الزياره في الكتاب و السنه

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : الزياره في الكتاب و السنه : تحليل لمفهوم الزياره و آثارها و احكامها/ جعفر السبحاني مشخصات نشر : [تهران : نشر مشعر، 1416ق = 1374.

مشخصات ظاهري : ص 88

فروست : (علي مائده العقيده 9)

شابك : بها:1300ريال ؛ بها:1300ريال وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس موضوع : زيارت -- آداب و رسوم موضوع : زيارت -- آداب و رسوم -- احاديث رده بندي كنگره : BP262/س 2ز9

رده بندي ديويي : 297/76

شماره كتابشناسي ملي : م 75-8253

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

تمهيد

اشارة

ص: 4

قال اللَّه تبارك وتعالى:

«وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولَ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً». النساء/ 64

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«زوروا القبور فإنّها تُذكِّر الآخرةَ». ابن ماجة، السنن، ح 1569

وقال النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم:

«مَن زارَ قبري وجبتْ له شفاعتي». الدارقطني 2: 278

ص: 5

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد للَّه ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بالعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضي ءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا- ونظراً للحاجةِ المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّةٍ من كتاب اللَّهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، واللَّه الموفِّق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة

ص: 6

الاسلام دين الفطرة

عندما نقول إنّ الاسلام دين الفطرة فهذا لا يعني أنّ كل حكم جزئيّ منه يوافقها، بل يعني أنّ الاُصول الكلّية في مجالي العقائد والشريعة، تنسجم مع الفطرة وتوحي إليها بشكل واضح، ولذلك كانت تعاليم الانبياء، وفي مقدَّمتهم الشريعة الاسلامية، تثير مكنون الفطرة، لذا فهم قبل أن يكونوا معلِّمين كانوا مذكِّرين بما أودع الله سبحانه في فطرة الانسان من ميولات نحوَ العبودية لله سبحانه، والانشداد إلى ما وراء الطبيعة، والجنوح إلى العدل ومكارم الاخلاق، والنفور عن الظلم ومساوئ العادات. فكأنَّ الفطرة أوّلُ مدرسة يتعلّم فيها الانسان أصولَ المعارف ومكارمَ الاخلاق وآدابها، من دون معلِّم، وهذا لطف وامتنان منه سبحانه لعباده ويعدّ الحجرَ الاساس لسائر الهدايات الالهية الواصلة إليهم عن طريق أنبيائه ورسله.

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: (وَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ

ص: 7

يَعْلَمُونَ) (الروم/30) فإنّ المراد من الدين في الاية مجموع العقيدة والشريعة، كما فسّره به مشاهير المفسّرين، وكلمة (فِطْرَتَ اللهِ) التي نصبت على الاختصاص تفسير للدين، فالدين _ بتمام معنى الكلمة _ يوافق فطرة الانسان، بالمعنى الذي عرفت، أي أنّ أصوله وكلّياته تنسجم مع الفطرة وليست الاية وحيدة في بابها بل لها نظائر في الذكر الحكيم تؤكّد مضمونها، وتثبت بوضوح كون معرفة المحاسن والمساوئ والفجور والتقوى والميل إلى الفضائل، والانزجار عن الرذائل أمراً فطرياً إلى حدّ يقول سبحانه: (وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/8) وفي آية أُخرى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ l وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ l وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/8 _ 10).

فالانسان الطبيعي الذي لم يتأثّر بالمناهج البشرية، يدرك المحاسن والمساوئ، والفجور والتقوى والخير والشر، كرامة من الله سبحانه إليه.

ومن روائع الكلم ما روي عن الامام عليّ (عليه السلام) حول تحديد دعوة الانبياء وأنّ دورهم في مجال التربية تذكيرهم بمقتضيات الفطرة. يقول(عليه السلام):

«فبعثَ الله فيهم رُسُلَه، وواتر إليهم أنبياءه، لِيستَأدوهم ميثاقَ فطرته ويُذكِّروهم منسيَّ نعمتِه، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائنَ العقول»(1) .


1- نهج البلاغة، الخطبة الاولى.

ص: 8

فالشرائع السماوية كأنّها تستنطِق الفطرة وتُذكِّر بالنعمة المنسية بفعل الاهواء والدعايات الباطلة، وقد أُمر حملتها بإثارة ما دفن في فطرة الانسان من جواهر المعقولات في مجالي العقيدة والشريعة.

وعلى ذلك فالشريعة _ وفقَ الفطرة _ مصباح ينير الدرب لكلّ ساع في طلب الحقّ. وكلّ فكرة أو ميل، توحي إليهما الفطرة فهو آية كونه حقّاً، وكلّ فكرة أو جنوح، يناقض الفطرة وترفضهما فهو آية كونه باطلاً. ولاجل ذلك تخلينا عن الرهبانية والتعزّب ووأْد البنين والبنات لانها تخالف مقتضى الفطرة.

إنّ البحث في كون الشريعة الالهية شريعة فطرية، يتطلّب مجالاً واسعاً لما يترتّب على البحث من نتائج مشرقة تعين على حل مشاكل أثارها خصوم الاسلام في مجال خاتمية الشريعة الاسلامية، حيث إنّهم يرفضون كون الدين ديناً خاتماً، بزعمهم أنّ الحياة الانسانية حياة متغيّرة ومتحوّلة فكيف يمكن تدبير المجتمع المتغيّر، بقوانين ثابتة جامدة؟

ولكنّهم لعدم معرفتهم بحقيقة الشريعة الاسلامية، غفلوا عن أمر هام، وهو أنّ المتغيّر في الحياة الانسانية هو القشر، لا اللبّ، وإلاّ فالانسان بما له من غرائز وميول علوية وسفلية لم يتغيّر ولن يتغيّر، وبهذه الميزة والخصوصية هو محكوم بالقوانين الثابتة.

فالانسان القديم كان يُحبُّ العدلَ وينفر من الظلم ويميل إلى الزواج والحياة الاجتماعية وهكذا الانسان في العصر الحاضر، إذن فالقانون في حقهما سواء وإن تغيّرت أجواء الحياة وقشورها ولباسها وظواهرها.

ص: 9

الصلة بين الاحياء والاموات

إنّ زيارة الانسان لقبر حبيبه ومن كانت له به صلة روحية أو مادّية، هي ممّا تشتاق إليه النفوس السليمة، فكلّ من يعيش تحت السماء باسم الانسان السويّ اذا فارقَ أحبّته وأقرباءه، لا يقطع علاقته بمن شغف قلبه حبّاً، بل هو على حبّه باق، ويريد أن يُجسِّد محبَّته وشوقه بصور مختلفة، فهو تارةً يأوي إلى آثار حبيبه ورسوم داره وأطلاله فيحتفظ بألبسته وأثاثه وقلمه وخطوطه، ولا يكتفي بذلك بل يحاول أن يزور قبره وتربته حيناً بعد حين. كلّ ذلك بباعث ذاتي من صميم خلقته، فلا يصحّ لدين أُسُّه الفطرة أن يخالفه أو يمنعه من وصل أحبّائه وتعاهدهم.

لكن للاسلام أن يحدّدها ويذكر آدابها ويمنع عن بعض الامور غير الدخيلة في صميمها، لكن ليس في وسعه بما أنّه مناد لدين الفطرة أن يقوم بقطع العلائق مع الاحبّة بتاتاً.

وعلى ضوء ذلك ترى أنّ السنّة حثّت على زيارة القبور وذكرت آثارها البنّاءة، ولو منعت في فترة خاصّة _ لو صحّ المنع _ فإنّما هو لمانع عن تطبيق الحكم وتنفيذه كما سيظهر لك.

هذا هو أصل الزيارة، وقضاء الفطرة على وفقه.

مضافاً إلى ذلك فلها آثار تربويّة وهي ما يلي:

ص: 10

الاثار التربوية لزيارة القبور

إنّ زيارة القبور تنطوي على آثار تربوية، وأخلاقية وذلك لانّ مشاهدة المقابر التي تضمُّ في طياتها مجموعة كبيرة من الذين عاشوا في

هذه الحياة الدنيا، وكانوا بمكان عال من القدرة والسلطة، ثمّ انتقلوا إلى الاخرة، تؤدّي إلى الحدّ من روحِ الطمع، والحرص على الدنيا، وربّما تُغيّر سلوك الانسان لما يرى أنّ المنزل الاخير لحياته إنّما هو بيت ضيّق ومظلم باق فيه إلى ما شاء الله، فعند ذلك ربما يترك المظالم والمنكرات ويتوجّه إلى القيم والاخلاق.

وإلى هذا الجانب من الاثر التربوي يشير النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله)ويقول:

«كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنّها ترقُّ القلوب، وتدمعُ العين وتذكِّر الاخرة، ولا تقولوا هجراً»(1) .

وفي لفظ آخر: «كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور فإنّها تزهّد في الدنيا»(2) . وفي لفظ ثالث: «وتُذكّر الاخرة» (3) .

وعن أبي هريرة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) زار قبر أُمّه ولم يستغفر لها. قال: «أُمرتُ بالزيارة ونُهيت عن الاستغفار فزوروا القبور، فإنّها تذكّر الموت»(4) .

وعنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «زوروا القبور فإنّها تذكّركم الاخرة»(5) .


1- المتقي الهندي، كنز العمال : ج15، الحديث 42555 و 42998.
2- كنز العمال 15 : الحديث 42552.
3- ابن ماجة، السنن 1 : 501 ح1571.
4- مسلم، الصحيح 2 : 671 ح108 _ أحمد بن حنبل، المسند 1 : 444 _ ابن ماجة، السنن 1 : 676 _ أبو داود، السنن 2 : 72 _ البيهقي، السنن 4 : 76 _ النسائي، السنن 4 : 90 _ الحاكم، المستدرك 1 : 376.
5- ابن ماجة، السنن 1 : 500 ح1569.

ص: 11

ويظهر من بعض الروايات أنّ النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله) نهى يوماً عن زيارة القبور ثمّ رخّصها وكان النهي والترخيص من الله سبحانه.

ولعلّ النهي كان بملاك أنّ أكثر الاموات يومذاك كانوا من المشركين، فنهى النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن زيارتهم ولمّا كثر المؤمنون بينهم رخّص بإذن الله.

ولعلّ النهي كان بملاك آخر وهو أنّ زيارة القبور تُذكّر الموتى والقتلى وتورث الجبن عن الجهاد، وإذ قوي الاسلام رخّص الزيارة(1).

وعن أمّ سلمة عنه (صلى الله عليه وآله): «نَهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّ لكم فيها عِبرة»(2) .

الاثار الاجتماعية لزيارة أكابر الدين

قد تعرّفت على الاثار التربوية لزيارة قبور المسلمين، وهنا آثار تختصّ بزيارة أكابر المسلمين ورؤسائهم، وفي طليعتهم زيارة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) وهي: أنّ في زيارتهم نوعاً من الشكر والتقدير على تضحياتهم، وإعلاماً للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الَّذين يسلكون طريقَ الحقّ والهدى والدفاع عن المبدأ والعقيدة.

ولاجل هذا الاثر الممتاز لزيارة صُلحاء الاُمة، نجد أنّ الاُمم الحيّة تتسابق على زيارة مدفن رؤسائهم وشخصيّاتهم، الّذين ضحّوا بأنفسهم


1- الجناحي النجفي : منهج الرشاد : 144.
2- المتقي الهندي، كنز العمال 15 : 647 ح42558.

ص: 12

وأموالهم في سبيل إحياء الشعب واستقلاله من أيدي المستعمرين والظالمين، ويقيمون الذكريات المئوية لاحياء معالمهم، ويعدّونه تعظيماً وتكريماً لاهدافهم.

وهذا هو العالم بغربه وشرقه، فيه قبور وأضرحة لشخصيّاته وعظمائه وصلحائه من غير فرق بين ديني ودنيوي، لانّ الانسان يرى زيارتهم تكريماً لهم وتأدية لحقوقهم ووفاءً لعهدهم، فكلّ ما يقوم به فهو بوحي الفطرة ودعوتها إلى ذلك.

إنّ القبور التي تحظى باهتمام واحترام المؤمنين بالله في العالم _ وخاصة المسلمين _ هي في الغالب قبور حملة الرسالات الاصلاحيّين الذين أدّوا مهمّتهم على الوجه المطلوب.

وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

1 _ الانبياء والقادة الدينيّون الذين حملوا على عاتقهم رسالة السماء وضحّوا _ من أجلها _ بالنفس والمال والاحباب، وتحمّلوا أنواع المتاعب والمصاعب من أجل هداية الناس.

2 _ العلماء والمفكّرون الذين كانوا كالشّمعة تُحرقُ نفسها لتضيء للاخرين، وقد عاش هؤلاء حياة الزهد والحرمان، وقدّموا للعالم، البحوثَ القيّمة والتحقيقات الرائعة في مجالات العلم والفكر والطبيعة ومفاهيم السماء وعلوم الكون والمخلوقات وغير ذلك.

3 _ المجاهدون الثائرون الذين ضاقوا ذرعاً بما يعيشه المجتمع من الظلم وسحق الحقوق والتمييز العنصري أو القومي، فثاروا ضدّ الظلم والطغيان وطالبوا بحفظ كرامة الانسان وأداء حقوقه، وأقاموا

ص: 13

صرح العدالة بدمائهم الغالية.

إنّ أيّة ثورة أو تغيير اجتماعي لا يُقدَّر له النجاحُ إلاّ بدفع الثمن، وإنّ ثمن الثورة التي تستهدف تدمير قصور الظالمين، وخنق أنفاسهم هو الدماء الزكية التي يُضحّي بها المقاتلون الابطال لاعادة الحقّ والحرّية إلى الوطن الاسلامي.

إنّ الناس يزورون قبور هؤلاء ويذرفون عندها الدموع، ويتذكّرون بطولاتهم وتضحياتهم، ويُسعدون أرواحهم بتلاوة آيات من القرآن الحكيم هديّة إليهم، وينشدون قصائد في مدحهم وثنائهم وتقدير مواقفهم المشرقة.

إنّ زيارة مراقد هذه الشخصيات هي نوع من الشكر والتقدير على تضحياتهم، وإعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الذين يسلكون طريقَ الحقّ والهدى والفضيلة والدفاع عن المبدأ والعقيدة.

إنّ جزاءهم هو خلود الذكر الحسن والثناء الجميل، بالرغم من مرور الزمان على وفاتهم، وتعريفُ الناس بتلك الشخصيات الراقية وبمعتقداتهم التي ضحّوا من أجلها، واحترام مراقدهم وتجنّب كلّ ما يمسّ بكرامتها، لانّ احترام قبورهم احترام لرسالاتهم وعقائدهم، كما أنّ أيّ نوع من الاهانة والتحقير تجاه مراقدهم هو في الحقيقة إهانة لرسالاتهم وتحقير لشخصيّتهم.

ثمّ إنّ لبعض أهل المعرفة تحليلاً علمياً رائعاً في زيارة النبي الاكرم نذكره بنصّه قال:

إعلم أنّ النفوس القوية القدسية، لا سيّما نفوس الانبياء

ص: 14

والائمة(عليهم السلام)، اذا نفضوا أبدانهم الشريفة وتجرّدوا عنها، وصعدوا إلى عالم التجرّد، وكانوا في غاية الاحاطة والاستيلاء على هذا العالم يكون العالم عندهم ظاهراً منكشفاً، فكلّ من يحضر مقابرهم لزيارتهم يطّلعون عليه، لا سيّما ومقابرهم مشاهدُ أرواحهم المقدّسة العلية، ومحالّ حضور أشباحهم البرزخيّة النورية، فإنّهم هناك يشهدون (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران/169)، وبما آتاهم الله من فضله فرحون، فلهم تمامُ العلم والاطّلاع بزائري قبورهم، وحاضري مراقدهم وما يصدر عنهم من السؤال والتوسّل والاستشفاع والتضرّع، فتهبّ عليهم نسماتُ ألطافهم، وتفيض عليهم من رشحات أنوارهم، ويشفعون إلى الله في قضاء حوائجهم، وإنجاح مقاصدهم، وغفران ذنوبهم وكشف كروبهم.

