألْقى السَّمْعَ وَهُوَ شَهيد)[48].
فلا بدّ في حكومة الأخلاق في وجود الفرد والمجتمع من ضمان ، ألا وهو الإيمان الراسخ في الصدور بالله ويوم القيامة ، الذي جاء به الشرائع السماوية ، لتعديل الغرائز البشرية وتهذيب العواطف الإنسانية ، وتوحيد الوجدان المختلف فيه ، كما قاله سبحانه في فلسفة بعثة الأنبياء:
(كانَ النَّاسُ اُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ وَأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيما اخْتَلَفوا فيهِ)[49].
فمن آمن بالله واليوم الآخر ، وعلم أن هناك يوماً يحاسب فيه على كلّ صغيرة وكبيرة:
(وَقِفوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤولون)[50].
فإنّه يراعي الأخلاقيات الحسنة ويلتزم بها ، ويعلم أنّ الوجدان بوحده لا يكفي في تنفيذ حكومة الأخلاق في الفرد والمجتمع ، ولمثل هذا نرى الأنبياء يبشّرون الناس بثواب أعمالهم ، كما ينذرونهم بالعقاب وبسوء أفعالهم.
وبعد الإيمان إنّما شرف الإنسان بعلمه ، وإنّ الله سبحانه يقول:
(يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنوا وَالَّذينَ اُوتوا العِلْمَ دَرَجات)[51].
فالرفعة للمؤمن العالم ، وإنّما فضل آدم (عليه السلام) على الملائكة لما يحمل من العلم الوسيع:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها)[52].
حتّى صار مسجوداً للملائكة وكان خليفة الله في أسمائه وصفاته في الأرض ، وإنّ الإسلام يدعو الناس إلى العلم والتعلّم ، وإنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، وإنّ
الله يحبّ بغاة العلم ، والعلم في الإسلام يعمّ كلّ العلوم البشرية ، وإنّ العلماء من عباد الله يخشون الله سبحانه:
(إنَّما يَخْشى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ)[53].
وإنّ العالم هنا لا ينحصر بعلم الشريعة والفقه والأخلاق ، بل حتّى العالم بالطبّ عندما يقف على حكمة خلق الإنسان وعظمته يخشع أمام خالقه وصانعه.
وقد اهتمّ الإسلام بعلم الطب ، فمن أحياها ( النفس ) فكأ نّما أحيا الناس
جميعاً[54] . والإمام الصادق (عليه السلام) يقول : لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا ذلك كانوا همجاً ( أي بمنزلة الحيوانات ) : فقيه بارع ورع ، وأمير مطاع ، وطبيب بصير ثقة.
وقال (عليه السلام) : كان المسيح (عليه السلام) يقول : إنّ لتارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة ، وذلك أنّ الجارح أراد فساد المجروح ، والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه ، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً[55].
وهذه الرواية إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على عظمة مسؤولية الأطباء والجرّاحين تجاه مرضاهم ، فإنّ إهمالهم إيّاهم بمنزلة قتلهم ، ومن قتل نفساً فكأ نّما قتل الناس جميعاً ، فتدبّر.
ولا بدّ من التخصّص في علم الطبّ ، لأنّ الله سبحانه يقول:
(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)[56].
فكيف يجوّز الدواء من لم يكن عالماً بالداء ، فعلى الطبيب أن يكون حاذقاً بصيراً كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) ، فيلزمه أن يكمل علمه حتّى يجوز له الطبابة ، وإلاّ فهو ضامن كما قال الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) : « من تطبّب ولم يعلم منه الطبّ ( قبل ذلك ) فهو ضامن» ، فيما لو أوجب
نقص عضو أو تلف نفس أو ما شابه ذلك . قال (صلى الله عليه وآله) : « من تطبّب ولم يكن بالطبّ معروفاً ، فإذا أصاب نفساً فما دونها فهو ضامن».
وما أروع ما يقوله أمير المؤمنين (عليه السلام) في تعيين وظائف الإمام والسلطان
الفقيه المبسوط اليد ، قال (عليه السلام) : « يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء والجهّال من الأطباء»[57].
فيلزم الطبيب أن يكمل دراساته الطبية بجدّ ومثابرة وتواصل ، ولا يقطع المشاورة مع الأطباء ، ويواكب الحضارة الطبية بمطالعة آخر تطوّراته وحوادثه ، وأن لا يتدخّل بما لا اختصاص له فيه ، فإذا كان طبيب القلب ، فلا يجيز الدواء لمريض الكبد ، بل يرجعه إلى ذوي الاختصاص . وإنّما يجوز الدواء بعد تشخيص المرض والداء ، لا أن يمتحن الدواء على مريضه ويتصوّره من جرذان التجربة.
فكلّ إنسان ولا سيّما أطباء الروح والجسد ، إنّما هو مسؤول أمام نِعَم وآلاء الله:
(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعيمِ)[58].
كما إنّه مسؤول أمام خلق الله ، كما إنّ كلّ صاحب حرفة وصنعة مسؤول عن حسن العمل وإخلاصه ، كما إنّ الطبيب مسؤول أمام خالقه وعلمه وشعبه وحرفته وأساتذته والعلماء الذين حفظوا له هذا العلم المقدّس ، وإنّه مسؤول أمام مريضه.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : ألا وإنّ من البلاء الفاقة ، وأشدّ من الفاقة مرض البدن ، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب[59].
فطالب كلية الطبّ عليه أن يقدّر هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله عليه من دون زملائه في الثانوية ، فلا يضيّع وقته بالبطالة والجهالة ، فإنّ ذلك من الخيانة بشبابه وأهله وشعبه وبيت المال وحكومته ، وبذلك يعدّ جرمه من أعظم الجرائم ، فمن لم
يبذل كلّ جهده ، ويستفرغ كلّ وسعه ، في تكميل علمه ، فإنّ ضرره أكثر من نفعه ، فالحياة عقيدة وجهاد من اجل تلك العقيدة ، وسعادة المرء ومجتمعه إنّما مرهونة بهذين العاملين : العقيدة والفكر الصحيح ، والجهاد والعمل المستمرّ . فلا ضجر ولا كسل ، فإنّهما عاملان يهدّمان الحياة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : إيّاك وخصلتين : الضجر والكسل فإنّك إن ضجرت لم تصبر على حقّ ، وإن كسلت لم تؤدّ حقّاً.
ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : إيّاك والكسل فإنّه من كسل لم يؤدّ حقّ الله عزّ وجلّ.
وقال لقمان لابنه : للكسلان ثلاث علامات : يتوانى حتّى يفرّط ، ويفرّط حتّى يضيّع ، ويضيّع حتّى يأثم.
والشعب الذي يفقد الفكر السليم والعمل الدؤوب ، فإنّ الاستعمار يتسحمره وينهب ثرواته ويسمّيه وحشياً ، ويتعامل معه معاملة الوحوش ، كما نرى ذلك في العالم الثالث _ على حدّ تعبيرهم _ فلا بدّ من إصلاح الفرد والمجتمع وسوقهم إلى السعادة الدنيوية والاُخروية ، وذلك بالتقوى وتزكية النفس وبالتعبّد والتقرّب إلى الله سبحانه.
والوقاية خير من العلاج ، وإنّما حفظ الشيء ممّا يؤذيه ويضرّه ، وجعل النفس في وقاية ممّا يخاف.
وأوّل قدم في السير والسلوك إلى الله سبحانه هو التقوى ، ولا ينفع اجتهاد لا ورع فيه ، وإلاّ فإنّ عاقبة من لم يكن متّقياً من الذنوب والمعاصي على سوء وضلالة ، كما قال الله سبحانه:
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ أساؤوا السُّوأى أنْ كَذَّبوا بِآياتِ اللهِ وَكانوا بِها يَسْتَهْزِئونَ)[60].
وفي الحديث الشريف : « ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال حتّى تغلب عليه ، فيصير أعلاه أسفله».
فلو أدرك الإنسان هذه الحقيقة ،
أنّ القلب وعاء وخير القلوب أوعاها ، وإنّها تتقبّل الفيوضات الإلهية والرحمة الرحمانية والرحيمية ، لو كان الإناء صحيحاً في وضعه ، وأمام الرحمة والفيض ، أمّا إذا انقلب وانعكس ، وكان أعلاه أسفله من أثر الذنوب والمعاصي المتكرّرة من دون التوبة ، فإنّه من المستحيل أن يكون موضعاً للعلم الإلهي ووعاءً للرحمة الإلهية[61].
فاتّقوا الله حقّ تقاته:
(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَد وَاتَّقوا اللهَ)[62].
ولا بدّ من برامج ومشارطة مع النفس ، ثمّ مراقبتها ، ثمّ محاسبتها ، ثمّ معاتبتها ولومها[63] عند التخلّف عن الشرائط والبرامج.
قال الإمام الكاظم (عليه السلام) : ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ، فإن عمل حسناً استزاد الله ، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه.
والطبيب في سيره وسيرته عليه أن يراعي هذه الاُصول الأخلاقية في حياته العامّة والخاصّة ، ويكون طبيباً دوّراً بطبّه ، كما عليه أن يراعي الاُصول الطبية ، وإن كان حاذقاً.
والإسلام يدعو إلى سلامة الإنسان في كلّ أبعاده في حياته الفردية والاجتماعية ، الجسدية والروحية ، وبعد مماته.
يقول الاُستاذ محمد الخليلي في مقدّمة الطبعة الثالثة لكتابه « طبّ الإمام الصادق (عليه السلام)» : الإنسان مخلوق ركّب من روح وبدن ، ولكلّ من جزئيه صحّة ومرض ، وما يحدث لكلّ منهما يؤثّر في الآخر ، أمّا الطبيب فهو المطيّب للنفوس بكلامه وأخلاقه والمعالج للروح والبدن والحافظ لصحّتهما بالعقاقير والإرشادات الصحية معاً ، بمعنى أنّ الطبيب الحقيقي هو طبيب الروح والبدن . ذلك لأ نّا نرى أنّ كثيراً من العوارض النفسية والروحية كالغضب والحزن والحبّ والفراق وأمثالها ، تسبّب انحراف صحّة البدن ، كما إنّ انحراف صحّة البدن تغيّر الأخلاق ، وتسيء الطباع وتكدّر الحواسّ ،
إلى غير ذلك ، فإذا لم يكن الطبيب روحياً عارفاً بالانحرافات النفسية ، فلا بدّ له أن يعالج هذه العوارض البدنية الناشئة عن عوارض الروح بالمسهلات أو المشهّيات أو ما أشبه ذلك ، وهذا الطبع لا يوصله إلى الدواء الناجع المفيد ، لأنّ العلاج في الحقيقة هو إزالة السبب ، وكذلك إذا رأى في مريض أرقاً أو قلقاً ناشئاً عن الفكر المزعج أو الخيالات الفاسدة ، داواه بالحبوب المهدّئة والمنوّمة ، وهذا أيضاً بالطبع لا يغني ولا يشفي ، إذا لم يدفع السبب ، وهو الخيال والفكر ، لكن الطبيب النطاسي الحكيم الجامع للطبّين ، والعارف بالعلاجين : الروحي والبدني ، فإنّه ينظر إلى المريض من الوجهتين ، فمن كان محتاجاً إلى العقاقير الطبية
عالجه بها ، ومن كان محتاجاً إلى النصح أو التسلية أو إدخال الطمأنينة والاستقرار إلى قلبه ، وذلك بتهوين المرض أو الأوجاع أو أمثالهما ، ممّا يراه مناسباً للوقت والمرض ، داواه بها ، وأحياناً بهما معاً.
فمثل هذا هو الطبيب الكامل والمعوّل عليه في ملاحظة الجسم والروح ومعرفة طرق علاجهما ، وبديهي أنّ ذلك لا يتيسّر إلاّ لكبار رجال الفنّ ، أو أعاظم أئمة الدين الذين اقتبسوا فنّهم الروحي عن السماء ، وأخذوا علاجهم بالتلقين والتعليم النبوي والصحف السماوية الحكيمة.
أمّا الإسلام فإنّه يرى الإنسان موجوداً ، خلق ليعيش في عوالم كثيرة ، وكلّها تحتاج إلى صحّة وسلامة واطمئنان ، ليسعد في حياته ، ويرغد عيشه لذلك ، فقد ضمن له إصلاح كلّ تلك النواحي بتعاليمه وإرشاداته ، في فروضه ومستحبّاته ومكروهاته ومباحاته ، كما إنّه يرى أنّ الروح والجسم وإن كانا وجودين مستقلّين لكنّهما ممتزجان ومتّصلان اتّصالا يجعل أيّ تغيّر يحصل في
إحداهما فهو في الآخر صحّة أو مرضاً لذلك ، فهو يطبّهما مادياً ومعنوياً ، ويعالجهما دنيوياً واُخروياً.
خذ مثلا : الغسل والوضوء والتيمّم ، وانظر إلى شروطها وترتيبها ، لتعرف منظور الدين الإسلامي الحكيم في جعلهما تطهيراً عرفياً وطبياً في جنب الطاعة الموجبة لاطمئنان الخاطر ، والأمن في أداء الواجب الاُخروي ، ومن البديهي المسلّم أنّ أهمّ ما يلحظه الدين الإسلامي في العلاج والإصلاح في كلّ تكاليفه ، هو إدخال الطمأنينة والأمن إلى النفوس ، فإنّهما الحجر الأساس في مداواة الروح والبدن.
فالأنبياء على هذا هم الأطباء الروحيون ، وهم المربّون الأخلاقيون ، فإنّه لم تهبط رسالة سماوية ، ولم يبعث نبيّ أو رسول ، إلاّ بتهذيب الأرواح وصحّة النفوس وتعليم الأخلاق الفاضلة ، ولكن لمّا كان الجسم قالباً للروح ، وكانت لسلامته وصحّته دخل كبير في صحّة الروح وسلامتها ، كان القسم الوافر من تعاليم الأنبياء لعلاج البدن ومداواة أمراضه وأدوائه.
قال النبي (صلى الله عليه وآله) : إنّ هذه القلوب تعمل كما تعمل الأبدان.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : إنّ للأبدان حالات ستّ : الصحّة والمرض والنوم واليقظة والموت والحياة ، وكذلك الأرواح فإنّ صحّتها اليقين ومرضها الترديد ، ونومها الغفلة ويقظتها التوجّه ، وموتها الجهل وحياتها العلم.
ومن هنا نعرف أنّ سلامة الروح وصحّتها تدلّ على صحّة الجسم ، لذلك قيل : العقل السليم في الجسم السليم ، وإنّ من أعظم دلائل صحّة الروح هي سلامة الأخلاق والاتّصاف بمكارمها ، لذلك قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : « بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق».
إذن فالدين الإسلامي هو ذلك الدين السماوي ، الذي يكفل صحّة الأبدان والأرواح بالأخلاق ، ويعالج أمراضهما بالتعاليم والإرشادات ،
والنبيّ (صلى الله عليه وآله) هو ذلك الطبيب العالمي العظيم ، ومنقذ الأرواح والأجسام من الأمراض والآلام بقرآنه الكريم وسننه الشريفة . ولمّا ارتقى (صلى الله عليه وآله) بروحه إلى الرَّوْح والريحان ، خلّف من بعده قرآنه وعترته الأطهار (عليهم السلام) ، الذين هم مبلّغو سنّته ، وموضّحو قانونه ، وحافظو شريعته ، لذلك تجد الأئمة أوصياء النبيّ (صلى الله عليه وآله) كلّهم يعالجون الأرواح والأبدان ، ويداوون بالعقاقير وبالكلمات الحكيمة والتعاليم القيّمة والإرشادات النافعة.
هذا وقد حان الوقت لنشير إلى أهمّ الأخلاق الطبية التي على الطبيب أن يراعيها في حياته الطبية ، مع ربّه ومع نفسه ومع مريضه ، وإنّما نذكر أهمّ الأخلاق الحسنة في هذا الباب ، ونراعي الاختصار ، فإنّ خير الكلام ما قلّ ودلّ.
والله المستعان ، الموفّق للصواب والرشاد.
---
[1] دعاء أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لكميل بن زياد ، كما جاء في كتاب « مفاتيح الجنان» للشيخ عباس القمي (قدس سره).
[2] الملك : 2.
[3] المائدة : 22.
[4] مقدّمة كتاب « أخلاق بزشكي» للشيخ حسن حسن زادة الآملي : 22 ، عن كتاب الحاوي الصغير لصائن الدين الشيرازي . وجاء في كتاب كشّاف اصطلاحات الفنون ( 1 : 61 ) : « الطبّ هو علم يبحث فيه عن بدن الإنسان من جهة ما يصحّ ويمرض لالتماس حفظ الصحّة وإزالة المرض».
ويعتقد أغلب الحكماء والمؤرّخين أنّ أوّل طبيب تكلّم في الطبّ هو اسقليبيوس ، وذلك قبل الطوفان ب_ ( 545 ) عاماً ، وقيل إنّه من الأنبياء ، وقيل إنّه تلميذ إدريس النبيّ.
وبعد وفاة اسقليبيوس ظهر غورس في تأريخ الطبّ ، وبعده مينس ثمّ برمايندس ثمّ أفلاطون ثمّ اسقليبيوس الثاني ، ثمّ تلميذه أبقراط ،
وفي هذه البرهة الزمنية التي بلغت أربعة آلاف سنة كان الطبّ في الصدور ، ثمّ دوّنها وحرّرها بقراط ، وبهذا ينسب علم الطبّ التدويني إليه ، والمقصود أ نّه أذاع الطبّ ونشره بعدما كان موروثياً.
وبعد بقراط ب_ ( 665 ) عاماً ظهر جالينوس وقد أحيا الطبّ وأوسع نطاقه ودائرته ، فسمّي بخاتم الأطباء ، وهؤلاء الثمانية من مشاهير علماء الطبّ القدماء.
وقيل : إنّ الطبّ كان معدوماً فأوجده بقراط ، وميّتاً فأحياه جالينوس ، وأعمى فبصّره حنين ، ومتفرّقاً فجمعه ابن زكريا ، وناقصاً فكمّله ابن سينا.
[5] مريم : 15.
[6] الانشقاق : 6.
[7] الروم : 30.
[8] الشمس : 8 .
[9] نهج البلاغة ، الخطبة 88 .
[10] القلم : 4.
[11] الشمس : 8 .
[12] الصفّ : 10.
[13] آل عمران : 190.
[14] الرعد : 28.
[15] محمد : 36.
[16] آل عمران : 185.
[17] الروم : 7.
[18] راجع الكافي ، المجلّد الأوّل ، كتاب العقل والجهل.
[19] كما جاء ذلك في الروايات عن الأئمة الأطهار ، وبيّنا ذلك في كتاب « الحقّ والحقيقة بين الجبر والتفويض» ، فراجع.
[20] القيامة : 2.
[21] الحجر : 39.
[22] المائدة : 105.
[23] التحريم : 6.
[24] الحجر : 94.
[25] الشمس : 9.
[26] الجمعة : 2.
[27] البحار 59 : 62 ، طبع بيروت.
[28] البقرة : 184.
[29] النساء : 29.
[30] البقرة : 196.
[31] البحار 59 : 78.
[32] الشعراء : 80 . 33] أخلاق الطبيب : 88 .
[34] الأنعام : 38.
[35] الجمعة : 2.
[36] الرحمن : 1 _ 3.
[37] الأنعام : 38.
[38] يونس : 57.
[39] النساء : 113.
[40] النساء : 113.
[41] الطبّ في القرآن والسنّة ، بقلم محمد محمود عبد الله : 5.
[42] البقرة : 148.
[43] طه : 50.
[44]
الرعد : 28.
[45] الأنعام : 82 .
[46] الروم : 21.
[47] فصّلت : 53.
[48] ق : 37.
[49] البقرة : 214.
[50] الصافّات : 24.
[51] المجادلة : 11.
[52] البقرة : 31.
[53] فاطر : 28.
[54] كما في سورة المائدة : 22.
[55] الآداب الطبية : 87 .
[56] الإسراء : 36.
[57] الآداب الطبّية : 92.
[58] التكاثر : 8 .
[59] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الرقم 388.
[60] الروم : 10.
[61]لقد ذكرت تفصيل هذا الموضوع ذو الأهمية البالغة في كتاب « حقيقة القلوب في القرآن الكريم» ، وهو مطبوع ، فراجع.
[62] الحجر : 18.
[63] هذه مراحل أربعة في تهذيب النفس يذكرها علماء الأخلاق ، وهي : المشارطة والمراقبة والمحاسبة والمعاتبة.
إنّ الله قد حثّ في كثير من آياته على أصالة التقوى الفردية والاجتماعية ، وما أكثر الروايات في ذلك ، فكلّ واحد من المجتمع عليه أن يراعي التقوى وصيانة النفس من الذنوب والمعاصي ، إلاّ أنّ هذه الخصلة الربّانية لا بدّ وأن تتجلّى في رجل الدين والطبيب أكثر من غيرهما.
فالطبيب من خلال علمه وتشريحه للإنسان ، يعتقد في قلبه بالمبدأ والمعاد ، فيؤمن بالله سبحانه ، بأنّ الإنسان وما فيه من العجائب والغرائب من تعدّد القوى واختلاف النفوس ، لا بدّ أن يكون له من مدبّر حيّ قيّوم عالم قدير ، فمن المستحيل أن يكون مثل هذا النظام الدقيق في وجود الإنسان العظيم ، الذي ربما يزعم أ نّه جرم صغير ولكن انطوى فيه العالم الأكبر ، ففيه ما في الكون وزيادة ، وهي روحه التي من النفخة الإلهية:
قال الله تعالى : (يَسْألونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي وَما اُوتيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَليلا)[1].
(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيهِ مِنْ روحِهِ)[2].
فروحه ممّا
وراء المادّة _ ميتافيزيقية _ ومن عالم الغيب والأمر ، فمن المستحيل أن يكون مثل هذا النظام من خلق الصدفة _ كما يدلّ عليه برهان حساب الاحتمالات _ .
فالطبيب المؤمن بالله يلزمه التقوى والعمل الصالح ، فيكون من مصاديق الخطابات الإلهية في كتابه الكريم:
(الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ)[3].
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من تطبّب فليتّقِ الله وليصحّ وليجتهد»[4].
فيلزم الطبيب صيانة النفس كما قال محمد بن زكريا الرازي : « فأوّل ما يجب عليك : صيانة النفس عن الاشتغال باللهو والطرب ، والمواظبة على تصفّح الكتب»[5].
فالطبيب لا بدّ أن يكون متّقياً عادلا ، ومن عدالته أن يشهد بالحقّ ، ولا يكتم الشهادة ، قال الله تعالى:
(وَلا تَكْتُموا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلونَ عَليمٌ)[6].
وعن أمير المؤمنين في ذيل الآية الشريفة قال : « من كان في عنقه شهادة فلا يأبَ إذا دُعي لإقامتها وليقمها ، ولينصح فيها ، ولا تأخذه فيها لومة ، وليأمر بالمعروف ولينهَ عن المنكر»[7].
ثمّ شعب الإيمان وفروع التقوى ومصاديقها كثيرة ، وما أعظم التقوى[8] ؟ !
يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم ، وبصر عمي أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء عشى أبصاركم»[9].
ومن مصاديق التقوى ضبط النفس في الكلام والرأي والعمل ، ويكون شعاره : إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب.
كما عليه أن يكون صادقاً في قوله وفعله ويخلص في العمل والمعالجة ، ويتخيّر إخوان الصفا من عباد الله الصالحين ، فإذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ، ولا تصحب الأردى فتردى مع الرديء.
والتقوى ذو أبعاد ، كالتقوى الأخلاقية
والمالية والسياسية وغيرها ، وجمعها التقوى الإلهية . ولو كانت ملكة راسخة في وجود الإنسان ، فإنّه يصان من حملات الشياطين ، كما قال سبحانه:
(إنَّ الَّذينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّروا فَإذا هُمْ مُبْصِرونَ)[10].
ولقد اهتمّ الإسلام العظيم بالتقوى في حياة المسلم ، وما أكثر الآيات الكريمة
التي تحرّض الإنسان على كسب التقوى والتحلّي بها ، وإنّما توجب سعادة الدارين:
(إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ)[11].
(إنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقينَ)[12].
(إنَّ اللهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنونَ)[13].
(إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ)[14].
(تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتي نورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيَّاً)[15].
(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ)[16].
(وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ)[17].
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب)[18].
(أمَّا الَّذينَ سعدوا فَفي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها)[19].
(إنْ تَتَّقوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)[20].
(ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لُلْمُتَّقينَ)[21].
(وَنَفْس وَما سَوَّاها فَألْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)[22].
هذا كلّه من بركات وثمرات التقوى والتزكية ، وإنّها تعني : التطهير ، وهو إزالة الأدناس والقذرات والأوساخ الظاهرية والباطنية ، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة ، كالشرك والكفر ، وإزالة الملكات الرذيلة من الأخلاق ، كالكبر والشحّ ، وإزالة الأعمال والأفعال الشنيعة ، كالقتل والزنا وشرب الخمر ، وكلّ ما حرّم الله سبحانه.
وإنّما يلزم الطبيب التقوى من بداية أمره ، وأوّل شبابه وبلوغه ، بأن يخلّي قلبه من الرذائل والصفات الذميمة ، ثمّ يحلّيه بالأخلاق الحميدة ، ثمّ يجلّيها ويصقلها حتّى يكون مظهراً لأسماء الله وصفاته الوجودية البحتة ، فلا يغفل ولا يضجر ولا يكسل ، بل يتعبّد لله سبحانه في كلّ حركاته وسكناته طيلة حياته.
ثمّ التقوى كلّي مشكّك ذو مراتب طولية وعرضية ، اُمّهات المراتب والمراحل ثلاثة ، كما ورد في الخبر
الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : « التقوى على ثلاثة أوجه : تقوى من خوف النار والعقاب وهو ترك الحرام وهو تقوى العامّ ، وتقوى من الله وهو ترك الشبهات فضلا عن الحرام وهو تقوى الخاصّ ، وتقوى في الله وهو ترك الحلال فضلا عن الشبهة» ، وإلى هذه المراتب الثلاث اُشير في الكتاب الإلهي بقوله:
(لَيْسَ عَلى الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فيما طَعِموا إذا ما اتَّقَوْا وَآمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأحْسَنوا وَاللهُ يُحِبُّ الُمحْسِنينَ)[23].
فعلى الطبيب أن يتّقي الله في كلّ حالاته ، لا سيّما في مجال عمله ، وفيما يفعله بالمريض ، وينصح فيه ، فيجتهد في معالجته ولا يتململ ولا يتساهل على الإطلاق ، ويكون ناصحاً لا يغشّ مريضه ، وذلك من تقوى الله في المريض ، فالتقوى من أهمّ العوامل والدوافع ليقوم الإنسان بواجباته الشرعية والإنسانية على النحو الأتمّ والأفضل والأكمل.
ولمثل هذا يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من تطبّب فليتّقِ الله ولينصح وليجتهد»[24] ، فقدّم التقوى على النصح والاجتهاد ، وهذا يعني أنّ الطبيب بأمسّ الحاجة إلى هذه التقوى حتّى لا يفرّط فيما اُلقي على عاتقه من المسؤولية الكبرى.
وإليك بعض الروايات الشريفة من معدن الوحي وبيت الرسالة الأطهار (عليهم السلام) في عظمة التقوى وأهمّيتها البالغة في حياة المسلم.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« من رزق التقوى ، رزق خير الدنيا والآخرة».
« من اتّفى الله عاش قويّاً ، وسار في بلاد عدوّه آمناً».
« إنّ ربّكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، ودينكم واحد ، ونبيّكم واحد ، ولا فضل لعربيّ على عجميّ ، ولا عجمي على عربيّ ، ولا أحمر على أسود ، ولا
أسود على أحمر ، إلاّ بالتقوى».
« الحمد لله الذي صدق عبده ... إنّ الله أذهب نخوة العرب وتكبّرها بآبائها ، وكلّكم آدم وآدم من تراب ، وأكرمكم عند الله أتقاكم».
