مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام

هویة الکتاب

بطاقة تعريف:وائلی، احمد، 1928 - 2003 م.

عنوان واسم المؤلف:مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام/ جاسِم الوَائِلِی ؛ اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

تفاصيل المنشور:قم: دلیل نا، 14ق.= 12م.= 13.

مواصفات المظهر:5 ج.

شابک:1000 دینار: ج. 2: 964-397-073-6 ؛ 1200 دینار: ج. 3: 964-397-046-9 ؛ ج. 4: 964-397-047-7 ؛ ج. 5: 964-397-048-5

حالة الاستماع:فاپا

لسان:العربية.

ملحوظة:الفهرسة على أساس المجلد الثاني: 1425ق. = 1383.

ملحوظة:كل مجلد من هذا الكتاب له مؤلف منفصل: ج.3. محمد السند، ج.4. علی الحسینی الصدر، ج.5. احمد وائلی.

ملحوظة:ج.3. (الطبعة الأولى: 1425ق. = 1383).

ملحوظة:ح.5 (الطبعة الثانية: 1426ق. = 1384).

ملحوظة:ناشر المجلد الخامس: هو سببنا.

موضوع:محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255ق -

شناسه افزوده:عابدیني، حسین، 1349 -

المعرف المضاف:الحسیني صدر، سیدعلي، 1328 -

المعرف المضاف:مرکز الدراسات التخصصیة في الامام المهدي علیه السلام (النجف اشرف)

ترتيب الكونجرس:BP51/و27م 3 1300ی

تصنيف ديوي:297/959

رقم الببليوغرافيا الوطنية:م 83-32476

ص: 1

المجلد 1

اشارة

مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف

النجف الأشرف_ شارع الصادق_ محلة البراق 210 الزقاق 3 رقم الدار 38

هاتف: 370950 و 332811

ص.ب 588

wwwm-mahdi.com

info@m-mahdi.com

____________________

مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام

اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

الطبعة: الأولی - ربیع الثاني 1425 ه

السعر: 1200 دینار

المطبة البیان / النجف الأشرف

جمیع الحقوق محفوظة

ص: 2

بِسْمِ ٱللَّٰهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

اللّهُمَّ إنّا نَرغَبُ إلَيكَ في دَولَةٍ كَريمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الإِسلامَ وأهلَهُ وتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وأهلَهُ وتَجعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ إلى طاعَتِكَ وَالقادَةِ إلى سَبيلِكَ ، وتَرزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المركز

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله وعلى آله الطيبين الطاهرين...

أمّا بعد:

شاءت القدرة الإلهيّة أن تضع بأزاء كل حقّ باطلاً يتناسب معه بالقوّة والاستطالة ويوازيه من حيث الاتجاه والمسيرة التأريخية، فكان ذلك من القوانين والسنن الثابتة التي ابتنت عليها أسس الخليقة منذ نشأتها الأولى، والتي رسمت للدنيا إطارها الذي لا تملك أن تخرج عن حدوده.

وهذا هو ذات الأمر الذي أشارت إليه الآية المباركة في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(1)، إذ أنّ التتبّع الواعي لكل مسيرة أو حركة تنتسب إلى الحق في منهجيتها يبرهن لنا أنّ مسيرة الباطل وحركته لم تتخلّ يوماً عن ملازمة

ص: 5


1- العنكبوت (29): 2.

آدم ليعبد الله الواحد القهّار، ومروراً بما يحدّثنا التأريخ عن قابيل وهابيل والأنبياء والمصلحين، وإلى يومنا الذي نعيشه.

ولعلّ من أوضح الأفكار والرؤى التي تنتسب إلى الحق ونهجه القويم، بل وينتسب الحق إليها، هي الفكرة العقائدية الربّانية المقدّسة التي زرعتها الشرائع السماوية المتعاقبة في حقل الذهن البشري من خلال المسيرة التكاملية للأنبياء والرسل والأوصياء، وهي فكرة المنقذ الذي سيمدّ يده التي باركتها قدرة السماء لتنتشل البشرية من الأودية السحيقة للظلم والجور إلى مرابع القسط والعدل الإلهي، والتي ستحقق الأحلام والآمال التي بذل الأنبياء والمصلحون دماءهم زهيدة في سبيل تحقيقها، ساعين بذلك لجذب الدنيا من بؤر الظلم والفساد والعبودية إلى آفاق الحرية والعيش الرغيد.

فخضعت هذه العقيدة المقدّسة لهذه القوانين الثابتة وتعرضت لشتى أنواع المحاربة على مر العصور، فكانت هذه المحاربة متناسبة مع عظم الأهمية والسمو والرفعة التي أولتها السماء لها.

وبما أنّ أهميّة الدفاع عن هذه العقيدة تنبع من طرفين أوّلهما مقدار عظمة هذه الفكرة من حيث ارتباطها بمبدأ العقيدة الإسلامية التي عبّر عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في قوله: (من مات ولم يعرف

ص: 6

إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1)، وثانيهما مقدار ما يبذله الأعداء من جهود لم يعرف لها مثيل من تسخير كافة الطاقات لإظهارها على أنها العامل الخرافي الذي يتشبث به أناس ناموا على أمل أن يجدوا العالم ذات يوم يحقق لهم آمالهم وأحلامهم التي كبتها ظلم الظالمين مدة مديدة من الزمن العسير.

لذلك وجدنا أنفسنا _ في خضم هذه الظروف والمداخلات _ نتحمل عبئاً كبيراً وجزءً غير يسير من المسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع الصالح من أتباع أهل البيت عليهم السلام في الدفاع عن هذا المبدأ المقدّس الذي يعتبر أس العقيدة وأساس المذهب.

على أنّ كثرة المدافعين من العلماء الأعلام وذوي الأقلام الشريفة على مرّ الدهور لا تغني عن الاستمرار في انتهاج سبيل الذود عن هذه العقيدة المقدسة، إذ أنّ الشبهات _ وإن تكررت بصيغ مختلفة _ تحتاج إلى ردود تتناسب والطريقة التي يتبناها أعداء الحق والأساليب التي يسلكونها والطرق الملتوية التي يتبعونها في توجيه سهام الحقد الأسود للصورة الناصعة لهذه العقيدة المقدّسة.

ص: 7


1- الكافي: 1/ 376 الباب الأول _ الحديث 1 _ 4، المحاسن للبرقي: 1/ 92 الحديث 46، إكمال الدين وإتمام النعمة: 409 الحديث 9، الإيضاح لابن شاذان: 75، مجمع الزوائد: 5/ 224، مسند أبي داوود: 259، كنز العمال: 1/ 203 الحديث 464، وفي صحيح مسلم: 6/ 22 والسنن الكبرى للبيهقي: 8/ 156 بلفظ (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)....

ومركزنا الذي أنشئ بعد الاستشارة والمداولة مع ثلة من العلماء الأعلام وفضلاء الحوزة العلمية المباركة، وبرعاية من المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، يجد أنّ واجبه الأول هو بذل الجهد للدفاع عن سيدنا ومولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف.

فتبنّى هذا المركز مجموعة من المحاور في عمله منها:

1 _ طباعة ونشر الكتب المختصّة بالإمام المهدي عليه السلام، بعد تحقيقها، وذلك ضمن سلسلة وسمناها ب_ (سلسلة اعرف إمامك).

2 _ نشر المحاضرات المختصّة به عليه السلام من خلال تسجليها وطبعها وتوزيعها، ضمن سلسلة (محاضرات في الإمام المهدي).

3 _ إقامة الندوات العلمية التخصصية في الإمام عجّل الله فرجه، ونشرها من خلال التسجيل الصوتي والصوري وطبعها وتوزيعها في كتيّبات ضمن (سلسلة الندوات المهدوية)، أو من خلال وسائل الإعلام وشبكة الانترنيت.

4 _ إصدار مجلّة شهرية تخصّصية باسم (الانتظار).

5 _ العمل في المجال الإعلامي بكل ما نتمكّن عليه من وسائل مرئية ومسموعة، بما فيها شبكة الانترنت العالمية من خلال الصفحة الخاصّة بالمركز.

ص: 8

6 _ نشر كل ما من شأنه توثيق الارتباط بين الأجيال الجديدة وإمامهم المنتظر عليه السلام، وذلك من خلال القصص والكتب التي تتناسب مع أعمارهم.

7 _ الاهتمام بنشر التراث المختص بالإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، ضمن (سلسلة التراث المهدوي).

وها نحن عزيزي القارئ الكريم نضع بين يديك هذا الكتاب الذي يحمل بين طياته المحاضرات الفكرية المختصّة بالإمام المنتظر عجل الله فرجه، بعد جمعها وإعدادها، ثم تحقيقها وإستخراج المصادر والمنابع التي اعتمد عليها المحاضرون بالمقدار الذي نتمكّن عليه، بالصورة التي توثّق المعلومات الواردة فيها، ثم مراجعتها وإخراجها بهذه الحلّة التي نسأل الباري عز وجل أن يجعلها محط قبولكم ورضاكم، وأن يجعل هذا العمل مرضياً عند إمام زماننا الذي يعيش بين أظهرنا ويتفقد أحوالنا ويعلم بكل سرائرنا.

إنه نعم المولى ونعم المجيب.

شكر وتقدير

ص: 9

يتقدم المركز بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إعداد هذه السلسلة تحت عنوان محاضرات حول المهدي عجل الله فرجه ونخصّ بالذكر كلاً من:

1 _ لجنة التحقيق، المؤلفة من: سماحة الشيخ رعد الجميلي، وسماحة الشيخ أحمد الساعدي، والأخ الفاضل علاء عبد النبي.

2 _ كافة الاخوة الأكارم العاملين في قسم الحاسوب الآلي، لجهودهم الكبيرة في إنجاز هذا العمل.

سائلين المولى القدير جلّ وعلا أن يجعل هذا العمل وجميع الأعمال محطّ قبوله، وأن يأخذ بأيدي الجميع لما فيه الصلاح والموفقية والسؤدد.

والحمد لله ربّ العالمين

السيد محمد القبانجي

مركز الدراسات التخصّصية

في الإمام المهدي عليه السلام

ربيع الثاني1425ه_

النجف الأشرف

ص: 10

فهم حركة الإمام المهدي عليه السلام

اشارة

شهيد المحراب سماحة السيد محمد باقر الحكيم قدس سره

ص: 11

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين محمّد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا بقيّة الله في أرضه الإمام المهدي عجل الله فرجه، والسلام على شهداء الإسلام في كل مكان منذ الصدر الأوّل من الإسلام وإلى هذا العصر.

والسلام على سادتي العلماء، إخواني وأعزائي المؤمنين الكرام ورحمة الله وبركاته.

قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(1).

ص: 13


1- النور (24): 55.

في هذه الليلة المباركة _ ليلة النصف من شعبان _ كان ميلاد سيدنا ومولانا بقيّة الله في أرضه _ على ما تذكر الروايات _ عند الفجر، وهذه الليلة هي ليلة شريفة شرّفها الله سبحانه وتعالى ببركة نبيّه صلّى الله عليه وآله، وكانت _ على ما ورد في الروايات الشريفة(1) _ في الفضل بعد ليلة القدر، وزادها الله سبحانه وتعالى شرفاً بهذا الميلاد الشريف.

ولذلك أتقدّم بالتهنئة والتبريك لكلّ السادة الأفاضل والاخوة الأعزّاء بمناسبة هذا المولد الشريف، وكذلك لكلّ المسلمين، ولكل محبّي أهل البيت، ولقائد الثورة الإسلامية (ولي أمر المسلمين) أقدّم لهم التبريك والتهنئة لهذه المناسبة، بل لكل المستضعفين في الأرض.

ذلك أنّ هذا المولد الشريف يمثّل ولادة دولة الحق المطلق والعدل المطلق الذي أراده الله سبحانه وتعالى لمسيرة الإنسان التكامليّة، ووجدنا بأنّ هذه الدولة الشريفة تمثّل الوعد الإلهي الذي وعد الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين، كما قرأت عليكم من هذه الآية الكريمة، وتوجد كثير من الروايات والنصوص التي تؤكّد، حتى الآيات الكريمة أيضاً فيها هذا النوع من التأكيد والإشارة على أنّ هذه القضيّة _ قضيّة الاستخلاف المطلق للصالحين من عباد الله _ هي قضيّة وعد الله سبحانه وتعالى عباده على

ص: 14


1- تهذيب الأحكام: 3 /185 الحديث 419، وسائل الشيعة: 8/ 106 الحديث 1182.

لسان كلّ الأنبياء وكلّ المرسلين (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(1).

هذه حقيقة من الحقائق الإلهية التي كانت ضمن القرارات الإلهية في خلق الإنسان مع هبوط أوّل خليفة لله على الأرض.

وإذا أردنا أن ننظر إلى هذا الموضوع نظرة طبيعيّة، مع قطع النظر عن الأدلّة الكثيرة والمتوفّرة على هذه الحقيقة، أي إذا أردنا أن ننظر إلى هذا الموضوع من خلال النظرة العامّة لوجود هذا الكون ومسيرته والظواهر الموجودة في هذا الكون، نرى بأنّ هذه القضيّة هي قضية طبيعية ومنسجمة مع كل هذه الظواهر الكونيّة.

نحن نلاحظ في هذا الكون _ في الإنسان، في النباتات، في الحيوانات، في مختلف معالم هذا الكون، وحتى في الكون بشكل عام _ نلاحظ أنّ هناك مسيرة تكاملية في حركة هذه الموجودات.

فالإنسان يكون نطفة ثمّ يتكامل هذا الإنسان تدريجياً حتى يصبح إنساناً عاقلاً رشيداً قادراً على أداء المهمّات الصعبة، وهذه الشجرة الكبيرة تكون نواةً بسيطة صلبة لا يوجد فيها أي مَعلم من معالم الحياة ثمّ بعد ذلك تتكامل حتى تصبح شجرة كبيرة متحركة يانعة مثمرة معطاء.. وهكذا في الحيوانات وفي كل مظاهر الوجود.

ص: 15


1- الأنبياء (21): 105.

ولذلك يصبح من الطبيعي أن تكون مسيرة الإنسان الكليّة الاجتماعية الجماعيّة ذات بداية صغيرة محدودة ضعيفة، ثمّ تتكامل هذه المسيرة في مجمل حركاتها وفي عموم حركتها حتى تصل إلى مرحلة الكمال المطلق المتمثل في دولة الحق التي وعد الله سبحانه وتعالى عباده.

يبدأ هذا الإنسان برجل وامرأة يسكنان الجنة ويعيشان حياة بسيطة وعاديّة، ثمّ بعد ذلك يبدأ هذا الإنسان الحياة الصعبة، فيتحوّل من تلك الحياة البسيطة إلى الحياة الصعبة، التي هي حياة المشاكل والمعاناة والآلام والفتن،ثمّ تتعقّد الحياة الاجتماعية وتكبر وتنمو وتتكامل، ومن خلال هذا التكامل أيضاً تنزل الرسالات الإلهية، ويأتي الأنبياء من أجل أن يثروا هذه المسيرة ويكمّلوها حتى تصل هذه المسيرة إلى نهاياتها في ذلك الكمال المطلق المتمثل في دولة المهدي عجل الله فرجه.

أي أنّ هذه الرؤية البسيطة _ العرض والشرح _ تجعل من قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه ووجود هذه الدولة ووجود هذه الوراثة المطلقة تجعلها أمراً منسجماً مع مختلف الظواهر الموجودة في هذا الكون.

وأيضاً يمكن أن ننطلق في فهم هذه القضية _ قضية الإمام المهدي عجّل الله فرجه _ وقيام دولة الحق المطلق على يده الشريفة، من أبعاد متعدّدة، هي في عمق النظريّة الإسلامية والعقيدة الإسلامية والفهم الإسلامي في هذه الحياة.

ص: 16

وقلت: هذا كلّه مع قطع النظر عن النصوص والأدلّة الكثيرة المتوفّرة التي تظافرت جهود العلماء في بحثها وفي تدوينها وفي تأليف الكتب الكثيرة بعرضها وتوضيحها وإفهامها للناس.

وهذا الاجتماع _ في الواقع _ ليس اجتماعاً معقوداً للحديث في مثل هذه الموضوعات ذات الطابع العلمي، فيمكن الرجوع إلى هذه المؤلّفات التي تظافرت جهود العلماء رحم الله الماضين وحفظ الباقين منهم على توفير الدليل والبرهان والحجّة والمنطق الذي يخاطبون فيه العقل والوجدان والتصوّر الإنساني من أجل شرح هذه القضية.

فمع قطع النظر عن كل هذه الجهود أيضاً، يمكن أن ننطلق في فهم هذا الموضوع من المنطلقات الأوّلية الواضحة في العقيدة الإسلامية، والتي تجعل من قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه قضية مركزيّة ورئيسة في هذا الفهم الإسلامي للحياة ولهذا الوجود.

أنا أشير في هذا الحديث إلى عدّة نقاط رئيسة ومهمّة، تشكّل بمجموعها هذه الرؤية وهذا الفهم لقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه:

النقطة الأولى: (العدل):

وهي ترتبط بالعنوان الرئيس لقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، فنحن إذا أردنا أن نتأمل في قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه تأمّلاً دقيقاً نجد

ص: 17

أنّ النقطة المركزية والعنوان الرئيس لقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه هي قضية العدل.

ولذلك عندما يُتحدّث عن الإمام المهدي عجل الله فرجه يقال عنه أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهذه هي المهمّة الرئيسة التي يقوم بها الإمام المهدي عجل الله فرجه.

فالإمام المهدي لا يأتي بدين جديد؛ لأنّ دينه هو دين خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله، صحيح أنّ هذا الدين قد يبدو غريباً في آخر الزمان، كما ورد في الروايات،(1) ويصبح غريباً على الناس في آخر الزمان، ولكنه على كل حال هو دين ذلك الرسول، والإمام المهدي عجل الله فرجه هو أطروحة ترتبط بالرسالة الخاتمة للنبي الخاتم، فلا يأتي بدين جديد ولا يأتي بشريعة جديدة، فمن هذه الناحية لا يوجد شيء جديد فيما يتعلّق بقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة من الحقائق القرآنية، وهي أن الرسالة الإسلامية هي رسالة كاملة(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً)(2) فهذه الرسالة ليس فيها نقص، وإنّما هي رسالة كاملة بكل خصوصياتها، فالإمام المهدي

ص: 18


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام: 1/ 218، إكمال الدين وإتمام النعمة: 66.
2- المائدة (5):3.

صلوات الله عليه لا يأتي بدين جديد ولا يكمّل رسالة ناقصة، فالرسالة هي أيضاً قائمة.

وإذا كان الحديث في تفاصيل هذه الرسالة، فإنّ الذي يتحمّله أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم في تفاصيلها، في مصاديقها، في تطبيقاتها، في مواردها فهو أيضاً ليس أمراً مختصّاً بالإمام المهدي عجل الله فرجه، بل هذا أمر قام به الإمام علي عليه السلام، وقام به الإمام الحسن عليه السلام، وقام به الإمام الحسين عليه السلام، وقام به الإمام زين العابدين عليه السلام، وهكذا... يعني أنّ كل الأئمّة كانوا يقومون بمثل هذا الدور، الذي هو دور تطبيق الرسالة الإسلامية على مصاديقها الخارجية الجديدة واستنباط هذه المفاهيم الإسلامية لتطبيقها على هذه المصاديق، استنباطاً ليس كاستنباط المجتهدين، وإنّما هو استنباط الاستنطاق كما يعبّر عنه الإمام علي عليه السلام حيث يقول: (ذلك القرآن فاستنطقوه)(1) يعني استنباطاً يأخذ الحقائق المطلقة التي لا يعتريها شك ولا يعتريها ريب ولا يعتريها احتمال آخر، ويطبّقونها على مصاديقها الخارجية.

مثل هذه العملية أيضاً قد يمارسها الإمام المهدي عجل الله فرجه ولكنها ليس عملية مختصّة بالإمام المهدي عجل الله فرجه، وإنّما هي عملية مارسها جميع أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وبالتالي فالإمام المهدي عجل الله فرجه باعتباره إماماً من أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقوم بمثل هذه العملية، ولكن لا يتميّز في هذا الأمر.

ص: 19


1- نهج البلاغة: 2/ 54، الكافي: 1/ 61 الحديث 7.

وأيضاً قضية الإمام المهدي سلام الله عليه ليست هي مجرّد إقامة حكومة صالحة حقّة، حكومة تكون إلهيّة شرعيّة مرتبطة بالسماء، فإنّ هذا الأمر أيضاً ممّا وقع خارجاً على أقل تقدير من النبي صلّى الله عليه وآله في زمن النبي، وأيضاً من الإمام علي عليه السلام في فترة حكم الإمام علي عليه السلام، هذا على أقل تقدير طبعاً، وإلاّ فوجود هذه الحكومة الآن المباركة، الحكومة الصالحة حكومة ولي الأمر، حكومة إمام العصر، حكومة صاحب الزمان، حكومة العلماء الربّانيين، حكومة المجتهدين، أيضاً هي حكومة صالحة وصحيحة وتنطبق عليها، لكن لو تعدّينا أي فرضية أخرى وفرضنا أنّ هذه الحكومة الصالحة هي حكومة قائمة في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وزمن الإمام علي عليه السلام.

فالإمام المهدي عجل الله فرجه إذا أراد أن يقيم مجرّد حكومة صالحة، حكومة شرعيّة، فإنّ هذا أيضاً ليس أمراً مختصّاً بالإمام المهدي عجل الله فرجه، وإنّما يكون من الأمور التي وقعت قبل ذلك كما وقع لرسول الله ووقع للإمام علي، ونحن أيضاً نعتقد بالأدلّة الواضحة أنّ هذا الحكم الموجود فعلاً هو أيضاً من مصاديق هذه الحكومة الصالحة(1)، وإن لم يكن يرقى إلى مستوى حكم النبي أو حكم الأئمّة، باعتبار أنّ حكم النبي وحكم الأئمّة هو حكم المعصومين، ولا يدّعي أحد أنّ العصمة في هذه الحكومات الفعليّة وإن كانت هي حكومات شرعية صالحة.

ص: 20


1- المقصود هو حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران.

إذاً نرجع مرّة أخرى لنقول بأنّ الخصوصية الموجودة في الإمام المهدي عجل الله فرجه ليست هي المجيء بدين جديد _ نعوذ بالله _ لأنّ هذا الدين هو دين رسول الله خاتم الأنبياء (وَلا نَبي بعدي)(1) وليست إكمال الدين لأنّ الدين قد أكمل في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وليست هي مجرّد إيجاد تطبيقات جديدة، لأنّ هذا أيضاً ممّا صنعه أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وليست مجرّد إقامة حكومة شرعية صالحة، لأن هذا أيضاً ممّا وقع قبل الإمام المهدي عجل الله فرجه، طبعاً أنا أؤكّد على هذه النواحي من أجل أن تتّضح الأفكار، لأنّ بعض الناس قد تشتبه عليه مهمّة المهدي سلام الله عليه في هذه الأمور، ويتصوّر أنّ قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه مرتبطة بهذه الأمور.

قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه هي قضية العدل المطلق، يعني كمال العدل الإلهي في حركة الإمام المهدي عجل الله فرجه، هذا الشيء هو الذي لم يتحقّق في أيّ زمان وفي أيّ عصر من العصور، أن تكون هناك حكومة صالحة وهذه الحكومة تكون متمكّنة من الأرض وتطبّق العدل على جميع الأرض وفي كل مناحي الأرض.

وهذا هو الوعد الإلهي الذي وعد الله سبحانه وتعالى به نبيّه في القرآن الكريم على أنّه يتم في الأمّة الخاتمة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا

ص: 21


1- الاحتجاج:2/252، الخرائج والجرائح: 3 /91.

الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ثم قال: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ)(1).

إذا كانت القضية مجرد الاستخلاف فهذا الاستخلاف كان من قبل أيضاً (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، لكن القضية هي أن يمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى، أي يصبح هذا الدين ديناً متمكّناً تمكّناً كاملاً، ثمّ (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)(2)، هذا الأمر هو الأمر الموعود الذي يعبّر عنه القرآن الكريم أيضاً بظهور الدين، بظهور الإسلام على الدين كله.

هذا الأمر هو الذي يقصد من قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، هذا العدل الذي هو عنوان قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، العنوان الرئيس، العنوان المركزي في قضية الإمام المهدي سلام الله عليه.

نأتي إلى النظرية الإسلامية في فهمنا لهذا العدل في عقيدتنا.

أولاً: نأتي إلى فهم القرآن الكريم، القرآن الكريم يقول بأن قضية العدل الذي يعبّر عنها القرآن أحياناً بالقسط، أحياناً يعبّر عنها بالميزان هذه القضية قضية إلهية قائمة في هذا الوجود (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ *

ص: 22


1- النور (24): 55.
2- النور (24): 55.

أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)(1) هنا قضية الميزان قضية رئيسيّة وأساسية موضوعة في حياة الناس وفي حياة الكون وفي هذا الوجود، كل الوجود.

فإذن قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه التي تشكل النقطة المركزيّة فيهما _ قضية العدل وقضية الميزان _ هي قضية تنطلق من هذا الفهم لهذا الكون، ولهذه الحياة.

من ناحية أخرى، عندما ننظر إلى قضية العدل وهذا شيء يتميّز به الإسلام ويعتز ويفتخر به المسلمون على كل الحضارات المادية التي هي الآن تحاول أن تطرح مفاهيم حقوق الإنسان، ومفاهيم التطور في إيجاد الحق والعدل بين الناس، الإسلام يتميّز في هذه النقطة، وهي أن الإسلام ينظر إلى قضية العدل على أنها قضية واسعة لا تختص بعلاقات الإنسان مع الإنسان وإنما هي قضية ترتبط بهذا الكون وبهذا الوجود في كل نواحيه، مثلاً قضايا حقوق الإنسان الآن.

وثيقة حقوق الإنسان:

إذا أردنا أن نتحدّث عنها في مقر الأمم المتحدة، فإنّها تعني أن جميع الأمم اجتمعت ونظرت في نظرية حقوق الإنسان، وأقرت هذه الوثيقة على

ص: 23


1- الرحمن (55): 7 _ 9.

أساس أنها وثيقة تمثل حقوق الإنسان، نجد فيها نقصاً كبيراً جداً، إذا أردنا أن نقارنها بالنظرية الإسلامية وفهم الإسلام لقضية الحقوق.

مثلاً في قضية حقوق الإنسان فقط يقرّون لهذا الإنسان _ فيما يتعلّق بنفسه _ يقرّون له أنّه ليس له الحق أن يقتل نفسه، يعني قضية الانتحار، هذا أيضاً ليس من حقّه، وأمّا فيما بقي فالإنسان من حقّه أن يتصرّف في نفسه كيفما يشاء، وبالتالي يصبح هذا الإنسان في قضية الحقوق إنساناً قد صودرت بشأنه الكثير من حقوقه تجاه تصرّفه وسلوكه، لأن الإنسان في حركته يخضع أحياناً لانفعالات، ويخضع أحياناً لحالة من الجهل والسفه والغفلة، ويخضع أحياناً لحالات من الضغوط الخارجية التي تمارس ضدّ هذا الإنسان، كل هذه الأمور وثيقة حقوق الإنسان لا تأخذها بنظر الاعتبار، يقول هذا الإنسان له الحق أن يتصرّف إذا اقتضت شهواته وأن يصنع ما يشاء، من حقّه أن يصنع ما يريد، إذا اقتضى غضبه أن يصنع ما يشاء، فمن حقّه أن يصنع ذلك، وإذا أكره في طريقة ما أيضاً هذا الإكراه يأخذ مجراه القانوني في حياة هذا الإنسان.

إلى غير ذلك من القضايا التي إذا أردنا أن ندقق فيها نجد أنها مصادرة حقيقية لحقوق الإنسان.

أما الإسلام هنا، فقد طرح مفهوم حرمة أن يظلم الإنسان نفسه، فكما أنّ الإنسان يحرم عليه أن يظلم أخاه الإنسان وأن يظلم الإنسان الآخر، والإنسان الآخر له حق في الحياة، فكذلك هذا الإنسان أيضاً يحرم عليه أن

ص: 24

يظلم نفسه، فليس يحرم عليه فقط أن يقتل نفسه بل يحرم عليه أن يلحق الضرر بنفسه في الدنيا، وأن يلحق الضرر بنفسه في الآخرة، يعني إذا ارتكب عملاً محرماً مثلاً فهذا العمل يؤدي إلى أن يعاقب عليه في الآخرة، هنا _ في الدنيا _ لا يترتب شيء على هذا العمل لكن في الآخرة يعاقب.

القرآن الكريم يعبّر عن هذا بأنّه ظلم للنفس، بمعنى أنّه تجاوز على هذه النفس، وهكذا في مختلف مجالات الإنسان.

قضيّة المال:

وثيقة حقوق الإنسان تعطي الحق لهذا الإنسان في أن يتصرّف بأمواله كيفما يشاء، حتى لو كان هذا التصرّف تصرّفاً سفهياً، حتى لو كان هذا التصرّف تصرفاً إسرافياً، أي يسرف في المال ولا ينفق هذا المال في محلّه، حتى لو كان هذا المال تصرّف به تصرّفاً ضررياً بمعنى أن يلحق الضرر بالآخرين، أيضاً لا يوجد هناك ما يمنع هذا الإنسان، يعتبرون هذا أمراً طبيعياً.

أما الإسلام في قضية الحقوق هنا يقول للمال حق، هذا المال أيضاً له حق، والممارسة غير الطبيعية في المال ظلم وتجاوز على العدل الإلهي في هذا المال، لأن هذا المال حقيقة خلقها الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان من أجل أن يتصرّف بها تصرّفاً تكاملياً، يؤدّي به إلى التكامل في مسيرته

ص: 25

الحياتيّة، وإذا تصرّف في هذا المال تصرّفاً تسافلياً يؤدي إلى الإضرار في هذه الحياة والإضرار في هذا المجتمع فسيكون ظلماً وتجاوزاً على العدل من هذا الباب.

ثم طوّر الإسلام أيضاً العلاقة في قضية الظلم والعدل، قضية العلاقة بالله سبحانه وتعالى، الله هذا منعم النعم، هذا المتفضّل على الإنسان، خالق هذا الإنسان، معطي هذا الإنسان، كلّ هذا الوجود، كل هذه النعم، كل هذا الفضل، علاقة هذا الإنسان بالله سبحانه وتعالى أيضاً علاقة يجب أن تخضع للعدل ويكون فيها حقوق لله سبحانه وتعالى، ولذلك عبّر القرآن الكريم عن الشرك بالله سبحانه وتعالى أنه ظلم، بل عبّر عنه بأنه ظلم عظيم، يعني أن هذا ليس فقط ظلماً وإنما هو درجة عالية من الظلم في مقابل العدل.

فقضيّة العدل في النظريّة الإسلامية عندما نتناولها في البحث، يمكن استيضاحها من خلال مراجعة سريعة إلى (رسالة الحقوق) التي رويت عن الإمام زين العابدين صلوات الله وسلامه عليه، فعندما يتحدّث فيها عن الحقوق وعلاقات الحقوق تجد أن هناك آفاقاً ومجالات للحقوق لم

يتمكن هذا الإنسان في القرن العشرين _ وقد اجتمعت كل أمم هذا الإنسان من أجل أن يفكروا في هذه الحقوق _لم يتمكنوا أن يصلوا إلى هذه الآفاق في قضية العدل وفي فهمهم لقضية الظلم.

فالعلاقة بين الإنسان وأبيه تخضع لحقوق ولموازنة ولقضية عدل وظلم _ نعوذ بالله _ إذا تجاوز هذه العلاقة، العلاقة بين المؤمن والمؤمن تخضع إلى هذه الموازنة،

ص: 26

العلاقة بين الزوج وزوجته تخضع إلى هذه الموازنة، العلاقة بين العامل وربّ العمل تخضع إلى هذه الموازنة.

وهكذا نجد أن قضية العدل وقضية الموازنة والميزان وقضية الظلم ضدّ العدل قضية قائمة وسارية في فهم هذا الكون، كل الكون.

النظرية الإسلامية هي النظرية الوحيدة التي يمكن أن تنسجم مع قضية الإمام الحجة، أي أننا عندما نفهم دائرة العدل، وسعة دائرة الميزان، واستيعابها لكل مناحي الحياة في حركة هذا الإنسان عندئذٍ يمكن أن نفهم أنّه كيف يأتي ذلك الإنسان الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، لأن قضية العدل والظلم ليست هي مجرّد قضايا حقوق الإنسان وعلاقات الإنسان بعضهم مع البعض الآخر، وإنما لها هذا المجال الواسع في حركة الإنسان.

والنقطة الأخرى: (الانتظار)

وهي التي يتميّز بها شيعة أهل البيت سلام الله عليهم، ويتميز بها أتباعهم ويفتخرون بذلك، وهذا التميز هو الذي أعطاهم فرصة أن يكونوا هم الممهدون لظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه، وهو الهدف الذي وضع أمام مسيرة البشرية وحركة البشرية، وهو أن تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والذي أصبح هدفاً وعنواناً وشعاراً ولافتة _ كما نعبّر _ أمام مسيرة أتباع أهل البيت سلام الله عليهم.

ص: 27

و(المنتظرون) صفة رئيسية يجب أن يتصف بها أتباع أهل البيت سلام الله عليهم، وهذا واجب من الواجبات الشرعية التي نغفل عنها أحياناً، بمعنى أنّ بعض الناس يعرف أنه من واجباته الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الواجبات التي فرضها الله سبحانه وتعالى، لكن يغفل أن يكون هناك واجب آخر هو من أفضل الواجبات، وهذا الواجب هو أن يكون في حالة الانتظار لتحقق هذا الهدف الكبير المتمثّل بالإمام المهدي عجل الله فرجه.

نحن نغفل أحياناً أن نكون من أولئك المنتظرين، بالرغم من أننا نؤمن بهذا عندما يلفت نظرنا أحد ما، فصحيح أننا نرى أنفسنا هكذا لكن أحياناً نغفل عن أن نكون في هذه الحالة.

معنى الانتظار:

معناه أن يكون هذا الإنسان منتظراً لتحقق الهدف، أي يكون منتظراً لفرج الإمام المهدي عجل الله فرجه، وقد ذكرت أن فرج الإمام المهدي سلام الله عليه لا يعني فقط أن يكون بلا منزل فيكون في منزل، أو يكون مشرداً فيرجع إلى بلده، طبعاً هذا أيضاً منه لكن لا يعني هذا المعنى، أحياناً بعض الناس يقول: ننتظر عسى أن يكون لنا فرج ونرجع إلى بلادنا، ننتظر

ص: 28

حتى تكون عندنا منازل، حتى تكون عندي زوجة، إذا لم يكن لديه زوجة ويشعر بمشكلة من هذه الناحية.. وهكذا.

توجد مشاكل للناس كثيرة جدّاً في حياتهم وفي حركتهم فيتصوّرون أن الفرج يعني تحقق هذه الأمور. صحيح عندما تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً، لابد أن هذه الأمور تتحقق بظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه، لكن القضية ليست هي هذه فقط، وإنما قضية الفرج تعني تحقق هذا الهدف الكبير، فالهدف الكبير قد يمنع الإنسان من أن يظلم نفسه، وهو ظالم لنفسه لكن غير ملتفت إلى نفسه، هذا الفرج يعني أن يمنعك من ظلم نفسك، يمنع هذا الغني من أن يسرف في المال، هذا الغني يدعو بالفرج لكن لا يعرف أن هذا الفرج يعني إلغاء هذا الظلم وتحقيق هذا النوع من العدل، وهكذا في مختلف مجالات حياتنا، الكثير منّا الآن في مجالسنا وفي مجتمعاتنا نرى بعض الناس خصوصاً هذه الليلة ليلة مباركة، ليلة توبة، ليلة لجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ليلة استغفار، ليلة استفادة من هذه الأوقات الشريفة بالإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والعزم والندم على كل ما صدر منّا من ذنوب وآثام، نعوذ بالله من الذنوب والآثام، لكن بعض الناس، أنا لا أتكلم عن الناس الحاضرين أتكلم عن بعض الناس طبعاً الله أعلم بهؤلاء الناس، لا أريد أن أتّهم أحداً بل أتهم نفسي قبل أن أتهم أحداً من الناس، فالقضية أن بعض الناس تكون عنده هذه الحالة فيرتكب من هذه الآثام.

ص: 29

قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، هو أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فيحقق العدل، بمعنى أن يمنع هذا الذي يشيع الفاحشة، الإمام المهدي عجل الله فرجه يهدف أن لا تكون هذه الإشاعة للفاحشة، أن لا يكون هذا الافتراء، أن لا يكون هذا الكذب، أن لا تكون هذه الغيبة، أن لا تكون هذه الفتنة، أن لا تكون هذه العداوات، أن لا تكون هذه الاختلافات.

إذاً قضية الانتظار تعني كل هذا المعنى، لكن تحقيق العدل المطلق يعني هذا الشيء.

فهذا الواجب الشرعي الذي يعبّر عن حالة الانتظار يعني انتظار تحقيق العدل، والانتظار لتحقيق العدل يحتاج إلى حركة يقوم بها الإنسان من أجل أن يحقق هذا العدل، لأنّ تحقيق العدل _ كما ذكرت في بداية حديثي _ ليس قضية منفصلة عن حركة المجتمع وحركة هذا الكون وحركة هذا الوجود، إنما هي حركة تكاملية، أي أنّ قضية العدل قضية تبدأ من نقطة وتتكامل من خلال المسيرة، حتى تصل إلى نهاياتها، فاذا لم يكن هذا الإنسان متحركاً في عملية الانتظار، فيصبح خارج العملية التكامليةّ، خارج هذه المسيرة، لا يكون جزءً من المسيرة.

قضية الانتظار التي هي واجب من الواجبات الشرعية التي يجب أن يتصف بها الإنسان المؤمن لافتتها وعنوانها وشعارها ومضمونها هو أن يسعى كل واحدٍ منّا إلى أن يحقق العدل الإلهي الذي يتكامل _ طبعاً هذا الحق

ص: 30

والعدل _ في خروج الإمام المهدي عجل الله فرجه، وهذا المضمون يمتاز به شيعة أهل البيت عن غيرهم ويفتخرون به على غيرهم، ويفتخرون بهذا الامتياز _ يعني شيعة أهل البيت _ إنّما تجدون فيهم هذه الروح من التضحية، وهذه الروح من الفداء، وهذا الاستعداد للصمود، وللثبات ولمواصلة المسيرة وللصبر في هذا الطريق، الصبر الذي تجزع وتتزحزح منه الجبال أحياناً، الصبر الذي يبدو في رجال المسيرة، وفي قادة المسيرة، وفي مجاهدي هذه المسيرة، صبر عجيب في حياتهم إنما كان هذا الصبر لأنه أمامهم هذا العنوان، أمامهم هذا الشعار، أمامهم هذه الحقيقة الإلهية التي وضعها الله سبحانه وتعالى أمام أعينهم.

وقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه يجب أن ننظر إليها من هذا المنظار والسبب، يعني إذا أردنا أن نرجع إلى التفسيرات الطبيعية، أنا قلت أنّ قضية الأدلة والبراهين قائمة وهي شيء عظيم، ولا بد من البحث لكن ليس بحثه هنا.

أُنظر إلى القضايا الطبيعية، القضية الطبيعية التي تفسّر لنا ظاهرة غريبة جداً في تأريخنا وفي تأريخ المسلمين _ وأنا أشرت أحياناً إلى هذه الظاهرة _ ظاهرة غريبة تفكروا في تفسيرها، ما هو تفسير هذه الظاهرة أن تبدأ هذه المسيرة، مسيرة أتباع أهل البيت، شيعة أهل البيت المتمسّكين بولاية أهل البيت، يبدأون وهم قلّة قليلة في تأريخ الإسلام بعد وفاة رسول

ص: 31

الله صلّى الله عليه وآله، يقول بعض المؤرخين أنهم أربعة أو سبعة عشر مثلاً، أو ثلاثين، أنا لا أريد أن أحدّد عدداً، لكن لا شك أنهم كانوا قلّة مطلقة بل أقل الأقل، يعني قلّة قليلة بكل معنى الكلمة مع غض النظر عن الأعداد، لأن هذه القضايا تأريخية ليس الحديث فيها جيداً، هؤلاء كانت هذه بدايتهم.

ثم هذه المسيرة لا يشك التأريخ أنّها طيلة أربعة عشر قرناً من الزمن منذ وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى أيامنا القريبة الحاضرة، وحتى هذه الأيام أيضاً تتعرض باستمرار إلى قمع مستمر من قبل الحكومات، ومن قبل السلطات، ومن قبل الطغاة، ومن قبل المتجبّرين، ومن قبل المنحرفين، ومن قبل المستكبرين، ومن قبل الضالّين، هذا شيء أيضاً واضح جدّاً في هذه المسيرة، يعني لا يشك أحد حتى أعداؤنا أيضاً لا يشكون في أنهم كانوا يقمعون ويقتلون ويتقرّبون أحياناً إلى الله سبحانه وتعالى إذا كانوا يعرفون الله، والكثير منهم لم يكن يعرف الله سبحانه وتعالى، فقد كان منهم جهلة، يتقرّبون بقتل أتباع أهل البيت عليهم السلام، وهذه المسيرة كانت بهذا الشكل، وتتعرض على مر التأريخ إلى عمليات قمع واسعة من قبل دول عظمى وكبيرة، ومع ذلك هذه المسيرة ليست فقط تقف عند حالها بل تكبر وتكبر وتكبر، تنمو وتنمو وتنمو حتى أصبحت الآن وهي القوة البارزة التي تخافها أمريكا، تخافها أوربا الغربيّة، يخافها كل الطغاة في العالم، كل المستكبرين في العالم.

ص: 32

فما هو التفسير الطبيعي لهذه الظاهرة؟ فإنّ أي جماعة عندما تكون قليلة وتتعرّض إلى قمع تنتهي هذه الجماعة، كما انتهت الكثير من الجماعات، أمّا أن تستمر فترة طويلة من الزمن وبالرغم من ذلك تكبر وتنمو هذه الجماعة كيف!!

لا يوجد هناك تفسير لهذه الحقيقة إلاّ هذا المضمون أن هذه الجماعة أمامها شعار وهدف، هذا الهدف هو لمسيرة الإنسان، فإن كل إنسان وضعه الله منذ اليوم الأوّل هدفاً للمسيرة التكاملية للإنسان، هذه الجماعة وضعت هذا الشعار أمامها شعار العدل، شعار إقامة العدل.

وأيضاً هذه الجماعة تستمد الروح المعنويّة من تضحيات أولئك الذين يمثلون رموز العدل، الإمام عليّ عليه السلام، الإمام الحسن عليه السلام، الإمام الحسين عليه السلام، أئمة أهل البيت، أصحاب أهل البيت الذين تأثّروا بمدرستهم، تأثروا بأخلاقهم، تأثروا بروحهم، وهكذا استمرت المسيرة بهذه الروح، وبهذه النفس، حتى تمكنت أن تكبر وتنمو وتصبح بهذا الحجم القائم الموجود.

الآن لا يشك أحد في عالمنا اليوم أنّ هذا الخط الإسلامي الأصيل الذي تقوده الجمهورية الإسلامية في إيران يتولّى أموره (ولي أمر المسلمين) حفظه الله تعالى وأطال الله في عمره الشريف، أن هذا الخط هو خط يرعب الولايات المتحدّة الأمريكية، خط يرعب أوربا الغربية، يرعب كل الطغاة الموجودين في المنطقة، ولذلك تجد التآمر الآن على هذا الخط في مصر.

ص: 33

وهذه قضية من القضايا، فإنّه على أكثر تقدير _ في إحصاءاتهم _ يقولون أنّ أكثر تقدير لشيعة أهل البيت في مصر مائة ألف نفر، جيد؛ مائة ألف نفر مقارنين بستين أو سبعين مليون مصري ماذا يمثلون من عدد! لا يمثلون شيئاً، فلماذا يخاف المصريون من هذا العدد وجوارهم إسرائيل لا يخافون منها، جوارهم المسيحية العالمية، الوثنية الموجودة في بعض المناطق المحيطة بالحبشة، في المناطق الأخرى الموجودة لا يخافون منها، ويخافون من مائة ألف شيعي وتصبح قضية التشيع في مصر قضية كبيرة ويطرحونها من خلال أجهزة الدولة والإعلام، ويتحدثون عنها في كل مكان.

وهكذا يلاحظ هذا الشيء في الجزائر، ونلاحظ أيضاً هذا النوع من التآمر على شيعة أهل البيت عليهم السلام في مناطق الخليج، نلاحظ هذا الشيء في العراق، نلاحظ هذا الشيء في مناطق أخرى من العالم، يطول الحديث عنها والكلام عنها، لماذا؟ لأنّ هذا الخط له هذه الأصالة، له هذا التجذّر، له هذا العمق في حركته، خط العدل يتحرك باتجاه العدل.

قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه تعني هذه المضامين، هذا المحتوى، هذه الروح، وهي قضية طبيعية تماماً وتنسجم مع حركة البشريّة باتجاه العدل، ولولا هذا الانسجام لم يكن من الممكن أن يصمد شيعة أهل البيت طيلة هذه القرون من الزمن، وفي ظروف قمعية وهم قلّة ومطاردون في كل مكان، وتحت كل حجر ومدر.

ص: 34

واقعاً كان شيعة أهل البيت وما زالوا بهذه الطريقة، وبهذا الشكل يتحولون إلى هذا الشيء، ثم بعد ذلك الآن نلاحظ هذا الشيء الطبيعي الذي نقوله أنّ العالم _ وهذا لا أقوله من باب التحليل، وإنما من باب التجربة لأن عندي معلومات وعندي شواهد وعندي اطّلاع على هذه الحقيقة الآن _ كثير من شعوب العالم يتطلّعون إلى المنقذ، المنقذ الذي يتطلعون اليه كأملٍ هو الإمام المهدي عجل الله فرجه.

هذا المنقذ يتطلّع إليه العالم كأمل، ويتطلعون إلى المنقذ كحقيقة متحركة يشاهدونها ويحسّونها ويشاهدونها في خط أتباع أهل البيت عليهم السلام.

أنا أذكر لكم بعض الشواهد البسيطة جداً الآن، فمثلاً في بلجيكا يوجد عدد كبير جدّاً من المغاربة الذين هاجروا بعد الحرب العالمية الثانية إلى بلجيكا في الأربعينات، يعني قبل خمسين سنة هاجروا إلى تلك المناطق، وأبناؤهم نشؤوا هناك في أوربا، وبلجيكا تعتبر بلداً ثقافته فرنسية ولغتها لغة فرنسية وتقع في وسط أوربا، ومن البلاد المتقدمة الأوربية، الآن بدأت حركة واسعة جدّاً للتشيع وللأخذ بمذهب أهل البيت سلام الله عليهم في أوساط الشباب المغاربة البلجيكيين، لا لشيء إلاّ من خلال القراءة والمطالعة والفحص للحالة الموجودة من ناحية، والشعور بأن الملجأ الذي يمكن أن يلجؤوا إليه في هذه الحياة في المستنقع الأوروبي، سفينة النجاة التي يمكن أن يركبوا فيها في المستنقع الأوروبي إنما هو مذهب أهل البيت سلام الله عليهم،

ص: 35

والآن يوجد أكثر من ألف مغربي جنسيته بلجيكية تشيّع وأصبح من أتباع أهل البيت عليهم السلام.

أذكر لكم أرقاماً أخرى أيضاً تثير الدهشة، فمثلاً عندما يسجّل الناس في الدنمارك، وهي دولة صغيرة أوربية تعتبر من أكثر الدول الأوربية تقدماً في الحالة المادية والرفاه المادي، اخواننا العراقيون المهاجرون الذين ضاقت بهم المعيشة وذهبوا إلى الدنمارك واستقرّوا فيها _ كما تعرفون _ يقولون بأنّ الناس هناك عندما يُسألون في الإحصاءات: (ما هي الديانة)؟؟، تسجّل 92 بالمائة من أبناء الدنمارك أنهم بلا دين، أي عندما نأتي إلى سؤال الديانة: ما هي ديانتك؟ يقول: بلا دين!! بمعنى أنّ الناس بهذا الشكل يعيشون الفراغ.

في إحصاء آخر في جامعة من أهم الجامعات البريطانية كان هناك إحصاء للطلبة الذين يشكلون طبقة مثقفة عادة في هذا المجتمع، طلبة الجامعة كان 75 بالمائة منهم عندما جاء الإحصاء لتسجيل ديانته يقول إنه بلا دين.

هذا النوع من الفراغ الذي تعيشه أوربا والذي تعيشه أمريكا الآن.

يوجد من الشواهد على هذا الموضوع _ العنوان والشعار _ أنّ المرأة أخذت حريتها، وأخذت مواقعها، وتتحرك بشكل واسع وكبير وتساوي الرجل، وأحياناً كأنها متقدّمة على الرجل في هذه الحركة، ومع ذلك نجد أن الكثير من النساء يقبلن على الإسلام، علماً أن الإسلام فيه _ كما تعرفون

ص: 36

_ الكثير من القيود التي يفرضها على المرأة، مثل الحجاب الإسلامي، أقصد هكذا ينظر إلى الإسلام، أنه يفرض قيوداً على حركة المرأة، وعلى سلوك المرأة، وخصوصاً المرأة التي تكون في المجتمع الأوربي، أي أنّ قيوده كثيرة جداً، ففي المجتمع الشرقي توجد قيود ناشئة من المجتمع اجتماعية وعرفية وقضايا عادات وتقاليد إلى غير ذلك، أما في المجتمع الأوربي المرأة آخذة حريتها تماماً، والإسلام يفرض عليها الكثير من القيود الطبيعية الاجتماعية، فهي لا تصافح، لا تتكشف... أشياء كثيرة جدّاً يفرضها الإسلام عليها.

فما هو التفسير لهذه الظاهرة؟ فيكون إقبال النساء في أوربا الغربية على الإسلام أكثر من إقبال الرجال، ويوماً بعد يوم ينمو هذا الأمر! لا يوجد له تفسير إلا هذا الموضوع، موضوع الإحساس بالفراغ والتطلع إلى المنقذ.

بعض الأشخاص أنا سألتهم، وهم على مستوى عالٍ جداً من الثقافة، فبعضهم أساتذة في الجامعة، كان عنده زوجة قال: زوجاتنا هكذا تقول: نحن عرفنا شخصيتنا الإنسانية كمرأة _ وهن مثقفات وعلى مستويات عالية يعني ليس فقط ليسانس بل عند بعضهم ماجستير أو دكتوراه _ يقلن: نحن عرفنا شخصيتنا كمرأة في الإسلام، فهمنا معنى المرأة وشخصية المرأة وخصوصية المرأة، من خلال الالتزام بالإسلام والأخذ بالإسلام.

بالأمس كنت أتحدث مع بعض السادة الأفاضل من العلماء الكبار كنت أقول لهم: الإسلام الذي يمكن أن يطلع على الغرب، ويمكن أن يفتح الفتوح ويفتح الطريق أمام ظهور المهدي عجل الله فرجه إنما هو إسلام أهل البيت

ص: 37

سلام الله عليهم، لا الإسلام المتحلل الضائع الذي لا يتقيد بقيود ويصبح حالة من التميّع والاستعداد للركض وراء الحضارة الغربية كما يقع في ذلك بعض المتميعين، ولا الإسلام المتحجّر الجامد الذي يعبّرون عنه بإسلام أهل الحديث.

سابقاً كان يوجد تعبير عن كلا هذين الإسلامين عند أهل البيت عليهم السلام:

الإسلام الأول المتحلل، ويعبرون عنه (إسلام الرأي) فإنّ أهل الرأي كلما يأتي بذوقهم واستحسانهم يأخذونه ويعتبرونه إسلاماً.

والنوع الثاني من الإسلام كان يعبّر عنه أهل البيت سلام الله عليهم: إسلام أهل الحديث، هؤلاء جامدون على الحديث، هو شيء جيد، أهل البيت كانوا يدعون إلى تدوين الحديث، لكن يقصدون من ذلك أولئك الذين يجمدون على الكلمات والنصوص دون أن يستخدموا عقولهم ودون أن يستخدموا الأسس والقواعد التي وضعها الله سبحانه وتعالى أمام هذا الإنسان، ودون أن يتدبّروا في الأمر، فهؤلاء أناس يجمدون على لفظ الحديث دون أن يكون لهم هذا التدبّر.

الآن أيضاً نحن نعاصر هذا النوع من الخطين في حركة فهم الإسلام، القسم الأوّل خط متحلل، ولا أحب أن أذكر أسماء، وهذا القسم موجود عندنا وفي مصر موجود، وقسم منها في أوربا، وقسم منها في شمال أفريقيا، وموجودة قسم منها في المنطقة، فهؤلاء يتحدثون كلاماً باسم الإسلام لكن ليس له أي صلة

ص: 38

بالإسلام، يعملون أذواقهم وآراءهم وتصوراتهم الشخصية واستحساناتهم ويفترضون أنه هو الإسلام.

وقسم آخر هو الإسلام المتحجر، الذي يعتبر أفضل مثال له (الوهابية)، وهؤلاء هم المتحجّرون في فهم الإسلام، ترون أنه لا يمكن لمثل هذا الإسلام أن يعرّف إلى العالم أو أن ينقذ العالم، ولذلك تجد الوهابيين بالرغم من الإمكانات الواسعة الكبيرة التي تملكها المملكة العربية السعودية، وبالرغم من الانسجام الموجود في سياساتها مع أمريكا والغرب، وأعني بالانسجام هنا أنّه لا يوجد هناك صراع، وبالتالي أمريكا والغرب يفتحون أبوابهم لهذه الحركة الدينية(1)، وبالرغم من وجود عدد كبير جداً من المبلّغين منتشرين في مختلف أنحاء أوربا، ووجود إمكانات سياسية ودعم مستمر بشعارات يطرحونها لكن الآن بدأ هذا الإسلام يتراجع في أوربا وفي أمريكا الشمالية وفي أمريكا الجنوبية، وتتحول بالتدريج كثير من المساجد التي بناها الوهابيون من أجل أن تصبح مراكز لهم تتحول إلى إسلام أهل البيت سلام الله عليهم وتدافع عن هذا الإسلام وعن هذا المنظور.

شواهد كثيرة، أنا لا أريد أن أطيل الحديث الآن في الشواهد، فعندما أقول: استنتاج، ليس استنتاجاً يعبّر عن رغبة وميل، كلنا نرغب في أن الإمام المهدي عجل الله فرجه يكون هو المنقذ الفعلي لكن في هذه القضية توجد أرقام، (التفسير الطبيعي) لهذه الأرقام هو أن هذه الحركة _ حركة العدل _ هي حركة

ص: 39


1- كان ذلك حينما كان لأمريكا اليد الطولى في تأسيس حركة الطالبان في أفغانستان، وهي أول من اعترف بحركة الطالبان كدولة رسمية مع عدم اعتراف الأمم المتحدة بها.

تكاملية منسجمة مع حركة الكون، ومع الحركة التكاملية للمجتمع الإنساني، ولا بد أن تصل إلى نهاياتها وتصل إلى تحقيق هذا الهدف الكبير.

وشيعة أهل البيت سلام الله عليهم إنما نموا وتمكنوا من هذه الأرض وسوف يتمكنون أكثر بعون الله وبإذن الله أيضاً بهذا السبب.

وعندنا شاهد واضح على هذه الحقيقة في العراق، ونجد أكثر الاخوة الآن من الحاضرين عراقيين وإن كان فيهم من اخواننا الأعزاء من الأنصار والمحبين والموالين والمعتقدين بالعراق كنجف، وكمركز، وكإمام علي عليه السلام باعتباره يمثل هدفاً كبيراً، لكن أكثر الاخوة يعرفون ماذا جرى في العراق من عمليات القمع، وعمليات المطاردة، حتى صار الأمر من الوقاحة عند النظام أن يرفع شعاراً (لا شيعة بعد اليوم)(1) ويبدأ بتنفيذ هذا الشعار، فيهدم المساجد والمؤسسات والمدارس والمكتبات، ويقوم بحملة واسعة لقتل العلماء، ويطارد المبلّغين والخطباء، وقبل قليل كنت أتحدث مع أحد الاخوة الأعزاء الحاضرين في هذا المجلس من الخطباء يقول: أنا لحد الآن أحصيت 130 خطيباً في العراق قتلوا واستشهدوا على يد هذا النظام في هذه الفترة الأخيرة.

ليس قليلاً هذا الرقم 130 خطيباً، نظام قمعي قام بعمليات واسعة من أجل أن يقمع هؤلاء الناس، وبالرغم من هذا القمع الآن تجد هذا التبدل العظيم الذي يحصل في العراق باتجاه الإسلام، حتى وصل الرقم في زيارة الإمام

ص: 40


1- كان ذلك في انتفاضة 15 شعبان المباركة حينما أطاح الشعب العراقي بنظام البعث في 14 محافظة، ولكن وبعد اتفاقات بين أمريكا والنظام البعثي حيث أذنوا له في إجهاض الانتفاضة المباركة فقتل من الشعب أكثر من نصف مليون بحسب الإحصائيات الرسمية.

الحسين سلام الله عليه بين ستة إلى ثمانية ملايين زائر كانوا موجودين في كربلاء في زيارة الأربعين.(1)

طبعاً النظام حاول أن يمنع الناس من هذه الزيارة أيضاً، ولكن كربلاء غصّت بهؤلاء الزوار فهي لا تستوعب ثمانية ملايين، بعض الأشخاص من الزائرين كان يقول: سابقاً كان الازدحام الذي لا يطاق في داخل الحرم، أمّا عندما ذهبت في زيارة الأربعين فإنّ كربلاء كلها كانت حرماً في ذلك الوقت بسبب الزحام والإقبال على زيارة الإمام الحسين عليه السلام.

وهذا الشيء في الواقع يعبّر عن هذه الحقيقة.

ونحن أيها الاخوة لا بدّ لنا من الالتفات إلى أمور:

الأوّل: أن يكون إيماننا بالإمام المهدي عجل الله فرجه إيماناً عميقاً.

والثاني: أن نعرف أن عنوان الإمام المهدي عجل الله فرجه هو قضية العدل، وهذا العدل قضية أوصي نفسي بها وأوصي بها كل إخواني الأعزاء، فالعدل يدخل في كل التفاصيل، فالإمام عليه السلام يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

يجب أن ننتبه إلى سلوكنا، إلى حركاتنا، إلى كلماتنا، إلى عواطفنا ومشاعرنا ومواقفنا، ويجب أن نعرضها على الله سبحانه وتعالى وعلى الحكم الشرعي، من أجل أن نعرف العدل فيها، وإلاّ قد تكون كلمة أو سلوك أو عمل، يكون متسماً بالظلم، والإنسان في غفلة عنه.

ص: 41


1- وذلك عام (1998م).

طبعاً الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، وهو غفور رحيم، وهذه الليلة المباركة ليلة دعاء _ كما ذكرت _ وإنابة وتوبة إلى الله سبحانه وتعالى ليغفر الذنوب (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا.

يجب أن نأخذ قضية العدل مأخذاً جدّياً في حركتنا.

والثالث: أن نكون من المنتظرين حقاً لتحقق هذه الدولة الشريفة، والمساهمين في تحققها ولو بخطوة أو خطوتين في هذه المسيرة، حتى نكتب في جنود الإمام المهدي عجل الله فرجه.

نحن الآن نتمنى رضاه..نتمنى أن نكون في موضع الرضى من الله سبحانه وتعالى، ثم في موضع الرضى منه، ولكن لا شك أنه عندما يسجّلنا في دفاتره بأننا جنود له فإنّ هذا أعظم شرف، وأعظم رضى منه صلوات الله وسلامه عليه.

أنا بعض الأحيان أذهب إلى مناطق المخيمات وتجمعات العراقيين فيأتون ويلحّون عليّ ويقدّمون العرائض، يطلبون التطوع في فيلق بدر، بعضهم يقول: ولو سجّل اسمنا، يعني أنّه عنده حب أن يسجّل في قوائم المجاهدين، في قوائم الشهداء، في قوائم المؤمنين، في قوائم الصالحين، فكيف إذا كان التسجيل في قائمة الإمام المهدي عجل الله فرجه..واقعاً نحن نعتقد بأنه إمام

ص: 42

عصرنا إمامنا يرعى مسيرتنا، فكيف يمكن أن يسجّلنا من جنوده ما لم يكن لنا عمل أو فعل يصب في خدمة أهدافه، ويصب في خدمة هذه المسيرة؟!

نسأل الله تعالى أن نكون من هؤلاء الجنود.. أن نكون من هؤلاء المؤمنين المرتبطين بهذه المسيرة..أسأل الله لكم ذلك من صميم القلب.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد واجعل اخواني المؤمنين نصيبهم من هذه الدنيا أن يكونوا جنوداً للإمام المهدي عجل الله فرجه.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد واغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

اللهم تغمّد شهداءنا الماضين برحمتك الواسعة.

اللهم تغمد علماءنا و مراجعنا برحمتك الواسعة.

اللهم تغمّد سلفنا الصالح برحمتك الواسعة.

اللهم نسألك أن تمنّ علينا بالإجابة في هذه الليلة الشريفة..توفقنا للعمل الصالح..توفقنا للدعاء، للإقبال عليك، للتوسل بك، ثم نسألك يا ربنا أن تستجيب دعانا وأن تبلغنا منانا.

اللهم انتقم من الطاغية صدام انتقاماً عاجلاً سريعاً، اللهم خذه أخذ عزيزٍ مقتدر.

اللهم اثأر لشهدائنا إنك أنت القوي، أنت العزيز، أنت القادر، أنت العالم بأمورنا، أنت الرحمن الرحيم الرؤوف.

ص: 43

اللهم إنّا نسألك بكل أسمائك الحسنى أن تنتقم من هذا الطاغية، وأن تفرّج عنّا وعن اخواننا المؤمنين.

اللهم فرّج عن اخواننا في العراق.

اللهم احفظ اخواني الحاضرين..اللهم بلّغهم مناهم.

اللهم تغمّد إمام الأمة برحمتك(1)، احفظ هذه الدولة الشريفة، احفظ ولي أمر المسلمين، احفظ علماءنا ومراجعنا واحرسهم بحراستك.

وإلى أرواح الشهداء وسلفنا الصالح خصوصاً الشهيد الصدر وإمام الأمة، رحم الله من قرأ الفاتحة قبلها الصلاة على محمد وآل محمد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 44


1- أي الإمام روح الله الموسوي الخميني قدس سرّه.

نسب الإمام المهدي عليه السلام

اشارة

سماحة السيد كاظم السرابي

ص: 45

ص: 46

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

نتقدم بالإجلال والإكبار لنقف بين يدي سيدنا ومولانا ولي العصر وصاحب الزمان، لنقدّم له أحلى التهاني والتبريكات بمناسبة إطلالته المباركة وميلاده الميمون، كما ونبارك لجميع أبناء هذه الطائفة، وفي مقدمتهم المراجع العظام والعلماء الكبار سيّما القائد آية الله الخامنئي حفظه الله.

إخوتي الكرام إنّ السماء شاءت أن تجعل من هذا الميلاد المبارك ميلاداً لكل ما هو خير لهذه الإنسانية، حتى أنّ الزواج الذي أنتج هذا المولود هو زواج رتّبته السماء، وأشرفت على تدبيره، فالسيدة نرجس والدة الإمام الحجة صلوات الله وسلامه عليه ما كانت من بنات الأمّة الإسلامية، بل كانت شابّة مسيحيّة، وهي نرجس ابنة يشوعا قيصر الروم.

لماذا شاءت السماء أن يتم الزواج بين أبي محمد العسكري سلام الله عليه وبين ابنة الملك هذه؟ هل أنّ بنات الأمّة الإسلاميّة قليلات لماذا؟ إنّها إرادة السماء.

ص: 47

كلكم أو جلّكم سمع بقصة زواج بنت قيصر الروم، كانت بنتاً صالحة مسيحيّة تمت خطبتها وتمّ نقلها إلى أهل البيت من بيت أبيها إلى بيت النبوة بواسطة الرؤيا، حيث رأت السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها قامت بالترتيبات اللاّزمة، كل شيء تم بواسطة عالم المنام..

أعطيت الخطّة والإرشادات كيف تنتقل إلى أهل البيت عليهم السلام، فقيل لها: سوف تقع حرب بين الروم والمسلمين. أمّا بالنسبة لك فالبسي ملابس الجواري وانخرطي مع الخدم وجيش الروم وسوف تقعين أسيرة وتعرضين في السوق للبيع فلا تقبلي بأن يشتريك أحد، ارفضي كل من يأتي لشرائك، إلاّ إذا جاء رجل يحمل كتاباً من أبي محمد العسكري سلام الله عليه، فهو الخاطب لك.

وتمّت الخطبة والتزمت تلك البنت بتلك الإرشادات حتى وصلت إلى بيت مولانا الإمام الحسن العسكري عليه السلام ليتم ذلك الزواج الذي نتج عنه أعظم مولود في سنة 255ه_ إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة.

ففي مثل هذه الليلة من سنة 255ه_ وقبل بزوغ الفجر بزغ البدر الثاني عشر في سماء الإمامة وتلطفت السماء على أهل الأرض بأعظم هدية، وأزين هدية، الهدايا تقدّم على طبق من ذهب إذا كانت غالية لكن هدية السماء هذه قدّمت على كفين طاهرتين هما أفخر وأغلى من الذهب إنهما كفّا الإمام الحسن العسكري عليه السلام هذا الإمام _ أيها الاخوة _ اكتنفت إمامته الغموض، وأثيرت حوله الشكوك لماذا؟ لأنّ البشرية قاصرة عن هضم كثير

ص: 48

من إطروحات السماء. عقول الناس لا تهضم كثيراً مما تطرحه السماء. أكثر الأمور التي يؤمن بها الشيعة لم يفهمها حتى الكثير من الشيعة أنفسهم.

الإمام الحجّة صلوات الله عليه ولد بالخفاء، إمامته بالخفاء. وأثيرت حوله وحول آبائه كثرة من الشكوك والشبهات والتساؤلات.

فالإمام الصادق عليه السلام عندما حضرته الوفاة أوصى إلى خمسة، أحدهم الإمام موسى الكاظم للتعتيم والتغطية عليه، لظروف قاسية مرت به.(1)

وكذلك جدّ الإمام الحجّة، وهو الإمام الهادي جرت عليه قصّة، لا أدري مضحكة أم مبكية. مات الإمام الجواد سلام الله عليه وعمر الإمام الهادي لم يبلغ سبع سنوات. فعندما بقي الإمام بهذه السن قام المتوكّل العبّاسي بجلب أستاذ ومعلّم لتأديب وتعليم علي الهادي. هذه المصيبة هو إمام الأمّة قاطبة إمام البشر ويأتون له بمعلّم، هذه إحدى مصائب أهل البيت. فحجزه في القصر وقال: أريد معلّماً يبغض أهل البيت ناصبي حتى يغيّر هذا الصبي فلا يكون على خط آبائه، فوقع الاختيار على رجل عالم بالأدب والعلم يقال له الجنيدي أو الجُنيد. جيء به لتأديب علي الهادي. يقول هذا: عندما قمت بتدريس هذا الصبي إذا قدّمت له حرفاً يشرح لي عن هذا الحرف علوماً لا أعلمها، وراح يقدّم لي علوماً لم أسمع بها، والناس يظنون إنّي أعلّمه، ولكن في الحقيقة إنّي أتعلّم منه، وأصبحت أنا تلميذاً عند هذا

ص: 49


1- الكافي للكليني، ج 1: 310، ح 13، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب، ج 3: 434.

الصبي، وإنّي لأعجب منه فهو صبي من أين يأتي بهذا العلم؟(1) صحيح ربّما يكون طفلاً نابغة بالاستثناء، لكن عنده هذا العمق العلمي بحيث يحدثني بعلوم الأولين والآخرين. إن هذا مما لا يهضمه العقل. فخرج وهو متعجّب!!

فالإمام الحجة سلام الله عليه ليس هو الوحيد الذي أثيرت حوله الشبهات. فهناك شبهات حول مسألة طول العمر، وأريد أن اختصر لك قضية طول العمر بأدلة علمية وبقضايا عقلية ودينيّة.

أما من حيث القضايا العلميّة فقد ثبت علميّاً أنّ في جسم الإنسان خلايا وهذه إذا حظيت بتغذية صحيحة وظروف ملائمة، وابتعاد عن العطب والتمزيق، تعيش إلى سنين طوال. وحتى الحيوان كذلك وليس فقط الإنسان. واكتشف مؤخراً في القطب الشمالي أسماك منجمدة عمرها ستة آلاف سنة، عندما أخرجت من الثلوج، وأرسلت بالماء فإذا بها حيّة تتحرّك.

وهذا يدعمه قول الباري جلّ وعلا (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(2) يعني هذا الحوت عنده قابليّة أن يحيى إلى يوم القيامة بإذن الله تبارك وتعالى.

قام دكتور _ كارل _ وهو جراح أمريكي بأخذ عيّنات من جسم الإنسان؛ من الجلد، ومن الكبد، ومن القلب، قطع من اللّحم وزرعها زرعاً علمياً وأخذ

ص: 50


1- راجع: إثبات الوصية للمسعودي: 222.
2- الصافات، الآية: 143 _ 144.

يغذّيها وإذا بقطعة اللحم التي تتغذى خلال ساعة تعيش إلى أكثر من ثمان سنوات. إذاً قابلية في جسم الإنسان للعيش والديمومة. طبعاً كثيرة هي الأدلّة العلمية لكن نأخذ من كل جانب عيّنة.

القانون الإلهي الذي بحكم الطبيعة يحكم على الإنسان، لا يحكم على الله، بل الله يحكم عليه. مثلاً: عندما يسقط الإنسان من الأعلى إلى الأرض فقانون الجاذبية يقتضي تهشّم العظام والموت. لماذا؟ لأن هذا قانون. وليس لي الخيار أمامه. قانون النار تحرق. أنا لا أتمكن أن أغير هذا القانون، أن أحوّلها من نار إلى ماء. وهكذا قانون الماء مثلاً أنه مادّة سائلة، لا أستطيع أن أجعله يقف كالعمود أو كالحجر، دائماً يأخذ هذا الشكل.

لكن هذه القوانين بالنسبة إليّ لا أتمكن أن أغيّرها، أمّا بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى فالأمر مختلف تماماً، وهو خالق هذه الأمور كلها. وهو قادر أن يجعل من النار برداً وسلاماً (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)(1) تحولّت من محرقة إلى باردة، كيف؟ الحاكم على القانون هو الذي تصرّف.

الماء لا يقف كالجبل كالحائط، لكنه وقف عندما انشق لموسى عليه السلام (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(2) الحاكم على القانون هو سبحانه والذي عطّل هذا القانون هو أيضاً.

ص: 51


1- الأنبياء، الآية: 69.
2- الشعراء، الآية: 63.

فإذاً طول العمر ليس قضية مستعصية، خصوصاً وأنّ القرآن يشهد، والتأريخ يشهد بأن هناك من عمّروا طويلاً مثل نوح عليه السلام، فالقرآن يسجّل رقماً لحياته وهو 950 سنة يقال أنّ هذه فترة النبوّة أما عمره فيبلغ ألفين أو ثلاثة آلاف سنة، آدم عليه السلام عمّر 930 سنة، شيث عليه السلام عمّر 912 سنة، وهكذا.

وبعضهم معمّر من قبل آدم إلى يوم القيامة وهو إبليس لعنه الله. إبليس قبل آدم مخلوق ولا زال حياً ويشهد بذلك القرآن.

الخضر عليه السلام.. عيسى عليه السلام.. إدريس عليه السلام، وهكذا عندنا قائمة من المعمّرين الأحياء. فلماذا الاستنكار والاستكثار على الإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه؟ الذي يغيّر القانون في الماء وفي النار وفي الأحياء، يغيّر هذا القانون، ويجعل هذا الإمام حياً. لماذا هذا التعجب والاستثارة؟

أيّها الإخوة تعالوا لنفهم ما هي قضية الإمام الحجّة؟ من هو إمامنا في هذا الزمان؟ هل نعرف عنه شيئاً؟ لماذا غاب؟ وما هي أسباب الغيبة؟ وما معنى الانتظار؟

هذه المصطلحات والمفاهيم دائماً نسمعها ونتداولها ولكن البعض لم يفهم ما معنى الانتظار وما معنى الغيبة.

الغيبة:

ص: 52

متعارف فيما بيننا حينما نقول: إن فلاناً غائب، يعني غير موجود في هذا المكان. لكن هذا المعنى لا ينطبق على الإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه، لماذا؟ لأن غيبة الإمام لا تعني عدم الوجود في هذا المكان لكونه في مكان آخر، بل لها معنى آخر وهو التخفّي.

فهو موجود، نراه وقد نسلّم عليه، وقد يجيبنا على سؤال، وقد يدلّنا على طريق. يمارس دوره كإمام لكننا لا نعرفه بالذات.

هذا هو معنى الغيبة. التنكّر والتخفي لا الغياب فربّما كان جالساً في مجلسنا هذا، في مجالس أخرى، سيّما وأن العالم الشيعي الإسلامي يحتفل هذه الليلة بميلاده الميمون المبارك، فهو حاضر حتماً لكن لا نعرفه. وهذا معنى الغيبة، غائب لا يعني أنّه غير موجود إطلاقاً، إذن أين موجود هو؟ لا ندري إنّه متخفّي.

سبب الغيبة:

متى يظهر الإمام...هذه النقطة مهمّة _ توجّه إليّ قليلاً _ إذا عرفنا أسباب غيبة الإمام، عرفنا متى يظهر الإمام.

الآن لا يستطيع أحد أن يعرف متى يظهر الإمام، لكن بطريقة واحدة نعرف متى يظهر، أتدري متى يظهر؟ تعال لنعرف أسباب الغيبة لماذا غاب الإمام؟ المفروض أن يكون الإمام حاضراً بين ظهرانينا، يخطّط يوجّه يدرس يدير البلدان. لماذا لم يحضر؟ لماذا لم يظهر؟

ص: 53

الجواب واضح: أنّ الإمام سلام الله عليه بما أنّه خاتم الأوصياء فإذا قُتل خلت الأرض من حجّة. وإذا خلت من حجّة ساخت بأهلها. فالنبي صلى الله عليه وآله قال: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض)(1) الإمام سلام الله عليه أراد شيئين، وهما سبب الغيبة.

الشيء الأوّل: أن يبقى إماماً وحجة لله على الخلق.

والشيء الثاني: أن يبقى بعيداً عن متناول الظلمة والطواغيت، لأنّه لو كان ظاهراً كآبائه كان مصيره مصير آبائه سلام الله عليهم. سجن أو تشريد أو تعذيب. وبعد ذلك يعيش أياماً ثم يقتل. والنتيجة هي خلوّ الأرض من حجّة. وهذا خلاف القانون الإلهي.

فالإمام عليه السلام جمع بغيبته بين ممارسة دور الإمامة، وبين السلامة من أذى الطواغيت.

فإذاً سبب الغيبة هو عدم وجود قاعدة تحتضن الإمام، تنصر الإمام، فمتى ما توفّرت هذه القاعدة وجاءت الإرادة الإلهيّة، يظهر الإمام. وهذا يعني: أننا وصلنا إلى معنى الانتظار.

معنى الانتظار: تهيئة القاعدة وتحضيرها. كل واحد يبدأ بنفسه. أنا وأنت وذاك. ابدأ بنفسك للتهيئة لخروج الإمام سلام الله عليه.

ص: 54


1- كفاية الأثر للخزاز القمي ص 29، وغاية المرام للبحراني ج 1: 24، وشرح إحقاق الحق للمرعشي ج 9: 307، ج 18: 553، ج 24: 341 _ 352.

من هنا نفهم أن المهدي عليه السلام مولود وموجود غائب، وهو بحاجة إلى تمهيد لظهوره، ولا شك في وجوده عند كل عاقل.

ثم أنّ النبي صلى الله عليه وآله أثبت بحديثه الشريف أنّ الإمام موجود بالرغم من المنكرين والملتفين على فكرة الإمام سلام الله عليه، حيث قال: (لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)(1) يعني أهل البيت والقرآن لا يحصل بينهما أي افتراق إلى يوم القيامة.

فلو كان الإمام الحجّة ليس موجوداً كما يدّعي البعض لحصل الافتراق بين أهل البيت وبين القرآن. وهذا يعني نقضاً لكلام النبي صلى الله عليه وآله. ولا ينقض كلام رسول الله صلى الله عليه وآله.

فإذن الإمام موجود حتماً.

ثم إنّ النبي صلى الله عليه وآله قال: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(2) الميتة الجاهلية يعني ليس له إمام، أي ليس على الإسلام فهو جاهلي فيصير إلى النار. فإذا كان الإمام ليس موجوداً منذ الحسن العسكري سلام الله عليه وإلى يومك هذا. فما ذنب الأجيال تموت على غير هدىً وتذهب إلى النار؟ التقصير والذنب على عاتق من يقع؟ تقصير النبي؟ أبداً

ص: 55


1- الامامة والتبصرة لابن بابويه ص 8، 44، 25، والغيبة للنعماني ص 50، 78، والكافي للحلبي ص 97...
2- المعيار والموازنة للاسكافي ص 24، 209، 321. وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص 43، 422... والامامة والتبصرة لابن بابويه ص 10، 33، 63...

ليس تقصير النبي صلى الله عليه وآله. التقصير والعيب بالذين نصبوا العداء لأهل البيت.

حتى اخواننا أبناء السنة أكثرهم يجمعون ويتّفقون معنا على وجود الإمام صلوات الله وسلامه عليه. وأنه ولد، والبعض منهم يقول: يوجد لكنه لم يولد الآن، وهذه نظريّة خاطئة، لأنه إذا لم يولد لحدّ الآن فمعنى ذلك أن الأجيال كلّها ماتت بغير إمام.

أحد الباحثين وصل إلى نتيجة وهي: أنّ الإمام موجود من ستين مصدراً من أبناء السنّة. إضافة إلى المصادر الشيعية.

وللعلم فإنّ هناك من شهد بوجود الإمام من غير المسلمين، وهو المتنبئ الفرنسي (نوسترا داموس) قبل 500 سنة تقريباً، إذ ظهر في فرنسا وكان عنده أدوات خاصة يعرف من خلالها أحداث المستقبل. طبعاً تنبأ بأمور كثيرة وتغيرات حدثت في أوربا كلها تحققت، مثل: ظهور نابليون وأمثاله. هذا المتنبئ قال: سوف يخرج _ وكانما حدّد بسنة الألفين أو ما يقاربها _ يخرج رجل من ولد إسماعيل يعني الإمام سلام الله عليه، حتى أنّ الولايات المتحدّة الأمريكيّة على ضوء هذه النبوءة، صنعت فلماً لخروج الإمام المهدي سلام الله عليه. وكيف أنه يحتل العالم، وكيف ينشر الرسالة، وهذا الفلم يعرض في التلفزيونات والسينمات لمدّة ثلاثة شهور.

كل من له عقل يفكّر ويقف أمام الحقيقة بدون حواجز سيصل إلى أن الإمام الحجّة صلوات الله عليه موجود، وسيملؤها قسطاً وعدلاً، وهذه

ص: 56

الكلمة (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً)(1) تعبير عن أكبر حركة إصلاحيّة تحدث على هذا الكوكب في طور البشريّة، عملية تصحيح عامّة لسلوك البشريّة. فالإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه هو المصحّح والمصلح الأكبر، الذي يدعمه العلم والعقل والفطرة والمنطق والدين.

وقد يطول بنا المقام لو سردت لكم الأدلّة من آيات وأحاديث وقصص على وجود الإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه.

وأختم حديثي بقصة: (أبي الأديان). أبو الأديان أحد أصحاب الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه.

هذا الرجل أرسله الإمام بمهمّة من سامراء إلى منطقة أخرى، فقال له الإمام: إنّ سفرتك هذه تستغرق خمسة عشر يوماً. وإذا رجعت إلى سامراء ستسمع الواعية، يعني: تسمع بكاء وجلبة وضجيجاً، فقال له: ماذا يا مولاي؟ قال: تجدني ميّتاً وجسمي مسجّى على الأرض، قال: مَن مِن بعدك؟ قال لمن يصلّي عليّ... هذا أوّلاً، ولمن يجيب على الأسئلة ولمن يخبر ما في الهميان، ثلاث علامات إذا تيسّرت عند هذا الشخص كبيراً كان أو صغيراً لم يحدّد له. فهو الإمام من بعدي.

ذهب أبو الأديان ورجع وإذا بسامراء خرجت عن بكرة أبيها، فتقدّم جعفر _ الذي كان يلقّب بالكذاب وأصبح توّاباً حسب ما ينقل _

ص: 57


1- سنن أبي داود ج 2: 309، والمستدرك للحاكم ج 4: 464، ومجمع الزوائد ج 5: 180 وج 7 ص 313، ودلائل الإمامة للطبري، ص 9، 134، 184،... والتوحيد للصدوق ص 82، والاعتقادات للشيخ المفيد ص 95، 122، ورسائل في الغيبة للشيخ المفيد ص 12.

فأراد أن يصلّي على الإمام، وهو أخو الإمام العسكري سلام الله عليه، يقول أبو الأديان: كنت أنظر وإذا بصبي خماسي، ابن خمس سنوات جذب جعفراً من ثيابه، وقال: تنحّ يا عم فإني أولى بالصلاة على أبي، أنا ولي الأمر، فصلّى عليه، يقول أبو الأديان: قلت في نفسي: هذه الأولى، ثم جاء أناس فأجابهم على الأسئلة ثم أخبرهم بما في الهميان وكان عندهم حقوق شرعية بعملات مختلفة، عند ذاك عرف أبو الأديان أن الإمام من بعد العسكري عليه السلام هو ولده الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف.(1)

قد يقال: كيف يستلم الإمامة وأنتم أيها الشيعة تعتقدون أن الإمامة رئاسة العالم، الإمام وكيل النبي والنبي مبعوث للجميع، فإذن الإمام رئيس الكرة الأرضية، كيف يكون ابن خمس سنوات رئيس الكرة الأرضية؟ أما تخجلون أما تفكرون؟ أين العقول؟ أين المنطق؟

يقال: أيها العاقل أما سمعت القرآن الكريم يقول (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)(2) كم عمره؟ كان عمره يوماً أو أقل، عيسى سلام الله عليه قدّم نفسه نبيّاً لبني إسرائيل.

ص: 58


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة ص 606، وينابيع المودة للقندوزي ج 3: 325.
2- مريم، الآية: 30.

فإذا كانت النبوّة تعطى لطفل صغير في المهد فهل نستكثر على الإمامة أن تكون عند ابن خمس سنوات؟

ثم هل أنّ الإمامة هي رئاسة جمهوريّة حتى تنتخب من قبل الناس؟ لا، الإمامة منصب إلهي يعطى للطفل الرضيع ولابن التسعين ولابن خمس سنوات، لأنّ القرار إلهي ولا خيار للبشريّة أمام الخيار الإلهي.

أين التسليم لأمر الله إذا كنا نناقش كل شيء؟ هذا معناه نأتي بالشريعة كلها ونفهم الحكم منها، فعدم هضم قضية الإمامة قصور في الفهم، وإذا كان الإنسان قاصراً في فهمه وكان عقله محدوداًً فلا يلقي باللائمة على الشريعة وعلى أطروحات السماء لهذه البشرية.

والإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه لا أحد يراه، حتى في الغيبة الأولى، عندما غاب كان يتصل بالناس من خِلال العلماء الوكلاء. وعندما قام بتعويد الناس وترتيب المراجعة وربط الأمّة بالمراجع غاب الغيبة الكبرى، ولم يره أحد إلاّ لضرورة وعلى غير توقّع. كما نقل عن العلاّمة الحلّي.

أختم ثانية بهذه القصّة، وهي: أنّ السيد حيدر الحلّي _ شاعر أهل البيت _ كان يكتب كل سنة قصيدة، وقبل أن يقدّمها إلى الخطباء وإلى الشعراء والكتاب يلقيها بنفسه، فألّف قصيدته المشهورة:

مات التصبّر بانتظارك *** أيّها المحيي الشريعة

انهض فما أبقى التصبّر *** غير أحشاءٍ جزوعة

قد مزّق الثوب الأسى *** وشكت لواصلها القطيعة

ص: 59

... إِلى أخر القصيدة، يردّدها بينه وبين نفسه، وكان قد كتبها في الليل وجاء يستريح في بستان وهو في طريقه إلى إلقائها.

جلس يردّد القصيدة فجاءه رجل بزيّ عربي جلس إلى جانبه، سلّم عليه قال: يا سيد حيدر اسمعني قصيدتك. الرجل لم يكن متوقعاً، فإنّ الإمام التقى بأناس لكنه على حين غفلة، لكي لا يشعروا به ولا يعرفوه بإذن الله. يقول السيد حيدر: قرأت القصيدة وإذا به ينتحب باكياً، دموعه تتحادر على وجنتيه إلى أن وصلت...

ماذا يهيجك إن صبرت *** لوقعة الطف الفظيعة

حيث الحسين على الثرى *** خيل العدا طحنت ضلوعه

إلى آخر القصيدة...

يصل إلى الرضيع يقول أجهش بالبكاء. فقال: كفى كفى يا سيد حيدر فإنّ الأمر ليس بيدي، حكمة إلهيّة متى ما اكتملت الظروف وشاءت السماء أن أظهر، أظهر...

وما بوسعنا أيّها الاخوة إلاّ أن نبتهل إلى الله تبارك وتعالى أن يوفقنا للتمهيد _ على الأقل _ لظهور الإمام الحجة صلوات الله وسلامه عليه، وأن يرينا ولو يوماً من دولته المباركة وحكومته الشريفة المقدّسة، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه، وأن يوفق الجميع للعمل الصالح سيما في هذه اللّيلة الشريفة.

ص: 60

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 61

ص: 62

محن وآلام صاحب الزمان عليه السلام

سماحة السيد حسين الحكيم

ص: 63

ص: 64

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قال الله تعالى في كتابه الحكيم (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(1) صدق الله العلي العظيم.

نبارك لكم هذا اليوم الأغر وهذه المناسبة السعيدة التي نحتفل فيها بميلاد إمام زماننا وسيدنا ومولانا الحجة بن الحسن صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.

هذه الولادة يمكن أن نقول عنها: ولادة الفرح الكبير، بل ولادة الفرح الأكبر، لأنها ولادة العدل لكشف الظلم، ولأنها ولادة الحق لإزهاق الباطل، ولأنها ولادة سيدنا ومولانا الحجة بن الحسن المعد لتحقيق آمال الأنبياء، وكل الرسالات السماوية التي جاءت وهدفها أن تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً. ولا يتحقق هذا الهدف إلاّ على يده صلوات الله عليه.

ص: 65


1- سورة القصص، الآية 5.

ولكن هذا الفرح حينما نحتفل به في زمان الغيبة يكون فرحاً مشوباً بالحزن. لماذا؟ لأننا نحتفل بولادة وليدها غائب. ذكرى ولادة مولود سعيد، مولود عظيم مولود هو الفرح بعينه، ولكن أين هو هذا المولود أين استقرت به النوى؟ هذا الفرح فرح مشوب بالحزن واقعاً.

والقلب الشيعي والقلب العراقي بالخصوص قلب مفعم، يبحث دائماً عن مواطن الأسى ليعبر عما في قلبه من آلام وأحزان قد أحاطت بالعراقيين من كل جانب.

ولنتحدث في هذا اليوم السعيد، وفي هذه المناسبة المباركة العطرة عن أحزاننا وعن شجوننا وعمّا يمر بنا، ارتباطنا وعلاقتنا تحديداً بإمامنا، إمام زماننا، وعن غيبته التي كانت سبباً لهذا الحزن، ففراق الحبيب من أشد ما ابتلى الله به عباده.

ولكن حينما نمر على مكامن الأسى في هذا الحزن لابد أن نتذكر، ولابد أن نستحضر أن إمامنا وحبيب قلوبنا صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين هو الذي يسبقنا حتى في حزننا.

فتعالوا لنتأمل ولنتحسس بأحزانه، إذا كنا نحب ولينا وإمامنا وسيدنا صاحب العصر لابد أن نعيش أو نحاول أن نقترب مما يحمله ذلك القلب من حزن.

نحن نعيش حزن الغيبة، وهو عليه السلام مع كونه قائداً إلا أنه يعيش حزن الغيبة أيضاً، ولكن عندما يلتقي حزننا بحزنه، وعندما يكتوي يومنا بجمره، يزداد الجمر اتقاداً وتزداد العواطف التهاباً. نحن نحزن ونحن نتألم لأن إمامنا وسيدنا غائب عنا ومفارق لنا. ولكن هو أيضاً يحزن لأننا نحن مفارقون له.

ص: 66

وقد يغفل البعض عن هذه السنخية، عندما يكون شخص ما في ظروف معينة تستدعي منه الاختفاء عن بعض الرقباء، بحيث لا يريد لأحد أن يطلع على مكانه، حتى أقرب الناس إليه. ويمر من بعيد أحد أعزائه، أو أحد أولاده، أو أحد أعوانه وهو يراه ولكن لا يتمكن من أن يخاطبه، وأن يحادثه، وأن يكاشفه بما يعتلج في قلبه. هذا ألم قد يكون أشد ألماً من ذلك المفارق وأشد ألماً من ذلك الذي لا يعلم من أمر هذه الحقيقة شيئاً.

والقلب العراقي يفهم الألم، ويدركه أكثر من غيره بلا مبالغة.

نعود مرة أخرى لغيبته صلوات الله عليه وعلى آبائه، فنجده أيضاً إماماً لنا في ذلك الألم. عندما نجد هذا الظلم، وعندما نجد هذه القيم التي ضاعت من دنيانا، وعندما نجد الشريعة التي انتهكت حرمتها في دنيانا، نتألم، لأنه هو المعد لإعادة الحق إلى نصابه. ولكن هو يتألم أكثر منا. صحيح قد يخاطبه بلسان حالنا شاعرنا(1) الذي ينطق باسمنا يقول له:

الله يا حامي الشريعة *** أتقرّ وهي كذا مروعة

كم ذا القعود ودينكم *** هدمت قواعده الرفيعة

تنعى الفروع أصوله *** وأصوله تنعى فروعه

ولكن حينما نعيش هذا الألم، وحينما نكتوي بهذا الجمر. هو أيضاً صلوات الله عليه يتحسس بهذا الألم أكثر منا أضعافاً مضاعفة، ولكن نحن

ص: 67


1- هو الشاعر المرحوم السيد حيدر الحلي قدس سره.

بحدودنا، بضعفنا، بعجزنا تضيق صدورنا عن تحمل الألم فنبث هذه الشكوى التي يكون هو عليه السلام صاحبها الحقيقي، فهو منشأ الشكوى الحقيقية وليس نحن، يخاطبه شعراؤنا، وحق لهم أن يخاطبوه، فإلى من يشتكي المهموم إلا إلى إمامه؟

أصبراً وكادت تموت السنن *** لطول انتظارك يا بن الحسن

نحن نتضرر صحيح ونحن نتألم لأن السنن ضاعت، ولأن القيم اندثرت. ولكن هو يعيش هذا الألم أكثر منا.

رفقاً بإمامنا عندما نعاتبه. رفقاً بذلك القلب الممتلئ بالحزن والألم. صحيح نحن نعاتبه. إذ لا ملجأ لنا إلا إليه. صحيح هو إمامنا ولكن لا ننكأ الجراح التي في قلبه صلوات الله عليه.

لنعرف نحن لمن نخاطب. هذا إمامنا وهذا حبيب قلوبنا وهذا المتألم أكثر منا سلام الله عليه.

نحن نتألم مرة أخرى عندما نجد الثأر معطلاً. والذي عنده ثأر لا يقر له قرار حتى يأخذ بثأره، لا يتحمل تأخير الثأر يوماً أو شهراً أو سنة. هذه ثاراتكم يا أئمتنا، وهذه ثارات جدتكم الزهراء. وهذه ثارات الحسين، وآل الحسين. هذه ثارات زينب وأطفال زينب تؤلمنا وتؤرقنا ونحن نتمنى أن نخرج معك وبقيادتك يا سيدي وقد طالت علينا غيبتك.

ولكن بربكم من الذي يعيش ألم تأخير الثأر حقيقة؟ نحن نعيش ألم الثأر أكثر أم هو الذي يعيش ألم الثأر؟ الثأر ثأره ونحن إذا نغضب نغضب من أجله ومن أجل أهل بيته. نحن إذا نغضب نغضب من

ص: 68

أجل أجداده من أجل جدته الزهراء، من أجل ضلعها المكسور، ولكن عين الزهراء الحمراء ما زالت لحد الآن شابحة تنتظر الأخذ بثأرها. وأضلاع الإمام الحسين المكسرة المهشمة ما زالت تنتظر وأسر زينب وعبرات زينب تنتظر، وأول ما تنتظر صاحب العصر. هو يعلم بهذا جيداً.

لكن مع ذلك حينما يأتي موسم الحزن، وحينما يهل علينا عاشوراء، نجد أننا نطالبه بأخذ الثأر، البدار يا صاحب الأمر البدار البدار، طال على شيعتك الانتظار. نحن نخاطبه وكأن قلبه فارغ، وكأننا نحن الذين نعيش الألم وهو الخلي من الألم، لقد صدق السيد حيدر الحلي رحمه الله حينما يقول:

وإنّ أعجب شيءٍ أن أبثكها *** كأنّ قلبك خالٍ وهو محتدم

يقول له: سيدي أعجب شيء أن هذه الشكوى التي أبثك إياها، والتي أعبر بها لك عما يعتلج في صدري مع كون قلبك محتدماً بالأحزان، ولكن أنا أبثك الشكوى لضيق صدري لضيق قلبي.

ولكن ساعد الله قلبك يا سيدي يا صاحب الزمان، نحن نتألم بسبب طول المدة، وبسبب الثأر المعطل. ولكن هو يتقدمنا في هذا الألم.

إذا كنا نحب صاحب العصر حقيقة لابد أن نفكر ولو سويعة في هذا القلب الكبير، هذا قلب الإمام الذي هو إمام القلوب، هذا القلب ماذا يحمل في داخله من عذاب، ومن أحزان، ومن شجى؟

ص: 69

نتألم حينما نقول له: سيدي أحاطت بنا الأعداء من كل جانب، فحاصرونا وأعادوا لنا تأريخكم، وأعادوا لنا كربلاءكم. ونحن محاصرون من الداخل والخارج، ونحن مهددون في كل مكان. ولكن هل يغيب هذا عنه؟ هل هو بعيد عن هذا الأمر؟ إذا نحن نعيش غربة فهو يعيش غربة أكثر من أي منا. وإذا نحن نعيش حزناً ونعيش وحشة فهو يعيش وحشة أكثر منا، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وإذا نحن نطل من جانب على الانتفاضة الشعبانية وما جرى فيها من مجازر وانتهاك للحرمات، فهو محيط بكل تفاصيلها ودقائقها، ويتحسّس كل أناتها وآهاتها الصغير منها والكبير.

هو يعيش هذا الألم، وهو يعيش ألم الزنزانات التي يهزأ بنا أعداؤه مرة أخرى من خلال الهزء به.

صدقوني أيها الاخوة كان أحد مدراء الأمن يستهزئ أمام المعذبين وهم معلقون بالسقف يستهزئ ويردد أمامهم وهو يضحك: (اظهر يالمهدي وصفّيهه وشوف الشيعة اشصاير بيهه) يهزأ بنا، يستهزئ بآلامنا، يسخر من آهاتنا. ولكنه يسخر بإمامنا، ويسخر بنا من خلال سخريته بإمامنا صلوات الله عليه.

هذه الآلام إذا نحن اطلعنا على شيء بسيط ومحدود وضئيل منها، فإنّ إمامنا يحيط بها كلها، ويعلم بدقائقها وتفاصيلها.

فرفقاً به ثم رفقاً حينما نبث شكوانا. هو يعيش آلامنا، يعيش فجائعنا، يعيش أحزان أيتامنا وأراملنا.

ص: 70

نقرأ في بعض الروايات عن الإمام زين العابدين عليه السلام _ والأئمة عموماً في محبتهم، ولطفهم، وارتباطهم بشيعتهم على حد سواء _ أن أحداً من شيعتهم جاءه يشكو إليه الفقر. الإمام زين العابدين محاصر وما كان يتمكن شيعته من الوصول إليه، ولم يتمكن الإمام أن يعتذر منه. تعلمون ماذا ورد في الرواية؟ إن الإمام زين العابدين بكى حتى سالت دموعه من عينيه، لأن هذا الإنسان من شيعته ويطلب عوناً ولا يملك الإمام ما يدفع به فقره، هناك مصلحة للإعجاز ولإظهار الكرامة، الإمام لم يكن يملك شيئاً وهذا إنسان محتاج جاد له بدموع عينه، هذه الدموع التي كانت تسيل من خشية الله أو تسيل لمصاب أبي عبد الله لأن الإمام لن يجد نفسه قادراً على مواساة هذا الرجل من شيعته بكى حتى أن هذا الإنسان الشيعي المؤمن الموالي تألم كثيراً قال: سيدي لماذا تبكي؟ أخيراً عرف سبب البكاء فزاد ألمه.

الآن لنتصوركم ذرف إمامنا وسيدنا صاحب الأمر من الدموع؟ وكم اختلجت في صدره من الآهات لما يشهده من العذابات التي أحاطت بشيعته من كل مكان. يتحسّس هذه الأمور، يعلم بها وكلها تجعله يشتاق أشد الشوق لذلك اليوم الذي يقف فيه بين الركن والمقام وينادي بأصحابه فيخرجون ويلتحقون به من بقاع الأرض. ولكن ماذا بيده؟

بعض الناس يرون صاحب الأمر في المنام أو يتشرفون به. أغلب الروايات والأخبار توصينا نحن الشيعة بالدعاء له بالفرج، هو في بلاء عظيم، هو في ضيق، هو في غربة، هو في وحشة. يطالبنا بالدعاء له بأن يعجل الله فرجه.

ص: 71

حينما نقول: اللهم عجل فرجه، فلا تحسب أن المعنى: اللهم عجل فرجنا. صحيح اللهم اجعل فرجه فرجنا، ولكن الفرج الحقيقي له. فهو المظلوم الحقيقي.

بعض أساتذتنا من العلماء الموجودين الآن في النجف دفع الله عنهم كل مكروه يقول: الظلامة الكبرى والمصيبة العظمى من مصائب أئمتنا هي مصيبة صاحب الأمر عليه السلام، هذه المدة الطويلة المديدة التي مرّت عليه هو بهذا الحال، عندما تشتد الفتن بنا، وعندما تعصف بساحتنا الخلافات فأول ما نتذكر حاجتنا الماسّة والحقيقية والأساسية لولينا الأول، لولينا الحقيقي، لإمامنا لقائدنا لسيدنا ومولانا.

عندما نختلف فيما بيننا ونتألم من اختلافنا ومن شدة اختلافنا، ومن تحارب بعضنا مع بعض من كيد بعضنا لبعض، ومن اعتداء بعضنا على بعض، ومن تهجم بعضنا على بعض، نتألم كثيراً ولكن إمامنا يتألم أكثر.

قد نتألم لأن هذا التحارب يمسنا، ويمس مشاعرنا بحدود معينة. ولكن هو يتألم لنا جميعاً، وهو يتألم لاختلافنا جميعاً، يتألم لكل فردٍ فرد منا.

يتألم إذا رأى أحداً منا يظلم أخاه، لماذا هذا من شيعتي. أو يتمنى أن يكون من أنصاره، لماذا يتجاوز، لماذا لا يتمكن أن يقدر للاختلافات قدرها؟ لماذا لا يتمكن أن يهضم أن الاختلافات في الرؤى فقط أو بالقناعات أو أن الاختلافات بالفتاوى أو بالتشخيص، أو بالتحليل السياسي أو غير السياسي؟

ص: 72

حينما نجد أننا نؤمن أو نقلد أو نتبع أو نقتنع بأحد من العلماء فنحن في ذلك لابد أن نلتزم الحجة الشرعية دائماً. ولا يعني هذا أن كل من يختلف مع هذا الإنسان الذي نعيش الاقتناع به ويكون خارج دائرتنا فنتعامل معه كما نتعامل مع غير المؤمن بأهل البيت، ليبقى الثابت الأول والأساس الذي لا محيص عنه هو الإيمان بأئمتنا، وما عداهم فلا يشكل إلا حكماً ظاهرياً لطريقه إليهم، هم الواقع الصحيح الصافي الخالص وكل ما عداه اجتهادات.

حينما نختلف في الاجتهادات، أو نختلف بالتحليل، أو نختلف بالقناعات، فإن ذلك لا يعني أن نختلف فيما بيننا في الشخصيات، أو فيما بيننا من جماعات فهذا الأمر كله بنظره صلوات الله عليه، وبمعرفته وباطلاعه وهو يتألم أكثر منا.

وقد يكون هدفنا حينما نختلف في أمر جزئي قد نقول ونتكلم ونرفع الشعارات، نحن نتألم من أجل أصل الاختلاف ولكننا في كثير من الأحيان نتألم لما يصيبنا من هذا الجانب أو ذلك، لما يمسنا من هذا الكلام أو ذلك، لما نتعرض له من هذا الظلم أو ذلك. أما الإمام صلوات الله عليه فهو يتألم لنا جميعاً، ويعيش آلامنا جميعاً، ويعيش معاناتنا جميعاً.

فلنلتق عنده، ولنجدد العهد معه مرة أخرى في أخوّتنا، في صفاء قلوبنا، في حسن ظنوننا بالآخرين، وعدم التسرع بإلقاء التهم وتوزيعها في كل مكان، وعلى أنفسنا.

ص: 73

إذا أردنا أن نعيش الارتباط بإمام زماننا حقيقة فلابد أن نفهم هذه الحقيقة لابد أن نعيش هذا الأمر. أنا لا أتمكن أن أقول بأن المختلفين دائماً أحدهما على باطل، بل نحاول أن نحمل حتى من يخالفنا على حسن الظن، على المحمل الحسن (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(1) وإن لم نعمل على ذلك فنحن نقطع أنفسنا بأنفسنا، ونحن نقتل أنفسنا بأنفسنا، ونحن نسقط أنفسنا بأنفسنا، ونحن نضعف مرجعيتنا وعلماءنا وكل هذا يكون تحت شعار الإسلام، أو تحت شعار الأمر بالمعروف، وتحت شعار النهي عن المنكر، وتحت شعار نصرة العرب، وتحت شعار نصرة المظلومين.

إذا كان هذا الشعار بهذه السعة فلماذا لا يكون واسعاً حتى يجمعنا؟ لماذا يكون واسعاً فقط للتمزيق والتفريق فيما بيننا؟ وإذا بنا مع كل الأسف نجد أن بعض الناس مشغول بمقارعة الظالمين والتصدي لهم، والبعض الآخر مشغول بالتصدي لمقارعة من يقارع الظالمين، وبالتهجم على أولئك الذين يحملون لواء التشيع، ويحملون لواء العراق، ويحملون لواء الحق، الذي نتمنى كلنا من أعماقنا أن يرتفع.

فالساحة ليست ملك أحد، والعراق ليس ملك أحد، والتصدي واجب على الجميع، ولا يعني هذا أني إذا أردت أن أتصدى لابد أن أزيح كل المتصدين، بل بالعكس لابد أن أتعاون معهم.

ص: 74


1- الحجرات: الآية 12.

لابد لنا حينما نأمر بحسن الظن، وندعو إلى حسن الظن، لابد أن نكون أول المبادرين لحسن الظن، وحتى لو تجاوز علينا الآخرون، واعتدى علينا الآخرون، لابد أن تكون عندنا سعة قلب، ولابد أن نتأسى بإمام زماننا في استيعاب هذا الاعتداء ومقابلته بالصفح والتجاوز عمّا قد يحدث هنا أو هناك من قصور أو تقصير.

ولكن نجد أننا نشترك مع إمامنا ونواسيه في هذه الآلام التي مررنا عليها واحداً واحداً.

هو غائب الآن عنا ونحن غائبون عنه، هو يعيش الهم لشريعة جدّه، ونحن نعيش الهم شيئاً ما لشريعة جدّه. هو يتألم لما يصيبنا، ونحن نتألم أيضاً. هو يتألم للظلم والبلاء الذي يعصف بنا، هو يتألم لنا حينما نختلف، هو يشاركنا الألم، بل هو دائماً يتقدّمنا في الألم. إمامنا في آلامنا كما هو إمام آمالنا صلوات الله عليه، كعبة آمالنا.

ولكن يبقى ألم واحد في قلب صاحب الأمر، وهذا لا نشترك نحن معه فيه، وهذا الألم وهذا العذاب الذي يتعذب به ويتألم به إمامنا صاحب الأمر قد نكون نحن سبباً في زيادته، ما هو هذا الألم؟ حينما تعرض أعمالنا عليه.

ونحن نقرأ في روايات أهل البيت أن الأعمال تعرض على إمام الزمان، في بعض الروايات في كل ليلة جمعة.(1)

ص: 75


1- راجع مستدرك الوسائل للنوري ج 12 ص 165، وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 387.

إنّ الإمام عجل الله فرجه يفرح لله. والإمام يغضب لله. والإمام يحزن لله، والإمام يحب في الله ويبغض في الله. فإذا وجد في صحيفة أحدنا سيئة أو ذنباً ارتكبه فكيف به وهو يعيش تلك الأكداس والجبال من الآلام. هذا الألم يأتي إضافياً، ولسان حاله يقول: أنتم لماذا؟! فهمنا أن أعداء الزهراء يحقدون على الزهراء ويزيد وابن سعد يحقدون على الحسين، والظالمون لكم والمعادون لي ولكم يكونون سبباً في آلامي وأحزاني. أنتم شيعتي أنا أريد أن أفرح بكم، لماذا أنتم تزيدون ألمي ألماً آخر؟

هذا ألم ذوي القربى، هذا ألم المقربين الأحبة الأعزة، لماذا هذه الذنوب؟ لماذا هذه الجرأة على المعاصي؟ لماذا لم نرأف لذلك القلب الذي أفعمته الآلام وملأته الجراح؟

لماذا لا نكون السبب في إدخال السرور عليه؟ لماذا لا نكون سبباً حينما يطّلع على بعض الأعمال لأن يقول: الحمد لله شيعتي شيعة حقيقيون، هؤلاء الذين يدعون أني أنا إمامهم ويقولون: رضيت بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً وبعلي إماماً ثم يذكرونني ويعتبرونني أنا آخر أئمتهم وإمام زمانهم، هؤلاء أفعالهم متطابقة مع شعارهم وعقيدتهم وكلامهم ودعائهم وخطابهم لله سبحانه وتعالى، حينما يقولون: رضيت بهم أئمة، هؤلاء حقيقة أتباع لي.

لعل أشد ما يؤلم، بل يمكن أن نقول: إن أشد ما يؤلم أولياء الله، ما يجترح وينتهك من حرمات الله سبحانه وتعالى، لأنهم يعرفون عظمة الله. نحن

ص: 76

حينما نعرف عظمة الله شيئاً ما ونجد أن حرمة من حرمات الله تنتهك نتألم ونغضب أكثر مما نكون نعرف الله بهذا المقدار من المعرفة. أما أهل البيت صلوات الله عليهم، الذين ما عرف الله أحد من العباد كما عرفوه سبحانه وتعالى، يغضبون لحرمات الله أكثر منا، يتألمون أكثر منا.

لماذا..لماذا نشارك في هذه الكربلاء التي في قلبه، وهي كربلاء كبيرة؟ لماذا نشترك في زيادة ألمه صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين؟

فلنجدد في هذه الليلة العهد معه، ولنتب على يديه حباً له، ونعقد العزم من هذا المكان المبارك، وهو مرقد هذا العبد الصالح المقرب من صاحب الأمر (ابن بابويه)(1) الرجل العظيم الذي ورد كثير من الروايات الدالة على أنه ممن حظي برؤية إمام زمانه، فطوبى له ثم طوبى له. لنجدد العهد، لنعقد العزم على أن نقاطع ونهجر كل الذنوب، ونتمنى من الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا ببركة إمام زماننا من كل ذنب، حباً وشفقة وحناناً لسيدنا صاحب الأمر ومحبة له.

التوبة لا تكون دائماً خوفاً من النار، وإن كان الخوف حقيقياً، والنار حقيقة فلابد أن نخشاها، والجنة حقيقة من الحقائق فلابد أن نطمع فيها. ولكن شفعاءنا إلى الجنة، ومنقذينا من النارهم أهل البيت عليهم السلام،

ص: 77


1- أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، كان شيخ القميين في عصره وفقيههم وثقتهم، وكفى في فضله ما في التوقيع الشريف المنقول عن الإمام العسكري عليه السلام: (أوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي يا أبا الحسن...إلخ). توفي سنة 329 ودفن في قم، وقبره الآن يزار ويتبرك به. راجع: الكنى والألقاب: 1/ 222.

فلنؤكد ارتباطنا وانتماءنا وتلاحمنا واهتمامنا بأئمتنا صلوات الله عليهم في طاعتنا لله حباً لهم، من أجل أن يفرح مهدي هذا العصر.

نحن نعمل بعض الأعمال من أجل إدخال السرور على أحبتنا. أنت تأتي بالهدية الصغيرة لأولادك حتى تدخل السرور على قلوبهم. أنت ألا تفعل بعض المستحبات، وتأتي ببعض الأمور من أجل إدخال السرور على قلب المؤمن؟ ورد في روايات تكاد تكون متواترة، لعل عشرات الروايات ترجع إلى هذا المضمون: أن العبد في القبر في اللحظة الأولى في أول ما يطل على عالم الآخرة ويفارق هذه الدنيا، في تلك الساعة العصيبة يرى مثالاً كأجمل ما خلق الله يهدئ من روعه ويسكن روعاته، ثم عند الحساب يجد أن هذا المثال معه عند الصراط، يجد أن هذا المثال معه عند تطاير الكتب، في كل مراحل الخوف والفزع، يجد أن هذا المثال معه يهدئ من روعه، فيسأله المؤمن يقول له: من أنت جزاك الله عني خير الجزاء، فإني لم أمر بمحنة، ولم أمر في خطر، ومرحلة من مراحل الآخرة إلا وأنت تهدئ من روعي؟ يقول له: أنا السرور الذي أدخلته على قلب المؤمن في اليوم الفلاني، في الساعة الفلانية.(1)

إدخال السرور على قلب مؤمن _ إنسان عادي _ له هذا الأثر.

ص: 78


1- لاحظ: الكافي: 2 / 188 باب إدخال السرور على المؤمنين / الأحاديث 8 و10 و12.

إذا نتوب ونعيش في هذه اللحظة التوبة الحقيقية ونجدد التوبة، فإنّ التوبة مراتب وهي يمكن تجديدها، ويمكن تأكيدها، ويمكن الإسراع إليها، ويمكن تجديد عهد التوبة مع الله سبحانه وتعالى.

وأهم ما يفرح إمام زماننا أن نعترف له بالتقصير لتشرق قلوبنا بنور التوبة، قبل أن تشرق أزقتنا من أنوار المصابيح التي نعبر بها عن احتفاليتنا بالنصف من شعبان.

لنجدد هذه التوبة حباً له، إخلاصاً له، من أجل إدخال السرور على قلبه الشريف صلوات الله عليه وعلى آبائه.

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يؤكد هذه التوبة في قلوبنا، لنطل على شهره الكريم ونكون أهلاً لضيافته سبحانه وتعالى، ونكون ممن يستجيب الله دعاءهم في كشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وتعجيل الفرج، ودفع البلاء وجمع الشمل، تحت تلك القباب الشاهقات العليات في مراقد أئمتنا في عراق أهل البيت صلوات الله عليهم.

واستغفر الله لي ولكم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

والحمد لله رب العالمين

ص: 79

الإمام المهدي عليه السلام والخلاص العالمي

اشارة

سماحة السيد داخل الموسوي

ص: 80

ص: 81

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً).(1)

هذه الآية الكريمة من آيات الملاحم في القرآن الكريم، وقد تكفلت بنشر السلام العالمي على وجه الأرض.

وقد توزع المفسرون والذين سلطوا الأضواء على أهدافها ومقاصدها، توزعوا على ثلاث مدارس:

المدرسة الأولى: ذهبت إلى أن الآية الكريمة نزلت بالرواد الأوائل للإسلام، والرواد الأوائل يقصد بهم صحابة النبي صلى الله عليه وآله، يعني الطلائع الإسلامية المؤمنة التي التفت بصدق وحرارة حول رسول الله صلى الله عليه وآله وآمنت بالإسلام، وانصهرت في بوتقة الإسلام، وتفاعلت تفاعلاً حقيقياً مع العقيدة حتى تحولت إلى إسلام متحرك يمشي على وجه

ص: 82


1- سورة النور، الآية: 55.

الأرض، وتحملت من أجل ذلك صنوف الأذى وفنون التعذيب وألوان الاضطهاد من ذلك المجتمع المتخلف، هؤلاء وعدهم الله بالنصر وحقق الله لهم ذلك الوعد.

فهذه المدرسة تذهب إلى أن هذه الآية الكريمة نزلت في الطلائع الإسلامية الأولى(1).

المدرسة الثانية: تقول أن لسان الآية لسان عام، والخطاب فيها خطاب شامل لكل الأمة الإسلامية، فهي تنطبق على المجتمع الإسلامي وعلى الأمة الإسلامية بكل فصائلها وبكل شرائحها.

إن الله عز وجل جعل هذه الأمة _ وهي المحور وهي القطب للمجتمع البشري بأجمعه _ جعل الأمة الإسلامية هي الأمة القيادية التي تتولى الإشراف على المسيرة الإنسانية، ولذلك القرآن الكريم يقول: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)(2) يعني أمة محورية، يعني هي المحور الذي تنتظم حوله كافة الشرائح الإنسانية، فشرائح المجتمع البشري تنتظم بأجمعها من وراء الأمة الإسلامية التي تتحمل مسؤولية القيادة، وقد ضمن القرآن الكريم السلام العالمي لهذه الأمة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ

ص: 83


1- راجع تفسير القرطبي، ج 12: 297، تفسير ابن كثير، ج 3: 312، الدر المنثور للسيوطي ج 5: 55، التبيان للشيخ الطوسي، ج 7: 454، مجمع البيان للطبرسي، ج 6: 158.
2- سورة البقرة، الآية: 143.

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).(1)

المدرسة الثالثة: والتي سيكون عليها محور الحديث، وهي التي تذهب إلى قيادة الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه فتقول: إن الآية الكريمة تستهدف خروج الإمام المهدي.(2)

وفي الواقع إن قضية الإمام المهدي من القضايا التي يكثر حولها الجدل والتساؤل، وفي هذه الفترة المحددة نحاول أن نتعرف أو نعطي نظرة خاطفة وسريعة، وبنفس الوقت صورة جلية وواضحة عن المعالم الرئيسية لقضية الإمام المهدي المنتظر، نتعرف على خطوطها العريضة ونلقي نظرة فاحصة من الناحية التأريخية والناحية العقائدية على مسألة الإمام المهدي عجل الله فرجه.

طبعاً نحن الطائفة الإمامية نرسل هذه القضية إرسال المسلمات.

ص: 84


1- راجع تفسير ابن كثير، ج 3: 311، مجمع البيان للطبرسي، ج 7: 267، تفسير الميزان للطباطبائي، ج 15: 154.
2- راجع التبيان للشيخ الطوسي، ج 7: 457، مجمع البيان للطبرسي، ج 7: 267، الغيبة للنعماني: 240، وايضا ابن كثير في تفسيره ج 3: 132، قال: ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى، ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيته كنيته...

قبل كل شيء، وقبل الخوض في الروايات والأحاديث والإشارة إلى أسانيدها التي تتعلق بقضية الإمام المهدي لابد من القول بأنّ قضية الإمام المهدي مسألة عالمية قبل أن تكون مسألة إسلامية، أي أنّ مجتمعات الدنيا وشعوب الأرض، وكافة الشعوب والأمم والمجتمعات التي تعيش على سطح الكرة الأرضية كلها تؤمن بخروج المنقذ المصلح المحرر، الذي سيخرج في آخر الدنيا لتغيير مجرى حياة البشر لنشر العدالة الاجتماعية على وجه الأرض. فالمجتمعات العالمية _ مجتمعات الدنيا _ بكل فصائلها، بكل عقائدها، بكل قومياتها، بكل اتجاهاتها وأديانها كلها تؤمن وترى ضرورة خروج الإنسان المحرر المنقذ المصلح الذي سيخرج في آخر الدنيا.

فاليهود يؤمنون بخروج الإنسان المصلح، والمسيحيون يؤمنون بخروج الإنسان المنقذ والمحرر، حتى المجوس يعتقدون أنّه سيخرج رجل من أحفاد زرادشت هو الذي ينتشل الإنسانية من دمارها وهلاكها وويلاتها ومآسيها ويجعلها تعيش حياة حرة كريمة.

بل أكثر من هذا لو تركنا الأديان السماوية نرى حتى الماركسيين والكفار والملحدين يؤكدون على هذه الحقيقة، بأن الدنيا لابد لها من أن تنتهي في يوم من الأيام إلى شخصية قيادية تنشر ألوية الأمن والسلام على وجه الأرض.

هذه المجتمعات العالمية والأديان العالمية والعقائد العالمية سواء كانت سماوية أم أرضية، كلها تصب في هذا الجدول لتتحرك في هذا الاتجاه.

ص: 85

قد يسأل سائل يقول: إذن لماذا حوصرت هذه القضية وجعلت من مختصات الفكر الشيعي؟

هذا خطأ فاحش تلاعبت به السياسة التأريخية، تأريخياً سياسة الدولة الأموية والدولة العباسية والصراع المذهبي العنيف الذي حصل تأريخياً الصراع الذي كان قائماً على قدم وساق، الصراع الذي أريقت فيه الدماء، هو الذي حصر وحجّم قضية الإمام المهدي المنتظر في الإطار المذهبي الضيق، في الإطار الطائفي، وإلاّ فهي قضية إسلامية عامة كما سيمر علينا، قضية تسالمت عليها كافة المذاهب الإسلامية.

كل المذاهب الإسلامية تروي وترى أن الإمام المهدي المنتظر بشّر به رسول الله صلى الله عليه وآله قبل ألف وأربعمائة سنة، بما في هؤلاء الرواة ابن تيمية الذي يعتبر المعارض التقليدي للفكر الإمامي والروايات الإمامية، مع ذلك ابن تيمية يؤيد ويؤكد الروايات في الإمام المهدي، مستنداً إلى مسند أحمد بن حنبل وإلى صحيح الترمذي اللذين ذكرا روايات حول الإمام المهدي المنتظر، ويؤيدها ويؤمن بها ويدعو إليها.(1)

أما إذا تسألني لماذا حُجّمت قضية الإمام المهدي المنتظر؟

لأنها تجعل عند الإنسان مربي، عند الإنسان المؤمن روح الوثبة والتطلع إلى الحياة الفضلى، إلى الحياة العادلة فتراه يدعو الله بهذا الدعاء: (اللهم إنا

ص: 86


1- راجع صحيح الترمذي، ج 3: 343، مسند احمد، 376، 430، أما ابن تيمية فقد رواه في كتبه ايضاً، راجع كتابه منهاج السنة، ج: 4: 95، والمنار المنيف، ج 1: 143.

نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة)، طبعاً هذا منطق لا يروق للأمويين، هذا منطق لا يروق لبني العباس الذين يريدون من الناس أن يعيشوا الخمول والكسل والخنوع والتسكع والذل.

وهكذا كل نمط من السلوك التربوي في مدرسة أهل البيت مرفوض عندهم، تربية أهل البيت الذين غلغلوا في أعماقنا وفي ضمائرنا وفي تربيتنا الفكرَ الثوري المتوثب الذي يقف بوجه الباطل، موقف التحدي وموقف الصراحة والجرأة.

لذلك حوصرت قضية الإمام المهدي هذه المحاصرة، وقُسّمت وحُجّمت هذا التحجيم على أنها من مختصات الفكر الشيعي، والحال أنها إسلامية عامة لا تخصّص للشيعة فيها أبداً.

نتعرف على بعض الشؤون والقضايا والروايات التي تتعلق بهذه المسألة بعد التعرف على البطاقة التأريخية _ إن صح التعبير _ للإمام المهدي.

الإمام محمد بن الحسن العسكري هو الإمام الثاني عشر من أئمة وأعلام مدرسة أهل البيت، ولد بسامراء في الخامس عشر من شهر شعبان سنة 255 من الهجرة، ولما ولد الإمام سلام الله عليه وبلغ من العمر خمس سنين أو ست قبض أبوه الإمام الحسن العسكري ولحق بالرفيق الأعلى.

ص: 87

تحركت السلطة العباسية وكبست دار الإمام العسكري لإلقاء القبض على الإمام، فغيّبه الله عز وجل سبعين عاماً، التي هي الغيبة الصغرى.

خلال هذه الفترة كان الإمام يتصل بشيعته ومواليه من خلال السفراء والنواب الأربعة، إلى أن توفي السفير الرابع، ترك الإمام قاعدة عامة عندما سئل: لمن الرجوع بعدك يابن رسول الله؟ فحدد الإمام الشروط قال: (ارجعوا إلى رواة حديثنا)(1) من هم؟ قال: (فأما من كان من الفقهاء حافظاً لدينه صائناً لنفسه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)(2).

ماذا نستشف من هذه الشروط؟ طردياً وعكسياً؟

هذه الشروط التي من المفروض أن تتواجد في الفقيه هي: حفظ الدين، وصيانة النفس من الانحراف، ومخالفة الهوى، وطاعة الله عز وجل، وهذه كلها تتلخص بالتقوى، والتقوى معناها الانضباط أمام الله تعالى، أي أن الإنسان يكون منضبطاً في كل تصرفاته وسلوكه وأعماله أمام الله عز وجل، ويشعر بأن رقابة الله مسلطة عليه في الصغيرة والكبيرة، في كل حركة يتحركها، في كل كلمة يتلفظ بها، في كل حرف يسطره على الورق، في كل شيء، أنّ رقابة الله عز وجل تنظر إليه، هذه الملكة التي من المفروض أن تتوفر بالشخصية القيادية التي يرجع المجتمع إليها.

ص: 88


1- راجع الاحتجاج للطبرسي، ج 2: 283، كمال الدين للصدوق، ج 2: 483.
2- راجع الاحتجاج للطبرسي، ج2: 263.

الجانب العكسي ماهو؟ عندما يقول الإمام المهدي: أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه، إذن نستنج من مفهوم هذا الحديث أنه يوجد قسم من الفقهاء غير صائن لنفسه ولا حافظ لدينه، فقيه لكن ليس له دين، عنده علم وعنده فقه لكن ليس عنده ضوابط دينية، والمفروض أن العلم والدين توأمان لا يمكن الفصل بينهما، العلم إذا افتقر إلى العنصر الثاني يتحول إلى مأساة وكارثة على المجتمع، لذلك تلاحظ أن العلماء الموجودين في مختلف الحقول _ وليس شرطاً الحقل الديني _ فمثلاً عالم الذرة يمكن في كبسة زر أن يحرق الدنيا وما فيها، فلو كانت عنده الضوابط الدينية والعنصر الأخلاقي طبعاً يتورع ويقف عند الحدود دون فناء الإنسانية ودون تدمير البشرية.

كثير من القضايا الخاضعة للعلم تعود على المجتمع بالضرر، تعود على المجتمع بالكوارث عندما تفتقد إلى الضابط الديني وتفتقد إلى عنصر الإيمان.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفقيه، فليكن مشحوناً بالعلم لكن إذا لم يكن عنده دين وليس عنده تقوى وورع، هذا يتحول فعلاً إلى كارثة على المجتمع، ولذلك الإمام المهدي سلام الله عليه يقول: (أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه... ).

طبيعة الحياة أن الجاهل يرجع إلى العالم في كافة أبعاد المعرفة، وفي كافة حقول الحياة، كل متطلبات الدنيا، كل إنسان يجهل أي علم من العلوم يرجع إلى ذوي الاختصاص، يستفيد من خبرتهم، يستفيد من تخصصاتهم،

ص: 89

يستفيد من علومهم..كذلك العلوم الدينية، ربطنا الإسلام بالواقع عن طريق أهل البيت بهذه الشخصيات التي هي المنابع الأصيلة للتشريع الإسلامي.

مصادر فكرة المهدي:

من بعد هذه اللمحة ابتدأت الغيبة الكبرى إلى أن يأذن الله عز وجل للإمام سلام الله عليه، يؤشر بعض الباحثين الاجتماعيين وخصوصاً بعض المستشرقين حول قضية الإمام المهدي المنتظر يقولون: إن منشأ الانتزاع لهذه القضية هو الحرمان والقهر، فإنّ بعض الشعوب وبعض المجتمعات تعيش حالة من الحرمان والقهر والاضطهاد واغتصاب الحقوق والسحق والإبادة، فتولدت عندها فكرة التطلع إلى المنقذ الذي سوف يعيد لها الكرامة المسلوبة والرغيف المفقود والحق المهدور، وتكون عندها التطلع إلى وجود الإنسان المنقذ والمصلح، نتيجة لحالة الحرمان التي عاشوها.

لذلك الشيعة عاشوا تأريخياً حالة من القهر وحالة من التمرد وحالة من الأذى والاضطهاد والتعسف، مما عمق عندهم الشعور بالألم والشعور بالمأساة، وتفتحت عندهم هذه الفكرة.

هؤلاء المتشرقون هكذا يحللون، طبعاً هذا ليس شيئاً غريباً على تصورنا وعلى أفهامنا، لأننا نعرف ونؤمن أن الشعوب المسحوقة تتطلع إلى الإنسان المنقذ والمخلص وهذا صحيح، لكن المصادر لوجود الإمام المهدي المنتظر

ص: 90

والمنابع الأساسية لهذه القضية العقائدية المهمة في تأريخنا وفي عقيدتنا وفي وجودنا وفي مستقبلنا ليست هذه أسبابها، التي هي السحق والتدمير التأريخي الذي عاشته هذه الطائفة.

وإنما عندنا مصادر قضية الإمام المهدي المنتظر هي المنابع الأصيلة للإسلام المتمثلة بالقرآن والسنة الشريفة المقدسة.

القرآن الكريم:

هنالك حشد هائل من الآيات القرآنية جاء وفُسّر، فسّره أفذاذ العلماء بأنه يتعلق بالإمام المهدي سلام الله عليه:

بسم الله الرحمن الرحيم (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) الإمام ومن يلتف حول الإمام (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).(1)

بسم الله الرحمن الرحيم (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).(2)

ص: 91


1- سورة القصص، الآية: 5.
2- سورة الأنبياء، الآية: 105.

بسم الله الرحمن الرحيم (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).(1)

هذه نماذج من الآيات التي نزلت، وذهب أكثر من مفسر من مفسري المسلمين إلى ارتباطها بقضية الإمام المنتظر.

هذا منبع وهذا مصدر من مصادر فكرة وجود الإمام المهدي.

السنّة النبوية:

لنلاحظ السنة النبوية المقدسة ماذا تقول؟

السنة النبوية الشريفة تقول: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج قائمنا آل محمد صلى الله عليه وآله(2).

والحديث الثاني: (سيخرج رجل من ولدي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً).(3)

ص: 92


1- سورة النور، الآية: 55.
2- راجع مسند احمد، ج 1: سنن ابن ماجة، ج 2: 929،...
3- راجع مسند أحمد، ج 1: 276، سنن أبي داود، ج 2: 309، سنن الترمذي، ج 3: 343، المستدرك للحاكم، ج 4: 442.

هذا لم يتحقق عبر التأريخ، فإنه لم يحصل أنّ الأرض كلها ملئت بالقسط والعدل، هذا كلام لم يتحقق تأريخياً حتى في الصدر الإسلامي الأول، الأرض فيها قسم جور وقسم عدل، أمّا أنّ كل الكرة الأرضية تمتلئ بالعدالة الاجتماعية فهذا أمر مجهول، وهو من الغيبيات التي لابد لها أن تتحقق في آخر الدنيا.

هذه الروايات وهذه الأحاديث ترويها كافة الكتب الإسلامية بما فيها الصحاح الإسلامية، بما فيها الصحاح الستة إلاّ البخاري ومسلم.

البخاري ومسلم فقط يتخلفون عن رواية هذه الأحاديث بصراحة، إلا أنهما أشارا إليها فمثلاً يقولون: (وإمامكم يومئذ منكم)(1)، عند خروج الدجال، يعني لا يحددونه.

فالاتفاق حاصل، لكن الاختلاف أن المذاهب الإسلامية الشقيقة تذهب إلى أن المهدي ربما يولد في المستقبل، ونحن نقول: ولد، ونحدد شخصيته بمحمد بن الحسن العسكري، الإمام الثاني عشر المولود سنة 255 من الهجرة في سامراء بالضبط.

نحن عندنا تحديد لشخصية الإمام، والمذاهب الإسلامية تقول بأنّه مجهول وربما سيولد مستقبلاً. هذه هي نقطة الخلاف.

البخاري لا يروي هذه الأحاديث التي تتعلق بمسألة الإمام المهدي، مع العلم أن الصحاح الستة كلها تروي قضية الإمام المهدي، والأحاديث عن

ص: 93


1- صحيح البخاري، ج 4: 143، صحيح مسلم، ج 1: 94.

الإمام المهدي في الصحاح الستة الأخرى غير البخاري، وهذا يعني أن ذلك ليس شرطاً، لأن المسلمين يعملون بكثير من الأحكام الدينية وكثير من قضايا العقيدة ويمارسونها وهي غير مذكورة في البخاري، بمعنى أنّه ليس كل حكم ديني ولا كل قضية من قضايا العقيدة يجب أن تكون في البخاري، وإلا فتلك العقيدة تكون باطلة، لا توجد عند المسلمين هذه القاعدة وكل المذاهب الإسلامية ليس عندهم هذه القاعدة.

مبدئياً أقول لك: لا تتصور أننا نريد أن نتهجم على البخاري، بل بالعكس البخاري نعتبره صاحب كتاب مقدس ونحترمه غاية الاحترام، لأن البخاري روى أحاديث النبي صلى الله عليه وآله، لكن نحن عندنا ملاحظة واحدة، الملاحظة هي أنه ليس كل ما ورد عند البخاري هو صحيح، وليس فقط البخاري حتى الكافي للكليني، وهذا من كتبنا، وهو يعتبر مقابل البخاري عند أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى.

نحن عندنا قاعدة، وهي: (لا يوجد كتاب خالد إلا كتاب الله عز وجل القرآن الكريم) (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)،(1) كتاب الله محفوظ من الزيادة والنقيصة ومن الدس، أما الكتب الأخرى فيمكن أن يأتي عملاء _ مثلاًُ _ أو يأتي يهود يدسون في رواياتها الكثير.

ص: 94


1- سورة الحجر، الآية: 9.

ومن الذين اختلقوا الروايات ودسوها في تأريخنا الإسلامي كعب الأحبار ووهب بن منبه وسليمان بن مقاتل، هؤلاء كلهم يهود ودخلوا في الإسلام وأفكارهم اليهودية تعشعش في أدمغتهم، فدسوا في تأريخنا الكثير من الألغام اليهودية، فنحن لسنا مسؤولين.

كما أنّ عندنا قاعدة عن الأئمة: (ما وردكم عنا اعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله، فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما خالف الكتاب والسنة فاضربوا به عرض الحائط)(1) القاعدة المنطقية سواء البخاري أو الكليني أو أي كتاب من الكتب الإسلامية، عندنا مقياس وعندنا ميزان وعندنا مختبر، مختبر تحليلي، نأتي بالرواية نحللها في هذا المختبر ونرى النتيجة هي أنها رواية نظيفة أم رواية مزورة.

لابد من التحليل والتأكد من الروايات، لأن هذا أمر يتعلق بأهم شيء عند الإنسان، وهو جانب العقيدة.

ثم لا توجد قاعدة عند المسلمين أن البخاري يروي كل الروايات الإسلامية، فكثير من الروايات تستقى من مصادر أخرى، والحمد لله تأريخنا غني بكتب الأحاديث وبكتب الروايات، وعندنا ثروة هائلة وثروة كبيرة من المؤرخين المسلمين الآخرين بما فيهم أصحاب الصحاح الستة. فالمسلمون

ص: 95


1- راجع التبيان للشيخ الطوسي، ج 1: 5، تفسير مجمع البيان للطبرسي، ج 1: 39، عدة الاصول للشيخ الطوسي، ج 2: 138، وروي أيضاً بلفظ: "فردوه علينا، فاطرحوه، فدعوه..." راجع المقنع للصدوق: 312، الكافي للكليني، ج 1: 69.

