دور العقیده فی بناآ الانسان

اشارة

‏عنوان و نام پدیدآور : دور العقیده فی بناآ الانسان
‏مشخصات نشر : قم مرکز الرساله ۱۴۱۸ق = ۱۳۷۶.
‏مشخصات ظاهری : ص ۱۰۰
‏فروست : (سلسله المعارف الاسلامیه‌۱۱)
‏شابک : 964-319-100-1۱۸۰۰ریال
‏یادداشت : عربی
‏یادداشت : کتابنامه به‌صورت زیرنویس
‏موضوع : شیعه -- عقاید
‏موضوع : اخلاق اسلامی
‏رده بندی کنگره : ‏‌BP۲۱۱/۵‏/د۹۲ ۱۳۷۶
‏رده بندی دیویی : ‏‌۲۹۷/۴۱۷۲
‏شماره کتابشناسی ملی : م‌۷۷-۶۱۴۴

مقدمة المرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمین ، وأفضل الصلاة وأتم التسلیم علی محمد المصطفی الأمین وآله الطیبین الطاهرین ، وبعد :
إن نظرة الإنسان إلی الحیاة والکون ومفاهیمه فی شتی المجالات بل وحتی عواطفه وأحاسیسه کلها تدور حول محور العقیدة التی یتبناها ، والتی تسهم فی بنائه الفکری والأخلاقی والاجتماعی ، وتوجیه طاقاته نحو البناء والتغییر .
وإذا کانت المدارس الوضعیة قد حققت بعض النجاح فی میادین الحضارة المادیة ، فقد أثبتت فشلها الذریع فی تلبیة حاجة الفرد لحیاة کریمة حرة من قیود الابتذال والفجور ، فکان التفسخ الأخلاقی والانحدار الخلقی والتفکک الأسری والفراغ العقائدی ، هو أبرز معطیات الحضارة المادیة التی صنعها الإنسان علی صعید الحیاة الفکریة والشخصیة والاجتماعیة .
ولقد اقتضت حکمة الخالق تعالی أن یرشد الإنسان إلی الجذور والأصول التی یستقی منها معارفه وینهل منها حقائق هذا الوجود لیصل من خلالها إلی المعتقدات الصحیحة السلیمة من الشوائب والبعیدة عن الانحراف بعد أن منحه تعالی الفطرة الصافیة مشعلا یهدیه إلی النور ، نور العقیدة الإسلامیة الحقة الذی أضاء بسناه ما حوله .
ومتی ما حکم الإنسان عقله یری أن العقیدة الإسلامیة تشکل نظاما متکاملا للحیاة البشریة بمختلف أطوارها ویرسم الطریق لکل جوانبها وینسجم مع الفطرة الإنسانیة ویضمن تحقق حاجات الفرد الروحیة ورغباته المادیة بشکل متوازن ودقیق ، وبما یضمن کرامته وشخصیته .
وعلی قواعد هذه العقیدة یقوم بناء الشخصیة ، شخصیة الفرد والمجتمع والدولة الإسلامیة ، وتنتظم العلائق والروابط ، وتتحدد الحقوق والواجبات ، وتتحقق العدالة والمساواة ، ویستتب الأمن والسلام ، وینشأ التکافل والتضامن ،
‹ صفحه 6 ›
وتزدهر الفضائل والمکارم ، ویبنی الإنسان علی کافة الأصعدة .
فعلی الصعید الفکری أخرجت العقیدة الإسلامیة الإنسان من عالم الخرافات والجهل لتأخذ بیده إلی دنیا العلم والنور ، محفزة الطاقات الکامنة فیه للتأمل والاعتبار بآیات الله ودلائله ، وبذلک فقد نبذت التقلید فی الاعتقاد وربطت بین العلم والإیمان .
وعلی الصعید الاجتماعی استطاعت العقیدة الإسلامیة أن تسمو بالروابط الاجتماعیة من أسس العصبیة القبلیة واللون والمال إلی دعائم معنویة تتمثل بالتقوی والفضیلة والأخاء الإنسانی ، فشکل المسلمون خیر أمة أخرجت للناس بعد أن کانوا جماعات متفرقة متناحرة .
وعلی الصعید الأخلاقی نجحت العقیدة الإسلامیة فی تنمیة الواعز الذاتی القائم علی أساس الإیمان برقابة الخالق جل وعلا لکل حرکات الإنسان وسکناته وما یستتبع ذلک من ثواب وعقاب ، الأمر الذی أدی إلی تعدیل الغرائز وتنمیة شجرة الأخلاق الفاضلة وجعلها عنصرا مشترکا فی جمیع الأحکام الإسلامیة .
کما أسهمت العقیدة الإسلامیة فی بناء المجتمع اقتصادیا وسیاسیا وتربویا ، وبذلک فهی تمثل عنصر القوة فی تاریخ الحضارة الإسلامیة .
فلأجل النهوض بالإنسان المسلم من حالة الضعف الروحی والانزلاق فی مهاوی المادیة ومغریاتها ، لا بد من تذکیره بمعطیات تلک العقیدة ، وترسیخ قناعته بقوتها وصلاحیتها لکل العصور بلغة معاصرة ، وبشکل یتناسب مع مقتضیات العصر الحدیث ، والتحلیل الفکری .
وإصدارنا هذا یوضح لک هذه الحقائق بشکل جلی معتمدا البحث والتحلیل الفکری بأسلوب سهل ممتع وعرض علمی قویم یبتعد بالأفکار عن مهاوی الانحراف وأوهام الخیال ، ویقودها إلی الحقائق الناصعة والأدلة الساطعة .
فلله الشکر علی ما أنعم وله الحمد علی ما وفق وهو المستعان
مرکز الرسالة
‹ صفحه 7 ›

المقدمة [المولف]

[توضیح]

أکثر ما یهم الإنسان فی الحیاة هو أن یعرف حقیقة مبدئه ومعاده ، والغایة من وجوده ، ومن أین جاء ، وإلی أین ینتهی ، ولماذا وجد ؟
هذه الأسئلة التی یطرحها الإنسان علی نفسه علی الدوام ، تحتاج إلی إجابات شافیة ، لکی یتخذ الإنسان علی ضوئها موقفا من الحیاة ، یحدد سلوکه ، ویقیم لمجتمعه نظاما صالحا یرتضیه .
ولقد فشلت العقائد الوضعیة فی الإجابة علی استفهامات الإنسان المتعلقة بمبدئه ومعاده ، ومبرر وجوده ، مرة من خلال الادعاء بأن الإنسان وجد صدفة ! ومرة أخری من خلال الزعم بأنه وجد نتیجة لتطور المادة ! ! . . وما إلی ذلک من تفسیرات واهیة لا تسمن ولا تغنی من جوع الإنسان وتعطشه الأبدی لمعرفة الحقیقة .
ولیس هذا فحسب ، بل فشلت أیضا فی رسم معالم النظام الاجتماعی الذی یصلح الإنسان ویحقق سعادته .
وبینما أجابت العقائد الدینیة المحرفة إجابات باهتة ومشوهة ، عندما أقرت من حیث المبدأ بوجود الخالق ولکن شبهته بخلقه ، کما فشلت فی تحدید النظام الأصلح للبشریة ، أجابت العقیدة الإسلامیة عن کل ذلک بمنتهی الصدق والعمق ، عندما أعلنت أن للإنسان خالقا حکیما قادرا
‹ صفحه 8 ›
لا ینال بالحواس ولا یقاس بالناس ، وأن الإنسان وجد لغایة سامیة وهی عبادة الله تعالی والوصول من خلالها إلی أرفع درجات التکامل والخلود .
کما تولد هذه العقیدة أیضا عواطف وأحاسیس خیرة ، یتبنی الإسلام بثها وتنمیتها من أجل بناء الإنسان الکامل فی الأبعاد الفکریة والاجتماعیة والسلوکیة ، وتکوین الشخصیة العقائدیة التی تتمتع بعقلیة هادفة وسلوک قویم ، واتجاه رسالی ، علی العکس من الشخصیة اللا منتمیة ، التی تنصب اهتماماتها جمیعا علی الذات ومصالحها ورغائبها ، فتعانی من الفراغ العقلی والتأزم النفسی وفقدان الهدفیة فی الحیاة .
وینبغی الإشارة هنا إلی أن العقیدة الإسلامیة لیست کعقیدة الفلاسفة - باعتبارها نظریة فکریة تقبع فی زوایا الدماغ - بل هی قوة تتحرک فی القلب وتنعکس إیجابیا علی النفس والجوارح ، فیندفع معتنقها إلی میادین الجهاد والعمل ، وعلیه فقد کانت قوة فاعلة ومحرکة ، غیرت مجری التاریخ ، وبدلت معالم الحضارة ، وأحدثت فی حیاة الإنسان الاجتماعیة والفکریة انقلابات رائعة ، وحققت انتصارات عسکریة مشهودة ، ولذلک وجدنا القلة المستضعفة العزلاء فی مکة ، استطاعت بعقیدتها أن تصمد ثلاثة عشر عاما فی مواجهة طغیان کالطوفان .
وهذه العقیدة هی التی جندت للرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) جیشا عدته عشرة آلاف ، وهو الذی خرج من مکة مستخفیا یطارده کفارها ، ولم یستطع الذین حاربوه طوال هذه المدة أن یصمدوا أمام قوة الإیمان الزاحفة ، فاستسلموا له ، وأتوا إلیه مذعنین ، أو دفعوا إلیه الجزیة صاغرین .
کان المسلمون یملکون أقوی عدد النصر ، وهی العقیدة التی تصنع
‹ صفحه 9 ›
المعجزات ، التی جعلت من حمزة - سید الشهداء - یقود أول سریة فی الإسلام فی ثلاثین راکبا مسلما ، لمواجهة ثلاثمئة راکب من قریش علی ساحل البحر الأحمر ، ولم تخرج السریة المسلمة لمجرد استعراض العضلات ، بل کانت جادة فی المواجهة والاشتباک مع عدو تبلغ قوته عشرة أضعاف قوتها .
ولم یحدث فی تاریخ معارک الإسلام ، التی کان یحرز فیها انتصارات باهرة ومتوالیة ، أن کانت قوة المسلمین المادیة متکافئة مع قوة العدو ، بل کانت قوة المسلمین من حیث العدد والعدة تصل أحیانا إلی خمس قوة العدو ، ولم یتحقق النصر إلا باعتمادهم علی المدد المعنوی الهائل الذی تمنحه العقیدة للمقاتل المسلم مع عدم إغفال دور الامداد الغیبی المتواصل ، وبعض العوامل والشروط المادیة الأخری .
وهکذا نجد أن العقیدة هی القوة الأساسیة فی کل معارک الإسلام ، والعامل الأساس فی تحقیق النصر فی مختلف المجالات .
وبغیة النهوض الحضاری بالفرد المسلم ، لا بد من تذکیره بالمعطیات الحضاریة التی منحتها العقیدة الإسلامیة لمن سبقه من المسلمین ، صحیح أن المسلم لم یتخل کلیا عن عقیدته ، ولکن عقیدته قد تجردت فی قلبه من فاعلیتها ، وفقدت فی سلوکه إشعاعها الاجتماعی ، بفعل عوامل الغزو الفکری التی تعرض ویتعرض لها باستمرار ، وبفعل عوامل الانحطاط والتخلف التی عصفت بمجتمعه کنتیجة مباشرة لابتعاده عن قیم وتعالیم السماء .

ومما ینبغی الترکیز علیه فی هذا الإطار :

‹ صفحه 10 ›
أولا : تعریف الإنسان المسلم بعقیدته الحقة عن طریق منابع المعرفة الصافیة .
وثانیا : ترسیخ قناعته بصوابها وصلاحیتها للعصر الراهن ، وإبراز عناصر تفوقها علی العقائد الأخری .
وثالثا : العمل علی إعادة دور العقیدة فی بناء الإنسان المسلم ، لتتجسد فی فکره إیمانا عمیقا ، وفی سلوکه عملا صالحا وأخلاقا حمیدة ، کما کانت تتفاعل عطاء وجهادا فی نفوس المؤمنین السابقین ومن تبعهم بإحسان .
ولأجل هذه الغایة ، عقدنا هذا البحث الذی یتناول دور العقیدة فی بناء الإنسان الفکری والاجتماعی والنفسی ، وانعکاساتها علی أخلاق المسلمین وسلوکهم ، کما سلطنا الضوء فیه علی الدور الکبیر الذی قامت به مدرسة آل البیت ( علیهم السلام ) من أجل صیانة العقیدة ، والتصدی الحازم لمحاولات تسطیح الوعی التی تعرض لها الإنسان المسلم فی أدوار سیاسیة متتابعة .
ولا بد من الإشارة إلی أننا اتبعنا فی هذا البحث " المنهج النقلی " واعتمدنا - أساسا - علی المصادر والمراجع التراثیة .
ومن الله نستمد العون والتوفیق .
---------------
( 1 ) الإسراء 17 : 70 .
( 2 ) البقرة 2 : 30 .
( 3 ) الأعراف 7 : 176 .
‹ صفحه 11 ›

[فصول الکتاب]

الفصل الأول البناء الفکری

المبحث الأول : تحریر فکر الإنسان .

اشارة

ترتکز نظرة العقیدة الإسلامیة علی کون الإنسان موجودا مکرما :
* ( ولقد کرمنا بنی آدم وحملناهم فی البر والبحر ورزقناهم من الطیبات وفضلناهم علی کثیر ممن خلقنا تفضیلا ) * ( 1 ) .
فهو خلیفة الله فی الأرض ، یمتلک العوامل التی تؤهله للسمو والارتفاع إلی مراتب عالیة : * ( وإذ قال ربک للملائکة إنی جاعل فی الأرض خلیفة قالوا أتجعل فیها من یفسد فیها ویسفک الدماء ونحن نسبح بحمدک ونقدس لک قال ( إنی أعلم ما لا تعلمون ) * ( 2 ) . کما أن بإمکان الإنسان أن ینحط ویتسافل حتی یصل إلی مرتبة الحیوانیة : * ( . . . أخلد إلی الأرض واتبع هواه فمثله کمثل الکلب إن تحمل علیه یلهث أو تترکه یلهث . . ) * ( 3 ) .
ثم یتسافل أکثر فأکثر حتی یصل إلی مرتبة الجماد : * ( ثم قست قلوبکم من بعد ذلک فهی کالحجارة أو أشد قسوة . . ) * ( 1 ) .
وعلیه فالعقیدة الإسلامیة تراعی فی الإنسان عوامل القوة والضعف معا ، فقد وصف الإنسان فی الکتاب الکریم بأنه خلق ضعیفا هلوعا عجولا ، وأنه یطغی ، وأنه کان ظلوما جهولا ( 2 ) .
وعلی هذا الأساس لا تحاول الشریعة إرهاقه بتکالیف شاقة ، تفوق طاقاته وقدراته النفسیة والبدنیة ، قال تعالی : * ( لا یکلف الله نفسا إلا وسعها . . ) * ( 3 ) .
وقال رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( رفع عن أمتی تسعة : الخطأ ، والنسیان ، وما أکرهوا علیه ، وما لا یعلمون ، وما لا یطیقون ، وما اضطروا إلیه ، والحسد ، والطیرة ، والتفکر فی الوسوسة فی الخلق ما لم ینطق بشفة ) ( 4 ) .
وقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب علی عقله حتی یبرأ ، وعن النائم حتی یستیقظ ، وعن الصبی حتی یحتلم ) ( 5 ) .
فالعقیدة الإسلامیة - إذن - تعتبر عوامل الضعف فی الإنسان حالة طبیعیة ناتجة عن تکوینه البشری ، ولم ترها معقدة بالمستوی الذی یفقد الإنسان معها قدرته علی البناء والحرکة ، وحریة الاختیار .
---------------
( 1 ) البقرة 2 : 74 .
( 2 ) راجع سورة النساء 4 : 28 ، والمعارج 70 : 19 ، والأحزاب 33 : 72 ، والأنبیاء 21 : 37 ، والعلق 96 : 6 .
( 3 ) البقرة 2 : 286 .
( 4 ) الخصال ، للصدوق : 417 باب التسعة - منشورات جماعة المدرسین - قم .
( 5 ) کنز العمال ، للمتقی الهندی 4 : 233 مؤسسة الرسالة ط 5 .
‹ صفحه 13 ›
وفوق ذلک حاولت العقیدة - وهی ترید بناء الإنسان وتکامله - أن تثیر لدیه شعورا عمیقا بالجانب الإیجابی من وجوده .

الخطیئة أمر طارئ

من ناحیة أخری فإن العقیدة الإسلامیة تعتبر الخطیئة أمرا طارئا علی الإنسان ، ولیس ذاتیا أصیلا ، وعلیه فحین یسقط الإنسان فی مهاوی الخطیئة ، فإنه لا یتحول إلی شیطان تمنعه شیطنته من العودة إلی رحاب الإنسانیة ، بل یبقی إنسانا مخطئا یمکن أن یسعی إلی تصحیح خطئه ، والنهوض من کبوته .
وهذا هو سر عظمة النظرة الإسلامیة إلی الإنسان ، فهی لا تجعله تحت رحمة الشعور بخطیئة أصیلة مفروضة علیه ، کما تفعل النصرانیة ، بل هی تسعی إلی انتشال الإنسان من وحل الخطیئة ، وإشعاره بقدرته علی الارتقاء ، وتذکیره الدائم بعفو الله ورحمته الواسعة ، وعدم الیأس منها .
ولا یوجد فی الإسلام " کرسی للاعتراف " کما هو الحال فی النصرانیة ، بل یسعی أئمة الدین وعلماؤه إلی ستر عیوب الناس وذنوبهم مهما أمکن ذلک ، لأن الله تعالی یحب الستر .
عن الأصبغ بن نباتة قال : أتی رجل أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) ، فقال : یا أمیر المؤمنین ، إنی زنیت فطهرنی ، فأعرض أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) بوجهه عنه ، ثم قال له : ( اجلس ، فأقبل علی ( علیه السلام ) علی القوم ، فقال : أیعجز أحدکم إذا قارف هذه السیئة أن یستر علی نفسه کما ستر الله علیه ؟ ! . . ) ( 1 ) .
---------------
( 1 ) من لا یحضره الفقیه 4 : 21 / 31 باب فیما یجب به التعزیر والحد ، دار صعب طبع 1401 ه.
‹ صفحه 14 ›

الإنسان موجود مکرم

ومن جانب آخر تحاول العقیدة إشعار الإنسان - علی الدوام - بأنه موجود مکرم ، له موقعه المهم فی هذا الکون ، من خلال وظیفة الاستخلاف فیه وما علیه إلا أن یقوم بأداء وظیفة الاستخلاف هذه علی أحسن وجه ، وأن یشکر خالقه علی هذا التکریم والتمکین والهدایة إلی الدین الحق .
سأل رجل أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) عن حبه للقاء الله تعالی ، فقال : بماذا أحببت لقاءه ؟ قال ( علیه السلام ) : ( لما رأیته قد اختار لی دین ملائکته ورسله وأنبیائه ، علمت أن الذی أکرمنی بهذا لیس ینسانی ، فأحببت لقاءه ) ( 1 ) .