« لا كرم إلاّ بالتقوى ، لو أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد ، ثمّ اتّقى الله لجعل الله له منهما فرجاً ومخرجاً».
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
« التقوى رئيس الأخلاق».
« عليك بالتُقى ، فإنّه خُلق الأنبياء».
« التقوى أقوى أساس ، والصبر أقوى لباس».
« التقوى أفضل الأعمال».
« التقوى لا عوض عنها ولا خلف».
« التقوى أفضل كنز ، وأحرز حرز ، وأعزّ عزّ».
« والتقوى فيه نجاة كلّ هارب ، ودرك كلّ طالب ، وظفر كلّ غالب».
« إنّ من فارق التقوى اُغري باللذات والشهوات ووقع في تيه السيّئات ، ولزمه كثير التبعات».
« أيسرّكَ أن تكون من حزب الله الغالبين ؟ اتّقِ الله سبحانه وأحسن في كلّ اُمورك ، فإنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون».
« أوصاكم الله بالتقوى ، وجعلها منتهى رضاه ، وحاجته من خلقه ، فاتّقوا الله الذي أنتم بعينه ، ونواصيكم بيده».
« التقوى منتهى رضا الله من عباده ، وحاجته من خلقه».
« اُوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنّها خير ما تواصى العباد به ، وخير عواقب الاُمور عند الله».
« اُوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنّها الزمام والقوام ، فتمسّكوا بوثائقها ، واعتصموا بحقائقها».
« اُوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنّه غبطة الطالب ، وثقة الهارب اللاجي ، واستشعروا التقوى شعاراً باطناً».
« ألا فصونونها وتصوّنوا بها ، من تعرّى عن لباس التقوى لم يستتر بشيء من أسباب الدنيا».
« التقوى حصن المؤمن ، وأمنع حصون الدين التقوى».
« إلجأوا إلى التقوى ، فإنّه جُنّة منيعة من
لجأ إليها حصنته ، ومن اعتصم بها عصمته ، فاعتصموا بتقوى الله ، فإنّ لها حبلا وثيقاً عروته ، ومقعلا منيعاً ذروته».
« التقوى مفتاح الصلاح».
« ما أصلح الدين كالتقوى».
« إنّ تقوى الله عمارة الدين وعماد اليقين».
« وإنّها لمفتاح صلاح ومصباح نجاح».
« إنّ تقوى الله مفتاح سداد وذخيرة معاد ، وعتق من كلّ ملكة ، ونجاة من كلّ هلكة ، بها ينجح الطالب ، وينجو الهارب ، وتنال الرغائب».
« سبب صلاح الإيمان التقوى».
« إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتّى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ، فأخذوا الراحة بالنصب ، والرِّيّ بالظمأ ، واستقربوا الأجل فبادروا العمل».
« ومن غرس أجار التقى جنى ثمار الهُدى».
« للمتّقي هدىً في رشاد ، وتحرّج عن فساد ، وحرص في إصلاح».
« معاد التقوى ظاهره شرف الدنيا وباطنه شرف الآخرة».
« لا كرم أعزّ من التقوى».
« إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمن فزع جأشكم ، وضياء سواد ظلمتكم».
« داووا بالتقوى الأسقام ، وبادروا بها الحمام».
« التقوى آكد سبب بينك وبين الله إن أخذت به ، وجُنّة من عذاب أليم».
« لا يقلّ مع التقوى عمل ، وكيف يقلّ ما يتقبّل ؟».
« صفتان لا يقبل الله سبحانه الأعمال إلاّ بهما : التقى والإخلاص».
« من اتّقى الله سبحانه جعل له من كلّ همّ فرجاً ومن كلّ ضيق مخرجاً».
« من أخذ بالتقوى غَرَبت عنه الشدائد بعد دنوّها ، واحلولت له الاُمور بعد مرارتها ، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها ، وأسهلت له الصعاب بعد إنصابها».
« اعلموا أ نّه (
من يتّقِ الله يجعل له مخرجاً ) من الفتن ، ونوراً من الظلم ، ويخلّده فيما اشتهت نفسه ، وينزل منزل الكرامة عنده ، في دار اصطنعها لنفسه ، ظلّها عرشه ، ونورها بهجته ، وزوّارها ملائكته ، ورفقاؤها رسله».
قال الله تعالى:
(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إلاّ وَأنْتُمْ مُسْلِمونَ)[25].
لا يخفى ما ذكرناه عن الرسول الأكرم وأمير المؤمنين (عليهما السلام) إنّما هو غيض من فيض ، فعندنا الاُلوف من الأخبار في التقوى من جوانب عديدة من الرسول الأكرم وعترته الطاهرين (عليهم السلام)[26] ، إلاّ أ نّه نكتفي بهذا المقدار طلباً للاختصار.
---
[1] الإسراء : 80 .
[2] السجدة : 9.
[3] الرعد : 29.
[4] البحار 59 : 74 ، المستدرك 3 : 127. 5] أخلاق الطبيب : 19.
[6] البقرة : 282.
[7] الوسائل ، الجزء 18.
[8] لقد تعرّضنا إلى شيء من التفصيل حول التقوى في رسالة « كلمة التقوى في القرآن الكريم» ، وهي مطبوعة ، فراجع.
[9] ميزان الحكمة 8 : 243.
[10] الأعراف : 201.
[11] آل عمران : 76.
[12] المائدة : 27.
[13] النحل : 128.
[14] الحجرات : 13.
[15] مريم : 63.
[16] الزمر : 61.
[17] الأعراف : 26.
[18] الطلاق : 5.
[19] هود : 108.
[20] الأنفال : 29.
[21] البقرة : 2.
[22] الشمس : 7 _ 10.
[23] جامع السعادات 2 : 186 ، والآية من سورة المائدة : 96.
[24] البحار 62 : 74.
[25] آل عمران : 102.
[26] نقلت الروايات من ميزان الحكمة 10 : 618 _ 664 ، عن البحار 73 ، وغرر الحكم ، ونهج البلاغة ، فراجع.
( 2 )
إنّ أسماء الله وصفاته توقيفية ، وقد بلغت الألف ونيّف ، وكلّها تدلّ على الرحمة
الرحمانية والرحيمية ، أي الرحمة العامّة ، كالرحمان فإنّها للمؤمن والكافر في الدنيا والرحمة الخاصّة ، كالرحيم المختصّة بالمؤمنين ، فكلّ أسماء الله تدلّ على الرحمة العامّة والخاصّة ، إلاّ بعضها التي تعدّ بالأصابع كالقهّار والمنتقم وشديد العقاب . فهي وإن دلّت على الغضب الإلهي إلاّ أ نّها في واقعها وصميمها ترجع إلى الرحمة أيضاً ، كما هو مذكور في محلّه.
والحقّ أنّ مثل هذه الأسماء أيضاً من الرحمة الإلهية ، فيا من سبقت رحمته غضبه ، وإنّه أرحم الراحمين ، وإنّ الرحمة والشفقة القلبية والحنان والعطوفة من الصفات الحميدة والأخلاق الطيّبة ، فما أكثر الآيات والروايات التي تحثّ الإنسان على أن يتخلّق بهذه الصفة المباركة « إرحم من في الأرض يرحمك من في السماء» ، فالرحمة من كلّ واحد حسناً إلاّ أ نّه من الطبيب بالنسبة إلى مرضاه أحسن ، فلا بدّ للطبيب في نظر الإسلام أن يكون رحيماً ، تتجلّى الرحمة الإلهية في حركاته وسكناته ، في أقواله وأفعاله ، ويتعامل مع المريض بكلّ رفق وشفقة ورحمة ، فإنّه يحتاج إلى رحمة الطبيب أكثر من كلّ شيء في مقام شفائه وعلاجه.
فالطبيب إنّما هو من مظاهر رحمة الله:
(فَبِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَليظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[1].
وجاء في الطبّ الروحاني لمحمّد بن زكريا الرازي : « إنّ السيرة التي بها سار ،
وعليها مضى أفاضل الفلاسفة ، هي بالقول المجمل : معاملة الناس بالعدل والأخذ عليهم من بعد ذلك بالفضل ، واستشعار العفّة والرحمة والنصح للكلّ ، والاجتهاد في نفع الكلّ إلاّ من بدأ منهم بالجور والظلم»[2].
فالعمدة في أخلاق الطبيب أن يستشعر من قلبه الرحمة والشفقة وهي العاطفة التي إذا تحلّى بها
الطبيب انشرح بها صدره وشعر بلذّة وسرور في عمله ، فحينئذ يحسّ بسعادة وشغف وارتياح ضمير ، حينما يحنّ قلبه على المرضى ويشفق على من يعالجه ، ويتعامل معه بكلّ رفق ولين.
وإليك نماذج من الآيات والروايات الشريفة الدالّة على الرحمة والشفقة القلبيّة:
قال الله تعالى:
(مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)[3].
(وَجَعَلْنا في قُلوبِ الَّذينَ اتَّبَعوهُ رَأفَةً وَرَحْمَة)[4].
(وَتَواصَوْا بِالرَّحْمَةِ)[5].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة ، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء».
« من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة».
« من لا يَرحم لا يُرحم».
« إنّ الله رحيم يحبّ الرحيم يضع رحمته على كلّ رحيم».
« إرحم المساكين».
« يا أنس ، ارحم الصغير ووقّر الكبير تكن من رفقائي».
« ارحموا عزيزاً ذلّ ، وغنياً افتقر ، وعالماً ضاع في زمان جهّال».
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« أحسن يحسن إليك ، إرحم ترحم».
« وإنّما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية ، ويكون الشكر هو الغالب عليهم».
« من لا يرحم الناس منعه الله رحمته».
« ارحم من أهلك الصغير ووقّر الكبير»[6].
---
[1] آل عمران : 159. 2] أخلاق الطبيب : 27.
[3] الفتح : 29.
[4] الحديد : 27.
[5] البلد : 17.
[6] ميزان الحكمة 4 : 68.
( 3 )
من أهمّ أخلاق الطبيب حسن الخلق وطلاقة الوجه والبشاشة ، فإنّها محبّذة من كلّ واحد ، فإنّ المؤمن هشّ بشّ ، بشره في وجهه وحزنه في قلبه ، وما أكثر الآيات والروايات الشريفة الدالّة على ذلك.
فإنّ حسن الخلق يوجب سعادة الدارين ، ويزيد في الرزق ، ويجلب حبّ الناس ومودّتهم ، ويعين على التقدّم والازدهار ، ومن ساء
خلقه فرّ الناس منه ، وأضرّ بصرح سعادته ، وفي الحديث الشريف : « ليس شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق».
« والخُلق بمعنى الطبيعة والنظرة والسجيّة ، وهو الدين والطبع ، وحقيقته أ نّه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصّة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة ، والثواب والعقاب يتعلّقان بأوصاف الصورة الباطنة ، أكثر ممّا يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة ، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع كقوله : « من أكثر ما يدخل الناس الجنّة تقوى الله وحسن الخلق» ، وقوله : « أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً» ، وقوله : « إنّ العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» ، وقوله : « بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق» وكذلك ورد في ذمّ سوء الخلق أيضاً أحاديث كثيرة ، وفي حديث عائشة عن رسول الله : « كان خلقه القرآن» أي كان متمسّكاً به وبآدابه وأوامره ونواهيه وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف ....
وخالق الناس : عاشرهم على أخلاقهم ، قال:
خالق الناس بخلق حسن *** لا تكن كلباً على الناس يهرّ»[1]
فالخَلق _ بفتح الخاء المعجمة _ والخُلق _ بضمّها _ يشتركان في الأصل ، إلاّ أ نّها مع الفتح بمعنى الهيئة الظاهرية ، ومع الضمّ بمعنى البواطن والسجايا ، وتطلق على الأفعال والملكات والصفات ، وبإضافتها إلى الحسن والسوء تميّز الأخلاق الطيّبة من الذميمة والسيّئة ، وربما يقال هذا عمل أخلاقي ويراد به الحسن ، وهذا غير أخلاقي ويراد به السوء . ويمتاز العمل الأخلاقي عن العادي ، أ نّه يكون ممدوحاً ويصدر من الإنسان لرغبة ومن دون ترديد وشكّ وإكراه ،
يرافقه المدح العقلائي كالعفّة والتقوى وحسن الخلق والوفاء والسخاء وما شابه ذلك ، وهو إمّا أن يكون ذاتياً أو كسبيّاً ، تفصيل ذلك في علم الأخلاق وفلسفته ، ثمّ الدين الإسلامي ليحثّ الناس إلى التخلّق بالأخلاق الحميدة والسجايا الحسنة وحسن الخلق ، ويهتمّ بذلك غاية الاهتمام ، حتّى قيل من أوجب الواجبات تعلّم الأخلاق والتحلّي بها ، فإنّ الله سبحانه بعد أحد عشر قسماً يقول:
(قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)[2].
وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على عظمة علم الإخلاق وأهميّته البالغة على الفرد وفي المجتمع ، فلولا ذلك لانهار وانحطّ ، حتّى يؤدّي ذلك إلى هلاكه وانهدامه.
والطبيب إنّما يحتاج إلى الأخلاق الفاضلة ، لأ نّه من الأركان الأساسية في تعمير المدينة الفاضلة ودوامها وسعادتها ، كما إنّه يفتقر إلى التكامل في سيره وسلوكه ، وإنّه مكلّف بحفظ سلامة الناس ، فإذا لم يكن متخلّقاً بالأخلاق الحسنة ، كما لو تبع شهواته وملاذّه ، وغرّته الدنيا في مقامها ومالها ووجاهتها ، فإنّه يوجب الإخلال في حفظ النظام وسلامة المجتمع ، فلا بدّ أن يكون الطبيب مؤمناً ومعتقداً ومتّقياً ، يحمل الأخلاق الطيّبة ، والسجايا الجميلة.
ومع ظهور الطبّ وعلمه الشريف كان الحديث حول أخلاق الطبيب وما يلزمه في مقام العمل والحرفة . كما جاء ذلك في قسم بقراط اليوناني وفي الطبّ الهندي القديم . كما جاء ذلك في الحمورابية قبل ميلاد المسيح بألفين ومائتي سنة ، كما كتب الرازي الطبّ الروحاني وابن سينا في علم الأخلاق وغيرهما من علماء الإسلام.
فحسن الخلق حسن من كلّ أحد ، إلاّ أ نّه من الطبيب أحسن ، لا سيّما في مجال فنّه وعلمه ، فما أحوج المريض إلى
ابتسامة من طبيبه المعالج لأمراضه ؟ ! وربّ كلمة حلوة بلسم لجراحه ، كما أنّ الكلمة الجارحة وكلمة السوء أمضى من جرح السيف ، كما يقول الشاعر:
جراحات السنان لها التيامٌ *** ولا يلتام ما جرح اللسان
ومن حسن الخلق أن لا يذمّ مريضه ، ويفرط في ملامته ، بل يتكلّم معه بقول ليّن وكلام لطيف ، فإنّ الله يأمر نبيّه موسى وأخاه هارون في قصّة فرعون ودعوته إلى الله قائلا:
( إذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى فَقولا لَهُ قَوْلا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرَ أوْ يَخْشى )[3].
فإذا كان الحديث مع مثل فرعون الطاغية الذي ادّعى الربوبية بلين ولطافة وحكمة ، فما بال الطبيب يغلظ في كلامه ، ويجرح عواطف مريضه ، ويزيد في المرض
الجسدي مرضاً روحيّاً.
فلا يكثر ملامة المريض ، فإنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : « الإفراط في الملامة يشبّ نار اللجاجة»[4] ، فكثرة الملامة يوجب تهييج العناد ولجاجة الآخر ، ممّا يمنعه عن استماع الحقّ والانصياع له.
فعلى الطبيب أن يتجنّب المناقشات التي لا تعنيه والقضايا التي لا تخصّه ، ويحسن خلقه وسلوكه بتطهير النفس من الأخلاق الذميمة ، ثمّ الاتّصاف بالأخلاق الحميدة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « خصلتان لا تجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق».
فمن حسن الخلق السخاء وعدم الغضب ، فإنّه ربما الغاضب يرتكب المعاصي والآثام ويتجاوز الحقّ والصواب.
وقد مدح الله:
(الكاظِمينَ الغَيْظَ وَالعافينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الُمحْسِنينَ)[5].
وقد ورد في الخبر : إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب ، وإلاّ فليضطجع ، وإذا غضب أحدكم فليسكت» ، فإنّ الغضب شيطان العجلة.
ولتثبيت مفهوم حسن الخلق في النفوس نذكر جملة من الروايات الشريفة في هذا الباب ،
وهو غيض من فيض:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« الإسلام حسن الخلق».
« الخلق الحسن نصف الدين». حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة».
« ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من الله عزّ وجلّ ، قيل : يا رسول الله ، وما هنّ ؟ قال : حلم يردّ به جهل الجاهل ، وحسن خلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن معاصي الله».
« من حسن خلقه بلّغه الله درجة الصائم القائم».
« إنّ العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل ، وإنّه لضعيف العبادة».
« أوّل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن خلقه».
« ما من شيء أثقل في الميزان من خُلق حسن».
« ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حُسن الخُلق».
« إنّ أحبّكم إليَّ وأقربكم منّي يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً وأشدّكم تواضعاً».
« أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً».
« إنّ الله يحبّ معالي الأخلاق ويكره سفاسفها». حسن الخلق يثبت المودّة».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« لا قرين كحسن الخلق».
« الخلق المحمود من ثمار العقل ، الخلق المذموم من ثمار الجهل». حسن الخلق من أفضل القسم وأحسن الشيم». حسن الخلق رأس كلّ بِرّ».
« من حسنت خليقته طابت عشرته». حسن الخلق في ثلاث : اجتناب المحارم وطلب الحلال والتوسّع على العيال».
« إنّ بذل التحيّة من محاسن الأخلاق».
« عليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة ، وإيّاكم والأخلاق الدنيّة فإنّها تضع الشريف وتهدّم المجد». حسن الخلق يدرّ الأرزاق ويؤنس الرفاق».
قيل للصادق (عليه السلام) : ما حدّ حسن الخلق ؟ قال : « تلين جانبك ، وتطيّب كلامك ، وتلقى أخاك ببشر حسن». حسن الخلق يزيد في الرزق».
« إنّ
حسن الخلق يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد ، وإنّ سوء الخلق ليُفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل».
« من حسن خلقه كثر محبّوه ، وآنست النفوس به».
« لا وحشة أوحش من سوء الخلق».
« خصلتان لا يجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق».
« من ساء خلقه عذّب نفسه».
« من ساء خلقه ملّه أهله ، أعوزه الصديق والرفيق ، ضاق رزقه».
« أحسن الأخلاق ما حملك على المكارم».
« إنّ أزين الأخلاق : الورع والعفاف»[6].
---
[1] لسان العرب 10 : 86.
[2] الشمس : 8 .
[3] طه : 43 _ 44.
[4] غرر الحكم : 70.
[5] آل عمران : 124.
[6] الروايات من ميزان الحكمة 3 : 135 _ 158 ، فراجع.
( 4 )
على الطبيب أن يجتهد في طبابته ولا يتهاون في معالجة المرضى ، أو يجعلهم مخبراً للامتحانات ، ويجري عليهم اختبارات وتجارب لنظريّاته وكشفيّاته الظنية والوهمية ، فإنّه لا يجوز لمن لم يكن من أهل الخبرة أن يبدي نظراً في غير ما عنده ، فإنّ ذلك يعدّ من الخيانة وليست الخدمة ، فبعض العوامّ يتطبّبون من تلقاء أنفسهم ، ويجوّزون نسخ طبّية للمرضى ، وكأ نّهم خبراء وأطباء حاذقين ، بل الطبيب يصعب عليه ذلك من دون الممارسة والمجاهدة والاجتهاد في تشخيص المرض وكيفية علاجه . كما إذا احتاج الطبيب إلى مشورة طبية فلا يغفل عن ذلك ، ولا يغترّ بنفسه ويعجب بها ، فيفقد اتّزانه ووقاره ، ويتهاون في معالجة مريضه ، ومن شاور العقلاء كسب عقولهم ، وفي بعض الموارد يحتاج الطبيب إلى اللجنة الطبية ومشاورة زملائه والدكاترة الآخرين.
كما أ نّه يحاول ابتداء أن يكشف الأمراض من خلال خبرته الطبية وحدسه وعقله ، فإن لم يصل إلى التشخيص
الكامل عندئذ يستعين بالمختبرات والتحاليل الطبية وما شابه ذلك . فإنّه في قديم الزمان كان الأطباء بعقولهم وحدسيّاتهم يشاهد منهم ما يحيّر العقول في فنّ الطبّ ، ولا اختيار للإنسان إلاّ بعقله وثقافته.
ويقبح بالطبيب أن يكون كسولا عاجزاً فرحاً أشراً بطراً:
(إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ)[1].
وفي الخبر الشريف : « المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف» ، وقد تزوّج التواني بالكسل فولد بينهما الفقر ، وإنّ الله يبغض الشابّ الفارغ ، فلا بدّ من المثابرة والاجتهاد ، ويغدو الإنسان عالماً ربانياً أو متعلّماً على سبيل النجاة.
ولا تقفُ ما ليس لكَ به علم ، وقد وردت الآيات والروايات الكثيرة في المنع عن القول بغير علم والردع عنه ، وهذا واضح لا يحتاج إلى برهان ودليل.
ثمّ إذا كان الطبيب مختصّاً في عضو من أعضاء بدن الإنسان كأمراض العين ، فلا يحقّ له أن يبدي نظره في أمراض القلب مثلا ، فإنّه لو فعل يعدّ من جهّال الأطباء.
فلا بدّ للطبيب من الاجتهاد في علمه وعمله ، فعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من تطبّب فليتّقِ الله ولينصح وليجتهد»[2].
فلا يجوز للطبيب أن يتعلّل ويتساهل في معالجة المريض ، ومن يفعل ذلك فإنّه يكون من المرضى ، بل أكثر مرضاً من مريضه ، لأنّ مثل هذا الطبيب يكون مريض الروح ، وعلاجه أصعب من علاج مرض الجسد ، ويصدق عليه المثل المعروف « طبيب يداوي الناس وهو عليل».
فعلى الطبيب أن يراعي جميع الأخلاقيات الحسنة الفردية والاجتماعية ، وفي مقدّمتها تقوى الله سبحانه ، وما أدراك ما التقوى ، فإنّه بتقوى الله يندفع الإنسان ويسعى بكلّ جهده وجهوده إلى القيام بواجباته الإنسانية والدينية على النحو الأفضل والأكمل
والأتمّ ، ولهذا قدّم أمير المؤمنين (عليه السلام) التقوى على النصح والاجتهاد.
ومن الاجتهاد الاستحكام في العمل وإنّ « الله يحبّ عبداً إذا عمل عملا
أحكمه وأتقنه» ، كما روي ذلك عن النبيّ الأكرم في قصّة دفن سعد بن معاذ.
ويقول علي بن العباس ناصحاً : « على الطبيب أن يجدّ في معالجة المرضى وحسن تدبيرهم ومعالجتهم سواء بالغذاء أو بالدواء».
وكلّ ناصح عليه أن يبدأ بنفسه أوّلا ، حتّى يكون كلامه مؤثّراً في غيره ، فإنّ الكلام إذا خرج من القلب دخل في القلب ، وإذا خرج من اللسان فإنّه لم يتجاوز الآذان.
يقول أبو الأسود الدؤلي:
يا أ يّها الرجل المعلّم غيره *** هلاّ لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي الأسقام وذي الضنا *** كيما يصحّ به وأنت سقيم
ومن يجرّ الداء إلى نفسه كيف يكون ناصحاً لغيره ، فإنّه لن يحبّ غيره أكثر من محبّته لنفسه كما هو واضح ، فلن يستطيع أن ينفع غيره ويضرّ نفسه.
وعن عيسى بن مريم (عليه السلام) : « فإذا رأيتم الطبيب يجرّ الداء إلى نفسه فاتّهموه واعلموا أ نّه غير ناصح لغيره»[3].
وهذه بعض الروايات في الاجتهاد والمشورة :
فمن الأوّل:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
« من بلغ جُهد طاقته بلغ كُنه إرادته».
« من طلب شيئاً ناله أو بعضه».
عن الإمام الرضا (عليه السلام):
« سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء : من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه ، ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه ...».
عن الأمير (عليه السلام):
« من قصّر في العمل ابتلاه الله سبحانه بالهمّ».
« من قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله ، فقد خسر عمره وضرّه أجله».
« التفريط مصيبة القادر».
« من استدام قرع الباب ولجّ ، ولج».
«
عليكم بالجدّ والاجتهاد ، التأهّب والاستعداد ، والتزوّد في منزل الزاد ، ولا تغرّنكم الدنيا كما غرّت من كان قبلكم من الاُمم الماضية والقرون الخالية».
« اجتهدوا في العمل ...».
قال الله تعالى:
(وَمَنْ يُجاهِدْ فَإنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ)[4].
ومن الثاني:
قال الله تعالى:
(وَأمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ)[5].
(وَشاوِرْهُمْ في الأمْرِ)[6].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« ما حار من استخار ، ولا ندم من استشار».
« الحزم أن تستشير ذا الرأي وتطيع أمره».
« ما من رجل شاور أحد إلاّ هُدي إلى الرشد».
« لا مظاهرة أوثق من المشاورة».
« لا تشاور جباناً فإنّه يضيّق عليك المخرج ، ولا تشاور البخيل فإنّه يقصر بك عن غايتك ، ولا تشاور حريصاً فإنّه يزيّن لك شرّها».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول».
« المستشير متحصّن من السقط».
« المستشير على طرف النجاح».
« المشاورة راحة لك وتعب لغيرك».
« شاور قبل أن تعزم ، وفكّر قبل أن تقدم».
« لا يستغني العاقل عن المشاورة».
« حقّ على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ، ويضمّ إلى علمه علوم الحكماء».
« لا تستشر الكذّاب فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعّد عليك القريب».
« شاور في اُمورك الذين يخشون الله ترشد».
قال الإمام الكاظم (عليه السلام):
« من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً ، وعند الخطأ عاذراً».
« مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله ، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإيّاك والخلاف ، فإنّ في ذلك العطب».
« أفضل من شاورت ذوي التجارب».
« خير من شاورت ذوو النُهى والعلم واُولو التجارب والحزم»[7].
هذه بعض الروايات الدالّة على الاجتهاد والمشورة ، وهي عامّة ونافعة لكلّ الناس ، ولكن الحريّ بها أكثر من غيره هو الطبيب ، فإنّه الأولى له أن
يجتهد أوّلا ثمّ يستشير ذوي النهى والعلم واُولو التجارب والحزم ثانياً ، حتّى يكون موفّقاً في حياته العلمية والعملية ، ويعرف الداء والدواء ، وإلاّ فإنّه يكون كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « ربما كان الدواء داء والداء دواء» ، ويقول زين العابدين : « من لم يعرف داءه أفسده دواؤه».
---
[1] القصص : 76.
[2] البحار 62 : 74.
[3] البحار 2 : 107.
[4] الروايات من ميزان الحكمة 2 : 147 ، والآية من سورة العنكبوت : 6.
[5] الشورى : 38.
[6] آل عمران : 159.
[7] الروايات من ميزان الحكمة 5 : 210 ، فراجع.
( 5 )
فإنّ من الأخلاق الحسنة للأطباء أ نّه عندما يقف أحدهم على خطأ صاحبه وزميله في الطبّ في تشخيص مرض وكيفية علاج أو تجويز دواء أو ما شابه ذلك ، فلا يخطئه أمام مريضه ، ويتهجّم عليه ويهينه ويستغيبه ، ممّا يؤدّي ذلك إلى فقد المريض ثقته بالطبيب ، بل بلطائف الكلام ومعاريضه ، يمكن أن يرشد المريض إلى صوابه ورشده وما فيه صلاحه وخيره ، كما يرشد الطبيب الآخر إلى العمل الصحيح والمعالجة الصحيحة بحكمة بالغة من دون جرح المشاعر والأحاسيس.
