سرشناسه : امینی، عبدالحسین، 1281 - 1349.
عنوان و نام پديدآور : نظره فی کتاب الصراع بین الاسلام و الوثنیه: لعبدالله علی القصیمی/ تالیف: الامینی.
مشخصات نشر : مشعر، 13.
مشخصات ظاهری : 123ص.؛ 12×16 س م.
فروست : ...فیض الغدیر؛ 8.
وضعیت فهرست نویسی : فهرست نویسی توصیفی
يادداشت : عربی.
یادداشت : کتابنامه: ص. 121 - 123؛ همچنین به صورت زیرنویس.
شماره کتابشناسی ملی : 1831653
ص:1
ص:2
ص:3
ص:4
ص:5
ص:6
ص:7
كتاب يتجدّد أثره ويتعاظم كلّما ازداد به الناس معرفة، ويمتدّ في الآفاقصيته كلّما غاص الباحثون في أعماقه وجلّوا أسراره وثوّروا كامن كنوزه ... إنّه العمل الموسوعي الكبير الّذي يعدّ بحقّ موسوعة جامعة لجواهر البحوث في شتّى ميادين العلوم: من تفسير، وحديث، وتاريخ، وأدب، وعقيدة، وكلام، وفرق، ومذاهب ...
جمع ذلك كلّه بمستوى التخصّص العلمي الرفيع وفيصياغة الأديب الذي خاطب جميع القرّاء، فلم يبخس قارئاً حظّه ولا انحدر بمستوى البحث العلمي عن حقّه.
ونظراً لما انطوت عليه أجزاؤه الأحد عشر من ذخائر هامة، لا غنى لطالب المعرفة عنها، وتيسيراً لاغتنام فوائدها، فقد تبنّينا استلال جملة من المباحث الاعتقادية وما لهاصلة بردّ الشبهات المثارة ضدّ مذهب أهل البيت عليهم السلام، لطباعتها ونشرها مستقلّة، وذلك بعد تحقيقها وتخريج مصادرها وفقاً للمناهج الحديثة في التحقيق.
ص:8
الحمدُ للَّه ربّ العالمين، وبارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد المصطفى، وآله الطيّبين الطاهرين.
وبعد،
إنّ من الحقوق المحفوظة والمُتسالم عليها بين أبناء البشر، هو حقّ الدفاع عن العقائد والمذاهب والأفكار التي تتبناها المجتمعات البشرية، دنيوية كانت أم أُخروية، دينية أم سياسية، محلّية كانت هذه العقائد أم عالمية.
ص:9
لذا نجد ومنذُ نشوء الخلقة الأُولى للبشر، ظهور مدافعين ومحامين عن الآراء والأيديولجية التي يتبنوها، يحصل كلّ ذلك بشكل عقلائي ومؤدّب، مُبتنى على أُسسٍ منطقيّة مُتعارفة عند الكلاميين.
لكنك تجد بين الحين والآخر ظهور أشخاصٍ نصبوا أنفسهم- بغير حقٍ- للدفاع عن العقائد والمفاهيم، لا يعتمدون في محاوراتهم على ما يعتمد عليه العقلاء، بل يعمدون إلى تزوير الحقائق، والكذب والبهتان على مَنْ يُخالفهم، ويتمسكون بأقوال المعتوهين، ويؤمنون بالخرافات والقصص الخيالية التي تحيكها العجائز.
ومن أُولئك الأشخاص المدعو عبد اللَّه القصيمي، حيث ألّف كتاباً سماه «الصراع بين الإسلام والوثنية»، ملأهُ بأكاذيبٍ وتُهم باطلة نسبها إلى الإمامية الاثني عشرية أتباع أهل بيت النبيصلى الله عليه و آله.
والعجب من هذا الرجل أنّه يتمسك بخرافات وأوهام لا وجود لها، اصطنعها بنفسه، أو أخذها من سيّده ابن تيمية، منها قصة «بيان» و «كسف» وحديث الشاة والكبشين، حيث يدّعي أنّ شخصاً من الشيعة الإمامية اسمه بيان كان يدّعي أنّ اللَّه عناه بقوله:
«وهذا بيان للناس»، وآخر اسمه كسف وأنّ اللَّه عناه بقوله: «وإن يروا كسفاً من السماء»، وأنّ الإمامية تأتي بشاة ينتفون شعرها
ص:10
ويعذّبونها أفانين العذاب على أنّها عائشة زوج النبيصلى الله عليه و آله، ويأتون بكبشين وينتفون أشعارهما ويعذّبونهما ألوان العذاب على أنّهما أبوبكر وعمر!!!
ولم يكتفِ القصيمي بذلك حتى اتّهم الإمامية بأُمور يعلم الجميع أنّها غيرصحيحة ومخالفة للواقع، ويستطيع أي شخص ملاحظتها عند تجواله في المدن الشيعية.
منها: أنّ الشيعة لا يرفعون بكتاب اللَّه رأساً، وذلك أنّه يقل جداً أن يستشهدوا بآية من القرآن فتأتيصحيحة غير ملحونة مغلوطة، ولا يوجد منهم مَن يحفظ القرآن، ويندر جداً أن يوجد بينهم المصاحف، وأنهم لا يعتمدون في دينهم على الأخبار النبوية الصحيحة!!!
أليس هذا كذباًصريحاً؟!!
ومنها: أنّ الإمامية تمقت العرب والأُمّة العربية، وأنهم فرحوا بانتصار الروس على الدولة العثمانية!!
باللَّه عليك متى حصل هذا وفي أي مكان؟!!
وذهب القصيمي إلى أبعد من ذلك فأنكر أحاديثاً رواها أبناء السُّنة أيضاً، كحديث أنّ علياً قسيم الجنة والنار، وحديث علي في السحاب. لكنّه شوّه هذه الأحاديث وغيّرها وأتى بها بشكلٍ لا
ص:11
يُلائم مقصده من الكذب والبهتان!!
أيتصور القصيمي أنّ الناس لا يقرأون ولا يُنقّبون ولا يعرفون الحقيقة، ولا يوجد في أتباع أهل البيت عليهم السلام مَن يُنبّه الناس إلى أغاليطه؟!!
وتجرّأ القصيمي على أئمة أهل البيت عليهم السلام، أبناء النبيصلى الله عليه و آله و سلم، الذي أوصى بهم بقوله: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه، وعترتي أهل بيتي»، حيث نسب إليهم أشياء هم وشيعتهم منها براء، فقال: إنّ الإمامية يعتقدون في أئمتهم أنهم يُشاركون اللَّه في علم الغيب، وأنّهم محرّمون على النار، وأنّهم قائلون في علي وبنيه عليهم السلام قول النصارى في عيسى بن مريم من القول بالحلول والتقديس والمعجزات.
وقد تصدّى للردّ عليه وعلى أمثاله من أتباع الأفكار الأموية، مجموعة من العلماء والفضلاء، منهم العلّامة الأميني رضوان اللَّه تعالى عليه، وذلك في المجلّد الثالث والخامس من موسوعته الكبيرة «الغدير».
ولمّا شاء اللَّه أن تُفرز هذه الردود وتُطبع بشكل مُستقل، قمتُ بمراجعة هذا البحث وإعداده للطبع، فصحّحتُ النصّ، وخرّجتُ مالم يُخرّجه العلّامة الأميني من بعض المصادر لعدم توفّرها لديه، وحوّلتُ بعض التخريجات من الطبعات الحجرية القديمة إلى
ص:12
الحروفية الحديثة، وبيّنتُ الموارد التي أحالها العلّامة الأميني إلى أجزاء أُخرى من كتابه.
محمّد الحسّون
29صفر 1417 ه
ص:13
لعلّ في نفس هذا الإسم دلالة واضحة على نفسيات مؤلّفة وروحياته، وما أودعه في الكتاب من الخزايا، فأوّل جنايته على المسلمين عامة تسميته بالوثنية أُمماً من المسلمين يُعدّ كلّ منها بالملايين، وفيهم الأئمة والقادة، والعلماء والحكماء، والمُفسرّون والحُفّاظ و الأدلّاء على دين اللَّه الخالص، وفي مقدّمهم أُمّة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
فهل ترى هذه التسمية تَدع بين المسلمين أُلفة؟
ص:14
و تَذَر فيهم وِئاما؟ وتُبقي بينهم مودّة؟ وهل تجد لو اطّردت أمثالها كلمة جامعة تتفّيأ الأُمّة بظلّها الوارف؟ نعم هي التي تبذر بين الملأ الديني بذور الفُرقة، وتبثّ فيهم روح النفرة، تتضارب من جرّائها الآراء، وتتباين الفِكر، وربّما انقلب الجدال جلاداً، كفى اللَّه المسلمين شرّها.
فإلى الدعة والسلام، وإلى الاخاء والوحدة أيها المسلمون جميعاً من غير اكتراث لصخب هذا المُعكرّ للصفو، والمُقلق للسلام، «إنّما يُريد الشيطان أن يوقعَ بينكم العداوةَ والبغضاء» «(1)»
، «لاتتّبعوا خطواتَ الشيطان» «(2)»
، «ومَنْ يتّبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاءِ والمنكر» «(3)».
وأمّا ما في الكتاب من السباب المُقذع، والتهتّك، والقذائف، والطامات، والأكاذيب، والنسب المفتعلة، فلعلّها تربو على عددصفحاته البالغة 1600، وإليك نماذج منها:
ص:15
1- قال: من الظرائف أنّ شيخاً من الشيعة اسمه (بيان)، كان يزعم أنَ اللَّه يعنيه بقوله: «هذا بيانٌ لِلنّاسِ» «(1)»
، وكان آخر منهم يلقّب ب (الكسف)، فزعم هو، وزعم له أنصاره انَّه المعنيّ بقوله اللَّه:
«وإن يروا كسفاً مِنَ السّماءِ» «(2)»
، الآية.ص «ع» و «538».
ج- إنْ هي إلَّاأساطير الأوَّلين، التي اكتتبها قلم ابن قُتيبة في تأويل مختلف الحديثص 87 «(3)»، وإن هي إلَّامِن الفِرق المفتعلة التي لم يكن لها وجودٌ وما وُجدت بعد، وإنّما اختلقتها الأوهام الطائشة، ونَسبَتها إلى الشيعة أَلْسِنَةُ حملةِ العصبيَّة العَمياء، نُظراء ابن قُتيبة والجاحظ والخيّاط، ممّن شُوِّهتصحائف تآليفهم بالإفك الفاحش، وعرَّفهم التأريخ للمجتمع بالإختلاق والقول المُزوَّر، فجاء القصيمي بعد مضيّ عشرة قرون على تلك التافهات والنسب المكذوبة يُجدِّدها ويَرِدُّ بها على الإماميَّة اليوم، ويتَّبع الذين قد «ضلّوا من قبلُ وأضلّوا كثيراً و ضلّوا عن سواءِ السبيل» «(4)»
، فذرهم و ما يفترون.
ص:16
هب أنَّ للرجلين (بيان وكسف) وجوداً خارجيّاً و معتقداً، كما يزعمه القائل، وأنَّهما من الشيعة- وأنّى له بإثبات شي ءٍ منها- فهل في شريعة الحِجاج، وناموس النصفة، وميزان العدل، نقد أُمَّة كبيرةٍ بمقالة معتوهين يُشكُّ في وجودهما أوَّلًا، وفي مذهبهما ثانياً، وفي مقالتهما ثالثاً!
2- قال: ذكر الأمير الجليل شكيب أرسلان في كتاب حاضر العالم الإسلامي «(1)»: إنَّه التقى بأحد رجال الشيعة المثقَّفين البارزين، فكان هذا الشيعيُّ يمقت العرب أشدَّ المقت، ويزري بهم أيّما ازراء، ويغلو في عليِّ بن أبي طالب وولده غلّواً يأباه الإسلام والعقل، فعجب الأمير الجليل لأمره، وسأله كيف تجمع بين مقت العرب هذا المقت وحبّ عليٍّ ووُلده هذا الحبّ؟ وهل عليٌّ وولده إلّامن ذروة العرب وسنامها الأشمّ؟ فانقلب الشيعيُّ ناصبيّاً واهتاج، وأصبح خصماً لعليّ وبنيه، وقال ألفاظاً في الإسلام والعرب مستكرهة.ص 14.
ص:17
ج- هذا النقل الخرافيُّ يُسفُّ بأمير البيان إلى حضيض الجهل والضعة، حيث حكم بثقافة إنسان وبروزه والى إناساً وغلا في حبّهم ردحاً من الزمن وهو لا يعرف عنصرهم، أو كان يَحسب أنّهم من الترك أو الديلم.
وهل تجد في المسلمين جاهلًا لا يعرف أنَّ محمّدَّ وآلهصلوات اللَّه عليه وعليهم من ذروة العرب وسنامها الأشمّ؟ وقد منَّ عليه الأمير حيث لم يُخبره بأنَّ مُشرِّف العترة الرَّسول الأعظم هو المحبتي على تلك الذَّروة وذلك السنام؛ لئلّا يرتدَّ المثقّف إلى المجوسيَّة، ولا أرى سرعة انقلاب المثقَّف البارز إلّامعجزة للأمير في القرن العشرين، لا القرن الرابع عشر.
هذا عند مَن يُصدِّق القصيمي «المُصارع» في نقله، وأمّا المُراجع كتاب الأمير حاضر العالم الإسلامي فيجد في الجزء الأوَّلص 164 ما نصّه:
كنتُ أُحادث إحدى المرار رجلًا من فضلائهم- يعني الشيعة- ومن ذوي المناصب العالية في الدولة الفارسّية، فوصلنا في البحث إلى قضيّة العرب والعجم، و كان محدِّثي على جانب عظيم من الغلوِّ في التشيّع، إلى حدّ أنّي رأيت له كتاباً مطبوعاً مصدَّراً بجملة (هو العليُّ الغالب) فقلت في نفسي: لاشكَّ أنَّ هذا الرَّجل لشدَّة غلوِّه في آل البيت، ولعلمه أنّهم من العرب، لا يمكنه أن يكره العرب الذِّين
ص:18
آل البيت منهم، لأنّه يستحيل الجمع بين البغض والحبِّ في مكان واحدٍ، «ما جعل اللَّه لرجلٍ مِن قلبين في جوفهِ» «(1)».
ولقد أخطأ ظنّي في هذا أيضاً، فإنّي عندما سقت الحديث إلى مسألة العربيّة والعجميّة وجدته انقلب عجميّاًصرفاً، ونسي ذلك الغلوّ كلّه في عليّ عليه السلام وآله، بل قال لي هكذا وكان يحدِّثني بالتركيّة:
(ايران بر حكومت إسلاميّة دكلدر يالكزدين إسلامي اتخاذ ايتمش بر حكومتدر)، أي ايران ليست بحكومة إسلاميّة، وأنّما هي حكومةٌ اتخذتِ لنفسها دين الإسلام.
إقرأ واعجب من تحريف الكلم عن مواضعه، هكذا يفعل القصيميُّ بكلمات قومه، فكيف بما خطتّه يد مَن يُضادُّه في المبدأ.
والقارئ جِدُّ عليم بأنّ الأمير شكيب أرسلان قد غلط أيضاً في فهم ماصدَّر الشيعيُّ الفاضل به كتابه من جملة (هو العليُّ الغالب)، وإتّخاذه دليلًا على الغلوِّ في التشيّع، فإنّها كلمةٌ مطّردة تُكتب وتُقال كقولهم: هو الواحدُ الأحد، وما يجري مجراه، تُقصد بها أسماء اللَّه الحسنى، وهي كالبسملة في التيمّن بافتتاح القول بها.
وأنت لا تجد في الشيعة مَن يبغض العروبة، وهو يعتنق ديناً عربيّاًصدع به عربيّصميمٌ، وجاء بكتاب عربيِّ مبينٍ وفي طيِّه:
ص:19
«أأعجميٌّ وعربيّ» «(1)»
، وقد خلّفه على أمر الدين والأُمّة سادات العرب، ولا يستنبط أحكام الدين إلّابالمأثورات العربيّة عن أُولئك الأئمّة الطاهرينصلوات اللَّه عليهم، المنتهية علومهم إلى مؤسِّس الدعوة الإسلاميِّةصلى الله عليه و آله، وهو يدعو اللَّه في آناء الليل وأطراف النّهار بالأدعية المأثورة عنهم بلغة الضاد، ويطبع وينشر آلافاً من الكتب العربيَّة في فنونها، فالشيعيُّ عربيُّ في دينه، عربيٌّ في هواه، عربيٌّ في مذهبه، عربيٌّ في نزعته، عربيٌّ في ولائه، عربيٌّ في خلايقه، عربيٌّ عربيٌّ عربيٌّ ....