فهذا هو السرفي تأكّد استحباب زيارة النبيّ والائمة (عليهم السلام) مع ما فيه من صلة لهم. وبرّهم وإجابتهم، وإدخال السرور عليهم، وتجدّد عهد ولايتهم، وإحياء أمرهم، وإعلاء كلمتهم، وتنكيت أعدائهم. وكلّ واحد من هذه الاُمور ممّا لا يخفى عظيم أجرُهُ وجزيل ثوابه.

وكيف لا تكون زيارتُهم أقربَ القربات، وأشرفَ الطاعات، ومع أنّ في زيارة المؤمن _ من جهة كونه مؤمناً فحسب _ عظيم الاجر وجزيل الثواب، وقد ورد به الحثّ والتوكيد والترغيب الشديد من الشريعة الطاهرة، ولذلك كثر تردّد الاحياء إلى قبور أمواتهم للزيارة، وتعارف ذلك بينهم، حتى صارت لهم سنّة طبيعية.

وأيضاً قد ثبت وتقرّر جلالة قدر المؤمن عند الله، وثوابُ صلته

ص: 15

وبرّه وإدخال السرور عليه. وإذا كان الحال في المؤمن من حيث إنّه مؤمن، فما ظنّك بمن عصمه الله من الخطأ، وطهّره من الرجس، وبعثه الله إلى الخلائق أجمعين، وجعله حجّة على العالمين، وارتضاه إماماً للمؤمنين، وقدوة للمسلمين ولاجله خلق السماوات والارضين، وجعله صراطه وسبيلَه، وعينه ودليله، وبابه الذي يُؤتى منه، ونورَه الذي يستضاء به، وأمينَه على بلاده، وحبله المتّصل بينه وبين عباده، من رسل وأنبياء وأئمة وأولياء(1) .

وفي الختام نقول: ليس الهدف من هذا التقديم تصويبَ بعض ما يقع عند الزيارة من محرّمات الافعال فإنّها أُمور جانبيّة لاتمتّ لاصل الزيارة بصلة، والذي ندّعيه وعليه يشهد عمل العقلاء في العالم دينهم وغيره، أنّ للانسان علاقة بمن كان يعشقه ويحبّه فلا يقطع علاقته به بموته بل يحتفظ بها بشكل خاص بعد الفراق أيضاً، وهذا شيء يلمسه الانسان من صميم ذاته وليس لشريعة سماوية بما أنّها تجاوب الفطرة تمنعه من ذلك، بل لها أن تعدله وتحدّده وتعزل ما ليس منه عنه.

وها نحن نعالج الموضوع بالبحث في الاُمور التالية:

1 _ زيارة القبور في الكتاب والسنّة النبوية.

2 _ أعلام الاُمة وزيارة النبي الاكرم.

3 _ زيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الكتاب.

4 _ زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) في السنّة.

5 _ شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبيّ الاعظم.

6 _ شبهات وتشكيكات حول زيارة النبيّ الاكرم.

7 _ خاتمة: تذكرة وإنذار.


1- محمد مهدي النراقي، جامع السعادات 3 : 398 و 399.

ص: 16

1_ زيارة القبور في الكتاب والسنّة

اشارة

قد عرفت أنّ زيارة الانسان لمن له به صلة روحية أو مادية، ممّا تشتاق إليه النفوس السليمة، بل هي من وحي الفطرة، ولاجل ذلك نرى أنّ الكتابَ والسنّة يدعمان أصلَ الزيارة بوجه خاص.

أمّا الكتاب فقوله سبحانه: (ولا تُصَلِّ عَلى أحَد مِنْهُمْ ماتَ أبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ ورَسُولهِ وماتُوا وهَم فاسِقُونَ) (التوبة/84).

إنّ الاية تسعى لهدم شخصية المنافق، وهزّ العصا في وجوه حزبه ونظرائه. والنهي عن هذين الامرين بالنسبة إلى المنافق، معناه ومفهومه مطلوبية هذين الامرين (الصلاة والقيام على القبر) بالنسبة لغيره أي للمؤمن.

والان يجب أن ننظر في قوله تعالى: (ولا تَقُم عَلى قَبره) ما

ص: 17

معناه؟

هل المعنى هو القيام وقت الدفن فقط، حيث لا يجوز ذلك للمنافق ويستحب للمؤمن، أو المعنى أعم من وقت الدفن وغيره؟

إنّ بعض المفسّرين وإن خصّوا القيامَ نفياً وإثباتاً بوقت الدفن لكن البعض الاخر فسروه في كلا المجالين بالاعم من وقت الدفن وغيره.

قال السيوطي في تفسيره: ولا تَقم على قبره لدفن أو زيارة(1).

وقال الالوسي البغدادي: ويفهم من كلام بعضهم أنّ «على» بمعنى «عند» والمراد: لاتقف عند قبره للدفن أو للزيارة(2) .

وقال الشيخ إسماعيل حقّي البروسي: (ولاتَقُم على قبره) أي ولا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة والدعاء(3) .

إلى غير ذلك من المفسرين، وقد سبقهم البيضاوي في تفسيره(4) .

والحقّ مع من أخذ بإطلاق الاية وإليك توضيحه:

إنّ الاية; تتشكل من جملتين:

الاُولى:

قوله تعالى: (ولا تصلّ على أحد منهم ماتَ أبداً) .

إنّ لفظة «أحد» بحكم ورودها في سياق النفي تفيد العموم


1- السيوطي، تفسير الجلالين: سورة التوبة في تفسيره الاية.
2- الالوسي البغدادي، روح المعاني 10 : 155.
3- البروسي، روح البيان 3 : 378.
4- البيضاوي، أنوار التنزيل 1 : 416، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.

ص: 18

والاستغراق لجميع الافراد، ولفظة «أبداً» تفيد الاستغراق الزمني، فيكون معناها: لا تصل على أحد من المنافقين في أيّ وقت كان.

فمع الانتباه إلى هذين اللَّفظين نعرف _ بوضوح _ أنّ المراد من النهي عن الصلاة على الميّت المنافق ليس خصوص الصلاة على الميت عند الدفن فقط، لانّها ليست قابلة للتكرار في أزمنة متعدّدة، ولو أُريد ذلك لم تكن هناك حاجة إلى لفظة «أبداً»، بل المراد من الصلاة في الاية مطلق الدعاء والترحّم سواء أكان عند الدفن أم غيره.

فإن قال قائل: إنّ لفظة «أبداً» تأكيد للاستغراق الافرادي لا الزماني.

فالجواب بوجهين:

1 _ انّ لفظة «أحد» أفادت الاستغراق والشمول لجميع المنافقين بوضوح فلا حاجة للتأكيد.

2 _ انّ لفظة «أبداً» تستعمل في اللّغة العربية للاستغراق الزماني، كما في قوله تعالى: (وَلا أنْ تَنكِحُوا أزواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَداً) (الاحزاب/53).

فالنتيجة أنّ المقصود هو النهي عن الترحّم على المنافق وعن الاستغفار له، سواء أكان بالصلاة عليه عند الدفن أم بغيرها.

الثانية:

(ولاَ تقُمْ عَلى قَبْرِهِ) إنّ مفهوم هذه الجملة _ مع الانتباه إلى أنّها معطوفة على الجملة السابقة _ هو: «لا تَقُم على قبر أحد منهم مات أبداً» لانّ كل ما ثبت للمعطوف عليه من القيد _ أعني «أبداً» _ يثبت للمعطوف أيضاً، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بأنّ المقصود من

ص: 19

القيام على القبر هو وقت الدفن فقط، لانّ المفروض عدم إمكان تكرار القيام على القبر وقت الدفن، كما كان بالنسبة للصلاة، ولفظة «أبداً» المقدّرة في هذه الجملة الثانية تفيد إمكانية تكرار هذا العمل، فهذا يدل على أنّ القيام على القبر لايختصّ بوقت الدفن.

وإن قال قائل: إنّ لفظة «أبداً» المقدّرة في الجملة الثانية معناها الاستغراق الافرادي.

قلنا: قد سبق الجواب عليه، وأنّ لفظة «أحد» للاستغراق الافرادي، لا لفظة «أبداً» فهي للاستغراق الزماني.

فيكون معنى الاية الكريمة: أنّ الله تعالى ينهى نبيه (صلى الله عليه وآله) عن مطلق الاستغفار والترحّم على المنافق، سواء كان بالصلاة أو مطلق الدعاء، وينهى عن مطلق القيام على القبر، سواء كان عند الدفن أو بعده.

ومفهوم ذلك هو أنّ هذين الامرين يجوزان للمؤمن.

وبهذا يثبت جواز زيارة قبر المؤمن وجواز قراءة القرآن على روحه، حتى بعد مئات السنين.

هذا بالنسبة إلى المرحلة الاُولى وهي أصل الزيارة من وجهة نظر القرآن، وأمّا بالنسبة إليها من ناحية الاحاديث فإليك بيانها:

زيارة القبور في السنّة النبوية

إنّ النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله) جسّد بعمله مشروعية زيارة القبور _ مضافاً إلى أنّه أمر بها كما مرّ _ وعلّم كيفيتها وكيف يتكلّم الانسان مع الموتى، فقد ورد في غير واحد من المصادر، أنّه (صلى الله عليه وآله) زار البقيع، وإليك

ص: 20

النصوص:

1 _ روى مسلم عن عائشة أنّها قالت: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) كلّما كان ليلتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجِّلون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لاهل بقيع الغرقد»(1) .

2 _ وعن عائشة في حديث طويل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال لها: «أتاني جبرئيل فقال: إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ورحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون»(2) .

3 _ وروى ابن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: _ في رواية أبي بكر _ «السلام على أهل الديار» وفي رواية زهير: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنّا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية»(3) .

4 _ عن ابن بريدة عن أبيه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»(4) .

5 _ وروي في كنز العمال الروايات التالية: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون. ووددتُ أنّا قد أُرينا إخواننا قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. إلخ»(5).

6 _ «السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين والمسلمين، يغفر


1- مسلم، الصحيح 7 : 41.
2- مسلم، الصحيح 7 : 44 _ النسائي، السنن 4 : 91.
3- مسلم، الصحيح 7 : 45.
4- مسلم، الصحيح 7 : 46 _ الترمذي، السنن 3 : 370 ح 1054 _ النسائي، السنن 4 : 89.
5- مسلم، الصحيح، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة، الحديث 249.

ص: 21

الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالاثر»(1) .

7 _ «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا وإياكم متواعدون غداً ومتواكلون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون اللّهم اغفر لاهل بقيع)الغرقد» (2).

8 _ «السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط وإنّا بكم لاحقون، اللّهمّ لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم» (3).

9 _ «إنّي نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها بتذكيركم زيارتها خيراً» (4).

10 _ «نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهنّ; نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّ في زيارتها تذكرة»(5) . إلى غير ذلك من الاثار النبوية الحاثّة على زيارة القبور، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كنز العمال.


1- علاء الدين، كنز العمال 15: 247 الحديث 42561 و 42562.
2- علاء الدين، كنز العمال 15: 247 الحديث 42561 و 42562.
3- علاء الدين، كنز العمال 15: 248، الأحاديث 42563 و 42564 و 42565.
4- علاء الدين، كنز العمال 15: 248، الأحاديث 42563 و 42564 و 42565.
5- علاء الدين، كنز العمال 15: 248، الأحاديث 42563 و 42564 و 42565.

ص: 22

2_ أعلام الاُمة و زيارة قبر النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله)

اشارة

إذا كانت زيارة قبور المسلمين من السنن التي دعا إليها النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله) وعمل بها بمرأى ومسمع من نسائه وصحابته، فزيارة قبر سيد ولد آدم ومن أُنيطت إليه سعادة البشر أولى بها، لذا جرت سيرة المسلمين على زيارة قبره، وصرّح بها فقهاء الاُمة، وتضافرت السنّة على استحبابها.

ولنقدّم بعض الكلمات من أكابر الاُمة التي تعرب عن موقف المسلمين طيلة القرون تجاه المسألة، فقد قيّض سبحانه في كلّ عصر رجالاً يجاهرون بالحقّ، وينفون غبار الباطل عن وجهه نذكر منهم شخصيتين كبيرتين من السنّة والشيعة:

1 _ الامام تقي الدين السبكي الشافعي المتوفّى سنة 567 ه_ عليه سحائب الرحمة والرضوان فقد خصّ في كتابه «شفاء السقام في زيارة

ص: 23

خير الانام» باباً لنقل نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر سيدنا رسول الله، وقد بيّن أنّ الاستحباب أمر مجمع عليه بين المسلمين(1) .

2 _ العلاّمة الكبير الاميني في الغدير الجزء 5 / 109 _ 512، فقد استدرك عليه بما لم يقف عليه الامام السبكي، ونقل كلمات أعلام المذاهب الاربعة بما يتجاوز الاربعين كلمة. شكر الله مساعيهما.

وقد راجعنا أكثر المصادر التي نقلا عنها حسب ماحضرنا منها. واكتفينا بالنقل عنهما في غيره، وأضفنا بعض ما فات عنهما. ولعل المعثور عليه من الكلمات أقل مما لم يُعثر عليها.

كلمات أعلام المذاهب حول الزيارة

1 _ قال أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الجرجاني الشافعي (م/034ه_) بعد الحث على تعظيم النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله): فأمّا اليوم فمن تعظيمه زيارته(2) .

2 _ قال أبو الحسن أحمد بن محمد المحاملي الشافعي (م/524ه_): ويستحب للحاجّ إذا فرغ من مكّة أن يزور قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)(3) .

3 _ قال القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري (م/045ه_): ويستحب أن يزور النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن يحجّ ويعتمر(4) .


1- السبكي، شفاء السقام : 65 _ 79 ونحن نغترف من هذا العين المعين ونذكر كلمات المحققين من أهل السنة حول زيارة النبي صلى الله عليه وآله.
2- المنهاج في شعب الايمان، كما في شفاء السقام : 65.
3- التجريد، كما في شفاء السقام : 65.
4- نقله عنه السبكي في شفاء السقام : 65.

ص: 24

4 _ قال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي (م/045ه_): فإذا عاد (ولي الحاج) سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)ليجمع لهم بين حج بيت الله عزّ وجلّ وزيارة قبر رسول الله رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الجميع المستحسنة(1) .

وقال أيضاً في كتابه الحاوي: أمّا زيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) فمأمور بها ومندوب إليها(2) .

5 _ حكى عبد الحقّ بن محمد الصقلي (م/466ه_) عن الشيخ أبي عمران المالكي أنّ زيارة قبر النبي واجبة، قال عبد الحقّ: يعني من السنن الواجبة(3) .

6 _ قال ابو إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي الفقيه الشافعي (م/674ه_): ويستحب زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)(4) .

7 _ وممّن بسط الكلام في زيارة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) الامام الغزالي في كتاب الحج من إحياء العلوم قال: الجملة العاشرة في زيارة المدينة وآدابها قال: من زارني بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي. وقال (صلى الله عليه وآله): «من وجد سعة ولم يَفِد إليَّ فقد جفاني» إلى أن قال: فمن قصد زيارة المدينة فليصلّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طريقه كثيراً فإذا وقع بصره على


1- الاحكام السلطانية : 109، دار الفكر، بيروت.
2- الحاوي، كما في شفاء السقام : 65.
3- تهذيب الطالب، كما في شفاء السقام : 68.
4- المهذب في فقه الامام الشافعي 1 : 233، دار الفكر، بيروت.

ص: 25

حيطان المدينة وأشجارها قال: اللّهمّ هذا حرم رسولك فاجعله لي وقاية من النار وأماناً من العذاب وسوء الحساب، ثم ذكر آداب الزيارة وصيغتها، كما ذكر زيارة الشيخين وزيارة البقيع بمن فيها، كزيارة قبر عثمان وقبر الحسن بن علي، ثم قال: ويصلي في مسجد فاطمة رضي الله عنها ويزور قبر إبراهيم ابن رسول الله وقبر صفيّة عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)فذلك كلّه بالبقيع، ويستحب له أن يأتي مسجد قباء في كلّ سبت ويصلّي فيه لما روي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من خرج من بيته حتى يأتي مسجد قباء ويصلّي فيه كان له عدل عمرة»(1) .