يستقون رواياتهم وأحاديثهم وأحكامهم وعقائدهم عن طريق كتب ومصادر ومنابع متعددة، ليس فقط البخاري.

ثم إنّا غير ملزمين بالإيمان بكل ما ورد في البخاري، وليس عندنا قاعدة فيه، لأنه كثير من الروايات واردة في صحيح البخاري ولا يمكن أن يؤمن بها إنسان مسلم، لأنها تصطدم اصطداماً مباشراً مع الخطوط العريضة للتشريع الإسلامي، فمثلاً توجد روايات تقول بالتجسيم، ويكفي مثالاً لذلك الرواية التي تقول: إن الله عز وجل في يوم القيامة يأتي بالعصاة والمذنبين فيدخلهم إلى جهنم وجبات، ويسأل جهنم: هل امتلأت تجيب وتقول له: هل من مزيد؟، ويأتي بوجبة أخرى ويقول: هل امتلأت؟ تقول: هل من مزيد؟ وكلما يضع فيها مجموعة من العصاة والمجرمين والمتمردين ويسألها: هل امتلأت؟ تقول: هل من مزيد؟ حينئذ ينزل الله فيمد رجله في جهنم حتى تمتلئ وتقول: قطني قطني حسبي لقد امتلأت. هذه رواية موجودة في البخاري.(1)

أولاً: ما هو الداعي لاشتراط امتلاء جهنم وعدم ترك جزء منها فارغاً، بحيث يجعل الباري رجله فيها ليملأها؟ ألا يكفي امتلاء نصفها مثلاً؟ ونحن نتمنى فعلاً أن جهنم لا تمتلئ، ويكون الناس كلهم اتقياءً وأخياراً حتى يذهبوا إلى الجنة ولا يذهبوا إلى جهنم.

ثانياً: إن تصوير أن الله عز وجل عنده رجل، وإذا كان عنده رجل يعني عنده يد، وإذا عنده يد يعني عنده رأس، إذا عنده رأس وعنده بطن عنده

ص: 96


1- صحيح البخاري، ج 6: 47، ج 7: 225، ج 8: 167 و186.

جسم، إذا عنده جسم يعني احتل حيزاً من الفراغ، وإذا احتل حيزاً من الفراغ معناه فرغ منه المكان الآخر والله لا يخلو منه مكان، ثم إن الله يقول في القرآن (لا تُدْرِكُهُ الأَْبْصارُ)(1) والجسم تدركه الأبصار.

فتلاحظ أن هذه رواية تصطدم وتتنافى مع أبسط المبادئ والخطوط العريضة للتشريع الإسلامي.

أو ليس البخاري هو الذي يروي بأن ملك الموت نزل على نبي الله موسى فالتفت إليه نبي الله موسى قال له: جئتني زائراً أم قابضاً؟ قال: لا إني ليس لي زيارة خصوصية، إني ملك موكل بقبض الأرواح، إني أتيت لأقبض روحك، يقول البخاري: فرفع يده ولطم ملك الموت على وجهه لطمة رجع إلى ربه وهو أعور(2).

وهذا يعني مهزلة من المهازل موجودة في كتاب مقدس وفي كتاب ضخم من كتب المسلمين، نحن نقول: يجب أن تُنقى كتب المسلمين من هكذا روايات.

وألفت نظرك إلى أن البخاري رجل مات وكتابه كان مسودةً لم يبيض، ومن بعد مماته بُيّض هذا الكتاب، فلعل كثيراً من الدس وكثيراً من الروايات الإسرائيلية دخلت هذا الكتاب.

ص: 97


1- سورة الأنعام، الآية: 103.
2- صحيح البخاري، ج 2: 92، ج 4: 130.

والبخاري الذي يروي عن مروان بن الحكم ويروي عن عمران بن حطان، عمران بن حطان الذي يقول:

يا ضربة من تقي ما أراد بها *** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا!!

التقي يعني به عبد الرحمن بن ملجم المرادي لما ضرب علي بن أبي طالب، هذا يقول: تقرب إلى الله بضربة علي بن أبي طالب وبقتل علي بن أبي طالب، أي أنّ عبد الرحمن بن ملجم كان يتقرب إلى الله. فالبخاري يجعل هذا الرجل مصدراً من مصادر الرواية في صحيحه، وفي الوقت نفسه يستشكل ويقف موقفاً متشنجاً من الحسن والحسين عليهما السلام ومن الإمام الصادق ومن بيت النبوة ولا يروي عنهم رواية واحدة.

قضية أشبه بالمرزئة *** هذا البخاري إمام الفئه

بالصادق الصديق ما احتج في *** صحيحه واحتج بالمرجئه

مشكلة ذات عوار إلى *** حيرة أرباب النهى ملجئه

وحق بيت يممته الورى *** مغذة في السير أو مبطئه

إن الإمام الصادق المجتبى *** لم يقترف في عمره سيئه

أجلّ من في عصره رتبة *** بفضله الآي أتت منبئه

قلامة من ظفر إبهامه *** تعدل من مثل البخاري مئه؟

نحن لا نتجنى على أحد، مع احترامنا وتقديرنا، ولا نهاجم أي أحد، نعتز بهؤلاء ولكن نناقشهم مناقشة علمية، ونضع أصابعنا على الرقم العلمي

ص: 98

والتأريخي وعلى المصدر وعلى المنبع الأصيل، ومن كان عنده رد علمي ومنطقي بلا تهجم فليرد، فإننا مستعدون للإجابة وللإرشاد إلى عشرات المصادر التي تثبت قضية الإمام من المنابع الأصيلة، وقد ألف علماؤنا عشرات الكتب وجمعوا المصادر الموثوقة المتعددة المرقمة المستقاة من أمهات المصادر التأريخية في إثبات قضية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.

إذن من بعد هذه الجولة يتضح لنا أن المنابع الأساسية ليست منابع اجتماعية وليست حالة السحق والحرمان في قضية الإمام المهدي، وإنما القرآن والسنة، القرآن الكريم بآياته والسنة النبوية الشريفة بأحاديثها هي التي أثبتت قضية الإمام المهدي المنتظر.

من بعد هذا لنلاحظ عندنا (خرافة) أخرى، عندنا أسطورة، وهي أسطورة السرداب، فإنهم يهرّجون بها علينا دائماً، إن الشيعة يقفون عند الغروب بباب السرداب في سامراء يلبسون الأكفان ويضعون لهم بغلة بباب السرداب ويشهرون السيوف ترقباً وانتظاراً لخروج صاحب الزمان من السرداب.

يقول شاعرهم:

أما آن للسرداب أن يلد الذي *** صيرتموه بزعمكم إنسانا

فعلى عقولكم العفا إذ أنكم *** ثلثتم العنقاء والغيلانا(1)

ص: 99


1- راجع الصواعق لابن حجر: 100، مقدمة ابن خلدون: 352.

على عقولنا العفى لأننا نتطلع إلى الحق، لأننا نرفض الباطل، لأننا نتصدى للمنكر.. وأنتم عقولكم هي العقول العبقرية الخانعة الذليلة الخاضعة المتسكعة على أعتاب الجلادين، فعلى عقولكم العفى.

ما هي مسألة السرداب؟ قد تتعرض وقد تُسأل: أنكم تقولون إن البغلة يصعد عليها أو يركب عليها الإمام المهدي إذا خرج والسيوف بأيديكم تقاتلون بين يديه إذا خرج!!

فنحن نقول:

أوّلاً: لا أدري لماذا القول بالسيوف! ونحن نعلم بأن عقيدتنا متطوّرة ولا مانع فيها من أن يحارب الإمام المهدي عليه السلام بالمدفع والصاروخ وأشباههما. أمّا التعبير بالسيف في الأحاديث والروايات فهو ليس أكثر من كناية عن القوّة والسلاح، وإلاّ فليس من المعقول أن تقابل الدبابة والطائرة والصاروخ بالرمح والسيف.

فلا داعي لهذه الرجعية في التفكير، ولا يعبّر السيف في الروايات إلاّ عن القوة كما قال الشاعر:

السيف أصدق أنباءً من الكتب *** في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب

فالمقصود به منطق القوّة والاقتدار، لا المعنى الحقيقي للسيف.

وثانياً: إنّ الشيعة الآن يعيشون على الأرض وهذه سامراء موجودة، نحن الآن لو أجرينا إحصائية مَنْ مِن الشيعة الإمامية يقف في باب السرداب ينتظر خروج الإمام المهدي؟!

ص: 100

يا أخي كل ما في الأمر أن البيوت العراقية قديماً وحديثاً _ إلى اليوم _ يبنون فيها سراديب وقاية من لهب الشمس المحرقة، فالناس _ خصوصاً سابقاً _ يعيشون في السرداب أثناء الجو الحار وقاية من حرارة الجو، ينزلون إلى السرداب، والذي يظهر أن هذا بيت الإمام العسكري كان فيه سرداب وأن الإمام سلام الله عليه كان يتعبد في هذا السرداب.

فالشيعة يأتون يتبركون بهذا المكان باعتباره كان محراباً للإمام سلام الله عليه، ثلاثة من الأئمة كانوا يتعبدون بهذا السرداب: الإمام الهادي والإمام العسكري والإمام المهدي، لأن الإمام الهادي لما جاء إلى سامراء كان عمر الإمام الحسن العسكري في سن الطفولة ونشأ وترعرع هناك، فكان يتعبد في هذا السرداب، الإمام المهدي كذلك، وهذا من تراثهم ومن آثارهم.

فهو محراب من محاريب عبادتهم نتبرك به، ليس أكثر من هذا وإلا نحن ليس عندنا أن الإمام سيخرج من السرداب، هذه أسطورة وخرافة اختلقها خصومنا وخصوم الإمام المهدي، وإلاّ فإن كل الروايات تجمع على أن خروج الإمام سلام الله عليه سيكون من مكة المعظمة.(1)

سيخرج الإمام من مكة إذا أذن الله له بالخروج ويخرج ويلتف حوله أصحابه وعددهم كعدد أصحاب بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر.

وقد يسأل أحد: لماذا هذا العدد؟ يعني هذه الدنيا ليس فيها إلا هذا العدد من أنصار المهدي؟

ص: 101


1- راجع الغيبة للنعماني: 315، باب 20، ح 8، الغيبة للطوسي: 284.

فنقول: إن هؤلاء هم الشخصيات القيادية، أي كبار القادة والعسكريين الذين يتوزعون على الدنيا، والذين ينشرون العدالة الاجتماعية في الدنيا، أما أنصار الإمام المهدي فكلنا إن شاء الله أنصار المهدي، الدنيا كلها ستنصر الإمام المهدي، يخرج الإمام من مكة ويلتف حوله أصحابه ثم يأتي إلى المدينة لزيارة قبر جده رسول الله ويطوف حول القبر الشريف، من بعد ذلك يأتي إلى البقيع لزيارة قبر جدته الزهراء، بناءً على أن الزهراء دفنت في البقيع يأتي إلى البقيع ليزور قبر فاطمة وقبور أجداده المدفونين هناك.

بعد ذلك يأتي الإمام المهدي إلى النجف ويمضي إلى الكوفة ويدخل إلى مسجد الكوفة ويذهب إلى المحراب الذي سقط فيه جده أمير المؤمنين مخضباً بدمائه، بعد ذلك يقصد كربلاء ويخرج النداء من داخل القبر الشريف: إلى الآن يا ولدي يا آخذ الثار.

يقف الإمام ويمد يده ليستخرج عبد الله الرضيع والسهم مشكوك في نحره، يعرض الإمام المهدي هذه الظلامة للتأريخ وللدنيا وللمجتمع، ويقول لأصحابه: أصحابي ما ذنب هذا الرضيع حتى يذبح من الوريد إلى الوريد؟

إلهنا نسألك وندعوك بالزهراء وأبيها وبعلها وبنيها وفّقنا لما تحب وترضى... ادفع عنا بلاء الدنيا والآخرة.. اجعل كلمة الحق هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى..اقض حوائج المحتاجين.. منّ على مرضى المؤمنين بالشفاء والصحة.

ص: 102

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 103

الأيمان بالإمام المهدي عليه السلام

اشارة

سماحة السيد علاء الموسوي

ص: 104

ص: 105

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الأول قبل الإحياء والإنشاء والآخر بعد فناء الأشياء، العليم الذي لا ينسى من ذكره ولا ينقص من شكره، ولا يخيب من دعاه ولا يقطع رجاء من رجاه.

والصلاة والسلام على أشرف بريته وخاتم رسله أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وعلى آله الطيبين الطاهرين المنتجبين.

أوصيكم اخواني بتقوى الله، فإن التقوى خير الزاد ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

عظّم الله أجورنا وأجوركم في هذه المناسبة الأليمة، مناسبة شهادة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري صلوات الله وسلامه عليه.

في مثل هذا اليوم تبدأ مرحلة جديدة في حياة الشيعة، بعد أن غاب عنهم آخر إمام ظاهر، وهو الإمام الحسن العسكري عليه السلام فالإمام العسكري عليه السلام هو آخر إمام ظاهر بين الشيعة كان يجلس ويستقبل ويتحدث إليهم ويستلم منهم الحقوق ويوجههم ويبين لهم الأحكام ويتعامل معهم بشكل طبيعي لم يكن يحتجب عنهم.

ص: 106

من مثل هذا اليوم تبدأ مرحلة جديدة في حياة التشيع والشيعة، إذ يغيب عنهم هذا الإمام المظلوم الذي استشهد بسم الحاكم في وقته، وتبدأ إمامة الإمام المهدي صلوات الله عليه، هذه الفترة والمرحلة الحساسة التي لا زلنا نعيشها.

مسألة الإيمان بالإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه لها جانبان:

الجانب الأول: الفكري العقائدي:

ويتضمّن إثبات النص على الإمام، إثبات إمامة الإمام، إثبات اسمه واسم أبيه وأنه من ولد فاطمة صلوات الله عليها، طول عمر الإمام، وإثبات إمكان أن عمره يمكن أن يطول كما طالت الأعمار سابقاً، كما طال عمر الخضر وأمثال الخضر، إثبات أو الحديث عن مقدمات ظهوره، الحديث عن أيام ظهوره..وهكذا.

هذا الحديث في الواقع جانب تأريخي عقائدي، وقد تكفل بهذا الجانب مئات الكتب في الحديث عن هذه الجوانب، تكفل بذلك مئات الكتب والرسائل والبحوث التي كتبت حول الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه من الفريقين.

لا تتصور أن مسالة الإمام المهدي مسألة خاصة بنا نحن فقط الشيعة، فهذه المسالة مسألة عامة يمكن أن نجزم أنها مسألة بشرية عامة لا فقط إسلامية عامة، المسلمون جميعاً يعتقدون بها وكتبوا فيها، وعلماء المسلمين جميعاً كانت لهم مؤلفات ومصنفات حول هذا الإمام وحول ظروف غيبته وحول ظروف ظهوره وحول اسمه واسم أبيه وبقية التفاصيل عنه.

ص: 107

وهكذا يمكن تعميم المسألة إلى غير المسلمين، إذ نجد غير المسلمين من الطوائف الدينية أيضاً يعتقدون برجل يأتي في آخر الزمان لينشر العدل في الأرض غاية الأمر أنهم يختلفون عنا في تعيين اسم الرجل وفي تعيين المصدر الديني أو المنبع الديني للرجل هل هو مسلم أم غير مسلم، القضية هنا يكون فيها اختلاف، ليس أكثر.

وأما أصل المبدأ، الذي هو مبدأ وجود مصلح في آخر الزمان، فإنه مبدأ إنساني عام.

هذه المسألة من الجانب الأول، الجنبة الأولى هي مسالة عقائدية فكرية تأريخية تكفّل ببيانها مئات الكتب والرسائل والبحوث.

الجانب الثاني: الجانب الوجداني:

الجانب الوجداني ما معناه؟ كيف نتعامل مع هذه العقيدة مع هذه الفكرة بشكل يجعلها فاعلة في حياتنا كما نتعامل مع أي حقيقة أخرى فاعلة في الحياة؟

ونذكر _ من باب المثل _ مسألة المال، الأموال هذه الأداة التي سيستخدمها الإنسان في حياته، في كل تصرفاته وحركاته ومعاملاته، هذه مسألة فاعلة في الحياة، بمعنى أن لها تأثيراً فاعلاً جداً وقوياً جداً في الحياة، فلاتكاد تخلو معاملة من مال، ولا تكاد تخلو حركة من حركات الإنسان من هذه المسألة، وكثير من المشاكل التي تنشأ في الحياة منشؤها المال، فالنزاعات المالية والمشاكل والجرائم كثير منها ينشأ من المال، حتى الحروب الكبيرة تنشأ من المال.

ص: 108

إذن مسألة المال مسألة لها فاعلية، لها تأثير في حياة الإنسان، الإنسان يحمل همها وتؤرقه وتسهره، الإنسان إذا خسر لا ينام الليالي، تمر عليه ليالٍ طويلة لا ينام. فإذن المسألة مهمة جداً، داخلة في وجود الإنسان، تؤثر فيه.

هذا الذي نريد أن نقوله: كيف نجعل مسألة الإمام المهدي عليه السلام مسألة فاعلة في حياة الإنسان كفاعلية المال بل أكثر؟ كيف نتعامل مع الإمام الحي الغائب؟، هذا الإمام الذي يعيش بين أظهرنا يرانا و لا نراه، يرقب أفعالنا ويشهد علينا أمام الله، هو الإمام المسؤول عنا نحن جيل عصر الغيبة؟ هذا هو الإمام المسؤول عنا كيف نتعامل معه؟ هل نتعامل معه كغيب وفكرة من الأفكار؟

نعم ثبتت هذه الفكرة بالدلائل العلمية وبالبراهين الثابتة، و نعتقد بها، لكن لا نتجاوز هذه العقيده إلى أكثر من ذلك، هي فكرة من الكتب و نمر عليها بين مناسبة و أخرى و نتحدث عنها لا أكثر، هل نقف عند هذا الحد أم أننا نريد أن نتجاوز العقيدة إلى الاطمئنان..

إلى الاطمئنان القلبي وإلى جعل هذه الفكرة أمراً فاعلاً في حياتنا بحيث تسهرنا كما يسهرنا المال وتؤرقنا كما يؤرقنا المال وحب الولد وحب الدنيا، بل أكثر من ذلك، فالمفروض في المؤمن أن يبحث عن كيفية تفعيل هذه الفكرة في حياته وإنزالها إلى واقعه.

ص: 109

هناك _ في الواقع _ نقاط ومراحل علينا أن نفهمها جيداً حتى نصل إلى إمكانية هذه العملية..عملية تفعيل العقيدة في الحياة وجعلها أمراً فاعلاً في حياة الإنسان مشاركاً في قرارات الإنسان في حياته.

أولاً: يجب أن نعلم أن الإمام صلوات الله عليه حي يرزق، كثير منا يغفل عن ذلك..صحيح نحن نعتقد انه حي موجود لكن شعورنا بحياته يكاد يكون منعدماً أو ضعيفاً جداً، لا نشعر بأنه موجود، وهذه في الواقع مسألة تتعلق بالإيمان بالغيب (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(1)، الذي يؤمن بالغيب يستطيع أن يشعر بالغيب وإن لم يره بعينه الباصرة.

الإمام المهدي وإن كنّا لا نراه بهذه العين، لكن المفروض أن نراه بعين البصيرة، المفروض أن نعيش معه بالقلب.

الإمام حي يرزق يعيش بين أظهرنا ويحضر مواسمنا الرئيسية كمسلمين، يحضر الحج ويقف عرفة، لذلك الواقفون في عرفة في ذلك اليوم العظيم هم أقرب الناس إلى صاحب الأمر صلوات الله وسلامه عليه، لأنهم يقفون معه على صعيد واحد، في ذلك الصعيد صعيد عرفة(2)، يحضر المواسم، يحضر زيارة الإمام الحسين عليه السلام في ليالي الجمع، وفي المواسم الرئيسية في الأربعين وغير الأربعين، ويحضر مجالس الشيعة، ويحضر محافل المسلمين، غاية الأمر أنك لا تراه، وكون الشخص لا يراه لا ينبغي أن يؤثر في عقيدته بأنه موجود وفي شعوره بوجوده، هذا الشعور ينبغي أن يتعمق بأنه موجود ومراقب، والرقابة هذه طبعاً ينبغي التنبيه على أنها

ص: 110


1- سورة البقرة، الآية: 3.
2- راجع كمال الدين للشيخ الصدوق: 346.

ليس مثل أي رقابة أخرى، فرقابة الإمام المهدي علينا وشهادته على أعمالنا تختلف عن بقية الرقابات، فمثلاً أنت إذا دخلت إلى سوق ضخم مراقب بالكاميرات حتى لا يسرق أحد وأنت تعلم حينما تدخل إلى ذلك السوق بأنك مراقب فتكون حذراً، لكن هذا الحذر في الواقع حذر سلبي بمعنى أنّك تشعر أن الذي يراقبك يريد أن يمسك عليك عثرة لكي يجازيك ويأخذ منك الحق.

أما رقابة الإمام المهدي علينا فهي رقابة من نوع آخر، رقابة المحب، ورقابة الرؤوف، ورقابة الأب الذي يرقب أولاده ورعيته، يرقبهم كيف يكبرون وكيف يتكاملون وكيف يسيرون في هذه الحياة، رقابة من نوع آخر ليس رقابة إنسان مترصد للعيوب إنما رقابة أب رحيم يريد لنا الصلاح ويريد لنا التسديد، رقابة من يرفع يده دائماً في الدعاء لنا ليلاً ونهاراً أن يسددنا الله عز وجل وأن يحفظنا وأن يوفقنا للطاعة وأن يثبتنا على الإيمان..الإمام في دعاء دائم لشيعته بل لكافة المسلمين.

فإذن هذا هو الأمر الأول، ينبغي أن نشعر بالرقابة وأن الإمام عينه مفتوحة علينا دائماً وأنه حي يرزق بين أظهرنا(1).

ثانياً: ينبغي أن نعتقد أن وجوده صلوات الله وسلامه عليه هو سبب بقائنا واستمرار بقائنا، وهو البركات التي تحل بنا، فهو الواسطة بين الله تبارك وتعالى

ص: 111


1- راجع التوقيع الشريف الى الشيخ المفيد في كتاب الاحتجاج للطبرسي ج2: 322_ 325: وفيه : (.. ونحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين... فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يغرب عنّا شيء من أخباركم...إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء...)، وفي توقيع آخر: (... لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب...).

وبيننا في إيصال كل خير، وجودنا رهين بوجوده، البركات والنعم التي نتمتع بها رهينة بدعائه ورهينة برضاه، هذه مسالة أخرى.

وهو أيضاً يمكن تسميته بالمنعم، لأنه واسطة في النعمة، والمنعم الأول والأصيل هو الله تبارك وتعالى، والواسطة في هذه النعمة الإمام المهدي عجل الله فرجه فهو أيضاً منعم بدرجة من الدرجات، فينبغي النظر إليه نظر الامتنان والشكر.

ثالثاً: ينبغي أن نعلم ونتيقن أن رضى الله تبارك وتعالى مرهون برضاه صلوات الله عليه، فإذا لم يرض عنك إمامك اعلم أن الله غير راض عنك، لا يمكن لأحد أن يصل إلى رضى الله عز وجل إلا عن هذا الطريق، الطريق الذي عينه الله تبارك وتعالى، وهو الإمام الحاضر، والحجة الحاضر هو الإمام المهدي صلوات الله عليه.

إذن يجب أن يرضى عنك فإذا علمت أن رضى الله مرهون برضاه ومربوط برضاه حينئذ الموقف بلا شك سوف يتغير ويتبدل.

مجموع هذه الأمور إذا نضجت في الذهن:

إذا علمنا إن الإمام حي يرزق وشاعر بنا تماماً، يحيط بكل ما نفعل وما نقول، يراقبنا مراقبة الأب الرحيم بأولاده يدعو لنا ليلاً ونهاراً.

وعلمنا أن بقاءنا مرهون بوجوده.

ثم علمنا أن رضى الله مرهون برضاه.

كل ذلك يؤدي إلى هذا الشعور الناضج المتكامل في أننا نعتبر الإمام فاعلاً في حياتنا ومؤثراً في اتخاذ القرار، كما نفكر في أي مسألة حيوية في الحياة ونقلق

ص: 112

من أجلها ونفكر بها ونعتبرها دائماً هاجساً يومياً لنا، فكذلك سنفكر بالإمام المهدي عليه السلام وسنعيش معه وسننتظره.

الانتظار:

هنا ننتقل إلى الانتظار بعد هذه المقدمة، ويتضح أو يقترب معنى الانتظار إلى الذهن، انتظار الإمام صلوات الله وسلامه عليه، ماذا يعني حينئذ؟ يعني انتظار الفضائل، شمس الفضائل التي غاب قرصها عن العالم، وينتظر كل البشر هذا القرص أن يظهر من جديد فيشع على البشرية كمالاً وعقلاً وروحاً متكاملة وسعادة، هذه الشمس التي غربت فغرب معها كل خير وغرب معها العقل الكامل.

الآن _ في الواقع _ من أكبر ما يعانيه البشر ضعف العقل، العقل الإنساني لا يستخدم في هذه الدنيا استخداماً كاملاً وتاماً، لا نستخدم نحن من عقولنا إلاّ نسبة ضئيلة جداً..من الذي يفجر هذه الطاقات؟ ومن الذي إذا ظهر مسح على رؤوس الخلائق فتكمل عقولهم؟ هو الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه.

وبلا شك إن الرواية أنه إذا ظهر يمسح بيده على رؤوس الخلائق فتكتمل عقولهم.(1) لا شك إن هذا لا يعني أن الناس _ مثلاً _ يمرون أمام الإمام

ص: 113


1- كمال الدين للصدوق: 674، ولفظه: عن أبي جعفر الباقر عليه السلام :( اذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم).

والإمام يمسح على رؤوسهم، ليس هذا هو المقصود، بل المقصود وجود الإمام، والتعبير ب_ (يد الإمام) يعني سيطرة الإمام وهيمنة الإمام على الناس ورعايته للناس الفكرية والروحية، هذه ببركتها تكتمل عقول الناس تربية وتعليماً وترقية، مع عنايات إلهية طبعاً، مع معجزة وكرامة بلا شك.

فإذن الإمام انتظاره يعني انتظار الكمال الإنساني، انتظاره يعني انتظار فرج الناس جميعاً، انتظاره يعني انتظار السعادة التي ترتقب البشر والتي ينتظرها البشر ويرنو إليها البشر جميعاً.

وعلى ذلك حينما نأتي إلى الروايات التي تتحدث عن الانتظار:

عن النبي صلى الله عليه وآله: (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج)(1) أفضل الأعمال..مع هذه المقدمات وهذا البيان لعله يتضح أن الانتظار المقصود به في الرواية ماذا؟ الانتظار الذي يعني أنك تنتظر الكمال وتتهيأ له، هناك مثل بسيط اضربه للتوضيح: إذا أخبرت أن شخصية مرموقة بارزة سيزورك في دارك في منزلك، ماذا ستفعل؟ بلا شك أنك ستهيئ نفسك ودارك وأهلك وأولادك وكل ما في وجودك تهيئه لانتظار هذه الشخصية العظيمة المحترمة، فتدخل إلى الدار وتحاول أن ترتبها من جديد، وإذا كان أثاثها قديماً تبدل الأثاث إلى أثاث أفضل، وإذا كانت تحتاج إلى صبغ الجدران تصبغ الجدران حتى تبدو زاهية ناصعة، وإذا كان فيها أشياء لا تليق من قبيل وجود تماثيل مثلاً فيها أو صور غير مناسبة أو غير ذلك أنت سوف تستقبل مرجعاً،

ص: 114


1- كمال الدين للصدوق: 644، وروي أيضاً بلفظ: ( أفضل العبادة انتظار الفرج).

المفروض أن يدخل ذلك الإنسان وينظر إلى الأشياء كما يناسبه إلى ما يسره ويفرحه، فأنت سوف تزيل كل ما من شأنه أن يزعج هذا الضيف الكريم، وسوف ترتب دارك على طبق ما يحب ذلك الزائر، وسوف ترتب الوجبة التي هو يحبها والأجواء التي هو يريدها حتى تكون قد استقبلت ذلك الضيف الكبير بشكل لائق.

هنا نحن بانتظار الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه، انتظاره ماذا يعني؟! انتظاره يعني أن نهيئ أنفسنا وحياتنا لاستقباله، وبلا شك أن الإمام المهدي هناك خصوصية فيه، وهي أنّه حينما يظهر هو مطلع على السرائر ولا يستطيع أحد أن يخفي سريرته على الإمام(1)، ويتعامل مع الناس أيضاً بشكل خاص، فيسير بهم بسيرة داوود.

فعلى هذا إذا ظهر الإمام ولم أكن قد هيأت قلبي ونفسي لاستقباله كيف أكون منتظراً له؟! كيف يهيئ الإنسان نفسه؟

يطهّر هذا القلب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويزكي نفسه، ويخلص نفسه من الأمراض النفسية والشوائب والحقد وحب الدنيا والحسد والبغضاء، فكل هذه الصفات ينبغي أن يطهر الإنسان نفسه منها، وإلا إذا ظهر الإمام واطلع على قلبه بلا شك لن يكون عنده مرضياً، يعني في أحسن الأحوال لم يكن معتبراً عنده، هذا إذا لم يتعرض للعقوبة.

ص: 115


1- عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (إذا قام القائم عليه السلام لم يقم بين يديه أحد من خلق الرحمن إلا عرفه صالح هو أم طالح...)، راجع كمال الدين للصدوق: 671، ح 19_ 20.

وهكذا الحياة من حولنا، فينبغي أن نهيئ ما حولنا بعد تهيئة النفس نهيئ ما حولنا للإمام، أن تكون حياتنا مهيأة لاستقباله، حياة طاعة حياة طهارة، أن نهيئ أولادنا للإمام.

فالإنسان الذي يهمل أولاده ويترك ابنه ضحية وفريسة للتلفزيون والفضائيات وأمثال ذلك هل يمكن لهذا أن يكون منتظراً؟ كيف يخرج الإمام وكيف ينظر إلى ولده حين ذاك؟ هل تريد أن تقدم للإمام هدية بهذا الشكل؟ نحن نحاول دائماً أن نكون نحن وأبناؤنا وذرارينا جنداً مجندةً للإمام عليه السلام.

فإذا أردت أن تقدم جندياً إلى الإمام تقدمه بهذا الشكل ولد يكبر على التلفزيون والفضائيات ولا يعرف من دينه شيئاً، ولا يعرف من أحكام دينه شيئاً عقائده غير واضحة وسلوكه غير مستقيم.. هكذا يريد منا الإمام؟ إن هذا ليس بانتظار.

الانتظار الصحيح بمفهومه الذي يطرح هنا في هذا الحديث (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج) أن تتهيأ، أولاً تهيئ نفسك ثم تهيئ ما حولك..أولادك وعائلتك وبيتك ومجتمعك، وتحاول أن تكون في كل ذلك مرتقباً للإمام ناظراً إلى ذلك اليوم السعيد الذي يظهر فيه فيراك على أحسن أهبة فتكتمل السعادة.

تصور حالة المؤمن إذا ظهر الإمام وأهمله كم تكون المصيبة عظيمة، إذا ظهر الإمام وأعرض عنك وأشاح بوجهه عنك، لماذا؟ لأنك لم تفعل كذا لم

ص: 116

تزكّ أموالك ولم تخمس، فالإمام لا يدخل بيتاً غير مخمس، ولا يجلس إلى سفرة فيها طعام حرام، ولا ينظر إلى وجه ولا يزكي أحداً انغمس في المحرمات.

نحن منتظرون للإمام، ينبغي أن نكون قد هيأنا أنفسنا لذلك اليوم لتكتمل السعادة، كم هي سعادة المؤمن حينما يظهر إمامه وسيده وحجة الله عليه ابن رسول الله يظهر فيستقبلنا بوجه ضحوك ويستقبلنا بذراع مفتوحة، حينذاك تكتمل الفرحة، حينذاك يشعر الإنسان المؤمن بأنه نجح في الامتحان وأنه عبر مرحلة الانتظار إلى النجاح.

ثم قد تقول: إننا قد نموت قبل أن يظهر الإمام، أقول: نعم الروايات تؤكد أن من مات منتظراً للإمام على هذه الهيئة في الانتظار للاستعداد التام في النفس وفي ما حول الإنسان كتب في معسكر الإمام.

الرواية تقول: (ما ضرّ من مات منتظراً لأمرنا أن لا يموت في وسط فسطاط القائم)(1) أي أنه لو مات وهو في وسط العسكر لما كان أحسن حالاً منه وقد مات منتظراً.

الانتظار في حد ذاته رتبة يحصل عليها الإنسان، جائزة يحصل عليها الإنسان، سواء أدرك الظهور أو لم يدرك. ثم هناك روايات أخرى تقول أن من مات منتظراً مترقباً للإمام قد يظهر مع الإمام في الرجعة(2)، يرجع مع

ص: 117


1- الكافي للكليني، ج1: 372، ح6، كتاب الغيبة للنعماني: 200.
2- لاحظ الكافي 1 / 370 باب أنه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر، إكمال الدين وإتمام النعمة / 644 باب ما روي في ثواب المنتظر للفرج.

الإمام ويظفر بتلك المرتبة العظيمة في نصرة الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لرضاه، وأن يوفقنا لتتبع هداه، وأن يعجل فرجه ويسهل مخرجه، ويجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه.

والحمد لله رب العالمين

ص: 118

ص: 119

إثبات ظهور المهدي عليه السلام وغيبته

اشارة

سماحة السيد منير الخباز

ص: 120

ص: 121

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله وسلم عليك يا رسول الله وعلى أهل بيتك المعصومين المنتجبين المظلومين، لعن الله الظالمين لكم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.

ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: (إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، وقد أنبأني اللطيف الخبير بأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما)(1)، صدق الرسول الكريم.

ذكرنا في الليلة السابقة أن حديث الثقلين يدل على قضية الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه باعتبار أن حديث الثقلين يصرح بأنّ العترة والكتاب لا يتفارقان أبداً إلى يوم القيامة: (وقد أنبأني اللطيف الخبير بأنهما لن يفترقا)، يعني القرآن وأهل البيت، (حتى يردا عليّ الحوض)، القرآن لا يفترق عن أهل البيت وأهل البيت لا يفترقون عن القرآن إلى يوم القيامة.

ص: 122


1- راجع سنن الترمذي، ج5: 328، السنن الكبرى للنسائي، ج5: 45، المعجم الكبير للطبراني، ج5: 154 _ 186،....

وهذا معناه أنه في كل زمان يوجد القرآن لابد من وجود رجل من أهل البيت في ذلك الزمان مع القرآن الكريم.

الحديث عن الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه من خلال حديث الثقلين يتم في ثلاث نقاط:

الأولى: ظهوره وغيبته:

ذكرنا في عدة ليالٍ سابقة أن مسألة ظهور الإمام أمر مسلّم به بين جميع المسلمين، لا أحد ينكر أن هناك إماماً يظهر آخر الزمان يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، هذا لا ينكره أحد من المسلمين، فجميع المسلمين شيعةً وسنة يسلمون أن آخر الزمان يظهر إمام يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

وهذا ليس فيه خلاف، وذلك لدلالة القرآن والحديث النبوي على ذلك:

القرآن الكريم يقول: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(1).

يعني لابد أن يظهر الدين الإسلامي على جميع الأديان في يوم من الأيام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) لابد في يوم من الأيام تمتد الدعوة الإسلامية ويمتد النداء الإسلامي إلى جميع أرجاء الأرض وتظهر راية الإسلام خفاقة على جميع الرايات.

ص: 123


1- سورة التوبة، الآية: 33.

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(1).

يعني يرثون الأرض، أي أنهم آخر من يحكم الأرض، هذا معنى الوارثين، والمستضعفون هم المسلمون طبعاً، المسلمون هم الوارثون.

إذن لابد من دولة إسلامية تعم أرجاء الأرض في آخر الزمان، حسب صريح القرآن الكريم، وهذا أمر مسلم به ليس فيه شك.

كذلك ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أنه قال _ في مستدرك الصحيحين _: (لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً، فيخرج رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً).(2)

وفي كنز العمال: (لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من أهل بيتي من ولد فاطمة فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).(3)

كذلك أيضاً ينقل ابن حجر وذخائر العقبى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه ضرب بيده على كتف الحسين عليه السلام وقال: (من ظهر هذا، أو من صلب هذا، أو من ولد هذا _ حسب اختلاف الروايات _ مهدي هذه الأمة يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).(4)

مسألة ظهوره ليس فيها نقاش، إنما الكلام في غيبة الإمام فإنّ الشيعة الإمامية تعتقد أن الإمام ولد وهو غائب ويخرج يوماً من الأيام إذا أذن الله له بالخروج،

ص: 124


1- سورة القصص، الآية: 5.
2- المستدرك للحاكم، ج4: 464، 557.
3- كنز العمال للمتقي الهندي، ج14: 261، ح38653، ج14: 264، ح38662.
4- راجع ذخائر العقبى للطبري: 136، لسان الميزان لابن حجر، ج3: 238.

وغيرهم من المسلمين يقولون: الإمام إلى الآن لم يولد وأنه يولد آخر الزمان ويخرج، فالخلاف في هذه النقطة، في الغيبة، هل أنه يولد آخر الزمان ويخرج، أي هل أنه ولد وهو غائب، أم لا؟

نحن الشيعة الأمامية نقول: نعم ولد وهو غائب، لماذا؟

أولاً: الدليل التأريخي ساعدنا، يعني أنت عندما تقرأ الآن كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان(1)، أو تقرأ كتاب مطالب السؤول لمحمد بن طلحة الشافعي أو مثلاً تذكرة خواص الأمة لسبط ابن الجوزي، كلهم ينصون على أن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنجب ولداً اسمه محمد، ولد وغاب عن الأنظار، ويذكر صاحب وفيات الأعيان وغيره: وهو حي يرزق، وهذه كتب أهل السنة تنص تأريخياً على اسمه محمد ابن الإمام الحسن العسكري ولد وغاب، وهذه كتب تأريخية تنص على ذلك.

ثانياً: من جانب آخر الأحاديث تؤيد وجود الإمام، فقد ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويقوم فيكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)(2)، وقلنا: إن هذا الحديث يدل على أن الأئمة متواصلين إلى يوم القيامة بمعنى أنه لا تمر فترة على الأمة الإسلامية بدون إمام، فإن هذا مستحيل (لا يزال الدين قائماً _ كما رواه البخاري _ حتى تقوم الساعة ويكون فيكم اثنا عشر أميراً أو اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، فلا

ص: 125


1- راجع وفيات الأعيان لابن خلكان، ج4: 176.
2- راجع صحيح البخاري، ج8: 127، صحيح مسلم، ج6: 3، مسند أحمد، ج5: 86 _ 107، سنن أبي داود، ج2: 309، المستدرك للحاكم، ج3: 618.

تأتي فترة على الأمة أو زمان على الأمة الإسلامية خالية من وجود الإمام..مستحيل!!

وهذا ما أكده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في حديث آخر، كما رواه صحيح مسلم: (من لم يعرف إمام زمانه ومات مات ميتة جاهلية).(1)

لكل زمان إمام، كل زمان يمر على الأمة الإسلامية يوجد فيه إمام، أنت تسأل أي أحد مسلم قل له: من إمامك الذي هو إمام هذا الزمان؟ هل يوجد أحد يجرؤ ويتجاسر ويدعي أنه إمام الزمان؟ لا يوجد أحد يقول: أنا إمام الزمان، شرقاً وغرباً لا يمكن أن تنسب هذه الدعوى إلا للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.

الحديث يؤكد وجود إمام للزمان كله، ولا يوجد مسلم معد ومهيأ لأن يدعي هذه الدعوى إلا الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.

نأتي إلى حديث الثقلين الذي ذكرناه: (وقد أنبأني اللطيف الخبير بأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)، إذن لابد لكل زمان من إمام والإمام باقٍ إلى يوم خروجه.

والدليل التأريخي _ كما ذكرنا _ ساعدنا أن هذا الإمام الغائب، هذا الإمام الموجود هو محمد بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه.

ومسألة استبعاد غيبة الإمام بأنه كيف يغيب هذه المئات من السنين، ويعيش هذه المئات من السنين؟ فهذه المسألة واضحة الدفع بعيسى بن مريم، فإن جميع

ص: 126


1- صحيح مسلم، ج6: 22، ولفظ الحديث: (...ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).

المسلمين يقرون أن عيسى بن مريم لم يمت مازال حياً (وَما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(1) وفي آية أخرى (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)(2) وما زال حياً ويظهر آخر الزمان، ونحن طبعاً بحسب روايات الشيعة نؤكّد أن عيسى بن مريم يأتم بالإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه ويصلي خلف الإمام في بيت المقدس.

إذا كان يمكن أن يبقى عيسى بن مريم متمتعاً بصحة وعافية هذه السنين، وهذه المئات من السنين، فأي مانع يمنع من بقاء الإمام المنتظر هذه المئات من السنين بصحة وعافية مهيأ لذلك اليوم العظيم، وهو يوم خروجه؟

إذا صح ذلك في عيسى بن مريم صح في الإمام المنتظر ولا يوجد مانع.

الثانية: دوافع الغيبة:

لماذا الإمام غائب؟ لماذا لا يظهر؟ نفترض أن الإمام ولد والآن غائب، البشرية بلا شك تحتاج إلى وجود إمام معصوم يبلغ الأحكام الواقعية ويقيم العدل ويقيم القسط ويرشد الأمة الإسلامية إلى خيرها.

الأمة الإسلامية بحاجة ماسة إلى وجود الإمام، فلماذا لا يظهر الإمام؟ لماذا الإمام ما زال غائباً ولا يظهر؟ ما هو الدافع وما هو الداعي لغيبته وعدم ظهوره؟ الآن هذا سؤال يطرحه الكثير من الاخوة السنة وغيرهم.

نحن نذكر هنا جوابين أو وجهين:

ص: 127


1- سورة النساء، الآية: 157.
2- سورة النساء، الآية: 158.

الوجه الأول: ما طرحه علماؤنا من أن البشرية لابد أن تمر بتجربة مريرة تتهيأ فيها لدولة الإمام عليه السلام، كيف تتهيأ لدولة الإمام؟ خروج الإمام في هذه الظروف غير نافع، يعني لا توجد له الأرضية المهيأة للدولة الآن.

فمثلاً علماؤنا يقولون بأن الزمن والظروف التي عاش فيها الإمام علي عليه السلام ما كانت تتحمل دولة الإمام علي، أي أنّ دولة الإمام علي كانت أكبر من الظروف التي عاشتها، فإنّ العقلية والتجربة البشرية آنذاك ما كانت في مستوى وعي حكم الإمام علي عليه السلام وما كانت في مستوى إدراك حكم الإمام علي عليه السلام وبالتالي لم يستقر حكم الإمام علي أكثر من خمس سنوات وكلها حروب ودماء واختلافات واضطرابات بين المسلمين، نتيجة أن التجربة البشرية ما كانت في مستوى حكم الإمام عليه السلام.

طبعاً، صحيح أن الإمام نصبه الرسول صلى الله عليه وآله خليفة على المسلمين لكن لما أُبعدت الخلافة عنه خمساً وعشرين سنة جعلت الظروف غير مهيأة، وجعلت الظروف ليست في مستوى حكم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

نقول الآن: إذا الإمام المنتظر يريد أن يقيم الدولة العادلة والدولة العامة الشاملة على أرجاء الأرض، ألا يحتاج إلى أرضية مهيأة؟ الجواب: نعم بلا إشكال.

إذا كان الإمام يريد أن يقيم الدولة الإسلامية العامة على جميع بقاع الأرض (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ

ص: 128

كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(1) إقامة الدولة الإسلامية العامة تحتاج إلى أن البشر يستقبلون الإسلام، تحتاج إلى أن البشر يكونون مهيئين نفسياً وذهنياً لقبول الإسلام ولاعتناق الإسلام ولتلقي الإسلام، ولأن يكونوا عوناً للإسلام.

فالإمام وإن كان يحارب المرتدين ويحارب الكافرين ويحارب الظالمين، لكن لا يفني البشر كلهم، بل لابد من وجود أرضية بشرية مهيأة نفسياً وثقافياً لدولة الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه.

وهذا كيف يتم؟ طبعاً يتم بأن البشرية تعيش التجربة المرّة وتمر البشرية بتجربة مرّة، فتجرب سائر الأنظمة وسائر الحضارات وسائر القوى وسائر الأجهزة إلى أن تيأس البشرية من كثرة المشاكل الاقتصادية ومن كثرة الحروب ومن كثرة الفتن ومن كثرة الويلات التي تمر بها، إلى أن تتهيأ نفسياً بكل انتظار وبكل شوق وبكل إِلحاح إلى أن الخلاص الوحيد والعلاج الوحيد لها كلها هو الإسلام، وتؤمن البشرية وقد جربت أنظمة مختلفة من رأسمالية وشيوعية واشتراكية وأنظمة أخرى وحضارات مختلفة وحضارات متباينة، نعم وأجهزة مختلفة ومتعددة، وترى فشل الجميع وعدم كفائتها.

وطبعاً تزداد المشاكل البشرية يوماً بعد يوم، تزداد نسب المجاعة ونسب الفقر ونسب الحروب ونسب الفتن ونسب القلاقل ونسب الاضطرابات يوماً بعد يوم، إلى أن تصل البشرية إلى أن لا مخلص إلاّ الإسلام ولا علاج إلا الإسلام ولا حلّ إلا الإسلام ولا كافل لسائر المشاكل إلا الإسلام.

ص: 129


1- سورة التوبة: الآية: 33.

إذا تهيأت البشرية إلى الإسلام وإلى نظام الإسلام كحل وكعلاج كان ظرفاً مهيأً ومناسباً لخروج الإمام عجل الله تعالى فرجه فيخرج والبشرية تحت رايته لأنها راية الإسلام الذي هو الحل الوحيد لسائر المشاكل المادية والاقتصادية والأمنية.

وهذا ما تؤكد عليه النصوص التي تذكر أنه يخرج بعد ما ملئت الأرض ظلماً وجوراً، والرسول لا يكذب، وهذا ليس معناه أن كل بقعة بقعة ستمتلئ ولكن أغلب بقاع العالم هكذا (تملأ الأرض ظلماً وجوراً فيخرج رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً).

فلابد للبشرية أن تخوض هذه التجربة المريرة التي تهيئها لقبول دولة الإمام ولقبول صوت الإمام سلام الله عليه.

الوجه الثاني: السيد محمد باقر الصدر رحمه الله يذكر أن غيبة الإمام نافعة حتى للإمام نفسه، فضلاً عن البشرية، والرأي يختص به لا يطرحه غيره من العلماء.

يقول: كل دور يحتاج إلى كفاءة مناسبة للدور، فمثلاً موسى بن عمران متى بُعث رسولاً؟ لما بلغ أربعين سنة والقرآن الكريم يقول: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى)(1) يعني أصبح عقله ناضجاً وخبرته ناضجة ورجولته كاملة.. (آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً) الدور كان يحتاج إلى هذا النوع من الكفاءة، يعني ما كان

ص: 130


1- القصص (28): الآية 14.

يمكن لموسى بن عمران أن يقوم بدوره كرسول إلا بعد هذا السن وبعد هذه التجربة.(1)

نأتي إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله بعث وعمره أربعون سنة، هو نبي منذ ولادته، وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله كما في كتاب تفسير الرازي: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين).(2)

الله تبارك وتعالى خلق النبي نوراً قبل أن يخلق آدم وأعطاه النبوة قبل أن يخلق آدم، نور يجتبى بالنبوة والعصمة والطهارة قبل خلق آدم.

ولقد ورد عنه صلى الله عليه وآله: (إن الله خلق نوري ونور علي قبل أن يخلق آدم بألفي عام)(3)، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)(4).

إذن هو نبي منذ ولادته، فلماذا لم يبعث إلا وعمره أربعين سنة؟ لأنه ما بعث بالدعوة وإن كان نبياً إلا بعد أربعين سنة، والتجربة الإسلامية تقتضي تهيئته كقائد تنقاد له النفوس وتذعن له القلوب وتلتف حول رايته وتؤمن بخبرته وتؤمن بنضجه وتؤمن بفكره، ويحتاج إلى أن يمر بهذا السن، ويحتاج إلى أن يمر بهذه التجربة، ويحتاج إلى أن يمر بهذا الحد المعين فيتهيأ لقيادة الأمة آنذاك، فالدور يحتاج إلى هذا الاستعداد.

ص: 131


1- راجع بحث حول المهدي للسيد الشهيد الصدر (قدس سره).
2- تفسير الرازي، ج3: 213.
3- راجع معاني الاخبار للصدوق: 56، ح4، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب، ج1: 27.
4- المناقب لابن شهر آشوب، ج1: 214، مسند أحمد، ج4: 66 وفيه (,آدم بين الروح والجسد)، كنز العمال للمتقى الهندي، ج11: 450، ح32115، وفيه: (بين الروح والطين).

بالنسبة للإمام المنتظر، السيد الصدر _ وهذا رأي يختص به ولعله غريب على الناس _ يقول: إنّ الدور الذي يقوم به الإمام المنتظر ليس دوراً عادياً، لم يقم به نبي ولا رسول، إقامة دولة إسلامية على جميع بقاع الأرض، هذا الدور الذي هو إقامة دولة إسلامية على جميع بقاع الأرض، وكما في بعض الروايات تستمر هذه الدولة أربعين سنة(1)، إقامة دولة على جميع بقاع الأرض ولمدة أربعين سنة دور عملاق ما قام به أحد قبله لا من الأنبياء ولا من الرسل ولا من الأوصياء.

إذن يحتاج هذا الدور إلى كفاءة تتناسب مع الدور نفسه، فإنّ ضخامة الدور تقتضي ضخامة الكفاءة وضخامة الاستعداد، كلما كان الدور عظيماً احتاج إلى عظمة في الكفاءة أكثر، وكلما كان الدور أكبر احتاج إلى كفاءات أكبر واستعدادات أكبر، والإمام المنتظر يقوم بدور ما قام به أحد، وهو إقامة دولة إسلامية عامة على جميع بقاع الأرض، وهذا يحتاج إلى إعداد وخبرة تتناسب مع الدور تماماً.

وهذا يحتاج إلى شخص عاصر جميع الحضارات وعاصر جميع المجتمعات وعاصر جميع الأنظمة وعاصر جميع الدول، لأنه إذا عاصر جميع المجتمعات تعرف على جميع الأهواء وعلى جميع الشهوات وعلى جميع أنواع الميول وإذا عاصر جميع الأنظمة تعرف على نقاط الضعف ونقاط القوة في كل نظام، وإذا عاصر جميع الحضارات تعرف على عوامل البقاء وعوامل الفناء في كل حضارة معاصرة، فجميع الحضارات معاصرة وجميع الأنظمة معاصرة وجميع المجتمعات

ص: 132


1- راجع عقد الدرر للشافعي السلمي: 241، باب 11، الفتن لابن طاووس: 80، باب 182.

معاصرة، وجميع الأزمنة التي تمر على البشرية تكسب هذا الشخص الذي يعاصرها قدراً كاملاً في الخبرة بما تحتاج إليه الدولة الإسلامية العامة على جميع وجه الأرض.

جميع نقاط الضعف والقوة في المجتمعات وفي الحضارات وفي الأنظمة وفي أجهزة الحكم حاصلة لديه، لأنه عاصر الجميع وجرّب الجميع فوصل إلى الإعداد الكافي للقيام بدوره كقائد عام وكقائد لدولة إسلامية عامة.

طبعاً يأتي الإنسان هنا يتساءل: هل الإمام قبلاً لا يعرف؟ وهل هو قابل للتعلم؟ أي أنه كلما عاش يتعلم أكثر، هل الإمام هكذا!! صحيح الإنسان البشر العادي كلما يعيش يزداد معرفة وخبرة وينضج ويتكامل، لكن كإمام معصوم هل الإمام كذلك؟! يعني يحتاج إلى أن يعيش فترة طويلة من الزمن يكتسب فيها خبرات ومعارف وثقافات؟ هل الإمام المعصوم كذلك؟

السيد الصدر يجيب عن هذا السؤال يقول: عندنا فرق بين العلم وبين الخبرة، العلم أمر نظري والخبرة أمر تطبيقي، والأمر التطبيقي يحتاج إليه الإمام كأي إنسان آخر، فمثلاً الطبيب عنده معلومات نظرية بحتة، فإنه عندما يبدأ يفتح عيادة ويعالج المرضى تلك المعلومات النظرية تظهر للوجود فيبدأ يطبقها أثناء عيادته وأثناء علاجه، هذا الطبييب بعد تطبيقه للمعلومات الطبية النظرية ماذا يحصل؟ يحصل على أنه كان عنده علم نظري والآن تحول إلى خبرة، وفرق بين الخبرة والعلم النظري، هذا كان منذ دراسته إلى أن انتهى إلى مستوى معين يحمل معلومات نظرية، الآن عندما بدأ بتطبيقها تحول إلى خبرة فالخبرة غير المعلومات النظرية.

ص: 133

مثال أوضح: النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، انظر هذه الآية من القرآن الكريم _ وهذه الآية كثير من اخواننا أهل السنة يركزون عليها _ القرآن الكريم يقول في حق النبي صلى الله عليه وآله: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الإِْيمانُ)(1) فأهل السنة يقولون: انظروا النبي قبل البعثة ما كان يعلم شيئاً، لأن الآية تقول: (ما كُنْتَ تَدْرِي...). يعني قبل الوحي أنت لا تعلم شيئاً حتى الإيمان ما كنت تدري ما هو، فكان النبي مثل الناس، (مَا الْكِتابُ) يعني من قبل نزول القرآن، ولكنه سبحانه وتعالى يقول في مورد أخر: (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ)(2) إذا كانت تلك الآية تقول: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ما هو معنى هذه الآية؟

فهذا هو الذي نركز عليه، وهو الفرق بين الدراية النظرية والدراية التطبيقية، الدراية التطبيقية، الدراية التفصيلية، والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله قبل البعثة يدري بتمام الأمور ولكن دراية نظرية ودراية علمية، وبعد البعثة ما درى به مجال التطبيق، خاض حروباً وخاض غزوات وطبق دولة إسلامية وعاصر منافقين وعاصر اليهود وعاصر المسيحيين، جادلهم وناقشهم، وهذا النوع من التجربة التي مر بها النبي صلى الله

ص: 134


1- سورة الشورى، الآية: 52.
2- سورة العنكبوت، الآية: 48.

عليه وآله ثلاث وعشرين سنة ويطبق ما درى، يطبق المعلومات النظرية خلال ثلاث وعشرين سنة.

يقول صاحب الميزان هذه الثلاث والعشرين دراية تفصيلية، يقول له: أنت قبل نزول الوحي وقبل نزول الكتاب لم تكن عندك دراية تفصيلية، دراية تطبيقية ثم أعطيناك هذه الدراية التفصيلية ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان.(1)

نحن نؤمن بأن الإمام المعصوم منذ ولادته يعلم ويدري سائر الأمور التي تحتاجها الدولة الإسلامية العامة وما تحتاج إليه المجتمعات وما تحتاج إليه الحضارات والأجهزة المختلفة، كان يعلم بذلك لكنه علم نظري.

لكن معاصرة الإمام بالفعل، فعلاً الإمام يعيش 1400 سنة تقريباً يعاصر الحضارات بنفسه ويكتشف الأنظمة بنفسه ويعاصر المجتمعات بنفسه، هذا النوع من التجربة التي يمر بها أثناء غيبته، تحوّل ذلك العلم النظري إلى خبرة تطبيقية، وهذه الخبرة التطبيقية تساعد على إقامة النظام الإسلامي العام على وجه الأرض.

ص: 135


1- راجع تفسير الميزان للطباطبائي، ج18: 77.

وتوجد عندنا روايات تؤيد هذا، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في الكافي: (لولا أننا نزداد كل جمعة لنفذ ما عندنا)(1) الإمام يتكامل ويمر بمراحل تكاملية، تزداد علومه ومعارفه.

إذن السيد رحمه الله يقرر أن الغيبة ضرورية حتى للإمام وليست ضرورية فقط لنا وللعالم، حتى يتم الإعداد الكافي المناسب للدور الذي يقوم به، وهو دور إقامة لحكم الإسلامي العام على جميع وجه الأرض.

وطبعاً إنّا ندرك أن هذا الرأي أوّلاً خاص بالسيد الصدر، وبعض العلماء يختلف معه ويرى أن الإمام المعصوم لا يحتاج إلى هذه الخبرة ولا يحتاج إلى هذه التجربة لأنه قادر على تطبيق النظام في أي ظرف وفي أي وقت وهو في غير حاجة إلى الخبرة وغير حاجة إلى أن يمر بهذه التجربة. هذا اختلاف في الآراء.

هذا بالنسبة إلى النقطة الثانية، مسألة غيبة الإمام المنتظر ودوافع الغيبة.

الثالثة: التفاعل بين المسلمين وبين إمامهم الغائب:

ص: 136


1- الكافي للكليني، ج1: 54، باب لولا ان الأئمة يزدادون لنفد ما عندهم، ولفظ الحديث في الكافي: (لولا أنا نزداد لانفدنا).

كيف نتفاعل مع الإمام وهو غائب؟ إذا كان غائباً عن أنظارنا كيف نتفاعل معه ونستفيد من أنواره ونستفيد من وجوده عجل الله تعالى فرجه وهو غائب؟

التفاعل مع الإمام بعدة أمور:

الأول: الإحساس برقابته

نحن عندنا روايات تدل على أن الأعمال تعرض على الإمام، فالإمام الصادق عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(1) قال الإمام: المؤمنون هم الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله، وإن أعمالكم كانت تعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى الإمام من بعده.(2)

وفي رواية أخرى عن سماعة بن مهران يقول الإمام عليه السلام: ما لكم تسوؤون رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قلت: كيف سيدي؟ قال: إن أعمالكم لتعرض عليه فإذا رأى سيئة ساءه ذلك.(3)

المؤمن طبعاً يشعر برقابة الله تبارك وتعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(4) (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى)، لكن إذا زاد إحساسي برقابة الله يزداد

ص: 137


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- راجع مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3: 504، تفسير القمي، ج1: 304.
3- راجع بصائر الدرجات للصفار: 446، الأمالي للشيخ المفيد: 196.
4- ق (50): الآية 16.

إحساسي برقابة الإمام أيضاً، طبعاً يزداد خوفي ويزداد خشوعي ويزداد بُعدي ونفوري عن الذنب والرذيلة، إذا شعرنا بأن الإمام يرانا ويراقبنا وتعرض عليه أعمالنا وتعرض عليه سيئاتنا ورذائلنا زاد إحساسنا بالرقابة، وزاد بعدنا عن الذنب وبعدنا واجتنابنا للرذيلة.

فإذن التفاعل مع الإمام عجل الله تعالى فرجه وهو غائب بالشعور بغيبته والإحساس برقابته عجل الله تعالى فرجه.

الثاني: التسديد والتأييد

كلنا نعتقد أن الإمام يسدد الشيعة وإن كان غائباً، ولولا تسديده وتأييده لانقرض التشيع من زمن طويل، فالتشيع منذ زمن السلطة الأموية وزمن السلطة العباسية تيار مبغوض محارب معارض من جميع ألوان المعارضة والمحاربة، وبقى التشيع مستمراً وامتد وكثر ونمى، يحمل علماء ومفكرين ومثقفين على مدى التأريخ وعلى مدى الأيام، نتيجة تسديد الإمام وتأييد الإمام عليه السلام.

وإذا الإمام يكتب إلى الشيخ المفيد (إنا لنحضر أفراحكم وأتراحكم ولا يعزب عنا شيء من أخباركم ولولانا لاصطلمتكم اللأواء وألمت بكم الأعداء).(1)

ص: 138


1- راجع الاحتجاج للطبرسي، ج2: 323.

دعاء الإمام، بركات الإمام، تسديد الإمام، هو الذي يحفظ التشيع على وجه الأرض.

فنحن هذه البركات التي نراها والامتداد الشيعي المستمر على وجه الأرض نعزوه لوجود الإمام وخير الإمام وبركة الإمام عجل الله تعالى فرجه.

الثالث: رؤية الإمام:

كيف يرى الإنسان الإمام؟ طبعاً نحن عندنا رواية تنفي رؤية الإمام عليه السلام.

الإمام كتب إلى علي بن محمد السمري _ آخر السفراء _ يا علي بن محمد السمري عظم الله أجور اخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، ولا تعهد لأحد من بعدك فقد وقع البلاء والغيبة التامة، ولا ظهور إلا بإذن الله، وذلك بعد قسوة القلوب وطول الأمد، وسيأتي قوم من شيعتنا يدعون مشاهدتنا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني وقبل الصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1)

كيف نوفق بين هذه الرواية وبين ما علم من رؤية كثير من العلماء ورؤية كثير من الصلحاء ورؤية كثير من الأبرار للإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه؟

ص: 139


1- الاحتجاج للطبرسي، ج2: 297، كمال الدين للصدوق: 516، ح44.

العلامة الحلي أحد أقطاب الشيعة الإمامية كان يدرس عند عالم من علماء السنة، هذا العالم كتب كتاباً للرد على الشيعة والتشيع، العلامة الحلي طلب هذا الكتاب من أستاذه ولم يوافق لأنه يعرف أن العلامة ذكي وقادر على الرد، فلم يعطه الكتاب، حاول معه العلامة أن يعطيه، قال: إذا كان كذلك أعطيك إياه ليلة واحدة فقط، أخذ العلامة الكتاب من أستاذه وصمم على أن يسهر تلك الليلة على الكتاب ويستنسخه بالكامل. ونام وهو يستنسخ الكتاب من شدة التعب لما نام رأى كأن رجلاً ماثلاً أمامه أخذ منه الكتاب قال له: أساعدك على نسخه، ولم يستيقظ العلامة إلا قريب الفجر، إلاّ والكتاب منسوخ، فعلم العلامة أنه الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه.(1)

أيضاً السيد بحر العلوم عندما سئل قيل له: الإمام يقول: من ادعى المشاهدة فهو كاذب مفتر، وأنت كما يقولون عنك رأيت الإمام، كيف نوفق بين رؤيتك وكلام الإمام؟ قال: ماذا أقول وقد ضمني إلى صدره؟!

وكثير من القصص التي تذكر للإمام عجل الله تعالى فرجه.(2)

نحن نقول: المقصود بهذا الحديث (من ادعى المشاهدة فهو كاذب مفتر) يعني من ادعى السفارة والنيابة، الإمام يقول: بعد علي بن محمد السمري لا توجد سفارة، أما رؤية الإمام والتشرف بمحضره الشريف والاستفادة من

ص: 140


1- راجع البحار للمجلسي، ج53: 252.
2- راجع البحار للمجلسي، ج53: 302، ج102: 4.

أنواره الشريفة ومن تأييده ومن تسديده فهو أمر شائع مشهور لكثير من العلماء والصلحاء والأبرار، حتى الشخص العادي، فالإمام ورد عنه أنه قال: (لولا ذنوب شيعتنا لرأونا رأي العين)(1) ولا يحجبنا عنه إلا ذنوبنا ومعاصينا وتجاوزنا ورذائلنا.

وفي بعض الروايات من قرأ دعاء العهد أربعين صباحاً وفق لرؤية الإمام، إما يقظة وإما في المنام(2)، ودعاء العهد فيه تشويق لرؤية الإمام؛ (اللهم إن حال بيني وبينه الموت الذي جعلته على عبادك حتماً فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرداً قناتي ملبياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي، اللهم أرني الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة واكحل ناظري بنظرة مني إليه وعجل فرجه وأوسع منهجه).

دعاء الندبة.. دعاء الفرج، أدعية وردت عن أهل البيت لتقوية علاقتنا بالإمام المنتظر، لنظل على علاقة نفسية بالإمام، لنظل على شوق وعلى انتظار وعلى لهفة وعلى توجه نفسي للإمام عليه السلام هذه الأدعية إذا مارسناها تزداد اللهفة والشوق والانتظار له عجل الله تعالى فرجه، وهذا الشوق النفسي له آثار طيبة على السلوك وله آثار طيبة على الرزق وله آثار طيبة

ص: 141


1- راجع توقيع الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد في كتاب الاحتجاج للطبرسي، ج2: 325، ولفظه: ولو أن اشياعناً وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا...
2- راجع مهج الدعوات لابن طاووس: 334، البحار للمجلسي، ج53: 328.

على العمر وله آثار طيبة على التوفيق وعلى التعلق النفسي بالإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه.

وكثير من الصلحاء يذكرون عنه الرؤيا الجميلة والرؤيا المفيدة، فأحد العلماء في النجف كان يكرر أبيات السيد حيدر الحلي (الله يا حامي الشريعة... الخ) فهذا العالم يقرأ أبيات العتاب للسيد الحلي في الليل ويبكي...

ماذا يهيجك إن صبرت *** لوقعة الطف الفظيعة

أترى تجيء فجيعة *** بأمضّ من تلك الفجيعة

حيث الحسين على الثرى *** خيل العدى طحنت ضلوعه

ذبحته آل أمية ظامٍ *** إلى جنب الشريعة

ورضيعه بدم الوريد *** مخضب فاطلب رضيعه(1)

ونام هذا العالم ورأى في المنام الإمام المنتظر جالساً حزيناً مطأطئ الرأس باكي العين وقف عنده هذا العالم قبّل يديه قال: سيدي مالي أراك حزيناً؟ قال: يا هذا أبلغ سيد حيدر السلام وقل له: لا يعاتبني فليس الأمر بيدي كلما عاتبني مزق قلبي أنا لا أقدر على ذكر مصيبة جدي الحسين.

اللهم بحق الإمام تقبل أعمالنا وشافي مرضانا ومرضى المؤمنين وعجل لوليك الفرج واقض حوائج المؤمنين وأيّد من نصر الدين وانصر الإسلام والمسلمين.

ص: 142


1- راجع البحار للمجلسي، ج53: 331.

وآخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين

ص: 143

أدلة وجود الإمام المهدي عليه السلام

سماحة الشيخ باقر المقدسي

ص: 144

ص: 145

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قال إمامنا وسيدنا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته)(1).

يؤكد الإمام أمير المؤمنين في كلامه هذا على أنّ الأرض منذ خلقها الله سبحانه وتعالى وجعل فيها خليفة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً)(2) منذ ذلك الوقت الذي قضى فيه وقرّر سبحانه وتعالى أن يجعل في الأرض خليفة، ما ترك الأرض خالية من قائم لله بحجّة، لأنّه لله الحجّة على عباده بصورة عامة.

ص: 146


1- نهج البلاغة ج4: 37.
2- البقرة، الآية: 30.

والرسل والأنبياء الذين يبعثهم الله سبحانه وتعالى، همم حجج الله على بريّته، ومعنى ذلك كما يقول الذكر الحكيم: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَْسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(1).

ما هو الهدف... (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(2).

ما كان الله سبحانه وتعالى يعذب الناس، ويحاسب الناس إلاّ بعد أن يقيم الحجّة عليهم. ومن جملة إقامة الحجة عليهم، إرسال الرسل والأنبياء وأوصياء الأنبياء. ويُعرَف هؤلاء جميعاً بالدرجة الأولى بماذا؟ بالعقل، لذلك يقول الإمام الكاظم صلوات الله وسلامه عليه: (إنّ لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجّة باطنة، أمّا الحجة الظاهرة فهي الرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الحجة الباطنة فالعقول)(3) الله تعالى يحاسب الناس على قدر عقولهم، لأنّ الله أول ما خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل، قال له: أدبر فأدبر،

ص: 147


1- النساء، الآية: 163.
2- النساء، الآية: 165.
3- الكافي للكليني ج1: 16.

فقال: (وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ منك. بك أثيب وبك أعاقب).(1)

هذا يعني أن العقل مطيع لله. الفطرة العقلية السليمة تأخذ بعنق الإنسان ليخضع لله تعالى ويعترف بوحدانيته وبصفاته. وفي نفس الوقت بواسطة العقل يعرف الإنسان نبيّه، يعرف رسوله، ثم يعرف الأوصياء الذين يأتون من بعد الرسل. هذا بواسطة العقل الذي هو حجة داخلية باطنية.

والحجّة الخارجية، نفس الأنبياء والرسل والأوصياء والأئمة، لأن هؤلاء حجج الله تعالى على بريّته.

إخواني الكرام: لما يقول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في حديثه هذا: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة...) سواء أكان على مستوى رسول أو نبي أو وصي، إمّا ظاهراً مشهوراً إذا استتبت له الأمور وإما خائفاً مغموراً. لماذا؟ لئلا تبطل حجج الله وبيناته، لأن الله تعالى يحتج برسله وبأنبيائه، ومن بعد دور الأنبياء بالأوصياء على آياته وعلى بيناته، يحتج على العباد، حتى لا يقول العباد: (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).(2)

ص: 148


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور ج4: 100. وبحار الانوار ج1: 97.
2- القصص، الآية: 47.

أو أن يقولوا: (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى)(1) لأن القانون الإلهي هو: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(2) والرسول يبلغ رسالة السماء إلى الناس، وله عمر طبيعي فإذا أراد أن يمضي، أي قربت وفاته يجب عليه أن يعيّن للناس خليفة، إماماً، وصياً، مرجعاً، لأن النبي أمين هذه الأمة.

يا إخوان أي إنسان أمين إذا كان أميناً على أغنام، إذا كان أميناً على أرض، إذا كان أميناً على مدرسة، إذا كان أميناً على بيت، إذا كان أميناً على رعية، لا يتركهم هملاً.

ومن قال هذا ونسب الترك لرسول الله، فقد كذب على رسول الله، وعمله يدل على كذبه. هل أنّ أبا بكر كان أكثر حرصاً على الإسلام ؟ إذ أنه ما ترك الأمة كما يقولون هملاً إلاّ وعيّن عمر؟ هل أنّ عمر أولى بالأمانة من رسول الله، بحيث تطلب منه عائشة أن يعيّن ويطلب منه عبد الله أن يعيّن ثم يعين بطريقة خاصة، طريقة الشورى؟ هل أن معاوية أكثر أمانة على الأمة من رسول الله؟ بحيث يعيّن ولي عهد (يزيد بن معاوية) نغله.

ص: 149


1- طه، الآية: 134.
2- الإسراء، الآية: 15.

قضية طبيعية جداً أن الرسول أمين (الرسول الأمين)، وأمين على التبليغ، تبليغ رسالة السماء، أمين على مستقبل الأمة، فلا بدّ أن يعيّن من بعده مرجعاً للناس، كفواً كريماً حتى لا يتشتت أمر الناس.

ثم إن النبي مسؤول عن مستقبل أمته، كما هو مسؤول في أيام حياته عن أمته. ولذلك كان يقول صلى الله عليه وآله: (إئتوني بدواة وكتف كي أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً)(1) ولذلك كان يقول: (إني تركت فيكم ثقلين، أو مخلف فيكم، أو تارك فيكم _ حسب اختلاف الروايات _ ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً. وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفونني فيهما)(2) فالنبي مسؤول عن هذا الأمر الخطير ولا يمكن أن يغفل عنه أو يتغافل.

انظر إلى تأريخ الأنبياء السابقين، كل نبي كان يخبر عن الأنبياء الذين سيأتون بعد ذلك. في حديث إبراهيم، في أحاديث موسى، أحاديث عيسى، ومثلهم حبيب الله محمد صلى الله عليه وآله، هنا هل أخبر النبي صلى الله عليه وآله بالأئمة من بعده؟ هل أخبر عن الدور الذي يقوم به قادة الأمة وخلفاؤه الراشدون بالحق؟ نعم أخبر.

هذه عشرات الروايات تخبر عن هذا المعنى.

ص: 150


1- المستدرك للحاكم ج3: 477.
2- البداية والنهاية لابن كثير ج5: 228 وج7: 386.

أولاً: رواية جابر بن عبد الله الأنصاري رضوان الله تعالى عليه، يقول: لما نزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ) يقول: سألت النبي صلى الله عليه وآله قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله فمن أولوا الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال: هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه عني السلام ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميّي وكنيّي _ يعني اسمه على اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وكنيته أبو القاسم على كنية النبي _ حجّة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله _ تعالى ذكره _ على يديه مشارق الأرض ومغاربها.(1)

الروايات تقول أن المؤمنين يسلّمون على الإمام إذا ظهر،(2) يقولون: السلام عليك يا بقية الله في أرضه وبقيته في عباده، فهذا يعني أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان مسؤولاً أمام الله وأمام أمته عن تشخيص أوليائه، وخصوصاً بالنسبة إلى الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، باعتبار أنّ

ص: 151


1- كمال الدين وتمام النعمه للصدوق، ص253.
2- كمال الدين وتمام النعمة، ص331.

هناك حوادث تجري، تختلف عن حوادث بقية الأئمة، ولذلك أكّد على قضيته أكثر فأكثر، حتى يكون الناس على يقين من أمرهم.

(يفتح الله على يديه مشارق الأرض ومغاربها) ذاك الذي يغيب، لأن القضية غير طبيعية. يعني لو كان الإمام سلام الله عليه مباشرة يأتي بعد والده الإمام الحسن العسكري فالقضية طبيعية، أمّا أنه يغيب هذه المدة الطويلة وإن لم تكن مستحيلة لا عقلاً ولا علمياً ولا عملياً، بل هناك وقائع حدثت وهذا التأريخ بين أيدينا يذكر المعمّرين وهناك السجستاني عنده كتاب المعمّرون. بالعشرات يذكر أعمارهم.

دع عنك هؤلاء جميعاً. نحن والقرآن الذي هو مسلّم به عند كل الفرق الإسلامية. ونحن حديثنا مع المسلمين، لما يقول سبحانه وتعالى عن نبي الله نوح عليه السلام: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً)(1) معنى ذلك أن النبي مبعوث لجيل وليس مبعوثاً لعدة أجيال أي أن أعمار ذلك الزمان كانت بهذا الشكل _ هذا واحد _، ثم يقول: عمره خمسون سنة لما بعث، و950 سنة الدعوة إلى الطوفان، وبعده خمسين سنة بقي في الدنيا ثم مضى. يعني ألفاً وخمسين سنة. بعض الروايات تقول أكثر من هذا 1500 سنة وبعض الروايات تزيد عمره إلى 2500 سنة.

ص: 152


1- العنكبوت، الآية: 14.

دع عنك هذا الزائد، لنفرض 1050 سنة فالذي يعيش 1050 سنة معناه ليس وحده يعيش هذه المدة، لا بدّ أن هناك عشرات مثله يعيشون.

ويقول سبحانه وتعالى عن يونس عليه السلام: (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(1) _ أي بطن الحوت _ يعني هل الحوت ميت وهو ميت؟ ما الفائدة إذا كان هكذا ؟ فالناس كلهم من آدم أعمارهم طويلة إلى الحشر. فإذن هو حي والسمكة أيضاً حيّة (للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) فالله قادر أن يمدّ الحوت بهذا العمر المديد، ويمد يونس عليه السلام بهذا العمر المديد.

ثم عندنا إبليس عليه اللعنة (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)(2) يعني ممهلين إلى يوم الوقت.

نأتي إلى الفرق الإسلامية الأخرى تعترف الفرق الإسلامية بأنّ عيسى عليه السلام حي يزرق عند الله، وينزل إذا جاء الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه، وكذلك إدريس عليه السلام والخضر معروف أيضاً. وبعضهم يعتبر إلياس أيضاً من جملة الأنبياء الذين أطال الله أعمارهم وهؤلاء قبل الإمام المهدي قبل ولادة الإمام المهدي منذ آلاف السنين. فلماذا استنكر على الله أن يمد في عمر الإمام المهدي؟

ص: 153


1- الصافات، الآية: 144.
2- الحجر، الآية 36 _ 37.

والقضية طبعاً غير طبيعية ترجع إلى مصلحة يراها الله تعالى، ومصلحة يعرفها الله سبحانه وتعالى. ولكن ليس على الله بعزيز.

لهذا يقول النبي صلى الله عليه وآله في هذا الحديث الشريف: (ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان).(1)

إخواني هناك مقاطع في الحياة الناس يفتنون فيها، الناس يمتحنون. (الم أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(2) فإذن يمتحنون بأشكال متعددة.

امتحن الله عباده في قضية عيسى عليه السلام (خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا)(3) قضية طبيعية، لكن أراد الله أن يثبت شيئاً، وأراد أن يمتحن العباد بولادة عيسى من أمّ دون أب، (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(4) فالذي يؤمن بأن الله خلق آدم وحواء من تراب، يؤمن بأن الله تعالى خلق عيسى من أمّ دون أب. فصار الامتحان.

ص: 154


1- ينابيع المودة للقندوزى ج3: 238 و399، كمال الدين للصدوق ص253.
2- العنكبوت، الآية: 2.
3- الحجرات، الآية: 13.
4- آل عمران، الآية: 59.

وبالنسبة إلى الإمام المهدي كذلك. هذا نوع من أنواع الامتحان. إذا كانت عشرات الأحاديث يرويها السنة والشيعة في وجود الإمام المهدي وفي حسبه ونسبه، وفي غيبته وطول عمره. فإذن هنا الامتحان، ليعرف المؤمن بالغيب، المؤمن بالله وبما جاء به رسول الله، من غير المؤمن.

ولذا يقول النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان. قال جابر: فقلت له: يا رسول الله فهل ينتفع الشيعة به في غيبته؟ _ لأن المتعارف أن الإمام أو النبي أو الرسول ظاهر للناس ينتفعون منه هذا إذا كان حاضراً أمّا إذا كان غائباً فهل ينتفع منه؟ _ فقال: إي والذي بعثني بالنبوة إنهم ينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجللها السحاب).(1)

معنى ذلك أنّ القضية ليست منوطة بحضوره فقط، وإنما هو في غيبته، ووجوده بركة وخير، فإنّ الله سبحانه وتعالى يحفظ الأرض ومن عليها ببركة الإمام الحجة (لو خليت الأرض من حجة لساخت بأهلها)(2)، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله يقول: (النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ما ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون).(3)

ص: 155


1- كمال الدين للصدوق ص253.
2- بصائر الدرجات للصفار ص508.
3- مقتضب الأثر للجوهري ص15.

وهنا أودّ أن ألفت النظر إلى شيء مهم، وهو: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) مثال ذلك. كله يدل على انتهاء العالم، فالملائكة عندها علامة وهي أن هذه النجوم ما دامت مستقرّة فالحياة مستقرة، أما إذا تناثرت النجوم وإذا ذهبت الشمس والقمر وسيّرت الجبال، كل ذلك علامة على انتهاء العالم وقيام الساعة.

كذلك بالنسبة إلى الأرض (وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون).

لذلك: فإنّ القائلين برجعة المعصومين _ طبعاً بالجملة ليس بالتفصيل، كيف يرجعون؟ من يرجع ومن لا يرجع؟ مهما كان على كل حال _ بعد ظهور الإمام الحجة المنتظر يستندون إلى هذا لأنه لابد أن يكون.. فإنّ بعض الروايات تقول: (ما منّا إلاّ مسموم أو مقتول)(1)، فحتى الإمام المهدي عجل الله فرجه تكتب له الشهادة. يمنحه الله تعالى الشهادة، مع أنه يقضي على الظالمين، لكن لو بقي ظالم واحد أيضاً يفجع الأمة بقتل الإمام.

لكن هل تنتهي الدنيا؟ لا، فلابدّ من وجود معصوم حجّة لله تعالى على الخلق يقوم مقام الإمام المهدي، حتى يحكم في العباد، إلاّ أن يشاء الله سبحانه وتعالى للأرض وما عليها أن تنتهي، فينتهي أهل البيت ويأتي أهل الأرض ما يكرهون.

ص: 156


1- كفاية الأثر للخزاز القمي ص227.

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يتحدث عن انتفاع الناس بوجود الإمام يقول: (لو خليت الأرض من الحجة لساخت)، والأرض أو المنطقة التي عليها حجة سواء أكان رسولاً أو نبياً أو إماماً لا تعذّب. ولما أراد الله أن ينزل العذاب على قوم يونس، يونس انسحب من المنطقة. وإلاّ مع وجود يونس لا ينزل العذاب. قضية لوط عليه السلام كذلك. إبراهيم يقول (إِنَّ فِيها لُوطاً)(1) يقول للملائكة الذين أخبروه بأنهم جاءوا ليعذبوا قوم لوط، ليقضوا عليهم، قال: إن فيها لوطاً. يعني كيف ينزل العذاب ولوط نبي الله موجود. هناك حجة على الخلق. فأخبروه بأن يخرج بعائلته إلاّ امرأته، إذاً بالحجة استقرار الأرض والسماء بهذا المعنى.

ومن بركات وجوده صلوات الله وسلامه عليه: أنه واسطة الفيض الإلهي وبيمينه رزق الورى، أحاديث كثيرة تخبر وتؤكّد أنه في ليلة القدر (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ).(2) كيف ينزلون؟ بأمر ربهم. على من، على زيد على عمر ينزلون؟ على حجة الله في زمانه. وحجة الله في زماننا الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه. ومشيئة الله هكذا أن الملائكة إذا قررت شيئاً تستشير الإمام، تأخذ نظره بالنسبة للأعمار، وبالنسبة للأرزاق وما شابه ذلك، لأن ليلة القدر تعني: الليلة التي يعرف بها قدر الإنسان هل

ص: 157


1- العنكبوت، الآية: 32.
2- القدر، الآية: 4.

يرتفع أو ينخفض أو يبقى على ما هو عليه. كما هو الحال في الموظفين كل سنة وسنتين لابد أن يحاسبوا وينظر في عملهم أنهم في هذه المدّة ماذا عملوا، أدّوا الواجب بصورة صحيحة سليمة؟ يعطون ترفيعاً وأما إذا ظهروا مقصرين فينزلون من قدرهم.

البعض يفسرون القدر بهذا المعنى يعرف قدر الإنسان.

فلابد أنّ الإمام سلام الله عليه يعطي رأيه في هذه الأمور التي يجريها الله تعالى على العباد بمشيئته، عن طريق الإمام. مثلما يقبض الأرواح بواسطة ملك الموت وملك الموت بيد الله تعالى. فكل شيء ينسب إلى الله، حتى إذا كان الأمر يقوم به بعض عباده (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِها)(1)، (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)(2) فما دام الله تعالى عين ملك الموت ليقوم بهذا الأمر ففعله يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.

والإمام من قبل الله معيّن ليعطي رأيه، فهو واسطة الفيض الإلهي، بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت السماء.

بالإضافة إلى هذا هو مرجع للأمة، مرجع للأحكام. لابدّ للعلماء أن يتوصّلوا إلى الإمام بالواسطة، أو بغير الواسطة عبر هذه السنوات العديدة التي مرّت على وجود الإمام صلوات الله وسلامه عليه.

ص: 158


1- الزمر، الآية: 42.
2- السجدة، الآية: 11.

وهناك قصص كثيرة، للسيد بحر العلوم رضوان الله عليه وغيره من العلماء والمراجع هي دليل على أن الإمام سلام الله عليه لا يتركهم أبداً.

ثم هو ملجأ العباد في المشاكل، في الصعوبات دائماً. العباد المؤمنون يلجؤون إليه. وهناك قصص متعدّدة حول تلقي الشيعة حلولاً لقضاياهم، في البحرين في العراق في أماكن متعددّة أخرى، على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة، وكيف أنّ الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه أنقذهم مما كانوا فيه. كثير من القصص موجودة في الكتب ويذكرها الأعلام.

فالإمام لم يترك أمته، ولم يترك رعيّته، فإنّ في غيبته خير وبركة كما في حضوره. لكن طبعاً في حضوره تكون البركة أكبر، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله: (إي والذي بعثني بالنبوة إنهم ينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها السحاب)، بمعنى أنّ الشمس إذا تجللّها السحاب في النهار منع ظهورها، فهل معنى هذا أنّ النهار يصير ليلاً؟ لا، هل معنى هذا أنّ أشعة الشمس لا تنفع البشر؟ بل تنفع، حتماً تنفع فالفرق واضح بين الليل الذي لا توجد فيه شمس وبين النهار الذي توجد فيه شمس لكن الشمس محجوبة، فلا بد أن تعطي ضوءها ولا بد أن تعطي إشعاعاتها وحرارتها والناس ينتفعون.

ولذلك يقول الشاعر:

يا غائباً لم تغب عنّا رعايته *** ولا يزال بعين اللّطف يرعانا

بظله وهو محجوب منافعه *** مثاله الشمس عند السحب تغشانا

ص: 159

فيقول النبي الكريم: ويستضيئون بنور ولايته في غيبته، كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها السحاب، يا جابر هذا من مكنون سرّ الله، ومخزون علمه _ يعني هو علم عن المستقبل بهذا التفصيل _ فاكتمه إلاّ عن أهله.(1)

لأن هذا الشخص الذي لا يؤمن بقول النبي في حق وصيّه علي عليه السلام ويخرج عليه ويحاربه، أو يعتقد بأعداء الله أنهم خلفاء على الحق، كيف يتوقع منه أن يتعرّف على قضية الإمام المهدي وما سيجري له في مستقبل الزمان؟

هناك حديث يلفت النظر يا إخوان، وعلينا أن نأخذ به وأن نؤكّد هذا الحديث على أعمالنا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون مصداقاً أو مصاديق لهذا الحديث الشريف. الإمام زين العابدين عليه السلام يقول لأبي خالد الكابلي: (تمتد الغيبة لولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة من بعده. يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته _ أنا وأنت ومن سبقنا في أيام الغيبة ومن سيأتي بعدنا _ إن أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته، المنتظرين لظهوره، أفضل أهل كل زمان لأنّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة).(2)

ص: 160


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 253.
2- اعلام الورى للطبرسي ج2: 196، وكمال الدين للصدوق ص320.

إقرأ قلبك أيها المؤمن. ما هي عقيدتك في الإمام المهدي؟ هل تؤمن بوجوده وتستنجد به وتندبه وتبكي وتطلب منه أن يعجّل في ظهوره وتدعو له وتطلب منه أن يدعو لك؟ كل هذه حقائق تدل على الإيمان الذي في قلبك أيها المؤمن.

ثم ولاية الفقيه ما معناها! نحن ملزمون أن نطيع رسول الله صلى الله عليه وآله، وملزمون أن نطيع الأوصياء من بعده. ولما جاءتنا روايات عن الأئمة عليهم السلام تؤكد على لزوم طاعة واتباع العلماء مع الأوصاف الضرورية من علم وورع وتقوى ومخالفة للهوى..إلى آخره، و(الراد عليهم كالراد عليّ والراد عليّ كالراد على الله).(1)

فولاية الفقيه ما كانت إلى هذه الدرجة قبل عشرات السنين أصلاً. انظر أيها الأخ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (لو وجدت أربعين ذوي عزم لنهضت).(2)

الحسين عليه السلام على عظمته ابن رسول الله، قرّة عين النبي، قرّة عين الزهراء، صحابي، وفي نفس الوقت هو من أقرب الأقربين إلى رسول الله، مع هذا لما استنجد الناس واستنصرهم حصل على (72) ناصراً.

كذلك الأئمة الباقون كانوا في قلّة من الأنصار.

ص: 161


1- راجع مستند الشيعة للنراقي ج17، 52 والخرائج والجرائح للراوندي ج1: 174، وغيرها....
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2: 47.

ويأتي رجل من تلامذة الأئمة يحمل شيئاً من علم الأئمة. يأتي رجل يمثّل المرجعية، فيأتي بولاية الفقيه والناس تطيعه وتقتل بين يديه، وتتعشّقه وتفدي نفسها لما يقول، معنى هذا أنّ هناك تطوّراً في العالم، وأنّ هناك تغيّراً في فكر الناس.

فإذن هذا هو الذي يقوله الإمام زين العابدين عليه السلام: (إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته، المنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة).

فإذا كان نائب الإمام هكذا يطاع فإذا ظهر الإمام الحجة المنتظر كيف يطيعه الناس؟ وقد جعلتهم الرواية في ذلك الزمان، بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف. (أولئك المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً والدعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً).. اللهم اجعلنا منهم.

نعم أيها الأخ الكريم قضية الإمام الحجة المنتظر قضية واقعيّة. وإنّ الإمام المنتظر حق كما أنّ الجنة حق والنار حق والموت حق. كل هذه الأشياء حق. كما أن الإسلام حق (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).(1)

ص: 162


1- التوبة، الآية: 33.

في فرائد السمطين يقول شيخ الإسلام الجويني عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد)(1). لماذا كفر؟ لأن من جملة الأشياء التي تثبت صحة قول الرسول، الروايات الصحيحة التي تصل إلينا. فإذا وصلتنا رواية أخبرنا بها ثقة، أو كتبها عالم ثقة عن علماء إلى النبي، نأخذ بقوله. إذا كان الحديث متواتراً، إذا الأخبار متواترة، أي أنّ عشرات من الصحابة، عشرات من العلماء، عشرات الكتب تذكر قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه بالتفصيل: شكله، طوله، أسنانه، عيونه، شعر رأسه، حواجبه، حركاته، عمره، أيام حكومته، قبل ظهوره، ماذا يجري بعد ظهوره، في أيام ظهوره. معالم حكومته، حتى الراية والسيف وما شابه ذلك.. إذا كان أحد ينكر هذا فمعناه أنه منكر لنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، يعني يكذّب رسول الله والمكذّب لرسول الله فيما قال كافر.

إخواني: ما أكّد النبي على شيء كتأكيده على شيئين: قضية الحسين بالتفصيل، وقضية الإمام المهدي المنتظر. كل ذلك حتى تكون الحجة له علينا فلا نقول: لم نسمع، لم نعرف، هذا شيء مستبعد، غير ممكن. هذا كله تهرب من الواقع، لأن الله ألزمنا الحجة وعلينا أن نعترف مذعنين.

هناك بعض الأشياء يجب الاعتقاد بها بصورة إجمالية وليس من الضرورة التفصيل كإجمالية عذاب القبر، إجمالي المعراج، وغيره. هناك آيات وهناك أحاديث تؤكد وجود الإمام المهدي واستمرار وجوده كما في حديث النبي

ص: 163


1- فرائد السمطين ج2: 334 ح585.

الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: (وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)(1) من جملة الافتراق ماذا؟ افتراق الزمان، أي أنّه إذا كان في زمانٍ ما القرآن موجود، والحمد لله القرآن لم يهمل ولم يترك، لم يأتِ زمان لا وجود للقرآن فيه، من يوم بعثة النبي وإلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(2) والذكر هو القرآن. فإذاً القرآن موجود في كل زمان. فإذا قال القائل: ما ولد الإمام في زمن العسكري، ولا يوجد إمام إلى آخر الزمان، إذا شاء الله تعالى يولد الحجة ثم يظهر. معناه في هذه الفترة من الزمان الذي مضى وهو مئات السنين، لا وجود لعِدل القرآن، فكيف تفسّر كلام النبي الذي أكد بضرس قاطع أنهما لن يفترقا، ومن جملة الافتراق، الافتراق الزماني وقد وقع الافتراق حسب ادعاء القائل، وهو عين ما نفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا يدل على أنهم عليهم السلام لا يفترقون عن القرآن الكريم. وما دام للقرآن وجود فلابدّ لله من حجة.

بالإضافة إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية)(3) ولا يمكن أن يكلّف النبي الناس بما لا يطيقون، فلابد من وجود إمام في كل زمان تجتمع فيه صفات العصمة والعلم وغير

ص: 164


1- مسند احمد ج3: 14، 26، 59... وسنن الترمذي ج5: 329، والمستدرك للحاكم ج1: 93، ج3: 109.
2- الحجر (15): الآية 9.
3- الكافي للكليني ج1: 377، المحاسن للبرقي ج1: 92، وكمال الدين للصدوق ص409.

ذلك. وليس الإمام أيّاً كان يأتي ويصير إماماً، لا، وإنما إمام معصوم فيه كل شرائط العصمة، وكل شرائط الإمامة. فهو مرجع الناس وهو السبب بين السماء والأرض، وهو واسطة الفيض الإلهي. والله سبحانه وتعالى به يحفظ العباد والبلاد.

على كل حال نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل في فرج إمامنا، لأنّ الأحاديث التي تتحدث عن مقدمات ظهور الإمام عليه السلام كثير من هذه الأحاديث طبّقت، وتحققت كثير من التنبؤات، وكثير من الأخبار. ومن غير الممكن أن ينهض الإمام الحجة المنتظر ولم تكن هناك قاعدة شعبية مؤمنة تتعاون معه.

فمع كثرة الظلم والجور في العالم، لكن مع هذا كله لا بد من قاعدة شعبية، لا بد من قاعدة مؤمنة تتعاون مع الإمام حتى يظهر عليه السلام.

وهذه الظاهرة التي ترونها في انبثاق فجر الدولة الإسلامية الفتية، وفي ظهور المؤمنين الذين يدعون إلى الإسلام عالمياً. وفي الحديث عن أهل البيت: (لتعطفنّ الدنيا عطف الناقة الضروس على أهلها)(1) وهذه العلامات ظاهرة. واعتقد أن لا وقت لي حتى أتحدّث عن هذا الموضوع. ولكن انظروا اليوم وارجعوا إلى الوراء، إلى قبل مئة سنة أو قبل خمسين سنة هل في أوربا، في أمريكا، في أفريقيا، في استراليا، كانت مجالس حسينية ومجالس يذكر فيها

ص: 165


1- نهج البلاغة ج4: 47، ولفظه:"لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها".

أهل البيت عليهم السلام؟ هل كان الناس يتحدّثون عن حق أهل البيت كما يتحدث اليوم؟ حتى بعض من كان عدوّاً لأهل البيت قبل حين؟ إقرأ كتب التيجاني واقرأ كتاب إدريس الحسيني ( لقد شيعني الحسين) واقرأ كتب أحمد يعقوب وغيرها.

لقد انتبه الناس إلى حق أهل البيت عليهم السلام وأخذوا يكتبون عنهم. وفي لندن إذاعة خاصّة هناك، اسمها إذاعة كل العرب. جاءتني من هذه الإذاعة مجموعة من محاضرات ألقاها الدكتور التيجاني وغيره. وبكل صراحة يحملون على أعداء أهل البيت بشكل صريح.

حتى أن الإمام الصادق عليه السلام ما كان يستطيع أن يتحدث بهذه الصراحة على مستوى إذاعة وعلى مستوى جمهور، يتحدّث عن ظلامة أهل البيت.

واليوم أيها الإخوة الكرام نرى شراسة الوهابيين، وشراسة الاستعمار، وأذناب الاستعمار، كل ذلك بسبب قوتنا. لو أنّ العدو رأى فينا ضعفاً لأهملنا. ولكنه يرى فينا قوّة وتحركاً، بعد أن مددنا أيدينا إلى السيوف، إلى السلاح، وإذا بالإمام الخميني رضوان الله عليه ينهض فيعطينا عزة، ويعطي الإسلام عزة وكرامة، ويأمرنا بالجهاد والفداء والشهادة لإعلاء كلمة الحق. وقام المسلمون في العراق وفي إيران وفي لبنان وفي مناطق أخرى من العالم يهتفون باسم الإسلام. وكثير منهم يهتف باسم علي

ص: 166

وأبنائه الطاهرين، ويعترف بالإمام المهدي المنتظر. هذه بادرة طيبة يا إخواني.

إقرأ ما تنشره الصحف عن الكتب الإسلامية التي تباع في معارض الكتب في العالم _ من باب المثال لا الإحصاء والاستقراء _ في العام الماضي في تونس أقيم معرض للكتاب هناك وقد نشرت الجرائد بعد ذلك أن أول كتاب ضرب الرقم القياسي في البيع هو كتاب آية الله العظمى الشهيد الصدر (فلسفتنا) ثم (اقتصادنا) ثم (البنك اللاّربوي) معنى هذا أن الناس تتعشق العلم، وأن الناس أخذت تتعرّف على علماء الشيعة بعدما كانوا يكفّرونهم. وأن الناس أخذت تفتح أبواب عقولها وقلوبها على أهل البيت، وشيعة أهل البيت، ليأخذوا منهم المعين الصافي والمعدن النقي. وكل هذه مقدمات حتى يتعرّف العالم على الإمام المنتظر عجل الله فرجه.

أخي أسألك كيف تفسر هذا الحديث القائل: بأن الإمام الحجة المنتظر، إذا ظهر نادى منادٍ من السماء: قد ظهر المهدي والناس تقام عليهم الحجة.(1) قبل خمسين سنة كيف كان الناس يفسّرون هذا

ص: 167


1- راجع ينابيع المودة للقندوزى ج3: 221 ولفظه: ومن أمارات خروج الإمام المهدي (عليه السلام) مناد ينادي ألا إن صاحب الزمان قد ظهر... فلا يبقي راقد إلاّ قام... وأيضاً ص297، وفيه: ألا إن حجة الله قد ظهر عند بيت الله فاتبعوه فإن الحق معه...

الحديث؟ فلو نادى مليون مرّة، من أين يفهم الأوربيون والأمريكيون من هو المهدي؟ ومن أين يعرف باقي سكاّن العالم؟

ولكن بعد هذا المخاض، بعد هذه الحرب، بعد هذه الانتفاضة، بعد هذه الصحوة، بعد هذه النهضة الإسلامية العظيمة، والتقارير التي تصل إلى القوم، فأخذوا يتحدثون عن الشيعة: من هم الشيعة؟ وما هي معتقداتها؟ إنهم يكتبون الآن أطروحات دكتوراه، أذكر امرأة إيطالية كتبت أطروحة وأخذت دكتوراه في أدعية الإمام الصادق عليه السلام، ما أظن أحداً من الشيعة كتب عن أدعية الإمام الصادق. وأخذ دكتوراه.

تعرف الآن البحوث عن الشيعة وبحوث عن معتقداتهم على قدمٍ وساق في العالم. وأن بعض الجرائد تتحدث عن علماء الشيعة وترسم صورة لآية الله العظمى فلان، ثم آية الله فلان ثم حجة الإسلام، وهكذا تتبنى صحيفة يابانية وصحف متعددة دراسة معمّقة عن الشيعة.

فعلى كل حال إخواني الكرام إنها نعمة من الله. وعلينا أن نستجيب لنعمة الله ونشكر الله تعالى، ونقرأ معاً: اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك...

ص: 168

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 169

ولادة الإمام الحجة عليه السلام

اشارة

سماحة الشيخ إبراهيم النصيراوي

ص: 170

ص: 171

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.

في هذه الليلة العظيمة، ليلة النصف من شهر شعبان المبارك، أشرق نور إمامنا ومنقذنا وسيدنا الثاني عشر الإمام المهدي المنتظر.

كما تحدثنا مصادر التأريخ أن حكيمة عمّة الإمام الحسن العسكري عليه السلام دخلت في هذا اليوم على الإمام الحسن العسكري عليه السلام ولما أرادت أن تخرج قال لها الإمام العسكري: يا حكيمة ابقي عندنا هذه الليلة فإن نرجس ستلد مولوداً مباركاً.

وأخذت تحدثه حكيمة ويحدثها وبقيت عنده هذه الليلة. فتقول رضوان الله عليها: لما صار وقت السحر من هذه الليلة العظيمة _ يعني قبيل الفجر _ وإذا بنرجس تنتبه وهي تشكو من أوجاع وآلام الولادة، ثم تولت أمرها حكيمة، وإذا بها تضع حجة الله الإمام المهدي المنتظر، فتشرق الأرض بأنواره صلوات الله وسلامه عليه.(1)

وهنا نشير إلى عدّة نقاط حول هذه المناسبة:

ص: 172


1- راجع كتاب كمال الدين للصدوق ص 425.

عظمة المولد:

ورد في الدعاء الذي يرويه الشيخ الطوسي عبارة رفيعة المستوى، وكل مضامين الدعاء رفيعة المستوى، إلا أن هذا المقطع ورد في ضمن سياقه: (جلّ مولده)(1) هذه العبارة، أيها الشباب أيها الأخوة أيها المثقفون، لنغتنم الفرصة، لنتعرف على حياة إمامنا وسيدنا الحاضر بيننا. هذه العبارة تقول: (جلّ مولده)، ومن جلالة المولد نعرف جلالة الوليد.

لنعرف إمامنا وسيدنا، أي لنقترب إلى معرفته. إن المعرفة الحقيقية لا نستطيع أن نصل إليها، ولكن الإمام الصادق عليه السلام عنده حديث يقول:"إن الليلة التي يولد فيها القائم عجل الله فرجه لا يولد فيها مولود إلا ويكون مؤمناً)، فقيل له: يا ابن رسول الله يولد في دار الكفر _ يولد مولود عند المسيح مولود عند اليهود، أو عند الصابئة _ فيقول الإمام: وإن ولد في أرض الشرك ينقله الله إلى الإيمان ببركة الإمام عجل الله فرجه.(2)

هذه الرواية عظيمة، لأنها تعطينا معرفة بعظمة الإمام، بشخصية الإمام، ببركة ولادة الإمام.

إن كل مولود في هذه الليلة يكون مؤمناً، أي أن الله سبحانه وتعالى يجعل فيه قابلية الإيمان أو مقتضي الإيمان، حتى إذا ولد في دار الشرك ينقل إلى

ص: 173


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 842.
2- البحار للمجلسي ج 51: 28، إثبات الهداة ج 3: 581.

دار الإيمان، ينقل إلى الأيمان والإسلام ببركة الإمام عجل الله فرجه. هذا أولاً. ولذا في الدعاء نقرأ: جلّ مولده، عظم مولده، كبر مولده.

بقيّة الله:

يأتي رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام فيقول له: يا ابن رسول الله: أنسلّم على المهدي بإمرة المؤمنين، يعني نسلم على إمامنا صاحب الزمان ونقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ فيقول الإمام: هذا اسم سمي به جدّي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وما سمي به أحد إلا كافر.

قالوا له: إذاً كيف نسلم على إمامنا صاحب الزمان؟ فقال الصادق عليه السلام: قولوا: السلام عليك يا بقية الله، وقرأ لهم الآية (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ).(1)

يعني عندما نسلم الآن على إمامنا صاحب الزمان، ماذا نقول؟ نقول: السلام عليك يا بقية الله.

ما معنى بقية الله؟ بقية الله يعني أنّ الإمام المنتظر البقية الباقية من الأنبياء، البقية من آدم، البقية من إبراهيم الخليل، البقية من عيسى بن مريم، البقية من نوح، البقية من يعقوب، البقية من محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 174


1- اليقين لابن طاووس، ص: 27.

الإمام المهدي وارث علم الأنبياء، الإمام المهدي إذا ظهر يعيد أمجاد الأنبياء، المهدي المنتظر إذا ظهر يتحقق على يديه مالم يتحقق على يد الأنبياء.

هذا معنى بقية الله في الأرض، وهي ليس كلمة تطلق جزافاً وإنّما ذات محتوى ذات معنى.

الإمام الصادق يريد أن يشدنا بهذا المعنى، يريد أن يشدنا بهذا الإمام المنقذ المصلح. السلام عليك يا بقية الله في أرضه.

إذن النقطة الأولى عظمة المولد، النقطة الثانية هي كون الإمام بقية الله.

إشراق الأرض:

إن هذه الأرض لها يوم تشرق، لا بالشمس، ولا بالقمر، قد يقول قائل: كيف؟ القرآن يجيبنا (وَأَشْرَقَتِ الأَْرْضُ بِنُورِ رَبِّها) الشمس تشرق، النهار مشرق يومياً، الدنيا مشرقة بالنهار بالشمس، وفي الليل بالقمر. يأتي يوم الدنيا تشرق لا بالشمس ولا بالقمر.

أقرأ لك هذه الرواية: روى المفضل بن عمر أنه سمع الإمام الصادق عليه السلام يقول من الآية (وَأَشْرَقَتِ الأَْرْضُ بِنُورِ رَبِّها)(1) لاحظ كيف يبين الإمام لنا معنى هذه الآية.

ص: 175


1- الزمر، الآية: 69.

يقول: (رب الأرض إمام الأرض)، ربّ الدار إمام الدار، رب المجد إمام المجد، رب الأسرة إمام الأسرة، يعني تقتدي الأسرة بصاحب الأسرة، رب الأرض إمام الأرض.

يقول المفضل: (قلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذاً يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويستضيئون بنور الإمام).(1)

لذا ورد أن الناس كمعادن الذهب والفضة، هذا الجسم جسم الإمام يشرق كما تشرق الشمس. ولا غرابة في ذلك. فإن الإمام إذا ظهر يشرق إلى الدنيا كما تشرق الشمس نهاراً، وكما يشرق القمر ليلاً.

إذاً الإمام الصادق عليه السلام يفسر هذه الآية بأن الأرض ستشرق بنور المهدي الموعود عجل الله فرجه.

الإمام حجّة الله:

وهي النقطة الرابعة والأخيرة، وأرجو بها من الأخوة أن يعيروني انتباههم لخمس دقائق.

الإمام المهدي حجة الله في هذه الأرض، لمن؟ حجة الله على أهل الأرض فقط؟! الجواب لا، حجة الله على أهل السماء فقط؟! الجواب لا، الإمام المهدي حجة الله على أهل الأرض وعلى من في السماء، وعلى من

ص: 176


1- راجع البحار للمجلسي ج 7: 326.

مضى وعلى من يأتي. لاحظ الإمام ما أكبره، ما أعظمه. هذه الدنيا الآن تهتز بشراً بمولد الإمام. ليس اعتباطاً فهذا المولود عظيم.

اقرأ لكم: السلام عليك يا حجة الله التي لا تخفى، السلام عليك يا حجة الله على من في الأرض والسماء _ لاحظ إذاً الإمام حجة على أهل الأرض، وحجة على أهل السماء، على الملائكة _ أشهد أنك الحجة على من مضى، وعلى من بقى، على الأمم الماضية، المهدي حجة على الأمم الباقية الموجودة، المهدي حجة على الأمم التي ستأتي.

إذاً ما أعظم المهدي عجل الله فرجه، الإمام الذي يبشر به أنبياء الله، الإمام الذي يبشر به نبينا المصطفى في روايات عديدة، فيضع كنيته، يحدد اسمه، في روايات السنة والشيعة، وإن تلاعبوا فيها في الفترة الأخيرة، فحذفوا ما حذفوا.. لماذا؟ لأن المهدي يهدد كيان الظالمين، لأن المهدي يهدد كيان الغاصبين، لأن المهدي يهدد فراعنة الأرض، حكام الجور الظالمين المستخفين بأحكام الله، المستخفين بحرمات الله، المستخفين بالقرآن وبسنة النبي، وبطريق أهل البيت عليهم السلام الطريق المستقيم.

هؤلاء لما يظهر المهدي يهدم بيوتهم يهدم عروشهم. ولذا الدنيا تخشى من ظهور صاحب العصر والزمان.

لا يدب اليأس في مجالسنا ولا تتسرب إلينا روح اليأس، أيها الإخوة مع أن الانتظار يطول إلا أن اليأس يُذهب الأجر والثواب، الإنسان إذا يئس

ص: 177

فذلك يعني أنه يئس من رحمة الله. ظهور المهدي رحمة، واليأس منها يأس من رحمة الله. ولا تيأسوا من روح الله مهما طالت المدة.

الإمام لا نعلم متى يظهر، ولكن الله يريد أن يمحصنا، الله يريد أن يمتحننا امتحاناً يميز فيه الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والحق من الباطل. حتى إذا ظهر الإمام المهدي يصبح الجنود واضحين، معسكر الإمام واضحاً ومعسكر الشرك واضحاً ومعسكر الباطل واضحاً.

فالإمام الحسين عليه السلام من خروجه من مكة المكرمة إلى كربلاء طيلة الطريق يختبر أصحابه، حتى بقيت منهم هذه المجموعة القليلة، سبعون مقاتلاً أو مئة مقاتل، على اختلاف الروايات.

إمام معصوم مفترض الطاعة يعيش في المدينة، لم يكن بينه وبين النبي فصل. أي أمة كانت حينما ظهر الإمام الحسين، حينما خرج الإمام الحسين، حينما جاء ليقاتل يزيد الرجل الفاسق، المعلوم فسقه وفجوره. أين كانت الأمة لماذا سبعون نفراً أو مائة نفر؟ أين الناس؟! الإمام أراد أن يختبرهم، أراد أن يميز الصادق من الكاذب، أراد أن يميز من يقول بصدق: يا ليتنا كنا معك فنفوز فوزاً عظيماً، وفعلاً لم يبق معه ولم يكن صادقاً معه إلا هذه القلة، ومن كان مضطراً لعدم الخروج، وكذلك هذه الغيبة.

أيها الأعزاء، الإمام المهدي معنا يحضر مجالسنا، يحضر احتفالاتنا، يشاركنا في الأفراح والأحزان. أعمالنا تعرض عليه، إن كانت خيراً يفرح،

ص: 178

وإن كانت شراً يتألم، يتقطع قلبه حزناً، يتقطع قلبه ألماً حينما يرى أعمالنا سيئة، ويفرح حينما يرى أعمالنا حسنة.

ما هو المطلوب منا في ختام كلمتي؟ المطلوب منا أن نتآزر مع الإمام، أن نقوّي ارتباطنا مع الإمام، أن لا ننسى الإمام، أن لا تنسينا هذه الدنيا إمام زماننا الذي سيظهر حتماً _ كما هو لسان الروايات _ (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يظهر فيه رجل من ولدي اسمه اسمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).(1)

اللهم عجل فرجه واجعلنا من أنصاره وأعوانه واللائذين تحت لوائه، والمستميتين على يديه، وعلى طريقه.

اللهم بحقه عليك، بعظمة هذه الليلة العظيمة، هذه الليلة الجليلة، هذه الليلة التي ورد أنها بعد ليلة القدر في الفضل، هذه الليلة التي فيها زيارة الحسين عليه السلام ومن أراد أن يصافحه مائة وأربعة وعشرون ألف نبي فليزر الحسين عليه السلام فقيل للإمام: ليس كلنا يقدر على ذلك، نحن بعيدون عن الحسين عليه السلام بعيدون عن كربلاء كيف نزور الإمام الحسين عليه السلام في هذه الليلة؟ يقول الإمام: اصعد على مرتفع اصعد السطح ثم

ص: 179


1- راجع سنن أبي داود ج 2: 309، سنن الترمزي ج 3: 343، مستدرك الحاكم ج 4: 442 و...

التفت يمنة ويسرة وقل: السلام عليك يا أبا عبد الله، فقد أديت الزيارة وحظيت بالفضل العظيم والشرف الرفيع. (1)

هذه الليلة بعد ليلة القدر، ليلة القدر للنبي وليلة النصف من شعبان للأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام .

اللهم ببركتها، اللهم بعظمتها، اللهم فرج عنا وعن جميع المؤمنين والمؤمنات.

والسلام عليكم ورحمة بركاته

ص: 180


1- إقبال الأعمال لابن طاووس ج 1: 464، منتهى المطلب ج 2: 892، وسائل الشيعة (ط: الاسلامية) ج 10: 367.

ص: 181

قضايا العصر

اشارة

سماحة الشيخ عبد الحميد المهاجر

ص: 182

ص: 183

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).(1)

خلق الله تبارك وتعالى الخلق ابتداعاً، واخترعهم بمشيئته اختراعاً، وجعلهم على طريق محبته وعدالته، لا يملكون تأخيراً لما قدمهم إليه، ولا يملكون تقديماً لما أخرهم عنه. ثم قسم الله سبحانه بينهم معايشهم، ووضعهم في الدنيا مواضعهم، وزودهم بفطرة لا ترتوي إلا بذكر الله، وركب فيهم العقول، وجعل فيهم أنوار الإيمان في القلوب، ولم يتركهم هكذا وإنما زود هذا العطاء بعطاء يمده وينسجم معه، وهو إرسال الأنبياء والرسل وإنزال الكتب، لتكون لله الحجة البالغة على خلقه، فلا حجة لأحد على الله سبحانه وتعالى بعد هذه التركيبة من الخلق، وبعد إرسال الرسل والأنبياء.

ص: 184


1- سورة الأنبياء، الآية: 105.

ثم بدأ القرآن الكريم بإرشاد الناس وهدايتهم، وصار يبشر أهل العقل والفهم (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).(1) ويركز على القلة المؤمنة التي تحرك بإيمانها قوانين الغيب في الكون ويذم الكثرة الغوغائية التي لا سبيل لها للهداية والحق، إنما أرادت لنفسها هذا الطريق حتى قال عز من قائل (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ).(2)

لكن الله في القرآن الكريم يبين أن هذه الحركة للإنسان وهذه التركيبة وهذه الحكمة إنما تتحقق بشيء واحد.

فالله تبارك وتعالى هو خالق الوجود وباعث الأنبياء والرسل والقرآن وخالق الفطرة لتنظيم الكون، إلاّ أن هناك أسباب مجتمعة إذا فقد منها سبب واحد لا تتحرك بمسيرتها.

فعلى سبيل المثال كل شيء لو أحضرته في مركبتك _ في سيارتك أو في راحلتك _ ونسيت شيئاً بسيطاً منها، على سبيل المثال مفتاح السيارة أو أن السيارة ليس فيها وقود أو أن هذه المركبة ليس فيها الوجهة أو الدليل الذي يأخذها على وجهتها لا يمكن أن تنطلق ولا يمكن أن تسير.

الله تبارك وتعالى جعل بتقديره وبعلمه وقضائه، كما قدر الإنسان وجعله في أحسن تقويم، قدر عقل الإنسان، وقدر روح الإنسان، وقدر دين الإنسان والعقيدة التي يمشي بها كلها بتقدير الله سبحانه وتعالى، وخصوصاً

ص: 185


1- سورة الزمر، الآية: 18.
2- سورة البقرة، الآية: 249.

في ليلة القدر، لكنه جعل هذه المسيرة وهذا النجاح لا يتحقق أبداً ومطلقاً إلا بوجود إمام معصوم فمن دون إمام معصوم لا تتحقق هذه الأمور كلها.

ولا تستغرب عندما تسمع القرآن الكريم يحدثنا أن أشرف الخلق وأعظم الخلق الذي هو أبو الزهراء المصطفى محمد صلى الله عليه وآله والذي خلق الله الكون كله من نوره(1)، يحدّثنا أن الله أمر حبيبه المصطفى أن يعلن عن الإمامة وأن يعلن عن ولاية علي بن أبي طالب في يوم الغدير(2) وفي آيات واضحة يقول له: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)(3).

فإذا كان الأمر بهذا التقدير وبهذا الشكل، إذا كان الله يخاطب حبيبه المصطفى يقول: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، في الوقت الذي لم يبق شيء عند رسول الله صلى الله عليه وآله لم يبلغه إلى يوم الغدير وإلى حجة الوداع، فالصلاة والصيام والحج وكل شعائر الدين ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يبق إلا الإمامة التي يركز عليها الحبيب المصطفى دائماً، يركز عليها في كل مكان وفي كل موطن، لكن في ذلك المكان يأتيه النداء: (يا

ص: 186


1- راجع روايات خلق نور النبي صلى الله عليه وآله وانه خلق قبل الخلق، السيرة الحلبية، ج1: 30، مروج الذهب المسعودي؛ ج 1: 32، الكافي للكليني، ج1: 442، ح 9.
2- راجع المستدرك للحاكم، ج3، 109، السنن الكبرى للنسائي، ج5: 45، مجمع الزوائد للهيثمي، ج9: 104.
3- راجع سبب نزول الآية المباركة وانها نزلت في غدير خم في علي بن أبي طالب عليه السلام في كتاب اسباب نزول للواحدي: 135، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني، ج1: 239، الدر المنثور للسيوطي، ج2: 298.

أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).(1)

إذا أخذنا هذا الأمر بنظر الاعتبار، إضافة إلى أننا سنجد أيضاً الإمامة لها أثر كبير وفعال، في صحاح المسلمين (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(2) ففي سكرات الموت تسأل عن إمامك، إذ أن الحديث (من مات ولم يعرف إمام زمانه) يعني في القبر أيضاً سؤال منكر ونكير: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ من إمامك؟ لأنه يقول: (من مات ولم يعرف إمام زمانه) فربط قضية الموت بمعرفة إمام الزمان.

في ساحة المحشر كذلك (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ)(3).

إذن المسألة واضحة، وأنت تعيش الآن في الحياة _ وعمرك طويل _ فالسؤال الذي يوجه إليك وإلي، القرآن الكريم يتحدث عنه، وهو: من إمامك؟ من هنا لابد أن تعرف من إمامك وإلا في عالم البرزخ ونحن مذهولون لا نعرف كيف نجيب.

المسألة لا تقتضي مقدمات ولا تقتضي تطويل حديث، مسائل واضحة (بَلِ الإِْنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)(4) لكن الناس غافلون عن هذه الحقيقة،

ص: 187


1- سورة المائدة،الآية: 67.
2- صحيح مسلم، ج6: 22، السنن الكبرى للبيهقي، ج8: 156مجمع الزوائد للهيثمي، ج5: 218، الكافي للكليني، ج1: 376، وقد روي الحديث بالفاظ مختلفة، منها: (وليس في عنقه بيعة، وليس له إمام، وليس عليه إمام، ولا يعرف إمامه... )..الخ.
3- سورة الإسراء، الآية: 71.
4- سورة القيامة، الآية: 14.

وكفر الناس لا يلغي الحقائق، إذ أن الحقائق موجودة، لكن من أين نأخذ الحقائق؟ الله تبارك وتعالى عندما خلقنا بهذا الشكل وأمر الملائكة أن تسجد للإنسان _ ونحن نتحدث في عصر انقلبت فيه الموازين والمقاييس بالكامل _ من أين نأخذ الحق؟ إلى أين نتجه؟ هل نتجه إلى أهل الباطل ونأخذ منهم الحق أم المعرفة نأخذها من أهل الجهل والحمق؟ أم نذهب إلى أهلها؟

القرآن الكريم يوجهنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(1) والقرآن يؤكد أن كل كلمة يقولها رسول الله صلى الله عليه وآله هي وحي يوحى، سواء آية أو حديث (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى).(2)

بعد ذلك القرآن الكريم يبين أن رسول الله ليس فقط فعله حجة وشرع وأحكام، وإنما قوله حجة وتقريره حجة، وحتى ملامح وجه رسول الله حجة وحكم إسلامي، فإذا كان راضٍ أو كان غاضباً ملامح وجهه تعتبر حكماً إسلامياً.

فإذا كان الأمر هكذا فإن الرسول صلى الله عليه وآله أكد في حياته على ولاية أهل البيت عليهم السلام، وأكد على ولاية الأئمة الاثني عشر، وأكد

ص: 188


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- سورة النجم، الآية: 4.

على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، حتى يصل إلى الإمام الثاني عشر، الإمام الحجة المهدي عجل الله فرجه.(1)

هذا الحديث الذي أقوله ليس من كتب مدرسة معينة في الإسلام، بل كل المدارس الإسلامية وكل المسلمين، أنقل لكم هذا الحديث: الرسول عندما يصل إلى الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه يكثر بالحديث عنه، يتحدث عن مواصفاته، يتحدث عن ملامح وجهه(2)، يتحدث عن علامات آخر الزمان(3)، يتحدث عن شكل الإنسان في ذلك الزمان(4)، يتحدث عن وسائل النقل(5)، يتحدث الرسول عن العلامات التي تظهر في السماء وفي الأرض(6)، يتحدث عن الجيوش التي يقودها الآخرون مثل جيش الدجال وجيش السفياني وجيش اليماني، وهذه كلها تخرج والناس ينظرون إليها(7)، يتحدث أن الشمس تشرق من المغرب(8)، يتحدث بظهور عمود من نار فيطبق الليل بالنهار، الكرة الأرضية تصبح في النهار وفي النور، يتحدث أن الإمام المهدي إذا ظهر يقف بين الركن والمقام يخطب وكل من على وجه

ص: 189


1- راجع المناقب لابن شهر آشوب، ج1: 301، راجع كما الدين للصدوق، ج1: 282 باب 24، ح35، الغيبة للنعماني: 92، باب 4، ح 23.
2- راجع الفتن لابن حماد: 101، الملاحم لابن طاووس: 73، باب 61، كمال الدين للصدوق: 445، باب 3، ح19.
3- الفتن لابن حماد: 101، وعنه الملاحم لابن طاووس: 73، باب 61.
4- مجمع الزوائد للهيثمي، ج7: 323، كنز العمال للمتقي الهندي، ج11: 183، ح 31144.
5- الغيبة للنعماني: 312، ح320.
6- راجع الفتن لابن حماد: 60، أمالي الشجري، ج2: 27.
7- الغيبة للطوسي: 268.
8- الفتن لابن حماد: 9، كنز العمال للمتقى الهندي، ج11: 63، ح 13050.

الأرض من إنسان يسمع صوته ويرى شخصه بلسان فصيح وبكل لغات العالم(1) في نفس اللحظة، وفي نفس اللحظة يسمعون الصيحة التي تأتي من السماء من قبل جبرئيل، لا يبقى ذو روح في الأرض إلا يسمع تلك الصيحة: ألا يا أهل العالم لقد خرج مهدي آل محمد صلى الله عليه وآله.(2)

بعد ذلك يعطي مواصفاته بدقائق: يخرج الإمام من ولدي، الإمام المهدي ابن أربعين عاما(3)، لكن هو عمره مديد لأن ولادته سنة 255_ وهو نفس رقم آية الكرسي _ للهجرة ليلة النصف من شهر شعبان، ولد لأبيه الإمام الحسن العسكري، والإمام الحسن العسكري، ابن الإمام علي الهادي ابن الإمام محمد الجواد ابن الإمام علي الرضا ابن الإمام موسى الكاظم باب الحوائج ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين، والحسين بن علي بن أبي طالب، الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.

الإمام يصفه رسول الله صلى الله عليه وآله، يصف علامات وجهه: أقنى الأنف، خالٌ أسود على خده الأيمن، وجهه كأنه كوكب دري(4)، إذا مشى الإمام سلام الله عليه على رأسه غمامة _ كل ذلك حتى لا نضل عن الحق

ص: 190


1- الغيبة النعماني: 257، باب 14، ح 14.
2- الغيبة للنعماني: 253، باب 14، ح 13.
3- الفتن لابن حماد: 101، كنز العمال للمتقي الهندي، ج14: 586، ح 39660.
4- المعجم الكبير للطبراني، ج8: 120، ح 7495، البيان للشافعي: 514، باب 18.

_ يمشي وعلى رأسه غمامة فيها مناد ينادي: أيها العالم هذا خليفة الله المهدي.(1)

هذه الصفات كلها يذكرها النبي، والأحاديث الواردة فيها يذكرها الشيعة والسنة بالإجماع، ولا فرق بين الشيعة والسنة، لكن أقولها لمعنى.

وتأخذ الكتب تتحدث عن الإمام المهدي، فلاحظ الإمام المهدي في صحيح البخاري(2) وفي صحيح مسلم(3) وفي كل الكتب، ولكن لا تسمع أحداً يتحدث عن الإمام المهدي في خطبة يوم الجمعة، ولا تسمع أحداً يتحدث عن الإمام المهدي في إذاعة أو تلفزيون.

لكن العالم كله يتحفز علم أم لم يعلم، شاء أم أبى، كل إنسان على الأرض اليوم بفطرته وواقعه ينتظر قدوم الإمام المهدي عجل الله فرجه، ولذلك موجة التشكيك كثرت هذه الأيام وموجة اليأس أنه إذا ظهر الإمام كيف يقابل هذه الأسلحة الفتاكة أو هذه القنابل الذرية، وهذه طبيعة الناس من أيام إبراهيم الخليل، فالناس لما نظروا إلى إبراهيم كيف قابل الفراعنة والنماردة، قابلهم بجيش نظامي لأول مرة، أول من أسس الجيوش

ص: 191


1- البيان للشافعي: 511، باب 15، نور الأبصار للشبلنجي: 188.
2- صحيح البخاري، ج 4: 143، ولفظ الحديث (كيف أنتم إذ انزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم).
3- صحيح مسلم، ج 1: 95، ولفظ الحديث: (فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول: لا، ان بعضكم على بعض أمراء...).

بالأرض هو إبراهيم الخليل قاد الجيش فانتصر على أعداء الله(1)، وبنى البيت الحرام.

فلما مرّت الدنيا ومضى التأريخ الناس الذين كانوا ينتظرون موسى بعد إبراهيم قالوا: كيف موسى سيأتي بالجيش الآن؟ الفراعنة في مصر عندهم جيش نظامي عرمرم لا يمكن لموسى أن يقابل هذا النظام وهذا الجيش، وإذا يأتي موسى بما لم يكن في الحسبان، بتسع آيات بينات وبعصاه التي تلقف ما يأفكون وبالبحر هل سمعت بمثل ذلك؟ لو أن إنساناً يحدثك، يقول لك: إن الله سيبعث نبياً يستخدم البحر لضرب أعدائه، يلطمهم بالبحر، فستقول: كيف يلطمهم بالبحر؟ وإذا ظهر موسى عليه السلام ضرب البحر وإذا البحر قوة هائلة يحركها موسى كما تحرك الخاتم بإصبعك مع التسع آيات مع العصا.

بعد ذلك الناس الذين كانوا ينتظرون قدوم عيسى قالوا: كيف يأتي عيسى والآن المسألة انقلبت والمعايير تغيرت والموازين تحولت، الآن أطباء وعلماء في هذا العصر يأتون للإنسان الذي يصل إلى درجة قريبة من الموت فيشافونه ويعالجونه بدقة متناهية، كيف يستطيع عيسى أن يتقدم؟ أي هل يمكن أن يأتي بنفس الآيات؟! فإن آيات موسى لا تؤثر الآن في هذا الزمن، فجاء بقوة بالغة، وإذا به ليس فقط يشفي المرضى وإنما يبرئ الأكمه والأبرص من دون دواء، وإنما بمسحة يد فقط بعد ذلك يحيي الموتى، قال لهم: (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ)(2) وما أحيي الميت

ص: 192


1- لاحظ: مناقب ابن شهر آشوب: 3 / 85 فقد ورد فيه: (أول من اتخذ الرايات إبراهيم الخليل)، والمصنف لابن أبي شيبة: 8 / 359 وقد ورد فيه: (أول من عقد الألوية إبراهيم خليل الرحمن).
2- سورة آل عمران، الآية: 49.

الذي مات قبل ساعة، بل أمشي معكم إلى قبر مات صاحبه قبل خمسمائة عام وبدنه كالرميم أنا أناديه فيقوم وينفض التراب عن بدنه ويقف أمامكم، وإذا تلك العظمة التي أعطاها الله لعيسى، وخرج عيسى والناس ينتظرونه، دائماً البشرية تنتظر مخلص _ التفت إلى القرآن حتى تعرف أن قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه قضية فطرية في عقيدتنا وفي أعماقنا يجب أن نلتفت إليها _ وإذا البشرية تنتظر قدوم عيسى وعيسى يخرج بهذه الآيات العظيمة (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)(1) وينبئ الناس بما يأكلون..الأطباء كانوا في زمن عيسى إذا نظروا للشخص يقولون له: أكلت كذا وكذا، عيسى عليه السلام كان ينبئهم بما يدخرون في بيوتهم من الطعام ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله وينبئهم بما كان وما يكون.. (2) ثمّ امتدت البشرية.

أبين لكم هنا ملاحظتين:

الأولى: مسيرة البشرية

ملاحظة: هذه الليلة خاصة بصاحب الأمر الإمام الحجة، والقرآن عندما يتحدث عن مسيرة البشرية يقول: إن البشرية بدأت من آدم ثم انطلقت من

ص: 193


1- سورة آل عمران، الآية 461.
2- قال تعالى: (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَْكْمَهَ وَالأَْبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران، الآية: 49.

بعد آدم حتى وصلت إلى نوح فأغرقها بالطوفان، فانطلقت البشرية من سفينة نوح والذين في السفينة هم أصبحوا آباء البشر، ثم سارت المسألة أيضاً إلى موسى وانطلقت البشرية من أيام موسى، ثم يكون عيسى مكملاً لحركة موسى عليه السلام فتنطلق القضية من عيسى إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله.

بعد ذلك تنهمر الخيرات على العالم أجمع، والله يرسل النبي رحمة للعالمين، ويقول: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).(1)

بسم الله الرحمن الرحيم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الأَْمِينِ)(2) التين إشارة إلى الشجرة التي أكل منها آدم(3)، الزيتون إشارة إلى نوح لأنه عندما هبطت السفينة استوت على الجبل، نوح أرسل الحمامة ليستكشف ويستطلع هل هناك حياة فجاءت الحمامة بغصن الزيتون دليلاً وعلامة على أن الحياة موجودة(4)، وإلى الآن يعتبرونه رمزاً للسلام والمحبة،

ص: 194


1- سورة الانفال، الآية: 33.
2- سورة التين، الآية: 1_ 3.
3- راجع تفسير القرطبي، ج1: 35، تفسير ابن كثير، ج1: 83، الدر المنثور للسيوطي، ج1: 53.
4- الدر المنثور للسيوطي، ج3: 330.

فإذن الزيتون إشارة إلى نوح. وطور سينين لموسى(1)، والبلد الأمين هو مكة المكرمة لرسول الله.(2)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ).

فتمشي البشرية بهذه المسيرة، وإذا بعد قضية عيسى المؤمنون الذين كانوا ينتظرون قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله أيضاً كانوا يتعجبون، الآن الرسول إذا جاء كيف يستقبل هذا العالم؟ هل يستقبله بقوة عيسى التي هي قوة الطب؟ العالم اليوم _ في عصر رسول الله _ تأكله الفوضى ويضربه الخوف، وفيه شيء بارز عظيم اسمه البلاغة والفصاحة، هذا السلاح الوحيد الذي عندهم، ولا يمكن لأي داعية ولأي مصلح أن يرفع صوته، فإنه يصفى جسدياً بأقرب فرصة لأن القبائل كلها تعتبر قتل الإنسان كقتل ذبابة، فمن المستحيل أن ينجح قائد بالجزيرة العربية في تلك الأحوال، لأن الوضع كان كما قالت فاطمة الزهراء: (وكنتم تشربون الطرق وتقتاتون القدّ والورق أذلّة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله).(3)

ص: 195


1- جامع البيان للطبري، ج30: 303.
2- زاد المسير لابن الجوزي، ج8: 276، فتح القدير للشوكاني، ج 5: 465.
3- دلائل الإمامة للطبري (الشيعي): 115، كشف الغمة للأربلي، ج2: 111.

وإذا الرسول يأتي للعالم، بأي شيء جاء وهو أفصح من نطق بالضاد؟ جاء بالقرآن الكريم، بمجرد أن سمع العرب وزعماء العرب بمجرد أن سمعوا سورة الحمد خفوا وأسرعوا إلى المعلقات السبع في بطن الكعبة وأنزلوها قائلين: عيب وعار عليكم تعلقون المعلقات بعد ما سمعتم هذه السورة وهذا الكلام.

الآن لأننا نحن بعدنا عن اللغة العربية لا ندرك هذا العمق الأدبي الموجود.

بعد هذا كله مسألة التصفية الجسدية لرسول الله، أيضاً جعله الله في حصن حصين، وعلينا أن ندرك كم هو عظيم موقف عمه أبي طالب عليه السلام هذا الذي دافع عن الرسول وحامى عنه ونصره، أبو طالب الذي هو قمة الإيمان وقمة الإسلام، لكن مع الأسف الشديد نسمع من البعض يقول بأن أبا طالب كان كافراً. ولا يمكن أن يكون أبو طالب كافراً أبداً، لأن فاطمة بنت أسد كانت تحته إلى آخر لحظة من حياتها، ولو كان كافراً لفرّق رسول الله صلى الله عليه وآله بين أبي طالب وبين فاطمة بنت أسد، هذه أمور واضحة، ثم الرسول أعلن عام الحزن ونكس الأعلام حزناً لموت أبي طالب وخديجة، فإذا كان مشركاً أبو طالب لا يمكن أن تنكس الأعلام من أجل موت مشرك وكافر.