معالم التحریر

ولقد أسهمت العقیدة إسهاما فعالا فی تحریر الإنسان علی محاور عدة ، منها :
أولا : - حررت الإنسان من الاستبداد السیاسی ، فلیس فی الإسلام استبداد إنسان بآخر ، أو تسخیر طبقة أو قومیة لأخری ( فقد کان الدین ، علی امتداد التأریخ الإسلامی ، من أبرز العوامل لظهور حرکات التحرر .
ومهما تکن نظرة الباحث تجاه الدین فلا یستطیع إبعاد العامل الدینی وأثره فی بناء الوعی الثوری خلال هذه الفترة من تأریخ الاسلام .
فلم تکن ثورة أبی ذر ( رحمه الله ) وثورة الحسین ( علیه السلام ) إلا منطلقا لاتجاه واع لتصحیح الانحراف فی تأریخ الإسلام . ورغم کل الانحراف الذی تعرض
---------------
( 1 ) کتاب الخصال : 33 باب الاثنین - منشورات جماعة المدرسین - قم .
‹ صفحه 15 ›
له المسلمون علی امتداد تأریخهم الطویل لم ینعدم فی فترة من هذا التأریخ اتجاه ثوری قوی فی إعادة الإسلام إلی مجاری الحیاة والقضاء علی الظلم والاستغلال واستعادة حقوق الإنسان المسلم وکرامته ) ( 1 ) .
کما حررت العقیدة الاسلامیة الإنسان من عادة " تألیه البشر " ، کعبادة الملوک والأسر الحاکمة ، وهی عادة کانت سائدة عند بعض الأمم القدیمة کالمصریین القدماء ، وقد أبطل الإسلام نظریات التمییز بین إنسان وآخر ، سواء علی أساس الجنس أو اللغة أو اللون أو المال أو القوة ، ومقیاس التفاضل ینحصر فی أمور معنویة هی التقوی والفضیلة ، قال تعالی : * ( یا أیها الناس إنا خلقناکم من ذکر وأنثی وجعلناکم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أکرمکم عند الله أتقاکم إن الله علیم خبیر ) * ( 2 ) .
إن الإسلام یحتل الأسبقیة بإعلان مبدأ الحریة قبل الثورة الفرنسیة بأکثر من عشرة قرون .
قال أمیر المؤمنین علی ( علیه السلام ) فی خطبة له : ( أیها الناس إن آدم لم یلد عبدا ولا أمة ، وإن الناس کلهم أحرار . . ) ( 3 ) .
إلا أن الإسلام لم یجعل هذه الحریة الممنوحة للإنسان مطلقة ، بحیث یطلق العنان للإنسان لیفعل ما یشاء ، بل جعل للحریة ضوابط وکوابح حتی لا تؤدی إلی فوضی .
ومن هنا یبرز الفرق الشاسع بین العقیدة الإسلامیة التی تربط الحریة
---------------
( 1 ) دور الدین فی حیاة الإنسان ، للشیخ الآصفی : 50 - دار التعارف ط 2 .
( 2 ) الحجرات 49 : 13 .
( 3 ) فروع الکافی 8 : 69 - دار صعب ط 3 .
‹ صفحه 16 ›
الإنسانیة بالعبودیة لله تعالی والخضوع الواعی والطوعی لسلطته ، وبین القوانین الوضعیة التی تلقی بالإنسان فی تیه لا یتفق مع قدرته ولا مع طبیعته .
ومن هنا لا بد من توازن بین الحریة والعبودیة ، ولیس هناک توازن فی هذا السبیل یطلق قدرات الإنسان ، ویحافظ علی طبیعته فی آن واحد ، إلا بما نجده فی الإسلام ، عبودیة لله ، وحریة من سائر العبودیات ، فلا تکتمل حریة العبد إلا بعبودیته لله . . ولا تکتمل عبودیته لله إلا بتحرره من عبادة سواه ، فهنا توازن واتساق واضح بین الجانب الاجتماعی والجانب الإیمانی فی شخصیة المسلم عن طریق الحریة کما یراها الإسلام ( 1 ) .
وعلی ضوء ما تقدم ، فالعقیدة تقرر حقیقة أساسیة هی أن جوهر الحریة الحقیقیة ، هو العبودیة لله ، لأنها تعنی التحرر من جمیع السلطات الجائرة ، ولیس فی العبودیة لله أی امتهان لکرامة الإنسان ، بل هی علی العکس من ذلک تعزز شخصیته وتحافظ علی مکانته ، فقد کان الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) یتشرف بکونه عبدا لله ، ویحب أن یطلقوا علیه صفة " العبودیة " ویرفض الغلو الذی قد یؤدی إلی التألیه الباطل ، کما حصل لأهل الکتاب علی الرغم من التحذیر الإلهی لهم من الغلو فی أشخاص رسلهم ، قال تعالی : * ( یأهل الکتاب لا تغلوا فی دینکم ولا تقولوا علی الله إلا الحق إنما المسیح عیسی ابن مریم رسول الله وکلمته ألقاها إلی مریم
---------------
( 1 ) معالم شخصیة المسلم ، للدکتور یحیی فرغل : 79 - 80 ، منشورات المکتبة العصریة - طبعة عام 1399 ه.
‹ صفحه 17 ›
وروح منه . . ) * ( 1 ) .
إن مدرسة أهل البیت ( علیهم السلام ) تحارب فکرة تألیه البشر من خلال الترکیز علی صفة العبودیة أحیانا . . قال أمیر المؤمنین علی ( علیه السلام ) : ( أنا عبد الله وأخو رسوله ) ( 2 ) .
وقال الإمام الرضا ( علیه السلام ) : ( بالعبودیة لله أفتخر ) ( 3 ) . علی أن فکرة تألیه البشر کانت سائدة فی الأمم الأخری ، وتسربت إلی أتباع الأدیان السماویة فخالطت عقائد بعضهم ، فالمسیحیة - علی سبیل المثال - تدعی إلوهیة المسیح ، والیهودیة تزعم أن عزیرا ابن الله ! ومن هنا تبرز حکمة وبعد نظر الإمام علی ( علیه السلام ) فی ترکیزه علی صفة العبودیة ووقوفه بالمرصاد لکل دعوات الغلو التی نسبته إلی الربوبیة ، جاء فی الحدیث : ( أنه أتی قوم أمیر المؤمنین علیه الصلاة والسلام فقالوا : السلام علیک یا ربنا ! فاستتابهم ، فلم یتوبوا ، فحفر لهم حفیرة ، وأوقد فیها نارا وحفر حفیرة إلی جانبها أخری ، وأفضی بینهما ، فلما لم یتوبوا ، ألقاهم فی الحفیرة ، وأوقد فی الحفیرة الأخری حتی ماتوا ) ( 4 ) .
وفی هذا الصدد قال ( علیه السلام ) : ( هلک فی رجلان : محب غال ، مبغض قال ) ( 5 ) .
ثانیا : حررت العقیدة الإسلامیة الإنسان المسلم من شهوات نفسه
---------------
( 1 ) النساء 4 : 171 .
( 2 ) کنز العمال 13 : ح 36410 .
( 3 ) بحار الأنوار 49 : 129 .
( 4 ) وسائل الشیعة 18 : 552 . دار إحیاء التراث العربی ط 5 .
( 5 ) نهج البلاغة ، ضبط صبحی الصالح ، 558 / حکم 469 .
‹ صفحه 18 ›
بعدما ربطت قلبه بالله والدار الآخرة ، ولم تربطه بأهوائه ونزواته ، لقد زودت العقیدة عقل المسلم وإرادته بالحصانة الواقیة من الانحراف أو إیثار العاجل الفانی علی الآجل الباقی ، والنفس - فی توجهات آل البیت ( علیهم السلام ) - هی منطقة الخطر ، لذلک تصدرت أولی اهتماماتهم .
ومن هنا نجد أن حدیث النفس وضرورة السیطرة علیها یحتل مساحة کبیرة من أقوال وحکم ومواعظ أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) ، فلم یترک مناسبة إلا واغتنمها فی الحدیث عن النفس لکونها قطب الرحی فی عملیة بناء الإنسان .
لقد أخبرنا الذکر الحکیم : * ( . . بأن الله لم یک مغیرا نعمة أنعمها علی قوم حتی یغیروا ما بأنفسهم ) * ( 1 ) ولذلک فإن ما یلفت نظر الباحث أن الإمام علیا ( علیه السلام ) - أیام حکومته العادلة - کان یوصی عماله علی الأقالیم وکبار قادته بالسیطرة علی النفس ، علی الرغم من انتقائه الدقیق لهم ، وکون أکثرهم من ذوی الفضائل العالیة والسجایا الحمیدة ، فمن کتاب له ( علیه السلام ) للأشتر لما ولاه مصر : ( هذا ما أمر به عبد الله علی أمیر المؤمنین ، مالک بن الحارث الأشتر . . . أمره بتقوی الله ، وإیثار طاعته . . . وأمره أن یکسر نفسه من الشهوات . . . فإن النفس أمارة بالسوء ، إلا ما رحم الله . . . فاملک هواک ، وشح بنفسک عما لا یحل لک ، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فیما أحبت أو کرهت وأشعر قلبک الرحمة للرعیة ) ( 2 ) .
ومن وصیة له لشریح بن هانئ أحد قادته العسکریین ، لما جعله علی
---------------
( 1 ) الأنفال 8 : 53 .
( 2 ) نهج البلاغة ، لصبحی الصالح : 427 .
‹ صفحه 19 ›
مقدمة جیشه إلی الشام : ( . . . واعلم أنک إن لم تردع نفسک عن کثیر مما تحب ، مخافة مکروه ، سمت بک الأهواء إلی کثیر من الضرر ، فکن لنفسک مانعا رادعا . . . ) ( 1 ) .
ومن کتاب له ( علیه السلام ) کان قد وجهه إلی معاویة ، کشف له فیه عن سر تمرده علی القیادة الشرعیة ، المتمثل فی انحرافاته النفسیة ، فقال له : ( فإن نفسک قد أولجتک شرا ، وأقحمتک غیا ، وأوردتک المهالک ، وأوعرت علیک المسالک ) ( 2 ) .
فالانحراف النفسی له عواقب جسیمة ، وخاصة من الذین یتصدون لدفة القیادة بدون شرعیة وجدارة .
وکان أهل البیت ( علیهم السلام ) مع عصمتهم المعروفة یطلبون من الله تعالی العون علی أنفسهم ، تعلیما وتهذیبا لغیرهم ، ومما جاء من دعاء الإمام زین العابدین ( علیه السلام ) : ( . . . وأوهن قوتنا عما یسخطک علینا ، ولا تخل فی ذلک بین نفوسنا واختیارها ، فإنها مختارة للباطل إلا ما وفقت ، أمارة بالسوء إلا ما رحمت ) ( 3 ) .
ونستنتج من کل ذلک ، أنه لا یتم بناء الإنسان إلا بالسیطرة علی النفس وهو ما سیأتی الحدیث عنه .
ثالثا : إن العقیدة الإسلامیة حررت الإنسان من عبادة الطبیعة ومن تقدیس ظواهرها ، ومن الخوف منها ، یقول تعالی : * ( ومن آیاته اللیل
---------------
( 1 ) نهج البلاغة : 447 .
( 2 ) نهج البلاغة : 390 .
(
3 ) فی ظلال الصحیفة السجادیة ، للشیخ مغنیة : 100 - دار التعارف للمطبوعات ط 2 .
‹ صفحه 20 ›
والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر . . . ) * ( 1 ) .
لقد مر الإنسان بمرحلة الحیرة والتساؤل والقلق من مظاهر الطبیعة من حوله ، فهو لا یعرف شیئا من أسرارها وأسباب تقلب أحوالها ، فأخذ یقدسها ویقدم لها القرابین بسخاء ، متصورا أنه سوف یأمن بذلک من ثورات براکینها الملتهبة وزلازلها المدمرة وسیولها الجارفة وصواعقها المحرقة ، فعملت العقیدة علی تنقیة العقول من غواشیها ، وفتحت الطریق أمامها واسعا لاستثمار الطبیعة والتسالم معها ، عندما رفعت ما کان من حجب کثیفة بین الإنسان والطبیعة ، وانکشف له بأن الطبیعة ومظاهرها وما فیها من مخلوقات وحوادث کلها صادرة عن الله تعالی ، وهی مخلوقات مسخرة لخدمته ، وما علیه إلا أن ینتفع بها ویتفکر فیها وبأصلها حتی یصل عن طریقها إلی الخالق : * ( أفلا ینظرون إلی الإبل کیف خلقت * وإلی السماء کیف رفعت * وإلی الجبال کیف نصبت * وإلی الأرض کیف سطحت ) * ( 2 ) .
ولا بد من الإشارة إلی أن منهج العقیدة فی بناء الإنسان " منهج شمولی " ینظم علاقة الإنسان بنفسه وبربه وبالطبیعة من حوله ، وکل توثیق أو تطور فی العلاقة بین الإنسان وربه فسوف ینعکس إیجابیا علی علاقته مع الطبیعة المسخرة بید الله تعالی ، فتجود علی الإنسان المؤمن بالخیر والعطاء ، لذلک طلب النبی " هود " ( علیه السلام ) من قومه - الذین ابتعدوا عن منهج السماء فحبس عنهم المطر ثلاث سنین وکادوا یهلکون - أن یستغفروا
---------------
( 1 ) فصلت 41 : 37 .
( 2 ) الغاشیة 88 : 17 - 20 .
‹ صفحه 21 ›
ربهم عما سلف من ذنوبهم ، وأن یتوبوا إلیه بتصحیح مسیرتهم وتنظیم علاقاتهم مع الله تعالی ، وحینئذ سوف تنتظم علاقتهم مع الطبیعة فتجود بالمطر والخیر ، قال لهم : * ( یا قوم استغفروا ربکم ثم توبوا إلیه یرسل السماء علیکم مدرارا ویزدکم قوة إلی قوتکم ولا تتولوا مجرمین ) * ( 1 ) .
وعلیه فالعبادة الحقة ، یجب أن تکون لله وحده ، والخوف یجب أن یکون من الذنوب ، التی تثیر سخط الله وتجلب انتقامه ، فیستخدم الطبیعة أداة للعقوبة ، کما أغرق الله فرعون بألیم ، وأرسل الریح العقیم التی أهلکت قوم عاد ، وهکذا نجد أن أکثر العقوبات التی حلت بالکافرین قد نفذت بواسطة قوی الطبیعة ، مما یکشف لنا العلاقة الترابطیة بین الإنسان والطبیعة ، وفی هذا الصدد یقول الإمام الباقر ( علیه السلام ) : ( وجدنا فی کتاب رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) . . إذا منعوا الزکاة منعت الأرض برکتها من الزرع والثمار والمعادن کلها ) ( 2 ) . ویقول ولده الإمام الصادق ( علیه السلام ) : ( إذا فشا الزنا ظهرت الزلازل ، وإذا أمسکت الزکاة هلکت الماشیة ، وإذا جار الحکام فی القضاء أمسک القطر من السماء . . ) ( 3 ) .
وجملة القول أن الخوف الإنسانی یجب أن یترکز علی الذنوب والخطایا التی تسبب تدمیر المجتمعات ورفع البرکات ، أما الخوف من الطبیعة والاعتقاد بأن بعض ظواهرها شرور لا تجتمع مع النظام السائد علی العالم أولا وحکمته وعدله ثانیا ، فإنما هو ناشئ من نظراتهم الضیقة
---------------
( 1 ) هود 11 : 52 .
( 2 ) أصول الکافی 2 : 374 / 2 کتاب الإیمان والکفر - دار صعب ط 4 .
( 3 ) الخصال ، للشیخ الصدوق 1 - 2 : 242 / باب الأربعة - منشورات جماعة المدرسین عام 1403 ه
‹ صفحه 22 ›
المحدودة إلی هذه الأمور ، ولو نظروا إلی هذه الحوادث فی إطار النظام الکونی العام لأذعنوا بأنها خیر برمتها ، فللوهلة الأولی تتجلی تلک الحوادث شرا وبلیة ، ولکن المتعمق بها یری أنها مدعاة إلی الخیر والصلاح ، وأنها تکتسی لباس الحکمة والعدل والنظم ، وتفصیل فلسفة البلایا والشرور فی العالم موکول إلی علم الکلام ، ولکن فیما یتعلق ببحثنا نعود ونؤکد بأن العقیدة الإسلامیة أعادت صیاغة عقل الإنسان تجاه الطبیعة المحیطة به ، بشکل یجعله أکثر حریة وتفاعلا وتسالما معها .
رابعا : تحریر الإنسان من الأساطیر ومن الخرافة فی الاعتقاد أو السلوک ، من أجل رفع الحواجز الوهمیة التی تحول دون استخدام طاقة العقل علی نحو سلیم ، وکان الإنسان الجاهلی علی سبیل المثال یتفاءل ویتشائم بحرکات الطیر ، فینطلق نحو العمل إذا اتجه الطیر یمینا ، ویتراجع عن العمل إذا اتجه الطیر شمالا ، وکانت طبقة الکهان والمنجمین تحتل موقع الصدارة فی السلم الاجتماعی وتخدع الناس بادعائها علم الغیب ، وکان التطیر یقید الناس بحبال الوهم عن السعی والسفر ، وکذا کان الاستقسام بالأزلام ، إذ یأخذ من قصد عملا - ثلاثة سهام - ، یکتب علی أحدها : " إفعل " وعلی الآخر : " لا تفعل " ویترک الثالث هملا ، ویمد یده لیأخذ أحدها ، فإن خرج الأول أقبل علی عمله ، وإن أصاب الثانی توقف ، وإن خرج الثالث أعاد الکرة ! وکان السحر متفشیا بین الناس ینذر بشر مستطیر ، فعملت العقیدة علی محاربة هذه المظاهر ، وکانت سببا لتفتح العقول والسمو بالنفوس ، وإخراج الناس من ظلمات الوهم والخرافة إلی نور العلم والحقیقة . .
قال الرسول الکریم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( لیس منا من تطیر ولا من تطیر له ، أو تکهن
‹ صفحه 23 ›
أو تکهن له ، أو سحر أو سحر له ) ( 1 ) ، وقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) أیضا : ( من ردته الطیرة عن حاجته فقد أشرک ) ( 2 ) .
وقال الإمام الصادق ( علیه السلام ) قال : ( الطیرة علی ما تجعلها ، إن هونتها تهونت ، وإن شددتها تشددت ، وإن لم تجعلها شیئا لم یکن شیئا ) ( 3 ) .
من جانب آخر حررت العقیدة عقل المسلم من استنتاجات المنجم ، فاعتبرت المنجم کالکاهن ، کلاهما یسعیان إلی تقیید حرکة الإنسان فی الحیاة والتلبیس علی عقله . .
عن عبد الملک بن أعین ، قال : قلت لأبی عبد الله ( علیه السلام ) : إنی قد ابتلیت بهذا العلم - ویقصد التنجیم - فإذا نظرت إلی الطالع ورأیت طالع الشر جلست ولم أذهب ، وإذا رأیت طالع الخیر ذهبت فی الحاجة ؟ فقال لی : ( تقضی ؟ قلت : نعم . قال ( علیه السلام ) : أحرق کتبک ) ( 4 ) .
ولا بد من التنویه إلی أن مدرسة آل البیت ( علیهم السلام ) الإلهیة لا تعیب علی النجوم کعلم طبیعی یتطلع الإنسان من خلاله علی معالم السماء التی تظله لیصل من خلال ذلک إلی عظمة الخالق ، ولکن تعیب علی البعض ادعاءه التوصل من خلالها إلی علم الغیب .
ومن الشواهد ذات الدلالة لسعی آل البیت ( علیهم السلام ) علی تحریر الإنسان المسلم من عادة التنجیم المستحکمة التی امتدت إلی عصور متأخرة ،
----------------
( 1 ) کنز العمال 10 : 113 .
( 2 ) کنز العمال 10 : 113 .
( 3 ) وسائل الشیعة 8 : 262 .
( 4 ) وسائل الشیعة 8 : 268 .
‹ صفحه 24 ›
ما قاله أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) لبعض أصحابه لما عزم علی المسیر إلی الخوارج ، وقد قیل له : إن سرت یا أمیر المؤمنین فی هذا الوقت ، خشیت ألا تظفر بمرادک ، من طریق علم النجوم .
فقال ( علیه السلام ) : ( أتزعم أنک تهدی إلی الساعة التی من سار فیها صرف عنه السوء ؟ وتخوف من الساعة التی من سار فیها حاق به الضر ؟ فمن صدقک بهذا فقد کذب القرآن ، واستغنی عن الاستعانة بالله فی نیل المحبوب ودفع المکروه . . ثم أقبل ( علیه السلام ) علی الناس فقال : أیها الناس ، إیاکم وتعلم النجوم إلا ما یهتدی به فی بر أو بحر - إلی أن قال لهم - سیروا علی اسم الله ) ( 1 ) .
---------------
( 1 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 105 .
‹ صفحه 25 ›

المبحث الثانی : بناء فکر الإنسان .

اشارة

للعقل مکانة کبیرة فی الدین الإسلامی ، فهو أصل فی التوصل إلی الاعتقاد الصحیح ، وهو دلیل من أدلة الاجتهاد ، قال الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( . . ولکل شئ دعامة ، ودعامة الدین العقل ) ( 1 ) .
ومن جانب آخر یشکل العقل دعامة الإنسان المؤمن ، قال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( من کان له عقل کان له دین ، ومن کان له دین دخل الجنة ) ( 2 ) .
وقد بلغت النصوص التی تتناول التنبیه إلی دور العقل المئات ، ومن خلال نظرة عامة إلی هذه النصوص نکتشف أن مشروع الإسلام فی إعطاء العقل دوره الحقیقی قد جاء علی مرحلتین ، فهو یبتدئ بتحریر العقل ، ثم ینتقل إلی توجیه طاقاته .

تحریر العقل :

هذه الخطوة الأولی من خطوات المشروع الإسلامی المذکور نکتشفها فی النصوص التی توجهت إلی نبذ القیود التی تقید العقل وتمد من نشاطه الحقیقی ، وتقوده إلی أخطاء خطیرة بسبب ذلک . . وهذا ما نجده فی نموذجین بارزین :
الأول : نبذ التقلید الأعمی :
وأمثلته فی القرآن الکریم کثیرة جدا ، نقرؤها فی سور متعددة ومشاهد متعددة :
---------------
( 1 ) المحجة البیضاء ، المحقق الکاشانی 1 : 172 کتاب العلم مؤسسة الأعلمی ط 2 .
( 2 ) أصول الکافی 1 : 11 کتاب العقل والجهل .
( 1 ) الزخرف 43 : 22 .
( 2 ) الزخرف 43 : 23 .
( 3 ) یونس 10 : 78 .
( 4 ) الزخرف 43 : 24 .
( 5 ) المائدة 5 : 104 .
‹ صفحه 26 ›
فبینما کان یؤکد افتقارهم إلی أدنی حجة ذات قیمة فی ما یعتقدون من عبادة الأوثان والعقائد الزائفة ، رکز علی أن کل ما یمتلکونه من حجة هو أنهم وجدوا آباءهم علی ذلک ، فتمسکوا به . . * ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا علی أمة وإنا علی آثارهم مهتدون ) * ( 1 ) .
ثم یؤکد أن هذا هو دیدن هذا الصنف من الناس الذی أغلق علی ذهنه المنافذ . . * ( وکذلک ما أرسلنا من قبلک فی قریة من نذیر إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا علی أمة وإنا علی آثارهم مقتدون ) * ( 2 ) . وهکذا یسوق مقولتهم هذه مرتین فی آیتین متتابعتین لیجسد ما تنطوی علیه هذه المقولة من تهافت ، وما یغیب فیه هؤلاء من جهل متجذر موروث لا یصغی لدعوة حق ولا لبرهان ساطع بل لیس لدیهم أکثر من تردید مقولتهم تلک * ( أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا علیه آباءنا ) * ( 3 ) ؟ ! حتی لو جاءهم متحدیا لما وجدوا علیه آباءهم مبینا فساده . . * ( قال أولو جئتکم بأهدی مما وجدتم علیه آباءکم ) * ؟ حتی مع مثل هذه الاستثارة لا یبحثون عن برهان ، ولا یفتحون نافذة للنظرة ، بل وقفوا دائما بتحجرهم الأول ، و * ( قالوا إنا بما أرسلتم به کافرون ) * ( 4 ) ، و * ( قالوا حسبنا ما وجدنا علیه آباءنا ) * ( 5 ) ! ! ویکرر القرآن النکیر علی هؤلاء فی مواضع آخر ، لأنه إنما یواجه فی مشروعه المعرفی نظریات استحکمت وترسخت لدی أمم متتابعة ، لا یستبعد أن یکون لها
---------------
( 1 ) الزخرف 43 : 22 .
( 2 ) الزخرف 43 : 23 .
( 3 ) یونس 10 : 78 .
( 4 ) الزخرف 43 : 24 .
( 5 ) المائدة 5 : 104 .
‹ صفحه 27 ›
امتداد فی مستقبل الأمم أیضا . . فلقد تجاوزت هذه النظریة حدود المعارف والمعتقدات إلی السلوک والمعاملات . . * ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا علیها آباءنا ) * ( 1 ) . و * ( قالوا بل وجدنا آباءنا کذلک یفعلون ) * ( 2 ) ! !
بعد هذا یبین القرآن الکریم الجزاء الذی ینتظر قوما مضوا علی هذا النهج ، مثیرا الأذهان إلی ضرورة الحذر من نهج کهذا . . * ( فانتقمنا منهم فانظر کیف کان عاقبة المکذبین ) * ( 3 ) .