8 _ قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوداني الفقيه البغدادي الحنبلي (م/105ه_): وإذا فرغ من الحج استحبّ له زيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)وقبر صاحبيه(2) .

9 _ قال القاضي عياض المالكي (م/544ه_): وزيارة قبره (صلى الله عليه وآله) سنّة مجمع عليها وفضيلة مرغّب فيها، ثم ذكر عدّة من أحاديث الباب فقال: قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: وممّا لم يزل من شأن من حج المزور(3) بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتبرّك برؤية روضه ومنبره وقبره ومجلسه وملامس يديه ومواطن قدميه والعمود الذي استند إليه ومنزل جبرئيل بالوحي فيه عليه(4) .


1- الغزالي، إحياء علوم الدين 1 : 305و306.
2- الهداية، كما في شفاء السقام : 66.
3- قيل بكسر الميم وسكون الزاء وفتح الواو: مصدر ميمي بمعنى الزيارة.
4- الشفاء 2 : 194 _ 197، ط دار الفيحاء، عمان.

ص: 26

10 _ قال ابن هبيرة (م/056ه_): اتّفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل _ رحمهم الله تعالى _ على أنّ زيارة النبي (صلى الله عليه وآله)مستحبة(1) .

11 _ عقد الحافظ ابن الجوزي الحنبلي (م/975ه_) في كتابه باباً في زيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وذكر حديث ابن عمر وحديث أنس اللَّذين سنذكرهما(2) .

12 _ قال أبو محمد عبد الكريم بن عطاء الله المالكي (م/126ه_): إذا كمل لك حجّك وعمرتك على الوجه المشروع لم يبق بعد ذلك إلاّ إتيان مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)للسلام على النبيّ (صلى الله عليه وآله) والدعاء عنده، والسلام على صاحبيه، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين، والصلاة في مسجد الرسول فلا ينبغي للقادر على ذلك تركه(3) .

13 _ قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن إدريس السامري الحنبلي (م/616ه_): وإذا قدم مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله) استحبّ له أن يغتسل لدخولها. ثم ذكر أدب الزيارة وكيفية السلام والدعاء والوداع(4) .

41 _ قال الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي


1- ابن الحاج، المدخل 1 : 256.
2- مثير العزام الساكن إلى أشرف الاماكن، كما في شفاء السقام : 67.
3- المناسك، كما في الغدير 5 : 110.
4- المستوعب، كما في شفاء السقام : 67.

ص: 27

الحنبلي (م/206ه_): يستحب زيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ثم ذكر حديثي ابن عمر وأبي هريرة من طريق الدار قطني وأحمد(1) .

51 _ قال محي الدين النووي الشافعي (م/776ه_): ويُسنُّ شرب ماء زمزم وزيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد فراغ الحج(2) .

61 _ قال نجم الدين بن حمدان الحنبلي (م/596ه_): ويسنّ لمن فرغ عن نسكه زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) وقبر صاحبيه رضي الله عنهما، وله ذلك بعد فراغ حجة وإن شاء قبل فراغه(3) .

17 _ قال القاضي الحسين: إذا فرغ من الحجّ فالسنّة أن يقف بالملتزم ويدعو، ثم يشرب من ماء زمزم، ثم يأتي المدينة ويزور قبر النبي (صلى الله عليه وآله)(4) .

18 _ قال القاضي أبو العباس أحمد السروجي الحنفي (م/710ه_): إذا انصرف الحاج والمعتمرون من مكّة فليتوجّهوا إلى طيبة مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وزيارة قبره فإنّها من أنجح المساعي(5) .

19 _ قال الامام القدوة ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي (م/738ه_) بعد أن ذكر لزوم وكيفية زيارة الانبياء والرسل _ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين _ والتوسّل بهم إلى الله تعالى وطلب الحوائج منهم قال: وأمّا في زيارة سيد الاولين والاخرين


1- المغني 3 : 788.
2- المنهاج، المطبوع بهامش شرح المغني 1 : 494 _ كما في الغدير 5 : 111.
3- الرعاية الكبرى في الفروع الحنبلية، كما في شفاء السقام : 67.
4- نقله السبكي في شفاء السقام : 66.
5- الغاية، كما في شفاء السقام : 66.

ص: 28

صلوات الله عليه وسلامه فكل ما ذكر يزيد عليه أضعافه، أعني في الانكسار والذلّ والمسكنة، لانّه الشافع المشفّع الذي لا تُردّ شفاعته، ولايُخيّب من قصده، ولا من نزل بساحته، ولا من استعان أو استغاث به، إذ أنّه عليه الصلاة والسلام قطب دائرة الكمال وعروس المملكة _ إلى أن قال _: فمن توسّل به أو استغاث به أو طلب حوائجه منه، فلا يرد ولا يخيب لما شهدت به المعاينة والاثار، ويحتاج إلى الادب الكلّي في زيارته عليه الصلاة والسلام، وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنّ الزائر يشعر بنفسه بأنّه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته(1) .

20 _ وقال شمس الدين ابن قدامة الاندلسي: فإذا فرغ من الحج استحبّ زيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقبر صاحبيه _ رضي الله عنهما _ واستدلّ على ذلك بروايتي ابن عمر، وأبي هريرة(2) .

21 _ قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي: إنّ ابن تيمية ذكر في مناسكه «باب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله): إذا أشرف على مدينة النبيّ (صلى الله عليه وآله) قبل الحج أو بعده، فليقل ما تقدم: إذا دخل استحب له أن يغتسل، نصّ عليه الامام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال: بسم الله والصلاة على رسول الله، اللّهمّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلّي بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبر النبيّ فيستقبل جدار القبر ولا


1- ابن الحاج، المدخل 1 : 257.
2- ابن قدامة، الشرح الكبير على المقنع 3 : 494.

ص: 29

يمسّه ولايقبّله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي، ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منتكس الرأس، غاض الطرف، متحضراً بقلبه جلالة موقفه ثم يقول:

السلام عليك يارسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يانبيّ الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيّد المرسلين، وخاتم النبيين، وقائد الغرّ المحجّلين، أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّك رسول الله، أشهد أنّك قد بلّغت رسالات ربك، ونصحت لاُمتك، ودعوت إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين فجزاك الله أفضل ماجزى نبياً ورسولاً عن أُمته اللّهمّ آته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً(1) .

22 _ ألّف الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي (م/567ه_) كتاباً حافلاً في زيارة النبيّ الاعظم (صلى الله عليه وآله) وأسماه «شفاء السقام في زيارة خيرالانام» ردّاً على ابن تيمية، وممّا قال فيه: لاحاجة إلى تتبّع كلام الاصحاب في ذلك مع العلم بإجماعهم وإجماع سائر العلماء عليه. والحنفية قالوا: إنّ زيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) من أفضل المندوبات والمستحبّات بل تقرب من درجة الواجبات، وممّن صرّح بذلك منهم أبو منصور محمد بن مكرم الكرماني في مناسكه، وعبد الله بن محمود


1- عبد الهادي الحنبلي، الصارم المنكي في الرد على السبكي : 7، الطبعة الاُولى، القاهرة المطبعة الخيرية. ولو صحّ ما نقله يحمل على تبدلّ الاجتهاد والمعروف أنه نهى عن السفر للزيارة لا عن أصلها. وسيوافيك بعض شبهاته.

ص: 30

بن بَلَدحي في شرح «المختار» وفي فتاوى أبي الليث السمرقندي في باب أداء الحجّ(1) .

ثم قال: وكيف يتخيّل في أحد من السلف نهيهم من زيارة المصطفى (صلى الله عليه وآله) وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى، فالنبي (صلى الله عليه وآله)وسائر الانبياء الذين ورد فيهم أنّهم أحياء كيف يقال فيهم هذه المقالة(2) وحكى عن القاضي عياض وأبي زكريا النووي إجماع العلماء والمسلمين على استحباب الزيارة(3) .

وقال أيضاً: وإذا استحبّ زيارة قبر غيره (صلى الله عليه وآله) فقبره أولى لما له من الحق ووجوب التعظيم(4) . ثم إنّه استدلّ في الباب السادس على أنّ السفر إلى الزيارة قربة بالكتاب والسنّة والاجماع _ إلى أن قال _ :

الرابع: الاجماع إطباق السلف والخلف، فإنّ الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجّهون إلى زيارته (صلى الله عليه وآله)، فمنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الاعصار القديمة... ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على الخطأ فهو المخطئ(5) .

23 _ قال زين الدين أبو بكر بن الحسين بن عمر القريشي العثماني المصري المراغي (م/681ه_): وينبغي لكلّ مسلم اعتقاد كون


1- السبكي، شفاء السقام : 66، طبع دار الجيل.
2- المصدر نفسه : 79.
3- المصدر نفسه : 83.
4- المصدر نفسه : 84.
5- المصدر نفسه : 100.

ص: 31

زيارته (صلى الله عليه وآله) قربة عظيمة، للاحاديث الواردة في ذلك، ولقوله تعالى: (ولوْ أنَّهم إذْ ظَلموا أنفسَهُمْ جاءُوكَ فَاستغفَروا اللهَ واستغفَرَ لَهُمُ الرَّسولُ) الاية لانّ تعظيمه لاينقطع بموته(1) .

42 _ قال السيد نور الدين السمهودي (م/911ه_) بعد ذكر أحاديث الباب: وأمّا الاجماع، فأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي بل قال بعض الظاهرية بوجوبها، وقد اختلفوا في النساء، وقد امتاز القبر الشريف بالادلة الخاصة به. قال السبكي: ولهذا أقول: إنّه لا فرق في زيارته بين الرجال والنساء. وقال الجمال الريمي في «التفقيه»: يستثنى من محل الخلاف قبر النبي (صلى الله عليه وآله)وصاحبيه ثم قال: وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين وهو الدمنهوري الكبير، وأضاف إليه قبور الاولياء والصالحين والشهداء(2) .

52 _ قال الحافظ أبو العباس القسطلاني المصري (م/933ه_): إعلم أنّ زيارة قبره الشريف من أعظم القربات وأرجا الطاعات والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الاسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الاعلام، وقد أطلق بعض المالكية وهو أبو عمران الفاسي كما ذكره في «المدخل» عن «تهذيب الطالب» لعبد الحق: أنّها واجبة، قال: ولعلّه أراد وجوب السنن المؤكدة، وقال القاضي عياض: إنّها من سنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغّب فيها...


1- المواهب اللدنية للقسطلاني 4 :572 المكتب الاسلامي، بيروت. والاية من سورة النساء:64.
2- وفاء الوفا، المجلد الثاني 4 : 1362، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت.

ص: 32

ثم قال: وقد صحّ عن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبيّ (صلى الله عليه وآله)فالسفر إليه قربة لعموم الادلة، ومن نذر الزيارة وجبت عليه كما جزم به ابن كج من أصحابنا، إلى أن قال: وللشيخ تقي الدين ابن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شدّ الرحال للزيارة النبوية وأنّه ليس من القرب بل يضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في «شفاء السقام» فشفى صدور المؤمنين(1) .

62 _ ذكر شيخ الاسلام أبو يحيى زكريا الانصاري الشافعي (م/592ه_) في باب مايستحب لمن حج وقال: ثم يزور قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)ويسلّم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرّفة(2) .

27 _ قال ابن حجر الهيثمي المكي الشافعي (م/973ه_) بعد ما استدلّ على مشروعية زيارة قبر النبي بعدة أدلة منها: الاجماع. فإن قلت: كيف تحكي الاجماع على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كلّه كما رآه السبكي في خطه؟. وقد أطال ابن تيمية الاستدلال لذلك بما تمجّه الاسماع، وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً وأنّه لاتقصَّر فيه الصلاة، وأنّ جميع الاحاديث الواردة فيها موضوعة، وتبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه. قلت: من هو ابن تيمية؟ حتى ينظر إليه أو يقول في شيء من مورد الدين عليه، وهل هو إلاّ كما قال جماعة من الائمة الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا عوار


1- المواهب اللدنية 4 : 570 المكتب الاسلامي، بيروت.
2- أسنى المطالب في شرح روض الطالب 1 : 501.

ص: 33

سقطاته، وقبائح أوهامه، وغلطاته كالعزّ بن جماعة: عبد أضلّه الله تعالى وأغواه، وألبسه رداء الخزي وأرداه، وبواه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان، وأوجب له الحرمان ولقد تصدّى شيخ الاسلام وعالم الانام المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته، التقيّ السبكي _ قدس الله روحه ونور ضريحه _ للردّ عليه في تضيف مستقل أفاد فيه وأجاد، وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب ثم قال:

هذا ما وقع من ابن تيمية ممّا ذكر وإن كان عثرة لا تقال أبداً، ومصيبة يستمر شؤمها سرمداً، وليس بعجب فإنّه سوّلت له نفسه وهواه وشيطانه أنّه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، ومادرى المحروم أنّه أتى بأقبح المعائب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة، وتدارك على أئمتهم لا سيما الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة، شهيرة حتى تجاوز إلى الجناب الاقدس، المنزّه سبحانه عن كل نقص، والمستحق لكل كمال أنفس، فنسب إليه الكبائر والعظائم، وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة، على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين، حتى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره، فحبسه إلى أن مات، وخمدت تلك البدع، وزالت تلك الضلالات، ثم انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأساً، ولم يظهر لهم جاهاً، ولا بأساً، بل ضربت عليهم الذلّة والمسكنة وباءُوا بغضب من الله بما عصوا وكانوا يعتدون(1) .


1- الجوهر المنظّم في زيارة القبر المكرّم : 22، طبع سنة 1279 بمصر.

ص: 34

ونقل حسن العدوي الحمزاوي عنه أيضاً ما هذه عبارته:

إعلم وفّقني الله وإياك لطاعته وفهم خصوصيات نبيّه (صلى الله عليه وآله)والمسارعة إلى مرضاته: أنّ زيارته (صلى الله عليه وآله) مشروعة مطلوبة بالكتاب والسنّة وإجماع الاُمة وبالقياس _ إلى أن قال _ : وأمّا الاجماع فقد حكاه الامام السبكي قال: ولا عبرة بما تفرّد به ابن تيمية وتبعه بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه(1) .

28 _ قال الشيخ محمد الخطيب الشربيني (م/977ه_): أمّا زيارته(صلى الله عليه وآله) فمن أعظم القربات للرجال والنساء، وألحق الدمنهوري به قبور بقية الانبياء والصالحين والشهداء وهو ظاهر(2) .

وقال في موضع آخر بعد بيان مندوبية زيارة قبره الشريف (صلى الله عليه وآله)وذكر جملة من أدلّتها: ليس المراد اختصاص أدب الزيارة بالحج فإنّها مندوبة مطلقاً بعد حجّ أو عمرة أو قبلهما أو لا مع نسك، بل المراد تأكّد الزيارة فيها(3).

29 _ قال الشيخ زين الدين عبد الرؤوف المناوي (م/1031ه_): وزيارة قبره (صلى الله عليه وآله)الشريف من كمالات الحج، بل زيارته عند الصوفية فرض وعندهم الهجرة إلى قبره كهي إليه حيّاً(4) .

وقال في موضع آخر: إنّ أثر الزيارة إمّا الموت على الاسلام مطلقاً


1- حسن العدوي الحمزاوي، كنز المطالب : 179 و 181، الطبعة الحجرية.
2- مغني المحتاج 1 : 36، ط دار الفكر.
3- المصدر نفسه 1 : 512.
4- شرح الجامع الصغير 6 : 160.

ص: 35

لكل زائر، وإمّا شفاعة تخصّ الزائر أخص من العامة، وقوله: شفاعتي في الاضافة إليه تشريف لها، إذ الملائكة وخواص البشر يشفعون فللزائر نسبة خاصة فيشفع هو فيه بنفسه والشفاعة تعظّم بعظم الزائر(1) .