فمن هذا المنطلق ترى أن الناس الآن ينتظرون قدوم المصلح الإمام المهدي ويتطلّعون كيف يقابل هذه الأساطيل وكيف يقابل هذه الدبابات والصواريخ والغواصات والأقمار الصناعية التي تدور، فهذه الكرة الأرضية

ص: 196

محزمة الآن بحزام كبير من الأسلحة والمعدات، كيف سيقابل الإمام المهدي هذه الأسلحة؟!

فإذا أخذت بعين الاعتبار هذا المعنى، كل نبي عندما يأتي وكل ولي عندما يأتي يخرج بسلاح لم يكن في الحسبان، فتدرك أن السلاح الذي يخرج به الإمام المهدي لم يكن في الحسبان ولكن أمير المؤمنين عليه السلام أشار إليه، قال: (أصحاب الإمام المهدي الذين يجتمعون عنده كقزع الخريف)(1) مثل السحاب الواحد منهم يحمل سيفاً إذا وجه سيفه إلى جبل شقه نصفين، وهذا يعني أن السيف غير السيف الذي نحن نتصوره، يعني سلاحاً آخر.

العلم الذي يخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله من خلال ولده الحجة عجل الله فرجه يقول: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الأَْمْرُ جَمِيعاً).(2)

فرحلة العلم في القرآن تصل أنها تسير الجبال وتقطع الأرض وتكلم الموتى، بحيث تحكي مع الميت وتسمع جوابه. هذا العلم موجود عند صاحب الأمر عند الإمام الحجة عجل الله فرجه فإذا ظهر يبدأ العلم ينتشر في دولته. والمرأة اليوم التي هي محط رحال ونقطة ساخنة في البحث والحقوق يقال: إن المرأة في دولة الإمام المهدي عجل الله فرجه

ص: 197


1- الفتن لابن حماد: 108، الغيبة للشيخ الطوسي: 477، ح 503.
2- سورة الرعد، الآية: 31.

لتقضي بكتاب الله وسنة نبيه(1)، يعني تكون قاضية، ونحن عندنا الآن كلام فقهي بفقه القانون حول أن المرأة هل تصلح لأن تصبح قاضية أم لا، وفي الأخبار أن المرأة تصل إلى مرحلة من الفقه بحيث تقضي وتستنبط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة النبوية، مع أدلة العقل والإجماع، لكن بوجود الإمام الإشارة إلى مصدرين فقط مصدر القرآن والسنة النبوية، وأنها لتأتي من العراق إلى الشام _ كما يقول أمير المؤمنين _ فلا تطأ قدماها إلا على الكلأ والعشب(2)، وقلت لبعض الإخوة: إن هذا الحديث فيه إشارة إلى أن المرأة دائماً تحتاج إلى حماية فعندما يقول الإمام علي عليه السلام أن المرأة لتأتي من العراق إلى الشام، يكشف بهذا الحديث عن الحالة الأمنية في العالم كله، حالة الأمن، ليس هناك ظلم وليس هناك طغيان وليس هناك قلق.

وفي الأخبار أن الإمام يضرب عنق الشيطان ويقتله، فلا يوجد شيطان إلى يوم يبعثون، في بعض التفاسير: عندما يبعث الإمام عليه السلام يقتل الشيطان وينشر الإسلام في كل ربوع الأرض وينشر الحالة العلمية والعدالة الاجتماعية والحق، بحيث ما من إنسان إلا ويستعذب طعم الإيمان وحلاوة العدالة الاجتماعية ويعرف حق أهل البيت ويعرف

ص: 198


1- الغيبة للنعماني: 238، باب 13، ح 30.
2- تحف العقول لابن شعبة: 115، ولفظه: (...حتى تمشي المرأة بين العراق والشام لا تضع قدميها الا على نبات...).

حقيقة هذا البيت الطاهر لماذا أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا(1)، ويعرف لماذا طلب منا مودتهم وأمرنا بمحبتهم فقال جل وعلا: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).(2)

فإذا ظهر بأبي وأمي، وقريباً ما يظهر إن شاء الله، وهذا ليس حلماً نتكلم عنه، وإنما علامات يأخذ بعضها بالبعض الآخر، كل العلامات التي ذكرت وقعت وتحققت باستثناء أربع علامات: الصيحة وخروج السفياني والدجال وخروج الشمس من المغرب، هذه أربع علامات كلها تحصل في أربع وعشرين ساعة، الله يعالج هذا الأمر بين ليلة وضحاها، قبل أربع وعشرين ساعة، أنت لا تسمع شيء بعدها العالم كله يتحدث بظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه.

الثانية: ظهور الإمام

الإمام يخرج بالكوفة ويتخذ مسجد السهلة _ وهو مسجد بالكوفة في العراق _ يتخذه بيتاً له ويقول: إن إبراهيم كان يسكن بهذا المسجد والأنبياء(3)، ثم يبني مسجداً له ألف باب(4)، إذا كانت المسافة بين باب وباب

ص: 199


1- قال تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الاحزاب، الآية: 33.
2- سورة الشورى، الآية: 23.
3- الغيبة للشيخ الطوسي: 282، كشف الغمة للأربلي، ج3: 253، البحار للمجلسي، ج52: 317، باب 27، ح 13.
4- الغيبة للشيخ الطوسي: 280.

عشرة أمتار فعلى أقل تقدير ذلك يعني عشرة آلاف متر يعني عشرة كيلو مترات، فإذا كان مسجد بهذا العمق فإن ذلك يعني أن وسائل النقل سوف تكون كما في بعض الأخبار ربما يكون الإنسان نائماً في داره على السطح ويريد أن يلتقي بالإمام عليه السلام فيلتقي به بأسرع من غمضة عين، هذا العلم أيضاً موجود في القرآن الذي أحضر فيه آصف بن برخيا عرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه، هذا العلم موجود عند الإمام، فيستخدم هذا العلم بوسائل النقل.

فمعناه إذا أقيمت صلاة الجماعة في الكوفة والإمام المهدي عجل الله فرجه يصلي، فيمكن أن يأتي المصلون من كل مكان من العالم، لا حاجة إلى جواز ولا هوية، فالكرة الأرضية تكون كلها بيت واحد وقرية واحدة، والكرة الأرضية اليوم وإن كانوا يعبرون عنها بأنها قرية واحدة لكنها بعيدة المسافة، فبين بيت وبيت مسافات وفترات طويلة، والمصيبة أن الغرب الذين لا يعتقدون بالإسلام طبقوا هذا الشيء بينهم، فترى أمريكا المؤلفة من اثنين وخمسين دولة دولة واحدة، والصين كذلك، والسوفيت أيضاً باستثناء المسلمين..سبحان الله بين دولة ودولة _ تلاحظ _ ليس بينها إلا مرمى حجر، وإذا أنت المسلم سافرت إلى هذه الدولة وانتقلت من تلك الدولة فكأنما العالم انقلب.

ص: 200

وكأن الأمر بالعكس فنحن أهل الخير، هذه بلادنا الإسلامية العربية كلها خير وكلها عطاء، وجعلها الله في هذا الموقع العظيم، وجعل الله فيها الخيرات كلها.

ليس فقط الخيرات المادية، بل الخيرات المعنوية، فمثلاً عند هذه السيدة الطاهرة رقية، عمرها أربع سنين، وهي قطعة من نور رسول الله صلى الله عليه وآله، بنت الإمام الحسين، ولها قدر وجلالة عند الله سبحانه وتعالى، ودائماً أذكّر الاخوة أن هذه الطفلة قد ماتت على رأس أبيها الحسين، وأن هذه المنطقة منطقة مقدّسة، وهي منطقة الزيتونة التي وردت في القرآن الكريم، والتي ذكر المفسرون أن مكانها في الشام.

فلاحظ أنت كم عندنا حقائق وعندنا نعم وآلاء لا يمكن للإنسان أن يحصيها أو يعدها، فالانتماء إلى أهل البيت عليهم السلام هو بحد ذاته نعمة كبرى لا تحد أبداً.

ففي هذه الليلة المباركة، ليلة القدر، بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).(1)

ص: 201


1- سورة القدر،الآية: 1 _ 5.

تصور الليلة الملائكة تتن_زل والروح ين_زل معها، في الأخبار الروح أكبر من جبرئيل لأن جبرئيل من الملائكة، فالروح خلق عظيم ين_زل مع الملائكة(1) على الرسول صلى الله عليه وآله ويستعرض القرآن على رسول الله، لذلك حديث الثقلين يبين لكم هذه الفلسفة (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، وقد نبأني الخبير اللطيف أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).(2) أي أنه لا يوجد افتراق بين القرآن وبين العترة.

فالآن هذا الحديث يؤكد وجود الإمام المهدي عجل الله فرجه لأن الرسول قال: لن يفترقا، فمعناه أن الملائكة والروح تتن_زل بالقرآن على المؤمنين والمؤمنات، ولكن قبل المؤمنين والمؤمنات تن_زل على حجة الله في الأرض، ابن رسول الله الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

ففي مسجد السهلة بيته وأهله، ثم ينطلق من الكوفة مع ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، وهم الأبدال والمخلصون، وهم من مصر والشام _ في الأخبار _ والعراق واليمن ومناطق أخرى، من قم، لكن أكثرهم _ خصوصاً الأبدال _ من الشام، والشام تشمل الحوض المتوسط كله، حتى بيت

ص: 202


1- راجع الكافي للكليني، ج1: 272، ح 1 _ 6.
2- سنن الترمذي، ج5: 328، ح 3874، سنن النسائي، ج5: 45، ح 8148.

المقدس يدخل فيها، هؤلاء الأبدال والمخلصون يجتمعون عنده في مسجد الكوفة ثم يتحرك الإمام عليه السلام إلى مكة المكرمة.

وفي هذا الوقت بالذات يكون السفياني قد ظهر بجيشه، والدجال قد ظهر.

وبعد صيحة جبرئيل تسمعون صيحة الشيطان، لأنه هناك اختبار، فالشيطان يكذب صيحة جبرئيل، حتى أن قسماً من أصحاب الرسول ومن بينهم سلمان وأبوذر سألا رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف الإنسان يحفظ عقيدته ويعرف طريقه؟ أرشدهم الرسول وأهل البيت إلى قراءة سورة الكهف في كل يوم جمعة، فالذي يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة لا يضل وإنما يمشي على الحق ويعرف الإمام عليه السلام، وإذا لم يستطع ان يقرأها فيقرأ الآيات العشر الأولى منها.(1)

ومن جملة الأمور التي تحفظ الإنسان وتجعله محباً للإمام الحجة عجل الله فرجه قراءة سورتي العنكبوت والروم في هذه الليلة، يقول الإمام الصادق عليه السلام لأبي بصير: (والله يا أبا محمد ما من أحد مؤمن قرأ هاتين السورتين ليلة القدر إلا وجبت له على الله الجنة).(2)

فيتحرك الإمام من الكوفة إلى مكة المكرمة بجيشه، ويدخل هناك ويسند ظهره بين الركن والمقام وجبرئيل معه، والعالم كله ينظر إليه، فيخطب الإمام.

ص: 203


1- راجع المستدرك للحاكم، ج 4: 511، السنن الكبرى للنسائي، ج 6: 236، ح 10788، سنن الترمذي، ج 5: 162، ح 2886.
2- ثواب الأعمال للصدوق: 110.

ثم بعد ذلك كله يتحرك الإمام إلى بيت المقدس، إلى المسجد الأقصى ويصلي هناك بالناس وكل العالم يرون الإمام كيف يصلي، وفي تلك اللحظة ين_زل عيسى بن مريم من السماء حتى كل أهل الكتاب _ اليهود والنصارى _ يرونه، لأن اليهود ينتظرون عيسى أيضاً والنصارى كذلك يرون عيسى نزل والإمام يقدّمه للصلاة، فعيسى يتراجع ويمسك عضد الإمام يقول: بكم تقام الصلاة يابن رسول الله، فيصلي خلفه.(1)

أما ما هو واجبنا ورسالتنا تجاه الإمام روحي فداه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج)(2) فانتظار الفرج عمل، والعمل بأي شيء؟ أول ما نبدأ بحل مشكلاتنا، فصلة الأرحام مقطعة، الله الله..هذا الكلام هو أس البحث ولب الجوهر وقلب الحقيقة، إذا لم أقله أنا مسؤول أمام الله، وكلكم مسؤولون هذا شهر رمضان افتح قلبك لأرحامك الآن سلم عليهم اذكرهم لا تسمح للشيطان أن يغير رأيك، لأنك في تجارة مع الله، الآن أنا لساني إذا وجدت فيه كذباً أو نفاقاً أو غيبة أو نميمة احفظه من الليلة، فالليلة ليلة توبة وتطهير، ليلة تصفية حسابات مع الشيطان، وانظر إلى اللسان،

ص: 204


1- راجع كمال الدين للصدوق: 330، ح 16.
2- كمال الدين للصدوق: 644، ح 3، المناقب لابن شهر آشوب، ج 3: 527، وورد بلفظ (أفضل العبادة انتظار الفرج) راجع سنن الترمذي، ج 5: 325، ح 3642، مجمع الزوائد للهيثمي، ج 10: 147.

الآن العين ظاهرة، الأنف ظاهرة، الأذن ظاهرة، اليد والجوارح ظاهرة، اللسان مسجون بسجون، شفتان، هذان سجنان، الفكان والأسنان والشدقان، وبين هذه السجون اللسان إذا خرج عقر ودمّر وهدم البيوت، فكلمة واحدة ممكن يقولها الإنسان بلسانه تهوي في جهنم سبعين خريفاً، الغيبة والنميمة والبهتان والتهم، لاحظوا التهم التي دائماً نوزعها على الناس بالمجان، على نساء على رجال، (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(1).

فإذا أردنا أن نأخذ رحمة وجائزة هذه الليلة لابد أن نصفي أنفسنا، يجب أن نكون أهلاً للتلقي.

الإنسان الليلة يتجه إلى الله (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).(2) فإن الاتجاه إلى الله يفتح لنا آفاق الدعاء والإجابة والصلاة، فإن الصلاة تحفظ الشباب من هذا الضياع وهذا التيه، وتحفظ الأسرة، وكذلك الدعاء وقراءة القرآن الكريم وصلة الأرحام، فلنتوكل على الله وننتبه لأنفسنا ونحسن علاقتنا مع إمام

ص: 205


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يوسف، الآية: 87.

زماننا الذي ننتظره، والذي ورد أن انتظاره أفضل الأعمال كما قلنا سابقاً، فقد ورد في الحديث أن أفضل العبادة انتظار الفرج.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين

ص: 206

المجلد 2

هویة الکتاب

سرشناسه:وائلی، احمد، 1928 - 2003 م.

عنوان و نام پديدآور:مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام/ جاسِم الوَائِلِی ؛ اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

مشخصات نشر:قم: دلیل نا، 14ق.= 12م.= 13.

مشخصات ظاهری:5 ج.

شابک:1000 دینار: ج. 2: 964-397-073-6 ؛ 1200 دینار: ج. 3: 964-397-046-9 ؛ ج. 4: 964-397-047-7 ؛ ج. 5: 964-397-048-5

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد دوم: 1425ق. = 1383.

يادداشت:هر جلد کتاب حاضر مولفی جداگانه دارد: ج.3. محمد السند، ج.4. علی الحسینی الصدر، ج.5. احمد وائلی.

يادداشت:ج.3. (چاپ اول: 1425ق. = 1383).

يادداشت:ح.5 (چاپ دوم: 1426ق. = 1384).

يادداشت:ناشر جلد پنجم: دلیل ما می باشد.

موضوع:محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255ق -

شناسه افزوده:عابدینی، حسین، 1349 -

شناسه افزوده:حسینی صدر، سیدعلی، 1328 -

شناسه افزوده:مرکز الدراسات التخصصیه فی الامام المهدی علیه السلام (نجف اشرف)

رده بندی کنگره:BP51/و27م 3 1300ی

رده بندی دیویی:297/959

شماره کتابشناسی ملی:م 83-32476

ص: 1

اشارة

مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف

النجف الأشرف_ شارع الصادق_ محلة البراق 210 الزقاق 3 رقم الدار 38

هاتف: 370950 و 332811

ص.ب 588

wwwm-mahdi.com

info@m-mahdi.com

____________________

مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام

اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

الطبعة: الأولی - جمادي الآخرة 1425 ه

السعر: 1200 دینار

المطبة البیان / النجف الأشرف

جمیع الحقوق محفوظة

عدد النسخ: 3000 نسخة

ص: 2

بِسْمِ ٱللَّٰهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

اللّهُمَّ إنّا نَرغَبُ إلَيكَ في دَولَةٍ كَريمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الإِسلامَ وأهلَهُ وتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وأهلَهُ وتَجعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ إلى طاعَتِكَ وَالقادَةِ إلى سَبيلِكَ ، وتَرزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المركز

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله وعلى آله الطيبين الطاهرين...

أمّا بعد:

شاءت القدرة الإلهيّة أن تضع بأزاء كل حقّ باطلاً يتناسب معه بالقوّة والاستطالة ويوازيه من حيث الاتجاه والمسيرة التأريخية، فكان ذلك من القوانين والسنن الثابتة التي ابتنت عليها أسس الخليقة منذ نشأتها الأولى، والتي رسمت للدنيا إطارها الذي لا تملك أن تخرج عن حدوده.

وهذا هو ذات الأمر الذي أشارت إليه الآية المباركة في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(1)، إذ أنّ التتبّع الواعي لكل مسيرة أو حركة تنتسب إلى الحق في منهجيتها يبرهن لنا أنّ مسيرة الباطل وحركته لم تتخلّ يوماً عن ملازمة حركات الإصلاح والتحرّر والسير الحثيث بموازاتها، منذ اليوم الأوّل الذي وقف فيه أبونا

ص: 5


1- العنكبوت (29): 2.

آدم ليعبد الله الواحد القهّار، ومروراً بما يحدّثنا التأريخ عن قابيل وهابيل والأنبياء والمصلحين، وإلى يومنا الذي نعيشه.

ولعلّ من أوضح الأفكار والرؤى التي تنتسب إلى الحق ونهجه القويم، بل وينتسب الحق إليها، هي الفكرة العقائدية الربّانية المقدّسة التي زرعتها الشرائع السماوية المتعاقبة في حقل الذهن البشري من خلال المسيرة التكاملية للأنبياء والرسل والأوصياء، وهي فكرة المنقذ الذي سيمدّ يده التي باركتها قدرة السماء لتنتشل البشرية من الأودية السحيقة للظلم والجور إلى مرابع القسط والعدل الإلهي، والتي ستحقق الأحلام والآمال التي بذل الأنبياء والمصلحون دماءهم زهيدة في سبيل تحقيقها، ساعين بذلك لجذب الدنيا من بؤر الظلم والفساد والعبودية إلى آفاق الحرية والعيش الرغيد.

فخضعت هذه العقيدة المقدّسة لهذه القوانين الثابتة وتعرضت لشتى أنواع المحاربة على مر العصور، فكانت هذه المحاربة متناسبة مع عظم الأهمية والسمو والرفعة التي أولتها السماء لها.

وبما أنّ أهميّة الدفاع عن هذه العقيدة تنبع من طرفين أوّلهما مقدار عظمة هذه الفكرة من حيث ارتباطها بمبدأ العقيدة الإسلامية التي عبّر عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في قوله: (من مات ولم يعرف إمام

ص: 6

زمانه مات ميتة جاهلية)(1)، وثانيهما مقدار ما يبذله الأعداء من جهود لم يعرف لها مثيل من تسخير كافة الطاقات لإظهارها على أنها العامل الخرافي الذي يتشبث به أناس ناموا على أمل أن يجدوا العالم ذات يوم يحقق لهم آمالهم وأحلامهم التي كبتها ظلم الظالمين مدة مديدة من الزمن العسير.

لذلك وجدنا أنفسنا _ في خضم هذه الظروف والمداخلات _ نتحمل عبئاً كبيراً وجزءً غير يسير من المسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع الصالح من أتباع أهل البيت عليهم السلام في الدفاع عن هذا المبدأ المقدّس الذي يعتبر أس العقيدة وأساس المذهب.

على أنّ كثرة المدافعين من العلماء الأعلام وذوي الأقلام الشريفة على مرّ الدهور لا تغني عن الاستمرار في انتهاج سبيل الذود عن هذه العقيدة المقدسة، إذ أنّ الشبهات _ وإن تكررت بصيغ مختلفة _ تحتاج إلى ردود تتناسب والطريقة التي يتبناها أعداء الحق والأساليب التي يسلكونها والطرق الملتوية التي يتبعونها في توجيه سهام الحقد الأسود للصورة الناصعة لهذه العقيدة المقدّسة.

ص: 7


1- الكافي: 1/ 376 الباب الأول _ الحديث 1 _ 4، المحاسن للبرقي: 1/ 92 الحديث 46، إكمال الدين وإتمام النعمة: 409 الحديث 9، الإيضاح لابن شاذان: 75، مجمع الزوائد: 5/ 224، مسند أبي داوود: 259، كنز العمال: 1/ 203 الحديث 464، وفي صحيح مسلم: 6/ 22 والسنن الكبرى للبيهقي: 8/ 156 بلفظ (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)....

ومركزنا الذي أنشئ بعد الاستشارة والمداولة مع ثلة من العلماء الأعلام وفضلاء الحوزة العلمية المباركة، وبرعاية من المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، يجد أنّ واجبه الأول هو بذل الجهد للدفاع عن سيدنا ومولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف.

فتبنّى هذا المركز مجموعة من المحاور في عمله منها:

1 _ طباعة ونشر الكتب المختصّة بالإمام المهدي عليه السلام، بعد تحقيقها، وذلك ضمن سلسلة وسمناها ب- (سلسلة اعرف إمامك).

2 _ نشر المحاضرات المختصّة به عليه السلام من خلال تسجليها وطبعها وتوزيعها، ضمن سلسلة (محاضرات في الإمام المهدي).

3 _ إقامة الندوات العلمية التخصصية في الإمام عجّل الله فرجه، ونشرها من خلال التسجيل الصوتي والصوري وطبعها وتوزيعها في كتيّبات ضمن (سلسلة الندوات المهدوية)، أو من خلال وسائل الإعلام وشبكة الانترنيت.

4 _ إصدار مجلّة شهرية تخصّصية باسم (الانتظار).

ص: 8

5 _ العمل في المجال الإعلامي بكل ما نتمكّن عليه من وسائل مرئية ومسموعة، بما فيها شبكة الانترنت العالمية من خلال الصفحة الخاصّة بالمركز.

6 _ نشر كل ما من شأنه توثيق الارتباط بين الأجيال الجديدة وإمامهم المنتظر عليه السلام ، وذلك من خلال القصص والكتب التي تتناسب مع أعمارهم.

7 _ الاهتمام بنشر التراث المختص بالإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، ضمن (سلسلة التراث المهدوي).

وها نحن عزيزي القارئ الكريم نضع بين يديك هذا الكتاب الذي يحمل بين طياته المحاضرات الفكرية المختصّة بالإمام المنتظر عجل الله فرجه، بعد جمعها وإعدادها، ثم تحقيقها وإستخراج المصادر والمنابع التي اعتمد عليها المحاضرون بالمقدار الذي نتمكّن عليه، بالصورة التي توثّق المعلومات الواردة فيها، ثم مراجعتها وإخراجها بهذه الحلّة التي نسأل الباري عز وجل أن يجعلها محط قبولكم ورضاكم، وأن يجعل هذا العمل مرضياً عند إمام زماننا الذي يعيش بين أظهرنا ويتفقد أحوالنا ويعلم بكل سرائرنا.

إنه نعم المولى ونعم المجيب.

ص: 9

شكر وتقدير

يتقدم المركز بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إعداد هذه السلسلة تحت عنوان محاضرات حول المهدي عجل الله فرجه ونخصّ بالذكر كلاً من:

1 _ لجنة التحقيق، المؤلفة من: سماحة الشيخ رعد الجميلي، وسماحة الشيخ أحمد الساعدي، والأخ الفاضل علاء عبد النبي.

2 _ قسم الحاسوب الآلي لجهودهم الكبيرة في إنجاز هذا العمل، ونخص بالذكر مسؤول القسم الأخ الفاضل ياسر الصالحي.

سائلين المولى القدير جلّ وعلا أن يجعل هذا العمل وجميع الأعمال محطّ قبوله، وأن يأخذ بأيدي الجميع لما فيه الصلاح والموفقية والسؤدد.

والحمد لله ربّ العالمين

السيد محمد القبانجي

مركز الدراسات التخصّصية

في الإمام المهدي عليه السلام

النجف الأشرف

ص: 10

الإمام المهدي عليه السلام في القرآن والسنة

اشارة

سماحة الشيخ باقر الإيرواني

ص: 11

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

السلام على الاخوة الحضور ورحمة الله وبركاته.

أهنئكم أولاً بهذه المناسبة المباركة، وأقدم أسمى التهاني والتبريكات، وأسأله تعالى بحق صاحب هذه الذكرى أن يجعل هذه الذكرى وهذا الاحتفال منشأً للخيرات والبركات علينا في الدنيا وفي الآخرة إنه سميع مجيب.

أنا سعيد في هذه الليلة لهذه الذكرى المباركة، وسعيد أيضاً حيث التقي بهذه الوجوه الطيبة المؤمنة التي تلوح عليها آثار الإيمان، فشكراً لك يا رب على هذه النعمة ثم شكراً.

في محاضرتي هذه أيها الاخوة الأعزاء أريد أن ألقي على مسامعكم المباركة بعض الأسئلة حسب ما يسمح به الوقت.

السؤال الذي قد يطرح: ما الدليل من القرآن الكريم على فكرة الإمام المهدي عجل الله فرجه؟

وما الدليل على ذلك من السنة المباركة؟ وأقصد السنة المتفق عليها بين جميع المسلمين.

ص: 13

الاتفاق على فكرة المهدي

وقبل أن أذكر لكم الجواب أود أن ألفت أنظاركم الشريفة إلى أن مسألة الإمام صلوات الله وسلامه عليه ليست مسألة ترتبط بالفكر الشيعي فقط، كما قد يتصوره البعض، بل إنما هي مسألة آمنت بها جميع الأديان، فالاخوة من أهل السنة آمنوا بهذه الفكرة وكتبوا كتباً متعددة في هذا المجال تحوي الأخبار التي ترتبط بالإمام عجل الله فرجه، وفي حدود اطلاعي أنا مطلع على ثلاثين كتاباً من الاخوة أهل السنة في هذا المجال.

لاحظ سنن الترمذي حيث يقول: لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي.(1)

أحمد بن حنبل يقول في حديث يرويه في مسنده: لا تقوم الساعة حتى تملئ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً ثم يخرج من عترتي أو من أهل بيتي من يملؤها عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وعدواناً.(2)

بعض الاخوة يتصور أن القضية خاصة بنا نحن الشيعة، لا، هذه مسألة عامة موجودة عند غيرنا أيضاً.

ابن تيمية في منهاج السنة(3)، وابن حجر في الصواعق(4)، والشيخ عبد العزيز ابن باز(5) هؤلاء الثلاثة من أعلام أهل السنة يصرحون أن الأخبار

ص: 14


1- سنن الترمذي: 3/ 343 الحديث 3331.
2- مسند احمد بن حنبل: 3/36.
3- منهاج السنة: 8/254.
4- الصواعق المحرقة:3/269.
5- مجلة الجامعة الإسلامية: العدد 3، السنة الأولى: 161- 163، تصدر من المدينة المنورة.

في المهدي مستفيضة صحيحة بل متواترة، يصرحون بالتواتر ويذكرون بعض الخصائص لذلك المهدي، أنه يملك الأرض سبع سنين، وأن عيسى يصلي خلفه، وأنه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، هذه الخصوصيات يذكروها أيها الاخوة.

إذن الفكرة فكرة عامة، غايته نحن نختلف مع غيرنا في أن هذا المهدي من هو، هل هو ابن الحسن العسكري عليه السلام وهو مولود في سنة 256 والآن غائب كما نحن ندعي؟ أم أنّه رجل آخر سوف يظهر في آخر الزمان؟!

أصل المسألة والفكرة قضية متفق عليها، هذه معلومة لابد أن نحتفظ بها.

الدليل الوجداني

قضية ثانية؛ نحن عندنا دليل قوي على فكرة الإمام عجل الله فرجه غير القرآن الكريم وغير السنة الشريفة، قضية توارثناها جيلاً عن جيل، من آبائنا وأجدادنا.

كيف نثبت أن فلاناً كان موجوداً فمثلاً عبد المطلب جد النبي كان موجوداً نأخذها خلفاً عن سلف، وهذه القضية جميع أجيال الشيعة

ص: 15

توارثوها خلفاً عن سلف، وهي تورث لنا العلم القطعي به وبولادته وبغيبته وأنه حي إلى يومنا هذا.

هذا يعطينا علماً وجدانياً وقطعاً ويقيناً به لا نحتاج بعده إلى دليل من القرآن أو السنة الشريفة، وإذا ذكرنا بعض الأدلة من القرآن أو السنة فذلك لتقوية عقيدتنا، وإلا أصل المسألة هي ثابتة عندنا بالعلم الوجداني، ولأجل أنه لو سألنا الغير وقال: ما الدليل على هذه الفكرة؟ طبيعي أن علمنا لا يمكن ان نقدمه ونقول: إننا ورثناها خلفاً عن سلف، فإن هذه تنفعنا نحن لكنها لا تنفع غيرنا لو سألنا.

فالدليل الذي سوف أذكره هو الدليل لأجل أن نقنع الغير، ولأجل أن نقوي وندعم عقيدتنا، وإلا أصل العقيدة ثابتة عندنا من دون أي خدشة.

القران الكريم

لا يمكنني أن أذكر جميع الآيات القرآنية الكريمة التي تدل على هذه الفكرة المباركة، ولكن سأذكرها هنا آية واحدة:

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).(1)

ما هو المقصود من هذه الآية؟ وما المقصود من أن الأرض يرثها عبادي الصالحون؟ هل قسم من الأرض أم كل الكرة الأرضية؟! إذا كان المقصود بعضاً من الأرض فهذا في كل زمان قد تحقق، فإن قسماً من

ص: 16


1- الأنبياء (21): 105.

الأرض كان يحكمها عباد صالحون، إذن مقصود الآية لابد أن يكون كل الأرض لا قسم من الأرض مضافاً إلى أن الألف واللام تكفي دلالة، وأهل العربية يعرفون ماذا أقول.

إذن المقصود كل الأرض، متى تحقق هذا؟ كل الأرض متى ورثها عباد الله الصالحون؟ هل تحقق؟ وحاشا لله من الكذب، ولا يمكن أن الله يبين قضية ولا تتحقق (ولقد كتبنا..).

فلابد أن تأتي فترة ويأتي زمن يتحقق فيه أن جميع الكرة الأرضية بنص الآية الكريمة وصريحها تكون للعباد الصالحين، ومتى يتحقق؟ ليس إلا على يد سيدنا ومولانا، اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه.

طبيعي الآيات الكريمة أكثر من هذا.

السنه النبوية:

أما بالنسبة إلى الحديث المتفق عليه الذي يدل على فكرة الإمام صلوات الله وسلامه عليه:

حديث الثقلين المتواتر لا بين الشيعة فقط: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي)

ص: 17

والشاهد ليس هنا، بل الشاهد في قوله: (إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(1) هذا سنداً لا يمكن لأحد أن يناقش فيه.

نأتي إلى الدلالة، كيف هذا الحديث يدل على فكرة الإمام عجل الله فرجه؟ (وإنهما لن يفترقا) يعني مادام الكتاب موجوداً فإن إلى جانبه أهل البيت عليهم السلام، يعني دائماً أهل البيت مع الكتاب موجودون، فهما مقترنان، الآن الكتاب موجود فأين أهل البيت إذن؟!

هل نتنكر لفكرة الإمام ولا نقول بغيبة الامام؟! إن هذا يعني أن النبي حاشاه يكون قد كذب، فإنه يقول: لن يفترقا أي أن الاثنين موجودان حتى يردا عليّ الحوض، يعني إذا قلنا: الإمام العسكري عليه السلام توفي من دون ولد، إذن افترق الكتاب الكريم عن أهل البيت، وفي ذلك تكذيب للرسول صلى الله عليه وآله.

الولادة:

البعض ماذا يقول؟! وهذه الشبهات قديمة وليست جديدة لكن البعض أخذ يلوك بها جديداً، يقولون: إن فكرة الإمام المهدي صحيحة ونسلم بها لكن من يقول الإمام الحسن العسكري تولد منه ولد باسم الإمام المهدي وأنه غائب وأنه موجود؟! فهذا ليس له مستند والروايات

ص: 18


1- سنن الترمذي: 5/ 339 الحديث 3876، المستدرك على الصحيحين: 3/109، مسند أحمد: 3/14.

التي تدل عليه روايات ضعيفة فلا داعي لأن تجلسوا هذه الليلة للاحتفال.

على رأي هذا يقول: لا يوجد إمام ولا توجد ولادة ولا توجد غيبة.

يعني يقول: أنا أسلم بفكرة المهدي لكن في آخر الزمان سوف يولد، كما يقول الاخوة من أهل السنة، أما قولكم بأن الإمام قد ولد في سنة 255 وقد غاب والآن هو معنا يساير الأجيال كلها فإنه يحتاج إلى أن تأتوا بدليل، والروايات ضعيفة السند.

هذه شبهة طرحت، ولابد أنكم سمعتم بها.

نقول: لها رد علمي:

حديث الثقلين ولا يمكن أن ننكره، فإن الحديث يقول: (وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وعلى هذا الحديث يتعين أن الإمام المهدي قد ولد وإلا إذا لم يكن قد ولد فالآن أهل البيت ليس لهم امتداد،وإذا كان ليس لهم امتداد إذن بقي الكتاب الكريم من دون أهل البيت، إذن افترقا قبل أن يردا على النبي صلى الله عليه وآله الحوض، وهذا مخالف لكلام النبي مخالفة صريحة.

هذا دليل قوي علمي سنداً تام مائة بالمئة، ومن ناحية الدلالة أيضاً واضح، كما بينا.

جيد، إذن فكرة الإمام وغيبة الإمام قضية مسلمة عندنا وليست قابلة لأي خدشة.

ص: 19

الغيبة

البعض يقول: تعالوا يا جماعة أنتم تقولون: يوجد إمام غائب، فما هي فائدة الغيبة هذه؟ إما أن يظهر ونستفيد منه، وإما أن يكون ليس موجوداً، أما أن يكون موجوداً وغائباً فهذا مثل الذي عنده مال أو كتاب وجعله في غرفة وأغلق باب الغرفة فما الفائدة منه؟! هذه الأموال وهذا الكتاب سوف يصبح وجودها لغواً وعبثاً، إذن هذه الفكرة _ فكرة الإمام وغيبة الإمام _ عبث، لأنه ما الفائدة من إمام غائب لا ينفع طبعاً هذه الشبهة قديمة، ولكن الآن أيضاً أخذت القنوات الفضائية والكتب تطرح أمثال ذلك.

نقول: هل أن كل حكم لا نقبله إلا أن نعرف الحكمة من ذلك الحكم؟ هذا تفسير خاطئ، إذن صلاة الصبح نتركها لأن ما هي الحكمة من كونها ركعتين وصلاة المغرب لماذا ثلاث ركعات؟! ما هي الحكمة في ذلك؟!

فإذا كان البناء على أن لا نقبل أي حكم إلا بعد معرفة الحكمة منه فإن كل هذه الأحكام سوف ترد، وسوف يلزم أن ننكر كثيراً من الأحكام،مثل أن نذهب إلى مكة ولابد أن نطوف بالبيت سبع مرات قبل السعي بين الصفا والمروة، فلماذا سبع مرات ولماذا البداية من الحجر الأسود والنهاية إليه.

ص: 20

المؤمن مادام يعرف أن الله حكيم وأنه لا يشرع ولا يعمل إلا على وفق الحكمة والمصلحة، فعليه بالخضوع التام لكل حكم وإن جهل حكمته، نعم التعرف على الحكمة جيد لكن إذا لم نعرف الحكمة هذا ليس معناه أن نضعّف أصل الفكرة فنقول: إذن فكرة غيبة الإمام هذه باطلة من الأساس لأن الحكمة نحن لا نعرفها.

المؤمن يؤمن بالغيب، بسم الله الرحمن الرحيم (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(1)النساء (4): 65.(2) هذه الصفة الأولى للمتقين، فالمؤمن لا يكون مؤمناً إلا إذا آمن بالغيب، والغيب يعني أن هناك قضايا الله أعرف بها ونحن نجهلها.

إذن ما دام الأدلة القطعية دلت على غيبة الإمام، كما أسلفنا في بيان الحديث: (لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)، وهذه دلالتها واضحة، فلا معنى لأن نسأل ونشكك في الحكم لأجل الجهل بالحكمة

الله عزوجل يخاطب النبي يقول له: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ)(2) يعني في قلوبهم لابد أن لا يكون هذا الشيء.. ويسلموا تسليماً، يعني كلما يقول النبي

ص: 21


1- البقرة
2- : 1 _ 3.

نطيع ونسلم تسليماً تاماً، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).(1)

تأثير الغيبة

كيف ينبغي لفكرة غيبة الإمام أن تترك أثرها على سلوكنا العملي؟! فالذين لا يؤمنون بهذه العقيدة كيف يكون سلوكهم؟ والذين يؤمنون بهذه العقيدة _ مثلنا نحن _ كيف تتأثرون بهذه الفكرة في مقام العمل؟!

نعم نحن نعتقد أن الإمام مطلع على أعمالنا ويشهد عليها عجل الله فرجه يوم القيامة

هل تعلمون أن كل إنسان منا له جملة من الشهود؟! إضافة إلى الله (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى)(2) يوجد شهود على كل إنسان، وأحد الشهود ملكان عن اليمين وعن اليسار (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ)(3)، فهذا ليس قصة، وإنما لأجل أن يقال للإنسان: اتق أيها الإنسان، (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(4)، والجوارح تشهد يوم القيامة.

ص: 22


1- الأحزاب (33): 56.
2- العلق (96): 14.
3- ق (50): 17.
4- ق (50): 18.

الآن العلم الحديث إلى أين وصل؟! يضبط كل الحركات، فالآن حركاتنا يمكن أن يضبطوها بالوسائل الحديثة لكن لم يتوصل العلم الحديث ولن يتوصل إلى أن يجعل نفس الإنسان وجوارحه تشهد عليه (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ)(1). إذن الجلد يشهدو العين تشهد..

صحيفة الأعمال ماذا نفعل بها؟! الآن إذا عندنا معاملة نخاف نتكلم بكلمة ويسجلوها علينا في صحيفة الأعمال، أما الحقيقة فلمَ نخاف منها؟ انظروا إلى قلة عقلنا _ أيها الاخوة _ إلى متى هذا الذهول (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(2).

والكتاب الكبير الذي يجمع جميع أعمال الخلائق من أول خلقة أبينا آدم عليه السلام وحتى نهاية البشرية، جميع الأعمال موجودة في كتاب واحد،

ص: 23


1- فصّلت (41): 19 _ 22.
2- الإسراء (17): 13 _ 14.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها).(1)

والأرض تشهد (وَأَخْرَجَتِ الأَْرْضُ أَثْقالَها وَقالَ الإنسان ما لَها يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها).(2)

وواحد من الشهود هو الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ)(3) فالرسول يشهد.

يقول الراوي: كنت عند الإمام الرضا عليه السلام فقال: مالكم تسوؤن رسول الله! يقول: تعجب أحد الجالسين أنه كيف يكون ذلك! فقال الإمام: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه فإذا كان فيها حسنة سرّه ذلك، وإذا رأى فيها سيئة ساءه ذلك، فسروا رسول الله ولا تؤذوه.(4)

شخص آخر _ وهو عبد الله الزيارات _ يقول للإمام الرضا عليه السلام: سيدي ادع لي ولأهل بيتي، يقول له: أو لم أفعل؟ إن أعمالكم لتعرض عليّ، فاستعظم الرجل ذلك، فقرأ عليه السلام قوله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).

ص: 24


1- الكهف (18): 49.
2- الزلزلة (99): 2 _ 4.
3- النحل (16): 89.
4- لاحظ: بصائر الدرجات للصفّار: 446 الحديث 17، الكافي: 1 / 219 الحديث 3.

في هذا الزمان من الذي يرى أعمالنا وتعرض عليه؟ إنّه سيدنا ومولانا.

أيها الاخوة تعالوا لنسر الإمام المهدي عجل الله فرجه، لنتب إلى الله عزوجل، ونسرّ الإمام ونطلب منه ونقول له: يا سيدنا ومولانا بحق أمك الزهراء عليها السلام ادع الله عزوجل لأن يوفقنا للطاعة ويبعدنا عن المعصية إنه سميع مجيب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 25

ص: 26

ضرورة معرفة الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه

اشارة

سماحة الشيخ باقر الإيرواني

ص: 27

ص: 28

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

السلام على الأخوة المؤمنين والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.

أهنئكم من جديد بهذه المناسبة الطيبة، وأسأله تعالى أن يعيدها علينا بأتم الخير والعافية.

مقدمة: الصلاة على النبي وآله:

قبل أن أتحدث عن محاضرتي خطرت في ذهني قصة أثارتها في ذهني هذه الصلوات التي أنتم تصلونها على محمد وآل محمد.

يوجد عندنا صديق في مدينة قم المقدسة، وهو صهر السيد الكلبايكاني نقل هذه القصة، يقول:

يوجد في مدينة همدان قبل ثلاثين سنة تقريباً رجل من الشخصيات العلمية والاجتماعية في مدينة همدان اسمه آخوند ملاّ علي الهمداني، معروف بالتقوى وبالعلم، هذا الشخص يقول: كان يدخل علي مجموعة من الناس لكن أحدهم لمّا يقترب مني أرى منه تفوح رائحة طيبة، رائحة عطر خاصة، يقول: أعجبتني رائحة العطر وفي يوم من الأيام سألته قلت

ص: 29

له: من أين لك هذه الرائحة حتى أشتريها؟ قال لي: هذه لها قصة أنا لا أنقلها لكن أنت عزيز علي، لكن أرجوك لا تحدث بها أحداً إلا بعد وفاتي، يقول: أنا أكثر من الصلاة على محمد وآل محمد، بحيث كان هذا جزء من عملي، فإذا ذهبت إلى حاجة أصلي عليهم صلوات، وكذا حينما أرجع وحينما أجلس أو أنام، بحيث صارت لي عادة في كل أفعالي وأعمالي، وفي يوم من الأيام في عالم المنام كأني برسول الله صلى الله عليه وآله جالس وأمامه مجموعة وأنا واحد منهم، فتوجّه النبي صلى الله عليه وآله إلينا جميعاً وقال: من أكثركم يصلي عليّ؟ يقول: سكتنا، لأني قلت في نفسي: من يقول أنا أكثر من غيري فسكت، أعاد صلوات الله وسلامه عليه السؤال ثانياً، سكتنا أيضاً، في المرة الثالثة كرر وتوجه إليّ وأشار إليّ قال: تعال، يقول أخذت أسير إليه إلى أن أردت أن أقترب منه لكنه هو أخذ صلى الله عليه وآله يقترب مني على الأرض إلى أن واجهني فقبلني في شفتي وقال: أنت أكثر من تصلي علي.

يقول: استيقظت من النوم وإذا تلك الرائحة من ذلك الوقت أشعر بها موجودة.

يقول: هذا العالم الجليل بعد ذلك أضر في آخر عمره _ صار ضريراً _ والناس عندما كانوا يدخلون عليه كان إلى جنبه شخص جالس يقول له: هذا فلان وهذا فلان، ولكن حينما يدخل ذلك الشخص يقول للجالس جنبه:

ص: 30

اسكت لا حاجة لأن تقول لي من هو، فأنا أعرفه وأشخصه من رائحته الطيبة.

فهنيئاً لكم وبارك الله بكم.

الاستدلال على وجود الإمام:

انتقل إلى حديثي السابق، والسؤال الأول الذي طرحناه في المحاضرة السابقة: ما هو الدليل من القرآن الكريم ومن السنة الشريفة المتفق عليها على فكرة الإمام صلوات الله وسلامه عليه، على وجود إمام ثاني عشر لنا غائب عن الأبصار؟

القرآن الكريم

من القرآن الكريم الآية الجديدة التي أذكرها الآن، وقد ذكرنا أن الآيات متعددة (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).(1)

النور ماذا يقصد به؟ هل يقصد به شيء غير الإسلام؟

ص: 31


1- الصف (61): 8.

المقصود من النور الإسلام، يعني يريدون ليطفئوا الإسلام وليخمدوا الإسلام وليذهبوا بالإسلام (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ)(1) إتمام النور ما المقصود منه؟

من الطبيعي أن المقصود لا على جزء من الكرة الأرضية, بل على جميع الكرة الأرضية وهل تحقق أيها الإخوة الأعزاء؟ الإسلام لحدّ الآن هل مرّ بفترة زمنية انتشر فيها على جميع الكرة؟ لا، لم يمر؟ فلا بد أن يأتي يوم بنص هذه الآية الكريمة الإسلام يكون عاماً على جميع الكرة، على جميع هذه البقاع، وليس ذلك اليوم إلا يوم مهديّنا المنتظر عجل الله فرجه.

البعض قد يشكل ويقول: المقصود من إتمام النور يعني بالحجج والبراهين الحقة على أحقية الإسلام بلحاظ بقية الأديان، فهؤلاء عندما رأوها تلائم فكرة الإمام عجل الله فرجه حاولوا أن يغيروا من مجراها ومعناها وحملوها على معنى البراهين الساطعة.

ماذا نجيبهم؟ نقول: ألم يكن من اليوم الأول الإسلام تام البراهين؟! هل كانت ناقصة حتى يأتي يوم تتم جميع هذه البراهين؟! طبيعي أن هذا احتمال باطل.

فليس المقصود من إتمام النور إتمام البراهين على أحقية الإسلام، فإن ذلك قد تحقق في بداية ظهور الإسلام, وليس المقصود إلا ما أشرت إليه.

ص: 32


1- التوبة (9): 32.

السنّة النبوية

أما الحديث الشريف المتفق عليه (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية).(1)

هذا الحديث متفق عليه بيننا وبين الاخوة أهل السنة وليس من مختصاتنا، بل أن هذه الأحاديث يرويها غيرنا أيضاً.

فلابد في كل زمان من إمام موجود، وإلا إذا كان الناس من دون إمام كانت الميتة ميتة جاهلية, فلا بد من وجود إمام في كل زمان، ولابد من معرفة ذلك الإمام، حتى لا تكون الميتة جاهلية، وهذا لا يتم إلا عن فكرة إمامنا الغائب عجل الله فرجه.

هذا حديث جيد متفق عليه بين جميع المسلمين.

الولادة:

وقد يأتي بعض ويقول: أنا أسلّم بفكرة الإمام، لكن لا أقول هذا الإمام هو مولود وقد غاب، وإنما اعتقد بأنه سيولد فيما بعد.

هذا أيضاً نرده ونقول: هذا الحديث يدل على وجود إمام مستمر، بمعنى أنّه لا يمكن لفترة زمنية أن تخلو من وجود الإمام.

وأنا حينما أثير هذا التشكيك فإنه قد سبق وأثير على القنوات الفضائية مدّعين أنهم لم يعثروا على دليل يدل على أنه يوجد إمام مولود

ص: 33


1- انظر: مسند أحمد: 4 / 96، الكافي: 1 / 376 باب من مات وليس له إمام...

وقد غاب، وهذا أحسن دليل يدل على أنه في كل زمان يوجد إمام، وهذا لا يتم إلا عن فكرة الإمام الغائب عجل الله فرجه.

الغيبة:

جيد، الآن قد تسألني السؤال الثاني عن الحكمة في غيبة الإمام، وما هي الحكمة في وجود إمام غائب لا نستفيد منه، فإن الإمام إما ظاهر حتى نستفيد منه أو معدوم من الأساس، أما أن يكون موجوداً وغائباً فهذا أشبه بوجود ثروة داخل غرفة وباب الغرفة مغلق، فأي فائدة من وجود هذه الثروة؟! هذا عبث, إذن وجود إمام غائب عبث.

الجواب: الشمس هل فيها فائدة؟ نعم كثير من الموجودات أو كل الموجودات لا يمكن أن تعيش من دون الشمس، هذه قضية مسلمة غير قابلة للنقاش، لكن إذا كانت تحت السحب والغيوم هل تفقد فائدتها آنذاك؟ لا، بل إن فائدتها موجودة، غاية الأمر السحب مانعة من رؤيتها وتبقى الفائدة من هذه الشمس بالرغم من كون السحاب مانعة من رؤيتها،(1) ولا يمكن لشخص أن ينكر فائدة الشمس آنذاك ليقول: هذه

ص: 34


1- روي عن جابر (قال: فقلت: يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال صلى الله عليه وآله: إي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجللها سحاب...) راجع: إكمال الدين وإتمام النعمة: 252 الحديث 3.

السحب حالت دون الشمس إذن لا يوجد فائدة في هذه الشمس, لا أحد يقبل هذا الكلام.

كذلك إمامنا، بالرغم من غيبته توجد فائدة كبرى فيه صلوات الله وسلامه عليه, فإن الأحاديث قد دلت والأحاديث كثيرة، وأحوّل أهل المعرفة إلى كتاب الكافي عن الجزء الأول, من دون وجود إمام، أي إذا خلت الأرض من وجود الإمام لساخت بأهلها.(1)

الله عز وجل جعل وجود الإمام حافظاً لهذه الكرة الأرضية، سأل السائل يوماً الإمام الصادق عليه السلام فقال له: سيدي هل تبقى الأرض بلا إمام؟ قال: إذن لساخت بأهلها.(2)

فكأنّ الإمام حافظ لهذه الكرة الأرضية من حصول أي زلزال مدمر لها بالكلية وأي ضرر وأي خسف فيها، وهذا المعنى يشير إليه نبينا صلى الله عليه وآله حينما يقول في الحديث المتفق على روايته، يقول صلى الله عليه وآله: (النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض).(3)

قد البعض يقول: أنا لا أتصور هذا المعنى، فما معنى أن الإمام حافظ وأمان لأهل الأرض!!

ص: 35


1- الكافي: 1: 78، باب (إن الأرض لا تخلو من حجة).
2- الكافي: 1 / 179 الحديث 10.
3- المستدرك على الصحيحين للحاكم: 2 / 448، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 174، إكمال الدين وإتمام النعمة: 205 الحديث 18 و19.

أقول: هذه الفكرة، وهذا الذي أشرت إليه له جذور قرآنية، اقرأ قوله تعالى: (وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ)،(1) السائل قال: إذا كانت ولاية أمير المؤمنين حقاً أنزل علي العذاب،(2) أجابت الآية الكريمة: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).(3)

إذن وجود النبي صلى الله عليه وآله حافظ للناس من نزول العذاب بنص الآية الكريمة، فدلّت الآية الكريمة على أن وجود النبي يمنع من نزول العذاب العام على البشرية.

إذا أمكن هذا في حق النبي صلى الله عليه وآله أمكن ذلك في حق أئمتنا صلوات الله وسلامه عليهم، فإنهم سبب للمنع من نزول البلاء.

الانتظار:

السؤال الآخر الذي أطرحه: كيف ينبغي لفكرة الإمام المهدي عجل الله فرجه أن تترك أثرها على سلوكنا؟

نحن عندنا في الأحاديث (أفضل العبادة انتظار الفرج)(4) لكن ما المقصود من انتظار الفرج؟

ص: 36


1- الأنفال (8): 32.
2- لاحظ: مجمع البيان للطبرسي: 10 / 119.
3- الأنفال (8): 33.
4- مجمع الزوائد للهيثمي: 10 / 147، كنز العمال للمتقي الهندي: 3 / 275 الحديث 6521، إكمال الدين وإتمام النعمة: 287 الحديث 6.

قد البعض يتصور أنه في قلبه ينتظر، هذا غير صحيح، فعندما يقولون: ننتظر فلاناً، أي شيء يقصد من ذلك؟ يعني نهيّء له، فالبيت مثلاً نرتبه والأشياء التي يحتاجها عند قدومه نهيئها وكل الأمور نهيئها لأجله، هذا هو معنى الانتظار.

كذلك إذن نحن، لا بد وأن نقوم بتهيئة الأجواء لإمامنا وسيدنا صلوات الله وسلامه عليه.

وأبين لكم بعض المصاديق لترتيب الآثار له والاهتمام به:

دفع الصدقة, البعض يدفع صدقة لأجل سلامته صلوات الله عليه من إصابة البلاء له، وهذا توفيق يحتاج إليه الإنسان، فإنّه ينبغي له قبل أن يدفع الصدقة عن نفسه وعن عياله يدفع الصدقة عن مولاه وسيده وحجته.

الشيء الثاني: الدعاء له، فقبل دعائك لنفسك حاول أن تدعو لمولاك وسيدك دائماً، فلعله يكون سبباً بأن يدعو لنا مولانا آنذاك.

وأحسن الدعاء له الدعاء الذي يكون قوي اللفظ وقوي المضمون، ما علمه الإمام الصادق عليه السلام، كما ورد في الكافي، الإمام عليه السلام علم بعض أصحابه قال: اقرأ بهذا الدعاء: اللّهم كن لوليك الحجة بن الحسن العسكري صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً

ص: 37

وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.(1)

ثم يدعو أن يحفظه الله عز وجل من الشبهات، فهذا الزمان تأتي فيه الشبهات يميناً وشمالاً.

وهذه الشبهات والتشكيكات قد حذرنا منها أئمتنا عليهم السلام، ففي يوم من الأيام يدخل زرارة على الإمام الصادق عليه السلام يحدثه الإمام يقول له: إن للغلام قبل أن يقوم غيبة _ يشير إلى الإمام الحجة _ وهو المنتظر الذي يشك فيه، منهم من يقول لم يولد ولم يخلف والده ولداً، قال زرارة: سيدي إذا أدركت ذلك الزمان بماذا أدعو؟

فيعلمه الإمام الدعاء المعروف: اللّهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللّهم عرفني رسولك فإن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللّهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني.(2)

أيها الاخوة أوصيكم بالتمسك بأهل البيت عليهم السلام وحب أهل البيت، أنا أقول لكم شيئاً والله شاهد على ما أقول: لو وضعوني في قبري وجاء الملكان يسألان: ماذا قدمت يا فلان؟ ما هو جوابي؟ هل أقول: أنا أدرّس مدة ثلاثين سنة وخرّجت مجموعة كبيرة من التلاميذ؟! لا أتمكن

ص: 38


1- الكافي: 4 / 162.
2- الكافي: 1 / 337 الحديث 5، كتاب الغيبة للطوسي: 334 الحديث 279.

أن أقول هذا الشيء، لأنه من قال أنه مقبول عند الله؟! لعله يردون ويقولون: لا يفيدك، هل أقول: أنا مؤلف مجموعة من الكتب والحوزة تستفيد منها؟! لا ينفع لعله هناك أهداف أخرى، ماذا أقول، هل أقول: صلاتي وصومي؟! لا أتمكن أن أقول، أريد شيئاً أقدمه ولا يردوني به...

أنا أحضرت هذا الجواب، أقول لهم: عندي شيئان لا تتمكنوا أن تردوني بهما أولهما جود الله، وحاشا لجوده أن لا يسعني، والشيء الثاني حبي لفاطمة الزهراء عليها السلام وأهل البيت عليهم السلام، هذا لا أشك فيه.

عليكم بحب أهل البيت، أنا أنقل لكم هذه القضية عن السيد الخوئي ينقلها هو:

كان في النجف شيخ لبناني باسم: الشيخ حسين اللبناني العاملي، كان رجلاً ثقة، السيد الخوئي يحدث عنه يقول:

أنا كنت أخرج إلى الأعراب، رئيس العشيرة الذي كنت أخرج إليهم كان سني المذهب، ذهبت إليه وجلست معه، قال لي: شيخ حسين ماذا عندك من حاجة، كل حاجة عندك أنا أقضيها لك. فقال له شيخ حسين: نحن عندنا شخص في النجف الأشرف، هذا رجل شجاع جداً اسمه سيد علي، وأخذ يحدثه عن قضية عمرو بن ود العامري كيف غلبه وعن مرحب في خيبر وعن غزوة بدر وهذا متعجب، وقال له فأي حاجة نريدها منه إلا ويقضيها، يعني أنا لست محتاجاً إليك.

ص: 39

على أي حال بقي عنده أيام، وعند الرجوع قال له رئيس العشيرة: هذه هدية رجاءً توصلها إلى سيد علي لأن حبه وقع في قلبي، فأخذ الهدية الشيخ حسين هندر وذهب، وبعد مدة من الزمن عاد إلى نفس المكان وسأل عن ذلك الرجل فقالوا له: لقد توفي من مدّة، قال أين قبره؟ فذهب إليه وجلس على قبره، وقال لأهل الميت وأولاده: اذهبوا أنتم واتركوني وحدي فذهب الأولاد والأهل وبقي الشيخ حسين وحده على القبر، وأخذ يتحدث ويقول له: يا فلان قل لي ماذا صنعوا بك في الليلة الأولى؟ علماً أن هذا الشيخ كان على جانب كبير جداً من التقوى والورع بحيث لا يستبعد أن يستجيب الله له ويجعل الميت يحدّثه أو يجاوبه وإذا بالصوت من القبر يتكلم معه ويقول: وضعوني وجاء الملكان يسألاني: من ربك؟ أجبت، من نبيك؟ أجبت، من إمامك؟ تلجلجت ولم أتمكن أن أجيب بشيء، لكن في الزاوية كان شخص واقفاً قال لهم: تلطفوا معه، فخففوا عليّ وتركوني وأمر لي كل يوم بمدرس يدرسني العقائد، وقال لي: يا شيخ حسين هندر إذا رجعت إلى أهلي قل لهم بأن يتبعوا طريقة سيد علي ولا يتركوها.

لاحظوا حب أمير المؤمنين عليه السلام ، هذا الحب القليل، فان هذا الشخص أحب أمير المؤمنين فخلصه من الملكين ومن نار جهنم، فكيف بنا وبكم الذين عجنّا بحب أمير المؤمنين عليه السلام فهنيئاً لكم، لا تتركوا

ص: 40

حب علي، فإن رأس المال الذي عندنا هو حب أهل البيت عليهم السلام.

لكن إلى جنب هذا الحب الله يطلب تقوى، فمع حب أهل البيت نعمل الأعمال التي أهل البيت يرضون عنا بها، فيفترض بنا أن نعمل كل ما يرضي أهل البيت ويسرّهم، وأن نبتعد عن كل ما يؤذيهم، فانّ الامتحان عسير، وخصوصاً بالنسبة لكم أيها الاخوة، فإن الأجواء مفتوحة هنا وكل المجالات متاحة، لكن لابد للإنسان أن يحافظ على نفسه.

قد تقولون كيف نستطيع أن نحافظ على أنفسنا وعوائلنا وأولادنا، فإن الإنسان مسؤول عن عائلته وأولاده كما هو مسؤول عن نفسه، فالله سبحانه وتعالى يقول (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)،(1) فكل منا مسؤول عن عائلته، فلا يتصوّر أحد أنه غير معاقب إذا خرجت زوجته أو ابنته _ مثلاً _ بدون حجاب فإن في ذلك عقوبتان: الأولى على غير الملتزم والأخرى على ربّ الأسرة المسؤول عنها.

وللجواب عن ذلك نقول بأنه توجد قضيتان مهمتان تساعدكم في هذا المجال:

ص: 41


1- التحريم (66): 6.

القضية الأولى: أن يكون التصميم منكم صادقاً، فتكونوا متقين، الله عز وجل يقول: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى),(1)الحشر (59): 18.(2) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ)(2) لاحظوا أولاً اتقوا الله، فالآية تريد أن تبين أن الذي ينبغي أن تقدمه هو التقوى للغد، والذي ينفعك هو التقوى.

لكن كيف أتقي مع هذه الأجواء حيث الشيطان والوسائل الموجودة؟! في يوم من الأيام يأتي شخص إلى الإمام الصادق عليه السلام قال له: سيدي على ماذا بنيت أمرك؟ قال له: على أربعة أشياء: علمت أن الله مطلع علي فاستحييت, وعلمت أن آخر أمري الموت فاستعددت، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فاجتهدت, وعلمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمئننت.(3)

إذن القضية الأولى التصميم منا.

القضية الثانية: الطلب من الله عزوجل، فإن نبي الله يوسف عليه السلام بعظمته عندما طلبت النسوة منه ما طلبن توجه إلى الله وقال: (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).(4)

أي إذا أنت لم تعنّي يا إلهي أنا أتوجه إليهنّ، والشيطان يغويني.

نبينا صلى الله عليه وآله في ليلة من الليالي _ وبعض الروايات تحدد بأنها ليلة النصف من شعبان _ افتقدته عائشة وكان في بيتها، افتقدته في نصف الليل، تصورت أنه ذهب إلى بعض بيوت أزواجه الأخريات، أخذت تفتش عنه وجدته في ساحة الدار ساجد وهو في سجوده يقول: ربّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.(5)

ص: 42


1- البقرة
2- : 197.
3- البحار للمجلسي: 75 / 228 الحديث 100.
4- يوسف (12): 33.
5- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: 839.

نبينا هكذا يطلب من الله فكيف نحن إذن؟!

كل يوم عندما تستيقظ حاول بعد التصميم الطلب من الله وقل فيما بينك وبين ربّك _ فإنّ الحديث بينك وبين ربّك له تأثير كبير جداً _ قل له: ربّ لا تكلني وأفراد عائلتي إلى أنفسنا طرفة عين أبداً.

اللهم نسألك أن لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً إنك سميع مجيب، وأن تحفظ إمام زماننا وتعجّل فرجه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 43

ص: 44

المهدوية ضرورة في الإسلام

اشارة

القسم الأوّل

سماحة الشيخ حسن الجواهري

ص: 45

ص: 46

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.

نبارك لكم في هذه الليلة ولادة منقذ البشرية جمعاء من الضلالة إلى الهدى ومن الكفر إلى الإسلام، وإلى جميع أفراد العالم هذه البشرى العطرة التي ولد فيها منجي البشرية جمعاء من الضلالة إلى الهدى.

الحجة والإمامة:

في كتاب الكافي عن زرارة قال: سمعت الإمام الصادق عليه السلام يقول: (إِنَّ لِلْغُلَامِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ _ بالأمر _، ويكون له الحكومة على الناس، إن للغلام غيبة قبل أن يقوم وتحصل له الولاية على الناس... إلى أن قال: يَا زُرَارَةُ وَهُوَ الْمُنْتَظَرُ وَهُوَ الَّذِي يُشَكُّ فِي وِلَادَتِهِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَاتَ أَبُوهُ بِلَا خَلَفٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَمْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ وَهُوَ الْمُنْتَظَرُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ الْمُبْطِلُونَ يَا زُرَارَةُ قَالَ

ص: 47

قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الزَّمَانَ أَيَّ شَيْ ءٍ أَعْمَلُ قَالَ يَا زُرَارَةُ إِذَا أَدْرَكْتَ هَذَا الزَّمَانَ فَادْعُ بِهَذَا الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي).(1)

الإمام الصادق لسان الله الناطق يقول: إن أدركت ذلك الزمان الذي يختلف فيه الناس فيكونون على ثلاثة طوائف طائفة تقول: مات أبوه بلا خلف، وبعض يقول: مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، وثالث يقول: مات أبوه وولده عمره سنتين عند ذلك يرتاب المبطلون فادعوا بهذا الدعاء.

هذا الدعاء يبين لنا أن معرفة الحجة على الخلق هي أهم مسائل البناء العقائدي، لأنها المقدمة الموصلة إلى الله، الأئمة يقولون: بنا عرف الله وبنا عبد الله(2)، لولاهم ما عرف الله.

المراد من الأئمة هو المعنى الذي يدخل فيه معهم الرسول، لأن النبي صلى الله عليه وآله رسول ونبي وإمام، لأنه نصب للناس خليفة وحاكماً، فالرسول هو إمام، حينما يقول الإمام: بنا عرف الله، أي بالأئمة والرسول، لأن الرسول حاكم بالإضافة إلى نبوته ورسالته.

ص: 48


1- الكافي للكليني، ج 1: 337، ح 5.
2- الكافي للكليني، ج1: 193، ح2.

إذن الارتباط بيننا وبين الله سبحانه هو الإمامة، التي هي أهم مسائل البناء العقائدي، لأنها الموصلة إلى الله تعالى، لا يريد الله أن يعبد إلا من هذا الطريق: بنا عرف الله، بنا عبد الله، لولانا ما عبد الله، لولانا ما عرف الله، فمعرفة الله معرفة حقيقية عن طريق الأئمة الذين يكون الرسول واحداً منهم بما أنه حاكم.

إذن الإمامة أصل المطلب، فإن الإمام يقول: اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني، والضلالة عن الدين الخروج عن الإسلام، وإلاّ فما معنى أن يكون الإنسان مسلماً ضالاً ويضل معه جماعة من الناس، هذا الأفضل له أن لا يكون مسلماً، فإن ضلالته تخرج معه جماعة من الناس، فهو ضال عن طريق الحق، ضال عن طريق الهدى.

فمن لم يعرف الحجة ضل عن الدين،لأن الإمامة أصل المطلب.

الإمام نور الله:

قال تعالى: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(1). هذا خطاب، فإن هذه الآية في إمامة عدد من بني إسرائيل، يقول: وجعلنا منهم أئمة.

هذه الإمامة هي مطلق الإمامة، أي الإمامة التي تكون في ناحية واحدة وفي زمان مخصوص، فإنّ مطلق الإمامة تحتاج إلى جعل.

ص: 49


1- سورة السجدة، الآية: 24.

وبهذه النظرية تنهدم قواعد غير الشيعة الإمامية الذين يقولون بأن الإمامة غير منصوبة من قبل الله، فهذه الآية في عدد من أئمة بني إسرائيل، الله يقول: وجعلنا منهم أئمة، فإن الإمامة ليست بانتخاب وليست بالادعاء، وجعلنا منهم أئمة، أي أن هؤلاء الذين كانوا مع الرسل جعلنا منهم أنبياء، وجعلنا منهم أئمة.

هذه الأطروحة التي للإمامة المطلقة، أي الإمامة التي تكون في زمان مخصوص وفي مكان مخصوص، هذه الإمامة الصغيرة تحتاج إلى جعل، إذن مطلق الإمامة هذا يحتاج إلى جعل.

فكيف بالإمامة المطلقة التي تكون بعد الرسول الخاتم؟! الإمامة المطلقة التي لا يحدها زمان ولا يحدها مكان!! إذا كانت مطلق الإمامة التي هي عبارة عن إمامة في زمن خاص لجماعة معدودين تحتاج إلى جعل (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) فكيف بمطلق الإمامة؟!

يوجد فرق بين مطلق الإمامة، وهي التي تكون لبعض أئمة بني إسرائيل، الإمامة في مكان خاص وزمان معين، وبين الإمامة المطلقة، وهي التي تكون بعد الرسول الخاتم أو الإمامة التي كانت للرسول الخاتم، وهي الإمامة التي لا يحدها زمان ولا يحدها مكان، فهي أولى أن تكون مجعولة من قبل الله وليست بالانتخاب وليست بالادعاء.

هذا الذي نريد أن نثبته، وهو أن الإمامة مجعولة ليست انتخابية وليست بالادعاء.

ص: 50

جيد، حينما نقرأ ونزور الإمام المهدي عليه السلام ، من جملة فقرات الزيارة هذه العبارة: نقول: (السلام عليك يا نور الله الذي لا يطفأ)(1) فحينما نأتي إلى القرآن نرى أن الله سبحانه وتعالى يقول (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(2)، ويقول عزوجل: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(3)، وآية أخرى تقول: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).(4)

أترى أن الزيارة التي جاءت من قبل الأئمة: (السلام عليك يا نور الله الذي لا يطفأ)، والآية القرآنية التي تقول: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ) أن هذا اتفاق؟! أو أن هذا إعجاز من القرآن؟!

فالإمام المهدي نور الله الذي لا يطفأ، وكل من لم يكن إمامياً مهدوياً هو يسعى لإطفاء ذلك النور، والقرآن يقول: (اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)، هذا ليس اتفاقاً، بل هذا إعجاز القرآن.

أنا أتكلم لك بالنصوص الدينية، لا أتكلم لك من تراث علمائنا، هذه نصوص دينية، فنحن ملتزمون بالقرآن والسنة، ولا أتكلم لك إلا قرآناً وسنة، فالزيارة تقول _ من قبل الإمام _: (السلام عليك يا نور الله الذي لا يطفأ) هذا النور إن مس قلوبنا ومس عقولنا لحظة واحدة لتغيرت حالنا إلى حالات الكمال وحالات الرقي.

(اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ)(5) ثم يعبر عن الإمام المهدي بأنه: (السلام عليك يا نور

ص: 51


1- المزار لابن المشهدي، ج2: 203.
2- سورة المصف، الآية:8.
3- سورة التوبة، الآية: 33.
4- سورة التوبة، الآية: 32.
5- سورة النور، الآية: 35.

الله الذي لا يطفأ) ويقول: كل من لم يكن مهدوياً معتقداً بالمهدي هو يريد أن يطفئ ذلك النور الذي الله متم له، ونرجو أن يمس قلبنا بعض هذا النور ويمس عقلنا بعض هذا النور.

على كل حال ليس ما ندعيه نحن من عقائدنا مستنداً إلى غير القرآن والسنة، نحن نعتقد بأن الأئمة بعد رسول الله اثنا عشر كلهم من قريش، أولهم الإمام علي وآخرهم المهدي الحجة بن الحسن عليه السلام ، هذه عقيدتنا وعليها الأدلة الروائية التي هي سنة من رسول الله صلى الله عليه وآله(1).

وهذا الذي نقوله لا يخرج عن كونه إخباراً من رسول الله لنا بهذه الحقيقة التي لابد أن نعترف بها.

هذه عقيدة، والعقيدة لا يقلد فيها الآباء ولا يقلد فيها المراجع، إنما يجب أن يصل إليها الإنسان باطمئنان وبعلم. هذه عقيدة كلنا مسؤولون عنها، هذه هي العقيدة.

إشكالات على الاعتقاد بالمهدي:

ص: 52


1- راجع صحيح البخاري، ج8: 127، صحيح مسلم، ج3: 3، مسند أبي داود الطيالسي: 105، 180، ح 767 و1278، مسند أحمد، ج5: 90، كمال الدين للصدوق: 256، ح1 _ 37.

الإشكال الأوّل:

أشكل علينا أن الإمام الغائب الاعتقاد به خرافة، هذا الإشكال الأول.

الإشكال الثاني:

أن الاعتقاد بالإمام الغائب ليس خرافة ولكن ليس عليه دليل.

* * *

نحن في هذا الحفل الكريم نرد على هاتين الشبهتين، ونعطي دليلاً قطعياً برهانياً يوجب الاطمئنان بما نقول، وبذلك سوف تكون عقيدتنا بالإمام المهدي مستندة إلى الدليل القاطع ولسنا نقلد فيها أحداً.

والجواب على هذين الإشكالين نبينه في نقطتين هما:

الأولى: الإسلام والمهدوية:

إن فكرة المهدوية في الدين الإسلامي فكرة ضرورية، اعترفت بها جميع الفرق الإسلامية، فكرة المهدوية فكرة إسلامية نابعة من صميم الدين الإسلامي، أقرت بها جميع الفرق الإسلامية ومنهم الإمامية الذين اعتقدوا بنظرية الإمامة..

ستة آلاف رواية يذكرها الشيخ نصر الله الصافي في كتابه منتخب الأثر تدل على أن المهدوية من صميم الدين الإسلامي، وأنه يظهر في آخر الزمان المهدي الذي اسمه محمد، يوافق اسم النبي صلى الله عليه وآله يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

ص: 53

هذه العقيدة المهدوية عقيدة إسلامية أقرت بها جميع الفرق، ولذلك ترى من هو متعصب وضد الإمامية مثل ابن تيمية يقول: إن الأحاديث التي يُحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داوود والترمذي وأحمد وغيرهم، من حديث ابن مسعود وغيره، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل مني يواطي اسمه اسمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).(1)

وفي رواية سلمان: (قال سلمان: من أي ولدك يا رسول الله؟ قال: من ولد ولدي هذا، وضرب على كتف الحسين عليه السلام).(2)

وقد ورد أيضاً في حديث أبي بكر الإسكافي قال: (من كذب بالدجال فقد كفر، ومن كذب بالمهدي فقد كفر).(3)

إذن هذه العقيدة _ عقيدة المهدوية _ فيها ستة آلاف رواية..

وقلّما تجد في موضوع واحد هذا العدد الهائل من الروايات.

هذا ديننا، فإن ديننا نستمده من القرآن ومن السنة، ففكرة المهدي فيها ستة آلاف رواية كل رواية تختلف عن الأخرى، يعني هذه رواها ألف

ص: 54


1- منهاج السنة لابن تيمية، ج4: 95.
2- عقد الدرر للشافعي السلمي: 24، باب 1، فرائد السمطين للجويني الحموي، ج2: 325، باب 61، ح575.
3- فوائد الأخبار لأبي بكر الإسكافي على ما في عقد الدرر: 157 باب 7، ومقدمة ابن خلدون: 347، ف 53، والفتاوى الحديثية لابن حجر: 27.

والثانية رواها باء من الناس والثالثة رواها جيم والرابعة رواها دال، وهكذا..

معنى ذلك أنه ليس هناك رواية واحدة يرويها عدد من الناس فتحتسب بعدد الراوين، وإنّما كل رواية منها تختلف عن الأخريات، ومجموع هذه الروايات المتفاوته ستة آلاف رواية في فكرة المهدوية، منها هذه الروايات التي ذكرها ابن تيمية وقال عنها الإسكافي: من كذب بالمهدي فقد كفر.

إذن نحن حينما نقول بالمهدوية ونطبق هذه الفكرة على رجل قد ولد في زمان معين وبقي حياً إلى الآن، هذه لا يمكن أن نرمى فيها بتلك الفرية التي يقول عنها صاحبها: إنها خرافة، ففكرة المهدي فكرة إسلامية لا يجوز لأحد أن ينبزها بصفة الخرافة.

الثانية: عدد الأئمة:

إن هناك روايات روتها الموسوعات الروائية الشيعية والسنية تذكر أن عدد الأئمة بعد رسول الله اثنا عشر خليفة، اثنا عشر إماماً، وتقوم بعدهم القيامة، وكلهم من قريش، لا زال الدين قائماً حتى يقوم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، ثم يكون بعد ذلك الهرج والمرج، أي يوم القيامة.

هذه الروايات مروية في صحاح أهل السنة، منها صحيح مسلم(1)، ومنها صحيح البخاري(2)، ومنها الصحاح البقية الستة(3)، ومروية أيضاً في

ص: 55


1- صحيح البخاري، ج 8: 127.
2- صحيح مسلم، ج 6: 3.
3- سنن أبي داود، ج2: 309، ح 4279 _ 4281، سنن الترمذي، ج3: 340، ح2323.

موسوعاتنا الفقهية(1) أن عدد الأئمة اثنا عشر حتى تقوم القيامة، فإذا مات الثاني عشر قامت القيامة وحدث الهرج والمرج.

من هذه الروايات ما رواه مسلم: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)(2) في صحيح مسلم.

وأما في صحيح البخاري: عن جابر بن سمرة قال: (سمعت النبي يقول: يكون اثنا عشر أميراً ثم سمرة يقول: فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: كلهم من قريش).(3)

نظرية الإمامية:

أثبتنا أن فكرة المهدوية فكرة إسلامية لا يجوز لأحد أن يصفها بالخرافة، والأئمة اثنا عشر بنص الأحاديث الواردة في المجموعات الحديثية سنة وشيعة، أي أن الإمامة فكرة إسلامية والنبي قال: إن الأئمة اثنا عشر حتى تقوم الساعة فإذا مات الثاني عشر قامت القيامة.

ص: 56


1- لاحظ للكليني، ج 1: 525 باب (ما جاء في الاثنى عشر والنص عليهم (عليهم السلام) ح 1 _ 20.
2- صحيح مسلم، ج6: 3.
3- صحيح البخاري، ج8: 127.

فسّر هاتين الحقيقتين الإسلاميتين اللتين ورد فيهما مائتان وسبعون رواية تذكر أن الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش.. هل توجد في هذا العالم نظرية تقول بأن الأئمة بعد رسول الله اثنا عشر غير نظرية الإمامية؟!

السنة أصبحوا في هرج ومرج في تفسير هذه الروايات التي هي موجودة في كتبهم، وكلما أرادوا أن يوجهوها ضحك واحد منهم على الآخر، وقالوا: رحم الله من قال في السيوطي إنه حاطب ليل مرة يأتي بالأمويين ثم يأتي بالعباسيين(1)، وكلما أرادوا أن يفسروا هذه الأحاديث الواردة في كتبهم لم يتمكنوا، فقط بعضهم صرح وقال: هذه الروايات لا يمكن أن تفسر وليس لها وجه صحيح إلا على ما تقوله النظرية الإمامية.

إذن قضيتان بديهيتان أخذناهما من السنة النبوية _ ليس من تراثنا نحن _ ستة آلاف رواية تقول: المهدوية ضرورة إسلامية قال بها النبي، بشّر بها النبي، اعترف بها الكل، من كذب بها فقد كفر، ومائتان وسبعون رواية تقول: إنهم اثنا عشر وكلهم من قريش.

هذه الروايات ليست كما يقول البعض أنها اخترعها الشيعة وكذب بها الشيعة لأنهم وقعوا في مأزق فإن الإمام الحسن العسكري مات وعمره ثمان وعشرون سنة ولم يوص ولم يكن له ولد فاخترع الشيعة الإمامية هذه

ص: 57


1- راجع أضواء على السنة المحمدية لمحمود أبورية: 235.

الروايات فإنّ عندهم أن الإمام لا يموت إلا أن يوصي إلى ولده، والحسن العسكري ما عنده ولد، فالشيعة اختلقوا هذه المقالة.

هذا إرهاب فكري، فإن الإرهاب قسمان: إرهاب عملي وإرهاب فكري.

هذه الروايات التي أنقلها موجودة في صحيح البخاري، وقد مات البخاري سنة 256 والإمام الحسن العسكري عليه السلام مات سنة 260 ه-، يعني أن البخاري كتب هذه الروايات في كتبه ثم مات قبل أن يموت الإمام الحسن العسكري ويقع الشيعة في مأزق _ كما يقولون _ ثم البخاري كتب كتابه في ستة عشر سنة، فهذه الروايات الموجودة في كتاب البخاري كتبها قبل موت الإمام الحسن العسكري عليه السلام بأكثر من عشرين سنة على الأقل.

إذن ثبت أن هذه الروايات موجودة في هذا الكتاب قبل أن يموت الإمام الحسن العسكري، فكيف يقع الشيعة في مأزق ويخترعون الروايات؟! إذ الروايات التي يخترعها الشيعة ينبغي أن تكون في مؤلفات متأخرة عن موت الحسن العسكري، بينما هذه الروايات موجودة في صحيح البخاري قبل أن يموت الإمام الحسن العسكري ويستشهد.. إذن هي صادرة من رسول الله صلى الله عليه وآله.

وأي مأزق للشيعة إذا مات الحسن العسكري وليس له ولد فليقولوا بأن الإمام هو أخوه، كما أن الإمام الحسن إمام والحسين إمام، فإذا

ص: 58

أرادوا أن يكذبوا ويخرجوا من المأزق يقولون: أخوه هو الإمام، لماذا لم يقولوا أخوه هو الإمام وقالوا: إن الإمام ولده وقد غاب؟! أي مأزق؟!

هذا كذب، هذا افتراء، هذا إرهاب.. روايات موجودة في موسوعات مؤلّفة قبل أن يموت الإمام الحسن العسكري، قطعاً هذه ليست من موضوعات الشيعة.

ونربأ بالشيعة وعلمائها ورواتها أن يضعوا أحاديث، وهم العدول التقاة الأطهار، فلا يمكن أن يضعوا هذا الوضع في أحاديث الرسول أو في أحاديث الأئمة.

إذن هاتان حقيقتان نعتقد بهما، وهما أن المهدوية قضية إسلامية وأنهم اثنا عشر، هذا من روايات القوم، كتبت قبل موت الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، فليس من موضوعات الشيعة قطعاً.

فالنتيجة أنه لا يوجد تفسير لهذه الروايات إلا ما يقوله الشيعة الإمامية، فنظريتهم مستندة إلى هاتين الحقيقتين، والنتيجة واضحة.

اعترافات غير الشيعة:

الآن جملة من أهل السنة عندهم إنصاف ذكروا واعترفوا بأن المهدي هو الحجة بن الحسن العسكري الغائب:

ص: 59

منهم: محي الدين ابن العربي في الفتوحات المكية في الطبعة الأولى، ذكر أن الذي بشر به النبي هو الحجة بن الحسن العسكري(1). ولكن في الطبعة الثانية في مصر حذفت هذه، ولكن نسوا أن علماء السنة نقلوا عن الفتوحات المكية هذه المقالة في كتبهم وموجودة في الطبعة الأولى وحذفت في الطبعة الثانية، وهذه خيانة كبرى بأن يحذف رأي عالم في طبعات متأخرة.

ومنهم: الشعراني في اليواقيت والجواهر(2).

ومنهم: الحمزاوي في مشارق الأنوار(3).

ومنهم: الصبان في كتاب إسعاف الراغبين(4).

ومنهم: سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص(5).

ومنهم: ابن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة(6).

ومنهم: محمد البخاري الحنفي في كتابه فصل الخطاب(7).

ص: 60


1- راجع الفتوحات المكية لابن العربي، الباب 366، الطبعة الأولى، (ط بولاق _ مصر).
2- اليواقيت والجواهر للشعراني: 143، (ط: احمد حنفي بمصر).
3- مشارق الأنوار في فوز أهل الاعتبار للحمزاوي: 153 (ط مصر) نقلاً عن اليواقيت للشعراني.
4- راجع إسعاف الراغبين لابن الصبان: 145، روى أن المهدي حق وأنه من ولد فاطمة...
5- تذكرة الخواص لابن الجوزي: 204 (ط. طهران).
6- الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 274، عن ابن الخشاب في كتابه مواليد أهل البيت: 44.
7- فصل الخطاب على ما في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، ج3: 171.

هؤلاء اعترفوا بأن الذي بشر به النبي هو الحجة بن الحسن العسكري.

طبعاً أنا أتكلم في كلام القوم وفي رواياتهم، معرضاً عن الروايات الموجودة في كتبنا، وهي أيضاً من الدين، ولكن إذا أردنا أن نتيقن بالعقيدة، وإن كانت رواياتنا كافية لليقين بهذه العقيدة، ولكن روايات القوم التي فيها ما يحصل به اليقين منهم إذا أضفناه إلى، ما يحصل به اليقين منا فقد اطمئننا بصحة عقيدتنا هذه وهو العلم بصدورها من النبي وأنه شخص معين، فإن بعض أبناء العامة ذكروا أسماء الأئمة الاثنا عشر _ ليس علماؤنا _ ذكروا أسماءهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله.

في ينابيع المودة للقندوزي روايات:

منها: ما رواه عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لما أنزل الله على نبيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)(1) قال: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ قال صلى الله عليه وآله: هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي، أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن والحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة الباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه عني السلام،

ص: 61


1- سورة النساء، الآية: 59.

ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي، ثم سمييّ وكنييّ حجة الله في أرضه وبقيته على عباده ابن الحسن بن علي، ذلك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذلك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان. قال جابر: قلت: يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع في غيبته؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي بعثني بالنبوة، إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جللها سحاب.(1)

هذا موجود في ينابيع المودة ذكر الأئمة بأسمائهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله.

إذن هذه العقيدة التي نحن عليها حصلنا على يقين بها من الموسوعات الروائية التي هي نصف الدين، فإن الدين قرآن وسنة، وهذا سنة رسول الله، فقد أخبر بالمهدي وأخبر أن عدد الأئمة اثنا عشر، وقد ذكرهم الرسول بأسمائهم، ونقل هذا الأمر في كتب أبناء العامّة، وذكروهم واعترفوا بهم.

فما حجة من يقول بأنها خرافة، أو أنها لا دليل عليها؟!

ص: 62


1- ينابيع المودّة للقندوزي، ج3: 398.

فهذا الدليل من السنة النبوية والدليل من السنة النبوية تنتهي به كل الإشكالات.

ستة آلاف رواية في المهدوية أو أكثر، ومائتان وسبعون رواية في أن عددهم اثنا عشر، وليس له تفسير إلا ما قاله الإمامية رضوان الله عليهم.

والحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين

ص: 63

ص: 64

المهدوية ضرورة في الإسلام

اشارة

القسم الثاني

سماحة الشيخ حسن الجواهري

ص: 65

ص: 66

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.

السلام عليكم أيها الحفل الكريم ورحمة الله وبركاته...

نبارك لكم في هذه الليلة ولادة منقذ البشرية من الضلالة إلى الهدى، هذه البشرية التعباء التي جربت القوانين الوضعية شرقية وغربية، ووجدت فيها ما يندي الجبين خزياً وعاراً، تلك القوانين الوضعية الشرقية الظالمة للإنسان والقوانين الغربية الوضعية التي لا تحترم الإنسان وتعتدي على الإنسان باسم الإنسانية وباسم حقوق الإنسان، كما تشاهدون أخبار العالم في كل يوم.

هذا المنقذ الذي على يديه تتحطم هذه النظم بأجمعها ويسود الإسلام والسلام في هذا العالم، بعد أن تتعب هذه المسيرة من النظم التي اتبعتها ولم تحصل على فائدة سوى الاعتداء على الإنسانية وعلى حقوق الإنسان.

الرواية التي قرأناها _ في المحاضرة الأولى _ أن الامام الصادق يقول لزرارة: يا زرارة لابد للفتى من غيبة قبل أن يقوم _ أي قبل أن يحكم

ص: 67

ويسود ويسيطر على هذا العالم _ لابد للفتى من غيبة، فالفتى هو المنتظر الذي يختلف الناس فيه، فبعض من يقول: مات أبوه ولم يكن له ولد ولم يكن له وصي، وبعض يقول: مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، وبعض يقول: مات أبوه وله سنتان، أي لم يوص إليه بالخلافة والإمامة كما يدعيه الشيعة، قال زرارة للإمام: إذا بقيت إلى ذلك الزمان الذي يمتحن فيه الشيعة فماذا أفعل؟ قال له: ادع بهذا الدعاء: اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني نبيك فإنك إن لم تعرفني نبيك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني.

ومعنى هذا أن الأشياء المهمة في هذا العصر هو معرفة الحجة الذي هو رابطة بيننا وبين الله، الواسطة بيننا وبين الله.

العقيدة من القرآن والسنة:

أنا حديثي يتركز على العقيدة الإيمانية بالإمامة، وأن الأئمة بعد رسول الله اثنا عشر، كلهم من قريش يبقون مادامت الدنيا هذه باقية، وبعد انتهائهم يحصل الهرج والمرج وتحصل القيامة.

هذه العقيدة التي يجب على كل إنسان أن يكون غير مقلد فيها غيره، لا يقلد مرجعاً ولا يقلد أباه ولا يقلد الآخرين، ينبغي أن يصل إليها عن علم واعتقاد واطمئنان. هدفي هذا.

ص: 68

وقد تعرضت إلى أن فكرة المهدوية فكرة إسلامية لا يمكن لإنسان أن ينكرها أو يقول عنها أنها خرافة، فإنّ ستة آلاف رواية تذكرها المجاميع الحديثية الشيعية والسنية، ستة آلاف رواية تؤكد أن في آخر الزمان لابد من وجود مصلح ينقذ الناس من الضلالة إلى الهدى ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

فكرة المهدوية فكرة ضرورية، من كذب بالمهدي فقد كفر، هذه فتوى تصدر من جميع علماء المسلمين لا يخالف فيها أحد. هذا انتهينا منه.

والفكرة الثانية التي أيضاً انتهينا منها هي الروايات الكثيرة التي تبلغ مائتين وسبعين رواية تقول أن الأئمة بعد رسول الله اثنا عشر لا زالوا قائمين مادامت الدنيا باقية، هذه روايات في كتب المسلمين شيعة وسنة، وحتى في كتب الصحاح الستة، وحتى في كتاب البخاري الذي ألف قبل موت الحسن العسكري عليه السلام ، بل مات صاحبه قبل موت الإمام الحسن العسكري عليه السلام في سنة 256.

فالفكرة الأولى المهدوية، والفكرة الثانية أن الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش.

توجد نكتة، وهي أن الفقهاء والرواة يذكرون هذه الروايات البالغ عددها 270 رواية، ولكن الكتاب الآخرين الذين يدعون أنهم كتاب إسلاميون لا يذكرون هذه الروايات إلى الناس، فهذه الروايات رغم كونها موجودة في كتب الرواة وموجودة عند الفقهاء ولكن غيرهم لا يذكرها

ص: 69

للناس، لأن في ذكرها للناس مع الفكرة الأولى نخرج بنتيجة أن هذه الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله _ وهي كثيرة _ تؤدي إلى النتيجة التي يقولها الإمامية من أن الأئمة بعد رسول الله إلى يوم القيامة اثنا عشر.

في هذا اليوم توجد شبه حول هذه الفكرة، وهي فكرة استقيناها من القرآن والسنة، فنحن عندنا مصدران للتشريع، المصدر الأول: القرآن، والمصدر الثاني: السنة النبوية، فما يصل إلينا من القرآن ينتهي الكلام فيه وينتهي الإشكال وتن-تهي الأسئلة، وما يصل إلينا من السنة أيضاً ينتهي الكلام فيه، فلا اعتراض على السنة النبوية لأنها مصدر تشريع.

الشيء الذي وصل إلينا لا يشوبه خلل وليس فيه نقص وليس فيه خطأ متناً وسنداً وهو القرآن، والمصدر الثاني السنة النبوية، والسنة النبوية نعني بها الآن ما وصل إلينا عن طريق التواتر عن رسول الله، والتواتر يعني اثنا عشر راوياً _ مثلاً _ أو أربعة عشر راوياً..كل ينقل الحادثة إلينا، وهؤلاء الرواة ليس بينهم رابطة حزبية أو رابطة بلد أو رابطة عشيرة أو رابطة من الروابط، ليس بينهم أي رابطة، فيمتنع تواطؤهم على الكذب.

فما بالك بمئتين وسبعين رواية تقول أن الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش لا يزالون قائمين حتى تقوم الساعة؟! هذا أكثر من التواتر، ولذلك أطلقنا عليه سنة نبوية.

ص: 70

شبهات وأجوبة:

هنا شبه حول هذه الفكرة، فقد يتردد بعض الناس في قبول هذه العقيدة ولا يحصل له اطمئنان، وهي شبهات قد يقبلها الإنسان.

وأنا ألقي هذه الشبه لأن المنصف لابد من أن يذكر الشبه ويرد عليها رداً علمياً.

الشبهة الأولى: صغر السن

هناك شبهة يقولون بها ويستشكلون بها علينا: أنتم تقولون أيها الشيعة بأنّ إمامكم عمره ست أو سبع سنين ومات أبوه، إذن هو في مرحلة الحضانة، وماله عند من يحفظه، يعني عند الأولياء، إذن من يكون في مرحلة الحضانة ويكون ماله عند من يحفظه، أي أنه محجور عليه ولا يجوز له التصرف حتّى بأمواله، فكيف يكون هو إماماً ومعصوماً؟! هذه شبهة.

الجواب:

طبعاً الجواب مرة يكون واضحاً وبسيطاً ومرة يكون جواباً شرعياً من القرآن.

الجواب الواضح: من الذي جعل الطفل في سن ما قبل البلوغ محجوراً من التصرف في ماله؟ إنّه الله، نعم الله، هذه قاعدة شرعية، فإن الله شرّع أن الطفل في ما قبل البلوغ محجور عليه من التصرف.

ص: 71

جيد، هذه القاعدة قابلة للتقييد، إلا من ثبت أنه إمام ومعصوم، أو إلا من ثبت رشده فإنه ليس محجوراً.

إذا كانت القاعدة شرعية _ من الشرع _ إذن يقيدها الشرع، وما أكثر القواعد الشرعية التي تقيد، فلنقل: إن كل طفل قبل أن يبلغ الحلم يكون محجوراً عليه من التصرف ولكن دل الدليل على أن هذا الطفل المعين الذي له ست أو سبع سنين ليس محجوراً من التصرف حتى بالأدلة التي ذكرناها سابقاً، هذا الرد البسيط.

كما أن هناك رد آخر شرعي، وهو: إذا كان الله قد جعل الصبي إماماً هل نعترض على الله، نقول له: هذا صبي في حضانة أمه وماله محفوظ عند غيره فكيف تجعله يا رب إماماً؟

والله فعل هذا الشيء بالنسبة إلى يحيى، قال في القرآن الكريم (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)(1)، الحكم يعني الإمامة، وهل أكثر صراحة من هذه، فهل نقول: يا ربنا هذا في حضانة أمه وهذا محجور عليه من التصرف في أمواله كيف تجعله حاكماً؟! هذا لا يكون لأنه قرآن لا اعتراض عليه، إذن جعل القرآن الصبي حاكماً.

فإذا القرآن جعل الصبي حاكماً فالسنة النبوية أيضاً جعلت هذا الصبي الذي نتكلم عنه حاكماً، فما المانع؟ فإنّ القرآن مصدر تشريع،

ص: 72


1- مريم (19): 12.

والسنة مصدر تشريع، فإذا قبلنا القرآن الذي يقول (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، هنا أيضاً نقبل ما جاء من السنة المتواترة أن هذا في سن السابعة أصبح إماماً. هذا أولاً.

وثانياً: الله سبحانه وتعالى جعل عيسى نبياً وهو في المهد، وليس بعمر ست سنين أو سبع بل في المهد: بسم الله الرحمن الرحيم (فأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا * يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).(1)

أي أن الله قادر على أن يجعل هذا الصبي الذي في المهد يتكلم، وجعله معصوماً وجعله نبياً، فلا نستطيع أن نقول: هذا في حضانة أمه وماله محجور عند من يحفظه كيف يكون معصوماً وكيف يكون نبياً! هذا نص قرآني إذا قبلناه فنقبل ذاك، لأنه سنة نبوية متواترة.

ص: 73


1- مريم (19): 27 _ 35.

إذن هذا الإشكال يزول من أساسه لو كنا نحن نعتقد بالقرآن ونلتزم بالقرآن، أما أن نقول شيئاً في القرآن ونترك شيئاً قاله القرآن وقالته السنة فهذا أمر غير صحيح، فإذا قبلنا أن الصبي يكون حاكماً كما في يحيى، والوليد الذي في المهد يكون نبياً كما في تصريح هذه الآية، لماذا تستبعدون هذا الشيء؟!

والاستبعاد لا يجعل هذا الشيء الذي وردت فيه السنة النبوية غير متحقق، نحن نستبعد أن طفلاً في المهد يتكلم لكن هذا قرآن ولا يحق لنا أن ننكر القرآن أو ننكر السنة النبوية بسبب أننا نستبعد.

ماذا تقول في هذه الآية حينما جعل موسى وأصحابه يسيرون في البحر بين جانبين من ماء، حينما لحقهم فرعون وأصحابه ووصلوا إلى البحر ومن ورائهم هؤلاء (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ)(1) وإذا البحر أصبح له جانبان فن-زل فيه موسى وأصحابه حتى عبروا إلى تلك الناحية (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(2) هذه حقيقة قرآنية لكن نحن نستبعدها.

استبعادنا لا ينفي الحقائق القرآنية التي جاء بها القرآن، بل لابد من التصديق بها، فسليمان تكلم مع الطير ومع الجن ومع النمل، ونحن نستبعد هذه، لكن هذا قرآن لابدّ من التصديق به.

ص: 74


1- الشعراء (26): 63.
2- طه (20): 77.

الذي له علم من الكتاب حينما قال سليمان عليه السلام: من يأتيني بعرش بلقيس قبل أن أقوم قال له (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك)(1) فالذي له علم من الكتاب يأتي بعرش بلقيس من اليمن بأقل من طرفة عين، هذا أيضاً نحن نستبعده لكنه قرآن.

أصحاب الكهف الذين ماتوا 309 سنين ثم أحيوا، هذا نستبعده لكنه موجود في القرآن.(2)

يعني نحن كلما يستبعده عقلنا نتركه وإن كان حقيقة قرآنية وسنة نبوية؟! هذا من الخطأ الفظيع، والذي يكون عبارة عن إخضاع الحقائق القرآنية إلى عقلنا، فما قبله العقل نقبله وما تركه العقل نتركه، وبذلك يحذف النص القرآني، ولا يقول بهذا أحد من المسلمين.

إذن الحقيقة التي توصلنا إليها أن الأئمة بعد رسول الله اثنا عشر كلهم من قريش، مازالت هذه الأرض قائمة والدنيا قائمة، حقيقة نبوية عليها الأدلة النبوية والسنة النبوية والاستبعاد فيها لا معنى له.

فلا معنى لقول أن هذا طفل في حضانة أمه ماله محفوظ عند من يحفظه فكيف يجعله إماماً (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(3)، والنبي (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى).(4)

ص: 75


1- النمل (27): 40.
2- لاحظ الكهف (18): 25.
3- يس (36): 82.
4- النجم (53): 3 و4.

إذا انتهى هذا الشيء وحصلنا على دليل من القرآن والسنة ينتهي كل شيء، وأي اعتراض يكون اعتراضاً سخيفاً ومردوداً في مقابل مصدري التشريع في الإسلام.

إذن هذا الإشكال الذي يذكرونه ليس بوارد.

الشبهة الثانية: الولادة:

بالنسبة إلى ولادة الإمام عليه السلام قد ثبتت من الطرق العادية.

كيف نثبت أن الإمام ولد! نقول بأنّه يعرف ولادته أهله وأمه وأبوه وعمته وخالته، لكن كيف نثبت ذلك؟! أنت _ أيها المنكر للولادة _ كيف تثبت أنه لم يولد؟! أنتم لستم من أهل هذا البيت الذي ولد فيه الإمام عليه السلام!

أهل البيت يقولون: ولد لنا غلام في هذه الساعة، هكذا كانت المراسم، هكذا عمته وخالته وأبوه وأمه.

ولد كالطرق العادية التي يولد فيها الإنسان، غاية الأمر يوجد شيء هنا، وهو أن ولادة الإمام الحجة اقترنت بتكتم.

سبب هذا التكتم كما تعلمون أن الأئمة كانوا مطاردين من قبل السلطة الحاكمة _ أموية أو عباسية _ هذا واضح في التأريخ عندهم، رغم أن الأئمة لم يتصدوا للحكم ولم يطالبوا بالحكم، بل تركوا الحكم لهم، هؤلاء الذين أخذوا الحكم، مع ذلك تعرّضوا إلى سجن وقتل

ص: 76

ومطاردة ومحاسبة، وبعضهم يأتي به الحاكم من بيته ويوقفه أمامه ويقول له: أنت عندك سلاح، وأنت تريد أن تقلب الحكم.(1)

فإنهم يعلمون أن النبي قال: الأئمة بعدي اثنا عشر وآخرهم يحكم، يعرفون من هم الأئمة، وأسماؤهم موجودة عندهم، لأن الحكام ليسوا أناساً عاديين، بل الحكام يعرفون السنة النبوية لكن غلبت عليهم شقوتهم وغلب عليهم الهوى، فباعوا الآخرة بالدنيا، يعرفون النصوص النبوية، يعرفون أن النبي قال: إن الائمة اثنا عشر وآخرهم يحكم، فكانوا يتربصون إلى هذا الثاني عشر قبل أن يستفحل ويستقوي ويشب عوده ليقتلوه.

الإمام الحسن العسكري عليه السلام كان في سامراء، وفرضت عليه إقامة جبرية، ففي الأسبوع الواحد يجب أن يزور البلاط الملكي مرّتين، وعند ما توفي عليه السلام كان عمره ثمان وعشرين سنة، أي أنه منذ تسلم الإمامة وهو محجور عليه في سامراء، فالشيعة لأجل أن يوصلوا الأموال للإمام كانوا يبيعون الدهن للإمام ويضعون في الدهن الدنانير والدراهم، والإمام يأخذ الدهن ويخرج الدنانير والدراهم ويعيش، كان محاصراً وكان مراقباً، فاقترنت ولادة هذا الصبي في التستر، هذا الذي حصل.

وتعلمون أن في زمان فرعون حينما أخبر فرعون من قبل بعض العرّافين فقالوا له: يولد في هذه السنة ولد ذكر يقتلك، فأمر بأن كل

ص: 77


1- كما في الإمام الكاظم عليه السلام راجع: عيون أخبار الرضا، ج 2: 70، باب 7، ح 1 _ 4.

امرأة حامل تجهض وكل طفل يولد يقتل، ولكن أم موسى تسترت على حملها حتى ولدته.

فولادة هذا الغلام الذي هو الإمام الثاني عشر، الذي تعرف السلطة أنه هو الحاكم وهو الذي سيطيح بهم، هذه الولادة أحيطت بالسرية، فولد الإمام عليه السلام.

وأبوه الإمام العسكري كان يطلع بعض الشيعة على الولادة، وكان يخفي ولادته على بعض الشيعة، خوفاً من أن يصل الأمر إلى السلطة الظالمة فتأتي وتداهم هذا البيت وتقتل هذا الطفل، وكانت السلطة تطارد الوليد الصغير في عمره الكبير في معناه، ولذلك كانوا يفتشون بيت الإمام، ويفتشون النساء ليروا أياً منهن تكون حاملاً بعد وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام واستشهاده.

كانت مطاردة لنساء أهل البيت في سبيل الحصول على زوجته الحامل أو ولده الذي هو مولود ولكن لا يعلمون به، يريدون القضاء عليه خوفاً من تطبيق قول النبي صلى الله عليه وآله بأن هذا هو الذي يحكم ويطيح بالفساد والضلال. هذا الذي حصل.

فكيف أنتم تنكرون الولادة؟! فإن الولادة حصلت بصورة طبيعية لكن مع التكتم لأجل تلك الظروف التي كانت تحيط بهم.

غيبة الإمام:

ص: 78

ثم هذا الإمام الذي غاب، غاب غيبة سبعين سنة ووضع له نواباً أربعة، هؤلاء النواب الأربعة هم:

عثمان بن سعيد العمري.

ومحمد بن عثمان العمري.

والحسين بن روح.

وعلي بن محمد السمري.

هؤلاء من ثقاة وعلماء الشيعة، هؤلاء كانوا الرابطة بين الإمام الغائب وبين الشيعة، فكانوا ينقلون الأسئلة إلى الإمام، ويأتي الجواب من الإمام مرة مكتوباً ومرة شفهياً، ولكن كان يأتي بخط الإمام الحسن العسكري، لأن هؤلاء الشيعة بعضهم لم يروا الإمام فلا يعرفون خطه، كان الخط يأتي وهو خط الإمام الحسن العسكري والشيعة يعرفون خط الإمام الحسن العسكري، وهذه السبعين سنة لم يتغير هذا الخط ولا مرة واحدة، هذا الخط الذي كان موجوداً ويعرفه الشيعة.

فالشيعة كانوا يراقبون هذا الخط، وكانوا يمتحنون هؤلاء النواب الأربعة، فلم يلحظوا عليهم أي تلاعب وأي تحايل في نقل الأسئلة وفي إتيان الأجوبة، لا يوجد تهافت في النقل، ولا يوجد هناك تحايل في التصرف.

ولم يكن بين هؤلاء الأربعة أي علاقة، وأي علاقة خاصة حتى نقول: تواطؤوا، فقط العمري وابنه كان بينهما علاقة أب وابن، وأما الثالث وهو

ص: 79

الحسين بن روح والرابع وهو علي بن محمد السمري لم يكن بينهما علاقة.

الشيعة كانوا يمتحنون هؤلاء الرابطون بينهم وبين الإمام، فكانوا يرونهم في أعلى مراتب العدالة والوثاقة لم يكن عندهم أي تحايل، وكانت الخطوط التي تأتي من الإمام كلها متشابهة وكلها على نسق واحد، فدام هذا الأمر سبعين سنة.

بالله عليك إذا كانت هناك كذبة ليس لها واقع فهل تدوم سبعين سنة! لا يمكن أن تكون كذبة تدوم، فالكذب حبله قصير وينكشف.

ولكن هذه الأطروحة وهذه الفرضية التي آمن بها الشيعة ونتيجة الروايات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وحصلت الغيبة لأجل أن يتعود الناس على ارتباطهم بالإمام وهو غائب لمدة سبعين سنة كان فيها يظهر عليه السلام لبعض الناس، وكان يلاقي الوكلاء، وكان يلاقي الخلص ويمتنع عن ملاقاة الآخرين لأجل أن يمهدهم للغيبة الكبرى.

أبوه أطلع على ولادته وعلى وجوده بعض الشيعة ومنع بعض الشيعة من ذلك لتلك الظروف التي كانت محيطة بهم، والتي كانوا يخشون منها على حياته الشريفة.

إذن سبعون سنة على هؤلاء الوكلاء الأربعة، الذين هم كانوا وكلاء طوليين وليس عرضيين، سبعون سنة لم يتغير الخط الذي كان بخط الإمام

ص: 80

الحسن العسكري عليه السلام ولم يكن هناك أي تلاعب من قبل هؤلاء الثقاة الورعين.

إذن بحساب الاحتمال يستحيل أن تعيش كذبة سبعين سنة ويكتسب النواب الأربعة ثقة الجميع، أفلا يكفي هذا للجزم بالحقيقة؟! هذه الحقيقة التي عاشتها أمة من الناس!

هذا الإشكال الأول.

فقد عرفنا من الكتاب أن يحيى جعل إماماً وعيسى جعل نبياً وهو في المهد، وهذه أشياء موجودة، فالقرآن ينقل لنا غرائب كثيرة نستبعدها لكنها حقائق قرآنية لابد من التصديق بها، وهو يخبرنا عن الغيب وعن أشياء حدثت نحن لم نرها وهي مستبعدة ولكنها حقيقة قرآنية، وهذه حقيقة من السنة النبوية لا يمكن التشكيك فيها.

الشبهة الثالثة: طول العمر:

إذا ثبت هذا، يوجد إشكال آخر يقولون: كيف يتأتى لهذا الإنسان هذا العمر الطويل؟! هل هو أمر عملي؟ هل يصدقه العلم؟ هذا إشكال آخر قد يراودنا ويدخل في عقولنا، إذ كيف يكون ذلك أكثر من ألف سنة؟!

جيد، هذا هو أمر عملي يصدقه العلم أم لا؟!

نعم نحن نقول: بأن هذا مستبعد الآن بعقولنا، ولكن له جواب شرعي وله جواب علمي، فنحن نتكلم عن رسالة جعلها الله للبشر إلى

ص: 81

يوم القيامة، فلكل قوم إمام، ف- (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).(1)

الجواب العلمي:

العلم الآن لا يتمكن أن يطيل عمر الإنسان هذه المدة بوسائله الموجودة الآن (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(2) ولكن العلم أيضاً لا ينفي هذه المقولة التي تقول: يمكن أن يعيش الإنسان أكثر من ألف سنة، لا يبطل الإمكان، فالعقل لا يقول باستحالة هذه الأمور، فإنها ليست من قبيل جمع المتناقضين، حيث أن العقل عنده مستحيلات مثل الجمع بين المتناقضين، أي أن شيئاً موجود ومعدوم هذا مستحيل، أو هذه الورقة بيضاء وحمراء في وقت واحد مستحيل، كذلك اجتماع الضدين، وأنا أكون ابن لهذا وأب لهذا أيضاً مستحيل، فاجتماع المتضايفين كذلك مستحيل، وكذا اجتماع المثلين مستحيل، والظرف يكون أصغر من المظروف مستحيل.

هنا أن يعيش إنسان مدة طويلة، هل من هذه المستحيلات؟ الجواب: لا، وإن لم يقع في الخارج. فهو ليس من المستحيلات العقلية.

ص: 82


1- الكافي: 1 / 376 الحديث 1 _ 4، المحاسن للبرقي: 1 / 92 الحديث 46، إكمال الدين وإتمام النعمة: 409 الحديث 9، الإيضاح لابن شاذان: 75، مجمع الزوائد: 5 / 224، مسند أبي داوود: 259، كنز العمال: 1 / 203 الحديث 464، وفي صحيح مسلم: 6 / 22 والسنن الكبرى للبيهقي: 8 / 156 بلفظ: (من مات وليس في عنقه بيعة... ).
2- الإسراء (17): 85.

إذن الجواب العلمي أن هذا ممكن لكن العلم لحدّ الآن لم يتوصل، لكن يقول العلم: توجد هناك حيوانات اكتشفت عاشت آلاف السنين، فالإنسان أيضاً حيوان لكنه مفكر هذا الفرق.

على كل حال العلم لا يحيل هذه المقولة، والآن هو غير قادر على أن يجعل الإنسان يعيش هذه المدة.

الجواب الشرعي:

ولكن تعال إلى الشرع أيضاً عنده جواب..هل ينكر الإنسان وجود إبليس وأنه مخلوق ولم يمت وهو مخفي ولم نره ويرانا؟! فإن هذه حقيقة (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(1)، فالله إذا كان قادراً على أن يجعله إلى آخر الزمان، فنحن نقول: المهدي موجود..هل بقدرتنا موجود أم بقدرة الله؟! هذه شريعة الله، شاء الله أن يكون الأئمة اثنا عشر ويكون وجودهم إلى آخر الدنيا، فالقرآن يقول هذا يكون، والسنة النبوية أيضاً تقول هذا يكون.

روايات الخضر، فإن أهل السنة يقولون: هو حي لم يمت وهو ابن آدم من صلبه ونسئ له في الأجل، يعني يتأخر في الموت بدعوة أبيه له أن يبقى إلى آخر الدنيا ليكذب الدجال، هكذا عقيدة أبناء العامة والسنة في الخضر ليس بنبي وإنما هو ابن آدم.

ص: 83


1- الحجر (15): 36 _ 38، ص (38): 79 _ 81.

وأما عقيدة الشيعة الإمامية، فيقولون بأن الخضر نبي له معجزة وهي أنّه ما جلس على مكان إلا اخضر، وهو حي ولم يمت، هذا موجود عندنا في تراثنا وفي موسوعاتنا الروائية.

شيعة وسنة كلهم متفقون على أن الخضر لم يمت.

فإذا كان هذا ممكناً فالرويات تقول: هذه أخبار آحاد ونحن نقول بأن الإمام باقٍ إلى آخر الدنيا والروايات متواترة، وليست خبراً واحداً، فإذا كان لهم عشرون رواية ونحن خمسة عشر رواية في قضية الخضر، فإن ما قلناه في الإمام المهدي لنا فيه مائتان وسبعون رواية على انهم اثنا عشر كلهم من قريش _ تواتر _ هذا المتفق عليه بين الشيعة والسنة.

فقضية الخضر نقلتها روايات آحاد، أما هذا فقد نقل بالتواتر، فإذا كان هذا ممكن فهذا أيضاً ممكن، فالروايات التي يروونها تقول بأن المهدي باق.

إذن في الخضر تقولون: ممكن، هنا تقولون: ليس ممكناً، لماذا؟! هل لأنه على خلاف عقيدتك؟! إذا أنت تلتزم بالقرآن والسنة فصحح عقيدتك، لماذا تنكر الشيء الذي فيه تواتر وتقبل شيئاً فيه أخبار آحاد؟!

بالنسبة إلى عيسى، القرآن يصرح أنه لم يمت، عيسى بشر، لم يمت، رفعه الله إليه، الله قادر، إذن هنا أيضاً قادر، لماذا تقبلون ذلك ولا تقبلون هذا؟! ذاك قرآن وهذه سنة (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ

ص: 84

اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً).(1)

هذا في عيسى مقبول، لأنه قد ورد في القرآن، إذن هو ممكن وليس مستحيلاً، وهذا أيضاً سنة، وقد قلنا بأن للتشريع مصدرين، غايته استبعاد عندك، لكن الاستبعاد لا ينكر الحقائق النبوية والقرآنية فالاستبعاد شك، ولكن عندنا يقين، والشك لا يرفع اليقين، فنحن لدينا يقين بأنّ هذا حادث وقد ذكره القرآن وذكرته السنة، لكنّه أمر مستبعد، والقاعدة تقول: (لا تنقضوا اليقين بالشك)(2) نعم انقض اليقين بيقين آخر، فهل عندك يقين أن هذا كذب يخالف العقل ومن المستحيلات العقلية؟! لكنه ليس من المستحيلات العقلية ولا يخالفه العلم.

العلم يقول ممكن والبراهين والأدلة تقول أنه حاصل، إذن لا نرفع اليقين الذي حصل لنا بهذا الشك.

هذا النبي الذي مر على قرية فوجد فيها عظاماً قال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إلى طَعامِكَ

ص: 85


1- النساء 4: 157- 158.
2- الكافي لكليني، ج 3: 351، ح 3، الاستبصار للطوسي، ج 1، ح 1416.

وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إلى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ).(1)

فهذا أيضاً بعيد ولكن القرآن قاله، بعيد لكن ليس مستحيلاً.

فهل أن الحقائق القرآنية والحقائق التي جاءت بها السنة النبوية نتركها لأنها بعيدة لا نتصورها؟! هذا من السخف.

قصة موسى والفتى، موسى قال: يا رب هل يوجد أحد أعلم مني؟ قال له: يوجد أحد أعلم منك، قال: أريد أن أصل إليه، قال: علامته أنه تأخذ سمكة تشويها ثم هذه السمكة تحيى وتذهب في الماء، ذاك المكان فيه هذا الفتى، ذهبوا إلى أن وصلوا إلى أنطاكية، هناك كانت صخرة كبيرة فآووا إلى الصخرة، هنا هذا الذي مع موسى رأى قطرة ماء وقعت على السمكة المشوية فاحتيت وذهبت إلى الماء، نسي أن يقول لموسى، ثم وصل إلى مكان قال له: اعطني غداءنا، قال له: الآن ذكرت هذه السمكة احتيت وذهبت إلى البحر، قال له: هو هذا المكان الذي أريده، رجعوا فرأوا الفتى الذي صاحبه موسى، ثم تبين لموسى أن الفتى أعلم منه ولا يستطيع أن يماشيه لأن الأخير يأتمر بأمر الله.(2)

إذن السمكة احتيت وذهبت في الماء، وهذا موجود في القرآن ونحن نقول: بعيد! هذه حقيقة قرآنية.

ص: 86


1- البقرة (2): 259.
2- لاحظ: مجمع البيان للطبرسي، ج 6: 367، الميزان للطباطبائي، ج 13: 350.

آدم خلق من تراب وعيسى خلق من غير أم ونحن نمشي على الصراط، يقولون: الصراط أدق من الشعرة، تشهد علينا أيدينا وأرجلنا وجلودنا.

هذه كلها حقائق قرآنية، فإذا صار قرآناً فلماذا هذا الكلام بأن ذاك بعيد وخرافة؟! وإذا السنة قالت انتهى الكلام.

أريد أن أقول شيئاً واحداً، أقول: نحن إذا حصلنا على الدليل القرآني والدليل النبوي والدليل العقلي حصلت عندنا العقيدة، هذه العقيدة لا تتزلزل إلا بدليل قرآني أو بدليل نبوي أو عقل يضرب هذه الحقيقة.

فإذا حصلت عندنا هذه الحقيقة من السنة النبوية أو من القرآن فلا يمكن أن يشكل عليها بشيء.. أصل المطلب هو هذا.

المفروض نحن هل عندنا عقيدة بأن الإمام الثاني عشر موجود وقد غاب وهو ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام؟

نعم عندنا هذه العقيدة. كيف؟

من مقدمتين: الروايات الكثيرة التي تقول بأن المهدوية ضرورة إسلامية من أنكرها كفر، هذا أولاً.

والروايات التي هي مائتان وسبعون تقول بأن الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش.

اجمع بينهما تخرج النتيجة أن الإمام المهدي موجود، لأن الدنيا لم تنته، إذن لابد أن يكون واحد منهم غائباً إلى أن تأتي آخر الدنيا،

ص: 87

فيظهر أن الأئمة اثنا عشر متصلون، مادامت الحياة موجودة فهم موجودون.

هذه العقيدة التي حصلنا عليها بالدليل النبوي، لا نرفع يدنا عن هذه العقيدة بالوساوس وبالاستبعادات، فإن هذه كلها لا تضرب اليقين، ولا تنقض اليقين بالشك.

والحمد لله رب العالمين

ص: 88

ماذا خسرت الأمة من غيبة الإمام المهدي عليه السلام

اشارة

سماحة السيد علاء الموسوي

ص: 89

ص: 90

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله على حلمه بعد علمه، والحمد لله على عفوه بعد قدرته، والحمد لله على طول أناته في غضبه وهو قادر على ما يريد. نحمده ونستعينه ونستهديه، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

ونصلي على سيدنا وحبيب قلوبنا خاتم الأنبياء والمرسلين أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين المنتجبين.

خسارة البشرية:

اليوم يوم جمعة، ويوم الجمعة مما يختص بصاحب الأمر صلوات الله وسلامه عليه، اليوم المخصوص للمولى صاحب الزمان عليه السلام فلا بأس بالحديث عنه صلوات الله وسلامه عليه ملخصاً.

هذا الحديث في سؤالين، نطرح هذين السؤالين ونحاول أن نبين المطلب في ضمن الإجابة على هذين السؤالين.

السؤال الأول: ما الذي فقدته البشرية من جراء غيبة هذا الإمام؟

ص: 91

والسؤال الثاني: كيف يمكن لنا أن نتفادى القدر الممكن من الخسارة الناشئة من غيبة الإمام؟

أما السؤال الأول: ما الذي خسرته البشرية على طول تأريخها من جرّاء هذه الغيبة؟

الإمامة:

لا يمكن أن نجيب عن هذا السؤال قبل أن نفهم ما معنى الإمامة.

إذا علمنا وأحطنا فهماً بحقيقة الإمام، سندرك بعد ذلك فداحة الخسارة وعظم الخسارة بغيبته صلوات الله وسلامه عليه.

الإمام نفهم مكانته من خلال معرفة مجموعة أمور:

الأول: الإمام مصدر الأحكام

الإمام هو مصدر الأحكام، أي أنّه المصدر الوحيد المخول في بيان أحكام الله تبارك وتعالى.

فكما تعلمون أن الجهات الكبيرة، كالدول _ أياً كانت الجهة اعتبارية أو غير اعتبارية _ لا يصح أن تحمل موقفاً وأن ينسب لها شيء إلا أن يكون ذلك الموقف منسوباً لها بشكل علمي ودقيق، فالدول لها ناطق يتحدث باسمها، ولا يمكن أن نلزم الدول بموقف ما لم يتحدث ناطقها

ص: 92

الرسمي بذلك، هذا هو المخول بالحديث عنها، فإذا قال هذا شيئاً فتعتبر هي التي قالته، أما إذا قال الغير فليس الأمر كذلك.

وهكذا بقية الوجودات الاعتبارية في المجتمع، لابد لكل وجود اعتباري مهم أن يكون له ناطق يتحدث باسمه.

والله تبارك وتعالى لم يجعل هذه الصلاحية _ أن يتحدث أحد عن دين الله وأن يتحدث أحد عن أحكام الله وعن إرادة الله في الأرض _ لم يجعل أحداً بهذه الصلاحية إلا حجته على خلقه، وهذا هو معنى الحجة.

فالإمام إذن المعصوم _ أياً كان الإمام _ أولهم وآخرهم، كلهم حجج الله على البرية، فهم المخولون الوحيدون في التحدث عن القرآن وفي تفسير القرآن على وجهه الصحيح، وفي إبلاغ الناس أحكام الله تبارك وتعالى، ونقصد بالأحكام الأحكام الواقعية، الأحكام الصحيحة التي لا تحتمل الخطأ في أحكام الله تبارك وتعالى، لا الأحكام التي تحتمل الخطأ وتحتمل النسيان وتحتمل الاشتباه، لا احتمال في كلام المعصوم لذلك.

فإذن النقطة الأولى في معرفة الإمام ينبغي أن نعلم أنه هو الجهة الوحيدة المخولة في بيان أحكام الله، وهو الجهة الوحيدة القادرة على إيصال حكم الله إلى الناس، لأنه المتصل بالله تبارك وتعالى والوارث لعلم جده النبي صلى الله عليه وآله(1).

ص: 93


1- دلّ على ذلك ما استفاض عنهم عليهم السلام من الروايات في تفسير قوله تعإلى في سورة النحل، الآية: 43: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ...)، راجع الكافي للكليني، ج1: 210 باب (أن أهل الذكر... هم الأئمة عليهم السلام)، أيضاً البحار للمجلسي، ج 23: 171 باب (أنهم عليهم السلام الذكر،: أهل الذكر، وأنهم المسؤولون).

وعلى هذا يتضح في هذه النقطة أن فقدان هكذا وجود وأن غيبة هذه الجهة المخولة بالتحدث عن الله وعن الدين ماذا سينتج من أثر على المجتمعات.

الله تبارك وتعالى جعل الشريعة لسعادة البشر، وأحكامه لتقنين حياة البشر ولتنظيم علاقات البشر فيما بين بعضهم البعض، كي يتجنبوا المشاكل ويتجنبوا الاحتكاك ويتجنبوا كل سوء في مسيرتهم الاجتماعية.

فإذا غاب عنهم هذا القانون بشكل من الأشكال _ لانهائياً _ إذا غاب بنسبة معينة، قطعاً هذه النسبة الغائبة ستؤثر على حياة المجتمع، هذا الفراغ الحاصل في الأحكام الشرعية، هذا الفارغ الحاصل في درجة القطع بالأحكام الشرعية، سيؤثر بلا شك على الناس.

نعم، الآن نتمتع بوجود الفقهاء في زمن الغيبة والمخولون ببيان الأحكام، وهذه من نعم الله تبارك وتعالى علينا ومن بركات صاحب الأمر صلوات الله عليه، فإنه هو الذي عيّن هؤلاء الفقهاء الجامعين للشرائط في زمن الغيبة، عينهم مصدراً للفتوى لشيعتهم، وهذه نعمة عظيمة، وهذا يعني أن الأحكام الشرعية ليست غائبة مائة بالمائة عنا، ولسنا منقطعين عن سنة النبي صلى الله عليه وآله بل نحن الوحيدون

ص: 94

الذين نستطيع أن نأتي بسند متصل ذهبي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، هذا أمر واضح ومنتشر في الكتب والمصادر.

لكن حديثنا عن تلك الدرجة التي لو كان الإمام موجوداً لحصلنا عليها، تلك الدرجة من القطع والوضوح في الأحكام الشرعية، هذه فقدناها بفقدان ظهور الإمام عجل الله فرجه.

الثاني: الرعاية الأبوية:

الإمام أب رحيم للأمة، لا فقط مصدر أحكام، لا أنه شخص يفتي فقط ويسأل فيجيب، فالإمام أب رحيم للأمة، أب لجميع المؤمنين والمسلمين.

وهذا ما ينعكس في بعض كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في يوم من أيام الجمعة في موقف كهذا الموقف، فقد وقف يخطب في يوم الجمعة فرأى شخصاً فيما بين الناس يتلوى، وبعد أن أنهى خطبته ونزل سأل هذا الرجل: ما بالك تتلوى أأنت موعوك؟ قال: نعم يا مولاي منذ الليلة الماضية أصابني شيء، قال: أحسبت أني لا أعلم؟ أما أني توعكت لوعكتك وتألمت لألمك(1)، فالأمير صلوات الله عليه في تلك الليلة يعلم بأن فلان موعوك ويعلم بأنه مريض ومتألم، ويتألم لألمه، هذا هو شعور الأب تجاه أبنائه.

ص: 95


1- راجع بصائر الدرجات للصفار: 279، الهداية الكبرى للخصيبي: 157.

الأئمة صلوات الله عليهم آباء لهذه الأمة، الأب الرحيم يحيط أبناءه بالعطف والرعاية والمتابعة والتربية، الرعاية من كل جوانبها، الرعاية النفسية، الرعاية الروحية، الرعاية الإيمانية، الرعاية الاجتماعية، الرعاية حتى العقلية والفكرية.. أب يحرص على أولاده ويريد أن يرتقي بهم إلى مدارج الكمال.

الإمام هو الأب الحقيقي لنا، ولا تظن أنه غائب وأنه يخلو من هذا الشعور، غيبته وظهوره لا تختلف في هذا الشعور، عند الإمام شعور بأبوته لنا، وواقع أبوته لنا أمر حاصل وتام.

إلا أن المسألة بالنسبة لنا تختلف، فالإمام أب روحي وحقيقي للناس وللمؤمنين، حريص عليهم، متابع لمصالحهم، يدعو الله في صلاحهم، يباشر ويعمل ليل نهار لصلاح المسلمين، وإن كنا لا نرى عمله، لأنه غائب عنا، لكن هذه الغيبة من جهتنا، وعدم نظرنا إليه وعدم وجوده فيما بين أظهرنا بشكل واضح هذا يؤثر علينا بشكل من الأشكال كما سأبين.

غيبة الإمام فيما بين أظهر الناس تجعل الناس معرضين للغفلة، يغفلون عنه وينسون ذكره وينسون أنه شخص يعيش فيما بين أظهرهم ويعيش كل الأحداث بكل تفاصيلها وبكل جدية يعيش الحياة بكل مستوياتها، لكن باعتبار أننا لا نراه والإنسان المادي يتعلق بالحس ولا يعرف شيئاً من الحياة سوى ما يرى ويسمع ويلمس، هذا الإنسان ينسى، وهذا

ص: 96

بالتجربة موجود، فلو أنّ صديقاً من أصدقائك _ فليكن أفضل صديق وأحب صديق إليك _ إذا فارقته سنين طويلة، لا تراه ولا تسمع صوته لا تستقبل منه رسالة فإنك سوف تنساه، هذه الحالة هي التي يتخوف منها علينا، حالة الغفلة عن الإمام ونسيان الإمام بسبب غيبته.

فمن الخسائر الفادحة التي تترتب على الغيبة غفلة الناس، ولذلك فيما يأتي من شق آخر من الحديث سأذكر كيفية الحل لهذه المشكلة؟

الثالث: القدوة:

الإمام من خصائصه أيضاً أنّه هو القدوة التامة للناس، فالإمام قدوة نصبه الله تبارك وتعالى للناس كي يحتذوا مثاله، فإنّ الدين أفكار ومبادئ وأخلاق مسجلة في القرآن الكريم والسنة النبوية، لكن هذا لا يكفي لتقويم الناس، لا بمعنى أنها شريعة ناقصة والعياذ بالله، ولا بمعنى أن هذه التعاليم غير مؤثرة، فالله تبارك وتعالى يعلم أن هذه التعاليم لا ينبغي أن تبقى حبراً على ورق، بل ينبغي أن يجعل معها قرين وهو الإنسان الكامل المجسد لهذه التعاليم، فلذا ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: (كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).(1)

فإن اقتران الكتاب والسنة الشريفة، اقتران هذين الأمرين بمعصوم هو قدوة للناس ترى فيه أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله، وترى فيه

ص: 97


1- راجع سنن الترمذي، ج 5: 329، مسند أحمد، ج 5: 180.

صدق الإسلام، وترى فيه حقيقة العبودية لله تبارك وتعالى أمام أعين الناس، هذا أمر يؤثر في هداية الناس.

ولذا تعيين قدوة من قبل الله تبارك وتعالى للناس هو تتميم للطف الله عز وجل بالناس، هذا فيما يتعلق بهذه النعمة.

كيف إذا غاب هذا الوجود عن الأنظار؟! بلا شك أن جانب القدوة الذي نتطلع إليه والذي نحتذي مثاله والذي نتتبع آثاره وخطواته هذا سيغيب، لكن هناك حل أذكره في الجواب.

العقل الكامل:

من خصائص الإمام أنه العقل الكامل، الذي لا نقص فيه، ولا شائبة فيه، ولا نسيان يشوبه، ولا شبهة تعتريه، الإمام عقل كامل، من شأن العقل الكامل أنه إذا كان في مجتمع ما يرتقي بعقول الناس إلى مدارج الكمال.

وأما إذا غاب هذا العقل الكامل عن الناس فسوف يتخبط الناس في متاهات الضلال.

ولذلك ترى في روايات الظهور أن الإمام صلوات الله عليه إذا ظهر كمل عقل الناس، أنه يمر يده على رؤوس الناس فتكتمل عقولهم..(1) لا

ص: 98


1- راجع الكافي، ج1: 25، ح: 21، ولفظ الحديث: عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم، وكملت به أحلامهم).

أتصور أن المراد بالحديث أنه يقف الإمام في مكان والناس تمر ويمر الإمام بيده على رؤوسهم، بل أظن أن المراد _ كما هي لغة العرب، هكذا يفهمون _ أنه يشمل الناس برعايته وتعليمه، يمر يده على رؤوس الناس أي يشمل الناس برعايته وتعليمه وإرشاده حتى تكتمل عقول الناس، لأنه هو العقل الكامل القادر على إيصال الناس إلى الكمال.

فانظر بعد هذا، فقدان أو غياب هكذا وجود، غياب العقل الكامل إلى ماذا سوف يؤدي؟ سيؤدي إلى ما ترى في هذا اليوم، البشرية الناقصة الضالة المتحيرة في مصيرها المتقاتلة فيما بينها، ترى ما ترى بسبب نقص العقل.

فغياب الإمام غياب للعقل الكامل، وعدم ظهوره _ في الواقع _ يحول بيننا وبين الكمال بسبب هذا الحاجب.

الخسران:

فإذن الجواب ملخصاً على السؤال الأول، وهو ماذا خسرت البشرية بغياب الإمام عليه السلام ؟ الجواب: إن ما خسرته البشرية عظيم جداً.

ينبغي أن نستحضر الخسارة دائماً ونفكر فيها ونفكر في عظم حجمها كي نحاول تدارك ذلك، نحن لا نفكر بالخسارة كي نستسلم لتلك الخسارة أو كي نستسلم للضعف واليأس، إنما نفكر في هذا الفراغ كي نملأه بمقدار الإمكان، وهذا هو ما يتكفل به السؤال الثاني وجوابه.

ص: 99

التدارك:

جواب السؤال الثاني الذي يتحدث عن كيفية تدارك هذه الخسارة، أي كيف نتدارك غيبة مولانا وحبيب قلوبنا وأبينا الشفيق الرحيم الحجة من الله علينا؟

أما فيما يتعلق بالنقص الفقهي _ أي على الصعيد الفقهي _ فقد سبق أن قلنا: إننا نعاني من نقص في اليقين، لأن الأحكام الموجودة التي هي أحكام الفقهاء وفتاوى الفقهاء حجة علينا تماماً، لكن هي في الواقع محتملة للاشتباه، لأن الفقيه ليس معصوماً، لكن فقهاءنا رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين سلكوا مسلك الورع والتقوى في الاحتياط، بحيث يقل ويندر أن يوقعوا الناس في مشكلة، لكن هذا النقص في اليقين كيف يحل؟!

الإمام صلوات الله وسلامه عليه قبل أن يدخل في غيبته الكبرى، فكما تعلمون غيبة الإمام على قسمين _ على فترتين _ الفترة الأولى هي الغيبة الصغرى وطالت ما يقرب من سبعين سنة، والفترة الأخرى للغيبة هي هذه الفترة، الغيبة الكبرى التي نعيش فيها فعلاً.

قبل أن يدخل الإمام في غيبته الكبرى عالج هذا الموضوع وأوكل الناس وأرجعهم إلى فقهاء الشيعة المتدينين الورعين الأتقياء الذين درسوا فقه آل محمد صلى الله عليه وآله وتمرّسوا في هذا الفقه، تمرس تخصص، وهنا ملاحظة لابدّ من الإشارة إليها، وهي أنه لا ينبغي التعامل مع الفقه

ص: 100

تعاملاً سطحياً، لا ينبغي الاستهانة بالفقه، فإن الفقه تخصص كبقية التخصصات، إن لم يكن أعقد، وإن لم يكن أصعب، فالطبيب إذا اشتبه يشتبه في إعطاء حبة أو إعطاء حقنة، وغاية ما يفعل قد يؤدي بحياة إنسان واحد أو عشرة، أما الفتوى الخاطئة فقد تؤدي بدين الناس، وهو الأهم من كل حياة الناس فإن الدين هو المهم، لذلك الفقه تخصص لايستهان به، له دراسات وله مقدمات وله تفاصيل وله أبعاد وعمق لا يمكن للإنسان العادي أن يصل إليه، ولا يمكن لكل أحد أن يدعيه، إنما ينبغي أن يكرّس سنين حياته كي يحصل على ذلك، وهو بعد موهبة من الله تبارك وتعالى.