وقد ورد في الخبر الشريف : « أحبّ الإخوان إليَّ من أهدى إليَّ عيوبي» ، أن يكون التذكّر والنصح على نحو الهدايا لا بقصد الفضيحة والتنقيص والتشهير.
ولا يكون الطبيب دنيّ النفس والطبع ، بل كريماً سمحاً عالي الهمّة ، ومن سماحته أن يذكّر إخوانه بما ينفعهم بلطف وإحسان ، فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين لو كانت مع شرائطها الشرعية والعقليّة.
وقال رسول الله : « اُمرت بمداراة الناس» « مداراة الناس صدقة» ، ومن أعظم ما يملك الناس به السماح والعطاء
، فإنّه يسترق به من لم يكن ينقاد ، فلا بدّ للطبيب من المخالطة الحسنة بالتلطّف والمداراة وإيفاء الحقوق والحلم عن الجهّال والعفو عمّن ظلمه والإيثار مع الحزم والعزم وحسن الفطنة والتعقّل الكامل والاجتهاد التامّ وطلب المعالي بسهر الليالي ، ومراعاة حقوق الآخرين ، ومنها عدم تخطئة الأطباء الآخرين أمام المريض ، وإذا كان يختلف معه في التشخيص ، فالأولى له أن يخبره بذلك ، ويتشاوران في معالجة المريض وسلامته ، فإنّ مقصودهما واحد ، لا سيّما وإنّهما يؤمنان بالله ورسوله ، ويقصدان من طبابتهما محض الخدمة والتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى.
( 6 )
من اللازم على كلّ واحد من الأطباء العموم والأخصّائيين ، أن يدقّقوا في تشخيص الأمراض ومعرفة العلل ، كماعليهم التأنّي وعدم العجلة في تجويز النسخة الطبية واستعمالها ( فإنّ العجلة من الشيطان ، والتأنّي من الرحمن ).
وهذا ممّا يحتّم عليهم أن لا يتوقّفوا في طلب العلم ، بل يسايروا الركب الحضاري والتقدّم البشري في مجالات الطبّ ، فالطبيب الناجح هو الذي يطالع أحدث المقالات العلمية والمجلاّت الطبية العالمية ، والكتب الحديثة.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : « كلّ ذي صناعة مضطرّ إلى ثلاث خصال يجتلب بها المكسب ، وهو أن يكون حاذقاً بعلمه ، مؤدّياً للأمانة فيه ، مستميلا لمن استملّه»[1].
وإنّما يكون الطبيب حاذقاً في طبّه ، لو لم يتساهل أو يتكاسل أو يتهاون في طلب علمه ، كما إنّه لو تطبّب من دون علم فهو ضامن ، لو أتلف مريضه أو أوجب فيه نقصاً ، كما ورد في الخبر الشريف « من تطبّب ولم يعلم منه الطبّ فهو ضامن»[2].
« من تطبّب ولم يكن بالطبّ معروفاً فإذا أصاب نفساً فما دونها
فهو ضامن».
ويقول الرازي : « ودع ما يهذي به جهّال العامّة ، أنّ فلاناً قد وقعت له التجربة في غير علم يرجع إليه ، فإنّ ذلك لا يكون ولو كان من أطول الناس عمراً ،
وما نفع له من علاج موافق فهو من حسن الاتّفاق.
فأعلى درجات هؤلاء الذين ليسوا يرجعون إلى علم اُصول الصناعة ، إنّهم ينظرون في الكتب فيستعملون منها العلاجات وليسوا يعلمون أنّ الأشياء الموجودة فيها ، ليست هي أشياء تستعمل بأعيانها ، بل هي مقالات جعلت ليحتذى عليها وتعلّم الصناعة منها»[3].
فلا يحقّ للطبيب أن يعالج المرض بالتجربة عليهم واختبار الدواء فيهم ، من دون علم ودقّة وتأنٍّ.
« وقد نهى عن ذلك المعلّم الحكيم أبقراط حين ابتدأ فقال : العمر قصير والصناعة طويلة والزمان جديد والتجربة خطر ، فقد صدق لعمري في قوله : وإنّي أنهى عن التجربة في صناعة الطبّ»[4].
« واعلم أنّ اللصوص وقطّاع الطريق خير من اُولئك النفر الذين يدّعون الطبّ وليسوا بأطبّاء ، لأ نّهم يذهبون بالمال وربما أتوا على الأنفس ، وهؤلاء كثيراً ما يأتون على الأنفس النفيسة ... فإنّ من أصعب الاُمور التحكيم على الأرواح بغير معرفة والأمر بشيء والنهي عن غيره من غير بصيرة»[5].
فعلى الطبيب أن يتحرّى الدقّة التامّة في إجراء الفحوصات على المريض ، وهذا ما يحكم به العقل من الأمانة ومن المشاعر الإنسانية ، كما حكم به الشرع المقدّس.
ولنا روايات كثيرة في مذمّة العجلة وإنّها من الشيطان ، ومدح التأنّي وأ نّه من
الرحمن.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« من تأنّى أصاب أو كاد ، ومن عجل أخطأ أو كاد».
« التؤدّة في كلّ شيء خير إلاّ في عمل الآخرة».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« العجل يوجب
العثار».
« الزلل مع العجل».
« أنهاك عن التسرّع في القول والفعل».
« العجول مخطئ وإن ملك ، المتأنّي مصيب وإن هلك».
« التأنّي في العقل يؤمن الخطل ، التروّي في القول يؤمن الزلل».
« إذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأ به ، وإذا عرض شيء من أمر الدنيا فتأنّه حتّى تصيب رشدك فيه».
« التؤدّة ممدوحة في كلّ شيء إلاّ في فرص الخير».
« إيّاك والعجلة بالاُمور قبل أوانها والتساقط فيها عند زمانها».
« من الخرق العجلة قبل الإمكان والأناة بعد الفرصة».
« العجل قبل الإمكان يوجب الغصّة».
قال الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام):
« إنّما أهلك الناس العجلة ، ولو أنّ الناس تثبّتوا لم يهلك أحد».
« الأناة من الله ، والعجلة من الشيطان».
« مع التثبّت تكون السلامة ، ومع العجلة تكون الندامة».
« من ابتدأ بعمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه».
قال الله تعالى:
(خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَل سَاُريكُمْ آياتي فَلا تَسْتَعْجِلونَ)[6].
---
[1] تحف العقول : 238.
[2] كنز العمّال 10 : 16. 3] أخلاق الطبيب : 76. 4] أخلاق الطبيب : 76.
[5] المصدر : 82.
[6] الإسراء : 11 ، والروايات من ميزان الحكمة 6 :72.
( 7 )
فإنّ الاستقامة والثبات في العمل والخلق الرفيع من أنجح الطرق لنيل الكمال وصعود قُلل السعادة ، إنّما يفلح من ثابر وصمد وثبت ، فلا ييأس إذا اعترضه شيء من العقبات في طريقه ، ولا يعيقه العوائق ، فإنّه لا معنى لليأس مع الحياة ، ولا حياة مع اليأس.
بل بكلّ قوّة وربط جأش يرفع الأقدام ويقود العربة في سبيل النجاح ، ولا تثبط عزيمته النباح ، فيقوم بالواجب وهو ما لزم الإنسان عمله مسترشداً بضميره.
وإنّ الله سبحانه أمر نبيّه أن يثبت في دعوته الإلهية:
(وَاسْتَقِمْ كَما اُمِرْتَ)[1].
(إنَّ
الَّذينَ قالوا رَبُّنا اللهُ ثُمَّ اسْتَقاموا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)[2].
(وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ)[3].
(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذينَ آمَنوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وَفي الآخِرَةِ)[4].
(وَلِيَرْبُطَ عَلىْ قُلوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدامَ)[5].
(قُلْ نَزَّلَهُ روحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ الحق لَيثبتَ الَّذينَ آمَنوا)[6].
(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا إنْ تَنْصُروا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتَ أقْدامَكُمْ)[7].
(رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أقْدامَنا)[8].
---
[1] الشورى : 15.
[2] الأحقاف : 13.
[3] هود : 120.
[4] إبراهيم : 27.
[5] الأنفال : 11.
[6] النمل : 102.
[7] محمّد : 7.
[8] البقرة : 250.
( 8 )
من كان متّقياً لا محالة يكون عفيفاً ، فإذا أعددنا التقوى من أوّل أخلاق الطبيب ، يعني اشترطنا عفّته أيضاً ، وكذلك باقي الصفات ، فإنّ التقوى سيّد الأخلاق ورأسها ، ولكن نذكر بعض الصفات ونفرد له عنواناً ، لأهمّيته البالغة في حياة الطبيب ، ولأ نّه لا بدّ أن يتجلّى فيه أكثر من غيره ، ومن تلك الصفات : العفّة.
وهي تعمّ كلّ الأعضاء والجوارح والجوانح ، فالعفّة لا تنحصر بعضو دون عضو ، بل على المرء أن يكون عفيفاً في بصره ، بأن لا ينظر إلى ما حرّمه الله سبحانه ، وعفيفاً في سمعه بأن لا يسمع المحرّمات ، وعفيفاً في كلامه ، وعفيفاً في بطنه وفرجه ويده ورجله ، وحتّى فكره وسلوكه وقلبه وجوانحه.
وربما أكثر الناس ابتلاءً بالنظر إلى ما يحرم في الأحوال العاديّة النظر إليه هم الأطبّاء . فإنّما يجوز للطبيب أن ينظر بمقدار ما ترتفع به الضرورة ، فإذا أمكنه أن يعالج المريض من خلال وصفه ، فإنّه يقتصر على ذلك ، ولا يجوز النظر ، وإذا كان بإمكانه أن يعالج بالنظر إلى دائرة أضيق ، فلا يحقّ
له أن يتعدّى إلى ما زاد ، وإذا كان بالإمكان أن يعالج بالنظر إلى المرآة دون المباشرة ، فلا يباشر _ كما ورد ذلك في الروايات _ وإذا كانت المعالجة تتحقّق بالنظر فلا يحقّ له أن يلمس ما حرّم الله عليه.
يقول عليّ بن العباس ناصحاً : « وأن لا ينظر إلى النساء بريبة سواء كان النظر للسيّدة أم للخادمة ، ولا يدخل إلى منازلهنّ إلاّ للمداواة ... وعليه أن يكون رحيماً بريء النظرة»[1].
وجاء في قسم أبقراط : « وأحفظ نفسي في تدبيري على الزكاة والطهارة _ إلى أن قال _ وكلّ المنازل التي أدخلها ، إنّما أدخل إليها لمنفعة المرضى ، وأنا بحال خارجة عن كلّ جور وظلم وفساد إرادي مقصود إليه في سائر الأشياء ، وفي الجماع للنساء والرجال الأحرار منهم والعبيد».
وقال محمد بن زكريا : وإذا عالج من نسائه أو جواريه أو غلمانه أحداً فيجب أن يحفظ طرفه _ أي بصره _ ولا يجاوز موضع العلّة . فقد قال الحكيم جالينوس في وصيّته للمتعلّمين : ولعمري لقد صدق فيما قال : على الطبيب أن يكون مخلصاً لله ، وأن يغضّ طرفه عن النسوة ذوات الحسن والجمال ، وأن يتجنّب لمس شيء من أبدانهنّ ، وإذا أراد علاجهنّ أن يقصد الموضع الذي فيه معنى علاجه ، ويترك إجالة عينه إلى سائر بدنها ، ورأيت من يتجنّب ما ذكرت فكبر في أعين الناس ، واجتمعت إليه أقاويل الخاصّة والعامّة . قال : ورأيت من تعاطى النساء ، فكثرت قالة الناس فيه فتجنّبوه ورفضوه».
فالنظر إلى غير موضع الحاجة عند المعالجة يعدّ من الخيانة في أعراض الناس ، فلا يجوز للطبيب أن ينظر إلى ما حرّم الله
وكذلك الطبيبة ، قال الله تعالى:
( قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أبْصارِهِمْ وَيَحْفَظوا فُروجَهُمْ ذلِكَ أزْكى لَهُمْ إنَّ اللهَ خَبيرٌ بِما يَصْنَعونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ... )[2].
ويحرم على الطبيب أن يخلو مع الأجنبية ، ويوجب بطلان الصلاة لو أرادها في ذلك المكان كما أفتى الفقهاء بذلك ، حسب الشرائط المذكورة في الكتب الفقهية.
ولا بأس أن نذكر نماذج من الآيات الكريمة والروايات الشريفة في العفّة.
قال الله تعالى:
(وَمَنْ كانَ غَنِيَّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ)[3].
(يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسيماهُمْ)[4].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« إنّ الله يحبّ الحييّ المتعفّف ، ويبغض البذيّ السائل الملحف».
« أحبّ العفاف إلى الله عفّة البطن والفرج».
« أمّا العفاف ، فيتشعّب منه الرضا والاستكانة والحظّ والراحة والتفقّد والخشوع والتذكّر والتفكّر والجود والسخاء ، فهذا ما يتشعّب للعاقل بعفافه رضىً بالله وبقسمه».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً ، يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد».
« ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممّن قدر فعفّ ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة». العفّة شيمة الأكياس ، الشره سجيّة الأرجاس». العفّة رأس كلّ خير».
كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول:
« أفضل العبادة العفاف».
« العفاف أفضل شيمة».
« العفاف يصون النفس وينزّهها عن الدنيا».
« عليك بالعفاف فإنّه أفضل شيمة الأشراف».
« زكاة الجمال العفاف».
« عفّوا عن نساء الناس تعفّ نساؤكم».
« كانت امرأة على عهد داود (عليه السلام) يأتيها رجل يستكرهها على نفسها ، فألقى
الله عزّ وجلّ في قلبها ، فقالت له : إنّك لا تأتيني مرّة إلاّ وعند أهلك من يأتيهم ، فذهب إلى أهله فوجد عند أهله رجلا ، فأتى به داود (عليه السلام) ، فقال : يا نبيّ الله ، أتى إليَّ ما يؤتَ إلى أحد ! قال : وما ذاك ؟ قال : وجدت هذا الرجل عند أهلي . فأوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) : قل له : كما تدين تدان».
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
« الحرفة مع العفّة خير من الغنى مع الفجور».
وفي صفة المتّقين ، قال (عليه السلام):
« حاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة».
« إذا أراد الله بعبد خيراً عفّ بطنه وفرجه».
« أصل العفاف القناعة ، وثمرتها قلّة الأحزان».
« الرضا بالكفاف يؤدّي إلى العفاف».
« قدر الرجل على قدر همّته ، وعفّته على قدر غيرته».
« من عقل عفّ».
« ثمرة العفّة الصيانة».
« من عفّ خفّ وزره ، وعظم عند الله قدره».
« من عفّت أطرافه حسنت أوصافه»
« بالعفاف تزكوا الأعمال».
« من اُتحف العزّة والقناعة حالفه العزّ».
« ينبغي لمن عرف نفسه أن يلزم القناعة والعفّة».
« إنّ أفضل العفّة الورع في دين الله والعمل بطاعته ، وإنّي اُوصيك بتقوى الله في أمر سرّك وعلانيتك»[5].
---
[1] الآداب الطبية : 119.
[2] النور : 30 _ 31.
[3] النساء : 6.
[4] البقرة : 273.
[5] الروايات من ميزان الحكمة 6 : 358.
( 9 )
فإنّ من أخلاق المؤمن بالمبدأ والمعاد ، أن يتوكّل في اُموره على الله سبحانه ، ومن يتوكّل على الله فهو حسبه ، وإنّه نعم المولى ونعم الوكيل ، وعلى الله فليتوكّل المؤمنون . ولا تنافي بين حسن التدبير والتوكّل على الله ، فإنّ التدبير المذموم لو كان على نحو الاستقلال من
دون أن يعتقد أنّ هناك يد غيبيّة تسيّره وتتولّى أمره.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم» فكم من مرّة يعزم الإنسان على أمر ويهتمّ بشيء ليفعله ، وسرعان ما يطرأ عليه ليفسخ عزيمته وينقض همّته ، وليس ذلك من باب الصدفة ، إنّما هناك حكمة ربانية وعناية إلهيّة ويد غيبيّة ، تسيّر الاُمور بحكمة بالغة ودقّة ونظام.
قد وجد على ستار الكعبة مكتوباً أيام الإمام السجّاد (عليه السلام) ، وقد كتبه النبيّ خضر (عليه السلام):
لا تدبّر لك أمراً *** فاُولي التدبير هلكا
وكّل الأمر إلى من *** هو أولى منك أمرا
فمن يدبّر أمره على نحو الاستقلال واعتماداً على نفسه فقط ، فهذا من الهالكين ، وأمّا حسن التدبير مع التوكّل على الله ، كما قال الرسول الأكرم للرجل الذي لم يعقل ناقته توكّلا على الله كما زعم ذلك : « أعقل ثمّ توكّل» ، فإنّه لا ينكر.
والطبيب المؤمن لا بدّ له من أن يتخلّق بهذا الخلق الإيماني ، بأن يتوكّل على ربّه في طبابته ومعالجاته.
قال محمّد بن زكريا الرازي : « ويتّكل الطبيب في علاجه على الله تعالى ، ويتوقّع البرء منه ، ولا يحسب قوّته وعمله ، ويعتمد في كلّ اُموره عليه ، فإذا فعل بضدّ ذلك ونظر إلى نفسه وقوّته في الصناعة وحذقه ، حرمه الله البرء»[1].
وإنّما يحصل تمام التوكّل بعد تطهير النفس من الرذائل ، فيتوجّه بها إلى الله تعالى ويعتمد عليه في الاُمور ويتلقّى المتوكّل على الله الفيض الإلهي من عنده ، فإنّ العلم ليس بكثرة التعلّم ، وإنّما هو نور من الله تعالى ينزله على من يريد أن يهديه _ كما ورد في الخبر عن
الإمام الصادق (عليه السلام) _ فالطبيب المؤمن بالله سبحانه يتوكّل عليه ويفوّض أمره إليه ، ولا يعتمد على الأسباب ، فيوكل إليها ، وتكون وبالا عليه ، ولا على أحد من خلق الله تعالى ، ولا على علمه وفنّه ، بل يلقي مقاليد أمره إلى الله تعالى في أمره ورزقه وطبابته ومعالجاته ، يظهر عليه حينئذ من نفحات قدسه ولحظات اُنسه . ما يقوم به أوده ، ويحصل مطلبه ، ويصلح به أمره ، وفي الحديث القدسي إنّ الله تبارك وتعالى يقول : وعزّتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطعنّ أمل كلّ مؤمّل غيري باليأس ، ولأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس ولاُنحينّه من قربي ولابعدنّه من وصلي ، أيؤمّل غيري في الشدائد ، والشدائد بيدي ، ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري ؟ وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلّقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني ...»[2].
وإليكم نماذج من الآيات الكريمة والروايات الشريفة في التوكّل على الله.
قال سبحانه وتعالى:
(فَقُلْ حَسْبيَ اللهُ لا إلهَ إلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)[3].
(إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ)[4].
(ما تَوْفيقي إلاّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ اُنيبُ)[5].
(إنِ الحُكْمُ إلاّ للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلونَ)[6].
(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْء عِلْماً عَلى اللهِ تَوَكَّلْنا)[7].
(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإلَيْكَ أنَبْنا وَإلَيْكَ المَصيرُ)[8].
(وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنونَ)[9].
(وَاتَّقوا اللهَ وَعَلى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنونَ)[10].
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[11].
(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأبْقى لِلَّذينَ آمَنوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلونَ)[12].
(فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللهِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلينَ)[13].
(إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمينَ)[14].
فالطبيب المسلم المؤمن بالله يتوكّل في حياته وطبّه وعلاجه على الله سبحانه.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله».
« لو أنّ رجلا توكّل
على الله بصدق النيّة لاحتاجت إليه الاُمور ممّن دونه ، فكيف يحتاج هو ومولاه الغنيّ الحميد».
« يا أ يّها الناس ، توكّلوا على الله وثقوا به ، فإنّه يكفي عمّن سواه».
« من توكّل على الله كفاه مؤنته ورزقه من حيث لا يحتسب».
« إعقل وتوكّل».
سأل النبيّ عن جبرئيل ما التوكّل على الله عزّ وجلّ ؟ فقال : العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق ، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ولم يرجُ ولم يخف سوى الله ، ولم يطمع في أحد سوى الله ، فهذا هو التوكّل.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« التوكّل خير عماد».
« التوكّل بضاعة».
« التوكّل حصن الحكمة». التوكّل على الله نجاة من كلّ سوء وحرز من كلّ عدوّ».
« صلاة العبادة التوكّل».
« في التوكّل حقيقة الإيمان».
« حسبك من توكّلك أن لا ترى لرزقك مجرياً إلاّ الله سبحانه».
« التوكّل من قوّة اليقين».
« إنّ حسن التوكّل لمن صدق الإيمان».
« حسن توكّل العبد على الله على قدر ثقته به».
« ينبغي لمن رضي بقضاء الله سبحانه أن يتوكّل عليه».
« أصل قوّة القلب التوكّل على الله».
« من كان متوكّلا على الله لم يعدم الإعانة».
« من توكّل على الله ذلّت له الصعاب وتسهّلت عليه الأسباب».
« من توكّل على الله أضاءت له الشبهات».
« ليس للمتوكّل عناء».
« الثقة بالله أقوى أمل».
« من وثق بالله أراه السرور ، ومن توكّل عليه كفاه الاُمور».
« التوكّل كفاية».
قال الإمام الرضا (عليه السلام):
« الإيمان أربعة أركان : التوكّل على الله عزّ وجلّ ، والرضا بقضائه ، والتسليم لأمر الله ، والتفويض إلى الله».
سئل الصادق (عليه السلام) عن حدّ التوكّل ؟ فقال:
« أن
لا تخاف مع الله شيئاً».
يقول الإمام الباقر (عليه السلام):
« الغنى والعزّ يجولان في قلب المؤمن ، فإذا وصلا إلى مكان فيه توكّل ، أقطناه».
ويقول الإمام الجواد (عليه السلام):
« الثقة بالله تعالى ثمن لكلّ غال وسلّم إلى كلّ عال»[15].
فالطبيب المسلم الذي به يرى السرور ويكفيه الاُمور ، وتضاء له الشبهات ، ويقوى فيه الأمل ، وتسهل له الأسباب ، وتذلّ له الصعاب من كان متوكّلا على الله واثقاً به.
--- 1] أخلاق الطبيب : 38.
[2] منية المريد ; للشهيد الثاني : 160 ، تحقيق رضا المختاري.
[3] التوبة : 129.
[4] هود : 56.
[5] هود : 88 .
[6] يوسف : 67.
[7] الأعراف : 89 .
[8] الممتحنة : 4.
[9] آل عمران : 122.
[10] المائدة : 11.
[11] الطلاق : 3.
[12] الشورى : 36.
[13] آل عمران : 159.
[14] يونس : 84 .
[15] ميزان الحكمة 10 : 674.
( 10 )
فإنّ الكبرياء رداء الله سبحانه ، فمن نازعه في ردائه أكبّه الله على منخره في النار _ كما ورد في الخبر النبويّ الشريف _ فالتكبّر مختصّ بذات الله جلّ جلاله ، وأمّا الخلق لإمكانهم الذاتي وفقرهم فإنّ زينتهم التواضع ، ومن تواضع لله رفع الله سبحانه ، ومن التواضع أن تصغي إلى كلمة الحقّ وتقرّ بها ، حتّى لو كان الحقّ عليك ، فقل الحقّ ولو على نفسك ، كما إنّ من التواضع أن تجلس دون مجلسك ، وتجالس البؤساء والمساكين والفقراء ، فإنّ الكبر من الشيطان ، وتكبّره من السجود لآدم (عليه السلام) أخرجه من الجنّة ، وكان رجيماً ملعوناً إلى يوم القيامة ، فالتواضع من جنود العقل وضدّه التكبّر من جنود الجهل _ كما ورد في الأثر _ فالتواضع حسن
من كلّ واحد ، ومن الطبيب أحسن ، لا سيّما مع مرضائه ، فالتبختر عليهم ، لا يزيده إلاّ نفوراً وسقوطاً من القلوب.
وقال النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) : « لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كِبْر ، كيف يستعظم نفسه ويتكبّر على غيره»[1].
وقال الله تعالى:
(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدونَ عُلُوَّاً في الأرْضِ وَلا فَساداً)[2].
وللتواضع مراحل أوّلها الإيمان بالله ، ثمّ الإيمان بالرسل والأنبياء ، كما في قوله تعالى:
(رَبَّنا آمَنَّا بِما أنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنا الرَّسولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدينَ)[3].
أمّا المتكبّر فيقول:
(أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلنا)[4].
كما إنّ من التكبّر أن لا يطأطئ الإنسان رقبته أمام القوانين والأحكام الشرعية فيكون كما قال الله تعالى:
(نُؤْمِنُ بِبَعْض وَنَكْفُرُ بِبَعْض وَيُريدونَ أنْ يَتَّخِذوا بَيْنَ ذلِكَ سَبيلا)[5].
(أفَتُؤْمِنونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرونَ بِبَعْض فَما جَزاءُ مَىْ يَفْعَلْ ذلِكَ مِنْكُمْ إلاّ خِزْيٌ في الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ القَيامَةِ)[6].
ومن التواضع الخضوع أمام القوانين الطبيعية ، ثمّ التواضع مع الناس:
(وَلا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً وَاقْصُدْ في مَشْيِكَ)[7].
ثمّ من ابتلي بحبّ الذات والتكبّر على الناس سرعان ما يسقط في المجتمع ويفقد رصيد شعبي ، يمكنه أن يحلّق بهم في تحقّق آماله وطموحه ، ومن ثمّ يسخط عليه الخلق.
يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « إيّاك أن ترضى عن نفسك فيكثر الساخط عليك»[8] ، « العجب يفسد العقل» ، « التواضع رأس العقل والتكبّر رأس الجهل».
فلا يحقّ للطبيب أن يتكبّر على الناس ، ويقول محمد بن زكريا الرازي في ذلك : « واعلم يا بني أنّ من المتطبّبين من يتكبّر على الناس لا سيّما إذا اختصّه ملك أو رئيس ، وقد قال الحكيم جالينوس : رأيت من المتطبّبين من إذا داخل الملوك فبسطوه
تكبّر على العامّة وحرمهم العلاج وغلظ لهم القول وبسر في وجوههم ، فذلك المحروم المنقوص . فدعا الحكيم إلى أضداد هذه الخصال التي ذكرها وحثّ عليها ، وقال : ينبغي للطبيب أن يعالج الفقراء كما يعالج الأغنياء ، وهكذا يجب علينا أن نقتفي السنّة التي سنّها الحكيم»[9].
« قال : ورأيت من المتطبّبين من إذا عالج مريضاً شديد المرض فبرأ على يديه دخله عند ذلك عجب ، وكان كلامه كلام الجبّارين ، فإذا كان كذلك ، فلا كان ولا وفّق ولا سُدّد ، وإنّما نهى الحكيم عن هذه الخصال لكي تجتنب».
« واعلم أنّ التواضع في هذه الصناعة زينة وجمال دون ضعة النفس ، لكن يتواضع بحسن اللفظ وجيّد الكلام ولينه ، وترك الفظاظة والغلظة على الناس ، فمتى كان كذلك فهو المسدّد الموفّق ، وكذلك أمرنا بهذه الخصال المحمودة التي أشرت بها عليك الفاضل جالينوس»[10].
فالكبر مذموم ، وهو تعظيم شأن النفس واحتقار الغير ، وعلامته الأنفة عمّن يتكبّر عليه ، والاختيال والفخر ومحبّة تعظيم الناس له.
وفي الخبر الشريف : « من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر ، كبّه الله تعالى في النار على وجهه».
وفي حديث ابن مسعود عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أ نّه قال : « لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ، فقال الرجل : إنّ الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً ؟ قال : إنّ الله جميل يحبّ الجمال ، الكبر بطر الحقّ وغمط الناس» . أي أزرى بهم واستخفّ بهم . يقول الله تعالى : « العزّ إزاري والكبر ردائي ، فمن نازعني فيهما عذّبته».