30 _ قال الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي: زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) من أفضل القربات وأحسن المستحبّات تقرب من درجة ما لزم من الواجبات، فإنّه (صلى الله عليه وآله) حرض عليها وبالغ في الندب إليها. قال: «من وجد سعة فلم يزرني فقد جفاني» وقال (صلى الله عليه وآله): «من زار قبري وجبت له شفاعتي». وقال (صلى الله عليه وآله): «من زارني بعد مماتي فكأنّما زارني في حياتي» إلى أن قال: وممّا هو مقرر عند المحققين أنه (صلى الله عليه وآله) حيّ يُرزق ممتّع بجميع الملاذ والعبادات، غير أنّه حجب عن أبصار القاصرين عن شرف المقامات(2) .

31 _ وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري (م/9610ه_): واعلم أنّ هذا الحديث (شدّ الرجال إلى المساجد) هو الذي دعا ابن تيمية ومن معه كابن القيم إلى مقالته الشنيعة التي كفروه بها، وصنف فيها السبكي مصنّفاً مستقلاً، وهي منعه من زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) وهو كما قيل:

لمهبط الوحي حقّاً ترحل النجب ... وعند ذاك المرجيّ ينتهي الطلب

فتوهم أنّه حمى جانب التوحيد بخرافات لاينبغي ذكرها فإنّها لا


1- المصدر نفسه : 93.
2- مراقي الفلاح في شرح متن نور الايضاح : 292 _ 293، ط مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، مصر.

ص: 36

تصدر عن عاقل فضلاً عن فاضل سامحه الله تعالى(1).

32 _ قال الشيخ عبد الرحمن شيخ زاده (م/987ه_): من أحسن المندوبات، بل يقرب من درجة الواجبات زيارة قبر نبينا وسيدنا محمد(صلى الله عليه وآله) وقد حرّض (عليه السلام) على زيارته وبالغ في الندب إليها(2) .

33 _ قال الشيخ محمد بن علي بن محمد الحصني المعروف بعلاء الدين الحصكفي الحنفي المفتي بدمشق (م/1088ه_): وزيارة قبره(صلى الله عليه وآله) مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة(3).

43 _ قال أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي المصري (م/1132ه_): قد كانت زيارته مشهورة في زمن كبار الصحابة معروفة بينهم، لمّا صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الاحبار فأسلم ففرح به وقال: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره (صلى الله عليه وآله) وتتمتّع بزيارته؟ قال: نعم(4) .

53 _ قال أبو الحسن السندي محمد بن عبد الهادي الحنفي (م/1138ه_): قال الدميري: فائدة زيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) من أفضل الطاعات وأعظم القربات لقوله (صلى الله عليه وآله): «من زار قبري وجبت له شفاعتي إلخ»(5) .

63 _ قال محمد بن عبد الوهاب: تسنّ زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّه


1- شرح الشفاء 3 : 566، طبع المطبعة العثمانية در سعادت، سنة 1315.
2- مجمع الانهر في شرح ملتقى الابحر 1 : 312، ط دار إحياء التراث العربي.
3- الدر المختار في شرح تنوير الابصار، آخر كتاب الحج : 190، مطبعة الفتح الكريم، سنة 1302.
4- شرح المواهب 8 : 299، الطبعة الاُولى بالمطبعة الاُولى الازهرية المصرية، سنة 1302.
5- شرح سنن ابن ماجة 2 : 268، كما في الغدير 5 : 120.

ص: 37

لايشدّ الرحال إلاّ لزيارة المسجد والصلاة فيه(1) .

37 _ قال الشيخ محمد بن علي الشوكاني (م/0512ه_): قد اختلفت فيها (في زيارة النبي (صلى الله عليه وآله)، أمّا أقوال أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أنّها مندوبة، وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية إلى أنّها واجبة، وقالت الحنفية: إنّها قريبة من الواجبات، وذهب ابن تيمية الحنبلي حفيد المصنّف المعروف بشيخ الاسلام إلى أنّها غير مشروعة. ثم فصل الكلام في الاقوال، إلى أن قال وفي آخر كلامه: احتجّ أيضاً من قال بالمشروعية بأنّه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الازمان على تباين الديار واختلاف المذاهب، الوصول إلى المدينة المشرّفة لقصد زيارته، ويعدون ذلك من أفضل الاعمال، ولم ينقل أن أحداً أنكر ذلك عليهم فكان إجماعاً(2) .

38 _ قال الشيخ محمد أمين ابن عابدين (م/3512ه_): زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) مندوبة بإجماع المسلمين إلى ان قال: وهل تستحب زيارة قبره (صلى الله عليه وآله)للنساء؟ الصحيح، نعم، بلا كراهة بشروطها على ما صرّح به بعض العلماء، وأمّا على الاصح من مذهبنا وهو قول الكرخي وغيره من أنّ الرخصة في زيارة القبور ثابتة للرجال والنساء جميعاً فلا إشكال، وأمّا على غيره فذلك نقول بالاستحباب لاطلاق الاصحاب(3) .

39 _ قال الشيخ محمد بن السيد درويش الحوت البيروني


1- الهدية السنية، الرسالة الثانية.
2- نيل الاوطار 4 : 324.
3- رد المحتار على الدر المختار 5 : 278.

ص: 38

(م/6127ه_): زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) مطلوبة لانّه واسطة الخلق، وزيارته بعد وفاته كالهجرة إليه في حياته، ومن أنكرها فإن كان ذلك إنكاراً لها من أصلها فخطأُه عظيم، وإن كان لما يعرض من الجهلة ممّا لاينبغي فليبيّن ذلك(1) .

04 _ قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي (م/1277ه_): وتسنّ زيارة قبره (صلى الله عليه وآله)ولو لغير حاج ومعتمر كالذي قبله، ويسنّ لمن قصد المدنية الشريفة لزيارته (صلى الله عليه وآله) أن يكثرمن الصلاة والسلام عليه في طريقه، ويزيد في ذلك إذا رأى حرم المدينة وأشجارها، ويسأل الله أن ينفعه بهذه الزيارة ويتقبّلها منه. ثم ذكر جملة كثيرة من آداب الزيارة وألفاظها(2) .

14 _ قال الشيخ حسن العدوي الحمراوي الشافعي (م/1303ه_)، بعد نقل جملة من الاحاديث الواردة في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) يسمع سلام زائريه ويرد عليهم: إذا علمت ذلك علمت أنّ ردّه (صلى الله عليه وآله) سلام الزائر عليه بنفسه الكريمة (صلى الله عليه وآله) أمر واقع لا شكّ فيه، وإنّما الخلاف في ردّه على المسلِّم عليه من غير الزائرين. فهذه فضيلة عظيمة ينالها الزائرون لقبره (صلى الله عليه وآله)فيجمع الله لهم بين سماع رسول الله (صلى الله عليه وآله)لاصواتهم من غير واسطة وبين ردّه عليهم سلامهم بنفسه، فأنّى لمن سمع بهذين بل بأحدهما أن يتأخّر عن زيارته (صلى الله عليه وآله)؟ أو يتوانى عن المبادرة إلى المثول في حضرته (صلى الله عليه وآله) تالله


1- التعليق على «حسن الاثر» : 246 _ كما في الغدير 5 : 121.
2- حاشية على شرح ابن الغزي على متن الشيخ أبي شجاع في الفقه الشافعي 1 : 347 _ كما في الغدير 5 : 122.

ص: 39

ما يتأخر عن ذلك مع القدرة عليه إلاّ من حق عليه البعد من الخيرات، والطرد عن مواسم أعظم القربات، أعاذنا الله تعالى من ذلك بمنّه وكرمه آمين. وعلم من تلك الاحاديث أيضاً أنّه (صلى الله عليه وآله) حيّ على الدوام، إذ من المحال العادي أن يخلو الوجود كلّه من واحد يسلّم عليه في ليل أو نهار، فنحن نؤمن ونصدق بأنّه (صلى الله عليه وآله) حيّ يرزق، وأنّ جسده الشريف لا تأكله الارض، وكذا سائر الانبياء عليهم الصلاة والسلام والاجماع على)هذا”(1)

24 _ قال السيد محمد بن عبد الله الجرداني الدمياطي الشافعي (م/7513ه_): زيارة قبره (صلى الله عليه وآله) من أعظم الطاعات وأفضل القربات حتى أنّ بعضهم جرى على أنها واجبة فينبغي أن يحرّض عليها، وليحذّر كل الحذر من التخلّف عنها مع القدرة وخصوصاً بعد حجة الاسلام لانّ حقّه (صلى الله عليه وآله) على أُمته عظيم، ولو أنّ أحدهم يجيء على رأسه أو بصره من أبعد موضع من الارض لزيارته (صلى الله عليه وآله) لم يقم بالحق الذي عليه لنبيه جزاه الله عن المسلمين أتم الجزاء.

ويسنّ لمن قصد المدينة الشريفة (إلخ) ثم فصل القول في آداب الزيارة وذكر التسليم على الشيخين وزيارة السيدة فاطمة وأهل البقيع والمزارات المشهورة وهي نحو ثلاثين موضعاً كما قال وما أحسن ما قيل:

هنيئاً لمن زار خير الورى ... وحطّ عن النفس أوزارها


1- كنز المطالب : 195، الطبعة الحجرية.

ص: 40

فإنّ السعادة مضمونة ... لمن حلّ طيبة أو زارها(1)

34 _ قال الشيخ عبد الباسط بن الشيخ علي الفاخوري مفتي بيروت: الفصل الثاني عشر في زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) وهي متأكّدة مطلوبة ومستحبة محبوبة، وتسنّ زيارته في المدينة كزيارته حيّاً وهو في حجرته حيّ يرد على من سلّم عليه السلام، وهي من أنجح المساعي وأهمّ القربات وأفضل الاعمال وأزكى العبادات، وقد قال (صلى الله عليه وآله): «من زار قبري وجبت له شفاعتي». ومعنى «وجبت» ثبت بالوعد الصادق الذي لابدّ من وقوعه وحصوله، وتحصل الزيارة في أيّ وقت وكونها بعد تمام الحج أحب، يجب على من أراد الزيارة التوبة من كل شيء يخالف طريقه وسنته (صلى الله عليه وآله) إلى أن قال: ويستحب التبرك بالاسطوانات التي لها فضل، وشرف وهي ثمانية: اسطوانة محل صلاته (صلى الله عليه وآله)، واسطوانة عائشة (رض). وتسمى اسطوانة القرعة، واسطوانة التوبة محل اعتكافه (صلى الله عليه وآله)، واسطوانة السرير، واسطوانة عليّ (رضي الله عنه) واسطوانة الوفود، واسطوانة جبرئيل (عليه السلام)، واسطوانة التهجّد(2) .

44 _ قال الشيخ عبد المعطي السقّا: في زيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) إذا أراد الحاج أو المعتمر الانصراف من مكة _ أدام الله تشريفها وتعظيمها _ طلب منه أن يتوجّه إلى المدينة المنوّرة للفوز بزيارته عليه الصلاة والسلام فإنّها من أعظم القربات وأفضل الطاعات وأنجح المساعي المشكورة، ولايختص طلب الزيارة بالحاج غير أنّها في حقّه آكد،


1- مصباح الظلام 2 : 145 _ كما في الغدير 5 : 123.
2- الكفاية لذوي العناية : 125 _ كما في الغدير 5 : 123.

ص: 41

والاولى تقديم الزيارة على الحج إذا اتّسع الوقت فإنّه ربما يعوقه عنه عائق...(1) .

45 _ قال الشيخ محمد زاهد الكوثري: والاحاديث في زيارته(صلى الله عليه وآله)في الغاية من الكثرة، وقد جمع طرقها الحافظ صلاح الدين العلائي في جزء، وعلى العمل بموجبها استمرت الاُمة إلى أن شذّ ابن تيمية عن جماعة المسلمين في ذلك، قال علي القارئ في شرح «الشفاء»: وقد أفرط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرم السفر لزيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله)كما أفرط غيره حيث قال: كون الزيارة قربة معلوم من الدين بالضرورة، وجاحده محكوم عليه بالكفر، ولعل الثاني أقرب إلى الصواب لانّ تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفراً لانّه فوق تحريم المباح المتّفق عليه(2) .

46 _ قال فقهاء المذاهب الاربعة المصريين في (الفقه على المذاهب الاربعة): زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) أفضل المندوبات، وقد ورد فيها أحاديث. ثم ذكروا أحاديث ستة وجملة من أدب السرائر وزيارة النبي (صلى الله عليه وآله) وأُخرى للشيخين(3) .

74 _ قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إجابة عن الاسئلة حول زيارة المسجد النبوي: الزيارة للمسجد النبوي سنّة وليست واجبة _ إلى أن قال _ : وإذا زار المسجد النبوي شرع له أن يصلي في الروضة


1- الارشادات السنية : 260 _ كما في الغدير 5 : 123.
2- الكوثري، تكملة السيف الصقيل : 156، ط دمشق.
3- الفقه على المذاهب الاربعة 1 : 590.

ص: 42

ركعتين ثم يسلّم على النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، كما يشرع له زيارة البقيع والشهداء بالسلام على المدفونين هناك من الصحابة وغيرهم، والدعاء لهم والترحّم عليهم، كما كان النبيّ(صلى الله عليه وآله) يزورهم وكان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الدار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية. وفي رواية عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه كان يقول إذا زار البقيع: «يرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، اللّهم اغفر لاهل بقيع الغرقد» ويشرع أيضاً لمن زار المسجد النبوي أن يزور مسجد قباء ويصلّي فيه ركعتين لانّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يزوره كل سبت ويصلّي فيه ركعتين إلى آخر ما قال(1) .

وتمّت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلماته

وهو السميع العليم


1- جريدة الجزيرة المؤرخة: يوم الجمعة 24 ذو القعدة 1411، العدد 6826.

ص: 43

3_ زيارة النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله) في الكتاب العزيز

أمر القرآن الكريم المسلمين بالحضور عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)ليستغفر لهم الله، لانّ دعاءه يستجاب فيهم، قال عزّ وجلّ: (ولو أنَّهم إذْ ظَلَمُوا أنفسَهُم جاءُوكَ فَاستغفَرُوا اللهَ واستغفَرَ لهُمُ الرَّسولُ لَوجَدوا اللهَ تَوّاباً رَحِيماً) (النساء/64).

قال الامام السبكي: «دلّت الاية على الحث على المجيء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لاتنقطع بموته تعظيماً له»(1) .

ثم إنّه بسط الكلام في دلالة الاية على شمولية المجيء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد موته، فمن أراد فليراجع إليه، غير أنّا نستدلّ بالاية


1- الامام السبكي، شفاء السقام : 81.

ص: 44

بوجه آخر ونقول:

لو كانت هذه الاية هي الوحيدة في هذا المجال، لذهبنا إلى القول بأنّها خاصّة بحياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومدة تواجده بين الناس، ولكنّنا نستخلص منها حكماً عامّاً شاملاً لايختص بالحياة الدنيوية وذلك من خلال ما يلي:

أوّلاً:

إنّ القرآن الكريم يصرّح بحياة الانبياء والاولياء _ وجماعات أُخرى _ في البرزخ ويعتبرهم مبصرين وسامعين في ذلك العالم.

ثانياً:

إنّ الاحاديث الشريفة تصرّح بأنّ الملائكة تبلغ خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله) سلام من يسلّم عليه، فقد جاء في الصحاح:

«إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما من أحد يسلّم عليَّ إلاّ ردّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام»(1) .

وقال (صلى الله عليه وآله): «صلّوا عليّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم»(2) .

ثالثاً:

إنّ المسلمين _ منذ ذلك اليوم _ فهموا من هذه الاية معنى مطلقاً لاينتهي بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أنّ بعض الاعراب _ بوحي من أذهانهم الخالصة من كل شائبة _ كانوا يقصدون قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)ويزورونه ويتلون هذه الاية عند قبره المطهّر ويطلبون منه الاستغفار لهم.