نعم يبغض الشيعيُّ زعانفةً بخسوا حقوق اللَّه، وضعضعوا أركان النبوَّة، وظلموا أئمَّة الدين، واضطهدوا العترة الطاهرة، وخانوا على العروبة، عُرباً كانوا أو أعاجم، وهذه العقيدة شرعٌ سواءٌ فيها الشيعيٌ العربيُّ والعجميٌ.
ولكن شاء الهوى، ودفعت الضغائن أصحابه إلى تلقين الأُمَّة بأنَّ التشيّع نزعةٌ فارسيَّةٌ، والشيعيُّ الفارسيُّ يمقت العرب؛ شقاً للعصا، وتفريقاً لِلكَلم، وتمزيقاً لجمع الأُمَّة، وأنا أرى أنَّ القصيمي والأمير قبله في كلمات أُخرى يريدان ذلك كلِّه، و: «ما أُريكم إلّاما أرى وما أهديكم إلّاسبيل الرَّشاد» «(2)».
ص:20
3- قال: إنّ الشيعة في ايران نصبوا أقواس النصر، ورفعوا أعلام السرور والإبتهاج في كلّ مكان من بلادهم لمّا انتصر الروس على الدولة العثمانيَّة في حروبها الأخيرةص 18.
ج- هذه الكلمة مأخوذةٌ من الآلوسي الآنف ذكره، وَذِكْرُ فريتهِ والجواب عنهاص 267 «(1)»، غير أنَّ القصيمي كساها طلاءً
ص:21
مبهوجةً، وكم ترك الأوَّل للآخر.
4- قال: الشيعة قائلون في عليٍّ وبنيه قول النصارى في عيسى بن مريم سواءً مثلًا من القول بالحلول والتقديس والمعجزات، ومن الإستغاثة به وندائه في الضّراء والسرّاء، والإنقطاع إليه رغبةً ورهبةً، ومايدخل في هذا المعنى.
ومَن شاهد مقام عليٍّ أو مقام الحسين أو غيرهما من آل البيت النبوي وغيرهم في النَّجف وكربلاء وغيرهما من بلاد الشيعة وشاهدما يأتونه من ذلك هنالك، علمَ أنَّ ما ذكرناه عنهم دُوين الحقيقة، وأنَّ العبارة لا يمكن أن تفي بما يقع عند ذلك المشاهد من هذه الطائفة، ولأجل هذا فإنَّ هؤلاء لم يزالوا ولن يزالوا من شرِّ الخصوم للتوحيد وأهل التوحيدص 19.
ج- أمّا الغلوُّ بالتأليه والقول بالحلول فليس من معتقد الشيعة، وهذه كتبهم في العقائد طافحةٌ بتكفير القائلين بذلك، والحكم بارتدادهم، والكتب الفقهيَّة بأسرها حاكمةٌ بنجاسة أسآرهم.
وأمّا التقديس والمعجزات فليسا من الغلوِّ في شي ءٍ، فإنَّ القداسة بطهارة المولد، ونزاهة النفس عن المعاصي والذنوب،
ص:22
وطهارة العنصر عن الديانا والمخازي لازمةُ منصَّة الأئمَّة، وشرط الخلافة فيهم كما يُشترط ذلك في النبيِّصلى الله عليه و آله.
وأمّا المعجزات فإنَّها من مثبتات الدعوى، ومتمّات الحجَّة، ويجب ذلك في كلِّ مُدَّع للصّلة بينه وبين ما فوق الطبيعة، نبيّاً كان أو إماماً، ومعجز الإمام في الحقيقة معجزٌ للنبيِّ الذي يخلفّه على دينه وكرامة له، ويجب على المولى سبحانه في باب اللطف أن يُحق دعوى المحقِّ بإجراء الخوارق على يديه، تثبيتاً للقلوب، وإقامةً للحجَّة، حتّى يقرِّبهم إلى الطاعة ويبعِّدهم عن المعصية، لدة ما في مدَّعي النبوَّة من ذلك، كما يجب أيضاً أن ينقض دعوى المبطل إذا تحدّى بتعجيزه، كما يُؤثر عن مسيلمة وأشباهه.
وإنَّ من المفروغ عنه في علم الكلام كرامات الأولياء، وقد برهنت عليها الفلاسفة بما لا معدل عنه ويضيق عنه المقام، فإذاصحَّ ذلك لكلِّ وليٍّ، فلماذا يُعدُّ غلوّاً في حُجج اللَّه على خلقه؟
وكتُب أهل السنَّة وتآليفهم مفعمةٌبكرامات الأولياء، كما أنَّها مُعترفةٌ بكرامات مولانا أمير المؤمنينصلوات اللَّه عليه.
وأمّا الإستغاثة والنداء والإنقطاع وما أشار إليها، فلا تعدو أن تكون توسّلًا بهم إلى المولى سبحانه، واتِّخاذهم وسائل إلى نُجح طلباتهم عنده جلّت عظمته، لقربهم منه، وزلفتهم إليه، ومكانتهم عنده، لأنَّهم عبادٌ مكرمون، لا لأنَّ لذواتهم القدسيَّة دخلًا في
ص:23
إنجاح المقاصد أوَّلًا وبالذّات، لكنَّهم مجاري الفيض، وحلقات الوصل، ووسائط بين المولى وعبيده، كما هو الشأن في كلِّ متقرِّب من عظيم يتُوسَّل به إليه.
وهذا حكمٌ عامٌّ لِلأولياء والصالحين جميعاً، وإن كانوا متفاوتين في مراحل القُرب، كلّ هذا مع العقيدة الثابتة بأنَّه لا مُأثِّر في الوجود إلّااللَّه سبحانه، ولا تقع في المشاهد المقدَّسة كلّها من وفود الزائرين إلّاماذكرناه من التوسّل «(1)».
فأين هذه من مضادَّة التوحيد؟! وأين هؤلاء من الخصومة معه ومع أهله؟! فذرهم وما يفترون «إنَّما يفتري الكذب الَّذين لا يُؤمنون بآياتِ اللَّه وأولئك هُمُ الكاذبون» «(2)».
5- قال: تذهب الشيعة تبعاً للمعتزلة إلى أنكار رؤية اللَّه يوم القيامة، وإنكارصفاته، وإنكار أن يكون خالقاً أفعال العباد، لشبهاتٍ باطلةٍ، وقد جمع
ص:24
العلماء من أهل الحديث والسُنَّة والأثر كالأئمَّة الأربعة على الإيمان بذلك كلِّه، ليس بينهم خلافٌ في أنَّ اللَّه خالقُ كلِّ شي ءٍ حتّى العباد وأفعالهم، ولا في رؤية اللَّه يوم القيامة.
ومن عجب أن تُنكر الشيعة ذلك خوف التشبيه، وهم يقولون بالحلول والتشبيه الصريح، وبتأليه البشر، ووصف اللَّه بصفات النقص، وأهل السُنَّة يعدُّون الشيعة والمعتزلة مُبتدعين غير مُهتدين في جحدهم هذه الصفات 1ص 68.
ج- إنَّ الرَّجل قلّد في ذات اللَّه وصفاته ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيَّم، ومذهبهما في ذلك- كما قال الزرقاني المالكي في شرح المواهبص 12- إثبات الجهة والجسميَّة، وقال: قال المناوي: أمّا كونهما من المبتدعة فمسلّم.
والقصيمي يقدّسهما ورأيهما ويصرِّح بالجهة ويعيِّنها، وله فيها كلماتٌ في طيِّ كتابه، ونحن لا نُناقشه في هذا الرأي الفاسد، ونُحيل الوقوف على فساده إلى الكتب الكلاميَّة من الفريقين، والذي يُهمنّا إيقاف القارئ على كذبه في القول واختلاقه في النسب.
إنَّ الشيعة لم تتَّبع المعتزلة في إنكار رؤية اللَّه يوم القيامة، بل تتّبع برهنة تلك الحقيقة الراهنة من العقل والسمع، وحاشاهم من
ص:25
القول بالحلول، والتشبيه، وتأليه البشر، وتوصيف اللَّه بصفات النقص، وإنكارصفات اللَّه الثابتة له، بل إنَّهم يقولون جمعاء بكفر مَن يعتقد شيئاً من ذلك، راجع كتبهم الكلاميَّة قديماً وحديثاً، وليس في وسع الرجل أن يأتي بشي ءٍ يدلُّ على ماباهتهم، ولعمري لو وجد شيئاً من ذلك لصدح به وصدع.
نعم، تُنكر الشيعة أن تكون للَّه صفاتٌ ثبوتيَّةٌ زائدةٌ على ذاته، وإنَّما هي عينها، فلا يقولون بتعدّد القدماء معه سبحانه، وإنّ لسان حالهم ليُناشد مَن يخالفهم بقوله:
إخواننا الأدنين منّا ارفقوا لقد رقيتم مرتقىصعبا
إن ثلّثت قومٌ أقانيمهم فإنَّكم ثمَّنتمُ الربّا
وللمسألة بحثٌ ضاف مترامي الأطراف تتضمَّنه كتب الكلام.
وأمّا أفعال العباد، فلو كانت مخلوقةٍ للَّه سبحانه خلق تكوينٍ، لبطل الوعد والوعيد والثواب والعقاب، وإنَّ من القبيح تعذيب العاصي على المعصية وهو الَّذي أجبره عليها، وهذه من عويصات مسائل الكلام قد أُفيض القول فيها بمالا مزيد عليه، وإنَّ مَن يقول بخلق الأفعال فقد نسب إليه سبحانه القبيح والظلم غير شاعر بهما، وما استند إليه القصيمي من الإجماع وقول القائلين لا يكاد يجديه نفعاً تجاه البرهنة الدامغة.
وأمّا قذف أهل السنَّة الشيعة والمعتزلة بما قذفوه وعدُّهم من
ص:26
المبتدعين، فإنَّها شنشنةٌ أعرفها من أخزم.
6- قال في عدّ معتقدات الشيعة: وذرِّيَّة النبيِّ جميعاً مُحرَّمون على النّار، معصومون من كلِّ سوء. في الجزء الثانيصحيفة 327 من كتاب منهاج الشريعة، زعم مؤلِّفه: أنّ اللَّه قد حرَّم جميع أولاد فاطمة بنت النبيِّ على النّار، وأنَّ مَن فاته منهم أوَّلًا فلابدَّ أن يوفَّق إليه قبل وفاته. قال: ثمَّ الشفاعة من وراء ذلك.
وقال في أعيان الشيعة الجزء الثالثصفحة 65: إنَّ أولاد النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام لا يُخطئون، ولا يُذنبون، ولا يعصون اللَّه إلى قيام الساعة 2ص 20.
ج- إنَّ الشيعة لم تكس حلّة العصمة إلّاخلفاء رسول اللَّه الإثني عشر من ذرّيته وعترته وبضعته الصِّديقة الطاهرة، بعد أن كساهم اللَّه تعالى تلك الحلّة الضافية بنصِّ آية التطهير «(1)» في خمسةٍ أحدهم نفس النبيِّ الأعظم، وفي البقيَّة بملاك الآية والبراهين العقليَّة المتكثّرة والنصوص المتواترة، وعلى هذا أصفق علماؤهم والأُمّة الشيعيَّة جمعاء في أجيالهم وأدوارهم، وإن كان هناك ما
ص:27
يوهم إطلاقاً أو عموماً، فهو منزَّلٌ على هؤلاء فحسب وإن كان في رجالات أهل البيت غيرهم أولياءصدّيقون أزكياء لا يجترحون السيّئات، إلّاأنَّ الشيعة لا توجب لهم العصمة.
وأمّا ما استند إليه الرَّجل من كلامصاحب منهاج الشريعة فليس فيه أيّ إشارة إلى العصمة، بلصريح القول منه خلافها، لأنَّه يُثبت أنَّ فيهم من تفوته ثمَّ يتدارك بالتوبة قبل وفاته، ثمَّ الشفاعة من وراء ذلك، فرجلٌ يقترف السيّئة، ثمَّ يوفَّق للتوبة عنها، ثمَّ يُعفى عنها بالشفاعة لا يُسمّى معصوماً، بل هذه خاصَّة كلِّ مؤمن يتدارك أمره بالتوبة، وإنَّما الخاصّة بالذريَّة التمكّن من التوبة على أيّ حال.
قال القسطلاني في المواهب، والزرقاني في شرحه 3ص 203:
روي عن ابن مسعود رفعه: «إنَّما سُمِّيت فاطمة» بإلهام من اللَّه لرسوله إن كانت ولادتها قبل النبوَّة، وإن كانت بعدها فيحتمل بالوحي، «لأنَّ اللَّه قد فطمها»، من الفطم وهو المنع، ومنه فطم الصبيّ، «وذرِّيَّتها عن النار يوم القيامة»، أي منعهم منها، فأمّا هي وابناها فالمنع مطلقٌ، وأمّا مَن عداها فالممنوع عنهم نار الخلود، فلا يمتنع دخول بعضهم للتطهير، ففيه بشرى لآلهصلى الله عليه و آله بالموت على الإسلام، وأنَّه لا يختم لأحد منهم بالكفر. نظيره ما قاله الشريف السمهودي في خبر الشفاعة لمن مات بالمدينة، مع أنَّه يشفع لكلِ
ص:28
مَن مات مسلماً، أو أنَّ اللَّه يشاء المغفرة لمن واقع الذنوب منهم إكراماً لفاطمة عليها السلام أو يوفِّقهم للتوبة النصوح ولو عند الموت ويقبلها منهم. (أخرجه الحافظ الدمشقي) هو ابن عساكر.
وروى الغسّاني والخطيب- وقال: فيه مجاهيل- مرفوعاً: «إنَّما سُمِّيت فاطمة لأنَّ اللَّه فطمها ومحبّيها عن النار» «(1)»، ففيه بشرى عميمة لكلِّ مسلم أحبَّها، وفيه التأويلات المذكورة.
وأمّا مارواه أبو نعيم والخطيب: أنَّ عليّاً الرِّضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصّادق سُئل عن حديث: «إنَّ فاطمة أحصنت فرجها فحرَّمها اللَّه وذريَّتها على النار» «(2)»، فقال: «خاصٌّ بالحسن والحسين».
وما نقله الأخباريّون عنه من توبيخه لأخيه زيد حين خرج على المأمون وقوله: ما أنت قائلٌ لرسول اللَّه، أغرَّك قوله: «إنَّ فاطمة أحصنت» الحديث، إنّ هذا لمن خرج من بطنها لا لي ولالك، واللَّه ما نالوا ذلك إلّابطاعة اللَّه، فإنْ أردتَ أن تنال بمعصيته ما نالوه بطاعته إنَّك إذاً لأكرم على اللَّه منهم.
فهذا من باب التواضع، والحثِّ على الطاعات، وعدم الاغترار
ص:29
بالمناقب وإن كثرت، كما كان الصحابة المقطوع لهم بالجنَّة على غايةٍ من الخوف والمراقبة، وإلّا فلفظ «ذريَّة» لا يخصُّ بمَن خرج من بطنها في لسان العرب «ومن ذريَّتهِ داود وسليمان» «(1)»
الآية، وبينه و بينهم قرونٌ كثيرةٌ، فلا يُريد بذلك مثل عليِّ الرِّضا مع فصاحته ومعرفته لغة العرب، على أنَّ التقييد بالطائع يبطل خصوصيَّة ذريَّتها ومحبِّيها، إلّاأن يُقال: للَّه تعذيب الطائع، فالخصوصيَّة أن لأُيعذِّبه اكراماً لها، واللَّه أعلم «(2)».
وأخرج الحافظ الدمشقي باسناده عن عليّ رضى الله عنه قال: «قال رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم لفاطمة رضي اللَّه عنها: يا فاطمة تدرين لِمَ سُمِّيتِ فاطمة؟ قال عليٌّ رضى الله عنه: لِمَ سُمِّيت؟ قال: إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ قد فطمها وذريّتها عن النار يوم القيامة» «(3)».