توجیه طاقة العقل

اشارة

بعد أن حررت العقیدة الإسلامیة العقل من القیود التی تأسره ، أطلقته إلی أمام وهی توجه طاقاته من خلال الالفات والتدبر فی الکون والحیاة ، من أجل بناء متکامل دینا ودنیا . . ویمکننا أن نشیر إلی مجموعات من آیات الذکر الحکیم توجه العقل إلی آفاق رحیبة متعددة ، منها :

أولا : التدبر فی آیات الله تعالی فی الآفاق وفی الأنفس :

قال تعالی : * ( إن فی خلق السماوات والأرض واختلاف اللیل والنهار لآیات لأولی الألباب * الذین یذکرون الله قیاما وقعودا وعلی جنوبهم ویتفکرون فی خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانک فقنا عذاب النار ) * ( 4 ) .
---------------
( 1 ) الأعراف 7 : 28 .
( 2 ) الشعراء 26 : 74 .
( 3 ) الزخرف 43 : 25 .
( 4 ) آل عمران 3 : 190 - 191 .
‹ صفحه 28 ›
* ( وفی الأرض آیات للموقنین * وفی أنفسکم أفلا تبصرون ) * ( 1 ) .
* ( قل انظروا ماذا فی السماوات والأرض . . ) * ( 2 ) .
* ( فلینظر الإنسان مم خلق ) * ( 3 ) .
* ( فلینظر الإنسان إلی طعامه ) * ( 4 ) .
* ( أفلا ینظرون إلی الإبل کیف خلقت * وإلی السماء کیف رفعت * وإلی
الجبال کیف نصبت * وإلی الأرض کیف سطحت * فذکر إنما أنت مذکر ) * ( 5 ) .
ومما یلفت النظر عنایة القرآن بذکر مشاهد الکون عنایة کبیرة من خلال تکرار عرضها فی أکثر من سورة ، عرضا متنوعا ، ودعوته الإنسان بإلحاح إلی النظر والتأمل فیها ، والتفکر فی مجری حوادثها ، والأهم من ذلک کله جعل هذا الکون منطلقا للوصول إلی الله تعالی خالقه ومبدعه .
وقد ورد عن رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) أنه کان یقرأ : * ( إن فی خلق السماوات والأرض واختلاف اللیل والنهار لآیات لأولی الألباب * الذین یذکرون الله قیاما وقعودا وعلی جنوبهم ویتفکرون فی خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانک فقنا عذاب النار ) * ( 6 ) ، ویقول : ( ویل لمن قرأها ولم یتفکر فیها ) وفی روایة أخری : ( ویل لمن لاکها بین فکیه
---------------
( 1 ) الذاریات 51 : 21 - 22 .
( 2 ) یونس 10 : 101 .
( 3 ) الطارق 86 : 5 - 6 .
( 4 ) عبس 80 : 24 .
( 5 ) الغاشیة 88 : 17 - 21 .
( 6 ) آل عمران 3 : 190 - 191 .
‹ صفحه 29 ›
ولم یتأملها ) .
وعن الإمام علی ( علیه السلام ) : ( أن النبی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) کان إذا قام من اللیل یتسوک ثم ینظر إلی السماء ثم یقول : * ( إن فی خلق السماوات والأرض واختلاف اللیل والنهار لآیات لأولی الألباب * الذین یذکرون الله قیاما وقعودا وعلی جنوبهم ویتفکرون فی خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانک فقنا عذاب النار ) * ( 1 ) .
وقد سلک الأئمة الأطهار ( علیهم السلام ) طریق الاستدلال علی وجود الله تعالی من خلال التأمل العقلی فی الکون وما فیه من نظم دقیق وتناسق بدیع ، وهو الدلیل الذی أطلق علیه المتکلمون " دلیل النظم " .
قال أمیر المؤمنین علی ( علیه السلام ) : ( ولو فکروا فی عظیم القدرة ، وجسیم النعمة ، لرجعوا إلی الطریق ، وخافوا عذاب الحریق ، ولکن القلوب علیلة ، والبصائر مدخولة ، ألا ینظرون إلی صغیر ما خلق ، کیف أحکم خلقه ، وأتقن ترکیبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوی له العظم والبشر !
انظروا إلی النملة فی صغر جثتها ، ولطافة هیئتها لا تکاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرک الفکر ، کیف دبت علی أرضها وضنت علی رزقها . . .
ولو فکرت فی مجاری أکلها ، وفی علوها وسفلها ، وما فی الجوف من شراسیف بطنها ، وما فی الرأس من عینها وأذنها ، لقضیت من خلقها عجبا ، ولقیت من وصفها تعبا . . . فانظر إلی الشمس والقمر ، . . . وتفجر هذه البحار ، وکثرة هذه الجبال ،
---------------
( 1 ) راجع الکشاف ، للزمخشری 1 : 453 .
‹ صفحه 30 ›
وطول هذه القلال ، وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات . . فالویل لمن أنکر المقدر ، وجحد المدبر ، زعموا أنهم کالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم یلجؤوا إلی حجة فیما ادعوا ، ولا تحقیق لما أوعوا . . وهل یکون بناء من غیر بان ، أو جنایة من غیر جان ! ) ( 1 ) .
ومن ناحیة أخری یثیر القرآن الکریم فی الأذهان دواعی التفکر الجاد والمثمر فی ما یعرضه من معارف ، فمرة بصیغة الاستفهام الاستنکاری ، کقوله تعالی : * ( أفحسبتم أنما خلقناکم عبثا ) * ( 2 ) .
ومرة بصیغة النفی للتصورات الساذجة ، کقوله تعالی : * ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بینهما لاعبین * ما خلقناهما إلا بالحق ولکن أکثرهم لا یعلمون ) * ( 3 ) .
والمعروف أن مدرسة أهل البیت ( علیهم السلام ) تجعل التفکر فی ملکوت السماوات والأرض عبادة ، بل أفضل عبادة ، یقول الإمام الصادق ( علیه السلام ) : ( أفضل العبادة إدمان التفکر فی الله وفی قدرته ) ( 4 ) .
وکان أتباع هذه المدرسة العالیة وتلامذتها یکثرون من هذه العبادة الفکریة التی تسهم بصورة فعالة فی بناء الإنسان وإیصاله إلی مراتب عرفانیة عالیة . فعلی سبیل المثال ، کانت أکثر عبادة أبی ذر ( رحمه الله ) التفکر
---------------
( 1 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 270 - 271 .
( 2 ) المؤمنون 23 : 115 .
( 3 ) الدخان 44 : 38 - 39 .
( 4 ) أصول الکافی 2 : 55 / 3 کتاب الإیمان والکفر .
‹ صفحه 31 ›
والاعتبار وقد سئلت أم أبی ذر عن عبادة أبی ذر فقالت : " کان نهاره أجمع یتفکر فی ناحیة من الناس " ( 1 ) .
وینبغی معرفة أن النظرة العامة إلی الوجود التی یرشد إلیها الثقلان - القرآن والعترة - هی الأصل الذی تنبثق منه جمیع نظرات الإنسان الفکریة واتجاهاته السلوکیة ، وهی الأساس فی اختلاف الحضارات والثقافات .

ثانیا : النظر فی سنن التاریخ :

حیث دعتنا العقیدة إلی تأمل أحداث التاریخ بنظر ثاقب ، وفکر فاحص ، وصولا إلی العوامل التی کانت سببا فی تدهور المجتمعات ، وسقوط الحضارات ، أو نموها ، قال تعالی : * ( قد خلت من قبلکم سنن فسیروا فی الأرض فانظروا کیف کان عاقبة المکذبین ) * ( 2 ) .
وقال تعالی : * ( ألم یروا کم أهلکنا من قبلهم من قرن مکنهم فی الأرض ما لم نمکن لکم وأرسلنا السماء علیهم مدرارا وجعلنا الأنهر تجری من تحتهم فأهلکناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرین ) * ( 3 ) .
وقال تعالی : * ( ولقد أهلکنا القرون من قبلکم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبینات وما کانوا لیؤمنوا کذلک نجزی القوم المجرمین ) * ( 4 ) .
إنها دعوة تلح علی الناس أن یحرکوا عجلة عقولهم ، وینظروا فی تاریخ من قبلهم ، حتی لا یکونوا کالقطیع التائه یسیر بلا راع نحو المجهول ، وهی
---------------
( 1 ) تنبیه الخواطر ، الأمیر ورام بن أبی فراس 1 : 250 باب التفکر - دار صعب .
( 2 ) آل عمران 3 : 137 .
( 3 ) الأنعام 6 : 6 .
( 4 ) یونس 10 : 13 .
‹ صفحه 32 ›
دعوة ذات منهج مرسوم من أجل الاستفادة من تجارب الحضارات السابقة ودراسة أسباب سقوطها ، لا سیما وأن التاریخ یعید نفسه قال تعالی : * ( سنة الله فی الذین خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبدیلا ) * ( 1 ) .
ولا بد من التنویه علی " أن دور الدین ومسؤولیته فی حیاة الإنسان هو إیجاد جو من الملائمة والانسجام بین سلوک وتفکیر الإنسان وبین سنن الله تعالی فی الحیاة ، وتحویل مجری حیاة الإنسان إلی تیار هذه السنن الإلهیة التی جعلها الله نظاما لخلقه وتکوینه فی هذا الکون " ( 2 ) .
فالدین یوجه فکر الإنسان إلی النظرة العمیقة والهادفة ، وبطبیعة الحال هناک فرق کبیر بین النظرة السطحیة الساذجة للحیاة والتاریخ ، وبین النظرة العمیقة والمتفحصة التی لا تقتصر علی ملاحظة الشئ أو الحدث ، وإنما تنفذ إلی أعماقه ، وترصد لوازمه ودلالاته بغیة استنباط السنة التاریخیة التی تنطبق علیه ، فعلی سبیل المثال یمر السائح علی أهرامات مصر ، فینبهر لروعة بنائها ، وشدة ارتفاعها ، ویتمتع بمنظرها وینتهی کل شئ .
أما المفکر الواعی المتسلح بالعقیدة ، فعندما یمر علیها ، ترتسم فی ذهنه عدة تساؤلات : عن قدرات الإنسان ، وعن الظلم الذی کان سائدا آنذاک من خلال تسخیر الفراعنة لأعداد کبیرة من الناس للعمل فی بناء هذه الأهرامات ، وما لا قوه من العناء والتعب وصنوف التعذیب ، کما یستنتج ما تنطوی علیه فکرة الفراعنة الخاطئة عن الموت والبعث ، بل یتزود المؤمن الوعی بعد تلک المعارف بالعبرة النافعة وهو یشاهد خرائبها فیتسائل فی نفسه ، أین ساکنیها وما مصیرهم ؟ !
----------------
( 1 ) الأحزاب 33 : 62 .
( 2 ) دور الدین فی حیاة الإنسان ، للشیخ الآصفی : 121 - 122 - دار التعارف ط 2 .
‹ صفحه 33 ›
من أجل ذلک یرشد آل البیت ( علیهم السلام ) إلی أهمیة الملاحظة الواعیة النظرة العمیقة التی لا تقتصر علی ظواهر الأمور ، بل تنفذ إلی الأعماق ، وما تنطوی علیه من أبعاد ، ودلالات تضمنیة أو التزامیة . فعن الحسن الصیقل ، قال : قلت لأبی عبد الله ( علیه السلام ) : تفکر ساعة خیر من قیام لیلة ؟
قال ( علیه السلام ) : ( نعم ، قال رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : تفکر ساعة خیر من قیام لیلة ) ( 1 ) .
ولما مر أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) بخرائب المدائن ، أعطی لأصحابه درسا حول العبرة من التأریخ ، قال ( علیه السلام ) : ( إن هؤلاء القوم کانوا وارثین ، فأصبحوا مورثین ، وإن هؤلاء القوم استحلوا الحرم فحلت فیهم النقم ، فلا تستحلوا الحرم فتحل بکم النقم ) ( 2 ) .
وقال ( علیه السلام ) : ( فاعتبروا بما أصاب الأمم المستکبرین من قبلکم من بأس الله وصولاته ، ووقائعه ومثلاته . . ) ( 3 ) .
وذهب الإمام علی ( علیه السلام ) إلی أبعد من ذلک ، عندما أشار إلی أن السنة التأریخیة تنطبق علی الجمیع ، فی کل مکان وزمان ، ولا تقتصر علی تدمیر الکافرین والمستکبرین ، بل تطال المؤمنین أیضا ، إذا لم یلتزموا - عملیا -
بالمنهج الإلهی فی الحیاة ، وإذا حادوا عن جادة الصواب وذلک حین تختلف الکلمة وتسود الفرقة ، وفی هذا الصدد یقول ( علیه السلام ) : ( وتدبروا أحوال الماضین من المؤمنین قبلکم ، کیف کانوا فی حال التمحیص والبلاء . . فانظروا کیف کانوا حیث کانت الأملاء مجتمعة والأهواء مؤتلفة . .
---------------
( 1 ) بحار الأنوار 71 : 325 ، عن المحاسن : 26 .
( 2 ) کنز العمال 16 : 205 .
( 3 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 290 .
‹ صفحه 34 ›
فانظروا إلی ما صاروا إلیه فی آخر أمورهم حین وقعت الفرقة ، وتشتتت الألفة ، واختلفت الکلمة والأفئدة ، وتشعبوا مختلفین ، وتفرقوا متحاربین ، قد خلع الله عنهم لباس کرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقی قصص أخبارهم فیکم عبرا للمعتبرین ) ( 1 ) .
وکان من جملة وصیته الذهبیة لابنه الحسن ( علیه السلام ) یحثه علی التفکر فی أحوال الأمم الماضیة ، وهو ما یسمی الیوم ب" فلسفة التأریخ " : ( أی بنی إنی وإن لم أکن عمرت عمر من کان قبلی ، فقد نظرت فی أعمالهم ، وفکرت فی أخبارهم ، وسرت فی آثارهم ، حتی عدت کأحدهم ، بل کأنی بما انتهی إلی من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلی آخرهم . . ) ( 2 ) .

ثالثا : النظر فی حکمة التشریع :

والغرض من ذلک ترسیخ قناعة المسلم بتشریعه وصوابیته وبیان صلاحیته للتطبیق فی کل زمان ومکان ، من أجل أن تنقشع عن فکر المسلم غیوم الشبهات التی یثیرها أعداء العقیدة من حوله . وإذا کانت بعض أحکام الدین الإسلامی توقیفیة ، تدعو المسلم نحو التسلیم بها ، ولا یجدی معها إعمال العقل ، کالأمور العبادیة ، إلا أن هناک تشریعات فی الإسلام ذات أبعاد اجتماعیة کشف القرآن لنا عن الحکمة الکامنة من وراء تشریعها لمصالح تعود إلی الفرد والمجتمع ، من قبیل قوله تعالی : * ( ولکم فی القصاص حیاة یا أولی الألباب لعلکم تتقون ) * ( 3 ) .
---------------
( 1 ) نهج البلاغة : 296 - 297 .
( 2 ) نهج البلاغة : 393 - 394 .
( 3 ) البقرة 2 : 179 .
‹ صفحه 35 ›
وقوله تعالی : * ( ما یرید الله لیجعل علیکم من حرج ولکن یرید لیطهرکم ولیتم نعمته علیکم ) * ( 1 ) .
کما کشفت لنا السنة عن جوانب کثیرة من حکمة التشریع ، وعلی سبیل المثال : کتب الإمام علی بن موسی الرضا ( علیه السلام ) إلی محمد بن سنان فیما کتب من جواب مسائله : ( حرم الله قتل النفس لعلة فساد الخلق فی تحلیله لو أحل وفنائهم وفساد التدبیر . . وحرم الله تعالی الزنا لما فیه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترک التربیة للأطفال وفساد المواریث وما أشبه ذلک من وجوه الفساد . . ) ( 2 ) .

رابعا : توجیه العقل إلی النظر ، والتثبت فی الرأی ، واستقلالیة التفکیر والقرار :

قال رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( لا تکونوا إمعة ، تقولون : إن أحسن الناس أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولکن وطنوا أنفسکم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا أن لا تظلموا ) ( 3 ) .
قال تعالی : * ( أفلا یتدبرون القرآن أم علی قلوب أقفالها ) * ( 4 ) . نداء بلیغ إلی النظر وإعمال الفکر ، من خلال الاستنکار علی السطحیین والمغفلین المعاندین ، أولا ، ثم من خلال التقریع العنیف لهذه الأصناف من الناس ، ثانیا .
---------------
( 1 ) المائدة 5 : 6 .
( 2 ) من لا یحضره الفقیه 3 : 369 .
( 3 ) میزان الحکمة 8 : 254 ، عن الترغیب والترهیب 3 : 341 .
( 4 ) محمد 47 : 24 .
‹ صفحه 36 ›
وقال تعالی : * ( قل هاتوا برهانکم إن کنتم صادقین ) * ( 1 ) .
فلا قیمة لدعوی لا تستند إلی برهان صحیح ، وإذا کان الزمخشری قد رأی أن هذا النص هو " أهدم شئ لمذهب المقلدین " ( 2 ) . فإن فیه ما یفید أکثر من ذلک ، إذ قد ینصرف لفظ المقلدین إلی من غلب علیهم التقلید ، لکن هذا النص حاکم علی دائرة الفکر البشری بکامل أجزائها ونواحیها ، فقد یقع المفکرون - وکثیرا ما وقعوا - بأغلاط کبیرة نتیجة اعتمادهم بعض الکلیات العامة التی استقر فی أذهانهم أنها بدیهیات لا تحتاج إلی برهان ، بینما لم تکن هذه الکلیات فی حقیقة أمرها إلا تصورات صادرة عن أوهام أو قصور فی العقل . وهذا کثیر فی أغلاط أهل الجدل ، بل قد یقع أحیانا حتی فی العلوم التطبیقیة ، حین ینظر إلی بعض الاستنتاجات علی أنها قوانین علمیة ثابتة ، فی حین أنها استنتاجات قائمة علی ملاحظات ناقصة ، وهکذا نلمس مدی أکبر لدعوة القرآن الکریم إلی تقدیم البرهان التام علی کل مقولة ودعوی وسواء کانت فی العلوم العقلیة ، أو فی العلوم التطبیقیة .
ولا شک أن مساحة النظر والتدبر واسعة ، سعة المعارف والمواقف ، وسنشیر هنا إلی أثرین مهمین :
أحدهما عام عموم النص القرآنی المذکور ، وإن استهدف فی ظاهره العقل المقلد والمتابع ، شأن طوائف الناس الذین یغلب علیهم التقلید فی عقائدهم ومواقفهم .
---------------
( 1 ) البقرة 2 : 111 ، النمل 27 : 64 .
( 2 ) الکشاف 1 : 178 .
‹ صفحه 37 ›
والأثر الثانی ، مما جاء فی لون خاص من ألوان المتابعة والتقلید ، وهو التقلید الأعمی لأشخاص استقر لهم فی النفوس موقع کبیر ، تلاشی إلی جنبه دور العقل وأثره فی النظر والتفکیر والنقد ، وکأن هؤلاء الأشخاص قد أصبحوا فی أنفسهم میزانا للحق ، فلا یصح أن توزن أقوالهم وأعمالهم أو تعرض للنقد والنظر ، هذا النوع من التقلید الذی کان ولا یزال مصدرا للکثیر من الأخطار فی العقائد والمواقف . . وقف إزاءه أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) موقف الکاشف عن سر الخطأ فیه والمعلم للطریق الصحیح فی التماس المعارف ، ذلک حین جاءه بعض من ذهله وقوف طلحة والزبیر وعائشة فی صف واحد إزاء أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) فاستنکر أن یجتمع هؤلاء علی خطأ ، وذکر ذلک لأمیر المؤمنین ( علیه السلام ) فأجابه ( علیه السلام ) مبتدءا جوابه بالتنبیه إلی مصدر الوهم ، منتقلا بعد ذلک إلی إعطائه المنهج السلیم فی المعرفة ، فقال له ( علیه السلام ) : ( إنک ملبوس علیک ، إن دین الله لا یعرف بالرجال ، بل بآیة الحق ، فاعرف الحق تعرف أهله ) ( 1 ) .

خامسا : توجیه الإنسان إلی کسب العلم والمعرفة :

[توضیح]

من المسلمات التی لا تحتمل جدلا ، أن الدین الإسلامی یحث بقوة علی کسب العلم والمعرفة ، ومن یتأمل سور القرآن الکریم یجد ذلک یتکرر کثیرا تصریحا أو تلمیحا : * ( . . قل هل یستوی الذین یعلمون والذین لا یعلمون إنما یتذکر أولوا
الألباب ) * ( 2 ) .
---------------
( 1 ) أمالی الطوسی : 625 / 1292 مؤسسة البعثة . بحار الأنوار 39 : 239 / 28 .
( 2 ) الزمر 39 : 9 .
‹ صفحه 38 ›
* ( . . یرفع الله الذین آمنوا منکم والذین أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبیر ) * ( 1 ) .
* ( وقل رب زدنی علما ) * ( 2 ) .
* ( إنما یخشی الله من عباده العلماء ) * ( 3 ) .
ولأهمیة العلم فقد أخذ الله تعالی المیثاق علی أهل الکتاب من أجل تبیینه ، وعدم احتکاره : * ( وإذ أخذ الله میثاق الذین أوتوا الکتاب لتبیننه للناس ولا تکتمونه . . ) * ( 4 ) .
وبعد آیات القرآن تأتی أحادیث الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) وآل بیته الأطهار ( علیهم السلام ) حیث تصب فی هذا الاتجاه ، وتقر بأن العلم یشکل عماد الدین وفیه حیاة الإسلام ، وتحث علی طلبه ، وتکشف عن فضیلته ، فمداد العلماء – فی نظر الإسلام - أفضل من دماء الشهداء ، وفضل العالم علی العابد کفضل القمر علی سائر النجوم ، وفی هذا الصدد : یقول الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( طلب العلم أفضل عند الله من الصلاة والصیام والحج والجهاد فی سبیل الله ) ( 5 )
ویکفی الاستشهاد بکلمة الإمام علی ( علیه السلام ) العمیقة المغزی : ( قیمة کل أمرء ما یحسنه ) ( 6 ) . فی الدلالة علی حث أهل البیت ( علیهم السلام ) علی کسب العلم
----------------
( 1 ) المجادلة 58 : 11 .
( 2 ) طه 20 : 114 .
( 3 ) فاطر 35 : 28 .
( 4 ) آل عمران 3 : 187 .
( 5 ) کنز العمال 10 : 131 / 28655 .
( 6 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 482 / حکم 81 .
‹ صفحه 39 ›
والمعرفة .
إمعن النظر فی هذه المقارنة البدیعة التی یعقدها الإمام علی ( علیه السلام ) لکمیل بن زیاد النخعی حول تفضیل العلم علی المال ، قال ( علیه السلام ) : ( یا کمیل العلم خیر من المال ، العلم یحرسک وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة والعلم یزکو علی الانفاق ، وصنیع المال یزول بزواله .
یا کمیل بن زیاد ، معرفة العلم دین یدان به ، به یکسب الإنسان الطاعة فی حیاته ، وجمیل الأحدوثة بعد وفاته ، والعلم حاکم ، والمال محکوم علیه .
یا کمیل ، هلک خزان الأموال وهم أحیاء ، والعلماء باقون ما بقی الدهر ، أعیانهم مفقودة ، وأمثالهم فی القلوب موجودة ) ( 1 ) .
ونتیجة لهذا الزاد المعرفی الغنی ، انطلق الإنسان المسلم من أسر الجهل والتخلف إلی آفاق العلم الواسعة ، فأخذ یتأمل الظواهر الکونیة ، ویکتشف أسرار الطبیعة ، من خلال المنهج التجریبی الذی وجهته عقیدته إلیه ، وهو المنهج الذی قام علیه العلم الحدیث .
یقول : ( جب ) فی کتابه : الاتجاهات الحدیثة فی الإسلام : " أعتقد أنه من المتفق علیه أن الملاحظة التفصیلیة الدقیقة التی قام بها الباحثون المسلمون ، قد ساعدت علی تقدم المعرفة العلمیة مساعدة مادیة ملموسة ، وأنه عن طریق هذه الملاحظات وصل المنهج التجریبی إلی
---------------
( 1 ) نهج البلاغة : 496 / حکم 147 .
‹ صفحه 40 ›
أوروبا فی العصور الوسطی " ( 1 ) .
وللإنسان أن یقف مبهورا أمام عظمة العقیدة الإسلامیة ، التی أحدثت ذلک الانقلاب الحضاری فی نفوس أبناء الصحراء حتی صاروا طلیعة العالم کله فی العلم والمعرفة وسائر جوانب الحضارة والمدنیة .