وقد ذكر تقيّ الدين السبكي في كتاب «شفاء السقام»


1- سنن أبي داود 1 : 470و471، كتاب الحج، باب زيارة القبور.
2- الشيخ منصور علي ناصف، التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول 2 : 189.

ص: 45

والسمهودي في كتاب «وفاء الوفا» نماذج من زيارة المسلمين لقبر رسول الله وتلاوة هذه الاية عند قبره الشريف، وفيما يلي نذكر بعض تلك النماذج:

روى سفيان بن عنبر عن العتبي _ وكلاهما من مشايخ الشافعي وأساتذته _ أنّه قال: كنت جالساً عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجاء أعرابيّ فقال:

«السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: (ولو أنَّهم إذْ ظَلموا أنفسَهُم جاءُوكَ فَاستغفَرُوا اللهَ واستغفَرَ لهُمُ الرَّسولُ لَوجَدوا اللهَ تَوّاباً رَحيما) وقد جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربّي». ثم بكى وأنشأ يقول:

يا خيرَ من دفنت في القاع أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاعُ والاكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم استغفر وانصرف(1) .

ويروي أبو سعيد السمعاني عن الامام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) انّ أعرابياً جاء بعد ثلاثة أيام من دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرمى بنفسه على القبر الشريف وحثا من ترابه على رأسه وقال: «يارسول الله قلتَ فسمعنا قولك، ووعيت عن الله ما وعينا عنك، وكان فيما أنزله عليك: (ولو أنَّهم إذْ ظَلموا أنفسَهُم...) وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي إلى


1- وفاء الوفا 4 : 1361 _ أحمد زيني دحلان، الدرر السنيّة : 21.

ص: 46

ربّي(1) .

إنّ كل هذا يدل على أنّ المنزلة الرفيعة التي منحها الله تعالى لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله) كما صرّحت بها هذه الاية ليست خاصّة بحياته، بل تؤكّد على أنّها ثابتة له بعد وفاته أيضاً.

وبصورة عامّة... يَعتبر المسلمون كلّ الايات النازلة في تعظيم رسول الله واحترامه، عامّة لحياته وبعد مماته، وليس هناك من يُخصِّصها بحياته (صلى الله عليه وآله).

وقد جاء فى التاريخ: لمّا استُشهد الامام الحسن بن عليّ (عليهما السلام)وجيء بجثمانه الطاهر إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ظنّ بنو أُمية أنّ بني هاشم يريدون دفن الامام بجوار قبر جدّه المصطفى فأثاروا الفتنة والضجّة للحيلولة دون ذلك، فتلا الامام الحسين (عليه السلام)قوله تعالى: (يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَرفَعُوا أصواتَكُمْ فَوقَ صَوتِ النَّبِيِّ) (الحجرات/2).

ولم يردَّ عليه أحد _ حتى من الامويين _ بأن هذه الاية خاصة بحياة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

واليوم نصب المسلمون هذه الاية على الجدار المقابل لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهم يقصدون بذلك المنع من رفع الاصوات هناك.

ومن هذا المنطلق يمكننا أن نستنتج من الاية معنىً واسعاً عامّاً، وهو أنّ للمسلمين اليوم أن يَقِفوا أمام قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)ويسألوه أن يستغفر الله لهم.


1- ابن حجر، الجوهر المنظم، وذكره السمهودي في وفاء الوفا 2 : 612، وزيني دحلان في الدرر السنية : 21.

ص: 47

وليس لزيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) معنى سوى ما تضمّنته هذه الاية وأمثالها، فانها تدلّ على موضوعين هما:

1 _ إنّ للانسان أن يقف عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته ويسأله أن يستغفر الله له.

2 _ إنّ هذه الاية تشهد على جواز زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) لانّ حقيقة الزيارة لا تعني سوى «حضور الزائر عند المزور» فإذا كان الوقوف عند قبر النبي وسؤاله أن يستغفر الله له جائزاً فقد تحقق أمران:

أ _ سألناه أن يستغفر الله لنا.

ب _ حضرنا عنده وتحدّثنا إليه، والزيارة ليست إلاّ هذا.

ص: 48

4_ زيارة النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله) في السنّة النبوية

اشارة

تضافرت السنّة على استحباب زيارة قبر النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله حيث رواها أئمة المذاهب الأربعة وأصحاب السنن والمسانيد في كتبهم. ولمّا ظهرت بدعة التشكيك في زيارة النبيّ الأكرم قام الإمام تقي الدين السبكي (م/ 754 ه) بجمع ما رواه الحفّاظ في هذا المجال فبلغت خمسة عشر حديثاً، وقد صحّح كثيراً من أسانيدها بما كان له من اطّلاع واسع في مجال رجال الحديث (1).

وممّن قام بنفس العمل الحافظ نور الدين علي بن أحمد السمهودي في كتابه «وفاء الوفا باخبار دار المصطفى» (م/ 911 ه) حيث أحصى سبعة عشر حديثاً غير ما ورد في ذلك المجال، ولم يشتمل على لفظ «الزيارة» (2).


1- السبكي، شفاء السقام في زيارة خير الأنام، الباب الأول 5- 39.
2- السمهودي، وفاء الوفا 4: 1336- 1348، الباب الثاني.

ص: 49

وقد قام بنفس ما قام به الإمام السبكي من تصحيحٍ للاسناد وذِكر لمصادر الروايات على وجه بديع.

من جهة أُخرى قام الكاتب الإسلامي الشيخ محمد الفقي، من علماء الأزهر الشريف، بجمع ما ورد في زيارة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله من غير تحقيق للاسناد بل مجرد النقل فبلغ اثنين وعشرين حديثاً (1).

وبذل المجاهد الكبير الشيخ الأميني جهداً كبيراً في العثور على مظانّ الروايات في كتب الحديث والتفسير والتاريخ، وربما نقل بعض الأحاديث، كالحديث الأول، عن واحد وأربعين مصدراً.

والأحاديث التي سنسردها على صفحات هذه الرسالة من الكثرة ما يغنينا عن التحقيق في أسانيدها ورواتها حيث سجّلها الحفّاظ في كتبهم وصحاحهم، وهي بمجموعها كافية للحكم باستحبابها، ولأجل ذلك سنكتفي بذكر متون الأحاديث مجرّدة عن الاسناد وما دار حول رواتها من كلام للرجاليين، تاركين كل ذلك إلى كتاب شفاء السقام للإمام السبكي وسنذكر بعض المصادر لكل حديث دون الاستيعاب لجميعها.

الحديث الأول:

روى الدار قطني في سننه بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (2).

ورواه البيهقي أيضاً في سننه (3)، والماوردي: في الأحكام


1- الفقي، التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية: 48- 50.
2- الدار قطني، السنن 2: 278، باب المواقيت، الحديث 194، ط دار المحاسن، القاهرة.
3- البيهقي، السنن 5: 245.

ص: 50

السلطانية (1).

إلى غير ذلك من الحفّاظ الذين نقلوه في كتبهم (2).

الحديث الثاني: روى الطبراني في المعجم الكبير (3)، والغزالي في إحياء العلوم (4)، عن عبد اللَّه بن عمر مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه و آله: «من جاءني زائراً لا تَحمِلُه حاجة إلّازيارتي كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

الحديث الثالث: أخرج الدار قطني عن عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حجَّ فزار قبري بعد وفاتي، فكأنّما زارني في حياتي» (5).

وأخرجه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه (6) ورواه الإمام السبكي في شفاء السقام (7) والسمهودي في وفاء الوفا (8).


1- أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية: 105.
2- أخرجه العلّامة الأميني عن واحد وأربعين مصدراً حديثياً وفقهياً- أُنظر: الغدير 5: 93- 96.
3- الطبراني، المعجم الكبير.
4- الغزالي، إحياء العلوم 1: 306، وفيه «لايهمّه إلّازيارتي» مكان قوله: «لاتحمله»- وقدنقله الإمام السبكي، في شفاء السقام: 16- والسمهودي، في وفاء الوفا 4: 1340- ونقله العلّامة الأميني عن ستة عشر مصدراً حديثياً وفقهياً في الغدير 5: 97 و 98.
5- الدار قطني، السنن 7: 278، باب المواقيت، الحديث 192.
6- البيهقي، السنن 5: 246.
7- السبكي، شفاء السقام: 21.
8- السمهودي، وفاء الوفا 4: 1340- ورواه العلّامة الأميني عن خمسة وعشرين مصدراً في الغدير 5: 98- 100.

ص: 51

الحديث الرابع: أخرج الدار قطني عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني بعد موتي، فكأنّما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بُعث من الآمنين يوم القيامة» (1).

الحديث الخامس: أخرج البيهقي في سننه قال:

روى ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زار قبري (أو من زارني) كنت له شفيعاً (أو شهيداً)» (2).

الحديث السادس: أخرج الحافظ ابن عدي (م/ 365 ه) في كتابه الكامل عن عبد اللَّه بن عمر أنّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني» (3).

الحديث السابع: روي عن أنس بن مالك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً» (4).

الحديث الثامن: روى أنس بن مالك أنّه قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني ميتاً فكأنّما زارني حيّاً، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أُمتي له سعة ثم لم يزرني، فليس له عذر» (5).


1- الدار قطني، السنن 2: 278، باب المواقيت، الحديث 193- ورواه الإمام السبكي في شفاء السقام: 233- والسمهودي، في وفاء الوفا 4: 1344- ونقله العلّامة الأميني في الغدير 5: 101، عن ثلاثة عشر مصدراً حديثياً.
2- البيهقي، السنن الكبرى 5: 245- ورواه الإمام السبكي، في شفاء السقام: 29- والسمهودي، في وفاء الوفا 4: 1342. وقال: أخرجه الدار قطني في السنن.
3- الإمام السبكي، شفاء السقام: 27- ونقله السمهودي، في وفاء الوفا 4: 1342- وقد ذكر اسناد ابن عدي إلى ابن عمر، ونقله العلّامة الأميني عن مصادر تسعة في الغدير 5: 100.
4- رواه الإمام السبكي في شفاء السقام بسنده إلى أنس بن مالك: 35- كما رواه السمهودي في وفاء الوفا عن ابن أبي الدنيا بسنده إلى أنس 4: 1345- ورواه العلامة الأميني عن واحد وعشرين مصدراً، الغدير 5: 102 و 103.
5- السبكي، شفاء السقام: 37- وأخرجه السمهودي عن كتاب ابن النجار في أخبار المدينة بسنده عن أنس 4: 1345- ونقله العلّامة الأميني عن مصادر ستة في الغدير 5: 104.

ص: 52

الحديث التاسع: روى علقمة عن عبد اللَّه بن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حجّ حجّة الإسلام وزار قبري وغزا عزوة وصلّى عليَّ في بيت المقدس لم يسأله اللَّه عزّ وجلّ فيما افترض عليه» (1).

الحديث العاشر: أخرج الفردوس في مسنده عن ابن عباس أنّه قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حجّ إلى مكّة ثم قصدني في مسجدي كُتِبَت له حجّتان مبرورتان» (2).

*** واكتفينا بهذا العدد من الروايات ومن أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى المصادر، وبما أنّ الشيخ محمد الفقي قد جمع متون الروايات بشكل موجز نذكر ما جمعه وإن مضى ذكر قسم منها:

تجريد المتون عن الأسانيد

ويستحبّ زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله لما روى الدار قطني باسناده عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي» وفي رواية: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه باللفظ الأوّل سعيد، ثنا حفص بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر. وقال أحمد في رواية عبد اللَّه بن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة: إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «ما من أحد يسلّم عليَّ عند قبري إلّاردّ اللَّهُ عليَّ روحي


1- السبكي، شفاء السقام: 303، عن كتاب الفوائد لأبي الفتح الأزدي- وأخرجه السمهودي، في وفاء الوفا 4: 1344- والعلامة الأميني في غديره 5: 102 عن مصادر خمسة.
2- السمهودي، وفاء الوفا 4: 1347- ورواه الشوكاني في نيل الأوطار 4: 326.

ص: 53

حتى أرد عليه السلام» رواه أبو داود بدون زيادة «عند قبري».

فإقراره للزيارة وتقريره لها اعتراف بالغ الأهمية باستحبابها وروعة الترغيب فيها، وانتصار للحقّ ووقوف بجانبه، ولا يمكن أن يوصف ذلك الإمام بالتحيّز، ولاينبغي أن يرمى بضعف التقدير، إذ إنّ إقراره ذلك يتّفق تماماً مع هدى الدين والرسائل السماوية والأحاديث النبوية المتعددة الطرق المختلفة الأسانيد، والتي ندعها وحدها تتكلم عن مدى تقدير الزيارة وعظم اهتمام الشارع بها، وما تتجلّى عنه من مزايا واسعة الآفاق كبيرة النوال:

1- عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه ابن خزيمة في صحيحه.

2- وعن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني في قبري حلّت له شفاعتي يوم القيامة» رواه ابن أبي الدنيا.

3- وعن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زار قبري حلّت له شفاعتي يوم القيامة» رواه الدار قطني.

4- وعن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي» رواه العقيلي.

5- وعن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني بالمدينة بعد موتي كنت له شفيعاً يوم القيامة» رواه أبو داود الطيالسي.

6- وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حيّ» رواه الحافظ سعيد بن محمد.

7- وعن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني حتى

ص: 54

ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو شفيعاً» رواه العقيلي.

8- وعن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من جاءني زائراً لا تعلم له حاجة إلّازيارتي كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً» رواه الدارقطني.

9- وعن بكر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من أتى المدينة زائراً إليَّ وجبت له شفاعتي يوم القيامة» رواه يحيى بن حسين.

10- وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» رواه ابن مردويه.

11- وعن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» رواه أبو عوانة.

12- وعن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زارني بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي» رواه ابن عدي.

13- وعن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه ابن النجار.

14- وعن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من جاءني زائراً لا تعمده حاجة إلّازيارتي كان حقّاً عليَّ أن أكون له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة» رواه الطبراني.

15- وعن ابن عباس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حجّ إلى مكّة ثم قصدني في مسجدي كُتِبَت له حجّتان مبرورتان» رواه الديلمي في مسند الفردوس.

16- وعن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من جاءني زائراً لا يهمّه إلّازيارتي كان حقّاً على اللَّه أن أكون له شفيعاً يوم القيامة» رواه

ص: 55

الطبراني وصحّحه ابن السكن.

17- وعن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ما من أحد من أُمّتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر» رواه ابن النجار.

18- وعن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من وجد سعة ولم يفد إليّ فقد جفاني» رواه ابن حبّان.

19- وعن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لا عذر لمن كان له سعة من أُمتي أن لا يزورني» رواه ابن عساكر.

20- وعن ابن عمر: «من حج وزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» رواه سعيد بن منصور.

21- وعن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حجّ ولم يزر قبري فقد جفاني» رواه ابن عساكر.

22- وعن ابن عمر: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» رواه ابن عدي بسند حسن (1).

زيارة النبيّ الأكرم في حديث العترة

تضافر الحديث عن العترة الطاهرة حول زيارة قبر النبيّ الاكرم(صلى الله عليه وآله)نقتبس منه ما يلي:

1 _ روى الحميري (م/299ه_) عن هارون، عن ابن صدقة عن الصادق عن أبيه الباقر (عليهما السلام) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من زارني حيّاً وميّتاً، كنت


1- محمد الفقي، التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية: 48 و 49.

ص: 56

له شفيعاً يوم القيامة»(1) .

2 _ روى الصدوق (م/630_381ه_) بسنده عن الامام عليّ (صلوات الله عليه): «أتمّوا برسول الله حجّكم، إذا خرجتم إلى بيت الله، فإنّ تركه جفاء وبذلك أُمرتم، وأتمّوا بالقبور التي ألزمكم الله زيارتها وحقّها»(2) .

3 _ روى الصدوق بسنده عن الامام الرضا (عليه السلام) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من زارني في حياتي وبعد موتي فقد زار الله تعالى...»(3) .