وقد رواه الإمام عليّ بن موسى الرِّضا في مسنده ولفظه: «إنَّ اللَّه فطم ابتي فاطمه و ولدها ومَن أحبّهم من النار» «(4)».
أيرى القصيميُّ بعدُ أنَّ الشيعة قد انفردوا بما لم يقله أعلام قومه؟ أو رووا بحديث لم يروه حفّاظ مذهبه؟ أو أتوا بما يُخالف
ص:30
مبادئ الدين الحنيف؟ وهل يسعه أن يتَّهم ابن حجر والزرقاني ونظرائهما من أعلام قومه وحفّاظ نحلته المشاركين مع الشيعة في تفضيل الذريَّة؟! ويرميهم بالقول بعصمتهم؟! ويتحامل عليهم بمثل ما تحامل على الشيعة؟.
وليس من البِدْع تفضّل المولى سبحانه على قوم بتمكينه إيّاهم من النزوع من الآثام، والندم على ما فرَّ طوافي جنبه، والشفاعة من وراء ذلك، ولاينا في شيئاً من نواميس العدل ولا الأُصول المسلّمة في الدين، فقد سبقت رحمته غضبه ووسعت كلَّ شي ءٍ.
وليس هذا القول المدعوم بالنصوص الكثيرة بأبدع من القول بعدالة الصحابة أجمع، واللَّه سبحانه يُعرِّف في كتابه المقدَّس أناساً منهم بالنفاق وانقلابهم على أعقابهم «(1)» بآيات كثيرة رامية غرضاً واحداً، ولاتنس ما ورد في الصِّحاح والمسانيد، ومنها:
ما فيصحيح البخاري من أنَّ أُناساً من أصحابهصلى الله عليه و آله يُؤخذ بهم ذات الشمال فيقول: «أصحابي أصحابي» فيقال: إنَّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم» «(2)».
وفيصحيح آخر: «ليرفعنَّ رجالٌ منكم ثمَّ ليختلجنَّ دوني فأقول: ياربّ أصحابي فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» «(3)».
ص:31
وفيصحيح ثالث: أقول: «أصحابي فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك» «(1)».
وفيصحيح رابع: «أقول: إنَّهم منّي، فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقاً لمن غيَّر بعدي» «(2)».
وفيصحيح خامس: «فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا واعلى أدبارهم القهقرى» «(3)».
وفيصحيح سادس: «بينا أنا قائم إذا زمرةٌ حتّى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، فقلت: أين؟ قال: إلى النار واللَّه، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.
ثمَّ إذا زمرةٌ حتى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، قلت: أين؟ قال: إلى النار واللَّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنَّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلّامثل هَمل النعم «(4)» «(5)».
ص:32
قال القسطلاني في شرحصحيح البخاري 9ص 325 في هذا الحديث: هَمَل، بفتح الهاء والميم: ضوالُّ الإبل، واحدها هامل، أو: الإبل بلا راع، ولا يقال ذلك في الغنم، يعني: انَّ الناجي منهم قليلٌ في قلّة النعم الضالَّة، وهذا يشعر بأنّهمصنفان كفّارٌ وعُصاةٌ. انتهى.
وأنت من وراء ذلك كلّه جِدُّ عليمٍ بما شجر بين الصحابة من الخلاف الموجب للتباغض والتشاتم والتلاكم والمقاتلة القاضية بخروج إحدى الفريقين عن حيِّز العدالة، ودع عنك ماجاء في التأريخ عن أفراد منهم من ارتكاب المآثم والإتيان بالبوائق.
فإذا كان هذا التعديل عنده وعند قومه لا يستتبع لوماً ولا يعقِّب هماجة، فأيّ حزارةٍ في القول بذلك التفضّل الّذي هو من سنّة اللَّه في عباده؟! «ولن تجد لسنَّة اللَّه تبديلًا» «(1)».
وأمّا ما أردفه في الإستناد من كلام سيِّدنا الأمين في أعيان الشيعة 3ص 65، فإنّي ألفت نظر القارئ إلى نصِّ عبارته حتّى يعرف مقدار الرَّجل من الصِّدق والأمانة في النقل، ويرى محلّه من الأرجاف وقذف رجل عظيم من عظماء الأُمَّة بفاحشةٍ مبيَّنة، واتِّهامه بالقول بعصمة الذريَّة وهو ينصُّ على خلافه، قال بعد ذكر حديث الثقلين «(2)» بلفظ مسلم «(3)» وأحمد «(4)» وغيرهما من الحفّاظ ما
ص:33
نصّه:
دلّت هذه الأحاديث على عصمة أهل البيت من الذنوب والخطأ، لمساواتهم فيها بالقرآن الثابت عصمته في أنَّه أحد الثقلين المخلّفين في الناس، وفي الأمر بالتمسّك بهم كالتمسّك بالقرآن، ولو كان الخطأ يقع منهم لَماصحَّ الأمر بالتمسّك بهم، الذي هو عبارةٌ عن جعل أقوالهم وأفعالهم حجَّةً، وفي أنَّ المتمسِّك بهم لا يضلُّ كما لا يضلُّ المتمسِّك بالقرآن، ولو وقع منهم الذنوب أو الخطأ لكان المتمسِّك بهم يضلُّ، وإنَّ في اتِّباعهم الهدى والنور كما في القرآن، ولو لم يكونوا معصومين لكان في اتِّباعهم الضَّلال، وأنَّهم حبلٌ ممدودٌ من السَّماء إلى الأرض كالقرآن، وهو كنايةٌ عن أنَّهم واسطةٌ بين اللَّه تعالى وبين خلقه، وأنَّ أقوالهم عن اللَّه تعالى، ولو لم يكونوا معصومين لم يكونوا كذلك. وفي أنَّهم لم يُفارقوا القرآن ولن يُفارقهم مدَّة عمر الدُّنيا، ولو أخطأوا أو أذنبوا لفارقوا القرآن وفارقهم، وفي عدم جواز مفارقتهم بتقدُّم عليهم بجعل نفسه إماماً لهم أو تقصير عنهم وائتمام بغيرهم، كما لا يجوز التقدُّم على القرآن بالإفتاء بغير ما فيه أو التقصير عنه باتِّباع أقوال مخالفيه، وفي عدم جواز تعليمهم وردِّ أقوالهم، ولو كانوا يجهلون شيئاً لوجب تعليمهم ولم يُنه عن ردِّ قولهم.
ودلَّت هذه الأحاديث أيضاً على أنَّ منهم مَن هذهصفته في كلِ
ص:34
عصرٍ وزمانٍ بدليل قولهصلى الله عليه و آله «أنَّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض وأنَّ اللطيف الخبير أخبر بذلك»، و ورود الحوض كناية عن انقضاء عمر الدنيا، فلو خلا زمانٌ من أحدهما لم يَصدق أنَّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض.
إذا عُلم ذلك ظهر أنَّه لا يمكن أن يُراد بأهل البيت جميع بني هاشم، بل هو من العامّ المخصوص بمَن ثبت اختصاصهم بالفضل والعلم والزهد والعفَّة والنزاهة من أئمَّة أهل البيت الطاهر، وهم الأئمَّة الإثنا عشر وأُمّهم الزهراء البتول، للإجماع على عدم عصمة مَن عداهم، والوجدان أيضاً على خلاف ذلك، لأنَّ مَن عداهم مِن بني هاشم تصدر منهم الذنوب ويجهلون كثيراً من الأحكام، ولا يمتازون عن غيرهم من الخلق، فلا يمكن أن يكونوا هم المجعولين شركاء القرآن في الأُمور المذكورة، بل يتعّين أن يكون بعضهم لا كلّهم ليس إلّامَن ذكرناه. أمّا تفسير زيد بن أرقم لهم بمطلق بني هاشم «(1)» إنصحَّ ذلك عنه، فلا تجب متابعته عليه بعد قيام الدليل على بطلانه.
إقرأ واحكم، حيّا اللَّه الأمانة والصِّدق، هكذا يكون عصر النور.
ص:35
7- قال: من آفات الشيعة قولهم: إنَّ عليّاً يذود الخلق يوم العطش فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه، وإنّه قسيم النار، وإنّها تطيعه، يُخرج منها من يشاء ج 2ص 21.
ج- لقد أسلفنا في الجزء الثانيص 321، أسانيد الحديث الأوَّل عن الأئمّة والحفّاظ، وأوقفناك على تصحيحهم لغير واحدٍ من طرقه، وبقيّتها مؤكِّدةٌ لها «(1)»، فليس هو من مزاعم الشيعة
ص:36
ص:37
فحسب، وإنّما اشترك معهم فيه حملة العلم والحديث من أصحاب الرَّجل. لكنَّ القصيمي لجهله بهم وبما يروونه، أو لحقده على من رُوي الحديث في حقِّه، يحسبه من آفات الشيعة.
وأما الحديث الثاني فكالأوَّل ليس من آفات الشيعة، بل من غرر الفضائل عند أهل الإسلام، فأخرجه الحافظ أبو إسحاق ابن ديزيل المتوفّى 280- 281 ه عن الأعمش، عن موسى بن ظريف، عن عباية قال: سمعت عليّاً وهو يقول: «أنا قسيم النار يوم القيامة، أقول: خذي ذا، وذري ذا».
وذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1ص 200 «(1)»، والحافظ ابن عساكر في تأريخه من طريق الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي.
ص:38
وهذا الحديث سُئل عنه الإمام أحمد، كما أخبر به محمّد بن منصور الطوسي قال: كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجلٌ: يا أبا عبد اللَّه ما تقول في هذا الحديث الذي يُروى: انَّ عليّاً قال: «أنا قسيم النار»؟ فقال أحمد: وما تُنكرون من هذا الحديث؟ أليس رُوينا إنَّ النبيصلى الله عليه و آله قال لعليٍّ: «لا يحبّك إلّامؤمنٌ ولا يُبغضك إلّا منافق»؟ قلنا: بلى. قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنّة قال:
فأين المنافق؟ قلنا: في النّار. قال: فعليٌّ قسيم النار. كذا في طبقات أصحاب أحمد «(1)»، وحكى عنه الحافظ الكنجي في الكفايةص 22، فليت القصيمي يدري كلام إمامه.
هذه اللفظة أخذها سلام اللَّه عليه من قول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله له فيما رواه عنترة عنهصلى الله عليه و آله انّه قال: «أنت قسيم الجنَّة والنار في يوم القيامة، تقول للنار: هذا لي وهذا لك»، وبهذا اللفظ رواه ابن حجر في الصواعق 75.
ويُعرب عن شهرة هذا الحديث النبويِّ بين الصحابة إحتجاج أمير المؤمنين عليه السلام به يوم الشورى بقوله: «أُنشدكم باللَّه، هل فيكم أحدٌ قال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: يا عليُّ؟ أنت قسيم الجنّة يوم القيامة غيري»؟ قالوا: أللهمَّ لا. والأعلام ترى هذه الجملة من حديث الإحتجاجصحيحاً، وأخرجه الدارقطني كما في الإصابة 75.
ص:39
ويرى ابن أبي الحديد إستفاضة كلا الحديثين النبويّ والمناشدة العلويّة، فقال في شرحه 2 من 448: فقد جاء في حقِّه الخبر الشائع المستفيض: انّه قسيم النار والجنّة، وذكر أبو عُبيد الهروي في الجمع بين الغريبين: أنّ قوماً من أئمَّة العربيّة فسَّروه فقالوا: لأنّه لَمّا كان محبّه من أهل الجنّة ومبغضه من أهل النار، كان بهذا الإعتبار قسيم النار و الجنّة. قال أبو عُبيد: وقال غير هؤلاء: بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة، يُدخل قوماً إلى الجنّة وقوماً إلى النّار، وهذا الذي ذكره أبو عبيد أخيراً هوما يطابق الأخبار الواردة فيه: يقول للنار: هذا لي فدعيه، وهذا لكِ فخُذيه «(1)».
وذكره القاضي في الشفا: انّه قسيم النار، وقال الخفاجي في شرحه 3: 163: ظاهر كلامه أنَّ هذا ممّا أخبر به النبيُّصلى الله عليه و سلم إلّاأنّهم قالوا: لم يروه أحد من المحدِّثين إلّاابن الأثير قال في النهاية: إلّاأنَّ عليّاً رضى الله عنه قال: «أنا قسيم النار»، يعني أراد أنَّ الناس فريقان: فريقٌ معي فهم على هدى، وفريقٌ عليَّ فهم على ضلال، فنصفٌ معي في الجنّة، ونصفٌ عليَّ في النّار «(2)». انتهى.
قلت: ابن الأثير ثقةٌ، وما ذكره عليٌّ لا يُقال من قبيل الرأي فهو في حكم المرفوع، إذ لا مجال فيه للإجتهاد، ومعناه: أنا ومَن معي
ص:40
قسيم لأهل النار، أي مقابلٌ لهم، لأنَّه من أهل الجنِّة، وقيل:
القسيم: القاسم كالجليس والسمير، وقيل: أراد بهم الخوارج ومن قاتل كما في النهاية.
8- قال: جاءت رواياتٌ كثيرةٌ في كتبهم- يعني الشيعة- أنَّه- يعني الإمام المنتظر- يهدم جميع المساجد، والشيعة أبداً هم أعداء المساجد، ولهذا يقلّ أن يشاهد الضّارب في طول بلادهم وعرضها مسجداً 20ص 23.
ج- لم يُقنع الرَّجل كلّما في علبة مكره من زور واختلاق، ولم يقنعه إسناد ما يفتعله إلى روايةٍ واحدةٍ يسعه أن يُجابه المنكر عليه بأنَّه لم يقف عليه، حتّى عزاه إلى روايات كثيرة جاءت في كتب الشيعة، وليته إن كانصادقاً وأنّى؟ وأين؟ ذكر شيئاً من أسماء هاتيك الكتب، أو أشار إلى واحدةٍ من تلك الروايات، لكنَّه لم تسبق له لفتةٌ إلى أن يفتعل أسماء ويضع أسانيد قبل أن يكتب الكتاب فيذكرها فيه.
إنّ الحجَّة المنتظر سيِّد مَن آمن باللَّه واليوم الآخر، الَّذين يعمرون مساجد اللَّه، وأين هو عن هدمها؟ وإنَّ شيعيّاً يعزو إليه ذلك لم يُخلق بعدُ.
وأمّا ما ذكره عن بلاد الشيعة، فلا أدري هل طرق هو بلاد
ص:41
الشيعة؟ فكتب ما كتب، وكذب ما كذب، أو أنَّه كان رجماً منه بالغيب؟ أو استند- كصاحب المنار- إلى سائحٍ سنِّي مجهولٍ أو مُبشِّرٍ نصرانيّ لم يُخلقا بعدُ؟ و أيّاً ما كان فهو مأخوذٌ بإفكه الشائن.
وقد عرف من جاس خلال ديار الشيعة، وحلَّ في أوساطهم وحواضرهم، وحتى البلاد الصغيرة والقرى والرساتيق، ما هنالك من مساجد مشيَّدةصغيرة أو كبيرة، وما في كثير منها من الفرش والأثاث والمصابيح، وما تُقام فيها من جمعةٍ وجماعةٍ، وليس مِن شأن الباحث أن يُنكر المحسوس، ويكذب في المشهود، وينصر المبدأ بالتافهات.
9- قال: قد استفتى أحد الشيعة إماماً من أئمَّتهم، لا أدري أهو الصادق أم غيره؟ في مسألة من المسائل فأفتاه فيها، ثمَّ جاءه من قابلٍ واستفتاه في المسألة نفسها فأفتاه بخلاف ما أفتاه عام أوَّل، ولم يكن بينهما أحدٌ حينما استفتاه في المَّرتين، فشكَّ ذلك المستفتي في إمامه، وخرج من مذهب الشيعة وقال: إن كان الإمام إنّما أفتاني تقيَّة؟ فليس معنا مَن يُتَّقى في المرِّتين، وقد كنتُ مخلصاً لهم عاملًا بما يقولون، وإن كان مأتيُّ هذا هو الغلط والنسيان؟ فالأئمَّة ليسوا معصومين إذن والشيعة تدَّعي لهم العصمة، ففارقهم وانحاز إلى
ص:42
غير مذهبهم، وهذه الرِّواية مذكورةٌ في كتب القوم.
2ص 38.