العلم و الإیمان :

وتجدر الإشارة إلی أن العقیدة تربط العلم بالإیمان ، فالعلم بدون إیمان کغرس بلا ثمر ، العلم یدعو إلی الإیمان ، والإیمان بدوره یحث علی العلم ، والفصل بینهما یؤدی إلی عواقب لا تحمد عقباها . . یقول الشهید مرتضی المطهری : " قد أثبتت التجارب التأریخیة ، أن فصل العلم عن الإیمان قد أدی إلی أضرار لا یمکن تعویضها ، یجب معرفة الإیمان علی ضوء العلم ، والإیمان یبتعد عن الخرافات فی نور العلم ، وبفصل العلم عن الإیمان یتحول الإیمان إلی الجمود والتعصب الأعمی والدوران بشدة حول نفسه ، وعدم الوصول إلی مکان ، والمکان الفارغ من العلم والمعرفة ینقلب فیه المؤمنون الجهلة إلی آلة بید کبار المنافقین ، والذی رأینا ونری نماذج منهم فی خوارج صدر الإسلام ، والأدوار التی تلت بصور مختلفة . .
والعلم بلا إیمان سراج فی منتصف اللیل بید لص لسرقة أفضل البضائع ، ولهذا فإن الإنسان العالم بلا إیمان الیوم ، لا یختلف عن الجاهل بلا إیمان فی الأمس أقل الاختلاف ، من حیث طبیعة الأسالیب والأفعال وماهیتها " ( 2 ) .
---------------
( 1 ) راجع کتاب منهج التربیة الاسلامیة ، محمد قطب : 119 - دار دمشق ط 2 .
( 2 ) الإنسان والإیمان ، للشهید المطهری 1 : 15 طبع وزارة الارشاد الاسلامی .
‹ صفحه 41 ›
وعلیه فالعلم بحاجة إلی الإیمان کحاجة الجسد إلی روح ، لأن العلم لوحده عاجز بطبیعته عن بناء الإنسان الکامل ، فالتربیة العلمیة الخالصة تبنی نصف إنسان لا إنسانا کاملا ، وتصنع إنسانا قد یکون قویا وقادرا ولکنه لیس فاضلا بالضرورة ، هی تصنع إنسانا ذا بعد واحد ، هو البعد المادی ، أما الإیمان فإنه یصوغ الشخصیة فی مختلف الأبعاد .
ولقد بلغ اغترار الأوربیین بالعلم حدا وصل إلی حد التألیه والعبادة ، وإن لم یقیموا شعائره العبادیة فی کنائسهم ، ولما کان الدین یرتکز علی قواعد غیبیة ، خارج نطاق المادة ، اعتبروه ظاهرة غیر علمیة .
وعلی هذا الأساس ظهر بینهم داء الفصل بین الدین والعلم ، وهو توجه غریب عن منهج الإسلام ، " ولیس أدل علی هذا التماسک بین الإیمان والعلم من هذه الدعوة الملحة ، فی الدین إلی طلب العلم والاستزادة منه فی کل مراحل العمر ، وفی کل الحالات . . ومن هذه القیمة الکبیرة التی یعطیها الدین للعلم والعلماء .
وإذا کان هناک صراع بین العلم والدین فی بعض فترات التأریخ ، کما حدث ذلک فی تأریخ المسیحیة ، فإن ذلک لا علاقة له بالدین ، وإنما هو لون من ألوان الانحراف عن الدین ، ولا یکون الدین مسؤولا عما یرتکب الناس بحقه من انحراف " ( 1 ) .
ومما یؤسف له ، أن بعض الأصوات ترتفع هنا وهناک تنادی بالفصل بین العلم والدین ، بدعوی أن أوربا تنکرت للدین فتقدمت علمیا وحضاریا ، ونحن تمسکنا بالدین فتخلفنا ، إن عقول هؤلاء إما قاصرة عن
---------------
( 1 ) دور الدین فی حیاة الإنسان ، للشیخ الآصفی : 69 - دار التعارف ط 2 .
‹ صفحه 42 ›
إدراک وظیفة العلم الذی هو أداة لکشف الحقائق الموضوعیة ، وتفسیر الواقع تفسیرا محایدا بأعلی درجة من الدقة والعمق . أو أن هذه العقول جاهلة بمنهج الإسلام الذی ما انفک یدعو إلی العلم ، وأغلب الظن أنها عقول مأجورة تردد مزاعم الأعداء والحاقدین علی الإسلام ، وتغض الطرف عن العواقب الروحیة الجسیمة ، التی حصلت من جراء فصل العلم عن الدین : " وأوضح الأمثلة علی ذلک ، هذا العصر الذی نعیش فیه ، العصر الذی وصل فیه التقدم العلمی والمادی ذروته ، ووصلت الإنسانیة إلی حضیضها من التقاتل الوحشی والتخاصم الذی یقطع أواصر الإنسانیة ، ویجعلها تعیش فی رعب دائم وخوف من الدمار ، کما وصلت إلی الحضیض فی تصورها لأهداف الحیاة وغایة الوجود الإنسانی وحصرها فی اللذة والمتاع ، وانحطاطها - تبعا لهذا التصور - إلی أحط درکات الانحلال الخلقی والفوضی الجنسیة التی یعف عنها الحیوان " ( 1 ) .
وعلیه فإن العقیدة الإسلامیة لها فضل کبیر علی مناهج التربیة التی تسعی لبناء الإنسان ، لتأکیدها علی دور الإیمان والعلم معا فی بناء شخصیة الإنسان ، فصل العلم عن الإیمان یغدو الإنسان کإبرة مغناطیس تتأرجح بین الشمال والجنوب ، وعلیه فهو بحاجة ماسة إلی قوة تتمکن من إیجاد ثورة فی ضمیره ، وتمنحه اتجاها أخلاقیا یحقق انسانیته ، وهذا عمل لا یتمکن منه العلم بمعزل عن الدین .
----------------
( 1 ) منهج التربیة الاسلامیة ، محمد قطب : 115 .
‹ صفحه 43 ›

الفصل الثانی البناء الاجتماعی والتربوی

اشارة

قامت العقیدة بدور تغییری کبیر علی صعید البناء الاجتماعی والتربوی ، یمکن الإشارة إلیه من خلال النقاط التالیة :
أولا : إثارة الشعور الاجتماعی
لقد کان إنسان ما قبل الإسلام یتمحور فی سلوکه الاجتماعی حول ذاته ، وینطلق فی تعامله مع الآخرین من منظار مصالحه وأهوائه ، وینساق بعیدا مع أنانیته . ولقد هبط فی القاع الاجتماعی إلی درجة " الوأد " لأبنائه ، خشیة الفقر والمجاعة ، الأمر الذی استدعی التدخل الإلهی ، لإنقاذ النفوس البریئة من هذه العادة الاجتماعیة القبیحة ، قال تعالی : * ( ولا تقتلوا أولادکم خشیة إملاق ) * ( 1 ) .
علی أن أشد ما یسترعی الانتباه ، أن ذلک الإنسان الجاهلی ، الدائر حول ذاته ومنافعها ، قد غدا بتفاعله مع إکسیر العقیدة ، یضحی بالنفس والنفیس فی سبیل دینه ومجتمعه ، وبلغت آفاق التحول فی نفسه إلی المستوی الذی یؤثر فیه مصالح أبناء جنسه علی منافع نفسه .
---------------
( 1 ) الإسراء 17 : 31 .
‹ صفحه 44 ›
ولیس بخفی علی أحد مستوی الإیثار الذی أبداه الأنصار مع المهاجرین ، إذ شاطروهم فی کل ما یملکون ، وحتی فی بیوتهم وأمتعتهم ، ولم ینحصر هذا المستوی من الایثار بأفراد ، بل شکل ظاهرة اجتماعیة عامة لم یشهد لها تاریخ الإنسانیة نظیرا - وفی هذه الظاهرة نزل قرآن کریم یبارک هذه الروح ، ویخلد ذکر مجتمع تحلی بها ، کنموذج من نماذج التلاحم الاجتماعی والمؤاخاة . . قال تعالی : * ( للفقراء المهاجرین الذین أخرجوا من دیارهم وأموالهم یبتغون فضلا من الله ورضوانا وینصرون الله ورسوله أولئک هم الصادقون * والذین تبوءو الدار والإیمان من قبلهم یحبون من هاجر إلیهم ولا یجدون فی صدورهم حاجة مما أوتوا ویؤثرون علی أنفسهم ولو کان بهم خصاصة ومن یوق شح نفسه فأولئک هم المفلحون ) * ( 1 ) .
وینقض الإسلام أسسا فی البناء الاجتماعی الجاهلی قوامها تعزیز التقسیم الطبقی والقبلی للمجتمع ، الذی کان یتشکل من طبقتین أساسیتین ، طبقة الأشراف ، وطبقة العبید ، ولا بد لأبناء طبقة الأشراف أن یبقوا هکذا ، تجتمع لدیهم الثروات ویحتکرون الشأن والوجاهة ، ولا بد لأبناء طبقة العبید أن یبقوا هکذا یدورون فی فلک الأسیاد . . فقوض الإسلام هذه الأسس وأقام محلها أسسا جدیدة تساوی بین الناس فی حق الحیاة وحق الکرامة ، قال تعالی : * ( یا أیها الناس إنا خلقناکم من ذکر وأنثی وجعلناکم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أکرمکم عند الله أتقاکم ) * ( 2 ) ، فتحرر أبناء طبقة العبید ومارسوا حقهم فی الحیاة ، وارتفع عمار وسلمان وبلال عالیا فوق طبقة أشراف قریش التی ما زالت تتخبط فی ضلالات الجاهلیة ،
----------------
( 1 ) الحشر 59 : 8 - 9 .
( 2 ) الحجرات 49 : 13 .
‹ صفحه 45 ›
کالولید بن المغیرة وهشام بن الحکم وأبی سفیان وأمثالهم . .
وحتی الأموال لم تعد حکرا علی الأغنیاء لیزدادوا ثراء ، قال تعالی :
* ( ما أفاء الله علی رسوله من أهل القری فلله وللرسول ولذی القربی والیتامی والمساکین وابن السبیل کی لا یکون دولة بین الأغنیاء منکم وما آتاکم الرسول فخذوه وما نهاکم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شدید العقاب ) * ( 1 ) .

أسالیب تنمیة الشعور الاجتماعی :

[اولا]

لقد نمت العقیدة الشعور الاجتماعی لدی الفرد بوسائل عدیدة ، منها :
أ - إیقاظ الشعور بالمسؤولیة تجاه الآخرین :
من خلال تأکید القرآن الکریم علی مسؤولیة الإنسان تجاه نفسه وغیره ، کقوله تعالی : * ( وقفوهم إنهم مسؤولون ) * ( 2 ) ، وقوله تعالی : * ( یا أیها الذین آمنوا قوا أنفسکم وأهلیکم نارا . . ) * ( 3 ) .
وقول الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( وإنی مسؤول وإنکم مسؤولون ) ( 4 ) .
وقوله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) أیضا : ( ألا کلکم راع وکلکم مسؤول عن رعیته ، فالأمیر الذی علی الناس راع ، وهو مسؤول عن رعیته ، والرجل راع علی أهل بیته وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعیة علی بیت بعلها وولده ، وهی مسؤولة
----------------
( 1 ) الحشر 59 : 7 .
( 2 ) الصافات 37 : 24 .
( 3 ) التحریم 66 : 6 .
( 4 ) کنز العمال 5 : 289 .
‹ صفحه 46 ›
عنهم . . ) ( 1 ) .
ویقول أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : ( اتقوا الله فی عباده وبلاده ، فإنکم مسؤولون حتی عن البقاع والبهائم . . ) ( 2 ) .
وکنظرة مقارنة ، نجد أن المذاهب الاجتماعیة الوضعیة ، بنیت علی أساس المسؤولیة الفردیة فی هذه الحیاة فحسب ، وتأییدها بمؤیدات قانونیة کحجز الحریة ، أو التعذیب ، أو التغریم المالی أو العزل عن الوظیفة ، أو التسریح عن العمل ، أو المکافأة بالمال أو الترقیة فی الوظیفة . . وما إلی ذلک ، وبمؤیدات اجتماعیة کالثقة أو حجبها والتقدیر أو التحقیر .
أما المذهب الإسلامی ، فلا یقتصر علی مسؤولیة الفرد أمام المجتمع الذی یعیش بین ظهرانیه فی هذه الحیاة ، وإنما ینمی فی الفرد المسؤولیة العظمی أمام الخالق العظیم فی حیاة أخری ، وحینئذ یدفعه إلی التحدید الذاتی أو الطوعی لرغباته ، والشعور الاجتماعی نحو غیره ، بغض النظر عن القانون أو العرف أو الضمیر ، لأن الضمیر قد یعجز عن مواجهة الغرائز عند فقدان العقیدة الدینیة ، کما أنه لیس من المیسور توفیر الرقابة الاجتماعیة فی کل مکان ، وبصورة دائمة ، وعلیه فإن هذه الرقابة الداخلیة لا توجد فی غیر العقیدة الدینیة .
ب - تنمیة روح التضحیة والإیثار :
لقد حث القرآن الکریم علی الایثار ، وأشاد بروح التضحیة التی اتصف
---------------
( 1 ) صحیح مسلم 3 : 1459 کتاب الإمارة - دار إحیاء التراث ط 1 .
( 2 ) نهج البلاغة ، خطبة 167 .
‹ صفحه 47 ›
بها المسلمون ، فلما بات علی بن أبی طالب ( علیه السلام ) علی فراش الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) یفدیه بنفسه ، فیؤثره بالحیاة ، أشاد الله تعالی بهذا الموقف التضحوی الفرید ، فأنزل : * ( ومن الناس من یشری نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد ) * ( 1 ) .
یقول الفخر الرازی : " . . . نزلت فی علی بن أبی طالب ( علیه السلام ) ، بات علی فراش رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) لیلة خروجه إلی الغار ، ویروی أنه لما نام علی فراشه قام جبریل ( علیه السلام ) عند رأسه ، ومیکائیل عند رجلیه ، وجبریل ینادی : بخ بخ من مثلک یا ابن أبی طالب یباهی الله بک الملائکة ، ونزلت الآیة " ( 2 ) .
وقدمت السیرة المطهرة القدوة الحسنة فی هذا المقام ، فقد روی عن الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) أنه ما شبع ثلاثة أیام متوالیة حتی فارق الدنیا ، ولو شاء لشبع ، ولکنه کان یؤثر علی نفسه ( 3 ) .
وهذا السلوک النبوی ، ظهرت بصماته واضحة فی سلوک أهل بیته ( علیهم السلام ) ، الذین یسیرون علی نهجه ، ویترسمون خطاه ، ویترجمون أقواله إلی واقع عملی ملموس : " . . عن محمد بن کعب القرظی ، قال : سمعت علی بن أبی طالب ( علیه السلام ) یقول : ( لقد رأیتنی وإنی لأربط الحجر علی بطنی من الجوع ، وإن صدقتی لتبلغ الیوم أربعة آلاف دینار ) ( 4 ) ، کل ذلک لأنه کان یؤثر علی نفسه ، ویفضل مصلحة غیره علی مصلحته .
----------------
( 1 ) تفسیر مجمع البیان 1 : 174 . والآیة من سورة البقرة 2 : 207 .
( 2 ) التفسیر الکبیر ، للفخر الرازی 5 : 223 .
( 3 ) تنبیه الخواطر ، للأمیر ورام 1 : 172 باب الایثار .
( 4 ) أسد الغابة ، لابن الأثیر 4 : 102 / 3783 - دار إحیاء التراث العربی .
‹ صفحه 48 ›
قال أبو النوار - بیاع الکرابیس - : أتانی علی بن أبی طالب ( علیه السلام ) ومعه غلام له ، فاشتری منی قمیصی کرابیس ، فقال لغلامه : ( اختر أیهما شئت ) ، فأخذ أحدهما ، وأخذ علی الآخر فلبسه ( 1 ) .
ومن الشواهد التأریخیة ، التی تدل علی ذلک التحول الاجتماعی الکبیر الذی أحدثته العقیدة ، فی فترة وجیزة ، أنه أهدی لرجل من أصحاب رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) رأس شاة ، فقال : إن أخی فلانا أحوج إلی هذا منا ، فبعث به إلیه ، فلم یزل یبعث به واحد إلی آخر حتی تداوله سبعة أهل أبیات حتی رجعت إلی الأول ( 2 ) .
هکذا تربی العقیدة الإنسان المسلم علی الشعور الاجتماعی ، شعور الفرد نحو غیره ، فیتجاوز دائرة الذات إلی دائرة أرحب هی دائرة العائلة ، ثم تتسع اهتماماته لتشمل دائرة الجوار ، ثم أبناء بلدته ، وبعدها أبناء أمته ، وفی نهایة المطاف تتسع لدائرة أکبر فتشمل الإنسانیة جمعاء .
جتنمیة الشعور الجماعی :
وفی هذا الصدد ، نجد فیض من الأحادیث التی تحث الفرد علی الانضمام للجماعة والانسجام معها ، والانصباب فی قالبها ، بعد أن ثبت عند العقلاء بأن فی الاجتماع قوة ومنعة ، وبعد أن أکد النقل علی أن الله تعالی قد جعل فیه الخیر والبرکة ، یقول الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( ید الله مع
000000000000000000000
( 1 ) أسد الغابة ، لابن الأثیر 4 : 103 .
( 2 ) أسباب النزول ، لأبی الحسن النیسابوری : 281 - انتشارات الرضی . وفی طبعة عالم الکتب : 235 .
‹ صفحه 49 ›
الجماعة ، والشیطان مع من خالف الجماعة یرکض ) ( 1 ) .
وقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( من خرج من الجماعة قید شبر ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ) ( 2 ) .
وفی کل ذلک دلیل قاطع علی أن الإسلام دین اجتماعی ، یحاول ربط الفرد بالجماعة ، ما استطاع إلی ذلک سبیلا .
وهنا لا بد من التنبیه علی أن الحکام الظلمة ، قد استغلوا مفهوم " الجماعة " أبشع استغلال لتثبیت سلطانهم والمحافظة علی عروشهم ، فأخذوا یصبون جام غضبهم علی کل من یجهر بکلمة الحق ویقوم بمعارضة تسلطهم اللامشروع ، ویفضح أسالیبهم غیر الإسلامیة ، وکان الأمویون - الذین اتخذوا مال الله دولا وعباده خولا - یقتلون کل من خرج علیهم بحجة أنه مفارق للجماعة ، وکذلک سار العباسیون علی ذلک النهج ، بل وتفوقوا علی الأمویین فی ابتکار أسالیب القتل والتعذیب .
ومن یتصفح کتب التأریخ ، یجد أنه ینقل صورا بشعة لأسالیب التنکیل والقتل التی مارسها الأمویون والعباسیون ضد العلویین بحجة واهیة هی الخروج عن الاجماع والجماعة .
علی أن الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) قد أوضح بجلاء مفهوم الجماعة الذی لا یعنی - بالضرورة - الکثرة ، کما یتصوره السطحیون وکما یحرفه السلطویون ، بل یعنی جماعة أهل الحق وإن قلوا ، قال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( من فارق جماعة
0000000000000
( 1 ) کنز العمال 1 : 206 .
( 2 ) کنز العمال 1 : 206 / 1035 .
‹ صفحه 50 ›
المسلمین فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه قیل : یا رسول الله ما جماعة المسلمین ؟ قال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : جماعة أهل الحق وإن قلوا ) ( 1 ) .
وعودة إلی أصل المطلب ، فقد تبین لنا بأن العقیدة تدعو الإنسان المسلم إلی الانضمام إلی الجماعة ، وهنا ثمة تساؤل یفرض نفسه ، وهو وجود أحادیث کثیرة فی مصادرنا ، تدعو الإنسان المسلم إلی إیثار العزلة ، وبالتالی الابتعاد عن الناس ، یجیب مؤلف جامع السعادات ، الشیخ النراقی عن ذلک بقوله : ( نظر الأولون إلی إطلاق ما ورد فی مدح العزلة ، وإلی فوائدها وما ورد فی مدحها ، کقول النبی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( إن الله یحب العبد التقی الخفی ) ، وقوله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( أفضل الناس مؤمن یجاهد بنفسه وماله فی سبیل الله ، ثم رجل معتزل فی شعب من الشعاب ) .
وقول الإمام الصادق ( علیه السلام ) : ( فسد الزمان ، وتغیر الإخوان ، وصار الانفراد أسکن للفؤاد ) ، وقوله ( علیه السلام ) : ( أقلل معارفک ، وأنکر من تعرف منهم ) .
إلی أن قال : فالصحیح أن یقال : إن الأفضلیة منهما - أی المخالطة والعزلة - تختلف بالنظر إلی الأشخاص والأحوال والأزمان والأمکنة ، فینبغی أن ینظر إلی کل شخص وحاله . . أن الأفضل لبعض الخلق العزلة التامة ، ولبعضهم المخالطة ، ولبعضهم الاعتدال فی العزلة والمخالطة ) ( 2 ) .
ویمکننا التوفیق بین الطائفتین بالقول :
إن الاتجاه الداعی إلی العزلة ، یمکن حمله علی عدة وجوه ، منها : أن التوجه للعبادة یتطلب - عادة –
00000000000000000
( 1 ) روضة الواعضین ، للفتال النیسابوری : 334 - منشورات الرضی - قم .
( 2 ) جامع السعادات ، للنراقی 3 : 195 - 197 - مطبعة النجف الأشرف 1383 هط 3 .
‹ صفحه 51 ›
الابتعاد عن الناس آنا ما ، بغیة الانقطاع إلی الله تعالی .
وهذا الأمر - بطبیعة الحال - لا ینطبق علی جمیع العبادات ، فالحج الذی هو عبادة ذات صبغة اجتماعیة ، یجتمع خلاله الناس من کل حدب وصوب فی مکان واحد ، وزمان محدد ، لأداء شعائر واحدة .
من جانب آخر یمکن حمل العزلة علی تجنب مخالطة الأشرار ، فقد ورد فی وصیة الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) لأبی ذر الغفاری ( رضی الله عنه ) : ( . . . یا أبا ذر ، الجلیس الصالح خیر من الوحدة ، والوحدة خیر من جلیس السوء . . ) ( 1 ) .
أما الاختلاط بالأخیار ، فهو أمر مرغوب فیه ، والإسلام - کما أسلفنا - یحث علیه ، وعلی العموم فهناک حالات استثنائیة تستدعی العزلة عن الناس ، أما القاعدة العامة فی الإسلام ، فتؤکد علی مخالطة الناس ، والصبر علی أذاهم .
یقول الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( المؤمن الذی یخالط الناس ویصبر علی أذاهم أفضل من المؤمن الذی لا یخالط الناس ولا یصبر علی أذاهم ) ( 2 ) .
والإسلام یبغض العزلة التامة عن الناس مهما کانت مبرراتها ، عبادیة أو غیرها ، فلا رهبانیة فی الإسلام کما هو معروف ، ومن الشواهد النقلیة علی ذلک أن رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) فقد رجلا ، فسأل عنه فجاء ، فقال : یا رسول الله إنی أردت أن آتی هذا الجبل فأخلو فیه فأتعبد ، فقال رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( لصبر أحدکم ساعة علی ما یکره فی بعض مواطن الإسلام خیر من
---------------
( 1 ) مکارم الأخلاق ، للطبرسی : 466 - مؤسسة الأعلمی - ط 6 .
( 2 ) کنز العمال 1 : 154 / 769 .
‹ صفحه 52 ›
عبادته خالیا أربعین سنة ) ( 1 ) .
وعلی ضوء ذلک فهناک مواطن تتطلب من الفرد أن ینظم إلی الجماعة وأن ینصهر بها ، کمواطن الجهاد ، وحضور الجماعة فی المساجد ، والدراسة فی مراکز التعلیم المختلفة وغیرها .