قال الله سبحانه:
( يا أ يُّها
الَّذينَ آمَنوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوْفَ يَأتي اللهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أذِلَّة عَلى المُؤْمِنينَ أعِزَّة عَلى الكافِرينَ )[11].
وقال تعالى:
(وَأمَّا الَّذينَ اسْتَنْكَفوا وَاسْتَكْبَروا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أليماً)[12].
(وَالَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَروا عَنْها اُولئِكَ أصْحابُ النَّارِ)[13].
(إنَّ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَروا عَنْها لا تُفْتَحْ لَهُمْ أبْوابُ السَّماءِ)[14].
(فَاسْتَكْبَروا وَكانوا قَوْماً مُجْرِمينَ)[15].
(فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهَونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ)[16].
(وَقالَ مُوسى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّر )[17].
(ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرينَ)[18].
(فَلَبِئْسَ مَثْوى المُتَكَبِّرينَ)[19].
(إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ)[20].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« لا حسب إلاّ بتواضع».
« لا حسب لقرشيّ ولا عربيّ إلاّ بتواضع».
« ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة ؟ قالوا : وما حلاوة العبادة ؟ قال : التواضع».
« أفضل الناس من تواضع عن رفعة».
« من ترك لباس الجمال وهو يقدر عليه تواضعاً كساه الله حلّة الكرامة».
« طوبى لمن تواضع لله تعالى في غير منقصة ، وأذلّ نفسه من غير مسكنة».
« من أتى ذا ميسرة فتخشّع له وطلب ما في يديه ذهب ثلثا دينه».
« إنّ التواضع يزيد صاحبه رفعة فتواضعوا يرفعكم الله».
« من تواضع لله رفعه الله».
« ثلاثة لا يزيد الله بهنّ إلاّ خيراً : التواضع لا يزيد الله به إلاّ ارتفاعاً ، وذلّ النفس لا يزيد الله به إلاّ عزّاً ، والتعفّف لا يزيد الله به إلاّ غنىً».
« يا علي ، والله لو أنّ المتواضع في قعر بئر لبعث الله عزّ وجلّ إليه ريحاً يرفعه فوق الأخيار في دولة الأشرار».
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): التواضع زينة الحسب». التواضع أفضل الشرفين». التواضع ينشر الفضيلة».
« عليك بالتواضع فإنّه من أعظم العبادة».
في وصف الأنبياء:
« ولكنّه سبحانه كرّه إليهم التكابر ، ورضي لهم التواضع ،
فألصقوا بالأرض خدودهم ، وعفّروا في التراب وجوههم ، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين».
وفي صفة المتّقين ، قال (عليه السلام):
« ملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع».
وفي صفة الحجّ ، قال (عليه السلام):
« وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزّته».
« حسب المرء من تواضعه معرفته بقدره». التواضع مع الرفعة كالعفو مع القدرة».
« من أتى غنيّاً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه».
« ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء إتّكالا على الله».
« ثلاث هنّ رأس التواضع : أن يبدأ بالسلام من لقيه ، ويرضى بالدون من شرف المجلس ، ويكره الرياء والسمعة».
« ثمرة التواضع المحبّة ، ثمرة الكبر السبّة». التواضع يكسبك السلامة». التواضع يكسوك المهابة».
« بخفض الجناح تنتظم الاُمور».
« بالتواضع تتمّ النعمة». التواضع ينشر الفضيلة ، التكبّر يظهر الرذيلة». التواضع يرفع ، التكبّر يضع». التواضع يرفع الوضيع ، التكبّر يضع الرفيع». التواضع سلّم الشرف ، التكبّر اُسّ التلف». التواضع ثمرة العلم».
« لا يستعان على التواضع إلاّ بسلامة الصدر».
فالطبيب المسلم الناجح من تواضع لله ، ويرى ثمرات التواضع في حياته العلمية والعملية.
قال الإمام الرضا (عليه السلام): التواضع أن تعطي الناس ما تحبّ أن تُعطاه».
قال الإمام الصادق (عليه السلام): التواضع أن ترضى من المجلس بدون شرفك ، وأن تسلّم على من لقيت ، وأن تترك المراء وإن كنت محقّاً ، ورأس الخير التواضع».
قال الإمام الكاظم (عليه السلام):
« إنّ لقمان قال لابنه : تواضع للناس تكن أعقل الناس».
« قال الإمام الصادق (عليه السلام):
« إنّ في السماء ملكين موكلين بالعباد ، فمن تواضع لله رفعاه ، ومن تكبّر وضعاه»[21].
---
[1] سفينة البحار 2 : 459.
[2] القصص
: 83 .
[3] آل عمران : 53.
[4] المؤمنون : 47.
[5] النساء : 150.
[6] البقرة : 85 .
[7] لقمان : 18 _ 19.
[8] غرر الحكم : 147. 9] أخلاق الطبيب : 35.
[10] المصدر : 84 .
[11] المائدة : 54.
[12] النساء : 173.
[13] الأعراف : 36.
[14]الأعراف : 40.
[15] الأعراف : 133.
[16] الأحقاف : 20.
[17] غافر : 27.
[18] الزمر : 60.
[19] النحل : 29.
[20] النحل : 23.
[21] من ميزان الحكمة 10 : 500.
( 11 )
على الطبيب أن يراعي هذا الأصل المهمّ في عالم الطبّ وحياته الطبّية بأن يساوي بين مرضاه _ لا أقلّ _ فلا تغرّه الدنيا وثروة الأثرياء فيعير لهم أهميّة أكثر من الفقراء ، بل الطبيب الموفّق والمؤيّد من الله سبحانه من كان يفكّر بالفقراء والمعوزين أكثر من الأغنياء والأثرياء ، فإنّ الغنيّ له الأموال التي تقضي حاجاته وتسيّر اُموره عند أصحاب المطامع ومحبّي الأموال ، ولكن من للفقراء والمساكين والمعوزين والبؤساء ؟ ! !
أليس من أخلاق الأنبياء حبّ الفقراء ، أليس النبيّ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) كان مسكيناً ويحبّ المساكين ويجلس معهم ولا يتكبّر عليهم ، كما أخبرنا بذلك ودلّت سيرته المباركة عليه ، فإذا كان من أخلاق طبيب الروح ذلك ، فكذلك من أخلاق طبيب الجسد ، فعليه أن يقدّم الفقير على الغنيّ في علاجه ، وإلاّ فليساوي بينهما ويراعي العدالة ؟ ! ، لا أن يغترّ بحبّ الدنيا وأربابها وتعميه الثروة عن مشاهدة الحقّ ، وتنسيه وظيفته الإنسانية والشرعيّة ، وقسمه الذي أقسم به عند تخرّجه من كلية الطبّ ليزاول عمليّته ويخدم بها اُمّته وشعبه ووطنه ، والعالم كلّه.
يقول محمد بن زكريا الرازي : « فإنّ الطبيب الحرّ السيرة
إذا اشتغل بصناعته وحفظ الخاصّة والعامّة فإنّه يعيش بخير ويكون عليهم أميراً ، وإذا توسّم بخدمته الملوك ، ربما صار بخدمتهم أميراً»[1].
عن الإمام الرضا (عليه السلام) : « من لقي فقيراً مسلماً سلّم عليه خلاف سلامه على
الغني لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان»[2].
ثمّ الأوامر الدينية التي تقضي برجحان قضاء حاجة المرضاء والمجروحين وذوي الأسقام والاهتمام باُمورهم ، وترتيب الثواب الجميل والأجر الجزيل على ذلك ، لم تخصّص غنياً ولا فقيراً ولا غيرهما بذلك ، فلا تمييز في الإسلام ، وهذا ما لا يحتاج إلى برهان ، وأنّ الوجوب الكفائي أو العيني لم يلاحظ فيه الغني دون الفقير ، ولا الأبيض دون الأسود ، بل ربما يقال إنّ الإسلام قد اهتمّ بالفقراء يفوق كثيراً اهتمامه بالأغنياء ، فقد ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه : « الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي».
فالروايات في مدح الفقراء وحبّ الله لهم ، وأ نّه لا بدّ من الاهتمام بشؤونهم ومراعاة أحوالهم ومساعدتهم وإعانتهم لكثيرة جدّاً.
ومن يحترم الغنيّ لغناه فإنّ ذلك من خساسة الطبع ورذالته ، ومن أثر عقدة الحقارة ، لا أ نّه يحترم الإنسانية كما يحكم بذلك العقل السليم.
يقول علي بن العباس في كتاب « كامل الصناعة الطبية الملكي» : « إنّ على الطبيب أن يجدّ في معالجة المرضى ، ولا سيّما الفقراء منهم ، ولا يفكّر في الانتفاع المادّي ، وأخذ الاُجرة من هذه الفئة ، بل إذا استطاع أن يقدّم لهم الدواء من كيسه هو فليفعل ، وإذا لم يفعل فليجدّ في معالجتهم ليلا ونهاراً ، ويحضر إلى معالجتهم في كلّ وقت».
ولكن ومع كلّ الأسف ، نرى قصور بعض الأطباء تجاه هذه المسؤولية ، بل بعض
المستشفيات في البلاد لا تدخل المريض حتّى يودع ذويه اُجرة المعالجة أو العملية الجراحية في حساب المستشفى ، ونسمع بين آونة واُخرى أنّ ذلك يؤدّي إلى موته وهلاكه ، لعدم تمكّنه من توفّر المال ، فمن المسؤول ؟ ؟ ! !
هذا وحبّذا أن نذكر بعض النصوص الدالّة على أهميّة العدل والمساواة في حياة المسلم ، ولا سيّما الطبيب ، فإنّه أولى بهذه الخصلة.
قال الله تعالى:
(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوَّامينَ بِالقِسْطِ)[3].
(إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسانِ)[4].
(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلى أنْ لا تَعْدِلوا اعْدِلوا هُوَ أقْرَبُ لِلْتَّقْوى)[5].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممّن كملت مروّته ، وظهرت عدالته ، ووجبت اُخوّته ، وحرمت غيبته».
« من صاحب الناس بالذي يُحبّ أن يصاحبوه كان عدلا».
« أعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه ، وكره لهم ما يكره لنفسه».
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
« العدل أساس به قوام العالم».
« إنّ العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق ونصبه لإقامة الحقّ فلا تخالفه في ميزانه ، ولا تعارضه في سلطانه».
« جعل العدل توأماً للأنام ، وتنزيهاً من المظالم والآثام ، وتسنية للإسلام».
« العدل فضيلة الإنسان».
« العدل زينة الإيمان».
« العدل رأس الإيمان وجماع الإحسان ، وأعلى مراتب الإيمان».
« العدل حياة».
« العدل على أربع شعب : على غائص الفهم وغمرة العلم وزهرة الحكمة وروضة الحلم ، فمن فهم فسّر جمل العلم ، ومن علم شرع غرائب الحكم ، ومن كان حكيماً لم يفرّط في أمر يليه من الناس».
« رحم الله عبداً استشعر الحزن وتجلبب الخوف ... فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه
العدل ، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه».
« اُوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ... وبالعدل على الصديق والعدوّ».
« والعدل في الرضا والغضب».
« أعدل الناس من أنصف عن قوّة».
« أعدل الخلق أقضاهم بالحقّ».
« استعن على العدل بحسن النيّة في الرعيّة ، وقلّة الطمع ، وكثرة الورع»[6].
--- 1] أخلاق الطبيب : 18 ، تحقيق الدكتور عبد اللطيف محمد العبد.
[2] أمالي الصدوق : 396.
[3] النساء : 135.
[4] النحل : 90.
[5] المائدة : 8 .
[6] الروايات من ميزان الحكمة 6 : 78.
( 12 )
فإنّ الطبيب عليه أن لا يفكّر فى راحته واستراحته ، بل هو وقف على الناس وفي خدمتهم ليل نهار ، فإنّ المرض لا يخبر الإنسان بعروضه وهجومه ، فمن يدري متى تكون الحملة الدماغية والذبحة الصدرية والجلطة القلبية ، وليس لمثل هذه الأمراض في الظاهر وفي عالم الكون والفساد إلاّ الطبيب ، الذي جعل الله في يده شفاء عباده المرضى.
ففي كلّ ساعة ، بل وفي كلّ لحظة ودقيقة ، على الطبيب أن يكون في خدمة مريضه ، فربّ تحمّل وجع يؤدّي إلى حتفه وموته ، والطبيب إنّما يكون المسؤول عن هلاكه ، فإن تخلّص من القانون الجنائي وفي المحاكم الدنيوية ، فمن يخلّصه من محكمة الوجدان التي لا يحتاج فيها إلى قاض ، ومن يخلّصه من الله سبحانه الواقف على الضمائر والسرائر ، والعالم بالسرّ وما أخفى ؟ ! وما هو جوابه يوم القيامة ، يوم تبلى السرائر.
فلا بدّ من الثقة المتبادلة بين المريض وطبيبه ، حتّى يسهل على المريض أن يلتزم بنصائح الطبيب ، ويعمل بنسخته الطبية وتوجيهاته العلاجية.
بل على الطبيب أن يسعى في كسب ثقة المريض من خلال استمرار الخدمة
والدقّة والحذاقة في طبابته.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) : « كلّ ذي صناعة مضطرّ إلى ثلاث خصال يجتلب بها المكسب ، وهو : أن يكون حاذقاً بعمله ، مؤدّياً للأمانة فيه ، مستميلا لمن استعمله»[1].
وهذه بعض الروايات الشريفة في فضل الخدمة:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« لا يزال العبد من الله وهو منه ما لم يُخدم ، فإذا خُدم وجب عليه الحساب».
« أ يّما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلاّ أعطاه الله مثل عددهم خدّاماً في الجنّة».
« روي أ نّه تعالى أوحى إلى داود : ما لي أراك منتبذاً ؟ قال : أعيتني الخليقة فيك . قال : فماذا تريد ؟ قال : محبّتك . قال : فإنّ محبّتي التجاوز عن عبادي ، فإذا رأيت لي مريداً فكن له خادماً».
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
« المؤمنون خدم بعضهم لبعض ، قلت : وكيف يكونون خدماً بعضهم لبعض ؟ قال : يفيد بعضهم بعضاً».
« إخدم أخاك ، فإن استخدمك فلا ، ولا كرامة»[2].
---
[1] تحف العقول : 238.
[2] ميزان الحكمة 3 : 14.
( 13 )
إنّما يعيش الإنسان بآماله ، وأكثر الناس احتياجاً إلى أمل الحياة هم المرضى ، فعلى الطبيب المسلم أن يزرع الأمل في قلب مريضه ، ولا يخلق فيه روح اليأس من حياته ، فإنّ الأعمار بيد الله سبحانه ، وما أكثر الشواهد العينية ، كما تطلعنا الصحف والمجلات المحلّية والعالمية بين آونة واُخرى ، أنّ مريضاً كان على شرف الموت ، وأيس أهله من برئه وشفائه واستعدّوا لتجهيزه وموته ، ولكن شاءت الإرادة الإلهية أن يبقى حيّاً ، ويبرأ من مرضه ، وينجو من الحتف المحتوم عليه ؟ !
فالطبيب الناجح يزرع الأمل في
قلب مريضه ، وكثيراً ما تعالج الأمراض ، لا سيّما الروحية بمثل هذا الخلق الحسن ، فطمأنة المريض على صحّته وسلامته وبرئه من المرض سريعاً ، يؤثّر غاية التأثير في زوال السقم والمرض.
وما كلّ ما يعلم يقال ، ولا يجب على الطبيب أن يقول لمريضه كلّ ما كان صادقاً في مرضه ، بل يحرم الكذب عليه ، ولا يجب الصدق ، فإذا كان حال المريض خطراً فيمكن للطبيب أن يعلمه بذلك بلطائف الكلام للوقاية والعلاج ، ولا يخبره مباشرة حتّى يفقد المريض أمل الحياة ، ويكون إخبار الدكتور موجباً لسرعة حتفه ، وفقدان الأمل ، وربما نتيجته الانتحار ، فيكون الطبيب شريكاً في موته.
قال الله تعالى:
( إنَّهُ مِنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أوْ فَساد في الأرْضِ فَكَأ نَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً )[1].
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزائُهُ جَهَنَّمُ خالِدينَ فيها)[2].
فيجب على الطبيب حدّ الإمكان وحسب الطاقة البشرية أن يسعى في نجاة مريضه ، ولو كانت حياته ساعات ودقائق ، وإن كان يستوجب ذلك إرهاق الطبيب.
فالطبيب رفيق المريض كما ورد هذا المعنى في الروايات الشريفة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « كن كالطبيب الرفيق الذي يدع الدواء بحيث ينفع»[3].
وفي نصٍّ : « إنّ الله عزّ وجلّ الطبيب ولكنّك رجل رفيق» ، وفي نصٍّ آخر : « أنت الرفيق والله الطبيب»[4].
فمن أولى من المريض بالعناية والرفق والمداراة ولا سيّما من قِبل طبيبه ، فلا بدّ من رفع معنوياته والتغلّب على أمراضه وآلامه وأوجاعه ، بزرع الأمل والثقة في قلبه ، حتّى يقاوم المرض ولا ينهزم أمامه ، فدور الطبيب في المفهوم الإسلامي هو التطبّب والتلطّف وبعث الأمل في نفس المريض ، فإنّ الله هو الشافي وهو
الطبيب الواقعي ، وإنّ المعالج يسمّى بالطبيب لأ نّه يطيب بذلك نفس المريض _ كما ورد في الخبر الشريف _ حتّى أنّ من يزور المريض عليه أن يبعث فيه الأمل والحياة.
وخلاصة القول : إنّ المريض حينما يشتدّ به المرض لا يعلّق آماله فيما هو فيه على أحد ، حتّى أقرب الناس إليه حتّى ولده وأبويه ، إلاّ الله ومن أمره أن يرجع إليه ، ألا وهو الطبيب الحاذق البصير ، فهو الذي يمكنه أن يقدّم له يد المعونة ، ويخفّف عنه آلامه وينقذه ممّا هو فيه ، فالطبيب يتحمّل أكبر مسؤولية في هذا المجال سواء على الصعيد المادّي بتقديم الأدوية ، أو المعنوي بالملاطفة الروحية والنفسية وزرع الأمل في قلب مريضه ، ويبعث البهجة في نفسه ، ويعيد إليه الثقة بالحياة وبالمستقبل.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« الأمل رحمة لاُمّتي ، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها ، ولا غرس غارس شجراً».
ولا تأمل إلاّ الله ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« يقول الله تعالى : لأقطعنّ أمل كلّ مؤمن أمل دوني الاُناس».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« الأمل رفيق مؤنس».
« انقطع إلى الله سبحانه ، فإنّه يقول : وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل كلّ من يؤمل غير بالبأس».
« من أمّل إنساناً فقد هابه».
بينما عيسى (عليه السلام) جالس وشيخ يعمل بمسحاة يثير الأرض ، قال (عليه السلام) : اللّهم انزع منه الأمل فوضع الشيخ المسحاة واضطجع ، فلبث ساعة . فقال عيسى : اللّهم اردد إليه الأمل ، فقام فجعل يعمل»[5].
وعلى الطبيب أن يزرع الأمل في قلب مريضه.
---
[1] المائدة : 32.
[2] النساء : 93.
[3] البحار 2 : 53.
[4] كنز العمّال 8 : 360.
[5]
ميزان الحكمة 1 : 140.
( 14 )
على المسلم أن يحفظ ودائع الناس ، فإنّ من علامات المؤمن أداء الأمانة وحفظ الوديعة وأسرار الناس ، ولا يجوز إفشاء السرّ ، فإنّه من الخيانة المحرّمة عقلا وشرعاً ، فيجب كتمان السرّ ، وهو من الأخلاق الحميدة لكلّ واحد من الناس ، ولكن أولى الناس بها الطبيب ، فمن حقّ المريض عليه أن يكتم سرّه ، لأ نّه كما هو المعروف والمشهور أنّ العلماء _ علماء الدين _ والأطباء محارم أسرار الناس ، فإنّ الناس يوحون بأسرارهم عند العلماء والأطباء ، فعليهم أن يكتموا الأسرار والخفيّات والبواطن ، فهم اُمناء الله في الأرض وخلفائه ، وإنّ الله يستر على عباده ، فلا بدّ للطبيب أن يكون أميناً ستّاراً كاتماً للسرّ والأمراض الخفيّة التي توجب نقص المريض لو اُبيحت في المجتمع . فكثير من المرضاء من يبوح بسرّه عند طبيبه ، ما لا يبوحه حتّى لوالديه ، ولأقرب الناس إليه.
يقول محمد بن زكريا الرازي : « واعلم يا بني ، أ نّه ينبغي للطبيب أن يكون رفيقاً بالناس حافظاً لغيبهم كتوماً لأسرارهم ، لا سيّما أسرار مخدومه _ أي مريضه _ فإنّه ربما يكون ببعض الناس من المرض ما يكتمه من أخصّ الناس به مثل أبيه واُمّه وولده ، وإنّما يكتمونه خواصّهم ، ويفشونه إلى الطبيب»[1].
كما على المريض أن لا يكتم سرّه أمام طبيبه ، يقول الرازي : « ومن أعظم الخطأ أ نّه إذا فعل ذلك كتمه الطبيب ، مريداً بذلك دفع اللائمة عن نفسه ، ومن أخطأ خطأ وكتمه ، فقد جنى جنايتين وارتكب خطيئتين ، والطبيب لا يهتدي لعلاجه إذا
لم يفشِ إليه سرّه»[2].
فهذه قاعدة عظيمة
ينبغي أن يراعيها كلّ عليل ، كيلا يضلل الطبيب ، فيتأخّر شفاءه ، أو لا يهتدي الطبيب إلى هذا الشفاء.
وإذا اعتمد المريض على طبيبه واطمأنّ في كتمان سرّه ، فإنّه يقدم على إباحة ما فيه من الاُمور التي قد يكون لها أكبر الأثر في معرفة حقيقة الداء.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من كتم مكنون دائه عجز طبيبه عن شفائه[3].
وقال (عليه السلام) : لا شفاء لمن كتم طبيبه داءه[4].
فالتفاعل لا بدّ يكون بين الطبيب والمريض بصدق وصفاء ومحبّة ، فالطبيب يكتم سرّ مريضه كما جاء ذلك في وصيّة أبقراط : « ينبغي أن يكون الطبيب مشاركاً للعليل مشفقاً عليه ، حافظاً للأسرار ، لأنّ كثيراً من المرضى يوقفونا على أمراض لهم لا يحبّون أن يقف عليها غيرهم»[5].
وقال علي بن العباس : « يجب على الطبيب أن يحفظ أسرار المريض ولا يفشيها ، لا لأقاربه ولا لغيرهم ممّن يتّصل به ، لأنّ كثيراً من المرضى يكتمون ما بهم على أقرب الناس إليهم حتّى والديهم ، ويبوحون به للطبيب كأوجاع الرحم والبواسير ... فعلى الطبيب أن يحافظ على سرّ المريض أكثر من المريض نفسه[6].
--- 1] أخلاق الطبيب : 27.
[2] المصدر : 68.
[3] غرر الحكم 2 : 668.
[4] المصدر : 833 .
[5] عيون الأنباء : 46.
[6] الآداب الطبية في الأسلام : 129.
( 15 )
فإنّ الطبيب الناجح من كان يتحلّى بعزّة النفس وصيانتها من الرذائل والأخلاق المنحطّة ، فلا يقبل الرشاوي وحتّى الهدايا ، فيما لو كان طبيباً عند الدولة وفي مستشفى حكوميّة ، بل عليه أن يتعفّف عمّا يشينه ، ويزري بالمجتمع الطبّي ، وينقص من شأنهم ، ويحطّ في منزلتهم.
قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله):
« إيّاكم والرشوة ، فإنّها محض الكفر ، ولا يشمّ صاحب الرشوة ريح الجنّة».
« لعنة الله على الراشي والمرتشي».
« لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما».
« الراشي والمرتشي في النار».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في قوله تعالى : ( أكَّالونَ لِلْسُّحْتِ):
« هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثمّ يقبل هدّيته»[1].
---
[1] ميزان الحكمة 4 : 134.
( 16 )
الجود والسخاء من أخلاق الله ، وإنّ الله يحبّ السخيّ ، وأولى الناس بالسخاء الطبيب ، فلا يبخل بماله ، كما لا يبخل بعلمه ، بل زكاة طبّه معالجة المرضاء ، وتعليم الجهلاء ، وإشاعة الفضائل والعلوم ، وتقديم ما عنده من التجارب والكشفيّات إلى العالم كلّه ، فإنّ الطبيب طبيب الكلّ ، ولا ينحصر بشعب خاصّ أو وطن خاصّ ، لأنّ العالم للجميع ، ولا يتحدّد بحدود جغرافية ، ويتقلّم بأقاليم خاصّة.
فالطبيب الناجح من كان سخيّاً غير حسود ، ويحبّ الخير ونشره ، ويحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه.
وإنّ البخل يهدم صرح الإيمان ، كما إنّ الحسد سجن الروح ويفني الجسد ويوجب الهمّ والغمّ ، وأقلّ الناس لذّة الحسود والبخيل ، ومن السخاء العفو عمّن ظلمك ، كما إنّ ذلك من مكارم الأخلاق ، قال الله تعالى:
( إدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أحْسَنُ فَإذا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأ نَّهُ وَليٌّ حَميمٌ وَما يُلَقَّاها إلاّ الَّذين صَبَروا وَما يُلَقَّاها إلاّ ذو حَظٍّ عَظيم )[1] ، فالسخاء وعدم الحسد والعفو وعدم الغضب صفات يجب أن يتحلّى بها الطبيب الموفّق.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« السخاء خلق الله الأعظم».
« إنّ السخاء شجرة من أشجار الجنّة ، لها أغصان متدلّية في الدنيا ، فمن كان سخيّاً تعلّق بغصن من أغصانها فساقه
ذلك الغصن إلى الجنّة».
« السخيّ قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنّة».
إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعديّ بن حاتم طيء:
« دفع عن أبيك العذاب الشديد لسخاء نفسه».
« طعام السخيّ دواء وطعام الشحيح داء».
أقول : ما أروع هذه الرواية عندما تتجلّى في دواء الطبيب السخيّ ، فإنّه يكون دواؤه أسرع تأثيراً من غيره.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« سادة الناس في الدنيا الأسخياء ، وفي الآخرة الأتقياء».
« تحلّ بالسخاء والورع ، فهما حلية الإيمان وأشرف خلالك».
« السخاء خلق الأنبياء».
« السخاء والشجاعة غرائز شريفة يضعها الله سبحانه فيمن أحبّه وامتحنه».
« السخاء فطنة».
« لا يستعان على اللبّ إلاّ بالسخاوة».
« السخاء ثمرة العقل».
« غطّوا معايبكم بالسخاء ، فإنّه ستر العيوب».
« السخاء يزرع المحبّة».
« السخاء يثمر الصفاء».
« السخاء يمحّص الذنوب ويجلب محبّة القلوب».
« عليكم بالسخاء وحسن الخلق ، فإنّهما يزيدان الرزق ويوجبان المحبّة».
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
« السخاء من أخلاق الأنبياء ، وهو عماد الإيمان ، ولا يكون مؤمن إلاّ سخيّ ، ولا يكون سخيّاً إلاّ ذو يقين وهمّة عالية ، لأنّ السخاء شعاع نور اليقين ، ومن عرف ما قصد ، هان عليه ما بذل».
« خياركم سمحاؤكم ، وشراركم بخلاؤكم».
« شابّ سخيّ مرهق في الذنوب أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من شيخ عابد بخيل».
قيل للصادق (عليه السلام) : ما حدّ السخاء ؟ قال:
« تخرج من مالك الحقّ الذي أوجبه الله عليك فتضعه في موضعه».
« السخيّ الكريم الذي ينفق ماله في حقّ».
« السخاء أن تسخو نفس العبد عن الحرام أن تطلبه ، فإذا ظفر بالحلال طابت نفسه أن ينفقه في طاعة الله عزّ وجلّ».