على أي حال الإمام صلوات الله عليه عالج هذا الأمر بجعل الفقهاء في زمن الغيبة مسؤولين عن الفتوى، وأرجع الناس إليهم، وقال: أيها الناس هؤلاء (حجتي عليكم)(1) أطيعوهم، فالفراغ الفقهي يسد إذن.

وأما احتمال الاشتباه، فكما أنّ فقهاءنا يبتعدون عن هذا الاحتمال بقدر الإمكان، ويكاد هذا الاحتمال يغلق بالاحتياط، فيمكن ملاحظة أن عندنا الفتاوى الاحتياطية كثيرة، فنجد أنّ الفقهاء يذكرون في رسائلهم العملية عبارات: الأحوط كذا، والاحتياط لا يترك، وإلى غيره.

ص: 101


1- راجع توقيع الناحية المقدسة إلى العمري في الاحتجاج للطبرسي، ج2: 281، ولفظه: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله..).

هذا الاحتياط يسد هذا الفراغ تقريباً ويحاول أن يجنب المؤمنين الوقوع في خلاف الواقع، فعلى سبيل المثال مادة (الاسبرتو) هل هي نجسة أم طاهرة؟ مسألة وقع فيها الخلاف، فلو كان الإمام المعصوم حاضراً لأعطانا حكم الله عز وجل بلا تردد، واضح جداً لأنه هو مصدر الشريعة، لكنه غائب فوقع الكلام بين الفقهاء هل الاسبرتو طاهر أم نجس، بعضهم ينجسه ويقول لك: إذا وضعت على ثيابك شيئاً منه ينبغي أن تطهره قبل أن تصلي، وبعضهم يطهره، وبعضهم يحتاط، حتى من يطهر السبرتو يحتاط أيضاً استحباباً في المسألة، إذن يوجد مجال للتحفظ من الوقوع في الخطأ.

وهناك طرق بيّنها الأئمة صلوات الله عليهم لفقهائنا، في الواقع هي طرق نافعة جداً في إبعادنا عن احتمال الخطأ بقدر الإمكان، هذا على الصعيد الفقهي. إذن علاج النقص الفقهي تم بهذا الشكل.

أما الجانب الثاني، أي الجانب الروحي والعلاقة بالإمام والاستفادة من علم الإمام مباشرة ومجالسة الإمام وطلب الدعاء منه وطلب التوبة من الله عز وجل ببركة دعائه، وهذا أمر طبيعي جداً (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً).(1) الله عزوجل يعلّم الخلق ويعلّم المؤمنين إذا أرادوا أن يتوبوا ويرجعوا إليه ليأتوا

ص: 102


1- سورة النساء، الآية: 64.

الرسول، تعال إلى حجة الله تعال إلى باب الله الذي من أراده يأتيه منه، فإنهم هم أبواب الله.

إذن هذا الجانب كيف نسده؟ الإمام ليس بين ظهرانينا ولا نستطيع أن نراه ولا نستطيع أن نتحدث إليه ولا نستطيع أن نفرغ همومنا لمولانا وقائدنا، لا نستطيع أن نجالس هذا القائد بشكل طبيعي، إذن كيف يسد هذا النقص الحاصل على هذا الصعيد؟ نقص العقل.

ليس هناك من يكمل هذا النقص في الروحيات والقضايا الإيمانية، النقص في الرعاية الأبوية التي يلقاها الناس حال ظهور الإمام.

الإمام صلوات الله عليه علمنا كيف نسد هذا النقص، فالواقع أن الغيبة حصلت لا بسبب الإمام، بل بسبب البشر، لأن البشر هم الذين حالوا بينهم وبين الإمام بمعاصي وظلم لا يحتمل.

الله تبارك وتعالى رأى أن الخلق بهذا الشكل لا يستحقون ظهور الإمام، وهناك روايات عن الأئمة عليهم السلام تنص على أن الله إذا كره مقامنا في ظهراني قوم أخذنا _ سلبنا _ منهم(1).

فإذن ما هناك من الغيبة وما هناك من الحجب بسببنا نحن، بسبب الذنوب وبسبب الأعمال وبسبب الغفلة والنسيان، وأما إذا سلك الإنسان سلوكاً بحسب توجيهاتهم يضمن له خطاب المعصوم كما لو كان

ص: 103


1- راجع علل الشرائع للصدوق، ج1: 244، ولفظه: عن مروان الانباري قال: خرج من أبي جعفر عليه السلام: (أن الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم).

يخاطب حياً يراه ويسمعه، لو التزم الإنسان ببرنامج روحي إنساني يجعله قريباً من الإمام قلباً وروحاً لخفت آثار تلك الغيبة كثيراً.

في الاستئذان الذي نقرؤه عادة على أبواب الأئمة، مثلاً الموجود على باب رواق الإمام الرضا عليه السلام: ( و أعلم أن رسولك وخلفاءك عليهم السلام أحياء عندك يرزقون يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردّون سلامي وأنك حجبت عن سمعي كلامهم _ الشاهد هنا _ وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم) لا نريد، ولا نتوقع أن نسمع جواب الإمام بهذه الأذن المادية، هذا خلاف الغيبة وخلاف سنة الله فعلاً، إنما نحاول أن نفتح طريقاً آخر لفهم الإمام وللخطاب مع الإمام، طريق القلب والروح (وأنك حجبت عن سمعي كلامهم وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم) لذيذ المناجاة.

من استطاع أن يسلك هذا الطريق الروحي ويستشعر وجود الإمام أمامه فيزوره كل يوم ويدعو له دائماً ويتحرق على لقائه ويتحرق على ظهوره سيجد أنه يقترب يوماً بعد يوم حتى يشعر بهذا الشعور، حتى يرى قلبه انفتح لهذا الإمام، وحتى يشعر بأن كلامه مسموع من قبل الإمام وسلامه مردود، يرد عليه السلام.

ص: 104

هذا ما نريد أن نسعى إليه، وهذا ما ينبغي التأكيد عليه في زمن الغيبة، كما قال الإمام عليه السلام: (أكثروا من الدعاء بالفرج فإنه فرجكم).(1)

الدعاء بالفرج معناه أن تكون مع الإمام دائماً، تدعو له في الصلاة وبعد كل صلاة، ألم يرد في الروايات أن للإنسان بعد كل صلاة دعوة مستجابة؟ أليس من الأحرى بنا أيها المؤمنون أن نجعل هذه الدعوة المستجابة في حق مولانا وإمامنا صاحب الزمان عليه السلام؟

فلتكن أول دعوة ندعوها بعد كل فريضة: (اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً) هذا الدعاء المعروف، فإن في ذلك فرجنا (أكثروا من الدعاء لفرجه فإنه فرجكم) إذا كنت في ضيق، وإذا كان المجتمع في ضيق وإذا كانت الأمة في بلية، فهذا هو فرجها (أكثروا من الدعاء).

والإكثار من الدعاء ليس أمراً مجرداً كما تعلمون، هو أمر يستبطن كل ما قلنا، إذا أكثرت من الدعاء فتحت مشاعر قلبك لفهم الحقائق واقتربت من حقيقة الإمام واقتربت من فهم الإمام، فتجد جوابه مفهوماً عندك في قلبك، وتجد آثار مناجاته في حياتك، جرِّب.. توسّل بالإمام عليه السلام وواظب على زيارته تجد الآثار واضحة في حياتك.

ص: 105


1- راجع كمال الدين للصدوق: 485، ح4، الغيبة للطوسي: 389، ح: 247، وفيه: (وأكثروا من الدعاء لتعجيل الفرج فان ذلك فرجكم).

فإذن الآثار والنقص الحاصل من غيبة الإمام وفقدان رؤيته نستطيع تداركه بترقية إيماننا وتهذيب نفوسنا وترك المعاصي والمواظبة على زيارة الأئمة عليهم السلام وقضاء حوائج المؤمنين وامتثال ما يريده الإمام منا في زمن الغيبة وزيارته والدعاء له وخدمة مواليه وشيعته..

إذا فعلنا كل ذلك ستجد أن الأمر سيتغير ولن تشعر بتلك الفداحة والخسارة، سترى أنك قريب وأنك غير محروم بذلك الشكل الذي بيناه في بداية الحديث.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا ودّه ودعاءه، ويجعلنا من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمستشهدين بين يديه والذاكرين له.

اللهم أرضه عنا ووفقنا لرضاه وطاعته والاستشهاد بين يديه.

والحمد لله ربّ العالمين

ص: 106

المهدي عليه السلام في كتب علماء السنة

سماحة الشيخ باقر المقدسي

ص: 107

ص: 108

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، العبد المؤيد والرسول المسدد المصطفى الأمجد المحمود الأحمد، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

قال سيدنا ونبينا رسول الله صلى الله عليه وآله: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).(1)

المهدي في الفكر الإسلامي:

من الأمور الحتمية التي تلقّى أنباءها المسلمون من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن عهد الصحابة إلى عهد التابعين إلى عهد العلماء وما بعدهم قضية ظهور الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه.

ص: 109


1- سنن أبي داوود: 2 / 309 الحديث 4282، سنن الترمذي: 3 / 343 الحديث 2331 _ 2332، الدر المنثور للسيوطي: 6 / 58، كنز العمال: 14 / 264 الحديث 38661...

ولكثرة ما كان النبي الكريم يخبر عن الإمام المنتظر فقد جمع الصحابة والعلماء مئات الأحاديث عن النبي في هذا الأمر، حتى أصبح عندنا أكثر من سبعين من الصحابة الذين تروى عنهم روايات في الإمام المنتظر عجل الله فرجه، وهذا ما يسمى بالرواية المتواترة، باعتبار توجد روايات آحاد، وهي عبارة عن رواية أو خبر أو حديث أو قول أو فعل ينقله شخص واحد أو شخصان عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وتوجد أخبار صحيحة، مثلاً يؤكد الخبر من قبل شخصين أو ثلاثة من العدول من الثقاة، لكن توجد بعض الأخبار والروايات _ وهي قليلة _ تسمى بالروايات المتواترة أو الخبر المتواتر أو الحديث.

فالمتواتر يعني الحديث الذي يرويه جماعة عن جماعة عن جماعة، إلى أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وآله.

عندما نأتي ونفتح أي كتاب من كتب الحديث عند السنة أو الشيعة أو أي كتاب من كتب التفسير أو أي كتاب من كتب التأريخ الإسلامي نرى أحاديث كثيرة واردة في ظهور المهدي وفي علامات المهدي وفي أوصافه، الدقة الموجودة بالنسبة إلى النبي وما تحدث به عن الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه فوق ما يتصور، فإن عشرات الأحاديث تعطي وضعه الجسمي، شكل العينين، شكل أنفه، شعره، طوله، حتى أسنانه..

ص: 110

إلى آخره(1)... صفات تعطي بالنسبة إلى أخلاقه وروايات بالنسبة إلى أيام ظهوره وروايات تعطى عن أواخر الأيام _ التي هي علامات الظهور _ ماذا يكون من حوادث في العالم وكيف ينهى حكمه العادل وكيف أن الله سبحانه يبعثه وينصر الحق وأهل الحق به، ثم حكمه العادل.

فمثلاً يتحدّث النبي صلى الله عليه وآله ويقول: يقسم المال صحاحاً، قالوا له: ما معنى صحاحاً؟ قال: أي بالسوية.(2)

وأن الله سبحانه يملأ قلوب أمة محمّد صلى الله عليه وآله غنى في زمانه، وهو هذا المهم، فإننا الآن في زماننا توجد أموال تسع كل العالم إذا أرادوا أن يقسموها بالسوية والعدالة تسع كل الناس، لكن الحرص والشح والبخل واللؤم الموجود عند بعض الناس بحيث لا يعطي حتى الحقوق الشرعية، وهذا هو الذي يجعل المجتمع فيه الفقير والغني والمحتاج وغير المحتاج، أمّا إذا ملأ الله سبحانه وتعالى قلوب الناس بالغنى، فيحصل نوع من القناعة ونوع من الرضى بما قسم الله لهم، فالأموال لا يوجد لها تلك الأهمية التي يموت الإنسان من أجلها.

ومن ثم الحديث يضيف إلى هذا سمة أخرى، يقول: (ويكون المال كدوساً)(3) يعني كثيراً مكدساً.

ص: 111


1- انظر: سنن أبي داوود: 2 / 310 الحديث 4285، المستدرك على الصحيحين للحاكم: 4 / 557، البيان للشافعي: 515 الباب 19، الفتن لابن حمّاد: 101، وغير ذلك الكثير.
2- المستدرك على الصحيحين: 4 / 558، مسند أحمد: 3 / 37، مجمع الزوائد للهيثمي: 7 / 313.
3- المستدرك على الصحيحين: 4 / 558، سنن ابن ماجة: 2 / 1366 الحديث 4083، مسند أحمد: 3 / 22.

ولا أحد يحتاجه، إلى درجة أن الإمام المهدي عجل الله فرجه ينادي في الناس: من له حاجة في الأموال، لا أحد يتكلم، يقول: رجل يأتي إلى الإمام يقول: أنا لي حاجة، فيقول: اذهب إلى السادن قل له: يقول لك المهدي اعطني أموالاً، وهذا هو، لا يحتاج إلى ورقة وإمضاء وعدد، يقول: فيذهب إليه ويبلغه كلام الإمام، فيقول له: خذ ما تشاء ثم يحثو له حثواً، فيحمل المال فيمضي قليلاً فيندم، يقول: إني أحرص أمة محمد الناس كلهم نادى الإمام فيهم هل من محتاج إلى المال لا أحد تكلم فقط أنا، فيندم، يرجع إلى الخازن يقول: لا أريد، فيلتفت إليه يقول: إنّا إذا أعطينا شيئاً لا نسترجعه.(1)

فبهذه الحالة وبهذه الصورة وبهذه الدقة يصف النبي صلى الله عليه وآله تلك الأيام، وكيف أن الأرض تخرج بركاتها، وكيف تكون النعمة متوفرة في العالم، وكيف الله سبحانه يجمع القلوب على المحبة والرحمة والخير والهدى والصلاح، وأمثال هذه الروايات.

فكرة واقعية:

ص: 112


1- انظر: مسند أحمد: 3 / 52، الدر المنثور للسيوطي: 6 / 57، كنز العمال للمتقي الهندي: 14 / 261 الحديث 38653.

هذه ليست أفكاراً خيالية كما يقول البعض، لأن بعض الناس يؤمنون بأشياء خيالية، فإن الماركسية في بعض الأيام كانت تقول بأن العالم إذا مشى بالشيوعية أو بالاشتراكية سوف يصل البشر إلى درجة بحيث لا حاكم ولا محكوم ويديرون أنفسهم بأنفسهم ولا تحصل أي مخالفات، في الوقت الذي كان رؤوساء الشيوعية هم أبخل الناس، يجمعون الأموال ويسكنون القصور العالية في نفس الوقت الذي يطالبون _ ظاهراً _ بحقوق العمال والمستضعفين والفقراء حتى يقولون _ على سبيل المثال _ أن برجنيف سأل أمه قال لها: كيف وضعنا نحن؟ قالت له: وضعك جيد لكن أخاف عليك من الشيوعية، تعني أن الشيوعيين إذا جاؤوا يأخذون أموالك وأنتم دائماً تهددون الناس وأهل الأموال بالشيوعية، وكان هو رئيس الشيوعية في ذلك الوقت.

إذن توجد كلمات خيالية، لكن هذا ليس خيالاً، بل هو واقع، وهذا ينطق به رسول الله الذي أخبرنا عن أخبار السماء، الذي أخبرنا عن أخبار الآخرة، الذي أخبرنا عن أخبار الأمم الماضية، فهو يخبرنا أيضاً عن المستقبل، مثلاً أخبرنا عن قضية الحسين(1) مثلما أخبرنا عن قضايا دقيقة مثل أن أمير المؤمنين كيف يغصب حقه(2) وكيف يقاتل الناكثين

ص: 113


1- انظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 217، الإصابة لابن حجر: 1 / 371، تأريخ دمشق: 14 / 223.
2- انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20 / 326، تأريخ البخاري: 2 / 174، تذكرة الحفاظ للذهبي: 3 / 995.

والقاسطين والمارقين(1) وكيف يقتل في محرابه،(2) كل هذه الأخبار بدقة وكلها طبقت كلها وقعت وتحققت، كذلك أخباره عندما يخبر عن الإمام الحجة عجل الله فرجه.

على كل حال، مع الأسف الشديد إن البعض ممن يدعي الإسلام عندما تواجههم بالواقع وعندما تخبرهم عن أن النبي صلى الله عليه وآله أخبر بصورة حتمية عن ظهور الإمام المنتظر عجل الله فرجه وعن تفاصيل ذلك، ينكرون ذلك لا اعتماداً على عقل ولا اعتماداً على حديث ولا اعتماداً على قول صحيح، وإنما تعصباً.

فمثلاً ابن خلدون ينكر قضية الإمام المهدي.(3)

وعبد الحسيب طه حميدة مثلاً في كتاب أدب الشيعة يقول: فكرة المهدي وعقيدة المهدي فكرة خلقتها الظروف الصعبة التي مرت بالشيعة، خصوصاً بعد قتل الحسين، باعتبار أنه بعد قتل الحسين عليه السلام ضعفت الشيعة فخافوا أن تتبعثر فرقتهم وطائفتهم وجماعتهم لذلك جعلوا أحاديث عن قضية الإمام المهدي وأن الحكم سيكون بأيديهم وأيدي أئمتهم ويعود إليهم ويحكمون العالم، وأمثال هذه الكلمات التي تقال حتى لا تتفكك الجماعة الشيعية ولا تنهار معنوياتهم.

ص: 114


1- انظر: المستدرك على الصحيحين للحاكم: 3 / 139.
2- انظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 136، كنز العمال للمتقي الهندي: 13 / 192 الحديث 36571.
3- انظر: تأريخ ابن خلدون: 1 / 311.

أو أحمد أمين المصري الذي يتهم الأحاديث التي وردت في الإمام المهدي عجل الله فرجه.(1)

بينما عقيدة المهدي عقيدة إسلامية بحتة، عقيدة وفكرة متأصلة وضع أساسها رسول الله صلى الله عليه وآله.

المهدي في كتب المسلمين:

ولهذا من جهة إلزام الآخرين أذكر بعض الكتب وبعض المقالات الخاصة بالإمام المهدي، وليس لي شغل بكتب جماعتنا الشيعة، بل من كتب اخواننا السنة، وأخصص كلامي فقط في الكتب والمقالات الخاصة، ولا أذكر عن العامة، لأن أي كتاب من كتب الأحاديث تفتحه تجد فيه فصلاً أو باباً أو عدة فصول عن الإمام المنتظر.

لكن نأتي إلى الكتب المستقلة التي ألفت من قبل علماء اخواننا السنة، ومؤلفوها هم علماء موثوقون وعلماء أعلام يعتمد عليهم وليسوا أناساً صغاراً أو قليلي العقل لكي نحتاج لأن نرى الحق مع من وهل أن قضية الإمام المنتظر بدعة عقائدية خلقتها الشيعة أو فكرة جديدة أوردها الشيعة وليس لها أصل في الإسلام؟ أم هي متأصلة في الإسلام وعلماء الحديث كتبوا عنها الشيء الكثير؟

ص: 115


1- انظر: المهدي والمهدوية: 108.

إذن نحن وما كتبه اخواننا علماء السنة في الإمام المنتظر عجل الله فرجه من كتب، على نحو الاستطراد والسرعة:

1 _ أبو نعيم الاصفهاني، من كبار العلماء، عنده ثلاثة كتب: مناقب المهدي، نعت المهدي، كتاب الأربعين حديثاً في المهدي.

2 _ جلال الدين السيوطي، صاحب الكتب والتفسير المعروف، عنده كتابان: العرف الوردي في أخبار المهدي، وعلامات المهدي.

3 _ حماد بن يعقوب الرواجني، عنده كتاب: أخبار المهدي.

4 _ ابن حجر العسقلاني، عنده كتاب: القول المختصر في علامات المهدي المنتظر.

5 _ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، عنده كتاب: البيان في أخبار صاحب الزمان.

6 _ ملا علي المتقي الهندي، صاحب كتاب كنز العمال، وهو أحد الكتب المهمة عند أبناء العامّة، عنده: البرهان في علامات مهدي آخر الزمان.

7 _ علي بن سلطان الهروي الحنفي، عنده: المشرب الوردي في أخبار المهدي.

8 _ وفي الرد على ابن خلدون الذي ينكر قضية الإمام المهدي كتب بعض علماء اخواننا السنة كتباً في هذا الباب في الرد عليه، فمثلاً أحمد بن محمد بن الصديق المغربي كتب كتاب (إبراز الوهم المكنون من كلام

ص: 116

ابن خلدون) وأيضاً له اسم ثان (المرشد المبدي لفساد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي).

9 _ كما أنّ شهاب الدين الحلاوني الشافعي صنع له منظومة تشتمل على خمسة وخمسين بيتاً حول أوصاف الإمام المهدي المستفادة من الأحاديث النبوية الشريفة، سماه: القطر الشهدي في أوصاف المهدي.

في أول المنظومة يقول:

مالك الحمد هب صلاة تطول *** بسلام إلى الرسول تؤول

أي هذا السؤول عن نبأ ال- *** مهدي ماذا منه أبنا الدليل

خذه رمزاً يغني الذي *** ومما بسط الناس يطلب التفصيل

هو ضرب من الرجال خفيف *** هو أجلى أقنى أشم كحيل

أعين أفرق أزج على *** أيمن خديه خال حسن جميل

أفلج الثغر حين يبسم *** براق الثنايا وربعة لا يطول

وجهه في اشتداد شمرته *** كالكوكب الدري المضيء جليل

... إلى آخر منظومته.

10 _ المحدث محمد البلبيس الشافعي، جاء إلى منظومة القطر الشهدي فشرحها، اسم الكتاب الذي شرح المنظومة: العطر الوردي بشرح القطر الشهدي.

ص: 117

11 _ ثم شمس الدين السفاريني النابلسي، يوجد عنده كتاب: لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأخرية، هذا شرح لأرجوزة في الإمام المهدي أسماه: الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية لشمس الدين السفاريني، يذكر فيها ويقول:

وما أتى في النص من أشراط *** فكله حق بلا شطاط

منها الإمام الخاتم الفصيح *** محمد المهدي والمسيح

وأنه يقتل للدجال *** بباب لدٍّ خل عن جدال

... إلى آخر ما قال.

12 _ الشيخ البهائي عنده قصيدة في الإمام المهدي معروفة ب-: وسيلة الفوز والأمان في مدح صاحب الزمان، فجاء أحمد بن علي الحنفي المنيني _ أحد علماء اخواننا السنة _ وشرح قصيدة الشيخ البهائي وسمّى الكتاب: فتح المنان في شرح قصيدة الشيخ البهائي المعروفة بوسيلة الفوز والأمان في مدح صاحب الزمان.

هذه إلمامة سريعة عن الكتب.

أما المقالات:

ص: 118

أولاً: مقالة بعنوان: نظرة في أحاديث المهدي، لمحمد الخضر حسين المصري، نشرتها مجلة التمدن الإسلامي (12) التي تصدرها جمعية التمدن الإسلامي في دمشق السورية بتأريخ محرم الحرام سنة 1370.

ثانياً: مقالة حول المهدي، للشيخ ناصر الدين الألباني، هي جواب عن سؤال لبعض قراء مجلة التمدن الإسلامي الدمشقية، بتأريخ ذي القعدة 1375 ه-، وفيها رد على السيد محمد رشيد رضا ومحمد عبد الله السمان.

ثالثاً: مقالة نشرتها مجلة رابطة العالم الإسلامي، التي تصدر في مكة المكرمة، لسكرتير الرابطة الأستاذ محمد صالح القزاز، في جوابه على سؤال ورد من أبي محمد من كينيا حول المهدي المنتظر.

رابعاً: مقالة بعنوان: عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر، للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وذيّلها الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية في ذلك الوقت والعالم المعروف اليوم، نشرتها مجلة الجامعة الإسلامية في العدد الثالث ذو القعدة 1388.

خامساً: أيضاً مقالة بعنوان: الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي، لعبد المحسن بن حمد العباد، رداً على الشيخ عبد الله بن زيد المحمود رئيس المحاكم الشرعية في دولة قطر في رسالته التي أنكر فيها المهدي المنتظر بعد حوادث سنة 1400 ه- لاقتحام المسجد الحرام، فهذا كان كاتباً مقالة ضد المهدية وضد المهدي وإلى آخره، فأجابه عبد المحسن بن حمد العباد ورد عليه.

ص: 119

والمقالة موجودة، نشرتها مجلة الجامعة الإسلامية الصادرة في المدينة المنورة في العدد الأول من السنة الثانية عشر 1400 ه-.

أما الشعر:

فقد قال ابن العربي الحاتمي، من كبار علماء اخواننا السنة:

ألا إن ختم الأولياء شهيد *** وعن إمام العالمين فقيد

هو السيد المهدي من آل أحمد *** هو الصارم الهندي حين يبيد

هو الشمس يجلو كل غم وظلمة *** هو الوابل الوسمي حين يجود(1)

وقال محمد بن طلحة الشافعي، في كتابه مطالب السؤول في مناقب آل الرسول:

فهذا الخلف الحجة قد أيده الله *** هداه منهج الحق وآتاه سجاياه

وأعلى في ذرى العلياء بالتأييد مرقاه *** وآتاه حلى فضل عظيم فتحلاه

وقد قال رسول الله قولاً قد رويناه *** وذو العلم بما قد قال إذ أدرك معناه

يرى الأخبار في المهدي جاءت بمسماه *** وقد أبداه بالنسبة والوصف وسماه

ولن يبلغ ما أوتيه أمثال وأشباه *** فمن قالوا هو المهدي ما مانوا بما فاهوا(2)

ابن أبي الحديد، عنده مقطوعة من جملتها يقول:

ص: 120


1- الفتوحات المكية لابن عربي: 3 / 327.
2- مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي: 89 الباب 12.

ولقد علمت بأنه لابد من *** مهديكم وليومه أتوقع

تحميه من جند الإله كتائب *** كاليم أقبل زاخراً يتدفع(1)

هذه إلمامة سريعة عما ورد عن اخواننا السنة في الإمام المنتظر من كتب ومقالات وبعض القصائد والأشعار.

بالله عليك كل هؤلاء العلماء السنة أنفسهم يكتبون عن الإمام المهدي المنتظر، أو ليس هذا دليلاً على أن قضية الإمام المنتظر قضية إسلامية أصلية واقعية ليس للشيعة دخل فيها؟!

الشيعة يروون عن رسول الله صلى الله عليه وآله روايات ويأخذونها بعين القبول ما دامت صحيحة، علماً أنه لم ترد روايات متواترة وأخبار في مناسبات وقضايا أخرى بهذا المقدار وبهذا التأكيد.

على كل حال، فالإمام المهدي عجل الله فرجه ظهوره حتم، إلى درجة أن الإمام يتحدث عنه النبي الكريم فيقول: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي _ في بعض الروايات كنيته كنيتي شمائله شمائلي _ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.(2)

التحريف في الحديث:

ص: 121


1- شرح القصائد العلويات لابن أبي الحديد: 143.
2- سنن الترمذي: 3 / 343 الحديث 2331، مسند أحمد: 1 / 376، المعجم الكبير للطبراني: 10 / 133 الحديث 10214 _ 10222.

هنا ألفت النظر إلى شيء.

أولاً: بعض من يروي هذا الحديث يضيف إليه: (اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي)(1) في الوقت الذي نحن نعلم أن اسم أبيه الحسن العسكري عليه السلام ، بينما اسم والد رسول الله صلى الله عليه وآله عبد الله، فإذن كيف نجمع بين هذين؟!

إذا أراد الباحث أن يرجع إلى أصل الأخبار يرى أن هذه الكلمة (واسم أبيه اسم أبي) أضيفت إلى حديث النبي ولم تكن موجودة في الأصل.

فإنّه توجد بعض الأحاديث الصحيحة التي جاء الوضّاعون فأضافوا إليها، فالذي يأتي بعد يتصور أنها من الأصل، مثل حديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث العلم والحكمة) هذا في باب الحكمة والعلم، أنه الوراثة الأصلية هذه، وليس معناه أننا إذا تركنا شيئاً لا يصل إلى الورثة.

لكن أضافوا إليها (وما تركناه صدقة)(2) وهذه ليست من الأصل، لكن الناس لا تلتفت.

هنا عندما يرجع الإنسان إلى التاريخ يرى الحسنيين _ مع احترامنا لسادتهم المؤمنين _ عندهم حركة باسم حركة المهدية، لأنه من كثرة ما

ص: 122


1- انظر: سنن أبي داوود: 2 / 309 الحديث 4282، شرح الأخبار: 3 / 322، كنز العمال: 14 / 366 الحديث 38669.
2- انظر: صحيح البخاري: 4 / 42، صحيح مسلم: 5 / 152.

تلقى الناس أخبار المهدي وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويقضي على الظالمين، فكلما كان يحصل الظلم والعدوان، ويأتي من يدعو إلى تعديل الأمور وإلى القضاء على الظلم والعدوان والظالمين كانوا يقولون: هذا المهدي، إلى هذا الحد كانت الناس مستبشرة بالمهدي.

فكانت حركة ضد بني أمية أواخر أيام بني أمية قام بها الحسنيّون وعلى رأسهم محمد بن عبد الله المحض، فبايعه حتى المنصور والسفاح وجماعة العباسيين على أنّه المهدي المنتظر، كما بايعه جماعة من العلويين، ما عدا الأئمة والذين يعتقدون عقيدتهم في أن الإمام المهدي المنتظر هو الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام.

ولذا عبد الله بن الحسن طلب إحضار الإمام الصادق وطلب منه أن يبايع ابنه باعتبار أنه المهدي فقال له الإمام عليه السلام بأنّ هذا ليس هو المهدي المنتظر، أما قضية أنه يثور ضد الظلم والظالمين فذاك معنى آخر.

فادعوا أنه المهدي، لكن كيف يرتبون القضية؟! فقالوا: اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، حتى يكون محمد بن عبد الله.

واللعبة هذه قام بها المنصور أيضاً، فالمنصور الدوانيقي لما استولى على الحكم وأراد أن يقضي على حركة محمد لقّب ابنه محمد بالمهدي وأكد أنه هو اسمه عبد الله _ لأنه أمر مستغرب أخوان: سفاح اسمه عبد الله والمنصور اسمه عبد الله _ المهم أنه صار محمد المهدي: محمد بن عبد

ص: 123

الله، فكان يدّعي أن محمد بن عبد الله الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو ابني.

فهذه الإضافة في الواقع غلط وليست صحيحة، ولا قال النبي: ان اسم أبيه اسم أبي بل الأحاديث عندنا صحيحة على أن اسم أبيه الإمام الحسن العسكري عليه السلام.(1)

الشبهات:

وتوجد بعض الشبهات أيضاً ترد في قضية الإمام المهدي يجب أن نلتفت إليها:

مثلاً شبهة أن الإمام المهدي يعتقد الشيعة بأنه غاب في السرداب، فابن خلدون عندما يأتي إلى الأئمة الاثنا عشر يذكرهم يقول عن الإمام الثاني عشر: يدعي الشيعة أن إمامهم الثاني عشر غاب في السرداب في الحلة، واللطيف أن الحلة في ذلك اليوم لم يكن لها وجود تأريخياً، فإن الحلة قد شيدت من بعد مئتين أو أكثر من السنين.

وآخر يقول سرداب في بغداد، آخر يقول في سامراء.

ص: 124


1- انظر: حديث الصحيفة الذي يذكر أسماء الأئمة عليهم السلام جميعاً بما فيهم الحجة المهدي المنتظر عليه السلام: إكمال الدين وإتمام النعمة: 305 الحديث 1، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: 1 / 255.

ثم يضيفون إلى هذا أن الشيعة يأتون كل ليلة ويأتون بجواد مسرج ويقفون بباب السرداب وينادون: اخرج إلينا يا مولانا مدة ساعة، لا يخرج فيرجعون.(1)

بالله عليكم نحن شيعة وآباؤنا وأجدادنا، ونحن لا نعيش في جنوب أفريقيا، بل نحن مع المسلمين نعيش في كل مكان، إلى الآن لم نسمع أن أحداً قال أجدادنا أو جماعة منهم كانوا يأتون إلى السرداب ويقولون هكذا..

لماذا هذا الكذب؟! لماذا يفرقون بين المسلمين بالأكاذيب؟!

ثم آتونا بسند من مصدر أو كتاب يقول بأن الشيعة يعتقدون أن الإمام غاب في السرداب! لا يوجد هذا الشيء عندنا.

نعم، هذا السرداب هو من بيت الإمامين الهادي والعسكري وثم الإمام المهدي، وتعرفون أن بيوت سامراء كبيرة جداً، وإذا رجعنا إلى التحقيق نرى أن بيت الإمام الهادي عليه السلام بيت كبير، فهو يضم قسماً من الصحن من مكان دفن الإمام عليه السلام إلى السرداب، وغالباً هناك توجد سراديب، بسبب حرارة الجو في ذلك الوقت فيتوقّون الحر بالنزول إلى السرداب.

وهذا السرداب قبل 250 سنة كان متصلاً، وكان هناك طريق طويل من الرواق إلى السرداب، ثم بعد ذلك رأوا أنه طريق طويل، لذلك ترى

ص: 125


1- تأريخ ابن خلدون: 1 / 199.

في بعض الزيارات القديمة يذكرون زيارة الإمامين العسكريين ثم زيارة الإمام المهدي عجل الله فرجه قبل زيارة نرجس وحكيمة باعتبار أن باب السرداب من هناك.

ثم قطعوا هذا الطريق وصنعوا له طريقاً جديداً هذا الصحن والقبة كله جديد.

وفي كل مكان إذا كان الإمام وضع قدمه أو صلى فيه سمّي مقام الإمام، وليس عندنا فقط مسجد الكوفة ومسجد السهلة، بل عندنا مقام جبرئيل وعندنا مقام النبي ومقام نوح وغيرهم، وهذا معناه أن هؤلاء أتوا إلى هذا المكان فتبرك بهم أكثر.

نحن نعتقد أن الإمام نور الله في الأرض وحجة الله في الأرض، فعندما يحل في مكان تحل فيه البركة، فثلاثة من الأئمة يعيشون في هذا المكان: الإمام الهادي عشرين سنة عاش فيه ومن بعده الإمام العسكري إلى أن توفي ثم الإمام المهدي إلى أن غاب بوفاة والده، فهؤلاء عاشوا في هذا المكان ليالي وأياماً حتى يحفظوا أنفسهم من الحر، والإمام كثير الذكر _ بل هو أعبد الناس _ فهؤلاء عندما يعبدون الله في هذا المكان يكون مكاناً مقدساً مباركاً، وإن وجدت أدعية وما شابه ذلك للإمام الحجة فإنه أين ما تقرأها فهو صحيح، سواء على السطح أم تحت، لكنه باعتبار أن هذا المكان كان يضمهم فهنا أفضل من غيره.

ص: 126

وإلا فإنه لا يوجد هذا الشيء، ولا يوجد مصدر واحد من مصادر الشيعة يقول بأن الإمام المهدي غاب في السرداب وأن الشيعة تعتقد أن الإمام غاب في السرداب.

وبعض شعراءهم يقول:

فما أسعد السرداب في سر من رآى *** له الفضل عن أم القرى وله الفخر

فيا للأعاجيب الذي من عجيبها *** أن اتخذ السرداب برجاً له البدر(1)

هذا عنده قليل من التأدب.

آخر ليس له أدب، ويطعننا بالصميم يقول:

ما آن للسرداب أن يلد الذي *** صيرتموه بزعمكم إنسانا

فعلى عقولكم العفا فإنكم *** ثلثتم العنقاء والغيلانا(2)

في الوقت الذي يؤكد فيه علماؤنا على أنه لا توجد هكذا عقيدة عندنا، ولا عندنا مستند على أن الإمام غاب في السرداب، وإنما توجد رواية أحمد الجاني الحنفي من علماء اخواننا السنة _ وليست عندنا _ أن الخليفة العباسي بعد وفاة الإمام الحسن العسكري أمر جماعة أن يهجموا

ص: 127


1- هذه الأبيات لأحد العلماء من الآلوسيين، وقد رد عليه جماعة كبيرة من علمائنا، وللمزيد: راجع: إلزام الناصب لليزدي الحائري: 2 / 324، ديوان السيد رضا الهندي: 26.
2- انظر: الصواعق المحرقة لابن حجر: 100.

على دار الإمام الحسن العسكري وأن يلقوا القبض على من يجدونه هناك من الذكور، فيقول: أقبلنا وإذا بصوت تلاوة قرآن وإذا توجد باب إلى السرداب، فنزلنا هناك وإذا بالسرداب مملوء ماء وعلى الماء سجادة وعليها شاب واقف يصلي، فنزل أحدهم أراد أن يلقي القبض عليه فغرق فاستنجد بنا فأخذناه من يده والثاني كذلك، فقلنا: نعتذر إليك إلى آخره(1)..

فلعل هذه الرواية هي التي جعلتهم يقولون سرداب الغيبة.

وإذا عوام الناس قالوا شيئاً فلا يوجد دليل، حتى أن الشيخ عباس القمي في مفاتيحه يؤكد على أنه لا يوجد عندنا دليل على أن الإمام غاب في السرداب وإنما هذا المكان مقدس لأنه محل ومقام الأئمة عليهم السلام.(2)

حتى أن السيد محسن الأمين العاملي يوجد عنده قصيدة في الرد على قصيدة رائية وردت إلى النجف الأشرف قبل عشرات السنين، أيام كان هو ومجموعة من كبار العلماء، هذه القصيدة الرائية التي منها:

(فما أسعد السرداب في سر من رآى).

فأجابه جماعة من جملتها قضية السرداب، يقول في أسطورة الغيبة في السرداب:

ص: 128


1- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 249، الخرائج والجرائح للراوندي: 1 / 460.
2- الخرائج والجرائح: 2 / 942.

فما أسعد السرداب في سر من رآى *** وأسعد منه البيت والركن والحجر

وما شرف السرداب إلا لأنه *** بدار تناهى عندها العز والفخر

تشرف مبناها بسكنا ثلاثة *** من الآل يستسقى بذكرهم القطر

وقد أذن الباري تعالى برفعها *** وذكر اسمه فيها فطاب بها الذكر

وقد كان في السرداب أعظم آية *** من الحجة المهدي حار لها الفكر

أرادوا به سوءاً فخيب سعيهم *** وعاقبة البغي الندامة والثبر

رأوا دونهم بحراً من الماء مغرقاً *** لمن خاضه منهم وكانوا ولا بحر(1)

وقد جاء للمهدي فيه زيارة *** عن السادة الأطهار يعطى بها الأجر

وكم عبد الرحمن آل محمد *** به ولهم من خوفه أوجه صفر

ففي شرف السرداب هذا الذي اتى *** وفي نسبة السرداب هذا هو السر

وما غاب في السرداب قط وإنما *** توارى عن الأبصار إذ ناله الضر

ولا اتخذ السرداب برجاً ومن يكن *** لنا ناسباً هذا فقولته هذر

بلى أمست الدنيا به مستنيرة *** ومنه على أقطارها يعبق النثر

فكان كمثل الشمس بالسحب حجبت *** ومن نفعها لم يحرم البحر والبر

وإن زهر السرداب بالبدر برهة *** ففي البيت من أم القرى يطلع البدر(2)

يبايع ما بين المقام وركنه *** ويعلن له بالطاعة العبد والحر

فيا للأعاجيب التي من عجيبها *** مقالة اخوان لنا لهم قدر

لنا نسبوا شيئاً ولسنا نقوله *** وعابوا بما لم يجر منا له ذكر

بأن غاب في السرداب صاحب عصرنا *** وأمسى مقيماً فيه ما بقي الدهر

ص: 129


1- هذه إشارة لرواية الجامي الحنفي، والثبر يعني الطعن والطرد.
2- إشارة إلى أن الإمام يخرج في مكة ويبايع بين الركن والمقام.

ويخرج منه حين يأذن ربه *** بذلك لا يعروه خوف ولا ذعر

أبينوا لنا من قال منا بهذه *** وهل ضم هذا القول من كتبنا سفر

وإلا فأنتم ظالمون لنا بما *** نسبتم وإن تأبوا فموعدنا الحشر(1)

الخاتمة:

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

الإنسان يجب أن يتوخى الحذر فإذا وجد حديثاً أو أثراً، خصوصاً من رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فلا ينكره للعصبية أو للجهل أو للعناد، وإنما يذعن له ويعترف بأن الذي جاء به رسول الله حق وسيتحقق حتماً، فهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه واجعلنا من أنصاره وأعوانه.

يا غائباً لم تغب عنا رعايته *** ولا يزال بعين اللطف يرعانا

قرب الفرج حتماً ويجب أن نعد أنفسنا لاستقباله إن شاء الله، لأن أكثر العلامات تدل على أنه قرب الفرج وعلى أنه قرب الموعد، ومعنى الانتظار وثواب الانتظار أن الإنسان يعد نفسه، فإذا تنتظر ضيفاً يأتيك فلا تذهب وتنام بالبيت وإنما تهيئ البيت والغذاء وتهيئ نفسك لأنه يأتيكم بغتة، فلا

ص: 130


1- راجع: إلزام الناصب لليزدي الحائري: 2 / 324، ديوان السيد رضا الهندي: 26.

تقول: إذا أتى أتوب وأستغفر وأعطي الحقوق الشرعية، فهذا ليس فيه فائدة، بل من الآن يجب أن يعد الإنسان نفسه وواجباته الشرعية وحقوق الناس وحق الله يعطيه من طاعة أو عبادة، يأمر بالمعروف حسب قدرته، ينهى عن المنكر حسب قدرته.

وإلا ليس معنى هذا أن الإمام يصلح الأمور ونحن نعمل ما نشاء إلى أن يأتي ويصلح الأمور، نحن يجب أن نهيئ الأمور أيضاً، نحن يجب أن نكون في حال ترقب.

اللهم عجل فرجه، هذه الآلام التي تمر على المسلمين أملنا بالإمام الحجة المنتظر هو الذي يقضي على الظالمين وهو الذي يقطع دابر الظالمين وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً...

يابن الهدى عجل إلينا فإننا *** سقينا الردى من ظلم أعدائكم جهرا

أغثنا رعاك الله إنك لم تزل *** غياثاً لنا يا خير من وطأ الغبرا

فنقسم بالهادي عليك وصهره *** وسبطيه والغر الميامين والزهرا

تحنن علينا وارفع الجور فالهدى *** شتات ووجه العدل أصبح مغبرا

اتهضمنا الأعداء وأنت إمامنا *** وطوعك ما في هذه الدار والأخرى

فأندبه والدمع يسبق منطقي *** أيا بن الهداة الغر من قد سموا قدرا

أما آن أخذ الثار للسبط إذ قضى *** غريباً ومنه القوم قد هشموا الصدرا

والحمد لله رب العالمين

ص: 131

ص: 132

انتظار الفرج

اشارة

سماحة الشيخ إبراهيم النصيراوي

ص: 133

ص: 134

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (وعليكم بالصبر وانتظار الفرج، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج)(1).

إتماماً لحديث أمس حول الإمام المنقذ المهدي المنتظر عجل الله فرجه(2) يتبادر إلى الذهن سؤالان طالما طرحا من قبل كثير من الاخوة المؤمنين.

السؤال الأول: إن جملة من الروايات الموجودة عندنا تقول: أن الإمام المهدي عليه السلام سوف يأتي بدين(3) جديد، فما هو هذا الدين الجديد الذي سيأتي به الإمام الموعود المنتظر؟

ص: 135


1- مناقب آل أبى طالب لابن شهر أشوب 3: 527.
2- راجع: محاضرات حول المهدي: الجزء الأول: ص 171.
3- راجع الكافي للكليني ج1: 536, والإرشاد للمفيد ص 364, الغيبة للشيخ الطوسي: 382, وفيها كلها ما لفظه: (...عن أبي عبد الله عليه السلام : إذا قام القائم عليه السلام جاء بأمر جديد كما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بدء الإسلام إلى أمر جديد ...وفي لفظ آخر : جاء بأمر غير الذي كان).

السؤال الثاني: هناك عدد من الروايات _ منها الرواية التي افتتحت بها الحديث _ تؤكد على الانتظار، وأن من أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج، وفي بعض الروايات أفضل العبادة انتظار الفرج، لماذا هذا التأكيد على انتظار الفرج؟

الإمام والدين الجديد

أما السؤال الأول، وهو الذي يستفسر عن إتيان الإمام المهدي بدين جديد، أي إذا ظهر الإمام المهدي عليه السلام فسيوجد ترابط كبير بينه وبين جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كافح الجهل وكافح الظلم والفساد وأسس الدولة العالمية.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد جهاد طويل وبعد معاناة استطاع أن يؤسس ذلك، ولكن رحل إلى الله تبارك وتعالى وقد عقد الأمل على ولده المنتظر حتى يسود الإسلام جميع وجه الأرض، لأن هذه السيادة لم تتحقق في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي دولة الإمام المهدي المنتظر سيسود العدل جميع الأرض, ويطبق الإسلام على جميع نقاط الأرض.

حينما تقول الروايات أنه عليه السلام سيأتي بدين جديد، نحن نعلم بأن الشريعة ختمت بالنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وشاء الله أن

ص: 136

يكون خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يكون خاتم الأوصياء أيضاً محمد المهدي عليه السلام. تزيد بعض الروايات أنه يأتي بكتاب جديد، وبعضها: يأتي بدعاء جديد، بسنّة جديدة.

مع أننا نعلم بأن الشريعة ختمت (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).(1)

إذا درسنا تأريخ حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي فترة صدر الإسلام وما جاءنا من أخبار حول دولة الإمام المنتظر، نجد أن الإمام عليه السلام سيقوم بأمرين مهمين:

الأول: أنه يحكم ويأتي بأحكام واقعية لا أحكام ظاهرية.

فنحن الآن نعمل وفق الأحكام الموجودة عندنا، وأغلبها هي أحكام ظاهرية.

فمثلاً حينما تفتح الرسائل العلمية تجد أن المجتهد يعطيك الحكم ولا يقول لك بأن هذا حكم الله الواقعي، إنما يقول هذا حكم الله الظاهري في زمن الغيبة، وهو الذي يقوم مقام الحكم الواقعي، أما لو كان المعصوم موجوداً فهو يعطيك الحكم الواقعي مائة بالمائة.

أما في زمن الغيبة فالمجتهد يبذل جهده ويفرغ وسعه, وبعد جهد ومعاناة يعطيك الحكم الذي توصل إليه اجتهاده، هذا الحكم هو حكم

ص: 137


1- المائدة (5): 3.

ظاهري، قد يكون خطأً وقد يكون صواباً، فإذا أخطأ المجتهد فله أجر, وإذا أصاب الواقع فله أجران.(1) هذا في زمن الغيبة.

أما إذا ظهر الإمام المهدي المنتظر فإنه يأتي بالأحكام الواقعية, ولا يوجد حينئذ حكم ظاهري، بل كل الأحكام هي أحكام واقعية. وكل حكم هو حكم الله الواقعي, الذي يريده.

فماذا يتصور الناس؟ حينئذٍ يتصورون بأن المهدي جاء بدين جديد، وهو في الحقيقة ليس بدين جديد، وإنما مرت ظروف جعلتنا نستعمل الأحكام الظاهرية، فالإمام يرجعنا إلى الحكم الواقعي الموجود في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذا في الأحكام الثابتة. وأما الأحكام المتغيرة، أو الأحكام الولائية، فإن الإمام المهدي سيأتينا بجملة من الأحكام الولائية، كما سنبين إن شاء الله.

إذاً هذا الأمر الأول, أن الإمام سوف يأتي بأحكام واقعية.

الثاني: أن الناس كما ضيعوا الأحكام الشرعية، وتجاهلوا بعض الأحكام وبعض الحدود وبعض القضايا، فإن بعض الأمور ضيعها وتناساها الناس بعد أن مضى عليها الزمان، فمثلا: صلاة الجمعة _ هذه الشعيرة المهمة _ كثير من المسلمين لم يؤدوا صلاة الجمعة.

فإذاً المسلمون كما أنهم جهلوا بعض الأحكام, ضيعوا بعضاً منها، كثير من الأحكام ضيعوها ولم يطبقوها.

ص: 138


1- لاحظ: عوالي الآلي: 4 / 63 الحديث 17.

فلما يظهر الإمام المهدي عجل الله فرجه فإنه يطبق الأحكام التي تناساها المسلمون أو نسوها, ويشعر البعض بأنه جاء بدين جديد.

إذاً تجديد الدين على يد الإمام المهدي ليس معناه أن الإمام سوف يأتي بدين جديد، هذا لا نقول به أبداً, وإنما يحيي الدين بعد اندراس.

توجد رواية, يرويها المسلمون مؤداها أن على رأس كل قرن مجدداً لله يحيي ما اندرس من دينه.(1)

كأنما كل قرن يأتي مجدد، فمن هو هذا المجدد؟ وماذا يقوم بعمل؟ إنه يعيد ما اندرس من علوم هذا الدين، فليكن الإمام المهدي عليه السلام واحداً من هؤلاء.

إذا قارنّا بين عصر النبي والمعصومين، وعصر الإمام المهدي عليه السلام فما هي الفوارق؟

بين عصر النبي والمهدي:

هنالك فوارق أساسية، منها:

أولاً: النبي صلى الله عليه وآله جاء في مجتمع جاهلي، والمجتمع الجاهلي هو الذي ليس عنده سابقة عن الدين الإسلامي, ولم يعرف عن

ص: 139


1- راجع كتاب سنن أبي داوود ج2: 311، المستدرك للحاكم ج4 522, عون المعبود للعظيم آبادي ج11: 260-365.

الدين شيئاً، فجاءهم النبي بهذا الدين الجديد، والنبي تحيط به الأعداء من كل الجهات.

الإمام المنتظر عليه السلام حينما يأتي، الناس كلهم يرون بأن لا حل لمشاكلهم إلا الدين الإسلامي، ولا ملاذ إلا الدين الإسلامي، ولا ملجأ ولا خلاص إلا عن طريق الدين الإسلامي.

الآن الصحوة الإسلامية التي تملأ الكرة الأرضية، ماذا تعني هذه الصحوة الإسلامية؟

الصحوة الإسلامية تعني أن الناس استفاقوا إلى أن المنجي الوحيد من كل هذا العذاب الموجود هو الإسلام، فالإسلام هو الذي يضمن السعادة، والإسلام هو الكفيل بتحقيق الآمال.

فالإمام المهدي لما يأتي تلاحظ بأن الناس عندهم شوق إلى إقامة الحكم الإلهي، وإلى إقامة الإسلام، في حين أن النبي واجه الأخطار والأعداء المحيطين بدولته، الإمام المهدي عليه السلام _ كما في الروايات _ بأن الله (يصلح له الأمر في ليلة)(1) ويؤسس دولته العالمية، هذا أولاً.

ثانياً: النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسس دولة في المدينة المنورة، أما في مكة فكان الجهاد متواصلاً بداية، لكن لما انتقل إلى المدينة المنورة _ المدينة كانت تعرف بيثرب _ لما دخلها النبي سميت بالمدينة لأن المدنية دخلتها على يد النبي وصار فيها قانون, وصارت دولة.

ص: 140


1- كمال الدين للصدوق ج1: 151.

النبي لما أسس الدولة الإسلامية. أسسها وهي محدودة، أي أنها لم تنتشر لتسيطر على جميع الأرض، باعتبار أن المشركين قيدوا حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أما الإمام المهدي، فإن دولته تمتد لتشمل الأرض كلها.

ثالثاً: في عصر المعصومين كان استعمال التقية كثيراً رائجاً (التقية ديني ودين آبائي)(1)، أما في دولة الإمام المنتظر فإنه يندر استعمال التقية.

نأتي الآن إلى هذه النقاط بشيء من التفصيل:

قلنا أولا بأن دولة الإمام المهدي عليه السلام يسودها الحكم الواقعي لا الحكم الظاهري، وأضرب لك ثلاثة شواهد:

الشاهد الأول: الروايات تقول إن الإمام المنتظر عليه السلام إذا ظهر فإنه يقضي كما كان يقضي داوود عليه السلام (2) كيف؟ داوود كان يقضي بعلمه.

وعندنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في القضاء يقول: (إنما أقضي بينكم بالأيمان والبينات).(3) بمعنى أنّه يأتي المدعي والمدعى عليه فالمدعي لابد عنده بينة أو شهود، فالنبي يقضي على طبق البينة ولا يقضي النبي بعلمه، هو يعلم ولكن لا يقضي بعلمه.

ص: 141


1- عوالي اللآلي لابن أبى جمهور ج2: 104, البحار للمجلسي ج2: 74...
2- راجع شرح الأخبار للقاضي النعمان ج3 : 561 ، كتاب الغيبة للنعماني: 315...
3- الكافي للكليني ج7: 414، دعائم الإسلام للقاضي النعمان ج2: 518.

داوود عليه السلام إنما كان يقضي بعلمه، والقصة التي يذكرها القرآن، حينما دخل اثنان على داوود عليه السلام فقال له أحدهم: (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ)(1) قال له: هذا يريد أن يأخذ النعجة الواحدة التي عندي، طبعاً عندما أحد يسمع هكذا مسألة يتفاجأ ويقول له: أنت عندك تسع وتسعين لماذا تأخذ النعجة الواحدة.

داوود قضى بعلمه، فإنه يعلم مسبقاً أن النعجة لصاحبها، لهذا الشخص، فقضى من دون أن يسأل الطرف الثاني (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ) قضى له من دون تأمل ومن دون أن يسأل الطرف الثاني.

القرآن الكريم نبه داوود بأن هذه المرة مقبولة لكن في المرات الآتية أن تسأل البينة، اسأل الطرف المقابل.

الإمام المهدي عجل الله فرجه من صفات دولته وحكمه أنه يحكم بعلمه ولا يسأل البينة ولا يأخذ الإيمان، إنما يقضي بعلمه.

وعلم الإمام إما عن طريق النبي، وإما عن طريق تحديث الملائكة، وإما عن طريق الإلهام، وهذا ما تكلمنا فيه سابقاً.

ص: 142


1- ص (38): 23.

الشاهد الثاني: أيضاً في الروايات أن أحد الأئمة سئل لماذا سمي الإمام المهدي بالمهدي؟ قال: لأنه يهدي إلى أمر خفي، فربما يرى الناس إنساناً لا ذنب فيقتله الإمام المهدي عليه السلام.(1)

أي أن الناس _ حسب الظاهر _ يرون أن هذا ليس عنده ذنب فيأتي الإمام فيقتله، لأنّه عليه السلام يقوم بعملية تطهير للمجتمع وقلع لجذور الفساد وخلق مجتمع متكامل، وهؤلاء المجموعة الذين يقتلهم الإمام في ذممهم حقوق، منها حق القتل، فالإمام يقتص منهم لأنّه لا يوجد دليل خارجي يثبت القتل وهو يقضي بعلمه، فيقتلهم والناس يظنون بأنهم لا ذنب لهم، هذا أيضاً موجود.

ثالثاً: الإمام سلام الله عليه من خصائص دولته أنّه عليه السلام حينما يطبق الشريعة الإسلامية، يطبق الشريعة بكاملها، فيتصور كثير من الناس بأن هذه الأحكام جديدة، لأنها هي غير معهودة ولم يكونوا على اطلاع بها ولم يعرفوها من قبل، وهذا وبسبب التعتيم بسبب الجور الذي كان مخيماً عليهم، فيتصورون بأن هذه القضايا التي جاء بها الإمام سلام الله عليه هي أمور غريبة عليهم تماماً، هذا بالنسبة إلى الأحكام الثابتة.

ص: 143


1- بحار الأنوار: 52/ 390 الحديث 212، ولفظه: (إنّما سمي المهدي لأنه يهدي إلى أمر خفي، حتى أنه يبعث إلى رجل لا يعلم الناس له ذنباً فيقتله).

وأما بالنسبة إلى الأحكام المتغيرة، قلنا بأن دولة الإمام المهدي سوف نرى فيها إن شاء الله إذا كنا من الأحياء عند الظهور، نرى فيها كثيراً من الأحكام الولائية.

ما هي الأحكام الولائية؟! الحكم الولائي هو الذي يظهر عند الاقتضاء، وللتوضيح أضرب لكم بعض الأمثلة، مثلاً التسعيرة، أي تحديد أسعار المواد، ففي الشريعة الإسلامية ليس عندنا تسعيرة، أي أحد يسعر البضاعة التي عنده كيفما يشاء، لكن ولي الأمر من أجل حفظ النظام يضع تسعيرة معينة لكل مادة من المواد، فهذه التسعيرة تكون حينئذ ملزمة.

فالحكم الثابت هو عدم التسعيرة، والحكم الولائي المتغير التسعيرة التي يضعها الإمام التي يضعها ولي الأمر.

في زمان الإمام المهدي عجل الله فرجه تظهر جملة من الأمور الولائية مثلاً _ حسب الروايات الواردة _ أن الإمام سلام الله عليه إذا ظهر فإنه يحكم كما حكم سليمان بن داوود في الأمر الولائي، فالقرآن يذكر بأن داوود وسليمان عرضت عليهما مسألة من المسائل في زمانهم، المسألة هي هكذا: بأن إنساناً عنده مزرعة وجاءت غنم لشخص، هذه الغنم دخلت إلى المزرعة وأكلت منها فأفسدت الزرع، الحكم المترتب على هذه المسألة أن الغنم إذا دخلت إلى مزرعة ليلاً فيكون الضمان على صاحب الغنم، أما إذا كان الدخول بالنهار _ يعني الغنم دخلت نهاراً _ فحينئذ

ص: 144

لا يجب الضمان لأن صاحب الغنم عليه أن يحفظ غنمه ليلاً، فإذا وقع الإفساد نهاراً فلاضمان، فكان الحكم في هذه الواقعة أنه يجب الضمان، لكن داوود وسليمان ما هو الضمان، فهذا أمر متغير، داوود عليه السلام قال: بأنه يرى أن الغنم تعطى إلى صاحب المزرعة، لأن زرعه فسد، فبمقدار زرعه نعطيه من الغنم، أي بقدر قيمة الزرع نعطي إلى صاحب المزرعة، أمّا سليمان عليه السلام فحكم بأنّه لا يأخذ الغنم وإنما يأخذ نتاج الغنم، يعني يعطوه من الحليب أو من الأولاد أما نفس الغنم فلا تعطى إليه.(1)

فإذن صار الحكم مختلفاً لأنه حكم ولائي حسب ما يراه من المصلحة.

فالإمام عليه السلام في دولته يضع أحكاماً ولائية كثيرة من هذه الأحكام _ مثلاً _ أن الإمام عليه السلام يضع نظاماً للمرور.

وقد ورد هذا في الروايات _ حتى تعرف النظرة إلى دولة الإمام المهدي عجل الله فرجه _ ففي بعض الروايات ورد أن الإمام يضع نظاماً للمرور(2)، وهذا من الأمور الولائية.

فمثلاً يقال لتنظيم المرور: أيها الركاب أو معاشر الركاب أو معشر الركاب سيروا في وسط الطريق، يعني الطريق للراكب, ومعشر الراجلين كونوا على جانب الطريق، وأيما إنسان راجل مشى في وسط الطريق

ص: 145


1- راجع: الكافي: 5 / 301 الحديث 2.
2- لاحظ: الإرشاد للشيخ المفيد: 2 / 385.

وتضرر فلا دية له أبداً، هكذا الإمام يضع حكماً للمرور وينظم العملية، وهذا يكون حكماً ولائياً.

الإنسان عندما يرى هكذا أحكام بعد فترة طويلة أو بعد غيبة طويلة ماذا يتصور! يتصور بأن هذا الدين هو دين جديد لم يكن معتاداً عليه سابقاً.

وليس بالضرورة أن هذه الروايات كلها نحكم بصحتها، لكن بالجملة توجد عندنا هكذا روايات.

الخلاصة: أن الإمام لما يأتي بهذه الأحكام الواقعية والأمور الولائية يتصور الكثير من الناس بأن الإمام جاء بدين جديد غير الذي جاء به النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

انتظار الفرج

نأتي إلى السؤال الثاني: عندنا جملة من الروايات انتظار الفرج أفضل أعمال أمتي، ومن العبادة(1).. إلى أخره.

روايات عديدة تشير إلى انتظار الفرج، فهل إن الإسلام يريد منا أن نجلس مكتوفي الأيدي خانعين خاملين ننتظر الفرج لأن الانتظار هو من أفضل أعمال أمتي! هل إن المطلوب هو هذا؟! وهل نفهم من الروايات

ص: 146


1- الإمامة والتبصرة: 163، من لا يحضره الفقيه: 4 / 383، إكمال الدين وإتمام النعمة: 287 الحديث 6، بحار الأنوار: 52 / 128 الحديث 21.

أن الإنسان يجلس في داره ويسكت ولا يتدخل بشيء لا من قريب ولا من بعيد، ينتظر الفرج لأن الفرج أفضل أعمال أمتي، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!

الجواب: لا، فإن النظرة الإسلامية أبعد من هذا، لأن انتظار الفرج له أثار كثيرة، هذه الآثار إذا لم تتحقق فإن الإمام لم يظهر عليه السلام.

أولاً: الاندماج

من آثار الانتظار خلق حالة اندماج نفسي مع المنتظر.

يعني الإنسان المؤمن حينما ينتظر الإمام المهدي عجل الله فرجه سوف يتحمل معاناة. هذه المعاناة ماذا تخلق عنده؟ تخلق عنده حالة من الاندماج مع الإمام المهدي أرواحنا له الفداء، وتشده إليه أكثر كلما زادت.

ثانياً: التهيؤ

الإنسان المنتظر للإمام _ و كلنا من المنتظرين _ عليه في زمن الانتظار أن يهيئ نفسه, وأن يقضي على الفساد الموجود لديه، وعلى المنكر الموجود عنده.

فإذا قضى على الفساد والمنكر الموجود عنده, يكون حينئذ منتظراً صادقاً، وإلا فإنه لا يكون من المنتظرين أبداً.

ص: 147

الإنسان المنتظر للإمام عليه أن يعمل وأن يهيئ نفسه، فيجب أن يبتعد عن الفاحشة ويبتعد عن المنكر، فإذا كان هو يعمل المنكر فلا يكون حينئذ من المنتظرين.

فالإنسان في زمن الانتظار عليه أن يصنع من نفسه إنساناً كاملاً, إنساناً منتظراً للإمام عليه السلام ، حتى يكون صادقاً في انتظاره، ولتوضيح ذلك نقول _ من باب المثال _: إذا كان عندك ضيف عزيز, بعد أسبوع يأتيك هذا الضيف وهو مهم جداً, شخصية بارزة وتوجد علاقة تربطك معه, وقال لك: سوف آتيك بعد أسبوع, فأنت خلال هذا الأسبوع تتهيأ له لاستقباله، وتهيئ نفسك وبيتك وأثاثك..إلى أخره, أي أنك تهيئ كافة مستلزمات الضيافة، فإذا هيأتها فأنت من المنتظرين له، أما إذا لم تهيئها أبداً فلا يقال بأنك منتظر له.

الإمام عليه السلام يجب أن تنخلق له قاعدة جماهيرية يقال لهم: الممهدون للإمام المهدي سلام الله عليه، فلابد من مجموعة كبيرة ممهدة للإمام المهدي عجل الله فرجه.

فإذا كانت هناك مجموعة ممهدة، فكيف نتصور ما تقوله الرواية: (تملأ الأرض ظلماً وجوراً)(1) أو: بعدما تملأ ظلماً وجوراً، فكيف توجد لدينا قاعدة ممهدة، وكيف تملأ الأرض ظلماً وجوراً في نفس الوقت؟ كيف نجمع بين هذين؟

ص: 148


1- مسند احمد ج3: 28, سنن أبى داود ج2: 309....

الجواب: إن الرواية التي تقول: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يظهر فيه ولدي, يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)(1) ليس المراد بالظلم والجور الذي يملأ الدنيا قبل المهدي يعني كل الدنيا فرداً فرداً، ولا المراد أن كل فرد من الأفراد يكون فاسداً ويكون مرتكباً للرذيلة.

إنما الرواية تعني أحد احتمالين، والله العالم:

إما أن يراد بملء الأرض ظلماً وفساداً، أن أولياء الأمور يفسدون، وإذا فسد الأولياء حينئذ يفسد الآخرون _ هذا أولاً _ إذن ليس كل الأرض تملأ فساداً.

الثاني: أن يكون المراد بملء الأرض فساداً وظلماً يعني الجو العام الذي يملأ الدنيا هو جو فساد وهرج ومرج وظلم، لا أنه كل فرد فرد.

بل بالعكس عندنا روايات: (إذا رأيتم راياتهم _ يعني رايات الممهدين لدولة الإمام المنتظر _ إذا رأيتم راياتهم فاتبعوهم، إنه من أشراط وعلامات المهدي المنتظر عجل الله فرجه).(2)

ص: 149


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 280 الحديث 28، الإرشاد للشيخ المفيد: 2 / 340، العمدة لابن البطريق: 433 الحديث 908، مسند أحمد: 1 / 99، سنن ابن ماجة: 2 / 929 الحديث 2779، سنن الترمذي: 3 / 343 الحديث 2332، كنز العمال: 14 / 267 الحديث 38675، ...
2- مسند احمد ج5: 277, المستدرك للحاكم ج4: 502, كنز العمال للهندي ج11: 283...

إذاً من فوائد الانتظار أنه يصنع الإنسان المؤمن, ويتكامل فيه الإنسان، وينتظر دولة الإمام المهدي عجل الله فرجه.

ثالثاً: الإيمان بالغيب:

من آثار الانتظار أن الإنسان يؤمن بالغيب من خلال الانتظار، فنحن نعلم أن المؤمنين المتقين أول صفة من صفاتهم الإيمان بالغيب.

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)(1) إلى أخر الآية المباركة.

أول شيء الإيمان بالغيب، لأن ديننا قائم على الإيمان بالغيب، نحن آمنا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم نرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآمنا بالقيامة ولم نرَ القيامة، وآمنا بالمهدي ولم نرَ الإمام المهدي ولا من أخبرنا عن المهدي، إنما هي أخبار صادقة تحدثنا عن غيب, وآمنا به.

فالإنسان المنتظر حقاً مؤمن بالغيب، والإيمان بالغيب درجة عالية, لذا النبي صلى الله عليه وآله في يوم من الأيام وهو جالس مع أصحابه قال: واشوقاه إلى اخواني رحم الله اخواني، الجالسون عنده قالوا: يا رسول الله ومن هم اخوانك، ألسنا اخوتك؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم: أنتم

ص: 150


1- البقرة 2: 2.

أصحابي، وأما اخواني فإنهم قوم يأتون في آخر الزمان يؤمنون بي ولم يروني، هؤلاء هم اخواني.

أنتم أصحابي أنتم رأيتموني وشاهدتموني وآمنتم أما في أخر الزمان ، الزمان الذي يأتي بعد المعصوم الظاهر فإنه يأتي أقوام لم يروني ويؤمنون بي.

ثم يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا وإن المؤمن منهم له من الأجر كخمسين مؤمناً منكم.(1)

الواحد منا له من الأجر في العبادة كأجر خمسين، لأننا نتحمل معاناة، لأن الإنسان في دولة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يؤدي شعائره بكامل الاطمئنان والراحة، وأما الإنسان بعد النبي, في الأزمان المتأخرة يؤدي شعائره مع الشدة, ومع الورطة, ومع العذاب وأحياناً مطاردة, وأحياناً تعذيب وأحياناً سجن، ف- (القابض على دينه كالقابض على جمرة)(2)، فيكون حينئذ أجره أكثر.

دينهم عندهم كخرط القتاد، كيف الإنسان عندما يخرط القتاد تتجرح يده، كذلك الإنسان المحافظ على دينه.

الإمام جعفر الصادق عليه السلام ينقل عنه أن عبادة العابد في زمن الانتظار, أفضل من عبادة العابد في زمن الظهور، يقول الراوي: قلت سيدي هذا عجيب!! كيف أن الإنسان المؤمن في زمن الانتظار عبادته

ص: 151


1- فيض القدير للمناوي: 5 / 449 الحديث 7559، تفسير القرطبي: 4 / 172.
2- سنن الترمذي ج3: 359, مسند أحمد ج2: 390, الأمالي للشيخ الطوسي: 485...

أفضل من عبادة العابد في زمن الإمام؟ قال: بلى لأن هذا الإنسان المنتظر يؤدي عبادته مع الخوف, ومع المطاردة, ومع التعذيب، وأحيانا تصل الحالة إلى القتل، وأما في زمن الظهور فإن الإنسان يؤدي شعائره آمناً مطمئناً وبكل ارتياح.(1)

فإذن الانتظار له آثار كثيرة، وقد ذكرت باختصار من الآثار: الانشداد النفسي مع الإمام، فهذا يجب أن يكون عندنا، لا نقول فقط نحن من المنتظرين للإمام وبيننا وبين الإمام مسافة بعيدة، الإمام لا ينظر إلينا في مثل هذه الحالة ولسنا من أتباعه، ولسنا من المنتظرين له، فلابد أن تتحقق هذه الأمور عندنا، أي الاندماج النفسي مع الإمام والتأثير على روحية الإنسان المنتظر, وعلى سلوكه، يعني يغير سلوكه من سيئ إلى حسن.

ثم ذكرنا الإيمان الكامل بالإمام المهدي المنتظر، يعني الأيمان بالغيب.

وأما أخيراً فعندنا أيضاً في الروايات، وهذه تكملة للنقطة الثانية: (انتظار الفرج أعظم من الفرج)(2)، ما المقصود؟ نحن الآن ننتظر الفرج. كيف يكون الانتظار أعظم من الفرج نفسه؟ ولماذا؟

أولاً: لأن الإنسان في أيام الانتظار يكون عاقداً الأمل على أن الله سينتصر على يد الإمام المهدي المنتظر، لأن هناك حالتين: مرة ييأس الإنسان

ص: 152


1- راجع: إكمال الدين وإتمام النعمة: 646، ولفظ الحديث: (عبادتكم في السر مع إمامكم المستتر في دولة الباطل أفضل... ).
2- الاحتجاج للطبرسي ج2: 50.

من أخذ الثأر, فهذا يفقد الأمل. ومرة لم ييأس من أخذه فإنه يعيش الأمل, ويبقى على إيمان كامل بأن الله سبحانه وتعالى سينتصر لدينه.

ثانياً: الإنسان المنتظر يزداد شوقه وحبه للإمام المهدي الذي ننتظره، ويمكن توضيح ذلك بمثال من عالمنا من حياتنا: إذا يوجد إنسان يريد أن يأتي من بعيد يتصل بك ويقول: أنا أحمل لك بشارة عظيمة وهذه البشارة تغير حياتك بكاملها، أنا أحملها وسوف آتي إليك، وأنت تنتظره عشرة أيام مثلاً، هذه الأيام العشرة التي تنتظره بها, تشدك به شداً كاملاً، فتصبح في غاية الشوق إلى رؤياه, وإلى الحضور والالتقاء به وأخذ البشارة منه، أما إذا جاء ووصل إليك وأعطاك البشارة _ مادية كانت أو معنوية _ فإن ذلك شيء سينتهي، وبعده أبداً لا تنتظره.

وربما خطر ببالك نحن الآن في زمن الانتظار، المعاناة التي نعانيها تشدنا ونزداد اشتياقاً للإمام المهدي المنتظر، هذا غير ما إذا ظهر، فإنه إذا ظهر ربما تخف الحالة عندنا.

بل في بعض الروايات أن بعضاً من الناس وبعضهم من الخواص يعني من المؤمنين، إذا رأوا الإمام المهدي وحكمه العادل يخاطبونه: يابن رسول الله ارجع من حيث أتيت فلا حاجة لنا بك(1)، وبعضهم يقول _ وهم مسلمون_: إن هذا ليس بابن رسول الله أبداً، والعياذ بالله، لأن هؤلاء ليس عندهم ذلك التهيؤ، ولم يخلق عندهم الانتظار حالة من الشوق لاستقبال الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه.

ص: 153


1- راجع: الإرشاد للمفيد ج2: 384, روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 265..

فإنه الإمام الذي يأخذ الثأر، وهو صاحب الثأر، وأن الإمام له ثارات كثيرة يأخذ بها من الظالمين، ولذا الأئمة عليهم السلام يعلموننا، فيقول له في اليوم العاشر من المحرم _ مثلاً _ قل إذا رأيت صاحبك: عظم الله أجورنا وأجوركم بمصاب سيدنا أبي عبد الله الحسين وجعلنا من الطالبين بثأره على يد الإمام الموعود المهدي المنتظر من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(1)

يعني هو الذي يأخذ بالثأر.

قتلة الإمام الحسين سبقوا عصر الإمام الحجة، ولكن يأخذ الثأر ممن كان على خطهم ومن كان يحمل نفس الحقد على الدين وحماته الحقيقيين, ومن كان على منهاج أولئك، فإن هؤلاء شركاء لأولئك بالجريمة.

وكم ثأر للإمام المهدي على هذه النظرية؟ يعني إذا كان القوم على منهاج أولئك كم ثأر للإمام المهدي؟ الذين اعتدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصيبة رسول الله، أم الذين اعتدوا على أمير المؤمنين ومولى الموحدين ومصيبة أمير المؤمنين عليه السلام ، أم الذين اعتدوا على فاطمة الزهراء سلام الله عليها، المصائب كثيرة نسأله تعالى أن يعجل فرج إمامنا، وأن يجعلنا من أنصاره في أخذ الثأر.

والحمد لله رب العالمين

ص: 154


1- لاحظ: مستدرك الوسائل: 10 / 316 الحديث 12080.

ولادة الإمام المهدي عليه السلام

اشارة

سماحة الشيخ علي الكوراني

ص: 155

ص: 156

بسم الله الرحمن الرحيم

أفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ومولانا محمد وآله الطيبين الطاهرين، لا سيّما بقية الله في العالمين.

السلام عليك يا مولاي أيها الجندي الأكبر لله في أرضه، يا حجة الله يا ولي الله يا شريك القرآن يا خليفة الرحمن، أيها الغائب عن أعيننا الموجود في قلوبنا، أيها المذخور لأمر ربه، أيها الموعود على لسان جده صلوات الله عليك، أيها المولى.

ونحن شيعتكم أهل البيت نفرح لفرحكم ونحزن لأحزانكم، وهذه الليلة _ يا مولاي _ البسمة فيها على الجراح، والبسمة فيها تنطلق من أعماق القلوب، من أطفالنا إلى شبابنا إلى شيبتنا في كل ربوعنا، رجالاً ونساءً.

نفرح في ليلة تألق النور من سامراء ليلة قضى الله تبارك وتعالى أن يولد الحجة على خلقه، الذي ستكون له غيبة يقوم فيها بما أمره الله، ويسير العالم إلى نقطة يريدها الله، نقطة موعد ظهوره المبارك حيث يستثمر جهود مائة وأربعة وعشرين ألف نبي.

ص: 157

أيها الاخوة الأعزاء: الفرحة لأهل البيت عليهم السلام معناها أعمق من المهاجرين والمهجّرين في سبيلهم، من الذين أُخرجوا من ديارهم لحبّهم لأهل البيت، أو اضطروا للخروج لولاية لأهل البيت.

الفرحة عندما تكون من مهاجرين من أرض أهل البيت عليهم السلام في حسينية النجف المنسوبة لأمير المؤمنين عليه السلام، وعندما تكون من ثمار قلوب نشأت في تربة ملئت بدم أهل البيت عليهم السلام، وفاحت من عبيرهم، وأقسمت على الولاية لهم، وانتظرت موعدهم وفرجهم، وعملت لخطّهم وطريقهم، البسمة يكون لها معنىً أعمق.

فمن حقنا أن نفرح يا سيدي بك، لأنك وعد الله، لأنك الأمل الموجود، لأنك حجة الله، لأننا على يقين بميعادك بأنه مهما طال السُرى ومهما طغى الطغاة، ومهما ازداد البلاء، فإننا على ميعادٍ بذلك اليوم الذي تتكئ فيه على الركن اليماني، وتعلنها وتبدؤها بظهور الإسلام على الدين كله، وظهور لبقية الله من حججه، وتخاطب شعوب العالم بلغاتهم: كفى الضياع، كفى الضلال، كفى التركاض، كفى ظلم بعضكم لبعض، كفى المشي في العمى، فها هو النور المشرق الموعود من توراة موسى، على لسان إبراهيم إلى إنجيل عيسى، وعلى لسان نبينا سيد الرسل محمد صلى الله عليه وآله.

سيدي نحن لم نتولّكم أهل البيت بهواية عابرة، ولا بعاطفة فاترة، أو غائرة، لم نتولّكم إلاّ بعمق الرؤية العقلية، وإلاّ بصحيح القرآن،

ص: 158

والنصوص النقلية. تولّيناكم أهل البيت لأننا وجدنا النور بعد الظلام، ولأننا وجدناكم امتداداً لرسول الله صلى الله عليه وآله ووصيته في أمته.

نحن حفظنا وصية جدكم فيكم بقلوبنا، وبما نملك، وتحملنا يا بن رسول الله، وكم تحمّل شيعتكم _ لا نمنّ عليكم فلكم المنة يا أهل البيت _ ولكن هؤلاء الذين تحمّلوا في العراق وإيران وأفغانستان ولبنان وفلسطين وفي أرجاء العالم وهم يتحمّلون الآن، ولكنهم يرون أنّ الظلام الذي هم فيه، هو ظلام ما قبل الفجر، يلهجون باسمك أيها المولى.

قالوا لي: إنّ المستبصرين في فلسطين، وحتى غيرهم يلهجون باسم المهدي الموعود المنقذ أرواحنا فداه. نلهج بذكرك واسمك يا سيدي، ونؤمن بك عن عمق عقلٍ وعن عمق عاطفة.

أيها الاخوة الأعزاء مبارك لكم إيمانكم بحجة الله، إنكم أهل بصيرة حيث عمي الآخرون، إنكم أهل هداية حيث ضاع الآخرون، إنكم حفظتم نبيكم في أهل بيته فكنتم أوفياء وقلتم: (سمعنا وأطعنا) وحفظتم أهل بيته بقلوبكم وبجراحكم وبتحملكم.

فعاليات الغيبة:

أيها الاخوة الأعزاء عقيدتنا بالإمام المهدي أرواحنا فداه لها عمقها في أديان الأنبياء، لها عمقها في تأريخ البشرية وفي حاضرها وفي تطلعاتها،

ص: 159

إيماننا بالإمام المهدي أرواحنا فداه أنه وإن امتحنا بغيبته ولكننا على يقين قرآننا، يقين أحاديث نبينا التي جعلت لنا الغيبة بمنزلة الشهود.

في هذه الليلة المباركة أريد أن أسلط ضوءً مختصراً على فعاليات الإمام أرواحنا له الفداء في غي-بته.

نحن نقرأ في القرآن: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ)(1) جنود السماوات على أنواعها، ولكن جنود الأرض من هم؟ هل هناك جنود في الأرض غير منظورين! من هم؟ ممن يأخذون أمرهم؟

كشف الله عن واحد منهم في قرآنه وهو الخضر عليه السلام ، فإن هذا الجندي الذي يعمل بالعلم اللدني رافقه نبي من أولي العزم ليتعلم منه الحكمة، فلم يتحمّل مرافقته لأكثر من يومين أو ثلاثة. لماذا؟ لأنه يعمل بالعلم اللدني، وموسى مكلف بعلم الشريعة، بعلم الظاهر. وتكشف الأحاديث أن فوق الخضر عليه السلام هناك جنود لله أعلى درجة.

منزلة النبي وآله:

في رواية أن الخضر وموسى كانا على ساحل بحر وإذا بطائر جاء أمامهما فنزل إلى الماء وأخذ بمنقاره الماء، ثم صعد مقابلهما ورمى قطرة الماء من منقاره، ثم عاد من ناحية أخرى وفعل نفس العمل مقابلهما

ص: 160


1- الفتح، الآية: 4.

أيضاً، ثلاث مرات بعمل واضح أنه مقصود، ثم أخذ ماءً من البحر وصعد إلى مقابلهما من الوسط، ثم من اليمين ومن الشمال وألقى الماء ثم غاب، تعجبا وأخذا يتساءلان، وإذا بصياد سمك يلبس ثياباً خَلِقة جاء قربهما، قال: السلام عليكما، قالا: عليكم السلام قال: أو علمتما ما قال هذا الطائر؟ قالا: لا، قال: إنه يقول لكم، والله ما علمكما بالنسبة إلى علم الله عزوجل إلاّ كقطرة من هذا البحر، فدهشا، وإذا به غاب عنهما فطلباه ليعرفاه فلم يجداه، وهذا الإنسان _ صياد السمك _ الذي هو أفقه منهما غاب أثره أيضاً.(1)

في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: (والله لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما بما لا يعلمان، لأنهما أوتيا علم ما كان وأوتينا علم ما يكون).(2)

أهل البيت هم امتداد للنبي صلى الله عليه وآله سيد الرسل، وهو أعلم من غيره، ولا بدّ أن يكون تناسب بين النبي وأوصيائه أهل البيت عليهم السلام، وأوّلهم علي عليه السلام الذي قال الله عزوجل عنه (قُلْ كَفى

ص: 161


1- اخرجه الحاكم في المستدرك ج 2: 369، وصححه على شرط الشيخين، راجع الدر المنثور للسيوطي ج 4: 232، وتفسير الميزان للطباطبائي ج 13: 356.
2- الكافي للكليني ج 1: 26.

بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (1) علي عنده (علم الكتاب)(2)، وأهل البيت عليهم السلام بهذا المستوى.

أين هو الخضر الآن؟ إنه وزير للإمام المهدي، ولا تتعجبوا. يقولون لنا: كيف تفضلون الأئمة على الأنبياء؟ نقول لهم: ماذا نصنع لنبينا ولربنا إذا جعل منزلتهم بمنزلة نبينا إلا النبوة؟ ماذا نصنع إذا جعلهم الله في جنة الفردوس في درجة الوسيلة، وهي أرقى منطقة في الجنة فيها قصور إبراهيم وآل إبراهيم وقصور محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله.

روى ابن مردويه: قيل يا رسول الله: من يسكن معك في الفردوس؟ فقال: علي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين.(3) طبيعي جداً أن كانوا معه.

قلت لأحد المناقشين في شبكات الانترنت، وكان وهابياً من السعودية يقول: درجة الوسيلة فقط للنبي لا تنبغي إلاّ لشخص واحد، فقلت له _ وكان الملك فهد يتصيد في أسبانيا _: لو أن ملك أسبانيا بعث إلى الملك فهد قائلاً له عندي منطقة جميلة جيدة أهديها وأقدمها لك مصيفاً وتفضل أنت هذه هدية لك بشرط أن تأتي وحدك ولا تأتي بأحد من عائلتك، فهل هذا منطقي؟ طبعاً لا، جنة الفردوس التي أعطيت لرسول

ص: 162


1- الرعد، الآية: 43.
2- شواهد التنزيل للحسكاني ج 1: 400.
3- راجع كنز العمال ج 12: 103، وج 13: 639، وفيه: عن النبي صلى الله عليه وآله قال: في الجنة درجة تدعى الوسيلة... قالوا: يا رسول الله من يسكن معك فيها؟ قال: علي وفاطمة والحسن والحسين...

الله صلى الله عليه وآله يسكنها مع أهل بيته، وأنتم فصلتم عنه أهل بيته في الدنيا وفرقتم بينه وبينهم في عقائدهم وفي جنة الفردوس تريدون أن تجعلوا النبي يعيش وحده بدون أهل بيته؟

نحن على يقين أن أهل البيت هم جزء من نفس رسول الله صلى الله عليه وآله.

أسرار الغيبة:

أيها الاخوة المؤمنون: الإمام المهدي أرواحنا فداه وردت أحاديث كثيرة عن أسرار غيبته، وهي لا شك بأنها امتحان للبشرية، لأنه نوع من غضب الله على الناس، هذا من ناحية، واعتقادي أن كل ما ورد في تعليل الغيبة هو من باب الحكمة وليس العلّة، والصحيح أن غيبته لا يعرف سرّها إلاّ بعد ظهوره، ويعرف العالم ماذا كان يفعل.

الإمام المهدي أرواحنا فداه عنده جهاز جند الله.

ليلة القدر تنزل الملائكة على من؟ على الحجة صلوات الله عليه ويأتونه بأمر الله، في أمر نفسه وأمر الناس.

يعني هناك خطتا عمل: واحدة لعمل السماء، ينفذها بواسطة وزرائه وجنود الله الذين يعملون معه، ففي الحديث الشريف: (لابدّ له

ص: 163

من غيبة)، عن الإمام الصادق عليه السلام _ قبل مولده يحدثون عنه _: (لابد له من غيبة ونعم المنزل طيبة وما بثلاثين من وحشة)(1) يلتقي بثلاثين، يتصل به ثلاثون والخضر أحد وزرائه(2)، ماذا يفعلون؟ ماذا ينفذون؟

خذوا نموذجاً من الخضر، يعمل من هنا إلى هنا وكل عمله لمصالح المؤمنين، كل عمله لتسير مسيرة الإمام في الأرض حتى تصل إلى نقطة الظهور، في غيبته صلوات الله عليه يعمل.

أحد الذين التقوا به _ وهو صادق _ في قصة لا مجال لذكرها يقول: تهنا في الصحراء في سيارة، وأشرفنا على الموت، وحفرنا قبورنا في صحراء الحجاز، ثم يصف كيف جاء ثلاثة ودعوا الله عزوجل، واستشفعوا واستغاثوا، وإذا برجل جاء وخلفه أبوه، يبدو أنه بهذه الصفة، لكنه هو نوع آخر. خلاصة الأمر أن أوصلهم بعد أن انتهى البنزين عندهم والماء انتهى عندهم، قال لهم: اصعدوا، ثم حرك السيارة، يقول: ذهلنا عن أن نسأله ما اسمك إلى أن أكمل إيصالهم إلى حدود البصرة وكلّه بمعجزات، لكن ذهلوا عن السؤال عن اسمه أو الالتفات إلى أن السيارة ليس فيها بنزين وليس فيها ماء، ذهلوا عن ذلك حتى وصل.

أصرّوا عليه _ هذا الشيخ إسماعيل وهو حي يرزق _ أصرّ عليه قال له: تفضل معنا تعش معنا، قال: هو صلى وحده وقال: صلّوا لقد صار

ص: 164


1- الغيبة للنعماني ص 193، وتقريب المعارف للحلبي ص 431، ولفظه: لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة ولابد له في غيبته من عزلة ونعم المنزل طيبة وما بثلاثين من وحشة.
2- مشارق الأنوار للعلامة الحمزاوي ص 25 ط مصر، نقلاً عن الفتوحات لابن العربي.

المغرب، قالوا: تفضل معنا، قال: يا شيخ إسماعيل أنا عندي شغل كثير. وإلى هنا انتهى وغاب عنهم.

صاحب الزمان صلوات الله عليه يدير عملاً ربّانياًَ على وجه الأرض لمصالح المؤمنين.

بم يأمره الله؟ نحن نتشوق ونتشوّق ونقول: يا سيدي ماذا يكلفك قتل طاغية؟ والله لا يكلف شيئاً، ولكننا مسلّمون نعلم بأن لله عزوجل خطة ولابد أن يبلغ أمره نهايته، لابد أن يصل إلى أوجه.

نحن يا سيدي نأمل وندعو وقد نعتب ولكننا مسلّمون، أيها المولى أنت متصل برب العالمين، أنت عندك من فيض (كن فيكون)، أنت الموكّل بجنود الله في الغيب في هذه الأرض، أنت نور الله في الأرض (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ)(1)لم يقل: مثله، فإنه لا مثل له، مثل نوره.

وقال أيضاً: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(2) أي بيوت؟ في رواية أن أبا بكر سأل النبي صلى الله عليه وآله عندما قرأ هذه الآية

ص: 165


1- النور، الآية: 35.
2- النور، الآية: 36.

قال: يا رسول الله ما هي تلك البيوت؟ قال: بيوت الأنبياء، قال: بيت علي وفاطمة منها؟ قال: نعم ومن أفاضلها.(1)

هذا النور في هذه البيوت، سيدي أنت مركز نور الله في أرضه، كل هدى على الأرض فهو شعاع من شعاع نورك.

اللهم صلّ على وليك الحجة المنتظر، اللهم صل على آبائه الطاهرين، وأفض علينا من شعاع نوره.

اللهم إننا مسلّمون، ولكننا نطلب وندعو بتعجيل فرجك يا صاحب هذه الليلة.

سيدي مسّنا وأهلنا الضر، وها نحن نطلب وندعو ولا بضاعة لنا، فيا أيها العزيز، فيضاً علينا مما أعطاك الله، ولطفاً بنا مما مكّنك الله.

ويا رب السماوات والأرض عجّل في فرج ولينا، واجعلنا من أعوانه وأنصاره، ونور قلوبنا بطلعته، واجعلنا معه في مشاهد آبائه الأطهار، في عراق أهل البيت صلوات الله عليهم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 166


1- راجع كشف اليقين للعلامة الحلي ص 377، والصراط المستقيم للنباطي العاملي ج 1: 293، وغاية المرام للبحراني ج 3: 265، وشرح احقاق الحق للمرعشي ج 3: 558...

المجلد 3

هویة الکتاب

سرشناسه:وائلی، احمد، 1928 - 2003 م.

عنوان و نام پديدآور:مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام/ جاسِم الوَائِلِی ؛ اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

مشخصات نشر:قم: دلیل نا، 14ق.= 12م.= 13.

مشخصات ظاهری:5 ج.

شابک:1000 دینار: ج. 2: 964-397-073-6 ؛ 1200 دینار: ج. 3: 964-397-046-9 ؛ ج. 4: 964-397-047-7 ؛ ج. 5: 964-397-048-5

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد دوم: 1425ق. = 1383.

يادداشت:هر جلد کتاب حاضر مولفی جداگانه دارد: ج.3. محمد السند، ج.4. علی الحسینی الصدر، ج.5. احمد وائلی.

يادداشت:ج.3. (چاپ اول: 1425ق. = 1383).

يادداشت:ح.5 (چاپ دوم: 1426ق. = 1384).

يادداشت:ناشر جلد پنجم: دلیل ما می باشد.

موضوع:محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255ق -

شناسه افزوده:عابدینی، حسین، 1349 -

شناسه افزوده:حسینی صدر، سیدعلی، 1328 -

شناسه افزوده:مرکز الدراسات التخصصیه فی الامام المهدی علیه السلام (نجف اشرف)

رده بندی کنگره:BP51/و27م 3 1300ی

رده بندی دیویی:297/959

شماره کتابشناسی ملی:م 83-32476

ص: 1

اشارة

مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف

النجف الأشرف_ شارع الصادق_ محلة البراق 210 الزقاق 3 رقم الدار 38

هاتف: 370950 و 332811

ص.ب 588

wwwm-mahdi.com

info@m-mahdi.com

____________________

مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام

اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

الطبعة: الأولی - جمادي الآخرة 1425 ه

السعر: 1200 دینار

المطبة البیان / النجف الأشرف

جمیع الحقوق محفوظة

عدد النسخ: 3000 نسخة

ص: 2

بِسْمِ ٱللَّٰهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

اللّهُمَّ إنّا نَرغَبُ إلَيكَ في دَولَةٍ كَريمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الإِسلامَ وأهلَهُ وتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وأهلَهُ وتَجعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ إلى طاعَتِكَ وَالقادَةِ إلى سَبيلِكَ ، وتَرزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المركز

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله وعلى آله الطيبين الطاهرين...

أمّا بعد:

شاءت القدرة الإلهيّة أن تضع بأزاء كل حقّ باطلاً يتناسب معه بالقوّة والاستطالة ويوازيه من حيث الاتجاه والمسيرة التأريخية، فكان ذلك من القوانين والسنن الثابتة التي ابتنت عليها أسس الخليقة منذ نشأتها الأولى، والتي رسمت للدنيا إطارها الذي لا تملك أن تخرج عن حدوده.

وهذا هو ذات الأمر الذي أشارت إليه الآية المباركة في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(1)، إذ أنّ التتبّع الواعي لكل مسيرة أو حركة تنتسب إلى الحق في منهجيتها يبرهن لنا أنّ مسيرة الباطل وحركته لم تتخلّ يوماً عن ملازمة حركات الإصلاح والتحرّر والسير الحثيث بموازاتها، منذ اليوم الأوّل الذي وقف فيه أبونا

ص: 5


1- العنكبوت (29): 2.

آدم ليعبد الله الواحد القهّار، ومروراً بما يحدّثنا التأريخ عن قابيل وهابيل والأنبياء والمصلحين، وإلى يومنا الذي نعيشه.

ولعلّ من أوضح الأفكار والرؤى التي تنتسب إلى الحق ونهجه القويم، بل وينتسب الحق إليها، هي الفكرة العقائدية الربّانية المقدّسة التي زرعتها الشرائع السماوية المتعاقبة في حقل الذهن البشري من خلال المسيرة التكاملية للأنبياء والرسل والأوصياء، وهي فكرة المنقذ الذي سيمدّ يده التي باركتها قدرة السماء لتنتشل البشرية من الأودية السحيقة للظلم والجور إلى مرابع القسط والعدل الإلهي، والتي ستحقق الأحلام والآمال التي بذل الأنبياء والمصلحون دماءهم زهيدة في سبيل تحقيقها، ساعين بذلك لجذب الدنيا من بؤر الظلم والفساد والعبودية إلى آفاق الحرية والعيش الرغيد.

فخضعت هذه العقيدة المقدّسة لهذه القوانين الثابتة وتعرضت لشتى أنواع المحاربة على مر العصور، فكانت هذه المحاربة متناسبة مع عظم الأهمية والسمو والرفعة التي أولتها السماء لها.

وبما أنّ أهميّة الدفاع عن هذه العقيدة تنبع من طرفين أوّلهما مقدار عظمة هذه الفكرة من حيث ارتباطها بمبدأ العقيدة الإسلامية التي عبّر عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في قوله: (من مات ولم يعرف

ص: 6

إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1)، وثانيهما مقدار ما يبذله الأعداء من جهود لم يعرف لها مثيل من تسخير كافة الطاقات لإظهارها على أنها العامل الخرافي الذي يتشبث به أناس ناموا على أمل أن يجدوا العالم ذات يوم يحقق لهم آمالهم وأحلامهم التي كبتها ظلم الظالمين مدة مديدة من الزمن العسير.

لذلك وجدنا أنفسنا _ في خضم هذه الظروف والمداخلات _ نتحمل عبئاً كبيراً وجزءً غير يسير من المسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع الصالح من أتباع أهل البيت عليهم السلام في الدفاع عن هذا المبدأ المقدّس الذي يعتبر أس العقيدة وأساس المذهب.

على أنّ كثرة المدافعين من العلماء الأعلام وذوي الأقلام الشريفة على مرّ الدهور لا تغني عن الاستمرار في انتهاج سبيل الذود عن هذه العقيدة المقدسة، إذ أنّ الشبهات _ وإن تكررت بصيغ مختلفة _ تحتاج إلى ردود تتناسب والطريقة التي يتبناها أعداء الحق والأساليب التي يسلكونها والطرق الملتوية التي يتبعونها في توجيه سهام الحقد الأسود للصورة الناصعة لهذه العقيدة المقدّسة.

ص: 7


1- الكافي: 1/ 376 الباب الأول _ الحديث 1 _ 4، المحاسن للبرقي: 1/ 92 الحديث 46، إكمال الدين وإتمام النعمة: 409 الحديث 9، الإيضاح لابن شاذان: 75، مجمع الزوائد: 5/ 224، مسند أبي داوود: 259، كنز العمال: 1/ 203 الحديث 464، وفي صحيح مسلم: 6/ 22 والسنن الكبرى للبيهقي: 8/ 156 بلفظ (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)....

ومركزنا الذي أنشئ بعد الاستشارة والمداولة مع ثلة من العلماء الأعلام وفضلاء الحوزة العلمية المباركة، وبرعاية من المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، يجد أنّ واجبه الأول هو بذل الجهد للدفاع عن سيدنا ومولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف.

فتبنّى هذا المركز مجموعة من المحاور في عمله منها:

1 _ طباعة ونشر الكتب المختصّة بالإمام المهدي عليه السلام، بعد تحقيقها، وذلك ضمن سلسلة وسمناها ب- (سلسلة اعرف إمامك).

2 _ نشر المحاضرات المختصّة به عليه السلام من خلال تسجليها وطبعها وتوزيعها، ضمن سلسلة (محاضرات في الإمام المهدي).

3 _ إقامة الندوات العلمية التخصصية في الإمام عجّل الله فرجه، ونشرها من خلال التسجيل الصوتي والصوري وطبعها وتوزيعها في كتيّبات ضمن (سلسلة الندوات المهدوية)، أو من خلال وسائل الإعلام وشبكة الانترنيت.

4 _ إصدار مجلّة شهرية تخصّصية باسم (الانتظار).

5 _ العمل في المجال الإعلامي بكل ما نتمكّن عليه من وسائل مرئية ومسموعة، بما فيها شبكة الانترنت العالمية من خلال الصفحة الخاصّة بالمركز.

ص: 8

6 _ نشر كل ما من شأنه توثيق الارتباط بين الأجيال الجديدة وإمامهم المنتظر عليه السلام، وذلك من خلال القصص والكتب التي تتناسب مع أعمارهم.

7 _ الاهتمام بنشر التراث المختص بالإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، ضمن (سلسلة التراث المهدوي).

وها نحن عزيزي القارئ الكريم نضع بين يديك هذا الكتاب الذي يحمل بين طياته المحاضرات الفكرية المختصّة بالإمام المنتظر عجل الله فرجه، بعد جمعها وإعدادها، ثم تحقيقها وإستخراج المصادر والمنابع التي اعتمد عليها المحاضرون بالمقدار الذي نتمكّن عليه، بالصورة التي توثّق المعلومات الواردة فيها، ثم مراجعتها وإخراجها بهذه الحلّة التي نسأل الباري عز وجل أن يجعلها محط قبولكم ورضاكم، وأن يجعل هذا العمل مرضياً عند إمام زماننا الذي يعيش بين أظهرنا ويتفقد أحوالنا ويعلم بكل سرائرنا.

إنه نعم المولى ونعم المجيب.

ص: 9

شكر وتقدير

يتقدم المركز بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إعداد هذه السلسلة تحت عنوان محاضرات حول المهدي عجل الله فرجه ونخصّ بالذكر كلاً من:

1 _ لجنة التحقيق، المؤلفة من: سماحة الشيخ رعد الجميلي، وسماحة الشيخ أحمد الساعدي، والأخ الفاضل علاء عبد النبي.

2 _ قسم الحاسوب الآلي لجهودهم الكبيرة في إنجاز هذا العمل، ونخص بالذكر مسؤول القسم الأخ الفاضل ياسر الصالحي.

سائلين المولى القدير جلّ وعلا أن يجعل هذا العمل وجميع الأعمال محطّ قبوله، وأن يأخذ بأيدي الجميع لما فيه الصلاح والموفقية والسؤدد.

والحمد لله ربّ العالمين

السيد محمد القبانجي

مركز الدراسات التخصّصية

في الإمام المهدي عليه السلام

النجف الأشرف

ص: 10

المحاضرة الأولى: مقام صاحب الزمان (عجل الله فرجه)

اشارة

ص: 11

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

أسعد الله أيّامكم ولياليكم بهذا الميلاد الميمون المبارك.

المعنى الصحيح للغيبة والإمامة:

مرّ بنا في الليلتين السابقتين تفشي الغلط في فهم معنيين:

الأول: الغيبة إذ يعني (خفاء الهوية) وليس (عدم الوجود) أو إقصاء الوجود ونأي الديار كما هو متبادر في أذهان الكثيرين حتى الوسط العلمي، وهذه غفلة قد يكون أوجدها ظهور بعض الروايات، لأنّ الغيبة تكون مقابل الظهور، والظهور يقابله الخفاء لا العدم.

الغيبة إذن تعني خفاء الهوية والنشاط والحركة وتشخيص الشخص لا نأي الديار والجمود والقعود، ويوصف عليه السلام بهذا الوصف الذي تعرفون _ قاف ألف همزة ميم _.

ص: 13

الثاني: إمامة أهل البيت عليهم السلام وإمامة المهدي عجل الله فرجه أيضاً، فليس معناها الإمامة السياسية بشكلها الضيق من أشكال الدور السياسي وهي الرئاسة أو القيادة السياسية المعلنةً فقط.

وأنتم إذا ذهبتم إلى البرزخ تُسألون عن إمامة أهل البيت عليهم السلام، فلا يتبادر إلى ذهنكم عند سؤال منكر ونكير أنّها بمعنى الرئاسة الإجتماعية فقط، حتى بلحاظ علو درجاتهم في الآخرة، بل بمعنى نوع من المناصب الإلهيّة الذي يوجب الإرتباط بين البشر والباري تعالى، نوع ارتباط تكويني ملكوتي.

هذه هي أعلى مقامات الإمامة، وأول معنى من معاني الإمامة التي يجب أن يتدين به المرء والفرد المؤمن، والإمامة السياسية بشكلها المعلن أحد شؤون الإمام النازلة، وإلاّ فانّ للإمام أدواراً سياسية خفية جد، وأدواراً اجتماعية واقتصادية وروحية أيضاً لكن لا يسع الوقت لتبيانها بشكل مفصل.

إذن الإمامة وإن ذكرها متكلمو الشيعة في الكثير من كتبهم وتعرف بأنّها رئاسة اجتماعية دينية أو رئاسة سياسية اجتماعية ويلحقون بالتعريف : ويكون حافظاً للدين والديانة للناس، ويكون حفظ الدين في الواقع بالارتباط مع المقام الملكوتي للإمام، فإنّه سبب ملكوتي متصل بين الأرض والسماء.

ص: 14

معنى الإمامة إذن منصب إلهي ملكوتي يخلف النبي والرسول صلى الله عليه وآله وإن لم تكن حقيقتها نبوة ورسالة، لكنها سنخ آخر من أنواع الإرتباط الغيب-ي.

وقد حدثنا القرآن الكريم بنماذج كثيرة من هذا القبيل نظير، مريم بنت عمران التي كان يجيئها وحي غير نبوي، ويخاطبها جبرئيل وتخاطبها الملائكة، ويخاطبها الله عزّوجل وحياً مباشراً بلا واسطة حتى جبرئيل:

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ).(1)

وذي القرنين وطالوت وآصف بن برخيا صاحب سليمان في سورة النمل:

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ).(2)

ولم يقل القرآن الكريم وقال نبي، وقال رسول الله، هذا العلم من الكتاب يؤهله للارتباط بعرش الله وبما وراء الغيوب.

قنوات الغيب في القرآن الكريم إذن غير محصورة بالنبوة والرسالة أبداً، ومن يقصر ويحصر قنوات الغيب والإرتباط بالغيب بهما فلابد أن يشطب على كثير من سور القرآن. الإيمان بالكتاب كله إذن يلجئنا للإيمان بوجود ارتباط غيب-ي بقنوات أخرى غير قنوات النبوة والرسالة، وهي قناة الإمامة

ص: 15


1- مريم: 20.
2- النمل: 40.

والإصطفاء والحُجية، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في آية التطهير لأهل البيت عليهم السلام وربط التطهير فيها بهذه الآيات من سورة الواقعة:

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ).(1)

ماذا يريد أن يبرهن الباري بهذا القسم العظيم؟

يقول: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) القرآن له ظرف آخر علوي ملكوتي، في كتاب مكنون في _ كن _ يعني محفوظ لا يصل إليه أحد الاّ المطهرون، ولم يعبّر الباري تعالى ب- (الاّ المتطهرون) مما يدلل على انّ هذا الكتاب العلوي الغيب-ي لا يصل إليه الاّ أناس ذواتهم مطهرة، أي ذوو عصمة ذاتية مشروطة في آية التطهير من قبل الله، لا انّهم يتطهرون.

ومن أين نقول بأنّه علم غيب-ي؟

الجواب: بالآية الكريمة نفسه، أنظروا إلى الترسيم القرآني:

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) يعني هذا الكتاب (القرآن الكريم) في كَن علويّ غيب-ي ملكوتي لا يرتفع إليه وإلى الغيب والملكوت الاّ المطهرون.

وهذا هو حديث الثقلين في هذه الآية من سورة الواقعة كما أفصح بذلك صادق آل محمد صلوات الله عليه والأئمة عليهم السلام: الثقل الأول: هو الكتاب العلوي حيث لا نظن انّ القرآن هو القرآن المنزل فقط، وإن كان

ص: 16


1- الواقعة: 75 – 77.

مقدساً وعظيماً فللقرآن وجودات هو ينادي به، بل هو قرآن كريم، في لوح محفوظ (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).(1)

بعد ذلك يضيف الباري تعالى في ذيل الآية: (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) هذا الذي قد قسم عليه الباري (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) ترتابون؟

انّ أسّ معرفة إمامة أهل البيت إذن والتي بدونها تكون معرفتنا ضلالاً ونقصاً هو كون الإمام مرتبطاً بالغيب ارتباطاً متواصلاً ومستمر، وليست له قيادة سياسية ظاهرة معلنة فقط، بل هذه أدنى شؤون الإمامة النازلة.

هذه معارف يجب علينا أن نعتنق ونعتقد به، وبحمد الله كلنا معتقدون بها ارتكاز، ولكن يجب أن نلتفت إليها بشكل أكثر بسطاً وتفصيلاً.

انّ إحدى المعارف المطروحة في مذهب أهل البيت عليهم السلام هي ما جاء في زيارة الحجة عليه السلام حيث نقول:

(أتولى آخركم بما تولّيت به أولكم).(2)

ويعني أنّ الإرتباط بالغيب حقيقة متصلة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام، كما كان النبي صلى الله عليه وآله مرتبطاً بالغيب بقنوات عديدة لأنّه سيد البشرية ومرتبط بقناة النبوة والإمامة، هذا الإرتباط بالغيب لم ينقطع منذ نزول آدم إلى المهدي الخاتم عجل الله فرجه.

ص: 17


1- الواقعة: 78- 79.
2- راجع كامل الزيارات لابن قولويه : 519.

لماذا ورد أنّ المنكر لأحدنا كالمنكر لجميعن، وكمن أنكر النبي صلى الله عليه وآله؟

النكتة هي أنّ هذا الإرتباط بالغيب إذا أٌنكر في قطعة من قطع الزمان فانّه يدل على أنّ معرفة الشخص بالأئمة معرفة ناقصة، كأن يعرف علي بن أبي طالب رئيسا للدولة، وإنّه نُصّب من قبل السماء لرئاسة المجتمع، وهذه معرفة ناقصة وليست معرفة بالإمامة. معرفة الإمام تعني انّه لا يمكن للبشر أن يُقطع عنهم الإتصال بالغيب والباري تعالى، ولا يمكن أن تُقطع يدا الرحمن يعني تصرفه، فقد قالت اليهود: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)(1) ف- (يد) تعني التصرف، والاّ فانّ الله عزّوجل ليس بجسم له يد وجارحة وأصابع وما شابه، جل الباري عن أن يوصف بالجسمية، والجسم محدود وهذه صفات المخلوقين العاجزين، فعندما يقال: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) فإنّه يعني انّ تصرفه في المجتمعات البشرية موجود دائم، ومن ثمّ يكون أحد ألقاب الإمام المعصوم (يد الله)(2) يعني مظهر تصرف الله عزّوجل في خلقه، حينئذ من أنكر أحدنا فكأنّما أنكر الأئمة جميعاً وأنكر النبي صلى

ص: 18


1- المائدة : 64.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : (انا عين الله، وانا يد الله...) راجع كتاب الكافي ج1 : 145، ح8 (باب النوادر).

الله عليه وآله(1)، لأنّه يدل على أنّ معرفته بالأئمة ناقصة، وهي أنّ الإمام قائد سياسي غاية الأمر إنّه مرشح من قبل السماء.

في عيد الغدير وغيره عندما نتعايد بولاية أهل البيت وولاية أمير المؤمنين عليه السلام يجب في الواقع أن نتعايد أيضاً بأنّ الولاية بيد المهدي من آل محمد صلى الله عليه وآله أي إنّ من يشكّل الآن حلقة الوصل والربط بين البشر وعالم الغيب والباري تعالى هو المهدي من آل محمد عليه السلام حينئذ تكون معرفة الإمامة، هذه بداية لمعرفة إمامة المهدي عليه السلام.

أهمية الإعتقاد بالإمام المهدي عليه السلام

كيف يكون الإعتقاد بإمامة المهدي عجل الله فرجه في ظل نصوص الفريقين والآيات بوابة واسعة لاعتناق إمامة كل الأئمة عليهم السلام؟

يعني من يلج في باب المهدي عجل الله فرجه والإعتقاد به وحبه وتولّيه سوف يلج ويعتنق ويعتقد تلقائياً بإمامة كل أهل البيت، حتى أنّ بعض علمائنا المحققين الكبار يقول بأنّ إمامة المهدي عجل الله فرجه بمفردها من البراهين البينة على إمامة الأئمة الإثني عشر، كنص الغدير الذي هو أحد الشهب الساطعة والبراهين البينة لإمامة أهل البيت وكبقية النصوص والأدلة والبراهين، فهي بنفسها في نصوص الفريقين، بل في نصوص التوراة والإنجيل

ص: 19


1- راجع الكافي للكليني ج1: 373، ح 8، باب (من ادعى الإمامة... ومن جحد الأئمة أو بعضهم).

باب واسع يدخل الناس فيه أفواجاً على الإيمان، ولكن نحن أتباع مذهب أهل البيت مقصّرون في معرفة الناس _ سواء من المذاهب الإسلامية أو الملل والأديان الأخرى _ لانّ باب المهدي عليه السلام باب واسع لادخال الناس زرافات وفوجاً فوجاً في الإيمان بإمامة أهل البيت.

أحد العلماء من تلاميذ الميرزا الكبير محمد حسن الشيرازي (صاحب فتوى التنباك المعروف) وهو الشيخ أغا رضا الهمداني _ وهو أحد فقيهين كانا بهذا الإسم ارتأى أن يخدم مذهب أهل البيت بالخطابة في طهران وتبيان العقائد، وكان من رواد البحث في العقيدة في زمانه _ له كتاب حول المهدي عليه السلام يسمى ب- (الأنوار القدسية) وللأسف لا زال مخطوطاً أو ربما طبع طبعة حجرية قديمة ولم يجدد لحد الآن، استقصى فيه فهرست نصوص الفريقين والأحاديث الواردة في المهدي عليه السلام عند المذاهب الإسلامية جمعاء ومصادرها وتعدادها مع حذف المتكرر، وقد بلغت إثني عشر ألف حديث، وقلما تجد حقيقة وعقيدة إسلامية قد ورد فيها مثل هذا الكم الهائل من الحديث من شتى مصادر المذاهب الإسلامية.

وقد صدرت قبل سنين من أحد الشيوخ الأفاضل موسوعة تضم خمسة آلاف حديث باسم (موسوعة المهدي)، وبحمد الله أطلعني أحد الإخوة وهو مدير ل- (مؤسسة الإنتظار) وتعنى بشؤون المهدي عليه السلام في قم بأنّها قد استقصت بيمن وبركة الله عزّوجل الأحاديث بشكل أكثر تتبعاً وسعة نطاق، وأوصلت رقم الحديث الوارد عند المذاهب الإسلامية إلى ما توصل

ص: 20

إليه الشيخ آغا رضا الهمداني، يعني إثنا عشر ألف حديث، وهي الآن في حالة برمجة بيبلوغرافية لهذة الاشرطة الكمبيوترية من خلال برنامج نشط جداً تستوعب الاثني عشر ألف حديث.

هذه حقيقة كبرى ولا نستغرب ذلك، حتى إنّ هذا العالم الرباني المحقق يقول: إنّ في المهدي لوامع محمدية، يعني الكثير من البراهين والآيات والبينات والإرهاصات التي حدثت قبل مجيء النبي وبعثته صلى الله عليه وآله تصاحب ظهور المهدي عليه السلام.

كما إنّ الأئمة عليهم السلام كلهم سفن النجاة وأبواب هدى، ومنهم سيد الشهداء، فصار الحسين هو الدليل على دين جده ولا يزال حي، لكن هنا نخصص الكلام في باب المهدي عجل الله فرجه: إنّه باب واسع وعقيدة إسلامية ثابتة محققة. دع عنك الشذاذ أمثال:

ابن خلدون الذي يشكك في أصل حقيقة عقيدة المهدي والمهدوية عند المسلمين، مع إنّه في مقدمته يعترف ويذعن أنّ مذاهب الإسلام والمسلمين كافة يعتقدون بالمهدي، وإنّه من ذرية فاطمة ومن آل محمد صلى الله عليه وآله وسيظهر في آخر الزمان و... بعد ذلك يأتي بتساؤلات توهم القارئ وتوسوس له في هذه العقيدة الشريفة الكبيرة الضخمة.(1)

ص: 21


1- مقدمة ابن خلدون ج 1: 311، الفصل 52.

وأحمد أمين الذي يدعي في (فجر الإسلام) أنّ المهدي ليس من المعلوم إنّه شخص شخيص، وإنّما هو عنوان لكل مصلح(1)، كما ينادي بذلك الآن بعض العلمانيين من المسلمين.

هذا كله خلاف الروايات المتواترة بين المذاهب الإسلامية التي تنص كلها على أنّه من ولد فاطمة عليها السلام(2) وليس عنواناً عاماً يدخل فيه زيد وعبيد من كل حدب وصوب، بل هو شخص شخيص ينزل ويصلي خلفه عيسى بن مريم عليها السلام، حتى أنّ البخاري نص في كتاب الأنبياء:

(كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم).(3)

وحتى المناوي قال في رواية أخرى: (والخليفة منكم، من قريش).(4)

على أيّ حال فانّ القائل بأنّ المهدوية فكرة اخترعتها وابتكرتها الثورات التاريخية في عصور الإسلام السابقة لكي تجذب الجماهير لنفسها لا يدري أنّه ينكر حقيقة وعقيدة إسلامية، وإذا تبرّأ منها يكون رادّاً على رسول الله صلى الله عليه وآله بغض النظر عن المحاذير الملحوظة في الكتب الفقهية، ويناقض نفسه بنفسه، إذ كيف تجذب الحركات التاريخية في عصور الإسلام السابقة الجماهير بشيء ليس هو في معتقدهم بنحو مسلّم، فلابد أن يكون المهدي والمهدوية عقيدة مسلمة موروثة عن النبي وحقيقة نبوية، وكيف

ص: 22


1- راجع أيضاً كتايه ( المهدي و المهدوية ) وقد حاول فيه تضعيف أحاديث المهدي والتشكيك بها رغم إيمان أهل السنّة بها.
2- انظر المستدرك للحاكم ج4: 557، سنن ايي داود ج2: 310، ح 4284...
3- صحيح البخاري ج4: 143.
4- فيض القدير للمناوي ج5: 74، ح 6440.

تستطيع الحركات أن تخدع الجماهير وتقول مثلاً إنّ محمد بن عبد الله من نسل الإمام الحسن، أو إنّ فلانا هو المهدي مما يدلل على أنّ فكرة المهدوية عقيدة راسخة في معتنق المسلمين جيلاً بعد جيل ونسلاً بعد نسل، غاية الأمر إنّ الحركات التاريخية في عصور الإسلام حاولت أن تستغل هذه العقيدة وتجذب الجماهير لنفسها.

هذه المقولة لو لم تكن عقيدة بهذه الضخامة والقدسية فكيف تجذب الجماهير إليها؟ مما تدل على وجود تعطش في أجيال المسلمين جيلاً بعد جيل، بحيث إنّ الحركات لا ترى بصيص النجاح والنصر الاّ من خلال هذه البوابة العقيدية في المهدي التي لها عقيدة ضخمة وتراث ضخم وشؤون وزوايا عديدة نحن في غفلة عنها.

الحوزات العلمية _ الشيعية والسنية _ انبرت بحمد الله في تحقيق هذه الزواي، مما يدل على أنّ مشروع السماء في عقيدة المهدي مشروع ضخم جد، ولا يخفى إنّه قاسم مشترك لوحدة المسلمين، لأنّهم يعتقدون به جميعاً وإنّه من ذرية فاطمة عليها السلام، وهذا ما يجب أن يتلاقى المسلمون عليه كما يتلاقون على مودة أهل البيت عليهم السلام بنص القرآن:

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).(1)

ص: 23


1- الشورى: 23.

فالى جانب القواسم الأخرى من القبلة الواحدة والكتاب الواحد والنبي الواحد لدينا هذان القاسمان المشتركان الكبيران.

على أيّ حال، كلهم يعتقدون بالوعد الإلهي الذي كرره القرآن في أكثر من موضع:

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).(1)

المسلمون إذن على ترقب وانتظار لتنجز الوعد الإلهي، وهو اظهار الدين على الكرة الأرضية كلها، والله لا يخلف الميعاد، إذ إنّه لم يحصل في عهد الرسول والعهود السابقة والفتوحات، ولكنه وعد إلهي موجود وسيتحقق بيد المهدي كما هم يروون، مما يدل على أنّ الفتح الأعظم والظهور الأكبر هو بيد هذا المهدي من آل محمد، وكما بدأ الإسلام بآل محمد سيختم بآل محمد (بكم فتح الله وبكم يختم)(2) بدأ صرح الإسلام بالنبي صلى الله عليه وآله وابن عمه وصنوه وشيّدت أركان الدولة الإسلامية على انقاض مجتمع متفتت ضعيف متهرّئ أمام حضارات عظمى في العالم لكن بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسيف علي عليه السلام شيّد هذا التراث الضخم (الدولة الاسلامية)، فبهم بدأ الله عزّوجل وبالمهدي عجل الله فرجه يختم.

ص: 24


1- التوبة : 33.
2- وهو ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في كيفية زيارة الحسين عليه السلام _ راجع الكافي للكليني ج4: 576، ح2، باب (زيارة قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام).

بيت القصيد في البحث بعد الإلتفات إلى هذه المقدمة مع ما تقدم في الليلة الماضية هو انّ إمامة أهل البيت عليهم السلام تعني الإرتباط الغيب-ي بالسماء، ونشاهد انّ ملامح الإرتباط الغيب-ي بالسماء عند المهدي موجودة حتى في روايات اخواننا السنّة في صحاحهم ومسانيدهم، لو حاولنا أن نتدبر معهم فيها نجد أنّها ليست لإمامة سياسية ورئاسة مجتمع فقط، لنتدبر المواصفات التي رووها ونحن رويناها فهي إذن متواترة بين المذاهب صفة صفة، وكل نصوص النبي صلى الله عليه وآله من وحي القرآن إذا تدبرناها نجدها أنّها تشير إلى هذا المعنى نفسه من عقيدة المهدي عجل الله فرجه نفسه وهي تنبيء بوضوح وبيان ساطع على أنّ للمهدي ارتباطاً بالغيب، وهذا أحد مقاماته الكبرى، وسائر المقامات هي دون ذلك.

انظر إلى هذه الرواية: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)(1) كيف يصلي عيسى بن مريم وهو نبي من أنبياء أولي العزم وصاحب شريعة عليه السلام خلف المهدي عجل الله فرجه، تذكر ذلك كل مصادر إخواننا السنّة، وإن كان البخاري (وهكذا مسلم) لم يورد لفظ المهدي لكنهما أوردا رواية المهدي نفسه، وهي موجودة في صحيح النسائي وأبي داود وابن ماجة والترمذي وابن حنبل وفي صحاح معتبرة وفي المستدرك على صحيح البخاري و...

الخضر وقضية الإمام المهدي عليه السلام

ص: 25


1- صحيح البخاري ج4 : 143.

إذا كان عيسى بن مريم من أنبياء أولي العزم وصاحب شريعة وزيراً للمهدي فهل يعني أنّها قضية تشريفات وديكور؟

كيف يمكن أن يتقدم المفضول على الفاضل عقلا؟ مما يدل على أنّ الإمام المهدي عجل الله فرجه حجة من حجج الله، مرتبط بالغيب، كما اتبع موسى عليه السلام الخضر:

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).(1)

وقد ورد تعريف الخضر في سورة الكهف:

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).(2)

يعني هو واجد للرحمة اللدنّية، قد أهّله العلم اللدني لأن يقتدي به موسى، وهو من أولي العزم ونبي من أصحاب الشرائع الكبرى. إذن ليس بدعاً في الديانة الإلهيّة ما نقرؤه في الأحاديث _ حيث يرى البعض وجوب ضربها عرض الجدار إذ كيف يعقل أن يتبع النبي عيسى المهدي ويكون وزيره _ فالخضر في سورة الكهف مثال ضربه الله للمهدي عجل الله فرجه في الكثير من زواياه: خفاؤه، تدبيره الخفي،القرآن الكريم يضربه لنا مثالاً في أنّه يدير ويدبر المجتمعات بشكل خفي، في الجانب الإقتصادي وكفالة المحرومين والحفاظ على عقيدة الناس.

ص: 26


1- الكهف: 66.
2- الكهف: 65.

فالذي قتله الخضر وهو الغلام الصبي لو قدر أن يعيش لأمكن أن يكون صدام الثاني فيقتل سبعين نبي، فكما أنّ الخضر كانت له هذه الأدوار المهمة والموقعية فانّ للمهدي موقعية أكبر، كيف ل، والقرآن يشهد بأنّ أهل البيت المطهرين _ بنص آية التطهير _ يمسّون الكتاب وهوالقرآن الكريم المهيمن على التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم؟

أنظروا إلى هذه اللمحة من لمحات الصفة التي ذكرها المسلمون في رواياتهم لا خصوص الشيعة، ألا تنبيء وتشير بوضوح إلى أنّ الإمام المهدي عجل الله فرجه رجل له مقام غيب-ي ملكوتي، والاّ كيف يتبع النبي عيسى عليه السلام على شأنه وجلالته المفضول والعياذ بالله؟ والاّ يجب أن يكون المهدي رعية لعيسى.

هذا معنى عميق بحثته الصوفية وغيرهم والمتكلمون من السنّة والشيعة وهو من الملاحم الكبرى.

هناك مسألة أخرى ذكرت في الروايات، ففي حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وآله جرد المرحوم السيد المرعشي _ أحد مراجع قم _ في كتابه (تتمة إحقاق الحق) قائمة من الأسماء ربما زادت عن خمسين مصدراً من مصادر إخواننا السنّة:

(إن عدة الخلفاء بعدي عدة نقباء موسى).(1)

ص: 27


1- الجامع الصغير ج 1، ص 350، ح 2297.

(لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى إثنى عشر خليفة كلهم من قريش).(1)

وهذه من ملامح العقيدية الموجودة عند كل المسلمين: إنّ خلفاء النبي صلى الله عليه وآله اثنا عشر، كلهم من قريش(2)، وهذه فقرة ثابتة أيضاً في نصوص الفريقين في الحديث المتواتر، ومن ثم من اراد أن يفسر من هم هؤلاء الخلفاء الإثنا عشر؟ قال: لا محالة إنّ المهدي هو آخرهم، لأنّه قد سمّاه النبي بأن يظهر الله الدين على يديه، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهو خليفة المسلمين، بل خليفة الله في تعبير الروايات(3) حتى في روايات اخواننا السنّة، وليس فقط خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أنّ إبن عربي محي الدين _ وهو محسوب من أتباع المذهب المالكي _ في كتابه (الفتوحات) قال: هذه لقطة مهمة عقائدية معنوية يجب أن نقف عندها ملياً... انّ هذه اللقطة (إنّه خليفة الله) مما يدل على جلالة شأنه.

حينئذ إذا كان الخلفاء للنبي صلى الله عليه وآله اثني عشر آخرهم المهدي أوليس يتضح جلياً انّ أولهم علي بن أبي طالب عليه السلام جده؟ هذا باب آخر وبرهان آخر للدلالة على انّ المهدي بوابة واسعة لإمامة أهل البيت عليهم السلام لكن نحن غافلون، أو لا نتدبر ملياً ببيان وتبيان مثل هذا المطلب؟

ص: 28


1- كنز العمال ج 12، ص 32، ح 33850.
2- راجع هذه الاحاديث ونحوها في صحيح البخاري ج8 : 127، صحيح مسلم ج6 :3، سنن أبي داود ج2 : 309، ح4280، المستدرك للحاكم ج3 : 617،......
3- راجع مسند أحمد ج5 : 277، كنز العمال ج14 : 261، ح 38651 و 38658و ....

صفة أخرى مذكورة أيضاً بشكل متواتر للمهدي عليه السلام في أحاديث الفريقين هي إنّه (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً) وفي بعض الروايات:

(يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ونوراً وعلماً، كما ملئت ظلماً وجوراً).(1)

وهذه الصفة لم تتحقق على يد أيّ نبي من الأنبياء وأيّ رسول من الرسل وأيّ مصلح من المصلحين.

مفهوم الفيء:

هذه الصفة لأهل البيت مذكورة في القرآن الكريم، أما تقرؤون قوله تعالى:

(ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).(2)

اللام في _ لله _ ملكية وولاية تصرف، وفي _ للرسول _ ملكية تصرف وتدبير لا ملكية شخصية ضيقة النطاق.

(الفيء) يعني كل خيرات الأرض بتطابق المسلمين، ويقال للغنائم التي تغنم من الحرب أيض، لأنّها في الأصل لله وللرسول ولذي القربى، كانت تحت أيدي الكفار، والله لم يخلق مخلوقاته وخيراته للمعاندين الجاحدين به كلا وحاش، وإنّما خلق هذه الأرض ليدبرها خليفته (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ

ص: 29


1- سنن أبي داود ج2: 309، المستدرك للحاكم ج4: 464، مسند أحمد ج3: 27.
2- الحشر: 7.

خَلِيفَةً)(1) فخليفة الله هو مالك التصرف والتدبير، ليس ملكية كسرى، أو ملكية الأقاصرة فتلك ملكية ضيقة وسفاسف وهذه ملكية مقام وتدبير التصرف.

الفيء _ بتوافق كل المسلمين _ لله وللرسول ولذي القربى، فهل يريد الله أن يجعل ذي القربى برجوازيين واقطاعيين؟

كلا، يعلل الله عزّوجل في القرآن بأنّ في ذلك كما يقول الصادق هذه الآية والسورة (فيها جدع الأنف)(2) يعني ترغم الإنسان للاعتناق والإنقياد لأهل البيت مثلما تمسك بالبعير فتجدع أنفه، فهل الباري تعالى جعل هذه الأموال في الأرض تحت تصرف القربى لأجل أن يجعل منهم اقطاعيين؟

كل، يحكي لنا القرآن أنّها لله وللرسول ولذي القربى، بعد ذلك لا يقول: ولليتامى بل (واليتامى) فلم غيّر التعبير ثم قال : (والمساكين وابن السبيل) ولم يقل لابن السبيل؟

القرآن يُحفظ بمعانيه لا بأصواته فقط، وإن كان لها آثار عجيبة غريبة، لكن لا نقتصر على هذا النهل من القرآن فقط، حتى مسابقات القرآن لاتقتصر على لقلقة اللسان والحفظ اللساني فقط، وإن كان هذا أيضاً مرتبة عظيمة للقرآن وله آثاره العجيبة في الفضاء، بل يجب أن نحفظ ونتدبر معانيه:

ص: 30


1- البقرة : 30.
2- التهذيب للشيخ الطوسي ج4: 133، ح371.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).(1)

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).(2)

العمدة هو معنى القرآن، فلا يجمعنا مع المذاهب الإسلامية الأخرى صوت القرآن فقط فالمفروض أن نهتدي بمعاني القرآن أيضاً.

الآية تدل على أنّ الطبقات المحرومة مصرف لهذا الفيء، لا أنهم أولياء الأموال العامة إذ إنّهم الله عزّ وجل وهو الحاكم الأول، وينيبه رسوله صلى الله عليه وآله ثم ذو القربى، وما الحكمة في ذلك؟ يفسر القرآن الكريم ذلك، وهذا وصل الشاهد مع موضوعنا السابق ويقول:

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِياءِ مِنْكُمْ).(3)

يعني هذه الأموال الطبيعية في كل الكرة الأرضية خصصتها لذي القربى كي تستتب العدالة، ولا تكون هناك إثرة، وهذه الآية ملحمة قرآنية عظيمة في أنّه لم ولن تستتب العدالة في الكرة الأرضية إلاّ بيد ذي القربى وآخرهم المهدي عليه السلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

لا يقول مثقف أو يُشكل كاتب لم يتعلم حتى أصول الحديث في المذاهب الإسلامية على هذه الرواية فيها كذا وكذا فحتى النظام العالمي لم تستطع بعض الدول العظمى أن توحّده في الدنيا فكيف هو يستطيع؟

ص: 31


1- القمر: 22.
2- محمد صلى الله عليه وآله : 24.
3- الحشر: 7.

نقول: انّ نصوص المهدي وأهل البيت عموماً كلها موجودة وتفهم من ظاهر القرآن، فإنّه يحدثنا بأنّ ذوي القربى هم المؤهلون لأن يملؤوا الأرض قسطاً وعدلاً (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِياءِ مِنْكُمْ) يعني بإسنادها إلى ذوي القربى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم.

لنبحث الرواية المتواترة بين الفريقين من انّه عليه السلام وذوي القربى هم الذين يملؤونها قسطاً وعدل، فكيف يمكن ذلك بلا علم معصوم وعلم لدنّي؟ إنّه ممتنع.

وهل يمكن أن تشمل العدالة كل أرجاء الكرة الأرضية بلا أمانة؟

أنظروا إلى ما يقول يوسف عليه السلام:

(اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَْرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).(1)

أو كما تقول بنت شعيب لابيها:

(إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ).(2)

يعني أن تدبير أموال وخزائن الأرض يحتاج إلى صفتين: العلم والأمانة، والعلم التجريب-ي لا ينفع، العلم الإشتراكي لم يحقق العدالة للبشرية، والشيوعية كذلك بل زادت الطين بلة، وكذلك الرأسمالية بل بالعكس حيث أن تسعين بالمئة من ثروات أمريكا هي بيد أربعة بالمئة من الشعب الأمريكي حسب الإحصاءات الرسمية وألمانيا كذلك، إذن النظرية بالعكس.

ص: 32


1- يوسف: 55.
2- القصص: 26.

إنّ علم الإدارة بشُعبه العديدة اليوم عبارة عن علم القيادة، وهذا هو الذي يركز عليه الإمامية، وعلم الإدارة في العلوم والدول والنظم كشريان حياة النظام العالمي.

ان البشرية تحتاج إلى إدارة ليس فيها حيف ولا ميل أبد، كيف يتصور ذلك؟ وأيّ حاسبات آلية وعلوم ومناهج وطاقات تحتاجها هذه الإدارة؟

ورد أنه عليه السلام يملأ الأرض قسطاً وعدل، فلو لم يكن لديه علم بالنقد العادل وكانت له سياسة نقدية ومصرفية خاطئة فإنّها تسبب الظلم وإن لم يكن متعمد، فالسياسة الإقتصادية الخاطئة ظلم.

إنّ علوم الإدارة تبرهن على هذا المطلب، والكثير منها يخدم المذهب وهي اللغة العصرية لمذهبنا.

لابد إذن من علم لدني، فالسياسة النقدية الخاطئة تسبب الظلم، والسياسة الصناعية الخاطئة تدمر الطبيعة، ولم يتوصل إلى الآن إنّهم وبعد التجارب التي مرّت بها البشرية وبعد اللتيّا والتي يقولون: واعجزاه!