ثانیا : تغییر نظم الروابط الاجتماعیة

کان المجتمع الجاهلی یعتبر رابطة الدم والرحم أساس الروابط الاجتماعیة ، فیضع مبدأ القرابة فوق مبادئ الحق والعدالة فی حال التعارض بینهما ، والقرآن الکریم قد ذم هذه الحمیة الجاهلیة صراحة : * ( إذ جعل الذین کفروا فی قلوبهم الحمیة حمیة الجاهلیة . . ) * ( 2 ) .
وقد عملت العقیدة علی إزالة غیوم العصبیة عن القلوب ، ولم تقر بالتفاضل بین الناس القائم علی القرابة والقومیة أو اللون والمال والجنس ، وبدلا من ذلک أقامت روابط جدیدة علی أسس معنویة هی التقوی والفضیلة .
وعلیه فالعقیدة تنبذ کل أشکال العصبیة ، إذ لا یمکن التوفیق بین الإیمان والتعصب .
عن أبی عبد الله ( علیه السلام ) قال : ( قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ) : من تعصب أو تعصب له ، فقد خلع ربقة الإیمان من عنقه ) ( 3 ) .
00000000000000
( 1 ) کنز العمال 4 : 454 / 11354 .
( 2 ) الفتح 48 : 26 .
( 3 ) أصول الکافی 2 : 308 / 2 باب العصبیة .
‹ صفحه 53 ›
وقال ( علیه السلام ) أیضا : ( لیس منا من دعا إلی عصبیة ، ولیس منا من قاتل [ علی ] عصبیة ، ولیس منا من مات علی عصبیة ) ( 1 ) .
وفی هذا المجال ، یقدم أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) رؤیته العلاجیة لمرض العصبیة البغیض ، ففی خطبته المعروفة بالقاصعة یقول ( علیه السلام ) : ( ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمین یتعصب لشئ من الأشیاء إلا عن علة تحتمل تمویه الجهلاء ، أو حجة تلیط بعقول السفهاء غیرکم ، فإنکم تتعصبون لأمر ما یعرف له سبب ولا علة ، أما إبلیس فتعصب علی آدم لأصله ، وطعن علیه فی خلقته ، فقال : أنا ناری وأنت طینی ، وأما الأغنیاء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم ، فقالوا : * ( نحن أکثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبین ) * فإن کان لا بد من العصبیة فلیکن تعصبکم لمکارم الخصال ، ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور . . . فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار ، والوفاء بالذمام ، والطاعة للبر ، والمعصیة للکبر ، والأخذ بالفضل ، والکف عن البغی ، والإعظام للقتل ، والإنصاف للخلق ، والکظم للغیظ ، واجتناب الفساد فی الأرض ) ( 2 ) .
ضمن هذا السیاق قام حفیده علی بن الحسین ( علیه السلام ) بإیضاح مفهوم العصبیة ، وما هو المذموم منها ، عندما سئل عنها ، فقال ( علیه السلام ) : ( العصبیة التی یأثم علیها صاحبها أن یری الرجل شرار قومه خیرا من خیار قوم آخرین ، ولیس من العصبیة أن یحب الرجل قومه ، ولکن من العصبیة أن یعین قومه علی الظلم ) ( 3 ) .
----------------
( 1 ) سنن أبی داود 2 : 332 / 4 باب فی العصبیة .
( 2 ) شرح نهج البلاغة ، لابن أبی الحدید 13 : 166 - دار إحیاء التراث العربی ط 2 .
( 3 ) أصول الکافی 2 : 308 / 7 باب العصبیة کتاب الإیمان والکفر .
‹ صفحه 54 ›
وهکذا نجد أن العقیدة قد عملت علی قشع غیوم العصبیة السوداء من القلوب ، وقامت بتشکیل هویة اجتماعیة جدیدة للناس تقوم علی الإیمان بالله ورسوله ، وإشاعة مشاعر الحب والرحمة بدلا من مشاعر التعصب والکراهیة ، فالعصبیة التی تعنی : " مناصرة المرء قومه ، أو أسرته ، أو وطنه ، فیما یخالف الشرع ، وینافی الحق والعدل . وهی : من أخطر النزعات وأفتکها فی تسیب المسلمین ، وتفریق شملهم ، وإضعاف طاقاتهم ، الروحیة والمادیة ، وقد حاربها الإسلام ، وحذر المسلمین من شرورها " ( 1 ) .
ولعل من أبرز مظاهر التغییر الاجتماعی ، الذی صنعته العقیدة أن هناک أفرادا کانوا فی أسفل السلم الاجتماعی فی فترة ما قبل الإسلام ، فإذا هم بعد إشراق شمس الإسلام ، یتصدرون قمة الهرم الاجتماعی ، فبلال الحبشی ( رضی الله عنه ) یصبح مؤذن الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) ، وسلمان الفارسی ( رضی الله عنه ) هو رجل من بلاد فارس ، تنقل من رق إلی رق ، أصبح فی عصر الإسلام صحابیا جلیلا ، وحاکما عاما علی بلاد کبیرة ، وفوق کل ذلک غدا من أهل البیت ( علیهم السلام ) ، سأل رجل علیا ( علیه السلام ) : یا أمیر المؤمنین أخبرنی عن سلمان الفارسی قال ( علیه السلام ) : ( بخ بخ سلمان منا أهل البیت ، ومن لکم بمثل لقمان الحکیم . . ) ( 2 ) .
وکان زید بن حارثة وابنه أسامة ممن ینبغی - وفق التقسیم الجاهلی - أن یکونا فی طبقة العبید ، فإذا بهما یقودان جیوش المسلمین فی اثنتین من أکبر الحملات الإسلامیة عدة وعددا .
---------------
( 1 ) أخلاق أهل البیت ( علیهم السلام ) ، للسید مهدی الصدر : 70 .
( 2 ) الاحتجاج ، للطبرسی 1 : 260 .
‹ صفحه 55 ›
ولم یکن من الیسیر أن یتم هذا التحول الکبیر فی أفکار الناس وعلاقاتهم ، فی هذه الفترة القصیرة من عمر الرسالة ، لولا الدور التغییری الکبیر الذی اضطلعت به العقیدة الإسلامیة .

ثالثا : الحث علی التعاون والتعارف

نقلت العقیدة أفراد المجتمع من حالة التنافس والصراع إلی حالة التعارف والتعاون .
والقرآن مصدر العقیدة الأول ، یحث الناس علی الاجتماع والتعارف ، یقول تعالی : * ( یا أیها الناس إنا خلقناکم من ذکر وأنثی وجعلناکم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أکرمکم عند الله أتقاکم . . . ) * ( 1 ) .
کما حث الناس علی التعاون : * ( وتعاونوا علی البر والتقوی ولا تعاونوا علی الإثم والعدوان . . ) * ( 2 ) .
وقد أثبتت تجارب البشریة أن فی التعاون قوة ، وأنه یؤدی إلی التقدم ، وکان المجتمع الجاهلی متخلفا ، یعیش حالة الصراع بدافع العصبیة القبلیة ، أو طغیان الأهواء والمصالح الشخصیة ، أو بسبب احتکار البعض لمصادر الکلأ والماء ، فانتقل ذلک المجتمع - بفضل الإسلام - إلی مدار جدید بعد أن تکرست فیه قیم التعاون والتکافل الاجتماعی .
وفی سیرة الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) - الذی کان مصدرا حضارة ، وباعثا لنهضة - نجد شواهد عدیدة علی حبه للتعاون والتکافل وحثه المتواصل علیهما ، منها : -
0000000000000
( 1 ) الحجرات 49 : 13 .
( 2 ) المائدة 5 : 2 .
‹ صفحه 56 ›
أنه أمر أصحابه بذبح شاة فی سفر ، فقال رجل من القوم : علی ذبحها ، وقال الآخر : علی سلخها ، وقال آخر : علی قطعها ، وقال آخر : علی طبخها ، فقال رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( علی أن ألقط لکم الحطب ) . فقالوا : یا رسول الله ، لا تتعبن - بآبائنا وأمهاتنا - أنت ، نحن نکفیک ؟ ! .
قال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( عرفت أنکم تکفونی ، ولکن الله عز جل یکره من عبده إذا کان مع أصحابه أن ینفرد من بینهم ) فقام یلقط الحطب لهم ( 1 ) .
وکما کره الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) فی الموقف السابق أن ینفرد الإنسان عن سربه ؤالاجتماعی ، ویکتفی بموقف المتفرج لا یقوم بشئ من المشارکة معهم ، کذلک کره أن یصبح الإنسان کلا علی جماعته ، یعتمد علی غیره فی عیشه وشؤونه ، بدون مبرر معقول : ذکر عند النبی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) رجل . . قالوا : یا رسول الله ، خرج معنا حاجا ، فإذا نزلنا لم یزل یهلل الله حتی نرتحل ، فإذا ارتحلنا لم یزل یذکر الله حتی ننزل .
فقال رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( فمن کان یکفیه علف دابته ، ویصنع طعامه ؟
قالوا : کلنا ، قال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : کلکم خیر منه ) ( 2 ) .
وأسهمت مدرسة أهل البیت ( علیهم السلام ) فی ترسیخ مبدأ التعاون والتکافل فی أذهان الناس وسلوکهم ، فعلی سبیل الاستشهاد ، کان علی بن الحسین ( علیه السلام ) إذا جنه اللیل ، وهدأت العیون ، قام إلی منزله ، فجمع ما تبقی من قوت أهله ، وجعله فی جراب ، ورمی به علی عاتقه ، وخرج إلی دور الفقراء ، وهو متلثم ، حتی یفرقه علیهم ، وکثیرا ما کانوا قیاما علی أبوابهم
----------------
( 1 ) مکارم الأخلاق ، للشیخ الطبرسی : 251 - 252 ، مؤسسة الأعلمی ط 6 .
( 2 ) بحار الأنوار 76 : 274 عن کتاب المحاسن .
‹ صفحه 57 ›
ینتظرونه ، فإذا رأوه تباشروا به ، وقالوا جاء صاحب الجراب ( 1 ) .
وکان الإمام الکاظم ( علیه السلام ) یتفقد فقراء المدینة فی اللیل ، فیحمل إلیهم الزبیل فیه العین والورق والأدقة والتمور ، فیوصل إلیهم ذلک ولا یعلمون من أی جهة هو . . وکان إذا بلغه عن الرجل ما یکره بعث إلیه بصرة دنانیر ، وکانت صراره مثلا ( 2 ) .
وقد حث الأئمة ( علیهم السلام ) شیعتهم خاصة علی تحقیق درجة أعلی من المشارکة والتعاون فیما بینهم ، قد تصل إلی حدود المثالیة ، فعن سعید بن الحسن ، قال : قال أبو جعفر ( علیه السلام ) : ( أیجیئ أحدکم إلی أخیه فیدخل یده فی کیسه ، فیأخذ حاجته فلا یدفعه ؟ فقلت : ما أعرف ذلک فینا ، فقال ( علیه السلام ) : فلا شئ إذا ، قلت : فالهلاک إذا ، فقال ( علیه السلام ) : إن القوم لم یعطوا أحلامهم بعد ) ( 3 ) .
وکان الإمام الصادق ( علیه السلام ) قدوة فی مد ید العون إلی الآخرین ، فعن الفضل بن قرة ، قال کان أبو عبد الله ( علیه السلام ) یبسط رداءه وفیه صرر الدنانیر ، فیقول للرسول : ( إذهب بها إلی فلان وفلان من أهل بیته ، وقل لهم : هذه بعث إلیکم بها من العراق ، قال : فیذهب بها الرسول إلیهم فیقول ما قال ، فیقولون : أما أنت فجزاک الله خیرا بصلتک قرابة رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) وأما جعفر فحکم الله بیننا وبینه ، قال : فیخر أبو عبد الله ساجدا ویقول : اللهم أذل رقبتی لولد أبی ) ( 4 ) .
000000000000000000000
( 1 ) فی رحاب أئمة أهل البیت ( علیهم السلام ) ، للسید محسن الأمین 2 : 202 دار التعارف .
( 2 ) المصدر السابق 4 : 84 - دار صعب .
( 3 ) أصول الکافی 2 : 173 - 174 / 13 باب حق المؤمن علی أخیه وأداء حقه .
( 4 ) تنبیه الخواطر ، للأمیر ورام 2 : 266 - دار صعب .
‹ صفحه 58 ›
وقد حدد الإمام الصادق ( علیه السلام ) بدقة الملامح العبادیة والاجتماعیة للشیعة ، عندما خاطب أحد أصحابه بقوله : ( یا جابر ، أیکتفی من ینتحل التشیع أن یقول بحبنا أهل البیت ، فوالله ما شیعتنا إلا من اتقی الله وأطاعه ، ما کانوا یعرفون یا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وکثرة ذکر الله ، والصوم والصلاة ، والبر بالوالدین ، والتعهد للخیرات من الفقراء وأهل المسکنة والغارمین والأیتام ، وصدق الحدیث ، وتلاوة القرآن ، وکف الألسن عن الناس إلا من خیر . . . ) ( 1 ) . وعن محمد بن عجلان ، قال : کنت عند أبی عبد الله ( علیه السلام ) ، فدخل رجل فسلم ، فسأله ( علیه السلام ) : ( کیف من خلفت من إخوانک ؟ قال : فأحسن الثناء وزکی وأطری ، فقال له : کیف عیادة أغنیائهم علی فقرائهم ؟ فقال : قلیلة ، قال ( علیه السلام ) : وکیف مشاهدة أغنیائهم لفقرائهم ؟ قال : قلیلة ، قال : فکیف صلة أغنیائهم لفقرائهم فی ذات أیدیهم ؟ فقال : إنک لتذکر أخلاقا قل ما هی فیمن عندنا ، قال : فقال ( علیه السلام ) : فکیف تزعم هؤلاء أنهم شیعة ؟ ! ) ( 2 ) .
وهکذا نجد أن مسألة التعاون والتضامن ، تتصدر سلم الأولویة فی اهتمامات الأئمة ( علیهم السلام ) الاجتماعیة ، لکونها الضمان الوحید والطریق الأمثل لإقامة بناء اجتماعی متماسک تغیب فیه عوامل الصراع والتناحر ، وتسود فیه عوامل الود والألفة .
والذی یثیر الدهشة ویبعث علی الاعجاب أن المجتمع العربی الجاهلی الذی کان ممزقا ، ولا تقیم له الأمم وزنا ، غدا بفضل الرسالة الإسلامیة موحدا ، مهاب الجانب ، ذا عزة ومنعة ، یقول الإمام علی ( علیه السلام ) :
0000000000
( 1 ) مجموعة ورام 2 : 185 دار صعب .
( 2 ) أصول الکافی 2 : 173 / 10 کتاب الإیمان والکفر .
‹ صفحه 59 ›
( . . والعرب الیوم وإن کانوا قلیلا فهم کثیرون بالإسلام ، عزیزون بالاجتماع . . ) ( 1 ) .

رابعا : تغییر العادات والتقالید الجاهلیة

کان للعقیدة الأثر البالغ فی تغییر الکثیر من العادات والتقالید ، التی تمتهن فیها کرامة الإنسان ، وینتج عنها العنت والمشقة ، وقد قام الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) وآل بیته الأطهار بدور حضاری هام ، فی هذا المقام ، قال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( لا تقوموا کما یقوم الأعاجم بعضهم لبعض ، ولا بأس بأن یتخلل عن مکانه ) ( 2 ) .
وسعی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) لإشاعة وترسیخ عادات تربویة جدیدة ، روی عن أبی عبد الله ( علیه السلام ) ، قال : ( کان رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) إذا دخل منزلا قعد فی أدنی المجلس حین یدخل . . ) وروی أن رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) قال : ( إذا أتی أحدکم مجلسا فلیجلس حیث انتهی مجلسه ) ( 3 ) .
فکان ( صلی الله علیه وآله وسلم ) یعمل علی تغییر العادات فی مختلف مجالات الحیاة ، فی القیام والجلوس ، وفی المطعم والمشرب والملبس وغیر ذلک .
ولقد سار الإمام علی ( علیه السلام ) وفق السنة النبویة ، فجاهد لتغییر ما بقی من عادات جاهلیة ، لا تنسجم مع سماحة دین الإسلام ، ودعوته إلی نبذ التکلف والمظاهر الفارغة التی تشق علی الناس ، وتضع الحواجز المصطنعة التی تحول دون التواصل فیما بینهم ، بین العالم والجاهل ،
---------------
( 1 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 203 / خطبة 146 .
( 2 ) مکارم الأخلاق ، للطبرسی : 26 .
( 3 ) المصدر السابق .
‹ صفحه 60 ›
وبین الغنی والفقیر ، وبین الحاکم والمحکوم ، ویکفینا الاستشهاد علی ذلک ، أن الإمام علی ( علیه السلام ) ، لما لقیه الدهاقون - فی الأنبار عند مسیره إلی الشام - فترجلوا له ، واشتدوا بین یدیه ، قال ( علیه السلام ) : ( ما هذا الذی صنعتموه ؟
فقالوا : خلق منا نعظم به أمراءنا ، فقال ( علیه السلام ) : والله ما ینتفع بهذا أمراؤکم ! وإنکم لتشقون علی أنفسکم فی دنیاکم ، وتشقون به فی آخرتکم ، وما أخسر المشقة وراءها العقاب ، وأربح الدعة معها الأمان من النار ) ( 1 ) .
وله ( علیه السلام ) توصیات قیمة تسهم فی بناء الإنسان ، وتغرس فی سلوکه العادات الحسنة ، منها قوله ( علیه السلام ) : ( أیها الناس ، تولوا من أنفسکم تأدیبها ، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها ) ( 2 ) .
کل ذلک من أجل إجراء التغییر الاجتماعی المنشود ، ولا یخفی بأن البناء الاجتماعی بدون إجراء التغییر الداخلی فی نفوس وعادات الأفراد ، یصبح عبثیا کالبناء بدون قاعدة قال تعالی : * ( إن الله لا یغیر ما بقوم حتی یغیروا ما بأنفسهم ) * ( 3 ) .
یقول العلامة السید الشهید محمد باقر الصدر ( قدس سره ) : " إن الدافع الذاتی هو مثار المشکلة الاجتماعیة ، وأن هذا الدافع أصیل فی الإنسان ، لأنه ینبع من حبه لذاته ، وهنا یجئ دور الدین ، بوضع الحل الوحید للمشکلة ، فالحل یتوقف علی التوفیق بین الدوافع الذاتیة والمصالح الاجتماعیة العامة " ( 4 ) .
---------------
( 1 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 475 / حکم 37 .
( 2 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 538 / حکم 359 .
( 3 ) الرعد 13 : 11 .
( 4 ) اقتصادنا ، للسید الشهید محمد باقر الصدر : 324 ط 11 - دار التعارف للمطبوعات .
‹ صفحه 61 ›

الفصل الثالث البناء النفسی

[تمهید]

إن لکل عقیدة أثرا فی نفس صاحبها ، یدفعه إلی نوع من الأعمال والتصرفات ، ولقد کانت لعقیدة الإیمان بالله فی المسلمین آثار فی النفس عمیقة ، کان لها نتائجها العملیة فی الحیاة العامة ، یمکن الإشارة إلیها - إجمالا - فی النقاط التالیة : -

أولا : طمأنینة النفس :

[تمهید]

إن الإنسان المتدین یجد فی العقیدة اطمئنانا علی الرغم من عواصف الأحداث من حوله ، فهی تدفع عنه القلق والتوتر ، وتخلق له أجواء نفسیة مفعمة بالطمأنینة والأمل ، حتی ولو کان یعیش فی بیئة غیر مستقرة أو خطرة .
وتاریخ الإسلام یحدثنا بما لا یحصی من مصادیق ذلک ، فعلی الرغم من أن المسلمین الأوائل کانوا یعیشون ظروفا صعبة ، حیث الحروب المتوالیة التی أثارتها قریش وحلفاؤها ، وما صاحبها من مقاطعة اقتصادیة وعزلة اجتماعیة وضغوط نفسیة ، إلا أنهم کانوا یتمتعون بمعنویة عالیة ، ویندفعون للقتال بنفس مطمئنة إلی ثواب الله ورحمته .
عن أنس أن رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) قال یوم بدر : ( قوموا لی جنة عرضها السماوات والأرض ، فقال عمیر بن الحمام الأنصاری : یا رسول الله ، جنة
‹ صفحه 62 ›
عرضها السماوات والأرض ؟ ! قال : نعم ، قال : بخ بخ ! لا والله یا رسول
الله ، لا بد أن أکون من أهلها ، قال : فإنک من أهلها ) ، فأخرج تمیرات من قرنه فجعل یأکل منهن ، ثم قال : لئن حییت حتی آکل تمراتی هذه إنها حیاة طویلة ، فرمی بما کان معه من التمر ، ثم قاتل حتی قتل ( 1 ) .
فالبیئة التی یتواجد فیها هذا المجاهد کانت خطرة ، فهو یعیش أجواء حرب بدر ، ولکن بیئته النفسیة کانت سعیدة ، حیث یأمل العیش فی جنة عرضها السماوات والأرض فالمسلم بفضل عقیدة الإیمان بالله تعالی یشعر بالرضا والاطمئنان بما یقع فی محیطه من أحداث ، ویوطن نفسه علی قضاء الله وقدره ، فالمصیبة التی تصیبه فی حاضره ، قد تتحول إلی برکة ، والقرآن الکریم ینمی هذا الاحساس فی نفس المؤمن قال تعالی :
* ( . . وعسی أن تکرهوا شیئا وهو خیر لکم وعسی أن تحبوا شیئا وهو شر لکم والله یعلم وأنتم لا تعلمون ) * ( 2 ) .
وأحادیث أهل البیت ( علیهم السلام ) تعمق هذا الشعور فی نفوس المسلمین ، فقد بعث أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) کتابا إلی ابن عباس ، وکان ابن عباس یقول : ما انتفعت بکلام بعد کلام رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) کانتفاعی بهذا الکلام : ( أما بعد ، فإن المرء قد یسره درک ما لم یکن لیفوته ، ویسوءه فوت ما لم یکن لیدرکه ، فلیکن سرورک بما نلت من آخرتک ، ولیکن أسفک علی ما فاتک منها ) ( 3 ) .
‹ صفحه 63 ›
صحیح أن الإنسان العادی بطبعه یمتلکه الیأس والقنوط عند المصائب ، کما أشار القرآن صراحة لذلک بقوله : * ( . . . وإن مسه الشر فیئوس قنوط ) * ( 1 ) . . * ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه لیئوس کفور ) * ( 2 ) ، ولکن الإنسان المؤمن المتسلح بالعقیدة وقور عند الشدائد ، صبور عند النوازل ، لا یتسرب الشک إلی نفسه : * ( . . لا ییئس من روح الله إلا القوم الکافرون ) * ( 3 ) .
یصف مولی الموحدین ( علیه السلام ) أولیاء الله فیقول : ( . . وإن صبت علیهم المصائب لجؤوا إلی الاستجارة بک ، علما بأن أزمة الأمور بیدک ، ومصادرها عن قضائک ) ( 4 ) .
والملاحظ أنه فی الوقت الذی یرکز فیه أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) فی توصیاته علی عدم الیأس من روح الله ، فإنه یؤکد فی تعالیمه التربویة العالیة علی
الیأس عما فی أیدی الناس ، لکی یکون الإنسان متکلا علی ربه ، ولا یکون کلا علی غیره ، یقول ( علیه السلام ) : ( الغنی الأکبر الیأس عما فی أیدی الناس ) ( 5 ) .