4 _ روى الصدوق عن إبراهيم بن أبي حجر الاسلمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من أتى مكّة حاجّاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن جاءني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة»(4) .

5 _ روى ابن قولويه (م/963ه_) عن أبي حجر الاسلمي قال: قال رسول الله (وذكر مثل ماسبق وزاد في آخره) «ومن مات في أحد الحرمين _ مكّة أو المدينة _ لم يعرض إلى الحساب ومات مهاجراً إلى الله وحشر يوم القيامة مع أصحاب بدر»(5)

6 _ روى الصدوق بسنده عن المعلى بن شهاب عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: قال الحسن بن عليّ (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أبتاه ما جزاء


1- الحميري، قرب الاسناد : 31 _ والمجلسي، البحار 97 : 139.
2- الصدوق، الخصال 2 : 406 _ المجلسي، البحار 97 : 139.
3- الصدوق، عيون أخبار الرضا 1 : 115 _ المجلسي، البحار 97 : 140.
4- الصدوق، علل الشرائع : 460 _ المجلسي، البحار 97 : 140.
5- ابن قولويه، كامل الزيارات : 460 _ المجلسي، البحار 97 : 140.

ص: 57

من زارك؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يابني: من زارني حياً أو ميّتاً أو زار أباك أو أخاك أو زارك كان حقّاً عليَّ أن أزوره يوم القيامة فأُخلِّصه من ذنوبه(1) .

7 _ روى ابن قولويه بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة»(2) .

8 _ روى ابن قولويه عن ابن أبي نجران قال: قلت لابي جعفر الثاني (الامام الجواد (عليه السلام) : جعلت فداك، ما لمن زار رسول الله (صلى الله عليه وآله)متعمّداً؟ قال: «له الجنّة»(3) .

9 _ روى ابن قولويه باسناده عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن عليّ بن أبي طالب قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي وكنت له شهيداً أو شافعاً يوم القيامة»(4).

10 _ روى ابن قولويه بسنده عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إليَّ في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إليَّ بالسلام فإنّه يبلغني»(5) .

نكتفي بهذا القدر من الروايات، وبهذا يتضح اتفاق الفريقين على استحباب زيارة قبر النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله)، وقد بلغ الاتفاق إلى حدّ نرى وحدة المضمون بل التعبير في رواياتهم، وهناك روايات أُخرى عن العترة الطاهرة لم نذكرها روماً للاختصار.


1- الصدوق، علل الشرائع : 460 _ المجلسي، البحار 97 : 140.
2- ابن قولويه، كامل الزيارات : 12 _ المجلسي، البحار 97 : 142.
3- المصدر نفسه، وفي البحار : 143.
4- المصدر نفسه : 13، والمصدر الثاني نفسه.
5- المصدر نفسه: 14، والمصدر الثاني : 144.

ص: 58

ومن تجرّد عن الرأي المسبق أو التشكيك الذي أثاره بعض الناس، ونظر إلى كلمات أعلام المذاهب وروايات الفريقين يحصل له القطع واليقين على أنّ استحباب زيارته (صلى الله عليه وآله) من الاُمور الواضحة في الشريعة الاسلامية الغرّاء، وأنّ التشكيك فيها تشكيك في الاُمور المسلَّمة والمتَّفق عليها.

ص: 59

5_ شدّ الرحال إلى زيارة النبيّ الاكرم(صلى الله عليه وآله)

اشارة

إذا كانت زيارة النبيّ الاكرم أمراً مطلوباً وعملاً مستحبّاً كما دلّت عليه الروايات المتضافرة والسيرة القطعية يكون شدّ الرحال، الذي هو بمنزلة المقدمة أمراً مستحبّاً، بناءً على الملازمة بين استحباب الشيء واستحباب مقدمته، كما عليه أكثر الاُصوليين، وهذا له نظائر في الشريعة الاسلامية، تحكي أنّ وسيلة القربة، قربة قال سبحانه: (ومَنْ يَخْرُج مِنْ بَيتِه مُهاجراً إلى اللهِ ورَسُولهِ ثُمَّ يُدرِكْهُ المَوتُ فَقَدْ وَقعَ أجرُهُ عَلى اللهِ) (النساء/100) فهذا الانسان مأجور بخروجه هذا وإن كان مقدمة لامر مطلوب آخر.

يقول سبحانه في حقّ المجاهدين: (ذلكَ بأنَّهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبيلِ اللهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفّارَ ولا يَنالُونَ مِن عَدُوّ نَيلاً إلاّ كُتِبَ لَهُم بهِ عَملٌ صالِحٌ إنَّ اللهَ لايُضِيعُ أجرَ

ص: 60

الُمحْسِنِينَ * ولا يُنفِقُونَ نَفقةً صَغيرةً ولا كَبيرةً ولا يَقطعُونَ وادِياً إلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجزِيَهُمُ اللهُ أحسنَ ما كانوا يَعملونَ) (التوبة/120_121).

وهذه الاُمور التي كتب الله لهم بها أجراً، وسيلة الجهاد، ومقدمة للقتال، وهذا يكشف عن التلازم بين الاستحبابين، أو الثوابين.

نعم، ذهب بعض الاُصوليين إلى عدم الملازمة ولكنّهم متّفقون على لزوم كون المقدمة مباحة لا محرّمة، لاستلزامه التناقض في التشريع، حيث لا يعقل البعث إلى أمر، مع المنع عمّا يوصل المكلف إليه، وعلى كل تقدير لا يصحّ تحريم السفر مع افتراض كون الزيارة أمراً راجحاً، وفعلاً مستحبّاً فلا محيص إلاّ بالقول باستحبابه، أو إباحته. ولا تجتمع حرمة المقدمة مع استحباب ذيها.

نعم، هنا فرق بين زيارة قبر النبيّ، وزيارة قبور المسلمين، فإنّ الاوّل مستحبّ بالخصوص، بخلاف الاخرين فإنّها مسنونة على وجه العموم فلو زار إنسان قبر أبيه أو أخيه، فإنّما يزورهما بما أنّ زيارتهما داخلة تحت عموم قوله (صلى الله عليه وآله): «فزوروا القبور، فإنّ زيارتها تذكّركم الاخرة»، وهذا بخلاف زيارة الرسول فإنّها _ مضافاً إلى أنّها داخلة تحت العموم _ مستحبة في نفسها.

وقد جرت سيرة المسلمين من عصر الصحابة إلى يومنا هذا على شدِّ الرحال إلى زيارة النبيّ الاكرم وعدّوا زيارتها قربة، والسفر إليها مثلها، ولم ينكر أحد قربية الزيارة ولا جواز السفر إلاّ ابن تيمية في أوائل القرن الثامن لشبهة طرأت له، وسنتعرض لها في فصل مستقل.

ولاجل إيقاف القارئ على اتصال السيرة إلى عصر الصحابة نذكر

ص: 61

بعض مايدلّ عليه:

1 _ روى ابن عساكر بإسناده عن أبي الدرداء قال: لمّا فرغ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)عن فتح بيت المقدس فصار إلى الجابية سأله بلال أن يقرَّه بالشام ففعل ذلك _ إلى أن قال _: ثم إنّ بلالاً رأى في منامه رسول الله وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال، فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه فأقبل الحسن والحسينَ (رضي الله عنهما) فجعل يضُمّهما ويقبّلهما فقالا له: نشتهي أذانَك الذي كنت تؤذِّن به لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد ففعل، فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه فلمّا أن قال: الله أكبر، الله أكبر، ارتجّت المدينة، فلمّا أن قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، إزدادت رجّتها، فلمّا أن قال: أشهد أنّ محمداً رسول الله، خرجت العواتق من خدورهنّ وقالوا: بُعِثَ رسول الله. فما رؤي يوم أكبر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله من ذلك اليوم(1) .

2 _ استفاض عن عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) أنّه كان يُبرِد البريد من الشام إلى المدينة يقول: سلِّم لي على رسول الله، روى ابن الجوزي: «وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرئ النبيّ ثم يرجع»(2) .


1- ابن عساكر، مختصر تاريخ دمشق 5 : 265 _ الحافظ جمال الدين المزّي، تهذيب الكمال 4 : 289.
2- ابن الجوزي، مثير الغرام الساكن.

ص: 62

وربّما كان يجتمع مع قصد الزيارة قصد أمر آخر. فكان يُشَدّ لغايتين.

3 _ روى يزيد بن أبي سعيد، مولى المهري قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز فلمّا ودّعته قال: إليك حاجة إذا أتيت المدينة سترى قبر النبيّ فاقرأه منّي السلام(1) .

4 _ روى أبو الليث السمرقندي الحنفي في الفتاوي في باب الحج: قال أبو القاسم: لمّا أردت الخروج إلى مكّة قال القاسم بن غسان: إنّ لي إليك حاجة، إذا أتيت قبر النبي فاقرأه منّي السلام، فلمّا وضعت رحلي في مسجد المدينة ذكرت.

قال الفقيه: فيه دليل إن لم يقدر على الخروج يأمر غيره ليسلّم عنه فإنّه ينال فضيلة السلام(2).

5 _ روى الواقدي في فتوح الشام: كان أبو عبيدة منازلاً بيت المقدس فأرسل كتاباً إلى عمر مع ميسرة بن مسروق (رضي الله عنه) يستدعيه الحضور، فلما قدم ميسرة مدينة رسول الله دخلها ليلاً ودخل المسجد وسلّم على قبر رسول الله وعلى قبر أبي بكر (رضي الله عنه)... ثم إنّ عمر لمّا صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الاحبار وأسلم وفرح عمر بإسلامه قال عمر (رضي الله عنه) له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتتمتع بزيارته، فقال لعمر يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك، ولما قدم عمر


1- الامام السبكي، شفاء السقام : 56.
2- المصدر نفسه.

ص: 63

المدينة، أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله(1) .

6 _ قال ابن بطة العكبري الحنبلي (م/387ه_) في كتاب الابانة عن شريعة الفرقة الناجية: «إنّ كل عالم من علماء المسلمين وفقيه من فقهائهم ألَّف كتاباً في المناسك ففصّله فصولاً وجعله أبواباً، يذكر في كل باب فقهه، ولكل فصل عمله وما يحتاج إليه الحاج إلى عمله والعمل به قولاً وفعلاً من الاحرام والطواف والسعي والوقوف، والنحر، والحلق، والرمي، وجميع ما لا يسع الحاج جهله، ولا غنى بهم عن عمله، حتى زيارة قبر النبي فيصف ذلك فيقول: تأتي القبر فتستقبله وتجعل القبلة وراء ظهرك وتقول: السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، حتى تصف السلام والدعاء ثم يقول: وتتقدم على يمينك وتقول السلام عليك يا أبا بكر وعمر. _ إلى أن قال _ : ولقد أدركنا الناس ورأيناهم وبلغنا عمّن لم نره أنّ الرجل إذا أراد الحج فسلم عليه أهله وصحابته قالوا: وتقرأ على النبي وأبي بكر وعمر منّا السلام فلا ينكر ذلك أحد ولا يخالفه(2) .

إطباق السلف والخلف على جواز السفر

جرت سيرة المسلمين على زيارة الرّسول _ عند الوفود إلى الحج _ بالمرور بالمدينة أو رجوعاً من مكة إليها، و هذا أمر ملموس وظاهر مشهود من الوافدين من كل فجّ عميق، وعلى ذلك جرت السيرة


1- الواقدي، فتوح الشام 1 : 244، طبعة دار الجيل، بيروت.
2- أبو عبد الله ابن بطة، في الابانة عن شريعة الفرق الناجية _ كما في شفاء السقام : 60.

ص: 64

في جميع القرون، فلا يمكن لاحد إنكارها، بل هي كاشفة عن استحبابها عند الشرع، وهذا هو الامام السبكي يذكر سيرة المسلمين في أيام الحج ويقول: إنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحجَّ يتوجّهون إلى زيارته (صلى الله عليه وآله) ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الاعصار القديمة، وذلك أمر لا يرتاب فيه، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه، وإن لم يكن في طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الاموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة. وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الارض ومغاربها على ممرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء، وغيرهم يستحيل أن يكون خطأً، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى الله عزّ وجلّ، ومن تأخّر عنه من المسلمين فإنّما يتأخّر بعجز أو تعويق المقادير، مع تأسّفه وودّه لو تيسّر له، ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ.

ومن نازع في ذلك وقال فانّهم يقصدون من سفرهم زيارة المسجد، لا زيارة الرسول الاكرم، فلم ينصف وكابر في أمر بديهي فإنّ الناس من حين يعرجون إلى طريق المدينة، لا يخطر ببالهم غير الزيارة من القربات إلاّ قليلاً منهم، وغرضهم الاعظم هو الزيارة ولو لم يكن ربّما لم يسافروا، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه وليس الصلاة فيه بأقل ثواباً من الصلاة في مسجد النبيّ(1) .


1- الامام السبكي، شفاء السقام : 100و101.

ص: 65

حديث عدم شدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة

لقد تجلّى جواز السفر إلى زيارة النبيّ الاكرم ولم يبق في المقام سوى ما رواه أبو هريرة عن رسول الله من عدم شدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة، وهو المستمسك الوحيد اليوم لمن يحرّم السفر، وإليك توضيحه:

إنّ الرواية نقلت بصور مختلفة، والمناسب لما يرومه المستدلّ الصورة التالية:

«لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام ومسجد الاقصى».

فتحليل الحديث يتوقّف على تعيين المستثنى منه وهو لا يخلو من صورتين:

1 _ لا تُشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة مساجد...

2 _ لا تُشدّ الرحال إلى مكان من الامكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد...

فلو كانت الاُولى كما هو الظاهر، كان معنى الحديث النهي عن شدّ الرحال إلى أي مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة، ولا يعني عدم جواز شدِّ الرحال إلى أيّ مكان من الامكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً، فالحديث يكون غير متعرض لشدّ الرحال لزيارة الانبياء والائمة الطاهرين والصالحين، لانّ موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد، وأمّا غير ذلك فليس داخلاً فيه، فالاستدلال به على تحريم شد الرحال إلى غير المساجد، باطل.

وأمّا الصورة الثانية: فلا يمكن الاخذ بها إذ يلزمها كون جميع السفرات محرّمة سواء كان السفر لاجل زيارة المسجد أو غيره من

ص: 66

الامكنة، وهذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء.

ثم إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً، وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر كهذا، وذلك لانّ المساجد الاُخرى لاتختلف من حيث الفضيلة، فالمساجد الجامعة كلّها متساوية في الفضيلة، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنّهما متماثلان.

وفي هذا الصدد يقول الغزالي: «القسم الثاني، وهو أن يسافر لاجل العبادة إمّا لحجّ أو جهاد... ويدخل في جملته زيارة قبور الانبياء(عليهم السلام) وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والاولياء، وكلّ من يُتبرَّك بمشاهدته في حياته يُتبّرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله (صلى الله عليه وآله): «لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام ومسجد الاقصى»، لانّ ذلك في المساجد، فانّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلاّ فلا فرق بين زيارة قبور الانبياء والاولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله(1).

يقول الدكتور عبد الملك السعدي: إنّ النهي عن شد الرحال إلى المساجد الاخرى لاجل أنّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب، لانّه في الثواب سواء، بخلاف الثلاثة لانّ العبادة في المسجد


1- الغزالي، إحياء علوم الدين 2 : 247، كتاب آداب السفر، ط دار المعرفة، بيروت.

ص: 67

الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وفي المسجد الاقصى بخمسمائة فزيادة الثواب تُحبِّب السفر إليها وهي غير موجودة في بقية المساجد(1) .

والدليل على أنّ السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرّماً، ما رواه أصحاب الصحاح والسنن: «كان رسول الله يأتي مسجد قبا راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين»(2) .

ولعلّ استمرار النبي على هذا العمل كان مقترناً لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قبا والصلاة فيه مع كون الصلاة فيه أقلّ ثواباً من الثواب في مسجده.