التفتوا إذن! إنّ العدالة سهلة باللسان وفي المعنى هي بحر عميق، إنّ البشرية بعد هذه القرون وهذا التطور وهذه المدنية لم تتوصّل لحد الآن إلى برنامج عادل، السياسة إذا لم يكن هناك برنامج قضائي عادل فانّ الظلم يبدأ مرة أخرى، وإن لم يكن هناك برنامج أمني دقيق فقد يكون هناك إفراط وتفريط فامّا يُجحف في حق آخرين أو يستأثر آخرون بالقدرة، ان نظام المدنية البشرية حقيقة معقدة. يقول الشيعة وأتباع مذهب أهل البيت: لابد من

ص: 33

إمام معصوم أو فقيه من باب أن (ما لا يدرك كله لا يترك كله) ولكن إذا أردنا الكمال المنشود والمدنية الفاضلة فلابد من عصمة وتسديد علم لدني، ولو كان العلم اللدني بلا عصمة عملية فلا يمكن أيض، والفقيه يجوز تقليده مادام عادلاً وفقيه، والخيانة تسلب منه صفة العدالة وتذهب صلاحياته. ليس بممتنع إذن _ أعوذ بالله _ أن يخون العادل، إذن لابد من عصمة عملية أيض، إذن آية سورة الحشر(1) نفسها تدل على طهارة أهل البيت وعلمهم. وكما دلت آية التطهير على عصمة أهل البيت عليهم السلام وسورة الواقعة على عصمتهم العلمية تدل سورة الحشر أيضاً على عصمتهم حيث تقول: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِياءِ مِنْكُمْ)(2) يعني العدالة لا تطبّق ولم ولن تتفشى في الكرة الأرضية إلاّ بإسناد أرجاء الكرة الأرضية كافة، ولم تقل بإسنادها إلى النبي عيسى ولا موسى بل قالت:

(ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) فتدل على مقامهم، ومن ثمّ هذه صفة أخرى تدل على أنّ المهدي عجل الله فرجه وأهل البيت هم المؤهّلون لإفشاء العدالة ولملء الأرض قسطاً وعدلاً.

وهناك صفات أخرى لا يسعها المجال قد ذكرها إخواننا السنّة في رواياتهم، وبأدنى تأمل والتفات إلى الآيات القرآنية نشاهد أنّها كلها صفات

ص: 34


1- (لكي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).
2- الحشر: 7.

العصمة لأهل البيت، فالمهدي إذن باب واسع للهداية إلى إمامة أهل البيت عليهم السلام، والحمد لله رب العالمين.

والحمد لله رب العالمين

ص: 35

ص: 36

المحاضرة الثانية: ولادة الإمام المهدي (عجل الله فرجه)

اشارة

ص: 37

ص: 38

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام على أفضل الأنبياء والمرسلين محمد وآل بيته الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

السلام على صاحب هذه الليلة المباركة، السلام على العلم النور في طخياء الديجور، السلام على باب الله ورباني آياته، السلام على داعي الله وميثاقه، ووعده الذي ضمنه.

وبعد، فانّ النعوت التي وردت في وصف الإمام المهدي عجل الله فرجه كثيرة. وأردت أن أستطرق بعضها ربما لم يقف عليها الأخوة الأعزاء، أو لم يعطوها شيئاً من التأمل الواسع.

من تلك النعوت التي وردت في الإمام المهدي عجل الله فرجه هو النعت الوارد في خطبة الغدير للنبي صلى الله عليه وآله التي وردت بطرق عديدة وبمقولات متعددة.(1) فبعض الرواة نقل بعض فقراته، وبعض نقلها بطوله، ومن ثم اختلفت الروايات أو النسخ في طول أو قصر الخطبة.

ص: 39


1- راجع الغدير للأميني ج1: 215.

ومن الملفت للنظر أنه صلى الله عليه وآله في هذه الخطبة مع أنّها مكرسة لنصب أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام عموماً إلا أن النبي صلى الله عليه وآله بين كل فقرة وأخرى عندما يؤكد على نصب علي عليه السلام إماماً للمسلمين بأمر من الله تعالى ويذكر إمامة الحسنين وولد الحسين يعاود بالتنويه والتخصيص بذكر إمامة الأمام المهدي ونعوته وصفاته. ومن تلك النعوت التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله للمهدي عجل الله فرجه أنه تاسع ولد الحسين الذين هم كلهم أئمة.(1) وعبّر صلى الله عليه وآله: هو تاسعهم، وهو قائمهم، وهو باطنهم، وهو ظاهرهم، وهو أفضلهم، تعبير يستحق التأمل، وربما هناك إطباق أو شهرة عظيمة بين علماء الأمامية في أفضلية المهدي عجل الله فرجه على الثمانية من بعد الخمسة أصحاب الكساء. وهذا نعت _ على أيّ حال _ يستحق التروي والتأمل والتمعن فيه.

ومن النعوت المتميزة أيضاً التي وقفت عليها _ وكم هي كثيرة إلا إنّها تسترعينا لكي نتدبرها ونمعن النظر فيها _ هو ما ورد في إحدى زيارات الحجة عجل الله فرجه:

(السلام عليك سلام من عرفك بما عرّفك به الله، ونعتك ببعض نعوته)(2) فنعت الله للمهدي في الآيات القرآنية الكثيرة. وورد وبتسالم عدة

ص: 40


1- راجع الخصال للصدوق ص305، ورسائل المرتضى ج3 ص209، والإمامة والتبصرة لابن بابويه ص1 و11 و111 ومصادر أخرى كثيرة.
2- البحار للمجلسى ج99: 117.

من مفسري الفريقين أن هناك آيات مخصوصة بظهور المهدي عجل الله فرجه، فالزيارة تشير إلى تلك النعوت مورد الشاهد.

ما نقرؤه: (سلام من عرفك بما عرّفك به الله، ونعتك ببعض نعوته التي أنت أهلها وفوقها) يدل ذيل الزيارة على أن ما ذكر من نعوت للإمام الثاني عشر عجل الله فرجه _ سواء أكانت نعوتاً خاصة به ك- (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وما شابه ذلك، أو نعوتاً عامة له ولبقية الأئمة _ هي دون النعت الذي هو عليه، أي إنّ ذيل الزيارة: (ونعتك ببعض نعوته التي أنت أهلها وفوقها) يدل على أن الإمام المهدي عجل الله فرجه مقامات إلهيّة لم تذكر في ظاهر القرآن، وإن كانت قد ذكرت في باطنه.

هذا على أيّ حال إستهلال ببعض نعوت الحجة، ثم نخوض في نقاط متتالية بحسب ما يسع الوقت:

النقطة الأولى: تنجز الوعد الإلهي

هناك وعد إلهي لم ينجز إلى الآن، وهو محط نظر المسلمين، حيث أن الله تعالى قد وعد نبي الإسلام بانتشار الدين الإسلامي على أرجاء الكرة الأرضية كافة. وهذا الوعد الإلهي لم يتحقق على يد الدولة العثمانية، ولا على يد المسلمين الآن، قال تعالى:

ص: 41

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).(1)

أو في آية أخرى:

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً).(2)

وهذا الوعد ملحمة قرآنية إعجازية ونبوءة نبّأ بها القرآن البشرية أجمع وتحداه، ولم تتحقق إلى الآن. وليس هناك من متصور لانتشار الدين الإسلامي إلا على يدي الإمام الثاني عشر المهدي عليه السلام بحسب نصوص روايات الفريقين.

وهذه _ على أيّ حال _ صفة ومدحة خالدة للإمام المهدي في القرآن الكريم، حيث أن الوعد الإلهي لم يتحقق إلا على يده الشريفة.

وبعبارة أخرى (بكم بدأ الله) بسيف علي تحققت المؤازرة والمناصرة للنبي صلى الله عليه وآله وانتشر الدين الإسلامي، وأعدت قواعده وشيدت أركانه. فبأهل البيت بدأ الدين، وبهم سوف يختم، وبهم سوف ينتشر، وهذه ملحمة وقلادة تكوينية خصها الله بآل محمد صلى الله عليه وآله.

ص: 42


1- التوبة: الآية 33.
2- الفتح: الآية 28.

ومن ثَمّ يشير عدة من المحققين من أعلام الإمامية إلى أن إمامة الإمام المهدي عجل الله فرجه هي بنفسها دليل مستقل مفعم ناصع على إمامة آل محمد، يعني إنّ أحد أدلة إمامة الأئمة الإثني عشر هو إمامة الأمام المهدي.

وقد قال أحد العلماء المحققين المجتهدين الماضين وهو متخصص في أمور الإمام المهدي عجل الله فرجه أيضاً:

لو أن قائلاً يقول: إنّ الروايات التي وردت في الإمام المهدي تضاهي ما قد ورد في إمامة الإمام أمير المؤمنين لم يكن مبالغاً. وهذا الكم الهائل من الآيات والروايات يدل على إمامة المهدي ومن ثم على إمامة آبائه الأحد عشر.

ولذا ترى اليوم في الأندية العديدة العلمية والدينية في مختلف الأمكنة _ سواء الانترنت أو الجلسات المباشرة أو الكتب التي تصدر عن الفريقين _ سجالاً عظيماً مؤدّاه: إنّكم كيف توجهون إمامة الإمام المهدي وأنه به يُبسط العدل، ويسدد من السماء، ويصلي خلفه النبي عيسى عليه السلام وما شابه ذلك، مما يدل على أن إمامة الإمام المهدي منصب إلهي وتعيين إلهي يكون عيسى عليه السلام تبعاً ووزيراً لمن لا يكون معصوم، وهل يعقل هذا؟! لا يعقل.

وكثير ممن استبصر إلى المذهب الحق مذهب أهل البيت عليهم السلام كان أحد بواعث الجذب والبصيرة والإبصار هو تفكره في إمامة الإمام المهدي.

ص: 43

كتب أحد علمائنا كتاباً باسم (الأنوار القدسية) _ غير كتاب الأنوار القدسية للمرحوم الإصفهاني في أشعار مدح أهل البيت _ ويدور حول المهدي فقط ويحتمل أن يكون مطبوعا طباعة حجرية قد أحصى فيه إثني عشر ألف حديث وارد في إمامة الإمام المهدي عجل الله فرجه.

والغريب أنّه ذُكر عن بعض الأخوة المشرفين على بعض المؤسسات الخاصة بموسوعات الإمام المهدي أنّه قال: غاية ما استقصيناه الآن خمسة آلاف أو ستة آلاف حديث.

ومع هذه الوفرة من الطرق يأتي كاتب من رجال الدين السوريين من أهل السنّة، ويكتب كتاباً حول المهدي في روايات أهل السنّة والشيعة، ويسوق في كتابه كثيراً من الخلط العلمي، ولكن الخبير الفطن المطلع على بحوث الرجال والحديث يلتفت إلى أن الكثير من مباني هذا الكاتب هشة وخاطئة منها:

إنّه يرفض أن الكثرة في الروايات الآحاد تؤسس تواتراً. وهذا أمر غريب جداً، لأنّ التواتر كما بيّنه علماؤنا الأعلام يتولد من عامل التراكم كيفاً وكما _ كما هو واضح _ وبيّن ذلك (الشهيد الصدر) في كتابه (الأسس المنطقية للإستقراء) بأنّه مبنى رياضي. طبعاً هذا المبحث أثاره الرياضيون بشكل واسع.

لا يقل قائل إنّه كيف خبر واحد وواحد النتيجة تتبع أخس المقدمتين وإنّما هذا عامل الكم غير عامل المفرد، فهذه من أوضح الأمور ومع ذلك يتنكر لها هذا الكاتب.

ص: 44

إنّه يقول: نعم، وردت روايات صحيحة أنه يخرج رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه إسمي…، كذا وكذ، ولكن ليس في الرواية أنه المهدي. نعم، في روايات أخرى صحيحة: المهدي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلا، لكن ما الذي يدل على التشابه بين الروايتين؟(1)

نقول له: مثل هذه الإشكالات سخيفة جداً، المفروض إذا كنت في صدد البحث عن حقيقة معينة عليك أن تجمع عدداً كبيراً من الروايات لتخرج بنتيجة.

على أية حال لا أطيل في هذه النقطة، وأظن أن القراء الكرام لهذا الكتاب يقفون على مواضع الضعف الشديد في أبحاثه.

النقطه الثانية: معنى الغيبة

اشارة

هناك معلومة مغلوطة حول إمامة الأمام المهدي عجل الله فرجه _ ربما تسربت للأسف حتى إلى الأبحاث التخصصية والكثير من الكتابات _ ألا وهي معنى الغيبة، ففي روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام قوبلت مع الظهور ولم تقابل مع الحضور. لكن جرى في كتب علماء الأمامية أن يقابلوا بين الغيبة والحضور، وللأسف هذه المقابلة فيها غفلة شديدة، لأنّ الغيبة إذا قوبلت مع الحضور صارت بمعنى أنه عجل الله فرجه ناءٍ مجمّد نشاطه

ص: 45


1- راجع كتاب المهدي المنتظر في روايات أهل السنّة والشيعة للدكتور عداب محمود الحمش.

وأفعاله، بينما إذا قوبلت مع الظهور فإنّها تأخذ معنى آخر هي خفاء الهوية لا زوال وجوده بين ظهرانينا.

في الخطبة المعروفة لأمير المؤمنين عليه السلام:

(...لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته، إما ظاهراً مشهور، وإما خائفاً مغموراً).(1) قوبل بين الظهور والغيبة.

وعليه إنّ الغيبة إذا قوبلت مع الظهور تكون بمعنى الخفاء، أمّا إذا قوبلت مع الحضور فإنّها تكون بمعنى النأي والانسحاب عن ساحة الأمة، وهذا مفهوم خاطئ جداً.

وعلى ضوء هذا المفهوم الخاطئ ربما يتصور _ حتى في الأبحاث التخصصية _ أن ممارسة الحجة عجل الله فرجه الآن تعليقية. وربما يتسرب لأذهان حتى بعض أهل التخصص أن الولاية الآن هي ولاية الأمة أو ولاية شورائية، لأنّ النص على الأئمة الإثنى عشر عليهم السلام الآن مجمد. ومثل هذه القناعات الشاطة عن جادة مذهب أهل البيت نشأت كلها بسبب المفهوم الخاطئ عن معنى الغيبة.

وهناك دلائل كثيرة على أن الإمام عجل الله فرجه يمارس دوره في النظام الاجتماعي البشري أجمع، لا في خصوص المسلمين فضلاً عن الطائفة الشيعية. هناك دلائل قرآنية وروائية كثيرة على أن للأئمة من قبل الله تعالى

ص: 46


1- نهج البلاغة ج4: 37.

منذ آدم إلى الوصي الخاتم تدبيرا في النظام الاجتماعي البشري بشكل خفي.

نلاحظ في سورة البقرة _ مثلاً _ قوله تعالى: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً).(1)

التعبير بالخليفة هو أحد عناوين الإمامة في القرآن الكريم، لأنّ الخلافة من مفاهيم القدرة والسلطنة والسيطرة والتصرف وليست مفهوماً علمياً كالنبوة والرسالة، ولم يعبر القرآن الكريم: إنّي جاعل في الأرض نبياً أو رسول، ولم يقل إنّي جاعل آدم خليفة مما يعني أنّ القضية عامة وليست محدودة بزمن ولا ببرهة معينة وهذا المنصب ليس منصب نبوة ورسالة وإنّما منصب خليفة. وهذا هو الذي تعتقده الشيعة (لا تخلو الأرض من حجة).

أراد أن يعرف الملائكة بأنّ هناك طبيعة بشرية سوف تخلق على وجه الأرض، فأبرزُ خبر أنبأ به الله ملائكته هو:

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) ليس نبياً ولا رسول، بل خليفة يعني إماماً متصرفاً ولم يحدده بآدم.

ثم إن أبرز تعريف لهذا الخليفة يذكره القرآن الكريم هو: اعتراض الملائكة (قالوا) وأورده القرآن الكريم ليس اعتباطاً وإنّما للتدليل على أبرز صفة للخليفة:

ص: 47


1- البقرة، الآية 30.

(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).(1)

هل أورد الباري تعالى في قرآنه في تعريف وبيان ماهية الخليفة اعتراض الملائكة ليدلل على أنّ من أبرز سمات وصفات الخليفة هو أنّه مانع عن الفساد في الأرض وسفك الدماء؟

أي فساد في الأرض يمنعه الخليفة ونحن نشاهد الفساد وسفك الدماء والحروب بين البشر منذ آدم إلى يومنا هذا.

لتنمعّن قليلاً في الآية الكريمة لنجد أنّ الملائكة عندما يوردون اعتراضاً على الباري تعالى من أنّ الخليفة أو الظاهرة الطبيعية للبشر سوف تستلزم سفك الدماء والفساد في الأرض، ليس مقصودهم الفساد ولا سفك الدماء الجزئي والا فهذه من لوازم العيش في الأرض والتضاد والتناحر. وهذا ليس بقبيح كما ذكر الفلاسفة أو الحكماء والمتكلمون.

هل في الشر القليل في مقابل النفع الكثير اعتراض؟!

كل، فالتاجر يزاول عمل التجارة ويخسر 30 ليربح 70 فهذا ليس باعتراض عقلاً. إنّما يصح الاعتراض عقلاً إذا كان الفساد وسفك الدماء مطبقاً أو أكثر كما حدث في النسناس وغيره من المخلوقات البشرية، حيث أبيدوا عن بكرة أبيهم للتناحر بينهم وللفساد.

ص: 48


1- البقرة، الآية 30.

ولذا قال الله عزّ وجل إنّ هذا الخليفة يمنع عن سفك الدماء والفساد الأكثري بتدبيره للنظام البشري. في الحرب العالمية الأولى أو الثانية _ حفظ الله الجميع _ لم يكن فيها سفك دماء مطبق ينقرض به النسل البشري.

هذا الخليفة بتدبيره في الأرض يمنع من انقراض النسل البشري، ومن انتشار الأيدز بشكل مطبق، حيث يلهم ويسدد في بعض الموارد عبر الخلايا والشبكة التي هو يديرها، ويمنع انتشار الظلم الاقتصادي الذي يفرط بالفطرة البشرية ويهدد الأنظمة الاجتماعية البشرية، لا أنّه يمنع كل فساد.

إذن هذا من لوازم وجود الخليفة _ وليس هذا خاصاً بالمهدي عجل الله فرجه _ منذ آدم إلى النبي إبراهيم وبقية الأنبياء والرسل الذين وصلوا إلى مقام الإمامة وإلى النبي صلى الله عليه وآله. في ال- 25 سنة أو 40 سنة في مكة هل كان يدير المجتمع المكي فقط؟ كلا فان الكثير من الروايات دال على أنّ تدبيراته كانت تشمل كثيرا من أمور المجتمعات بشكل خفي.

وهل كان علي عليه السلام في ال- 25 سنة وهو جليس البيت يدير ويدبر المجتمع الإسلامي فقط؟ كلا، كان تدبيره يزيد نطاقه على ذلك.

وتدبيرات أئمة أهل البيت كذلك كما الآن تطالعنا بها حتى الأدبيات السياسية الأكاديمية العصرية إن حكومة المجتمعات البشرية لا تقتصر على الحكومة الظاهرية الرسمية العلنية. إذ أنّها أحد أشكال تدبير أمور المجتمعات البشرية وأحد أشكالها الآن هي المخابرات العالمية التي هي الحكومة الحقيقية في الدول العظمى. وهل هي حكومات علنية؟ كل، وما هذه الوزارات ورئاسة

ص: 49

الوزراء ورئاسة الجمهوريات إلاّ أغلفة وحكومات رسمية علنية. والحكومات الحقيقية هي بيد الأجهزة الخفية التي ليست وزارة في مقابل بقية الوزارات بل هي متشعبة ومنتشرة في كل الوزارات والمؤسسات العامة. ولا تقتصر على بقعة جغرافية بل في كل البقاع.

وهذا الأسلوب البشري لإدارة المجتمعات تفطّن إليه البشر منذ قرنين أو ثلاثة لكن السماء متفطنة إليه منذ خلقة البشرية. ومن ثم ورد في روايات الفريقين عن شبكة الأبدال والنقباء والنجباء والسيّاح، نقرأ في دعاء أم داود:

(السلام على السيّاح والأبدال).(1)

وفي دعاء رجب: (اللهم إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك المأمونون على سرك.. إلى أن يقول: وبشرك المحتجبون)(2). مرت عليكم وفاة الإمام الكاظم عليه السلام ولابد أنّ الخطباء قد قرعوا مسامعكم برواية خروج الإمام موسى بن جعفر من السجن مع علي بن المسيب وذهب به بطيّ الأرض إلى المدينة المنورة، وفي رجوعه عليه السلام صلى فوق جبل فرأى علي بن المسيب أربعين شخصاً وراء الإمام يصلون فسأل: يا أبا إبراهيم من هؤلاء؟ قال: هؤلاء أصفياء الله جمعهم الله ليصلّوا معي. هذه الشبكة نفسها موجودة في حياة كل الأئمة وليس أئمة أهل البيت فقط، حتى مع الأنبياء. إذا تتصفح التوراة والإنجيل تشاهد أنّ الأنبياء السابقين

ص: 50


1- البحار ج95: 401.
2- البحار ج95: 393.

الذين وصلوا إلى منصة الإمامة كانوا يديرون المجتمعات البشرية بهذا الأسلوب الخفي. لست أشير إلى الأسلوب بتوسط قوى الملكوت وما شابه ذلك، وإن كان هذا أيضاً أسلوباً من أساليب الإدارة في المجتمعات البشرية _ والدول الوضعية اليوم تستخدم التنجيم والجن والتنويم المغناطيسي والسحر يعني الملكوت النازل باصطلاح المتكلمين في الإدارة ومعادلة القوى _ بل الأسلوب الخفي البشري الذي هو من الأسباب الطبيعية لم يفقده أئمة أهل البيت بما فيهم الإمام المهدي عجل الله فرجه.

سورة الكهف أيضاً تشير إلى هذا المطلب حيث تقول:

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(1) القرآن طبعاً يخاطب النبي _ إياك اعني واسمعي يا جارة _ يعني أيها المسلمون، أيها المؤمنون:

لا تصيبكم حالة اليأس، إن لله في نشر الدعوة الإسلامية ثلاث طرق:

الأسلوب الأول : الأسلوب الفطري

وهو طريق أصحاب الكهف أي من دون حتى إمام بل بتوسط الإلهام الفطري والفطرة العقلية، ونحن نشاهد في عصرنا الحديث أن كثيراً من المجتمعات تعترض على أنظمتها، وعلى السياسات الدولية، ففطرتها تنادي بالحق.

ص: 51


1- الكهف، الآية 6.

هذا أسلوب من أساليب نشر الدعوة الإلهيّة، لأنّ دين الله أكثره فطري:

(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)(1) أكثر تشريعات الدين الإسلامي فطرية. هذا هو الأسلوب الأول لنشر الدعوة لنشر الإسلام الذي هو دين الأنبياء.

الأسلوب الثاني: أسلوب الخضر عليه السلام

فالخضر في لقائه مع النبي موسى عليه السلام أهم شيء بيّنه للنبي موسى هو أن هناك تدبيراً إلهيّاً عبر شبكة رجال الغيب في منعطفات مسيرة المجتمعات البشرية: (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).(2)

والخضر قال عنه تعالى:

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).(3) القرآن لا يعرف الخضر بأنّه نبي أو رسول، بل من له رابطة غيبية بالسماء هي قناة العلم اللدني، وعليه لا تستشكل أو تنقض سائر الفرق الإسلامية على مذهب الإمامية بأنّكم تقولون في حق أئمتكم إنّهم أنبياء يوحى لهم، إذ نقول: القرآن الكريم ينادي أن هناك قناة غيبية، وسبباً متصلاً بين الأرض

ص: 52


1- الروم، الآية 30.
2- الكهف، الآية: 82.
3- الكهف، الآية: 65.

والسماء، ليس هو نبوة ولا رسالة بل العلم اللدني (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) والذي يؤتى العلم اللدني يدير المجتمعات البشرية، وأحد أساليبه هي الإدارة التدبيرية الخفية.

الأسلوب الثالث: الحكومة الظاهرية

وهو أسلوب ذي القرنين، إنّ سورة الكهف كلها رموز وبدايتها عنوان لمضمونها وهو كيفية نشر الديانة الإلهيّة:

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(1) الأسلوب الثالث هو أسلوب الحكومة الرسمية. أسلوب حكومة ذي القرنين.

إن كمّاً كثيراً من الروايات الواردة عند الفريقين يدل على أنّ للإمام المنصوب من قبل الله وخليفة الله في أرضه تدبيراً خفياً للمجتمعات البشرية عبر شبكة خفية تسمى بالأبدال والنقباء والنجباء ورجال الغيب.

ولا يفوتني أن أنبّه إلى أن هؤلاء رجال غيب وليسوا من مرتزقة الدجل، ممن يدّعون الوساطة والاتصال بالحجة عجل الله فرجه هم رجال الغيب والأبدال والأوتاد والنقباء ولا ربط لهم حتى بالنواب الأربعة كما هو الآن في مصطلح القوى الخفية في البشرية.

ص: 53


1- الكهف، الآية: 6.

إنّ أيّ عنصر من العناصر الخفية إذا ظهر أمره يعدم، لأنّ مهمته تفوت ومن الخطر أن يظهر. كذلك في الأبدال والأوتاد حيث تناله رصاصة الأجل لا رصاصة الحديد. وكم ذكر في سير علمائنا أنّ كثيراً من الأبدال والأوتاد عُرفوا وما ان عُرفوا ماتو، يصيبهم الأجل لأنّ هذه الشبكة خفية وهي موجودة في روايات الفريقين، يعني عنوان الأبدال والنقباء والنجباء والسياح هي دوائر عديدة أقرّ بها الصوفية من السنّة ومحدثو السنّة والشيعة، ودلت عليها الآيات الكريمة كما ذكرت في سورة البقرة أو سورة الكهف وهلم جر، فنخلص إلى هذه النتيجة وهي أنّ تدبير الحجة حقيقة ثابتة.

ومن ضمن تلك الأحاديث التي تشير إلى هذه الحقيقة ما ذكره المرحوم السيد المرعشي في كتابه (إحقاق الحق)(1) في ذيل الروايات في خمسين صفحة من طرق السنّة في رواية:

(الأئمة من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش).

حيث ورد عن طرقهم:

(لا يزال أمر هذا الدين قائماً ما بقوا).

(لا تزال أمتي ظاهرة لا يغلبها من أراد بها كيداً ما بقوا)، انظر إلى ذيل الأحاديث مما يدل على أن ببقاء هؤلاء الأئمة يدفع الله الأعادي عن هذه الأمة، يدفعهم عن الافتتان والشبهات في هذا الدين. مما يدل على أن لهؤلاء الأئمة تدبيراً.

ص: 54


1- راجع شرح إحقاق الحق للمرعشي ج 2، 7، 13،19، 29...

إذن نستخلص وننتهي إلى هذه النتيجة: إنّ تدبير الإمام فعلي وهو وليّ الأمر والفقهاء نوابه، لا أنّ الولاية تصل إلى الفقيه أو إلى نوابه من الأمة، فالولاية تنشعب منه عجل الله فرجه الشريف، وهو وليهم بالفعل وإمام بالفعل ومدبر للمجتمع البشري أجمع بالفعل، فضلاً عن الأمة الإسلامية والطائفة الشيعية.

والحمد لله رب العالمين

ص: 55

ص: 56

المحاضرة الثالثة: الإمامة ضرورة بشرية

اشارة

ص: 57

ص: 58

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أسعد الله أيامكم وأيامنا بذكرى ميلاد منقذ البشرية وأمل البشرية المهدي عجل الله فرجه.

دور الإمام في الغيبة:

امتداداً لما قدمناه الليلة الماضية أواصل بعض التساؤلات والإثارات المطروحة حول المهدي عجل الله فرجه وغيبته وربما سمعنا بها من نواح ٍوأطرافٍ متعددة في الوسط الداخلي أو خارجه، من قبيل إنّ وجود الإمام عجل الله فرجه في ظل وستر الغيبة كالعدم _ أعوذ بالله، هكذا يفهمون _ إذ لا يثمر أي شيء لدى أتباعه فضلاً عن المسلمين وجميع البشرية، والحال إنّ الإمامة في عقيدة الشيعة ضرورة بشرية قبل أن تكون إسلامية أو إيمانية، فإذا كانت ضرورة بشرية فأين هذا الدور؟

ويواصل المتسائل: إنّ الإمامية أنفسهم قد تخلّوا عن ضرورة العصمة في زمن الغيبة حيث انّهم ينشئون نظام معيشتهم وما شابه ذلك من دون توقف

ص: 59

على المعصوم، لأنّه لا يمكن أن تتعطل الحياة ومرافق المعيشة مع الغيبة وستار الغيبة، مما يدل على أنّهم تخلّوا عن مقولتهم القديمة من ضرورة العصمة وأقام أتباع مذهب أهل البيت والإمامية الدنيا وأقعدوه، في الواقع وجدوا أنفسهم أمام فرضية تخيّلية هي أنّ العصمة لابد منها في إدارة المجتمعات وفي بناء نظام المعيشة، ولو كانت ضرورة فكيف نشاهد قروناً من الحياة البشرية لم تُدر ولم تُنظّم من قبل رأس في هرم السلطة وهو المعصوم؟ مما يدل على أنّ العصمة التي ادعاها علماء الإمامية وأتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام من أنّها ضرورة عقلية أو ضرورة تكوينية هي مجرد فرضية ونظرية، وإلاّ كيف نرى أنّ معيشة المجتمعات البشرية مستمرة لقرون من دون رئاسة المعصوم في رأس هرم السلطة ولا نرى أي خلل أو خطر فادح ينتابها؟ ومن ثم رفع الإمامية اليد عن العصمة وقالوا بالشورى في النظام المدني المعيشي الذي يذهبون إليه في الغيبة، وبالتالي يقولون: نستند في الغيبة إلى نظام الشورى في بناء المجتمعات، هذا على الصعيد النظري، وبالتالي إذا أمكن أن تكون هناك حقبة زمنية ولو لفترة معينة تؤصل فيها قاعدة الشورى من دون ضرورة العصمة وضرورة وجود الإمام فإنّه أبين دليل وبرهان على أنّ العصمة ليست بضرورة عقلية أو تكوينية أو شرعية.

هذا الطرح إذن هو تخلٍّ واضح من علماء الإمامية عن القول بضرورة الإمامة والعصمة.

ص: 60

ألم يقبلوا في فترة الغيبة قاعدة الشورى وارتضوها في كتاباتهم وتنظيراتهم؟ وحيث انّهم قد أقروا على أنفسهم بأنّ الإمامة ليست بضرورة عقلية ولا ضرورة تكوينية ولا ضرورة شرعية نقلية وإلاّ كيف يُرفع الضروري ولو في حقبة زمنية معينة فضلاً عن قرون؟

وهذه المقولة كتبت ونشرت وكثر منها على صفحات الإنترنيت وصفحات الكتب، فأحببت أن أذكر صورتها بشكل واضح كي نبدأ في الجواب.

قالوا: حيث بنى علماء الإمامية على قاعدة الشورى إذن هذا اعتراف منهم ولو على الصعيد النظري أنّه لا ضرورة للإمامة والعصمة، ويمكن أن تعقد الإمامة بالشورى وما شابه ذلك، وربما يجد الباحث هذه العبارة في بعض عبائر حكماء الإمامية والتي قد توهم الإنسان أنّ نصير الدين الطوسي وهو معروف من حكماء الإسلام الكبار فضلاً عن الإمامية في شرحه لكتاب (الإشارات) لابن سينا في الفلسفة يشير إليها عندما يبحث عن بحوث الحكمة العملية وما شابه ذلك في كتاب الإلهيّات - الجزء الثالث حيث يقول:

(نعم إنّ الإمامة أو العصمة ضرورة لكمال البشرية، لا لأدنى مراتب المعيشة).

يعني يمكن أن يعيش البشر في ضمن نظام ومجتمع مدني بشري من دون معصوم، ونحن نشاهد كثيراً في القرون السابقة أنّ البشر عاشوا في نظام

ص: 61

مجتمع مدني من دون معصوم، فالعصمة ضرورة لكمال المجتمع البشري، لا أنّها ضرورة لأصل حياة المجتمع المدني البشري، بعبارة أخرى إنّ العصمة ضرورة عقلية لكمال البشرية، لا أنّها ضرورة تكوينية لأصل معيشة البشرية.

هكذا سُردت المقولة، وربما يظنون بأنّه يمكن حينئذ أن تسند كل صلاحيات المعصوم لغير المعصوم ممن يكون له اطلاع بعلوم الشريعة وما شابه ذلك.

هذه المقولة قد سجّلت في المؤتمر الإسلامي في القاهرة قبل ما يقارب عشرين سنة من قِبل أحد المتكلمين من علماء بعض المذاهب ونشرها في جريدة في بلده، وربما بعض الكتابات الشيعية في الوسط الشيعي موهمة لهذا المطلب، ولكن الصحيح إنّهم لم يلتفتوا إلى معنى الإمامة التي تعتقد بها الإمامية وهذه أيضاً إحدى الغفلات المتفشية، وهي أنّ معنى غيبة المعصوم هو انعدام الوجود، ويظن الكثير انّه قاصي الديار، والحال إنّ معناها ليس ذلك بل تعني غيبة هوية وخفاء في الهوية لا الوجود، إنّه موجود ولكن تخفى هويته عليك، أي لا تعلم أنّ هذا ما اسمه، ولكن للأسف يُفسّر بنحو خاطئ بمعنى تغييب الوجود، وإنّه قاصٍ معطل جامد ليس له أيّ دور بشكل خفي وشبكته الخفية في المجتمعات.

هذا المعنى الخاطئ ربما متفشٍ حتى في الوسط العلمي، إذ لدينا بعض الكتابات انطلت عليها هذه الغفلة، والصحيح هو أنّ الغيبة مقابل الظهور،

ص: 62

والظهور يقابله الخفاء وليس العدم، فالظهور يعني: شيء موجود ظهر لك، نظير ما يقول القرآن:

(فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).(1)

يعني إنّها حقائق موجودة خافية عليك فالغيبة بمعنى الخفاء ليست بمعنى الإنعدام.

وأحد المفاهيم والعناوين التي وقع فيها الغفلة وقلب المفاهيم وبنحو متفش وخاطيء في أذهان الكثير أيضاً بل ربما نجده حتى عند الوسط العلمي والكتابات العلمية هو عنوان (الإمامة) فالكثير من المذاهب الإسلامية يظنون أنّ الإمامية عندما يقولون إنّ الإمام إمام يعتقدون إنّ الإمامة تعني الإمامة السياسية، فدور الإمام في المجتمع هو المنصب السياسي فقط. إنّه رئيس ومدير مجتمع وما شابه ذلك، ولكن هذا فهم خاطيء وفيه غفلة عميقة أيض، فالإمامية لا يعتقدون بأنّه رئيس مجتمع والإمامة سياسية وإنّه يدير المجتمع فقط.

إنّ السبب في الخطأ في هذا المفهوم للأسف هو البحث والسجال العلمي الذي دار بين متكلمي مذهب الإمامية على طوال التاريخ مع متكلمي المذاهب الإسلامية الأخرى باعتبار أنّ أفق معنى الإمامة عند متكلمي المذاهب الإسلامية الأخرى هو الرئاسة والقدرة والقيادة للمجتمع فقط، لأنّ تصوراتهم عن الإمام والإمامة تصورات ضحلة، بينما نحن نقول:

ص: 63


1- ق : 22.

إنّ منصب الإمامة الذي نعتقد به لا ينحصر دوره في رئاسة المجتمع والإمامة السياسية فقط، فإنّ هذا الدور هو أدون أدوار الإمام المعصوم، كالنبوة فانّ أحد شؤونها هو الحاكمية السياسية، فالنبي هو الشخص والنفس البشرية التي ارتقت بحيث تسمع الكلام الإلهي والوحي، فالنبوة والرسالة إذن مقام ومنصب تكويني تتلقى فيه النفس البشرية الوحي، وبالتالي لديها مسؤولية الإبلاغ والهداية البشرية والإنذار والبشارة وشؤون عديدة، فلو فرض أنّ أحد الرسل أو الأنبياء عزل عن الإمامة والقيادة السياسية فهل معنى ذلك ذهاب نبوته ورسالته سدى؟ كلا.

وهل يعني عدم كون رسالته محققة بالفعل ذهابَ نبوته ودوره الرسالي في شؤون عديدة سدى، أو أنّ نبوته ورسالته موجودة بالفعل؟

ربما يكون قد أُقصي عن أحد أدواره وهي القيادة السياسية مع أنّ لها أشكال عديدة قد يُزوى أحدها عن الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام وهي القيادة الرسمية المعلنة، وإلاّ فانّ أشكالا ًمن القيادة في المجتمعات في مجالات متعددة توجد بشكل خفي لديهم.

حذارِ أن نتصور تصوراً خاطئاً عن (الإمامة) بأنّها منحصرة في الإمامة السياسية الرسمية المعلنة فانّ هذا هو محط الخلاف بين المذاهب الإسلامية في عقيدة الإمامة والعصمة فيها.

ص: 64

ومحط الحوار بين المذاهب الإسلامية في لزوم عصمة الإمام هو كون الإمام يخلف النبي صلى الله عليه وآله في كل الشؤون والمناصب الإلهية عدا النبوة والرسالة.

للنبي والرسول لاسيما سيد المرسلين وخاتم النبيين علم لدني وللإمام الهداية التكوينية للبشر أيضاً وله مقامات تكوينية مختلفة، فالمعجزات التي تصدر عن النبي صلى الله عليه وآله هل تصدر من حيث نبوته ورسالته أو من حيث كونه ولي الله الأعظم؟ إنّها تصدر من حيث كونه ولي الله الأعظم وسيد الأولياء وإمامهم وخاتم النبيين، وكذلك علمه اللدني، لذلك ترى الآيات الكريمة تقول:

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)(1) لم يعدد الباري تعالى هذه الكمالات ليبين لنا أنّ الكمالات الإلهيّة والمناصب الإلهيّة لا تنحصر في النبوة والرسالة إذ هناك علم الكتاب وعلم الحكمة.

(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(2) وليس منظور الآية ومن يؤت النبوة فقد أوتي خيراً كثيراً، وإن كانت النبوة أعظم لكي يبين لنا القرآن الكريم انّه هناك مناصب إلهيّة غير النبوة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا، أو كما في توصيف الخضر:

ص: 65


1- النساء : 54.
2- البقرة : 269.

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).(1)

العلم اللدني منصب إلهي وليس نبوة ولا رسالة، أليس القرآن الكريم يقول:

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ).(2)

مقام الإمامة:

لِمَ أتى بصيغة الجمع (مطهّرون)؟

جاء بها لكي يدلل على أنّ في هذه الأمة أمة مطهرة تمس الكتاب المكنون أي المحفوظ، أنظروا إلى التفسير القرآني:

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).(3)

إذن هو عُلويّ نظير سورة البروج:

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).(4)

إذن شهد القرآن الكريم أنّ صنفاً يمس وجوده الغيب-ي ولكن من أي صنف؟ الله أعلم، ومن أي طبيعة؟ الله اعلم. هذا الكتاب الغيب-ي العُلويّ

ص: 66


1- الكهف : 65.
2- الواقعة : 75 - 80.
3- الواقعة: 81.
4- البروج: 22.

المكنون في كَن _ أي محفوظ _ ليس مقتصراً في الوصول إليه على النبي صلى الله عليه وآله بل ورّثه للمطهرين من هذه الأمة وهم أهل آية التطهير:

(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).(1)

إذن دلل وأشار القرآن إلى من يخلف النبي في ميراث الكتاب، هذه مناصب عديدة ينادي بها القرآن وموجودة لجماعة وثلة من هذه الأمة الإسلامية هم أهل آية التطهير وهي غير مناصب النبوة والرسالة.

كذلك في سورة آل عمران:

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). (2)

هذا يعني أنّ قسماً من القرآن محكم وقسم متشابه، قسم منه تن-زيل وقسم تأويل، وجل القرآن في التأويل لا التنزيل.

عند من هذا التأويل؟ هل هو عند كل الأمة الإسلامية وفقهاء الأمة الإسلامية؟

كلا، وما يعلمه إلاّ المطهرون، إذن هذه مناصب عديدة يبينها لنا القرآن، مناصب إلهيّة كانت للنبي صلى الله عليه وآله والرسول يخلفه الإمام في هذه المناصب.

ص: 67


1- الأحزاب: 33.
2- آل عمران: 7.

الإمامة إذن لها مقامات تكوينية، التفتوا هنا لب البحث:

الإمامة لها مناصب ومقامات تكوينية ولا نحصرها في أيّ شكل من الإمامة السياسية المعلنة الرسمية، من قال بأنّ عقيدة الإمامية في معنى الإمام والإمامة ينحصر في الإمامة السياسية بشكلها الضيق وهو الإمامة السياسية المعلنة؟

إنّ أهم مواطن مقامات ومناصب الإمامة إنّه واسطة إلهيّة بين الله في عرشه والبشر، وبعبارة ثقافية يفهمها الجميع (انترنيت إلهي)، إنّ الكثير من أتباع الأديان كاليهود والنصارى والمذاهب الإسلامية قالوا بانقطاع السبب المتصل بين الأرض والسماء بموت النبي صلى الله عليه وآله فلا اتصال بين الله وخلقه لأنّهم ظنوا أنّ أسباب الإتصال منحصرة في النبوة والرسالة مع أنّ القرآن يفند هذه الفكرة :

إنّ طالوت لم يكن نبياً ولكن يعلم بإرادة الله ومشيئته، يقول القرآن عنه:

(إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ)(1) ولم يقل إنّ نبيكم يخبر عن الله بأنّ الله مبتليكم بل هو يخبر.

ومريم بنت عمران قد اصطفاها الله ولم تكن نبية ولا رسولة، تتحدث مع جبرئيل والملائكة بل مع الله:

ص: 68


1- البقرة: 249.

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ).(1)

إنّه حوار من سنخ الوحي وليس بنبوة ورسالة لا يستطيع المسلم والمؤمن أن ينكر ظاهر القرآن.

وذو القرنين، قال تعالى:

(قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً).(2)

وهكذا الخضر ونماذج عديدة قرآنية يسطرها لنا القرآن ليس من باب البذخ الفكري وإنّما من باب فهم أنّه لا تنحصر أسباب الإتصال بين البشر وبين السماء بالنبوة والرسالة بل لها إشكال أخرى وهي الإمامة وخليفة الله وحجة الله (أين السبب المتصل بين الأرض والسماء)(3) أي إنترنيت إلهي، هذا أكبر مقامات الإمامة ولا تنحصر في الأمم السابقة، لأنّ هذه أمة تركب سنن الأمم السابقة طبق النعل بالنعل والقذة بالقذة.(4)

هناك نماذج أخرى لأسباب الإتصال غير النبوة والرسالة يستعرضها لنا القرآن حيث يقول:

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا).(5)

ص: 69


1- مريم: 20.
2- الكهف: 86.
3- إقبال الأعمال، لابن طاووس: 509.
4- راجع سنن الترمذي ج3: 321، باب (لتركبن سنن من كان قبلكم)، مستدرك الحاكم، ج4: 455، مسند أحمد، ج 5: 340.
5- المائدة: 64.

يد الله مغلولة يعني انّه لا يتصرف في خلقه، لا يتصل مع خلقه والمجتمعات البشرية، تركها الله سدى ليتفرج! غُلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا، كيف الله عزّوجل يزوى، أو ليس كان الله في ظل حكومة النبي يتصرف في المجتمعات البشرية، الحاكم السياسي والعسكري والقاضي الأول ليس الرسول بل الله، يعني ولاية الله كانت مبسوطة، يقول للنبي: اغزُ، أحجم، هادن، اقض.

كان الله هو الحاكم الأول في حكومة الرسول ثم الرسول صلى الله عليه وآله، وهل تنقطع ولاية الله وتُغل يده عن التصرف في مجتمعاته البشرية؟

نحن وحدنا _ أي الطائفة الحقة _ على هذه الكرة الأرضية الذين يقولون بهذه العقيدة: وهي انّ حاكمية الله ليس لها حد ولا تقتصر على التشريع ولازالت هي المتنفذة في كل شؤون البشر ليس فقط التكوينية بل التشريعية وكل المجالات.

والحمد لله رب العالمين

ص: 70

أسئلة وأجوبة حول الغيبة

اشارة

ص: 71

ص: 72

بسم الله الرحمن الرحيم

السؤال الأول: معنى الغيبة

اشارة

سماحة الشيخ: تعتبر الغيبة الكبرى التي نحن بصددها قضية جديدة في واقع الأمر لم يمارسها الأنبياء، حيث جاؤوا وبلّغوا وكانوا حاضرين في أممهم، فانفرد الإمام المعصوم بهذه التجربة على سائر قيادات الأنبياء والصالحين وأوصياء الأنبياء. هلاّ نتعرف على حقيقة هذه التجربة، بمعنى آخر ما معنى الغيبة في عصرنا هذا؟

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم أيّها الحضور الكرام وأسعد الله أيّامكم بالبركات ورحمة الله وبركاته، وبدوري أشكر إدارة الأوقاف الجعفرية في هذا البلد(1) لإتاحة الفرصة للّقاء مع المؤمنين من خلال أروع حديث.

ص: 73


1- الإمارات العربية المتحدة - دبي - مسجد الإمام المنتظر عجل الله فرجه.

عن الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه وإن كنا لا نرقى لأن نتفوّه بنفحة من نفحات هذا الجو الطاهر المقدس الذي يتحدث ويدور حول الإمام المهدي عجل الله فرجه، ولكن من باب أداء بعض المسؤولية نتطرق لهذا الحديث ونقحم أنفسنا فيه.

في الواقع إنّ التساؤل عن دور الإمام الحجة عليه السلام في الغيبة، وبعبارة أخرى ما معنى الغيبة؟ طبعاً هذا السؤال يصب في مصب : ما هي ثمرة آثار الإمام؟ وما معنى الإمامة ودور الإمام مع فرض الغيبة؟

وهذا التساؤل في الواقع لا يقتصر على الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه، بل قد يثار أيضاً حول إمام منصوص في القرآن الكريم على إمامته وإمامة ولده، ألا وهو النبي إبراهيم عليه السلام حيث يقول الباري في سورة البقرة:

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).(1)

فهذا نص قرآني على إمامة النبي إبراهيم، وكذلك هناك نصوص قرية على إمامة يعقوب وأسحاق عليه السلام:

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ).(2)

إذن هناك جمع من الحجج الإلهيّة المشار إليها في القرآن وُصفوا بالإمامة، مع أنّه لم يطالعنا أيّ مؤرخ ولم يُشر كتاب سماوي إلى تقلّد النبي إبراهيم

ص: 74


1- البقرة : 124.
2- السجدة : 24.

وولده أيّ حكومة رسمية في العلن بحسب الظاهر، طبعاً بالمعنى الدارج للحكومة وإدارة شؤون البشر.

وكذلك فيما ينصه ويشير إليه القرآن الكريم من جعل خليفة دائمي في الأرض يدوم بدوام البشر:

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً).(1)

العبارات في القرآن الكريم من ربِّ العزة، وكل كلمة تحتها بحور من المعاني فهو كلام الخالق، يقول الباري تعالى: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) ولم يقل نبياً أو رسول، ولم يقل إنّي جاعل آدم خليفة، مما يدل على أنّ هذه المعادلة الإلهيّة عامة وشاملة لكل عمر البشرية منذ بدوها إلى ختمها.

إنّ مقام الخليفة هو عين مقام الإمامة، لأنّ الخلافة عبارة عن استخلاف وتصرف وتدبير في الأمور، وتعني من يخلفني في أهلي وبلدي ودولتي وأرضي وبشري ومخلوقاتي، وإن لم يكن هناك بينونة عزلة وتجاف من الباري عن التصرف في الأمور _ العياذ بالله _ ولكن الخلافة هنا بمعنى التمثيل، فالخلافة عنوان من عناوين الإمامة، فبدلاً من أن يقول (إنّي جاعل في الأرض إماماً) فإنّ لفظ الخليفة في التعبير (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) يعني مصدر قدرة وتصرف وتدبير، فأول ما انطبقت هذه المعادلة العامة على النبي آدم عليه السلام.

ص: 75


1- البقرة : 30.
أساليب وأنواع الحكومات:

وهنا يُثار التساؤل أيضاً: لم يُشر لنا التاريخ إلى أنّ آدم أقام دولة، أو كان في زمنه مجتمع وما شابه ذلك، فما معنى الخلافة؟ بل هذا التساؤل ينجر حتى إلى عهد أمير المؤمنين عليه السلام حيث لم يرتئِ جماعة تقديمه، فهل يا ترى _ كما يعتقده أتباع أهل البيت _ إنّ إمامة أمير المؤمنين منصوبة ومنصوصة؟ الإمامة إذن في عهد علي عليه السلام قبل تسلّمه للحكومة الرسمية لم يكن يدير شؤونه، وكذلك في عهد بقية الأئمة كالصادق والباقر عليه السلام، هذا التساؤل إذن لا ينحصر بدقة في الإمام المهدي عليه السلام بل يتسرّى ويتّسع حتى لمن نص القرآن الكريم على إمامتهم نظير النبي إبراهيم وولده أو آدم أو بقية الأئمة، حيث لم يطالعنا التاريخ على تسلمهم واستنادهم إلى مقاليد القدرة الرسمية الظاهرة.

الجواب: ركّز الأكاديميون في الجامعات السياسية الحديثة على نقطة هي أنّ الحكومة وإدارة شؤون المجتمعات هل تنحصر في الحكومة الرسمية_ كما في اللغة الأكاديمية الأدبية السياسية القديمة _ أم لها عدة طرق وقنوات؟

وبعبارة أخرى: للقدرة في المجتمعات البشرية أشكال عديدة، وليست الحكومة لدى الأدبيات السياسية الأخيرة والتي تدرس اليوم في الجامعات الأكاديمية هي الحكومة الرسمية فقط.

ص: 76

الحكومة تعني التحكم في مصير المجتمعات البشرية وإدارتها وتدبيره، والحكومة الرسمية المعلنة ليست إلاّ عبارة عن حكومة فدرالية أو كونفدرالية في الواقع، وإن كانت تسمى ملكية أو جمهورية أو اتحادية، فكل بلدان العالم في الواقع تدار حقيقة به، ومرادهم من الفدرالية أو الكونفدرالية وإن تغايرا في المصطلح هو أنّ الحكومة الرسمية في أيّ بلاد _ شاسعة أو محدودة بمدن معينة _ عبارة عن قوى اجتماعية متعددة تتوازن وتتناسب بمعادلة معينة، ويكون الحكم الرسمي الظاهري المعلن هو عبارة عن ميزان وفاق بين تلك الحكومات المتعددة.

فمثلاً ترى في بلاد شاسعة أنّ القبيلة لها قدرة ونفوذ، وشريحة التجار لها نفوذ في ذلك المجتمع، ولكل مذهب من المذاهب نفوذ معين، وشريحة الجامعيين والنقابات أو المتخصصين لهم نفوذ، وبالتالي هذا المجتمع الذي نراه مجتمعاً بسيطاً من حيث المعادلات والبنية الإجتماعية لا نراه متركباً ومؤلّفاً من بُنى اجتماعية عديدة ودوائر بشرية عديدة كالولايات الأمريكية المتحدة ذات ال- 51 ولاية، وحتى البلد الواحد من البلدان الإسلامية أو غير الإسلامية يتألف من ولايات، لكن لا ببقاع جغرافية متباعدة بل بقاع جغرافية بشرية، يعني كل شريحة وكل صاحب نفوذ وقدرة يتحكم في شريحة بشرية معينة من جهة المذهب أو القدرة المالية أو الثقافية أو القبلية وهلمّ جرا، فالحكومة الرسمية في الواقع ليست إلاّ إحدى قنوات القدرة وإدارة المجتمعات، ولا ينحصر الحكم والحكومة في قناة الحكومة الرسمية.

ص: 77

إذن هذا بداية الجواب: إنّ الحكم والحكومة والتدبير والقدرة لا تنحصر في الحكومة الرسمية المعلنة، بل هناك قنوات لإدارة المجتمعات، سواء أكانت إسلامية أو بشرية أو مؤمنة بطرق متعددة، فمثلاً يعتبرون الحكومة الثقافية _ والتي تسيطر اليوم على الشارع الثقافي والعقول البشرية أو على عقول بلاد معينة _ قدرة تحكّم قوية في ذلك الشعب أو في الساحة البشرية أو الظاهرة البشرية لأنّ الثقافة حكومة من الحكومات، وصاحب المنبع والمصدر الثقافي يتحكم في أنسجة المجتمع ومعالمه وسننه وأعرافه ونخبه ووجوهه التي تديره، كذلك صاحب القدرة الإقتصادية والمالية والجامعية...

إذن هناك عدة أساليب وقنوات للحكم، فليس الحاكم بحكومة تدير البشرية هو الذي ينصب رسمياً فقط، فمثلاً هم اليوم يقولون في تحليل أدبيات السياسة الأكاديمية: لازال نبي الإسلام حاكماً على المسلمين وذا نفوذ وقدرة، لأنّ سننه ووصاياه وأوامره وإن لم يكن المسلمون يؤدونها حق أدائها, لكن بهذا المقدار من تلوّن دول عديدة بشرية تحت منهاج نبي عاش قبل ألف وأربعمائة سنة معناه حكومة ونفوذ, ومن ثم يعبّرون أنّ حكومات الأنبياء ليست حكومات مؤقتة, والمفكرون وأصحاب الثقافات ليست حكوماتهم مؤقتة كالحكومات السياسية المعلنة الرسمية.

يرون اليوم أنّ الحكومات الثقافية والحضارية التي كان يقودها الأنبياء أو أصحاب المدارس الفكرية والثقافية أطول عمراً وأوسع باعاً ولا تحد بجغرافية معينة لأنّها تغزو القلوب والعقول, فان كانت القدرة السياسية تتحكم في

ص: 78

الأبدان والإنتقال الجغرافي فإنّ الحكومات الثقافية والحضارية تتحكم في شخصية الإنسان وفكره وعقله ومسيره ومنهاجه وزواجه وعلاقاته.

لازلنا في النقطة الأولى التي هي نقطة أدبية أكاديمية سياسية وهي أنّ إدارة الحكومات والمجتمعات لا تقتصر على الحكومة المعلنة رسمياً, ومن ثمّ إنّ الكثير من خطوات علي بن أبي طالب عليه السلام في حكومته خمس سنوات أو ما قبلها إذا قرأتها بلغة السياسة القديمة, أي الحكومات السياسية فانّك لا تستطيع أن تفسر خطوات وحركات وبرامج أمير المؤمنين السياسية, بل ترى معاوية مثلاً أنضج في خطواته، و هذه قراءة ضيقة بلغة الحكومة السياسية المؤقتة.

أما إذا أردت أن تعرف خطوات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أسد الله الغالب فاقرأها من خلال لغة الحكومة الحضارية, فإنّه عليه السلام قد بنى حضارة بحيث أنّ كوفي عنان(1) _ وهو مسيحي _ كان يصر قبل سنتين بأنّ عهد علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر يجب أن يكون مصدراً قانونياً للأمم المتحدة في تشريع البنود القانونية المختلفة, وأحد مصادر التشريع الدولي ويُصوّت على بنوده ويُطرح للمداولة بين الدول المسيحية والوثنية المختلفة.

من الحاكم اليوم والمخلد للنفوذ في البشرية: علي أو معاوية؟

لقد رأى عنان عبارة وضّاءة تتعطش إليها البشرية في يومنا هذا:

ص: 79


1- الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة حالياً.

(يا مالك! الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).(1)

وقال: هذه عبارة ذهبية يجب أن تُسجل وتُخط على كل منظمة حقوقية في العالم, ولم يكتف عنان الذي اشرأبّ إلى هذا الفكر وهذا التقنين العملاق في البشرية بل وفي السماوات, ولم يكتف بعهده عليه السلام لمالك الأشتر بل أصرً على عهود أخرى وصودق عليها, وجُعلت أحد مصادر التقنين البشري. لا أقول حصروا التقنين البشري في نهج البلاغة لكنّ الكثير من عهود علي إلى ولاته وأمرائه والبرنامج والنظام المالي والسياسي والإداري والإقتصادي والقضائي والعسكري الذي طرحه فيها جعلتها البشرية اليوم وهي في قمة التحضر والتمدن نبراساً لها. ليس من الهيّن والسهل أن تصادق البشرية دولياً على هدي علي عليه السلام مع هذه الحضارات التي مرت عليها, هذه حكومة.

وما المراد من الحكومة؟

أليست الهيئات الدستورية التي تحكم البلدان من الهيئات العليا التي تحكم لأنّها السلطة التشريعية؟

إذن سلطة علي التشريعية لا زالت نافذة في البشر، فمن هو الحاكم اليوم: علي أو معاوية؟

ص: 80


1- من عهد أمير المؤمنين عليه السلام كتبه لمالك الأشتر النخعي لمّا ولاه مصر , راجع نهج البلاغة ج3 : 82 , رقم 53.

إنّنا نرى حكم علي لازال ذا سؤدد, وهذا هو المصطلح الذي وسّعوه اليوم في الأكاديميات والأدبيات السياسية الجامعية.

إنّ الحكومة الرسمية السياسية المعلنة حكومة مؤقتة زائلة، أما الحكومة الثقافية فإنّها لا تعرف حدوداً زمنية وجغرافية وأعراقاً بشرية خاصة. إنّ مسيرة حكومات الأنبياء والأوصياء وسنن إبراهيم إذن لازالت قائمة:

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).(1)

لازالت سنن إبراهيم الذي سنّها في البشرية تتحكم في قطاع واسع في البشرية, إذن من الإمام ومن المدبر؟

لازال إبراهيم إذن حاكماً متنفذاً يدير ويدبر, ولازال الأنبياء وسيدهم نبي الإسلام صلى الله عليه وآله حاكماً ومتنفّذاً ومطاعاً في أوامره.

إذن لا تنحصر لغة الحكومة والإدارة والتدبير للمجتمعات البشرية في الحكومات السياسية أبداً, أصغرها وأهونها وأقصرها عمراً هي الحكومة الرسمية المعلنة، وأوسعها هي تلك الحكومة العقائدية والحضارية والثقافية.

إنّ الإمام الصادق عليه السلام لازال يتحكم في أتباعه, حيث اختط منهجاً ومسيرة ثقافية للنخبة من أتباعه, مسيرة حتى للبشرية في مجالات تمدنية عديدة من خلال تلاميذه كجابر بن حيان وغيره. إذن الحكومة لها أساليب وأدوار مختلفة.

ص: 81


1- البقرة : 130.

أزيدكم: لا ريب أنّ الحكومات الرسمية المعلنة _ في الأدبيات السياسية الموجودة حتى الجامعية اليوم _ ليست هي مصدر قوة الحكومة بل هناك قوة خفية فيها تسمى (المخابرات) كال- ( سي. آي. إيه ) أو ال- (ك. جي. بي) أو ما هو أخفى منها, وكلما ازداد جسم الحكومة الخفية خفاءاً ازدادت قوته.

العجيب إنّ الخفاء مصدر قوة, وهو ما تطرحه الشيعة الإمامية الإثنا عشرية من الخفاء والغيبة, ولذا يقال عنهم : باطنيون وأسطوريون وخرافيون وغنوصيون(1) وغيرها من الكلمات المتشدقة الرنانة الجوفاء.

إنّ البشرية اليوم تسجد لهذا المنطق وتقول إنّ هذا المنهج جبار. نعم, كلما ازداد الجسم الحاكم خفاءاً ازداد دهاءً وهو الذي يحمي الدول. أيّة دولة بلا جهاز حاكم خفي تكون معرضة للتهديد الإقتصادي والأمني والثقافي والمالي وسقوط عملتها, ليس في جانب معين فقط كقنوات ضخ المعلومات، بل في كل الأجهزة, الأمن الإقتصادي والمالي والثقافي والزراعي و...

إنّ الخفاء في إدارة أيّ حقل وإدارة وميدان هو عنصر شرياني في الإدارة. عجيبة إذن هذه الفكرة التي ينادي بها الشيعة منذ غيبة إمامهم, منذ 1200 سنة، فالبشرية اليوم تبجّل الخفاء كعنصر قوة ومقدرة.

ص: 82


1- جماعة تحمل أفكاراً هنية إشراقية نتيجة للتركيب بين الثقافتين الهندية والسامية.

السؤال الثاني: مفهوم الغيبة وعدم الوجود

اشارة

قبل الإنتقال إلى الأسلوب الآخر, أوضحتم إنّ السر في الغيبة هو أنّ الخفاء يعطي قوة وهيمنة أكبر، نحن الآن نتكلم عن غيبة, فمع الخفاء قد تكون لنا صلات مع القائد, اما الإمام المهدي عليه السلام فقد أسدل عليه ستار التغييب, فهل تدخل عملية الاتصال به وتوجيهه إلى الأمة ضمن دائرة الخفاء أو التغييب؟

الجواب:

هذا ما نريد أن نصل إليه بالضبط , فقد انتشر مفهوم الغيبة عبر قرون للأسف حتى في الوسط الداخلي عند الشيعة الاثني عشرية _ فضلاً عن الطوائف والمذاهب الإسلامية الأخرى, بل لا أخفيكم ربما وصلت حتى إلى كتابات بعض علمائنا الأبرار _ على أنّها تعني عدم الوجود وأنّه عليه السلام ناءٍ في أقاصي الديار، والحال أنّ الغيبة لا تعني أنّه غير موجود بين أظهرنا، ولا تعني الانعدام والزوال _ أعوذ بالله _ وكأنّما الإمام المعصوم هذا النور الأكبر مغيّب في _ فريزر! _ في أقاصي الجزر والديار إلى أن يؤون أوان الظهور.

هذا معنى خاطئ للغيبة, لا يعتقده فحول علماء الإمامية. الغيبة تقابل الظهور, ولذلك نحن نعتقد بالظهور ولا نعتقد أنّ الغيبة مقابل الوجود أو الغيبة مقابل المجيء, كأنما الغيبة بمعنى الرواح ثم مقابل الغيبة يكون المجيء.

ص: 83

الغيبة مقابل الظهور, وماذا يعني الظهور في مقابل الخفاء؟ ظهر الشيء خفي الشيء, بقرينة ما تواتر في عقيدتنا وروايتنا ونصوصنا بل نصوص المسلمين, فإنّ الظهور يقابله الخفاء لا أنّ الغيبة بمعنى الزوال والانعدام.

الغيبة إذن _ كما تنص عليه النصوص القرآنية الكثيرة والروايات التي سأبينها _ تعني خفاء الهوية وليس أصل الوجود، كما يقال أنّ في باطن جهاز المخابرات ال- (سي. آي. إيه) جهاز أخفى منه وعقدوا لأجله دراسات كثيرة، فهذه غيبة بمعنى غيبة الهوية, يعني أنّك لا تشخّص هذا الطرف من هو؟ وليس هو جهاز كسب معلومات فقط كما ذكرت, إنّما هو جهاز تحكّم وقدرة في المجال الزراعي والاقتصادي والثقافي والمالي والعلمي والأمني والعسكري و...

في رواية عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول:

(حتى إذا غاب المتغيب من ولدي عن عيون الناس وماج الناس بفقده... إلى أن يقول: حتى إذا بقيت الأمة حيارى وتدلهت, وأكثرت في قولها إنّ الحجة هالك, والإمامة باطلة فوربِّ عليّ إنّ حجتها عليها قائمة, ماشية في طرقها, داخلة في دورها) إذن ليس متغيب بمعنى معدوم الوجود بل خفيّ الهوية (وقصورها) يعني تحكم في كل البقاع والأماكن (في شرق الأرض وغربها) يعني أنّ أمير المؤمنين يريد القول أنّه عليه السلام ذو سيطرة ونفوذ في شرق الأرض وغربها مع خفاء هويته وهو عنصر قوة (... تسمع الكلام...) فالحجة يسمع الكلام

ص: 84

فهو إذن يسيطر على كل الأوضاع (وتسلّم على الجماعة, ترى ولا تُرى إلى الوقت والوعد...)(1) أي إلى أن يظهر هويته.

لذلك عندنا روايات في أنّ الحجة عندما يظهر يقولون: هذا كنا نراه, لكن لم نكن نعرفه, ليس فقط بشخصه, بل حتى في الجهاز البشري الذي هو يديره بشكل خفي.

السؤال الثالث: الخفاء وواقع الأمة

اشارة

الآن هو يرانا ولا نراه, وخفي ويمارس دوره الامتدادي للإمامة, وواقع الأمة يعيش حالة من الغليان, والمعادلات غاية في الصعوبة, والحالة الاقتصادية والاجتماعية متردية جداً, والمسلمون يتكالب عليهم من كل صوب, فماذا يعمل الخفاء في واقع الأمة في ظل وجود هذه المعادلات الصعبة؟

الجواب:

هذا السؤال قد طرحته الملائكة, والإجابة عن ربّ العزة موجودة:

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...).(2)

في الواقع هذا انتقال إلى النقطة الثانية في الجواب, قلنا أنّ مقام (خليفة) في (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) وليس رسولاً ولا نبياً وإن كان يشمل الأنبياء عليهم السلام, لكنه مقام يختلف عن مقام النبوة والرسالة, إذ

ص: 85


1- الغيبة للنعماني : 134.
2- البقرة : 30.

يعني مقام القدرة وتدبير الشؤون والتصرف في الأمور البشرية, وأول تعريف ينادي به القرآن للإمام هو اعتراض الملائكة حيث قالوا:

(...أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).(1)

أخبر الباري تعالى البشر بأنّ معادلته وسنته الدائمة من بدء عمر البشرية إلى ختمه معادلة وسنّة دائمة وكأنّما هي اليافطة الأولى للحياة البشرية, إنّي جاعل في الأرض خليفة, وهي عقيدة أتباع أهل البيت:

(لا تخلو الأرض من حجة).(2)

(الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق).(3)

(لو لا الحجة لساخت الأرض بأهلها).(4)

القرآن يقول إنّ سنّة الباري الدائمة هي: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) وقلنا أنّ الخليفة عنوان من عناوين الإمامة والتصرف والقدرة والحكم، حينئذ يكون أول تعريف يطالعنا القرآن الكريم هو التعريف بمقام الخليفة.

ويأتينا القرآن باعتراض الملائكة بأنّ دور الخليفة ما هو؟ وإشكال الملائكة أوسع مما طرحه الأستاذ السائل؟ فليس هو في نطاق المؤمنين أو الأمة

ص: 86


1- البقرة: 30.
2- نهج البلاغة ج4: 35, خ 147, الكافي للكليني ج1: 178, باب (ان الأرض لا تخلو من حجة).
3- الكافي للكليني ج1: 177, ح 4 (باب ان الحجة لا تقوم لله على خلقه الا يإمام).
4- الكافي للكليني ج1: 179, ح 10 (باب ان الأرض لا تخلو من حجة).

الإسلامية بل البشرية : أتجعل فيها من يفسد فيها؟ يعني دور الخليفة لا يقتصر على طائفة المؤمنين ولا على دين المسلمين بل يشمل كل البشرية.

أتجعل فيها من يفسد فيها؟ أي يفسد في جميع الأرض ويسفك الدماء.

البشرية إذا تركت وأُسدي الأمر إليها على حالها يحدث الفساد في الأرض نتيجة للنزوات والغرائز البشرية الشهوية والغضبية وما شابه ذلك, وتقع حرب عالمية ويقتل بعضهم البعض بالأسلحة البيولوجية, فكيف تترك البشرية على غاربها؟

أورد الباري هذا الاعتراض ليبيّن أنّ أهم تعريف ودور للخليفة والإمام كسنّة إلهيّة دائمة في الأرض هو أنّه يمانع عن الفساد في الأرض وسفك الدماء.

لكن أيّ فساد في الأرض يمانعه الإمام والخليفة؟ وأيّ سفك في الدماء؟

لقد جرت حروب عالمية كثيرة ولم نرَ الإمام مانعها, حتى النبي إبراهيم عليه السلام وقعت في زمنه حروب عديدة, وسفكت دماء عديدة مع أنّه إمام من قبل الله وخليفة , كما أنّ الفساد في الأرض كثير, الفساد الصحي والأخلاقي والثقافي والمالي إلى ما شاء الله فأين الإمام الدارئ لهذا الفساد؟ حتى في عهد إبراهيم نقرأ في التأريخ هكذا كان, إذن أيّ فساد يمانعه الخليفة؟

الجواب: ليس المراد هو الفساد بصورة مطلقة, بل المراد _ كما يقول الحكماء والفلاسفة _ هو الفساد الغالب وسفك الدماء الغالب الذي

ص: 87

يستأصل النسل البشري, فالفساد تارة يكون غالباً يعني فساد ثلاثة أرباع النظام المدني البشري في الجانب الصحي والثقافي والاقتصادي والأمني , ويكون الفساد قليلاً تارة أخرى يحرق ربع النظام المدني البشري في الأرض, أترون أنّ الملائكة يعترضون على الباري في الفساد الذي يقع في ربع النظام البشري أو سفك الدماء في ربعه أو عشره؟ كلا, لأنّه في مقابل الفساد القليل هناك خير وربح كثير, ولا يعترض المعترض العاقل _ فضلاً عن الملائكة _ على البارئ بلحاظ الفساد أو سفك الدماء القليل , فلابد أنّ اعتراضهم هو على سفك الدماء الكثير بأن يتآكل ثلاثة أرباع البشرية في الحرب, وعدم تخصيصه في الفئة المؤمنة أو المسلمين ولا في دين معين بل كل البشرية ككرة أرضية, فاعتراضهم إذن على الفساد وسفك الدماء الأكثري، ومعنى ذلك أنّ الخليفة والإمام هو دارئ للفساد الأكثري, أي لا يمكن لمرض السارس أو الأيدز أو أيّ شيء يهدد كل النظام البشري أن يأكله ككل, فهو يقف وبجهازه الخفي ويحول دون أن ينتشر الفساد الصحي أو الفساد الأخلاقي.

أنظروا كم هم اليهود في العالم, وكم تريد الثقافة الأمريكية أن يسري التحلل والإبتذال الثقافي والأخلاقي في البشرية لكن هل استطاعت؟

الآن نرى في قضايا المسلمين مثلاً تنادي الشعوب الأوربية كلها في صف واحد بفطرتها:

ص: 88

(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ).(1)

من الذي يحافظ على هذه الفطرة التي هي أكثر دين الإسلام وأحكامه وتشريعاته هو دين الفطرة مقابل شر اليهود في كل العالم في تجارة المخدرات والحروب والإبتذال الأخلاقي والكثير من القضايا؟

لا زال قلب البشرية في شعوب العالم ينبض مع الفطرة, يأبى الظلم والعولمة الظالمة والنظام الموحد الظالم, بل تساند شعوباً أخرى مع أنّها غير محتاجة للمساندة, سواء شعوب الأمريكيتين أو آسيا الوسطى أو أوربا. الشعوب هي عامة الطبقات سيما الرازحة تحت نير الاقطاعيين نراها اليوم لا زالت تنبض بهذه الفطرة التي هي (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)(2) نفسها, وأكثر تشريعات دين الإسلام مطابقة للفطرة.

إذن لازالت الفطرة الإلهيّة الوديعة الإلهيّة الغالية الثمينة والتي هي دين الإسلام تنبض في البشرية، فمن الذي يحافظ عليها؟

السائل: هل توزعون هذه الفطرة إلى الإمام المهدي عجل الله فرجه؟

الجواب: لا ريب في المحافظة عليها, لأنّنا نشاهد أرقاماً وعلامات, فالحرب العالمية الأولى لم تهلك كل البشرية, بل ولا نصفها, وكذلك الحرب العالمية الثانية والحروب الأخرى, كما نرى الفساد الصحي والفتن

ص: 89


1- الروم : 30.
2- الروم : 30.

الاقتصادية والأخلاقية لا تقوّض ثلاثة أرباع أو نصف النظام المدني البشري الفطري, ولازالت بنية النظام البشري الفطري محافَظاً عليها بشكل غالب.

دع عنك أن تقول إنّ هؤلاء ليسوا مسلمين, فإنّ ثلثي تشريعات الإسلام فطرية يرجع إلى قبح الظلم وحسن العدل, وهذا من أسس الإسلام وتؤمن بها الفطرة البشرية كالمساواة والعدل والكثير من القضايا.

من هنا يتضح دوره عليه السلام وإن لم يتقلد الحكومة الرسمية والمنصب الرسمي, لكن لا زال يضخ في البشرية عبر جهازه الخفي وهو أقوى من أجهزة أيّ إمام سواء أكان النبي إبراهيم أو أئمتنا المعصومين عليهم السلام.

على الأنبياء صلوات الله عليهم إذن أن يحافظوا عبر أجهزتهم الخفية على النظام الفطري البشري, فهذه وديعة إلهيّة غالية الثمن في كل المجالات, فدور الإمام إذن لا ينحصر في الأمة الإسلامية فضلاً عن الطائفة المؤمنة بل يشمل كل البشرية, لأنّها وديعة إلهيّة عبر دوره الخفي, فمن ثمّ نرى القرآن يطرح لنا في تعريف الإمام:

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) يعني إمام يستخلف له القدرة, الإدارة وشؤون الحكومة, لكن ليس من الضروري _ كما قلنا _ أن يكون له أضعف أشكال الحكومة الرسمية المعلنة.

السؤال الرابع: أساليب القدرة والتحكم

اشارة

ص: 90

هل يمارس هذا الدور من خلال نوابه أو ايحاءات إلى قلوب البشرية؟

الجواب:

القنوات المذكورة في روايات الفريقين من السنّة والشيعة وحتى النصوص القرآنية عديدة, وهذه هي النقطة الثالثة التي أريد أن أتوصّل إليها:

إنّ القرآن يطرح أساليب للقدرة والتحكم في القدرات البشرية ولقيام الخليفة والإمام _ كسنّة إلهيّة دائمة _ بدرء الفساد الصحي والأمني والأخلاقي فهو الحامي للبشرية كلها.

إنّ مطلع كل سورة كما يذكر المفسر الكبير العلامة الطباطبائي رحمه الله ونعم ما يقول وهو قد استفاده من روايات أهل البيت عليهم السلام راجع إلى الغرض الخاص من تلك السورة(1), والقرآن يطرح لنا في مطلع سورة الكهف أسلوبا للهداية حيث يخاطب النبي صلى الله عليه وآله _ من باب اياك اعني واسمعي يا جارة _:

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).(2)

أي يخاطب المسلمين: إنّ الإنسان قد يكون وجلاً حينما لا تنتشر الدعوة الإلهيّة, فيطرح أربعة أو ثلاثة أساليب لانتشارها في سورة الكهف وهي سورة الرموز والخفايا أحدها:

ص: 91


1- راجع الميزان للطباطبائي ج1: 16.
2- الكهف : 6.
الأسلوب الأول : الأسلوب الفطري

وهو أسلوب هداية أصحاب الكهف بتحريك فطرتهم من قبل الله سبحانه, حيث اهتدوا إلى التوحيد ونبذوا الشرك, وهذا منهج متبع اليوم في الدول والقوى والقدرات ويسمى الايحاءات والخواطر والجلاء السمعي والبصري والفكري والتخاطر, وهو مطروح في ثقافة المسلمين بمعنى الإلهامات.

الأسلوب الثاني: أسلوب الخضر عليه السلام

ثم يطرح القرآن الكريم أسلوباً آخر لنشر الدعوة وهو الأسلوب الخفي كقصة الخضر, فهل يا ترى طرحها كأسطورة أو قصة رومانية؟

أعوذ بالله, فإنّ القرآن منزه عن الخيالات والتخيلات والخرافات والأساطير, إذن ماذا يعني استعراضها في وسط السورة التي تعنى بشؤون انتشار ودعوة الإسلام كما هو مطلع السورة:

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).

أي حديث الدعوة للإسلام فيقول القرآن:

أحد أجوبة هذا التساؤل هو دور الخضر كنموذج، فقد كان دوره كله في الخفاء وبشكل شبكة خفية, حيث يقول عن النبي موسى عليه السلام (فَوَجَدا

ص: 92

عَبْداً مِنْ عِبادِنا).(1) مغموراً مخفياً _ وهو أنيس للمهدي وتحفته كما في الروايات(2), ومن شبكة المهدي والمهدوية وله محورية خاصة في هذه الشبكة الخفية وسيظهر معه _ قال تعالى:

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).(3)

ثم يستعرض القرآن ثلاث قضايا مصيرية في تاريخ البشرية أمام النبي موسى عليه السلام مارسها الخضر, هي:

القضية الأولى: ردع الظلم الاقتصادي الذي يؤثر في اقتصاد عامة البشر, فالمقصود من السفينة هو الأمن الاقتصادي البشري.

القضية الثانية: قصة الصبي, ففي روايات الفريقين انّ هذا الصبي طبع كافراً فأراد الله تعالى أن يبدلهما خيراً منه مكان الابن بنت, فولدت سبعين نبيا(4), يعني أنّ الخضر قام بحركات مفصلية مصيرية خطيرة في الهداية البشرية, إذ لو كان هذا الصبي باقياً لحرم البشرية من سبعين نبياً, وهذا حرمان عظيم في تمدن وهداية البشر.

القضية الثالثة: قصة أصحاب الجدار والكنز, وهي رمز عن كفالة الأيتام والفقراء والطبقات المحرومة.

ص: 93


1- الكهف : 65.
2- راجع كمال الدين للصدوق: 390, باب 38, ح 4.
3- الكهف: 65.
4- تفسير العياشي ج2: 336؛ ح61, مجمع البيان للطبرسي ج 6 : 375.

الخضر إذن يدير الأمن الاقتصادي والثقافي والعقائدي والضمان والكفالة الاجتماعية, أي يدير طبقات البشر أيضاً ويقول:

(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).(1)

إنّ الباري تعالى ينزّل سورة بأكملها تتلى إلى يوم القيامة ليس لأجل بيان أسطورة وقصة رومانية تدغدغ مشاعرنا.

السؤال الأول مطروح في صدر السورة: كيف تنتشر الدعوة؟ وكيف يحامى عنها؟

يظهر القرآن قصة الخضر لأجل أن يدل على أنّ هذا أسلوب من أساليب الباري تعالى ضمن شبكة بشرية.

في دعاء رجب تقرأ:

(اللهم إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك ولاة أمرك... إلى أن يقول: وبشرك المحتجبون, الواصفون لقدرتك... ).(2)

سورة الكهف تتحدث لنا عن رجال إلهيّين ليسوا بأنبياء ورسل بل قال:

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ...).

أولاً هو ولي من أولياء الله العظام, لأنّه شرّف بهذا اللقب (عبادنا) (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) والمهم (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) يعني لديه علم لدنّي

ص: 94


1- الكهف: 82.
2- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: 544.

_ وليس لديه أنباء ووحي ورسالة _ يزق بواسطة الغيب وقناة انترنيت غيبية, كما ذكر القرآن ذلك في قصة طالوت:

(قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً)(1) يعني ليس نبياً، بل إماماً (زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)(2) علم لدنّي ويبسط له العلم، فإذن صاحب العلم اللدنّي هو نوع من الإمامة والحجية يقوم بالدور الخفي.

والحمد لله رب العالمين

ص: 95


1- البقرة: 246.
2- البقرة: 247.

المجلد 4

هویة الکتاب

سرشناسه:وائلی، احمد، 1928 - 2003 م.

عنوان و نام پديدآور:مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام/ جاسِم الوَائِلِی ؛ اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

مشخصات نشر:قم: دلیل نا، 14ق.= 12م.= 13.

مشخصات ظاهری:5 ج.

شابک:1000 دینار: ج. 2: 964-397-073-6 ؛ 1200 دینار: ج. 3: 964-397-046-9 ؛ ج. 4: 964-397-047-7 ؛ ج. 5: 964-397-048-5

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد دوم: 1425ق. = 1383.

يادداشت:هر جلد کتاب حاضر مولفی جداگانه دارد: ج.3. محمد السند، ج.4. علی الحسینی الصدر، ج.5. احمد وائلی.

يادداشت:ج.3. (چاپ اول: 1425ق. = 1383).

يادداشت:ح.5 (چاپ دوم: 1426ق. = 1384).

يادداشت:ناشر جلد پنجم: دلیل ما می باشد.

موضوع:محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255ق -

شناسه افزوده:عابدینی، حسین، 1349 -

شناسه افزوده:حسینی صدر، سیدعلی، 1328 -

شناسه افزوده:مرکز الدراسات التخصصیه فی الامام المهدی علیه السلام (نجف اشرف)

رده بندی کنگره:BP51/و27م 3 1300ی

رده بندی دیویی:297/959

شماره کتابشناسی ملی:م 83-32476

ص: 1

اشارة

مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف

النجف الأشرف_ شارع الصادق_ محلة البراق 210 الزقاق 3 رقم الدار 38

هاتف: 370950 و 332811

ص.ب 588

wwwm-mahdi.com

info@m-mahdi.com

____________________

مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام

اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

الطبعة: الأولی - جمادي الآخرة 1425 ه

السعر: 1200 دینار

المطبة البیان / النجف الأشرف

جمیع الحقوق محفوظة

عدد النسخ: 3000 نسخة

ص: 2

بِسْمِ ٱللَّٰهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

اللّهُمَّ إنّا نَرغَبُ إلَيكَ في دَولَةٍ كَريمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الإِسلامَ وأهلَهُ وتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وأهلَهُ وتَجعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ إلى طاعَتِكَ وَالقادَةِ إلى سَبيلِكَ ، وتَرزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المركز

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله وعلى آله الطيبين الطاهرين...

أمّا بعد:

شاءت القدرة الإلهيّة أن تضع بأزاء كل حقّ باطلاً يتناسب معه بالقوّة والاستطالة ويوازيه من حيث الاتجاه والمسيرة التأريخية، فكان ذلك من القوانين والسنن الثابتة التي ابتنت عليها أسس الخليقة منذ نشأتها الأولى، والتي رسمت للدنيا إطارها الذي لا تملك أن تخرج عن حدوده.

وهذا هو ذات الأمر الذي أشارت إليه الآية المباركة في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(1)، إذ أنّ التتبّع الواعي لكل مسيرة أو حركة تنتسب إلى الحق في منهجيتها يبرهن لنا أنّ مسيرة الباطل وحركته لم تتخلّ يوماً عن ملازمة حركات الإصلاح والتحرّر والسير الحثيث بموازاتها، منذ اليوم الأوّل الذي وقف فيه أبونا

ص: 5


1- العنكبوت (29): 2.

آدم ليعبد الله الواحد القهّار، ومروراً بما يحدّثنا التأريخ عن قابيل وهابيل والأنبياء والمصلحين، وإلى يومنا الذي نعيشه.

ولعلّ من أوضح الأفكار والرؤى التي تنتسب إلى الحق ونهجه القويم، بل وينتسب الحق إليها، هي الفكرة العقائدية الربّانية المقدّسة التي زرعتها الشرائع السماوية المتعاقبة في حقل الذهن البشري من خلال المسيرة التكاملية للأنبياء والرسل والأوصياء، وهي فكرة المنقذ الذي سيمدّ يده التي باركتها قدرة السماء لتنتشل البشرية من الأودية السحيقة للظلم والجور إلى مرابع القسط والعدل الإلهي، والتي ستحقق الأحلام والآمال التي بذل الأنبياء والمصلحون دماءهم زهيدة في سبيل تحقيقها، ساعين بذلك لجذب الدنيا من بؤر الظلم والفساد والعبودية إلى آفاق الحرية والعيش الرغيد.

فخضعت هذه العقيدة المقدّسة لهذه القوانين الثابتة وتعرضت لشتى أنواع المحاربة على مر العصور، فكانت هذه المحاربة متناسبة مع عظم الأهمية والسمو والرفعة التي أولتها السماء لها.

وبما أنّ أهميّة الدفاع عن هذه العقيدة تنبع من طرفين أوّلهما مقدار عظمة هذه الفكرة من حيث ارتباطها بمبدأ العقيدة الإسلامية التي عبّر عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في قوله: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1)، وثانيهما مقدار ما يبذله الأعداء من جهود لم يعرف لها

ص: 6


1- الكافي: 1/ 376 الباب الأول _ الحديث 1 _ 4، المحاسن للبرقي: 1/ 92 الحديث 46، إكمال الدين وإتمام النعمة: 409 الحديث 9، الإيضاح لابن شاذان: 75، مجمع الزوائد: 5/ 224، مسند أبي داوود: 259، كنز العمال: 1/ 203 الحديث 464، وفي صحيح مسلم: 6/ 22 والسنن الكبرى للبيهقي: 8/ 156 بلفظ (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)....

مثيل من تسخير كافة الطاقات لإظهارها على أنها العامل الخرافي الذي يتشبث به أناس ناموا على أمل أن يجدوا العالم ذات يوم يحقق لهم آمالهم وأحلامهم التي كبتها ظلم الظالمين مدة مديدة من الزمن العسير.

لذلك وجدنا أنفسنا _ في خضم هذه الظروف والمداخلات _ نتحمل عبئاً كبيراً وجزءً غير يسير من المسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع الصالح من أتباع أهل البيت عليهم السلام في الدفاع عن هذا المبدأ المقدّس الذي يعتبر أس العقيدة وأساس المذهب.

على أنّ كثرة المدافعين من العلماء الأعلام وذوي الأقلام الشريفة على مرّ الدهور لا تغني عن الاستمرار في انتهاج سبيل الذود عن هذه العقيدة المقدسة، إذ أنّ الشبهات _ وإن تكررت بصيغ مختلفة _ تحتاج إلى ردود تتناسب والطريقة التي يتبناها أعداء الحق والأساليب التي يسلكونها والطرق الملتوية التي يتبعونها في توجيه سهام الحقد الأسود للصورة الناصعة لهذه العقيدة المقدّسة.

ومركزنا الذي أنشئ بعد الاستشارة والمداولة مع ثلة من العلماء الأعلام وفضلاء الحوزة العلمية المباركة، وبرعاية من المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، يجد أنّ

ص: 7

واجبه الأول هو بذل الجهد للدفاع عن سيدنا ومولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف.

فتبنّى هذا المركز مجموعة من المحاور في عمله منها:

1 _ طباعة ونشر الكتب المختصّة بالإمام المهدي عليه السلام، بعد تحقيقها، وذلك ضمن سلسلة وسمناها ب- (سلسلة اعرف إمامك).

2 _ نشر المحاضرات المختصّة به عليه السلام من خلال تسجليها وطبعها وتوزيعها، ضمن سلسلة (محاضرات في الإمام المهدي).

3 _ إقامة الندوات العلمية التخصصية في الإمام عجّل الله فرجه، ونشرها من خلال التسجيل الصوتي والصوري وطبعها وتوزيعها في كتيّبات ضمن (سلسلة الندوات المهدوية)، أو من خلال وسائل الإعلام وشبكة الانترنيت.

4 _ إصدار مجلّة شهرية تخصّصية باسم (الانتظار).

5 _ العمل في المجال الإعلامي بكل ما نتمكّن عليه من وسائل مرئية ومسموعة، بما فيها شبكة الانترنت العالمية من خلال الصفحة الخاصّة بالمركز.

6 _ نشر كل ما من شأنه توثيق الارتباط بين الأجيال الجديدة وإمامهم المنتظر عليه السلام ، وذلك من خلال القصص والكتب التي تتناسب مع أعمارهم.

ص: 8

7 _ الاهتمام بنشر التراث المختص بالإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، ضمن (سلسلة التراث المهدوي).

وها نحن عزيزي القارئ الكريم نضع بين يديك هذا الكتاب الذي يحمل بين طياته المحاضرات الفكرية المختصّة بالإمام المنتظر عجل الله فرجه، بعد جمعها وإعدادها، ثم تحقيقها وإستخراج المصادر والمنابع التي اعتمد عليها المحاضرون بالمقدار الذي نتمكّن عليه، بالصورة التي توثّق المعلومات الواردة فيها، ثم مراجعتها وإخراجها بهذه الحلّة التي نسأل الباري عز وجل أن يجعلها محط قبولكم ورضاكم، وأن يجعل هذا العمل مرضياً عند إمام زماننا الذي يعيش بين أظهرنا ويتفقد أحوالنا ويعلم بكل سرائرنا.

إنه نعم المولى ونعم المجيب.

شكر وتقدير

اشارة

ص: 9

يتقدم المركز بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إعداد هذه السلسلة تحت عنوان محاضرات حول المهدي عجل الله فرجه ونخصّ بالذكر كلاً من:

1 _ لجنة التحقيق، المؤلفة من: سماحة الشيخ رعد الجميلي، وسماحة الشيخ أحمد الساعدي، والأخ الفاضل علاء عبد النبي.

2 _ قسم الحاسوب الآلي لجهودهم الكبيرة في إنجاز هذا العمل، ونخص بالذكر مسؤول القسم الأخ الفاضل ياسر الصالحي.

سائلين المولى القدير جلّ وعلا أن يجعل هذا العمل وجميع الأعمال محطّ قبوله، وأن يأخذ بأيدي الجميع لما فيه الصلاح والموفقية والسؤدد.

والحمد لله ربّ العالمين

السيد محمد القبانجي

مركز الدراسات التخصّصية

في الإمام المهدي عليه السلام

النجف الأشرف

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين فاطر السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على أحب خلقه وسيد رسله سيد الأنبياء والمرسلين وخاتم السفراء المقربين حبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين المنتجبين الغر الميامين، لاسيما بقية الله في الأرضين سيدنا ومولانا الحجة بن الحسن المهدي أرواحنا فداه.

واللعنة الدائمة على أعدائهم وظالميهم وقاتليهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم وجاحدي حقوقهم قاطبة من الجن والأنس إلى يوم الدين.. آمين رب العالمين.

المدخل

يسعدني ويشرفني أن أبدأ بالبحث حول ناموس الدهر وإمام العصر الحجة بن الحسن المهدي أروحنا فداه.

الاعتقاد بالإمام المهدي عجل الله فرجه مما لا ينفك عن العقائد، وخصوصاً عن الاعتقاد بالإمامة التي هي من العقائد الأصولية والمباحث

ص: 11

الأصلية في باب الاعتقادات، لذلك يستدعي أن نلفت الأنظار لتقوية الإيمان، ولتقوية روح ولاية أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين في ما يمكننا من البحث حول هذه الشخصية النورية سلام الله عليه.

والمأمول أن يوفقنا الله تعالى في هذه الليالي الخمس _ إن شاء الله _ لبيان هذه العناوين التي اخترناها ونسأل الله التوفيق.

أولاً: في إثبات وجود الإمام المهدي أرواحنا فداه، والدليل على ذلك.

ثانياً: البحث في موضوع غيبة الإمام أرواحنا فداه، والحكمة فيها.

ثالثاً: في موضوع عمره المبارك، وتحليل طول العمر.

رابعاً: البحث في سفرائه الكرام والتشرف بخدمته، ووظائفنا في غيبته.

خامساً: في ظهوره الميمون، وقيامه المبارك.

نسأل الله بقدر ما يسمح لنا التوفيق والوقت أن نتمكن من أداء جزءٍ مما يجب علينا ويفرض.

ص: 12

المحاضرة الأولى: وجود الإمام المهدي عجل الله فرجه

اشارة

ص: 13

ص: 14

البحث الأوّل: وجود الإمام المهدي عليه السلام والدليل عليه

نبحث هنا الدليل على الإمام المهدي، أي الاستدلال على وجوده وولادته وبقائه إلى أن يملأ الله الأرض به قسطاً وعدلاً:

أوّلاً: الكتاب والسنة القطعية المتواترة، ومن بشارات الكتب المقدّسة السابقة على القرآن.

ثانياً: من جهة الإخبارات المتواترة على ولادة الإمام عليه السلام ، وهي شهادات مقبولة بحيث لا تقبل الإنكار.

ثالثاً: من جهة شهود العيان في المراحل الثلاث من مراحل حياة الإمام عليه السلام ، وأعني بها في زمان العسكري أبيه أرواحنا فداه، وفي عهد الغيبة الصغرى، وفي زمان الغيبة الكبرى.

في جميع هذه الأدوار والمراحل شاهدوه عياناً، وأخبرنا به الثقات وجداناً.

وهل يحتاج العيان إلى بيان، إذ شهد بمشاهدته وتشرف بخدمته الثقات والأعيان وممن لا يشك في صدقهم وعدالتهم، فكيف يمكن إنكاره؟

ص: 15

وغرضنا من هذه الجهة هو نفس الاعتقاد بالإمام المهدي عجل الله فرجه ثم دفع بعض الشبهات التي ألقاها بعض المنحرفين، هذه الأدلة نبينها بخدمتكم.

والظاهر أنها متفق عليها بين الفريقين _ العامة والخاصّة _ بلا شك، وسنقرأ نصوص كلماتهم.

لكن بعض المنحرفين للأسف شككوا في ذلك، وألقوا بعض الشبهات حتى أنكروا الوجود بشكل فظيع لا يمكن أن يقبل، وينافي الصدق والحقيقة.

نلاحظ بعض العبارات التي بينوها في كتبهم _ الكتب مسجلة مع عناوينها كاملة حتى صفحاتها _ قال بعضهم: (المهدي أسطورة لا دليل عليها في الكتاب الكريم ولا في كتب السنة). وقال آخر منهم: (نحن لا نعتقد بولادة غائبهم الموهوم ونجزم أن الحسن العسكري لم يتزوج ولم يولد له ولد).(1) وقال ثالث منهم في تعبيره: (إنما نهدف إلى القول أن شخصاً باسم محمد بن الحسن العسكري لم يولد ولم يوجد).(2)

وهذا ظلم في الحقيقة وجفاء واقع مع وجود الأدلة المتوافرة من الكتاب والسنة والبشائر في الكتب المقدسة المقبولة بين الفريقين. كيف يدّعي أحد هذه التعبيرات والادعاءات ولم يلاحظ الكتاب ولا السنة، أم تغافل عنها أم

ص: 16


1- راجع هذا المعنى في عون المعبود للعظيم آبادي ج 11 ص 247 - 257، وسير أعلام النبلاء للذهبي ج 13 ص 119 - 122، والبداية والنهاية لابن كثير ج 1 ص 177، وكذلك رد الشيخ المفيد في كتابه ج 1 ص 4 رسائل الغيبة.
2- نفس المصدر.

جهلها، أم عاندها؟ الظاهر أنه عناد والعياذ بالله، وإلاّ فقد اعترف به كبار علمائهم في مستندات كتبهم وصحاح أحاديثهم كما سنبينه إن شاء الله.

إثبات وجود الإمام عليه السلام

ونعني الإمام المهدي بن الحسن العسكري، والحسن العسكري من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ومن أولاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.

هذه الشخصية معروفة، إلاّ أنه في بعض الروايات يوجد تحريف من جهة أنه نقل عن صحيح سنن أبي داود السجستاني بالنسبة إلى الحديث الشريف المتفق عليه بين الطرفين عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله انه قال: (المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي به يملأ الله الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) هذه الرواية متفق عليها بين الفريقين ومن المسلّمات في الكتب الحديثية، لكن حرفت في جملة منها بزيادة: (واسم أبيه اسم أبي) تحريفاً للحقيقة وتشويهاً للواقع بعد قول الرسول: (اسمه اسمي وكنيته كنيتي) فزادوا في ذلك واسم أبيه اسم أبي.

هذه الزيادة من التحريفات ولا يمكن الوفاق عليها سنداً ولامتناً، لا في كتب الخاصّة ولا في كتب العامّة.

ص: 17

وبيان ذلك أن هذه الزيادة في الحديث منقولة فقط في سنن أبي داود بسنده عن زائدة عن عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله، وأظن أن هذا السند فيه إشكال حتى من جهات العامّة، لأن (زائدة) كان يزيد في الحديث، على ما اعترف به نفس الجمهور وصرح به في كتاب كشف الغمة(1)، ثم إن المتن كذلك لا يمكن قبوله لأنه من المتفق عليه أن الإمام المهدي بن الحسن العسكري اسم أبيه الحسن لا عبد الله كاسم النبي، لذلك لا تقبل هذه الرواية لا سنداً ولا متناً.

ويؤيدنا في إثبات تحريف هذه الزيادة وعدم صحتها ما ذكره الكنجي الشافعي في كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان(2) جاء فيما نصه: الأحاديث الواردة عن النبي جميعها خالية من هذه الجملة (واسم أبيه اسم أبي) وقد ذكر الترمذي الحديث(3) ولم يذكر قوله: واسم أبيه اسم أبي، وفي معظم روايات الحفاظ والثقات من نقلة الأخبار: (اسمه اسمي) فقط والقول الفصل في ذلك أن الإمام أحمد مع ضبطه وإتقانه روى الحديث في مسنده في عدّة مواضع: (اسمه اسمي)(4) فقط بدون هذه الزيادة.

ص: 18


1- كشف الغمة للأربلي ج3 ص 277.
2- البيان في أخبار صاحب الزمان: ص 483.
3- سنن الترمذي ج 3 ص 343.
4- مسند أحمد ج 1 ص 376 و377 و430و448.

إذاً هذه الزيادة غير صحيحة، والمتفق عليه في الأحاديث المهدي اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وكنيته كنية الرسول (أبو القاسم) يملأ الله الأرض به قسطاً وعدلاً.

وبالإضافة إلى ذلك أنه من أولاد أمير المؤمنين عليه السلام ، ومن أولاد الصديقة الطاهرة، كونه من أبناء الحسن العسكري في هذه السلسلة الشريفة.

ومن الأمور التي وردت في الأحاديث المتفق عليها بين الفريقين التي تشهد لنا في هذا النسب الشريف من كتب الخاصة: روايات إكمال الدين للصدوق(1)، وكفاية الأثر(2) ومن كتب العامة: الصواعق المحرقة(3)، وتذكرة الخواص(4)، والمستدرك على الصحيحين للحافظ النيشابوري(5)، والبيان للكنجي الشافعي(6)، وينابيع المودة للقندوزي(7).

كما أحصاه بمتون هذه الروايات والعناوين الكاملة في منتخب الأثر(8)، لذلك هذا النسب لهذه الشخصية بهذه الكيفية من النسب، متفق عليه في أحاديث الفريقين بلا إشكال.

ص: 19


1- كمال الدين للصدوق، ج1: 287، ح7 و ج2: 334، باب 33، ح4.
2- كفاية الأثر للخزاز القمي ص 67 ، 83 ، 154.
3- الصواعق المحرقة لابن حجر: 236.
4- تذكرة الخواص لابن الجوزي: 143.
5- المستدرك للحاكم، ج 4: ص 441، 464، 557.
6- البيان للكنجي الشافعي: 99، 483.
7- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: 424، باب 94 و134، باب 145.
8- منتخب الأثر للشيخ الصافي الگلپايگاني، ج2: 142، 46، 202.

الأدلَّة:

الغرض أن الاعتقاد بهذه الشخصية حقيقة ثابتة راسخة لا تقبل التشكيك أبداً، وهي من العقائد الإسلامية الصحيحة الصريحة المأخوذة من كلام أهل بيت الوحي، وهو لا شك فيه ولا إشكال.

ودليلنا على ذلك من الكتاب الكريم والسنة المتواترة والكتب المقدسة.

القرآن الكريم:

أما من الكتاب _ أي القرآن الكريم _ فقد أحصيت الآيات التي فسّرت بالإمام المهدي أرواحنا فداه فبلغت 130 آية، وذلك في كتاب المحجة للسيد البحراني أعلا الله مقامه. وأكثر تلك الآيات تفسيرها بأهل البيت والإمام المهدي متفق عليه بين الفريقين، نختار منها استدلالاً وتبركاً ثلاث آيات فقط:

الآية الأولى: قوله تعالى في سورة القصص الآية 5 (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).(1)

فظهور الآية بنفسها يكفي في التفسير بأهل البيت والإمام المهدي. وتفسير الفريقين يكفي.

ص: 20


1- القصص (28): 5.

أما قوله تعالى: (نُرِيدُ) فإرادة الله لا تتخلف عن المراد، إذ لو قال لشيء: كن كان ذلك الشيء ولا يمكن فيه التخلف.

(نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ) منّة على المستضعفين. والمنّة تكون في النعم العظمى، فالنعمة إن كانت عظيمة يعبّر الله عنها بالمن (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(1) الله لا يمن، لكن هذه المنة بمعنى النعمة العظيمة (نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ) من هم المستضعفون؟ الفرد الأكمل والمصداق الأتم للمستضعفين هم أهل البيت أرواحنا فداهم، لأنهم كانوا مظلومين منذ قبض رسول الله (لم أزل مظلوماً منذ قبض رسول الله)(2) هذا كلام أمير المؤمنين أرواحنا فداه.

المظلومية لأهل البيت أرواحنا فداهم بعد الرسول جعلتهم من المستضعفين، استضعفهم الناس استضعفهم الأعداء، قتلوهم، شرّدوهم، سجنوهم، حتى منعوهم عن شرب الماء، حتى أهدوا رؤوسهم إلى الأشقياء.

فأتم أفراد المستضعفين هم أهل البيت أرواحنا فداهم. وربما اطلعتم على رواية المنهال عن الإمام السجاد عليه السلام أنه سأله: كيف أصبحت يا بن رسول الله؟ قال: (ويحك يا منهال أصبحنا كما أصبح بنو إسرائيل في آل فرعون يذبّحون رجالنا ويستحيون نساءنا).(3)

ص: 21


1- آل عمران ، الآية 164.
2- الاقتصاد للشيخ الطوسي: 210، وكتاب سليم بن قيس ص 215، وص 404، والاعتقادات في دين الإمامية للصدوق ص 80.
3- البحار ج 45: 143، تفسير القمي ج 2: 135، تفسير فرات الكوفي: 149.

لذلك فالمظلومية والاستضعاف بالنسبة لأهل البيت مسلّم، لأنهم الفرد الأكمل للمستضعفين في العالم.

(نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(1) نجعلهم أئمة الأرض، قادة الأرض، سادة الأرض، ونجعلهم الوارثين للأرض، ومن المعلوم أن الوارث من يصل إليه عن المورّث شيء ينتقل إليه بعد ذهابه وبقاء الوارث.

ففي أي زمان تطبقت هذه الإرادة الإلهية منذ نزول الآية إلى يومنا هذا؟ إن تطبيق هذه الإرادة التي لا تتخلّف قطعاً بيّنها الصادق المصدّق الله تبارك وتعالى.

لذلك لابدّ أن يكون هناك وراثة مستضعفين لجميع الكرة الأرضية، وهذا لم يتفق أن حصل.

فمعناه: أن المستضعفين هم أهل البيت، ويلزم أن يكونوا الوارثين للأرض بلا شك ولا إشكال.

هذا بحسب ظاهر الآية، بل التفاسير المتفق عليها بين الخاصة والعامة تبين هذا التفسير، أي التفسير بأهل البيت والإمام المهدي أرواحنا فداه.

أمّا من الخاصة فعلى سبيل المثال _ والاّ فالروايات كثيرة _ في كتاب الغيبة للشيخ الطوسي بسنده المعتبر إلى أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ

ص: 22


1- القصص (28): 5.

الْوارِثِينَ) قال عليه السلام: هم آل محمد صلى الله عليه وآله يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزهم ويذل عدوهم، ثم يقول شيخ الطائفة رحمة الله عليه: والأخبار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.(1)

وكذلك في الحديث الخاص المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنه قال روحي فداه: (لتعطفنّ الدنيا) والعطف: الحنان، (لتعطفنّ الدنيا علينا أهل البيت بعد شماسها)(2) يعني بعد استعصائها (عطف الفروس على ولدها)، أي كما تحسن الفروس يعني الناقة السيئة الخلق التي تعظّ صاحبها في سبيل حفظ لبنها لولدها إشفاقاً عليه، هكذا محبة إشفاق، هكذا حنان وجداني سيكون للدنيا علينا أهل البيت، وتلا عليه السلام عقيب ذلك: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) يعني هذه الآية تفيد إشفاق الدنيا علينا أهل البيت وإرادة امتلاك هذه الأرض.

وأما من أحاديث العامة، فمثل حديث الشيباني في كشف البيان الذي رواه عنه في تفسير البرهان المجلد الثاني من الطبعة القديمة صفحة 787 قال الشيباني في كشف البيان: (روي في أخبارنا _ العامّة _ عن أبي جعفر وأبي عبد الله أن هذه الآية مخصوصة بصاحب الأمر ويبيد الجبابرة والفراعنة ويملك الأرض شرقاً وغرباً فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً) تصريح هذا الشخص وهو من علمائهم، بل هناك كلام لطيف لابن ابي الحديد المعتزلي

ص: 23


1- الغيبة للشيخ الطوسي: 184، الحديث 143.
2- نهج البلاغة ج 4: 47، تفسير الصافي للفيض الكاشاني ج 4: 80.

في شرح نهج البلاغة المجلد 19 من الطبعة المصرية صفحة 29 هذا ما نصّه ابن أبي الحديد: أصحابنا يقولون: (إنه وعد بإمام يملك الأرض ويتولى على الممالك)، ينسبه إلى الأصحاب، كأنه متفق عليه بين العامة والخاصة أن هذه الآية في أهل البيت في الإمام المهدي أرواحنا فداه، لذلك هذه الآية التي تبين إرادة الله في أن يملك الأرض أهل البييت بشارة بالإمام المهدي، وهذه البشارة لابدّ أن تتحقق بعد شهادة الإمام الحسن العسكري، ولم يحقق هذا الوعد غير الإمام المهدي عليه السلام.

ولا يمكن أن نلتزم بأنه في آخر العهد يولد الإمام المهدي بدون أم، فلا يلتزم بهذا أحد، ولابد أن يكون من نسل الحسن العسكري للروايات المتقدمة.

فإذاً يلزم أن يكون المخصوص بهذه الآية الإمام المهدي عليه السلام من جهة بشارة الله ووعد الله وإرادة الله التي لا تتخلف.

الآية الثانية: قوله تعالى في سورة النور الآية 55: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

وعد إلهي. ووعده بمنزلة القسم، باتفاق المفسرين، لذلك جاء في الآية _ ليستخلف _ لام جوابية ثم تلاها تأكيد بالنون وبلام القسم، (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، من الأنبياء (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ)، تمكين الدين أي يعبدون الله بكل إمكانية، (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى

ص: 24

لَهُمْ)، الإسلام (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي)، يعبدون الله بلا خوف وبلا تقية وبكل تجاهر بالحق، (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).

كذلك هذه الآية الشريفة بحسب المعنى الظاهري تعني أهل البيت أرواحنا فداهم، لأنه لم يتحقق من حين نزول الآية إلى هذا اليوم _ 1400 سنة _ معنى كامل لهذه الفقرات الثلاث:

أولاً: يستخلفنهم في الأرض، أي تصل إليهم جميع الكرة الأرضية.

ثانياً: يمكننّ لهم دينهم، أي يعبدون بلا خوف ولا تقية.

ثالثاً: تبديل الخوف بالأمن.

فإن هذا لم يتحقق إلى ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه، وهذا التفسير كذلك متفق عليه بين الخاصة والعامّة في الروايات المتواترة.

أما من الخاصة على سبيل المثال، فحديث الآيات الباهرة ينقلها في تفسير كنز الدقائق: رواية صحيحة عن عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) _ إلى آخر الآية _ عنى به ظهور المهدي عليه السلام بذلك الاسم الخاص الذي ينبغي له القيام.(1)

وكذلك في حديث جوامع الجامع عن المقداد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا حجر إلا أدخله الله

ص: 25


1- تفسير كنز الدقائق: 9/ 337.

كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل، إما أن يعزّهم فيجعلهم من أهلها، وإما أن يذلهم فيدينون لهم).(1)

وكذلك نفس هذه الروايات _ تفسيراً لهذه الآية بأهل البيت _ موجودة في ثلاث روايات من الحاكم الحسكاني من العامة في شواهد التن-زيل.(2)

إذاً تفسير الآية بأهل البيت والإمام المهدي متفق عليه بين الفريقين.

الآية الثالثة: وهي التي تكررت في ثلاثة مواضع وبلفظ واحد تقريباً تأكيداً على هذا المعنى.

أولاً: في سورة التوبة الآية: 33: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

ثانياً: بنفس اللفظ في سورة الصف الآية: 9.

ثالثاً: وبتغيير طفيف في سورة الفتح الآية: 28: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً).

تبين الآيات الشريفة الهدف من بعث الرسول صلى الله عليه وآله، ومعنى يظهره: يغلبه على الدين كله. أي:وعلى جميع الأديان ولو كان برغم أنف المشركين.

بمعنى أنه لايبقى على وجه الأرض دين إلا دين الإسلام، فيكون الإسلام غالباً على جميع الأديان.

ص: 26


1- جوامع الجامع: 312.
2- شواهد التنزيل: 1/ 537.

وهذا لم يتحقق إلا في زمان حكومة أهل البيت عليهم السلام بعد ظهور المهدي أرواحنا فداه.

وهذا المعنى كذلك متفق عليه بين الخاصة والعامة.

أما من الخاصة ففي حديث الكنز المجلد 5 ص 445 عن أبي بصير: قال أبو عبد الله عليه السلام في هذه الآية: والله _ الصادق يقسم _: (والله مانزل تأويلها بعده ولا ينزل تأويلها حتى يخرج المهدي، فإذا خرج لم يبق كافر بالله العظيم ولا مشرك بالإمام إلا وكره خروجه).(1) ولا يتحقق إلا بظهور المهدي أرواحنا فداه كما تصرح به الأحاديث.

وكذلك في تفاسير العامة عن مجاهد عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا صاحب ملة إلا صار إلى الإسلام، ويكون عند قيام المهدي عليه السلام.(2)

وصرحت بذلك رواياتهم في ينابيع المودة للقندوزي في تفسير هذه الآية بطريق مجاهد وابن عباس عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.(3)

فمن حيث القرآن الكريم وتصريح الآيات الشريفة _ ظهوراً وتفسيراً _ من المسلمات في أنها تفسر بالإمام المهدي وأهل البيت أرواحنا فداهم،

ص: 27


1- البحار للمجلسي ج 52 : 324.
2- راجع نحو هذا شرح الأخبار للقاضي المغربي ج 3: 394، وتفسير القرطبي ج 8: 121، وج 18: 68.
3- ينابيع المودّة: 3/ 240.

فكيف يمكن إنكار وجوده؟ وكيف تكون هذه الشخصية أسطورة والعياذ بالله؟ أتكون الأساطير من القرآن الكريم؟! هل هذا ممكن!!

الكتب السماوية:

ثم قبل القرآن الكريم بشرت الكتب المقدسة بذلك من خلال (36) نصاً فسر بأهل البيت والإمام المهدي، وفي إلزام الناصب(1) نصان من هذه النصوص أذكرهما لكم.

أولاً: في التوراة سفر التكوين الفصل السابع عشر الآية 20 ما ترجمته بالعربية:

خطاب الله تعالى لسيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله السلام: (يا إبراهيم إنا قد سمعنا دعاءك وتضرعك في إسماعيل).. كأنه كان يدعو أن يرزقه الله ولداً (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ)(2) دعوته بأن يرزقه الله ولداً.

وتبين هذه النصوص تلك الدعوة، قد سمعنا دعاءك وتضرعك في إسماعيل فباركت لك فيه _ يعني في إسماعيل _ وسأرفع له مكاناً رفيعاً ومقاماً علياً .. كأن رفعة المقام بأولاده الطاهرين وهم أهل البيت، فأظهر منه اثني عشر

ص: 28


1- إلزام الناصب: 1/ 115.
2- سورة الصافات ، الآية 100 - 101. وتفسير ابن كثير ج 4: 218 ، وفتح القدير للشوكاني ج 5: 221.

نقيباً، ويقيناً النقباء الأثنا عشر مفسرون بأهل البيت، لماذا؟ لأن النقباء من بني إسرائيل من أولاد إسحاق وليس من أولاد إسماعيل، فيلزم أن يكون النقباء في هذا التصريح هم أهل البيت عليهم السلام الإثنا عشر نقيباً أولهم علي عليه السلام وآخرهم المهدي عجل الله فرجه وستكون له أمة عظيمة، وهذه بشارة صريحة بالإمام المهدي عليه السلام فكيف ينكر؟!

ثانياً: وكذلك في الزبور الذي تشير إليه الآية الكريمة: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ... ).(1)

الزبور هو السفر الواحد والسبعون، بعد دعاء داوود للإمام المنتظر عليه السلام جاء ما ترجمته بالعربية بهذا البيان: وسيظهر في دولته _ يعني دولة المنتظر _ حجة بينة واضحة على جميع أهل العالم ويزيد العدل والقسط إلى أن يزول القمر _ يعني يوم القيامة _ ويحكم من البحر إلى البحر جميع البحار، ومن الوادي إلى جميع ما على وجه البسيطة جميع الكرة الأرضية، وتنعطف له العالم _ أي الناس تنعطف للإمام المهدي عليه السلام _ ويبين أهلها المحنّة والمحبّة إلى الإمام المهدي عجل الله فرجه وتنعطف له الأرض..

إذن الكتب المقدسة قبل القرآن بشرت بالإمام المهدي، فكيف يمكن إنكاره؟

ثم إن الأحاديث التي وردت في كتبهم وفي كتبنا بنحو التواتر والتصريح بالتواتر، هذه الروايات كيف يمكن إنكارها؟!

ص: 29


1- سورة الانبياء ، الآية 105.

السنة الشريفة:

الأحاديث التي تربو على المئات، لا مائة ومائتين، بمضامين عديدة أحصيت في فهرست إحقاق الحق وفي غاية المرام للسيد البحراني (رحمه الله) تلك الروايات تصرح بالإمام المهدي وتنص على الإمام المهدي أنه ابن الحسن والعسكري.

هذه الروايات موجودة في كتبنا وكتب العامة.

أما في كتبنا من طريق الخاصة، فهي موجودة حتى في الكتب التي تقدمت على ولادة الإمام المهدي عجل الله فرجه مثل كتاب سليم بن قيس الهلالي(1)، من أصحاب أمير المؤمنين أرواحنا فداه.

قصدي من هذا التقسيم هو أن هذه المسألة (العقيدة المهدوية) من الأمور الثابتة في الكتب المعتبرة والصحاح من العامة والخاصة ولا يمكن إنكارها.

والروايات توجد في: كتاب سليم بن قيس الهلالي من الخاصة ، كتاب الحسن بن محبوب، كتاب المهدي لعيسى بن مهران، الغيبة لعبد الله بن جعفر الحميري، الغيبة لمحمد بن القاسم البغدادي، أخبار المهدي للعلامة الرازي، خروج المهدي لعلي بن الحسن الصفار، أخبار المهدي لأحمد بن

ص: 30


1- من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام والإمامين الحسنين والإمام السجاد والإمام الباقر عليهم السلام ( 2ق ه- - 76 ه- ) وكتابه أول مصنف عقائدي حديثي وصل إلينا من القرن الأول.

محمد الجرجاني، ذكر القائم لأحمد بن رميح المروزي، كمال الدين للصدوق، الغيبة لابن الجندي، الغيبة للشيخ المفيد، الغيبة للسيد المرتضى، الغيبة للشيخ الطوسي، التاج الشرفي للسعد آبادي تلميذ السيد المرتضى، وكذلك أخبار صاحب الزمان لعبد الله بن عياش في كتبنا الخاصّة.

وفي كتب العامة: صحاحهم وغير صحاحهم حتى أنهم صرّحوا بتواترها، والمصرح بتواتر أخبار المهدي موجود في كتاب نور الأبصار للشبلنجي، والصواعق لابن حجر، والبيان للكنجي الشافعي، وإسعاف الراغبين للصبان، وفتح الباري للحافظ، والفتوحات الإسلامية لزيني دحلان، والتوضيح للشوكاني، والإذاعة لأبي الطيب، وغاية المأمول للناصر، صرحوا بتواتر أخبار المهدي.

وأما الذين ضبطوا أخبار الإمام المهدي في كتبهم فالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود في سننه، والنسائي في سننه، وفرائد السمطين وكنز العمال وينابيع المودة وسنن البيهقي، وتفسير الفخر الرازي وتفسير الثعلبي، والدر المنثور للسيوطي، ومصابيح السنن للبغوي، ومستدرك الحاكم وحلية الأولياء وأسد الغابة والاستيعاب وتهذيب الآثار والأخبار والفصول المهمّة، والمناقب لابن المغازلي، ضبطوها وتواتروا فيها وحفظها حفاظهم.

ص: 31

وهذه الكتب ذكرت تلك الروايات فهي موجودة بنصوصها، وضبطها كتاب الإمامة والمهدوية المجلّد الثالث القسم الأول صفحة 34 إلى صفحة 140.

لذلك من جهة الأخبار الشريفة ومن جهة السنة المباركة لا شك ولا ريب فيها أنها متفقة على الإمام المهدي.

وبعنوان التبرك نذكر حديثين أو ثلاثة أحاديث من أخبارنا الشريفة تنويراً للمجلس وتبركاً بالإمام أرواحنا فداه.

من ذلك حديث إكمال الدين للشيخ الصدوق أعلى الله مقامه، يرويه بسند معتبر عن عاصم عن الإمام الجواد عليه السلام في إكمال الدين عن الإمام الجواد عليه السلام عن آبائه حديث سلسلة الذهب عن الإمام الحسين عليه السلام قال رسول الله: (إن الله عزوجل ركب في صلب الحسن العسكري نطفة مباركة زكية طاهرة مطهرة يرضى بها كل مؤمن ممن أخذ الله عز وجل ميثاقه في الولاية ويكفر بها كل جاحد، فهو إمام تقي نقي بار مرضي هادي مهدي، أول العدل وآخره يصدّق الله عز وجل ويصدّقه الله في قوله، يخرج من تهامة حتى تظهر الدلائل والعلامات له...فقال له أبي: ما دلائله وعلاماته يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله: له علم إذا حان وقت خروجه انتشر ذلك العلم من نفسه وأنطقه الله تبارك وتعالى فناداه العلم: أخرج يا ولي الله فاقتل أعداء الله _ بنحو الإعجاز بنحو الإخبار الإلهي _...

ص: 32

ثم قال: يا اُبي طوبى لمن لقيه وطوبى لمن أحبه وطوبى لمن قال به _ بشارة لكم أيها المؤمنون، يبشركم الرسول الأكرم روحي فداه _ ينجيهم الله من الهلكة بالإقرار به وبرسول الله وبجميع الأئمة يفتح الله لهم الجنة مثلهم _ شيعة المهدي _ في الأرض كمثل المسك يسطع ريحه فلا يتغير أبداً، ومثلهم في السماء كمثل القمر المنير الذي لا يطفأ نوره أبداً).(1)

تصريح بالإمام، بإمامته، بظهوره، بغلبته، بدولته.

وكذلك نص عن أمير المؤمنين أرواحنا فداه بشر بالإمام المهدي في حديث إكمال الدين بإسناد الشيخ الصدوق إلى الحسين بن خالد عن الإمام الرضا عن آبائه الكرام عن أمير المؤمنين عليه السلام قال لولده الحسين روحي فداه: (التاسع من ذريتك يا حسين هو المهدي المظهر للدين الباسط للعدل) قال الحسين: فقلت له: يا أمير المؤمنين وإن ذلك لكائن؟ _ ما فيه بداء ما فيه تغير _ إن ذلك لكائن، فقال: (أي والذي بعث محمداً بالنبوة واصطفاه على جميع البرية، لكن بعد غيبة وحيرة لا يثبت فيها على دينه إلا المخلصون)(2)، تبشير صريح بالإمام المهدي ودولته الشريفة.

وكذلك جميع الأئمة أرواحنا فداهم والزهراء وأولادها الكرام يوجد لجميعهم تصريحات بالإمام عجل الله فرجه.

ص: 33


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 299 الحديث 11 من الباب 24.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 337 الحديث 16 من الباب 26.

وهذا من العجيب إذ لا أتصور أن لدينا في الفقه حكماً ينص عليه جميع المعصومين الأربعة عشر، ليس عندنا حكم شرعي هكذا إذ يكفي لو نص عليه أحدهم، أمّا حكم ينص عليه جميع المعصومين الأربعة عشر فهذا لم يوجد في الفقه. لكن مسألة الإمام المهدي جميع المعصومين نصوا عليه.

وللتبرك نذكر قول الإمام العسكري أرواحنا فداه في ولده الإمام المهدي، وهو موجود في إكمال الدين للشيخ الصدوق أعلى الله مقامه(1) بسند الصدوق عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، لا شك في جلالته ووثاقته ووكالته للإمام العسكري أرواحنا فداه، قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً: (يا أحمد بن إسحاق إن الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم عليه السلام ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجة لله على خلقه لابد أن يكون لي خلف به يدفع البلاء عن وجه الأرض وبه ينزل الغيث وبه تخرج بركات الأرض)، قلت له: يا ب-ن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك فنهض عليه السلام _ تصريح بياني عياني ليري الإمام المهدي له، هذه واحدة _ فنهض عليه السلام مسرعاً ودخل البيت ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال: (يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله عزوجل وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنه سميّ رسول الله وكنيّه، به يملأ الله الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يا أحمد

ص: 34


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 415 الحديث 1 من الباب 6.

بن إسحاق مثله في هذه الأمة مثل الخضر _ من جهة طول العمر _ ومثله مثل ذي القرنين _ من جهة الاستيلاء على الأرض _ والله ليغيبنّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلا من ثبتهم الله عزوجل على القول بإمامته ووفقه للدعاء بتعجيل فرجه)، فقال أحمد بن إسحاق: قلت له: يا مولاي فهل من علامة يطمئن إليها قلبي؟ _ يطلب علامة صريحة، علامة وجدانية _ فنطق الغلام بإذن الله بلسان عربي فصيح قال: (أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من أعدائه فلا تطلب أثراً بعد عين... أحمد بن إسحاق نفسه صرّح على نفسه نصّ على نفسه قال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً فلمّا كان من الغد قمت إليه فقلت: يا بن رسول الله لقد عظم سروري بما مننت علي، فما السنة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟ _ شبهتموه بالخضر وذي القرنين من أي جهة سيدي _ قال: (طول الغيبة يا أحمد) قلت: يابن رسول الله إن غيبته لتطول؟ قال: (أي وربي حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به _ والعياذ بالله _ ولا يبقى إلا من أخذ الله عهده بولايتنا أهل البيت وكتب في قلبه الإيمان وأيّده بروح القدس، يا أحمد بن إسحاق هذا أمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله وغيب من غيب الله فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين تكن مع الأبرار في عليين).

إذن التصريح بالإمام أرواحنا فداه من جميع المعصومين الأربعة عشر أرواحنا فداهم موجود، كذلك من جهة التفسير القرآني ومن جهة الحديث

ص: 35

المتواتر وإجماع الفريقين، وهذا الإجماع موجود في كتب الخاصة والعامة، فعجبٌ إنكاره.

أما من كتب الخاصّة فالشيعة الإمامية قطعي إجماعهم ومن مسلمات دينهم وضروريات مذهبهم، كما صرّح به في الإمامة والمهدوية.(1)

بل حتى في كتب العامة إجماعهم واتفاقهم موجود، ومسلميتهم لهذا الأمر موجودة، ففي شرح نهج البلاغة للمعتزلي جاء ما نصه: (قد وقع اتفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أن الدنيا والتكليف لا ينقضي إلا عليه _ على المهدي _).(2)

وتصريح أكثر من هذا في سبائك الذهب قال ما نصّه: (الذي اتفق عليه العلماء أن المهدي هو من يظهر في آخر الزمان وبه يملأ الله الأرض عدلاً والأحاديث فيه وفي ظهوره كثيرة).(3)

وقال ابن خلدون في مقدمته ما نصّه: (اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور الرجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويتولى على الممالك الإسلامية ويسمّى بالمهدي).(4)

ص: 36


1- الإمامة والمهدوية: 3 / 35.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 96، ط 1، دار إحياء الكتب العربية.
3- سبائك الذهب للسويدي: 78.
4- المقدمة لابن خلدون: 317.

وفي غاية المأمول للناصب قال: (اتضح مما سبق _ بعد أن بيّن الآيات والروايات _ أن المهدي المنتظر من هذه الأمة وعلى هذا أهل السنة سلفاً وخلفاً).(1)

البرهان إجماعي بلا شك ولا ترديد لذلك من جهة القرآن الكريم.

الدليل الأول في استدلالنا: بالقرآن الكريم والحديث المتواتر وكذلك بشارات الكتب المقدسة.. دليل قطعي على الإمام المهدي، وجوده ودولته، بلا شك ولا ريب.

الدليل الثاني:

الإخبارات المتظافرة بولادته عليه السلام وأنه ولد وشوهد أثناء ولادته وشوهد بعد ولادته، فكيف يمكن إنكاره؟

وإخبارات الشهادة بولادته كذلك موجودة بين العامة والخاصة متفق عليه بين الفريقين.

شهدوا بولادة الإمام المهدي في رواياتهم التي نقلها ثقة الإسلام الكليني في الكافي(2) وشيخ المحدثين الصدوق في كتابه كمال الدين(3) وشيخ الطائفة الطوسي في كتابه الغيبة.(4)

ص: 37


1- غاية المأمول: 5 / 365 نقلاً عن كتاب منتخب الأثر.
2- الكافي للكليني ج 1: 328.
3- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق ص 224.
4- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 137.

ومن العامة ممن رووا روايات ولادته: البيهقي وابن الصبان وابن خلكان والقندوزي والسفدي وياقوت الحموي بأسانيد عديدة كما أحصيت في المهدي الموعود المنتظر، المجلد الأول صفحة 108 متفق عليه بين الفريقين.

مشاهدته، ولادته، الشهادة بولادته مما لا يمكن إنكاره.

الرواية الشريفة عن السيدة حكيمة سلام الله عليها، وهي بنت إمام وأخت وعمّة إمام، والصادقة المصدقة، ومن أودع عندها بعضاً من مواريث الإمامة، صادقة في حديثها قطعاً. في حديث كمال الدين المعروف في هذا العصر نقل أخباراً كثيرة، لذا لا نكرر حديث حكيمة، وهو من الأحاديث الصحاح التي تصرح بولادة الإمام المهدي، إذ شاهدته من قبل ولادته إلى بعد ولادته، شاهدته إلى حين وفاتها سلام الله عليها.

وفي الأحاديث المتكررة ثمانية أحاديث في كمال الدين للشيخ الصدوق صفحة 424 فما بعد الباب 42 الحديث الأول وما بعده تصرح بكيفية ولادة الإمام الحجة أرواحنا فداه.

والتصريح بما حدث عند الولادة وبعد الولادة شهادة السيدة حكيمة أولاً، وهي قابلة السيدة نرجس أم الإمام المهدي أرواحنا فداه، وشهادة القابلة في النساء مقبولة قطعاً في فقه العامة والخاصة، لا يمكن إنكاره.

ورأيت في بعض الكتب لبعض المحرفين تساؤلاً مؤداه: كيف تثبت إمامة شخص بشهادة إمراة أو بقول امرأة بولادة ذلك الشخص؟ كأنه لا يعتني بقول السيدة حكيمة في هذه الرواية.

ص: 38

الظاهر أن هذا كلام غير صحيح أساساً:

أولاً: الآيات والروايات شهدت بما لا يمكن مخالفته بوجود الإمام المهدي.

ثانياً: شهادة إخبار والده عليه السلام ، وهي شهادة رجل، إخبار الأب، إخبار الولي بولادته لا يمكن إنكاره.

ثالثاً: شهادة السيدة حكيمة، ونسيم خادم الإمام العسكري، وجارية أم المهدي واسمها مارية.

وشهادة السيدة حكيمة ومقبوليتها من حيث أنها إمرأة وقابلة للسيدة نرجس متفق عليه في فقه الخاصة والعامة.

ودليلنا على ذلك في الجواهر للشيخ محمد حسن النجفي أعلى الله مقامه(1) يبين: تعتبر شهادة النساء منفردات في الولادة كما ثبت بقيام النص الصحيح الصريح. لم يكن فيه خلاف بين علماء الشيعة، رحم الله الماضين وحفظ الباقين. شيء غير مختلف فيه بتصريح صاحب الجواهر. شهادة النساء في مسألة الولادة مقبولة عندهم.

بل حتى في فقه العامة في جميع مذاهبهم شهادة النساء فيما تنحصر به أو لا يطلع عليه إلاّ النساء غالباً، خصوصاً وتخصيصاً في مسألة الولادة مقبول عندهم في جميع المذاهب. كيف يستنكر شهادة السيدة حكيمة؟

ص: 39


1- جواهر الكلام: 41 / 170.

في بداية المجتهد للقرطبي قال ما نصّه: (أما شهادة النساء منفردات _ أعني النساء دون الرجال _ فهي مقبولة عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالباً مثل الولادة). ينص ويصرح مثل الولادة (والاستهلال مجيء الطفل حيّاً وبكائه وعيوب النساء لا خلاف في شيء من هذا _ مسألة وفاقية _ بين الجمهور).(1)

إذن شهادة السيدة حكيمة بنفسها تكفي حتى لو انحصرت الأدلة بها، فكيف يمكن إنكارها؟

ثم إخبار الإمام العسكري أرواحنا فداه، شهادة الأب، إخبار الإمام المعصوم وهو أب وولي يقبل قوله في الولادة بلا شك ولا إشكال.

وقد أخبر بولادة الإمام المهدي أرواحنا فداه في روايات عديدة:

مثلاً في كمال الدين حديث أحمد بن إسحاق القمي رضوان الله عليه قال: لما ولد الخلف الصالح عليه السلام ورد عن مولانا أبي محمد الحسن بن علي العسكري إلى جدي أحمد بن إسحاق كتاب فيه مكتوب بخط يده عليه السلام الذي كانت ترد فيه التوقيعات، (ولد لنا _ كلام الإمام العسكري وإخباره _ مولود، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والولي لولايته، أحببنا إعلامك ليسرك الله مثل ما سرنا به والسلام).(2)

ص: 40


1- بداية المجتهد: 2 / 381.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 433 الحديث 16.

إخبار وتصريح الإمام بولادة الإمام المهدي وهو مقبول، بل نفس إرسال الإمام العقيقة إلى بني هاشم في سامراء، بنفسه يكفي في إخباره وإعلامه بولادة الإمام المهدي عليه السلام بيان ولادة الإمام المهدي بعنوان إرسال العقيق، والتصريح بأن هذه عقيقة ولدي محمد، عقيقة ولدي المهدي.

في روايات متعددة إخبار منه أرواحنا فداه كما توجد هذه التصريحات في إكمال الدين صفحة (432) الباب الرابع الأحاديث عشرة فما بعدها تصريح في بعثه العقيقة لولده الإمام المهدي.

إذن إخبار الإمام بعد تلك الآيات والروايات ثم شهادة السيدة حكيمة، إخبار وجداني عياني بولادته، فكيف يمكن إنكاره؟

لذلك قال الشيخ المفيد أعلى الله مقامه في كتابه الفصول العشرة صفحة (59) وهو يستدل بشهادة السيدة حكيمة وإخبار الإمام العسكري في إثبات ولادة الإمام المهدي: (الخبر بصحة ولد الحسن العسكري قد ثبت بأوكد ما تثبت به أنساب الجمهور من الناس)، الناس كيف تثبت أنسابهم بأحسنها وأوكدها ثبتت نسبة الإمام المهدي إلى العسكري، إذا كان النسب يثبت بقول القابلة مثلها من النساء التي جرت عادتهنّ بحضور ولادة النساء وتولّي معونتهنّ عليه فقد ثبت ذلك بشهادة السيدة حكيمة ومارية ونسيم وباعتراف صاحب الفراش وحده الإمام العسكري بذلك دون من سواه، وبشهادة رجلين من المسلمين على إقرار الاب بنسب الابن.

ص: 41

وقد ثبتت هذه بإخبار الجماعة من أهل الديانة والفضل والورع والزهد والعبادة والفقه عن الحسن العسكري أنه اعترف بولادته وأعلمهم بوجوده ونص على إمامته.

إذاً من جهة الشهادة بالولادة يتضح لنا دليل ثانٍ على وجود الإمام المهدي أرواحنا فداه.

الدليل الثالث:

على وجود الإمام المهدي أرواحنا فداه العيان الذي يغني عن البيان، أي من رأوا الإمام المهدي في جميع مراحله الحياتية. يعني في زمان أبيه الإمام العسكري أرواحنا فداه أوّلاً: فقد أخبر الثقاة العدول بذلك بالمشاهدة، ثم في زمان الغيبة الصغرى السبعين سنة تقريباً أخبار العدول، ثم في الغيبة الكبرى، كما أحصيت.