أسالیب العقیدة فی مواجهة المصائب :

ضمن هذا السیاق ، تخفف العقیدة فی نفوس معتنقیها من الضغوط
---------------
( 1 ) فصلت 41 : 49 .
( 2 ) هود 11 : 9 .
( 3 ) یوسف 12 : 87 .
( 4 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 349 .
( 5 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 534 .
‹ صفحه 64 ›
والأزمات النفسیة التی یتعرضون لها ، فتصبح ضعیفة الأثر والأهمیة ، ضمن أسالیب عدیدة ، منها :
أ - بیان طبیعة الحیاة الدنیا التی یعیش فیها الإنسان :
وهذه المعرفة سوف تظهر بصماتها واضحة فی وعیه وسلوکه ، فالعقیدة من خلال مصادرها المعرفیة تبین طبیعة الدنیا وتدعوا إلی الزهد فیها .
یقول الإمام علی ( علیه السلام ) : ( أیها الناس ، انظروا إلی الدنیا نظر الزاهدین فیها ، الصادفین عنها ، فإنها عما قلیل تزیل الثاوی الساکن ، وتفجع المترف الآمن . . سرورها مشوب بالحزن . . ) ( 1 ) .
وقال أیضا : ( . . . وأحذرکم الدنیا ، فإنها دار شخوص ، ومحلة تنغیص ،
ساکنها ضاعن ، وقاطنها بائن ، تمید بأهلها میدان السفینة . . ) ( 2 ) .
وکان من الطبیعی والحال هذه أن تحذر العقیدة من التعلق بأسباب الدنیا الفانیة الذی ینتج آثارا سلبیة تنعکس علی نفس المسلم ، فعن علقمة ، عن عبد الله ، قال : نام رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) علی حصیر فقام وقد أثر فی جنبه ، فقلنا : یا رسول الله ، لو اتخذنا لک وطاء ؟ فقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( ما لی وللدنیا ، ما أنا فی الدنیا إلا کراکب استظل تحت شجرة ثم راح وترکها ) ( 3 ) .
ویقول وصیه الإمام علی ( علیه السلام ) : ( وأحذرکم الدنیا فإنها منزل قلعة
ولیست بدار نجعة ، قد تزینت بغرورها ، وغرت بزینتها ، دارها هانت علی
ربها ، فخلط حلالها بحرامها ، وخیرها بشرها وحیاتها بموتها ، وحلوها
---------------
( 1 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 148 خطبة / 103 .
( 2 ) نهج البلاغة : 310 .
( 3 ) سنن الترمذی 4 : 508 / 2377 باب 44 - دار الفکر ط 1408 ه.
‹ صفحه 65 ›
بمرها لم یصفها الله تعالی لأولیائه ، ولم یضن بها علی أعدائه ، خیرها زهید وشرها عتید . وجمعها ینفد ، وملکها یسلب ، وعامرها یخرب . فما خیر دار تنقض نقض البناء ، وعمر یفنی فیها فناء الزاد ، ومدة تنقطع انقطاع السیر . . ) ( 1 ) .
یقول الشیخ الدیلمی : ما عبر أحد عن الدنیا کما عبر أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) بقوله : ( دار بالبلاء محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزالها ، أحوالها مختلفة ، وتارات متصرفة ، والعیش فیها مذموم ، والأمان فیها معدوم ، وإنما أهلها فیها أغراض مستهدفة ، ترمیهم بسهامها ، وتفنیهم بحمامها . . . ) ( 2 ) .
وکان من الطبیعی أن یؤدی هذا الادراک العمیق للدنیا إلی حذر شدید منها ، ویکفینا الاستدلال علی ذلک : سأل معاویة ضرار بن ضمرة الشیبانی عن أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) ، فقال : أشهد لقد رأیته فی بعض مواقفه وقد أرخی اللیل سدوله ، وهو قائم فی محرابه ، قابض علی لحیته ، یتململ تململ السلیم ، ویبکی بکاء الحزین ، ویقول : ( یا دنیا ! یا دنیا ! ! إلیک عنی ، أبی تعرضت ؟ ! أم إلی تشوقت ؟ ! لا حان حینک ، هیهات غری غیری ، لا حاجة لی فیک ، قد طلقتک ثلاثا ، لا رجعة فیها ، فعیشک قصیر ، وخطرک یسیر ، وأملک حقیر ، آه من قلة الزاد ، وطول الطریق ، وبعد السفر ، وعظیم المورد ) ( 3 ) .
000000000000000000000
( 1 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 167 / خطبة 113 .
( 2 ) إرشاد القلوب ، للدیلمی 1 : 30 - منشورات الرضی - قم .
( 3 ) تنبیه الخواطر ، الأمیر ورام 1 : 79 / باب العتاب .
‹ صفحه 66 ›
ومن جملة تلک الشواهد ، نجد أن العقیدة تکشف طبیعة الدنیا وعاقبة من ینخدع بها أو یرکن إلیها ، وتبین قصور رؤیة من ینشد الراحة التامة فیها ، عن الصادق ( علیه السلام ) أنه قال لأصحابه : ( لا تتمنوا المستحیل ، قالوا : ومن یتمنی المستحیل ؟ ! فقال ( علیه السلام ) : أنتم ، ألستم تمنون الراحة فی الدنیا ؟
قالوا : بلی ، فقال ( علیه السلام ) : الراحة للمؤمن فی الدنیا مستحیلة ) ( 1 ) .
ب - إن المصائب تستتبع أجرا وثوابا :
الأمر الذی یخفف من وقع المصائب علی الإنسان ، فیواجهها بقلب صامد ، ونفس مطمئنة إلی ثواب الله ورحمته ، فلا تترک فی نفسه أثرا أکثر مما تترکه فقاعة علی سطح الماء .
یقول الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( المصائب مفاتیح الأجر ) ( 2 ) .
وکتب رجل إلی أبی جعفر ( علیه السلام ) یشکو إلیه مصابه بولده ، فکتب إلیه ( علیه السلام ) : ( أما علمت أن الله یختار من مال المؤمن ومن ولده ونفسه لیأجره علی ذلک ) ( 3 ) .
جإلفات نظر المسلم إلی المصیبة العظمی :
وهی مصیبته فی دینه ، مما یهون ویصغر فی نفسه المصائب الدنیویة الصغیرة ، وهی حالة امتصاص بارعة للضغوط النفسیة تقوم بها العقیدة ، ویحتل هذا التوجه مرکز الصدارة فی سیرة أهل البیت التربویة ، روی أنه رأی الصادق ( علیه السلام ) رجلا قد اشتد جزعه علی ولده ، فقال ( علیه السلام ) : ( یا هذا جزعت للمصیبة الصغری ، وغفلت عن المصیبة الکبری ، لو کنت لما صار إلیه ولدک مستعدا
---------------
( 1 ) أعلام الدین ، للدیلمی : 278 .
( 2 ) بحار الأنوار 82 : 122 - عن مسکن الفؤاد .
( 3 ) بحار الأنوار 82 : 123 - عن مشکاة الأنوار : 280 .
‹ صفحه 67 ›
لما اشتد علیه جزعک ، فمصابک بترکک الاستعداد له ، أعظم من مصابک بولدک ) ( 1 ) .
وکان أبو عبد الله ( علیه السلام ) یقول عند المصیبة : ( الحمد لله الذی لم یجعل مصیبتی فی دینی ، والحمد لله الذی لو شاء أن یجعل مصیبتی أعظم مما کانت ، والحمد لله علی الأمر الذی شاء أن یکون فکان ) ( 2 ) .
من جمیع ما تقدم ، نخلص إلی أن العقیدة تصوغ نفوسا قویة مطمئنة ، تواجه عواصف الأحداث بقلب صامد ومطمئن إلی قضاء الله وقدره ، وترسم العقیدة للإنسان خط سیره التکاملی ، وعلیه فالإنسان بلا عقیدة کالسفینة بلا بوصلة ، سرعان ما تصطدم بصخور الشاطئ فتتحطم .

ثانیا : تحریر النفس من المخاوف :

[توضیح]

مما لا شک فیه ، أن الخوف یبدد نشاط الفرد ، ویشل طاقته الفکریة والجسمیة ، وکان الإنسان الجاهلی فی خوف دائم من أخیه الإنسان ودسائسه ، ومن الطبیعة المحیطة به وکوارثها ، ومن الموت الذی لا سبیل له إلی دفعه ، ومن الفقر والجدب ، ومن المرض وما یرافقه من آلام ، وتخفف العقیدة من وطأة الاحساس بتلک المخاوف التی تشل طاقة الإنسان عن الحرکة والانتاج ، وتجعله غرضا للهموم والهواجس .

الموت تحفة !

ینبه القرآن الکریم إلی حقیقة أزلیة ، علی الإنسان أن یوطن نفسه
---------------
( 1 ) روضة الواعظین ، للفتال النیسابوری : 489 - منشورات الرضی - قم .
( 2 ) الکافی ، للکلینی 3 : 262 / 42 باب النوادر .
‹ صفحه 68 ›
علیها ، وهی : * ( کل نفس ذائقة الموت ) * ( 1 ) .
وعلیه فلا بد مما لیس منه بد ، و الموت لا بد أن یدرک الحی یوما ما ، کما أدرک من قبله ، وهو شئ لا عاصم منه . . قال تعالی : * ( أینما تکونوا یدرککم الموت ولو کنتم فی بروج مشیدة . . ) * ( 2 ) . وقال : * ( قل لن ینفعکم الفرار إن فررتم من الموت . . ) * ( 3 ) .
فالقرآن - إذن - یؤکد أن الموت لا بد منه ، ثم أنه أمر منوط بإذن الله تعالی ولیس بید غیره ، وهذه حقیقة لها انعکاسات إیحائیة علی نفس الإنسان ، بأن أی قوة أرضیة أو سماویة لا تستطیع - مهما أوتیت من قوة - أن تسلب الحیاة عن الإنسان قال تعالی : * ( ما کان لنفس أن تموت إلا بإذن الله کتابا مؤجلا . . ) * ( 4 ) .
ولقد بین القرآن الکریم زیف مزاعم الیهود الذین کانوا مع حرصهم الشدید علی الحیاة یتصورون أنهم أولیاء الله دون غیرهم ، فکشف عن زیف مزاعمهم بهذا التحدی الذی یخاطب دفائن النفوس ، ذلک أن المؤمن بالله حقا لا یخشی الموت إذا حل بساحته ، فالموت هو انتقال من دار فانیة إلی دار باقیة ، والیهود بما یمتازون به من نزعة مادیة طاغیة ، یخشون الموت ویتشبثون بالحیاة ، ومن هنا واجههم القرآن الکریم بهذا التحدی البلیغ قال تعالی : * ( قل یا أیها الذین هادوا إن زعمتم أنکم أولیاء لله
---------------
( 1 ) آل عمران 3 : 185 .
( 2 ) النساء 4 : 78 .
( 3 ) الأحزاب 33 : 16 .
( 4 ) آل عمران 3 : 145 .
‹ صفحه 69 ›
من دون الناس فتمنوا الموت إن کنتم صادقین * ولا یتمنونه أبدا بما قدمت أیدیهم والله علیم بالظالمین ) * ( 1 ) .
ویقول الإمام علی ( علیه السلام ) : ( . . . فما ینجو من الموت من خافه ، لا یعطی البقاء من أحبه ) ( 2 ) . والمثیر فی الأمر أن العقیدة فی الوقت الذی تخفف من خوف الإنسان من الموت ، تصور الموت للمؤمن کأنه تحفة ! ینبغی الإقدام علیه ، وفی ذلک یقول الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( تحفة المؤمن الموت ) وإنما قال هذا لأن الدنیا سجن المؤمن ، إذ لا یزال فیها فی عناء من ریاضة نفسه ومقاساة شهواته ومدافعة الشیطان ، فالموت إطلاق له من العذاب ، والإطلاق تحفة فی حقه لما یصل إلیه من النعیم الدائم ( 3 ) .
وقال الإمام أبو عبد الله الحسین ( علیه السلام ) لأصحابه یوم عاشوراء : ( صبرا یا کرام ! فما الموت إلا قنطرة تعبر بکم عن البؤس والضراء إلی الجنان الواسعة والنعیم الدائم ، فأیکم یکره أن ینتقل من سجن إلی قصر ؟ . . ) ( 4 ) .
من جانب آخر ، تدعو مدرسة آل البیت ( علیهم السلام ) إلی ضرورة معرفة الموت ، فإن معرفة الشئ قد تبدد المخاوف منه ، قال أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : ( إذا هبت أمرا فقع فیه ، فإن شدة توقیه أعظم مما تخاف منه ) ( 5 ) ، وقد روی عن الإمام علی بن محمد الهادی ( علیه السلام ) أنه قال لمریض من أصحابه ، عندما دخل علیه فوجده یبکی جزعا من الموت : ( یا عبد الله ، تخاف من
---------------
( 1 ) الجمعة 62 : 6 - 7 .
( 2 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 81 / خطبة 38 .
( 3 ) تنبیه الخواطر ، الأمیر ورام 1 - 2 : 268 باب ذکر الموت .
( 4 ) معانی الأخبار ، للصدوق : 288 - منشورات جماعة المدرسین - ط 1379 ه.
( 5 ) نهج البلاغة : قصار الحکم / 175 .
‹ صفحه 70 ›
الموت لأنک لا تعرفه ، أرأیتک إذا اتسخت وتقذرت ، وتأذیت من کثرة القذر والوسخ علیک ، وأصابک قروح وجرب ، وعلمت أن الغسل فی حمام یزیل ذلک کله ، أما ترید أن تدخله ، فتغسل ذلک عنک أو تکره أن تدخله فیبقی ذلک علیک ؟ قال : بلی یا ابن رسول الله ، قال ( علیه السلام ) : فذاک الموت هو ذلک الحمام ، وهو آخر ما بقی علیک من تمحیص ذنوبک ، وتنقیتک من سیئاتک ، فإذا أنت وردت علیه وجاوزته ، فقد نجوت من کل غم وهم وأذی ، ووصلت إلی کل سرور وفرح ) ، فسکن الرجل واستسلم ونشط ، وغمض عین نفسه ، ومضی لسبیله ( 1 ) .
ضمن هذا الإطار ، قیل للإمام الصادق ( علیه السلام ) : صف لنا الموت ، قال ( علیه السلام ) : ( للمؤمن کأطیب ریح یشمه ، فینعس لطیبه ، وینقطع التعب والألم کله عنه ، وللکافر کلسع الأفاعی ولدغ العقارب أو أشد . . ) ( 2 ) .
هکذا تقدم العقیدة إشعاعا من الأمن یخفف من وطأة الموت ، فإنه للمؤمن تحفة وراحة . قال رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( شیئان یکرهما ابن آدم : یکره الموت فالموت راحة للمؤمن من الفتنة ، ویکره قلة المال وقلة المال أقل للحساب ) ( 3 ) .
والأئمة ( علیهم السلام ) یؤکدون علی الاکثار من ذکر الموت ، لما فیه من آثار تربویة قیمة ، فهو یمیت الشهوات فی النفس ، ویهون مصائب الدنیا التی تعصف بالإنسان مثل ریح السموم ، یقول الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( أکثروا
---------------
( 1 ) معانی الأخبار ، للصدوق : 290 .
( 2 ) عیون أخبار الرضا ، لابن بابویه 2 : 248 - مؤسسة الأعلمی ط 1 .
( 3 ) روضة الواعظین ، للفتال النیسابوری : 486 فی ذکر الموت .
‹ صفحه 71 ›
من ذکر الموت فإنه یمحص الذنوب ، ویزهد فی الدنیا ) ( 1 ) .
ویقول الإمام علی ( علیه السلام ) : ( أکثروا ذکر الموت ، ویوم خروجکم من القبور ، وقیامکم بین یدی الله عز وجل تهون علیکم المصائب ) ( 2 ) .
ومن وصایا أمیر المؤمنین لابنه الحسن ( علیهما السلام ) : ( یا بنی أکثر من ذکر الموت ، وذکر ما تهجم علیه ، وتفضی بعد الموت إلیه ، حتی یأتیک وقد أخذت منه حذرک ، وشددت له أزرک ، ولا یأتیک بغتة فیبهرک ) ( 3 ) .
وقال ( علیه السلام ) أیضا : ( من أکثر من ذکر الموت رضی من الدنیا بالیسیر ) ( 4 ) .
ونعود لنقول إن العقیدة تحرر النفوس من شبح الخوف من الموت من خلال التأکید علی أنه حقیقة لا بد منها ، یجب التسلیم بها ، والتسالم معها عبر معرفة حقیقة الموت ، وأنه للمؤمن راحة ، وبدلا من نسیانه أو تناسیه ، یجب أن ندیم ذکره لما فی ذلک من معطیات إیجابیة قد أشرنا إلیها فیما سبق .

الزرق مضمون لطالبه :

هناک خوف ینتاب الإنسان ، وینغص علیه حیاته ، وهو الخوف من الفقر ، لکن العقیدة تبدد هذا الخوف من خلال التأکید علی حقیقة واضحة کالشمس فی رابعة النهار ، وهی أن مقادیر الرزق بید الله تعالی ، وقد ضمنها لعباده ، وعلیه فلا مبرر لهذه المخاوف ، ومن یقرأ القرآن یجد آیات کثیرة ، تحث علی إزالة أسباب الخوف من الفقر التی أدت بالجاهلی
---------------
( 1 ) تنبیه الخواطر 1 : 269 .
( 2 ) الخصال ، للصدوق 2 : 616 حدیث الأربعمائة .
( 3 ) نهج البلاغة : 400 کتاب 31 .
( 4 ) روضة الواعظین : 490 .
‹ صفحه 72 ›
إلی قتل أبنائه قال تعالی : * ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتین ) * ( 1 ) . وقال تعالی : * ( ولا تقتلوا أولادکم خشیة إملاق نحن نرزقهم وإیاکم ) * ( 2 ) .
وجاءت أحادیث الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) وآل بیته الأطهار ( علیهم السلام ) علی هذا المنوال ، قال رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( أبواب الجنة مفتحة علی الفقراء والمساکین ، والرحمة نازلة علی الرحماء ، والله راض عن الأسخیاء ) ( 3 ) .
ویقول وصیه الإمام علی ( علیه السلام ) : ( . . عیاله الخلائق ، ضمن أرزاقهم ، وقدر أقواتهم . . ) ( 4 ) .
من جهة أخری ، قاموا بتصحیح مفهوم الناس عن الرزق ، صحیح أن الله تعالی قد ضمن أرزاق عباده ، ولکن لا یعنی ذلک أنه یشجعهم علی التواکل والکسل ، والقعود والابتعاد عن العمل ، وإنما ربط تعالی تحصیل الرزق بشرط السعی والطلب ، یقول أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : ( اطلبوا الرزق فإنه مضمون لطالبه ) ( 5 ) .
وکان أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) یضرب بالمر - أی المسحاة – ویستخرج الأرضین ، وأنه أعتق ألف مملوک من کد یده ( 6 ) .
وکان ( علیه السلام ) یسقی بیده لنخل قوم من یهود المدینة حتی کلت یده ،
---------------
( 1 ) الذاریات 51 : 58 .
( 2 ) الإسراء 17 : 31 .
( 3 ) روضة الواعظین ، للفتال النیسابوری 2 : 454 .
( 4 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 124 / خطبة 91 .
( 5 ) الارشاد ، للشیخ المفید : 160 - منشورات مکتبة بصیرتی - قم .
( 6 ) الکافی 5 : 74 / 2 .
‹ صفحه 73 ›
ویتصدق بالأجر ، ویشد علی بطنه حجرا ( 1 ) .
فلم یکن من عمله الشاق هذا ، حریصا علی جمع المال لذاته ، فالإمام علی ( علیه السلام ) لا تغره بیضاء ولا صفراء ، بل کان یطلب الرزق الحلال من حله وینفقه فی محله .
" ولما کانت النفوس مشغوفة بالمال ، مولعة بجمعه واکتنازه ، فحری بالمؤمن الواعی المستنیر ، أن لا ینخدع ببریقه ، ویغتر بمفاتنه ، وأن یتعظ بحرمان المغرورین به ، والحریصین علیه ، من کسب المثوبة فی الآخرة ، وإفلاسهم مما زاد عن حاجاتهم وکفافهم فی الدنیا ، فإنهم خزان أمناء ، یکدحون ویشقون فی ادخاره ثم یخلفونه طعمة سائغة للوارثین ، فیکون علیهم الوزر ولأبنائهم المهنی والاغتباط " ( 2 ) .
هکذا تستأصل العقیدة من النفوس جذور الخوف من الفقر ، وتجعله یسعی بکل اطمئنان لضمان متطلبات عیشه الکریم .
المرض یمحو الذنب . . ویستدعی الثواب ! من جانب آخر لطفت العقیدة من مخاوف الإنسان الدائمة من المرض من خلال التأکید علی حقیقة بدیهیة ، هی إن کل جسم معرض للسقم ، یقول الإمام علی ( علیه السلام ) : ( لا ینبغی للعبد أن یثق بخصلتین : العافیة والغنی .
بینما تراه معافی إذ سقم ، وبینما تراه غنیا إذ افتقر ) ( 3 ) .
---------------
( 1 ) شرح النهج 1 : 7 .
( 2 ) أخلاق أهل البیت ، للسید مهدی الصدر : 143 - دار الکتاب الاسلامی .
( 3 ) نهج البلاغة : 551 حکم 426 .
‹ صفحه 74 ›
کما أکدت علی أن المرض یسقط الذنب ، یقول الإمام السجاد ( علیه السلام ) : ( إن المؤمن إذا حم حمی واحدة ، تناثرت الذنوب منه کورق الشجر . . ) ( 1 ) .
وعن أبی عبد الله ( علیه السلام ) قال : ( صداع لیلة یحط کل خطیئة إلا الکبائر ) ( 2 ) .
وإضافة لذلک فإن فیه الثواب الجزیل ما یخفف من وطأته علی النفوس ، یقول الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( عجبت من المؤمن وجزعه من السقم ، ولو یعلم ما له فی السقم من الثواب ، لأحب أن لا یزال سقیما حتی یلقی ربه عز وجل ) ( 3 ) .
ویحدد الإمام الرضا ( علیه السلام ) فلسفة المرض بقوله : ( المرض للمؤمن تطهیر ورحمة ، وللکافر تعذیب ولعنة ، وإن المرض لا یزال بالمؤمن حتی لا یکون علیه ذنب ) ( 4 ) .
ونعود لنقول بأن الله لم یجعل المرض عبثا ، بل جعله وسیلة لامتحان الإنسان ومعرفة صبره علی النوازل ، لذلک امتحن به أنبیاءه والصالحین من عباده ، فأیوب ( علیه السلام ) - کما هو معروف - کان ابتلاؤه فی جسده : ( ولم یبق منه عضو سلیم سوی قلبه ولسانه یذکر الله عز وجل بهما ، وهو فی ذلک کله صابر محتسب ، ذاکر لله فی لیله ونهاره وصباحه ومسائه ، وطال مرضه حتی عافه الجلیس ، وأوحش منه الأنیس ، وأخرج من بلده ، وانقطع عنه الناس ، ولم یبق أحد یحنو علیه سوی زوجته التی کانت ترعی له حقه
---------------
( 1 ) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ، للشیخ الصدوق : 228 - مکتبة الصدوق - طهران .
( 2 ) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ، للشیخ الصدوق : 230 .
( 3 ) کتاب التوحید ، للصدوق : 400 - مؤسسة النشر الإسلامی - قم .
( 4 ) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ، للصدوق : 229 باب ثواب المرض .
‹ صفحه 75 ›
وتعرف قدیم إحسانه إلیها . . ولم یزد هذا کله أیوب ( علیه السلام ) إلا صبرا واحتسابا وحمدا وشکرا ، حتی إن المثل لیضرب بصبره ) ( 1 ) . فکان نتیجة هذا الصبر والاحتساب أن رد الله تعالی إلیه کل ما أخذ منه کرما وإحسانا .
والعقیدة فی الوقت الذی تأمر المسلم بالتزام الصبر ، تنصحه بعدم الشکوی من المرض ، فالشکوی تعنی ضمن ما تعنیه ، اتهام الله تعالی فی قضائه ، کما أنها تحط من قدر الإنسان فی نظر الناس ، وتبعث علی الشماتة به أو التهکم علیه ، یقول أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : ( کان لی فیما مضی أخ فی الله ، وکان یعظمه فی عینی صغر الدنیا فی عینه . . وکان لا یشکو وجعا إلا عند برئه . . ) ( 2 ) .
ولا بد من الإشارة إلی أن العقیدة فی الوقت الذی تبدد غیوم المخاوف فی نفس الإنسان ، تنمی فیه شعور الخوف من الله تعالی وحده باعتباره السبیل للتحرز من جمیع المخاوف ، وتحذر من عصیانه ، وتلوح بشدة انتقامه ، والقرآن الکریم فی آیات کثیرة یعمق من شعور النفس بالخوف من الله تعالی ، منها : * ( قل إنی أخاف إن عصیت ربی عذاب یوم عظیم ) * ( 3 ) .
وقال تعالی : * ( وأما من خاف مقام ربه ونهی النفس عن الهوی * فإن الجنة هی المأوی ) * ( 4 ) .
وقال رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( ما سلط الله علی ابن آدم إلا من خافه ابن آدم ،
---------------
( 1 ) البدایة والنهایة ، لابن الأثیر الدمشقی 1 : 254 / 1 - دار إحیاء التراث العربی 1408 ط 1 .
( 2 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 526 .
( 3 ) الأنعام 6 : 15 .
( 4 ) النازعات 79 : 40 - 41 .
‹ صفحه 76 ›
ولو أن ابن آدم لم یخف إلا الله ما سلط الله علیه غیره . . ) ( 1 ) .
وقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) أیضا : ( طوبی لمن شغله خوف الله عن خوف الناس ) ( 2 ) .
وبطبیعة الحال إن لهذا النوع من الخوف آثارا تربویة مهمة تعود لصالح الفرد ، وفی هذا الصدد ، یقول الإمام الصادق ( علیه السلام ) : ( من عرف الله خاف
الله ، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنیا ) ( 3 ) .
وتترتب علیه آثار اجتماعیة أیضا حیث إنه یدفع الفرد إلی مد ید العون إلی الآخرین ، قال تعالی : * ( ویطعمون الطعام علی حبه مسکینا ویتیما وأسیرا * إنما نطعمکم لوجه الله لا نرید منکم جزاء ولا شکورا * إنا نخاف من ربنا یوما عبوسا قمطریرا ) * ( 4 ) .
وصفوة القول ، لقد غیرت العقیدة النفوس ، وفتحت لها آفاقا واسعة بتحریرها من مخاوفها ، کما أوصلت حبلها بخالقها ، وأشعرتها بنعمائه ، وخوفتها من ألیم عقابه .