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« إنّ الله يبغض
البخيل في حياته ، السخيّ عند وفاته»[2].
---
[1] فصّلت : 34 _ 35.
[2] ميزان الحكمة 4 : 418.
( 17 )
على الطبيب الحاذق أن يراعي مقدّمات العلاج وهي اُمور عشرة ، عبارة عن : 1 _ مقدار الدواء . 2 _ كيفيّته . 3 _ لحاظ ذكورية المريض واُنوثيّته . 4 _ سنّ المريض . 5 _ العادات السابقة والحالية للمريض . 6 _ بروز المرض في فصل من الفصول الأربعة . 7 _ حرفة المريض وشغله . 8 _ بلد المريض وكيفية مناخه وتربته . 9 _ سمن المريض وضعفه . 10 _ قوّة المريض[1] ونحوله.
ثمّ أصناف الأمراض التي تعتري الجسم أربعة : في الخلقة ، ومقدار الأعضاء ، وعددها ، وموضعها.
وقد وردت جميعاً في القرآن الكريم ، قال الله تعالى:
(لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ وَلا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلى المَريضِ حَرَجٌ)[2].
وتسمّى بالأمراض العضوية ، والعمى لمن فقد العينين ، والعرج قد تكون قدماً واحدة ، وقد تكون الاثنتين ، وإذا جاء لفظ المريض ، فهو ما يعني علّة في البدن كالشلل أو الحميات والدرن والصفراء ، أو علّة في المعدة والأمعاء ، وما إلى ذلك من أنواع العلل.
وهناك نوع آخر من الأمراض يسمّى بالأمراض النفسية تنتج عن مؤثّرات خارجيّة في الحياة العامّة ، مثل الخوف والشكّ والعاطفة وعدم الاكتفاء الجنسي وكثرة الإجهاد أو الحزن على ما فات والحرص على المستقبل ، كلّ هذا يسبّب سقم النفس ، والأمراض النفسية بجملتها مردّها إلى القلب.
وعلى الطبيب أن يبادر إلى معالجة المريض ولا يتهاون ويتساهل تكاسلا أو بغية مال أو زيادة اُجرة أو ما شابه ذلك ، فهذا كلّه من الخيانة ، وإنّ المبادرة إلى العلاج هو
ما تفرضه الأخلاق الفاضلة والإنسانية الرفيعة والفطرة السليمة ، وتنسجم مع عواطف الإنسان النبيلة كما أمرنا الإسلام بذلك . وعليه أن يراعي مقدّمات العلاج ومؤخّراته ولوازمه ، فإنّه من التزم بشيء التزم بلوازمه ، كما يدلّ عليه الأصل العقلائي.
---
[1] من كتاب « وظائف اسلامى و اخلاقى پزشكان مسلمان» بقلم ميرزا محمد أحمدآبادي : 32.
[2] الفتح : 17.
( 18 )
إنّ من أخلاق الطبيب أن يراعي الشؤون الاقتصادية في حياة مريضه ، فلا يحمّله ما لا طاقة له أو يقع في عسر وحرج ، وإذا كان المريض يعالج بالمأكولات والمشروبات من دون الدواء ، فلا يسرع في إعطاء الدواء ، فإنّ ( الدواء ينقي وينكي ) كما أ نّه يوجب الشفاء ، وربما على أثر مفاعلات كيمياوية يولّد عوارض جانبيّة اُخرى في الجسد ، فعلى الطبيب الحاذق أن يتمهّل في تجويز الدواء ، وإذا اقتضت الضرورة فإنّما يكتفي بمقدارها ، من دون إفراط وتفريط ، وإذا كان المرض يزول بدواء أقلّ قيمة فليكتفي به ، كما أ نّه لو كان يكتفى برفع المرض من خلال الدواء ، فلا يقدم على العملية الجراحية ، ومن يتجاوز هذه الحدود فإنّه يكون ضامناً فيما لو تلف المريض أو نقص منه عضو أو غير ذلك ، كما إنّه يجوز للمريض ما يكفيه من الدواء ، فلا يزيد حتّى يوجب الإسراف والتبذير.
كما لو كانت معالجة المريض تتمّ بدواء طاهر فلا يستعمل النجس والحرام ، فما جعل الله في الحرام من شفاء ، إلاّ عند الضرورة ، فكلّ ما حرّم الله أحلّه الاضطرار ، والمحذورات تباح عند الضرورة ، إلاّ أنّ تشخيص المصاديق وجزئيات الاضطرار ومواردها صعب ومشكل ، لا يقف عليها
بالتمام إلاّ الأوحديّ الحاذق.
كما لا يجهّز على موت المريض بتزريق أو حبّة أو غير ذلك ، عندما يحسّ بموته ، تصوّراً منه أ نّه يريحه من الأوجاع والأسقام ، فإنّ ذلك يعدّ قتلا عمداً ، ويوجب القصاص أو الدية ، كما هو مسطور في كتب الفقهاء.
كما لا يستعمل الأدوية أو العمليّة الجراحية لعقم النساء وعدم الإنجاب والحمل ، إلاّ إذا كان هلاك المرأة في ذلك ، لولا ذلك.
كما يحرم عليه إسقاط الجنين ، فإنّه يعدّ من قتل النفس . وعليه الدية حسب تكوّن الجنين من استقرار النطفة في الرحم ، وحتّى ولوج الروح حيث له دية كاملة ، كما عليه الكفّارة الكاملة كما هو مذكور في الكتب الفقهية والقانونية.
كما يحرم عليه تشريح بدن المسلم حتّى في مقام تعليم تلامذته ، بل يجب عليه الدية فيما لو قطع عضواً من الميّت أو أورد جرحاً ، كما قد تقرّر في محلّه.
كما لا يجوز في الشريعة الإسلامية تلقيح نطفة أجنبي في رحم أجنبي.
كما على الطبيب أن يكون متفقّهاً وعارفاً بمسائل الحرام والحلال وما يتعلّق بعلمه ككتاب الأطعمة والأشربة ، فعليه أن يكون ملمّاً بفقه الطبّ ، كما أ نّه ملتزماً بالأحكام الشرعيّة.
وإذا عجز عن معالجته ويئس من فنّه ، فلا ييأس من روح الله ، فإنّ أزمّة الاُمور طرّاً بيده ، فليدعو الله جلّ جلاله بالشفاء ، ويتوسّل بأنبيائه وأوصيائه وعباده الصالحين ، كما سنذكر تفصيل ذلك في الخاتمة ، إن شاء الله تعالى.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) : « أنّ نبيّاً من الأنبياء مرض ، فقال : لا أتداوى حتّى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني ، فأوحى الله تعالى إليه : لا أشفيك حتّى تداوى ،
فإنّ الشفاء منّي».
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) : « ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع المداواة عنكم ، فإنّه بمنزلة البناء قليله يجرّ إلى كثيره»[1].
وفي الحديث النبويّ الشريف : « تجنّب الدواء ما احتمل بدنك الداء ، فإذا لم يتحمّل الداء فالدواء»[2].
وعن أبي الحسن (عليه السلام) : « ليس من دواء إلاّ وهو يهيج داء ، وليس شيء في البدن أنفع من إمساك اليد عمّا يحتاج إليه»[3].
وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله) : « تجنّب الدواء ما احتمل بدنك الداء ، فإذا لم يحتمل الداء فالدواء».
« من ظفرت صحّته على سقمه فشرب الدواء فقد أعان على نفسه»[4].
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « لا يتداوى المسلم حتّى يغلب مرضه صحّته»[5].
وقال : « امشِ بدائك ما مشى بك».
وقال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « إنّ الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكلّ داء دواء ، فتداوا وما تداووا بحرام»[6].
عن الإمام الصادق (عليه السلام) : « المضطرّ لا يشرب الخمر ، فإنّها لا تزيد إلاّ شرّاً ، فلا تشرب منها قطرة»[7].
وعن أبي جعفر (عليه السلام) : « إنّ الله تعالى جعل في الدواء بركة وشفاء وخيراً
كثيراً».
كتاب المسائل ، بإسناده عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى ، قال : سألته عن الداء هل يصلح بالنبيذ ؟ قال : لا»[8].
وعقد العلاّمة المجلسي في البحار باب حول التداوي بالحرام ، يذكر فيه الآيات و 26 حديثاً فراجع البحار 59 : 79.
قال الله تعالى:
(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا إنَّما الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحونَ * إنَّما يُريدُ الشَّيْطانُ أنْ يوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ وَالبِغْضاءَ في الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ
الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهونَ)[9].
قال رسول الله : تداووا ، فإنّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء . وقال : ما أنزل الله من داء إلاّ أنزل له شفاء.
عن يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشرب الدواء وربما قتله ، وربما يسلم منه ، وما يسلم أكثر . قال : فقال : أنزل الله الداء وأنزل الشفاء ، وما خلق الله داءً إلاّ جعل له دواء ، فاشرب وسمّ الله تعالى[10].
الكافي ، بسنده عن يونس بن يعقوب ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الرجل يشرب الدواء ويقطع العرق ، وربما انتفع به وربما قتله . قال : يقطع ويشرب[11].
الدعائم ، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) ، أ نّه سئل عن الرجل يداويه اليهودي
والنصراني . قال : لا بأس ، إنّما الشفاء بيد الله.
وعن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) ، أ نّه سئل عن المرأة تصيبها العلل في جسدها ، أيصلح أن يعالجها الرجل ؟ قال (عليه السلام) : إذا اضطرّت إلى ذلك فلا بأس[12].
ثمّ من الروايات التي تدلّ على عدم شرب الدواء للتجربة ، ما جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ثلاثة لا ينبغي للمرء الحازم أن يقدم عليها : شرب السمّ للتجربة وإن نجا منه ...»[13].
كما لا يصحّ شرب الدواء من دون علّة ، فإنّه غير صالح ، كما ورد في بعض النصوص « عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ثلاثة تعقب مكروهاً ... وشرب الدواء من غير علّة وإن سلم منه ...»[14].
كما على المريض أن لا يسرف في الدواء ، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام) :
« ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم ، فإنّه بمنزلة البناء قليله يجرّ إلى كثيره»[15].
و « لا يتداوى المسلم حتّى يغلب مرضه على صحّته» ، « شرب الدواء للجسد كالصابون للثوب ينقّيه ، ولكن يخلّقه».
وممّا يعين على سرعة العلاج لو عرف المريض منافع دواءه من طبيبه ، بأن يبيّن له ذلك ولو على نحو الإجمال ، كما نجد في رواياتنا عن الرسول الأكرم والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، عندما يذكرون الدواء يذكرون منافعه وآثاره ، فإنّ للاعتقاد دور هامّ في تأثير الدواء ودفعه للمرض ، ومن هذا المنطلق نرى الإمام الصادق (عليه السلام)حينما يذكر دواء لوجع الجوف يعترض عليه البعض بأ نّهم فعلوا ذلك ولم ينفعهم ، فيقول غاضباً (عليه السلام) : « إنّما ينفع الله بهذا أهل الإيمان به والتصديق لرسوله ، ولا ينفع به أهل النفاق ، ومن أخذه على غير تصديق منه للرسول»[16].
ويطعم المريض عند اشتهائه طعاماً ، فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) : « فإذا اشتهى الطعام فأطعموه ، فلربما فيه الشفاء».
وعن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « لا تكرهوا مرضاكم على الطعام ، فإنّ الله يطعمهم ويسقيهم»[17].
ولا يكلّف المريض المشي ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : « المشي للمريض نكس» . كما يستحبّ للمسافر أن يحمل معه الدواء ، فإنّ لقمان ينصح ولده عند إرادته السفر قائلا : تزوّد معك الأدوية فتنتفع بها أنت ومن معك».
ثمّ على الإنسان أن يهتمّ بصحّته أوّلا قبل أن يمرض ، فإنّ الوقاية خير من العلاج ، وقد ورد عن النبيّ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) : « إنّ في صحّة البدن فرح الملائكة ومرضاة الربّ وتثبيت السنّة»
، وقال : « لا خير في الحياة إلاّ مع الصحّة».
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ عامّة هذه الأرواح من المرّة الغالبة أو دم محترق أو بلغم غالب ، فليشتغل الرجل بمراعاة نفسه قبل أن تغلب عليه شيء من هذه الطبائع فيهلكه».
وما أروع ما جاء في الحديث الشريف : « لا تأكل ما قد عرفت مضرّته ، ولا تؤثر هواك على راحة بدنك»[18].
وهناك المئات بل الاُلوف من الأحاديث الشريفة الدالّة على حفظ الصحّة والوقاية الصحيّة أوّلا ، حتّى الوقاية والمعالجة بالخضار والفواكه واللحوم والبقول والحبوب والأطعمة والألبان ، وذلك بذكر الخصائص والمزايا التي فيها ، والاستيعاب إلى بيان هذا الموضوع والبحث عنه من جميع جوانبه يحتاج إلى خبرات كبيرة ، ومؤلفات عديدة ، ومجلّدات كثيرة ، ووقت طويل للكاتب والباحث والمطالع على حدّ سواء.
وكذلك ما يتعلّق بالنظافة الجسدية كالسواك والخلال والوضوء والغسل ونظافة الثياب ، وأ نّه يذهب الهمّ الذي يورث الهرم والأوجاع ، وكذلك نظافة الدور والأواني والمحيط والبيئة والمجتمع ، وما يتعلّق بالعلاقة الجنسية ، وغير ذلك من المباحث المهمّة والمتشعّبة التي يجمعها عنوان ( حفظ الصحّة ) للفرد والمجتمع.
وقد اهتمّ الإسلام بكلّ هذه المباحث غاية الاهتمام ، بل يفوق حدّ التصوّر ، حتّى قال الرسول الأكرم : « النظافة من الإيمان» ، وإنّ الإيمان مع صاحبه في الجنّة ، وإنّما يدخل الجنّة من كان سعيداً ، كما في قوله تعالى:
(وَأمَّا الَّذينَ سعدوا فَفي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها)[19].
وهذا يعني أنّ النظافة من علائم سعادة الإنسان في حياته وبعد مماته.
وإنّ الله:
(يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ)[20].
كما إنّه يبغض من عباده القاذورة ... وأنّ الله نظيف ويحبّ النظافة ويحبّ النظيفين ، وعلى المسلم أن يراعي النظافة
في كلّ شيء ، في ملبسه ومأكله ومشربه وصلاته وصومه وفي كلّ جوانب حياته العلمية والعملية ، الفردية والاجتماعية ، فيراعي التقوى والنظافة الجسدية والروحية ، فإنّه سبحانه وتعالى يحبّ المتّقين ويحبّ المتطهّرين ، ومن ثمّ لا يبتلى بالداء حتّى يحتاج إلى الدواء.
فالنظافة بالمعنى الأعمّ والأخصّ أصل مهمّ في حياة المسلمين.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« إنّ الله طيّب يحبّ الطيب ، نظيف يحبّ النظافة».
« بئس العبد القاذورة».
عن مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال:
« أبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلا شعثاً شعر رأسه ، وسخة ثيابه ، سيّئة حاله ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من الدين المتعة وإظهار النعمة».
« لا تبيّتوا القمامة في بيوتكم ، وأخرجوها نهاراً ، فإنّها مقعد الشيطان».
« تنظّفوا بكلّ ما استطعتم ، فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة ، ولن يدخل الجنّة إلاّ كلّ نظيف».
« إنّ الإسلام نظيف فتنظّفوا ، فإنّه لا يدخل الجنّة إلاّ نظيف».
« من اتّخذ ثوباً فلينظّفه».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« تنظّفوا بالماء من النتن الريح الذي يتأذّى به ، تعهّدوا أنفسكم ، فإنّ الله عزّ وجلّ يبغض من عباده القاذورة الذي يتأنّف به من جلس إليه».
« نظّفوا بيوتكم من حوك العنكبوت ، فإنّ تركه في البيوت يورث الفقر».
« النظيف من الثياب يذهب الهمّ والحزن ، وهو طهور للصلاة».
قال الإمام الباقر (عليه السلام):
« كنس البيوت ينفي الفقر».
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
« غسل الإناء وكنس الفناء مجلبة للرزق».
قال الإمام الرضا (عليه السلام):
« من أخلاق الأنبياء التنظّف»[21].
---
[1] علل الشرائع 2 : 151.
[2] مكارم الأخلاق : 148.
[3] روضة الكافي : 273.
[4] طبّ الأئمة : 61.
[5]
البحار 59 : 65.
[6] طبّ الأئمة : 62.
[7] علل الشرائع 2 : 164.
[8] البحار 59 : 83 .
[9] المائدة : 90 _ 91.
[10] البحار 59 : 66.
[11] البحار 78 : 235.
[12] المصدر : 67.
[13] المصدر : 74.
[14] البحار 78 : 234 ، عن تحف العقول.
[15] البحار 81 : 207.
[16] البحار 62 : 73.
[17] البحار 62 : 142.
[18] الآداب الطبية في الإسلام : 200.
[19] هود : 108.
[20] البقرة : 222.
[21] ميزان الحكمة 10 : 92.
( 19 )
الطبّ من الواجبات الكفائية ، وقيل : يشكل أخذ الاُجرة على الواجبات الكفائية ، فالأولى للطبيب أن لا يأخذ الاُجرة على نفس طبابته ، إنّما يأخذها للمقدّمات وحقّ القدم ، ولا يجحف في حقّ المرضاء حينئذ ، فإنّ علمه من الله ، وليكن استعمال العلم في خدمة خلق الله ، فإنّ خير الناس من نفع الناس ، ومن الفقهاء من جوّز أخذ الاُجرة على الطبابة ، لما جاء في الأخبار ، فعن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : « سألته عن الرجل يعالج الدواء للناس فيأخذ عليه جُعلا ، قال : لا بأس»[1].
وقال العلاّمة (قدس سره) في المنتهى : يجوز الاستيجار للختان وخفض الجواري والمداواة وقطع السلع وأخذ الاُجرة عليه ، لا نعلم فيه خلافاً ، لأ نّه فعل مأذون فيه شرعاً ، يحتاج إليه ويضطرّ إلى فعله ، فجاز الاستيجار عليه كسائر الأفعال المباحة[2].
فالإسلام لا ينظر إلى الطبّ باعتباره حرفة يهدف منها جمع المال والتجارة والحصول على حطام الدنيا ، بل الطبّ رسالة إنسانية ومسؤولية شرعية بالدرجة الاُولى.
فلا يحقّ للطبيب أن يتساهل أو يتعلّل في معالجة مريضه انتظاراً للاُجرة أو لزيادتها ،
فإنّ التارك لشفاء المجروح من جرحه شريك جارحه _ كما ورد في خبر عيسى بن مريم _ ولكن هذا لا يعني أن لا يأخذ الاُجرة ويكون عالة على الآخرين ، بل لا يكون هدفه المال ، بحيث لولاه أو زيادته لما كان العلاج والتداوي.
فهدفية المال والثروة في الطبّ ، إنّما يجعل علمه وبالا على الإنسانية ، وبالنهاية يضرّ بالبشرية ، ويموت الإبداع والاكتشافات الطبية حينئذ ، ونتيجة ذلك السطحية والقشرية والهامشية في علم الطبّ.
كما لا يجوز للطبيب التعلّل بعدم الاُجرة أو بقلّتها في مقام العلاج والتداوي ، فإنّ التارك شفاء المجروح من وجرحه شريك جارحه لا محالة ، كما ورد في الخبر الشريف ، فإنّ الجارح أراد فساده والتارك أراد عدم إصلاحه ، فهما شريكان في دم المجروح.
فالمبادرة إلى العلاج أوّلا هو ما تفرضه الأخلاق الطبية والإنسانية الرفيعة والفطرة السليمة في حياة الطبيب ، وتنسجم مع عواطفه الإنسانية وأخلاقه النبيلة وسجاياه الكريمة.
ثمّ مطالبة الاُجرة المعقولة لا إشكال فيها ، فقد وردت النصوص الشرعيّة على جواز ذلك.
قال الله تعالى:
(نُحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعيشَتَهُمْ في الحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجات لِيَتَّخِذَ بَعْضَهُمْ بَعْضاً سُخْرِيَّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعونَ)[3].
(قالَتْ إحْداهُما يا أبَتِ اسْتَأجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأجَرْتَ القَوِيَّ الأمينَ)[4].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« من ظلم أجيراً أجره أحبط الله عمله وحرّم عليه الجنّة ، وريحها لتوجد من مسيرة خمسمئة عام».
« إنّ الله غافر كلّ ذنب إلاّ من أحدث ديناً ، أو اغتصب أجيراً أجره ، أو رجل باع حرّاً».
إنّ الله غافر كلّ ذنب إلاّ رجلٌ اغتصب أجيراً أجره ، أو مهر امرأة».
« ظلم الأجير أجره من الكبائر».
« ألا من ظلم أجيراً اُجرته فلعنة الله
عليه».
« إذا استأجر أحدكم أجيراً فليُعلمه أجره».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في قوله تعالى:
( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعيشَتَهُمْ):
« فأخبرنا أنّ الإجارة أحد معايش الخلق ، إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم ، وجعل ذلك قواماً لمعايش الخلق ، وهو الرجل يستأجر الرجل ... ولو كان الرجل منّا يضطرّ إلى أن يكون بنّاءً لنفسه ، أو نجّاراً أو صانعاً في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه ، ما استقامت أحوال العالم بتلك ، ولا اتّسعوا له ، ولعجزوا عنه ، ولكنّه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم ، وكلّما يطلب ممّا تنصرف إليه همّته ممّا يقوم به بعضهم لبعض ، وليستغني بعضهم ببعض في أبواب المعائش التي بها صلاح أحوالهم».
قال الإمام الرضا (عليه السلام):
« اعلم أ نّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثمّ زدته لذك الشيء ثلاثة أضعاف على اُجرته ، إلاّ ظنّ أ نّك قد نقصته اُجرته ، وإذا قاطعته ، ثمّ أعطيته اُجرته حمدك على الوفاء ، فإن زدته حقّه عرف ذلك ورأى أ نّك قد زدته»[5].
---
[1] البحار 59 : 72.
[2] البحار 59 : 65.
[3] الزخرف : 32.
[4] القصص : 26.
[5] ميزان الحكمة 1 : 18.
( 20 )
لا يحقّ للطبيب أن يستهين بمريضه ، فلا يحترمه في عقائده ومذهبه وسلوكه وعاداته وتقاليده ، ممّا يوجب اضطرابه وجرح مشاعره ، فإنّ كلّ واحد له شخصيّته الفردية والاجتماعية ، وعقائده محترمة عنده ، ويحاول أن يدافع عنها مهما كلّفه الأمر ، فلا يستغلّ الطبيب مرضه ، ليحمّله عقائده وأفكاره ، أو يجذبه إلى حزبه ، فيما لو كان الطبيب متحزّباً ، وإنّي لأنصح الأطباء وكذلك رجال الدين أن لا يتحزّبوا
، فإنّ دخولهم في حزب يلزمهم أن يفقدوا شرائح اجتماعية كثيرة ، وأحزاب اُخرى ، وخلق كثير ، والحال أنّ الطبيب الجسدي والطبيب الروحي _ أي : الدكتور والعالم الديني _ إنّما هو لكلّ الناس وفوق الميول والاتجاهات الخاصّة.
فالطبيب الحاذق عليه أن يراعي كمال الأخلاقيات العامّة والخاصّة مع الكلّ ، لا سيّما مع مريضه.
يقول محمد بن زكريا الرازي : « ولا شيء أجدى على العليل من أن يكون الطبيب مائلا إليه بقلبه محبّاً له»[1].
فالواجب على الطبيب المسلم أن يحترم مريضه ويكرمه ويحسن عليه ، فإنّه أخوه في الدين أو الإنسانية.
قال الله تعالى:
(أحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ)[2].
(أحْسِنوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمحْسِنينَ)[3].
(إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسانِ)[4].
(إنَّ اللهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنونَ)[5].
(إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإنْ أسَأتُمْ فَلَها)[6].
(لِلَّذينَ أحْسَنوا في هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ)[7].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها ، ومجلس يكرمه به ، لم يزل في ظلّ الله عزّ وجلّ ممدوداً عليه بالرحمة ، ما كان في ذلك».
« ما في اُمّتي عبد ألطف أخاه في الله بشيء من لطف إلاّ أخدمه الله من خدم الجنّة».
« إلقَ أخاك بوجه منبسط».
« جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها ، وبُغض من أساء إليها».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« الإحسان غريزة الأخيار ، والإساءة غريزة الأشرار».
« الإحسان المحبّة».
« الأحسان غُنم».
« الإحسان ذُخر ، والكريم من حازه».
« عليك بالإحسان فإنّه أفضل زراعة ، وأربح بضاعة».
« أفضل الإيمان الإحسان».
« بالإحسان تُغمد الذنوب».
« رأس الإيمان الإحسان إلى الناس».
« نِعم زاد المعاد الإحسان إلى العباد».
« لو رأيتم الإحسان شخصاً لرأيتموه شكلا جميلا يفوق العالمين».
« من كثر إحسانه أحبّه إخوانه».
« الإحسان يسترقّ الإنسان».
«
بالإحسان تملك القلوب».
« المحسن معان».
« المحسن حيّ وإن نُقل إلى منازل الأموات».
« المحسن من عمّ الناس بالإحسان».
« إنّ المؤمنين المحسنون».
« إنّك إن أحسنت فنفسك تكرم وإليها تحسن ، إنّك إن أسأت فنفسك تمتهن وإيّاها تغبن».
« تمام الإحسان ترك المنّ به»[8].
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
« من أتاه أخوه المؤمن فأكرمه فإنّما أكرم الله عزّ وجلّ».
« من قال لأخيه مرحباً كتب الله له مرحباً إلى يوم القيامة».
« إنّ من عظّم دينه عظّم إخوانه ، ومن استخفّ بدينه استخفّ بإخوانه»[9].
--- 1] أخلاق الطبيب : 35.
[2] القصص : 77.
[3] البقرة : 195.
[4] النحل : 90.
[5] النحل : 128.
[6] الإسراء : 7.
[7] النحل : 30.
[8] ميزان الحكمة 2 : 442.
[9] ميزان الحكمة 1 : 20.
لقد ذكر القدماء بعض المواصفات لطالب العلم الطبي ، فقد نسبوا إلى أبقراط الوصيّة المعروفة بترتيب الطبّ ، ويقول فيها : « ينبغي أن يكون المتعلّم للطبّ في جنسه حرّاً وفي طبعه جيّداً ، حديث السنّ ، معتدل القامة ، متناسب الأعضاء ، جيّد الفهم ، حسن الحديث ، صحيح الرأي عند المشورة ، عفيفاً ، شجاعاً ، غير محبّ للفضّة ، مالكاً لنفسه عند الغضب ، ولا يكون بليداً.
وينبغي أن يكون مشاركاً للعليل ، مشفقاً عليه ، حافظاً للأسرار ، لأنّ كثيراً من المرضى يوقفونا على أمراض بهم لا يحبّون أن يقف عليها غيرهم.
وينبغي أن يكون محتملا للشتيمة ، لأنّ قوماً من المبرسمين _ البرسام علّة يهذي فيها المريض _ وأصحاب الوسواس السوداوي يقابلونا بذلك ، وينبغي لنا أن نحتملهم عليه ، ونعلم أ نّه ليس منهم ، وأنّ السبب فيه المرض الخارج عن الطبيعة.
وينبغي أن يكون حلق رأسه معتدلا مستوياً ، لا
يحلقه ولا يدعه كالجمّة ، ولا يستقصي قصّ أظافير يديه ، ولا يتركها تعلو على أطراف أصابعه.
وينبغي أن تكون ثيابه بيضاء نقيّة ، ولا يكون في مشيه مستعجلا ، لأنّ ذلك دليل على الطيش ، ولا متباطئاً ، لأ نّه يدلّ على فتور النفس.
وإذا دعي إلى المريض فليقعد متربّعاً ، وليختبر منه حاله بسكون وتأنّ ، لا بقلق واضطراب.