ج- أنا لا أقول لهذا الرَّجل إلّاما يقوله هو لمن نسب إلى إمام من أئمَّته- لا يُشخّص هو أنّه أيٌّ منهم- مسألةً فاضحةً مجهولةً لا يعرفها عن سائل هو أحد النكرات، لا يُعرَّف بسبعين (ألف لامٍ) وأسند ما يقول إلى كتب لم تؤلَّف بعدُ، ثمَّ طفق يشنُّ الغارة على ذلك الإمام وشيعته على هذا الأساس الرصين، فنحن لسنا نردُّ على القصيميِّ إلّابما يردُّ هو على هذا الرَّجل، ولعمري لو كان المؤلِّف القصيمي يعرف الإمام أو السائل أو المسألة أو شيئاً من تلك الكتب لذكرها بهوس وهياج، لكنّه لا يعرف ذلك كلَّه، كما إنّا نعرف كذبه في ذلك كلِّه، ولا يخفى على القارئ همزه ولمزه.
10- قال: مَن نظر في كتب القوم علمَ أنَّهم لا يرفعون بكتاب اللَّه رأساً، وذلك أنّه يقلُّ جدّاً أن يستشهدوا بآية من القرآن فتأتيصحيحةً غير ملحونةٍ مغلوطةٍ، ولا يُصيب منهم في ايراد الآيات إلّا المخالطون لأهل السنَّة العائشون بين أظهرهم، على أنَّ إصابة هؤلاء لا بُدَّ أن تكون مصابة، أمّا البعيدون منهم عن أهل السُنّة فلا يكاد أحدٌ منهم يورد آيةً فتسلم عن التحريف والغلط، وقد قال مَن
ص:43
طافوا في بلادهم: إنّه لا يوجد فيهم مَن يحفظون القرآن، وقالوا: إنّه يندر جدّاً أن توجد بينهم المصاحف «(1)».
ج- بلاءٌ ليس يشبهه بلاء عداوة غير ذي حسب ودينِ
يبيحك منه عِرضاً لم يصنه ويرتع منك في عِرض مصونِ
ليتني كنتُ أعلم أنّ هذه الكلمة متى كُتبت؟ أفي حال السّكر أو الصحو؟ و أنَّها متى رُقمت؟ أعند اعتوار الخبل أم الإفاقة؟ وهل كتبها متقوِّلها بعد أن تصفّح كتب الشيعة فوجدها خلاءً من ذكر آيةصحيحة غير ملحونة؟ أم أراد أن يصمهم فافتعل لذلك خبراً؟
وهل يجد المائن في الطليعة من أئمّة الأدب العربيِّ إلّارجالًا من الشيعة ألِّفوا في التفسير كُتباً ثمينة، وفي لغة الضّاد أسفاراً كريمةً هي مصادر اللغة، وفي الأدب زبراً قيِّمة هي المرجع للمَلأ العلميِّ والأدبيِّ، وفي النحو مدوَّنات لها وزنها العلميّ، وإنَّك لو راجعت كُتب الإماميّة لوجدتها مفعمةً بالإستشهاد بالآيات الكريمة، كأنّها أفلاكٌ لتلك الأنجم الطوالع، غير مُغشّاة بلحن أو غلط.
وما كنّا نعرف حتى اليوم أنَّ مقياس التلاوةصحيحةً أو ملحونةً هو النزعات و المذاهب التي هي عقودٌ قلبيِّة لا مدخل لها
ص:44
في اللسان وما يلهج به، ولا أنَّ لها مِساساً باللغة، وسرد الكلمات، وصياغة الكلام، وحكاية ماصيغ منها من قرآن أو غيره.
وليت شعري ما حاجة الشيعة في إصابة القرآن وتلاوتهصحيحة إلى غيرهم؟ ألإعواز في العربيّة؟ أو لجهل بأساليب القرآن؟ لا ها اللَّه ليس فيهم من يتَّسم بتلك الشية.
أمّا العربيُّ منهم فالتشيّع لم ينتأ بهم عن لغتهم المقدَّسة، ولا عن جبلّيّات عنصرهم. أوَهل ترى أنَّ بلاد العراق وعاملة وما يشابههما وهي مفعمةٌ بالعلماء الفطاحل، والعباقرة والنوابغ، أقلُّ حظّاً في العربيّة من أعراب بادية نجدٍ والحجاز أكّالة الضبِّ، ومساورة الضباع؟!
وأمّا غير العربيِّ منهم فما أكثر ما فيهم من أئمَّة العربيَّة والفطاحل والكتّاب والشعراء، ومن تصفَّح السير علم أن الأدب شيعيٌّ، والخطابة شيعيَّةٌ، والكتابة شيعيَّةٌ، والتجويد والتلاوة شيعيَّان. ومن هنا يقول ابن خلكان في تاريخه في ترجمة عليِّ بن الجهم 1ص 38: كان مع إنحرافه من عليِّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسّلام وإظهاره التسنّن، مطبوعاً مقتدراً على الشعر، عذب الألفاظ.
فكأنَّه يرى أنَّ مطبوعيّة الشعر وقرضة بألفاظ عذبة خاصَّةٌ للشيعة وأنّه المطَّرد نوعاً.
ص:45
وهذه المصاحف المطبوعة في ايران والعراق والهند منتشرةٌ في أرجاء العالم، والمخطوطة منها التي كادت تُعدُّ على عدد مَن كان يحسن الكتابة منهم قبل بروز الطبع، وفيهم مَن يكتبه اليوم تبرُّكاً به، ففي أيّ منها يجد ما يحسبه الزاعم من الغلط الفاشي؟ أو خلّة في الكتابة؟ أوركّة في الأُسلوب؟ أو خروج عن الفنّ؟ غير طفائف يزيغ عنه بصر الكاتب، الَّذي هو لازم كلِّ إنسان شيعيٍّ أو سنيٍّ عربيٍّ أو عجميٍّ.
وأحسب أنَّ الذي أخبر القصيميَّ بما أخبر من الطائفين في بلاد الشيعة لم يولد بعدُ، لكنَّهصوَّره مثالًا وحسب أنّه يُحدِّثه، أو أنّه لَمّا جاس خلال ديارهم لم يزد على أن استطرق الأزقّة والجوادّ، فلم يجد مصاحف ملقاةً فيما بينهم وفي أفنية الدور، ولو دخل البيوت لوجدها موضوعةً في عياب وعلب، وظاهرةً مرئيَّةً في كلِّ رفٍّ وكوّة، على عدد نفوس البيت في الغالب، ومنها ما يزيد على ذلك، وهي تُتلى آناء الليل وأطراف النّهار.
هذه غير ما تتحرَّز به الشيعة من مصاحفصغيرة الحجم في تمائم الصبيان و أحراز الرِّجال والنساء، غير ما يحمله المسافر للتلاوة والتحفّظ عن نكبات السفر، غير ما يوضع منها على قبور الموتى للتلاوة بكرةً وأصيلا وإهداء ثوابها للميِّت، غير ما تحمله الأطفال إلى المكاتب لدراسته منذ نعومة الأظفار، غير ما يُحمل مع
ص:46
العروس قبل كلِّ شي ء إلى دار زوجها، ومنهم مَن يجعل ذلك المصحف جزءاً منصداقها تيمّناً به في حياتها الجديدة، غير ما يُؤخذ إلى المساكن الجديدة المتَّخذةِ للسكنى قبل الأثاث كلِّه، غيرما يوضع منها إلى جنب النساء لتحصينها عن عادية الجنِّ والشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم- ومنهم القصيميُّ مخترع الأكاذيب- زخرف القول غروراً.
أفهؤلاء الذين لا يرفعون بالقرآن رأساً؟ أفهؤلاء الذين يندر جدّاً أن توجد بينهم المصاحف؟
وأمّا ما أخبر به الرَّجل شيطانه الطائف بلاد الشيعة من عدم وجود مَن يحفظ القرآن منهم، فسل حديث هذه الأُكذوبة عن كتب التراجم ومعاجم السير، وراجع كتاب كشف الاشتباه «(1)» في ردِّ موسى جار اللَّهص 444- 532 تجد هناك من حفّاظ الشيعة وقُرّائهم مائة وثلاثة وأربعين.
11- قال: هل يستطيع أن يجي ء الشيعيُّ بحرفٍ واحدٍ من القرآن يدلُّ على قول الشيعة بتناسخ الأرواح، وحلول اللَّه في أشخاص أئمَّتهم، وقولهم بالرجعة، وعصمة الأئمَّة، وتقديم عليٍّ على
ص:47
أبي بكر وعمر وعثمان، أو يدلُّ على وجود عليٍّ في السحاب، وأنَّ البرق تبسّمه، والرَّعدصوته كما تقول الشيعة الإماميَّة ج 1ص 72.
ج- إن تعجب فعجبٌ إنَّ الرجل ومن شاكله من المفترين بهتوا الشيعة الإماميّة بأشياءهُم بُراء منها على حين تداخل الفرق، وتداول المواصلات، وسهولة استطراق الممالك والمدن بالوسائل النقليّة البخاريّة في أيسر مدَّةٍ، ومن المستبعد جدّاً إن لم يكن من المتعذِّر جهل كلِّ فرقةٍ بمعتقدات الأُخرى، فمحاول الوقيعة اليوم- والحالة هذه- على أيِّ فرقة من الفرق قبل الفحص والتنقيب المتيسِّرين بسهولة مستعملٌ للوقاحة والصلافة، وهو الأفّاك الأثيم عند مَن يُطالع كتابه، أو يُصيخ إلى قيله.
ولو كان الرَّجل يتدبّر في قوله تعالى: «ما يلفظ من قولٍ إلّالَديهِ رقيبٌ عَتيدٌ» «(1)»
، أو يصدِّق ما أوعد اللَّه به كلَّ أفّاكٍ أثيمٍ همّاز مشَّاء بنميم، لكفَّ مدَّته عن البهت، وعرفصالحه، ولكان هو المجيب عن سؤال شيطانه بأنَّ الشيعة الإماميّة متى قالت بالتناسخ وحلول اللَّه في أشخاص أئمتّهم؟! و مَن الذين ذهب منهم قديماً وحديثاً إلى وجود عليٍّ في السحاب إلخ، حتّى توجد حرفٌ واحدٌ منها في القرآن.
ص:48
نعم، عليُّ في السِّحاب كلمةٌ للشيعة تأسيِّاً بالنبيّ الأعظمصلى الله عليه و آله بالمعنى الذي مرّ في الجزء الأوّلص 292 «(1)» «(2)»، غير أنّ قوّالة
ص:49
الإحنة حرَّفتها عن موضعها و أوّلتها بما يشِّوه الشيعة الإماميّة.
أليس عاراً على الرَّجل وقومه أن يكذب على أُمّةٍ كبيرةٍ إسلاميّةٍ، ولا يبالي بما يباهتهم وينسبهم إلى الآراء المنكرة أو التافهة، ولا يتحاشى عن سوءصنيعه. أليست كتب الشيعة الإماميّة المؤلفّة في قرونها الماضية ويومها الحاضر، وهي لسانهم المعرب عن عقائدهم، مشحونة بالبراءة من هذه النسب المختلقة بألسنة مناوئيهم؟!
فإن كان لا يدري فتلك مصيبةٌ وإن كان يدري فالمصيبة أعظمُ
نعم، له أن يستند في أفائكه إلى شاكلته طه حسين وأحمد أمين وموسى جار اللَّه، رجال الفرية والبذاءة.
وقول الإماميّة بالرجعة نطق به القرآن «(1)»، غير أنَّ الجهل أعشى بصر الرَّجل كبصيرته، فلم يره ولم يجده فيه، فعليه بمراجعة كتب الإماميّة، وأفردها بالتأليف جماهير من العلماء، فحبّذا لو كان الرَّجل يراجع شيئاً منها.
كما أنّ آية التطهير «(2)» ناطقةٌ بعصمة جمعِ ممّن تقول الإماميّة
ص:50
بعصمتهم، وفي البقيّة بوحدة الملاك والنصوص الثابتة، وفيما أخرجه إمام مذهبه أحمد بن حنبل في الآية الشريفة في مسنده ج 1ص 331، ج 3ص 285، ج 4ص 107، ج 6ص 296، 298، 304، 323 مقنعٌ وكفايةٌ.
وكيف لم يقدِّم القرآن عليّاً على غيره؟ وقد قرن اللَّه ولايته وولاية نبيِّه بقوله العزيز: «إنّما وَ لِيّكم اللَّهُ وَ رسولُه وَ الّذينَ آمنَوا الّذيِنَ يُقيمون الصّلاةَ ويُؤتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكعون» «(1)»
وقد مرَّ في هذا الجزءص 156- 162: إطباق الفقهاء والمحدِّثين والمتكلّمين على نزولها في علي أمير المؤمنين عليه السلام «(2)».
ص:51
ص:52
ص:53
ص:54
ص:55
ص:56
والباحث إن أعطى النصفة حقّها يجد في كتاب اللَّه آياً تُعدُّ بالعشرات نزلت في عليّ أمير المؤمنين عليه السلام «(1)» وهي تدلّ على تقديمه
ص:57
على غيره، ولا بِدع وهو نفس النبيِّصلى الله عليه و آله بنصّ القرآن «(1)»، وبولايته أكمل اللَّه دينه، وأتمَّ علينا نعمه، ورضي لنا الإسلام دينا «(2)».
ونحن نُعيد السؤال هاهنا على القصيميِّ فنقول: هل يستطيع أن يجي ء هو وقومه بحرف واحدٍ من القرآن يدلُّ على تقديم أبي بكر وعمر وعثمان على وليِّ اللَّه الطاهر أمير المؤمنين عليه السلام؟!.
12- قال: والقوم- يعني الإماميّة- لا يعتمدون في دينهم على الأخبار النبويّة الصحيحة، وإنّما يعتمدون على الرُّقاع المزوَّرة المنسوبة كذباً إلى الأئمّة المعصومين في زعمهم وحدهم ج 1ص 83.
ج- عرفت الحال في التوقيعات الصادرة عن الناحية المقدَّسة، والرَّجل قد أتى من شيطانه بوحيٍ جديد، فيرى توقيعات بقيّة الأئمّة أيضاً مكذوبة على الأئمّة، ويرى عصمتهم مزعومة للشيعة فحسب، إذ لم يجدها في طامور أوهامه، «فإن تنازعتم في شي ء
ص:58
فردّوه إلى اللَّه والرّسول» «(1)».
13- المتعة التي تتعاطاها الرافضة أنواعٌ:
صغرى، وكبرى. فمن أنواعها: أن يتَّفق الرَّجل والمرأة المرغوب فيها على أن يدفع إليها شيئاً من المال أو من الطعام والمتاع وإن حقيراً جدّاً، على أن يقضي وطره منها ويشبع شهوته يوماً أو أكثر حسب ما يتّفقان عليه، ثمَّ يذهب كلٌّ منهما في سبيله، كأنَّما لم يجتمعا ولم يتعارفا، وهذا من أسهل أنواع هذه المتعة.
وهناك نوعٌ آخر أخبث من هذا يُسمّى عندهم بالمتعة الدوريَّة، وهي أن يحوز جماعةٌ أمرأةً، فيتمتَّع بها واحدٌ من الصبح إلى الضحى، ثم يتمتّع بها آخر من الضحى إلى الظهر، ثمَّ يتمتّع بها آخر من الظهر إلى العصر، ثمَّ آخر إلى المغرب، ثمَّ آخر إلى العشاء، ثم آخر إلى نصف الليل، ثمَّ آخر إلى الصبح. وهم يعدّون هذا النوع ديناً للَّه يُثابون عليه، وهو من شرِّ أنواع المحرَّمات ج 1ص 199.
ص:59
ج- إنّ المتعة عند الشيعة هي التّي جاء بها نبيُّ الإسلام، وجعل لها حدوداً مقرَّرة، وثبتت في عصر النبيِّ الأعظم وبعده إلى تحريم الخليفة عمر بن الخطاب، وبعده عند مَن لم ير للرأي الُمحدث في الشرع تجاه القرآن الكريم وما جاء به نبيُّ الاسلام قيمةً ولا كرامةً، وقد أصفقت فِرَق الإسلام على أُصول المتعة وحدودها المفصَّلة في كتبها، ولم يختلف قطُّ إثنان فيها، ألا وهي:
1: الأُجرة.
2: الأجل.
3: العقد المشتمل للايجاب والقبول.
4: الافتراق بانقضاء المدَّة أو البذل.