دراسة كلمة ابن تيمية في النهي عن شدّ الرحال

إنّ لابن تيمية في المقام كلمة فيها مغالطة واضحة، إذ مع أنّه قدّر المستثنى منه لفظ المساجد، إلاّ أنّه استدلّ على منع شدّ الرحال لزيارة قبور الانبياء والصالحين بمدلوله أي القياس الاولوي، فقال في الفتاوى:

«فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الائمة الاربعة بل قد نهى عنه الرسول (صلى الله عليه وآله) فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتّخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها وتدعى من دون الله، حتى أنّ كثيراً من معظّميها يفضّل الحجّ إليها على


1- الدكتور عبد الملك السعدي، البدعة : 60.
2- مسلم، الصحيح 4 : 127 _ البخاري، الصحيح 2 : 76 _ النسائي، السنن 2 : 137، المطبوع مع شرح السيوطي.

ص: 68

الحج إلى بيت الله»(1) .

ولو صحّ ذلك النقل عن ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتى إليك بيانها:

1 _ قال: «إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع».

يلاحظ عليه:

من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم؟! وقد عرفت أنّ النهي ليس تحريمياً مولوياً وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى، ولاجل ذلك لو ترتّبت على السفر مصلحة لجاز كما عرفت في سفر النبيّ إلى مسجد قبا مراراً.

2 _ نسب عدم المشروعية إلى الائمة الاربعة، إلاّ أنّنا لم نجد نصّاً منهم على التحريم، ووجود الحديث في الصحاح لا يدلّ على انّهم فسّروا الحديث بنفس ما فسّر به ابن تيمية.

ولا يخفى على الائمة ظهور الحديث في الدلالة على عدم الجدوى، لا كون العمل محرّماً.

3_ أنّ عدم جواز السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلاً على عدم جوازه إلى (بُيوت أذِنَ اللهُ أنْ تُرفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ) (النور/36) إذ لا ملازمة بينهما، لانّه لا تترتب على السفر في غير مورد الثلاثة أية فائدة سوى تحمّل عناء السفر، وقد عرفت أنّ فضيلة أي جامع في بلد، نفسها في البلد الاخر، وليس اكتساب الثواب متوقّفاً على السفر، وهذا بخلاف المقام فإنّ درك فضيلة قبر النبيّ يتوقف على السفر، ولا


1- ابن تيمية، الفتاوى _ كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي.

ص: 69

يدرك بدونه.

4 _ يقول: «إنّ المسلمين يتّخذون قبور الانبياء أوثاناً وأعياداً ويشرك بها» (كَبُرَتْ كَلِمَةٌ تَخْرُجُ مِنْ أفْواهِهِمْ) أفمن يشهد كلّ يوم بأنّ محمداً عبده ورسوله ويكرمه ويعظّمه لانّه سفير التوحيد ومبلّغه _ أفهل _ يمكن أن يتّخذ قبره وثناً؟!

5 _ يقول: «تدعى من دون الله» إنّ عبادة الغير حرام لا مطلق دعوته، فعامة المسلمين حتى ابن تيمية يقولون في صلاتهم: «السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته». والمراد من قوله سبحانه: (ولا تَدْعوا معَ اللهِ أحداً) (الجن/18) لا تعبدوا مع الله أحداً. قال سبحانه: (ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُم إنَّ الَّذينَ يَستَكْبرونَ عَنْ عبادَتي سَيَدْخُلونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ) (غافر/60) فسمّى سبحانه دعوته: عبادة. فإذاً الدعوة على قسمين: دعوة عبادية إذا كان معتقداً بإلوهية المدعوّ بنحو من الانحاء، ودعوة غير عبادية، إذا دعاه على أنّه عبد من عباده الصالحين، يستجاب دعاؤه عند الله، والدعوة بهذا النوع تؤكّد التوحيد.

6 _ نَقَل: «إنّ بعض المسلمين يفضّل السفر إلى تلك الاماكن على الحجّ إلى بيت الله» لكنّها فرية بلا مرية، وليس على وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا ويعمل عليه.

7 _ لو كان السفر إلى القبور أمراً محرّماً فلماذا شدّ النبيّ الرحال لزيارة قبر أُمّه بالابواء وهي منطقة بين مكّة والمدينة، أفصار النبيّ _ والعياذ بالله _ مشركاً أو أنّ الرواية التي أطبق المحدّثون على نقلها مكذوبة، والله لا هذا ولا ذاك وإنّما...

ص: 70

8 _ إنّ ما ذكره من أسباب المنع تتحقق للمجاور للقبر بدون شدّ الرحال، فاللازم منع ارتكاب المحرّمات عند قبره لا منع السفر إليه.

9 _ احتمال أنّ المراد من زيارة القبور (زوروا القبور) هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخّص، احتمال ساقط وذلك لانّ «ال» (الجنسية) إذا دخلت على الجمع أبطلت جمعيته وصار المراد بالمدخول أيّ فرد يتحقق به جنس القبر ويستوي في ذلك المفرد والجمع.

10 _ كيف يقال ذلك مع أنّ السيدة عائشة (رض) كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه(1) حتى أنّ النبيّ يخصّ بعض القبور بالزيارة وقد وضع حجرات على قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مظعون وقال: «لتعرف بها قبر أخي» ولا تترتب على التعرّف فائدة سوى زيارته.


1- ابن قدامة، المغني 2 : 270.

ص: 71

6 - شبهات حول زيارة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله

اشارة

استفاضت السنّة النبوية _ كما مر _ على استحباب زيارة الرسول، ودلّت السيرة القطعية طوال القرون، المنتهية إلى عصر الصحابة والتابعين، على أنّها من السنن المطلوبة، وأنّ شدّ الرحال إليها، كشدّ الرحال إلى سائر الاُمور المسنونة، وأكّد أعلام المذاهب على كونها أمراً قُرْبيّاً، لذا فالتشكيك في جواز زيارة الرسول أشبه بالتشكيك في أمر بديهي، ولا غرو في التشكيك فيها، فقد شكك عدّة من فلاسفة الاغريق في أبده الاُمور وأوضحها، حتى شكّوا في كل شيء، بما في ذلك ذواتهم وأنفسِهم، وتفكيرهم وتعقّلهم، حتى في حرارة النار وبرودة الماء، ولولا قيام الحكماء الالهيين كسقراط، وبعده أفلاطون وأرسطو، في وجوه هؤلاء المنسلخين عن الانسانية لعمّت الداء العمياء وجه البسيطة.

ص: 72

وما نذكره في المقام من الشبه والتشكيكات لم يذكره ابن تيمية في كتبه وإنّما نقلها الامام السبكي عن خطه، ويجتّرها أتباعه من دون وعي، وإليك بيانها وتحليلها.

الشبهة الاُولى: في تقسيم الزيارة إلى شرعية وبدعية

إنّ زيارة القبور على قسمين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.

فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام على الميّت والدعاء له إن كان مؤمناً، وتذكّر الموت سواء أكان الميت مؤمناً أم كافراً. والزيارة لقبر المؤمن نبياً كان أو غير نبيّ من جنس الصلاة على جنازته، يدعى له، كما يدعى إذا صُلِّي على جنازته.

وأمّا الزيارة البدعية فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الاشراك بالميت، مثل طلب الحوائج منه أو به أو التمسّح بقبره أو تقبيله أو السجود له ونحو ذلك. فهذا كلّه لم يأمر الله به ورسوله ولا استحبّه أحد من المسلمين، ولا كان أحد من السلف يفعله، لا عند قبر النبي ولا غيره، ولا يسألون ميتاً ولا غائباً سواء كان نبياً أو غير نبي بل كان فضلاؤهم لا يسألون غير الله شيئاً(1) .

يلاحظ عليه: بأمرين:

1 _ حصر الزيارة في قسمين مع أنّها ذات أقسام كما سنذكر.

2 _ إدخال الاُمور الجانبية، كالاستغاثة والسؤال به أو منه في ماهية


1- الامام السبكي، شفاء السقام : 124-125، نقلاً عن خط ابن تيمية.

ص: 73

الزيارة مع أنّها ليست منها، فصار هذا وذاك ذريعة لتبلور الشبهة لديه ولدى أتباعه. وها نحن نذكر معنى الزيارة وأقسامها ليتبيّن أنّ القسم الاخير الذي يقصد فيها الاشراك لا يمتّ لزيارة المسلمين بصلة قبور أكابر الدين ولعلّ الغاية من ذكره دعم الشبهة في أذهان البسطاء.

فالزيارة في اللّغة هو العدول عن جانب والميل إلى جانب آخر، قال ابن فارس: «الزور» أصل واحد يدل على الميل والعدول، ومن هذا الباب الزائر لانّه إذا زارك فقد عدل عن غيرك(1) .

ويظهر من غيره أنّه «بمعنى القصد» وهو لا يخالف ما سبق، لانّ الميل إلى جانب لا ينفك عن القصد، قال الطريحي: زاره يزوره زيارة: قصده فهو زائر، وفي الحديث من زار أخاه في جانب المصر، أي قصد، وفي الدعاء: اللّهمّ اجعلني من زوّارك إني من القاصدين لك، الملتجئين إليك. والزيارة قصد المزور إكراماً له وتعظيماً واستئناساً به(2) .

والظاهر كما يظهر من ذيل كلامه أنّ معناها ليس مجرّد القصد بل القصد المنتهي إلى حضور الزائر لدى المزور لاحدى الغايات المذكورة في كلامه، من التكريم والتعظيم والاستئناس به.

هذا هو معنى الزيارة وليس فيها شيء من الاُمور التي ذكرها ابن تيمية بل هي الحضور عن قصد لدى المزور لاحدى الغايات، وهي تختلف حسب اختلاف المزور شأناً، ومقاماً، ومهنة.

نعم في إمكان الزائر أن يزور الرسول لاحدى الغايات التالية:


1- ابن فارس، مقاييس اللغة 3 : 36.
2- الطريحي، مجمع البحرين 1 : 305.

ص: 74

1 _ أن يزور الرسول (صلى الله عليه وآله) لمجرّد تذكّر الموت والاخرة، وهذا ثابت في زيارة جميع القبور من غير فرق بين الرسول وغيره بل المؤمن والكافر، ودلالة القبور على ذلك متساوية، كما أنّ المساجد _ غير المساجد الثلاثة _ متساوية لا يتعيّن شيء منها بالتعيين بالنسبة إلى هذا الغرض، ولا معنى لشدّ الرحال إلى المدينة لزيارة الرسول لتلك الغاية المتحققة في زيارة كلّ قبر في بلد الزائر النائي.

2 _ أن يزور الرسول (صلى الله عليه وآله) للدعاء له، كما زار الرسول أهل البقيع، وهذا مستحبٌ في حقّ كلّ ميت من المسلمين، ويتحققّ في زيارته (صلى الله عليه وآله)إذا صلّى عليه، وطلب الدرجة الرفيعة له، كما ورد في الحديث: كان عليّ(عليه السلام) يقول: اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نُزُلَه، وشرِّف عندك منزله، وآته الوسيلة، وأعطه السناء والفضيلة، واحشرنا في زمرته(1) .

3 _ أن يزوره (صلى الله عليه وآله) للتبرّك به لانّه ليس في الخلف أعظم بركة منه وهو حيّ يرزق، والصلة بيننا وبينه غير منقطعة، وقد استفاضت الروايات على أنّه يسمع كلامنا، ويرد سلامنا، بشهادة أنّ عامة المسلمين، يسلّمون عليه في تشهّدهم ويخاطبونهم بقولهم: السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.

4 _ أن يزوره (صلى الله عليه وآله) لاداء حقّه، فإنّ من كان له حقّ على الشخص فينبغي له برّه في حياته، وبعد موته والزيارة من جملة البرّ لما فيها من الاكرام وليس إنسان أوجب حقّاً عليها من النبيّ.


1- نهج البلاغة، الخطبة 106.

ص: 75

هذه هي الغايات المتصوّرة في زيارة النبيّ الاكرم. وأمّا الزيارة البدعية التي تحدّث عنها ابن تيمية وأسماها بدعية تارة وإشراكاً لله تعالى اُخرى، فهو ممّا أبدعها ابن تيمية وليس بين المسلمين من يسوِّي بين الله ورسوله، كما هو شعار المشركين، كما قال سبحانه حاكياً عنهم، (إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالَمين) (الشعراء/98)، والمسلمون بعامّة طوائفهم براء من الشرك وسماته وقد عرف سبحانه أهل الشرك بسمة خاصّة مذكورة في آيتين، قال سبحانه: (ذلِكُمْ بِأنَّه إذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرتُمْ وإنْ يُشرَكْ بِه تُؤْمِنوا فَالحُكْمُ للهِ العليِّ الكَبيرِ) (غافر/12).

وقال تعالى: (إنَّهُمْ إذا قِيلَ لَهُمْ لا إلهَ إلاّ اللهُ يَسْتَكْبِرونَ) (الصافات/35) فلا تجد مسلماً عندما يزور النبيّ تحت قبّته الخضراء وفي مسجده يكون على تلك الحالة أي إذا دُعِيَ اللهُ وحدَه كفَر به، وإن يشرك به يؤمن به، أو إذا سمع لا إله إلاّ الله يستكبر عن عبادته.

ولا أدري كيف تجرّى الرجل وحكم بشرك قاطبة المسلمين بمجرد أنّهم يطلبون منه الدعاء بعد رحيله، وكم من صحابيّ جليل، تكلّم معه وطلب منه الدعاء بعد وفاته.

1 _ هذا أبو بكر: أقبل على فرسه من مسكنه بالسنخ حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة (رض) فتيمّم النبي (صلى الله عليه وآله) وهو مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكبّ عليه فقبّله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبيّ الله لا يجمع الله عليك موتتين أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها(1) .


1- البخاري، الصحيح 2 : 17، كتاب الجنائز.

ص: 76

فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين فما معنى قوله: «بأبي أنت يا نبيّ الله» فإن لم يسمع فماذا قصد ذلك الصحابي من قوله: «لا يجمع الله عليك موتتين».

2 _ روى السهيلي في الروض الانف: «دخل أبو بكر على رسول الله في بيت عائشة ورسول الله مسجّى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم أقبل عليه فقبّله، ثم قال: بأبي أنت وأُمي أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا»(1) .

3 _ روى الحلبي في سيرته وقال: «جاء أبو بكر من السنخ وعيناه تهملان فقبّل النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال: بأبي أنت واُمي طبت حيّاً وميتاً»(2) .

4 _ روى مفتي مكة المشرّفة زيني دحلان في سيرته فذكر ما ذكراه، وقال: قال أبو بكر: طبت حيّاً وميّتاً، وانقطع بموتك ما لم ينقطع للانبياء قبلك، فعظمت عن الصفة وجُلِّلتَ عن البكاء، ولو أنّ موتك كان اختياراً، لجُدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن على بالك(3) .

5 _ قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) عندما ولي غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله): «بأبي أنت وأُمي يا رسول الله لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك


1- أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي 508 - 581ه_ الروض الانف 4 : 260.
2- الحلبي علي بن برهان الدين 975 - 1044ه_ السيرة الحلبية 3 : 74، ط دار المعرفة، بيروت.
3- سيرة الزيني دحلان، بهامش السيرة الحلبية 3 : 391، ط مصر.

ص: 77

من النبوّة والانباء وأخبار السماء _ إلى أن قال _ : بأبي أنت واُمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك»(1) .

إلى هنا تمّت الاجابة عن الشبهة الاُولى وأمّا ما ذكره في ضمنها من أنّه ممّا لم يأمر به الله ولا رسوله فستوافيك الاجابة عنه في تحليل الشبهة الثانية.

الشبهة الثانية: إنّ زيارة النبيّ بدعة

«إنّ زيارة النبيّ ليس مشروعاً وانّه من البدع التي لم يستحبّها أحد من العلماء لا من الصحابة ولا من التابعين ومن بعدهم».

يلاحظ عليه:

أنّ ما ذكره فيها هو نفس ما ذكره في ذيل الشبهة الاُولى غير أنّه أضاف في المقام كون الزيارة بدعة.