وجاء في كتاب « كامل الصناعة الطبية الملكي» لعلي بن العباس ، إضافة إلى ما مرّ : « وإنّ على طالب العلم الطبّي ، أن يطيع أوامر الله تعالى ، ويحترم أساتذته ويكون في خدمتهم ، ويعتبرهم بمنزلة والديه ، ويحسن إليهم ، ويشركهم في أمواله.
كما إنّ عليه أن يعتبر ابن معلّمه أخاً له ، ويعلّمه هذه الصناعة بلا اُجرة ولا شرط ، ويشرك أولاده ، وأولاد معلّمه في العلوم والوصايا ، وكذلك سائر التلاميذ الذين يستحقّون تعلّم هذه الصناعة دون غيرهم ، ممّن لا يستحقّ ذلك.
وبعد أن ذكر اُموراً اُخرى ، من جملتها لزوم حفظ المطالب ، وعدم الاعتماد على الكتاب ، ذكر : أنّ عليه أن يتعلّم مطالب هذا العلم في أيام صباه ، لأنّ ذلك أسهل عليه من أيام الشيخوخة ... وعلى طالب هذا العلم أن يبقى في المستشفيات في خدمة أساتذته العلماء ، والحذّاق في هذه الصناعة ، فيمارس العمل في هذا المجال ، ويشرف على المرضى وعلى أحوالهم ، ويستفيد من صحبة الأساتذة وخدمة المرضى ما يرتبط بأحوال وعوارض الأمراض ، حسناً وسوءاً ، ويطبّق ما قرأه عملياً ...[1].
وقال عليّ بن العباس الأهوازي : « على الطبيب أن يكون نظيفاً ، يخاف الله ، عذب اللسان ، حسن السلوك ، وأن يبعد
عن كلّ سوء وكلّ مشين ، وأن لا ينظر إلى النساء ...».
---
[1] الآداب الطبية في الإسلام : 103.
قال الله سبحانه وتعالى:
( قُلْ ما يَعْبَؤ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤكُمْ )[1].
(وَقالَ رَبُّكُمْ اُدْعوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ)[2].
(وَإذا سَألَكَ عِبادي عَنِّي فَإنَّي قَريبٌ اُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ)[3].
(وَإذا مَسَّ الإنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أوْ قاعِداً أوْ قائِماً)[4].
(دَعَوِا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكونَنَّ مِنَ الشَّاكِرينَ)[5].
(قُلْ مَنْ يُنْجيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحْرِ تَدْعونَهُ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً)[6].
(تَتَجافى جُنوبُهُمْ عَنِ المَضاجِعِ يَدْعونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً)[7].
(أمَّنْ يُجيبُ دَعْوَةَ المُضْطِرِّ إذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[8].
(إنَّهُمْ كانوا يُسارِعونَ في الخَيْراتِ وَيَدْعونا رَغَباً وَرَهَباً)[9].
(وَللهِ الأسْماءُ الحُسْنى فَادْعوهُ بِها)[10].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« أفضل العبادة الدعاء ، فإذا أذن الله للعبد في الدعاء فتح له باب الرحمة ، إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد».
« إنّ الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبيّاً قال له : إذا أحزنك أمر تكرهه فادعني أستجب لك ، وإنّ الله أعطى اُمّتي ذلك حيث يقول : (ادْعوني أسْتَجِبْ لَكُمْ).
« من فتح له من الدعاء منكم فتحت له أبواب الإجابة».
قال أمير المؤمنين في وصيّة لابنه الإمام الحسن (عليهما السلام):
« إعلم أنّ الذين بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذن لدعائك ، وتكفّل لإجابتك ، وأمرك أن تسأله فيعطيك ، وهو رحيم كريم ، لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه ... ثمّ جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه».
« من قرع باب الله سبحانه فتح له».
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
« أكثر من الدعاء ، فإنّه
مفتاح كلّ رحمة ، ونجاح كلّ حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلاّ بالدعاء ، وليس باب يكثر قرعه إلاّ يوشك أن يفتح لصاحبه.
فأئمّتنا الأطهار (عليهم السلام) يأمرونا بالدعاء الكثير ، ومثل هذا الحصر « ولا ينال ما عند الله إلاّ بالدعاء» على ماذا يدلّ ؟ والضرورة والوجدان يقضي أنّ الباب الذي يكثر عليه القرع يوشك أن يفتح لقارعه ، ومن طرق الباب ولجّ ، ولج ، فعلينا بالدعاء على كلّ حال.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
« لا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه ، إنّ عند الله منزلة لا تنال إلاّ بمسألة».
وهذا تحريض عجيب لمن أراد بلوغ المنى ، وقال زرارة في معنى الرواية : إنّما يعني أن لا يمنعك إيمانك بالقضاء والقدر أن تبالغ بالدعاء وتجتهد فيه.
وعن زرارة ، قال : قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : ألا أدلّك على شيء لم يستثن فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قلت : بلى . قال : الدعاء يردّ القضاء وقد اُبرم إبراماً ( وضمّ أصابعه ).
ما أروع هذا الأمل والثقة بالله سبحانه وتعالى ، فإنّه ممّا يزيد في معنويات وروحيات الإنسان ، لا سيّما أصحاب الحوائج والمشاكل والقضايا المستصعبة والأسقام المزمنة والأمراض صعبة العلاج.
فإنّ المريض مهما كانت خطورة مرضه ، فإنّ هناك بصيص من النور والرحمة في قلبه ، وإنّه يلتجئ إلى ربّه ، ويرى العلاج الطبي إنّما هو وسيلة ظاهرية ، والشفاء الحقيقي بيد الله سبحانه ، فهو المشافي المعافي الطبيب المداوي ، ولا سبيل إلى فيضه الجسيم ولطفه العميم ، ورحمته الوسيعة ، وشفقته الرفيعة ، إلاّ الدعاء من صميم القلب خالصاً مجتهداً بقلب نقيّ ولسان صادق ، فإنّه
يردّ القضاء المبرم والموت المعلّق.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام):
« عليك بالدعاء فإنّ فيه شفاء من كلّ داء».
وعن محمد بن مسلم ، قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : في هذه الحبّة السوداء شفاء من كلّ داء إلاّ السام ؟ ( أي الموت ) ، فقال : نعم ، ثمّ قال : ألا اُخبرك بما فيه شفاء من كلّ داء وسامّ ؟ قلت : بلى ، قال : الدعاء.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« ادفعوا أمواج البلاء بالدعاء ، ما المبتلى الذي استدرّ به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء».
وهذا يعني أ نّه لا بدّ من الدعاء على كلّ حال في الشدّة والرخاء والعافية والبلاء والصحّة والمرض والراحة والتعب ، وفي الليل والنهار ، وفي جميع الأحوال ( تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة ).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام):
« من تخوّف من بلاء يصيبه فتقدّم في الدعاء لم يره الله عزّ وجلّ ذلك البلاء أبداً».
ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« إنّ لله سبحانه سطوات ونقمات ، فإذا اُنزلت بكم فادفعوها بالدعاء ، فإنّه لا يدفع البلاء إلاّ الدعاء».
فمقام الدعاء في الإسلام مقام عظيم ، والنصوص القرآنية والأحاديث الشريفة أولت المزيد من الاهتمام في الدعاء والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى ، لأنّ الدعاء يعدّ في نظر الإسلام من أنجع الوسائل وأعمقها في تربية النفوس وتهذيب الأخلاق ودفع البلاء وحلّ المشاكل واتّصال الإنسان بربّه الكريم.
الدعاء مدرسة تربوية ، وعلاقة وثيقة بين العبد ومولاه ، من العبادات وإنّه سلاح المؤمن ، يردّ القضاء المبرم ، ويغيّر في المقدّرات الإلهية في عالم المحو والإثبات بأمر
من الله سبحانه:
(يَمْحو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الكِتابِ)[11].
وترك الدعاء يعدّ من المعاصي والآثام ، كما إنّه من الطعات والقربات ، ولا يهلك مع الدعاء أحد ، وإنّه مصابيح النجاح ومقاليد الفلاح ومفاتيح الرحمة ، وإنّ الله سبحانه ليحبّ عبده الداعي ، وأحبّ الأعمال إليه في الأرض الدعاء ، فما شيء أحبّ إلى الله من أن يسأل العبد ربّه ، وكان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) رجل دعّاء ، وإنّ من أفضل العبادة الدعاء.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه يوماً : ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : تدعون ربّكم بالليل والنهار ، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء ، ومخّ العبادة الدعاء ، وهو عمود الدين ونور السماوات والأرضين ، وهو ترس المؤمن.
وقد ورد في الروايات الكثيرة أنّ الدعاء سلاح الأنبياء ، وأ نّه أنفذ من سلاح الحديد ، وهو شفاء من كلّ داء ، فادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء قبل ورود البلاء ، فإنّ الدعاء بعد ما ينزل البلاء لا ينتفع به ، وأدفعوا نوائب البلايا بالاستغفار ، وتعرّفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدّة ، واسألوا الله ما بدا لكم من حوائجكم حتّى شسع النعل ، فإنّه إن لم ييسّره يتعسّر ، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعو بها ،
فإنّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار ، ومن قرع باب الله سبحانه فُتح له ، وإنّ الدعاء كهف الإجابة كما أنّ السحاب كهف المطر.
ثمّ الإنسان خُلق ضعيفاً ، ويحسّ دوماً أ نّه يفتقر ويحتاج إلى قوّة كبرى يرتبط بها باستمرار ، تسنده وتؤيّده وتعينه وتنصره وتسدّد خطاه في مسيرة
حياته ، ولا تكون تلك القوّة من نفس السنخية التي خلق منها ، بل تكون قاهرة قادرة عالمة بكلّ شيء بلا نهاية ، وما تلك القوّة إلاّ الله سبحانه وحده لا شريك له ، واجب الوجود لذاته ، الغنيّ عن عباده ، وما عداه مفتقر إليه في حدوثه وبقائه.
والله سبحانه أجود الأجودين عند حسن ظنّ عبده المتوكّل عليه والمفوّض أمره إليه ، فإنّه جلّ جلاله لم يبخل على عبده في مرحلة من مراحل الحياة ، وكان جوده ووجوده على العباد برحمانيّته بنعمة التسديد والإسناد والتأييد ، وإذا انقطع العبد إليه وحده ، فإنّه يؤيّده برحميّته التي هي قريبة من المحسنين.
ويكون العبد بدعائه وتضرّعه وتهجّده وانقطاعه متسامياً متعالياً منتصراً على النفس الأمّارة بالسوء والأنانية وحبّ الذات ، ويرتفع إلى مصاف عباد الله المقرّبين المخلصين ، ويكون دعاؤه سلاحاً ماضياً وترساً واقياً وكهفاً منيعاً وحصناً حصيناً.
فالدعاء والتضرّع حينئذ يكونان كفيلين في إرجاع العبد إلى حظيرة القدس وطريق الطاعة ومقام العبودية والتسامي إلى قاب قوسين ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فالدعاء سموّ في الروح وإشراق في النفس ، فإنّ من ثمراته إزالة ما ران على القلوب من المعاصي والحجب التي تمنع النفس عن التجلّي والرفعة ، وهدايتها إلى مصاف الصالحين.
الدعاء رابط وثيق بين العبد وربّه ، خالق الكون وواهب الحياة ، ومن بيده
مجريات الأحداث ، وهو بكلّ شيء محيط.
ومن الواضح أنّ علاقة الإنسان بخالقه وصانعه علاقة ذاتية ومتأصّلة في وجوده ، فإنّه يفزع إلى الله سبحانه إذا دهمته الكوارث أو ألمّت به المصائب ، أو تورّط بالمحن ، فيدعو ربّه ضارعاً منكسراً لا يجد غيره أحداً يفزع إليه ، ولا يكشف الضرّ عنه سواه:
(أمَّنْ يُجيبُ المُضْطِرَّ إذا
دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
وهو اللطيف الرحيم بعباده.
الدعاء هو القرآن الصاعد ، وقد اهتمّ الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بالأدعية اهتماماً بالغاً ، لأ نّها شفاء القلوب وبلسماً للجراح ، وتهذيباً للنفوس ، ومفتاحاً للإجابه وقضاء الحوائج ، وقد خلّفوا (عليهم السلام) لنا ثروة هائلة قدسية من الأدعية والتراث الروحي العملاق ، في شتّى فنون الأدعية والأوراد والأذكار.
وقد ذكر السيّد ابن طاووس نادرة زمانه ، أنّ خزانة مكتبته فقط تحتوي على ثمانمائة كتاب ومجلّد من الأدعية ، اُثرت عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام).
وهذا إنّما يدلّ على عظمة الدعاء وأثره البالغ في حياة الإنسان ، فإنّه يوجب حسن العاقبة وعدم الزيغ ، والتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، والكلام مع الله ، والطلب منه بأن يعامله بلطفه وكرمه وبما هو أهله ، وسعادة الدارين والنور والهداية والمعرفة والوصول إلى الكمال المطلق ومطلق الكمال ، والفناء في الله سبحانه وتعالى.
ولا يخفى على ذوي النهى أنّ للدعاء المستجاب شرائط ذكرها علماء الفنّ ، كما جاء في « جامع السعادات» للمرحوم النراقي ، و « المحجّة البيضاء» للفيض الكاشاني ، و « عدّة الداعي» لابن فهد الحلّي ، وكتب السيّد ابن طاووس ،
و « مفاتيح الجنان» للشيخ القمّي ، و « مفاتيح الجنّات» للسيّد محسن العاملي ، وعشرات ومئات الكتب الاُخرى في الأدعية والأوراد.
ومن أهمّ الشرائط : المعرفة التامّة ، والعمل بما يقتضيها ، وحضور القلب ورقّته ورحمته ، وطيب المكسب وحلّيته ، وإطاعة الله ورسوله وعترته ، والإخلاص والتقوى واليقين بالإجابة . ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إذا اقشعرّ جلدك ودمعت عيناك ووجل قلبك ، فدونك دونك فقد
قصد قصدك» ، والطهارة الباطنية والإقبال على الله سبحانه ، والاعتراف بالذنوب ، وحسن الظنّ بالله سبحانه.
كما إنّ للإجابة موانع : كالذنب والمعصية والظلم ولقمة الحرام ومناقضته للحكمة والمصلحة العامّة أو الخاصّة ، ومن عليه مظالم الناس.
كما للدعاء آداب : كالبسملة وتمجيد الله وحمده ، والصلاة على النبيّ وآله ، والاستشفاع بالأولياء والصالحين ، والإقرار بالذنب ، والتضرّع والابتهال ، وأن لا يستصغرنّ شيئاً من الدعاء ، ولا يستكثر مطلوبه ، ويرى قضاء حاجته وأ نّها مقضيّة ، ويكون عالي الهمّة فيما يطلب ، وأن يعمّم الدعاء ، ويسرّ به ويحسن الظنّ بالإجابة ، ويختار الأوقات المناسبة ذات الفضيلة ، والأماكن المقدّسة ، ويلحّ في الطلب ، وأن يترك الدعاء لما لا يكون ولا يحلّ ، ولا يستعجل في الإجابة ، ولا يعلّم ربّه ما يصلحه ، فإنّه من أعلم الله ما لم يعلم اهتزّ له عرشه:
(عَسى أنْ تَكْرَهوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأنْتُمْ لا تَعْلَمونَ)[12].
كما على الداعي المؤمن أن يعرف ما فيه نجاته وما فيه هلاكه ، كي لا يدعو الله بشيء منه هلاكه وهو يظنّ أنّ فيه نجاته.
ثمّ المؤمن من دعاءه على ثلاث خصال : إمّا أن يدخّر به ، وإمّا أن يعجّل له ، وإمّا أن يدفع عنه بلاء يريد أن يصيبه[13].
وعلى الداعي أن يخلص في الدعاء ، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه فلييأس من الناس كلّهم ، ولا يكون له رجاء إلاّ من عند الله عزّ وجلّ ، فإذا علم الله عزّ وجلّ ذلك من قلبه ، لم يسأل الله
شيئاً إلاّ أعطاه.
لقد أشاد الإسلام دين الله القويم بفضل الدعاء والداعين والسائلين والذاكرين ، وأهاب بالمسلمين أن لا يتركوا الدعاء على كلّ حال وفي جميع الأحوال ، في كلّ الاُمور صغيرها وكبيرها ، وأن يكونوا على اتّصال دائم مع الله سبحانه الذي بيده أزمّة الاُمور وجميع مجريات الأحداث ، فلا بدّ من العلاقة الوثيقة والارتباط العميق بين الإنسان وبين الله سبحانه في جميع شؤونه وأحواله ، فإنّه المعطي والمانع ، بيده العطاء والحرمان ، كما بيده المرض والشفاء.
ومن آثار الدعاء أ نّه وصفة روحية ، وهو من أوثق الأسباب في إزالة الأمراض ، فإنّ له تأثيراً بالغاً في الشفاء من كلّ داء ومرض ، وقد قرّرت البحوث الطبية الحديثة ذلك ، وأكّدت أنّ الطبّ الرّوحي من أهمّ الأسباب في إزالة الأسقام وشفاء الأمراض المستعصية ، لا سيّما الأمراض النفسية ، كما أنّ الشفاء بيد الله سبحانه ، ولمثل هذا ورد في الروايات الشريفة : « عليك بالدعاء فإنّه شفاء من كلّ داء».
وكم لنا من الشواهد بالمئات رأيناها وقرأناها ، أنّ من المرضاء من يئس أهله من بُرئه وشفائه ، إلاّ أ نّهم بالدعاء والتوسّل بالنبيّ وأهل بيته الأبرار وبالأولياء الأخيار شافاهم الله سبحانه ، وألبسهم ثوبي الصحّة والعافية.
عندي صديق شابّ جامعي في السنة الأخيرة من كلية الحقوق في أهواز من مدن إيران ( م _ ن ) ابتلي بالسرطان _ والعياذ بالله _ فبعد الفحوصات الدقيقة في طهران أخبره الدكتور بذلك وأ نّه بقي من عمره سنة إلى سنة ونصف ، فيقول فكّرت في أمري ماذا أفعل ؟ ! فصمّمت على أن أكتم المرض أوّلا حتّى على زوجتي ووالدتي وأهلي ، إذ قلت : لماذا
من الآن أجعلهم في قلق واضطراب ، ثمّ في كلّ شهر كنت اُسافر من أهواز إلى طهران للمعالجة الكيمياوية وأبذل من المال مئتي ألف تومان ، ثمّ قسّمت أموالي بين أهلي من دون أن يعلموا بذلك ، فوضعتها لهم في البنك ، وفي إحدى الليالي من الساعة الحادية عشرة إلى السحر حفرت قبراً بجوار قبر والديّ في المقبرة ، واشتغلت بالعبادة والدعاء ، وخلال ثمانية أشهر عبدت الله عبادة عشرين سنة ، وبعد ثمانية أشهر من المعالجة والأدعية والأوراد والأذكار ، فحصني الأطباء فلم يروا أثراً للسرطان أبداً ، فتعجّبوا من ذلك كثيراً ، ولكنّي أعلم أنّ ذلك من بركات الدعاء والعبادة.
1 _ طريق إلى الشفاء[14] :
اُصيب المرجع الديني آية الله العظمى السيّد عبد الأعلى السبزواري ، أحد فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) _ المتوفّى سنة 1414 هجرية _ تغمّده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنّته بمرض القلب في أحد سنيّ عمره الشريف ، وكان يباشر
فحصه الطبيّ أحد الأطباء ، فطلب الدكتور نقله إلى المستشفى لأنّ حالته خطرة ، إلاّ أ نّه رفض الانتقال ، إذ كان لديه طريق خاصّ للشفاء السريع !
وهو الدعاء إلى الله تعالى والتوسّل بالإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ، فنوى إن ألبسه الله تعالى ثوب العافية ، كتب دورة فقهيّة كاملة حول أحكام الشريعة الإسلامية.
وإذا به يقوم في ليلتها من النوم ، وهو لا يشكو من شيء ! فذهب إلى مسجد ( السهلة ) بعد منتصف الليل رغم إلحاح أهله بعدم الذهاب ، خوفاً على صحّته.
وهكذا تعجّب الطبيب بعد فحصه ، عندما ظهر له اختفاء المرض ، وقد شوفي منه تماماً ، فقال : إنّ هذا لأمرٌ
خارقٌ للعادة.
وهكذا شرع في الوفاء بالنذر ، وكتب كتابه الفقهي الاستدلالي العظيم في ثلاثين مجلّداً ، وسمّاه ( مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام ).
2 _ المؤثّرات الغيبية :
كان عمري سبعة أعوام حين افتقدتني اُمّي في البيت ولم تسمع لي حسّاً !
أين كنت يا تُرى ؟
كنت ساقطاً في سرداب تحت الأرض عمقه عشرون متراً تقريباً ، ومثل هذه السراديب العميقة جدّاً ، تُعرف في مدينتنا ( النجف الأشرف ) باسم ( سرداب السنّ ) . إنّه مكان مهجور ومظلم ، تجمّعت فيه على مرّ الشهور والسنوات أوساخ وحشرات ، له درج ضيّق ونافذة أرضيّة في ساحة دارنا المتواضع ، ولقد سقطت من هذه النافذة التي فتحتها بيديّ وأنا صبيّ في السابعة من العمر كما ذكرت لك.
وسقوطي كان على قمّة رأسي الذي خرقته عظمة كانت هناك على الأرض فدخلت في رأسي حتّى أوشكت أن تصل إلى المخ كما يتبيّن لك من تلافيف هذه القصّة.
وأمّا بطني ، فقد مزّقته زجاجة كانت ( تنتظرني ) أيضاً ، وبعده ماذا تتوقّع أن تكون حالتي ؟
كنت مغميّاً عليّ ، والدماء تسيل ، ولا أحد يعرف عنّي شيئاً ، اُمّي أخذت تبحث عنّي في زوايا البيت ، ولكن دون جدوى ، أجشت بالبكاء وهي تناديني : « يا حسين ، أين أنت ؟ !».
ولكن لا جواب لمن تنادي ...
فصعدت إلى سطح البيت ، إذ كان أبي سماحة آية الله العظمى السيّد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله) يعدّ تحضيره الفقهي ويطالع الكتب والمصادر ( المفروشة ) بين يديه.
قالت _ والعبرة تخنقها _ : يا سيّد ، قم وفتّش عن ولدك السيّد حسين . وهكذا اشتركا _ الوالد والوالدة _ في البحث عنّي
. فجأة وقعت عين أبي على حبل نافذة السرداب ، وإذا به مقطوع . فاقتحم الدرج المظلم المهجور ، حتّى وصل إلى عمق السرداب ، فوجدني طريح الأرض ملطّخ بالدم ، وأنا في غيبوبة.
حملني على يديه صاعداً إلى الأعلى مسرعاً إلى المستشفى على بغلة ( وكانت أسرع الدوابّ في ذلك العصر ).
حاولوا إنقاذي من الغيبوبة بوضع الثلج على رأسي ، إلاّ أنّ الطبيب كان آيساً من عودة الحياة إليَّ ثانية.
فقال لوالدي : سيّدنا ، هيّئ نفسك للعزاء ، وإذا كنت مصرّاً على علاجه ، خذه إلى مستشفى الحلّة ، إذ لديهم وسائل أفضل.
ولكن مدينة الحلّة بعيدة عن النجف ، وكانت وسائط النقل قليلة وبدائية آنذاك . حملني أبي على يديه عائداً إلى البيت ، ربما كان يفكّر في حلّ آخر أو علاج بالأدوية الشعبيّة مثلا.
بَيْدَ أنَّ اُمّي قالت : إنّ البيت لا يفيق فيه هذا الطفل المغمى عليه ، أرجعه إلى المستشفى ، فإذا قدّر الله له أن يحيا مرّة ثانية فيحيا هناك.
وهكذا رجع بي والدي إلى نفس المستشفى ، وكان الأطباء ينظرون إليَّ من زاوية اليأس.
ومرّ اليوم الثالث على إغمائي وليس في الأمر من جديد.
هنا رفع والدي يديه إلى السماء متوسّلا بالإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ، وهو يقسم عليه بالضلع المكسور لجدّته الزهراء المظلومة ، بنت الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله) . ثمّ حملني بعد هذا الدعاء مباشرةً ليخرج من المستشفى ، فما خطا إلاّ بضع خطوات ، وهو لم يتجاوز الممرّ ، وإذا بي أفتح عيني في وجهه الكريم ، إنّها كانت إفاقة وسط استغراب الأطباء كلّهم في المستشفى ، ممّا جعل بعضهم يعتقد بصحّة الأدعيّة ومؤثّراتها الغيبيّة ،
كما جعلهم ينظرون إلى السيّد الوالد نظرة احترام وولاء خاصّة.
3 _ حيّ عاد من قبره :
توقّفت دقّات قلبه فجأة ، فاعتبروه ميّتاً ، والميّت عادةً يأخذونه إلى المغتسل ، وبعد غسله يكفّنونه ويصلّون عليه ويدفنونه ، أليس كذلك ؟
بلى ... ذلك ما حدث للعالم الجليل الشيخ أمين الدين الطبرسي ( صاحب تفسير « مجمع البيان» ) المعروف.
إلاّ أنّ الفرق بينه وبين غيره من الأموات هو أ نّه فتح عينه في القبر ، فوجد نفسه مدفوناً ! فنذر لله تعالى هناك ، إن أنجاه الله وخرج حيّاً ، كتب تفسيراً للقرآن الكريم ، فما هي إلاّ دقائق وإذا بنبّاش كان يحفر القبر لينهب كفن الشيخ !
لقد استمرّ النبّاش في نبشه حتّى وصل إلى جسد ( المتوفّى ) ! فأخذ يفتح الكفن ( الغالي ) ، إنّه يدرّ عليه ثمناً جيّداً في السوق ! ولكن كادت روح النبّاش تزهق عندما أمسك الشيخ بيده ، وسرعان ما طمأنه قائلا : لا تخف ، هذه قصّتي ، ولقد استجاب الله نذري ودعائي ، فاذهب إلى بيتي وآتني بثيابي ، وسوف اُعطيك أكثر ممّا تريد ، على أن لا تعود إلى نبش القبور مرّة اُخرى !
وهكذا رجع الشيخ الطبرسي إلى البيت في وسط استغراب الجميع ، فقام بتأليف كتابه في تفسير القرآن ، وفاءً للنذر ، ويعدّ كتابه الآن من أهمّ كتب الشيعة في التفسير . ثمّ إنّه انتقل إلى رحمة الله الواسعة شهيداً ، في التاسع من شهر ذي الحجّة سنة 548 الهجرية ، وذلك في هجوم شنّه المتمرّدون على السلطان سنجر السلجوقي في خراسان ، فقُتل هذا الشيخ وجمعٌ من الناس ، ودُفن جثمانه الطاهر في جوار مرقد
الإمام الرضا (عليه السلام).
4 _ دعاء لشفاء ولدي :
عرض تلفزيون الجمهورية الإسلامية فيلماً عن وصول آية الله العظمى الگلپايگاني إلى إيران قبل أكثر من عامين تقريباً إثر إصابته بوعكة صحّية وسفره إلى لندن للعلاج . فكان في استقباله بعض رجال الدولة والشخصيات الدينية وجمهور من الناس في منتصف الليل.
وقف أحد علماء الدين من أئمة مساجد طهران إلى جانب السيّد الگلپايگاني وأخذ يشكر الحاضرين في كلمة مرتجلة لاستقبالهم السيّد في ذلك الوقت المتأ خّر من الليل البارد ، ثمّ ذكر القصّة التالية وهو يستجيز سماحة السيّد في نقلها ، فقال : عندنا في المسجد امرأة متديّنة ولها خدمات تنبئ عن إخلاصها وتقرّبها عند الله تعالى ، من تلك الخدمات التزامها بتعليم أطفال وبنات المحلّة مفاهيم القرآن الكريم والتلاوة والتجويد . جاءتني ذات مرّة وقالت : إنّي رأيت في المنام مجلساً يضمّ الصالحين من العباد ، وكانت فيه السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، فالتفتت إليَّ وقالت : لماذا لا تدعين لولدي محمّد رضا بالشفاء ؟
قلت لها : لا نعلم لكِ ولداً بهذا الإسم.