ثالثا : معرفة النفس

اشارة

من معطیات العقیدة ، أنها تدفع الإنسان المسلم إلی معرفة نفسه ، فلا یمکن السمو بالنفس دون معرفة طبیعتها ، وهذه المعرفة هی خطوة أولیة للسیطرة علیها وکبح جماحها ، یقول الإمام الباقر ( علیه السلام ) : ( . . لا معرفة
---------------
( 1 ) کنز العمال 3 : 148 / 5909 .
( 2 ) تحف العقول ، لابن شعبة الحرانی : 28 - مؤسسة الأعلمی ط 5 .
( 3 ) أصول الکافی 2 : 68 / 4 باب الخوف والرجاء .
( 4 ) الإنسان 76 : 8 - 10 .
‹ صفحه 77 ›
کمعرفتک بنفسک . . ) ( 1 ) .
ثم إن هناک علاقة ترابطیة وثیقة بین معرفة الله ومعرفة النفس ، فمن خلال معرفة الإنسان لنفسه وطبیعتها وقواها ، یستطیع التعرف علی خالقها ویقدر عظمته ، ففی الحدیث الشریف : ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) وبالمقابل فإن نسیان الله تعالی یؤول إلی نسیان النفس : * ( ولا تکونوا کالذین نسوا الله فأنساهم أنفسهم . . ) * ( 2 ) .

دور العقیدة فی تعریف الإنسان بنفسه :

مما لا شک فیه أن العقیدة - عبر مصادرها المعرفیة ورموزها – قامت بدور کبیر فی الکشف عن طبیعة النفس ، وشخصت بدقة متناهیة أمراضها والآثار الناجمة عنها .
فالقرآن الکریم یقر صراحة بأن النفس أمارة بالسوء : * ( وما أبرئ نفسی
إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربی . . ) * ( 3 ) .
کما یقر القرآن أیضا ، بأن النفس شحیحة قال تعالی : * ( . . وأحضرت الأنفس الشح . . ) * ( 4 ) ، وقال : * ( . . من یوق شح نفسه فأولئک هم المفلحون ) * ( 5 ) .
وهناک طائفة من الأحادیث تسلط الضوء علی طبیعة النفس ، وتقدم
---------------
( 1 ) تحف العقول : 208 من وصیة الإمام الباقر ( علیه السلام ) لجابر الجعفی .
( 2 ) الحشر 59 : 19 .
( 3 ) یوسف 12 : 53 .
( 4 ) النساء 4 : 128 .
( 5 ) الحشر 59 : 9 .
‹ صفحه 78 ›
الرؤیة العلاجیة لأمراضها ، منها : ما کتبه الإمام علی ( علیه السلام ) إلی الأشتر النخعی لما ولاه مصر ، وجاء فیه : ( . . وأمره أن یکسر نفسه من الشهوات ، ویزعها عند الجمحات ، فإن النفس أمارة بالسوء ، إلا ما رحم الله . . ) ( 1 ) .
ومن خطبة له ( علیه السلام ) ضمنها مواعظ للناس ، جاء فیها : ( . . نستعینه من هذه النفوس البطاء عما أمرت به ، السراع إلی ما نهیت عنه . . ) ( 2 ) .
ویقول ( علیه السلام ) أیضا : ( النفس مجبولة علی سوء الأدب ، والعبد مأمور بملازمة حسن الأدب ، والنفس تجری بطبعها فی میدان المخالفة ، والعبد یجهد بردها عن سوء المطالبة ، فمتی أطلق عنانها فهو شریک فی فسادها ، ومن أعان نفسه فی هوی نفسه فقد أشرک نفسه فی قتل نفسه ) ( 3 ) .
علی هذا الصعید لا بد من الإشارة إلی أن الأمراض النفسیة إذا لم تعالج ، فإنها قد تؤدی إلی عواقب وخیمة ، فعلی سبیل الاستشهاد نجد أن الفتنة الکبری التی حصلت للمسلمین فی السقیفة ، عندما أقصیت القیادة الشرعیة عن مرکز القرار ، کانت جذورها نفسیة ، ویکفینا الاستدلال علی ذلک بکلام أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) لبعض أصحابه وقد سأله : کیف دفعکم قومکم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟ فقال ( علیه السلام ) : ( . . . أما الاستبداد علینا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون برسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) نوطا ، فإنها کانت أثرة شحت علیها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرین ، والحکم الله ) ( 4 ) .
---------------
( 1 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 427 کتاب 53 .
( 2 ) نهج البلاغة : 169 / خطبة 114 .
( 3 ) میزان الحکمة 1 : 16 عن مشکاة الأنوار .
( 4 ) نهج البلاغة : 231 .
‹ صفحه 79 ›
فالشح الکامن فی نفوس البعض کان السبب الأساس فی أول وأعظم انحراف شهدته المسیرة الإسلامیة بعد ساعات قلیلة من رحیل الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) . لذلک کان أئمة أهل البیت ( علیهم السلام ) مع عصمتهم المحققة ، یلجؤون إلی الله تعالی بالدعاء لکی یقیهم هذا المرض النفسی الخطیر ، فعن الفضل بن أبی قرة قال : رأیت أبا عبد الله ( علیه السلام ) یطوف من أول اللیل إلی الصباح وهو یقول : ( اللهم قنی شح نفسی ، فقلت : جعلت فداک ما سمعتک تدعو بغیر هذا الدعاء ؟ قال ( علیه السلام ) : وأی شئ أشد من شح النفس ، إن الله یقول : * ( ومن یوق شح نفسه فأولئک هم المفلحون ) * ) ( 1 ) .

رابعا : السیطرة علی النفس

اشارة

منهج العقیدة فی تربیة النفس ، أنها تدعو إلی عدم کبت رغباتها لأن الکبت یقتل حیویتها ، ویبدد طاقتها ، فلا تعمل ولا تنتج ، وفی الوقت ذاته لا تشجع العقیدة علی إطلاق رغباتها بلا ضوابط ، بل تحث علی اتباع سیاسة حکیمة معها ، یقول أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : ( سیاسة النفس أفضل سیاسة ) ( 2 ) .
وعملیة السیطرة علی النفس تتحقق من خلال ضبط رغباتها وتوجیه نزواتها نحو الاعتدال ، وتتحقق أیضا من خلال محاسبتها ، قال الإمام موسی بن جعفر ( علیه السلام ) : ( لیس منا من لم یحاسب نفسه فی کل یوم ، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالی ، وإن عمل سیئة استغفر الله تعالی منها وتاب إلیه ) ( 3 ) .
---------------
( 1 ) میزان الحکمة 5 : 33 عن نور الثقلین 5 : 291 .
( 2 ) میزان الحکمة 10 : 134 عن غرر الحکم .
( 3 ) أخلاق أهل البیت ، للسید مهدی الصدر : 351 . والحدیث فی الوافی 3 : 62 عن الکافی .
‹ صفحه 80 ›
ولا بد من الإشارة إلی أن العقیدة لا تحبذ اتباع الوسائل الملتویة من أجل السیطرة علی النفس ، فعن طلحة قال : انطلق رجل ذات یوم فنزع ثیابه وتمرغ فی الرمضاء ، وکان یقول لنفسه : ذوقی ، وعذاب جهنم أشد حرا ، أجیفة باللیل بطالة بالنهار ؟ !
قال : فبینا هو کذلک إذ أبصره النبی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) فی ظل شجرة فأتاه ، فقال : غلبتنی نفسی ، فقال له النبی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( ألم یکن لک بد من الذی صنعته ؟ ) ( 1 ) .
من هذا التوجه النبوی ، نجد أنه فی الوقت الذی تشجع فیه العقیدة کل محاولة صادقة من الإنسان للسیطرة علی نفسه ، نجد أیضا أنها لا تحبذ اتباع الأسالیب غیر العقلانیة للسیطرة علی النفس ، فالنفس تحتاج إلی صبر وسیاسة طویلة وریاضة خاصة لتقلع عن ضراوة عاداتها ، کتلک الریاضة التی أقسم أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) علی اتباعها مع نفسه : ( . . . وأیم الله - یمینا أستثنی فیها بمشئیة الله - لأروضن نفسی ریاضة تهش معها إلی القرص إذا قدرت علیه مطعوما ، وتقنع بالملح مأدوما . . . ) ( 2 ) .
وإن الإنسان لیقف مبهورا أمام قدرة الإمام ( علیه السلام ) فی السیطرة علی نفسه ، رغم أن الأموال کانت تجبی إلیه من مختلف بلدان الخلافة الإسلامیة أیام خلافته ، ولقد أبر بقسمه الذی قطعه علی نفسه ، عن حبة العرنی قال : أتی أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) بخوان فالوذج فوضع بین یدیه ونظر إلی صفائه وحسنه فوجی بإصبعه فیه حتی بلغ أسفله ثم سلها ولم یأخذ منه شیئا ، وتلمظ إصبعه وقال : ( إن الحلال طیب ، وما هو بحرام ، ولکنی أکره أن أعود
---------------
( 1 ) المحجة البیضاء ، للمحقق الکاشانی 8 : 68 - مؤسسة الأعلمی ط 2 .
( 2 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 419 .
‹ صفحه 81 ›
نفسی ما لم أعودها ، ارفعوه عنی ) فرفعوه ( 1 ) .
وکان ( علیه السلام ) یجعل جریش الشعیر فی وعاء ویختم علیه ، فقیل له فی ذلک ، فقال ( علیه السلام ) : ( أخاف هذین الولدین أن یجعلا فیه شیئا من زیت أو سمن ) ( 2 ) .

الخوف والرجاء :

مما یمکن التأکید علیه أن فی النفس خطان متقابلان هما الخوف والرجاء ، والعقیدة تعمد إلی کلا الخطین ، فتبدد عن النفس کل خوف باطل وکل رجاء منحرف ، وبدلا من ذلک تنمی الخوف من الله من جانب ، ورجاء ثوابه من جانب آخر قال تعالی : * ( . . . یحذر الآخرة ویرجو رحمة ربه . . . ) * ( 3 ) ، فلیست نظرتها أحادیة الجانب کأن ترکز علی جانب الخوف فتؤیس الإنسان من رحمة الله ، أو ترکز - بالمقابل - علی الرجاء فتضعف فی نفسه الخشیة من الله .
یقول الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( لو تعلمون قدر رحمة الله لاتکلتم علیها وما عملتم إلا قلیلا ، ولو تعلمون قدر غضب الله لظننتم بأن لا تنجوا ) ( 4 ) .
ویقول وصیه الإمام علی ( علیه السلام ) : ( إن استطعتم أن یشتد خوفکم من الله وأن یحسن ظنکم به ، فاجمعوا بینهما ، فإن العبد إنما یکون حسن ظنه بربه علی قدر خوفه من ربه ، وإن أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا لله ) ( 5 ) .
---------------
( 1 ) وسائل الشیعة 16 : 508 - دار إحیاء التراث العربی .
( 2 ) وسائل الشیعة 16 : 509 .
( 3 ) الزمر 39 : 9 .
( 4 ) کنز العمال 3 : 144 / 5894 .
( 5 ) نهج البلاغة : 384 .
‹ صفحه 82 ›
وتجدر الإشارة إلی أن الناس " یختلفون فی طباعهم وسلوکهم اختلافا کبیرا ، فمن الحکمة فی إرشادهم وتوجیههم ، رعایة ما هو الأجدر بإصلاحهم من الترجی والتخویف فمنهم من یصلحه الرجاء ، وهم العصاة النادمون علی ما فرطوا فی الآثام ، فحاولوا التوبة إلی الله ، بید أنهم قنطوا من عفو الله وغفرانه ، لفداحة جرائمهم ، وکثرة سیئاتهم ، فیعالج والحالة هذه قنوطهم بالرجاء بعظیم لطف الله ، وسعة رحمته وغفرانه .
أما الذین یصلحهم الخوف : فهم المردة العصاة ، المنغمسون فی الآثام ، والمغترون بالرجاء ، فعلاجهم بالتخویف والزجر العنیف ، بما یهددهم من العقاب الألیم ، والعذاب المهین " ( 1 ) .
وکان لأتباع مدرسة أهل البیت ( علیهم السلام ) الذین سکن خوف الله تعالی فی نفوسهم وانعکس علی جوارحهم ، وزرع رجاؤه فی قلوبهم ، أروع الأمثلة فی هذا المجال ، فروی عن أبی ذر ( رحمه الله ) أنه بکی من خشیة الله حتی اشتکی بصره ، فقیل له لو دعوت الله یشفی بصرک ؟ ! ، فقال : إنی عن ذلک مشغول ، وما هو أکبر همی . قالوا : وما شغلک عنه ؟ ! قال : العظیمتان : الجنة والنار ( 2 ) .
من جانب آخر ینمی رواد هذه المدرسة الإلهیة شعور الرجاء فی النفوس ، فمن وصایا أمیر المؤمنین لابنه الإمام الحسن ( علیهما السلام ) : ( أی بنی ، لا تؤیس مذنبا ، فکم من عاکف علی ذنبه ختم له بخیر ، وکم من مقبل علی عمل مفسد من آخر عمره ، صائر إلی النار ، نعوذ بالله منها ) ( 3 ) .
---------------
( 1 ) أخلاق أهل البیت ، للسید مهدی الصدر : 129 - دار الکتاب الاسلامی .
( 2 ) روضة الواعظین : 285 فی فضائل أبی ذر ( رضی الله عنه ) .
( 3 ) تحف العقول : 66 - مؤسسة الأعلمی ط 5 .
‹ صفحه 83 ›

الفصل الرابع البناء الأخلاقی

[تمهید]

العقیدة تشکل مرتکزا متینا للأخلاق ، لأنها تخلق الواعز النفسی عند الإنسان للتمسک بالقیم الأخلاقیة السامیة ، علی العکس من العقائد الوضعیة التی تسایر شهوات الإنسان ، وتنمی بذور الأنانیة المغروسة فی نفسه .
والأخلاق تحظی بأهمیة استثنائیة فی العقیدة الإسلامیة ، قال الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( بعثت لأتمم مکارم الأخلاق ) ( 1 ) . وقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) أیضا : ( الخلق الحسن نصف الدین ، وقیل له : ما أفضل ما أعطی المرئ المسلم ؟ قال : الخلق الحسن ) ( 2 ) .
الإسلام یربط بین الدین الحق والأخلاق ، مثل هذه الرؤیة تتوضح خطوطها فی أن الدین یحث علی الأخلاق الحسنة ویقوم بتهذیب الطباع ویجعل ذلک تکلیفا فی عنق الفرد یستتبع الثواب أو العقاب ، وعلیه فلم یقدم الدین توجهاته الأخلاقیة المثالیة بصورة مجردة عن المسؤولیة ، وإنما جعل الأخلاق نصف الدین ، لأن الدین اعتقاد وسلوک . والأخلاق تمثل الجانب السلوکی للفرد .
000000000000000000000
( 1 ) کنز العمال 11 : 240 / 31969 .
( 2 ) روضة الواعظین ، للفتال النیسابوری : 376 - منشورات الرضی - قم .
‹ صفحه 84 ›
قال الإمام الباقر ( علیه السلام ) : ( إن أکمل المؤمنین إیمانا أحسنهم خلقا ) ( 1 ) .
جاء رجل إلی رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) من بین یدیه فقال : یا رسول الله ما الدین ؟
فقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( حسن الخلق . ثم أتاه من قبل شماله فقال : ما الدین ؟
فقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : حسن الخلق . ثم أتاه عن یمینه فقال : ما الدین ؟ فقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) :
حسن الخلق ، ثم أتاه من ورائه فقال : ما الدین ؟ فالتفت إلیه ( صلی الله علیه وآله وسلم ) وقال :
أما تفقه الدین ؟ هو أن لا تغضب ) ( 2 ) .
وقال أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : ( عنوان صحیفة المؤمن حسن خلقه ) ( 3 ) .
یقول العلامة الطباطبائی : " إن الأخلاق لا تفی بإسعاد المجتمع ولا تسوق الإنسان إلی صلاح العمل إلا إذا اعتمدت علی التوحید ، وهو الإیمان بأن للعالم - ومنه الإنسان - إلها واحدا سرمدیا لا یعزب عن علمه شئ ، ولا یغلب فی قدرته ، خلق الأشیاء علی أکمل نظام لا لحاجة منه إلیها وسیعیدهم إلیه فیحاسبهم فیجزی المحسن بإحسانه ویعاقب المسئ بإساءته ثم یخلدون منعمین أو معذبین .
ومن المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت علی هذه العقیدة لم یبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالی فی أعماله ، وکانت التقوی رادعا داخلیا له عن ارتکاب الجرم ، ولولا ارتضاع الأخلاق من ثدی هذه العقیدة - عقیدة التوحید - لم یبق للإنسان غایة فی أعماله الحیویة إلا التمتع بمتاع
---------------
( 1 ) أصول الکافی 2 : 99 / 1 کتاب الإیمان والکفر .
( 2 ) المحجة البیضاء 5 : 89 .
( 3 ) تحف العقول : 200 .
‹ صفحه 85 ›
الدنیا الفانیة والتلذذ بلذائذ الحیاة المادیة " ( 1 ) .
إن العقائد الالحادیة بإزالتها من النفوس البشریة شعور التعلق بالخالق الکامل ، والمثل الأعلی المطلق ، والشعور برقابته وحسابه والمسؤولیة اتجاهه ، أزالت الرکیزة الأساسیة للأخلاق ، ولم تستطع أن تعوض عنها برکیزة أخری فی مثل قوتها .
الأخلاق ضرورة اجتماعیة ، فهی بمثابة صمام أمان أمام نزعة الشر الکامنة فی الإنسان ، والتی تدفعه لمد خیوط الأذی لأبناء جنسه ، وعلیه فالبناء الاجتماعی بدون منظومة الأخلاق کالبناء علی کثیب من الرمال ، قال أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : ( لو کنا لا نرجو جنة ، ولا نخشی نارا ، ولا ثوابا ولا عقابا ، لکان ینبغی لنا أن نطلب مکارم الأخلاق ، فإنها مما تدل علی سبیل النجاح ) ( 2 ) .

أسالیب العقیدة فی بناء الإنسان أخلاقیا :

[توضیح]

لما کانت قضیة الأخلاق تحظی بأهمیة استثنائیة فی توجهات العقیدة الإسلامیة ، نجد أنها اتبعت أسالیب وطرق عدة متضافرة کبناء یتصل بعضه ببعض ، تشکل بمجموعها السور الوقائی الذی یحمی الإنسان من الانحدار والسقوط الأخلاقی ، ویمکن إجمال هذه الأسالیب ، بالنقاط الآتیة :

أولا : تحدید العقیدة للمعطیات الأخرویة للأخلاق :

فمن اتصف بالأخلاق الحسنة وعدته بالثواب الجزیل والدرجات
----------------------------------
( 1 ) المیزان فی تفسیر القرآن ، العلامة الطباطبائی 11 : 157 - مؤسسة الأعلمی ط 2 .
( 2 ) مستدرک الوسائل 2 : 283 .
‹ صفحه 86 ›
الرفیعة ، ومن ساء خلقه وأطلق العنان لنفسه وعدته بالعقاب الألیم .
قال الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( إن العبد لیبلغ بحسن خلقه عظیم درجات الآخرة وشرف المنازل ، وإنه لضعیف العبادة ) ( 1 ) .
وقال أیضا : ( إن حسن الخلق یبلغ درجة الصائم القائم ) ( 2 ) .
وقال موصیا : ( یا بنی عبد المطلب ، أفشوا السلام وصلوا الأرحام ،
وأطعموا الطعام ، وطیبوا الکلام تدخلوا الجنة بسلام ) ( 3 ) .
وقال أیضا : ( إن الخلق الحسن یمیث الخطیئة کما تمیث الشمس الجلید . . ) ( 4 ) .
وفی هذا السیاق ، قال الإمام الصادق ( علیه السلام ) : ( إن الله تبارک وتعالی لیعطی العبد من الثواب علی حسن الخلق کما یعطی المجاهد فی سبیل الله یغدو علیه ویروح ) ( 5 ) .
ثم إن هناک تلازما بین قبول الأعمال عموما والعبادیة منها علی وجه الخصوص وبین الأخلاق ، فقد روی أن رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) سمع امرأة تسب جارتها وهی صائمة ، فدعا بطعام فقال لها : ( کلی ! فقالت إنی صائمة ! فقال ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : کیف تکونین صائمة وقد سببت جارتک . . ؟ ! ) ( 6 ) .
----------------
( 1 ) المحجة البیضاء 5 : 93 .
( 2 ) إرشاد القلوب 1 - 2 : 133 - منشورات الرضی - قم .
( 3 ) إرشاد القلوب 1 - 2 : 133 .
( 4 ) أصول الکافی 2 : 100 / 7 کتاب الإیمان والکفر .
( 5 ) أصول الکافی 2 : 101 / 12 کتاب الإیمان والکفر .
( 6 ) الأخلاق ، للسید عبد الله شبر : 70 - منشورات مکتبة بصیرتی - قم .
‹ صفحه 87 ›

ثانیا : بیان العقیدة للمعطیات الدنیویة للأخلاق :

فمن یتصف بالأخلاق الحسنة ، یستطیع التکیف والمواءمة مع أبناء جنسه ، ویعیش قریر العین ، مطمئن النفس ، هادئ البال ، أما من ینفلت من عقال القیم والمبادئ الأخلاقیة ، فسوف یتخبط فی الظلام ، ویعیش القلق والحیرة فیعذب نفسه ویکون ممقوتا من قبل أبناء جنسه ، ویدخل فی متاهات لا تحمد عقباها .
یقول الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( حسن الخلق یثبت المودة ) ( 1 ) . وقال وصیه الإمام علی ( علیه السلام ) : ( . . وفی سعة الأخلاق کنوز الأرزاق ) ( 2 ) . وقال الإمام الصادق ( علیه السلام ) موصیا : ( وإن شئت أن تکرم فلن ، وإن شئت أن تهان فاخشن ) ( 3 ) ، وقال أیضا ( علیه السلام ) : ( البر وحسن الخلق یعمران الدیار ، ویزیدان فی الأعمار ) ( 4 ) .
وبالمقابل فإن للأخلاق السیئة معطیات سلبیة یجد الإنسان آثارها فی دار الدنیا ، قال الإمام الصادق ( علیه السلام ) : ( من ساء خلقه عذب نفسه ) ( 5 ) ، وقال ( علیه السلام ) لسفیان الثوری الذی طلب منه أن یوصیه : ( لا مروءة لکذوب ، ولا راحة لحسود ، ولا إخاء لملول ، ولا خلة لمختال ، ولا سؤدد لسئ الخلق ) ( 6 ) .
---------------
( 1 ) تحف العقول : 38 .
( 2 ) تحف العقول : 98 .
( 3 ) تحف العقول : 356 .
( 4 ) أصول الکافی 2 : 100 / 8 کتاب الإیمان والکفر .
( 5 ) أصول الکافی 2 : 321 / 4 کتاب الإیمان والکفر .
( 6 ) فی رحاب أئمة أهل البیت ( علیهم السلام ) ، للسید محسن الأمین 4 : 69 عن تحف العقول .
‹ صفحه 88 ›
مما تقدم اتضح أن العقیدة ترغب الإنسان بالتحلی بالأخلاق الحمیدة من خلال إبرازها للمعطیات الإیجابیة - الأخرویة والدنیویة – التی سیحصل علیها إذا سار فی طریق التزکیة ، وبالمقابل تردعه عن الأخلاق السیئة من خلال بیان الآثار السلبیة - الأخرویة والدنیویة - المترتبة علیها .