نقول: إنّ البدعة عبارة عن إدخال ما ليس من الدين فيه، والتصرّف في التشريع بإيجاد السعة أو الضيق فيه، وهذا إنّما يتصور فيما إذا لم يكن في المورد دليل، وقد عرفت تضافر السنّة النبوية، والسيرة القطعية المسلّمة بين المسلمين على زيارته ومع هذا كيف تصح لمسلم داع تسمية تلك بدعة.

ثم إنّ السلفي يطلق على من يقفو أثر السلف، وقد عرفت أنّ السلف منذ رحيل الرسول، دأبوا على زيارة قبره والتبرك به، حتى أنّ الخليفتين أوصيا بالدفن لدى النبيّ، لما فيه من التبرّك بتربته، فأين


1- نهج البلاغة : الخطبة 235.

ص: 78

وصف زيارته بالبدعة من عمل صحابته (صلى الله عليه وآله)، فقد تضافر عن ابن عمر أنّه كان يأتي قبر النبيّ فيسلّم عليه، أو أنّ عمر بن عبد العزيز يبرد البريد لزيارة الرسول نيابة عنه أو أنّ بلالاً، شدّ الرحال إلى المدينة لزيارة الرسول.

إنّ الحوار الدائر بين الامام مالك وأبي جعفر المنصور، يكشف الغطاء، ويجلّي الحقيقة:

روى القاضي عياض في الشفاء بإسناده عن ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإنّ الله تعالى أدّب قوماً، فقال: (لا تَرفَعُوا أصواتَكُمْ فَوقَ صَوتِ النَّبيِّ) (الحجرات/2)، ومدح قوماً فقال: (إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) (الحجرات/3) وذمّ قوماً فقال: (إنَّ الَّذِينَ يُنادُونكَ مِنْ وراءِ الحُجُراتِ) (الحجرات/4). وانّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً، فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: ولِمَ تصرفُ وجَهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم (عليه السلام) إلى الله تعالى يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى، قال الله تعالى: (ولو أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاستغْفَروا الله) (النساء/64).

فانظر هذا الكلام من مالك رحمه الله وما اشتمل عليه من الزيارة والتوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله) وحسن الادب معه(1) .


1- الامام السبكي، شفاء السقام : 70.

ص: 79

وأمّا التبرك بالقبر، أو الاقسام على الله بأحد من خلقه والاستغاثة بالميت، فالكل خارج عن ماهية الزيارة، وإنّما هي اُمور جانبية، لا تكون سبباً، لتسمية الزيارة بدعة، على أنّ الجميع جائز بدلالة الكتاب والسنّة وليست تربة النبي الاكرم بأقلّ من قميص يوسف، حيث تبرّك به يعقوب فعاد بصره، قال سبحانه: (اذْهَبُوا بِقَميصي هذا فَألقوهُ على وَجْهِ أبي يَأتِ بَصيراً وَأْتُوني بِأَهلِكُمْ أجمعينَ... * فَلمّا أنْ جاءَ البَشيرُ ألقاهُ على وَجهِهِ فارتَدَّ بَصيراً قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إنِّي أعلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعلَمونَ) (يوسف/94-96).

وليس ضريح النبيّ ومدفنه بأقل كرامة من تابوت بني إسرائيل وما ترك آل موسى وآل هرون من قميص وعصي وغيرهما، وكان بنو إسرائيل يتبرّكون به في الحروب قال تعالى: (وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ آيةَ مُلْكِهِ أنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبقِيَّةٌ مِمَّا تَركَ آلُ مُوسى وآلُ هرونَ تَحمِلُهُ المَلائِكَةُ إنَّ في ذلكَ لايةً لَكُم إنْ كُنتُمْ مُؤْمِنينَ) (البقرة/248) قال الرازي: إذا حضر (بنو إسرائيل) القتال قدّموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوّهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدوَّ فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصر، فلمّا عصوا وفسدوا سلّطَ اللهُ عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه، فلَما سألوا نبيَّهم البيّنة على مُلك طالوت قال ذلك النبي: إنّ آية ملكه أنّكم تجدون التّابوت في داره(1) .


1- الرازي، مفاتيح الغيب 6 : 177.

ص: 80

إنّ الاستغاثة بالنبيّ والولي أحياءً وأمواتاً ترجع إلى طلب الدعاء منهم، فلو لم تكن للميت مقدرة على الاجابة يكون العمل لغواً لا شركاً، وليست الحياة والموت حدّاً للتوحيد والشرك حتى يكون خطاب الحيّ عين التوحيد وخطاب الميّت، نفس الشرك.

على أنّا قد ذكرنا استفاضة الاثر على أنّ الصحابة كانوا يستغيثون بنبيّهم، نبيّ الرحمة وقد ذكر موارده فلاحظ(1) .

الشبهة الثالثة: «إنّ الزيارة تؤدّي إلى الشرك»

هذه آخر ما في كنانة الرجل من سهام مرشوقة وقد استدلّ عليه بما لا يمتّ إلى مدعاه بصلة، قال: إنّ من اُصول الشرك اتخاذ القبور مساجد كما قال بعض السلف في قوله تعالى: (وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهتكُمْ ولا تَذرُنَّ وَدّاً ولا سُواعاً ولا يَغُوثَ وَيعُوقَ ونَسْرا) (نوح/23) قالوا: كان هؤلاء قوماً صالحين فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوّروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الامد فعبدوها.

يلاحظ عليه:

أنّ محور البحث هو الزيارة على ماجرت عليه سيرة السلف والخلف ولم تؤدي طوال القرون الاربعة إلى الشرك، ولم تكن عكوفاً على القبور ولا بتصوير تماثيلهم وعبادتهم مكان عبادة الله، فأيّ صلَة لهذا الكلام بمدعاه من تحريم الزيارة.


1- السبحاني، التوسل : 67 - 77.

ص: 81

إنّ زيارة قبر نبيّ التوحيد ورسوله، دعم للمبدأ الذي جاء به وتأكيد لصحّة رسالته التي كانت في طريق تحطيم الوثنية وعبادة الانداد والامثال المزعومة، فكيف تقع مثلها ذريعة إلى الشرك ياترى؟!

يقول ابن زهرة:

«فإنّ التقديس الذي يتّصل بالرسل إنّما هو لفكرتهم التي حملوها، فالتقديس لمحمد (صلى الله عليه وآله) تقديس للمعاني التي دعا إليها، وحثّ عليها فكيف يتصوّر من مؤمن عرف حقيقة الدعوة المحمدية أن يكون مضمراً لايّ معنى من معاني الوثنية وهو يستعبر العبر، ويستبصر ببصيرته عند الحضرة الشريفة والروضة المنيفة، فإذا كان خوف ابن تيمية من أن يؤدي ذلك إلى الوثنية بمضي الاعصار والدهور فإنّه خوف من غير جهة. لانّ الناس كانوا يزورون قبر الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى أوّل القرن الثامن ثم استمرّوا على هذه السيرة في العصور من بعده إلى يومنا هذا، ومع ذلك لم ينظر أحد إلى هذا العمل نظرة عبادة أو وثنية ولو تفرّط أحد فهو من العوام ولا يمنع تلك الذكريات العطرة بل يجب إرشادهم لا منعهم من الزيارة وتكفيرهم»(1) .

قال الشيخ محمد زاهد الكوثري من علماء الازهر الشريف:

إنّ سعي ابن تيمية في منع الناس من زيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) يدل على ضغينة كامنة فيه نحو النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكيف يتصوّر الاشراك بسبب الزيارة، والتوسّل في المسلمين الذين يعتقدون في حقّه أنّه عبده ورسوله


1- كلام ابن زهرة في كتابه حول حياة ابن تيمية.

ص: 82

وينطقون بذلك في صلاتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على أقلّ تقدير، إدامة لذكرى ذلك ولم يزل أهل العلم ينهون العوام من البدع في كل شؤونهم، ويرشدونهم إلى السنّة في الزيارة وغيرها إذا حدث منهم بدعة في شيء، ولم يعدّوهم في يوم من الايام مشركين بسبب الزيارة أو التوسل، وأول من رماهم بالاشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجة في النفس(1) .

وأمّا ما رواه إمام الحنابلة عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(2) . فإنّ الحديث _ إذا افترضنا صحة الاحتجاج به _ لا صلة له بالزيارة، وإنّما يهيب بالَّذين يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد، يصلّون إليها _ إذا اتّخذوها قبلة _ أو لها، إذا عبدوها. ويدل على ما ذكرنا ما روي أيضاً من أنّه (صلى الله عليه وآله) قال: «اللّهم لا تجعل قبري يصلّى إليه فإنّه اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(3) .

(وكَفى بِرَبِّكَ هادِياً ونَصيراً) (الفرقان/21)


1- تكملة السيف الصقيل : 156.
2- الامام أحمد، المسند 2 : 246.
3- كنز العمال 2 : برقم 3802.

ص: 83

7_ تذكرة و إنذار

إنّ لزيارة العظماء والقدّيسين، أصحاب الرسالات آثاراً إيجابيةً تعود تارة إلى الزائر وأُخرى إلى المزور.

أمّا الاُولى:

فلانّ الزيارة صلة بين الكامل ومن يروم الكمال، فالدوام على مواصلته محاولة للتخلّق بأخلاقه، واتّباعِ منهجه وتجديد العهد معه، ولذلك لا تجد إنساناً وَقف أمام قبر النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله) وزاره إلاّ ويتأثّر بشخصه و شخصيّته، وإن كان التأثّر قليلاً مؤقّتاً، فزيارتهم تقترن غالباً بذرف الدموع، والعطف والحنان على المزور، وهي لا تنفك عن تحوُّل نفسيّ وأخلاقيّ وحبّ ووُدٍّ لهم، وبالتالي شعوره بقربه منهم ومشاطرته لاهدافهم، إلى غير ذلك من الاثار الايجابية التي تعود على الزائر والتي أشرنا إليها في تمهيدنا الذي تصدّرت هذه الرسالة به، ولا نعود إلى تلك الاثار التي تعود إلى الزائر.

ص: 84

أمّا الثانية:

أعني الاثار الايجابية التي تعود إلى المزور فهذا هو المقصود في بياننا، وهو أنّ زيارة العظماء هي تخليد لذكراهم، وتجسيد لرسالاتهم في الاذهان، وبالتالي تكون سبباً لبقائهم أحياءً في كلّ عصر، وقرن، لا يتسرّب إلى وجودهم ورسالاتهم وبطولاتهم أدنى ريب وشكٍّ، فبذلك يتجلّى المزور في كل زمان حيّاً في القلوب وفي المجتمع، كما لو كان موجوداً بشخصه في زمن الزائر، فكأنَّ الزيارةَ استمرار لبقائهم في القلوب تجلي الصدأ عنها، وتتجلّى صحة وجودهم للخلف كما تجلّت للسلف وتكون بمنزلة الدليل على وجودهم ورسالاتهم وبطولاتهم.

فلو حذفنا الزيارة من قاموس حياتنا و تركنا مزارهم وأقفلنا أبواب بيوتهم ولم نهتمّ بآثارهم طوالَ قرون، فقد جعلنا آثارهم في مهبِّ الفناء والتدمير، وبالنتيجة التشكيك في أصل وجودهم وبعثهم، وبالتالي تصبح تلك الشخصيات بعد قرون أساطيرَ تاريخية للخلق، فيتلقّون النبيّ والامام بل الانبياء كلّهم قصصاً تاريخية نسجتها يدُ الخيال، كما هو الحال في كثير من القصص التاريخية التي أصبحت تُروى على ألسن الاطفال وفي المنتديات.

إنّ الانسان الغربيّ يتمتّع في حياته بكلّ ما هو غربيّ إلاّ الدين والمذهب، فإنّ مذهبه شرقيّ، لانّ المسيح وليد الشرق ومبعوثه سبحانه إلى أرض فلسطين وغيرها وبما أنّ الغربيّ لا يجد أثراً ملموساً للمسيح في حياته فمثلاً ليس له قبر حتى يُزار ولا لاُمّه قبر حتى يُنسب إليها، ولا لكتابه صورة صحيحة يؤمن به، ولا لتلاميذه وحوارييه آثار ملموسة، فلذلك صارت الديانة المسيحية أُسطورة تاريخية في نظر الغرب

ص: 85

وشبابه المثقّفين بعد ألفي عام وإن كان الشيوخ والعجائز يُؤمنون به إيماناً تقليديّاً لا علمياً، فالجُدد منهم مسيحيّون في هويّاتهم الشخصية لا في هوياتهم العقلية والفكرية، وممّا أثّر في ذلك هو فقدان كلّ أثر ملموس عن سيّدنا المسيح في حياتنا البشريّة، ولولا أنّ القرآن الكريم جاء بذكره ورسالته ومواقفه لكان الشك متسرِّباً إلى أذهاننا وأفكارنا.

وهذا بخلاف ما لو كان له أثر ملموس يُزار بين آونة وأُخرى، وتشدُّ الرحال إليه عندئذ لكانت الديانة المسيحية حيّة نابضة بلا شك وريب.

ومن الاسباب والوسائل التي أضفت على الاسلام حيوية وعلى نبيّه بقاءً في القلوب وعلى مواقفه وبطولاته خلوداً في الاذهان والضمائر، هو وفود المسلمين في كلّ شهر وسنة إلى موطنه (مكّة) و مهجَرِه (المدينة) وزيارة قبره وآثاره وقبور أولاده وأصحابه ومشاهدة مولده ومبعثه وما يمتُّ إليه بصلة طوال حياته، حيث أضفت هذه الوفادة المستمرة على وجوده ورسالته نوراً وضياءً، وواقعية تُذهِب كلّ ريب وشكّ وتقرّ في النفوس عظمته وبطولاته.

وإذا كانت الذكرى ناقوساً في وادي النسيان يذكّرك الحبيبَ ويرِنُّ في أسماعك جماله وكماله، فزيارته والمثول أمام آثاره وعظمته تُؤثر في خلوده وبقائه في النفوس وتزيل غبار النسيان عنه. لذا نرى أنّ الفقهاء أفتوا بأنّه يجب على الحاكم الاسلامي تجهيز المسلمين من بيت المال وإرسالهم إلى الحجّ اذا خلت الكعبة عن الزوار لئلاّ تُنسى وحتى تبقى خالدة في قلوب المسلمين ومهوى أفئدتهم، فكذلك قبور الانبياء والمرسلين وفي مقدّمتهم سيّدنا سيد الرسل نبيّنا الاكرم عليه صلوات

ص: 86

الله وعلى آله ومن تبعه بإحسان، وذلك لانّ هجرة قبورهم وعدم الاهتمام بها تمهيد لنسيانهم ورسالاتهم وبالتالي القضاء على الاسلام.

* * *

أخي القارئ الكريم; لقد عالجت مسألة الزيارة معالجة علميّة في ضوء القرآن والحديث الصحيح وقضاء الفطرة الانسانية، فلم يبق في رجحان الزيارة واستحبابها شرعاً شكّ ولا ريب، وقد تعرفت على آثارها الايجابية للزائر والمزور، وقد أزحنا بعضَ الاشواك النامية في هذا الطريق، فعلى المشرفين على القبور والاضرحة ونخصّ بالذكر قبرَ سيد البشر _ عليه صلوات الله وسلامه _ استقبال الوافدين عليها بوجوه مشرقة مرَحِّبين بضيوف النبي مهيّئين الاجواء الودّية المناسبة للزيارة، وحشد كلّ الامكانات المادّية والمعنوية لاقامتهم في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله)إقامة مقرونة بالارتياح.

ولا تفوتنا الاشارة هنا إلى واجب الخطباء والعلماء في إرشاد المسلمين وتوجيههم إلى الاداب الصحيحة للزيارة وتذكّرهم بما ينفعهم في الدنيا والاخرة، حتى يتلقّى الزائر أنّ الحضور في مزاره الشريف وسيلة للتذكرة به وهي لا تنفك عن العمل بشريعته ودينه وسنّته والتخلّق بأخلاقه.

نحمده سبحانه ونستعين به وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

جعفر السبحاني

24 محرم عام 1416

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.