وسنقرأ إن شاء الله مقداراً من أسماء الذين شهدوا برؤية الإمام المهدي أرواحنا فداه في هذه المراحل الثلاث، فيثبت شهادة العيان بعد ذلك البرهان: الروايات، الآيات، الاخبار المتواترة القطعية في أن الإمام المهدي أرواحنا فداه وجد، وهو موجود إلى أن يظهره الله على الأرض فيظهره على جميع الأديان. واستمرار بقائه إلى زمان قيامه ثبت كذلك بالأدلة الروائية الشريفة المعتبرة، وفوق كل تلك الروايات، الرواية المعتبرة عن الرسول الأكرم

ص: 42

صلى الله عليه وآله المذكورة في غاية المرام للسيد البحراني من صفحة 312 إلى صفحة 400، يضاف إليها (163) حديثاً عن طريق العامة و27 حديثاً عن طريق الخاصّة:

ونص هذه الرواية: (الأئمة بعدي هم اثنا عشر أولهم علي وآخرهم المهدي، ولا يزالون ما زال هذا الدين قائماً)(1) يعني مادام دين الإسلام باقياً إلى يوم القيامة يلزم أن يكون أهل البيت موجودين... ولا يزالون ما زال هذا الدين باقياً، والدين باقٍ إلى يوم القيامة، فيلزم أن يكون المعصومون باقين إلى يوم القيامة.

ومن المعلوم وجداناً أن الإمام العسكري استشهد _ روحي فداه _ وشيع في آلاف ودفن في ضريح مقدس وهذا معلوم. فمن بعد الإمام العسكري يكون إماماً؟ ليس هناك غير الإمام المهدي، لذا وجوده أرواحنا فداه ثبت وبقاؤه ثابت كذلك. ولا يعقل التخلف في قول الرسول صلى الله عليه وآله وهو المعصوم الذي لا يكذب أبداً، صدق من صادق مصدّق.

لذلك يثبت وجود الإمام أرواحنا فداه وبقاؤه إلى أن يملأ الله الأرض به قسطاً وعدلاً.

بهذه الادلة التي نكملها ليلة غدٍ إن شاء الله نختم الحديث.

ص: 43


1- راجع: الاعتقادات للصدوق ص 79، والصراط المستقيم للنباطي ج 2 ص 124، وغاية المرام للبحراني في عدة مواضع من اجزائه..... وعدة مصادر من طريق العامة والخاصة.

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن المهدي أرواحنا فداه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.

اللهم وعجل فرجه الشريف، واجعلنا من أنصاره وأصحابه وأعوانه ومخلصيه وتابعيه والممتثلين لأوامره، وهب لنا رحمته ورأفته ودعاءه وخيره وإحسانه ببركة الصلاة على محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله.

ص: 44

الأسئلة والأجوبة:

س1/ أود أن تبينوا ما هي الآثار السلبية على أرض الواقع في إنكار ولادة المهدي؟ يعني عملاً، ماذا يخسر وماذا يفقد من ينكر ولادة الإمام المهدي؟

ج/ بسم الله الرحمن الرحيم

السلام على أحب خلقه محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم قاطبة إلى يوم الدين. آمين رب العالمين.

بالنسبة إلى خسارة إنكار الإمام المهدي أرواحنا فداه، إضافة إلى أنه أمر يخالف الوجدان سحق للوجدان لأن شخصاً بيمينه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء، فإذا أنكره معناه أنه جحد حقه. هذا خلاف الوجدان ثم إن الأثر السلبي أنه يكون إنكاراً لما ثبت من الدين بالضرورة. فمسألة الإمامة من الضروريات ومن الأمور التي ثبتت في الدين الإسلامي المقدس.

فإنكاره يكون إنكاراً لما ثبت من أمور الدين، وإذا كان إنكاراً لما ثبت من أمور الدين، يكون موجباً للفسق والعياذ بالله، لذا الحد الأقل من إنكار الإمام أرواحنا فداه، وإنكار إمامته أنه يوجب الفسق لأنه أنكر ما ثبت من الدين.

ويخالف الوجدان، لانه أنكر النعمة المستبينة الظاهرة. وخصوصاً مع وجود الدلائل التي سنذكرها إن شاء الله في الفصول المقبلة التي تثبت بأن

ص: 45

وجود الإمام المهدي أرواحنا فداه وآثاره الحياتية وآثاره الإيجابية والكونية موجودة في هذا العالم، لذا يكون إنكاره كأنكار الشمس فيخالف الوجدان.

لذلك من السلبيات التي يؤدّي إليها إنكار المهدي أنه يوجب مخالفة الوجدان ومخالفة الأدلة، ثم الحرمان من دعاء الإمام المهدي عليه السلام ، لأن الإمام المهدي يدعو _ كما سيأتي في الحديث إن شاء الله _ لمن كان مؤمناً به، يدعو لمن كان داعياً له، يدعو لمن كان معتقداً به. في النصوص الصريحة التي من جملتها توقيع الشيخ المفيد(1) وسيأتي ذكره إن شاء الله.

فعلى هذا، الإنكار يؤثّر هذه السلبيات في عالم الوجود ونعوذ بالله من ذلك.

اللهم اجعلنا من الذين يقرون بولايته ويعترفون بإمامته.

س2/ أنا من السنة وسؤالي من سماحة السيد هو: هل تعتقدون أن هناك اتصالاً بين المهدي ومراجع الشيعة، أو اتصالاً بأي أحد آخر؟

ج/ من المحسوس بالمشاهدة من ألطاف الإمام عجل الله فرجه على علماء الشيعة وبخاصة القدامى منهم سواء أكان ذلك على مستوى السفارة أو الوكالة. فإنه من الأمور الثابتة، وسيأتي ذكره عند ذكر سفراء الإمام عجل الله فرجه. أما بالنسبة إلى سائر العلماء بعد الغيبة الصغرى فسنذكر الاتصالات الشريفة القطعية التي حدثت وتحققت واتفقت عليها الخاصة والعامة، وسجلت في كتب الفريقين واعترف بها أمثال ابن الجوزي في كتاب

ص: 46


1- راجع الاحتجاج، ج2: 318، وقصص العلماء ص 398.

المنتظم، كذلك اتصاله عجل الله فرجه وألطافه على علماء الشيعة من المتأخرين وعلى المؤمنين وجميع الشيعة وشمولهم بدعائه لهم، وهو ما سنبينه في الفصل الرابع من بحثنا بإذن الله تعالى.

س3/ الشيخ يوسف القرضاوي وهو من أهل السنة في إحدى المرات قال: المهدي عندنا غير المهدي عند الشيعة، فهل هناك رد عليه؟

ج/ إن ما بدأنا به البحث من قول الرسول الأكرم أرواحنا فداه: (المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي)، ثم تصريح الروايات الأخرى بأنه ابن الحسن العسكري ومن أبناء أمير المؤمنين والصديقة الطاهرة ابنة رسول الله ممّا اتفق عليه الفريقان _ كما ذكرنا _ مثلاً في كتاب الحاكم الحسكاني، ينابيع المودّة للقندوزي، تذكرة الخواص لابن الجوزي. والظاهر أن المهدي عند الشيعة والسنة شخص واحد، وليست عندنا مهدوية نوعية ولا مهدي غير الإمام الحجة بن الحسن أرواحنا فداه، الظاهر أن هذه مغالطة وليست في شيء من الصحة.

س4/ هل يمكن أن نعتبر استمرار مذهب أهل البيت عليهم السلام رغم ما واجهه من ظلم وجور من قبل النواصب، دليلاً على وجود الإمام المهدي عجل الله فرجه حيث يكون هو الحافظ للمذهب؟

ج/ نعم كما في توقيع الشيخ المفيد: (ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء..)(1) أي المصائب العظيمة، أي لكان الأعداء

ص: 47


1- الاحتجاج ج2: 322.

يبيدونكم لولا ذلك الدعاء الخاص من الإمام عجل الله فرجه، فلا بأس بالاستدلال على وجود الإمام ببقاء المذهب سليماً معافى.

س5/ هناك حديث يقول: (هلك المستعجلون وخسر المبطلون وفاز المسلمون) هل معناه أن علينا أن لا نستعجل بتأويل العلامات وتطبيق الأحاديث على بعض المشاهدات؟

ج/ الحديث على ما في ذهني: (هلك المستعجلون وخسر المثقلون)(1) هذا المقدار موجود في دعاء الغيبة وهو من الأدعية المعروفة. وقد ورد ذم الاستعجال المخالف للصبر وانتظار الفرج اللذين أمرنا بهما. فلا يصح القول: لماذا لم يظهر ويخرج الإمام عجل الله فرجه؟، فهذا اعتراض على أمر الله تبارك وتعالى. والاستعجال المذموم هو الاستعجال الذي يكون منافياً لإرادة الله وموجباً للسقوط في بعض الهلكات، أو في بعض الأخطاء، أو في بعض الاشتباهات عند اختلاق العلامات غير الصحيحة وهذا مذموم، لكن العلامات التي تفسر بمعنى انتظار الفرج والأمل بظهوره القريب فهذا لا بأس به.

هلك المستعجلون، لا الذين ينتظرون ويكون عندهم انتظار الفرج كلما كان أقرب فهو أفضل، لا هذا المعنى، وإنما المعنى يستعجلون فيخالفون إرادة

ص: 48


1- الامامة والتبصرة لابن بابويه ص 39، وفيه: (هلك المستعجلون ونجا المسلمون...) وراجع الكافي ج 3: 130 ح 4 هامش 2 في بيان قوله عليه السلام (هلكت المحاضير).

الله، يعترضون على الله والعياذ بالله. أو تحدث لهم بعض العلامات غير الثابتة في الكتاب والسنة.

ليس معنى الاستعجال انتظار الفرج مثلاً أو انتظار بعض العلائم التي يأمل المؤمن أن تحدث عاجلاً ليفوز بالظهور مثلاً، وإنما الاستعجال الذي ذكرناه أولاً مذموم قطعاً والثاني بعكسه.

س6/ هل كان تحريف الروايات لخدمة الحكومات الغاصبة والظالمة في زمان المحرفين؟، أم أن هذا التحريف هو من تدبير أعداء الإمام عجل الله فرجه؟

ج/ قد تكون هناك تحريفات متعمدة وضعت لدواع اقتضاها زمن التحريف. كالزيادة التي وردت في رواية أبي داود (واسم أبيه اسم أبي)(1) فقد احتمل بعض العلماء أن تكون هذه الزيادة من أجل أن يثبتوا الإمامة لمحمد بن عبد الله بن الحسن ذي النفس الزكية، فقالوا بأن اسم أبيه اسم أبي، حتى يكون المهدي هو محمد بن عبد الله بن الحسن في ذلك الزمان.

وقد تكون بعض التحريفات مثل هذه الرواية لأجل حكومات ذلك الوقت، لكن بعض التحريفات التي حدثت ليس لها مدلول غير العداء والعناد. وإلا فالحق موجود ومشهور كالشمس في رابعة النهار لا يمكن إنكاره، لذلك كان أغلبه من باب العناد. وقد يكون هناك تجاهل أو جهل إلا أن الذي نشاهده أغلبه عناد والعياذ بالله. أعرض بخدمتكم لو كان

ص: 49


1- سنن أبي داوود ج2 : 309.

المهدي من أبناء بني أمية لما كانوا يعترضون عليه، أما كونه من أبناء علي وفاطمة فيعترض عليه، وقد اتضح أن الاعتراضات بعد هذا البيان والوضوح أغلبها من جهة العناد وقد يكون بعضها من جهة خدمة بعض الحكومات الغاصبة.

س7/ إن ما نواجهه في الأنترنت من إشكال عند إيصال مفاهيم التشيع للآخرين هو: ولادة المهدي المنتظر، وطول العمر، وسبب الغيبة حيث نحتاج إلى تحليل مبني على أسس علمية لهذه التساؤلات. فهل من بيان لذلك؟

ج/ سنبين فيما يأتي مسألة طول العمر للإمام المهدي أرواحنا فداه وسبب الغيبة، حكم الغيبة على ما يوافق الوجدان وتوافقه العقول. بالإضافة إلى الروايات الشريفة، وكذلك طول العمر نبينه إن شاء الله على ضوء القرآن الكريم والروايات الشريفة، ثم على صعيد الوجدان، ثم الأسس العلمية كذلك. حتى سننقل _ بعون الله _ بعض النصوص الطبية التي تبرهن على إمكان طول العمر، بل وجوده إن شاء الله.

س8/ بعد السلام: هل بإمكانكم تسليط الضوء على الأدلة الوجدانية التي يتحرك بسببها وجدان الإنسان ليعتقد في الإمام المهدي المنتظر أرواحنا فداه؟

ج/ لا شك أن الوجدان مما يتبع العقل. والعقل سيدرك بعد ملاحظة الأدلة الشريفة حقيقة هذه العقيدة ووجدانية هذه العقيدة. والعقل حينما

ص: 50

أدرك ثبت الوجدان، لأنه يصدق دائماً الأمور الوجدانية والبديهيات العقلية لذلك بعد ثبوت الإمام المهدي عقلاً يكون هذا الأمر ثابتاً في الوجدان أيضاً، كما سنبين بعون الله وقوته ما يكون من الأدلة العقلية على الإمام المهدي وما يثبت حوله من البحوث.

س9/ هل علامات الظهور حتمية الحدوث أم أن منها مشروطاً شرطاً ولا يحدث، وهل يجب أن تسوء الأوضاع أكثر لكي تتحقق العلامات؟

ج/ هذا ما نبينه إن شاء الله في البحث الأخير قبل ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه عند ذكر علامات الظهور. وقد قسمنا العلامات إلى أقسام ثلاثة، بعض العلامات هي علامات الغيبة لا الظهور، بعض العلامات القريبة من الظهور، والبعض الثالث العلامات التي تقارن الظهور في سنته أو ما يقارب سنته، في تلك العلامات من القسم الثالث، التي هي الحرية بأن تسمّى علامات الظهور، وهي فيها قسمان: قسم: علامات حتمية وهي خمسة، وقسم علامات غير حتمية وهي سبعة وسنبينها إن شاء الله تعالى إذا وصل البحث إليها.

س10/ هل كانت غيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه من الناحية المادية الجسمية؟

ج/ سنذكر بعون الله تلميحاً نبين فيه غيبة الإمام المهدي ومعنى الغيبة من جهة الروايات الشريفة، بل من جهة نصوصها العربية.

ص: 51

الغيبة بمعنى الخفاء: عدم الرؤية لا عدم الحضور وعدم الجسمية، لا أن جسمه _ روحي فداه _ غير حاضر بيننا، وإنما غائب بمعنى أنه خفي عن عيوننا. وسنذكر روايات معتبرة تدل على أنه في كل سنة يحضر الموسم يرى الناس ولا يرونه ويحضر يوم عرفات(1)، وإنه ليطأ فرشكم ولكن لا ترونه، يأتي في المجلس، يُرى جسمه، يكون حاضراً لكن غيبته غيبة خفاء عنا لا غيبة لجسمه، وسنبين ذلك إن شاء الله في كلامنا في الغيبة بعون الله تعالى.

نسأل الله التوفيق للجميع وأن يجعلنا من أعوان وأنصار الإمام الحجة، وأنتم من أعوانه. أسأل الله لكم البقاء على ذلك ببركة الصلاة على محمد وآل محمد.

س11/ هل يمكننا تقسيم جنود الإمام الحجة إلى ثلاثة أقسام: الأول: مباشر من نوع الملائكة وخواص الأنس والجن. الثاني: نوع يتلقى الأمر منه بشكل غير مباشر. الثالث: يتصل به عجل الله فرجه بشكل معنوي؟

ج/ بعون الله تعالى سنبين في الفصل الخامس ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه وقيامه، وقدرة جنده وقوته السماوية والأرضية.

لقد قسمنا القوى إلى عشرة أقسام: منها ما هو سماوي ومنها ما هو أرضي وجميعها في يد الإمام قدرة غالبة، وجامعها أنها تكون قوة ربانية وتبقى قوة أعظم الدول قوة إنسانية مهما بلغت من الفتك والدمار (إِنْ

ص: 52


1- راجع كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 152.

يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ)(1) وللإمام المهدي انتصارات أخرى سنبينها في البحث الخامس تفصيلاً إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

ص: 53


1- آل عمران، الآية 160.

ص: 54

المحاضرة الثانية غيبة الإمام المهدي عليه السلام

اشارة

ص: 55

ص: 56

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، فاطر السماوات والأرضين.

والصلاة والسلام على أحب خلقه وسيد رسله حبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله، وعلى آله الطاهرين المنتجبين الغر الميامين، لا سيما بقية الله في الأرضين سيدنا ومولانا الإمام الحجة بن الحسن المهدي أرواحنا فداه.

واللعنة الدائمة على أعدائهم وظالميهم وقاتليهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم وجاحدي حقوقهم قاطبة من الجن والإنس، آمين يا رب العالمين.

انتهى بنا الكلام ليلة أمس إلى الاستدلال على وجود الإمام المهدي أرواحنا فداه في مقابل من ينكر وجوده أو ولادته أو بقاءه.

أثبتنا ذلك بأدلة ثلاثة:

الأول: التنصيص على الإمام المهدي عليه السلام من الكتاب الكريم والكتب المقدسة والسنة المتواترة المتفق عليها بين الفريقين، كما قرأناها.

الثاني: الاستدلال بتنصيص والده الإمام الحسن العسكري عليه السلام على ولادته، وهو صاحب الفراش مقبول القول في النسب في جميع الآراء

ص: 57

الفقهية، ومن جهة أخرى هو إمام معصوم من أهل بيت الوحي معصوم صادق، من أهل بيت التطهير لا يكون فيه غير الصدق، من أهل آية التطهير لا يمكن الكذب في حقهم، نص على ولادة ولده الإمام محمد المهدي أرواحنا فداه تنصيصاً بالغاً لحد الاعتراف به بين الفريقين أيضاً.

والعجب ممن ينكر ذلك مع أن في كتبهم روايات بيان العسكري ولادة ولده المهدي عليه السلام ، ثم تنصيص وشهادة السيدة حكمة بنت الإمام الجواد عليه السلام على ولادة سيدنا الإمام المهدي وحضور الولادة، مع شهادة خادمتي الإمام العسكري، يعني نسيم ومارية، وشهادة القابلة في الولادة مقبول في جميع المذاهب كما قرأنا النصوص من فقه الخاصة والعامة.

الثالث: رؤية الإمام المهدي، حضروا ونظروا وأخبروا بذلك، فكيف يمكن إنكاره.

صار المطلب عينياً، وهل يحتاج بعد العيان إلى برهان؟ رأوه في جميع المراحل الثلاث من حياته، يعني في زمن والده الإمام العسكري السنوات الخمس وبعد وفاة وشهادة الإمام العسكري في أيام الغيبة الصغرى وبعد الغيبة الصغرى في الغيبة الكبرى، شاهدوه وأخبروا وشهدوا برؤيته، رؤية بلغت التواتر في جميع هذه المراحل الثلاث.

يعني أحصينا الروايات المعتبرة في زمن الإمام العسكري ممن نظر وحضر وشهد، وفي الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى.

ص: 58

اخترنا في جميع هذه المراحل لكل مرحلة عشر روايات معتبرة بأسناد موثوقة في كتب معتمدة، حتى يحصل بها التواتر والعلم بحيث لا يمكن إنكاره، رؤية عيانه مشهودة في جميع المراحل الثلاث ممن يوثق بهم، وفي الكتب الموثوقة بحيث يحصل العلم بولادته ووجوده حتى في الغيبتين إلى الغيبة الكبرى، واللطيف أن بعض الناظرين _ بعض الشاهدين _ على رؤية الإمام المهدي من نفس العامة، ذكرنا أنه هناك بيانات في كتب المنتظم وغير المنتظم من كتب العامة أخبروا عن رؤية الإمام المهدي.

نختار رواية واحدة من العامة ورواية من الخاصة، يعني رواية رؤية الأولياء، رواية رؤية الأعداء وغير الأعداء، كلا الطرفين كلا الفريقين شهدوا ونظروا وأخبروا عن ذلك، بعنوان النموذج، روايتين نقرأ، ومن أراد التفصيل قدمت له الروايات الشريفة، لأن التفصيل يأخذ من وقتنا كثيراً.

أما من رؤية الأولياء رواية صحيحة ينقلها الصدوق أعلى الله مقامه بأسناده الصحيحة إلى معاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب بن نوح ومحمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) من أجلة أصحاب الإمام الحسن العسكري وموثّوقين بجلالة، وخصوصاً العمري محمد بن عثمان من أصحاب الإمام العسكري وممن وثقه نفس الإمام، وثقه ووثق أباه (العمري وابنه ثقتان فما إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان)(1)، مسموع الكلمة ومطاع بين المؤمنين يخبر بهذه الرؤية،

ص: 59


1- الكافي للشيخ الكليني ج1 ص330.

قال جميعهم _ الثلاثة _: عرض علينا أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام ونحن في منزله، وكنا أربعين رجلاً، فقال: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا.(1)

رؤية جماعية من الموثقين، شهدوا بالرؤية ووجود الإمام المهدي.

وأما من شهد بالرؤية من المخالفين ففي حديث الآودي الذي نقله شيخ الطائفة بأسناده المعتبرة في الغيبة(2) في حدود سنة 300 الآودي ينقل: بينما أنا في الطواف وقد طفت ستة حول البيت وأريد أن أطوف السابعة فإذا أنا بحلقة عن يمين الكعبة وشاب حسن الوجه طيب الرائحة هيوب ومع هيبته متقرب إلى الناس فتكلم فلم أر أحسن من كلامه ولا أعذب من منطقه في جلوسه فذهبت أكلمه فزبرني الناس بعضهم فقلت: من هذا؟ فقالوا: ابن رسول الله صلى الله عليه وآله يظهر للناس في كل سنة يوماً لخواصه فيحدثهم ويحدثونه، فقلت: مسترشداً أتاك _ صحيح لست معتقداً به لكن استرشد أطلب الهداية، يتبين كونه مخالفاً _.. فارشدني، قال: فناولني حصاة، فحولت وجهي، فقال بعض الجلساء: ما الذي دفع إليك ابن رسول الله؟ فقلت: حصاة وكشفت عن يدي، فإذا أنا بسبيكة من ذهب!! _ إعجاز حتى يتيقن أنه الأمام، ليتيقن أنه من الناحية الغيبية _ فإذا أنا

ص: 60


1- كمال الدين وإتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 435.
2- الغيبة للشيخ الطوسي ص253.

بسبيكة من ذهب، وإذا أنا به قد لحقني فقال: ثبت عليك الحجة _ كنت تنكرني الآن رأيتني والآن ثبت عليك الحجة _ وظهر لك الحق وذهب عنك العمى، أتعرفني؟ قلت: اللهم لا، فقال عليه السلام: أنا المهدي أنا قائم الزمان أنا الذي أملؤها عدلاً كما ملئت ظلماً وجورا(1)، يخبر مخالفاً.

في كلا الفريقين خبر النظر إلى الإمام المهدي ورؤيته تكشف عن وجوده، فبالأدلة الثلاثة الفريق الأول والثاني والثالث تبين صراحاً وصريحاً وجود الإمام المهدي وولادته وبقاءه، خصوصاً مع ما استدللنا عليه ليلة أمس(2) بالحديث الشريف المتفق عليه بين الفريقين ب- 163 حديثاً من العامة و27 حديثاً من الخاصة قول رسول الله: (الأئمة بعدي اثنا عشر أولهم علي وآخرهم المهدي لم يزالوا ما زال هذا الدين قائماً إلى يوم القيامة) يلزم أن يكون هناك فرد من أهل البيت، ثم استشهد الإمام الحسن العسكري فمن يكون بعد الإمام العسكري غير الإمام المهدي، غير ولده المنحصر بالفرد.

إذن وجود الإمام المهدي عيان لا يحتاج إلى بيان، عيان بالأدلة والبيانات والحجج القطعية العلمية، لا يمكن إنكاره.

فما نقلناه سابقاً _ ليلة أمس _ عن بعض المخالفين من أن المهدي أسطورة، عجيب من الكلام، إنكار للحقيقة، إنكار للشمس، والعجيب المضحك للثكلى أنّني رأيت وتفحصت استدلالهم على هذا الإنكار _ رؤية

ص: 61


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 445 الحديث 18 من الباب 43.
2- المحاضرة الاولى ص.

وجود الإمام المهدي _ الخطوط العريضة لمحيي الدين الخطيب صفحة 16 عبارته: لم يولد المهدي ولم يوجد لأن ولادته لم تسجل في سجل مواليد العلويين.

ولادة المهدي لم تسجل في سجل مواليد العلويين!! عجيب هذا الكلام من الخطيب، عجباً هل كانت ولادة العلويين تسجل في سجلات خاصة؟! وهل كانت تحفظ عندك وما رأيتها فأنكرتها؟! سلمنا ما رأيت اسم الإمام المهدي في السجلات، هل لا تراه في البينات وفي الآيات وفي الحجج وفي الروايات؟! كيف ينكر مع هذا الوضوح مع هذا الوجود البين الظاهر؟!

إذن المسألة الأولى أو الموضوع الأول للبحث، وهو وجود الإمام المهدي وولادته وبقاؤه من الامور التي لا يشك فيها، لقيام الاستدلال العلمي عليها، فهو روحي فداه موجود إلى ظهوره المسعود.

ص: 62

البحث الثاني: غيبة الإمام والحكمة فيها

لابد في البدء من الإشارة إلى كلمة في معنى الغيبة، حتى ترتفع وتندفع بعض الشبهات، لأن بعض الشبهات تبتني على أساس عدم الالتفات إلى معنى الغيبة.

معنى الغيبة

أوردت _ مثلاً _ في بعض الكتب من المنحرفين رأيت أنه يقول تقريباً بهكذا عبارة: (الشيعة ادعت غيبة المهدي، فما فائدة إمام غير حاضر) هذا إشكاله.

الظاهر أن هذا الكاتب لوكان يراجع اللغة العربية في معنى الغيبة ماكان يشكل هذا الإشكال، لأن معنى الغيبة ليس عدم الحضور، بل باتفاق أهل العربية في الكتب المعتمدة عند القدامى والمتأخرين من أهل اللغة: الغيبة مأخوذة من الغيب بمعنى الخفاء أي عدم الرؤية وليس عدم الحضور، الغيبة

ص: 63

مقابل الظهور، ولست مقابل الحضور، غاب يعني لم ير، يعني خفي عن الأعين، يعني لم نره والغائب يعني المخفي عن العيون، ليس الغير حاضر.

هذا المعنى متفق عليه في اللغة العربية في الكتب المعتمدة من أهل اللغة، مثلاً _ من باب المثال _ الموجود إضافة إلى الأحاديث في اللغة في مجمع البحرين(1) قال صاحب المجمع الشيخ الطريحي رحمة الله عليه: قوله تعالى (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ)(2) أي في قعره سمي به لغيبوبته عن أعين الناظرين لا عن شخصهم، وكل شيء غيب عنك فهو غيابة، وما من غائبة أي شديد الخفاء، جميع استعمال كلمات الغيبة في الخفاء في عدم الرؤية.

وكذلك في لسان العرب.(3)

وقريب منه في النهاية الأثيرية(4)، وتاج العروس.(5)

قالوا: الغيب ما غاب عن العيون وإن كان محصلاً في القلوب، لم تره العين وإن كان حاصلاً موجوداً، يقال: سمعت صوتاً من وراء الغيب، أي من موضع لا أراه.

وقد تكرر في الحديث ذكر الغيب والغائب، وهو كلما أو من غاب عن العيون، والغيبة عن العيون تنصيص أهل العربية ليست عدم الحضور حتى

ص: 64


1- مجمع البحرين: ج3: 342.
2- يوسف (12): 10.
3- لسان العرب: 1 / 654.
4- النهاية لابن الأثير: 3 / 399.
5- تاج العروس: 1 / 416.

يشكل ما فائدة إمام غير حاضر، الغيبة بمعنى عدم الرؤية، لم تره العيون وإن كان حاضراً في المكان، هذا في اللغة، وكذلك في الأحاديث الشريفة.

الأحاديث التي بينت غيبة الإمام المهدي شرحت الغيبة، نصت على معنى الغيبة أنه بمعنى عدم الرؤية، دليل ذلك في التوقيع الشريف إلى علي بن محمد السمري في البحار(1) قال روحي فداه: (فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور _ ولم يقل: فلا حضور _ فلا ظهور إلا بعد إذن الله ألا فمن ادعى المشاهدة _ ليس الحضور، بل جعل الغيبة في مقابل المشاهدة، في مقابل الظهور، لا في مقابل الحضور حتى يقال: إن الغيبة بمعنى غير حاضر.

وكذلك في حديث عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (يفقد الناس إمامهم فيشهدهم الموسم فيراهم ولا يرونه)(2) عدم الرؤية.

وكذلك حديث العمري: سمعته يقول: (والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)(3) المعرفة غير موجودة. إذن هو حاضر لكن ليس من الضروري أن يعرف.

وكذلك حديث الصيرفي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (فما تنكر) كأنه ذاك الوقت معلوم كان بعضهم ينكرون الغيبة (فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله يفعل بحجته ما فعل بيوسف، وأن يكون صاحبكم المظلوم

ص: 65


1- بحار الأنوار: 52 / 151.
2- بحار الأنوار/ ج52/ ص 151/ ح2/ باب 23.
3- كمال الدين للصدوق: 440، ح8.

المجحود حقه صاحب هذا الأمر يتردد بينهم ويمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم ولا يعرفونه)(1)، حاضر ناظر لكن لا يعرفونه.

بل صريح الكلام العلوي الشريف روحي فداه لحذيفة بن اليمان: (حتى إذا غاب المتغيب من ولدي عن عيون الناس... فورب علي إن حجتها عليها قائمة ماشية في طرقها، داخلة في دورها وقصورها، جوّالة في شرق هذه الارض وغربها، تسمع الكلام، وتسلم على الجماعة، ترى ولا ترى إلى الوقت والوعد).(2)

إذن الغيبة على ضوء الروايات الشريفة _ بل تؤيده الكلمات اللغوية _ بمعنى عدم النظر إليه أو عدم معرفته، وليست بمعنى عدم الحضور، فقول: غائب يعني لم ير.

هذا المعنى يفسر أن الإمام المهدي غائب يعني غائب عن العيون غائب عن معرفة الناس الا أنه حاضر بينهم يراهم يعرفهم يسمعهم.

لكن السؤال المطروح في المقام هو أنه لماذا غاب الإمام عليه السلام هذه القرون الطويلة، فالمؤالف والمخالف يسأل والشاب وغير الشاب يسأل: لماذا غاب هذه القرون الطويلة؟ وما هو وجه وسبب الغيبة، أو ما هي حكمة الغيبة هذا السؤال مفروض ومطروح.

فنقول بعون الله تعالى:

ص: 66


1- الغيبة للنعماني: 163، ح4.
2- الغيبة للنعماني: 142، ح3.

غيبة الإمام المهدي أرواحنا فداه لها حِكم خمس، وجميع الحكم الخمس نبينها إن شاء الله، لكن مع هذه المقدمة البسيطة المختصرة:

لا شك ولا ريب أن الله تعالى، وهذا من الأصول المسلمة بين جميع الفرق وجميع المذاهب، بل بين جميع الناس حتى المشركين، لا شك أن الله تعالى الخالق حكيم، له الحكمة في أفعاله لا يفعل عبثاً ولا يصنع شططاً فجميع أفعاله سبحانه وتعالى على شكل الحكمة وموافقة للحكمة، فالله تعالى حكيم وحكمته من الأصول المسلمة بين جميع الناس، ومن المعلوم أن الحكيم لا يفعل في جميع أموره إلا ما هو مطابق للحكمة، وإلا تخالف أفعاله حكمته.

من المسلمات الضرورية أن الحكيم لا يصدر منه إلا الأفعال الحكيمة، إلا الأفعال ذوات المصلحة، ونقصد بها المصلحة العائدة إلى نفس المكلفين، أي التي ينتفع به الناس لا الله تعالى، فإن الله غني عن الناس.

الله الحكيم على الأصل المعتبر المسلم الضروري لا يفعل إلا ما هو بطبق الحكمة، جميع أفعاله في الكون في جميع الموارد في الوجودات والعدميات، جميعها على طبق الحكمة والمصلحة الحقيقية. هذا يدركه العقل، ويحكم به الشرع (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).(1)

هو ينص على نفسه، والعقل يستقل ينظر إلى جميع عوالم الملك والملكوت يراها كلها متناسقة متناسبة مفيدة، كلها على طبق الحكمة

ص: 67


1- الروم (30): 27.

فيحكم بأن جميع أفعال الحكيم على طبق الحكمة، إذا توصل إلى أنه حكيم يحكم حكماً مستقلاً بأنه لا يفعل إلا ما هو مستحكم.

إذن الشرع والعقل متوافقان على أن الله تعالى حكيم ولا يضع إلا ما هو حكيم، كأنه تستفاد قاعدة كلية _ أن كل ما صنعه الله وكل فعل قدره الله تعالى هو على وفق المصلحة والحكمة _ هذا شيء لا شك فيه، هذه مقدمة.

يعرف العقل ويعرف الناس أن جميع الأفعال الإلهية أفعال على طبق الحكمة.

مسألة غيبة الإمام المهدي من شؤون خليفة الله، الله في جميع فعاله تكون فعاله على طبق الحكمة، فكيف في نصب خليفته وشؤون خليفته (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً)(1) خلفاؤه الأنبياء والأئمة الأطهار وخاتمهم الإمام المهدي عجل الله فرجه.

غيبة الإمام المهدي من شأن خليفة الله، فهل يمكن أن تكون على غير الحكمة؟ بل لابد أن تكون حكيمة، لأن ذلك من الضروريات المحكومة بحكم العدل، أنها لابد أن تكون على فعل الحكمة، على طبق الحكمة لأنه من شأن خليفة الله لا شيء عادي في الوجود.

إذن غيبة الإمام المهدي عليه السلام يتوصل العقل إلى أنها يلزم أن تكون حكيمة وعلى طبق الحكمة، لكن ما هي الحكمة؟ الآن جواب السؤال:

ص: 68


1- البقرة (2): 30.

الحكمة في الغيبة:

الحكمة في غيبة الإمام المهدي أرواحنا فداه على ما تستفاد من الأدلة المعتبرة من الروايات حكم خمس، والعقول توافقها وتقبلها، والوجدان يقبلها أيضاً.

الحكمة الأولى: التحذّر

أما الحكمة الأولى، فإن حياة الإمام المهدي عليه السلام مهددة بالقتل كانت ولا زالت مهددة بالقتل، فلابد من التحذر وحفظ نفسه بالغيبة، ولابد أن الإمام المهدي مقابل الأخطار المتوجهة إليه يلزم أن يحفظ نفسه ويتحذر من القتل ومما يصيبه الظالمون من جهة العداء له، وخصوصاً بعد معرفة الظالمين أن الإمام المهدي هو الذي يقيض عروشهم وهو الذي يهدم بنيانهم وهو الذي يزيل ملكهم، فلابد أن يعادوه ويكونوا في صدد معاداته وقتله، فما يلزم مقابل هذا إلا التحذر إلا التحفظ.

من الوجدانيات الملحوظة السابقة تلاحظون بالنسبة إلى فرعون وموسى عليه السلام فرعون بمجرد أن أحس وأخبره الكهنة أن الذي يقيض عرشك موسى، كيف صنع؟ أباد جميع النساء وجميع الأطفال، حتى لا يباد عرشه وحتى لا يولد أحد يبيد عرشه.

ص: 69

تلاحظون أن هذه من الأمور الواضحة فإنه إذا التفت الظالم إلى أن شخصاً يريد أن يزيله حتماً سيقتله.. حتماً سيبيده.

الإمام المهدي جميع الظالمين يعرفون هذا الأمر، وهو أنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فقد أخبر به التوراة وأخبر به الإنجيل وأخبر به الزبور وأخبر به رسول الله، ويعرفون أنه صادق وإن جحدوا بها، لكن استيقنتها أنفسهم.

مع معرفة الظالمين بأن الإمام المهدي هو الذي يقيض عروشهم لابد أنهم سيحاولون قتله، فماذا هو الحزم في مقابل هذه المحاولة للقتل إلا التحذر؟ هل يكون غير التحذر في مقابل هذه الإرادة المعارضة الموجبة لقتل الإمام المهدي عليه السلام ؟ لابد من التحذر، وهو تحذر في مقابل الخوف القطعي، في مقابل الخطر القطعي.

وهذا التحذر من الأمور التي تكون موافقة للعقل ويحكم بها العقلاء، فلابد لكل شخص يحس بالخطر ويعقل الخطر، لابد أن يتحذر وإلا يقال بأنه سفيه _ والعياذ بالله _ مسألة التحذر في مقابل الخطر أمر عقلي عرفي شرعي يفرضه الشرع في مقابل الخطر القطعي، لذلك الإمام المهدي في مقام التحذر يغيب وتكون غيبته للتحذر.

عبّرت بهذه الحكمة، وأفادت بهذه الحكمة الروايات الشريفة، وإن كانت بعض الروايات عبرت بالخوف لكنّه خوف تحذر وخوف حزم، لا خوف جبن وضعف حاشى الإمام المهدي عن الضعف وعن الجبن، أبداً هو

ص: 70

أشجع الناس، فإنّه ممّا ثبت في علم الإمامة أن الإمام عليه السلام يلزم أن يكون أشجع الناس، هذا ثابت على طبق قاعدة الإمامة المستفادة من الأدلة البرهانية، والإمام المهدي بما أنه إمام فهو أشجع الناس، حاشاه عن الخوف الناشئ من الضعف، فإنه ناشئ من الجبن وحاشى ذلك، إضافة إلى ذلك فإن القواعد لا تجوز هذا المعنى، فهو سلالة الشجعان وابن الشجعان وسلالة الطيبين الأبطال، ولا يمكن أن يكون من أنجبته الفحولة والشجعان ضعيفاً، كيف يكون جباناً ابن أمير المؤمنين الشجاع الذي اعترف بشجاعته عدوه وصديقه؟! كيف يكون ابنه جباناً؟!

ابن أبي الحديد في مقدمة شرح نهج البلاغة يبين خصوصيات الأمير روحي فداه، ومن جملة خصوصية شجاعته له كلمة عجيبة يقول فيها: (وأما علي بن أبي طالب فهو الذي ينتهي كل شجاع إليه وينادي كل بطل باسمه وهو الذي ما فرّ قط ولا ارتاع من كتيبة أبداً ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة تحتاج إلى ثانية، فأنسى من كان قبله ومحى من يأتي بعده، عدوه يشهد بشجاعته وعدم خوفه).(1)

وكذلك ابن دأب له رسالة لطيفة في زمان العباسيين، مع ذلك كان يصرّح ويبين، مواد هذه الرسالة مناقب علي بن أبي طالب، المناقب السبعون التي لم يشترك معه فيها أحد، مخصوصة لأمير المؤمنين عليه السلام يقول: (وفي شجاعته لم يكع _ يعني لم يجبن _ علي عن أحدٍ قط، ولم يضرب أحداً في

ص: 71


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 20.

الطول إلا قدّه ولم يضرب أحداً في العرض إلا قطعه، ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله حمله على فرسٍ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما لي وللخيل وأنا لا أتبع أحداً ولا أفرّ من أحد).(1)

المهدي ابن هكذا شخصية ابن أمير المؤمنين، هل يمكن أن يخاف؟! ليس خوفه خوف جبن، بل هو خوف تحذر خوف حزم خوف تكليف شرعي عليه من الله تعالى، لذلك في الروايات تبين هذه الحكمة.

من جملة ذلك _ بعنوان التبرك _ روايتان أبينها:

حديث أبان عن الإمام الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لابدّ للغلام من غيبة، فقيل له: ولم يا رسول الله؟ قال يخاف القتل(2)، من جهة خوف القتل تكون غيبة).

وفي حديث زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال الإمام عليه السلام: (للغلام غيبة قبل قيامه، قلت: ولم؟ قال: يخاف على نفسه الذبح).(3)

لذلك تبين الروايات أن غيبة الإمام من جهة خوف الذبح، أي التحذر، خوف الذبح والتحذر من القتل والذبح الذي هو خطر قطعي مقابل الإمام عليه السلام.

الحكمة الأولى هذه، وهذه الحكمة ليست بأمر مستنكر، ليس الخوف والتحذر أمراً مستنكراً، بل هو أمر عقلي وعرفي، بل شرعي، بل فعله الأنبياء

ص: 72


1- نقلها الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص: 149 عن رسالة ابن دأب (المناقب السبعون).
2- بحار الأنوار: 52 / 90 الباب 20 الحديث 1.
3- بحار الأنوار: 52 / 97.

قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وفعله الرسول، التحذر بالغيبة من الامور الحكيمة التي صنعتها الأنبياء صنعه موسى حين فرّ من قومه، فرّ منهم خوفاً، لا بتعبيري، بل بتعبير القرآن (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً)(1) تعبير موسى فرار خوف، لكن خوف تحذر.

وكذلك رسول الله روحي فداه فرّ عن قومه، غاب عنهم في الغار، لأي شيء؟ كان خوف جبن ؟! أبداً حاشاه عن الجبن، فإنه أشرف البشر وأشجع البشر، خوف تحذر، الاختفاء في الغار، بل غيبته في شعب أبي طالب ثلاث سنوات وبعض الأشهر تلك المدة الطويلة لأجل التحذر.

إذن مسألة التحذر بالغيبة من الأمور الشرعية العقلية الوجدانية، يصنعه العقلاء، بل يفعله الأنبياء، ولا ضير في ذلك أبداً.

وبيّن هذه الحكمة ونصّ عليها الشيخ المفيد شيخ الشيعة أعلى الله مقامه في كتابه رسالة الغيبة، وكذلك الفصول العشرة _ في الفصول 75 وفي رسالة الغيبة القسم الرابع صفحة 12 _ بيّن رحمه الله وقال: إن ابن الحسن عليه السلام لو يظهر لسفك القوم دمه ولم تقتض الحكمة التخلية بينه وبينهم فيلزمه أن يغيب.

وبيّن في موضع آخر في رسالة الغيبة: لم يكن أحد من آبائه عليهم السلام كلف القيام بالسيف مع ظهوره(2)، لذلك الإمام مكلف لذلك يلزم

ص: 73


1- الشعراء (26): 21.
2- رسائل في الغيبة للشيخ المفيد: 4/ 12.

أن يغيب للخطر القطعي، إلا أن إمام هذا الزمان هو المشار إليه بسل السيف من أول الدهر ومن تقادم الأيام المذكورة يعرفه جميع الناس والجهاد لأعداء الله عند ظهوره ورفع التقية عن أوليائه وإلزامه لهم بالجهاد وأنه المهدي الذي يظهر الله به الحق ويبيد بسيفه الضلال، فلزمته الغيبة يلزم أن يغيب ووجب فرضها عليه كما فرض على آبائه.

وكذلك الشيخ الطوسي قدس الله روحه في كتاب غيبته صفحة 61 قال رحمه الله: إذا خاف الإنسان على نفسه كالمهدي عليه السلام وجبت غيبته ولزم استتاره كما استتر النبي صلى الله عليه وآله تارة في الشعب وأخرى في الغار، ولا وجه لذلك إلا خوفه من الأخطار الواصلة إليه.

إذن فمسألة حفظ النفس بالاستتار من الأمور الشرعية العقلية العرفية الذي يقبله كل عاقل، ومن خالفه يقال: إنه متهور في مقامه سفيه في إقدامه، ما يفعله أحد من العقلاء.

على ذلك مسألة الغيبة الحكمة الأولى فيها التحذر الذي يقتضي ويدعو _ بل يلزم _ غيبة الشخص المتحذر حفظاً على نفسه وإبقاءاً على نفسه، لذلك غاب الإمام المهدي عليه السلام ليظهر في الوقت المناسب، يظهر يداً عليا، يداً تطال، يداً تغلب، يداً تظهر على جميع الأديان في الكرة الأرضية إن شاء الله تعالى.

إذن الحكمة الأولى مستدلة _ ظاهراً _ ليس فيها إشكال من جهة العقل والشرع.

ص: 74

وهنا بعض الأسئلة قد يسألها بعض الشباب وقد يسألها بعض المؤمنين، نجيب عليها قبل أن يسأل عنها، مثلاً:

س1/ أنه هلا يمنع الله تعالى من قتله ويحول بينه وبين أعدائه؟! سلّمنا أن الإمام مهدد بالقتل ويلزم أن يتحذر بالغيبة، لكن لماذا الله لن يدفع عنه ظالميه ولن يدفع عنه القتلة ليحفظه بالرغم من أعدائه؟ لماذا لم يفعل هكذا؟

ج/ إن أمر الله تعالى الإمام المهدي بالاستتار نوع من المنع عن قتله، المنع عن القتل يمكن بصد الظالمين عن القتل ويمكن بتحذر المظلوم، بكلتا الطريقتين يمكن، ومنع الإمام عن الظهور نوع تحذر له ونوع منع عن قتله يحصل به المطلوب.

وتلك الطريقة الأخرى _ مسألة إجبار الظالم أو القاتل على عدم قتله _ خلاف السنة الإلهية وخلاف الاختيار في العوالم الدنيوية، لأنه لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين الأمرين، وهو الاختيار، فكل إنسان مختار في أفعاله.. الظالم مختار في فعله وكذلك المحسن مختار في إحسانه حتى تحصل العقوبة والإثابة، وإلاّ لو كانت الدار دار إجبار وكل من يفعل فعلاً يفعله بالإجبار، فإنّه لا عقوبة ولاثواب ولا جنة ولا نار، وهذا خلاف العقل، الآن من يقتل فإنه مختار في قتله ومن ينفق مختار في إنفاقه يثاب المنفق ويعاقب الشخص القاتل فعلة حكيمة مطابقة للسنة الإلهية، لكن أن يمنع القاتل إجباراً، فهذا خلاف الاختيار والله لايصنع ماهو خلاف الحكمة وخلاف الاختيار، ومنع القاتل عن قتله إجباراً خلاف الاختيار وخلاف السنة الإلهية.

ص: 75

ومن الجانب الآخر منع المظلوم عن الظهور يحصل به الغرض وتحصل به النتيجة، فيا حبذا لو كانت من هذه الطريقة الصحيحة لذلك في هذا العالم المبني على الاختيار.

س2/ لماذا لم يبق عليه السلام ظاهراً كظهور آبائه الطاهرين مع التقية حفاظاً على نفسه؟

ج/ التقية ممكنة فيما قبله من الآباء الطاهرين، لكن الإمام المهدي روحي فداه منهجه منهج القيام بالسيف لا يمكن فيه التقية، يعرف جميع الأديان منه هذا المنهج، عرف أعداؤه وأولياؤه منه هذا الأمر، لذا لا يمكنه أن يتخذ منهج التقية، فهو معروف بالقيام بالسيف فكيف يتقي.

ثم إنه _ من جهة أخرى _ لو كان يحصل حفظه بالتقية كان معرضاً للخطر القطعي وليس بعد الإمام المهدي إمام آخر يقوم مقامه فلو فرض أنه قتل _ لا سمح الله _ ليس بعده إمام حتى يقوم مقامه، والأئمة قبل الإمام المهدي كان هناك من يقوم مقامهم في الإمامة وتحفظ الأغراض الإلهية والحكمة الربانية، لذلك لا يمكن أن يكون الإمام المهدي عليه السلام ظاهراً مع التقية، بل يلزم أن يكون مخفياً ويلزم أن يكون غائباً، لأن منهجه القيام بالسيف، وهذه لا تلازم التقية أبداً.

س3/ أنه إذا كان سبب الغيبة لزوم التحذر والخوف، فليكن التحذر والخوف من الأعداء، لم غاب عن الأولياء. أعداؤه يطلبونه فهو يتحذر

ص: 76

عنهم ويتقي منهم ويغيب عنهم، لكن لماذا يغيب أيضاً عن أوليائه وعشاقه؟!

ج/ أنه إذا فتح طريق اللقاء مباشرة لجميع الأولياء حتماً ستتضح آثار المهدي روحي فداه، مكانه وموضعه ومزاره والموضع الذي يزار فيه، وهذا خلاف الغرض الإلهي، إذاكانت الغيبة للتحذر فإنّ التحذر يناسبه الاختفاء وليس معلومية الآثار وليس بيان الآثار بظهورها.

جميع أولياء الإمام المهدي أرواحنا فداه لو كان يمكنهم اللقاء بالإمام المهدي لعرفت آثاره ولنقضت الأغراض التي هي من الله تعالى في حفظه بغيبته، أي أن هذا نقض للغرض لا يفعله الحكيم، ولا يمكن أن يصحح.

نعم تشرف بلقائه بعض الأولياء، وهو شيء واقع، وكم تشرفوا بخدمته، وكم تلاقى مع بعض الأولياء القديسين من علمائنا رحمهم الله ممّن يكون قولهم قول موثق، قول صحيح، قول ليس فيه اشتباه أو خطأ، أمثال السيد بحر العلوم أعلى الله مقامه والمقدس الأردبيلي على احتياطه وورعه وصدقه والاخوة الروحانيون يعرفون شدة احتياطه من خلال كتبه، مثل كتاب مجمع الفائدة والبرهان، فيقول في بعض الموارد: (كأنّ المسألة إجماعية) مع أنها قطعية كذلك، وهذا كله من شدة احتياطه وورعه.

تشرف هؤلاء بخدمة الإمام عليه السلام وكذا حصل الشرف لبعض الأولياء، هذا لا ينكر، تشرف بحيث لا يعرف أثره ولا يتوصل الأعداء إلى أثره، هذا ممكن، بل هذا شيء موجود وصرح به علماؤنا.

ص: 77

الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه يقول: الذي ينبغي أن يجاب عن هذا السؤال أنه لا يعلم كل إنسان إلا حال نفسه(1)، جميع الأولياء ما تشرفوا، لكن بعضهم تشرفوا. يشير إلى أنه لعله هو من المتشرفين بخدمة الإمام المهدي عليه السلام.

إذن مسألة التشرف للأولياء بما أنها تنقض الحكمة وتنافي الغرض لا يمكن التشرف للجميع، نعم يمكن للبعض وقد حصل بحمد الله تعالى.

س4/ هل هناك غيبتان للإمام المهدي عجل الله فرجه؟ ولماذا صارت الغيبة على نحوين صغرى وكبرى؟

ج/ مسألة الغيبتين وإن أنكرها بعض، أنكرها مع وجودها في كتب العامة والخاصة، ففي بعض كتب المنحرفين ما نصه: (حكاية الغيبتين لم تثبت في التأريخ ولا يوجد عليها دليل!! ) عجيب هذا القول، مع أنه في نفس كتب العامة توجد روايات الغيبتين: (لولدي المهدي غيبتان)(2)، (يغيب ولدك غيبتان)(3) موجود في رواياتهم تناقلته العامة والخاصة، كيف يقول: لم يوجد في التأريخ؟

ص: 78


1- الغيبة للشيخ الطوسي: 99.
2- الإشاعة لأشراط الساعة: 93 (دار الكتب العلمية – بيروت)، عقد الدرر للشافعي السلمي: 41 (ط: دار الفكر)، البرهان في علامات مهدي آخر الزمان للمتقي الهندي: 171. لمطالعة هذه المصادر انظر شرح إحقاق الحق للمرعشي، ج27: 180، ج29: 587 و592، ولفظ الحديث: (لصاحب هذا الأمر غيبتان).
3- جالية الكدر (في شرح منظومة البرزنجي): 207 (ط مصر) نقلاً عن صاحب الفصول المهمة، سبائك الذهب للسويدي: 366 (ط: دار الكتب العلمية به بيروت) المطالعة هذه المصادر، انظر شرح إحقاق الحق للمرعشي، ج13: 94، ج29: 116. ولفظ الحديث: (وله قبل فيامه غيبتان).

ولادة الإمام المهدي أرواحنا فداه موجودة في كتب الخاصة من غيبة النعماني وغيره، أغلب كتب الغيبات، وقد ذكرت أحاديث الغيبتين في ينابيع المودة، والبرهان في علامات مهدي آخر الزمان في روايات عديدة تلاحظها في منتخب الأثر صفحة 251 بأسناد متعددة مذكورة في كتب الفريقين، كيف تنكر؟ أليست الروايات بمثابة التاريخ؟! روايات المعصومين ورواياتكم بينتها، كيف تكرونها وتقولون بأنها لم تثبت في التأريخ؟!

الغيبتان ثابتة بلا شك وموجودة في روايات الفريقين، لكن لماذا صارت كبرى وصغرى؟ لكم حق السؤال، ما وجه كون الغيبتين على نحوين صغرى وكبرى؟!

لعل الجواب يكون صحيحاً هكذا: الناس والأصحاب والمؤمنون من زمن أمير المؤمنين عليه السلام إلى زمن الإمام العسكري كانوا قد تعودوا على التشرف بخدمة أئمتهم ليلاًَ ونهاراً صباحاً ومساءاً، في أي وقت كانوا يرغبون ويريدون أن يسألوا، إذا كانوا يحتاجون يراجعون الإمام، من أمير المؤمنين إلى الإمام الحسن العسكري، فلو كانت تحصل الغيبة فجأة لكان موجباً للاستيحاش، يغيب الإمام المهدي فجأة بعدما كان آباؤه الطاهرون ظاهرين يتشرف جميع الناس بخدمتهم، عدوهم وصديقهم في كل عام، الآن يغيب فجأة سيحدث الاستيحاش، بل كانت توجب تزلزل بعض المؤمنين في

ص: 79

إيمانهم، لماذا غاب؟ كيف صار؟ هل مات؟ العياذ بالله، لا سمح الله، كان يوجب الاستيحاش، لذلك كان من الحكمة ومن دواعي العقل والحكمة أن تكون هناك تمهيدات للغيبة، أولاً تحدث الغيبة الصغرى تمهيداً وتوطئة ومقدمة للغيبة الكبرى، ثم يغيب روحي فداه الغيبة التامة الكبرى.

هذا على طبق الحكمة، فإنّ فيه رفع الاستيحاش وحفظ الإيمان والتحفظ على إيمان المؤمنين وعدم تزلزل إيمانهم.

إذن مسألة الغيبتين ثابتة شرعاً، وهي مطابقة للحكمة، لأن الغيبة الصغرى تمهيد ومقدمة وتوطئة للغيبة الكبرى، حتى يتعود الناس تدريجاً، شيئاً فشيئاً على غيبة إمامهم روحي فداه.

ثم إن هناك حكمة أخرى في الغيبة الصغرى، وهي أنّه كان يمكن للمؤمنين أن يتشرفوا بخدمة الإمام عن طريق السفراء، فقد كان يلزم أن تكون هكذا، يلزم أن يحصل زمان يكون للمؤمنين تشرفات بخدمة الأولياء السفراء وتوقيعات وأجوبة المسائل أو رؤية الإمام المهدي والشهادة على رؤيته في هذه المدة من الأزمنة في زمان الغيبة الصغرى، وقد استمرت هذه الحالة ما يقرب من سبعين عاماً.

كان المفروض وكانت الحكمة تدعو إلى أنه لا تكون الغيبة تامة كبرى، بل تكون غيبة صغرى يمكن التشرف ويمكن الاتصال ويتعرف عليه المؤمنون ويشهدون بوجوده ويشهدون بمكاتبته وتوجد خطوطه وتوقيعاته ويراسل من يكون قابلاً لذلك، وكان ذلك مطابقاً للحكمة.

ص: 80

إذن مسألة الغيبتين على طبق المصلحة التامة، بأنه كانت الغيبة الصغرى توطئة للغيبة الكبرى ومقدمة للحفظ وعدم الاستيحاش والتحفظ على النفوس والتحفظ على إيمان المؤمنين في هذه المدة من الزمان.

س5/ ما فائدة وجود الإمام في زمان الغيبة؟ أو ما فائدة الإمام الغائب؟ كما يتساءل عنه بعض المنحرفين، وهذا سؤال أساسي، وهذا سؤال له محتواه ويلزم بيانه.

ج/ ونستعين بالله، إن الفائدة في الإمام الغائب أرواحنا فداه من جهات عديدة:

أولاً: نفس وجوده الشريف وإن كان غائباً هو مناط الإيمان، هذا أولاً.

ثانياً: وجود الإمام وجود الحجة الإلهية، ولا تخلو الأرض من حجة، يلزم أن تكون الأرض دائماً فيها حجة، من آدم إلى خاتم الأوصياء لا تخلو الأرض من حجة، ولو خلت من الحجة ساعة لما قامت، لماجت كما تموج البحار، لارتفعت الأرض وما بقت أبداً، لساخت بأهلها.

الله تعالى حينما خلق الخلق جعل لهم حجة، جعل في الأرض حجة، والحجة الإلهية هم الأئمة الأطهار بعد رسول الله، فيلزم بقاءهم بوجودهم حتى تكون الحجة الإلهية موجودة في الأرض.

ص: 81

فبقاء الإمام بقاء للحجة الإلهية، كما تشير إليه الأحاديث الشريفة، حديث أمير المؤمنين عليه السلام: اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته.(1)

حفظ الحجة الإلهية بوجود الإمام وإن كان خافياً، هذه فائدة ثانية.

ثالثاً: وهي مهمّة، أن الإمام عليه السلام مركز للأمور الكونية ومهبط للفيوضات الربانية ومورد لن-زول الفيض من السماء إلى الأرض وإلى جميع الموجودات، كما تشهد الآيات القرآنية ويشهد به سورة القدر، دقّقوا في الآية الشريفة، (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (كل) أداة عموم، والأمر نكرة، وفي العربية تفيد التعميم التام الشامل، جميع الأمور الأرضية والسماوية الوجودية والعدمية، للإنسان وغير الإنسان، جميعها تن-زل في ليلة القدر، تن-زل الملائكة والروح، ين-زل روح القدس، ين-زل جبرئيل سيد الملائكة، ين-زل بأي كبكبة لماذا؟ تن-زل بكل أمر (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) على من تن-زل الملائكة بهذه الأمور الكونية؟ فالملائكة تحتاج إلى مهبط وتحتاج إلى شخص، الله تعالى ين-زل عليه تقديرات الكون بهذه الكبكبة الملائكية على الأرض تبين جميع الأمور الكونية. فيلزم وجود إمام ويلزم أن يكون هناك إمام بعد رسول الله تن-زل عليه التقديرات وتن-زل عليه الأمور وتن-زل عليه

ص: 82


1- كمال الدين وإتمام النعمة للشيخ الصدوق ص294.

مقدرات الموجودات في الأرض وفي السماء، فمن هو الذي تن-زل عليه الملائكة؟

ويمكن توضيح ذلك بأمر عرفي، حينما ترسلون رسالة إلى صاحبكم، يلزم أن يكون هناك مرسل إليه، إمّا صاحب أو صديق ترسل اليه رسالة، فإرسالها بدون هدف غير عقلي.

يلزم أن يكون هناك تنزيل الملائكة على هدف، على مكان، على شخص.

تصريح الاية (تَنَزَّلُ)بالاتفاق في العلوم العربية تذكرت صيغة المضارع تفيد الاستمرار، يعني ليلة القدر ما دامت موجودة تنزل الملائكة، أي يجب أن يكون تن-زّل، يعني تتن-زل، ولم يقل: نزلت الملائكة ليقال: فعل ماضٍ حدث الن-زول وتم، وإنما تن-زل دائماً باستمرار، في كل ليلة قدر تتن-زل الملائكة بجميع الأمور الكونية على الإمام المهدي عليه السلام ، فمن يليق بذلك، ومن يكون أهلاً لذلك، ومن هو قريبة النبي روحي فداه.

إذن وجود الإمام المهدي وجود للفيوضات الكونية للتقادير الإلهية، أليست هذه فائدة؟ أليست أعظم فائدة؟!

لذلك مسألة وجود الإمام المهدي أرواحنا فداه _ في الفائدة الثالثة _ هي وجود لمحل التقادير الكونية والفيوضات الربانية، وهذه من أعظم الفوائد.

رابعاً: مسألة الاستفادة من الإمام في مقام الشاهدية، والاستفادة منه في بركات الدعاء. من الأمور التي نذكرها إن شاء الله.

ص: 83

نبين البقية، بقية فوائد الإمام الغائب، والحكم الأربعة البقية من الحكم الخمسة في الغيبة...

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن العسكري المهدي صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.

اللهم وعجل فرجه الشريف، واجعلنا من أصحابه وأعوانه ومخلصيه وتابعيه والممتثلين لأوامره، وهب لنا رأفته ورحمته ودعائه وخيره وإحسانه، ببركة الصلاة على محمد وآل محمد.

الأسئلة والأجوبة:

س1/ ما هو وجه الغيبة، وما هي الفائدة من إمام غائب؟ فهل له أسوة بأجداده الطاهرين والأنبياء والمرسلين والأئمة سلام الله عليهم؟ فكثيراً ما يشكل على موقفه؟

ج/ أحسنتم وأجدتم، من الأجوبة والحكم _ سنذكر إن شاء الله _ إجراء السنة الإلهية في غيبات الأنبياء والأوصياء، ابتداءً وتأسياً بهم سلام الله عليهم، من ذلك غيبة الإمام العسكري مدّة من الزمان.. تأسياً بالإمام العسكري، بل تأسياً بما قبل الإمام العسكري من الأنبياء من زمن موسى إلى زمن عيسى، سنذكر مدة غيبتهم وزمان غيبتهم وكون غيبتهم لأجل أي

ص: 84

حكمة كانت، ثم تأسّي الإمام إجراءً للسنة الإلهية في الغيبات.. أحسنتم هذا وجه من وجوه الحكمة في الغيبة، وهي تأتي إن شاء الله.

س2/ هل أن للإمام الحجة أولاد؟ وإذا كان له أولاد فلماذا الإمام لا يستفاد منهم ويظهرون؟

ج/ مختصراً أعرض بخدمتكم أن الإمام روحي فداه له أولاد، كما يستفاد من الأدعية الشريفة، إلا أن تفصيل بيان أولاده وأسرته يأتي في الموضوع الرابع من بحثنا إن شاء الله، بحث سفراء الإمام المهدي والتشرف برؤيته عند غيبته والشؤونات المرتبطة به.

س3/ أسباب إنكار وجود المهدي عجل الله فرجه من قبل المعاندين، هل كانت عقولهم لا تتحمل في زمانهم؟ أم أنكروا معاجز الباري سبحانه وتعالى؟ أم هو عناد مع الشيعة ليبرزوا عداوتهم لو اعترفوا بظهور المهدي؟ هل يزعزع مناصبهم؟

ج/ الظاهر أن هذه الأسئلة في موقعها، ولا بأس باجتماع جميعها، فإن مسألة إنكار الإمام المهدي إنكار للشمس، وإنكار للوجدان وإنكار للبينة الواضحة التي تكون عياناً للجميع، فمع وجوده في كتبهم التي بيناها سابقاً في الصحاح _ صحيح البخاري ومسلم وغيرهم _ مع وجوده في كتبهم ولا نحتمل عدم اطلاعهم عليها لأن كتب الصحاح يلزم أن تكون بين أيديهم مع اطلاعهم عليها، ووجود الكتب بين أيديهم لا يدع مجالاً لأن يحمل على

ص: 85

الجهل بذلك، وإذا كانوا مطلعين على الإمام المهدي بالأدلة المقبولة ورفضوها فلابد أن يكون من العناد.

وهو في نفس الوقت إنكار لمعجزة الباري تعالى.

وهو في نفس الوقت عناد مع الشيعة الأبرار.

وجميع هذه الوجوه يمكن أن تجتمع فيمن أنكر، خصوصاً مع مسألة الإمامة والولاية الإلهية التي هي مبينة للجميع، في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: عرف هذا الأمر حتى سقّاءات المدينة(1)، لا يمكن أن يكون مخفياً على أحد، وحتى النساء السقاءات في المدينة عرفن ولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده إلى المهدي، لا يمكن أن يكون بعد المعرفة إلا الإنكار.

ولعله من جميع الوجوه، والسؤال في محله.. أسأل الله الهداية لجميع من ينكر هذه البينة الواضحة.

س4/ هل يمكن توضيح الاستدلال على إثبات الحجة عجل الله فرجه بقاعدة الأشرف وإمكان الأشرف؟ ومن جهة أخرى هل أن الحجة عجل الله فرجه هو الواسطة في الفيض الإلهي؟

ج/ بالنسبة إلى سؤالك سيدنا الكريم، مسألة قاعدة الأشرف ومسألة نزول الفيض ووصول الفيض هي مسألة ليلة القدر التي تعرضنا إليها أخيراً، وسنفصلها بشكل أكثر وأوسع إن شاء الله، لابد أن يكون هناك لله تعالى

ص: 86


1- لاحظ: الكافي: ص2/ 405 الحديث 4.

واسطة للفيض في الأرض بواسطته يرزق الورى وتتم المقدرات وتصل إليهم، لأن الله تعالى يفعل أموره عن طريق خلفائه، هذا من المسلّمات.

وكذلك يمكن إثبات الإمام عليه السلام بقاعدة الأشرف، بما أنه تمسكنا بالآيات والروايات المتفق عليها بين الفريقين وكان غرضنا الاستدلال لتقوية إيماننا ولدفع شهبات مخالفينا تمسكنا بدليل يقبله الطرفان.

وإلا مسألة التمسك بقاعدة الأشرف _ كما تفضلتم _ استدلال حسن جيد وتفيدنا في هذا الأمر، وتفيد من يستدل بالأدلة العقلية، بما أنه أشرف الموجودات، لذلك حكمة الإله والخبرويّة الإلهية والبصيرة الإلهية والعلم الإلهي بالعواقب يقتضي أن ينصبه علماً حجة على خلقه، في كل زمان بحسب قاعدة الأشرف، فهي تقتضي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله للإمامة والحجية في زمن رسول الله، وبعده أمير المؤمنين، وبعده الأئمة المعصومين، والأشرف في زماننا هو مهدي هذه الأمة.

فقاعدة الأشرفية تقتضي التنصيب الإلهي وتقتضي الخلافة الربانية بالحكم العقلي.

وهذا استدلال حسن لطيف ويفيدنا على الصعيد العقلي، لكن غرضنا من الاستدلال كان ما يقبله الفريقان، لذلك استدللنا به، يضاف إليه الاستدلال العقلي بمسألة قاعدة الأشرف.

س5/ هو أن ما تفضلتم به أن الذي يدعي المشاهدة فهو كذاب ومفتر، فما المقصود من هذه المشاهدة؟

ص: 87

سيأتي إن شاء الله في المقام الرابع من بحثنا مسألة السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى، وأنه تمت السفارة بعلي بن محمد السمري، وظهر على يده الإعجار وخرج له التوقيع من ناحية الإمام الحجة الذي بيّن فيه أنّ من ادعى المشاهدة فكذبوه.

سنبين هناك إذا تفضل الله علينا أنه ما معنى من ادعى المشاهدة فكذبوه، أولاً، ثم هل تتوافق هذه الفقرة مع المشاهدات التي حصلت بالأعيان من العلماء من الطيبين ومن الأخيار التي أحصيت في الكتب المفصلة؟ وكيف تتلائم هذه الفقرة مع تلك التشرفات؟ نبينها بوجوه ثلاثة يقبلها الجميع إن شاء الله تعالى.

س6/ ما الدليل على بطلان الرأي القائل بأن الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه هو في دور التدريب والتهيؤ في زمان الغيبة الكبرى؟ وما الذي يوجب رفض فكرة التدرج في الكمال للإمام المنتظر؟

ج/ هذا السؤال يشير إلى وجود فكرة تقول بأن الإمام المهدي عليه السلام استمر بقاءه هذا الزمان الطويل وامتدت غيبته لأجل أن يحصل له التدرّج في الكمال، أي أنه خلال فترة الغيبة الطويلة هذه يتدرج في الكمال ليحصل على المرتبة العليا في الكمال.

هذه الفكرة هل هي صحيحة أم لا؟

ص: 88

الظاهر أن الجواب عن هذه الفكرة هو أن الأئمة عليهم السلام بشكل عام _ كما ثبت في كتاب الإمامة وبيّناه في العقائد _ هم المستجمعون لجميع الجهات الكمالية في مرتبة المخلوقات.

صحيح أن كمال الإمام يكثر بعبادته وثوابه بعبادته، إلا أن كماله ودرجته ورتبته محفوظة، يلزم أن يكون الإمام كاملاً من جميع الجهات حتى ينصب إماماً للناس، ليس فيه نقص، أي ليست فيه نقيصة في مرتبة المخلوقية.

ليست في الإمام مرتبة نقص حتى تحتاج إلى مرتبة الكمال.

بقاؤه روحي فداه على أساس هذه الحكم الخمس التي نبينها، وفي ضمن هذا البقاء طبعاً يعبد الله أكثر ويصبر أكثر ويحصل على ثوابات أكثر إلا أن تحصيل الثوابات الأكثر ليس معناه التدرج في الكمال، إنما هو بلغ الغاية العليا من الكمال، والذي يحصل من بقائه هذه المدة الطويلة تكثير الثواب لا البلوغ إلى الكمال الأعلى أو التدرج في الكمال.

إذن مسألة التدرج في الكمال لا تناسب ما يلزم في باب الإمامة من أكملية الإمام من جميع الجهات وعدم النقص فيه من حيث المخلوقية، فهو دون الخالق _ لا شك في ذلك _ وهو غير الخالق وهو أنزل من الخالق، لكن في مرتبة المخلوقية من جميع الجهات ليس فيه أي نقص حتى يحتاج إلى كمال.

ص: 89

لذا نقول في جواب سؤال الأخ حفظه الله بأن الذي يوجب رفض هذه الفكرة _ أي التدرج في الكمال _ أنها تنال من اعتقادنا في الإمامة وأكملية الإمام وعدم نقصه في جهة من الجهات.

س7/ يسأل الأخ بأنه يلاحظ بعض المهتمين بعصر الغيبة يتركون كثيراً من المهام والواجبات الشرعية بذريعة أننا في زمن الظهور، بيد أن الشارع لم يرد للأمة الضعف والهوان في زمن الغيبة بل أوجد لها قوانين وتشريعات تكفل لها سبل التقدم والرقي، فما رأي سماحتكم في هذا التقصير الذي يتخذ من توسيع مفهوم الانتظار غطاءً له؟

ج/ الاهتمام بعصر الغيبة لا شك بأنه اهتمام بأمر جيد، فمن يهتم بعصر الغيبة وبالمهام وبالواجبات لا شك أنه اهتمام جيّد، لكن هذا لا يدعو إلى ترك بعض الواجبات أو ترك بعض الشرعيات أو ترك بعض الأحكام مع أنه قد بُصّرت الأحكام _ جميع الأحكام _ الشرعية في الكتب الأم للشيعة الإمامية، أعني الأصول الاربعمائة التي دونت في زمن الصادقين، أي منذ عهد أمير المؤمنين عليه السلام روحي فداه إلى عهد الإمام العسكري عليه السلام ، فقد دونت جميع الأحكام في هذه الأصول الاربعمائة وصحّحها المعصومون إلى عهد الإمام العسكري، فإن الإمام كان ينظر الكتب الاربعمائة، أو بعضها فيصحّحها.

فوصلت الأحكام لنا إلى زمان الإمام العسكري عليه السلام بواسطة هذه الكتب، فالأحكام وصلت ببركة أهل البيت إلينا.

ص: 90

ثم التوقيعات الصادرة من الإمام المهدي عليه السلام _ 42 توقيعاً _ على تفصيلاتها في زمن الغيبة وصلت إلينا.

ثم إنه ببركة ما نشر من قبل الائمة عليهم السلام: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا)(1) من هذه الجهة لم يحدث نقص في التشريعات والأحكام.

صحيح أنه قد أصابنا النقص بعدم لقائنا بالإمام فقلّ فيضنا بعدم تشرفنا، لكن في الأحكام الشرعية الظاهر أنه لم يحدث نقص ببركة نفس الأئمة المعصومين، وببركة ما تداركه المعصومون، حيث كانوا يعلمون بغيبة الإمام المهدي فبينوا جميع الأحكام الشرعية ودونوها وأمروا بتدوينها واهتموا بتدوينها، في حديث أذكر أن الراوي يذكر في زمن الإمام الرضا: حضرت عند الإمام حدثني بحديث فأخذت القلم لأسجل الحديث، فكان الإمام الرضا هو المقدم الدواة إليّ حتى أكتب أخذت الدواة وقبلت يده.(2)

كانوا يأمرون بتدوين الحديث، لذلك ببركة أهل البيت دونت الأحكام الشرعية ووصلت إلينا، واهتم بها علماؤنا الأبرار رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين، لذلك لم يحدث نقص في الأحكام الشرعية حتى يكون المهتم بعصر الغيبة يسأل هذا السؤال.

ص: 91


1- كمال الدين للصدوق: 484، ح4.
2- انظر الكافي للكليني، ج2: 59، ح9.

فالظاهر إنه _ بعون الله _ من جهة التشريعات ليس هناك نقص حتى يورد الإشكال.

س8/ يتبين من خلال الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الأئمة عليهم السلام أن الله سبحانه وتعالى يريد للإمام المهدي أن يبقى ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وهذا يعني أنه سبحانه وتعالى يحفظه بقدرته وعن طريق الإعجاز، فلماذا هذه الغيبة وهذا الاستتار عن الظالمين؟!

ج/ نقطة لطيفة، والظاهر أن الجواب يكون على هذا الترتيب: أن الإرادة الإلهية بحفظ الإمام المهدي عن طريق الإعجاز أمر ثابت، بل وقع حفظ الإمام المهدي إعجازاً، كما في حديث ينقله كتاب تبصرة الأئمة الميثمي العراقي في أنه رأى الإمام المهدي عند المعتمد العباسي، إلا أنه قبض على يده ولم يتمكن من سل السيف لقتله.(1)

هذا إعجاز، لكن السنة الإلهية لم تستقل على إحداث جميع الأفعال على الإعجاز، وإلا كان المفروض أن النبي يتغلب على المشركين إعجازاً، فلماذا هذه الحروب ولماذا هذه الغزوات ولماذا هذا العناء ولماذا يتحمل من الأذى ما وصفه بقوله: (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت).(2)

ص: 92


1- لاحظ: إلزام الناصب للحائري اليزدي: 1/ 318.
2- الجامع الصغير، ج2: 144، وروي أيضاً بلفظ (ما أوذي أحد... ) انظر كنز العمال، ج3: 130، ح 5818.

فلم تكن السنة الإلهية _ يا خانا العزيز _ على شكل الإعجاز، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى يلزم أن يمتحن الناس (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(1) والامتحان لابدّ أن يكون _ أخي العزيز _ والافتتان في وقت يكون الناس فيه مخيرون في فعلهم حتى يمتحنون، ثم يعرفون نتيجتهم، إذ كيف يعرفون الامتحان لو التزمنا بالنظرية التي تفضلتم بها؟! مع أنها نظرية مليحة وجيدة ولطيفة إلا أنه يلزم منها عدم التعرض إلى الامتحان وعدم الافتتان، وهذا خلاف ما يحدثنا القرآن وما جرت عليه السنة الإلهية.

لذا الجمع بين كلامكم وكلام المعصومين يكون هكذا: أنه حال الإعجاز دون قتله لإظهار إرادته الغامضة أحياناً وتركه إلى الناس امتحاناً، فتارة يمتحن الناس من جهة اختيارهم، وتارة من جهة الإعجاز أما إنّه دائماً يصد عنه القتل إعجازاً، فإن هذا أمر منافٍ لسنة الامتحان وسنة الافتتان التي هي سنة إلهية، فهو سبحانه وتعالى خلقهم ليمتحنهم وخلقهم ليرحمهم ثم يثيبهم ويمتحنهم.

فالامتحان سنة إلهية، وإلا الله يعرف الضمائر، وهو قادر علىجميع الأمور إلا أن الامتحان بما أنه سنة الهية يلزم أن تتحقق، وفي الامتحان يلزم التخيير، إذ لا يمكن أن يكون هناك إجبار وصد إجباري عن قتل الإمام روحي فداه، فإن هذا معنى الإجبار ، والإجبار ليس من فعال الحكمة.

ص: 93


1- العنكبوت (29): 2.

ويكون هذا هو الجواب والجمع بين الأمرين.

س9/ يسأل الأخ هذا السؤال: أنه هل توافقون على الرأي القائل ببعض مشاكل آخر الزمان ، وعدم القدرة على معالجتها؟!

ج/ الظاهر أنه لا بد في غيبة الإمام _ وإن كانت مطابقة للحكمة _ إلا أنه لابدّ من الاعتراف بحصول النقص في زمان الغيبة بعدم التشرف بخدمة الإمام للجميع، إلا أن هذه المشكلة التي تتحدثون عنها غير حاصلة، وحل هذه المشكلة مقدور عليه ما دام يكون في المقام روايات المعصومين المبينة للأحكام، والسادة العلماء المبينون لهذه الأحكام الشريفة.

لذلك المشاكل التي تصفها في سؤالك بحيث توجب العناء، الظاهر أنها لا تحدث من هذه الجهة، والله العالم.

س10/ سيدنا بالنسبة إلى مسألة الانتظار ووجوب الانتظار ومعنى الانتظار، هل هناك روايات تستفاد لتفسير هذه الكلمة غير التفاسير التي يقوم بها المجتهدون من غير المعصومين حول هذه المسألة؟

ثم إنه بالنسبة إلى العلامات الحتمية وغير الحتمية ماهو المقصود من كلمة الحتمية، هل أن المراد أنّها من ناحية الصدور حتمية، أو أنها من ناحية ما يقرب من الوقوع حتمية، أو شيء آخر؟

ج/ السؤال الأول أيها السيد الجليل يجاب بأنه مسألة انتظار الفرج يأتي إن شاء الله عند بياننا للتوقيع الشريف للشيخ المفيد غداً بعون الله، فانتظار الفرج يتبين ببيان معنى الفرج وهو كشف الغمة وكشف الهم، والمصداق الأتم

ص: 94

للفرج هو ظهور الإمام عليه السلام الذي تنتهي به جميع المشاكل وتقضى به جميع الحاجات وينال به جميع الآمال.

هذا هو الفرج الأكمل الذي يوجب على المنتظر التهيؤ لهذا الأمر، أي التهيؤ لظهور الإمام المهدي عليه السلام فيكون المنتظر عوناً له ويكون ناصراً له ويكون من شيعته، وهذا يلزم ويقتضي أن يكون الشخص المنتظر مهيئاً لنفسه، فإن من ينتظر صديقاً يتهيأ بما يناسب مقام ذلك الصديق، والذي ينتظر الإمام المعصوم حتماً يكون مهيئاً لنفسه ومهيئاً لأخلاقه ومهيئاً لدينه ومهيئاً لروحياته، كي يكون قابلاً لصحبة الإمام المهدي عجل الله فرجه.

فالانتظار معناه انتظار فرج الإمام وكشف الغمة بظهور الإمام عليه السلام ، ويكون الانتظار بمعنى الاهتمام، وأن يكون المكلف مهيئاً لنفسه بشكل يكون مستعداً، بحيث لو خرج غداً الإمام المهدي روحي فداه يكون ذا قابلية ليصبح من أنصاره، فهو انتظار بشكل أن يكون منتظراً مع القابلية.

ونبين معنى الانتظار إن شاء الله بمعان ثلاثة في توقيع الإمام للشيخ المفيد إن شاء الله.

وبالنسبة إلى السؤال الثاني، مسألة العلائم الحتمية والغير حتمية، كذلك تأتي إن شاء الله وبعون الله تعالى في الموضوع الخامس: الظهور والقيام المبارك، فإن ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه له علائم في مراحل ثلاثة: المرحلة الأخيرة العلائم المقارنة للظهور وتحدث في سنة الظهور أو قريب

ص: 95

منها، وهذه العلائم تكون بعضها حتمية وهي خمسة، وبعضها غير حتمية وهي سبعة.

ومعنى التحتم ليس من جهة الصدور، بل معنى حتمية أنها تقع جزماً وقطعاً بحيث لا يحصل فيها بداء، أي يكون وقوع هذه العلائم قطعياً، فالتحتم بمعنى القطع وليس فيها بداء ولا تتغير ولا يمكن أن لا تقع، بل هي تقع واقعاً وحتماً، وهي علائم خمس إن شاء الله نذكرها ونذكر الروايات المتواترة في بيانها بعون الله.

نذكرها مفصلاً إن شاء الله في الموضوع الخامس _ ظهور الإمام المهدي والقيام المبارك _ بعون الله تعالى.

س11/ ماذا تقولون في دعاء الندبة؟ ألا تجدون فيه مخالفة لبعض الثوابت، واعتراضاً على ما قدّر الله تعالى من غيبة الإمام؟!

ج/ دعاء الندبة هو دعاء مأثور وموجود بسند صحيح في كتاب مزار ابن المشهدي المعتبر، وسنذكر بعونه تعالى توثيق سنده.

وهو معين لأوقات محدودة، وهي الأعياد الأربعة، التي هي الفطر والأضحى والغدير والجمعة، فلا يمكن قراءته أصولاً وتعبداً في غير هذه الأيام إلاّ رجاءً للمطوبية، فلا بأس بقراءة هذا الدعاء بنية الورود في هذه الأوقات المحددة، وبنية الرجاء في سائر الأيام، والله العالم.

وسنذكر أن دعاء الندبة الشريف في جميع فقراته مناسب للقرآن الكريم وموافق للأحاديث المتواترة، وكذلك مناسب للفطرة السليمة.

ص: 96

من جملة الأمور الفطرية مسألة إظهار الحب للإمام عليه السلام ، فمن المستحبات أن يتحبب الإنسان ويظهر حبه للإمام المهدي عليه السلام.

مما يظهر ويبرز الحب هذه الفقرة الشريفة: (إلى متى أحار فيك يا مولاي) محبوب عزيز، كم شخص عليكم عزيز، كيف تبرزون له الحب؟ بهذه الكلمات. هذه من موارد وفقرات وكلمات إبراز الحب الذي هو تحبيب وابراز مستحب للإمام المهدي عليه السلام.

(إلى متى أحار فيك يا مولاي وإلى متى) يعني أحبك كثيراً، يعني يضيق صدري بفراقك، يعني لا أتحمل فراقك، لا اعتراض عليه، وإلا حاشى لصاحب الدعاء أن يبين الاعتراض، فهو عنده تسليم لأمر الله وتسليم لما أراده الله، ومسألة الإحارة في هذه الفقرة الشريفة هي إبراز للحب، وليس باعتراض أبداً لذا لا يعتريها مشكلة شرعية بأي وجه أبداً.

س12/ يسأل الاخ أنه ما هي العلائم الحتمية الغير واقعة؟ يعني التي لم تقع لحد الآن.

ج/ إن العلائم الحتمية _ كما أشرنا ونبين تفصيلاً _ بالنسبة إلى ظهور الإمام المهدي عليه السلام تقع في سنة الظهور أو ما يقاربها.

وأما العلائم قبل الظهور فبعضها علائم مقاربة للظهور وبعضها علائم لزمان الغيبة وليس علائم الظهور، مثلاً (ترى النساء كاسيات عاريات)، هذه ليس من علائم لظهور الإمام عليه السلام بل علائم الغيبة، بلى كسوف

ص: 97

الشمس في وقت غير وقته المناسب وخسوف القمر في وقت غير مناسب هذه علائم قريبة إلى الظهور.

بعض العلائم القريبة إلى الظهور لم تحدث، أو بالأحرى لم نعرفها صحيحاً قريبة إلى الظهور.

وأما العلائم، فلو قصد الأخ العزيز علائم زمان الظهور فوقع بعضها، والعلائم الحتمية التي تقصدها _ علائم ظهور الإمام عليه السلام لم تقع منها قط، والعلائم التي تقريباً قريب الظهور لم نعلم بها كذلك.

وأما العلائم التي تكون حتمية وتكون في زمان الغيبة فقد وقع بعضها وبعضها لم يقع لحد الآن، لذا سؤال الأخ ما هي العلائم الحتمية الغير واقعة لحد الآن، يمكن فقط جوابه بالنسبة إلى علامات الغيبة، نشير إليها إن شاء الله في رواية الشيخ المفيد في كتاب الإرشاد، نبينه بعون الله تفصيلاً مع انتظاركم بعون الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

ص: 98

المحاضرة الثالثة: منافع وجود الإمام عليه السلام وحكمة الغيبة

اشارة

ص: 99

ص: 100

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أحبِّ خلقه وسيد بريته سيدنا ومولانا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين المنتجبين الغرِّ الميامين, لا سيما بقية الله في الأرضين الحجة ابن الحسن المهدي أرواحنا فداه.

واللعنة الدائمة على أعدائهم وظالميهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم وجاحدي حقوقهم قاطبة من الجن والإنس إلى يوم الدين..آمين يا ربَّ العالمين.

انتهى بنا موضوع البحث, الموضوع الثاني في غيبة الإمام المهدي أرواحنا فداه والحكمة فيها، وقدمنا بأن الحكم المستفادة من الأدلة الشريفة والتي يعاضدها العقل هي خمس حكم:

الحكمة الأولى:

الحكمة الأولى لغيبة الإمام أرواحنا فداه هي التحذر على نفسه ودفع خطر القتل بواسطة الغيبة.

ص: 101

والتحذر بالغيبة مستفاد من الروايات الشريفة، بل هو أمر عقلي عرفي كما بيناه مفصلاً، ولكن بعد قبول أن الغيبة كانت لأجل التحذر بالغيبة.

وقلنا بأن هناك تساؤلات في مسألة الغيبة وانتهت الأسئلة إلى السؤال الأخير وهو: ما فائدة الإمام عليه السلام في غيبته إذا كان غائباً؟ وكيف ينتفع به الناس؟

قلنا: إن هناك فوائد جمّة في مسألة الإمام عليه السلام ووجوده وإن كان غائباً, ومن تلك الفوائد التي يساعد عليها الدليل قلنا:

الفائدة الأولى:

إن نفس وجود الإمام روحي فداه موضوع لحصول المعرفة والإيمان، فإن من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.

الفائدة الثانية:

إن وجود الإمام روحي فداه وجود للحجة الإلهية والبينة الربانية، ولولا الحجة لساخت الأرض بأهلها.

الفائدة الثالثة:

التي تعرضنا إليها إشارة إلى أن الإمام عليه السلام مركز الأمور الكونية وواسطة للفيوضات الإلهية والمقدمات الإلهية، واستدللنا بالآية الشريفة في سورة القدر (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)(1)، قلنا بأن صيغة التنزل صيغة مضارعة تفيد الاستمرار، أي كلما كانت ليلة القدر نزلت الملائكة

ص: 102


1- القدر (97): 4.

وروح القدس, بأي شيء نزلت ؟ نزلت بإذن الله من كل أمر من الأمور المقدرة للخلق وللموجودات، من كل أمر _ كل أداة تعميم _ والأمر شيء منكر يفيد العموم، نزلت بكل الأمور, بلّغت جميع الأمور, أخبرت بجميع الأمور.

لمن تخبر؟ الجواب: ألا إنها تخبر الرسول صلى الله عليه وآله في حين وجوده، ولكن بعد شهادة رسول الله من تخبر؟ يلزم أن تخبر الإمام روحي فداه, تخبر وصيه, تخبر الأئمة الذين هم خلفاء الله وخلفاء الرسول، وإلاّ لكان نزول الملائكة بالوحي نزول بالأخبار والمقدرات بدون داعٍ, لغواً وعبثاً، تنزل الملائكة وتخبر, من تخبر؟ هل تخبر الهواء؟ لا يمكن ذلك، إلاّ إذا كان المفروض الن-زول والصعود، فليحفظ في اللوح المحفوظ.

إذن هي تن-زل بالأخبار وبالمقدرات كما كانت تنزل على الرسول صلى الله عليه وآله كذلك تنزل على الإمام، وليس هناك مهبط إلا أئمة أهل البيت أرواحنا فداهم.

إذن وجوده استمرار لن-زول المقدرات الكونية، لذلك لو رفعت ليلة القدر لساخت الأرض، أي لارتفعت الأرض ولم تبقَ الدنيا لحظة واحدة, هذه المقدرات لم تُقدر ولم تنزل لولا وجود الإمام أرواحنا فداه، ليكون واسطة لبيان المقدرات ولتقيم المقدرات لهبوط الملائكة بالمقدرات لجميع الموجودات وفي كل أمر.

وهذه أكبر فائدة، وهي فائدة عظمى لا يمكن استبدالها والاستغناء عنها.

ص: 103

ولزيادة هذه الأمور من جهة بعض الروايات الشريفة التي تؤيد هذا المعنى بل تصرّح بهذا المعنى, ولعلّ ممّا يدل على أن جميع المقدرات تنزل على أهل البيت أرواحنا فداهم الزيارة المطلقة الحسينية الأولى، التي هي من أصح الزيارات، يكتفي بها الصدوق في الفقيه(1)، ويذكرها الكليني أعلى مقامه في مقام بيان كيفية زيارة الإمام الحسين(2) عليه السلام ورواتها جميعهم أجلاء والراوي الأخير المباشر عن الإمام جماعة من الفقهاء هم: الحسين بن ثويب بن أبي فاختة والمفضل الجعفي ويونس بن عبد الرحمن يروون كلهم:

وكان المتكلم منا يونس فسأل أبا عبد الله عليه السلام: أريد زيارة الحسين فكيف أزور؟ وكيف أصنع ؟ قال عليه السلام: ائت شاطئ الفرات واغتسل والبس أنظف ثيابك ثم امش بطمأنينة ووقار وسبح الله، فإذا وصلت إلى قبر الحسين عليه السلام فكبر ثلاثين مرة ثم قل:

السلام عليك يا حجة الله وابن حجته.. إلى هذه الفقرة التي هي محل الشاهد.. بكم يمحو ما يشاء وبكم يثبت وبكم يفك الذل من رقابنا وبكم يدرك الله ترة كل مؤمن وبكم تنبت الأرض أشجارها وبكم تخرج الأشجار أثمارها وبكم تنزل السماء قطرها وبكم يكشف الله الكرب وبكم ين-زل الله الغيث وبكم تسيخ _ يعني تستقر _ الأرض التي تحمل أبدانكم وتستقر جبالها, إرادة الرب..

ص: 104


1- من لا يحضره الفقيه: 2/ 594 الحديث 3199.
2- الكافي: 4/ 575 الحديث 2.

والمقصود بهذه الكلمة العظيمة (إرادة الرب) إرادة رب العالمين في مقادير أموره, جميع ما يقدر من جميع أمور الله، لا أمر واحد، وإنما بصيغة الجمع.. في جميع أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم لا محيص عن هذا النزول والهبوط، تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم.

إذن فمحل الإرادات ومحل التقادير الإلهية هم أهل البيت، والذين الآن خاتمهم الإمام المهدي أرواحنا فداه، لذلك وجوده وجود ضروري أكيد وحتمي لا يمكن أن يستغنى عنه، فكيف يقال ما فائدة إمام غائب؟

الفائدة الرابعة:

أن الإمام عليه السلام حتى إذا كان غائباً له مقام الشاهدية يشهد على الخلق، لأن من عدالة الله سبحانه وتعالى، كما ثبت في باب التوحيد، أنه إنما يجازي مع الشهادة، وإنما يجازي مع الأشهاد الذين يشهدون بذنب شخص فيعاقبه، ويشهدون بحسن أعمال شخص فيثيبه, كل هذا حسب العدالة وبحسب الشهادة وبحسب الإخبار القطعي في الآية الشريفة (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(1)، أنتم يا أهل البيت شهداء على الناس والرسول شهيد عليكم.

ص: 105


1- البقرة (2): 143.

فلولا الأئمة ولولا وجود الإمام الغائب من يشهد عند الله في المحكمة الإلهية في زمان الإمام الحجة روحي فداه؟ إذن وجوده ضروري لشهادته يوم القيامة بتنصيص الكتاب.

الفائدة الخامسة:

إن وجوده فينا هو طمأنينة للقلوب واستقرار, لأن وجوده كوجود رسول الله روحي فداه، ألا تلاحظون في كتب السير العامة والخاصة ينقل عن الصحابة أنهم كانوا يقولون: (كنا نلتجئ برسول الله إذا اشتد البأس والحرب وهو أقربنا إلى العدو؟).(1)

فالنفس تطمئن ووجود الرسول وجود يغني عن أي شيء وعن أي حاجة ويوجب الاطمئنان للقلب والاستقرار للنفس, وجوده كافي الاستقرار والاطمئنان.

والإمام كالرسول في جميع الخصوصيات إلا مسألة الرسالة، لذلك وجود الإمام بنفسه قوة للقلب فإذا كان إحساسنا بأن الإمام موجود وإن كان غائباً نستقر بأن العذاب مرفوع عنا وأن الرحمة نازلة بنا، ووجوده يكون موجباً إلى الاطمئنان، لذلك جاء في الحديث الرضوي الشريف أن الإمام هو مفزع العباد في الداهية النادّ(2)، أي العظيمة, فوجوده يوجب الاطمئنان وإن كان غائباً.

ص: 106


1- المصنف لابن أبي شيبة ج7 ص578 ب 13 ح1، كنز العمال للمتقي الهندي ج10 ص397 ح 29943.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 25 ص131.

الفائدة السادسة:

إن الإمام أرواحنا فداه له اللطف ولوجوده اللطف, وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر, نفس الوجود لطف من الله تعالى لأنه يمد الخلق ولأنه يعين الخلق والمخلوقات والموجودات, فكم يعين المحتاجين ويعرف الضالين وينجي المؤمنين ألا تلاحظون كم من مريض قد شفي ببركة الحجة روحي فداه؟ وكم من عطشان قد أرواه؟ وكم من مضطر قد نجا في المهلكات؟ وكم من شخص ضالٍّ في الطريق قد هداه؟ وعاجز قد أغناه؟ فوجوده لطف على العباد وإن كان غائباً وغير مرئي.

الفائدة السابعة:

هي الفائدة التي بيّنها الرسول الأعظم والإمام الصادق وكذلك الإمام المهدي في بعض التوقيعات، وهي أن وجوده كالشمس التي غيبتها السحب, (كالشمس إذا جللّتها السحب) وهذا وجود مفيد كوجود الشمس.

وهذا تشبيه لطيف من التشبيهات اللطيفة، بل من ألطف وأحسن أنواع التشبيه, تشبيه بالشمس المجلّلة بالسحاب في رواية الرسول الأعظم وفي حديث الإمام الصادق وفي حديث التوقيع، كلها مذكورة في كمال الدين حيث سئل الرسول صلى الله عليه وآله: كيف ينتفع بالإمام في غيبته؟

ص: 107

فقال: والذي بعثني بالنبوة إنهم ليستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها سحاب.(1)

وكذلك في الحديث الصادقي: ينتفعون به كانتفاعهم بالشمس إذا سترها السحاب.(2)

وفي التوقيع الشريف: الانتفاع بي في غيبتي كالانتفاع بالشمس إذا غيبتها عن الأبصار السحاب.(3)

وهو من أجمل أنواع التشبيه, تعرفون أن للشمس الدور القيادي في جميع المنظومة الشمسية وفي جميع الكواكب الكونية، ولولا الشمس ولولا جاذبية الشمس لاختلّت جميع حركاتها، فالشمس كأنها قائد للكواكب له الدور القيادي في تنظيم الكواكب, وكذلك وجود الإمام الحجة له الدور القيادي في جميع الموجودات ولولاه لساخت الأرض بأهلها.

وكذلك من حيث الاستفادة بالضوء كنور الشمس وينتفع به ولو كان خلف السحاب, وجميع الموجودات شجرها وإنسانها ونباتها وأرضها, الجميع يستفيدون بنور الشمس كل بقدر ما يحتاج وإن كان خلف السحاب، إنه ينوّر العالم بوجوده ولولاه لا ظلمّت الدنيا ولولاه لما كانت الدنيا مضيئة ولما كانت مستقرّة ولما سكن إليها أحد, وجوده ينير الدنيا ويضيء القلب روحي فداه.

ص: 108


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 253 الحديث 3 من الباب 23.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 207 الحديث 22 من الباب 21.
3- إكمال الدين وإتمام النعمة: 483 الحديث 4 من الباب 45.

إضافة إلى أن التعبير بالتجليل (يجلّلها السحاب)، في اللغة العربية: السحاب قسموه إلى أقسام: السحاب الممطر والسحاب المجلل، وعند صاحب مجمع البحرين(1) أعلى الله مقامه يبين ما مضمونه السحاب المجلّل: هو السحاب الذي يجلل الأرض ويعمها بمطره كأنه المطر الذي يعم, ويسمى مجلل السحاب الذي له مطر يعم وإن كان مستوراً وإن كان غير مرئي لانه مستور مع عموم خيره لجميع الموجودات كالمطرالذي يصيب الغث والسمين ويصيب من ينتفع به من جميع الموجودات.

إذن فالانتفاع بالإمام المهدي بتنصيص الرسول والأئمة أرواحنا فداهم كالانتفاع بالشمس، وهل يستغني الناس عن الشمس؟ بالله عليكم ممكن إذا سرمد الليل هل يكون للناس حياة في هذه الدنيا؟! وكذلك يكون الاحتياج إلى الإمام روحي فداه.

الفائدة الثامنة:

وهي الأخيرة، المستفادة أيضاً من الروايات أن وجوده روحي فداه رعاية للشيعة، دعاء للشيعة، بوجوده ينتفعون وبدعائه الذي يستجاب ولا يرد عن ربِّ العالمين، كما بينه هو روحي فداه في رسالتيه إلى الشيخ الأعظم المفيد أعلى الله مقامه.

ص: 109


1- مجمع البحرين للطريحي: 1/ 389.

هناك رسالتان يذكرهما الطبرسي أعلى الله مقامه في الاحتجاج(1) تلقاهما الشيخ الأعظم المفيد من الإمام الحجة من الناحية المقدسة, في الرسالة الأولى هذا بعض النص أبينه لخدمتكم:

(نحن وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين فإنا نحيط علماً بأنبائكم _ انباؤكم أمام عيني أراها وأحيط بها علماً _ ولا يعزب عنا شيء من أخباركم.. إلى أن يقول: إنا غير مهملين لمراعاتكم _ بأبي وأمي يراعي جميع شيعته _ إنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء _ اللأواء يعني الشدة والضيق _ واصطلمكم الأعداء _ وجوده بهذه المثابة وجود للمراعاة, مراعاة الشيعة ورعاية الشيعة _ ثم يقول عليه السلام: فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب من محبتنا ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة وفجأة حين لا تنفعه توبة).

وبيّن في الرسالة الثانية:

(إننا من وراء حفظهم _ يعني الشيعة _ بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فلتطمئن بذلك من أوليائنا القلوب وليتقوا بالكفاية منه).

ص: 110


1- الاحتجاج للشيخ الطبرسي: 2/ 322.

يدعو للشيعة، رعاية للشيعة، وجميع الأعمال، وجميع الأفعال تكون بمنظره، في بعض الروايات أنه تعرض عليه الأعمال, إذا كان _ والعياذ بالله _ قد عصى الشيعي يستغفر له, وإن كان قد أحسن يطلب له الجزاء ويطلب له العمل أكثر.(1)

لذلك فوجود الإمام روحي فداه وجود مفيد للشيعة بالمراعاة وبالدعاء, ذلك الدعاء الذي يكون مستجاباً قطعاً عند الله.

هذه فوائد ثمانية تستفاد من الأدلة، ويؤيدها العقل، لأنها من الأدلة القطعية، وعلى ضوء ذلك فوجود الإمام الغائب وإن كان غائباً مازال ينتفع به بهذه الفوائد الجمة فلا ضير في غيبته إذا كانت الغيبة للتحذر ولحفظ النفس بالتحذر, وهذه هي الحكمة الأولى منها.

الحكمة الثانية: تمييز المؤمنين

و أما الحكمة الثانية، فكما كانت الحكمة الاولى من شأن الإمام ومن حيث الإمام ومن جانب الإمام، فالحكمة الثانية من جانب الناس ومن جانب الخلق.

الحكمة الثانية لغيبة الإمام روحي فداه وطول غيبته هي تمييز المؤمنين وخروج ما في الأصلاب, وأنتم تعرفون أن ظهور الإمام روحي فداه يكون

ص: 111


1- التبيان للشيخ الطوسي ج 5 ص 295، وتفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي ج2 ص 93.

ظهوراً على جميع الكرة الأرضية (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(1) لذلك يكون إصلاحه إصلاحاً كونياً، أي يصلح جميع ما في الكون ومن في الكون، وهناك في الكون كافرون وفي أصلابهم مؤمنون، ومؤمنون وفي أصلابهم كفار, فيلزم التمييز ويلزم أن يكون الكافر مميزاً عن المؤمن خارجاً من صلبه، وكذلك المؤمن خارجاً من صلب الكافر، حتى لا يحترق أحدهما بذنب الآخر، وحتى لا يجزى أحدهما بذنب الآخر، ويلاقي كل واحد منهم جزاء عمله.

بالنسبة إلى الإصلاح المأمول من الإمام المهدي أرواحنا فداه هو نظير الإصلاح الذي كان بالنسبة إلى نوح عليه السلام ، فكما أن نوح بعد دعوته 950 عاماً وبعد أن رأى أن دعوته لم تؤثر في أكثر من السبعين كان المقرر نزول العذاب الإلهي، إنما نزل العذاب بعد أن تميز وحصل التمييز وحصل التزيّل _ يسمّى بالتزيل يزول المؤمن عن الكافر والكافر عن المؤمن _ حصل التزيل ثم نزل العذاب، لذلك في الآية الشريفة تبين على لسان نوح: (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً).(2)

الولادات انتهت والتميز صفا في الأصلاب, إنما كان الكافر بحدّ ذاته وليس في صلبه مؤمن, والمؤمن ليس في صلبه كافر, هنالك حينما تميزوا

ص: 112


1- التوبة (9): 33.
2- نوح (71): 26- 27.

يلاقي كل واحد جزاء عمله، وهذه سنّة إلهية موافقة للعدالة الإلهية، فإذا كان الكافر في صلبه مؤمن ويقتل على يد الإمام الحجة أو بيد أعوانه هذا خلاف العدالة.

يلزم أن يحصل التميز ويحصل التزيل ويكون الكفار في جهة والمؤمنون في جهة أخرى. ثم إن لم يؤمن الكفار لاقوا جزاءهم، فقد يقتل المؤمن في صلب الكافر وهذا خلاف العدالة ولم يكن من سنة الله في الأنبياء الماضين ولا في الأئمة عليهم السلام.

لذلك مسألة التزيل ومسألة التميز من الأمور التي تدعو إلى غيبة الإمام إلى أن يتزايل المؤمن من الكافر ويخرج المؤمن من صلب الكافر، يخرج الطيب من الخبيث ويخرج الخبيث من الطيب.

وهذه في جميع الأزمان موجودة, أنه هناك أسلاف مؤمنون في أصلابهم كفار، وهناك أسلاف كفار في أصلابهم مؤمنون, ولا يمكن أن يؤخذ أحد بذنب الآخر، لذلك يلزم التزيل، والشاهد على ذلك أدلة كثيرة وشواهد وجدانية وفيرة، ومن باب المثال نمثّل بموردين:

الحجاج الثقفي عليه اللعنة والعذاب ممن تعرفونه جميعاً أنه سفاك قتال لشيعة أمير المؤمنين، يأخذ الشيعة على الظن والتهمة لولائهم لعلي عليه السلام ، ولكن جعل الله في صلبه حفيداً من مخلصي أمير المؤمنين ومن مجيدي الشعر في أمير المؤمنين ومن المتفانين في علي بن أبي طالب، على خلاف جده الحجاج، وهو الحسين بن أحمد بن الحجاج, من شعراء الغدير، فإذا كان

ص: 113

مثل هكذا شخص في صلب هكذا شخص ويقتل في زمن الإمام أليس هذا جفاء يقيناً؟

الحسين بن أحمد بن الحجاج لاحظوا شخصيته، حيث ينقل المرحوم المحدّث القمي _ أعلى الله مقامه _ أنه حينما توفي كان قد أوصى أولاً ادفنوني عند قبر موسى بن جعفر عند رجليه واكتبوا على القبر (وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)(1) وفي أشعاره لأمير المؤمنين أرواحنا فداه شعر عجيبٌ في الولاء، وفائيته المعروفة التي ينقلها صاحب الغدير أعلى الله مقامه, قطعة من الشعر موشحة بالآيات القرآنية, بمعنى أن الآيات ضمن صياغتها الشعرية, ومنها:

يا صاحب القبّة البيضاء في النجف *** من زار قبرك واستشفى لديك شفي

إني أتيتك يا مولاي من بلدي *** مستمسكاً من حبال الحق بالطرف

لأنك العروة الوثقى فمن علقت *** بها يداه فلن يشقى ولن يخف

وإن أسمائك الحسنى إذا تليت *** على مريضٍ شفي من سقمه الدنف(2)

إلى بقية الأشعار وفيها معاني الآيات القرآنية والروايات النبوية الشريفة.

فهكذا شخصية أليس لو ذهب جفاءً من ضمن الحجاج كان ذلك من الظلم على هذا الشخص؟

ص: 114


1- الكهف (18): 18.
2- كتاب الغدير للأميني: 4/ 88.

وفي ذهني ما ينقله العلامة الأميني أعلى الله مقامه في هذا الشخص, ينقل أنه بلغ من المفاخر والمآثر، وأنه كانت له المكارم في ولاية أهل البيت، وينقل الشيخ الأميني أعلى الله مقامه في كتاب: الدر النضيد في مراثي الإمام الشهيد، أو في تعازي الإمام الشهيد, يقول: إنه كان هناك شخصان صالحان في زمن ابن الحجاج أحدهما محمد السبيتي, والآخر علي السرائي, كان هذان الشخصان الصالحان على صلاحهما يزدريان بابن الحجاج ويعيبان عليه وإن كان شعره من الشعر الراقي، ولكن لعل ذلك من جهة جده الحجاج, رأى أحدهما في المنام أنه تشرف بخدمة الإمام الحسين عليه السلام رأى نفسه في عالم المنام في حرم الحسين عليه السلام هو وصديقه والصديقة الزهراء عليها السلام في الحرم الشريف وأمامها أولادها الكرام أرواحنا فداهم، وبينما هو في هذه الحالة دخل ابن الحجاج يقول هذا الصالح: قلت لأخي الصالح الآخر: أنا لا أحب ابن الحجاج وأخذت أريد أن أزدريه كما كنت أزدريه في عالم اليقظة _ أنا لا أحب ابن الحجاج _ مجرد أن تكلمت بهذه الكلمة سمعت الزهراء عليها السلام قالت: إن من لا يحب ابن الحجاج فليس من شيعتنا, ثم قال الأئمة بعد قول أمهم الزهراء روحي فداها: من لا يحب ابن الحجاج فليس بمؤمن, يقول هذا الصالح: ففزعت من نومي مرعوباً كيف هذه الرؤيا وأنا أكون من القادحين في هذا الشخص؟ فصممت أن أزور الحسين روحي فداه للاعتذار وقلت: أنا أذهب إلى الحرم في ذلك الموضع الذي سمعت الزهراء وأعتذر منهم, خرجت من البيت وأسرعت في المسير

ص: 115

إلى كربلاء ثم إنه في الطريق لاقيت هناك جماعة في قافلة وأحدهم ينشدهم شعر ابن الحجاج, فأسرعت إلى القافلة ورأيت أن ذلك الصديق ينشدهم شعر ابن الحجاج, فقلت له: ما حدا مما بدا ؟, كنا نقدح أنا وأنت ابن الحجاج والآن تقرأ أشعاره؟ قال: لا تلمني يا أخ رأيت البارحة في المنام الزهراء فقص لي عينَ الرؤيا التي رأيتها أنا في المنام، فعلمت أنها رؤيا صادقة.

يقول الشيخ الأميني أعلى الله مقامه: تبين أنه ممن نال في الولاية أعلى المراتب والدرجات بحيث كانت له هذه المكرمات.

فمثل هكذا شخص يكون في صلب الحجاج، وإذا كان من هذا القبيل وهذا النمط في زمن الإمام الحجة، أليس من الأصلح ومن الموافق للعدالة الإلهية أن يخرج من الصلب؟

التزيل والتميز في الأصلاب لازم ومطابق للعدالة الإلهية، لذلك تطول الغيبة، فيغيب لأجل التزيل وتطول الغيبة إلى أن يحصل التزيل الكامل.

وكذلك النموذج الآخر، وهو محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك عليه اللعنة، والسندي يهودي حقود عدو لدود للأئمة تعرفونه جيداً، لكن له حفيد يقول عنه ابن شهر آشوب في معالم العلماء أنه كان من مجاهري الشعراء لأمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام(1)، فالأب يقتل موسى بن جعفر والابن يرثي موسى بن جعفر.

ص: 116


1- معالم العلماء لابن شهر آشوب: 183.

إذا كانت هذه المثابة وهذه الكيفية بالنسبة إلى الأصلاب لذلك يلزم أن يخرج ما في صلب الكافر من المؤمنين ويمتحن ما في صلب المؤمن من الكافرين ثم يظهر الإمام، حتى يلاقي كل شخص جزاءه على هذا التميز, إذا خلت أصلاب الكفار من الذرية المؤمنة فلابد من خروج الصالح، وعند ذلك يظهر الإمام الحجة روحي فداه.

وهذا المعنى يستفاد من الأحاديث الشريفة، ومن جملتها:

حديث منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام قال روحي فداه: إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد أياس، لا والله حتى تميزوا.(1)

التميز لازم، لا يأتي إلا بعد التميز.

وكذلك في الحديث الآخر عن محمد بن منصور عن أبيه قال: هيهات هيهات، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تغربلوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تميزوا.(2)

فالتميز لازم.

وكذلك في كلام أمير المؤمنين أرواحنا فداه قال: وكذلك المهدي منا أهل البيت لا يظهر أبداً حتى تظهر ودائع الله، فإذا ظهرت ظهر على من ظهر.(3)

لا يظهر حتى تظهر الودائع.

ص: 117


1- بحار الأنوار: 52/ 111 الباب 21 الحديث 20.
2- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 335، ح 281، والحديث عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، ولفظه: (أيهات، أيهات... )، بدل: هيهات...
3- كمال الدين للصدوق: 641، ولفظه: (...وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتى تظهر ودائع الله عز وجل، فإذا ظهرت ظهر على من يظهر فقتله).

إذن فالتميز من الأمور اللازمة والموافقة للعدالة الإلهية.

فالوجه الثاني أوالحكمة الثانية لغيبة الإمام الحجة أرواحنا فداه مسألة التميز وخروج ما في الأصلاب حتى يلاقي كل واحد ما يكون جزاؤه بحسب عمله وبحسب عقيدته وبحسب ما يختاره من الإيمان أو الكفر.

الحكمة الثالثة: استقلاله عن البيعة للظالمين

الله الله.. نعرف من مراجعة التأريخ والروايات, أن الأئمة عليهم السلام كانوا يجبرون وبالقهر والغلبة على أن يبايعوا _ ظاهرياً _ سلطان زمانهم، وتؤخذ منهم البيعة قهراً, أخذت البيعة من بعض الأئمة قهراً وإن كانت البيعة للامام على الناس, لكن بيعة قهرية تؤخذ من الإمام لبعض الظالمين.

فلأجل أن لا يكون مأخوذاً بالبيعة، وإن كانت ظاهرية، وإن كانت جبرية وإجبارية للظالمين فينقض هذه البيعة، وإن كانت بيعة ظالمة وإجبارية، إلا أنه يعاب عليه نقضها, (والإيمان قيد الفتك).(1)

فإذا بايع الإمام لا ينقض وإن كان الطرف المقابل كافراً وظالماً, هذه سجية الإيمان وهذه من أمور الإيمان ومن حقائق الإيمان.

فلأجل أن لا يجبر على البيعة غاب, وقد كانت هذه البيعة بالنسبة لبعض الأئمة عليهم السلام كما تعلمون.

ص: 118


1- الكافي للكليني، ج7: 375، ح 16.

ويستفاد هذا الوجه وهذه الحكمة من كثير من الأحاديث الشريفة، نختار منها ثلاثة:

حديث أبي سعيد عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام جاء فيه: أما علمتم أنه ما منّا أحد إلا ويقع في عنقه البيعة لطاغية زمانه، إلا القائم الذي يصلي روح الله عيسى بن مريم خلفه، فإنّ الله عزوجل يخفي ولادته ويغيّب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج.(1)

وكذلك حديث أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال: صاحب هذا الأمر تعمى ولادته على الخلق لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج.(2)

وحديث جميل بن صالح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يبعث المهدي وليس في عنقه لأحد بيعة.(3) إلى آخر الأحاديث التي منها هذه الثلاثة.

لذلك فمسألة البيعة الإجبارية وأخذ البيعة إجباراً تدعو إلى أن يغيب الإمام حتى لاتؤخذ منه البيعة التي أخذت من آبائه الكرام عليهم السلام.

وبعض الأعاظم الذين يُعتنى بقولهم _ وإن كان ليس لهذا الوجه دليلاً روائياً لأنه دليل ذوقي أو دليل من بعض ما يستفاد من الآيات الشريفة _ أفاد بعض الأعاظم بأنه لا لأجل أن لا تكون عليه بيعة فحسب بل لا يكون لأحد من الظالمين حق عليه.

ص: 119


1- إكمال الدين وإتمام النعمة للصدوق: 316، ب 29، ح 2.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 479، ب44، ح1.
3- الإمامة والتبصرة: 116 الحديث 106، إكمال الدين وإتمام النعمة: 480 الحديث 2 من باب 44.

فإذا كان هناك ظالم والإمام ظاهر ولذلك الظالم حق على الإمام فهو أخلاقياً يكون مجبراً على رعاية الحق, وأخلاقياً يكون مجبراً على أدائه بالجميل، وهذا المن موجود في الطبيعة البشرية، بل موجود في الظالمين.

لذلك تحذراً عن هذا الحق ومراعاة لهكذا جميل غاب لئلا يكون لأحد من الظالمين حق عليه فيمنّ على الإمام روحي فداه كما منّ فرعون، وتلاحظون في قضية فرعون بالنسبة إلى موسى _ على نبينا وآله وعليه السلام _ (قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)(1) منَّ على موسى وهذا المنّ لا يليق بالامام روحي فداه لذلك بما انه لاتكون للامام بيعة ولامنّ من الظالمين كان من الحسن ومن الحكمة أن يغيب حتى يكون خالياً من هذا المنّ أو من البيعة أو الاشياء التي لا تناسب مقامه عليه السلام.

الحكمة الرابعة: الامتحان

سنة الله تعالى في امتحان خلقه بالغيبة (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)) الامتحان _ اعزائي _ من الأمور التي تكون لجميع الموجودات, لجميع الموجودات البشرية, الامتحان شيء مفروض, الافتتان شيء مفروض وسنة إلهية ومما يفتتن ويمتحن به الانسان: غيبة إمامه غيبة نبيه يلاحظ أنه إذا كان نبيه غائباً, هل يكون باقياً على إيمانه؟ هل يطيعه؟

ص: 120


1- الشعراء (26): 18.
2- العنكبوت (29): 2.

هل لا يكون مجتنباً عن معصيته؟ هل يبقى على الايمان به؟ من الامور التي يمتحن بها الخلق غيبة نبيهم وإمامهم وهذه سنة جارية في الانبياء وجرت في النبي الاعظم وتجري في الائمة للامتحان, امتحان الخلق بهذه الغيبة.

ويجمع هذه السنن المرحوم الصدوق أعلى الله مقامه في كمال الدين صفحة 227 فما بعد, في أحاديث كثيرة وكذلك الشيخ المفيد أعلى الله مقامه في الفصول العشرة صفحة 82 وشيخ الطائفة الطوسي في الغيبة صفحة 77، وروايات امتحان الخلق بغيبة وليهم أو نبيهم أو النبي الاكرم روحي فداه جمعت في هذه الكتب الشريفة وأشير اليها أولاً: غيبة النبي إدريس: غاب عن شيعته حتى تعذر عليهم قوتهم وقتل من قتل من شيعته إلى أن رجع لهم النبي وكانت غيبة امتحان الخلق, وغاب النبي صالح عن قومه ثمود التي كانت مساكنهم بين الحجاز والشام زماناً طويلاً حتى رجع اليهم وهو كهل بعد أن كان في سنّ الشباب, وغاب سيدنا النبي ابراهيم أرواحنا فداه وكانت غيبته إثر حمل أمه حين حوله الله من بطنها إلى ظهرها فلما حملت أم إبراهيم به بعث نمرود القوابل حتى يعرفن الحمل فلما ولد ابراهيم ذهبت به أمّه إلى الغار ووضعته في الغار وجعلت على باب الغار صخرةً بقي ابراهيم وحده من ابتداء ولادته فجعل الله رزق ابراهيم في ابهامه يمصها ويشرب اللبن منها إلى أن شب ثم جاءت أمه وأخذته, غيبة طويلة

ص: 121

وبعد هذه الغيبة وبعد ان نجاه الله تعالى من النار غاب غيبة أخرى إذ قال الله تعالى (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه)(1) غيبتان كانتا لإبراهيم.

وكذلك النبي يوسف غاب عشرين سنة عن خاصّته وعامته والنبي موسى غاب عن وطنه مصر خمسين سنة، وأوصياؤه مثل يوشع غاب عن قومه حتى رجع اليهم بعد مسير كثير وبعد مدة كثيرة, وكذلك نبي الله الرسول الأعظم أرواحنا فداه غاب عن قومه, غاب عن المشركين ثلاث سنين في شعب أبي طالب إلى أن تصل الغيبة إلى الإمام الحجة أرواحنا فداه، فالغيبة تكون لهكذا إمتحان الذي هو من شأن الله تعالى في خلقه ويشهد على ذلك أحاديث كثيرة منها حديث سدير في كمال الدين صفحة 644 حديث سدير عن أبي عبد الله عليه السلام: إنّ للمهدي منا غيبة يطول أمدها، قلت: لم ذاك يا ابن رسول الله ؟ قال: ان الله عزوجل أبى إلا أن يجري سنن الانبياء في غيباتهم(2)، سنة إمتحانية جارية تجري في الإمام المهدي.

وكذلك حديث زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام: إن المهدي منّا, له غيبة قبل أن يقوم(3) لأن الله عزوجل يحب أن يمتحن خلقه فعند ذلك يرتاب المبطلون, إذن مسألة السنة الالهية في الامتحان بالغيبة من الحكم التي تدعو إلى غيبته حتى يمتحن خلقه.

ص: 122


1- مريم (19): 48.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 480 الحديث 6 من الباب 44.
3- لاحظ: الكافي: 1/ 337 الحديث 5، إكمال الدين وإتمام النعمة 342 الحديث 24 عن الباب 33.

الحكمة الخامسة: عدم مجاورة الظالمين

الحكمة الأخيرة، وهي كراهة مجاورة الظالمين، وهو أمر مستحسن عقلاً بل مدلولٌ عليه شرعاً، فإن الاعتزال بالنسبة إلى الأنبياء وبالنسبة إلى الصالحين إذا لم تؤثر كلمتهم الحسنى في الظالمين يعتزلون عنهم، هذا ممّا يؤيده العقل، تأنيباً للظالم يُعتزل عنه.

وبعد هذا التأنيب للظالم، إضافة إلى هذه الأمور التي كانت من الحكم، يدعو إلى أنه يغيب الإمام روحي فداه ليأنب الظالم ويوجب اشتياق المظلوم.

يوجب اشتياق المظلوم إليه مع أن الظالم يكون مرتدعاً بهذه الغيبة وبهذا الامتياز عنه, كما بالنسبة للأنبياء الكرام:

النبي نوح طلب من الله (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ).(1)

وكذلك النبي إبراهيم (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ).(2)

وكذلك النبي موسى (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).(3)

ص: 123


1- الشعراء (26): 118.
2- مريم (19): 49.
3- القصص (28): 21.

إذن الاعتزال من السنن ومن الأمور المستحسنة تأنيباً للظالم وزيادة لاشتياق المظلوم.

والإمام المهدي أرواحنا فداه صرحت الروايات أنه من جهة تأنيب الظالم ومن جهة تأديب الظالم يغيب حتى يكون مؤنباً في هذه الغيبة, ومن جملة الروايات الشريفة التي تبين هذا الأمر، والروايات كثيرة نختار منها بعض الروايات:

جاء في حديث مروان الأنباري قال: عن أبي جعفر عليه السلام (إن الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم).(1)

وحديث محمد بن النعمان عن الإمام الصادق عليه السلام جاء فيه: (إن أشد ما يكون (الله تعالى) غضباً على أعدائه إذا أفقدهم حجته فلم يظهر لهم)(2) لم يظهر, موجود ولكن غائب.

إذن مسألة الاعتزال ومسألة كراهة الظالمين والابتعاد عنهم من الأمور المستحسنة تأديباً وتأنيباً لذلك، وإن كان التأديب للظالم يرافقه حرمان المظلوم إلا أنه يزداد شوقه، بل بالنسبة إلى المظلوم يزداد ثواباً.

ففي بعض الأحاديث: من انتظرنا وصبر في غيبتنا كان له أجر مئة شهيد من شهداء بدر...

وفي بعض الأحاديث: ألف شهيد من شهداء بدر.(3)

ص: 124


1- بحار الأنوار: 52/ 92.
2- كمال الدين للصدوق: 339، باب 33، ح 17.
3- الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال: (من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله عز وجل أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأحد). راجع كمال الدين للصدوق: 323، ب31، ح7.

فإن الإمام عليه السلام يغيب وتطول غيبته وتكون موافقة للمصلحة الموجودة العقلية، بل الشرعية، بل العرفية التي يعرف بها كل ذي وجدان.

فالسؤال الأخير أنه لم غاب الإمام وما حكمة غيبته.

يُجاب عن ذلك السؤال بأن هذه الحكم الخمس المروية تكفي في أن يكون الإمام روحي فداه غائباً وأن تكون هذه الغيبة موافقة لهذه الحكم.

وهذا تمام الكلام في الموضوع الثاني _ غيبة الإمام _ روحي فداه والحكمة فيها.

وأما الموضوع الثالث: عمر الإمام روحي فداه وطول عمره وتحليل طول العمر على ضوء القرآن الكريم والأحاديث المتواترة، بل على صعيد الأصول العلمية والطبيعة البشرية، نبحثها إن شاء الله يوم غد بتوفيق الله وعون الله.

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتعه فيها طويلاً. برحمتك يا أرحم الراحمين.

الأسئلة والأجوبة:

س1/ هل أن الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه مستقر في الجزيرة الخضراء؟

ص: 125

ج/ هو سائر جوّال في جميع العالم، مشرف على جميع الأنحاء، لذلك استقراره في الجزيرة الخضراء وإن كان مورداً للتشرفات وهو صحيح إن شاء الله إلا أنه لا يمكن أن نحمل الروايات جزماً على تلك الجزيرة بنحو أن مسكنه الدائمي هناك, هذا _ الظاهر _ لا يمكن الجزم به وإن كان احتماله من جهة ما ينقله المحدّث النوري احتمال لابأس به.

قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا...).(1)

س2/ أحد الأخوة يسأل: هل حكم الإمام المهدي عليه السلام في المسائل القضائية يكون كما عليه المشهور من دون الاستناد إلى الشهود، أي حسب علمه بالغيب؟ أم أن هذا المطلب غير ثابت بنحو قطعي؟

ج/ نبين إن شاء الله وبعون الله تعالى فيما يخص ظهور الإمام المهدي وقيامه، ونتعرض لو ساعدنا التوفيق إلى ما يكون في دولته الحقة إلى مسألة قضاء المهدي عليه السلام.

قضاء الإمام المهدي يكون على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله, لا فرق فيها إلاّ أن في السيرة النبوية الشريفة أن القاضي يحق له أن يقضي بعلمه، وإذا قضى الإمام المهدي بعلمه فقد قضى على طبق سيرة الرسول صلى الله عليه وآله.

ص: 126


1- يوسف (12): 110.

البعض يعترضون بأن سيرة المهدي تخالف سيرة الرسول، فكيف نعترف به؟!! نقول: لا يا عزيزي فإن سيرة المهدي على سيرة الرسول إلا أن من سيرة الرسول القضاء بالعلم، والإمام المهدي يقضي بعلمه، لأن القضاء من سيرة الرسول.

فالمسألة القضائية للإمام المهدي أرواحنا فداه على نفس الموازين القضائية، إلا أنه يمتاز بأنه يُعلّمه الله بعصمته وبإمامته وبنورانيته، يعلم ما في الحياة ويعلم ما في الضمائر ويعلم ما في الأنفس، وبعد علمه هذا يقضي كقضاء داوود، وقضاء داود قضاء شرعي بالعلم، وكذلك قضاء المعصومين إذا كانوا يعلمون، فإذا كان القاضي يعلم قضاءَه بالعلم فهذا أمر شرعي على سنة الرسول الأكرم ولا إشكال من هذه الجهة.

فالجواب القطعي عن هذا السؤال أن القضاء على نفس سنة الرسول، إلا أن من السنة قضاء القاضي بعلمه، ويقضي الإمام بعلمه كقضاء داوود.

بل لعله يقال ويحسن أن يقال: إنه ينبغي أن يقضي الإمام المهدي بعلمه، لأن دولته الحقة إذا كانت أوتكون ظاهرة على جميع العالم وفيها إصلاح عالمي لجميع العالم، فهذا لا يلائم انتظار الشهود.

أخي العزيز إذا انتظر الشهود مع هذه الإصلاحات الجمعية العالمية لا يمكن أن ينتظر حتى يأتي الشهود، وذلك يخالف الإصلاح العالمي، لذلك يناسبه القضاء بالعلم, القضاء بالعلم على طبق سنة الرسول، وهذا هو الموافق للعقول، والله العالم.

ص: 127

س3/ أخ عزيز يسأل: هل هناك محذور من الاعتقاد بزواج المهدي وأن لديه ذرية؟

ج/ عزيزي السائل، الظاهر أن الأدعية الشريفة، بل بعض الأدلة الروائية يستفاد منها أن الإمام المهدي قد تزوج وأنه أنجب, لذلك فالاعتقاد بزواجه اعتقاد بجريانه على سنة رسول الله جدّه الأكرم، وهو اعتقاد لابأس به ولامحذور فيه، والله العالم.

س4/ أخ عزيز يسأل ما خلاصته: أن موضوع الارتياب هل تكون له أسباب؟ وهل هذه بتقديركم طلائع الفتن؟

ج/ لا شك أن الإيمان بالغيب والإيمان بما جاء به الرسول الأكرم يحتاج إلى توفيق، قد يوفق الشخص فلا يرتاب وقد لا يوفق بواسطة اختيار نفسه وابتعاد نفسه عما يوجب التوفيق فيكون له ريب.

لذلك مسألة الارتياب أنه تكون من طلائع الفتن، قد يكون من شؤون الناس، هل تكون هذه طليعة للفتنة؟ لم أر هذا المعنى في الروايات الشريفة، أنه مّما يكون من طلائع الفتن أو ما يكون في عهد الغيبة، أنه تكون هناك فتن.

نعم مسألة المخالفات التي هي علائم أولى لغيبة الإمام يذكرها الشيخ المفيد أعلى الله مقامه(1)، تلك العلائم الصحيحة مروية عن روايات الفريقين،

ص: 128


1- أوائل المقالات للشيخ المفيد: 236.

فمسألة الارتياب التي تفضل بها الأخ لن نرى لها دليلاً تكون بموجبه من طلائع الفتنة، والله العالم.

س5/ يسأل الأخ العزيز: هل يمكن أن يكون الإمام عجل الله تعالى فرجه حاضراً في أكثر من مكان في آن واحد؟ وأقصد الحضور وليس العلم، أي حاضراً شخصياً؟

ج/ الأئمة عليهم السلام كما ثبت في باب الإمامة هم من جنس نوراني مأخوذ من تحت عرش رب العالمين، روحهم وبدنهم ألطف من روحنا وبدننا، لذلك تكون حركتهم وتجول نظرهم وبدنهم من هذه الجهة أشرف من أبداننا ولايمكن أن يقاس بدنه ببدننا, صحيح (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ )(1) هذا الوحي مائز بين بشر نبي وبشر إمام هذا يفرق عن بقية البشر.

لذلك لا ضير في أن يكون الإمام عليه السلام شاهداً وحاضراً وناظراً بواسطة روحه الشفافة وبدنه اللطيف في أكثر من مكان ومتجول إليه من باب طي الأرض أو بعلم الإمامة أو بالقدرة الربانية التي تفضل بها عليه في آن واحد.

يتمكن الإمام عليه السلام أن يتجول في نقطتين أو بقعتين يحيط بها علماً ويصلها قدماً، الظاهر لا إشكال في هذا الأمر، والله العالم.

لعله يؤيده حضور الأمير عليه السلام:

يا حار همدان من يمت يرني *** من مؤمن أو منافق قبلاً

ص: 129


1- الكهف (18): 110.

مقابلاً له، فالإمام يحضر والنبي يحضر والزهراء تحضر، لابأس بالحضور في أماكن لشفافية روحهم ولنورانية أبدانهم الشريفة.

س6/ أخ عزيز يسأل: هل سماحتكم ترون بأن العلامات الصغرى والكبرى قد حدث منها شيء حتى الآن؟

ج/ كررنا ليلة أمس أن العلامات المذكورة يلزم أن تقسم إلى أقسام ثلاثة: بعضها علامات غيبة الإمام، وبعضها علامات مقاربة لظهور الإمام، وبعضها علامات لسنة الظهور وما يقارب ذلك, وتلك العلائم تكون حتمية وغير حتمية.

بالنسبة إلى العلامات الكبرى والصغرى التى تكون في زمن الغيبة, نعم حدث منها شيء ولم تحدث منها أشياء أخرى. هناك ما يقرب من ثلاثين علامة في رواية الشيخ المفيد، بل ما يقارب من مائة علامة في حديث الشيخ أعلى الله مقامه، بمراجعة تلك الروايات يستفاد أنه بعض العلائم علائم الغيبة، بعضها حدثت وبعضها لم تحدث، والله العالم.

س7/ يسأل الأخ العزيز: هل رؤية الإمام عجل الله فرجه في المنام إذا كان يبين بعض ما يجري من أحداث، هل هذه الرؤية هي الحجة على أن الحدث من العلامات؟

ص: 130

ج/ المعروف _ والله العالم _ أن المنام ليس بحجة وإن كانت به عبرة، وهي من بعض شؤون الوحي، ولها عبرة إلاّ أنها لا تكون حجة قطعية بحيث أنها تكون مثل الروايات المبينة عن المعصومين.

وبالنسبة إلى المنام قد يكون مناماً صادقاً، لكن بحيث أنه يكون حجة كالأحاديث الشريفة, يشكل الالتزام بهذا الأمر والله العالم.

س8/ ما رأيكم سيدنا فيمن يدعي رؤية الإمام في المنام أو اليقظة والحديث الشريف يقول: (ألا من ادعى الرؤية فهو كذاب, ألا ومن ادعى المشاهدة فهو كذاب مفترٍ؟).(1)

ج/ الظاهر أن الأخ العزيز يسأل: هل رؤية الإمام غير ممتنعة؟

سنذكر إن شاء الله _ لو ساعدنا التوفيق _ بأن قضية التشرف بخدمة الإمام عليه السلام ليست بممتنعة, وحديث السمري، أي التوقيع الذي يذكر (ألا فمن ادعى المشاهدة...الخ) نبين إن شاء الله له معان ثلاثة، ليست هذه المشاهدة التي حدثت وكانت بالنسبة لمقدسينا وعلمائنا الأبرار كالسيد ابن طاووس أو العلامة الحلي أو السيد بحر العلوم أو المقدس الأردبيلي.

المشاهدة في اليقظة أو المنام غير ممتنعة، وقد تكون، وسنذكر بعون الله تعالى في مسألة التشرف التوقيع الثاني من الشيخ المفيد رحمه الله للفوز بمشاهدة الإمام المهدي، وهناك جملة إن شاء الله سنذكرها في محلها.

ص: 131


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 516 الحديث 44 من الباب 45، كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 395 الحديث 365، الاحتجاج للطبرسي: 2/ 297.

إذن جواب السيد الأخ هو أن مسألة رؤية الإمام لا مانع منها في المنام أو اليقظة لمن وفقه الله، ونسأل الله التوفيق لهذه الرؤية.

س9/ أخ عزيز يسأل عن فترة الغيبة مع طول مدته وانقطاع الإمام المهدي عليه السلام عن الناس, هل ترك الناس سدى وبلا راعٍ وبلا هدف؟

ج/ أخانا العزيز: الظاهر في نفس التوقيع الذي قرأناه هذه الليلة (إنا غير ناسين لمراعاتكم) تصريح من الإمام المهدي عليه السلام أنه لم يتركنا سدى ولم يتركنا بلا راعٍ ولم يخلينا بلا هدف، وإنما نظره الكريم علينا نظر لطف ورعاية ودعاء وحفظ، لا حرمنا الله من هذا النظر الشريف.