5: العدَّة، أمةً وحرَّة، حائلًا وحاملًا.
6: عدم الميراث.
وهذه الحدود هي التي نصَّ عليها أهل السنَّة والشيعة، راجع من تآليف الفريق الأوَّل:صحيح مسلم، سنن الدرامي، سنن البيهقي، تفسير الطبري، أحكام القرآن للجصّاص، تفسير البغوي، تفسير ابن كثير، تفسير الفخر الرّازي، تفسير الخازن، تفسير السيوطي، كنز العمّال «(1)».
ص:60
ومن تآليف الفريق الثاني: مَن لا يحضره الفقيه الجزء الثالثص 149، المقنع للصَّدوق كسابقه، البداية له أيضاً، الكافي 2ص 44، الإنتصار للشريف علم الهدى المرتضى، المراسم لأبي يعلي سلّار الديلمي، النهاية للشيخ الطوسي، المبسوط للشيخ أيضاً، التهذيب له أيضاً ج 2ص 189، الإستبصار له 2ص 29، الغنية للسيد أبي المكارم، الوسيلة لعماد الدين أبي جعفر، نكت النهاية للمحقِّق الحلّي، تحرير العلّامة الحلّي 2ص 27، شرح اللمعة 2ص 82، المسالك ج 1، الحدائق 6ص 152، الجواهر 5ص 165 «(1)».
ص:61
والمتعة المعاطاة بين الأُمّة الشيعيَّة ليست إلّاما ذكرناه، وليس إلّا نوعاً واحداً، والشيعة لم ترَفي المتعة رأياً غير هذا، ولم تسمع أُذن الدنيا أنواعاً لِلمتعة تقول بها فرقةٌ من فرق الشيعة، ولم تكن لأيِّ شيعيٍّ سابقة تعارف بانقسامها على الصغرى والكبرى، وليس لأيِّ فقيه من فقهاء الشيعة ولا لعوامهم من أوَّل يومها إلى هذا العصر- عصر الكذب والإخلاق، عصر الفرية والقذف عصر القصيميِّ- إلماماً بهذا الفقه الجديد الُمحدَث، فقه القرن العشرين لاالقرون الهجريَّة.
وأمَّا القصيميُّ- ومَن يُشاكله في جهله المُطبق- فلا أدري ممَّن سمع ما تخيَّله من الأنواع؟ وفي أيّ كتابٍ من كُتب الشيعة وجده؟
وإلى فتوى أيِّ عالمٍ من علمائها يستند؟ وعن أيِّ إمام من أئمَّتها يروي؟ وفي أيِّ بلدةٍ من بلادها أو قرية من قراها أو بادية من بواديها وجد هذه المعاطاة المكذوبة عليها؟ أيم اللَّه كلُّ ذلك لم يكن، لكنَّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم زخرف القول غرورا.
14- قال: إنَّ أغبى الأغبياء وأجمد الجامدين من يأتون بشاة مسكينةٍ وينتفون شعرها، ويعذِّبونها أفانين العذاب، موحياً إليهم ضلالهم وجرمهم أنَّها السِّيدة عائشة زوج النبيِّ الكريم وأحبُّ أزواجه إليه.
ص:62
ومَن يأتون بكبشين وينتفون أشعارهما ويعذِّبونهما ألوان العذاب، مشيرين بهما إلى الخليفتين أبي بكر وعمر، وهذا ما تأتيه الشيعة الغالية.
وإنَّ أغبى الأغبياء وأجمد الجامدين هم الَّذين غيَّبوا إمامهم في السرداب، وغيَّبوا معه قرآنهم ومصحفهم، ومَن يذهبون كلَّ ليلة بخيولهم وحميرهم إلى ذلك السرداب الذي غيبَّوا فيه إمامهم ينتظرونه وينُادونه ليخرج إليهم، ولا يزال عندهم ذلك منذ أكثر من ألف عام.
وإنَّ أغبى الأغبياء وأجمد الجامدين هم الَّذين يزعمون أنَّ القرآن مُحرَّفٌ مزيدٌ فيه ومنقوصٌ منه ج 1ص 374.
ج- يكاد القلم أن يرتج عليه القول في دحض هذه المفتريات، لأنَّها دعاوٍ شهوديَّة بأشياء لم تظلّ عليها الخضراء ولا أقلّتها الغبراء، فإنَّ الشيعة منذ تكوَّنت في العهد النبويِّ، يوم كانصاحب الرِّسالة يلهج بذكر شيعة عليٍّ عليه السلام، والصحابة تُسمّي جمعاً منهمْ بشيعة عليٍّ، إلى يومها هذا، لم تسمع بحديث الشاة والكبشين، ولا أبصرت عيناها ما يُفعل بهاتيك البهائم البريئة من الظلم
ص:63
والقساوة، ولا مُدَّت إليها تلك الأيادي العادية، غير أنَّهم شاهدوا القصيميَّ متَّبعاً لابن تيميَّة يُدنِّس برودهم النزيهة عن ذلك الدَرَن.
وليت الرَّجل يُعرِّفنا بأحدٍ شاهدَ شيعيّاً يفعل ذلك، أو بحاضرةٍ من حواضر الشيعة أطَّردت فيها هذه العادة، أو بصقع وقعت فيه مرَّة واحدة ولو في العالم كلِّه.
وليتني أدري وقومي هل أفتى شيعيٌّ بجواز هذا العمل الشنيع؟
أو استحسن ذلك الفعل التافه؟ أو نوَّه به ولو قصِّيصٌ في مقاله؟ نعم يوجد هذا الإفك الشائن في كتاب القصيميِّ وشيخه ابن تيميَّة المشحون بأمثاله.
وفرية السرداب أشنع وإن سبقه إليها غيره من مؤلِّفي أهل السنَّة، لكنَّه زاد في الطمّور نغمات بضمِّ الحمير إلى الخيول، وادِّعائه اطِّراد العادة في كلِّ ليلة واتِّصالها منذ أكثر من ألف عام.
والشيعة لا ترى أنَّ غيبة الإمام في السَّرداب، ولاهم غيَّبوه فيه، ولا أنَّه يظهر منه. وإنَّما اعتقادهم المدعوم بأحاديثهم أنَّه يظهر بمكّة المُعظّمة تجاه البيت، ولم يقل أحدٌ في السرداب: إنَّه مغيب ذلك النور، وإنَّما هو سرداب دار الأئمَّة بسامرَّاء، وإنَّ من المطَّرد ايجاد السراديب في الدور وقايةً من قايظ الحرِّ، وإنَّما اكتسب هذا السرداب بخصوصه الشرف الباذخ لانتسابه إلى أئمَّة الدين، وإنّه
ص:64
كان مبوَّءً لثلاثة منهم كبقيَّة مساكن هذه الدار المباركة، وهذا هو الشأن في بيوت الأئمّة عليهم السَّلام ومشرِّفهم النبيُّ الأعظم في أيِّ حاضرة كانت، فقد أذن اللَّه أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه.
وليت هؤلاء المتقوِّلون في أمر السرداب إتَّفقوا على رأي واحد في الأُكذوبة، حتّى لا تلوح عليها لوائح الإفتعال فتفضحهم، فلا يقول ابن بطوطة «(1)» في رحلته 2ص 198: إنَّ هذا السرداب المنوَّه به في الحلّة، ولا يقول القرماني في «أخبار الدُّول»: إنّه في بغداد، ولا يقول الآخرون: إنّه بسامراء. ويأتي القصيميُّ مِن بعدهم فلايدري أين هو، فيطلق لفظ السرداب، ليستر سوءته.
وإنّي كنتُ أتمنّى للقصيميِّ أن يحدِّد هذه العادة بأقصر من (أكثر من ألف عام) حتّى لا يشمل العصر الحاضر والأعوام المتَّصلة به، لأنَّ انتفائها فيه وفيها بمشهدٍ ومرئى ومسمع من جميع المسلمين، وكان خيراً له لوعزاها إلى بعض القرون الوسطى حتّى يجوِّز السامع وجودها في الجملة، لكنَّ المائن غير مُتحفِّظ على هذه الجهات.
وأمّا تحريف القرآن فقد مرّ حقُّ القول فيهص 85 وغيرها.
هذه نبذٌ من طامّات القصيميِّ، وله مئاتٌ من أمثالها، ومَن
ص:65
راجع كتابه عرف موقفه من الصِّدق، ومبوَّئه من الأمانة، ومقيله من العلم، ومحلّه من الدين، ومستواه من الأدب.
«الّذين يُجادلون في آيات اللَّه بغيرِ سُلطانٍ أتاهم كَبُر مَقتاً عند اللَّه وَعند الّذين آمنوا كذلِكَ يطبَعُ اللَّهُ على كلِّ قلبِ متكبِّرٍ جبّار»
(سورة غافر: 35)
ص:66
ص:67
أصفقت الأُمَّة الإسلاميَّة على أنَّ في هذه الأُمَّة- لدة الأُمم السابقة- أُناسٌ مُحدَّثون «علىصيغة المفعول»، وقد أخبر بذلك النبيُّ الأعظم كما ورد في الصِّحاح والمسانيد من طرق الفريقين «العامَّة والخاصَّة».
والُمحدَّث: مَن تُكلّمه الملائكة بلا نبوَّةٍ ولا رؤيةصورة، أو يُلهم له ويُلقى في روعه شي ءٌ من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو يُنكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه. فوجود مَن هذا شأنه من رجالات هذه الأُمَّة مُطبقٌ عليه بين فرق الإسلام، بيد أنَ
ص:68
الخلاف في تشخيصه، فالشيعة ترى عليّاً أمير المؤمنين وأولاده الأئمَّةصلوات اللَّه عليهم من الُمحدَّثين، وأهل السنَّة يرون منهم عمر بن الخطاب، وإليك نماذج من نصوص الفريقين:
أخرج البخاري فيصحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب ج 2ص 194 عن أبي هريرة قال:
قال النبيّصلى الله عليه و آله: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمَّتي منهم أحدٌ فعمر»، قال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما: من نبيٍّ «(1)» ولا محدَّث.
قال القسطلاني «(2)»: ليس قوله «فإن يكن» للترديد، بل للتأكيد كقولك: إن يكن ليصديقٌ ففلان. إذ المراد إختصاصه بكمال الصَّداقة، لا نفي الأصدقاء. وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمَّة المفضولة، فوجوده في هذه الأُمَّة الفاضلة أحرى.
وقال في شرح قول ابن عبّاس: «من نبيٍّ ولا محدَّث»: ثبت قول ابن عبّاس هذا لأبي ذر وسقط لغيره، ووصله سفيان بن
ص:69
عيينة في أواخر جامعه وعبد بن حميد بلفظ: كان ابن عبّاس يقرأ:
وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ ولا محدَّث.
وأخرج البخاري فيصحيحه بعد حديث الغار ج 2ص 171 عن أبي هريرة مرفوعاً: «أنَّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم مُحدَّثون إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنَّه عمر بن الخطاب».
قال القسطلاني في شرحه 5ص 431: قال المؤلِّف: يجري على ألسنتهم الصَّواب من غير نبوَّة. وقال الخطابي: يُلقى الشي ء في روعه، فكأنَّه قد حُدِّث به يظنُّ فيصيب ويخطر الشي ء بباله فيكون، وهي منزلةٌ رفيعةٌ من منازل الأولياء.
وقال في قوله «إن كان في أُمَّتي»: قالصلى الله عليه و آله على سبيل التوقّع وكأنَّه لم يكن إطلّع «(1)» على أنَّ ذلك كائنٌ وقد وقع، وقصَّة: يا سارية الجبل «(2)» مشهورةٌ مع غيرها.
وأخرج مسلم فيصحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبيِّصلى الله عليه و آله «قد كان في الأُمم قبلكم مُحدَّثون، فإن يكن في أُمَّتي منهم أحدٌ فإنَّ عمر بن الخطاب منهم»، قال ابن وهب: تفسير محدَّثون:
ص:70
ملهمون.
ورواه ابن الجوزي في «صفة الصفوة» 1ص 104 وقال:
حديثٌ متَّفقٌ عليه، وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في «مشكل الآثار» 2ص 257 بطرق شتَّى عن عائشة وأبي هريرة، وأخرج قراءة ابن عبّاس: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ ولا محدَّث، قال: معنى قوله محدَّثون أي مُلهمون، فكان عمر رضى الله عنه ينطق بما كان ينطق ملهماً.
ثمَّ عدَّ من ذلك ما قد رُوي عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: وافقني ربّي أو وافقتُ ربِّي في ثلاث:
قلت: يا رسول اللَّه! لو اتَّخذنا من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت:
«واتَّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى» «(1)».
وقلت: يا رسول اللَّه إنَّ نساءك يدخل عليهنَّ البرُّ والفاجر فلو أمرتهنَّ أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب «(2)».
واجتمع على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله نساؤه في الغيرة فقلت: عسى ربّي إن طلّقكنَّ أن يُبدِّله أزواجاً خيراً منكنَّ «(3)»، فنزلت كذلك.
ص:71
قال الأميني: إن كان هذا من القول بإلهام فعلى الإسلام السَّلام، وما أجهل القوم بالمناقب حتّى أتوا بالطامّات الكبرى كهذه وعدّوها فضيلة، وعليهم إن عقلواصالحهم إنكار مثل هذا القول على عمر، وفيه حطٌّ لمقام النبوَّة، ومسَّةٌ على كرامةصاحب الرِّسالةصلى الله عليه و آله.
قال النووي في شرحصحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدَّثون، فقال ابن وهب: مُلهمون، وقيل: مصيبون إذا ظنّوا فكأنَّهم حدّثوا بشيى ء فظّنوه. وقيل: تُكلّمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلّمون. وقال البخاري: يجري الصَّواب على ألسنتهم وفيه إثبات كرامات الأولياء «(1)».
وقال الحافظ محب الدين الطبري في «الرِّياض» اص 199:
ومعنى محدَّثون واللَّه أعلم: أي يُلهمون الصّواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدِّثهم الملائكة لا بوحي وإنّما بما يُطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلةٌ عظيمةٌ.
وقال القرطبي في تفسيره ج 12ص 79: قال ابن عطيّة: وجاء عن ابن عبّاس إنَّه كان يقرأ: وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ ولا محدَّث. ذكره مسلمة بن القاسم بن عبداللَّه، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس. قال مسلمة: فوجدنا المحدَّثين
ص:72
معتصمين بالنبوَّة- على قراءة ابن عبّاس- لأنَّهم تكلّموا بأُمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة، فأصابوا فيما تكلّموا، وعصموا فيما نطقوا كعمر بن الخطاب في قصّة سارية «(1)» وما تكلّم به من البراهين العالية.
وأخرج الحافظ أبو زرعة حديث أبي هريرة في طرح التثريب في شرح التقريب 1ص 88 بلفظ: «لقد كان فيمَن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال مكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أُمَّتي أحدٌ فعمر».
وأخرجه البغوي في «المصابيح» 2ص 270، والسيوطي في «الجامع الصغير» «(2)».
وقال المناوي في شرح الجامع الصغير 4ص 507: قال القرطبي: «مُحدَّثون» بفتح الدال اسم مفعول جمعٌ محدَّث بالفتح، أي مُلهم أوصادق الظنّ، وهو من ألقي في نفسه شي ءٌ على وجه الإلهام
ص:73
والمكاشفة من الملأ الأعلى، أو مَن يجري الصَّواب على لسانه بلاقصد، أو تكلّمه الملائكة بلانبوَّة، أو مَن إذا رأى رأياً أو ظنَّ ظنّاً أصاب كأنَّه حُدِّث به، وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامةٌ يكرم اللَّه بها مَن شاء منصالح عباده، وهذه منزلةٌ جليلةٌ من منازل الأولياء.
«فإن يكن من أُمَّتي منهم أحدٌ فإنِّه عمر»، كأنَّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنَّه نبيّ، فلذلك أتى بلفظ «إن» بصورة الترديد. قال القاضي: ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والإختصاص قولك: إن كان ليصديقٌ فهو زيد، فإنّ قائله لا يريد به الشكَّ فيصداقته، بل المبالغة في أنَّ الصداقة مختصَّة به لا تتخطّاه إلى غيره.