ثالثا : تقدیم التوصیات والنصائح :

تقدم العقیدة - من خلال مصادرها المعرفیة - التوصیات القیمة فی هذا الصدد ، التی تزرع فی الإنسان براعم الأخلاق الحسنة ، وتستأصل ما فی نفسه من قیم وأخلاق فاسدة .
من کتاب النبوة عن ابن عباس عن النبی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) قال : ( أنا أدیب الله ، وعلی أدیبی ، أمرنی ربی بالسخاء والبر ، ونهانی عن البخل والجفاء ، وما من شئ أبغض إلی الله عز وجل من البخل وسوء الخلق ، وإنه لیفسد العمل کما یفسد الخل العسل ) ( 1 ) .
وقال وصیه الإمام علی ( علیه السلام ) : ( . . روضوا أنفسکم علی الأخلاق الحسنة ، فإن العبد المسلم یبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم ) ( 2 ) .
وقال أیضا موصیا : ( . . عود نفسک السماح وتخیر لها من کل خلق أحسنه ، فإن الخیر عادة ) ( 3 ) .
وقال ( علیه السلام ) : ( . . وعلیکم بمکارم الأخلاق فإنها رفعة ، وإیاکم والأخلاق
---------------
( 1 ) مکارم الأخلاق ، للطبرسی : 17 .
( 2 ) الخصال ، للصدوق 2 : 621 حدیث الأربعمائة .
( 3 ) بحار الأنوار 77 : 213 عن کشف المحجة لثمرة المهجة : 157 الفصل 154 - طبع النجف الأشرف .
‹ صفحه 89 ›
الدنیة فإنها تضع الشریف وتهدم المجد ) ( 1 ) .
من هذه الشواهد المنتخبة ، نستطیع القول بأن العقیدة تقدم نصائحها وتوصیاتها القیمة مدعمة بالمعطیات والدلائل المقنعة ، لتشکل جدارا من المنعة یحول دون جنوح الإنسان المسلم إلی هاویة الأخلاق السیئة .

رابعا : أسلوب الأسوة الحسنة :

وهو أحد الأسالیب التربویة للعقیدة ، تربط الأفراد المنتسبین إلیها برموزها ، لکونهم التجسید المثالی أو الکامل لتوجهاتها ، وهم المنارة التی تبعث أنوارها ، وعلیه فهی تحث الأفراد علی الاقتداء بهم بغیة التأثر بأخلاقهم والتزود من علومهم .
قال تعالی : * ( لقد کان لکم فی رسول الله أسوة حسنة . . ) * ( 2 ) . لأن سیرة الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) هی التجسید الواقعی الکامل للرسالة ، ولما کان الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) - کما وصفه القرآن الکریم - یمثل قمة فی مکارم الأخلاق : * ( وإنک لعلی خلق عظیم ) * ( 3 ) توجب علی المسلمین أن یدرسوا أخلاقه ویهتدوا بسنته ما استطاعوا إلی ذلک سبیلا .
کان رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) یستمد خلقه من الله تعالی ومن کتابه الکریم ، قال تعالی : * ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلین ) * ( 4 ) .
وروی أنه لما نزلت هذه الآیة الجامعة لمکارم الأخلاق ، سأل
---------------
( 1 ) بحار الأنوار 78 : 53 عن الغرر والدرر ، للآمدی .
( 2 ) الأحزاب 33 : 21 .
( 3 ) القلم 68 : 4 .
( 4 ) الأعراف 7 : 199 .
‹ صفحه 90 ›
الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) جبرئیل ( علیه السلام ) عن ذلک فقال : ( لا أدری حتی أسأل العالم ثم أتاه فقال : یا محمد إن الله یأمرک أن تعفو عمن ظلمک وتعطی من حرمک وتصل من قطعک ) ( 1 ) .
لقد دعا الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) إلی التحلی بمکارم الأخلاق کالتواضع والجود والأمانة والحیاء والوفاء . . . وما إلی ذلک ، کما نهی عن مساوئ الأخلاق کالبخل والحرص والغدر والخیانة والغرور والکذب والحسد والغیبة .
وهکذا جهد لتقویم کل خلق شائن ، والشواهد کثیرة ، لا یسع المجال لها ، قال الإمام علی ( علیه السلام ) : ( ولقد کان ( صلی الله علیه وآله وسلم ) یأکل علی الأرض ، ویجلس جلسة العبد ، ویخصف بیده نعله ، ویرقع بیده ثوبه ) ( 2 ) .
فالرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) وهو الرمز الأکبر للعقیدة الإسلامیة ، یحرص أشد الحرص علی هدایة الناس إلی سواء السبیل ، لأن عملیة البناء الحضاری للإنسان تصبح عبثا لا طائل تحته من دون عملیة التوجیه والهدایة . وأهل البیت ( علیهم السلام ) هم نجوم الهدایة الأبدیة لهذه الأمة ، قال أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) :
( . . ألا إن مثل آل محمد ( صلی الله علیه وآله وسلم ) کمثل نجوم السماء إذا خوی نجم طلع نجم . . ) ( 3 ) .
والهدایة - بلا شک ولا شبهة تستلزم النجاة - هی الغایة المنشودة للإنسان المسلم ، ومن هنا یکمن المعنی العمیق ، والتشبیه البلیغ ، فی حدیث الرسول الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : ( إنما مثل أهل بیتی فیکم کمثل سفینة نوح من رکبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بیتی فیکم مثل باب
---------------
( 1 ) مجمع البیان ، للطبرسی 3 : 89 - منشورات مکتبة الحیاة عام 1980 م .
( 2 ) نهج البلاغة ، صبحی الصالح : 228 / خطبة 160 .
( 3 ) شرح نهج البلاغة ، لابن أبی الحدید 7 : 84 .
‹ صفحه 91 ›
حطة فی بنی إسرائیل من دخله غفر له ) ( 1 ) .
وصفوة القول ، إن لأهل البیت ( علیهم السلام ) دورا کبیرا فی بناء الإنسان المسلم ، وإنقاذه من شتی أنواع الانحدار والضلال ولیصل به إلی شاطئ النجاة .
قال أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : ( انظروا أهل بیت نبیکم ، فالزموا سمتهم ، واتبعوا أثرهم ، فلن یخرجوکم من هدی ، ولن یعیدوکم فی ردی . . ) ( 2 ) ، وقال ( علیه السلام ) أیضا : ( نحن النمرقة الوسطی بها یلحق التالی وإلیها یرجع الغالی ) ( 3 ) .
ولقد سار الأئمة الأطهار ( علیهم السلام ) علی نهج النبی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) وسنته ، فقاموا بدور حضاری مشهود فی إشاعة وترسیخ الأخلاق الفاضلة ، والردع عن الأخلاق الذمیمة ، وکانوا یرکزون علی الجوهر بدلا من المظهر ، ویعتبرون تحلیة الجوانح بالأخلاق الفاضلة أفضل وأولی من تحلیة الجوارح بالملابس الفاخرة ، فأصبح سلوکهم لنا أسوة ومواقفهم قدوة ، فعن الإمام الصادق ( علیه السلام ) : ( خطب علی ( علیه السلام ) الناس وعلیه إزار کرباس غلیظ ، مرقوع بصوف ، فقیل له فی ذلک ، فقال : یخشع القلب ، ویقتدی به المؤمن ) ( 4 ) .
والباحث یجد أن قضیة الأخلاق قد احتلت مساحة کبیرة من آثار أهل البیت ( علیهم السلام ) کنهج البلاغة والصحیفة السجادیة وغیرهما لما لهذه القضیة الجوهریة من دور مهم فی البناء التربوی للإنسان المسلم ، عن جراح
---------------
( 1 ) المراجعات ، للسید عبد الحسین شرف الدین : 23 المراجعة الثامنة ، وفی هامش ( 37 ) أخرجه
الطبرانی فی الأوسط عن أبی سعید .
( 2 ) شرح النهج ، لابن أبی الحدید 7 : 76 .
( 3 ) شرح النهج 18 : 273 .
( 4 ) مکارم الأخلاق ، للطبرسی : 113 .
‹ صفحه 92 ›
المدائنی أنه قال : قال لی أبو عبد الله ( علیه السلام ) : ( ألا أحدثک بمکارم الأخلاق ؟
الصفح عن الناس ، ومواساة الرجل أخاه فی ماله ، وذکر الله کثیرا ) ( 1 ) . وفی الوقت الذی یردع فیه آل البیت ( علیهم السلام ) کل انحراف أخلاقی ، فإنهم یسترون علی الناس معائبهم ، ولا یستغلون ذلک ذریعة للتشهیر بهم والنیل منهم ، فمن کتاب أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) للأشتر لما ولاه مصر : ( ولیکن أبعد رعیتک منک ، وأشنأهم عندک ، أطلبهم لمعائب الناس ، فإن فی الناس عیوبا ، الوالی أحق من سترها ، فلا تکشفن عما غاب عنک منها ، فإنما علیک تطهیر ما ظهر لک . . فاستر العورة ما استطعت . . ) ( 2 ) .
وکانوا یتبعون أسلوب الحکمة والموعظة الحسنة ، فعن الحسین بن علی ( علیهما السلام ) أنه قال لرجل اغتاب رجلا : ( یا هذا کف عن الغیبة فإنها أدام کلاب النار ) ( 3 ) .
وقال رجل للإمام علی بن الحسین ( علیهما السلام ) : إن فلانا ینسبک إلی أنک ضال مبتدع ، فقال له الإمام ( علیهما السلام ) : ( ما رعیت حق مجالسة الرجل ، حیث نقلت إلینا حدیثه ، ولا أدیت حقی حیث أبلغتنی من أخی ما لست أعلمه ! . . واعلم أن من أکثر عیوب الناس شهد علیه الإکثار ، أنه إنما یطلبها بقدر ما فیه ) ( 4 ) .
وکان من دعائه ( علیه السلام ) : ( اللهم إنی أعوذ بک من هیجان الحرص وسورة الغضب وغلبة الحسد وضعف الصبر وقلة القناعة وشکاسة الخلق . . ) ( 5 ) .
---------------
( 1 ) معانی الأخبار ، للصدوق : 191 .
( 2 ) نهج البلاغة ، ضبط صبحی الصالح : 429 کتاب 53 .
( 3 ) تحف العقول : 176 - مؤسسة الأعلمی ط 5 .
( 4 ) الاحتجاج ، للطبرسی 1 - 2 : 315 - مؤسسة الأعلمی ط 1401 ه.
( 5 ) الصحیفة السجادیة الجامعة : 69 - مؤسسة الإمام المهدی ( عج ) - قم ط 1 .
‹ صفحه 93 ›
وهذا الموقف التربوی العجیب :
لیس الاقتداء وقفا علی میدان الخلق الفردی والاجتماعی ، بل له أفق واسع سعة آفاق الحیاة ، فکم سیتعلم الحکاء والساسة من دروس صانعی التاریخ ومهندسی الفکر ! لننظر فی هذا الحدث - الذی قد یبدو صغیرا - فی تاریخ أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) ، متطلعین إلی ما یعکسه من صورة القائد القدوة والإمام الأسوة ، وإلی ما یمکن أن نستلهم منه فی جوانب حیاتنا ، فردیة کانت ، أو اجتماعیة :
قام أعرابی یوم الجمل إلی أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) فقال : یا أمیر المؤمنین أتقول أن الله واحد ؟
قال : فحمل الناس علیه وقالوا : یا أعرابی أما تری ما فیه أمیر المؤمنین
من تقسم القلب ؟ !
فقال أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : ( دعوه فإن الذی یریده الأعرابی هو الذی نریده من القوم ! )
ثم قال ( علیه السلام ) : ( یا أعرابی إن القول فی أن الله واحد علی أربعة أقسام ، فوجهان منها لا یجوزان علی الله عز وجل ، ووجهان منها یثبتان فیه . فأما اللذان لا یجوزان علیه فقول القائل : واحد ، یقصد به باب الاعداد ، فهذا ما لا یجوز ، لأن ما لا ثانی له لا یدخل فی باب الأعداد ، أما تری أنه کفر من قال : إنه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس یرید به النوع من الجنس ، فهذا ما لا یجوز لأنه تشبیه ، وجل ربنا وتعالی عن ذلک .
وأما الوجهان الذی یثبتان فیه : فقول القائل : هو واحد لیس له فی الأشیاء شبه کذلک ربنا . وقول القائل : إنه عز وجل أحدی المعنی یعنی به أنه لا ینقسم
‹ صفحه 94 ›
فی وجود ولا عقل ولا وهم ، کذلک ربنا عز وجل ) ( 1 ) .
وکنظرة مقارنة ، کم یکون البون شاسعا بین ما فعله الإمام علی ( علیه السلام ) مع الأعرابی ، مع ما فیه ( علیه السلام ) من تقسم القلب ، کما وصفه أصحابه ، نتیجة للفتنة التی عصفت بالمسلمین فی الجمل ، وبین ما فعله عمر بن الخطاب مع الأصبغ بن عسل حین سأله عن متشابه القرآن ، مع أن عمر کان یعیش مطمئنا فی المدینة ، نقل ابن حجر ، أنه قدم المدینة علی عهد عمر بن الخطاب رجل یدعی الأصبغ بن عسل ، سأله عن متشابه القرآن ، فأرسل إلیه عمر وضربه بدرته حتی أدمی رأسه ، وأسقط عطاءه ، ونهی عن مجالسته - ثم - قرر نفیه إلی البصرة ، وکتب إلی عامله علیها ، أبو موسی الأشعری : ( أما بعد فإن الأصبغ تکلف ما کفی وضیع ما ولی ، فإذا جاء کتابی فلا تبایعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهده ) ( 2 ) .
أهل البیت ( علیهم السلام ) الأسوة بعد النبی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : أهل البیت ( علیهم السلام ) هم أحد الثقلین الذین أوصی الرسول ( صلی الله علیه وآله وسلم ) أبناء أمته بالتمسک بهما ، والسیر علی خطاهما : ( إنی قد ترکت فیکم الثقلین ، ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدی أبدا ، کتاب الله حبل متین ممدود من السماء إلی الأرض ، وعترتی أهل بیتی ، ألا وإنهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض ) ( 3 ) .
----------------
(
1 ) کتاب الخصال ، للشیخ الصدوق : 2 / باب الواحد طبع جماعة المدرسین - قم . ومعانی الأخبار : 5
/ باب معنی الواحد .
( 2 ) الإصابة فی تمییز الصحابة ، لابن حجر العسقلانی 2 : 198 - دار إحیاء التراث العربی ط 1 عام
1328 ه.
( 3 ) بحار الأنوار 23 : 106 . کنز العمال 1 : 172 ( وللحدیث طرق مختلفة عن الفریقین ) .
‹ صفحه 95 ›

الخلاصة

إن العقیدة الإسلامیة هی القاعدة المرکزیة فی التفکیر الإسلامی ، التی تصوغ للإنسان المسلم نظرته التوحیدیة للکون والحیاة ، وتنتج له مفاهیم صالحة تعکس وجهة نظر الإسلام فی شتی المجالات ، کما تنتج له عواطف وأحاسیس خیرة .
فالعقیدة تمثل عنصر القوة ، وهی التی صنعت المعجزات وحققت الانتصارات الکبری فی صدر الإسلام .
ولأجل النهوض بالإنسان المسلم لا بد من تذکیره بالمعطیات الحضاریة التی منحتها العقیدة لمن سبقه ، وترسیخ قناعته بصوابیتها وصلاحیتها لجمیع العصور .
ویمکننا إیجاز الدور الهام الذی قامت به العقیدة من أجل بناء الإنسان علی جمیع الأصعدة بما یلی :
1 - علی الصعید الفکری :
اعتبرت الإنسان موجودا مکرما ، أما الخطیئة التی قد یقع فیها فهی أمر طارئ یمکن معالجته بالتوبة ، وبذلک أشعرت الإنسان بقدرته علی الارتقاء ، ولم تؤیسه من رحمة الله وعفوه ، ثم أن العقیدة حررت الإنسان من الاستبداد السیاسی للحکام الوضعیین الظالمین ، کما حررته من عادة تألیه البشر ، وأطلقت حریته ، ولکن ضبطتها بقیود الشرع حتی لا تؤدی إلی الفوضی ، کما ربطت الحریة
‹ صفحه 96 ›
الإنسانیة بالعبودیة لله وحده ، والخضوع الواعی والطوعی لسلطته .
کما حررت الإنسان من شهوات نفسه ومن عبادة مظاهر الطبیعة من حوله ، ومن الأساطیر والخرافات فی الاعتقاد والسلوک .
ومن خلال عملیة تحریر الفکر ، قامت بعملیة البناء ، فأعطت مکانة کبیرة للعقل واعترفت بدوره وفتحت أمامه آفاقا معرفیة واسعة ، کما فتحت أمامه نافذة الغیب ، وأطلقته من أسر دائرة الحس الضیقة ، ووجهت طاقته الخلاقة للتأمل والاعتبار فی آیات الله الآفاقیة والأنفسیة ، وجعلت من تفکره هذا عبادة هی من أفضل العبادات .
ولم تقتصر علی ذلک بل وجهت طاقة العقل لاکتشاف السنن التاریخیة الحاکمة علی الأمم والشعوب ، کما وجهت العقل للنظر فی حکمة التشریع لترصین قناعة المسلم بشریعته وصلاحیتها لکل زمان ومکان .
من جهة أخری دفعت العقیدة الإنسان إلی کسب العلم والمعرفة ، وربطت بین العلم والإیمان ، فکل تفکیک بینهما سوف یؤدی إلی عواقب وخیمة ، کما وجهت العقل للنظر المستقل والملاحظة الواعیة واستنباط النتائج من مقدمات یقینیة ، ودعته إلی عدم التقلید فی أصول الدین .
2 - علی الصعید الاجتماعی :
قامت العقیدة بدور تغییری کبیر ، فبینما کان فکر الإنسان الجاهلی منصبا حول ذاته ومصالحها ، غدا بتفاعله مع إکسیر العقیدة یضحی بالغالی والنفیس فی سبیل مبادئ دینه ومصالح مجتمعه .
وأزالت العقیدة التناقض القائم بین الدوافع الذاتیة المتمثلة بحرص الإنسان علی مصالحه وبین مصالح الجماعة من خلال إثارتها للشعور الاجتماعی للفرد نحو الآخرین .
‹ صفحه 97 ›
وقد نمت العقیدة هذا الشعور بأسالیب عدة منها : إیقاظ حس الشعور بالمسؤولیة تجاه الآخرین ، وتنمیة روح التضحیة والإیثار لدی الفرد المسلم ، ودفعه للانصباب فی قالب الجماعة .
من جهة أخری ، قامت العقیدة بتغییر الروابط الاجتماعیة بین الأفراد ، من روابط تقوم علی أساس العصبیة للقرابة ، أو علی أساس اللون أو المال أو الجنس ، إلی روابط أسمی تقوم علی أسس معنویة هی التقوی والفضیلة والأخاء الإنسانی .
ونقلت العقیدة الأفراد من حالة التناقض والصراع إلی حالة التعارف والتعاون ، فشکلوا أمة واحدة مرهوبة الجانب بعد أن کانوا قبائل وجماعات متفرقة ومتناحرة ، لا تقیم لهم الأمم وزنا .
أضف إلی ذلک أن العقیدة الإسلامیة قد قامت بتغییر العادات والتقالید الجاهلیة التی تسئ لکرامة الإنسان وتسبب له العنت والمشقة .
3 - علی الصعید النفسی :
أسهمت العقیدة فی خلق طمأنینة وأمان للإنسان ، مهما کانت عواصف الأحداث من حوله .
وقد اتبعت وسائل عدیدة لتخفیف المصائب التی تواجه الإنسان علی حین غرة ، ومن تلک الوسائل : بیان طبیعة الدنیا ، وأنها دار محن واختبار ، ملیئة بتیارات المصائب التی تهب علی الإنسان کریح السموم ، وعلیه فمن المستحیل علی الإنسان أن یطلب الراحة والسکینة فیها . وعلیه أن یضع نصب عینه النجاح فی هذا الامتحان الإلهی فی الدنیا التی هی دار تکلیف .
ولقد خففت العقیدة من وطأة المصائب عبر التأکید علی أنها تستتبع أجرا وثوابا ، کما وجهت نظر الإنسان للمصیبة العظمی وهی المصیبة فی الدین ، الأمر الذی یخفف من وقع المصائب الدنیویة الصغیرة .
‹ صفحه 98 ›
من جانب آخر ، حررت العقیدة النفوس من المخاوف التی تشل نشاط الإنسان وتکبت طاقته وتجعله نهبا لعوامل القلق والحیرة کما شجعت العقیدة الإنسان إلی معرفة نفسه ، فبدون هذه المعرفة للنفس یصبح من الصعوبة بمکان السیطرة علیها وکبح جماحها ، ثم بدون معرفة النفس لا یمکن معرفة الله تعالی حق معرفته .
ومن خلال البحث استنتجنا بأن الأمراض النفسیة الخطیرة کالعصبیة والشح والأثرة إذا لم تعالج فإنها ستؤدی إلی عواقب اجتماعیة وسیاسیة خطیرة ، کتلک الفتنة التی عصفت بالمسلمین فی السقیفة ، التی بین الإمام علی ( علیه السلام ) جذورها النفسیة .
4 - علی الصعید الأخلاقی :
قامت العقیدة بدور خلاق فی بناء منظومة الأخلاق للفرد المسلم ، وفق أسس دینیة تستتبع ثوابا أو عقابا ، ولیس مجرد توصیات إرشادیة لا تتضمن المسؤولیة ، علی العکس من القوانین الوضعیة ، التی أزالت شعور رقابة الله والمسؤولیة أمامه من نفس الفرد ، وبذلک نسخت رکیزة الأخلاق ، فالأخلاق بدون الإیمان تفقد ضمانات الالتزام بها .
والملاحظ أن العقیدة اتبعت أسالیب عدة لدفع الأفراد للتحلی بالأخلاق الحسنة وتجنب الأخلاق السیئة منها :
إبراز المعطیات الأخرویة وأیضا الدنیویة المترتبة علی الأخلاق الحسنة أو السیئة .
کما اتبعت أسلوب " الأسوة الحسنة " لتربط الأفراد برموز العقیدة ومرشدیها بغیة التأثر بمحاسن أخلاقهم والتأسی بسیرتهم .

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.