س10/ هل من دليل من القرآن والسنة على رؤية الإمام بشخصه في اليقظة؟

ج/ الأخ السائل يجاب بأنه السنة الشريفة والأحاديث المباركة الدالة على رؤية الإمام بشخصه في جميع المراحل الثلاث، يعني حين ولادته وفي زمان والده الكريم الإمام العسكري عليه السلام وكذلك في زمان الغيبة الصغرى وكذلك في زمان الغيبة الكبرى، سجلت في ثمان من الكتب التي بينت التشرفات.

والأحاديث عن رؤية الإمام نفسه في اليقظة موجودة، بل متواتره في المقام، وقد اخترنا منها من كل مرحلة عشرة من الأحاديث القطعية التي رويت بالأسانيد الموثقة التي توجب العلم ويحصل بها التواتر, ولعله يضيق الوقت لبيانها، ولكنها مسجلة لو طلبها أحد قدمناها له والله العالم.

ص: 132

س11/ حول دعاء:(اللهم كم لوليك الحجة بن الحسن...) الفقرة الأخيرة (حتى تسكنه أرضك طوعاً) من ناحية المعنى غير واضحة، وسند هذا الحديث وددت أن أعرفه وهذه الفقرة بالذات؟

ج/ أشكر عواطفكم, تقصدون بسكون الأرض طوعاً للإمام المهدي عليه السلام بأنه كيف يُدعى له هكذا دعاء.

الدعاء الشريف أخي العزيز موجود بسند معتبر ينقله المرحوم المحدّث القمي، وقبله نقله في البحار وستقرؤونه إن شاء الله في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، من مستحبات أدعية ليلة القدر في القدر الأخير، والسند ظاهراً معتبر ويعتنى به.

و الدعاء أساساً لا يلزم أن يكون دعاءً بالمفقود, الدعاء قد يكون دعاءً بالموجود لإدامته ولبقائه, تسألون الله: (اللهم عافني بعافيتك) هل العياذ بالله أنت مريض؟! أبداً، بل مع وجود صحتك وأدامها الله عليك تدعو الله (اللهم شافني بشفائك)، وأنت مشافى، (عافني بعافيتك) وأنت معافى, الدعاء ليس بما ليس بموجود بل حتى مع وجوده لإدامة هذا الشيء.

طبعاً الإمام المهدي روحي فداه وعاء لمشيئة الله، راضٍ برضى الله طواعية لله، لكن لإدامة هذه الطواعية ولإدامة هذا الوجود أنه سكن طواعية حتى في زمان غيبته وحتى في زمان مظلوميته، وحتى في زمان حزنه يسكن طوعاً في ذلك الزمان زمان دولته المظفرة ويمتع فيها طويلاً إن شاء الله, لكن من باب إدامة هذا الشيء.

ص: 133

ثم من باب وظيفتنا نحن شيعته، لأننا نحن مكلفون بالدعاء له, تكليفنا بالدعاء لا لأنه محتاج إلى هذا الشيء، فبالرغم من أنه سكن طواعية نحن مكلفون بأن ندعو له تكليفاً لنا وإدامة لهذه الطواعية.

الظاهر أنه بهذا الأمر لا يبقى إشكال من جهة هذا الدعاء الشريف سنداً ومتناً أيضاً، والله العالم.

و آخر دعونا أن الحمد لله ربّ العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 134

المحاضرة الرابعة: طول عمر الإمام عجل الله فرجه

اشارة

ص: 135

ص: 136

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على أحب خلقه وسيد بريته، سيدنا ومولانا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين المنتجبين الغرّ الميامين، لاسيما بقية الله في الأرضين الحجة بن الحسن المهدي أرواحنا فداه.

واللعنة الدائمة على أعدائهم وظالميهم وقاتليهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم وجاحدي حقوقهم قاطبة إلى يوم الدين.. آمين رب العالمين.

موضوع بحثنا بعون الله تعالى في عمر الإمام المهدي أرواحنا فداه وتحليل طول العمر، لأنه من المباحث الأساسية التي أثير حولها الشبهات والأقوال، فياحبذا لوكنا نطفئ الشبهات ونستسيغ البحث بشكل يكون مستنداً إلى أدلة قطعية وبراهين علمية.

إشكالات المخالفين:

في مقابل القول الحق بطول عمر الإمام المهدي رعاه الله ووقاه من كل سوء إن شاء الله أقوال للمخالفين، جمعها المرحوم الكراجكي في كنز الفوائد.

ص: 137

إنها أقوال ثلاثة، أو آراء ثلاثة، أو إيرادات ثلاثة على طول عمر الإمام المهدي أرواحنا فداه.

يقول في كنز الفوائد:

اعلم أيدك الله أن المخالفين.

منهم: من ينطق بلسان الفلاسفة فيقول: إن طول العمر من المستحيل في العقول، ولم يثبت على جوازه دليل.

ومنهم: من ينطق بلسان المنجمين فيقول: إن الكواكب لا تعطي أحداً من العمر أكثر من مائة وعشرين.

ومنهم: من ينطق بلسان الأطباء وأصحاب الطبائع ويقول: إن العمر الطبيعي هو مائة وعشرون سنة، فإذا انتهى إليها، فقد بلغ غاية ما يمكن فيه الصحة وتخرج عن العادة.(1)

ولعل أغلب الشبهات الأخيرة، بالنسبة إلى طول عمر الإمام عليه السلام هي الجهة الأخيرة، لأنهم يشككون من حيث عدم الإمكان طبياً، وعدم الإمكان في هذا العرف وفي هذا الزمان.

أجوبة الشبهات

فيجاب على هذا الإشكال بجميع جوانبه من وجوه خمسة نتطرق إليها إن شاء الله.

ص: 138


1- كنز الفوائد للكراجكي، ص: 344.

أولاً: على صعيد القرآن الكريم، نتكلم بذلك.

ثانياً: على صعيد الروايات المتواترة المتفقة بين الطرفين أو الفريقين.

ثالثاً: على صعيد الدليل الوجداني، الذي هو يكفي عن البيان.

رابعاً: على صعيد الطبيعة البشرية، التي قيل: إن طول الأعمار خرج عن العادة فيها.

خامساً: على صعيد الأصول العلمية، وعلى سبيل الأمور الطبية.

الإعجاز الإلهي:

لكن اسمحوا لي قبل أن أبدأ بهذه الأمور الخمسة، أن أبين بخدمتكم مقدمة تمهيديه تحليلية، ولعلها تكفينا إذا استكفينا بها في تحليل طول عمر الإمام المهدي عليه السلام وبقائه في هذه المدة رعاه الله، لأنه ولد في سنة 255 وهذه السنة التي نعيش فيها سنة 1423، فقد مرّ تقريباً 12 قرناً على الإمام المهدي رعاه الله.

بداية نقول وكمقدمة تحليلية: إن طول عمر الإمام المهدي عليه السلام إعجاز إلهي، وذلك بإبقائه شاباً متمتعاً بجميع أنحاء الصحة والسلامة بحمد الله، من دون عوارض الشيب، من دون بوادر الدهر، من دون موارد الخطر، محفوظاً بإعجاز الله وإرادته وعزمه وحفظه ورعايته.

ص: 139

حيث أراد عزوجل أن يظهره على الدين كله، أراد أن يحفظ وليّه إلى أن يظهره، وإلى أن تكون ساعة ظهوره على الكون، وعلى الدين.

فكان الحفظ عن جميع هذه العوارض، بحيث يدفع المستحيل، كما أشكل، أو يدفع خلاف المتعارف كما قيل، أو يدفع عدم الملائمة مع الأمور الطبية كما زُعم. الذي يدفعه بنحو جزمي وقطعي.

فإعجاز الله تبارك وتعالى حفظ وليّه للغاية القصوى، والنهاية العظمى التي جعلها له، وهذا الحفظ والصون من جهة الإعجاز ليس بأمر عجيب.

قد يقال بأنه خلاف المتعارف، نحن نقول: كل إعجاز خلاف المتعارف، وأي إعجاز كان وفق الطبيعة والمتعارف؟! تحويل العصا إلى حية تسعى هل هذا متعارف؟! تحويل العصا إلى أمور أخرى، التي كان يستعملها موسى هل كان متعارفاً؟ تحويل الحصى في يد رسول إلى لسان ينطق هل هذا متعارف؟ كله غير متعارف.

فطول عمر الإمام المهدي الذي نثبت أنه بنحو الإعجاز الإلهي تندفع به جميع الشبهات ولانحتاج إلى استدلال إطلاقاً، إعجاز إلهي سبق مثله ودل الدليل عليه كما سنبنيه، لذلك لا ينافي بأن يكون الحفظ الإلهي إعجازاً ربانياً في طول عمره، حتى بالرغم من كونه خلاف الطبائع البشرية.

فكيف أنه سيتلائم مع طبيعة البشر؟ سنقول بملائمته للطبيعة البشرية، ولا ضير ولا عجب في أن يحفظ الله وليه.

ص: 140

وليست هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها مثل هذا الإعجاز، فقد سبق حفظ الله لأوليائه، لرسول الله، ولأمير المؤمنين، فقد حفظ الله أمير المؤمنين من الأخطار القطعية مائة بالمائة، ولا بأس فمن المناسب _ وهذه أيام الأمير عليه السلام _ أن نتعرض إلى ذكر علي فإنها عبادة(1).

أمير المؤمنين روحي فداه إذا راجعنا السير والتواريخ والروايات نرى أن الله تعالى نجّاه وحفظه من الأخطار القطعية والقتل الجزمي من ابتداء هجرته من مكة إلى المدينة، بل في نفس مكة ليلة المبيت كانت خطراً على علي بن أبي طالب.

كذلك هجرته إلى المدينة وملاحقة المشركين له ليقتلوه، ثم في المدينة غزوات وسرايا وحروب مع النبي روحي فداه وكلها خطر قطعي عليه.

ثم بعيد هجرته إلى الكوفة في واقعة صفين وواقعة النهروان خطر قطعي عليه، حفظه الله من غير أن يصاب بشيء أبداً، بالرغم من تلك الإصابات التي أصابته.

حفظ إلهي لاريب في ذلك.. أتذكر عبارة ابن أبي الحديد المعتزلي في أول نهج البلاغة، يذكر في مناقب علي عليه السلام يقول: (ما أقول في رجل وقف لصلاته في ليلة الهرير والسهام تترى عليه أو تمر من صماخه)(2)، هذا أليس

ص: 141


1- راجع مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج 3: 6، والجامع الصغير للسيوطي ج 1: 665، وتاريخ دمشق لابن عساكر ج 42: 356.
2- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1: 27، وفيه: وأما العبادة... وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده ان يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي... والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه...

خطراً قطعياً؟ تترى السهام معناه توالي السهام عليه والمرور من (صماخه) موضع الخطر منه حفظه الله تعالى منه.

أو تلاحظون في خطبة الزهراء عليها السلام: (كلما أوقدوا ناراً أطفأها الله...قذف أخاه في لهواتها)(1) أي أن أمير المؤمنين يقذفه رسول الله في فم الموت في لهوات الموت، كلها مخاطر قطعية، مع ذلك حفظه الله تعالى.

وابن دأب له عبارة لطيفة في رسالته: سبعون منقبة لعلي لم يشاركه فيها أحد، أتذكر هذه العبارة، ولعله عين ما ذكره ابن دأب في هذه الرسالة يقول: انصرف علي سلام الله عليه من أحد وبه ثمانون جراحة تنزف الدم، وكانت تصنع له الفتائل لتقيه الدماء فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله فرآه جالساً على نطع (البساط الجلدي) وهو كالّلحمة الممدودة المنضودة _ تفكروا في هذه العبارة: (لحمة ممدودة) من آثار السيوف والسهام والرماح حتى صار كالّلحمة _ بكى رسول الله، فقال علي عليه السلام: يا رسول الله بأبي أنت وأمي الحمد لله الذي لم يرني ولّيت عنك ولا فررت، لكن كيف حرمت الشهادة؟ _ هو يتعجب هكذا حاله شهادة قطعية _ كيف حرمت الشهادة؟ قال: هي من ورائك يا علي، يقتلك أشقى الأشقياء وتهد مصيبتك الأرض والسماء، ثم يقول: عُدَّ ما بعلي من

ص: 142


1- راجع الاحتجاج للطبرسي ج 1: 131.

الجراحات الباقية عليه من قرنه إلى قدمه، فكانت ألف جراحة باقية، ابن دأب يقول ذلك.(1)

الفاصل الزماني بين شهادة الأمير روحي فداه، ووقاء الرسول في المدينة ثلاثون أو أكثر من ثلاثين سنة. كيف كانت الجروح حتى بقي منها ألف جراحة ولم يصبه شيء من جهة منظره، من جهة جماله، من جهة روحه. أبداً لم يشنها شيء.

حفظ الإله حتماً وقطعاً، إذا أراد الله أن يحفظ أحداً يحفظه، وقد رأينا أنه حفظ الأمير من هذه الأخطار القطعية، فكيف لايحفظ ابنه ولا يحفظ ولده الذي أراد أن يظهره على الدين ويملأ به الأرض عدلاً؟! ليس هذا بغريب.

ويدلنا على كونه إعجازاً بالنسبة إلى الإمام الحجة وطول عمره، الروايات الثابتة في المقام بالأسانيد المعتبرة:

منها: حديث الحسين بن حمدان عن الإمام العسكري عليه السلام في قول الله بالنسبة إلى الإمام المهدي، هكذا نص العبارة: (فإنه في ضماني وكنفي وبعيني إلى أن أُحقَّ به الحق وأزهق به الباطل).(2)

ضمان الله هل يمكن فيه التخلف؟ تأمين إلهي وضمان إلهي ورعاية إلهية، ومعها هل يصعب طول لعمر الإمام.

ص: 143


1- الاختصاص للشيخ المفيد ص 158.
2- بحار الأنوار: 51/27.

ومنها: الحديث المعتبر بأسناد كذلك، حديث أبي سعيد، يعني إسناد الصدوق أعلى الله مقامه حديث أبي سعيد عن الإمام المجتبى أرواحنا فداه قال: (التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء يطيل الله عمره في غيبته ثم يظهره في صورة شاب دون أربعين سنة)... وطول العمر مع سن الشباب لا يوافق الطبيعة ولكنه إعجاز. (ليعلم ان الله على كل شيء قدير).(1)

الإرادة الإعجازية في الإمام المهدي تحكيه روايات متعددة، للتبرك قرأنا اثنتين فقط من الروايات المتعددة المستفيضة التي يستفاد منها أن طول عمر الإمام المهدي أرواحنا فداه بنحو الإعجاز، وإذا كان إعجازاً حكم على جميع القوانين، وعلى جميع الأمور، ولم يرد هناك إشكال واحد.

لكن من أجل تكميل الاستدلال وإتمام الحجة لابد أن نستدل بالآيات الشريفة وبالأحاديث من طريق الفريقين.

القرآن الكريم

أما على ضوء القران الكريم، فبعد أن قالوا بأن طول العمر مستحيل، أو أنه خلاف العادة، فنقول: كيف يكون مستحيلاً أو مخالفاً للعادة وقد أخبر الله عن ذلك لا في مورد واحد، بل في موارد متعددة في كلامه الصادق،

ص: 144


1- إكمال الدين إتمام النعمة: 316 الحديث 2 من الباب 29.

بالنسبة إلى نوح على نبينا وآله وعليه السلام تلاحظون في الآية الشريفة: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً).(1)

تسعمائة وخمسون سنة بصريح القرآن، إذا كان مستحيلاً فالمستحيل لا يمكن أن يوجد مرة واحدة، كالجمع بين النقيضين الذي هو مستحيل فلا يحدث في العالم ولو لمرة واحدة، والجمع بين المتضادين مستحيل، فلا يمكن أن يحدث في العالم.

إذا كان طول العمر مستحيلاً كيف حصل وأخبر عنه الله تعالى؟! تسعمائة وخمسون عاماً هي مدّة التبليغ، وإلاّ فعمره (2500) سنة، عدّة روايات بينت هذا المعنى. من جملتها حديث منصور بن حازم في أحاديث متعددة عن الإمام الصادق عليه السلام عمر نوح ألفان وخمسمائة سنة ثم أتاه ملك الموت وهو في الشمس فقال له: السلام عليك فردّ الجواب، فقال له: ما جاء بك يا ملك الموت؟ قال جئت لأقبض روحك، قال: تدعني أخرج من الشمس إلى الظل؟ قال: نعم، فتحول نوح من الشمس إلى الظل، ثم قال: يا ملك الموت كأنما مرّ بي من الدنيا (2500) مثل تحولي من الشمس إلى الظل، فامض لما أمرت به، فقبض روحه على هذه الصفة.(2)

الإمام المهدي روحي فداه لم يبلغ هذا العمر، كيف يكون مستحيلاً؟!

ص: 145


1- العنكبوت (29): 14.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 523.

بل البقاء الأبدي إلى يوم القيامة أخبر الله عنه في القرآن الكريم، كيف؟ أيكون مستحيلاً؟! هذا نبي الله يونس أخبر الله في كتابه عنه (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(1) إلى يوم القيامة، كم ألف سنة؟ آلاف من السنين، الله يخبر بأنه لولا هذا التسبيح لكان لابثاً والظاهر من معنى الآية والله العالم، للبث حياً كما فسره العامة والخاصة.

أما من الخاصة، كنز الدقائق المجلد 11 صفحة 184 فسره وفسر عن علماء الشيعة للبث حياً.

وأما من العامة، الكشاف للزمخشري المجلد 4 صفحة 160 للبث حياً،

يفسرون (اللبث) اللبث حيّاً، بل قد يقال: إن نفس كلمة لبث في العربية لعلها توافق الحياة لا الموت.

وفسره الراغب في المفردات اللبث لغة الإقامة بالمكان أو الملازمة له(2)، من الذي يقيم؟ فإن الميت لا يقيم في مكان ولا يلازم مكاناً، المناسب للإقامة والملازمة هو الحياة.

اللبث في اللغة الإقامة في المكان والملازمة له، ويناسبه أن يكون اللبث حياً لغة وتفسيراً (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) يعني حياً.

ص: 146


1- الصافات، الآية: 142.
2- مفردات غريب القرآن: 446.

إذاً يمكن أن يلبث يونس، وهو من البشر، في بطن الحوت بدون هواء ولا غذاء ولا ماء وفي أجواء غير طبيعية يلبث إلى يوم يبعثون، يونس يلبث في بطن الحوت، وهو ولي الله ومختار لا يلبث في عالم الدنيا. فهل يمكن أن يقال في مثل هذه الحالة بالاستحالة وعدم العادة، وقد وقعت في الخارج أكثر من مرّة، فلا يمكن أن تكون أمراً مستحيلاً أو مخالفاً للعادة.

فإمكان طول العمر قال به القرآن الكريم ليس فقط لأولياء الله، وإنما وقع في الخارج لأعداء الله أيضاً (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)(1) أعداء الله يمكن أن يبقوا فكيف الأولياء؟ لذا الشيخ الصدوق رحمة الله يقول: إن مخالفينا يقولون بطول العمر في أعداء الله ولا يقولونه في أحبائه(2)، إنه يعترض عليهم.

وعلى هذا فمسألة طول العمر في القرآن الكريم، في الكلام الإلهي، شيء موجود وليس بمستحيل.

بل أخبرت بطول العمر _ خصوصاً طول عمر نوح _ الكتب المقدسة السابقة، مثلاً: في التوراة، سفر التكوين الإصحاح خمسة في ثلاث آيات 5، 8، 11، وردت الإشارة إلى طول عمره، فما يؤيد مدعانا موجود في الكتب المقدسة أيضاً.

ص: 147


1- الحجر، الآية: 36 _ 37.
2- كمال الدين للصدوق: 551، أنظر تعليق الشيخ اعلى الله مقامه على الحديث 1 من الباب 53.

لذلك أصبحت مخالفة الإمكان والاستحالة غير العقلية مما يرده القرآن الكريم أصراحة.

السنة النبوية

وأما من السنة المباركة، فالأحاديث متظافرة، بل متواترة ونحن اخترنا عشرة من الأحاديث بالأسانيد الصحيحة ليحصل بها العلم. لكن رواية واحدة للتبرك فقط متواترة من طريق الخاصة ومن طريق العامة، أويشهد به نفس العامة، وسنقرأ نصوصهم التي يشهدون بها، فكيف يقال بالاستحالة أو بعدم الإمكان؟!

أما من أحاديث الخاصة فصريح حديث سدير الصيرفي: المفضل عن الإمام الصادق عليه السلام جاء فيه.. (وأما العبد الصالح أعني الخضر) الذي أعطاه الله من العمر ما يقارب أربعة آلاف سنة لأنه حفيد نوح إلياس بن أروخش بن سام بن نوح، حفيد نوح النبي، لعل ما يستفاد من بعض التواريخ أنه عمّر إلى الآن ما يقارب أو أكثر من أربعة آلاف سنة... (وأما العبد الصالح أعني الخضر عليه السلام فإن الله تبارك وتعالى ما طوّل عمره لنبوّة قدّرها له، ولا لكتاب ينزله عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله، ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها، ولا لطاعة يفرضها له، بل إن الله تبارك وتعالى لما كان في سابق علمه أن يقدر من عمر المهدي في أيام غيبته ما

ص: 148

يقدر، وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوّل عمر العبد الصالح الخضر).(1)

فالاستدلال بغاية خلقه الله خضر استدلال على عمر المهدي ليقطع بذلك حجة المعاندين لئلاّ يكون للناس على الله حجة يقبلونها، فكيف يمتنعون ويقولون باستحالتها؟!

هذا من الخاصة.

وعرضت بخدمتكم روايات متواترة في هذا المقام .

وكذلك من العامة روايات متظافرة في الكتب المعتبرة منهم بألفاظ مختلفة: أنه يعود شاباً وهو شيخ، يعود وفيه سنة التعمير، يعود وهو مثل الخضر، ألفاظ مختلفة في رواياتهم.

ينقل تلك الروايات ويعترف بصحتها وصراحتها في كتاب البيان لصاحب الزمان، الكنجي الشافعي يقول:

(أما بقاء المهدي، فقد جاء في الكتاب والسنة: أما الكتاب فقد قال سعيد بن جبير في تفسير قوله عز وجل (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(2) المهدي من عترة فاطمة).(3)

ص: 149


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 386 الحديث 50.
2- التوبة (9): 33.
3- البيان للكنجي الشافعي ص 28. وراجع كشف الغمة للأربلي ج 3: 290.

بإشارة هذه الآية، إشارة لطيفة يتنبه لها هذا الشخص، لاحظوا الله تعالى يقول: ليظهره، وليس ليبعثه، لو كان ليبعثه يمكن بعد الموت، البعث يكون بعد الموت، لكن الظهور بعد الخفاء، فالمهدي خفي يظهره الله على الكون.

وسعيد بن جبير يفسر (لِيُظْهِرَهُ) بظهور الإمام المهدي بعد أن كان له من العمر والحياة .

وأما السنة فما تقدم من الأحاديث التي بينتها بخدمتكم من جهة ألفاظها، وهي صريحة صحيحة في هذا المقام.

وكذلك ما يقرب من هذا البيان والتعبير بيّنه القندوزي في ينابيع المودة.

وعبد الوهاب الشعراني في اليواقيت والجواهر.

ومحمد في فصل الخطاب.

وابن حجر في القول المختصر.

وشهاب الدين الهندي في هداية السعداء

كما أحصى الأقوال والقائلين والروايات في إحقاق الحق المجلد 19 صفحة 698.

فمن جهة الروايات من الفريقين لا استحالة فيها لطول العمر.

لذلك مما لا يكاد ينقضي التعجب عنه، أن بعض المخالفين المنحرفين ادعى شيئاً سفسطة ظاهراً وكذباً، فقد جاء في بعض كتب المنحرفين: الشيعة تدعي طول عمر الإمام المهدي ورواياتهم تكذب طول عمر المهدي،

ص: 150

وتقول لو مدّ الله في أجل أحد من بني آدم ل-مّد الله في أجل رسول الله، في رواية من رواياتهم.

نحن نقول بأن الإمام المهدي طويل العمر روحي فداه، وإمامنا يقول: لا، ويكذب هذا المعنى، أي أن المهدي ليس بطويل العمر ولو مدّ الله في أجل أحد لمدّ الله في أجل رسول الله، سفسطة ظاهرة، أخي العزيز لماذا؟!

الرواية التي يشير إليها هذا الشخص موجودة في بحار الانوار(1)، وهي من روايات محمد بن أبي عمير الأزدي رضوان الله عليه صاحب المراثي المعتبرة،يرويها عن الإمام الرضا عليه السلام دققوا في الحديث:

قلت للرضا عليه السلام جعلت فداك قوم قد وقفوا على أبيك _ يعني الواقفة علي بن أبي حمزة البطائني وأمثاله _. قوم قد وقفوا على أبيك يزعمون أنه لم يمت، قال الرضا روحي فداه: كذبوا وهم كفار بما أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وآله، ولو كان الله يمد في أجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق إليه ل-مّد الله في أجل رسول الله صلى الله عليه وآله.

الرواية في صدد النقد على قول الواقفية، وترد قول الواقفية، ولا ترد طول عمر الإمام المهدي، كما ادعى وحرّف وزوّر في سفسطة له. هذا أولاً.

ثم الحديث بمتنه حتى لو لم يكن في هذا المقام بهذه القرينة، لا يحتمل أن يكون ردّاً على طول عمر الإمام المهدي روحي فداه، لماذا؟

ص: 151


1- بحار الأنوار: 48/ 265 الباب 44 الحديث 25.

لو كان الله يمد في أجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق إليه، لا منافاة أن لا يمد في الأجل لحاجة الخلق، يمده لإظهار دينه، يمده لانتشار عدله، لظهور دولته.

التعليل في هذا الحديث يحصل بموردين، المد في الأجل لاحتياج الخلق لو كان لكان في رسول الله، نحن نقول: هذا المد في أجل الإمام المهدي عليه السلام لأجل أن يظهره على الكون كله لا لأجل احتياج الخلق إليه هذا ثانياً.

ثم ثالثاً إن الرواية أجنبية عن الاستدلال بهذا المقام لأن الرواية قالت: لو كان الله يمد في أجل أحد ... وليس في عمر أحد، وهناك فرق بين الأجل وبين العمر، فالشخص له أجل في يوم كذا يمد الله في أجله، يؤجل أجله في اليوم الآتي أو بعده، أو في سنة وراءها أو في مائة سنة وراءها يمد في الأجل.

لكن مسألة المد في العمر غير المد في الأجل، الله تبارك وتعالى جعل أجل الإمام المهدي بعد الظهور، من أول الأمر أجله مؤجل أجله ممدد، لم يمد في أجله، بل قدّر له أجلاً وعمراً طويلاً بدون أن يطيل عمره، بدون أن يمد في أجله.

لم يجعل الله تعالى أجل المهدي في وقت قريب من ولادته ثم يمد في أجله حتى يردوا هذا الحديث، أبداً وإنما قدر الله له من أول الأمر، من قبل ولادته قدر له أن يموت ويستشهد بعد ظهوره وبعد دولته، لم يمد في أجله حتى يردوا هذا الحديث.

ص: 152

كلام عربي صحيح فصيح (لو كان الله يمد في أجل) ليس في العمر، والله لا يمد في أجل المهدي، وإنما مد في عمره، والأجل كان مدّ من أول الأمر وقبل خلقته، لا يرتبط الحديث بهذا المعنى، كيف يسوق الكلام بأنه هذا إمامهم أو رواياتهم ترد على هذا المعنى؟!

لذلك فالأحاديث من الفريقين لا تحتمل أي شبهة إنصافاً، بل هي تثبت طول عمر الإمام المهدي أرواحنا فداه بدون أي شك وبدون أي دغدغة في المقام.

الوجدان:

ويمكن الاستدلال به على طول عمر الإمام عليه السلام بعد القرآن والسنة النبوية المباركة، فسليم الوجدان الذي لا يخالف فطرة الإنسان يشهد بطول عمر الإمام المهدي، بعد تظافر وتواتر نقل مشاهدته في الغيبة الكبرى والذين رأوه من مقدّسي العلماء من الصلحاء ومن الأبرار ومن الصادقين ومن العدول، رأوه وشهدوا وأخبروا برؤيته في الغيبة الكبرى.

لابد أن يحس الوجدان أنه باقٍ فيرى، وليس هناك خبر واحد أو عشرة، بل أكثر، وكلها شهادات في رؤية الإمام المهدي من قبل الصالحين، من قبل الطيبين، من قبل الصادقين في هذا المقام.

لاحظوا بحار الأنوار المجلد 52 صفحة 1 إلى 90، فقد أحصى من شاهدوا الإمام عليه السلام في زمن الغيبة الكبرى.

ص: 153

تبصرة الولي في مواضيع المهدي للسيد الجليل البحراني رحمه الله.

دار السلام فيمن فاز بالإمام للشيخ الميثمي العراقي.

بدائع الكلام فيمن اجتمع بالإمام للسيد اليزدي الطباطبائي.

البهجة فيمن فاز بلقاء الحجة للميرزا الألماسي.

العبقري الحسان في تواريخ صاحب الزمان للشيخ النهاوندي.

إلزام الناصب للشيخ اليزدي.

هذه الكتب تذكر من شاهد الإمام وهم ممن شهد بوثاقتهم وعدلهم، بل عرفوا بذلك، أمثال العلامة الحلي، أمثال السيد بحر العلوم رحمه الله، ممن لا يحتمل في حقهم الكذب وخلاف الواقع أبداً.

فثبت وجوده عياناً ووجداناً، وليس بعد العيان بيان.

الطبيعة البشرية:

ثم الدليل الرابع بالنسبة إلى طول عمر الإمام المهدي أرواحنا فداه على صعيد الطبيعة البشرية، ولعل بعض الشبهات تثار الآن على هذا الصعيد، فيدّعون أن طبيعة البشر لا تتحمل طول العمر بهذه المثابة وهذا المقدار.

وهذا مردود، لأن الطبيعة البشرية تحتمل طول العمر بكل سعة، وبدون أي امتناع وأي غرابة، ويشهد بذلك إحصاء من عمروا وطال عمرهم فوق الألف.

ص: 154

في كتاب (المعمرون) لأبي حاتم السجستاني من أبناء العامة، شهد وأخبر عمن طال عمرهم، أحصينا من هذا الكتاب ومن كتاب الإمامة والمهدوية وإلزام الناصب والكتب التي ذكرت من طال عمرهم، نبذة قليلة ممن طال عمرهم ممن يشهد لهم بذلك وصدقت شهاداتهم، يعني الأخبار بطول عمر هؤلاء ممّا هو متيقّن قطعاًٍ مثلاً:

يستفاد من الروايات والتأريخ الصحيح أن آدم عمّر 930 سنة.

شيت بن آدم عمّر 912 سنة.

إدريس عمّر 960 سنة.

ذوالقرنين عمّر 3000 سنة.

لقمان عمّر 3500 سنة.

عوج بن عناق عمّر 3000 سنة.

الضحاك عمّر 1000 سنة.

الفارسي عمّر 750 سنة.

فريدون عمّر 1000 سنة.

ليس المعمّرون عشرة أو عشرين فقط حتى تكون الطبيعة البشرية عاجزة عن ذلك.

وإليك ما أخبر به أبو الصلاح الحلبي رحمة الله عليه تلميذ السيد المرتضى قدس الله روحه في تقريب المعارف(1) قال: أما استبعاد ذلك _ طول عمر الإمام

ص: 155


1- تقريب المعارف: 449.

الحجة عليه السلام _ فالمعلوم خلافه، وذكر الإجماع على طول عمر جماعة مثل: نوح والخضر ولقمان، بل غير الصالحين أيضاً، ثم قال: وإذا كان ما ذكرنا من أعمار هؤلاء معلوماً لكل سامع للأخبار، وفيهم أنبياء صالحون، وكفار معاندون، وفساق معلنون، سقط دعوى خصومنا.

هل كان عمر الغائب خارقاً للعادة؟ كلاّ، لقد عمروا كثيراً فحصلت بهم العادة لثبوت أضعاف عمر الإمام الحجة الحالي، أربعة آلاف سنة عمر الخضر، هل ذلك أكثر أم عمر الإمام المهدي؟

لذلك فإن الطبيعة البشرية التي أشكل بها على طول عمر الإمام المهدي هي تؤيد طول عمر الإمام المهدي أرواحنا فداه.

الأصول العلمية:

وأما على صعيد الأصول العلمية، وأتذكر قبل ليلتين سأل بعض الاخوان على الانترنيت: هل يمكن إثبات طول عمر الإمام المهدي بحسب الأصول الطبية، أو بحسب الموازين الطبية؟

مسألة التحقيقات التجريبية والمطالعات العلمية في علم الحديث تؤيد مائة بالمائة طول عمر الإمام روحي فداه، بل تؤيد طول عمر البشر عامّة بعد بيان ما يلزم في طول العمر.

نص واحد ننقله من خبراء هذا الفن من الجراحين والأطباء المشتغلين في الجراحة من مجلة المقتطف المصرية العدد 3 السنة 1959 صفحة 283، أنا

ص: 156

صورت ثلاث صفحات من هذه المجلة، أقرأ بعض النصوص وبعض العبارات، لتعلموا أنه على الصعيد الطبي يمكن، بل يعلم إمكان طول العمر، بل هو محقق فعلاً، يقول العلماء الموثوق بعلمهم:

إن كل الأنسجة الرئيسية من جسم الحيوان تقبل البقاء إلى مالا نهاية، بل والإنسان أيضاً يقبل البقاء حياً ألوفاً من السنين إذا لم تعرض عليه عوارض تقصر حبل حياته.

وقولهم هذا ليس فقط نظرية، بل عملية مؤيدة بالامتحانات.

فقد تمكن أحد الجراحين من قطع جزء من الحيوان وإبقائه حياً أكثر من السنين التي يحياها، وهذا الجراح الدكتور لكسي كارل من المشتغلين في معهد (روفلر) امتحن ذلك في قطعة من جنين الدجاج، فبقيت تلك القطعة حية نامية أكثر من ثمان سنوات، وهو وغيره امتحنا قطعاً من أعضاء جسم الإنسان من أعضائه وعضلاته وقلبه وجلده وكليته، فكانت تبقى حية نامية مادام الغذاء اللازم لها موفوراً في زمان طويل.

حتى قال الأستاذ بيمندورول من أساتذة جامعة هوبنز: إن كل الأجزاء الخلوية الرئيسية من جسم الإنسان قد ثبت أن خلودها بالقوة، بل هو مثبت بالامتحان، ثم أخبر الدكتور ورون لويس أنه يمكن وضع أجزاء خلوية صناعية في جسم الإنسان، وتوالت التجارب فظهر أن الأجزاء الخلوية في أي حيوان، وأي إنسان يمكن أن يعيش، بل يمكن أن يتكاثر مادام له الغذاء المناسب.

ص: 157

ثم شرع في بيان تجاربه إلى أن حصل على عدة نتائج:

أ _ إن هذه الأجزاء الخلوية تبقى حية ما لم يعرضها عارض يميتها.

ب _ إنها لا تكتفي بالبقاء حية بل تنمو خلاياها وتتكاثر، بخلاف الشبهات المطروحة طبياً من أن الخلايا تموت، بل يمكن تجديد وتكاثر الخلايا.

ج- _ يمكن نموها وتكاثرها ومعرفة ارتباطها بالغذاء.

د _ لا تأثير للزمن عليها حتى أنها تشيخ وتضعف بمرور الزمن، فشيخوخة الأحياء ليست سبباً بل هي نتيجة.

وذكر الاستدلال على ذلك والاستناد إلى التجارب التي وصلته من أطباء وجراحين عدّة في هذا المقام.

على صعيد الأصول الطبية، الأصول العلمية لا تنفي، بل تؤيد مسألة طول العمر.

فطول عمر الإمام المهدي أرواحنا فداه بالإضافة إلى الاستدلال الرئيسي الذي عرضته بخدمتكم وهو الأعجاز، يمكن الاستدلال له بالأمور الخمسة، ويثبت طول العمر، وهو واقع، ورعاه الله تعالى من كل سوء إن شاء الله.

اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين.

ص: 158

الأسئلة والأجوبة:

س1/ كيف تكون رؤية الإمام عليه السلام ؟ هل الرؤية في الحقيقة أم بالمكاشفة، وهل هذه الرواية صحيحة: (إن من قال برؤية الإمام فكذبوه؟).

ج/ تكرر هذا السؤال ليلة أمس، وقلنا بأن الرؤية رؤية حقيقية ويمكن الرؤية في المنام، بل يمكن الرؤية في اليقظة.

وتكون رؤية حقيقية على نحوين: إما رؤية مع المعرفة، أو رؤية بدون معرفة، ثم يعرف الإمام روحي فداه، وهذه المشاهدة ممكنة، بل هي واقع.

وأما الحديث الشريف وان كانت من التوقيعات الصحيحة (ألا فمن ادعى المشاهدة فكذبوه).(1)

معنى المشاهدة غير المشاهدة في عصر الغيبة الكبرى لأبرار علمائنا رضوان الله عليهم، تلك تكون بمعنى آخر، نبيّنها إن شاء الله.

س2/ هل رواية أن الإمام سيقتل صحيحة؟ وكيف يكون ذلك، والمفروض أن الأرض بعد ظهوره تتملئ قسطاً وعدلاً؟

ج/ شهادة الإمام روحي فداه مستفادة من الروايات عنهم عليهم السلام: (ما منا إلا مقتول أو مسموم)(2) على نحو الشهادة.

ص: 159


1- الاحتجاج للطبرسي ج 2: 297.
2- كفاية الأثر للخزاز القمي ص 162، والصراط المستقيم للنباطي العاملي ج 2: 128.

وإن كان بعض العلماء قد لا يقبل هذا القول، لكن الروايات المعتبرة تقول: إن حديث (ما منا إلا مقتول أو مسموم) حديث صحيح معتبر جارٍحتى في الإمام الحجة روحي فداه.

وهو أجاره الله من كل سوء، سيكون شهيداً، لكن بعد ظهوره وبعد دولته لا قبلها.

حتى لا يتخيل الأخ ويسأل: كيف يقتل وكيف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، يملؤها قسطاً وعدلاً بالتأكيد، وسيكون ذلك في حكومته المظفرة، بل في بعض الروايات أنه سيعيش في حكومته (300) سنة، وفي بعضها (70) سنة، وفي بعضها (20) سنة على اختلاف الأقوال والروايات، لكن هذه الشهادة ستكون بعد ذلك.

نعم، ستكون له الشهادة وهي واضحة في أحاديث معتبرة، أنه سيتولى غسله الإمام الحسين روحي فداه، بل في بعض الأقوال أنه سيدفنه في قبره.

هذا موجود ومعتبر، لكن لا منافاة بين أن تكون الشهادة بعد دولته والإصلاحات قبل دولته، والله العالم.

والحمد لله رب العالمين

ص: 160

المحاضرة الخامسة: سفراء الإمام المهدي عجل الله فرجه

اشارة

ص: 161

ص: 162

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، فاطر السماوات والأرضين.

والصلاة والسلام على أحب خلقه وسيد بريته حبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين المنتجبين الغرّ الميامين.

واللعن الدائم على أعدائهم وظالميهم وقاتليهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم وجاحدي حقوقهم قاطبة، من الجن والإنس إلى يوم الدين، آمين رب العالمين.

سفراء الإمام عليه السلام:

بحثنا هذه الليلة بعون الله في سفراء الله، سفراء الإمام المهدي، والتشرف بخدمته ووظائفنا في غيبته.

مسألة السفراء في الغيبة الصغرى التي دامت ما يقارب سبعين سنة، هذه المسألة ثابتة حقيقة لكن يلزم التعرض لها للتأكيد في ثبوتها وإثباتها أمام

ص: 163

التساؤلات أو الشبهات في مقابل البديهة التي ألقاها بعض العامة، نبين بعض كلماتهم.

إذاً لابد من هذا البحث، لأنه يفيدنا في التثبيت وفي دفع الشبهات العامية.

ابتداءً السفارة إذا كانت بفتح السين بمعنى الرسول، وبكسر السين بمعنى المصلح، وكلا المعنيين في السفير موجود.

السفير هو الرسول، وهو الواسطة والمصلح، وفي زيارة أمير المؤمنين أرواحنا فداه: السلام عليك يا سفير الله إلى خلقه.(1)

هذه المعاني المقدسة _ الواسطة، الوسيلة، المصلح _ من قبل الله تعالى إلى خلقه أطلقت على السفراء الأربعة الذين نابوا عن سيدنا الإمام المهدي أرواحنا فداه في مدة الغيبة الصغرى، المشايخ الأربعة يعني: عثمان بن سعيد العمري الزيات، وولده محمد بن عثمان، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمد السمري، هؤلاء المشايخ الأربعة الطيبون العدول الثقات أصحاب جلالة القدر، بشهادة أكابر وأعاظم علمائنا ممن نظروا، وحظروا، وشهدوا، هؤلاء السفراء.

سفارتهم ثابتة، ونيابتهم وبابيتهم ووكالتهم عن الإمام المهدي أرواحنا فداه ثابتة بالأدلة التي سنذكرها إن شاء الله.

ص: 164


1- بحار الأنوار: 97/ 342 الحديث 32.

لكن هناك شبهة من بعض الكتب العامية مضمونها _ أطال كلامه في الشبهة _ وخلاصتها:

أن الشيعة تزعم سفارة بعض المشايخ عن مهديهم، لو فرضنا وجود المهدي، إلا أن سفارة هؤلاء ليس لهم دليل عليها، لماذا؟ _ بماذا يحتج هذا الشخص _ وذلك لأن الحسين بن روح وهو أحد هؤلاء السفراء بعث كتابه كتاب التأديب إلى قم ليصححوه، فإن كان سفيراً عن المهدي فلِمَ لم يعرضه على المهدي ليصححه؟ بعثه إلى علماء قم لصححوه.(1)

هذا مضمون الكلام والشبهة التي أطال فيها، واحتج بها، وهي حجة وليست بحجة، لماذا؟

أولاً: إن الذي يشير إليه هذا الشخص _ وهو إرسال كتاب التأديب إلى قم _ هو ما ذكره شيخ الطائفة أعلى الله مقامه في كتاب الغيبة صفحة 240 عبارة: (بعث الشيخ حسين بن روح كتاب التأديب إلى قم، وكتب إليهم: لاحظوه انظروا فيه هل فيه شيء يخالفكم؟).

هذه جميع العبارة، وليس فيها أنه أرسله للتصحيح، خصوصاً مع هذا التعبير (هل فيه شيء يخالفكم)، ولم يقل: تخالفونه، لا أريد التصحيح أنتم لاحظوا هل لكم رأي في مقابل هذا، ليس المقصود تصحيح الكتاب، ولم يقل الحسين رحمه الله: هل فيه شيء تخالفونه، بل قال: هل فيه شيء يخالفكم، تثبيتاً لهذا الكتاب.

ص: 165


1- للوقوف على هذه الرواية راجع كتاب الغيبة للطوسي ص 240.

ولعله مثل الحسين لا يصنع إلا ما أمره المهدي روحي فداه، فلعله بأمر المهدي تثبيتاً لهذا الكتاب في أهل قم.

ثم لمن أرسله؟ أرسله إلى محمد بن عبد الله الحميري شيخ القميين أعلى الله مقامه، ومحمد بن عبد الله هو صاحب التوقيعات والمسائل من الحسين بن روح، هو يسأل الحسين بن روح، أمّا الحسين يسأل من عنده فهذ غير معقول.

مسائل محمد بن عبد الله الحميري مذكورة في الكتب، كتب الأخبار والكتب الفقهية التي يستدلون بها، عن طريق الحسين بن روح، يسأل الحسين هكذا: جعلني الله فداك، وقاك الله من كل سوء، مالك في هذه المسألة، يسأل الحسين، ثم الحسين يسأل الإمام الحجة فيجيبه.

إذاً هو يسأل الحسين، فكيف الحسين يسأل من عنده؟ شيء غير معقول.

إضافة إلى أن العبارة لا توجب هذا المعنى (هل فيه شيء يخالفكم)، ولم يذكر تصريحاً في المقام.

جعل هذه حجة، أنه إذا كان نائب الإمام، سفير الإمام الحجة لِمَ لَم يصحح الكتاب عنده؟

الأدلة على السفارة:

بلى ثبتت سفارة هؤلاء بالأدلة التي سنذكرها عندنا، بل هي محل الاطمئنان والقطع واليقين عند الشيعة.

ص: 166

إنهم سفراء الإمام المهدي بلا شك ولا ريب من وجوه شتى، بأدلة كثيرة، ليس بين الشيعة أي خلاف فيها، لم أر بالرغم من التحري الكامل من هذه الجهة، لم أر خدشاً _ شهد الله _ في سفارة هؤلاء من أحد من علماء الشيعة أبداً، بل كما في كتاب _ الإمامة والمهدوية _ أجمعت الشيعة على أمانتهم وعدالتهم وسفارتهم ومقامهم وعلوّ درجتهم، محل إجماع الشيعة، مجمع عليه، كيف ليس لدينا دليل؟!

أولاً: الإجماع، إجماع الشيعة، وليس في هذا الأمر خلاف، ثانياً الأدلة موجودة بالنسبة إلى سفارة هؤلاء عن الإمام في نفس الرسائل، الكتب، التوقيعات، الروايات التي وردت في جلالة قدرهم.

وسنذكرها إن شاء الله، لكن قبل أن أبين شيئاً يدلنا على سفارة ووكالة هؤلاء.

أولاً: الإجماع المتقدم، وليس بين الشيعة أي خلاف.

ثانياً: كلام الطبرسي صاحب الاحتجاج في الاحتجاج(1)، حيث يقول _ رحمه الله _: ولم يقم أحد منهم بذلك إلا بنص عليه من قبل صاحب الأمر روحي فداه، يعني بالوكالة والسفارة.

أنت سلمت أن الإمام المهدي موجود لكن سفارة هؤلاء لم تثبت. لكنه موجود ونص على هؤلاء، ونصب صاحبه الذي تقدم عليه، منصوص من

ص: 167


1- الاحتجاج للطبرسي: 2/295.

قبل صاحب الأمر مباشرة، أو بنص السفير السابق عليه، لا ينطق ذلك السفير إلا عن الحجة روحي فداه. هذا ثانياً.

ثالثاً: لم تقبل الشيعة _ كما يقول الطبرسي رحمه الله _ قول هؤلاء إلا بعد ظهور آية، أو معجزة تظهر على يد كل واحد منهم، مع جلالة قدرهم.

بمجرد أن بينوا شيئاً عن الإمام المهدي، رسالة عن الإمام، أو كلاماً أو أمراً عن الإمام لم يقبلوا إلا بعد ظهور المعجزة على يدهم.(1)

وقد صدرت معاجز للإمام يذكرها بالتفصيل كتاب الغيبة للشيخ الطوسي(2)، فيما يقارب خمس صفحات، ظهرت معاجز على يدهم، إنباءات غيبية بما يريده السائل ويضمره فيجيبه هذا الشيخ، أو بالنسبة إلى بعض المعاجز التي تكون هي خارقة للطبيعة والعادة ظهرت على يد هؤلاء بواسطة الإمام المهدي.

لن تقبل الشيعة قولهم إلا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الأمر، تدل على صدق مقالتهم وصحة نيابتهم هذا ثالثاً.

رابعاً: تؤيدنا الزيارة التي وردت لهؤلاء السفراء _ رزقنا الله زيارتهم _ ينقلها شيخ الطائفة أعلى الله مقامه في التهذيب(3)، بعد زيارة المعصومين

ص: 168


1- الاحتجاج للطبرسي ج2: 297.
2- راجع كتاب الغيبة للطوسي ص 170.
3- تهذيب الأحكام: 6/118.

أرواحنا فداهم، يذكر استحباب زيارة هؤلاء السفراء الأربعة، ثم يذكر في زيارة هؤلاء السفراء هذا النص في كل واحد من هؤلاء الأربعة:

أشهد أنك (باب المولى، أديت عنه وأديت إليه، ما خالفته ولا خالفت عليه، والسلام عليك من سفير ما آمنك ومن ثقة ما أمكنك).

صريح في سفارتهم، ونيابتهم، وأمانتم أداء عن الإمام المهدي عليه السلام لذلك الشيعة لهم دليل، دليل اطمئناني جزمي في سفارة هؤلاء.

خامساً: النصوص المبينة لوكالة هؤلاء، النصوص المعبرة بنيابة هؤلاء، نصوص صحيحة معتبرة نصت على هؤلاء.

كيف لم يكن لهم دليل؟!

نذكر هذه النصوص في ضمن بيان تراجم هؤلاء السفراء الأربعة رضوان الله عليهم.

وبيان هؤلاء إضافة إلى كونه إثباتاً لسفارتهم، رأيت رواية عن الإمام الرضا روحي فداه في عيون الأخبار، ينقلها الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه في رسالة شرايع الإسلام، يذكر فيه الإمام الرضا عليه السلام الأمور التي هي من صميم شريعة الإسلام، من الصلاة والصوم والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومودة أهل البيت، إلى أن يصل إلى المحبة، يبين الإمام أن من شريعة الإسلام، ومن شريعة الدين محبة الذي مضوا على منهاج نبيهم ولم

ص: 169

يغيروا ولم يبدلوا الولاية لأتباعهم وأشياعهم، والمهتدين بهداهم والسالكين منهاجهم رضوان الله عليهم.(1)

ولا شك أن هؤلاء السفراء على هذه الجلالة من القدر ممن سلكوا منهاج رسول الله صلى الله عليه وآله، ومنهاج الأئمة، ليس فيهم تغيير ولا تبديل أبداً.

لذلك مقدمة لمحبتهم نعرفهم فنحبهم استدلالاً على سفارتهم وبياناً لجلالة قدرهم، وواسطة في محبتهم والاعتقاد بهم على صعيد النيابة والسفارة.

وقبل أن أبين هذا المعنى، ذكر بعض الأفراد وبعض الشخصيات والثقات في مقام التوثيقات والتوقيعات التي هي عن الإمام المهدي، لذا سأل بعض الاخوان: ما الفرق بين مثل العمري وبين أبي القاسم بن العلاء رحمه الله، فإن هؤلاء كلهم سفراء؟

الظاهر أن هناك فرقاً، بل قطعاً هناك فرق بين السفارة والوكالة للسفراء الأربعة.

الوكلاء عنهم في البلدان المختلفة، كأنه هؤلاء وسائط في جلب رسائل الناس إلى السفراء في بغداد، وفي بعث رسائلهم وأجوبتهم إلى تلك المدن.

هناك وكلاء أو سفراء الإمام المهدي منحصرون بالأربعة، والبقية الذي نراهم يحملون التوقيع أو يبينون شيئاً، هؤلاء وكلاء عن هؤلاء السفراء

ص: 170


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2/125.

أحصاهم في تنقيح المقال وهم عشرون شخصا(1)، هؤلاء وكلاء عن هؤلاء السفراء، لذلك كان هؤلاء السفراء الخاصون النواب الأربعة من جهة خصوصيتهم هم يحملون الرسائل والأجوبة والمسائل مباشرة مع الإمام المهدي روحي فداه ويرونه ويسألونه ويبلغون عنه، بينما الوكلاء يراسلون عن طريق هؤلاء السفراء، هذه من جهة.

ومن جهة أخرى الحفاظ على الشيعة وعقائدهم كانت مهمة السفراء الأربعة في جميع البلدان، لكن بالنسبة إلى الوكلاء، كل واحد منهم كان مسؤولاً عن محله ووظيفته، لذلك هناك فرق بين السفير وبين الوكيل من جهة شأنه ومن جهة عمله.

الوكلاء العشرون _ حتى لا يختلطوا بالسفراء _ أحصاهم في التنقيح، وهم:

أحمد بن إسحاق الأشعري من قم.

أبو هاشم الجعفري، محمد بن جعفر الأسدي عن ري.

حاجز بن يزيد الملقب بالوشاء من بغداد.

أبو إسحاق إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، ومحمد بن إبراهيم من أهواز.

القاسم بن العلاء من أهل آذربيجان.

ولده الحسن بن القاسم، ومحمد بن شاذان النعيم من أهل نيشابور.

أحمد بن حمزة بن اليسع، ومحمد بن صالح من همدان.

ص: 171


1- تنقيح المقال في معرفة الرجال: 1/ 200.

العاصمي من الكوفة.

إبراهيم بن محمد الهمداني العطار من بغداد.

الشامي من ري.

أبو محمد الوجناتي، وعمر الأهوازي، وأبو عبد الله الحسين في قم.

أيوب بن نوح بن الدراج، أبو جعفر محمد بن أحمد في بغداد.

هؤلاء الوكلاء، ويكونون في حيطة المحافظة على الدين كل في منطقته وفي حيطته، وأما السفراء فهم أربعة لا يزيدون على ذلك.

السفراء الأربعة:

بالنسبة إلى السفراء الأربعة:

الأول: أبو عمر عثمان بن سعيد العمري السمان الزيات الأسدي:

بدأ حياته السعيدة من زمن الإمام الهادي عليه السلام صاحب الإمام الهادي، ثم الحسن العسكري ثم الإمام المهدي أرواحنا فداه، توكل عنه، ناب عنه، كان سفيراً من قبله، ووكالته وسفارته تثبت من روايات عديدة، لكن بعنوان التبرك نقرأ رواية أو روايتين من كل واحد ليتبين وجود الدليل على سفارة هؤلاء.

بالنسبة إلى عثمان بن سعيد فيكفينا حديث عبد الله بن جعفر الحميري الموجود في أصول الكافي قال: أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي

ص: 172

الحسن _ يعني الإمام الهادي روحي فداه _ وقال: سألته وقلت له: من أعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي فما أدّى إليك عني فعني يقول، وما قال لك فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه ثقة وثقتي في المحيا والممات(1). في زمان حياتي وبعد موتي عند وجود الإمام المهدي.

وكذلك في حديث جعفر بن محمد بن مالك الفزاري المنقول في رجال الكشي ينقل عن جماعة من الشيعة منهم الأجلاء: علي بن بلال، وأحمد بن هلال، ومحمد بن معاوية بن حكيم، والحسن بن أيوب بن نوح، في خبر طويل قالوا جميعاً: (اجتمعنا إلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري لنسأله عن الحجة من بعده فقال: جئتموني تسألوني عن الحجة من بعدي؟ قلنا: نعم بأبي أنت وأمنا، فإذا غلام كأنه قطعة قمر أشبه الناس بأبي محمد عليه السلام فقال: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم فاقبلوا من عثمان ما يقوله بعد يومكم هذا وانتهوا إلى أمره _ في زمان الغيبة _ واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه)(2). نص على خلافته وسفارته.

إذاً سفارة عثمان بن سعيد من المنصوصة من قبل الإمام الهادي والعسكري والمهدي أرواحنا فداهم.

ص: 173


1- الكافي: 1/329 الحديث 1.
2- رجال الكشي: 485.

توفي رضوان الله عليه ودفن في الجانب الغربي من بغداد في شارع الميدان، وله مقام معروف يزار فيه. رزقنا الله زيارته.

الثاني: أبو جعفر محمد بن عثمان العمري الأسدي الزيات:

وهو الورع النقي الذي لم يختلف في تقواه اثنان من علماء الشيعة، خدم الإمام العسكري والإمام المهدي خمسين سنة سفراً وحضراً.

يظهر من بعض الروايات أنه كان في خدمة الإمام في سفره وحضره في مكة وفي غير مكة.

وجلالة قدره وسفارته تتبين من أحاديث كثيرة منها:

حديث محمد بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي في الغيبة للشيخ الطوسي أنه خرج إليه بعد وفاة أبي عمر عثمان بن سعيد والد محمد بن عثمان، خرج هذا التوقيع من الناحية المقدسة عن الإمام المهدي عليه السلام:( والابن _ محمد بن عثمان _ والابن وقاه الله لم يزل ثقتنا في حياة الأب رضي الله عنه وأرضاه ونضر الله وجهه، يجري عندنا مجراه ويسدّ مسده _ مثل الأب _ وعن أمرنا يأمر الابن وبه يعمل تولاّه فانتهِ إلى قوله وعرف معاملتنا ذلك.(1)

وكذلك حديث عبد الله بن جعفر الحميري خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري في التعزية بأبيه رضي الله عنهما: (أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء، رزئت ورزئنا وأوحشك فراقه وأوحشنا، فسره

ص: 174


1- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 220.

الله في منقلبه وكان من كمال سعادته أن رزقه الله عز وجل ولداً مثلك يخلفه من بعده، ويقوم مقامه بأمره ويترحم عليه، والحمد لله، فإن الأنفس طيبة بمكانه _ هنيئاً له يطيّب خاطره الإمام المهدي _ وما جعله الله عز وجل فيك وعندك، أعانك الله وقواك وعضدك ووفقك، وكان الله لك ولياً وحافظاً وراعياً وكافياً ومعيناً).(1)

وفي حديث علي بن أحمد الدلال القمي قال: (دخلت على أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد يوماً لأسلم عليه، فوجدته وبين يديه ساجة _ خشبة _ ونقاش ينقش عليها ويكتب آي من القرآن الكريم وأسماء الأئمة عليهم السلام على حواشيها فقلت له: يا سيدي ما هذه الساجة؟ فقال: هذه لقبري تكون في القبر أوضع عليها، وقد عرفت من الدلال _ يقول عن محمد بن عثمان _ وقد عرفت منه أنه قال: وأنا في كل يوم أنزل فيه _ في القبر _ فأقرأ جزءاً من القرآن فأصعد فأخذ بيدي وأراني، فإذا كان يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا صرت إلى الله عز وجل، ودفنت فيه، وهذه الساجة معي، فلما خرجت من عنده أثبت ما ذكره، فما تأخر الأمر حتى اعتل أبو جعفر فمات في اليوم الذي ذكره من الشهر الذي قاله في السنة التي ذكرها ودفن في ذلك القبر مع تلك الساجة).(2)

جلالة قدره مدح الإمام له يكفيه.

ص: 175


1- كتاب الغيبة للطوسي، ص: 361.
2- فلاح السائل لابن طاووس ص 74.

دفن رحمة الله عليه في بغداد قرب باب سلمان، وقبره معروف هناك يعرف بالشيخ الخلاّني، رزقنا الله زيارته.

الثالث: أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي:

وهو الثقة السعيد الرشيد السديد الموصوف بكمال العقل والرشد في توثيقاته وفي بيان جلالة قدره والشواهد على نيابته كذلك روايات عديدة منها:

رواية محمد بن همام المذكورة في غيبة الشيخ أن أبا جعفر محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه جمعنا قبل موته وكان وجوه الشيعة وشيوخها معنا فقال لنا: إن حدث علي حدث الموت فالأمر إلى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي فقد أمرت أن أجعله في موضعي _ هذا الشخص الذي يدعو له المهدي (رعاك الله حفظك الله) هذا لا يحتمل فيه الكذب _ فقد أمرت أن أجعله في موضعي بعدي، فارجعوا إليه وعولوا في أموركم عليه.(1)

وكذلك في الغيبة حديث جعفر بن أحمد النوبختي في حديثه: دخلنا على أبي جعفر _ يعني العمري رحمة الله عليه _ فقلنا له: إن حدث أمر فمن يكون بعدك؟ فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح ابن أبي بحر

ص: 176


1- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 226.

النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر والوكيل والثقة الأمين، فارجعوا إليه وعولوا أموركم عليه، فبذلك أمرت وقد بلغت.(1)

توفي رحمه الله بعد هذه الخدمة الجزيلة، ودفن في مقامه المعروف ببغداد في سوق الشورجة.

الرابع: أبو الحسن علي بن محمد السمري:

وهو كذلك ثقة جليل موسوم بالفضيلة والنبل في كتب الرجال، صحب الإمام العسكري أرواحنا فداه مدة، ثم تولى نيابة وسفارة الإمام المهدي أرواحنا فداه، كما ينص حديث الكتاب:

أوصى الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح إلى أبي الحسن علي بن محمد السمري رضي الله عنه فقام بما كان إلى أبي قاسم في جميع أموره.(2)

بل من نفس التوقيع الذي صدر، وهو آخر توقيعات الإمام المهدي أرواحنا فداه بالنسبة إلى السمري تتبين سفارته بالوضوح، يعني هناك رواية صحيحة معتبرة نص فيها على أنه سفير ونائب عن الإمام المهدي عليه السلام ، الرواية المعروفة التي كانت آخر توقيعات الحجة روحي فداه.

بعد ما توفي السمري أعلى الله مقامه ودفن في المكان المعروف قرب قبر الشيخ الكليني قدس الله روحه، هذا التوقيع من التوقيعات الحساسة المهمة،

ص: 177


1- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 226.
2- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 242.

وقد نقل بأسناد صحيحة ومعتبرة، توجد جميع الأسناد في الغيبة للشيخ الطوسي صفحة 242 وكمال الدين صفحة 516 والاحتجاج للطبرسي المجلد 2 صفحة 297، حديث معتبر من التوقيعات المقدسة إلى السمري، ينقلها جميع هؤلاء هذا نص الحديث، بالأسناد المعتبرة إلى أحمد بن الحسن الكتب شيخ الشيخ الصدوق قال:

كنت بمدينة السلام، في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري، وحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعاً رأيناه، نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم

يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك، ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفترٍِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال المكتب فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده.(1)

ص: 178


1- لاحظ: مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني: 8 / 9.

أخبره الإمام أنه بينه وبين ستة أيام إلى اليوم السادس توفي السمري.. فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه فقيل له: من وصيك من بعدك؟ قال: لله أمر هو بالغه.

وهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه، ثم توفي رحمه الله سعيداً.

السند معتبر، المتن صريحِ، والقرينة العلمية موجودة، فيها إخبار بالغيب أنه يموت إلى ستة أيام، ومات على رأس الستة ولا يحدد ذلك صادقاً غير الإمام روحي فداه.

لذا من الأحاديث المعتبرة التي بينت مسألة السفارة عن الإمام المهدي روحي فداه أنه تمت الغيبة الصغرى ووقعت الغيبة الكبرى التامة والسفارة منتهية.

بالنسبة إلى هذا التوقيع الشريف يستفاد من قوله عليه السلام: (فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة)، لا توص لأحد لأنه ليس هناك بعده نيابة خاصة، أو سفارة خاصة، نعم النيابة العامة موجودة ببركة حديث إسحاق.

أما السفارة الخاصة وادعاء السفارة الخاصة عن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه بصريح هذه الرواية مردودة.

رؤية الإمام عليه السلام

ص: 179

لكن يبقى في التوقيع الشريف شيء يثير التساؤل، وهو: (ألا فمن ادعى المشاهدة... ) تحريض وتأكيد وبيان صريح: (ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفترٍ).

ألا تكون هذه الفقرة مكذبة لما يدّعى من التشرفات والمشاهدات التي وقعت في الغيبة الكبرى؟! فإنه عليه السلام قال: فكذبوه أو فهو كذاب مفتر، والتعبير بأنه كذاب مفتر، ألا يقول بأنه إذا ادعيت المشاهدة تشرفاً في الغيبة الكبرى تكون مفتراة.

يحدث هذا السؤال في الذهن، لكن الظاهر بأن الحقيقة أنه لا تنفي هذه الفقرة الشريفة التشرفات التي حدثت من الأعيان ومن الأعاظم من المؤمنين من الأجلاء في الغيبة الكبرى لماذا؟

لوجوه ثلاثة:

أولاً: يحتمل في معنى هذه الفقرة: (الا فمن ادعى المشاهدة فكذبوه) بقرينة المقام، بما أنها في توقيع السفارة الخاصة لعلي بن محمد السمّري لعل المعنى: المشاهدة على نحو السفارة، أي هكذا مشاهدة، مثلك يا علي بن محمد السمري، بقرينة أنه في التوقيع توقيع للسفير مشاهدة السفير _ ألا فمن ادعى المشاهدة _ هكذا كمشاهدتك كسفارتك، مشاهدة نيابية، مشاهدة سفارية، هكذا مشاهدة فكذبوه.

ص: 180

وخصوصاً _ سيأتي من يدعي المشاهدة _ هكذا مشاهدة لعلها تكون على الوجه الذي نبّه عليه شيخ الطائفة أعلى الله مقامه تنبيهاً على من يدعي السفارة كذباً عن الإمام المهدي روحي فداه، ثم أحصاهم الشيخ في الغيبة صفحة 244 قال: مثل حسن الشريعي ومحمد بن نصير النميري وأحمد بن هلال الكرخي ومحمد بن علي بن بلال والحسين بن منصور الحلاج ومحمد بن علي الشلمغاني المعروف ابن أبي العذافر وأبي دلف محمد بن المظفر الكاتب الأزدي ومحمد بن أحمد البغدادي ممن شملهم حديث اللعن.

كلام الشيخ الطوسي _ ألا فمن ادعى المشاهدة _ الشيخ يفيد أنه هكذا مشاهدة وهكذا بيان ادعاء افترائي ممن يدعي المشاهدة السفارية والنيابية هذا معنى.

ثانياً: المعنى الثاني المحتمل _ والعلم عند الله _ أن تكون معنى المشاهدة بلحاظ القرينة السياقية اللفظية: المشاهدة في الكلام العربي العرفي تكون فيمن ينظر أحداً ويعرفه، شاهدت زيداً يعني رأيته وعرفته. إذا لم يعرف لم يقل: شاهدته، المشاهدة بالنسبة إلى من ينظر ويعرف _ ألا فمن ادعى المشاهدة فهو كذاب مفتر _ يعني من يقول أنه شاهد الإمام المهدي وعرفه هكذا يكون في هذه المثابة.

ص: 181

وأغلب التشرفات التي حصلت لم يعرف فيها الإمام المهدي إلا بعد الانصراف عن خدمته، تنبهوا أنه الإمام المهدي في أغلب المشاهدات، إلاّ الأوحدي من أعاظمنا.

الحديث الشريف بالنسبة إلى المشاهدة بمعناها العرفي اللفظي، يعني المشاهدة مع المعرفة، المشاهدة مع معرفة الإمام، هذه تُكذّب، لا كل مشاهدة، فلا تشمل المشاهدات التي كانت في عهد الغيبة الكبرى بالنسبة إلى المؤمنين الذين لم يعرفوا الإمام ثم عرفوه هذا المعنى الثاني.

ثالثاً: المعنى الثالث، ولعله معنى مناسب أيضاً: أن نلاحظ نفس التعبير _ ألا فمن ادعى المشاهدة _ من يصدق في حقه الدعوى العياذ بالله بالنسبة إلى الدعوى، فالمذكور في كتب القضاء أن المدّعي من إذا ترك تُرك وأن قوله يحتاج إلى دليل، يحتاج إلى إثبات، فادعاء المشاهدة إنما يكون بالنسبة إلى الشخص الذي لم تتم له المرحلة المعلومة من جلالة القدر كالمقدّس الأردبيلي أو السيد بحر العلوم أو العلامة الحلي الذين لم يحتمل في كلامهم الخلاف العياذ بالله أبداً، فليس من المحتمل أن يصدر من أحد هؤلاء كذب حتى يكون كلامه محتاجاً إلى إثبات، حتى تناسب الدعوى.

إذا أخبرتم جنابكم عن شيء وكان ثابتاً لا يقال: ادعى شيئاً، بل يقال: أخبر عن شيء، أما ذلك الذي يحتاج إلى دليل فيقال له: ادعى هذا الشيء، وهو يحتاج إلى بينة وإلى إثبات، لذلك تكون الدعوى في الن-زاع وفي المنازعات _ ألا فمن ادعى _.

ص: 182

الإمام روحي فداه بناءً على هذا الاحتمال _ والله العالم _ لا يقول جميع المشاهدات أو كل مدعي المشاهدة، بل من ادعى المشاهدة، أي يكون مدعياً للمشاهدة مفترياً كذاباً.

وأما أمثال المشاهدات التي يبينها علماؤنا الأبرار ليس فيها احتمال الكذب، وليس يصدق عليها الدعوى في هذا المقام.

هذا من جهة ومن جهة أخرى بعض الأمور التي بينت في المشاهدات والتشرفات في زمن الغيبة الكبرى لم تكن دعوى قطعاً، لأنها كانت مرفقة بالدليل وبالبرهان وبالقرينة العلمية القطعية.

لم تكن دعوى، فتخرج عن هذه الدعوى تخصصاً، تكون خارجة عن: _ ألا فمن ادعى المشاهدة _ إذا كانت دعوى، أما إذا كانت تشرفات مع الدليل ومع البينة القطعية، فلا تشمل هذه التوقيعات مثل هذه المشاهدة والتشرف.

على سبيل المثال قضية إسماعيل الهرقلي، لعل أغلبكم يعرفها، فلا نحتاج إلى تطويل، قضية إسماعيل الهرقلي رضوان الله عليه وتشرفه بالإمام المهدي في سامراء مع تلك القرحة الخبيثة التي كانت في رجله اليمنى، ولم يمكن للأطباء معالجتها فأوصوا بقطع الرجل، فانتقل إلى سامراء وتوسل بالإمام المهدي عند شاطئ دجلة هناك، بعدئذٍِ توجه إليه الإمام المهدي وجعل يده على موضع الجرح.

ص: 183

يقول إسماعيل بعد ذلك _ وهذه النكتة أبينها _ أولاً الجرح الذي كان في رجل إسماعيل الهرقلي شاهده السيد رضي الدين بن طاووس وجميع الشيعة في محلة بغداد، بل وبعض العامة كذلك شاهدوه ثم وقعت هذه المعجزة: لمسه الإمام المهدي بيده فلم تكن بعد لمسه أبداً أي آثار للجرح، لم تكن حتى أنه نفسه شك في ذلك.

وكانت القرحة في الرجل اليمنى لاحظ لعله كانت في اليسرى، لاحظها لا في اليمنى ولا في اليسرى، حتى أنّه نبت الشعر في مكان القرحة في اللحظة، ثم أبان هذه الفضيلة عندما رجع، أبانها إلى السيد رضي الدين بن طاووس وأراه هذه القرحة، رآه الشيعة، والعامة، حتى المستنصر العباسي مذكور في الأخبار أنه رأى هذه القرحة وأراد أن يكرمه لم يقبل منه التكريم.(1)

إذاً مشاهدة إسماعيل الهرقلي لا يقال لها: إنها دعوى، إنها إخبار مع البينة ومع الدليل، خبر مع البرهان كيف تكون دعوى؟ تكون خارجة تخصصاً هذا ثانياً.

وثالثاً أن الذي لاحظناه وشاهدناه ولمسناه أن الأبرار الذين يتشرفون بخدمة الإمام المهدي لا يدّعون ذلك، لا يقولون بذلك، يحفظون هذا الأمر، يتحفظون على هذه الفضيلة، لا يراؤون في هذا الشيء.

ص: 184


1- راجع الأنوار البهية للشيخ عباس القمي، ص: 360 نقلاً عن كشف الغمة.

والذي تبين من علمائنا تبين قهراً، تبين بدون إعلان منهم. قضية حدثت فبانت، فضيلة انكشفت.

المير غلام تلميذ المقدس الأردبيلي اقتفى أثره من النجف إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى النجف، ثم بسؤاله تبين للمقدس أنه وراءه فاضطر إلى إعلامه قال: لا أتركك حتى تبين لي لماذا جئت إلى الكوفة وماذا سمعت؟ فرأى المقدس الأردبيلي نفسه مجبوراً على البيان.

أو قضية عيسى البحراني لأجل إثبات حقانية الأمير عليه السلام.

نوعاً. التشرفات إما لم تبين، وإذا بينت كان بيانها قهراً أو دليلاً وبرهاناً لأجل مظلمة.

لذلك التشرفات من أوليائنا من الثقات، التشرفات المنقولة من الثقات، من الأولياء، من الأبرار، من الصادقين لا تنافي هذه الفقرة الشريفة: (ألا فمن ادعى المشاهدة) لا تنافيها للوجوه الثلاثة التي بيناها.

فالتشرف إذاً لا يمتنع بواسطة هذه الفقرة الشريفة، بل إن التشرف لعله يؤيدنا من جهة كونه من علمائنا، فلا ينافي هذا الكلام، وهذا التوقيع.

دعاء التشرف، دعاء الوصول بالخدمة: اللهم أرني وجه وليك الميمون في حياتي وبعد الممات. فإذا لم يمكن التشرف والنظر كيف ندعو بذلك؟!.

أو اللهم أرني الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة، وأكحل ناظري بنظرة مني إليه.

ص: 185

إذاً يمكن لا مانع في التشرف، لكن مع دليل، تشرف مع برهان، تشرف مع وثاق.

بل هناك بعض الأدلة ومن ضمنها، توقيع الشيخ المفيد أعلى الله مقامه، أعني الرسالة الثانية للشيخ المفيد قدس الله روحه، تبين مكان التشرف، وطريق التشرف، ليس هناك طريق الا من طريقهم، إلا ببيانهم، إلا بحجتهم.

كيف نتشرف بخدمتهم كيف نصل إلى تقبيل رجل الإمام المهدي روحي فداه؟ نسأل نفس الإمام لا أنفسنا. هناك بيان صريح في التوقيع الثاني للشيخ المفيد أعلى الله مقامه من الإمام الحجة روحي فداه يبين بأي وسيلة تتشرفون، وإليكم هذا التوقيع لأهميته في هذا المقام.

التوقيع الثاني مذكور في الاحتجاج(1) دققوا في العبارة أرجوكم إخواني الأعزاء:

(لو أن أشياعنا _ وفقهم الله لطاعته _ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها...).

يشاهدونني ويعرفونني مشاهدة صادقة...

(فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكره ولا نؤثره منهم).

مثلي وأمثالك قد نفعل شيئاً لا يرضى الإمام المهدي بأن يصل إليه، ويكرهه، فلا يحب ملاقاتهم...

ص: 186


1- الاحتجاج للطبرسي: 2/325.

إذاًَ طريق التشرف مسموح باجتماع القلوب على الوفاء بالعهد، وعدم فعل ما يكرهه الإمام المهدي روحي فداه.

رزقنا الله التشرف به.

كنت أود ان أكمل هذا البحث في هذه الليلة الختامية من هذا المجلس الشريف، لكن الظاهر أنه (عبدي تريد وأريد، ولا يكون ِإلا ما أريد)(1)، إرادة الله كأنه لم تتعلق بإكمال البحث.

هناك بحث شريف في وظائف الأمة في زمان غيبة الإمام روحي فداه، ثم ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه وقيامه ودولته الحقة. ولكن مع ذلك يؤجل إلى وقت آخر إذا الله وفقني، وحفظكم الله وحفظ هذه المؤسسة والمدراء الكرام.

ووصيتي لكم وإن كنت أصغركم في هذا المقام، لكنه رجاء أخ مؤمن لكبار إخوانه وهم أنتم أن لا تنسوا الإمام المهدي من الدعاء، أكثروا من الدعاء له، فقد نص الإمام المهدي في توقيعه لمحمد بن عثمان العمري (وأكثروا بالدعاء لتعجيل الفرج، فإن في ذلك فرجكم)(2) مأمورون بالدعاء للإمام المهدي روحي فداه.

الدعوات التي نقلت بالاسناد المعتبرة في الكتب المعتبرة.

ص: 187


1- التوحيد للصدوق: 337، باب 55، ح4، ولفظ الحديث: (يا داود تريد وأريد...).
2- كمال الدين للشيخ الصدوق، ص: 485.

منها الدعاء عن الإمام الرضا روحي فداه، العجيب أنه قبل ولادة الإمام في الحديث المعتبر الشريف صحيحة يونس بن عبد الرحمن، ينقل دعاء الإمام الرضا للإمام المهدي، وأوله:

(اللهم ادفع عن وليك...)(1) موجود بعد دعاء العهد بعد دعاء الندبة في المفاتيح، وكان الإمام الرضا يأمر بهذا الدعاء وقراءته.

إذاً الدعاء يكون من جهة الإمام المهدي ندعو له قطعاً، لطفه وإحسانه يقتضي أن يدعو هو لنا ويشملنا بدعائه المستجاب.

اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتعه فيها طويلاً.

ص: 188


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي، ص: 409.

الأسئلة والأجوبة:

س1/ لماذا نقوم عند سماعنا باسم الإمام المهدي؟ فإذا كان السبب هو التأهب والاحترام فمن باب الأولى أن نفعل ذلك للنبي ولعلي صلوات الله عليهما؟

ج/ فعل الشيعة هذا تأسياً بالإمام الصادق عليه السلام ، والإمام الرضا عليه السلام.

هناك حديثان أذكرهما في إلزام الناصب المجلد الأول.(1) صرحا أن الإمام الصادق عليه السلام أمر بالقيام لذكر الاسم الخاص بالإمام، والإمام الرضا فعل ذلك، يعني قام وجعل يده على رأسه.

فتأسياً بهما، ولأن الإمام المهدي إمام يقوم، إمام يكون له القيام فيظهر على الدين وعلى الكرة الأرضية من جهة هذه الميزة، وإن كان جميع الأئمة أحياءً، وإن كان يلزم تعظيم جميعهم، إلا أنه من باب مراعاة الخصوصية، وهي أنه يقوم فيملأ الأرض، خصّ بهذا الاحترام، وإنما نفعله تأسياً بذلك.

س2/ هناك نظريات تقول: إن بعد استشهاد الإمام الحجة صلوات الله عليه سوف تخلو الأرض منه، فما هو حال دولته؟ ومفاد الأحاديث: أنه لو لا وجود الإمام لساخت الأرض بأهلها، فكيف نوفق بين الاثنين؟

ج/ الموجود الذي رأيناه في أحاديثنا المعتبرة أنه مع وجود الإمام الحجة وقبل شهادته، يرجع الإمام الحسين روحي فداه، فيستلم دولته ويكون هو

ص: 189


1- إلزام الناصب للشيخ الحائري اليزدي ج1: 246.

الذي يقوم بالأمر بعده(1) ولا تحدث فجوة أبداً، ولا تخلو الأرض من الإمام لحظة أبداً.

وهذا الحديث إنّما ينقله غيرنا، ومن طريق غيرنا، فليس معتبراً قطعاً.

وحديث لو خلت الأرض من الحجة... أتصور أن فيها تسعة أحاديث معتبرة، وهو الصحيح لذلك لا تخلو الأرض من الحجة، والحجة بعد الإمام المهدي هو الإمام الحسين روحي فداه بلا خلو أربعين. والحديث عامي غير مقبول، والله العالم.

س3/ ما هي الحكمة لانقطاع الإمام الحجة انقطاعاً شبه تام، بحيث أدى إلى عدم الرواية عنه في مجال الأحكام الشرعية؟! في حين كان الإمام بوسعه أن يتصل ببعض العلماء الأبرار، فيبين لهم حكماً شرعياً ينقلونه عنه كرواة، كما كان يروى عن باقي الأئمة ممن سبقه. ولعل ذلك أكثر تثبيتاً لقلوب الشيعة، وأكثر إصابة للحكم الشرعي، وأكثر حسماً للاختبار في وسط الساحة الشيعية؟

ج/ أحسنتم أخي العزيز، ما تفضلتم به الانقطاع التام لم يحدث يا أخي. ولا تنسى: (ولو لا دعاؤنا لكم لاصطلمكم الأعداء).

الانقطاع التام لم يحصل، وإنما الحاصل انقطاع غيبة مع وجود توقيعات منه في الأحكام الشرعية كما بيناه. مر 42 توقيع مشتملة على كثير من الأحكام الشرعية.

ص: 190


1- راجع تفسير العياشي، ج2: 325.

ومع إرجاعه إلى الرواة في حديث إسحاق (إلى رواة أحاديثنا)(1) فهو إرجاع إلى الأحاديث المعتبرة التي هي مدونة في الأصول الأربعمائة من الشيعة، وهي محفوظة.

إذاً لم يحدث انقطاع تام، وكذلك لم تحدث هناك حاجة من جهة الأحكام الشرعية التي طالما بينت وحفظت في الأصول الأربعمائة، وأرشد إليها الإمام عليه السلام.

نعم حرماننا من وجوده يقيناً حرمان كبير، لكنه بفعلنا لا بفعله، مع أن وجوده لطف، وتصرفه لطف، مع بعده منا.

ندعو الله أن يرزقنا ذلك، وأن يرفع هذا الانقطاع والحرمان الذي يتخيله الإنسان من جهة انقطاع الإمام المهدي، وإنه ليس انقطاعاً، بل هو في بعض الموارد التي احتاج البعض إلى إغاثتهم ونصرهم، أعانهم، وقد مرّ على مسامعكم حديث البحراني في مسألة رمانة البحرين.

فهو غير منقطع ونحن غير منقطعين عنه وإنما مشمولون بدعائه إن شاء الله.

س4/ ولكن لو كانت هناك روايات خاصة في الأحكام الشرعية المستجدة لكان ذلك أفضل من الحالة التي نحن عليها الآن ولما احتجنا للرجوع إلى الاجتهاد، أليس هذا النقص الذي نعيشه الآن انقطاعاً؟!

ص: 191


1- الاحتجاج للطبرسي ج2: 470، كمال الدين للصدوق ص 484.

ج/ صحيح ما تتفضلون به، إلا أنه إذا كانت هناك قواعد فقهية قد بيّنت بشكل ضرب القاعدة، والفقيه الذي أرجع إليه الجامع للشرائط يتمكن من الاستفادة بحكمها، فما الفرق بينه وبين الرواية الخاصة بمورد، خاصة وأن فقهاء أصحابنا كزرارة ومحمد بن مسلم بيّن لهم: (علينا إلقاء الأصول وعليكم تفريع الفروع)(1)، أي أن نفس الاجتهاد كان موجوداً حتى في زمان الإمام روحي فداه، فمحمد بن مسلم الثقفي كان يجتهد ويستنبط في الكوفة والإمام في المدينة نفس الاجتهاد كان موجوداً وليس بشيء حادث.

الاجتهاد في زمن الإمام الصادق كان موجوداً في الكوفة بالرغم من كونه في المدينة، بشكل الاستنباط الحي الصحيح.

إذا أمكن الاستنباط واستفادة الحكم من القاعدة والضابطة الكلية من الفرق بينه في النتيجة العملية _ من جهة العمل _ ما الفرق بينه وبين وجود رواية خاصة في مورد؟! خصوصاً وأن دور الإمام المهدي بعد أدوار الأئمة، والتي حفظت فيها جميع الروايات، لأن ليس هناك نقص _ ببركة الأئمة عليهم السلام _ في الفقه الإسلامي الشيعي من جهة رواتنا، حتى بيّن الشهيد الأول رحمه الله في كتاب الذكرى أن كتابنا الكافي _ الأجزاء الثمانية _ تزيد رواياته على جميع الصحاح الستة.

ص: 192


1- السرائر لابن ادريس الحلي ج3: 575.

إذن نحن أغنياء ببركة أهل البيت وببركة روايات أهل البيت في المجاميع الموجودة بأيدينا غير محرومين، صحيح ليس هناك مباشرة سؤال عن الإمام المهدي، وذلك حرمان من جهتنا لا من جهته.

فليس هناك غائلة أو مشكلة من هذه الجهة مادام يمكن استفادة الأحكام الشرعية ببركة أجداد الإمام المهدي وببركة توقيعات الإمام المهدي وبرعاية ودعاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.

أليس هذا كافياً في الجواب؟!

السائل: إذا كانت رواية عن الإمام، أليس أفضل من التضارب والاختلاف في الاجتهادات؟!

السيد: صحيح، إلا أنها إذا لم تكن هكذا، هل هي نقيصة؟ ما فيها نقص أو مشكلة.

السائل: الرجوع إلى رواية مباشرة من الإمام عليه السلام أليس بأفضل من الروايات التي مرّ عليها أربعة عشر قرناً تعرضت خلالها للتحريف والتزوير؟!

السيد: نعم، إذا لم تكن هناك دواع، لكن الحكم الخمسة التي بيناها هي دواع لذلك.

إذا لم تكن هناك دواعٍ لغيبة الإمام لزوماً، لكان هذا هو الأفضل، لكن مع وجود هذه المحاذير في ظهور الإمام روحي فداه، كيف نوفق بين حضور الإمام بيننا واستفسارنا منه وبين هذه الفضيلة، إذن هناك باب التزاحم بين

ص: 193

سؤالنا من الإمام عليه السلام وبين سلامة الإمام، وفي باب التزاحم يقدم الأهم على المهم.

س5/ عامة الناس إذا أرادوا المشاهدة فماذا يفعلون؟

ج/ فليهذبوا أنفسهم وليشاهدوه، وليس هناك مانع، لكن مسألة ظهور الإمام بحيث أسأله أنا وأمثالي، إذا كان هذا فيه محذور من المحاذير الخمسة ومنها خطر قتل الإمام، فمع وجود التزاحم يقدم الأرجح ملاكاً والأتم ملاكاً!.

الأتم ملاكاً حفظ نفس الإمام لا جوابه لمسألة شرعية لي، فإذا ظهر ووقع في خطر فهل هذا هو الملاك الأرجح أم حفظ الإمام؟

لذلك لا يمكن الظهور، وإنما هناك مسألة الاستنباط نستكفي بها بعون الله.

س6/ أخ عزيز يسأل هل ثبت أن الإمام المهدي عجل الله فرجه أفضل المعصومين بعد أصحاب الكساء؟

ج/ تعرض بعض الأخوان إلى هذا السؤال كذلك، قلنا: إن الإمام المهدي أرواحنا فداه بالنسبة إلى جميع الأئمة بل المعصومين الاربعة عشر من جهة العلم سواسية.

يعني ما كان يعلمه النبي بلغ إلى المهدي، وما يعلمه المهدي كان يعرض على النبي، فجميع المعصومين من جهة العلمية والفضيلة العلمية سواسية لا

ص: 194

فرق بينهم، لكن من الجهات الأخرى، من الأمور الأخرى مثل: تعميرهم، وعبادتهم، فضيلة قيامهم، هذه الأمور تخص الإمام المهدي من هذه الجهة.

نعم يستفاد من بعض الروايات الشريفة، أنه له فضيلة على من بعد أصحاب الكساء، يعني بعد الخمسة الطيبة، من الإمام السجاد للإمام المهدي، وهي فضيلة من تلك الجهة، لكن سواسية من الجهة العلمية، والله العالم.

س7/ التوقيع الذي ذكرتموه عن الإمام عجل الله فرجه جاء فيه سيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة، هل يمكن أن يكون حدث بعينه، أي وقع خارجاً؟

ج/ ليس في التوقيع الشريف _ كما قرأناه _ من شيعتي: (ألا فمن ادعى المشاهدة) هذا إخبار غيب-ي عمن يدعي المشاهدة بعد الغيبة التامة.

والذي أفاده الشيخ أنه يكون إشارة إلى من ادعى السفارة كذباً، لا بأس أن يكون بياناً لمن يدعي المشاهدة بعينه ويقول بأنه سوف تحدث المشاهدة، لا حدثت في زمان السفارة إنباءً عن مشاهدة بعينها تكون بعد وفاة علي بن محمد السمري من جهة بعض من يدعي السفارة. يحتمل أن يكون هكذا.

لكن ادعاء المشاهدة بعد وفاة علي بن محمد، أي لا في زمانه ولا في زمان الحجة روحي فداه، (ألا فمن ادعى المشاهدة)، يستفاد منه أنه من حين وفاة علي بن محمد السمري وما يلي ذلك الوقت، أي من حين وفاة

ص: 195

السمري إلى المستقبل (ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر).(1)

لا أنه حدثت مشاهدة قبلاً والإمام المهدي يكذّب ذاك، والله العالم.

س8/ هل يمكن رؤية الإمام بواسطة دعاء مخصوص أو عمل مخصوص؟

ج/ في ذهني أن هناك رواية معتبرة الأسناد ينقلها المحدث القمي أعلى الله مقامه، والظاهر أنها موجودة في المصباح(2)، وهي دعاء لرؤية الإمام إما في المنام أو في الحضور.

وهو دعاء العهد المعروف، يذكر في خاصيته في الحديث أنه يتشرف صاحبه بخدمة الإمام إما في اليقظة أو في المنام.

هذا مالدينا من إمكان المشاهدة بالدعاء، والله العالم.

س9/ هل هناك 13 من الأنصار من النساء؟

ج/ الذي هو موجود في كتبنا، خصوصاً كتب الملاحم والفتن للسيد أعلا الله مقامه يوجد هناك أسماء رجال بينة بالنسبة إلى أصحاب الإمام المهدي أرواحنا فداه.

والذي تبين هناك، وإن كان بعضه اسماً خاصاً بدون اسم الأب، لكن الملحوظ أسماء الرجال.

ص: 196


1- الاحتجاج للطبرسي ج2: 297.
2- راجع مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 713، مصباح الكفعمي ص 482.

والمأمول أن تكون النساء من الأنصار إن شاء الله، لا من الأصحاب، الأصحاب 313 الظاهر أنهم رجال سموا برجال، عبر عنهم برجال لكن يؤمل أن تكون النساء إن شاء الله من الأنصار، فإن هناك أنصاراً للإمام الحجة يؤمل للنساء أن تكون منهم، وإن لم يكنِّ من أصحابه روحي فداه.

س10/ سؤال من النساء: هل لسماحتكم أن تبينوا معنى الأوتاد والأبدال وعددهم، وهل في زماننا مثلهم، وهل يمكن أن يكون بينهم نساء؟

ج/ هناك ذكر للأبدال والأوتاد، يعني: الطيبون، يفسر الأوتاد والأبدال الذين هم طيبون مؤمنون، يكونون من الوسائط في إنجازات الإمام الحجة أرواحنا فداه، كما نقل في بعض الموارد.

نقلهم كاملاً _ على ما في ذهني _ السيد الكاظمي في دوائر المعارف، وذكر بعضهم وبعض رواياتهم، فإذا أردتم التفصيل لاحظوا ذلك الكتاب، والله العالم.

س11/ هل السفارة تكون من الممكن على درجات مختلفة؟

ج/ سفارة الإمام المهدي تعني نيابته الخاصة التنصيصية بالمعنى الذي بيناه، يعني السفارة معناها واحد، هي النيابة والوساطة الرابطة ما بين الإمام روحي فداه وبين الناس.

لكن السفراء وإن كانوا مختلفين في الدرجات إلا أن معنى السفارة لا يختلف.

ص: 197

س12/ في أحيان كثيرة يذكر بعض مقلدي المراجع الكرام، التعبير التالي: باسم المرجع ونائبه بالحق، ما وجه الصحة؟

ج/ وجه الصحة التوقيع الشريف الذي يرجع الإمام المهدي روحي فداه الناس إلى الرواة المجتهدين: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)(1) من باب إرجاع الإمام المهدي أرواحنا فداه إلى الرواة، وإلى المجتهدين من الرواة بالسفارة العامة التي بينها الإمام العسكري في التوقيع الشريف.

من جهة نيابتهم وإرجاع الإمام إليهم سموا بنائبي الحق والله العالم.

س13/ هل يمكن للمؤمن رؤية الحجة شخصياً، أو الإمام علي عليه السلام شخصياً؟ وكيف يكون، وهل بذلك دليل؟

ج/ رؤية الإمام روحي فداه شخصياً، إن كان المراد رؤية الإمام علي بعد شهادته روحي فداه، فإنهم لا فرق بين حيهم وميتهم: (أشهد أنك حي تسمع الكلام وترد الجواب)(2) ورؤيته ورؤية روحه المطهرة، رؤيته في المنام، ولا شك في ذلك، بل يوجد بعض ما يوجب رؤيته في المنام روحي فداه.

وأما رؤية الإمام المهدي روحي فداه، فما ذكرناه من التوقيع الشريف إلى الشيخ المفيد التي تسمح برؤيته لمن اتصف بتلك الصفات التي بينها الإمام عليه السلام.

ص: 198


1- الاحتجاج للطبرسي ج2: 283.
2- البحار للمجلسي ج 98: 330.

س14/ بارك الله بكم، يهمني رؤية الإمام علي شخصياً لأن هناك شخصاً يدعي أنه رآه في اليقظة وأن الإمام يكلمه وينصحه؟

ج/ نأمل أن نكون جميعنا متشرفين بخدمة الإمام روحي فداه، رؤية روحه المطهرة في حياتنا ورؤيت شخصه الطاهر بعد وفاتنا.

لكن مسألة رؤيته في اليقطة أو نقل شيء عنه هذا يحتاج إلى دليل ونلتمس الدليل حتى يكون موجباً لإقناعنا، والله العالم.

س15/ هل يمكن أن يعلل كلامكم بالنسبة إلى عدم تكلم الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه مشافهة مع العلماء كما ذكر الشيخ الأنصاري رحمة الله عليه في كتاب الرسائل حينما ينقلون شيئاً لم نجد له دليلاً ونحتمل أن يكون من قبيل ما هو قد شاهد الحجة عجل الله فرجه، ولكن لم يجدوا على ذلك دليلاً، فلا يمكن لنا أن نتعبد ذلك في مقام الاجتهاد، فربما يعني لو أمكن ذلك أيضاً فالمجتهدون يطالبون بالحجة ومن وراء الحجة وهذه الاحتمالات لا تغنيهم في مقام الاستدلال، هل هذا من المؤيدات؟

ج/ الظاهر أن ما تفضلتم به هو المنقول عن بعض الثقات من أبرارنا ومشايخنا بالنسبة إلى السيد مهدي بحر العلوم أعلى الله مقامه الشريف ما يبينه في كتابه الفقهي ويذكره بعنوان الإجماع ولا نرى في المسألة إجماعاً ولم نر تعرضاً من بعض فقهائنا السابقين على السيد بحر العلوم.

ص: 199

ذلك الكلام يفسره بعض ثقاتنا، وسمعناه من بعض المشايخ أنه من تشرفات السيد أعلى الله مقامه، وتسمى بالإجماعات التشرفية أصولاً، وذلك سمعناه من بعض الثقاة.

وبما أنه يعني بهذه المقدمة التي يبينها السيد بحر العلوم جزمياً، ولم نر عليها دليلاً سابقاً من الفقهاء، ولجزم السيد ومقامه وصدقه وفقاهته ووثاقته فالاحتمال بل الظن قوي أن يكون هو من تشرفاته بخدمة الإمام عليه السلام ، هذا شيء مسموع ولاحظناه من فقهائنا الأبرار.

لكن بالنسبة إلى غير ذلك كالأدعية الشريفة للسيد ابن طاووس أعلى الله مقامه منقول فيها هذا.

وإذا كان هناك قول ثابت يوجب اطمئناننا، فلابد أن يكون من الحجة، وأما إذا لم يكن ذلك مورداً للاطمئنان فيشكل الاستناد إليه، وإن كان صادقاً في مقامه، يعني لو أن مسألة شرعية بينها عالم جليل يكون لنا دليل، هذا مشكل.

نعم، هذا صار دليلاً بالنسبة إلى ما أفتى به الصدوق أعلى الله مقامه في المقنع، لأن ما أفتى به هو مضمون الروايات الشريفة، إذا كان الفقهاء يرجعون إلى كتاب المقنع عند إعواز النصوص من جهة أنها روايات أفتي بها وروايات بينت على شكل نص، أما أن نستدل بها استناداً إلى ذلك، أي على أنها حكم شرعي فذلك مشكل، لامن من جهة عدم صحته، بل لاحتياجنا إلى دليل جزمي عند الافتاء بحكم شرعي، والله العالم.

ص: 200

س16/ ما هي جدوى الانتظار؟

ج/ بالنسبة إلى الانتظار لا شك ولا ريب، لعل الروايات تفوق التواتر، وهي منقولة في إكمال الدين وغيره حتى أن انتظار الحجة لو انتظر الشخص أثيب كمن كان مع رسول الله، أو استشهد مع رسول الله، ومن كان في فسطاط الحجة لا شك في ثوابه.

إلا أن الظاهر هذا لا ينافي التفحص عن حتمية العلامات الأولى، كي يسترّ الإنسان، أو يعرف الإنسان ويحصل كمال معرفته من هذه الجهة، الظاهر لا ينافي الانتظار، منتظراً للفرج، لكن مع ذلك لمزيد المعرفة، لمزيد العلم، يعرف العلامات الحتمية أو غير الحتمية، ويتهيأ للعلامات حتمية وغير حتمية.

إن كان من جانب المعرفة والعلم فهي لا تنافي مسألة الانتظار، وإن كان الانتظار في نفسه وهو (تسليم) محض جيد لا شك في صحته.

س17/ سؤالي هو أن: هل يمكن ملاحظة أن أدلّة كون الإنسان متوقعاً لأمر الحجة، وأن الله يصلح أمره في ليلة واحدة، هذه الأدلة تكون حاكمة على العلامات الحتمية وغير الحتمية؟! أي ان الله تعالى يمكن أن يحدث فيها البداء، كما أن الإمام عليه السلام من قبل ذلك قد قال: (لو لا البداء لأخبرتكم بما كان ويكون)؟

ج/ الحاكمية سيدنا العزيز تحتاج إلى ناظرية، يعني الدليل الحاكم يكون ناظراً إلى الدليل المحكوم، والمفسر له توطئة أو طريق، ليست هناك ناظرية ما

ص: 201

بين دليل انتظار الفرج خصوصاً مع روايات التسليم، أي يكون الشخص مسلماً تسليماً، ولا يقول: لم لم يظهر ولي الأمر في دعاء الغيبة الشريفة. إذا كان انتظار مع التسليم ليس هناك منافاة.

ليس هناك حاكمية ما بين الدليل وبين معرفة الأدلة الحتمية، وحتى قد يستفاد نفس بيان الأدلة الحتمية، خصوصاً: انتظروا نداء السماء، كيف هذا في الحديث: أن نداء السماء يصيح جبرئيل بصوت يسمعه جميع الناس: هذا مهدي آل محمد خرج من الكعبة فاتبعوه، أعينوه التحقوا به.

يجب أن يعرف الإنسان هذه الأمور حتى يكون ملتحقاً بالإمام المهدي.

كذلك المعرفة، لأننا في الانتظار خصوصاً مع التسليم الذي بينته.

س18/ إذا كان ظهور الإمام حتمياً، فلماذا لم يصلح الله أمر الحجة ويظهر عاجلاً من دون أن نرى العلامات؟

ج/ صحيح، لكن هذا لا يمكن أن يكون، بما أن العلامات الخمس: الصيحة التي بينت في محلها وخروج السفياني وغيرها.

هب أن هذه العلامات حتمية لا يكون فيها بداء، ولعدم البداء فيها يلزم أن تكون في سنة الظهور أو قبلها بقليل، لا يمكن أن يكون هناك معنىً حتمي بالنظر إلى هذا المعنى، فمع حتمية وعدم البداء في هذه العلامات الخمس لا يمكن أن يكون ظهور بدون هذه العلامات، وإلا لم تكن حتمية، فإن هذا الكلام مصادرة للمطلوب.

ص: 202

لذلك الجمع بين حتمية هذه العلامات في سنة الظهور أو قريباً منها ويرافقها الظهور.

ومع ذلك يمكن الظهور أن يصلح أمره في ليلة، ولا ينافي أن تكون في تلك الليلة العلامات الخمسة ثابتة، وهل يستحيل على الله أن يبادر لجميع العلامات الخمس فيخرج السفياني، وتكون الصيحة السماوية، ويخرج اليماني، ويكون ظهور الحجة؟

ليس فيها إشكال، مسألة العلامات الخمسة قد تكون في لحظة واحدة، في يوم واحد، في سنة واحدة، وتلائم الظهور مع الحتمية.

ولا يمكن أن نلتزم بالظهور بدون هذه العلامة.

نعم لو لم تكن حتمية لصح القول، لكن بما أنها حتمية فلابدّ من الجمع ما بين الروايات التي ليس فيها بداء وظهور الإمام الحجة، وفقنا الله لرؤيته إن شاء الله.

س19/ هذا إذا فسرتم الحتمية بأنه لا يقتضي فيها البداء، ولا يمكن أن يكون فيها تفسير آخر.

ج/ أنا أجيب حسبما وصلنا من كلام أهل البيت، فإن أهل البيت فسروه بأنها لا يكون فيها بداء، محتم لا يكون غيره، هم فسروه بأنه لا يمكن أن يكون غير هذا.

لذلك أنا على ضوء كلام أهل البيت أعرض في خدمتكم معنى الحتمية: لا يكون فيها بداء، هذا مضمون كلام الإمام الصادق عليه السلام ، حتمية لا

ص: 203

يكون فيها بداء، كذلك تفسّر الحتمية على ضوء الروايات، وتقبلونه جنابكم قطعاً ويقيناً إن شاء الله.

س20/ وأخيراً ما هي نصيحتكم بالنسبة إلى الشيعة في زمان غيبة الإمام الحجة عجل الله فرجه، بالنسبة إلى الدروس التي يدرسها الطلبة؟

ج/ وظائف الأمة في زمان غيبة الإمام روحي فداه كثيرة، وهي مما استفدناه من الأحاديث الشريفة والأدلة التي يعتمد عليها، وعددها عشرون.

وبما أنه يطول الوقت ولا يمكن لنا أن نشرح هذا المعنى، لذلك نحيله إلى وقته المناسب تفصيلاً بعون الله تعالى مع العذر منكم، وهو مقبول لأنكم من الكرام، والعذر عند كرام الناس مقبول.

س21/ سيدنا قد رزقنا الله رؤية الإمام في الرؤية مرتين، في الأولى كان شاباً في منتصف العشرينيات، والثانية كان رجلاً نحو الثلاثين فأيهما أقرب إلى الدقة؟

ج/ إن شاء الله رؤية صادقة، ونأمل له ذلك وكذلك للجميع. لكن الذي في أيدينا من الروايات أنه يظهر في ما يقارب سن الأربعين، والمشاهدات التي حدثها بعض الثقات في هذا السن تقريباً، والذين رأوه قالوا بذلك.

إلا أنه يمكن في مسألة الرؤيا أن يشاهد الإمام في جميع أزمان حياته، في جميع أطوار حياته، والظاهر أن كلامه من جهة الإمكان ممكن ومن جهة الرؤية، أأمل أن تكون صادقة إن شاء الله، والله العالم.

ص: 204

س22/ كيف يمكننا التوفيق بين الروايات التي تعلل غيبة إمامنا المهدي عجل الله تعالى فرجه بأعمال الناس غير اللائقة، وبين الاستطراد وانتشار الفساد والظلم وظهوره الشريف؟

ج/ الذي بيناه كما عرفتموه الآن في توقيع الشيخ المفيد أعلى الله مقامه مسألة المشاهدة كانت من جهة عدم اللياقة وليس مسألة الظهور.

الظهور كان للقضاء على الفساد وامتلاء الأرض عدلاً، الظهور مبتن على هذا، أما الرؤية فهي ممتنعة للياقة، المشاهدة ممتنعة على ما بينه الإمام في توقيعه الشريف أنه الوفاء بالعهد، وعدم وصول ما يكره الإمام المهدي.

هذا كان مبتنى الرؤية والمشاهدة، والأخير مسألة انتشار الفساد والظلم مبتنى لظهور الإمام وقيامه بعد ذلك.

فهناك فرق بين الأمرين، والفارق واضح.

س23/ هل الثلاث مئة والثلاثة عشر شخصاً من أنصاره يستشهدون في الحرب عند ظهوره؟

ج/ يلزم أن نبين مسألة أصحاب الإمام المهدي بأن لهم أوصافاً من جهة إيمانهم، من جهة قوتهم، أنهم لو أرادوا أن يزيلوا الجبال لأزالوها، كيف تكون من قوة؟! كيف تكون من قدرة إلهية محضة؟! ليست من القوى البشرية العادية.

ونفس الإمام مزود بالقوى الربانية التي هي قوى عشرة مبينة في مقامها.

ص: 205

مسألة أنصار الإمام المهدي لهم صفات ولهم خصوصيات، والمعروف بل المذكور في بعض الأحاديث أن بعضهم يستشهد بخدمة الإمام روحي فداه، وينالون هذه الدرجة الرفيعة، رزقنا الله ذلك.

وهناك دعاء موجود أن يجعله من شهداء الإمام المهدي والدعاء فرع الإمكان، بل فرع وقوع هذا الأمر، وهو المأمول إن شاء الله، والله العالم.

والحمد لله رب العالمين

ص: 206

المجلد 5

هویة الکتاب

سرشناسه:وائلی، احمد، 1928 - 2003 م.

عنوان و نام پديدآور:مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام/ جاسِم الوَائِلِی ؛ اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

مشخصات نشر:قم: دلیل نا، 14ق.= 12م.= 13.

مشخصات ظاهری:5 ج.

شابک:1000 دینار: ج. 2: 964-397-073-6 ؛ 1200 دینار: ج. 3: 964-397-046-9 ؛ ج. 4: 964-397-047-7 ؛ ج. 5: 964-397-048-5

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد دوم: 1425ق. = 1383.

يادداشت:هر جلد کتاب حاضر مولفی جداگانه دارد: ج.3. محمد السند، ج.4. علی الحسینی الصدر، ج.5. احمد وائلی.

يادداشت:ج.3. (چاپ اول: 1425ق. = 1383).

يادداشت:ح.5 (چاپ دوم: 1426ق. = 1384).

يادداشت:ناشر جلد پنجم: دلیل ما می باشد.

موضوع:محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255ق -

شناسه افزوده:عابدینی، حسین، 1349 -

شناسه افزوده:حسینی صدر، سیدعلی، 1328 -

شناسه افزوده:مرکز الدراسات التخصصیه فی الامام المهدی علیه السلام (نجف اشرف)

رده بندی کنگره:BP51/و27م 3 1300ی

رده بندی دیویی:297/959

شماره کتابشناسی ملی:م 83-32476

ص: 1

اشارة

مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف

النجف الأشرف_ شارع الصادق_ محلة البراق 210 الزقاق 3 رقم الدار 38

هاتف: 370950 و 332811

ص.ب 588

wwwm-mahdi.com

info@m-mahdi.com

____________________

مُحاضرات حَولِ الإِمَامِ المَهدِی عَلَیهِ السَّلام

اعداد و تحقیق: مَرکَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّیَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَی فَرَجَهُ الشَّریف.

الطبعة: الأولی - جمادي الآخرة 1425 ه

السعر: 1200 دینار

المطبة البیان / النجف الأشرف

جمیع الحقوق محفوظة

عدد النسخ: 3000 نسخة

ص: 2

بِسْمِ ٱللَّٰهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

اللّهُمَّ إنّا نَرغَبُ إلَيكَ في دَولَةٍ كَريمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الإِسلامَ وأهلَهُ وتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وأهلَهُ وتَجعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ إلى طاعَتِكَ وَالقادَةِ إلى سَبيلِكَ ، وتَرزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المركز

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله وعلى آله الطيبين الطاهرين...

أمّا بعد:

شاءت القدرة الإلهيّة أن تضع بأزاء كل حقّ باطلاً يتناسب معه بالقوّة والاستطالة ويوازيه من حيث الاتجاه والمسيرة التأريخية، فكان ذلك من القوانين والسنن الثابتة التي ابتنت عليها أسس الخليقة منذ نشأتها الأولى، والتي رسمت للدنيا إطارها الذي لا تملك أن تخرج عن حدوده.

وهذا هو ذات الأمر الذي أشارت إليه الآية المباركة في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(1)، إذ أنّ التتبّع الواعي لكل مسيرة أو حركة تنتسب إلى الحق في منهجيتها يبرهن لنا أنّ مسيرة الباطل وحركته لم تتخلّ يوماً عن ملازمة حركات الإصلاح والتحرّر والسير الحثيث بموازاتها، منذ اليوم الأوّل الذي وقف فيه أبونا

ص: 5


1- سورة العنكبوت (29): الآية 2.

آدم ليعبد الله الواحد القهّار، ومروراً بما يحدّثنا التأريخ عن قابيل وهابيل والأنبياء والمصلحين، وإلى يومنا الذي نعيشه.

ولعلّ من أوضح الأفكار والرؤى التي تنتسب إلى الحق ونهجه القويم، بل وينتسب الحق إليها، هي الفكرة العقائدية الربّانية المقدّسة التي زرعتها الشرائع السماوية المتعاقبة في حقل الذهن البشري من خلال المسيرة التكاملية للأنبياء والرسل والأوصياء، وهي فكرة المنقذ الذي سيمدّ يده التي باركتها قدرة السماء لتنتشل البشرية من الأودية السحيقة للظلم والجور إلى مرابع القسط والعدل الإلهي، والتي ستحقق الأحلام والآمال التي بذل الأنبياء والمصلحون دماءهم زهيدة في سبيل تحقيقها، ساعين بذلك لجذب الدنيا من بؤر الظلم والفساد والعبودية إلى آفاق الحرية والعيش الرغيد.

فخضعت هذه العقيدة المقدّسة لهذه القوانين الثابتة وتعرضت لشتى أنواع المحاربة على مر العصور، فكانت هذه المحاربة متناسبة مع عظم الأهمية والسمو والرفعة التي أولتها السماء لها.

وبما أنّ أهميّة الدفاع عن هذه العقيدة تنبع من طرفين أوّلهما مقدار عظمة هذه الفكرة من حيث ارتباطها بمبدأ العقيدة الإسلامية التي عبّر عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في قوله: (من مات ولم يعرف إمام

ص: 6

زمانه مات ميتة جاهلية)(1)، وثانيهما مقدار ما يبذله الأعداء من جهود لم يعرف لها مثيل من تسخير كافة الطاقات لإظهارها على أنها العامل الخرافي الذي يتشبث به أناس ناموا على أمل أن يجدوا العالم ذات يوم يحقق لهم آمالهم وأحلامهم التي كبتها ظلم الظالمين مدة مديدة من الزمن العسير.

لذلك وجدنا أنفسنا _ في خضم هذه الظروف والمداخلات _ نتحمل عبئاً كبيراً وجزءً غير يسير من المسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع الصالح من أتباع أهل البيت عليهم السلام في الدفاع عن هذا المبدأ المقدّس الذي يعتبر أس العقيدة وأساس المذهب.

على أنّ كثرة المدافعين من العلماء الأعلام وذوي الأقلام الشريفة على مرّ الدهور لا تغني عن الاستمرار في انتهاج سبيل الذود عن هذه العقيدة المقدسة، إذ أنّ الشبهات _ وإن تكررت بصيغ مختلفة _ تحتاج إلى ردود تتناسب والطريقة التي يتبناها أعداء الحق والأساليب التي يسلكونها والطرق الملتوية التي يتبعونها في توجيه سهام الحقد الأسود للصورة الناصعة لهذه العقيدة المقدّسة.

ص: 7


1- الكافي: 1/ 376 الباب الأول _ الحديث 1 _ 4، المحاسن للبرقي: 1/ 92 الحديث 46، إكمال الدين وإتمام النعمة: 409 الحديث 9، الإيضاح لابن شاذان: 75، مجمع الزوائد: 5/ 224، مسند أبي داوود: 259، كنز العمال: 1/ 203 الحديث 464، وفي صحيح مسلم: 6/ 22 والسنن الكبرى للبيهقي: 8/ 156 بلفظ (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)....

ومركزنا الذي أنشئ بعد الاستشارة والمداولة مع ثلة من العلماء الأعلام وفضلاء الحوزة العلمية المباركة، وبرعاية من المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، يجد أنّ واجبه الأول هو بذل الجهد للدفاع عن سيدنا ومولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف.

فتبنّى هذا المركز مجموعة من المحاور في عمله منها:

1 _ طباعة ونشر الكتب المختصّة بالإمام المهدي عليه السلام، بعد تحقيقها، وذلك ضمن سلسلة وسمناها ب (سلسلة اعرف إمامك).

2 _ نشر المحاضرات المختصّة به عليه السلام من خلال تسجليها وطبعها وتوزيعها، ضمن سلسلة (محاضرات في الإمام المهدي).

3 _ إقامة الندوات العلمية التخصصية في الإمام عجّل الله فرجه، ونشرها من خلال التسجيل الصوتي والصوري وطبعها وتوزيعها في كتيّبات ضمن (سلسلة الندوات المهدوية)، أو من خلال وسائل الإعلام وشبكة الانترنيت.

4 _ إصدار مجلّة شهرية تخصّصية باسم (الانتظار).

ص: 8

5 _ العمل في المجال الإعلامي بكل ما نتمكّن عليه من وسائل مرئية ومسموعة، بما فيها شبكة الانترنت العالمية من خلال الصفحة الخاصّة بالمركز.

6 _ نشر كل ما من شأنه توثيق الارتباط بين الأجيال الجديدة وإمامهم المنتظر عليه السلام ، وذلك من خلال القصص والكتب التي تتناسب مع أعمارهم.

7 _ الاهتمام بنشر التراث المختص بالإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، ضمن (سلسلة التراث المهدوي).

وها نحن عزيزي القارئ الكريم نضع بين يديك هذا الكتاب الذي يحمل بين طياته المحاضرات الفكرية المختصّة بالإمام المنتظر عجل الله فرجه، بعد جمعها وإعدادها، ثم تحقيقها وإستخراج المصادر والمنابع التي اعتمد عليها المحاضرون بالمقدار الذي نتمكّن عليه، بالصورة التي توثّق المعلومات الواردة فيها، ثم مراجعتها وإخراجها بهذه الحلّة التي نسأل الباري عز وجل أن يجعلها محط قبولكم ورضاكم، وأن يجعل هذا العمل مرضياً عند إمام زماننا الذي يعيش بين أظهرنا ويتفقد أحوالنا ويعلم بكل سرائرنا.

إنه نعم المولى ونعم المجيب.

ص: 9

شكر وتقدير

يتقدم المركز بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إعداد هذه السلسلة تحت عنوان محاضرات حول المهدي عجل الله فرجه ونخصّ بالذكر كلاً من:

1 _ لجنة التحقيق، المؤلفة من: سماحة الشيخ رعد الجميلي، وسماحة الشيخ أحمد الساعدي، والأخ الفاضل علاء عبد النبي.

2 _ قسم الحاسوب الآلي لجهودهم الكبيرة في إنجاز هذا العمل، ونخص بالذكر مسؤول القسم الأخ الفاضل ياسر الصالحي.

سائلين المولى القدير جلّ وعلا أن يجعل هذا العمل وجميع الأعمال محطّ قبوله، وأن يأخذ بأيدي الجميع لما فيه الصلاح والموفقية والسؤدد.

والحمد لله ربّ العالمين

السيد محمد القبانجي

مركز الدراسات التخصّصية

في الإمام المهدي عليه السلام

النجف الأشرف

ص: 10

المحاضرة الأولى: دلائل ظهور الحجة (عجل اللّه فرجه)

اشارة

ص: 11

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحيم

قال سبحانه وتعالى:

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...).(1)

تشتمل هذه الآية الكريمة على مجموعة من الأبحاث أعرضها إنشاء الله على التوالي:

البحث الأول: الوفاء بالوعد

قوله تبارك وتعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

كل وعدٍ يصدر من الله عز وجل لا بد من حدوثه وتحققه, لأن الله عز وجل إله الكمالات وخالقها, فلا أتصور أن يصدر منه شيء يخالف التكامل أو المُثل أبداً. لابد من الوفاء بالوعد لأن ما يقبح على الإنسان

ص: 13


1- سورة النور: الآية 55.

عقلاً فبالدرجة الأولى يقبح على الله. ولذلك من الأشياء التي ينفرد بها الفكر الأمامي هو القول بالتحسين والتقبيح العقليين , فالأشياء يختلف فيها الحكماء والفلاسفة هل لها حسن وقبح ذاتي أو حسنها وقبحها شرعي؟

توضيح الفكرة:

هل الكذب صار قبيحاً لأنّ الله عز وجل نهى عنه؟ أو لأنه قبيح في حدّ ذاته، ولوجود هذا القبح الذاتي قبّحه الشارع؟ في ذلك نزاع بين الأمامية والمعتزلة وبين الأشاعرة.

الإمامية يقولون إن الأفعال فيها حسن وقبح ذاتي, فحتى لو لم ينهني الله عن الكذب فانّي أعرف أن الكذب قبيح، ولا شك أن الخيانة رديئة وقبيحة بغض النظر عن أن الشارع يقبّحها أولا.

الأشاعرة يقولون: الحسن والقبح يأتيان من قبل الشارع, فلا يوجد حسن وقبح ذاتي، الشيء الذي يقول الشارع بحسنه حسن, والشيء الذي يقول بقبحه قبيح.

وانطلاقاً من هذه القاعدة: إذا وعد الله و أخلف فانه ليس قبيحاً لأنه لا يوجد حسن وقبح ذاتي للأفعال، بينما نحن نقول من القبيح أن يخلف الله عز وجل وعده, على اعتبار أن الفعل فيه قبح ذاتي ولا يحتاج إلى أن يقول الشارع هذا قبيح. كل إنسان يعرف بالبداهة العقلية أن خُلف

ص: 14

الوعد رديء, وأن الله عزوجل لا يمكن أن يُقدم على شيء قبيح في ذاته.(1)

إذن إذا وعد الله تبارك وتعالى بشيء لا بد من تحقق الوعد.

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنوا بما جاء من الله تبارك و تعالى.

وما هي الصالحات؟

الصالحات هي الأعمال الخالصة، إذ لدينا أعمال صالحة لكنها ليست خالصة. والقرآن عندما يقول (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ) فانه يضرب على وتر هذه النظرة دائماً, حيث نلاحظ في آيات كثيرة ينعت أعمالاً بأنها صالحة كعمل الخير, لكن عمل الخير لا يتمحض للخير أحياناً, كأن أتصدق في سبيل الله مثلاً, فهذا التصدق شيء جميل لكن الصدقة تكون مرّة لوجه الله، ومرّة ليقول الناس إني كريم, وأطلب العلم وطلب العلم وسيلة تكامل وشيء جيد, فأطلب العلم مرّة لوجه الله ولكي أرشد به جاهلاً وأخدم به دين الله, ومرّة حتى يقال إن فلاناً ذو عنوان ومنزلة علمية, وأجاهد مرةً لله عزوجل، ومرّة حتى يقال عنّي شجاع.

فالعمل الخالص الذي ليس فيه رياء وارتباط بمصلحة، وطلب عنوان وتحقيق شيء خاص لذاته نعبر عنه بالعمل الصالح.

ص: 15


1- لمزيد من التوضيح راجع كتاب شرح التجريد للعلامة الحلي (تحقيق الزنجاني): 327، نهج الحق للعلامة الحلي: 82، رسائل المرتضى ج3:175.

القرآن الكريم يقول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ) معناه: إنه يجعل خلافة الأرض لهم, وهم الذين يخلفون الأمم, ويملكون الأرض, ويكونون الحكام على الناس.

فيمن نزلت هذه الآية؟ تعددت آراء المفسرين:

الرأي الأول:

يذهب فريق من المفسرين إلى أن هذه الآية نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله(1) لأنهم عندما هاجروا إلى المدينة على خوف من قريش التي كانت تلاحق الأوائل من المسلمين _ ومن يُسلم لا يخلص من بلائها، فإذا ظفر به يُقطّع إرباً إرباً و تؤخذ أمواله ويعرّض إلى العذاب _ استقبلهم الأنصار. عبارة المؤرخين تقول: رمتهم العرب عن قوس واحدة(2) وتعني أن كل الناس أصبحوا ضدّهم وتألبوا عليهم شرقها وغربها. حتى وصل الأمر إلى أن هؤلاء يستيقظون في الليل ويقول أحدهم للآخر هل تأتي ليلة ننام فيها ونحن لسنا خائفين؟ هل يأتي يوم ونحن نظهر ديننا ونعبد الله كما نحب بحيث نتمكن من إبداء شعائرنا ولا نخاف من أحد؟

ص: 16


1- راجع تفسير القرطبي ج 12: 297، أسباب النزول للواحدي : 221، جامع البيان للطبري ج 18: 212، التبيان للشيخ الطوسي ج7: 453.
2- أنظر تاريخ الطبري، ج2: 239، البداية والنهاية لابن كثير، ج3: 173.

الآية نزلت تطمئنهم بأن الله عزوجل يعدكم أن خوفكم سوف يتبدل الى أمن، و دينكم سوف يتمكن، و في الوقت نفسه سوف تُستخلفون في الأرض.

بناءً على هذا الوجه فانّ الألف واللام في (الأرض) نسميها عهدية, يعني المعهودة التي لها ذكر سابق, يعني المقصود بها أن مكة التي أخرجكم منها المشركون سوف نعيدكم إليها وأنتم مطمئنون وتمارسون عبادتكم. اليوم أنتم تخافون أن تعبدوا الله لكن غداً سوف نمكّن لكم، نوطّىء لكم الأمر، حتى ينتهي الأمر إلى تمكنكم من عبادتكم بصراحة. يعني أنتم الذين كنتم مستترين سوف تدخلون الكعبة وتقيمون شعائركم في قلبها.

وفعلاً هذا ما حدث, فلدى مجيء النبي صلى الله عليه وآله دخل إلى الكعبة الشريفة, ونادى مؤذنه بلالا _ بعدما أصعد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحطم الأصنام وطهّر سطح الكعبة من الأصنام _ بأن يصعد إليها ويؤذن. صعد بلال وهو مَوتور يعني عذّبه أهل مكة حيث كان أمية بن خلف يخرجه فى الصحراء، ويجعله في حرارتها ويسلط عليه السوط إلى أن يرتفع لحمه مع السوط. جاء اليوم ودخل الى مكة، ورأى رجليه تسحق رؤوس أولئك الجبابرة, صعد على ظهر الكعبة وأذّن بأعلى صوته، فسمعته قريش وكانوا جالسين, فقال أحدهم: ليتني متُّ قبل هذا اليوم, إنها مصيبة أن أسمع صوت الأذان على الكعبة. وقال الآخر: الحمد لله الذي أكرم أبي حيث لم يشهد هذا المشهد. وقال ثالث: ليتني

ص: 17

كنت نسياً منسياً ولم أسمع صوت هذا الحمار ينهق على الكعبة! وكان أبو سفيان جالساً معهم فقال: لا أقول شيئاً, فقالوا له: لماذا؟ قال: لو قلت شيئاً تذهب الجدران إلى محمد وتخبره.(1)

كان هذا استقبال قريش للإسلام, بهذا اللون دخل المسلمون وأذلّ الله عزّوجل لهم قريشاً، وأرجع لهم أرضهم التي أخرجتهم منها بالجبر. أعاد لهم إمكاناتهم. جعل الكعبة بأيديهم. انتهى الأمر بأن أظهر الله دينه وارتفعت كلمة لا إله إلا الله على سطح الكعبة، مكّن لهم دينهم الذي يرتضونه.

هذا الوجه غير صحيح للأسباب الآتية:

أولاً: التفت إلى جو الآية, فالقرآن الكريم يعطي للآية جواً شاملاً عاماً, لأنّ الألف واللام في (الأرض) لا نستطيع أن نخرجها عن الجنس إلى العهد إلا إذا كان يوجد ذكر سابق لها وهو غير موجود, ولا نستطيع أن نخرج اللفظ عن إطلاقه وعمومه إلا بدليل خاص ولا يوجد في الآية.

ثانياً: الآية تقول (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ...) فلو كانت للصحابة فما معنى (منكم)؟ لأن الصحابة كلهم مؤمنون ف (من) هذه للتبعيض. يعني من بعضكم، فهل يعد الله بعض المسلمين دون بعض, أو بعض الصحابة دون غيرهم؟ لا، فالصحابة كلهم كانوا مؤمنين بالله عند نزول

ص: 18


1- راجع البداية والنهاية لابن كثيرج4: 347.

الآية وأعلنوا الإسلام. وكلمة مؤمن هنا ترادف كلمة مسلم، فلماذا هذا التبعيض؟ لو كانت للصحابة لكانت تشملهم جميعاً.

ثم التمكين بالدين (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) لم يحصل في مكة كما ينبغي فقد كان فيها _ حتى خروج النبي صلى الله عليه وآله منها _ أناس ليسوا بمؤمنين وبقوا على شركهم و أجارهم صلى الله عليه وآله ولم يتمكن الدين التمكين الكافي. وبقيت هناك مؤامرات قائمة على قدم وساق، فمعنى التمكين هو التسليط الكافي.

الرأي الثاني:

أن الآية نزلت في المسلمين عامة(1) ف (من) في: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ...) خطاب للمؤمنين من الناس المسلمين, وعدهم الله بأن يستخلفنهم في الأرض، ويجعل خلافة الأرض لهم، يعني أنكم سوف تحكمون وتزيلون حكم كسرى وقيصر، وترفعون لواء الإسلام، والله عز وجل سيبدل خوفكم بأمن، ويمكّن لدينكم من الاستمرار. و بكم سوف ينتشر وفي الوقت نفسه يعطيكم الميزات التي ذكرها لكم، يعني الوعود التي جاءت في الآية سوف يحققها الله كلها لكم، ولذلك يقول المقداد بأنّ الرسول صلى الله عليه وآله قال:

ص: 19


1- راجع تفسير الميزان للطباطبائي ج 15: 151، تفسير الثعالبي ج4: 195.

(لا يبقى على الأرض بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلاّ ويدخله الإسلام بعزّ عزيز أو ذل ذليل).(1)

يعني أنّ الإنسان إمّا يدخل في الإسلام طوعاً فيعزه الله، وإما يدخل فيه بالجبر والخوف والرعب. فلا بد من شمول الإسلام لهذه البيوت وتحقيق النصر للمسلمين. وعدهم الله عز وجل بذلك ووفى به, يعني مكّن للدين من الانتشار وأعز المسلمين, وبعد أن كانوا قلة صاروا كثيرين، ورفع لهم لواء النصر وأعطاهم ما وعدهم به في الآية.

قلنا في صدر البحث إن ما وعد الله به لابد من تحققه, لكن نتساءل: الآية عندما تقول للمسلمين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ) فاذا كان المقصود (الأرض) بصورة عامة فانّ هذا الوعد لم يتحقق إلى الآن. صحيح أن الدين الإسلامي جاء وصار له أتباع، لكن لم يشمل الأرض كلها إلى الآن. عدد المسلمين قليل قياساً إلى الأمم الأخرى. لنفرض عندنا ألف مليون مسلم فانّ نسبتهم قياساً إلى أربعة مليارات من البشر على سطح الكرة الأرضية نسبة قليلة, إذن لم ينتشر الإسلام كما ينبغي والدين الآن ليس متمكناً.

يعّز عليّ أن أقول إنه لم يتمكن حتى في بلاد المسلمين. لانها اليوم على أقسام: قسم فيه الإسلام مكتوب في الدستور الرسمي للدولة، لكن عندما تنزل إلى الشارع هل تجد الإسلام مجسّداً؟ يعني هل تقوم

ص: 20


1- تفسير القرطبي ج12: 300، التبيان للشيخ الطوسي ج7: 455.

مؤسساتنا الاجتماعية اليوم على الإسلام؟ طبعا لا. فأين الاسلام من بلاد مسلمة فيها نادٍ تدخله المرأة وتتعرى فيه؟

يباع الخمر في بلداننا الإسلامية بصورة عامّة والقرآن الكريم يقول: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصابُ وَالأَْزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)(1) إذن ما معنى الدين؟

هل تقوم مؤسساتنا المالية على أساس اقتصاد إسلامي؟

هل يوجد في جامعاتنا اليوم درس للاقتصاد الإسلامي كما يُدرّس الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي والشيوعي كنظرية؟ وكما يُدرّس الاقتصاد المختلط أي الذي تتدخل فيه المذاهب.

هل توجد اليوم نخبة من الأساتذة نعتبرهم متخصّصين في الاقتصاد الإسلامي؟ لا يوجد.

وفي مجال التشريعات الإسلامية في مختلف أبعاد الحياة المنهجية هل توجد اليوم مناهج تربوية _ كمفردات أو ما نسميه الهيكل العام للمنهج التربوي _ تخضع لنمط التربية الإسلامية؟

عندما يدخل التلميذ إلى الكلية هل يأخذ درساً في علاقاته باعتباره طالباً مسلماً ومن أسرة مسلمة, تحدد واجباته إزاء أبيه, وواجبات أبيه إزاءه, وواجبات الزوج والزوجة؟ وهل تُدرَس الأسرة تربوياً من منظور إسلامي؟

ص: 21


1- سورة المائدة: الآية 90.

لا يوجد شيء من هذا القبيل في مناهجنا أبداً، لا على مستوى الجامعات ولا على أدنى مستوى للتربية الاسلامية.

إذن كل الهياكل والمؤسسات الاجتماعية في بلداننا الإسلامية ليست على نمط إسلامي.

هذا من ناحية, ومن ناحية ثانية حينما تأتي إلى الفرد المسلم منّا تجده ليس متأدباً بالآداب الإسلامية، وغير متخلق بأخلاق الإسلام. نحن مسلمون في بيوتنا وليس في الكثير من معاملاتنا وفي الشارع, نحن مسلمون في الاسم فقط والله عزوجل متفضل علينا وراحمنا بأن جعل (لا إله إلا الله, محمداً رسول الله) تحفظ دماءنا وأموالنا وأعراضنا. وتعتبرنا طاهرين يجوز للآخر أن يشاورنا. مَن منا عنده خلق الإسلام وتربيته ويطبقه مع أسرته، أصدقائه، أرحامه، والديه، ويحفظ الأمانة، ويصدق في الحديث، وله أخلاق إسلامية عالية، ونظافة مادية ومعنوية؟ عندما نفتح أعيننا نفتحها على مأساة لا حدود لها!

إذن من ناحية نحن منهزمون عقائدياً في داخل بلداننا. إذا أردنا أن نخرج إلى الخارج هل نرى أننا مستخلفون, أي هل بأيدينا زمام الأرض اليوم؟

في بعض بلداننا الإسلامية لا يستطيع المسلم أن يمارس عقائده، ولا يستطيع أن يصلي، وإذا صلى تكتب عليه علامة استفهام!

ص: 22

ومن ناحية ثانية ما هو موقعنا إزاء الامم؟ نحن نطلب من أمريكا يومياً أن تطعمنا، ونقبّل أيديها لكي تنقذنا من إسرائيل!

هذا الكلب ينبح فينا، ونحن نطارد وراءه لنقبّل يده حتى يخلصنا منها!

أين اذن (ليستخلفنهم)؟

أين الدين المتمكن؟

أين استخلافنا في الأرض؟

إذاً في واقع الأمر لم يتحقق هذا المعنى الذي نتصوره بالنسبة إلى الإسلام, إن قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ) يعني نأخذ خلافة الأمم, ونحن الذين نحكم الأرض وندير شؤونها (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وهذه كلها لم تتحقق, فنحن غير مستخلفين في الأرض, وديننا غير ممكّن له، ولا أمن لنا, فأعداؤنا يلاحقوننا اليوم كمسلمين في شرق الأرض وغربها، الكفر يلاحقنا، الحروب الصليبية قائمة اليوم, لا تحسب أنها ماتت إذ أنّها تلبس أثواباً مختلفة, إنهم يجاملوننا بكلمتين لأن عندنا قليلاً من الطاقة, وإلا لم يكن شيء من ذلك إطلاقاً, وعليه لا نستطيع أن نحمل الاية على مستوى المسلمين.

الرأي الثالث:

ص: 23

إن الآية نزلت في المهدي من آل محمد صلى الله عليه وآله(1) وهذه النقطة مهمّة قد أدّت دوراً حساساً في تاريخ المسلمين. أرغب أن أمرّ بها بشيء من التفصيل، وأوضحها بشيء من الموضوعية ليُنتبه الى الموضوع جيداً.

يذهب قسم من مفسّري المذاهب الأربعة والإمامية والزيدية إلى أن هذه الآية تشير إلى مجيء المهدي من آل محمد عجل الله فرجه, فكل الوعود التي جاءت في الآية (يستخلفون في الأرض) (يمكن لهم دينهم) (يعبدون الله لا يشركون به شيئاً) تتحقق بعد ظهوره.

نأتي إلى فكرة الإمام المهدي عليه السلام: هل إنها فكرة إسلامية عامة، أو فكرة تختص بالشيعة فقط؟

من يرغب أعطيه مئات المصادر من المذاهب الإسلامية تصرح كلها: أن الله عزوجل لو لم يبقِ من الدنيا إلا يوم لطوّله حتى يخرج المهدي من آل محمد، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا(2)، وأنه ابن الحسن العسكري, والثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام(3).

ص: 24


1- ينابيع المودة للقندوزي ج3: 245، كتاب الغيبة للنعماني: 340، كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 177 ...
2- كمال الدين وتمام النعمة لشيخ الصدوق ص 318.
3- كمال الدين وتمام النعمة لشيخ الصدوق ص 256، ب 24، ح4، ص 271، ح16.