وقال القرطبي: قوله «فإن يكن» دليلٌ على قلّة وقوعه وندرته، وعلى أنَّه ليس المراد بالمحدَّثين المصيبون فيما يظنّون، لأنَّه كثيرٌ في العلماء، بل وفي العوام مَن يقوى حدسه فتصحُّ إصابته فترتفع خصوصيَّة الخبر و خصوصيَّة عمر، ومعنى الخبر قد تحقّق ووجد في عمر قطعاً وإن كان النبيُّصلى الله عليه و آله لم يجزم بالوقوع، وقد دلَّ على وقوعه لعمر أشياء كثيرة كقصَّة: الجبل يا سارية! الجبل. وغيره، وأصحّ ما يدلَّ على ذلك شهادة النبيّصلى الله عليه و آله له بذلك حيث قال: «إنّ اللَّه جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه» «(1)».
ص:74
قال ابن حجر: وقد كثر هؤلاء المحدَّثون بعد العصر الأوّل، وحكمته زيادة شرف هذه الأُمَّة بوجود أمثالهم فيها ومضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء، فلمّا فات هذه الأُمَّة المحمَّديَّة كثرة الأنبياء؛ لكون نبيّهم خاتم الأنبياء، عُوِّضوا تكثير الملهمين.
تنبيهٌ:
قال الغزالي: قال بعض العارفين: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهد النفس، فالتفت إلى شماله وقال: ما تقول رحمك اللَّه؟ ثمَّ إلى يمينه كذلك، ثمّ أطرق إلىصدره فقال: ما تقول؟ ثمَّ أجاب فسألته عن إلتفاته؟ فقال: لم يكن عندي علمٌ فسألت الملكين فكلٌّ قال: لا أدري، فسألت قلبي فحدَّثني بما أجبت، فإذا هو أعلم منهما. قال الغزالي: وكأنَّ هذا معنى هذا الحديث. اه.
ويجد الباحث في طيِّ كتب التراجم جمعاً ممَّن كلّمتهم الملائكة منهم: عمران ابن الحصين الخزاعي المتوفّى سنّة 52 ه، أخرج أبو عمر في «الاستيعاب» 2ص 455: أنَّه كان يرى الحفظة وكانت تكلّمه حتّى اكتوى، وذكره ابن حجر في الإصابة 3ص 26.
وقال ابن كثير في تأريخه 8ص 60: قد كانت الملائكة تسلّم عليه، فلمّا اكتوى انقطع عنه سلامهم، ثمّ عادوا قبل موته بقليل، فكانوايسلّمون عليه رضى الله عنه.
ص:75
وفي شذرات الذهب 1ص 58: أنَّه كان يسمع تسليم الملائكة عليه، ثمّ اكتوى بالنار فلم يسمعهم عاماً، ثمَّ أكرمه اللَّه بردِّ ذلك.
وذكَر تسليم الملائكة عليه الحافظ العراقي في «طرح التثريب» ج 1ص 90، وأبو الحجَّاج المزّي في «تهذيب الكمال» كما في تلخيصهص 250، وقال ابن سعد وابن الجوزي في «صفة الصفوة» 1ص 283: كانت الملائكة تصافحه، وذكره ابن حجر في «تهذيب التهذيب» 8ص 126.
ومنهم أبو المعالي الصّالح المتوفّى 427 ه، أخرج الحافظان إبنا الجوزي وكثير: أنَّ أبا المعالي أصابته فاقةٌ شديدةٌ في شهر رمضان، فعزم على الذهاب إلى رجل من ذوي قرابته ليستقرض منه شيئاً، قال: فبينما أنا أُريده فنزل طائرٌ فجلس على منكبي وقال: يا أبا المعالي أنا الملك الفلاني، لا تمضي إليه نحن نأتيك به. قال: فبكّر إليّ الرَّجل «صف-صفة الصفوة لابن الجوزي- 2ص 280، ظم- المنتظم لابن الجوزي- 9ص 136، يه- البداية والنهاية لابن الأثير- 12ص 163».
وقال أبو سليمان الخطّابي: قال النبيّصلى الله عليه و آله: «قد كان في الأُمم ناسٌ مُحدَّثون، فإن يكن في أُمَّتي فعمر» وأنا أقول: فإن كان في هذا العصر أحدٌ كان أبو عثمان المغربي «طب- تأريخ بغداد للخطيب البغدادي- 9: 113».
ص:76
ومن هذا القبيل تكلّم الحوراء مع أبي يحيى الناقد، أخرج الخطيب البغدادي وابن الجوزي عن أبي يحيى زكريّا بن يحيى الناقد المتوفّى 285 ه، «أحد أثبات المحدِّثين» قال: إشتريت من اللَّه حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلمّا كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء وهي تقول: وفيتَ بعهدك فها أنا التي قد اشتريتني «(1)».
هذا ما عند القوم، وأمّا نصوص الشيعة:
فأخرج ثقة الإسلام الكليني في كتابه «أُصول الكافي»ص 84 تحت عنوان «باب الفرق بين الرَّسول والنبيّ والُمحدَّث» أربعة أحاديث:
منها باسناده عن بُريد عن الإمامين الباقر والصّادقصلوات اللَّه عليهما في قوله عزَّ وجلَّ في سورة الحجِّ: وما أرْسَلنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رسولٍ وَلا نبيٍّ وَلا مُحَدَّث، قال بُريد: قلت: جُعِلتُ فداك ليست هذه قراءتنا «(2)»، فما الرَّسول والنَّبيّ والُمحَدَّث؟ قال: «الرَّسول الَّذي يظهر له الملك فيكلّمه، والنبيّ هو الذي يرى في منامه، وربَّما اجتمعت النبوَّة والرِّسالة لواحدٍ، والُمحدَّث الذي يسمع الصوت
ص:77
ولا يرى الصّورة» قال: قلت أصلحك اللَّه كيف يعلم أنَّ الذي رأى في النّوم حقٌّ وأنَّه من الملك؟ قال: «يوفَّق لذلك حتَّى يعرفه، ولقد ختم اللَّه عزَّ وجلَّ بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء» «(1)».
وحديث آخر أيضاً فصّل بهذا البيان بين النبيِّ والرَّسول والمحدَّث «(2)».
وحديثان بالتفصيل المذكور غير أنَّ فيهما مكان لفظة المحدَّث، الإمام، أحدهما عن زرارة قال: سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن قول اللَّه عزَّ وجلَّ: «وكان رسولًا نبيّا» «(3)»
ما الرَّسول؟ وما النبيّ؟ قال:
«النبيّ الذي يرى في منامه ويسمع الصّوت ولا يعاين المَلك، والرَّسول الذي يسمع الصّوت ويرى في المنام ويعاين الملك».
قلتُ: الإمام مامنزلته؟ قال: «يسمع الصّوت ولا يرى ولا يعاين الملك»، ثمَّ تلا هذه الآية: وما أرسلنا مِن قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدَّث «(4)».
والثاني: عن إسماعيل بن مرّار قال: كتب الحسن بن العبّاس المعروف إلى الرضا عليه السلام: جُعلتُ فداك أخبرني ما الفرق بين
ص:78
الرَّسول والنبيّ والإمام؟ قال: فكتب أوقال: «الفرق بين الرَّسول والنبيِّ والإمام: أنَّ الرَّسول الذي ينزل عليه جبرئيل عليه السلام فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، والنبيّ ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص» «(1)».
هذا تمام ما في هذا الباب من الكافي، وأخرج فيص 135 تحت عنوان «باب أنَّ الأئمَّة عليهم السّلام مُحدَّثون مُفهمون» خمسة أحاديث.
منها: عن حمران بن أعين، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «إنَّ عليّاً كان مُحدَّثاً» فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ: جئتكم بعجيبة: فقالوا:
وما هي؟ فقلت: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كان عليٌّ مُحدَّثاً، فقالوا:
ماصنعتَ شيئاً ألا سألته: مَن كان يحدّثه؟ فرجعت إليه فقلتُ: إنِّي حدَّثت أصحابي بما حدَّثتني فقالوا: ماصنعتَ شيئاً ألا سألته: مَن كان يحدّثه؟ فقال لي: «يحدِّثه ملَك»، قلت: تقول إنّه نبيٌّ؟ قال:
فحرَّك يده هكذا، أو كصاحب سليمان، أو كصاحب موسى، أو كذي القرنين، أوَما بلغكم أنّه قال: وفيكم مثله» «(2)»؟
وحديث آخر ما ملخَّصه: انَّ عليّاً (أمير المؤمنين) كان يعرف
ص:79
قاتله ويعرف الأُمور العظام التي كان يُحدِّث بها النَّاس بقول اللَّه عزَّ ذكره. وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ ولا محدَّث «(1)».
وحديثان آخران: أحدهما: «أنَّ أوصياء محمَّدصلى الله عليه و آله محدَّثون» «(2)».
والثاني: «الأئمَّة علماءٌصادقونَ مُفهَمونَ مُحدَّثون» «(3)».
والحديث الخامس في معنى الُمحدَّث وانّه يسمع الصّوت ولايرى الشّخص «(4)».
وليس في هذا الباب من كتاب الكافي غير ماذكرناه.
وروى شيخ الطائفة في أماليهص 260 بإسناده عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «كان عليّ عليه السلام مُحدَّثاً، وكان سلمان محدّثاً»، قال: فما آية المحدَّث؟ قال: «يأتيه ملكٌ فينكت في قلبه كيت كيت» «(5)».
وبالإسناد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «منّا مَن يُنكت في قلبه، ومنّا مَن يُقذف في قلبه، ومنّا مَن يُخاطب». «(6)»
ص:80
وبإسناده عن الحرث النصري قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام:
الذي يُسأل عنه الإمام وليس عنده فيه شي ءٌ مِن أين يعلمه؟ قال:
«يُنكت في القلب نكتاً، أو يُنقر في الأُذن نقراً» «(1)».
وقيل لأبي عبداللَّه عليه السلام: إذا سُئلَ كيف يُجيب؟ قال: «إلهامٌ وسماعٌ وربَّما كانا جمعاً «(2)».
وروى الصفّار بإسناده في «بصائر الدرجات» عن حمران بن أعين قال: قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: ألستَ حدَّثتني إنَّ عليّاً كان مُحدَّثاً؟ قال: «بلى»، قلتُ: مَنْ يحدّثه؟ قال: «ملَكٌ»، قلتُ: فأقول:
«إنّه نبيٌّ أو رسولٌ»؟ قال: «لا، بل مَثَله مَثلصاحب سليمان، ومَثَلصاحب موسى، ومَثل ذي القرنين، أما بلغك أنَّ عليّاً سُئل عن ذي القرنين؟ فقالوا: كان نبيّاً؟ قال: لا، بل كان عبداً أحبَّ اللَّه فأحبَّه، وناصح اللَّه فناصحه» «(3)».
وبإسناده عن حمران قال: قلتُ لأبي جعفر عليه السلام ما موضع العلماء؟ قال: «مثل ذي القرنين، وصاحب سليمان، وصاحب داود» «(4)».
ص:81
وبالإسناد عن بُريد قال: قلتُ لأبي جعفر وأبي عبد اللَّه عليهما السلام: ما منزلكم؟ بمن تشبهون ممّن مضى؟ فقال: «كصاحب موسى، وذي القرنين، كانا عالمين ولم يكونا نبيَّين» «(1)».
وبالإسناد عن عمّار قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: ما منزلتهم؟
أنبياءٌ هم؟ قال: «لا، ولكن هم علماء كمنزلة ذي القرنين في علمه، وكمنزلةصاحب موسى، وكمنزلةصاحب سليمان» «(2)».
هذه جملةٌ من أخبار الشيعة في الباب وهي كثيرةٌ مبثوثة في كتبهم «(3)» وهذه رؤوسها، ومؤدَّى هذه الأحاديث هو الرأي العام عند الشيعة سلفاً وخلفاً، وفذلكته: أنَّ في هذه الأُمّة أُناس محدَّثون كما كان في الأُمم الماضية، وأمير المؤمنين وأولاده الأئمّة الطاهرون علماءٌ محدَّثون وليسوا بأنبياء. وهذا الوصف ليس من خاصّة منصبهم ولا ينحصر بهم، بل كانت الصدِّيقة كريمة النبيّ الأعظم محدَّثة، وسلمان الفارسي محدِّثاً. نعم كلّ الأئمَّة من العترة الطاهرة محدَّثون، وليس كلُّ محدَّث بإمام، ومعنى المحدَّث هو العالم بالأشياء بإحدى الطرق الثلاث المفصَّلة في الأحاديث المتلوَّة، هذا ماعند
ص:82
الشيعة ليس إلّا.
هذا منتهى القول عند الفريقين ونصوصهما في المحدَّث، وأنت كما ترى لا يوجد أيّ خلاف بينهما، ولم تشذّ الشيعة عن بقيّة المذاهب الإسلاميّة في هذا الموضوع بشي ء من الشذوذ إلّافي عدم عدّهم عمر بن الخطّاب من المحدَّثين، وذلك أخذاً بسيرته الثابتة فيصفحات التأريخ من ناحية علمه ولسنا في مقام البحث عنه «(1)»، فهل من المعقول أن يُعدّ هذا القول المتسالم عليه في المحدَّث لأُمّةٍ من قائليه فضيلةً رابيةً، وعلى الأُخرى منهم ضلالًا ومنقصة؟ لاها اللَّه.
هلمَّ معي نسائل كيذبان الحجاز عبداللَّه القصيمي، جرثومة النِّفاق، وبذرة الفساد في المجتمع، كيف يرى في كتابه (الصّراع بين الإسلام والوثنيّة) أنّ الأئمّة من آل البيت عند الشيعة أنبياء وأنّهم يوحى إليهم، وأنَّ الملائكة تأتي إليهم بالوحي، وأنّهم يزعمون لفاطمة وللأئمّة من وُلدِها ما يزعمون للأنبياء؟ ويستند في ذلك كلّه على مكاتبة الحسن بن العبّاس المذكورص 47 نقلًا عن الكافي.
هلّا يعلم هذا المغفَّل؟ إنّ هذه المفتريات والقذائف على أُمّة كبيرة (أصّلَت آرائها الصالحة على أرجاء الدنيا) إنْ هي إلّامآل
ص:83
القول بالمحدَّث الوارد في الكتاب العزيز، وتكلّم الملائكة مع الأئمّة من آل البيت وأُمّهم فاطمة البتول كما هو مقتضى استدلاله، وأهل الإسلام كلّهم شرعٌ سواء في ذلك.
أو للشيعيّ عندئذٍ أن يقول: إنّ عمر بن الخطّاب وغيره من المحدَّثين- على زعم العامّة عندهم- أنبياء يوحى إليهم، وانَّ الملائكة تأتي إليهم بالوحي؟ لكنَّ الشيعة علماء حكماء لا يخدشون العواطف بالدجل والتمويه وقول الزور، ولا يُسمع لأحدٍ من حملة روح التشيّع والنزعة العلويّة الصحيحة ومقتفي الآداب الجعفريّة أن يتَّهم أُمّة كبيرة بالطامات، وحاشاها أن تُشوِّه سمعتها بالأكاذيب والأفائك، وتقذف الأُمم بما هي بريئة منه.
أما كانت بين يدي الرَّجل تلكم النصوص الصريحة للشيعة على أنّ الأئمّة علماء وليسوا بأنبياء؟ أما كانصريح تلك الأحاديث بأنّ الأئمّة مَثَلهم كمثلصاحب موسى، وصاحب سليمان، وذي القرنين؟ أما كان في «الكافي» في الباب الذي قلّبه الرجل على الشيعة قول الإمامين الباقر والصّادق: «لقد ختم اللَّه بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء»؟
نعم، هذه كلّها كانت بمرأى من الرَّجل، غير أنّ الإناء ينضح بما فيه، ووليد الروح الأمويّة الخبيثة وحامل نزعاتها الباطلة سدكٌ بالقحَّة والسفالة، ولا ينفكُّ عن الخنى والقذيعة، ومن شأن الأمويِ
ص:84
أن يتفعّى ويمين ويأفك، ويهتك ناموس المسلمين، ويسلقهم بألسنة حداد، ويفتري على آل البيت وشيعتهم إقتداءً بسلفه، وجرياً على شنشنته الموروثة، ونحن نورد نصَّ كلام الرَّجل ليكون الباحث على بصيرةٍ من أمره، ويرى جهده البالغ في تشتيتصفوف الأُمّة، وشقِّ عصا المسلمين بالبهت وقول الزّور.