قالت : ولدي السيّد محمّد رضا الگلپايگاني !
وهكذا كان لدعاء المؤمنين أثر كبير في شفاء السيّد الگلپايگاني (رحمه الله) آنذاك[15].
وهناك المئات والاُلوف من القصص والحكايات التي تدلّ بالصراحة والوضوح على أثر الدعاء والتوسّل في حياة المريض.
فالأجسام تمرض ، وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول:
« ليس للأجسام نجاة من الأسقام».
« لا رزيّة أعظم من دوام سقم الجسد».
«
ألا وإنّ من البلاء الفاقة ، وأشدّ من الفاقة مرض البدن ، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب».
« مسكين ابن آدم ، مكتوم الأجل ، مكفون العلل ، محفوظ العمل ، تؤلمه البقّة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة».
«
كفى بالسلامة داء».
ومن دعائه (عليه السلام) يوم الهرير:
« اللّهم إنّي أعوذ بك ... من سقم يشغلني ، ومن صحّة تلهيني».
كان داود (عليه السلام) يقول : اللّهم لا مرض يضنني ، ولا صحّة تنسيني».
مرّ أعرابي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال له : أتعرف اُمّ ملدم ؟ قال : وما اُمّ ملدم ؟ قال : صداع يأخذ الرأس ، وسخونة في الجسد . فقال الأعرابي : ما أصابني هذا قطّ . فلمّا مضى قال : من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل النار ، فلينظر إلى هذا».
« إنّ الجسد إذا لم يمرض أشر ، ولا خير في جسد لا يمرض بأشر».
فالمرض من لوازم الحياة ، وإنّ الله خلق الموت والحياة ليبلوكم أ يّكم أحسن عملا ، وقد سأل الزنديق الإمام الصادق (عليه السلام) قائلا : فيما استحقّ الطفل الصغير ما يصيبه من الأوجاع والأمراض بلا ذنب عمله ، ولا جرم سلف منه ؟
قال (عليه السلام) : إنّ المرض على وجوه شتّى : مرض بلوى ، ومرض العقوبة ، ومرض جعل عليه الفناء ، وأنت تزعم أنّ ذلك من أغذية رديئة وأشربة وبيئة ، ومن علّة كانت باُمّه ، وتزعم أنّ من أحسن السياسة لبدنه ، وأجمل النظر في أحوال نفسه ، وعرف الضارّ ممّا يأكل من النافع ، لم يمرض ، وتميل في قولك إلى من يزعم أ نّه لا يكون المرض والموت إلاّ من المطعم والمشرب ، قد مات أرسطاطاليس معلّم الأطباء ، وأفلاطون رئيس الحكماء ، وجالينوس شاخ ودقّ بصره ، وما دفع الموت حين نزل بساحته.
وهذا يعني أنّ المرض ليس من الأكل والشرب والإفراط فيها ، بل هو على
أقسام وأنواع ، فمنه من الله سبحانه لترفيع مقام المؤمن وكفّارة لذنوبه ، ومنه من الإنسان فهو الذي يمرض نفسه.
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« لا يمرض مؤمن ولا مؤمنة ، ولا مسلم ولا مسلمة ، إلاّ حطّ الله به خطيئته».
« المريض تحاتّ خطاياه كما يتحاتّ ورق الشجر».
« عجبت من المؤمن جزعه من السقم ، ولو يعلم ما له في السقم من الثواب ، لأحبّ أن لا يزال سقيماً حتّى يلقى ربّه عزّ وجلّ».
« إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) رفع رأسه إلى السماء فتبسّم ، فقيل له : يا رسول الله ، رأيناك رفعت رأسك إلى السماء فتبسّمت ؟ قال : نعم ، عجبت لملكين هبطا من السماء إلى الأرض يلتمسان عبداً مؤمناً صالحاً في مصلىً كان يصلّي فيه ليكتبا له عمله في يومه وليلته ، فلم يجداه في مصلاّه ، فعرجا إلى السماء فقالا : ربّنا عبدك المؤمن فلان التمسناه في مصلاّه لنكتب له عمله ليومه وليلته فلم نصبه فوجدناه في حبالك ؟ فقال الله عزّ وجلّ : اكتبا لعبدي مثل ما كان يعمله في صحّته من الخير في يومه وليلته ما دام في حبالي ، فإنّ عليَّ أن أكتب له أجر ما كان يعمله في صحّته إذا حبسته عنه».
« إذا مرض المؤمن أوحى الله عزّ وجلّ إلى صاحب الشمال : لا تكتب على عبدي ما دام في حبسي ووثاقي ذنباً . ويوحي إلى صاحب اليمين : أن اكتب لعبدي ما كنت تكتبه في صحّته من الحسنات».
« سهر ليلة من مرض أو وجع أفضل وأعظم أجراً من عبادة سنة».
هذا للمؤمنين ، فإنّ الله سبحانه إمّا أن يحطّ عنهم سيّئاتهم بمرضهم ،
أو يرفع درجاتهم بذلك.
وقد ورد أ نّه ربما يصاب المؤمن بالمرض حينما يغفل عن الله ، وأنّ أنّ ليحبّ أن يسمع مناجاته ودعائه ، فيلقي عليه المرض حتّى يلجأ إليه ويدعوه ويسأله ، ليسمع صوته وذكره وتضرّعه ، وهذا نوع من الحبّ بين العبد وسيّده.
وما أروع المريض الذي يكتم مرضه ، وما أصبره وما أحكمه ! !
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« من كنوز البحر : كتمان المصائب والأمراض والصدقة».
« أربع من كنز الجنّة : كتمان الفاقة ، وكتمان الصدقة ، وكتمان المصيبة ، وكتمان الوجع».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يصف أخاً له في الدين:
« كان لي فيما مضى أخٌ في الله ، وكان يعظّمه في عيني صغر الدنيا في عينه ... وكان لا يشكو وجعاً إلاّ عند برئه».
« أوحى الله إلى عُزير ... وإذا نزلت إليك بليّة فلا تشكُ إلى خلقي كما لا أشكوك إلى ملائكتي عند صعود مساويك وفضائحك».
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« قال الله عزّ وجلّ : من مرض ثلاثاً فلم يشكُ إلى أحد من عوّاده أبدلته لحماً خيراً من لحمه ، ودماً خيراً من دمه ، فإن عافيته عافيته ولا ذنب له ، وإن قبضته قبضته إلى رحمتي».
« من مرض يوماً وليلة فلم يشكُ إلى عوّاده بعثه الله يوم القيامة مع خليله إبراهيم خليل الرحمن حتّى يجوز الصراط كالبرق اللامع».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« من كتم وجعاً أصابه ثلاثة أيّام من الناس وشكى إلى الله عزّ وجلّ كان حقّاً على الله أن يعافيه من ذلك البلاء»[16].
والمستفاد من هذه الروايات أنّ المريض يرجع في مرضه إلى الطبيب المعالج ، وإذا نام في فراش المرض وعاده الأحبّاء والأصدقاء
، فلا يشكو إليهم مرضه ، بل يحمد الله سبحانه ويشكره على كلّ حال وفي جميع الأحوال ، وإنّما يبثّ حزنه وشكواه إلى الله سبحانه ويدعوه في الشفاء ، فإنّه المشافي المعافي ويا من اسمه دواء وذكره شفاء.
كما إنّ التوسّل بالنبيّ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وعترته وأهل بيته الأئمة الهداة الميامين له تأثير بالغ في قضاء الحوائج وشفاء الأمراض والأسقام ، كما ورد في الروايات الكثيرة.
قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام):
« ذكرنا أهل البيت شفاء من العلل والأسقام ووسواس الريب»[17].
وعن حسين بن الروح ، عن مولانا صاحب الأمر (عليه السلام) ، في زيارة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في رجب قال (عليه السلام):
« الحمد لله الذي أشهدنا مشهد أوليائه في رجب ، وأوجب علينا من حقّهم ما قد وجب ، وصلّى الله على محمّد المنتجب ، وعلى أوصيائه الحُجب ، اللّهم فكما أشهدتنا مشهدهم فأنجز لنا موعدهم ، وأوردنا موردهم ، غير ملتجئين عن ورد في دار المقامة والخلد ، والسلام عليكم ، إنّي قصدتكم واعتمدتكم بمسألتي وحاجتي وهي فكاك رقبتي من النار والمقرّ معكم في دار القرار ، مع شيعتكم الأبرار ، والسلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عُقبى الدار ، أنا سائلكم وآملكم فيما إليكم التفويض ، وعليكم التعويض ، فبكم يجبر المهيض ويشفى المريض ، وما تزداد الأرحام وما تغيض ، إنّي بسرّكم مؤمن ولقولكم مسلّم وعلى الله بكم مقسم في رجعي بحوائجي وقضائها وإمضائها وإنجاحها وإبرامها وبشؤوني لديكم وصلاحها ، والسلام عليكم»[18].
شيخنا المفيد بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : « من دعا الله بنا أفلح ، ومن دعاه بغيرنا هلك واستهلك»[19].
شيخنا الصدوق بسنده عن أبي جعفر (عليه
السلام) ، قال : قال جابر الأنصاري : قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما تقول في عليّ بن أبي طالب ؟ فقال : ذاك نفسي . قلت : فما تقول في الحسن والحسين ؟ قال : هما روحي ، وفاطمة اُمّهما ابنتي يسوؤني ما ساءها ويسرّني ما سرّها ، أشهد أ نّي حرب لمن حاربهم ، سلم لمن سالمهم ، يا جابر ، إذا أردت أن تدعو الله فيستجيب لك ، فادعه بأسمائهم ، فإنّها أحبّ الأسماء إلى الله عزّ وجلّ[20].
قال الرضا (عليه السلام) : إذا نزلت بكم شديدة فاستعينوا بنا على الله عزّ وجلّ ، وهو قوله عزّ وجلّ : (وَللهِ الأسْماءُ الحُسْنى فَادْعوهُ بِها).
فمن أنجح الأسباب وأوثق الوسائل في حياة المسلم ، لا سيّما المريض هو الدعاء والتوسّل بأولياء الله ، فبهم يجبر المهيض ويشفى المريض ، ويستجاب الدعاء وتقبل الأعمال ، وتهذّب النفوس وتسعد القلوب.
كما إنّ النوافل والصلوات والنذور والختومات من العوامل المهمّة في كمال الإنسان وسعادته وشفائه من الأمراض والأسقام ، فكم من مريض شافاه الله سبحانه بنذر نذره لله سبحانه ، وبجاه وليّه أو نبيّه ، بإطعام ، أو ذبيحة للفقراء ، أو زيارة ، أو تأسيس مشاريع خيريّة ، وما شابه ذلك.
وأمّا النوافل والصلوات المستحبّة ، فأكتفي بروايتين في خصوص صلاة الليل وقيامه ، ليكون شاهداً على ما نعتقده ونذهب إليه.
فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أ نّه قال : عليكم بقيام الليل ، فإنّها سنّة نبيّكم ، ودأب الصالحين من قبلكم ، ومطردة الداء من أجسادكم.
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : قيام الليل مصحّة للبدن ، وتمسّك بأخلاق النبيّين ، ورضى
ربّ العالمين[21].
وأمّا في أعمال الجوانح والقلب ، فمن الدواء الإيمان بالله ومعرفته[22].
قال الإمام الرضا (عليه السلام) : لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عزّ وجلّ ، ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم أقلّ عندهم ممّا يطؤونه بأرجلهم ، ولنُعِموا بمعرفة الله جلّ وعزّ وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله.
إنّ معرفة الله عزّ وجلّ آنس من كلّ وحشة ، وصاحب من كلّ وحدة ، ونور من كلّ ظلمة ، وقوّة من كلّ ضعف ، وشفاء من كلّ سقم[23].
ختامه مسك :
وختاماً حبّذا أن نذكر نماذج من الأدعية الشريفة المأثورة عن الرسول الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) وعترته الأطهار الأئمة الأبرار (عليهم السلام) ، وما أروع وأجمل الطبيب المسلم المعتقد والملتزم والمتخلّق بأخلاق الله سبحانه أن يوصي مرضائه بتلاوتها والمداومة عليها ، فإنّ الدالّ على الخير كفاعله ، وإنّه من زرع الأمل في قلب المريض ، ومن سلامة الفرد والمجتمع وسوق الناس إلى الله ، وإلى الفضائل والروحيات والمعنويات والاتّصال بالملأ الأعلى ، والسير في عالم الملكوت ، والتوجّه إلى معدن الرحمة والجود والفيض المقدّس ، ويعيش الطبيب والمريض في هالة قدسيّة ، تشملهما الرحمة الإلهية ، وتعمّهما الفيوضات الربانية.
فمن الأدعية:
1 _ عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، قال : إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليقل:
« بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ ، وَصَلَّى اللهُ عَلى رَسولِ اللهِ وَأهْلِ بَيْتِهِ ، وَأعوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ عَلى ما يَشاءُ مِنْ شَرِّ ما أجِدْ»[24] .
2 _ عن خالد العبسي ، قال : علّمني علي بن موسى (عليهما السلام) هذه العوذة ، وقال
: علّمها إخوانك من المؤمنين ، فإنّها لكلّ ألم ، وهي:
« اُعيذُ نَفْسي بِرَبِّ الأرْضِ وَرَبِّ السَّماءِ ، اُعيذُ نَفْسي بِالَّذي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ داء ، اُعيذُ نَفْسي بِالَّذي اسْمُهُ بَرَكَةٌ وَشِفاء»[25] .
3 _ عن سعد المزني ، قال : أملى علينا أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) العوذة التي تسمّى الجامعة:
« بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ، بِسْمِ اللهِ الَّذي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ في الأرْضِ وَلا في السَّماءِ ، اللّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِاسْمِكَ الطَّاهِرِ الطُّهْرِ المُطَهَّرِ المُقَدَّسِ السَّلامِ المُؤْمِنِ المُهَيْمِنِ المُبارَكِ الَّذي مَنْ سَألَكَ بِهِ أعْطَيْتَهُ ، وَمَنْ دَعاكَ بِهِ أجَبْتَهُ ، أنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد ، وَأنْ تُعافيني مِمَّا أجِدُ في سَمْعي وَبَصَري وَفي يَدي وَرِجْلي وَفي شَعْري وَبَشَري وَفي بَطْني ، إنَّكَ لَطيفٌ لِما تَشاءُ وَأنْتَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ».
4 _ وعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، أ نّه قال : دعاء المكروب في الليل:
« يا مُنْزِلَ الشِّفاءِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَمُذْهِبَ الدَّاءِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، أنْزِلْ عَلَيَّ مِنْ شِفائِكَ لِكُلِّ ما بي مِنَ الدَّاءِ».
5 _ عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أصابه كسل أو صداع بسط يده فقرأ فاتحة الكتاب والمعوّذتين ، ثمّ يمسح بهما وجهه ، فيذهب عنه ما كان يجد.
6 _ عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، لمّا سئل عن دعاء المكروب ، فقال : دعاء المكروب إذا صلّى صلاة الليل ، يضع يده على موضع سجوده ، وليقل:
« بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ، مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ ، عَلِيٌّ إمامُ اللهِ في أرْضِهِ عَلى جَميعِ عِبادِهِ ، اشْفِني يا شافي ، لا شِفاءَ
إلاّ شِفاؤُكَ ، شِفاءً لا يُغادِرُ سُقْماً مِنْ كُلِّ داء وَسُقْم».
قال الخراساني : لا أدري أ نّه قال : يقولها ثلاث مرّات ، أو سبع مرّات.
7 _ عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، وأوصى أصحابه وأولياءه : من كان به علّة فليأخذ قلّة جديدة ، وليجعل فيها الماء ، وليستقي الماء بنفسه ، وليقرأ على الماء سورة ( إنَّا أنْزَلْناهُ ) على الترتيل ثلاثين مرّة ، ثمّ ليشرب من ذلك الماء ، وليتوضّأ وليمسح به ، وكلّما نقص زاد فيه ، فإنّه لا يظهر ذلك ثلاثة أيّام إلاّ يعافيه الله تعالى من ذلك الداء.
8 _ عن الإمام جعفر بن محمّد (عليه السلام) ، عن أبيه (عليه السلام) ، قال : قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقد فقد رجلا ، فقال : ما أبطأ بك عنّا ؟ فقال : السقم والعيال . فقال : ألا اُعلّمك بكلمات تدعو بهنّ ، يذهب الله عنك السقم ، وينفي عنك الفقر ، تقول:
« لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظيمِ ، تَوَكَّلْتُ عَلى الحَيِّ الَّذي لا يَموتُ ، الحَمْدُ للهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ في المُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبيراً».
9 _ للشفاء من كلّ داء : روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أ نّه قال : علّمني جبرئيل دواء لا يحتاج معه إلى دواء . فقيل : يا رسول الله ، ما ذلك الدواء ؟ قال : يؤخذ ماء المطر قبل أن ينزل إلى الأرض ، ثمّ يجعل في إناء نظيف ، ويقرأ عليه الحمد لله إلى آخرها ( سورة الحمد ) سبعين مرّة ،
ثمّ يشرب منه قدحاً بالغداة ، وقدحاً بالعشيّ ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : والذي بعثني بالحقّ لينزعنّ الله ذلك الداء من بدنه وعظامه ومخيخه وعروقه.
ومثله : يؤخذ سبع حبّات شونيز ( الحبّة السوداء ) وسبع حبّات عدس ، وشيء من طين قبر الحسين (عليه السلام) ، وسبع قطرات عسل ، ويجعل في ماء أو دهن ، ويقرأ عليه فاتحة الكتاب والمعوّذتين وقل هو الله أحد وآية الكرسي وأوّل الحديد إلى قوله ترجع الاُمور وآخر الحشر.
10 _ قال أبو جعفر (عليه السلام) : قال الله تبارك وتعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شَفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ ) ، وقال الله عزّ وجلّ : (يُخْرِجُ مِنْ بُطونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ فيهِ شِفاءٌ لِلْنَّاسِ) ، وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : « الحبّة السوداء شفاء من كلّ داء إلاّ السامّ» ، ونحن نقول : « بظهر الكوفة قبر _ أي قبر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في النجف الأشرف _ لا يلوذ به ذو عاهة إلاّ شفاه الله تعالى».
وهذه الكرامة والبركة جارية في كلّ قبور الأئمة الطاهرين (عليهم السلام).
11 _ دعاء المريض لنفسه : يستحبّ للمريض أن يقوله ويكرّر:
« لا إلهَ إلاّ اللهُ يُحْيي وَيُميتُ وَهُوَ حَيٌّ لا يَموتُ ، سُبْحانَ اللهِ رَبِّ العِبادِ وَالبِلادِ ، وَالحَمْدُ للهِ حَمْداً كَثيراً طَيِّباً مُبارَكاً فيهِ عَلى كُلِّ حال ، وَاللهُ أكْبَرُ كَبيراً ، كِبْرِياءُ رَبِّنا وَجَلالُهُ وَقُدْرَتُهُ بِكُلِّ مَكان ، اللّهُمَّ إنْ كُنْتَ أمْرَضْتَني لِقَبْضِ روحي في مَرَضي هذا ، فَاجْعَلْ روحي في أرْواحِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْكَ الحُسْنى ، وَباعِدْني مِنَ النَّارِ ، كَما باعَدْتَ أوْلِيائَكَ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْكَ الحُسْنى».
12 _ عن الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله) : تضع يدك على فمك وتقول ثلاث مرّات:
« بِسْمِ اللهِ ، بِجَلالِ اللهِ ، بِعَظَمَةِ اللهِ ، بِكَلِماتِ اللهِ التَّامَّاتِ ، بِأسْماءِ اللهِ الحُسْنى».
ثمّ تضع يدك على موضع الوجع وتقول:
« بِسْمِ اللهِ ، بِسْمِ اللهِ ، بِسْمِ اللهِ».
ثلاث مرّات ، ثمّ تقول سبع مرّات:
« اللّهُمَّ امْسَحْ ما بي».
وتقول عند الشفاء إذا شفاك الله:
« الحَمْدُ للهِ الَّذي خَلَقَني فَهَداني ، وَأطْعَمَني وَسَقاني ، وَصَحَّحَ جِسْمي وَشَفاني ، لَهُ الحَمْدُ وَلَهُ الشَّكْرُ».
13 _ من خطّ الشهيد (قدس سره) ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلّمنا من الأوجاع كلّها أن نقول:
« بِاسْمِ الكَبيرِ ، أعوذُ بِاللهِ العَظيمِ مِنْ شَرِّ عِرْق نَعَّار ، وَمِنْ حَرِّ النَّارِ».
14 _ مرض أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا عليّ قل:
« اللّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ تَعْجيلَ عافِيَتِكَ ، أوْ صَبْراً عَلى بَلِيَّتِكَ ، أوْ خُروجاً إلى رَحْمَتِكَ».
15 _ عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : تضع يدك على الموضع الذي فيه الوجع ، وتقول ثلاث مرّات:
« اللهُ اللهُ رَبِّي حَقَّاً لا اُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ، اللّهُمَّ أنْتَ لَها وَلِكُلِّ عَظيمَة فَفَرِّجْها عَنِّي».
16 _ وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، علّمه بعض أصحابه من وجع ، قال : اجعل يدك اليمنى عليه فقل:
« بِسْمِ اللهِ أعوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ ما أجِدُ».
17 _ وعنه (صلى الله عليه وآله) قال : من عاد مريضاً فليقل:
« اللّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكي لَكَ عَدُوَّاً وَيَمْشِ لَكَ إلى الصَّلاةَ».
18 _ وروي أ نّه (صلى الله عليه وآله) كان يقول إذا دخل على مريض:
« إمْسَحِ البَأسَ
رَبَّ النَّاسِ بِيَدِكَ الشِّفاءُ لا كاشِفَ لِلْبَلاءِ إلاّ أنْتَ».
19 _ ومثله:
« أذْهِبِ البَأسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أنْتَ الشَّافي لا شِفاءَ إلاّ شِفاؤُكَ شِفاءً لا يُغادِرُ سُقْماً ، اللّهُمَّ أصْلِحِ القِلْبِ وَالجِسْمَ ، وَاكْشِفِ السُّقْمُ وَأجِبِ الدَّعْوَةِ».
20 _ وقال (صلى الله عليه وآله) : من دخل على مريض لم يحضر أجله ، فقال:
« أسْألُ اللهَ العَظيمَ رَبَّ العَرْشِ العَظيمِ أنْ يَشْفيكَ».
عوفي[26].
21 _ عن الإمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام) ، قال : ما قرئت الحمد سبعين مرّة إلاّ سكن ( الوجع ) ، وإن شئتم فجرّبوه ولا تشكّوا.
22 _ وعن ابن عباس ، قال : كنت عند عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) جالساً فدخل عليه رجل متغيّر اللون ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي رجل مِسقام كثير الأوجاع ، فعلّمني دعاء أستعين به على ذلك ، فقال : اُعلّمك دعاء علّمه جبرئيل (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرض الحسن والحسين ، وهو هذا الدعاء:
« إلهي كَما أنْعَمْتَ عَلَيَّ نِعْمَةً قَلَّ لَكَ عِنْدَها شُكْري ، وَكُلَّما ابْتَلَيْتَني بِبَلِيَّةً قَلَّ لَكَ عِنْدَها صَبْري ، فَيا مَنْ قَلَّ شُكْري عِنْدَ نِعَمِهِ ، فَلَمْ يَحْرِمَني ، وَيا مَنْ قَلَّ صَبْري عِنْدَ بَلائِهِ ، فَلَمْ يَخْذِلَني ، وَيا مَنْ رَآني عَلى المَعاصي فَلَمْ يَفْضَحَني ، وَيا مَنْ رَآني عَلى الخَطايا فَلَمْ يُعاقِبْني عَلَيْها ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد ، وَاغْفِرْ لي ذَنْبي وَاشْفِني مِنْ مَرَضي إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ».
قال ابن عباس : فرأيت الرجل بعد سنة حسن اللون ، مشرّب الحمرة ، قال : وما دعيت الله بهذا الدعاء وأنا سقيم إلاّ شفيت ، ولا مريض إلاّ برئت ، وما دخلت على
سلطان أخافه إلاّ ردّه الله عزّ وجلّ عنّي.
23 _ عن سعيد بن أبي الفتح بن الحسن القمي النازل بواسط قال : حدث بي مرض أعيا الأطباء ، فأخذني والدي إلى المارستان _ المستشفى _ فجمع الأطباء والساعور _ رأس الأطباء _ فافتكروا فقالوا : هذا مرض لا يزيله إلاّ الله تعالى ، فعدت وأنا منكسر القلب ، ضيّق الصدر ، فأخذت كتاباً من كتب والدي فوجدت على ظهره مكتوباً : عن الصادق (عليه السلام) يرفعه عن آبائه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : من كان به مرض فقال عقيب الفجر أربعين مرّة:
« بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكيلُ ، تَبارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخالِقينَ ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظيمِ».
ومسح بيده عليها أزاله الله تعالى عنه وشفاه ، فصابرت الوقت إلى الفجر ، فلمّا طلع الفجر صلّيت الفريضة وجلست في موضعي واُردّدها أربعين مرّة ، وأمسح بيدي على المرض ، فأزاله الله تعالى ، فجلست في موضعي وأنا خائف أن يعاود، فلم أزل كذلك ثلاثة أيّام ، وأخبرت والدي بذلك ، فشكر الله تعالى ، وحكى ذلك لبعض الأطباء وكان ذمّياً ، دخل عليّ فنظر إلى المرض وقد زال ، فحكيت له الحكاية فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، وحسن إسلامه[27].
24 _ عن أبي الحسن العسكري (عليه السلام) ، عن آبائه (عليهم السلام) ، قال : قال الصادق (عليه السلام) : من نالته علّة فليقرأ في جيبه ( الحمد ) سبع مرّات ، فإن ذهبت العلّة ، وإلاّ فليقرأها سبعين مرّة ، وأنا الضامن له العافية.
25
_ وقال (عليه السلام) : ليقل أحدكم إذا هو اشتكى:
« اللّهُمَّ اشْفِني بِشِفائِكَ وَداوِني بِدَوائِكَ وَعافِني مِنْ بَلائِكَ».
فإنّه لعلّه أن يقولها ثلاث مرّات حتّى يرى العافية.
26 _ وجاء في بحار الأنوار : عوذة جرّبناها لسائر الأمراض ، فتزول بقدرة الله تعالى جلّ جلاله الذي لا يخيب لديه المأمول ، إذا عرض مرض فاجعل يدك اليمنى عليه وقل:
« اسْكُنْ أ يُّها الوَجَعْ وَارْتَحِلِ السَّاعَةَ مِنْ هذا العَبْدِ الضَّعيفِ ، سَكَّنْتُكَ وَرَحَّلْتُكَ بِالَّذي سَكَنَ لَهُ ما في اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّميعُ العَليمُ».
فإن لم يسكن في أوّل مرّة فقل ذلك ثلاث مرّات أو حتّى يسكن إن شاء الله تعالى.
27 _ فيما نذكره لزوال الأسقام وجرّبناه فبلغنا به نهايات المرام يكتب في رقعة:
«
يا مَنْ اسْمُهُ دَواءٌ وَذِكْرُهُ شِفاءٌ ، يا مَنْ يَجْعَلِ الشَّفاءَ فيما يَشاءُ مِنَ الأشْياءُ ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَاجْعَلْ شِفائي مِنْ هذا الدَّاءِ في اسْمِكَ هذا يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ يا الله يا الله يا الله يا الله يا الله يا الله ، يا رَبُّ يا رَبُّ يا رَبُّ يا رَبُّ يا رَبُّ يا رَبُّ يا رَبُّ يا رَبُّ يا رَبُّ يا رَبُّ ، يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ».
هذه جملة من الأدعية في مطلق الأوجاع والأسقام والأمراض ، وقد ورد عن الرسول وعترته (عليهم السلام) ، أدعية ومعوّذات أيضاً لأوجاع خاصّة كوجع العين أو الأسنان أو البطن أو القلب ، وهكذا باقي الأعضاء والجوارح أو الحمّى أو غيرها.