وقسم يُجمل ولا يذكر أنه الثاني عشر من أهل البيت بل أنه من أهل البيت وأن اسمه يواطيء اسم النبي.(1)

وكتب الحديث أشارت بصورة عامّة إلى الإمام المهدي سلام الله عليه باستثناء كتابي _ البخاري ومسلم _ وإن كان في صحيح مسلم روايات إجمالية تفصّلها الصحاح الأخرى, وسيأتي خلال البحث إن شاء الله.

إن كتب الصحاح _ مسند الإمام أحمد بن حنبل(2)، سنن أبي داود(3)، سنن ابن ماجة(4), سنن النسائي والترمذي(5) _ فيها أخبار المهدي مفصلة، إلى جانب غيرها كالصواعق المحرقة لابن حجر، البيان للكنجي الشافعي(6)، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي(7) ومطالب السؤول.(8)

لسان هذه الروايات يقول:

(المهدي من آل محمد صلى الله عليه وآله).

وبعضها يقول: (يفرح به أهل الأرض وأهل السماء، ويرضى بخلافته حتى الطير في السماء).(9)

ص: 25


1- سنن أبي داوود، ج2، ص 309، ب 31، ح 4282؛ سنن الترمذي، ج3، ص 343، ب 44، ح 2331.
2- مسند احمد، ج1: 376، 430.
3- سنن أبي داود، ج2: 310.
4- سنن ابن ماجة، ج2: 1366.
5- سنن الترمذي، ج3: 343.
6- البيان للكنجي الشافعي: 505.
7- الفصول المهمة لابن الصباغ: 298.
8- مطالب السؤول، ج2: 81.
9- الملاحم والفتن لابن طاووس: 141، ولفظه: (يفرح به أهل السماء وأهل الأرض والطير في الهواء والحيتان في البحر).

وبعضها يقول:

(إن اسمه اسم النبي صلى الله عليه وآله وأنه يخرج في آخر الزمان بعد أن تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً فيبدلها بالعدل وأنه...إلى آخره)(1) وتذكر علامات الظهور كلّها.

عندما تكون فكرة الإمام المهدي عليه السلام لدى المسلمين بصورة عامة، وترويها عشرات الكتب ومئات العلماء فلماذا يقول بعض الناس: إن فكرة الإمام المهدي يختص بها الشيعة؟!

من يسألك من أين لكم فكرة الإمام المهدي جاهل لا يعرف تأريخه. واسمح لي أن أقول بأنه _ سوقي بتعبيرنا _ لا يفهم شيئاً إطلاقاً ولا علم له ومعرفة بتأريخه, ولو كان يفهم لرجع إلى التأريخ الإسلامي فانه مجمع بصورة عامة على فكرة الإمام المهدي عليه السلام ولكن يختلف بالإجمال وبالتفصيل. أعطيك بعض المصادر:

الجزء الخاص بالإمام المهدي عليه السلام من (أعيان الشيعة) للسيد محسن الأمين.(2)

(البيان) للكنجي الشافعي.

(الصواعق المحرقة) لابن حجر(3). ومن جملة فتاواه أن الذي ينكر ظهور المهدي كافر(4)، لأن ظهور المهدي من الأحاديث المتواترة.

ص: 26


1- راجع سنن أبي داوود، ج2: 309، باب 31 _ كتاب المهدي، سنن الترمذي، ج3: 343، باب 44 _ ما جاء في المهدي،...
2- أعيان الشيعة، ج2: 51.
3- الصواعق المحرقة لابن حجر: 165، ط: مصر.
4- راجع لسان الميزان لابن حجر ج5: 130، والحديث رواه الكثير من المحدثين ولفظه: من كذب بالدجال فقد كفر، ومن كذب بالمهدي فقد كفر) راجع عقد الدرر: 157، فرائد السمطين ج2: 334، مقدمة ابن خلدون: 347، الفتاوى الحديثية: 27...

لكن الاختلاف بيننا وبين فرق المسلمين هو أن قسماً من علماء المذاهب الإسلامية يقول إنه موجود الآن كما نقول، وقسم يقول ليس موجوداً بالفعل وسيولد بعد.

هذه نقطة الخلاف فقط, نحن نقول إنه موجود بالفعل, والأدلة على ذلك عقلية ونقلية:

الدليل العقلي: هو أن وجود الإمام لطف, لأنه امتداد لوجود النبي صلى الله عليه وآله ولا يمكن أن يخلي الله الأرض من حجة, إما نراه أو لا نراه, سألوا الإمام الصادق عليه السلام: يا بن رسول الله, إذا كان مهديكم موجودا فلماذا لا يُرى؟ قال: فيه سنّة من يوسف عليه السلام (1), أخوة يوسف دخلوا عليه ولم يعرفوه، تعاملوا معه ولم يعرفوه، هذا أيضاً يراه المسلمون ولا يعرفونه، لعلّه معكم بأسواقكم، يختلط معكم ويشترك معكم ولكن لا ترونه, لماذا؟ سيتضح خلال البحث.

إذن الاختلاف بيننا وبين المذاهب الأخرى هو أنه موجود بالفعل أو يخلق آخر الزمان؟ أما وجوده وأنه يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنه لابد من خروجه، وأنه يقتل ويصنع كذا, وخروج الدجال

ص: 27


1- الإمامة والتبصرة لابن بابويه: 121، دلائل الامامة للطبري: 531، تقريب المعارف لابي الصلاح: 430.

يرافق خروج الإمام المهدي سلام الله عليه، ويُقتل بعد ذلك وله علامات لظهوره فانه محل إجماع عند المسلمين. وأحاديث المهدي متواترة ومنشأ الخلاف هو إننا نقول إنه موجود لأن الأدلة العقلية توجب وجوده.

الدليل النقلي: والأدلة النقلية أيضاً واردة عن النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته في أنه موجود بالفعل, ويفهم من إطلاق الأحاديث عند المذاهب الأخرى أيضاً وجوده بالفعل.

بعد هذه المقدمة نرجع ونقول:

النقطة الاولى:

إذا كان هناك اتفاق عند المسلمين في وجود الإمام المهدي عليه السلام وأنه يخرج آخر الزمان فما معنى أن يأتي شخص ويقول: إن فكرة الإمام المهدي أخذها الشيعة من اليهود؟!

نقول له: إننا أخذناها من صحيح أبي داود، ابن ماجة، الترمذي ومن المئات من العلماء، وليس فقط من علماء الشيعة, فهل هؤلاء كلهم يهود في نظرك؟

أخذت الفكرة منهم وهذه روايات واردة بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وآله، فهل تفهم تاريخك أم لا؟

إذا كنت غير فاهم لتأريخك فلا تتكلم، وإذا كنت فاهماً فلماذا تغالط في شيء أنت فاهمه؟

ص: 28

هذا التاريخ بين يديك, إسأل: هل الفكرة موجودة أم لا؟ فإذا لم تفهم يدلوك عليها.

عشرات المؤلفات أُلفت في الإمام المهدي، و بصورة عامة تذكر إحصائية كاملة عن الروايات الواردة في ظهوره.

إذن فكرة الإمام المهدي مجمع عليها من ناحية, ومن ناحية ثانية هل للإمام المهدي سلام الله عليه موقع خاص؟ لأنه قد يأتي من يهرج علينا بقوله: هؤلاء يعتقدون بأنه يخرج ويوجد عندهم سرداب. يقول أحد الكتّاب : عندهم سرداب بالحلة _ ليس بسامراء _ يأتون بالطبول ويضربون عليها ويصيحون: (أخرج يا صاحب الزمان! ).(1)

هذه الحلة موجودة, والطبول ليست موجودة, والسرداب ليس موجوداً لكن هؤلاء لا يستحون من الكذب. والذي لا يستحي من الكذب ماذا تفعل معه؟

السرداب الموجود في سامراء كان في دار الإمام العسكري سلام الله عليه وكانت أرضها منخفضة، فعندما بنوا البناء ارتفع فأصبحت الأرض مثل السرداب. وباعتبارها داراً للإمام يدخل إليها الزوار تبركاً مثل ما نتبرك بالأضرحة المقدسة. وليس عندنا أن الامام يخرج من السرداب فانها خرافة.

ص: 29


1- راجع رحلة ابن بطوطة..، تاريخ ابن خلدون، ج1: 199، وأيضاً البداية والنهاية لابن كثير، ج6: 221.

وأكثر من هذا, أنظر الآلوسي وهو رجل عاش في العراق, ومفتي الدولة العلية الخاقانية العثمانية, فهل إنه لا يعرف سامراء ليقول إن الشيعة يأتون بالخُمس ويرمون به في السرداب الذي في سامراء؟!(1).

إن الشيعة اليوم حوالي مائة مليون نسمة, فهل يأتون بالخمس كل سنة ويرمونه في السرداب وهو صغير ألم يمتلئ؟! مئات السنين يرمون بالخمس حتى يخرج صاحب الزمان ويأخذه؟!

هذا النمط من الناس كارثة في تاريخ المسلمين، لأنهم لا يجعلون أيديهم على ضمائرهم، ولا صدق لهم, ويلعبون لعبة خطرة ويتاجرون بوحدة المسلمين. نحن مهمتنا أن نكون تحت لواء (لا إله إلا الله) و يصهرنا لواء لا إله إلا الله، وإذا اختلفنا في مسألة علمية فليس معناه أن تكون مدعاة لأن تمزّقنا، فالمسائل العلمية يكون فيها اختلاف دائماً، واختلاف الرأي لا يفسد في الودّ قضية، أمّا أن يأتي شخص ويغالط ضميره والتاريخ، ويبتدع روايات وتصورات من خياله, ويقول إن هؤلاء يأتون إلى السرداب ويضربون الطبول وينتظرون خروجه فهذا كله محض افتراء لا نصيب له من الصحة. وإن دلّ على شيء فإنما يدل على أن تاريخنا بأمس الحاجة إلى أن يستنقذ من هذه القذائف التي في داخله، لأنها تمزق وحدة المسلمين في واقع الأمر، فمتى تبقى لي ثقة بالتاريخ الإسلامي عندما أقرؤه وأجد فيه هذا اللون من المتناقضات؟

ص: 30


1- تفسير روح المعاني للألوسي، ج: 5.

الإمام إذن حي يرزق كما هو مفاد الروايات وعقيدتنا, وهو بين ظهرانينا قد نراه ولكن لا نعرفه.

النقطة الثانية:

إذا كان إجماع المسلمين على أنه موجود فلماذا لم يذكر البخاري ومسلم أحاديث المهدي وهذا الاعتراض سمعته أكثر من مرة؟

ألفت نظرك إلى انه ليس كل الأحاديث الصحيحة قد ذكرها البخاري ومسلم، وليس كل ما في مسلم وصحيح البخاري صحيحاً, لا أقول ذلك من وجهة نظرنا نحن وإنما من وجهة نظر المذاهب الإسلامية الأخرى.

يذكر كتاب (ما لا يجوز فيه الخلاف) للشيخ عبد العزيز عيسى _ كان شيخ الأزهر وعضواً بدار التقريب وعميد كلية أصول الدين في الأزهر الشريف _ رأي أحد فقهاء المالكية وهو: لو حلف شخص على أن جميع ما في موطّأ الإمام مالك صحيح لا يحنث بقسمه, أما لو حلف على أن جميع ما في البخاري ومسلم صحيح فانه يحنث, لأنه ليس جميع ما فيهما صحيح.

وألفت نظرك إلى نقطة أخرى: هناك من المسلمين من يؤاخذ البخاري على كثير من الروايات. والذي يحب أن يرى آراء المذاهب الإسلامية الأخرى أرشده إلى كتاب (نظرات في الكافي والصحيح) للسيد هاشم

ص: 31

معروف وسماه في الطبعة الحديثة (دراسات في الحديث) لينظر آراء بعض علماء المذاهب الإسلامية الأخرى في البخاري(1).

إذن ليس جميع ما في صحيح البخاري وهكذا مسلم تأخذه المذاهب الإسلامية بالقبول, ففيه روايات صريحة بالتجسيم عندما يقول: إن الله خلق آدم على صورته, طوله ستون ذراعاً وعرضه عشرة أذرع(2)!

وألفت نظرك الى نقطة أخرى:

النقطة الثالثة:

هناك روايات في البخاري ومسلم والصحاح الأخرى لا تعمل بها المذاهب الاسلامية, ففي مسألة الجمع بين الصلاتين مثلاً نحن الامامية نجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء, وتقول سائر المذاهب الاسلامية بتحريم الجمع إلاّ في حالة العذر كالمطر أو السفر أو جمع تقديم أو تأخير في منى والمزدلفة. لنرى هل أن روايات الجمع موجودة في البخاري؟ من كان عنده صحيح البخاري ليرجع إلى كتاب (تأخير الظهر إلى العصر)(3)، وليرجع إلى صحيح مسلم في باب (الجمع بين الصلاتين)(4) ويرجع إلى باقي الصحاح الستة(5) يجد كلها تذكر روايات

ص: 32


1- راجع كتاب دراسات في الحديث للسيد هاشم معروف الحسيني: 109، الفصل الرابع البخاري وصحيحه بنظر المحدثين.
2- صحيح البخاري، ج7: 125.
3- صحيح البخاري، ج1: 137.
4- صحيح مسلم، ج2: 151.
5- سنن ابن ماجة، ج1: 340، سنن أبي داود، ج1: 270، سنن الترمذي ج1: 121، سنن النسائي، ج1: 290.

الجمع, وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله كان يجمع الظهر والعصر, ويجمع المغرب والعشاء بدون عذر وبدون سفر وبدون مطر, وفي الأوقات الاعتيادية, حتى إنهم سألوا عبد الله بن عباس (ره): يجمع النبي بين الصلاتين؟ قال: بلى, قالوا: لماذا؟ قال: حتى لا يحرج أمته. مثلاً يخرج شخص إلى عمله فقد يكون صعباً عليه أن يفرق بين الظهر والعصر إذ يجب عليه أن يترك محله وهكذا المغرب والعشاء, فهذه رخصة له فيستطيع الجمع والتفريق. وإن النبي صلى الله عليه وآله كان يجمع. أنظر إلى الصحاح فانّ روايات الجمع موجودة فيها حتى صحيح البخاري ومسلم لكن تأوّلوها.

اسأل: إذا كان هذا الجمع موجوداً فلماذا إذن لا تجمع باقي المذاهب الإسلامية؟ لا ندري! أو لعلّي أدري ولا أريد أن أقول.

هذه هي روايات الجمع, ونحن لا نأخذ ديننا من الهواء، نحن أيدينا على فقه آل محمد صلى الله عليه وآله وآل محمد عِدل الكتاب:

(إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي).(1)

عندما نأخذ الحكم نأخذه من المنبع الصحيح من بيت محمد صلى الله عليه وآله والراوي إذا كان فيه خدش صغير لا نقبل روايته أبداً، إذا لم نحرز الصدق في رواية الراوي لا نقبلها، ولذلك ترى عندنا منهجاً في اختيار الرواة, وعلم الرواية و الدراية وعلم الحديث.

ص: 33


1- سنن الترمذي، ج5: 328، الطبقات لابن سعد، ج2: 194.

لفقهاء الإمامية تأمل وغاية الدقة في استعراض حال الراوي في السير وبالتراجم. إن كتب الرجال الموجودة عندنا, وقواعد الدراية توضح كلها كيف نأخذ الحديث ونناقشه سنداً ومتناً، ونقبله بعد أن يستوفي الشروط كافة، ثم إن يدنا على المنبع الأساسي (آل محمد صلى الله عليه وآله) وهم عِدل الكتاب فنأخذ الفقه منهم.

وفي باب التعارض نقدم أقوالهم طبعاً على أقوال غيرهم بلا اعتراض، لأن النبي صلى الله عليه وآله يقول أنهم ك:

(سفينة نوح من تخلف عنها غرق وهوى).(1)

(أمان لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء).(2)

(إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا)(3).

كل المذاهب الإسلامية ترويها بهذا النص (كتاب الله وعترتي أهل بيتي) لكن ترى بعض الأخوان يعارض ويقول: كتاب الله وسنتي, ولماذا؟ هل عنده عقدة من العترة؟ لا أفهم!! العترة ماذا فيها؟ العترة هم آل محمد, وهم للمسلمين بصورة عامة, ولا يخصوني أنا أبداً. كما أن الصحابة للمسلمين بصورة عامة, آخذ الرواية الصادقة المتوفرة للشروط

ص: 34


1- المستدرك للحاكم، ج2: 343، أخرج الحديث وقال: هذا صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
2- كنز العمال للهندي، ج12: 96، كشف الخفاء للعجلوني، ج2: 135.
3- راجع: سنن الترمذي، ج 5: 328، الطبقات لابن سعد، ج2: 194، وعشرات من الكتب غيرها.

من أي واحد منهم. وترى _ مع الأسف _ هذه الظاهرة حدثت مؤخراً. إذا كان عندك إلمام بالتاريخ إرجع الى القرن الرابع وقبله تجد ان شيوخ السنّة من الشيعة، وشيوخ الشيعة من السنّة من مختلف المذاهب الإسلامية. هذا عنده مائة شيخ، وهذا عنده خمسون شيخاً، وهذا عنده ثلاثون تلميذاً.

ثم جاءت الأيادي الخبيثة وبدأت تلعب لعبتها المنكرة، وتضع أيديها لتدس. يهمني الوصول إلى الأثر الصحيح فآخذه من أي طريق تتوفر فيه شروط الصحة.

إذن ليس كل ما في صحيح البخاري أو مسلم يُعمل به, وليس كل ما فيهما صحيحاً, ككتاب (الكافي) الذي يعتبر من صحاحنا، أو الصحيح الأول تقريباً, فاننا نطرح ثلث رواياته ولا نأخذ بها. وفعلاً بدأت الآن بعض الكتب تطبع وتنتخب الصحيح من الكافي, فليس عندنا قداسة لكتاب وأثر, بل نبحث عن الحقيقة الموضوعية.

وعليه إذا لم يذكر البخاري ومسلم أحاديث المهدي فليس معناه كل ما في الدنيا موجود في البخاري ومسلم, فانّ باقي الصحاح والعشرات من علماء المذاهب الأربعة ذكروا أخبار الامام المهدي مفصلة, وآخر شيء ظهر هو الطبعة الاخيرة لكتاب (البيان) للكنجي الشافعي, وقد أشرت اليه في العام الماضي وذكرت أن للأستاذ الكتاني رئيس دار الافتاء في المملكة العربية السعودية فيه مقدمة, ورأياً رائعاً من أروع الآراء, بحيث

ص: 35

يذهب الى كفر من لا يعترف بظهور الامام المهدي, والكتاب موجود ومطبوع وطبع في بيروت وموزّع .

إن فكرة الامام المهدي عليه السلام إذن محل إجماع المسلمين ولسنا ننفرد بها, أما إذا قال جاهل من أين أخذتم هذه الفكرة؟ فنقول له: إذهب وصحح دماغك ولا تتكلم بما لا تعقل.

البحث الثاني: نظرة الى العالم الاسلامي

إن الآية الكريمة عندما تقول إن هذه الإنجازات سوف تتحقق لدى ظهور المهدي من آل محمد صلى الله عليه وآله: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ) أي تكون خلافة الأرض للمسلمين, فتعني أن لا يُترك وثن وصنم يُعبد من دون الله، وتُزال كل مؤسسة يعبد فيها غير الله, وتكون الخلافة في الأرض لهم. يعني هم الذين يحكمون الأرض. الله عزوجل يمحّض لهم, أي يعطيهم النصر حتى يملكوا زمام الأرض بأجمعها، ثم (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ).

قد يقول قائل: شيخنا! هل نبقى جالسين ننتظر صاحب الزمان عليه السلام فنعمل حينما يخرج؟

كلا، ليس عندنا حكم نعطله بانتظار صاحب الزمان. أرجوك هل يوجد عندنا أحد من فقهائنا يقول: إن الإنسان يجب أن يعطل عمله وينتظر خروج صاحب الزمان ليحل له المشكلة؟

ص: 36

بالعكس, إن أعمالنا التربوية والاقتصادية والاجتماعية كلها مستمرة, وليس الجهاد معطلاً بل قائم، إذا تعرضت أرض المسلمين اليوم للخطر وجب الدفاع عنها. الجهاد إذا توفرت شروطه وجب على المسلم أن يخرج ويجاهد. هذه آراء فقهاء مذهبنا كلها واضحة، ليس عندنا حكم من الأحكام ولا فكرة يمكن أن تعتبرفكرة الإمام المهدي عليه السلام معرقلة لها.

فهل من يريد أن يؤسس معملاً نقول له لا تفعل، انتظر خروج صاحب الزمان ليعطيك أرضاً ومصنعاً؟

كلا، بالعكس ان فكرة الإمام المهدي عليه السلام حافز على عمل الخير, لأن الإمام إذا ظهر يدحض الباطل، ويقيم الحق, كأن المشرع الإسلامي يريد أن يجعلني على تماس مع القيم، ويقول لي إنه يجب إدامة الحق ونصره ودفع الباطل والوقوف بوجه الظلم والباطل. إذن ما كانت فكرة الإمام يوماً من الأيام مخدّراً. وإذا تجد كاتباً يقول إنه لن تقوم لنا قائمة إلا عند ظهور مهدينا فالمقصود ب (القائمة) هو أنه لا يمكن أن يتحقق النصر الكامل للمسلمين إلا في آخر الزمان. وإلا قد يتحقق لهم نصر بنسبة معينة، فما معنى اجلسوا ولا تدفعوا الضيم عن أنفسكم أبداً؟ بالعكس يأمرنا الله عزوجل دائماً بالجهاد في سبيله, والدفاع عن مقدساتنا قائم، أعمالنا يجب أن نمارسها, ولا علاقة سلبية لفكرة الإمام المهدي بذلك. والذي يتصور وجود علاقة سلبية للأعمال مع فكرة الإمام المهدي فانه ليس فاهماً لها تماماً.

ص: 37

عندما تقول الآية (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) يعني أن الحياة سوف تُستوعب بمبادئ الإسلام فلا يصبح إسلاماً شكلياً ، المفروض أن الأسرة في داخلها نظام إسلامي، الشارع تسوده النظم الإسلامية, البنك عندما تدخل إليه يتعامل على نمط إسلامي، المؤسسات الاجتماعية كلها تنبثق على نمط إسلامي.

إذن إن التمكين الكامل في الدين يتم عند خروج مهدي آل محمد صلى الله عليه وآله.

ثم (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) عندما تقوم دولة الإسلام لا يبقى خوف من غير مسلم، لأن الأرض تطبق يومئذ بنور الله.

توجد بعض الروايات لا نصدق بها ولا علاقة لنا بها ولا ملزمين بأن نبحث عنها تفصيلاً, إن فكرة الإمام المهدي نأخذها على الإجمال من الأحاديث الصحيحة. أما التفاصيل فقد يكون فيها لون من التفكير الذي قد نسمه بالأسطورة, فمثلاً: حينما أقرا قوله تعالى: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)(1) أؤمن أن الله عزوجل يعطي المطيع جنة، ويعطي العاصي ناراً، لكن التفاصيل فلست مستعداً أن أؤمن بجميعها, كأن يأتي أحد ويقول إن المؤمن يُعطى في الجنة يوم القيامة قصراً مساحته سبعون ألف ميل، له سبعون ألف باب, كل باب عليه سبعون ألف

ص: 38


1- سورة مريم: الآية 63.

عبد, كل عبد بيده سبعون ألف مصراع ,هكذا حديث لا أهتم به, ولست مكلفاً بأن أؤمن به, أنت تجد هكذا روايات عن الجنة والنار موجودة.

تجد رواية مثلاً: إذا بعث الله الخلائق يوم القيامة يرسل عليهم لوناً من العقارب, لكل عقرب ذنَب كأنه قلة جبل أُحد! هذا اللون من الروايات لست ملزماً أن أؤمن به. القرآن قال لي توجد جنة فأؤمن بها على الإجمال, أما الفكر الأسطوري والإسرائيليات التي أتى بها اليهود الذين دخلوا في الإسلام فلا أؤمن بها.

إنا لله وإنا إليه راجعون

ص: 39

المحاضرة الثانية: مولد الإمام الحجة (عجل اللّه فرجه)

اشارة

ص: 40

ص: 41

بسم الله الرحمن الرحيم

كان من حسن الصدف والاتفاق أن يكون في هذه الليلة الكريمة والمباركة التي جمعت من ضروب العطاء ما لا يحدّ ميلاد نبي الله المسيح عليه السلام وميلاد منقذ الإنسانية.

اجتمع هذان الميلادان في يوم ووقت واحد, ونحن نعرف أن نبي الله عيسى عليه السلام سيكون نزوله إلى الأرض في حال ظهور صاحب الأمر(1), ولابد هنا من بحث مجموعة من الامور مما لها صلة بهذه الليلة الكريمة:

الأمر الأول: كيفية ميلاد الإمام عليه السلام

كانت ولادة منقذ الإنسانية في مثل هذه الليلة من سنة 255 هجرية, حيث تقول حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام: دخلت على أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام فلما أردت الخروج قال: يا عمة لا تخرجي في هذه الليلة, باتي عندنا, قلت: ولماذا؟ قال: إن الله عز وجل في هذه

ص: 42


1- وهو ما روته مصادر العامة والخاصة, راجع صحيح البخاري ج4: 205, صحيح مسلم ج1: 126, المناقب لابن المغازلي: 395 ح 448, البيان للشافعي: 500 باب 7, كمال الدين للصدوق ج1: 315 ,ح2, كشف الغمة للاربلي ج3: 274...

الليلة سيسرّك برؤية وليّه وستفرحين بذلك, فقلت: ممن؟ قال: من نرجس.

أقبلت إليها قلبتها ظهراً لبطن لم أرَ فيها للحمل من أثر! فقلت: إني لا أرى عندها من أثر للحمل؟ قال: يا عمة إن فيها سنّة من أم موسى(1)، لأن المسلمين يقولون في تفاسيرهم إن أم موسى عليه السلام لما حملت بولدها لم يظهر عليها أثر للحمل إلا ليلة الولادة ولبضعة ساعات, ثم اختفى عنها(2)، والحقيقة إن الذي ليس عنده إلمام بخلفية التاريخ قد يتصور أنّ هذا فيه شيء من المبالغة. كلا, فانّ دار الإمام كانت تكبس دائماً, وعند الأعداء معلومات إن ولد الإمام الحسن عليه السلام هو الذي سيكون الخلف وقائد هذه الأمة، فكانوا يخشون من ذلك.

إذا رجعنا إلى ما يقوله المؤرخون وبالذات الشيخ الطوسي في (الغيبة)(3) نجده يقول:

نقلاً عن رشيق صاحب الماديار قوله: استدعاني المعتضد ومعي اثنان, قال لي: تخرج تشج الليل والنهار وتصل إلى سر من رأى وتدخل دار أبي محمد العسكري بلا استئذان, اكبسها ومن وجدته بالدار اضرب عنقه.

أقبلنا إلى الدار في الليل وكبسناها فلم نرَ أحداً فيها, اُخبر الإمام سلام الله عليه بذلك فأخلى الدار(4)، وهذه ليست الكبسة الاولى وإنما هي عدة

ص: 43


1- كمال الدين للصدوق : 426, ح2.
2- راجع تفسير ابن كثير ج3 : 392.
3- الغيبة للطوسي : 248 ح 218.
4- الغيبة لطوسي، ص 248.

كبسات, وكانوا يراقبون هذه الدار غاية المراقبة دائماً, ويسألون هل له من ولد؟

يقول أحد السجناء: اُدخل علينا الإمام العسكري عليه السلام إلى السجن فرفعت رأسي إليه وقلت: سيدي هل عندك من خلف؟ لم يجبني الإمام وتمثل ببيتين:

لعلك يوماً أن تراني كأنما *** بنيّ حوالي الأسود اللوابد

فان تميماً قبل ان يلد الحصى *** أقام زماناً وهو في الناس واحد(1)

أدركت أن الإمام لا يريد أن يواجهني مباشرة بالإخبار، بالفعل هذا الذي كان حتى أن جواري اُرسلن إلى دار الإمام ليبحثن عن امرأة حامل(2) أي نفس الأسلوب الذي كان يتبعه فرعون بالبحث عن موسى, كانوا يشعرون بفزع وهلع من أن يكون هذا المولود الذي ينتهي حكمهم على يديه.

تقول حكيمة: دخلت إلى الدار, توضأت وقمت أؤدي وِردي من صلاة الليل إلى أن قرب الفجر, حاك في صدري شيء من الشك, سمعت صوت الإمام: يا عمة! إنه وعد الله فلا تشكّي، أو شك عمود الفجر أن ينبلج فدنوت إلى نرجس, قلت: هل تحسّين بشيء؟ قالت:

ص: 44


1- راجع الخرائج والجرائح للراوندي ج1: 478.
2- راجع كمال الدين للصدوق: 40 - 44.

بلى, أحس بضيق, أخذت بيدها وأجلستها على وسادة, وجلست منها مجلس القابلة من المرأة, وغمزت يدها, فأمسكت يدي وأنّت أنّة واحدة, نظرت إلى ولي الله قد نزل مستقبلاً الأرض بمساجده وشفتاه تتمتمان:

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ).(1)

سمعت صوت الإمام عليه السلام يقول: عمة! ناوليني ولدي, حملته إليه, تأمّل في وجهه طويلاً, حنّكه وكبّر في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى وضمّه إليه وقال : هذا ولي الله الذي وعد به عباده.(2)

الأمر الثاني: قضية المهدي عليه السلام في الروايات

أين موقع قضية المهدي سلام الله عليه في الروايات؟ وما هو جوّها؟ هل تقتصر على فئة أم لا؟

كل رواة المسلمين يذهبون إلى ذلك، أريد أن أؤكد على هذه النقطه لأن الكثير من متأخري الكتّاب عندما يمرون بها يرسلونها إرسال المسلمات بأن روايات المهدي كلها ضعيفة ومختلقة ومكذوبة!

ص: 45


1- سورة القصص: الآيات 5 - 6.
2- كمال الدين للصدوق: 426, ح2.

هؤلاء _ مع الأسف _ لا يعرفون تاريخهم وكتب أحاديثهم ولا يملكون صفة من صفات المحققين, أقول ذلك وأنا أعني ما أقول وسيمر علينا هذا المعنى خلال البحث.

إذا رجعت إلى تراث المسلمين وبالذات لدى أساطين المسلمين تجد روايات المهدي سلام الله عليه متواترة, ونحن نعرف أن العلم له طرق منها المشاهدة ومنها التواتر, فلعلنا لم نرَ بعض المدن في شرق الأرض أو غربها لكن لا يمكن أن ننكرها لتواتر الحديث عنها، والتواتر طريق من طرق العلم, والتواتر لا ندعيه نحن فقط، وألزم نفسي في هذا الموضوع أن لا أذكر لك إلاّ روايات المذاهب الإسلامية الأخرى، لا إشكال في رواياتنا فانّ ائمتنا ورواتنا من أصدق من خلق الله عزوجل, لهم من ورعهم وصدقهم ما هو غني عن البيان. لكن من باب الالزام أذكر لك ذلك.

لعل أقرب المصادر عندنا هو (التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي والدجال والمسيح) للشوكاني _ صاحب نيل الأوطار _ حيث يقول:

إن روايات المهدي تواترت, تلقاها الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وتلقاها التابعون عن الصحابة, وهي تبلغ العشرات, صحيحة ومعتبرة ومعتمد عليها.(1)

ص: 46


1- راجع شرح احقاق الحق - السيد المرعشي ج29: 299, 631, ج33: 920.

وممن رواها _ فضلاً عن صاحب التوضيح _ القرطبي(1) وابن تيمية في منهاج السنّة(2) والذهبي في ميزان الاعتدال(3) و البيهقي(4) وروتها كتب الصحاح(5) على الاجمال إلا صحيح البخاري ومسلم(6), لماذا؟

أبيّن لك: لا يستوعب صحيح البخاري ومسلم كل الروايات الصحيحة، حتى أنهم لا يدّعون هذا المعنى, ويقولون إن البخاري ومسلم رويا الصحيح, ولكن لم يرويا كل صحيح, يعني ليس كل ما لم يروه البخاري ومسلم غير صحيح أبداً, لانّ البخاري نفسه يقول أنا أحفظ 200 ألف حديث, وإذا رجعت إلى أحاديثه في صحيحه تجدها لا تتجاوز ال 10 آلاف حديث, مما يعني أن البقية مبثوثة على الصحاح الأخرى.

فمثلاً تجمع المذاهب الإسلامية على حديث العشرة المبشرة وتعمل على صحته, ولكنه غير موجود في صحيحي مسلم والبخاري لكنهم لا ينفونه, وحديث تسمية الملكين منكر ونكير مع إن كل المذاهب

ص: 47


1- تفسير القرطبي: ج2: 79, ج8: 120, ج10: 222, 390, ج14: 107.
2- منهاج السنة لابن تيمية ج4: 95, ج8: 254.
3- ميزان الاعتدال ج1: 63, ح199, ج1: 449, ح1684, ج2: 87, ح2926.
4- السنن الكبرى للبيهقي ج9: 180.
5- راجع سنن الترمذي ج3: 343 باب ما جاء في المهدي: ح2331 - 2333, سنن ابن ماجة ج2: 928, ح2779, ج2: 1366, باب خروج المهدي ح4082 - 4088, سنن ابي داود ج2: 309 ح 4282 - 4290, المستدرك للحاكم ج4: 442.
6- وانما رويا حديث نزول عيسى بن مريم وفيه (امامكم منكم) ولم يصرحا به, راجع صحيح البخاري ج4: 143, صحيح مسلم ج94:1.

الإسلامية متفقة عليه, وهكذا جملة من الأحاديث المتفق عليها بين المذاهب الإسلامية حيث لا وجود لها فيهما.

هذا ولا يعتبرون كل ما جاء في صحيح مسلم وصحيح البخاري صحيحاً, لانه يروي عن الضعاف, ومن يرغب في المراجعة فان هناك دراسات في الكافي والصحيح للمرحوم السيد هاشم حيث نقل عن مصادر المذاهب الإسلامية أنه ليس جميع ما جاء في صحيحي مسلم والبخاري صحيح فتسقط جملة من الروايات منه.

إذن إذا لم يرو صحيحا مسلم والبخاري أحاديث المهدي عليه السلام فليس معنى ذلك أن الصحاح الأخرى لم تروها, فقد روتها الكتب المعتمدة بأجمعها.

نعم، الذين شككوا بها اعتمدوا على رواية واردة عن النبي صلى الله عليه وآله والحديث القائل: (لا مهدي الا عيسى بن مريم) وهو حديث قال ابن تيمية عنه بانّه ضعيف وفنّده.(1)

ومن يرغب اُلفت نظره إلى كتاب (الرد على من كذّب بأحاديث المهدي) تأليف عبد المحسن العباد وهو مدرس الحديث في الجامعة

ص: 48


1- هذا الحديث أورده وفنده جلّ محدثي العامة, فمن قائل انه موضوع, ومنهم من ضعفه, ومنهم من قال انه منكر او فيه رجل مجهول او تفرد به من رواه, واقل ما قيل فيه انه لا ينافي حديث خروج المهدي لان المراد انه لا مهدي على الحقيقة الا عيسى او لا مهدي معصوما الا هو, راجع منهاج السنة لابن تيمية ج8:256, تذكرة الموضوعات للفتني: 223, فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ج5: 421, ج6: 362. تفسير القرطبي ج8: 122, ميزان الاعتدال للذهبي ج3: 525, تهذيب التهذيب لابن حجر ج11: 388, تاريخ ابن خلدون ج1: 327 - 332.

الإسلامية في المدينة _ وهو كتاب في جزءين وطبع عام 1402ه _ مع العلم إن الرجل عندما يمر بنا يعطينا حقنا من الشتائم! لكن مع ذلك اقرأ وانظر إلى رواياته, إذ لعل من علامات الإيمان بأن يشتمونا, لا يعنينا ذلك ما دمنا على الطريق الصحيح كما نرى, وحسب الإنسان أن يضع رجله على طريق الحق ولا يعنيني أن يشتمني أحد إذا رضيت عني كرام عشيرتي.

الكتاب جمع وأوعى في هذا الجانب, ورد على بعض المؤلفات, وثبّت عشرات الأحاديث, واستوعب المسألة من كل وجوهها.

وبوسعك مراجعة من كتب في المهدي عليه السلام وأقلام الامامية الذين التزموا أن لا ينقلوا قضية المهدي إلاّ من الكتب المعتبرة عند المذاهب الإسلامية الأخرى.

إن عشرات المصادر يمكن الرجوع إليها, ولعل من أقرب المصادر هو: (البيان في أخبار صاحب الزمان) للكنجي الشافعي, وفيه مقدمة رائعة بقلم أحد زملائي من طلاب الحوزة العلمية في النجف(1), بالوسع أن تراها وترى فتاوى أهل السنة بكفر من ينكر أحاديث صاحب الزمان.(2)

إذن هؤلاء الذين ينفون هذه الاحاديث تجدهم اولا اعتمدوا على رواية ناقشها ابن تيمية ورفضها وقال بانها ضعيفة.

ص: 49


1- وهو العلامة محمد هادي الأميني.
2- راجع الفتاوى الحديثية لابن حجر: 37, البرهان للتقي الهندي: 182.

مضافاً إلى أن بعض الذين رووا ليسوا أهلاً لذلك والمصيبة هنا, فمثلاً: يقحم ابن خلدون(1) نفسه في قضايا ليست من اختصاصه, وعليه لا يستطيع أن يسلك الطريق المتزن, فكل ميدان له فرسان, فاذا تخصص شخص في الفقه والأصول فلا تكون له علاقة بالكيمياء, والذي يتخصص في الكيمياء لا تكون له علاقة بالفلسفة, كل علم له مختصون. هذا الرجل له موقف خاص من أهل البيت عليهم السلام وهو الذي يقول: وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها(2)! مع أنهم الذين لا يفترقون عن القران كما سيأتينا الحديث بهذا الشأن.

دخل رجل على الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وقال: سيدي ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: (إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)، من هم العترة؟

قال: (أنا والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين آخرهم مهديهم, لن يفترقوا عن القران ولن يفترق القران عنهم حتى يردا على رسول الله الحوض)(3)، إذن ورود الحوض على النبي هو مآل الثقلين.

نحن نعرف أن من يكون عِدل الكتاب والى جانب القرآن لا يقال عنه شاذ، لكن هذا الرجل عندما يمر بأهل البيت يعبر عنهم بأنهم شذوا بمذاهب ابتدعوها! من أين؟ والحال نحن على عكس غيرنا الذي عنده

ص: 50


1- راجع تاريخ ابن خلدون ج1: 311 الفصل الثاني والخمسون.
2- تاريخ ابن خلدون ج1: 446.
3- كمال الدين للصدوق: 240 باب 22, ح64, عيون اخبار الرضا للصدوق ج1: 57.

المصالح المرسلة والاستحسان و17 مصدراً للتشريع, ومن أحب فليراجع (الاصول العامة للفقه المقارن) للسيد محمد تقي الحكيم حيث أحصى مصادر التشريع عند المذاهب الإسلامية الاخرى.

دخل رجل على الإمام الصادق عليه السلام وقال: يا بن رسول الله إذا كانت لدي مسألة ابحث عن حكمها الشرعي أين أجده؟ قال: في القرآن, قال: فان لم يكن في القرآن؟ قال عليه السلام: في السنة _ قول النبي أو فعله أو تقريره _ قال: فان لم يكن؟ قال عليه السلام: لا يمكن ذلك, كل شيء موجود في الكتاب والسنة (ما فرطنا في الكتاب من شيء)(1).

وكان الإمام عليه السلام يقول: (نحن نحدّث الناس باحاديث نكنزها عن رسول الله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم).(2)

لكن انظر إلى جرأة هذا الرجل في قوله: وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها!

يقول أحمد بن شاكر وهو مصحح ومخرج أحاديث مسند الإمام أحمد بن حنبل عندما يمر بابن خلدون يقول: (قد قفا هذا ما ليس له به علم واقتحم قحماً لم يكن من رجاله).(3)

ص: 51


1- راجع بصائر الدرجات للصفار: 407, ح1 - 5 بلفظ آخر.
2- المصدر السابق: 319 باب (ان الائمة عندهم اصول العلم ما ورثوه من النبي صلى الله عليه وآله لا يقولون برأيهم), ح1.
3- الإمام المهدي المنتظر _ البكاء _ ج1، ص 46.

هو إذن مؤرخ وليس له علاقة بالأثر والدراية وعلم الرجال فان له رجال مختصون, يقول إن هذا شذ لانه تدخل فيما لا يعرفه. أتخطّر كلمة لابن تيمية يقول فيها: لم يخرب الأرض إلا نصف فقيه أو نصف متكلم أو نصف متطبب أو نصف نحوي، فنصف فقيه يخرب الأديان لانه يحفظ عدداً من الأحاديث ولا يعرف المعارض منها والمزاحم والسالم من النقد, هل أن طرقها صحيحة ودلالته واضحة أم لا؟ ليست لديه أدوات وآليات هذا الفن, ونصف متطبب يفسد الأبدان لأنه تعلم بعض الكلمات في الطب وأخذ يكتب وصفة طبية, فهذا سوف يمرض الناس لأن ذلك ليس من اختصاصه ويفقد علم الطب، ونصف متكلم يخرب البلدان لانه ذو معرفة جزئية بعلم الكلام, قد حفظ بعض العقائد وأخذ يدور في البلدان فانه سوف يخربها فان أخبار العقائد تحتاج للعمل بها الى وسائل فنية أيضاً حتى يعرف الصحيح من غير الصحيح منها، ونصف نحوي يخرب اللسان لانه لم يدرس النحو دراسة كاملة.(1)

والواقع إن ابن خلدون من هذا النوع, وهو شعوبي إذا مرّ بتاريخ العرب فانه يشتمهم شتماً ذريعاً, ومع ذلك فانه مسكوت عنه لانه يحمل هوية, وله موقف سلبي من أهل البيت عليهم السلام.

رأيت أحد الكتّاب _ عجيباً اُمره _ يسألونه: أنتم تقولون إن صاحب علم الاجتماع هو ابن خلدون؟ يقول: نعم, فيقولون: كيف

ص: 52


1- راجع كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في العقيدة ج5: 118.

صار كذلك والعلوم لا يكون في تاريخها طفرة بل تدرج؟ وكل موضوع من المواضيع له بدايات فيتطور الى أن يبلغ كماله, فكيف تعتبرونه صاحب علم الاجتماع فجأة؟

يقول: نعم, إن التدفق الفجائي والحدس الباطني والاختمار اللاشعوري هو الذي أوصله! وعندما تقول له: لماذا لا يأتي ذلك إلى علي بن أبي طالب عليه السلام حيث إنكم تقولون إن نهج البلاغة ليس له عليه السلام لما فيه من قضايا كاملة فكيف حصل فجأة ومن أين أتى علي بن أبى طالب بهذه المعلومات؟

هذا كلام عجيب غريب, ومع الأسف فان تاريخنا وأفكارنا وتراثنا وآثارنا يجب أن يهتم بها المدققون والمحققون الموضوعيون, وهذا مطلب بعيد المنال, ويا ليت لو تكون له بدايات متواضعة حتى نعيد _ على الأقل _ الثقة إلى شبابنا بتاريخنا وحضارتنا.

من أتى بك حتى تنفي أحاديث المهدي وتحمل عليها وأنت لست من فرسان هذا الميدان أبداً؟

يقول جابر بن عبد الله الانصاري دخلت على سيدتي فاطمة الزهراء عليه السلام في البيت, وجدت بين يديها لوحاً مكتوباً فيه أسماء الأئمة, قرأتها وانتهيت الى آخرهم فرأيت فيه: مهدي هذه الأمة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا.(1)

ص: 53


1- راجع الامالي للشيخ الطوسي: 291.

الأمر الثالث: أسباب نفي قضية الامام المهدي عليه السلام

نسأل: لماذا هذا الاهتمام في نفي أحاديث أهل البيت في موضوع المهدي؟ على كل من له إلمام بهذه الساحة أن يراجع ويبحث لماذا هناك حماس عجيب غريب في نفي أحاديث المهدي وتضعيفها؟ وما هو الدافع لهذه الحملة التي تتسم بالحدة والكثير من التشنج ؟

السبب إن قضية المهدي ليست سهلة, فهي كما عبّر النبي صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين: (بنا فتح الله وبنا يختم)(1) فكون النبوة لهم أمر لم يطيقوه, لا الأمويون ولا العباسيون وكذلك المهدي عليه السلام.

ينقل المسعودي في (مروج الذهب) عن رجل يقول: دخلت على معاوية رأيته واجماً, قلت له: لماذا أنت واجم؟ قال: ملك أخو تيم فشمّر ثم ما عدا أن هلك هلك ذكره, وملك أخو عدي وقام بالأمر, وما عدا أن هلك هلك ذكره, وهذا ابن أبي كبشة (يقصد النبي صلى الله عليه وآله) ينادى باسمه خمس مرات على المئذنة يومياً: (أشهد أن محمداً رسول الله) وهذا أمر لا نطيقه.(2)

ص: 54


1- المصدر السابق: 65, ح :96 / 5.
2- مروج الذهب للمسعودي ج2: 343.

وهذا كلام عبّر عنه الخليفة الثاني في حواره مع عبد الله بن عباس وقال: كره قومكم أن تجتمع لكم النبوة والخلافة(1)، فمثلما كانت النبوة ثقيلة على البعض، فان يختم الله بهم أيضاً لا تحسبه أمراً سهلاً أبداً.

كان الأئمة يفتخرون به, يقول الإمام علي عليه السلام منا المهدي(2), ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله: الإمام المهدي من ولدي(3)، وقال الإمام زين العابدين في مجلس يزيد: ومنا المهدي, هذا موضع فخر يعتز به أهل البيت عليهم السلام.

ومقابل هذا الاعتزار يجب أن ينفى فيأتي ابن شهاب الزهري إلى واقعة أحد فلا يقول علي بن ابي طالب حمل لواء المسلمين بل يقول: وحمل لواء المسلمين رجل من المسلمين, إن حمل علي بن أبي طالب اللواء مسألة لا تطاق.

وكان علي بن أبي طالب أول الناس إسلاماً فيقولون: نعم, لكنه أول من أسلم من الصبيان(4)!, في حين إن المسالة لا تفرق في أن يكون من الصبيان أو الكبار, يقولون هذه أولية إضافية.

إن تاريخ المسلمين يذعن لعلي بن ابي طالب ويقول إنه السيف والساعد الذي نصر الإسلام وقاتل وكافح دون كلمة لا إله إلا الله, وهو

ص: 55


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج12: 51.
2- راجع ينابيع المودة للقندوزي ج3: 271.
3- راجع مجمع الزوائد للهيثمي ج7: 319, الجامع الصغير للسيوطي ج2: 672, ح9245, كنز العمال ج14: 264 ح 38666.
4- راجع منهاج السنة لابن تيمية ج7: 286.

أشجع من عرفه تاريخ الصحابة ولكن يأتي شخص ويقول: الاشجع منه هوالذي وقف عندما مات النبي والناس اختلفوا وقالوا لم يمت رسول الله وقال: لا، وقرأ الآية: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)(1)! فقلبه قوي فهو أشجع من علي بن أبي طالب(2)! وهكذا.

عندما تمر بالتاريخ توجد قضايا بديهية ينصب الأمر على إنكارها لمجرد أنها تشكل فضيلة للآخرين, فقضية كون المهدي عليه السلام من أهل البيت قضية بالغ الكثير _ خصوصاً بعض المتأخرين _ في نفيها, لأن هذا اللون من المفخرة يمكن أن تعطفه على باقي المفاخر التي يقف منها التاريخ موقفاً سلبياً وتعطفه على باقي كرائم أهل البيت والتي يحاول تاريخ غير أهل البيت أن ينفيها عنهم لأنها تشكل علامة مضيئة.

الأمر الرابع: نظرية التعويض!

يوجد كتّاب متأخرون خصوصاً المحدثون والذين يسايرون العصر في كتاباتهم ونعبر عنهم (المفكرين) حينما يأتون الى هذه المسألة بالذات يقولون هذه (عملية تعويض)، وهي أن الشيعة في تاريخهم مضطهدون

ص: 56


1- سورة الزمر: الآية 30.
2- راجع منهاج السنّة ج 8 : 82.

فصارت عندهم أحلام يقظة، وهي أن الإنسان عندما لا يحصل على شيء في الواقع يتحلم ويتصور أنه سيحصل عليه من خلال الحلم.

نسأل: إنّ كثيراً من الامم لديها فكرة المخلّص كما هي عندنا نحن الشيعة. إن الله عز وجل سيحيي الأرض بعد موتها على يديه, وستخرج الأرض أفلاذ كبدها, والخير سينتشر, والنعيم سيعم والعدل سينتشر, والظلم والجور سينتفي, هذا هو مفاد الروايات.

إننا نلاحظ فكرة المخلص موجودة لدى شعوب لم تتعرض إلى الاضطهاد كالمسيحيين الذين لم يتعرضوا لعدو خارجي, صحيح قد وقع بينهم ما وقع, ولكنهم لم يتعرضوا للاضطهاد من عدو خارجي, واليوم هم يملكون الدنيا ونحن على الهامش. اليهود والصينيون وجملة من الشعوب لديهم فكرة المخلص, وعندما ترجع إلى الحضارات الأخرى تجد فكرة المخلص منتشرة, صحيح إننا تعرضنا للاضطهاد ولكن ليس معنى ذلك إننا نحلم وإن المسألة حلم يقظة. إن الروايات تأخذ بأعناقنا ونحن لم نخرج فكرة المهدي من جيوبنا ولا من تاريخنا، بل الزمنا الدليل.

إرجع إلى تاريخ المسلمين وتفسير القرطبي(1) وتفسير الفخر الرازي(2) وتفسير روح المعاني للآلوسي(3) وعشرات التفاسير تجد آيات يفسرونها بخروج المهدي, وبأن الله عزوجل سيبعث من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً

ص: 57


1- تفسير القرطبي ج2: 71, ج8: 121, ج10: 223, 390, ج11: 48, ج14: 107.
2- التفسير الكبير للفخر الرازي ج16: 40.
3- روح المعاني للالوسي ج17: 104, ج18: 206.

كما ملئت ظلماً وجوراً. إذن المسألة لم نأخذها من تاريخنا أو من تفسيرنا وحده, بل هي ما عليه جمهور المسلمين, وعليه لا يمكن أن تقول إنها نشأت لديكم من أحلام اليقظة, إنه كلام لا يصمد أمام النقد, وما أردده يقوله الجميع.

إن كتابات القوم لما تمر بهذه المسألة تجدها كلها تشير الى هذا المعنى وهو أن هؤلاء (أي الشيعة) لانهم تعرضوا الى الاضطهاد نشأت لديهم فكرة المهدي عليه السلام, وإلا لا يوجد المهدي أساساً! ولا يخرج آخر الزمان, كلها أحاديث فيها دجل وخرافة، وهكذا الى آخر الحملات.

والأغرب من هذا كله ترى ابن حجر يقول: إن من ينكر أحاديث المهدي كافر لأنه ينكر ضرورة من ضروريات الدين(1)، ولكن مع ذلك تجد إصراراً عجيباً غريباً على إنكار المهدي وأحاديثه. إن سر الاصرار هو الذي أشرت إليه, وقد رأينا مثل هذا النوع من الاصرار في مسائل أخرى.

إلى الآن ومنذ ألف وأربعمائة سنة ينسبون لنا قرآناً غير هذا القران, يقول لهم الشيخ محمد الغزالي: إنكم في هذه الألف والأربعمائة سنة لم تستطيعوا أن تجدوا نسخة من هذا القرآن الذي تنسبونه إلى الشيعة(2) أرونا نسخة منه.

ص: 58


1- راجع الفتاوى الحديثية لابن حجر: 37.
2- راجع دفاع عن العقيدة والشريعة: 253, 264, ط: مصر.

فالقصة ليست قائمة على طلب حقيقة, ولا نشدان حق وإنما قائمة على مجرد أن هناك من يريد أن يهرّج.

إذن المسألة ليست أحلام يقظة, وإنما وضعنا أيدينا على المنبع الصحيح, وألزمتنا الآيات والروايات بوجود صاحب الزمان عليه السلام وأنه يظهر في آخر الدنيا, وأن الله عز وجل يقيم على يديه العدل ويطرد الباطل، وإذا رأيتم الرايات جاءت من خراسان فأتوها فان فيها خليفة الله, ومنادٍ ينادي هذا خليفة الله.(1)

الأمر الخامس: عطاءات القضية

ما هي السلبيات في فكرة المهدي حتى يحمل علينا البعض بها؟

إرجع إلى كتب الفقه عند الشيعة, هل يوجد كتاب يقول إن الجهاد يجب أن نعطله لأنه موقوف حتى يخرج صاحب الزمان؟ لا يوجد عندنا هذا، فحكم الجهاد قائم, إذا وقف المسلمون ليجاهدوا فاننا نقف لنجاهد, هذه أدلتنا تدفعنا إلى أن نحمل لواء الجهاد. ليس عندنا أبدا دليل يقول: إذا تعرض بلدكم أو المسلمون إلى التعدي أرموا السلاح واتركوا الجهاد أو القتال.

ص: 59


1- راجع مسند احمد ج5: 277, كتاب الفتن لابن حماد: 188, كنز العمال للهندي ج14: 411, ح 38651.

هل توجد روايات تأمرنا بترك الجهاد والقتال من أجل فكرة المهدي عليه السلام ؟ كلا.

هل تأمرنا فكرة المهدي أن نعطل العمران مثلا؟ كلا, إن علينا اليوم أن نستثمر ونبني ونزرع ونعمل، فهل تمنعنا فكرة المهدي عن العمل والعطاء؟ كلا, بل العكس إن الفكرة فيها مثل أعلى ونشدان حق ودعم للفضيلة, إرجع إلى روايات المهدي نجد أنها تقول: يقتل الظالمين, يمنع الظلم, ينشر العدل, ينشر الخير بين الناس, يحقق كلمة الله فما عيبها حتى نقف منها موقفاً سلبياً؟

هؤلاء الذين يرموننا به ويقولون بأننا نحلم هذا الحلم وهذه فكرة ضارة, ما هو ضررها؟

يقولون إن ضررها هو أنها تخدرهم وتشل حركتهم!

كيف تشل حركتنا, هل نحن لا نعمل ولا نزرع!! ولكن ماذا نقول, إنهم يريدون أن يتكلموا ما يشاؤون.

إن فكرة المهدي لم تقف في طريق المسلمين سواء كان خطاً عمرانياً أو فكرياً أو انتاجياً اطلاقاً, بل العكس فان الفكرة فيها حافز, وتدفع إلى تبنّي المثل الأعلى, ونشدان العدل, والوقوف بوجه الباطل, فما كانت في يوم من الأيام عائقاً في طريق تقدم المسلمين, ومن أجل ذلك نلاحظ الأحاديث الصحيحة تحث عليها.

ص: 60

بعد هذه المقدمات التي بحثناها في فكرة الإمام المهدي عليه السلام توجد روايات تقول إذا خرج صاحب الأمر يقوم بأعمال معينة وأول عمل هو أنه يصلي ومن ورائه المسيح لأن في الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله والذي روته كتب الصحاح _ ما عدا صحيح مسلم أو صحيح البخاري _ لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم لعيسى هلمّ فصلّ بنا, يقول: لا, إن أمراءكم منكم تكرمة لهذه الأمة(1), صلّ ونصلي بصلاتك فيصلي بهم صاحب الأمر، ومن جملة من يأتم به عيسى بن مريم، هذه من الروايات الكثيرة التي تروي عدد أصحابه وتوجد اضافات لا تهمنا.

الغريب إن الآلوسي الذي نشأ بين ظهراني الشيعة في بغداد واتصل بهم يقول إنهم يأخذون خُمسهم ويأتون به ويجعلونه في السرداب بسامراء حتى يخرج صاحب الزمان ويشتري به الأسلحة ويقاتل(2)!

إن الشيعة لهم ألف وأربعمائة سنة والكثير منهم يدفع خمسه بحمد الله, فكم هو حجم هذا السرداب حتى يسع ذلك؟

يقولون إن الشيعة يسجدون على التربة لأن فيها دم الحسين عليه السلام! نسألهم ألم ينته هذا اليوم حيث يقاع آلاف الاطنان من التراب؟

ص: 61


1- راجع صحيح مسلم ج1: 94, سنن الترمذي ج3: 342, ح2330, سنن ابن ماجة ج1: 5 ح 6 - 10, سنن ابي داود ج1: 257.
2- راجع تفسير روح المعاني للالوسي ج10: 5.

لا أريد القول لا يوجد عقلاء في القوم لينكروا هذا الفكر, ولكنهم قليلون ولعلهم لا يستطيعون أن يجهروا بقولهم, ونأمل أن تميل الدنيا إلى الموضوعية وتبتعد عن التهريج.

وفي الرواية إنه صلوات الله عليه إذا خرج يأتي إلى كربلاء يقف على قبر الحسين, ومن ورائه رعيل من اصحابه, والمنادي ينادي هذا خليفة الله فاتبعوه. تقول الرواية: أول شيء يبدأ به يمد يديه يستخرج طفلاً للحسين رضيعا مذبوحاً من الوريد إلى الوريد.

إنا لله وإنا إليه راجعون

ص: 62

ص: 63

المحاضرة الثالثة: مولد الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه)

اشارة

ص: 64

ص: 65

بسم الله الرحمن الرحيم

قال سبحانه وتعالى:

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ).(1)

تزدحم في هذه الليلة الكريمة (ليلة 15 شعبان المعظم) ثلاث مناسبات:

المناسبة الأولى: ميلاد إمام العصر عليه السلام

هلّت طلعة إمام العصر ومنقذ الأمة وأمل المسلمين وبقية الله في الأرض على هذا الوجود في ليلة النصف من شعبان سنة 255ه.

تقول حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام وكانت تلك الليلة في دار الإمام العسكري عليه السلام وأرادت الخروج فقال: يا عمة باتي عندنا هذه الليلة, فقلت: ما الخبر؟ قال: إنّ ولادة منقذ الأمة هذه الليلة, قلت من أين يا ابن اخي, من نرجس؟ ولا أرى عليها أثراً للحمل, قال: يا عمة!

ص: 66


1- سورة القصص: الآية 5.

إنّ فيها شبهاً من أم موسى, سوف لا يتبين حملها إلاّ في لحظات الولادة، ارجعي إلى داخل الدار. جئت وقلّبتها ظهراً لبطن, فلم أرَ للحمل أثراً عليها إلى أن قرب الفجر فأحسّت بالطلق.

كنت إلى جانبها ومعي مجموعة من النساء, فدنوت منها وتوليت منها ما تلي النساء من النساء, فلم تلبث أن وضعت صاحب الأمر صلوات الله عليه, فاستقبل الأرض بكلتا يديه رافعاً رأسه يقرأ هذه الآية الكريمة:

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).(1)

الواقع إنّ مسألة ولادة صاحب العصر وحجة الدهر تستأثر باهتمام المسلمين من عدة نواح:

الأولى: تكاد تتعدّى كمية الروايات في موضوع صاحب الزمان حدود الإستفاضة، يعني إنّ المسألة عند المسلمين من الأمور الضرورية, بل وصل أمر إنكارها إلى حد الكفر. يعني توجد فتاوى عند المذاهب الإسلامية صريحة بكفر من ينكر صاحب الزمان(2)، ولعل من كتب في ذلك أشبع هذا الموضوع كتابة.(3)

ص: 67


1- راجع كمال الدين للصدوق: 424 ح1-2.
2- راجع الفتاوى الحديثية لابن حجر: 37.
3- راجع كتاب شرح احقاق الحق للسيد المرعشي ج13: 213.

إن أصل فكرة ولادة صاحب الزمان عليه السلام ووجوده, وأنّه الثاني عشر من أئمة أهل البيت أمر مفروغ عنه بالنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله:

(يكون من بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش).(1)

أو: (يكون من بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من ولدي)(2), على اختلاف الروايات.

(آخرهم يواطئ اسمه اسمي, يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا).(3)

ويعطي النبي صلى الله عليه وآله صفاته:

(على خده الأيمن خال, قطط الشعر, أزهر الوجه، إذا خرج تخرج الأرض كنوزها, يحثو المال حثواً, ولا يعدّه عدّاً, يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً...) إلى آخر ما ورد في نعته من الروايات.(4)

تكاثرت الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وعن أمير المؤمنين عليه السلام وعن أئمة أهل البيت, وتشير كلها إلى أنّه الثاني عشر من ولد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وتنص عليه بالإسم, وهذه الإضافة (يواطيء

ص: 68


1- راجع صحيح البخاري ج8: 127, صحيح مسلم ج6: 3.
2- راجع ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج3: 287 الباب 77 في تحقيق حديث (بعدي اثنا عشر خليفة).
3- راجع سنن الترمذي ج3: 343 ح2331, سنن ابي داوود ج2: 309 ح4282, المستدرك للحاكم ج4: 442.
4- راجع صحيح مسلم ج8: 185, مسند احمد ج3: 27 - 70, 317, سنن أبي داود ج2: 310, ح4285.

اسم أبيه اسم أبي) ليست موجودة لانّ في الرواية: (يواطيء اسمه اسمي) فقط, أمّا هذه الإضافة فقد وضعت بعد ذلك.(1)

المصادر تناولت موضوع الإمام, أشبعته بالبحث وألمّت بكل أطرافه, والإشكالات الواردة تكون حول طول العمر وبقائه حياً, أو كونه ينتمي إلى أهل البيت, أو تسلسله بالنسبة إلى الأئمة قد أشبعتها مئات الروايات, وردّت عليها, ولعل أقرب المصادر هو:

كتاب (البيان) للكنجي الشافعي.

(المهدي الموعود) للشيخ نجم الدين العسكري.

(الغيبة) للشيخ الطوسي.

الجزء الخاص بالمهدي عليه السلام من بحار الأنوار للشيخ المجلسي.(2)

سؤال: هل هو موجود بالفعل أو غير موجود؟

الفرق بين المذاهب الإسلامية ومذهب الإمامية في موضوع صاحب الأمر هو: هل هو موجود فعلاً أو يُخلق بعد ذلك؟ أمّا ظهوره, وإذا خرج يفتح القسطنطنية ويستولي على كنوز الروم وينفقها في سبيل الله فقد نص على ذلك حتى أكثر المؤرخين بعداً عن هذا اللون من الفكر,

ص: 69


1- مما لا ريب إن هذه الزيادة من وضع الأمويين والعباسيين لتطبيق الحديث على احد حكامهم كعمر بن عبد العزيز من بني أمية والمهدي العباسي من بني العباس, ساعدهم على ذلك فقهاء السوء ووضاعو الحديث.
2- راجع الجزء 51 , 52 , 53 من البحار للمجلسي.

ومنهم ابن خلدون في المقدمة(1), وجملة ممن كتب من علماء المذاهب الإسلامية, ولكن قالوا إنّه يولد بعد ذلك, وسر استبعادهم هو:

أولاً: ما الفائدة فيه وهو مخفي الوجود؟

ثانياً: إن بقاءه لهذه الفترة يخرق الوضع العادي لأنّ معدّل العمر عادة لا يستمر إلاّ سبعين أو ثمانين عاماً.

ثالثاً: ما هي دوافع اختفائه؟

الجواب عن فائدة وجوده فانّ ظاهر الأحاديث يحملنا على الجزم بأنّ الله عزّ وجل لا يخلي الأرض من حجة, فهل يمكن أن تخلو الأرض من نبي يوماً من الأيام؟

ما ترك الله عزّ وجل عصراً من العصور لم يبعث فيه نبياً, لأنّه إذا ترك ذلك العصر بدون نبي فكأنه ترك الناس بدون حجة يحتجون بها عند الله, فعندما يسألني الباري غداً عن تكاليفي, أقول: عن أي طريق كلّفتني؟ يقول: كلفتك عن طريق النبي والكتاب، فلابد من وجود حجة, فإذا لم يرسل لي رسولا فلا يصح أن يعذبني.

(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).(2)

والغاية من نصب الإمام هي الغاية من بعثة النبي صلى الله عليه وآله نفسها, لأنّه عندما يتوفّى الله أنبياءه لا يمكن أن يترك الأرض خالية من

ص: 70


1- مقدمة ابن خلدون ج1: 311.
2- سورة الاسراء: الآية 15.

حجة، قد يقول قائل: إنّ الكتاب كافٍٍٍ, فنقول: لو كان الكتاب وحده كافياً لكان الكتاب الذي عند عيسى كافياً, فلا يبعث الله نبياً بعده، ولكان الكتاب الذي عند موسى كافياً فلا يبعث الله أنبياء بعده, وينبغي أن لا ينصب أئمة مع وجود القرآن, مع إنّ الأمة مجمعة على وجوب نصب الإمام, ولكن هل هذا الوجوب عقلي أو شرعي؟ فيه اختلاف.(1)

إذن العلة في نصب الإمام هي العلة من إرسال النبي صلى الله عليه وآله نفسها, والوصول إليه ليس متعذراً, فالروايات تنص أنّ بعض الناس يصل إليه, قد يشعر أو لا يشعر, أي أن اختفاءه واحتجابه ليس عن الوجود بل عن النظر، أي انه لا يُعرف.

فالمسألة هي كونه مختفياً عن العيون لا الوجود, إنه يطرح رأيه, حتى يذهب بعض علماء الأصول إلى أنّ إجماع العلماء إنّما يكون حجة لأنّ رأي الإمام عليه السلام يكون ضمن آرائهم من حيث لا يشعرون به, يعني يسددهم بطرح رأي من آرائه.(2)

ص: 71


1- راجع نهج الإيمان لابن حجر: 34, رسائل المرتضى ج2: 294 , المحصول للرازي ج4: 102 - 127.
2- راجع الفصول المختارة للشيخ المفيد ج2: 172, رسائل الشريف المرتضى ج2: 366.

إذن لابد من إمام مسدد ومعصوم حتى لا يصح عليه أن ينقل الحكم وفيه مجال للأخذ والرد, يعني لابد من العصمة حتى لا يتطرق الخلل إلى مضمون الأحكام.

العصمة هي لطف يفعله الله بالمكلف, لا يكون معها داعٍ إلى ترك الطاعة وفعل المعصية مع القدرة عليهما، أي يستطيع أن يفعل المعصية ويترك الطاعة لكن لا يفعل ذلك لامتلاكه نوعاً من التربية العالية لا أكثر.

عندنا أناس سيرتهم سيرة المعصوم وهكذا أخلاقهم, تهذيبهم, استقامتهم, ورعهم وتقواهم. هذه هي العصمة, ولا تفرض فرضاً وإلاّ فلا فضيلة فيها, إنّما هي نوع من التهذيب العالي.(1)

يربي الله عباده كما يربي أحدنا ابنه، فمهمة الإمام المعصوم عليه السلام هي التسديد في الأحكام, والغاية من وجوده هي الغاية من بعثة النبي صلى الله عليه وآله نفسها, لا يخلي الله الأرض من حجة يحتج بها الناس غداً على الله.(2)

ثم إن المسلمين يعتقدون بوجود بعض الأشخاص أحياء, يعتقدون أن عيسى عليه السلام حيّ رفع إلى السماء:

ص: 72


1- لمزيد من الإطلاع على هذا الموضوع راجع الفروق اللغوية للعسكري: 464, مجمع البيلن للطبرسي ج3: 251.
2- راجع الكافي للكليني ج1: 178 باب (إن الأرض لا تخلو من حجة).

(وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).(1)

ويعتقدون بحياة الخضر، وإذا رجعنا إلى أخبار المعمّرين نلاحظ أنّ منهم من عمّر 300 سنة و400 سنة, والقرآن يحكي عن نوح أنّه عمّر قدر زمن الدعوة (ألف سنة إلا خمسين عاما) ومتى ما عبرنا عمر الإنسان العادي إلى العمر غير العادي فلا فرق أن يكون ألف سنة أو ألفي سنة.

إذن القائل إنّ الإمام المهدي عليه السلام موجود لا يقول إنّه موجود بشكل طبيعي عادي بل بشكل إعجازي, ولا اعتقد بوجود نقاش بانّ الله قد يمد في عمر الإنسان معجزة, فهذا ليس ممتنعاً, لانّ الموت ما هو الاّ قطع حبل الحياة، نعم لا يعمّر الإنسان عادة. الروايات تأخذ بأعناقنا, يعني هذه الخواطر التي تمر على أفكار غيرنا تمر علينا أيضا, لكن الدليل هو الذي يأخذ بأعناقنا, فعندما أسمع من النبي صلى الله عليه وآله يقول:

(لو لم يبق على وجه الأرض إلاّ يوم واحد من الدنيا لطوّله الله حتى يخرج مهدينا أهل البيت عليهم السلام).(2)

بطبيعة الحال إنّ هذا يأخذ بعنقي: إنّ الله لا يخلي الأرض من حجة.

هذه الروايات والأدلة توجب عليّ, واضطر معها لأن أؤمن بأنّ بقاءه يكون على نحو المعجزة.

ص: 73


1- سورة النساء: الآية 157.
2- راجع سنن ابن ماجه ج2: 292 ح 2779, سنن أبي داود ج2: 309 ح 4282, سنن الترمذي ج3: 343 باب ما جاء في المهدي ح 2332.

على أي حال, ولد سلام الله عليه سنة 255 ه وتوفي والده العسكري سلام الله عليه وله من العمر خمس سنوات, وكان خلال تلك الفترة يلتقي ببعض أصحابه, ويطرح إليهم الرأي ويقبلون منه الكلام, ويأخذون منه الأحكام على تكتم.

ثم غاب الغيبة الصغرى ولم يبق أمام أنظار الناس, لماذا؟

كنت عندما أمرّ بنظرية انّه اختفى ابتعاداً عن القتل أراها على نحو من الضعف, لكن عشنا ظروفا رأينا فيها ليس وجود الإمام يرعب الأعداء فحسب وإنّما وجود قبره كقبر الحسين عليه السلام يرعب الأعداء فيضطرون لقصفه.(1)

ما هي العلة في كونه مختفياً عن الأنظار؟

ظاهر الروايات إنّه ابتعد عن الأعين, أمّا الدوافع فقد تكون ما عللوه أو غير ما عللوه. المهم إن الإمام عليه السلام غاب الغيبة الصغرى, وترك فيها وكلاء ونواب أربعة هم: عثمان بن سعيد العمري، وابنه، ومن بعده الحسين بن روح، والرابع علي بن محمد السمري. وكانت التواقيع تخرج على أيدي هؤلاء فمثلاً:

تأتي امرأة وتقول توفي زوجي, هل يسعني أن أخرج مع الناس وأشيّعه فيمن يشيّعوه؟

ص: 74


1- كما فعل النظام البعثي البائد في العراق في انتفاضة شعبان عام 1991 م.

فيخرج التوقيع: لا مانع من ذلك.

المال الفلاني أريد أن أوزعه هل لي أن أوزعه أو لا؟ يخرج التوقيع على أيديهم.

ثم في زمن الأخير من النواب الأربعة خرج التوقيع من الناحية المقدسة إنّه قد وقعت الغيبة الكبرى.(1)

متى ظهوره ومتى يكون الفرج على يديه؟

ذلك في علم الله لا نعلم به، وجملة كبيرة من الروايات تنص على أنّه عليه السلام يتحيّن ساعة الفرج متى يأمره الله عزّ وجل بالظهور(2)، هذه الفكرة أردت أن أذكرها هذه الليلة لأنّ فيها ولادة الإمام سلام الله عليه, الليلة المباركة التي تشرفت أبعادها بطلوع جبين الإمام سلام الله عليه.

المناسبة الثانية: تقدير الأرزاق

هذه الليلة يعبر عنها القرآن ب (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فالآجال تحدد في هذه الليلة وإن كانت الرواية تقول إنّها تحدد في ليلة القدر, لكن توجد رواية تجمع الرأيين(3) وتقول بأنّ الإنسان من ليلة النصف من شعبان إلى ليلة النصف من شعبان القادمة يكتب أجله بأن يعيش أو لا,

ص: 75


1- راجع كمال الدين للصدوق: 516 ح44.
2- راجع كتاب الغيبة للنعماني: 163 ح4, كفاية الأثر للخزاز القمي: 147.
3- راجع تفسير روح المعاني للآلوسي ج25: 113.

ويكتب أجله، حتى تقول إنّ أحدكم ليتجهز ويشتري ويبيع ولا يدري إنّه في الأموات.

ثم فيها تقدّر الأرزاق في هذه السنة, ما هي كمية رزق الإنسان وتحصيله هذه السنة فتحدد نسبة الرزق, كما يحدد أمر الحج بأنّ هذا الإنسان مكتوب له أن يحج أو لا(1)؟ مجمل ما يجري على الإنسان يحدد هذه الليلة ويكتب تحته: لله البداء.

ما معنى لله البداء؟

الواقع إنّهم لم يفهموا هذه المسألة ويهرّجون بها علينا, ويقولون إنّ هؤلاء يكفرون لأنّهم يقولون إنّ علم الله مستحدث, أي إنّه لا يعلم ثم يعلم.

كلا, فنحن لا نقول بهذا, معاذ الله فهذه كتبنا, لكن مع الأسف لم يفهموها, أو لم يريدوا أن يفهموها، ولا تجد كتاباً من كتب علم الكلام عندنا إلاّ ويتعرض إلى البداء.

من أين أتى البداء؟ أتى من هذه الآية:

(يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).(2)

كمن يُكتب له في الظاهر إنّه يعيش هذه السنة, لكن الله يظهر ما أخفى في لوح القضاء على العباد لمصلحة, كنسخ القبلة التي كانت إلى

ص: 76


1- راجع مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: 831 - 853.
2- سورة الرعد: الآية 39.

بيت المقدس, مثل هذا النوع من البداء لا يعني أن الله لا يعلم, فذلك نسخ في الأزمان وهذا نسخ في التكوينياتّ.

يقدّر الله عزّ وجل للإنسان عمر عشرين سنة, ثم يظهر إنّ المقدر له أكثر من هذا بشرط أن يصل رحمه, هذا معنى يمحو الله ما يشاء ويثبت.

وموضوع البداء موضوع دقيق لا نتوسّع فيه أكثر من هذا, وبوسع الإنسان أن يقرأ ما كُتب في موضوع البداء عند الإمامية، نحن أبعد غوراً وفكراً من أن ننزلق إلى هذا اللون من التفكير, وأمّا ما ينسب إلينا فنحن منه براء.(1)

إذا عرفنا هذا هذه الليلة، فلماذا يستحسن فيها الإكثار من الدعاء والصلاة؟ والإنسان يريد طبعاً من الله العافية ودفع البلاء لأنّه لا يدري ما في الدنيا, والدعاء يقول:

(اللهم إنّي أعوذ بك من شر ما تعلمه ولا أعلمه, وأسألك من خير ما تعلمه ولا أعلمه).

كثير من الأمور نحن لا نعلمها فننقطع بها إلى الله عزّ وجل والله قد أمرنا بالدعاء:

(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).(2)

لأنّه ورد في الرواية أنّ في هذه الليلة يصدر النداء:

ص: 77


1- راجع الاعتقادات في دين الإمامية للصدوق: 19, الاعتقادات للشيخ المفيد: 39.
2- سورة الغافر: الآية 60.

هل من مستغفر فأغفر له؟

هل من طالب حاجة فأقضي له حاجته؟

هل من مستشفع فأشفع له(1)؟

طبعاً انّه سبحانه يشفع لذاته بذاته, فالله تبارك وتعالى يريد لعباده أن ينقطعوا إليه في هذه الليلة حتى يحققوا معنى العبودية, ويتفضل عليهم من منطلق الربوبية لأنّه مالك الأشياء وواهبها وخالقها.

للدعاء قيمته في هذه الليلة والإنسان يتذرع إلى الله عزّ وجل, إدفعوا أمواج البلاء بالدعاء هذه الليلة. ينقطع الإنسان إلى الله تبارك وتعالى ويتوجه إليه بشيء من الإخلاص وبركعات من الصلاة, لأنّها ليلة كريمة كما نصّ أكثر من مفسر عند قوله تبارك وتعالى: (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)(2) أي أنّ هذه الليلة تفرق على أيام السنة, والأشياء المهمة يبتّ فيها ويكتب تحتها (ولله البداء) أي أنّ هذا الشيء ترونه ظاهراً انقطعوا إلى الله بالدعاء إليه ليظهر لكم بعد ذلك ما يخفيه لكم في علمه.

المناسبة الثالثة: زيارة الحسين عليه السلام

زيارة أبي الشهداء عليه السلام هذه الليلة, إنّها من الليالي الكريمة التي تهبط فيها كلل من الملائكة لتحيي شهداء الطف, ينزل الله عزّ وجل رحماته على

ص: 78


1- راجع سنن ابن ماجة ج1: 444, ح 1388, باختلاف يسير, وأيضاً كنز العمال للمتقي الهندي ج12: 314, ح 35177.
2- سورة الدخان: الآية 44.

المؤمنين وعلى الشهداء, وينزلها أحيانا على أيدي ملائكته بأفواج تتوجه لزيارة الحسين عليه السلام.

إنّ زيارة الحسين موضوع حرص عليه تاريخ الإمامية بالخصوص حرصاً شديداً, فعندما تأتي إلى الروايات تجدها عجيبة بدرجة كبيرة, فالإمام الباقر يقول لأحد أصحابه:

(مُروا شيعتنا بزيارة قبورنا بالغاضرية).(1)

وعن الإمام الصادق عليه السلام:

(لو أنّ أحدكم حج دهره كله ولم يزر الحسين لكان تاركاً حقاً من حقوق رسول الله).(2)

لأنّ المرء يحفظ في ولده, وهذا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وهذا المكان الذي يزار به الحسين جسّد فيه أهداف جده, يعني كان الإمتداد الطبيعي لجده رسول الله صلى الله عليه وآله.

ما جاء الحسين في نهضته إلاّ ليجدد ما أخلقه الأمويون, فأول ما أصّله الإسلام هو حرية الإنسان وكرامته, وجاء الأمويون ليستعبدوا الإنسان. جاؤوا في واقعة الحرّة ليجبروا الناس على البيعة.

جاء الإسلام لحفظ الأعراض والدماء والكرامات ورفع مستوى الإنسان وتكريم الآدمي, وكل هذه القيم تعرضت للهدر على أيدي ثلة من بني أمية الذين عبّر عنهم رسول الله بأنّهم ينزون على منبري نزو القردة.(3)

ص: 79


1- راجع كامل الزيارات لابن قولويه: 453, ح680.
2- راجع المزار للشيخ المفيد: 27.
3- الغدير: ج8، ص 248.

جاء الحسين ليطرد هذه الوافدات على تاريخ الرسالة الناصع ويحقق أهداف النهضة, فعندما نريد أن نزور الحسين نذهب في واقع الأمر لنؤدي حقاً لرسول الله صلى الله عليه وآله نزور من امتد برسالته وحملها وهذا معنى قول النبي:

(حسين مني وأنا من حسين).(1)

يعني انّه من سنخي, أنا حامل رسالة وهو امتداد لرسالتي، إذن زيارته تحقق صلة رسول الله، ثم القرآن يرفع عقيرته ليقول:

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).(2)

ما هي ظواهر مودة ذوي القربى؟

هي أن نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، وعندما أذهب إلى قبر الحسين عليه السلام وأقف عنده وأزوره فانّي أؤدي له نوعاً من الآداب التي تقتضيها المودة, ومظهراً من مظاهرها, وأجدد عهدي به وأستلهم منه، ثم إنّ في زيارة الحسين أمراً بالمعروف وإنكاراً للمنكر, فكأنه صوت من الأصوات التي ترتفع لتُشعر الناس بظلامة هذه الدماء التي أريقت بدون حق، وإلاّ ما معنى ما في الزيارة:

(أشهد لقد اقشعرّت لدمائكم أظلة العرش مع أظلة الخلائق؟).(3)

ص: 80


1- الإرشاد: ج2، ص127.
2- سورة الشورى: الآية 23.
3- راجع زيارته عليه السلام في أول يوم من رجب والنصف من شعبان, إقبال الإعمال لابن طاووس, ج3: 341.

أنا بالواقع عندما أزور الحسين آمر بالمعروف وأنهى عن منكر, ولهذا يجعل الإمام الصادق عليه السلام زيارة جده الحسين أهم من زيارته.

يقول أحد أصحابه دخلت عليه, قلت له: سيدي إنّي تجشمت الطريق ووعثاء السفر, قال لا تشكو ربك, هلاّ زرت من هو أعظم عليك حقاً مني.

صعبت عليّ الكلمة, فمن هو أعظم عليّ حقاً من زيارة الإمام الصادق عليه السلام ؟

التفت إليّ وقال: هلاّ زرت جدي الحسين, هو أعظم حقاً عليّ(1)، لماذا هو أعظم حقاً؟

هذا هو سر حمله للرسالة, كأن الحسين قام بأشياء ما أُتيح للائمة أن يقوموا بها, لذلك يقول له بانّ زيارة الحسين أهم من زيارتي.

يدخل أيضا أحدهم على الإمام الصادق عليه السلام فيسأله:

أتزورون الحسين في كل يوم؟ فيقول:

_ لا سيدي لا نستطيع.

_ في كل شهر؟

_ لا.

_ في كل سنة؟

ص: 81


1- راجع كامل الزيارات لابن قولويه : 314, ح 534.

_ نعم هذه قد تكون.

_ ما أجفاكم بالحسين, لا تطول العهد بينك وبين الحسين.(1)

ويقول الإمام الصادق عليه السلام من أحب أن يكون على موائد النور يوم القيامة فليزر الحسين.(2)

الذين يتصورون إنّنا نذهب إلى كربلاء لنقف على عظام أو تراب هم على خطأ، إنّي أقف على موقف وليس على تراب, أقف على صرخة دوّت وما تزال مدوّية ما احتواها التراب وما تزال مرفرفة على هذا المكان، أنا أقف على مجموعة من المُثل جسّدها أبو الشهداء على صعيد الطف, ففي واقع الأمر إنّي لم أزر عظاماً بالية.

إذن إنّي لم أقف لأزور عظاماً بالية أو قطعة تراب, لأنّه لولا هذا ما نشط الظالمون على منع زيارته, لو كان الحسين عظاماً بالية ما خافته عروش الأمويون, ولا المتوكل, ولا عروش أذيالهم إلى يومك هذا, لو كان الحسين ذلك النمط من العظام البالية لما أرعب هؤلاء, لكنهم ظنوا أنّهم بالقضاء على قبر الحسين يقضون عليه, كلا, فالحسين اكبر, والحسين مضمون والمضمون لا يموت، ولا يقوى الهدم على القضاء عليه.

إنّي إذن أقف على صرخة اسمعها مدوية:

(والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد).(3)

ص: 82


1- راجع كامل الزيارات لابن قولويه: 481, ح 735.
2- راجع المصدر السابق: 258, ح 389.
3- حياة الإمام الحسين عليه السلام ج1، ص 114، الشيخ باقر القرشي.

هذا جانب, وإلى جانبه يأتي الجانب العاطفي. إنّي أقف لأمجّد تلك الدماء التي سُفكت على ثرى كربلاء, أقف لأُكرم ذلك الثغر الذي كان مشغولاً بذكر الله, وذلك الجبين الذي وقع عليه حجر أبي الحتوف الجعفي، لذلك عندما احتضن قبره احتضن تلك السمات الكريمة والمواقف الجليلة.

من هنا وقف الزوار على قبره ينتجعون ذلك منه, وأول من وقف عليه ينتجع ذلك هو عبيد الله بن الحر, ثم سليمان بن قبة ثم جابر بن عبد الله الأنصاري, لما وصل إلى القبر قال الذي معه: وضعت يده على القبر, لما أحسّ ببرد تراب القبر صاح:

يا حسين! يا حسين! ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه, وأنّى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أثباجك, وفُرّق بين رأسك وبدنك.

إنا لله وإنا إليه راجعون

ص: 83

المحاضرة الرابعة: انتصار الإسلام على الأديان

اشارة

ص: 84

ص: 85

بسم الله الرحمن الرحيم

قال سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).(1)

تضمّنت الآية الكريمة أبحاثاً أعرض لها إن شاء الله بعد مقدّمة.

القرآن الكريم لمّا نزل بالجزيرة العربية أخذ بعين الأعتبار المواضعات العرفية السائدة بالجزيرة, فأنت عندما تحمل رسالة إلى جماعة يجب بطبيعة الحال أن تأخذ بنظر الأعتبار تقاليد تلك الجماعة وأخلاقها ومواضعاتها, لأن كلّ جماعة لها قيم.

فمثلاً عندنا بعض الأمور نعتبرها قيمة اجتماعيّة وغيرنا قد يعتبرها سبّة, مثلاً عندما يأتيني ضيف قد يكفيه إناء واحد فيه طعام وفاكهة ولكن هذا عندنا عيب وعار, فالمفروض أن يكرم الضيف في حضارتنا, فإذا لم يكرّم فان القضيّة تعتبر سبّة علينا، بينما في مكان آخر قد يستعيبون ذلك ويعتبرونه لوناً من ألوان السفه، فالمواضعات العرفيّة تختلف من بلد إلى بلد.

ص: 86


1- سورة التوبة، الآية: 33، سورة الصف، الآية: 9.

وهكذا إذا وعد الرجل ثم انسحب عن وعده فانّا نعتبره رجلاً غير جدير بالاحترام، ولكن قد تعتبره بعض الشعوب (شطارة).

وعليه إذا حمل شخص رسالة إلى أمّة يجب أن يكون عنده إلمام بخلفيتها الحضاريّة, ولذلك تجد كل نبي لا يُبعث أجنبياً وغريباً, قال تعالى:

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُْمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ...)(1) حتّى يعرف الفضلة والمستعاب والجيّد عندهم, حتّى يكون على إلمام بخلفيّاتهم.

الرسول عند العرب كثير الاحترام حتّى لو أساء إليهم، فإذا اعتدى شخص عليه اعتبر ذلك الاعتداء سبّة وعاراً, فمن يحمل رسالة فانه يمثّل المرسل, وأعتقد من هنا نشأت فكرة الحصانة الدبلوماسيّة, فالسفير يمثّل شعباً آخر ويعتبر رسولاً يمثّل دولته والجهة التي جاء يمثلها, فيمتلك حصانة ويحظى بالاحترام فلا يمكن أن يتعرض إلى أيّ اعتداء حتّى لو كان عدّواً.

القرآن الكريم وضع يده على هذه النقطة الحسّاسة وقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) أي يقول لهم: أنتم تحترمون الرسول كثيراً, فلا يعتدى عليه عندكم, ويحظى بالتكريم فيجب أن يؤخذ هذا المعنى بعين الاعتبار مع الذي أرسلناه إليكم, أي يجب أن تعزّروه وتوقّروه، كأنّ الآية فيها

ص: 87


1- سورة الجمعة: الآية 2.

إيماء إلى قيمة من القيم الاجتماعيّة عندهم تحثّهم على احترام الرسول، وهؤلاء بعُدت فيهم الشقّة عن رسالات السماء، حيث كانت الفترة بينهم وبين النبي الذي سبق رسول الله صلى الله عليه وآله مدّة طويلة (خمسمائة سنة أو أكثر) فلا يوجد عندهم ذاك العرف الذي يجعلهم يحترمون رسالة رسول من السماء, فضرب القرآن الكريم على هذا الوتر حتّى يشعرهم أنّ هذه العادة والقيمة الاجتماعيّة وهي احترام الرسول موجودة بينكم.

بعد هذه المقدّمة لنرجع إلى الآية حيث تقول:

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى...).

جاء النبي صلى الله عليه وآله إلى هذا المجتمع وحمل رسالة ذات وجهين:

الوجه النظري: وهو القرآن.

والوجه التطبيقي: وهو الممارسات العمليّة.

فقد كان نمط حكم رسول الله صلى الله عليه وآله يجمع بين رسالة السماء وبين الشريعة والنظام، وبتعبير آخر يجمع زمام الدين والدنيا, فالدستور الذي جاء به هو القرآن وتطبيقاته في الوقت نفسه, أي وسيلة تنفيذ حكم السماء ونمط معاملته مع الناس, وطريقة اتّصاله ونظامه الذي يمتد في الحياة ليشمل البيع والشراء وعقود الزواج والاتّصالات والعقود الاجتماعية, فهذه كلّها تطبيقات للشريعة.

ص: 88

وبأيّ طريقة تكون هذه التطبيقات؟ فالضرائب _ مثلاً _ بأيّ طريقة تأخذها الدولة من المجتمع؟

أراد القرآن أن يوضّح هذه النقطة فقال لهم (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى)يعني جاء النبي يحمل رسالة ليس فيها خداع أو جبر أو تعدٍّ، بل جاء بالهدى, ورسالته هي الهدى, وبتعبير آخر إنّه يعتمد على خلق الرادع الداخلي وليس الخارجي.

توضيح الفكرة:

القانون لا يستطيع أن يقبض عليّ إلاّ إذا رآني متلبساً بالجريمة ومخالفة بند من بنود القانون، لكن الدين يخلق عندي رادعاً نفسياً, أي أن الردع ليس من الخارج بل من الداخل, يعني القانون يعتقل السارق إذا كان متلبّساً بالجريمة والدين لا يجعله يسرق, هذا هو الفرق, فالمتدين لا يمد يده ليسرق, فإذا لم يكن له دين وسرق فسوف يأتيه القانون.

إن الفرق بين الرادع النفسي والرادع الخارجي كبير, فالرادع النفسي هو الذي يلعب دوره, ولهذا فان استغناء شعب من الشعوب عن الدين, وتأسيس وضعه على نظام قانوني لا يمكن أن يحقّق العدل بالشكل المطلوب أبدا, لأنّ الإنسان حيوان ذو غرائز يعيش حيوانيته قبل كلّ شيء, ويحمل في داخله وحشا, إذا لم يهذّبه الدين ويخلص من أنيابه

ص: 89

ومخالبه فانه يبقى يعمل في داخل نفسه, وإلاّ فان المسألة ليست سهلة أبداً, فدور الدين دور حسّاس جدّاً يعتمد على خلق الرادع الداخلي, وبه يكون له أثره الكبير.

في هذا الجانب تقول الآية الكريمة: إنّ هذا الذي حمل لكم الرسالة حملها بالهدى, ولم يستعمل الأساليب التي يستعملها حملة الرسالات الوضعيّة الذين يأتون ليحكموا الشعوب بالقانون, أو الذي يدعو الى دعواه عن طريق تطبيق قانونه فانه يستعمل وسائل ملتوية لا يستعملها الدين.

قد يقول قائل هل الدين طبّقه الذين مثّلوا حكم الإسلام بالشكل الصحيح؟ المصيبة أنك لا تستطيع أن تتهرب بل يجب أن تتكلّم بالواقع وتقول:

ذلك صحيح إذ أن الذين تناولوا بنود رسالة السماء ما حملوا معها الهدى, إننا لسنا أناساً ذوي رغبة أو طفولة عقليّة تجعلنا نتمسّك بعلي بن أبي طالب ونبتعد عن معاوية, ليس هذا اعتباطاً ولا صدفة, بل نرى أنّ هذا الرجل قرآن مجسّد, ونرى الجانب الثاني شكلاً آخر, وإلاّ ما هو الفرق بينهما؟ فهذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وذاك أيضاً من أسرته, وهذا عاش في مكّة وذاك أيضاً, لكن يوجد فرق كبير بين هذا الأول وبين الجانب الثاني.

ص: 90

نضرب مثالاً لنرى الأسلوب الذي وصل به هذا الرجل إلى الحكم حتّى نعرف أين الهدى وأين عدمها؟

لقد جاء إلى الحكم عن طريق قميص عثمان, وبعنوان الإنسان الذي يطالب بدم الخليفة وكأنّ علي بن أبي طالب الذي بعث أولاده ليدافعوا عنه هو المسؤول, وفعلاً حشّدوا الشعراء والأقلام كلّها ودفعوها لتكرّس مسؤوليّة بني هاشم عن الواقعة, والحال أنّهم يعرفون أنّ هذا كذب تماماً لأن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان عنده حرص كبير على أن لا يُقتل هذا الرجل, لأنه يعلم أن قتله سوف يخلق مشكلة للمسلمين.

لقد هيّؤوا مجموعة من الشعراء _ وكان الشاعر آنذاك كالصحيفة السياسيّة _ فتسمع من طرف يصيح أحدهم:

بنو هاشم ردّوا تراث ابن إختكم *** ولا تنهبوه لا تحلّ مناهبه

بنو هاشم كيف الهوادة بيننا *** ودرع ابن أروى عندكم ونجائبه

هم قتلوه كي يكونوا مكانه، كما غدرت يوماً بكسرى...(1)

وآخر يصيح:

ص: 91


1- قال الوليد بن عقبة _ وهو أخو عثمان من أمه _ يذكر قبض علي عليه السلام بخائب عثمان وسيفه وسلاحه، فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في أبيات طويلة من جملتها: فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم *** أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه وشبهته بكسرى وقد كان مثله *** شبيها بكسرى هدية وضرائبه... راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1: 271.

لتسمعنّ وشيكاً في ديارهم *** الله أكبر يا ثارات عثمان(1)

وهكذا شاعر ثالث ورابع وقلم خامس ومؤرّخ سادس, لقد جاء عن هذا الطريق وهو يعرف أنّ هذا الطريق مفتعل غير صحيح.

وبعد ما تسنم غارب الكرسي بدأ بتصفية المعارضين, وكل من يخالفه في الرأي كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد الذي كان ذا شعبيّة في الشام أرسل إلى طبيبه (ابن إثال المسيحي) وقال: دبّر قضّيته فصنع له شربة ووضع فيها السم فتناولها, ومسألة السم ليست جديدة بل قديمة وتاريخية ومتوارثة, وفي مقابل هذا أعطى الطبيب ولاية حمص وأعفاه من الخراج طيلة ولايته.

وجاء إلى أناس قتلهم ليس بالسم بصراحة, فمثلاً وضع السم إلى مالك الأشتر في طريقه (إلى مصر) وجاء إلى جماعة وصفّاها تصفية جسديّة صريحة مثل حجر بن عدي وابنه وجماعته الأحد عشر, هيّج عليهم جماعة بأن هؤلاء شقّوا عصا المسلمين وأخرجوهم مكبّلين قبيل الغروب إلى مرج عذراء, وقتلوهم هناك بعد أن عرضت عليهم البراءة من أمير المؤمنين عليه السلام ، في تلك السنة جاء معاوية حاجاً, ولا يستطيع طبعاً أن يجتاز ما لم يمر على أم المؤمنين عائشة, مرّ عليها فقالت له: سمعت

ص: 92


1- قاله حسان بن ثابت يرثي عثمان، قال ابن الأثير: وزاد فيها بعض أهل الشام أبياتاً لا حاجة إلى ذكرها ومنها: يا ليت الطير تخبرني *** ما كان بين علي وابن عفانا... وإنما زادوا فيها تحريضاً لأهل الشام على قتال علي ليقوى ظنهم أنه هو قتله. راجع أسد الغابة، ج3: 383.

من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: سيقتل بمرج عذراء قوم يغضب الله لقتلهم, أين عزب عنك حلمك عن حجر, هذا من رهبان الليّل؟

تباكى معاوية وقال: ماذا أفعل؟ لم أجد عاقلاً ينصحني, ولست بحليم بعد قتل حجر! انه يهزأ في داخله طبعاً, واعتذر وأظهر الندم.(1)

وأكثر من هذا عمد إلى أساليب في الجدل, فقد كان يرقى على منبر النبي صلى الله عليه وآله في المدينة, ثم جلب المنبر إلى الشام, وأحدث ذلك ضجّة وهدفه هو أن يقول الناس بأنه يملك تراث رسول الله.

وهذا أشبه شيء بقضيّة عبد الله بن عمر حينما دخل عليه أحد يستفتيه عن دم البعوضة: هل يستحيل ويصبح من جسمها فيعتبر طاهراً أم لا يزال دم إنسان ونجساً؟

إلتفت إليه عبد الله بن عمر وقال: أنت من أين؟ قال: من الكوفة, قال: أنتم ذبحتم الحسين عليه السلام ولم تستشكلوا, وجئت تسألني عن دم البعوضة(2)؟ تفضّل أخرج، فمعاوية من هذا النوع, يأتي وينقل منبر النبي من المدينة إلى الشام, وهو قد حطّم أضلاع النبي صلى الله عليه وآله وذبح أبناءه على المنبر, ولمّا حدثت الضجّة قال: أرجعوه, وأعلن: أتينا به للترميم لأنّ الأرضة قد أصابته!

ص: 93


1- راجع الأخبار الطوال للدينوري: 223، البداية والنهاية لابن كثير، ج6: 252، تاريخ اليعقوبي، ج2: 230.
2- راجع صحيح البخاري، ج7: 74.

جاء إلى القبائل وتزوج من القبيلة اليمانيّة بني كلب مرّتين ليوجد التناحر بينها وبين قبيلة قيس, ويبقى العرب يضرب بعضهم بعضاً، وما ترك وسيلة ملتوية إلاّ واستعملها, بينما نلاحظ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول:

(حتّى لقد وُطيء الحسنان, وشُقّ عطفاي, مجتمعين حولي كربيضة الغنم).

كلّما يلاحقونه يقول لهم: (إعزبوا عنّي, إعصبوها براس غيري) إلى أن قال: (أما والله, لولا حضور الحاضر, وقيام الحجّة بوجود الناصر, وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها, ولسقيت آخرها بكأس أوّلها).(1)

يوجد فرق كبير بين المنهجين، فهذا منهج الهدى الذي ليس فيه إلتواء بل فيه الوضوح, فالآية الكريمة تقول لهم: إن الله عزّ وجل أرسل رسوله بالهدى, يعني بمنهج واضح لا يعتمد على القسر, وبالفعل كان النبي صلى الله عليه وآله يعرض الإسلام, فإذا اعتنقوه كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، لكن إذا امتنعوا عن قبوله يقاتلهم لأنّ الإسلام رسالة السماء, والنبي لم يأت ليملي منهجاً من عنده, بل السماء أرادت تطبيقه وهو يقول: أنا واحد منكم وليس عندي امتيازات, فلا يمكن أن تتّهموني بانّي سوف آخذ من وراء الحكم شيئاً, أو أصل إلى لذّة أو

ص: 94


1- نهج البلاغة، ج1: 36، خ3.

منصب, تقول زوجته مرّ علينا أربعين يوماً وليس عندنا طعام إلا الأسودان: التمر والماء.(1)

عاش رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك اللّباس البسيط في تلك العُليّة من الطين التي كان يسكنها إلى أن خرج من الدنيا, فلا يمكن أن يتطرّق الشك إليه بأنّه طلب الأمر لغاية, أو حمل الرسالة لأهداف شخصيّة, بل بالعكس ما جاء إلاّ بالهدى لهداية الناس حتّى انتقدوه وقالوا له: لماذا تعمل؟ قال تعالى:

(ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الأَْسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ).(2)

لماذا لا يعطيك الله كنزاً أو ملكاً يصدّقك؟ قال لهم: لا أسأل هذا بل أتّبع ما أؤمر به, فالآية تقول لهم: المنهج عندكم واضح (أرسل رسوله بالهدى ودين الحق).

قد يقول قائل: يوجد دين ليس بحق, لأن المركوز في أذهاننا هو أنّ المقصود من الدين هو رسالات السماء، وليست هي الدين فقط، فالدين أشمل لأنه مأخوذ من الدينونة والعقيدة, وكلّ عقيدة بتعبير آخر هي عقيدة حق, والأرض يوجد فيها عقائد غير حقة, وحتّى عقائد السماء دخلها غير الحق, فالتوراة والإنجيل تعرضا إلى عبث, حيث توجد

ص: 95


1- أنظر مسند أحمد، ج6: 108.
2- سورة الفرقان: الآية 7 _ 8.

فيهما مواد لا يمكن أن تقبل, كيف أقبل أنّ نبي الله داود عليه السلام رأى زوجة أوريا وعشقها, وأرسل زوجها إلى المعركة حتى يُقتل ويأخذ زوجته(1)؟ فهل هذا يتحدّث عن نبي أو ابن شارع؟ وتجد من هذا النوع في هذه الكتب ممّا يؤيّد أو يدعم الشك أو الظن بأنّ هذه الكتب حصل فيها عبث لا حدود له، النص القرآنيّ _ من نعم الله عزوجل _ لم يحصل فيه عبث فانه محفوظ من قبل الله, قد جعله لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه, نعم, حدث العبث في التفسير.

دين الحق يعني عقيدة الحق التي تنشد الصواب والهدى, وليس فيها زور ولا منافرة للواقع, يعني أن الواقع العلمي الذي تعيشونه لا يتنافر مع هذا المنهج الذي جاء به رسول الله, ولذلك لا يمكن أن تجد في العقيدة الإسلاميّة شيئاً يصطدم بالعلم, ولكن أيّ علم؟

يتصوّر بعض الناس أنّ الدين يصطدم بالعلم, لأنّه يسمي الأشياء التي هي عبارة عن نفايات الذهن علماً, فيقول مثلاً: أصبح الإسلام اليوم لا يتلاءم مع الواقع, فانه يريد أن يضع المرأة في البيت وهي نصف المجتمع, فإذا جلست المرأة في البيت فان ذلك يعني شلّ الاقتصاد كلّه، تقول له: إن البحوث تفيد أنّ الطفل إذا حصل لديه نقص في الحنان يتحوّل إلى مشروع جريمة ويكون عرضة للإنحراف، ففي سبيل أن تحصل المرأة على عشرة دراهم تترك ثلاثة أطفال في البيت لدى امرأة هنديّة أو

ص: 96


1- لمعرفة تفصيل ذلك، راجع تاريخ الطبري، ج1: 338.

فليبينيّة تخرّب أخلاقهم, ولا يحصلون على الحنان والعطف والمودّة, وينشأ الطفل وهو لا يعرف لغته وعقيدته وأخلاقه, وينشأ وهو كتلة فراغ من الحنان, يعني يتحوّل إلى مشروع جريمة, فأين الحق؟

إذا صنع الحدّاد آلة فان المرأة تصنع الذهن والإنسان, الولد مدين في صنعه إلى حجر الأم, فإذا خرجت الأم إلى هذا المعترك المنحل, وبقي الطفل سائباً خالي الذهن وناقص الحنان والعطف والموّدة فأين هو الحق؟ وأين التقدّم؟

إن شرعة الحق وكتاب الله عز وجل لم يقسوا على المرأة, ومع ذلك إذا اضطرّت المرأة إلى العمل فان الإسلام يسمح لها بشرط المحافظة على فطرتها, وعدم تعرّضها إلى فساد, لان العفّة أثمن شيء, إذا أردت إنساناً ذا إيمان بوطنه ومقدّساته وشعبه فانه لا يبنيه إلاّ الحضن النظيف، أمّا الحضن الملوّث فانه لا يبني إنساناً ذا قيم.

إن شرعة الحق إذن تكون (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) يعني ليجعل دينه ظاهراً على الأديان وعلى الشرائع.

ومتى يكون هذا؟

نعرف أنّ الإسلام فيما مضى قد أخذ ربع الكرة الأرضيّة مثلاً ولم يأخذها كلّها, بعد ذلك انحسر هذا الربع, يعني أخذت بلاد المسلمين تنقص كمّاً وكيفا بدلاً من أن تزداد، كما رجعت بعض البلدان وأصبحت مسيحيّة مثل الأندلس, وبعض المناطق التي خرجت من سلطان المسلمين

ص: 97

وذهبت إلى سلطان غيرهم, هذا كمّاً، وأمّا كيفاً وهو الأخطر والذي عبّر عنه النبي صلى الله عليه وآله _ حينما قالوا له يا رسول الله أمِن قلّة؟ قال لا _ أنتم لستم قليلون, ولكنكم غثاء كغثاء الليل(1)، عندما تمسك الفرد المسلم تجد ليس فيه محتوى صحيح فهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أنّ محمداً رسول الله, ويعني القشر، وأمّا المضمون فلا يوجد فيه لأن عقيدته ومعلوماته فارغة, ليس عنده مضامين ولا فكرة عن دينه، ونحن نعرف أنّ الأجيال الإسلاميّة كانت تستوعب شيئاً من مضامين الإسلام وأخلاقه وتطبيقاته, لو بدأنا بأسرتنا وجدنا ليس عليها الطابع الإسلامي وهكذا تعاملنا واتصالاتنا, هذه مظاهرنا وهذا واقعنا.

متى إذن يظهر دينه على الدين كلّه؟

يميل كثير من المفسّرين إلى أنه يكون عند نزول المسيح عيسى بن مريم(2) الذي عليه السلام يقترن مع خروج الإمام المهدي عجل الله فرجه, لأنه إلى الآن نحن لم ننتصر, وعيسى ينزل ليأتم بالإمام المهدي عجل الله فرجه, وعشرات الروايات والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله تبشّر بالمهدي عليه السلام منها قوله صلى الله عليه وآله:

ص: 98


1- قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق... قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل... ) سنن أبي داوود، ج2: 313، ح 4297، مسند أحمد، ج 5: 278.
2- زاد المسير لابن الجوزي، ج3: 291، تفسير القرطبي، ج8: 121 وج 18: 86، تفسير مجمع البيان للطبرسي، ج5: 45...

(لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوّله الله حتّى يخرج المهدي من ولدي)(1) فإذا أتى أحد الكتّاب الذين ليسوا على صلة بتأريخنا وعقائدنا ليقول: إن فكرة المهدي فكرة يهوديّة(2)! فانه كلام رخيص لأنّه هو رخيص. نقول له هل تعرف تاريخك كمسلم؟

هل راجعت الروايات؟ هل ذهبت إلى صحاح المسلمين وتواريخهم؟ إنها كلّها تجمع على أنّ الله عز وجل سيعطي الإمام المهدي القدرة على إقامة الحق, ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

وأكثر من هذا فان قضية الإمام المهدي عليه السلام من الضروريات حتّى أفتى المسلمون بكفر من لا يعتقد بذلك(3), والخلاف بين المسلمين هو أنّه موجود بالفعل أو يوجد بعد ذلك؟

ص: 99


1- سنن أبي داوود، ج2: 310، ح 4283، ولفظه: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم واحد لبعث الله رجلاً من أهل بيتي... )، سنن ابن ماجة، ج2: 929، ح 2779، ولفظه: (...حتى يملك رجل من أهل بيتي... )، سنن الترمذي، ج3: 343، ب 44 ح2313، ولفظه: (لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي)، مسند أحمد، ج1: 99، ولفظه: (... لبعث الله عزّ وجل رجلاً منا...).
2- لاحظ ما كتبه أحمد أمين المصري في كتابه (فجر الإسلام) في بحثه عن الفرق _ فصل الشيعة _ صفحة 270، قال: وفكرة الرجعة أخذها ابن سبأ من اليهودية، فعندهم أن النبي إلياس صعد إلى السماء وسيعود فيعيد الدين... إلى أن يقول: وتطورت هذه الفكرة عند الشيعة... ومنها نبعت فكرة المهدي المنتظر.
3- من جملة فتاوى العلماء في من أنكر المهدي عليه الصلاة والسلام ما أجاب به ابن حجر وقد سئل عمن أنكر المهدي، قال: إن كان لإنكار السنة رأساً فهو كفر يقضى على قائله بسبب كفره وردّته فيقتل. وإن لم يكن لإنكار السنة وإنما هو محض عناد لأئمة الإسلام فهو يقضي التعزير البليغ والإهانة بما يراه الحاكم، وقد ذكر المتقي الهندي في كتابه البرهان: 178، هذه الفتوى بعين ألفاظها، وأوردها ابن حجر مختصرة في الفتاوى الحديثية: 37، وكذلك أفتى الشيخ العلامة يحيى بن محمد الحنبلي بكفر من أنكر المهدي، فقال: وأما من كذب بالمهدي الموعود به عليه الصلاة والسلام بكفره، أنظر البرهان للمتقى: 182...

دليل الذين يقولون إنه موجود بالفعل هو (إنّ الله لا يخلي الأرض من حجّة) و(من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة) وكيف يحتج الله عز وجل على عباده إذا لم تكن عنده حجّة قائمة في الأرض؟

والاختفاء الذي نذهب إليه ليس الاختفاء عن النظر بل عن المعرفة, أي قد يعيش بين ظهرانينا ولا نعرفه.

المهم أنّ فكرة الإمام المهدي عليه السلام عليها إجماع المسلمين ولا يوجد حولها نقاش, ولا تجد كتاباً من الكتب ذات العلاقة ببحث هذه الأمور إلاّ ويحمل أكثر من نص على وجود الإمام المهدي.

المهم إنّ الله يُظهر الدين على يديه, وتخرج الأرض أفلاذها(1), وتكثر النعم, ويقام العدل, ويطرد الباطل.

تقول أكثر الروايات إن حكمه سبعين عاما(2), وفيه يستغني الناس عن أخذ الأموال, يعرض المال ولا يأخذه أحد(3) لأنّه لا يحتاج إليه.

ص: 100


1- راجع مستدرك الحاكم، ج4: 514... ولفظ الحديث: (... وأما المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وتأمن البهائم وتلقى الأرض أفلاذ كبدها... أمثال الاسطوانة من الذهب والفضة... ) قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه _ يعني البخاري ومسلم _.
2- الإرشاد للمفيد، ج2: 381، الغيبة للطوسي: 474.
3- عن أبي سعيد الحذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي... فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً... ويملأ قلوب أمة محمد غنى فلا يحتاج أحد لأحد... راجع مسند أحمد، ج3: 52.

هذا مجمل الصورة التي تعطيها كتب المسلمين على اختلاف مذاهبهم.

من أين يكون خروجه؟

تقول رواية إنه من مكّة(1), وتقول رواية إنه من المدينة(2) وتقول روايات أخرى إنه من مكان آخر.(3)

يأتي ومعه 313 شخصاً بعدد أصحاب بدر إلى ظهر الكوفة ويمرّ على قبر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ويأتي إلى محراب جدّه في الكوفة, ثمّ يأتي إلى كربلاء.(4)

أريد أن أقول أنّ الإمام في غيبته لا يرفض ما أراده الله, لكن ليس الأمر بيده حتّى يمكن أن نطلب منه المبادرة بالخروج, إلاّ أن واقعة الطف تقضّ مضجعه, يقول للحسين في الزيارة المنسوبة إليه: ولئن أخّرتني الدهور، وعاقني عن نصرك القدر المقدور.

فلأندبنّك صباحاً ومساءاً، ولأذرفنّ عليك بدل الدموع دما.(5)

ص: 101


1- أنظر كتاب الفتن لابن حماد: 231.
2- مسند أحمد، ج6: 316، المصنف للصنعاني، ج11: 371.
3- في رواية أنه عليه السلام يأتي إلى جبال رضوى فيأتي محمد صلى الله عليه وآله وعي فيكتبان له عهداً منشوراً... ثم يخرج إلى مكة،... راجع البحار، ج52: 153.
4- أنظرغيبة الطوسي: 469.
5- المزار لابن المشهدي: 496.

إنا لله وإنا إليه راجعون

ص: 102

ص: 103

أسئلة والأجوبة حول المهدي (عجل اللّه فرجه)

اشارة

ص: 104

ص: 105

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وآله وعلى آله الطاهرين.

لعلّ من الأمور المهمّة التي تشغل بال الكثير من الكتّاب المسلمين, ودار حولها نقاش حاد هي قضيّة الإمام المهدي عجل الله فرجه, واختلفت فيها الآراء وكثر حولها الأخذ والرد, ويمكن تلخيص النزاع على الشكل التالي:

السؤال الأول: هل أنّ روايات الإمام المهدي عجل الله فرجه كما توحي بها كتابات بعض كتّاب المسلمين مختصّة بالشيعة أم تنسب إلى المسلمين كافّة؟

السؤال الثاني: على فرض ثبوت قضيته هل هو موجود بالفعل أم أنه يوجد بعد ذلك؟

السؤال الثالث: إذا كان موجوداً بالفعل فما جدوى وجوده إذا لم نستطع أن نصل إليه؟

ص: 106

السؤال الرابع: ما هو مردود فكرة وجود الإمام المهدي عليه السلام, أي هل لها مردود إيجابي ينتفع به المجتمع الإسلامي أم لا؟

هذه الأسئلة نحاول أن نمر عليها ونحاول تلخيص النزاع لأنه مطوّل قطعاً, وفيه شعب كثيرة وتزامن تقريباً مع أخريات عصور الأئمة, يعني من بعد غيبة الإمام عليه السلام الكبرى بدأ التساؤل وكان يمر بأدوار قوّة وضعف, أي في بعض العصور يعنف الجدال حوله وفي بعضها يأخذ صفة معتدلة إلى حدّ ما, لكن يبقى أصل الفكرة محل أخذ وردّ بين المسلمين.

الجواب على السؤال الأول:

للإجابة عن السؤال الأول نأتي إلى الروايات التي تروي وتنص على وجود الإمام عليه السلام لنلاحظ هل اختصّ الشيعة بإيرادها أم أنّها وردت في كتب المسلمين من مختلف المذاهب؟

ألفت نظرك إلى أنّ روايات الإمام المهدي عليه السلام عند المذاهب الإسلاميّة هي أكثر ممّا عند الشيعة, والذي يتصوّر أنّ الشيعة اختصّوا بها فليس له في الواقع إلمام ولا علم بالموضوع.

بوسعك أن تلاحظ كتب الحديث التي تناولت أحاديث النبي صلى الله عليه وآله والموسوعات أي كتب السنن والصحاح فإنها بأجمعها قد حفلت بروايات الإمام المهدي عليه السلام ولكن يختلف لسان الروايات فتقول مرّة:

ص: 107

لا تمضي الأيّام واللّيالي حتّى يبعث الله من آل محمد صلى الله عليه وآله مهدي هذه الأمّة يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا.

ومرة: المهدي منّا أهل البيت.

ومرة: المهدي من ولدي اسمه اسمي.

أي تدور كلها حول فكرة وجود الإمام المهدي عليه السلام (1) بمختلف الصيغ والأساليب وهذا هو القدر المتيقن ولا جدال فيه, وقد حفلت بها كتب المذاهب الإسلامية بأجمعها وأكثر من هذا فان لهجة ابن حجر هي أن منكر الإمام المهدي كافر لأنّه ينكر ضرورة من ضروريّات الدين(2)، أي يعتبر وجوده ضرورة لتواتر الروايات وكثرة الروايات التي عالجت هذا الموضوع, إذن لا ننفرد نحن بذكر روايات الإمام المهدي عليه السلام وإنّما تتناولها كتب المسلمين عامّة.

الجواب عن السؤال الثاني:

ص: 108


1- راجع سنن أبي داوود، ج2: 309، باب 31 _ كتاب المهدي، وسنن ابن ماجة، ج2: 1366، باب 34 _ خروج المهدي، وسنن الترمذي، ج3: 343، باب 44 _ ما جاء في المهدي، أما البخاري ومسلم فإنهما وإن لم يصرحا باسم المهدي إلا أنهما رويا حديث نزول عيسى وصلاته خلفه، فقد روى البخاري في صحيحه، ج4، باب نزول عيسى بن مريم: 143، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (كيف أنتم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم) أما مسلم فقد روى أيضاً في صحيحه ج1: 95، قوله صلى الله عليه وآله: (... فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وآله فيقول تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة لهذه الأمة)، وقد استدرك الحاكم عليهما أحاديث عدة في المهدي منها: (... فيبعث الله رجلاً من عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً...)، رواه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه... راجع المستدرك، ج4: 465...
2- الفتاوى الحديثية لابن حجر: 37.

أما السؤال الثاني فانه هو الخلاف الواقع بين الإماميّة وبين المذاهب الإسلاميّة الأخرى، فهذه المذاهب تقول: مع تسليمنا بأن الله يبعث المهدي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً وبصحة الروايات وهذه الأحاديث لكنه ليس موجوداً بالفعل وإنّما يوجد بعد ذلك, لأن وجوده بالفعل يحدث عدّة إشكالات:

أولاً: طول العمر, فالإنسان عمره الطبيعي لا يتعدّى معدّل الأعمار سبعين أو ثمانين سنة على أكثر الفروض, فمن يعيش خارج هذا النطاق والمعدّل أمر غير طبيعي خصوصاً إذا كان خارج المعدل بكمية كبيرة جدّاً (1200 سنة مثلاً) إضافة إلى المدة التي سوف تقضى ولا يعلم بها إلا الله عز وجل.

ثانياً: إذا وجد بالفعل فلماذا يُحجب عن الأبصار, لماذا لا يُعرف حتّى يُقصد ويُستفاد من وجوده؟

ما هي الفائدة من وجوده وعدم القدرة على الوصول إليه؟ لأنه إذا كان محجوباً فانا لا نستطيع أن نصل إليه, وإذا لم نصل إليه فما هي فائدة وجوده؟ لان المفروض في الإمام هو أن يكون على تماس بالناس ومصدر هدايتهم , يلتقون به ويأخذون منه الهداية.

ثالثاً: إن وجود الإمام المهدي مع هذا المدى الطويل قد يعني إننا إذا تعلّقت أفكارنا بوجود إمام يملأ الأرض قسطاً وعدلا فكأنّه سوف ننيط هذه المهمّة به, أي هو المسؤول عن تعديل الأوضاع الشاذّة في الأرض,

ص: 109

وهذا يعني إلغاء التكاليف وشل حركة الأمّة, لان المفروض أن تبقى الأمّة تنتظر الفرج على يديه, ولا تعمل أي شيء, مما يعني أن وجود الأمة وعدمها سيّان, تنتظر الأمام ليغيّر واقعها ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ويقضي على الظلم.

ومن الإشكالات التي أوردت على وجود الإمام المهدي عليه السلام وعدم القدرة على الوصول إليه هو كيف يصح أن يحتج الله عز وجل على العباد بإمام لا يُرى؟

الجواب عن الإشكال الأول: الإمامية يذهبون إلى وجوده والدليل هو.

أولاً: قول النبي صلى الله عليه وآله:

(إنّ الله لا يخلي الأرض من حجّة).(1)

أي لابدّ من وجود قائم بالأمر يمثّل النبي صلى الله عليه وآله وامتداده, لأنّه إذا خلا خلت الأرض من الحجّة, إذ ليس من المفروض أنّ يكون الحجّة غير الإمام, فإذا افترضناه غير الإمام المعصوم فإننا لا نستطيع أن نجعله حجّة بيننا وبين الله إذ يحتمل منه المعصية, وفي حال صدور المعصية منه لا نستطيع أن نعتبره حجّة, ولذلك لا نعتبر قول الفقيه في ذاته حجّة, بل لأنه ينقل لنا النص الشرعي ورأي النبي أو الإمام, إنه قناة لنقل الحكم لنا.

ص: 110


1- كمال الدين للصدوق: 426، ب 42، ح2، دلائل الإمامة للطبري: 433، باب معرفة أن الله لا يخلي الأرض من حجة.

إذن الحجّة إنّما تتم بوجود المعصوم, ولا يوجد إنسان يدّعى له العصمة إلاّ الإمام، إذن لا يخلي الله عز وجل الأرض من حجّة, وعليه يجب أن يكون الحجّة موجوداً, وإلاّ ما معنى أنّه لا يخلو الأرض منه مع أنّه غير موجود؟

ثانياًَ: قول النبي صلى الله عليه وآله:

(من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة).(1)

هذا الحديث يرويه جمهور المسلمين، فإذا لم يكن إمام زماني موجوداً فكيف أعرفه, المفروض أنّي التقي به, ويكون حجّة عليّ حتّى أعرفه ولا أموت ميتة جاهليّة، إذن لابد أن يكون موجوداً بالفعل، لكن يأتي إشكال: إذا كان موجوداً فلماذا لا يُرى وما الفائدة منه إذا كان موجوداً ولا نراه؟ وكيف نصل إليه؟

هنا نقول: إن هذه المسألة في الواقع لها نظائر, يقول العلماء إنّ وجود الإمام لطف للمكلّفين، وكيف يكون لطفا؟

أضرب لك مثالاً:

كل المسلمين يعتقدون بوجود الجنّة والنار فعلاً, أليس القرآن الكريم يقول (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)(2) وهكذا النار, ولا

ص: 111


1- صحيح مسلم، ح6: 22، مسند أحمد، ج4: 96، سنن البيهقي ج8: 156، مجمع الزوائد للهيثمي، ج5: 218،... الكافي للكليني، ج1: 376، باب (من مات وليس له إمام...)، ح 1 _ 4، وقد ورد الحديث بالفاظ مختلفة، منها من مات ولم يعرف إمام زمانه، وليس في عنقه بيعة، بغير إمام، وليس عليه طاعة، وليس عليه إمام... مات ميتة جاهلية...
2- سورة مريم: الآية 63.

يوجد في المسلمين من يقدر أن يصل إلى النار أو الجنّة، فهل معنى هذا أنّ وجودهما عبث؟ لماذا الله خلقهما إذن؟ الجواب: إن الدار حاليّاً دار تكليف وليست دار عقاب أو ثواب وجزاء, فإذا أراد الله أن يحشر الخلق بعد ذلك فإمّا إلى جنّة وإمّا إلى نار, وفعلاً لا أحد يدخل إلى الجنّة وإلى النار، فما الفائدة من وجودهما مع إن جمهور المسلمين يقولون إنّ النار موجودة بالفعل وهكذا الجنّة ونحن لا نستطيع أن نصل إليهما, أليس وجودهما عبثاً؟

يجيبون بأنّ في وجود الجنّة والنار لطفاً للمكلّف, فالفرد المكلف المسلم إذا علم بوجود جنّة ونار فبطبيعة الحال يكون لذلك تأثير على سلوكه, فانه يخشى من هذه, ويرجو هذه ويأمل الوصول إليها مباشرة بعد الموت.

اللّطف يعني التقريب للهداية إذن يوجد فيهما لطف للمكلفين، والجواب ذاته يكون بالنسبة لوجود الإمام ففيه لطف للمكلف وإن لم يره.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية من قال نحن لا نراه؟ إنه يُرى لكن لا نعرفه. أليس المسلمون بأجمعهم يرون أنّ عيسى عليه السلام رُفع إلى السماء ولم يمت, ويذهبون إلى أنّ الخضر حي بإجماع المسلمين ويرى من قبل فئة خاصّة(1)، إذن من يقول انه غير موجود أو لا نراه؟ نراه ولكن لا يعرف, طرحه الله عز وجل بين عباده, ويمكن أن يلقي رأيه مع آرائهم أو مع

ص: 112


1- راجع تفسير القرطبي، ج11: 42، الإصابة لابن حجر، ج2: 258 _ 282.

آراء العلماء من دون أن يُعرف، لذلك يذهب جمهور المسلمين تقريباً إلى هذا الرأي وهو أنّه موجود لكن نحن لا نعرفه.

الجواب عن السؤال الثالث:

وعن الإشكال الثالث: إن طول العمر ممكن، وفعلاً إجماع المسلمين هو أنّ الخضر حي، و لا يقولون طبعاً أنّ الخضر حي بشكل طبيعي، يعني نحن لا نتكلّم في نطاق طبيعي بل في نطاق المعجزة فلا يوجد إشكال, فعندما نأتي إلى بعض المعاجز التي حدثت مثلاً، النطق الذي هو من سمات الإنسان ولا ينتظر من الجذع أو الشجرة أن تتكلّم ويخرج منها الكلام، بينما نقرأ في القرآن أنّ الكلام كان يخرج إلى النبي موسى عليه السلام عن الشجرة.(1) المسلمون كلّهم يروون حنين الجذع لوفاة النبي صلى الله عليه وآله(2)، كلّهم يروون, لا نرويها نحن فقط بل المذاهب الإسلاميّة كلّها ترويها.

حينما يحن الجذع ويتكلّم لا تعتبره إشكالاً لأنّه معجزة لكن أن يطول عمر إنسان تعتبره إشكالاً, لماذا؟ صحيح إن طول العمر غير طبيعي ونحن لا نقول أنه طبيعي بل معجز. إن كثرة الأحاديث التي تلزمنا بوجود

ص: 113


1- إشارة إلى قوله تعالى: (فلما أتاها نودي من شاطيء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى...) سورة القصص: الآية 30.
2- أي حنين الجذع لما تحول صلى الله عليه وآله إلى المنبر، وكان الجذع اسطوانة في المسجد، وكان يستند إليه إذا خطب ولما تحول إلى المنبر صدر عنه حنين، فلما جاء إليه وإلتزمه سكن... وهو من معاجزه صلى الله عليه وآله، وقد روته مصادر جمع المسلمين، راجع صحيح البخاري، ج4: 173، سنن ابن ماجة، ج1: 454، ح 454، سنن الترمذي، ج2: 8، باب 359، ح503، سنن النسائي، ج3: 102...

الإمام المهدي عليه السلام تلزمنا بأن نوجّهها, وليس أنّنا نشتهي ونأتي برواية خياليّة ونبحث لها حلولا. كلا، إنّ الروايات عن النبي تأخذ بعنقي وتجبرني على الإعتراف بوجود الإمام المهدي وتوجيهها وليس لها توجيه إلاّ هذا وهو أن يكون طول العمر على الإعجاز ليس إلاّ، وعادةً لا يعمّر الإنسان أكثر من العمر الطبيعي فإذا عمّر أكثر منه فلابد أن يكون وضعه غير طبيعي ومعجزة, ويعني خروج عن الحدّ المألوف, وكلّ المعجزات هي خروج عن الوضع الطبيعي, فإمّا أن ننكر المعجزات كلّها, وإمّا أن نعترف بالبعض دون البعض الآخر فيصبح تحكّماً.

إن طول العمر بالنسبة للإمام إذن معجزة وليس أمراً طبيعياً, فإذا كان معجزة فلا يوجد إشكال إطلاقاً, كما اعتقد المسلمون بوجود الخضر وعيسى عليه السلام وأنّه رفع إلى الله ولم يمت فكذلك الإمام المهدي عليه السلام.

وللإجابة عن التساؤل الآخر عن مردود فكرة الإمام المهدي عليه السلام على الأمّة وكونها تشل حركة الأمّة نقول: كلا، بل العكس لأنّ الذي جاءت الروايات وقالت أنّ المهدي موجود لم تقل: اترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبداً واترك الجهاد. إن المسلمين بصورة عامّة يرون أنّ الأمر بالجهاد قائم, فإذا توفّرت شروط الجهاد يتعيّن عليهم أن يجاهدوا, وهكذا شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا توفّرت يتعين عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذن فكرة الإمام المهدي لا تشل حركتي ولا تقول لي إذا أردت أن تبني مصنعا لا تبني, ولا إذا أردت أن

ص: 114

تحرث أرض لا تحرثها أو تزرعها, ولا إذا داهمك عدو انتظره إلى أن يدخل بلدك أبداً، القرآن يأمرني باستثمار الطاقات ويأمرني في الوقت نفسه بالدفاع عن مقدّساتي, يأمرني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إذن فكرة الإمام المهدي عليه السلام ليس فيها إشلال لحركة الأمّة كما يتصوّر البعض أبداً. هذه كتب الإماميّة, أنظر باب الجهاد، هل نسخ باب الجهاد من كتب الإماميّة؟ هل يقول فقهاؤنا اليوم إن الجهاد معطّل أو إن حكمه قائم؟ طبعاً إن حكمه قائم، يعني إذا كان هناك شخص يظلمك فهل تقول رواياتنا إذا خرج صاحب الزمان يأخذ لك حقّك؟ يقول القرآن الكريم (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).(1)

إذن دعوى أنّ فكرة الإمام المهدي تشل طاقات الأمّة وتحولّها إلى كيان مسلوب الإرادة ينتظر أن يأتي شخص فيحلّ له مشاكله مغالطة صريحة, ولا توجد هذه الفكرة عندنا نهائياًَ.

الجواب عن السؤال الرابع:

نأتي إلى المردود الإيجابي فانّ فكرة وجود الإمام المهدي أساساً تعني فكرة وجود العدل, يعني أن الله عز وجل يريد أن يشعر العباد ويشدّهم إلى العدل شداً, يريد أن يشعرهم أنّ الظلم أمر غير مراد وغير طبيعي في

ص: 115


1- سورة النحل الآية: 126.

الأرض, وأنّ كل ما يقع من ظلم لابدّ من تعديله. إن الإعتراف بوجود المهدي في الواقع يشدّنا إلى فكرة العدل والإستقامة والوقوف بوجه الظلم. إن معنى (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً) هو أن الأرض لا تستقيم بدون عدل, ويتعيّن على المسلمين دفع الظلم. إذن ليس عندنا أي مردود سلبي في فكرة الإمام المهدي عجل الله فرجه خصوصاً بعد أن بلغت أحاديثها حد التواتر.

هذه فكرة مجملة أحببت إيرادها, وأنّ مردودها مردود إيجابي و ليس فيه أي لون من ألوان السلبيّة أبدا, وأنّها لا تتعارض مع إطلاق طاقات الأمّة, ونسأل الله أن يسدّدنا بالقول والعمل.

سؤال: هل هناك من رأى الإمام المهدي شخصيّاً؟

الجواب: توجد دعاوى, ولكن هذه الدعاوى وهم أم صحيحة؟ لا أستطيع أن أبت فيها, الله العالم, ممكن يوجد ممكن لا يوجد.

سؤال: هل تقوم حكومة إسلاميّة قبل ظهور الإمام المهدي؟ وكيف نقضي على الشبهة القائلة باستحالة قيام حكومة إسلاميّة قبل الإمام المهدي لأنّه يظهر والأرض مملوءة ظلماً وجورا؟

الجواب: لا يوجد تعارض بين قيام حكومة إسلاميّة وبين وجود ظلم لأن الإنسان قد يظلم نفسه بقلّة عبادته واحترامها وقد يكون ظلماً للآخرين، فإذا نقول بأنّ الإمام يقضي على الظلم يعني ظلم الناس للناس, أمّا ظلم الإنسان لنفسه فان الإنسان يظلم نفسه دائماً، ثمّ إن

ص: 116

الحكومة الإسلاميّة لا تملك الأرض كلّها إذ إنها تكون في منطقة دون باقي المناطق, وهذه المناطق تكون مملوءة ظلماً, فعندما يقول الإمام أنه لا يظهر إلاّ والأرض مملوءة ظلما(1) فيعني أنّه ليس على نحو الاستيعاب, أي ليس أن يكون في كل سنتيمتر في الأرض ظلم, وهذا من قبيل أن امرأة مسلمة دخلت أحد الأيّام على النبي صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله أريد أن أتزّوج فلاناً، قال لها: هذا لا يصلح لك, قالت: لماذا؟ قال: إنّه لا يضع عصاه عن عاتقه, يعني انه في سفر دائماً، فليس معناه أنّه لا يضع عصاه دائماً إذ انه حينما ينام يضعها, لكن هذه مبالغة(2), فلمّا يقول الأرض يعني أغلب أقسام الأرض.

سؤال: هناك رواية بأنّ اسم الإمام المهدي يشابه اسم الرسول صلى الله عليه وآله واسم أبيه يشابه اسم أبي الرسول ما مدى هذه الرواية.(3)

ص: 117


1- قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدوانا، قال: ثم يخرج رجل من عترتي، أو من أهل بيتي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدوانا) راجع مسند أحمد، ج3: 36.
2- أنظر شرح سنن النسائي للسيوطي، ج6: 76.
3- راجع ما رواه أبي داوود في سننه، ج2: 309، ح 4282، والحاكم في المستدرك، ج4، 464... وغيرهم من جمهور العامة، وقد تعرض عدد من علماء الحديث من الفريقين لنقد هذه الزيادة (اسم أبيه اسم أبي) ولعل أقوى نقد من علماء السنة ما قاله الشافعي في كتاب البيان... وخلاصته: أن الإمام أحمد، والترمذي رووه إلى قوله (اسمه اسمي) بدون هذه الزيادة، وأن الحافظ أبا نعيم الإصفهاني أورد أكثر من ثلاثين طريقاً لم ترد هذه الزيادة في واحد منها، فتعين أن تكون من فعل (زائدة) الذي ضعفه أهل الجرح والتعديل وشهدوا أنه كان يزيد من الحديث.

الجواب: هذه الرواية مفتعلة لأنّ الحديث يقول اسمه اسمي فقط وليس اسم أبيه اسم أبي فهذه زيادة مدّعاة وليس أساسيّة عند كل الفقهاء.

إنا لله وإنا إليه راجعون

ص: 118

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.