قال في «الصِّراع» ج 1ص 1: الأئمّة يوحى إليهم عند الشيعة، قال في «الكافي»: كتب الحسن بن العبّاس إلى الرِّضا يقول: ما الفرق بين الرَّسول والنبيِّ والإمام؟ فقال: «الرَّسول هو الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، والنبيّ ربما يسمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولايرى الشخص» وقال: والأئمَّة لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلونه إلّابعهد من اللَّه وأمر منه لا يتجاوزونه، وفي الكتاب نصوصٌ أُخرى متعدِّدةٌ في هذا المعنى، فالأئمَّة لدى هؤلاء أنبياء يوحى إليهم، ورُسُلٌ أيضاً، لأنَّهم مأمورون بتبليغ ما يوحى إليهم.
وقال في ج 2ص 35: قد قدَّ منا في الجزء الأوَّل:
ص:85
أنَّ القوم يزعمون أنَّ أئمَّة أهل البيت يوحى إليهم، وأنَّ الملائكة تأتيهم بالوحي من اللَّه ومن السَّماء، وتقدَّم قولهم: أنَّ الأئمة لا يفعلون شيئاً ولا يقولونه إلّا بوحي من اللَّه، وتقدّم: أنّ الفرق عندهم بين محمَّد رسول اللَّه وبين الأئمَّة من ذرِّيته: أنَّ محمَّداً كان يرى الملك النازل عليه بالوحي، وأمَّا الأئمَّة فيسمعون الوحي وصوت الملك وكلامه ولا يرون شخصه.
وهذا هو الفرق لديهم بين النبيِّ والإمام، وبين الرُسل والأئمَّة، وهو فرقٌ لا حقيقة له، فالأئمّة من آل البيت عندهم أنبياء ورُسُل بكلِّ ما في كلمة النبيِّ والرَّسول من معنى؛ لأنَّ النبيَّ الرَّسول هو إنسانٌ أوحى اللَّه إليه رسالة، وكلّف تبلغيها ونشرها، سواءٌ أكان وحي اللَّه إليه بواسطة الملك أم بلا واسطة، وسواءٌ رأى شخص تلك الواسطة أم لم يره، بل سمع منه وعقل عنه، هذا هو النبيُّ الرَّسول.
ورؤية الملك لادخل له في حقيقة معنى النبيِّ والرَّسول بالإجماع، ولهذا يقولون: الرَّسول هو
ص:86
إنسانٌ أوحي إليه وأُمر بالبلاغ، والنبيُّ هو إنسانُ اوحي إليه ولم يُؤمر بالبلاغ، ولم يجعلوا لرؤية الملك دخلًا في حقيقة النبيِّ وحقيقة الرَّسول، وهذا لا يُنازع فيه أحدٌ من الناس، فالشيعة يزعمون لفاطمة وللأئمَّة من وُلدها ما يزعمون للأنبياء والرُسُل من المعاني والحقائق، فهم يزعمون أنَّهم معصومون، وأنّهم يوحى إليهم، وأنَّ الملائكة تنزل عليهم بالرِّسالات، وأنَّ لهم معجزات أقلّها إحياؤهم الأموات، كما يقولون في أفضل كتبهم. إنتهى.
«إنّما يَفتري الكذِبَ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بآياتِ اللَّهِ وَأُولئك هم الكاذِبون»
(النحل: 105)
ص:87
شاعت القالة حول علم الأئمَّة من آل محمَّدصوات اللَّه عليه وعليهم ممّن أضمر الحنق على الشيعة وأئمتهم، فعندكلٍّ منهم حوشيٌّ من الكلام، يزخرف الزّلح من القول، ويخبط خبط عشواء، ويثبت البرهنة على جهله، كأنَّ الشيعة تفرَّدت بهذا الرأي عن المذاهب الإسلاميّة، وليس في غيرهم مَن يقول بذلك في إمام من أئمَّة المذاهب، فاستحقّوا بذلك كلَّ سببٍ وتحاملٍ ووقيعةٍ.
فحسبك ما لفّقه القصيمي في «الصِّراع» من قوله فيصحيفة «ب» تحت عنوان: الأئمة عند الشيعة يعلمون كلَّ شي ء، والأئمَّة إذا شاءوا أن
ص:88
يعلموا شيئاً أعلمهم اللَّه إيّاه، وهم يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلّاباختيارهم، وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولايخفى عليهم شى ءٌص 125 وص 126 (من الكافي للكليني).
ثمَّ قال: وفي الكتاب نصوص أُخرى أيضاً في المعنى، فالأئمَّة يُشاركون اللَّه في هذه الصفة،صفة علم الغيب، وعلم ما كان وما سيكون، وأنَّه لا يخفى عليهم شي ءٌ، والمسلمون كلّهم يعلمون أنَّ الأنبياء والمرسلين لم يكونوا يشاركون اللَّه في هذه الصفة، والنصوص في الكتاب والسُنَّة وعن الأئمَّة في أنَّه لا يعلم الغيب إلّااللَّه متواترةٌ لا يستطاع حصرها في كتاب. إلخ.
ج- العلم بالغيب- أعني الوقوف على ما وراء الشهود والعيان من حديث ما غبر أو ما هو آتٍ- إنَّما هو أمرٌ سائغٌ ممكنٌ لعامَّة البشر، كالعلم بالشهادة يُتصوَّر في كلِّ ما يُنبَّأ الإنسان من عالم غابر، أو عهدٍ قادم لم يَرَه ولم يشهده، مهما أخبره بذلك عالمٌ خبيرٌ، أخذاً من مبدأ الغيب والشهادة، أو علماً بطرق أُخرى معقولة، وليس هناك أيُّ وازعٍ من ذلك.
وأمّا المؤمنون خاصَّة فأغلب معلوماتهم إنّما هو الغيب من
ص:89
الايمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنَّته وناره ولقائه والحياة بعد الموت والبعث والنشور ونفخ الصور والحساب والحور والقصور والولدان وما يقع في العرض الأكبر، إلى آخرما آمنَ به المؤمن وصدَّقه، فهذا غيبٌ كلّه، وأُطلق عليه الغيب في الكتاب العزيز، وبذلك عرَّف اللَّه المؤمنين في قوله تعالى: «الَّذينَ يُؤمنون بالغيبِ» «البقرة 3»، وقوله تعالى: «الَّذينَ يَخشونَ ربَّهم بالغيب» «الانبياء 49» وقوله: «إنَّما تُنذر الَّذينَ يخشونَ ربَّهم بالغيب» «فاطر 18» وقوله: «إنَّما تُنذر مَن اتِّبع الذكر وخشيَ الرّحمن بالغيب» «يس 11» وقوله: «مَنْ خشي الرَّحمن بالغيب» «ق 33» وقوله: «إنّ الذينَ يخشونَ ربَّهم بالغيب لهم مغفرةٌ» «الملك 12» وقوله: «جنّاتِ عدنٍ وعدَ اللَّه عباده بالغيب» «مريم 61».
ومنصب النبوَّة والرِّسالة يستدعي لمتولِّيه العلم بالغيب من شتّى النواحي مضافاً إلى ما يعلم منه المؤمنون، وإليه يشير قوله تعالى: «كلّاً نقصُّ عليك من أنباء الرُّسل ما نثبِّت به فؤادك وجاءك في هذه الحقّ وموعظة وذكرى للمؤمنين» «هود 120».
ومن هنا قصَّ على نبيّه القصص، وقال بعد النبأ عن قصّة مريم:
«تِلكَ من أنباءِ الغيب نوحيها إليك» «هود 49».
وقال بعد قصّة إخوان يوسف: «ذَلِكَ مِن أنباءِ الغيب نوحيه
ص:90
إليك» «يوسف 102».
وهذا العلم بالغيب الخاصّ بالرُّسل دون غيرهم ينصُّ عليه بقوله تعالى: «عالم الغيب فلا يُظهر على غيبة أحداً إلّامن ارتضى من رسول» «(1)»
نعم: «ولا يُحيطون بشي ءٍ من علمه إلّابما شاء» «(2)» «وما أُوتيتم من العلم إلّاقليلًا» «(3)».
فالأنبياء والأولياء والمؤمنون كلّهم يعلمون الغيب بنصٍّ من الكتاب العزيز، ولكلٍّ منهم جزءٌ مقسوم، غير أنَّ علم هؤلاء كلّهم بلغ ما بلغ محدودٌ لا محالة كمّاً وكيفاً، وعارضٌ ليس بذاتيٍّ، ومسبوقٌ بعدمه ليس بأزليٍّ، وله بدءٌ ونهايةٌ ليس بسرمديٍّ، ومأخوذٌ من اللَّه سبحانه «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلّاهو» «(4)».
والنبيّ ووارث علمه في أُمّته «(5)» يحتاجون في العمل والسير على طبق علمهم بالغيب من البلايا، والمنايا، والقضايا، وإعلامهم الناس بشي ءٍ من ذلك، إلى أمر المولى سبحانه ورخصته، وإنَّما
ص:91
العلم، والعمل به، وإعلام الناس بذلك، مراحل ثلاث لادخل لكلِّ مرحلة بالأُخرى، ولا يستلزم العلم بالشي ء وجوب العمل على طبقه، ولا ضرورة الإعلام به، ولكلٍّ منها جهاتٌ مقتضيةٌ ووجوهٌ مانعةٌ لابُدَّمن رعايتها، وليس كلّما يُعلم يُعمل به، ولاكلّمايعُلم يُقال.
قال الحافظ الأُصولي الكبير الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي المتوفّى 790 ه في كتابه القيِّم (الموافقات في أُصول الأحكام) ج 2ص 184: لو حصلت له مكاشفة بأنَّ هذا المعيَّن مغصوبٌ أونجسٌ، أو أنَّ هذا الشاهد كاذبٌ، أو أنَّ المال لزيد، وقد تحصّل (للحاكم) بالحجّة لعمرو، أو ما أشبه ذلك، فلا يصحُّ له العمل على وفق ذلك مالم يتعيّن سببٌ ظاهرٌ، فلا يجوز له الإنتقال إلى التيمّم، ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لذي يدٍ على حال، فإنّ الظواهر قد تعيَّن فيها بحكم الشريعة أمرٌ آخر، فلا يتركها، إعتماداً على مجرَّد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النوميّة، ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غيرصحيح بحال فكذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح: «إنَّكم تختصمون إليّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأحكم له على نحوما أسمع منه» «(1)» الحديث.
ص:92
فقيَّد الحكم بمقتضى مايسمع وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثيرٌ من الأحكام التي تجري على يديه يطّلع على أصلها وما فيها من حقٍّ وباطل، ولكنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يحكم إلّاعلى وفق ماسمع، لا على وفق ما علم «(1)» وهو أصلٌ في منع الحاكم أن يحكم بعلمه، وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه: أنّ الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم تعمّد الكذب، لأنّه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكماً بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفاداً من العادات التي لا ريبة فيها لامِن الخوارق التي تداخلها أُمور، والقائل بحصّة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق، ولذلك لم يعتبره رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو الحجّة العظمى.
إلى أن قال: فيص 187. إنّ فتح هذا الباب يؤدِّي إلى أن لا يُحفظ ترتيب الظواهر، فإنَّ من وجب عليه القتل بسببٍ ظاهرٍ فالعذر فيه ظاهرٌ واضحٌ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل
ص:93
بمجرَّد أمرٍ غيبيٍّ ربَّما شوَّش الخواطر وران على الظواهر، وقد فُهِمَ من الشرع سَدّ هذا الباب جملة، ألا ترى إلى باب الدعاوى المستند إلى أنَّ البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر، ولم يُستثن من ذلك أحدٌ حتّى أنَّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله احتاج إلى البيِّنة في بعض ما أُنكر فيه ممّا كان اشتراه فقال: «مَن يشهد لي»؟ حتّى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها اللَّه شهادتين. فما ظنّك بآحاد الأُمَّة، فلو ادَّعى أكبر الناس على أصلح الناس لكانت البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك والنمط واحدٌ، فالإعتبارات الغيبيَّة مهملةٌ بحسب الأوامر والنواهي الشرعيَّة.
وقال فيص 189: فصلٌ: إذا تقرّر إعتبار ذلك الشرط فأين يسوغ العمل على وفقها؟ فالقول في ذلك: إنّ الأُمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدَّم وذلك على أوجه:
أحدها: أن يكون في أمرٍ مباحٍ، كأن يرى المكاشف أنَّ فلاناً يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقةٍ أو مخالفةٍ، أو يطَّلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقادٍ حقٍّ أو باطلٍ وما أشبه ذلك، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفَّظ من مجيئه إن كان قصده بشرٍّ، فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك، لكن لا يُعامله إلّابما هو مشروعٌ كما تقدَّم.
ص:94
الثاني: أن يكون العمل عليها لفائدةٍ يرجو نجاحها، فإنَّ العاقل لا يدخل على نفسه مالعلّه يخاف عاقبته، فقد يلحقه بسبب الإلتفات إليها أو غيره، والكرامة كما أنَّها خصوصيّةٌ كذلك هي فتنةٌ واختبارٌ لينظر كيف تعملون، فإن عرضت حاجةٌ أو كان لذلك سببٌ يقتضيه فلا بأس. وقد كان رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم يخبر بالمغيَّبات للحاجة إلى ذلك، ومعلومٌ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يخبر بكلِّ مغيَّب إطَّلع عليه، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات، وقد أخبر عليه الصَّلاة والسَّلام المصلّين خلفه:
أنَّه يراهم من وراء ظهره. لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك، وهكذا سائر كراماته ومعجزاته، فعمل أُمَّته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأوَّل، ولكنَّه مع ذلك في حكم الجواز، لما تقدَّم من خوف العوارض كالعجب ونحوه.
الثالث: أن يكون فيه تحذيرٌ أو تبشيرٌ، ليستعدَّ لكلٍّ عدَّته، فهذا أيضاً جائزٌ، كالإخبار عن أمرٍ ينزل إن لم يكن كذا، أولا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك ... إلى آخره.
فهلّا كان من الغيب نبأ إبني نوح، وأنباء قوم هود وعاد وثمود، وقوم إبراهيم ولوط، وذكرى ذي القرنين، ونبأ مَن سلف من الأنبياء والمرسلين؟!
ص:95
وهلّا كان منه ما أسرَّ به النبيُّصلى الله عليه و آله إلى بعض أزواجه فأفشته إلى أبيها، فلمّا نبّأها به وقالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبَّأني العليم الخبير؟ «التحريم 3».
وهلّا كان منه ما أنبأ موسىصاحبه من تأويل مالم يستطع عليهصبراً؟ «الكهف».
وهلّا كان منه ما كان يقول عيسى لأُمَّته «وأُنبِّئكم بما تأكلون وماتدَّخرون في بيوتكم»؟ «آل عمران 49».
وهلّا كان من منه قول عيسى لبني إسرائيل: «يا بني إسرائيل إنّي رسول اللَّه إليكم مصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة ومبشِّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد»؟ «الصف 6».
وهلّا كان منه ما أوحى اللَّه تعالى إلى يوسف: «لتنبئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون»؟ «يوسف 15».
وهلّا كان منه ما أنبأ آدم الملائكة من أسمائهم أمراً من اللَّه «يا آدم أنبئهم بأسمائهم»؟ «البقرة 33».
وهلّا كانت منه تكلم البشارات الجمّة المحكيّة عن التوراة والانجيل والزَّبور وصحف الماضين وزبر الأوَّلين بنبوَّة نبيِّ الإسلام وشمائله وتأريخ حياته وذكر أُمّته؟.
وهلّا كانت منه تلك الأنباء الصحيحة المرويَّة عن الكهنة
ص:96
والرهابين والأقسَّة حول النبي الأعظمصلى الله عليه و آله و سلم قبل ولادته؟.