28 _ عن الصادق (عليه السلام) ، عن
أبيه (عليه السلام) ، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشتكى الصداع ، فنزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فرقاه فقال:
« بِسْمِ اللهِ يَشْفيكَ ، بِسْمِ اللهِ يَكْفيكَ مِنْ كُلِّ داء يُؤْذيكَ ، خُذْها فَلْيَهْنيكَ».
29 _ عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ، لوجع الإذن ، قال : ضع يدك عليه وقل:
« أعوذُ بِاللهِ الَّذي سَكَنَ لَهُ ما في البَرِّ وَالبَحْرِ وَالسَّماواتِ وَالأرْضِ ، وَهُوَ السَّميعُ العَليمُ».
سبع مرّات فإنّه يبرأ بإذن الله تعالى.
30 _ قالوا (عليهم السلام) : من قال إذا عطس:
« الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ عَلى كُلِّ حال ، وَصَلَّى اللهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد».
لم يشتكِ شيئاً من أضراسه ولا من اُذنيه.
31 _ لوجع العين ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ألا اُعلّمك دعاءً لدنياك وآخرتك وتكفي به وجع عينك ؟ فقلت : بلى . فقال : تقول في دبر الفجر ودبر المغرب:
« اللّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد عَلَيْكَ ، أنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد ، وَأنْ تَجْعَلَ النُّورَ في بَصَري ، وَالبَصيرَةَ في ديني ، وَاليَقينَ في قَلْبي ، وَالإخْلاصَ في عَمَلي ، وَالسَّلامَةَ في نَفْسي ، وَالسَّعَةَ في رِزْقي ، وَالشُّكْرَ لَكَ ما أبْقَيْتَني».
وفي رواية : تقول ذلك سبع مرّات قبل أن تقوم من مقامك.
32 _ عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، قال : كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) إذا رمد هو أو أحد من أهله أو من أصحابه دعا بهذه الدعوات:
« اللّهُمَّ مَتِّعْني بِسَمْعي وَبَصَري وَاجْعَلْهُما الوارِثَيْنِ مِنِّي ، وَانْصُرْني عَلى مَنْ ظَلَمَني ، وَأرِني فيهِ ثَأري».
33 _ للرعاف : تقرأ وتكتب وتأخذ بأنف المرعوف:
« يا مَنْ حَمَلَ الفيلَ مِنْ بَيْتِهِ الحَرامَ أسْكِنْ دَمَ
فُلانَ بْنَ فُلان».
وتذكر اسمه ، أو يصبّ على رأسه وجبهته ماء الجمد ، فإنّه يسكن بإذن الله.
34 _ الدعاء لوجع الفم والأضراس : عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : شكى إليه وليّ من أوليائه وجعاً في فمه ، فقال : إذا أصابك ذلك فضع يدك عليه وقل:
« بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ، بِسْمِ اللهِ الَّذي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ داءٌ ، أعوذُ بِكَلِماتِ اللهِ الَّتي لا يَضُرُّ مَعَها شَيْءٌ قُدُّوساً قُدُّوساً قُدُّوساً ، بِاسْمِكَ يا رَبِّ الطَّاهِرِ المُقَدَّسِ المُبارَكِ ، الَّذي مَنْ سَألَكَ بِهِ أعْطَيْتَهُ ، وَمَنْ دَعاكَ بِهِ أجَبْتَهُ ، أسْألُكَ يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ ، أنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّد النَّبيِّ وَأهْلِ بَيْتِهِ ، وَأنْ تُعافيَني مِمَّا أجِدُ في فَمي وَفي رَأسي وَفي سَمْعي وَفي بَصَري وَفي بَطْني وَفي ظَهْري وَفي يَدي وَفي رِجْلي وَفي جَميعِ جَوارِحي كُلِّها».
فإنّه يخفّف عنك إن شاء الله تعالى.
35 _ عن أبي بصير ، عن أبي جعفر الإمام الباقر (عليه السلام) ، قال : شكوت إليه وجع أضراسي ، وأ نّه يسهرني الليل ، قال : فقال لي : يا أبا بصير ، إذا أحسست بذلك فضع يدك واقرأ سورة الحمد وقل هو الله أحد ، ثمّ اقرأ : ( وَتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذي أتْقَنَ كُلَّ شَيْء إنَّهُ خَبيرٌ بِما تَعْمَلونَ) ، فإنّه يسكن ثمّ لا يعود.
36 _ لوجع الصدر : (وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَءتُمْ فيها) إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ)[28] ، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أ نّه شكى إليه رجلٌ وجع صدره فقال : استشفِ بالقرآن ، فإنّ الله
عزّ وجلّ يقول : ( فيهِ شِفاءٌ لِما في الصُّدورِ).
37 _ الدعاء لوجع القلب : تقرأ هذه الآيات على الماء ويشربه : ( لَئِنْ أنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكونَنَّ مِنَ الشَّاكرينَ سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرُ بَلِ السَّاعَةِ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أدْهى وَأمَرَّ إنَّ اللهَ يَمْسِكُ السُّماواتِ وَالأرْضَ أنْ تَزولا وَلَئِنْ زالَتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَد مِنْ بَعْدِهِ إنَّهُ كانَ حَليماً غَفوراً).
38 _ أيضاً تقرأ هذه الآيات على الماء ، ويشربه ، ويردّد على القلب ، ويكتب أيضاً ويعلّق على عنقه:
« بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ، رَبَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وَهبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ رَبَّنا إنَّكَ جامِعٌ النَّاسَ لِيَوْم لا رَيْبَ فيهِ إنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الميعادَ ، الَّذينَ آمَنوا وَتَطْمَئِنَّ قُلوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب لَئِنْ أنْجَيْتَنا مِنْ هذِهُ لَنَكونَنَّ مِنَ الشَّاكِرينَ».
39 _ لوجع البطن : عن يونس بن يعقوب ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : جعلت فداك ، إنّي أجد وجعاً في بطني . فقال : وحّد الله . فقلت : كيف أقول ؟ قال : تقول:
« يا اللهُ يا اللهُ ، يا رَبِّي يا رَحْمنُ يا رَبُّ الأرْبابِ ، وَيا سَيِّدَ السَّماواتِ ، اشْفِني وَعافِني مِنْ كُلِّ داء وَسُقْم ، فَإنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ ، أتَقَلَّبُ في قَبْضَتِكَ».
40 _ لوجع البطن وغيره من الآلام : يضع يده عليه ويقول سبع مرّات:
« أعوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَجَلالِهِ مِنْ شَرِّ ما أجِدُ».
ويضع يده اليمنى على الألم ويقول : ( بسم الله ) ثلاثاً.
41 _ لوجع الخاصرة : عن حمران ، قال : سأل رجل محمد بن
علي الباقر (عليه السلام) ، فقال : يا ابن رسول الله ، إنّي أجد في خاصرتي وجعاً شديداً ، وقد عالجته بعلاج كثيرة ، فليس يبرأ . قال : أين أنت من عوذة أمير المؤمنين (عليه السلام) ؟ قال : وما ذاك يا ابن رسول الله ؟ قال : إذا فرغت من صلاتك فضع يدك على موضع السجود ، ثمّ امسحه واقرأ:
( أفَحَسِبْتُمْ أ نَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأ نَّكُمْ إلَيْنا لا تَرْجِعونَ فَتَعالى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إلهَ إلاّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَريمِ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرونَ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمينَ ).
قال الرجل : ففعلت ذلك فذهب عنّي بعون الله تعالى.
42 _ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ينبغي لأحدكم إذا أحسّ بوجع الخاصرة أن يمسح يده عليها ثلاث مرّات ، وليقل كلّ مرّة:
« أعوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ عَلى ما يَشاءُ مِنْ شَرِّ ما أجِدُ في خاصِرَتي».
43 _ لوجع الطحال : اقرأ على كفّه (إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ) ثلاث مرّات ، ثمّ تقرأ (إنَّ الَّذينَ قالوا رَبُّنا اللهُ ثُمَّ اسْتَقاموا)[29] ، إلى آخر الآية ثلاث مرّات ، ثمّ امسح بهما رأسه سبع مرّات.
44 _ الدعاء للثالول : عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : تمرّ يدك على موضع الثآليل ، ثمّ تقول:
« بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ، بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ ، مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ العَليِّ العَظيمِ ، اللّهُمَّ امْحُ عَنِّي ما أجِدْهُ».
تمرّ يدك اليمنى وترقى عليها ثلاث مرّات.
45 _ لوجع الظهر
: عن أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) ، قال : شكى رجل من همدان إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وجع الظهر وأ نّه يسهر الليل ، فقال : ضع يدك على الموضع الذي تشتكي منه واقرأ ثلاثاً : (وَما كانَ لِنَفْس أنْ تَموتَ إلاّ بِإذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وسَنَجْزي الشَّاكِرينَ) ، واقرأ سبع مرّات (إنَّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ) إلى آخرها ، فإنّك تعافى من العلل إن شاء الله تعالى.
46 _ لوجع الفخذين : عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال : إذا اشتكى أحدكم وجع الفخذين فليجلس في تور كبير أو طشت في الماء المسخّن وليضع يده عليه وليقرأ : (أوَ لَمْ يَرَ الَّذينَ كَفَروا أنَّ السَّماواتِ وَالأرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْء حَيٌّ أفَلا يُؤْمِنونَ).
47 _ لوجع الرحم:
« بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ الَّذي بِإذْنِهِ قامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ ، فَإنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرانَ لَمْ يَضُرَّها وَجَعُ الأرْحامِ ، كَذلِكَ يَشْفي اللهُ فُلانَةَ بِنْتَ فُلانَةَ _ يذكر اسمها واسم اُمّها _ مِنْ وَجَعِ الأرْحامِ وَمِنْ وَجَعِ عِرْقِ الأرْحامِ ، أسْلَمْ أسْلَمْ بِسْمِ اللهِ الحَيِّ القَيُّومِ ، بِسْمِ اللهِ المُسْتَغاثُ بِاللهِ عَلى ما هُوَ كائِنٌ وَعَلى ما قَدْ كانَ وَأشْهَدُ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ وَأنَّ اللهَ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْماً ...».
48 _ لكلّ ورم : عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : قال لي : يا جابر . قلت : لبّيك يا ابن رسول الله ، قال : اقرأ على كلّ ورم آخر سورة الحشر : ( لَوْ أنْزَلْنا هذا القُرْآنَ عَلى جَبَل ) إلى آخر السورة واقفل
عليها ثلاثاً فإنّه يسكن بإذن الله تعالى.
49 _ لوجع الركبة والرجلين : عن أبي حمزة قال : عرض لي وجع في ركبتي فشكوت ذلك إلى أبي جعفر (عليه السلام) ، فقال : إذا صلّيت فقل:
« يا أجْوَدَ مَنْ أعْطى ، وَيا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ ، وَيا أرْحَمَ مَنْ اسْتُرْحِمَ ، ارْحَمْ ضَعْفي وَقِلَّةَ حيلَتي ، وَاعْفِني مِنْ وَجَعي».
قال : فقلته فعوفيت.
50 _ لوجع المفاصل : عن يونس بن ظبيان ، عن ابن أبي زينب ، قال : بينا أنا عند جعفر بن محمّد (عليهما السلام) ، إذ أتاه سنان بن سلمة مصفرّ الوجه ، فقال له : ما لَك ؟ فوصف له ما يقاسيه من شدّة الضربان في المفاصل ، فقال له : ويحك ، قل:
« اللّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِأسْمائِكَ وَبَرَكاتِكَ وَدَعْوَةِ نَبِيِّكَ الطَّيِّبِ المُبارَكِ المَكينِ عِنْدَكَ (صلى الله عليه وآله) ، وَبِحَقِّهِ وَبِحَقِّ ابْنَتِهِ فاطِمَةُ المُبارَكَةُ ، وَبِحَقِّ وَصِيِّهِ أميرِ المُؤْمِنينَ ، وَحَقِّ سَيِّدَي شَبابِ أهْلِ الجَنَّةِ إلاّ أذْهَبْتَ عَنِّي شَرَّ ما أجِدُهُ بِحَقِّهِمْ بَحَقِّهِمْ بِحَقِّكَ يا إلهَ العالَمينَ».
فوالله ما قام من مجلسه حتّى سكن ما به.
51 _ لعرق النساء : عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أ نّه علّم رجلا من أصحابه _ وشكى إليه عرق النساء _ فقال : إذا أحسست به فضع يدك عليه وقل:
« بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ، بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ ، أعوذُ بِسْمِ اللهِ الكَبيرِ ، وَأعوذُ بِسْمِ اللهِ العَظيمِ مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْق نَعَّار ، وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ».
فإنّك تعافى بإذن الله تعالى ، قال الرجل : فما قلت ذلك إلاّ ثلاثاً حتّى أذهب الله ما بي وعوفيت منه.
52 _ الدعاء للفالج : عن اسماعيل بن جابر ،
قال : أصابتني لقوة[30] في وجهي ، فلمّا قدمنا المدينة ، دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : ما الذي أراه بوجهك ؟ قال : فقلت : فاسدة الريح . قال : فقال لي : ائتِ قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فصلِّ عنده ركعتين ، ثمّ ضع يدك على وجهك ، ثمّ قل:
« بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ بِهذا اخْرُجْ ، أقْسَمْتُ عَلَيْكَ مِنْ عَيْنِ إنْس أوْ عَيْنِ جِنٍّ أوْ وَجَع ، اُخْرُجْ أقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِالَّذي اتَّخَذَ إبْراهيمَ خَليلا وَكَلَّمَ موسى تَكْليماً ، وَخَلَقَ عيسى مِنْ روحِ القُدُسِ ، لَمَّا هَدَأتَ وَطَفِئْتَ كَما طَفِئَتْ نارُ إبْراهيمَ إطْفَئي بِإذْنِ اللهِ».
قال : فما دعا إلاّ مرّتين حتّى رجع وجهي فما عاد إلى الساعة.
53 _ الدعاء للحصاة والفالج أيضاً : عن الصادق (عليه السلام) : تقول حين تصلّي صلاة الليل وأنت ساجد:
« اللّهُمَّ إنِّي أدْعوكَ دُعاءَ الذَّليلِ ، الفَقيرِ العَليلِ ، أدْعوكَ دُعاءَ مَنِ اشْتَدَّتْ فاقَتُهُ وَقَلَّتْ حيلَتُهُ ، وَضَعُفَ عَمَلُهُ ، وَألَحَّ عَلَيْهِ البَلاءُ ، دُعاءَ مَكْروب إنْ لَمْ تُدْرِكْهُ ، هالِكٌ إنْ لَمْ تُنْقِذْهُ ، فَلا حيلَةَ لَهُ ، فَلا يُحيطَنَّ بي مَكْرُكَ ، وَلا يَبيتُ عَلَيَّ غَضَبُكَ ، وَلا تَضْطَرَّني إلى اليَأسِ مِنْ رَوْحِكَ ، وَالقُنوطِ مِنْ رَحْمَتِكَ وَطولِ التَّصَبُّرِ عَلى البَلاءِ ، اللّهُمَّ إنَّهُ لا طاقَةَ لي بِبَلائِكَ ، وَلا غِنىً بي عَنْ رَحْمَتِكَ ، وَهذا ابْنُ حَبيبِكَ ، أتَوَجَّهُ إلَيْكَ بِهِ فإنَّكَ جَعَلْتَهُ مَفْزَعاً لِلْخائِفِ ، وَاسْتَوْدَعْتَهُ عِلْمَ ما سَبَقَ وَما هُوَ كائِنٌ ، فَاكْشِفْ لي ضُرِّي وَخَلِّصْني مِنْ هذِهِ البَلِيَّةِ ، وَأعِدْني ما عَوَّدْتَني مِنْ رَحْمَتِكَ وَعافِيَتِكَ ، يا هُوَ يا هُوَ يا هُوَ ، انْقَطَعَ الرَّجاءُ إلاّ مِنْكَ».
54 _
الدعاء للجذام والبرص والداء الخبيث : عن يونس ، قال : أصابني بين عيني بياض ، فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) ، فشكوت ذلك إليه ، فقال : تطهّر وصلِّ ركعتين ، وقل:
« يا اللهُ يا رَحْمنُ يا رَحيمُ ، يا سَميعَ الدَّعَواتِ ، يا مُعْطيَ الخَيْراتِ ، اعْطِني خَيْرَ الدُّنْيا وَخَيْرَ الآخِرَةِ وَقِني شَرَّ الدُّنْيا وَشَرَّ الآخِرَةِ ، وَأذْهِبْ عَنِّي ما أجِدُ ، فَقَدْ غاظَني الأمْرُ وَأحْزَنَني».
قال يونس : ففعلت ما أمرني به ، فأذهب الله عنّي ذلك ، وله الحمد.
55 _ الدعاء للبواسير : عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال : مَن عوّذ البواسير بهذه العوذة كفي شرّها بإذن الله تعالى ، وهو:
« يا جَوادُ يا ماجِدُ ، يا رَحيمُ يا قَريبُ ، يا مُجيبُ يا بارِئ ، يا راحِمُ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ ، وَارْدُدْ عَلَيَّ نِعْمَتَكَ وَاكْفِني أمْرَ وَجَعي».
فإنّه يعافى منه بإذن الله عزّ وجلّ.
56 _ الدعاء للبثر والدماميل والجرب : عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : هذه الدماميل والقروح أكثرها من هذا الدم المحترق الذي لا يخرجه صاحبه في أيّامه ، فمن غلب عليه شيء من ذلك ، فليقل إذا أوى إلى فراشه:
« أعوذُ بِوَجْهِ اللهِ العَظيمِ وَكَلِماتِهِ التَّامَّاتِ الَّتي لا يُجاوِزْهُنَّ بَرٌّ وَلا فاجِرٌ ، مِنْ شَرِّ كُلِّ ذي شَرٍّ».
فإنّه إذا قال ذلك لم يؤذه شيء من الأرواح ، وعوفي منها بإذن الله عزّ وجلّ.
57 _ الدعاء لوجع الفرج : عن حريز ، قال : حججت فدخلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) بالمدينة ، فإذا بالمعلّى بن خنيس (رضي الله عنه) يشكو إليه وجع الفرج ، فقال له الصادق (عليه السلام)
: إنّك كشفت عورتك في موضع من المواضع ، فأعقبك الله هذا الوجع ، ولكن عوّذه بالعوذة التي عوّذ بها أمير المؤمنين أبا وائلة ، ثمّ لم تعد ، قال له المعلّى : يا ابن رسول الله ، وما العوذة ؟ قال : قل بعد أن تضع يدك اليسرى عليه:
« بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ ، بَلى مَنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِ وَلا هُمْ يَحْزَنونَ ، اللّهُمَّ إنِّي أسْلَمْتُ وَجْهي إلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أمْري إلَيْكَ ، لا مَلْجَأ وَلا مَنْجَأ إلاّ إلَيْكَ».
ثلاث مرّات ، فإنّك تعافى إن شاء الله تعالى.
58 _ الدعاء لوجع الساقين : عن سالم بن محمّد ، قال : شكوت إلى الصادق (عليه السلام) وجع الساقين ، وأ نّه قد أقعدني عن اُموري وأسبابي ، فقال : عوّذهما . قلت : بماذا يا ابن رسول الله ؟ قال : بهذه الآية سبع مرّات ، فإنّك تعافى بإذن الله تعالى:
(وَاتْلُ ما اُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دونِهِ مُلْتَحَداً).
قال : فعوّذتها سبعاً كما أمرني ، فرفع الله الوجع عنّي رفعاً حتّى لم أحسّ بعد ذلك بشيء منه.
59 _ الدعاء لوجع العراقيب وباطن القدم : عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) : أنّ رجلا اشتكى إلى أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام) ، فقال : يا ابن رسول الله ، إنّي أجد وجعاً في عراقيبي قد منعني من النهوض إلى الغرف ، قال : فما يمنعك من العوذة ؟ قال : لست أعلمها . قال : فإذا أحسست بها فضع يدك عليها وقل:
« بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ ، وَالسَّلامُ عَلى رَسولِ
اللهِ (صلى الله عليه وآله)».
ثمّ اقرأ عليه:
(وَما قَدَروا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَميعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكونَ).
ففعل ذلك فشفاه الله تعالى.
هذه جملة من الأدعية العامّة والخاصّة في دفع الأمراض ورفع الأسقام صدرت من بيت الوحي والنبوّة ، ولا يخفى أ نّما يلمس الداعي أثرها ويتشافى المريض _ كما ثبت بالتجربة _ لمن كان يراعي آداب الدعاء وشرائطه أوّلا ، ثمّ يأتي بالدعاء متيقّناً بلا شكّ وريب ، غير متأثّر بالتكنولوجيا الحديثة والثقافة الغربية الكافرة ، والعلمانية المقيتة والأفكار المنحرفة المسمومة ، فإنّه لا ينفع الدعاء لمن كان شاكّاً ، كما ورد في الروايات ، بل يدعو ويعتقد أنّ حاجته بالباب قد قضاها الله سبحانه ، كما يشترط _ في إجابة الدعاء وتأثيره _ الإيمان الكامل وعدم النفاق ، فقد ورد في وجع البطن والقولنج عن عبد الله بن سنان ، عن الإمام جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جدّه (عليهم السلام) ، قال : شكى رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال : يا رسول الله ، إنّ لي أخاً يشتكي بطنه . فقال : مُر أخاك أن يشرب شربة عسل بماء حارّ ، فانصرف إليه من الغد ، وقال : يا رسول الله ، قد أسقيته وما انتفع بها . فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : صدق الله ، وكذب بطن أخيك ، إذهب فاسقِ أخاك شربة عسل وعوّذه بفاتحة الكتاب سبع مرّات ، فلمّا أدبر الرجل ، قال النبي (صلى الله عليه وآله) : يا علي ، إنّ أخا هذا الرجل منافق ، فمن هنا لا تنفعه الشربة.
هذا وما ذكرته إنّما هو
مختصر بعض الأدعية ، فمن أراد التفصيل لهذه الأوجاع ولغيرها ، ولمثل عسر الولادة ، ولحلّ المربوط ، ولدفع السحر والعين والجنّ والوسواس ورفع الوحشة ، وما شابه ذلك ، فعليه بمراجعة المطوّلات في هذا الباب ، كبحار الأنوار لشيخنا العلاّمة المجلسي (قدس سره) ، المجلّد 92 ، ففيه ما يشفي العليل ويروي الغليل.
ونختم رسالتنا هذه بدعاء لمولانا الإمام السجّاد زين العبّاد علي بن الحسين (عليهما السلام) ، في صحيفته السجّادية المباركة:
كان من دعائه (عليه السلام) إذا مرض أو نزل به كربٌ أو بليّة:
« اللّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ عَلى ما لَمْ أزَلْ أتَصَرَّفُ فيهِ مِنْ سَلامَةِ بَدَني ، وَلَكَ الحَمْدُ عَلى ما أحْدَثٌتَ بي مِنْ عِلَّة في جَسَدي ، فَما أدْري يا إلهي أيٌّ الحالَيْنِ أحَقُّ بِالشُّكْرِ لَكَ وَأيُّ الوَقْتَيْنِ أوْلى بِالحَمْدِ لَكَ ، أوَقْتُ الصِّحَّةِ الَّتي هَنَّأتَني فيها طَيِّباتِ رِزْقِكَ وَنَشَّطْتَني بِها لابْتِغاءِ مَرْضاتِكَ وَفَضْلِكَ وَقَوَّيْتَني مَعَها عَلى ما وَفَّقْتَني لَهُ مِنْ طاعَتِكَ ، أمْ وَقْتُ العِلَّةِ الَّتي مَحَّصْتَني بِها وَالنِّعَمِ الَّتي أتْحَفْتَني بِها ، تَخْفيفاً لِما ثَقُلَ عَلَيَّ مِنَ الخَطيئاتِ ، وَتَطْهيراً لِما انْغَمَسْتُ فيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ ، وَتَثْبيتاً لِتَناوُلِ التَّوْبَةِ وَتَذْكيراً لَِمحْوِ الحَوْبَةِ بِقَديمِ النِّعْمَةِ ، وَفي خِلالِ ذلِكَ ما كَتَبَ لِيَ الكاتِبانِ مِنْ زَكِيِّ الأعْمالِ ما لا قَلْبٌ فَكَّرَ فيهِ ، وَلا لِسانٌ نَطَقَ بِهِ ، وَلا جارِحَةٌ تَكَلَّفَتْهُ ، بَلْ إفْضالا مِنْكَ عَلَيَّ وَإحْساناً مِنْ صَنيعِكَ إلَيَّ ، اللّهُمَّ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ ، وَحَبِّبْ إلَيَّ ما رَضيتَ لي ، وَيَسِّرْ لي ما أحْلَلْتَ بي ، وَطَهِّرْني مِنْ دَنَسِ ما أسْلَفْتُ ، وَامْحُ عَنِّي شَرَّ ما قَدَّمْتُ ، وَأوْجِدْني حَلاوَةَ العافِبَةِ ، وَأذِقْني بَرْدَ السَّلامَةِ ، وَاجْعَلْ مَخْرَجي عَنْ عِلَّتي إلى
عَفْوِكَ ، وَمُتَحَوَّلي عَنْ صَرْعَتي إلى تَجاوُزِكَ ، وَخَلاصي مِنْ كَرْبي إلى رَوْحِكَ ، وَسَلامَتي مِنْ هذِهِ الشِّدَّةِ إلى فَرَجِكَ ، إنَّكَ المُتَفَضِّلُ بِالإحْسانِ ، المُتَطَوِّلُ بِالامْتِنانِ ، الوَهَّابُ الكَريمُ ، ذو الجَلالِ وَالإكْرامِ».
---
[1] الفرقان : 77.
[2] غافر : 60.
[3] البقرة : 186.
[4] يونس : 12.
[5] يونس : 22.
[6] الأنعام : 63.
[7] السجدة : 16.
[8] النمل : 62.
[9] الأنبياء : 90.
[10] الأعراف : 180.
[11] الرعد : 39.
[12] البقرة : 216.
[13] اقتباس من كتابنا « التوبة والتائبون على ضوء القرآن والسنّة» ، وهو مطبوع ، فراجع.
[14] هذه أربع قصص حول أثر الدعاء في الشفاء من الأمراض ، ننقلها من كتاب « قصص وخواطر» ، تأليف عبد العظيم المهتدي البحراني.
[15] قصص وخواطر : 145 _ 146 ، 156 _ 157 ، 327 و 423.
[16] الروايات من ميزان الحكمة 9 : 120.
[17] الخصال ، للشيخ الصدوق : 625.
[18] مفاتيح الجنان : 136 ، في أعمال رجب.
[19] بحار الأنوار 91 : 2 ، عن أمالي الطوسي 1 : 175.
[20] المصدر ، عن الاختصاص : 223.
[21]ميزان الحكمة 6 : 416.
[
22]لقد تعرّضت إلى موضوع المعرفة بالتفصيل في « مقام الاُنس بالله» ، و « الإمام الحسين (عليه السلام)في عرش الله» ، فراجع.
[23]ميزان الحكمة 6 : 155 ، عن الكافي 8 : 248.
[24]البحار 92 : 8 ، الحديث 4.
[25]المصدر نفسه.
[26]نقلت الروايات من بحار الأنوار 92 : 9 ، باب 55 نقلا عن مهج الدعوات ومكارم الأخلاق وطبّ الأئمة وغيرها ، فراجع ، فإنّ الأدعية والمعوّذات في هذا المجلّد وغيره كثيرة جدّاً.
[27]البحار 92 : 65 ، الباب 59 ، الحديث 40.
[28]البقرة : 72 _ 73.
[29]تمامها : ( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألاّ تَخافوا وَلا
تَحْزَنوا وَأبْشِروا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ توعَدونَ ) . ( فصّلت : 30 )
[30]اللقوة ( بالفتح ) : داء يصيب الوجه يعوجّ منه الشدق إلى أحد جانبي العنق.