ليس هناك أيّ منع وخطر إن علّم اللَّه أحداً ممّن خلق بما شاء وأراد من الغيب المكتوم من علم ما كان أوسيكون، من علم السَّماوات والأرضين، من علم الأوَّلين والآخرين، من علم الملائكة والمرسلين. كما لم يُر أيّ وازع إذا حَبا أحداً بعلم ما شاء من الشهادة وأراه ما خلق كما أرى إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض. ولا يُتصوَّر عندئذ قطُّ اشتراك مع المولى سبحانه فيصفته العلم بالغيب، ولا العلم بالشهادة ولو بلغ علم العالم أيَّ مرتبة رابية، وشتّان بينهما، إذ القيود الإمكانيّة البشريّة مأخوذةٌ في العلم البشريِّ دائماً لا محالة، سواءٌ تعلّق بالغيب أو تعلّق بالشهادة، وهي تلازمه ولا تفارقه، كما أنَّ العلم الإلهي بالغيب أو الشهادة تؤخذ فيه قيود الأحديّة الخاصّة بذات الواجب الأحد الأقدس سبحانه وتعالى.
وكذلك الحال في علم الملائكة، لو أذن اللَّه تعالى إسرافيل مثلًا وقد نصب بين عينيه اللوح المحفوظ الذي فيه تبيان كلّ شي ء أن يقرأ ما فيه ويطلّع عليه لم يُشارك اللَّه قطُّ فيصفته العلم بالغيب، ولا يلزم منه الشرك.
فلا مقايسة بين العلم الذاتيِّ المطلق وبين العرضيِّ المحدود، ولا بين ما لا يكيَّف بكيف ولا يؤيَّن بأين وبين المحدود المقيَّد، ولا بين
ص:97
الأزليِّ الأبديِّ وبين الحادث الموقَّت، ولا بين التأصليِّ وبين المكتسب من الغير، كما لا يُقاس العلم النبويُّ بعلم غيره من البشر، لإختلاف طُرق علمهما، وتباين الخصوصيّات والقيود المتَّخذة في علم كلٍّ منهما، مع الإشتراك في إمكان الوجود، بل لا مقايسة بين علم المجتهد وبين علم المقلّد فيما عملما من الأحكام الشرعيَّة ولو أحاط المقلّد بجميعها، لتباين المبادي ء العلميَّة فيهما.
فالعلم بالغيب على وجه التأصّل والإطلاق من دون قيد بكمٍّ وكيفٍ كالعلم بالشهادة على هذا الوجه إنّما هما منصفات الباري سبحانه، ويخصّان بذاته لا مطلق العلم بالغيب والشهادة، وهذا هو المعنيُّ نفياً وإثباتاً في مثل قوله تعالى: «قل لا يعلم مَن في السَّمواتِ والأرض الغيب إلّااللَّه» «النمل 65»، وقوله تعالى: «إنّ اللَّه عالم غيب السَّموات والأرض إنَّه عليمٌ بذات الصدور» «فاطر 38»، وقوله تعالى: «إنَّ اللَّه يعلم غيب السَّموات والأرض بصيرٌ بما تعملون» «الحجرات 18»، وقوله تعالى: «ثمَّ تردّون إلى عالم الغيبِ والشهادةِ فينبِّئكم بما كنتم تعملون» «الجمعة 8»، وقوله تعالى: «عالم الغيبِ والشهادةِ هو الرَّحمن الرَّحيم» «السجدة 6» وقوله تعالى: «عالم الغيبِ والشهادةِ العزيز الحكيم» «التغابن 18»، وقوله تعالى حكايةً عن نوح: «لا أقول لكم عندي خزائن اللَّه ولا أعلم الغيب ولا أقول إنّي ملك» «انعام 50، هود 31»، وقوله تعالى حكايةً:
«لوكنت أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير» «الأعراف 188».
ص:98
وبهذا التفصيل في وجوه العلم يُعلم عدم التعارض نفياً وإثباتاً بين أدلَّة المسألة كتاباً وسُنّة، فكلُّ من الأدلَّة النافية والمثبتة ناظرٌ إلى ناحيةٍ منها، والموضوع المنفيُّ من علم الغيب في لسان الأدلَّة غير المثبت منه، وكذلك بالعكس. وقد يوعز إلى الجهتين في بعض النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، مثل قول الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام مجيباً يحيى بن عبداللَّه بن الحسن لَمّا قاله: جعلت فداك انَّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب؟ فقال عليه السلام:
«سبحان اللَّه، ضع يدك على رأسي فواللَّه ما بقيت شعرةٌ فيه ولا في جسدي إلّاقامت»، ثمّ قال: «لا واللَّه ما هي إلّاوراثة عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله» «(1)».
وكذلك الحال في بقيَّة الصفات الخاصّة بالمولى العزيز سبحانه وتعالى، فإنّها تمتاز عن مضاهاة ما عند غيره تعالى من تلكم الصفات بقيودها المخصّصة، فلو كان عيسى على نبيِّنا وآله وعليه السلام يُحيي كلَّ الموتى بإذن اللَّه، أو كان خَلق عالماً بشراً من الطين باذن ربِّه بدل ذلك الطير الذي أخبر عنه بقوله: «إنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللَّه» «آل عمران 49»، لم يكن يُشارك المولى سبحانه فيصفته الإحياء والخلق،
ص:99
واللَّه هو الوليّ، وهو محيي الموتى، وهو الخلّاق العليم.
وإنّ الملك المصوِّر في الأرحام، مع تصويره ما شاء اللَّه من الصور وخلقه سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها «(1)»، لم يكن يشارك ربَّه فيصفته، واللَّه هو الخالق البارئ المصِّور، وهو الذي يصِّور في الأرحام كيف يشاء.
والملك المبعوث إلى الجنين الذي يكتب رزقه وأجله وعمله ومصائبه وما قدّر له من خير وشرٍّ وشقاوته وسعادته ثمّ ينفخ فيه الروح «(2)» لا يشارك ربّه، واللَّه هو الذي لم يكن له شريكٌ في الملك
ص:100
وخلق كلَّ شي ءٍ فقدَّره تقديراً.
وملك الموت مع أنّه يتوفَّى الأنفس، وأنزل اللَّه فيه القرآن وقال:
«قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وُكّل بكم» «السجدة 11»،صحَّ مع ذلك الحصر في قوله تعاليع: «أللَّه يتوفّى الأنفس حين موتها»، واللَّه هو المميت ولا يشاركه ملك الموت في شي ء من ذلك، كماصحّت النسبة في قوله تعالى: «الَّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم» «النحل 28»، وفي قوله تعالى: «الَّذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين» «النحل 32»، ولا تعارض في كلِّ ذلك ولا إثم ولا فسوق في إسناد الإماتة إلى غيره تعالى.
والمَلك لا يغشاه نوم العيون «(1)» ولا تأخذه سِنة الراقد بتقديرٍ من العزيز العليم وجعله، ومع ذلك لا يشارك اللَّه فيما مدح نفسه بقوله: «لا تأخذه سِنةٌ ولا نومٌ».
ولو أنَّ أحداً مكّنه المولى سبحانه من إحياء موتان الأرض
ص:101
برمّتها لم يشاركه تعالى واللَّه هو الذي يحيي الأرض بعد موتها.
فهلمَّ معي نسائل القصيمي عن أنَّ قول الشيعة بأنَّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم اللَّه إيَّاه، كيف يتفرَّع عليه القول بأنَّ الأئمّة يشاركون اللَّه في هذه الصفةصفة علم الغيب؟ وما وجه الإشتراك بعد فرض كون علمهم بإخبار من اللَّه تعالى وإعلامه؟
وقد ذهب على الجاهل أنَّ الحكم بأنَّ القول بعلم الأئمّة بما كان وما يكون- وليس هو كلّ الغيب ولا جلّه- وعدم خفاء شي ء من ذلك عليهم يستلزم الشرك باللَّه فيصفة علمه بالغيب، تحديدٌ لعلم اللَّه، وقولٌ بالحدِّ فيصفاته سبحانه، ومَن حدَّه فقد عدَّه، تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً. والنصوص الموجودة في الكتاب والسنّة على أن لا يعلم الغيب إلّاقد خفيت مغزاها على المغفَّل ولم يفهم منها شيئاً «ومِن النّاس مَن يجادل في اللَّه بغير علم ويتَّبع كلَّ شيطانٍ مريد» «(1)».
ونُسائل الرَّجل: كيف خفي هذا الشرك المزعوم على أئمّة قومه؟
فيما أخرجوه عن حذيفة قال: أعلمه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بما كان وما يكون إلى يوم القيامة «(2)»، وما أخرجه أحمد إمام مذهب الرجل في
ص:102
مسنده ج 5ص 388 عن أبي ادريس قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: واللَّه إنّي لأعلم الناس بكلِّ فتنة هي كائنةٌ فيما بيني وبين السّاعة.
وقد جهل بأنَّ علم المؤمن بموته وإختياره الموت واللقاء مهما خيّر بينه وبين الحياة ليس من المستحيل، ولا بأمرٍ خطير بعيدٍ عن خطر المؤمن فضلًا عن أئمّة المؤمنين من العترة الطاهرة، هلّا يعلم الرجل ما أخرجه قومه في أئمَّتهم من ذلك وعدّوه فضائل لهم؟
ذكروا عن ابن شهاب «(1)» قال: كان أبو بكر- ابن أبي قحافة- والحارث بن كلدة يأكلان حريرة أُهديت لأبي بكر فقال الحارث لأبي بكر: إرفع يدك يا خليفة رسول اللَّه إنَّ فيها لسمّ سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد، فرفع يده، فلم يزالا عليلين حتّى ماتا في يوم واحد عند إنقضاء السنة.
وذكر أحمد في مسنده 1ص 48 و 51، والطبري في رياضه 2ص 74 إخبار عن موته بسبب رؤيا رآها، وما كان بين رؤياه وبين يوم طعن فيه إلّاجمعة.
وفي الرياض ج 2ص 75 عن كعب الأخبار إنّه قال لعمر: يا أمير المؤمنين أعهد بأنَّك ميِّت إلى ثلاثة أيّام، فلمَّا قضى ثلاثة أيَّام
ص:103
طعنه أبو لؤلؤة فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم فقال:
القول ما قال كعب.
وروي إنّ عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر: إحترس أو اخرج العجم من المدينة، فإنّي لا آمن أن يطعنك رجلٌ منهم في هذا الموضع. ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة.
وعن جبير بن مطعم قال: إنّا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة إذ سمعت رجلًا يقول: يا خليفة! فقال أعرابيٌّ من لهب من خلفي: ما هذا الصوت؟ قطع اللَّه لهجتك واللَّه لا يقف أمير المؤمنين بعد هذا العام أبداً. فسببته وأدَّبته، فلمّا رمينا الجمرة مع عمر جاءت حصاة فأصابت رأسه ففتحت عرقاً من رأسه فسال الدم، فقال رجلٌ: أشعر أمير المؤمنين أما واللَّه لا يقف بعد هذا العام ههنا أبداً. فالتفت فإذا هوذلك اللهبي، فواللَّه ماحجّ عمر بعدها. خرَّجه ابن الصحّاك.
وإن تعجب فعجبٌ إخبار الميِّت وهو يُدفن عن شهادة عمر في أيّام خلافة أبي بكر، أخرج البيهقي عن عبداللَّه بن عبيداللَّه الأنصاري قال: كنتُ فيمن دفن ثابت بن قيس وكان قتل باليمامة «(1)» فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول: محمّد رسول اللَّه،
ص:104
أبو بكر الصدّيق، عمر الشهيد، عثمان البرّ الرَّحيم. فنظرنا إليه فإذا هو مِّيت. وذكره القاضي في «الشفاء» في فصل إحياء الموتى وكلامهم.
وعن عبداللَّه بن سلام قال: أتيتُ عثمان وهو محصورٌ أُسلِّم عليه فقال: مرحباً بأخي مرحباً بأخي، أفلا أُحدِّثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقلت: بلى. قال: رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وقد مثّل لي في هذه الخوخة- وأشار عثمان إلى خوخة في أعلى داره- فقال: حصروك؟
فقلت. نعم فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم. فأدلى دلواً من ماء فشربت حتّى رُويت، فها أنا أجد برودة ذلك الدلو بين ثديي وبين كتفي. فقال: إن شئت أفطرت عندنا وإن شئت نصرت عليهم؟
فاخترت الفطر «(1)».
وعنه قال: إنّي رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله البارحة و أبابكر و عمر فقالوا لي:صبراً فإنَّك تفطر عندنا القابلة.
عن كثير بن الصلت عن عثمان قال: إنّي رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في منامي هذا فقال: إنَّك شاهدٌ معنا الجمعة (ك- مستدرك الصحيحين- 3ص 99).
وعن ابن عمر: انّ عثمان أصبح يحدِّث الناس قال: رأيت رسول
ص:105
اللَّهصلى الله عليه و آله في المنام قال: يا عثمان أفطر عندنا غداً، فأصبحصائماً وقتل من يومه.
قال محبّ الدين الطبري في «الرِّياض» 2ص 127 بعد رواية ما ذكر: واختلاف الروايات محمولٌ على تكرار الرؤيا فكانت مرَّة نهاراً ومرَّة ليلًا.
وأخرج الحاكم في «المستدرك» 3ص 203 بسندصحَّحه إخبار عبداللَّه بن عمرو الأنصاري الصحابي ابنه جابر بشهادته يوم أُحد، وأنَّه أوَّل قتيلٍ من أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فكان كما أخبر به.
وذكر الخطيب البغدادي في تأريخه 2ص 49 عن أبي الحسين المالكي أنَّه قال: كنتُ أصحب خير النساج- محمّد بن اسماعيل- سنين كثيرة ورأيت له من كرامات اللَّه تعالى ما يكثر ذكره غير أنَّه قال لي قبل وفاته بثمانية أيّام: إنّي أموت يوم الخميس المغرب، فأُدفن يوم الجمعة قبل الصَّلاة وستنسى فلا تنساه. قال أبو الحسين: فأنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من خبَّرني بموته فخرجت لأحضر جنازته فوجدت الناس راجعين فسألتهم لِمَ رجعوا فذكروا أنّه يدفن بعد الصَّلاة، فبادرت ولم ألتفت إلى قولهم فوجدت الجنازة قد أُخرجت قبل الصَّلاة أو كما قال. وهذه القصَّة ذكرها ابن الجوزي أيضاً في المنتطم 6ص 274.
ص:106
توجد في طيِّ كتب الحفّاظ ومعاجم أعلام القوم قضايا جمَّة في اناس كثيرين عدّوها لهم فضلًا وكرامةً تنبأ عن علمهم بالغيب وبما تخفي الصّدور، ولا يراها أحدٌ منهم شركاً، ولا يسمع من القصيمي ومن لفَّ لفَّه فيها ركزاً، وأمثالها في أئمَّة الشيعة هي التي جسَّها القوم، وألقت عليهم جشمها، وكثر فيها منهم الرطيط، وإليك جملةٌ من تلكم القضايا:
1- قال أبو عمرو بن علو ان: خرجت يوماً إلى سوق الرحبة في حاجة فرأيتُ جنازة، فتبعتها لأُصلّي عليها، ووقفت حتّى يدفن الميِّت في جملة الناس، فوقعت عيني على امرأة مسفرة من غير تعمّد، فلححت بالنظر واسترجعت واستغفرت اللَّه «إلى أن قال»:
فخطر في قلبي: أن زر شيخك الجنيد، فانحدرت إلى بغداد، فلمّا جئت الحجرة التي هو فيها طرقت الباب فقال لي: ادخل أبا عمرو، تذنب بالرّحبة ونستغفر لك ببغداد. تأريخ بغداد 7ص 247،صف (صفة الصفوة لإبن الجوزي) 2 من 236.
2- قال ابن النّجار كان الشيخ «أبو محمَّد عبداللَّه الجبائي المتوفّى 605 ه» يتكلّم يوماً في الإخلاص والرِّياء والعجب وأنا حاضرٌ في المجلس، فخطر في نفسي: كيف الخلاص من العجب؟
فالتفت إليَّ الشيخ وقال: إذا رأيت الأشياء من اللَّه وأنّه وفقك لعمل
ص:107
الخير وأخرجك من البين سلمت من العجب. هب (شذرات الذهب) 5ص 16.
3- عن الشيخ علي الشبلي قال: احتاجت زوجتي إلى مقنعة، فقلت: عليَّ دين خمسة دراهم فمن أين أشتري لك مقنعة؟ فنمتُ فرأيتُ من يقول لي: إذا أردت أن تنظر إلى ابراهيم الخليل فانظر إلى الشيخ عبداللَّه بن عبد العزيز. فلمّا أصبحت أتيته بقاسيون فقال لي: ما لك يا علي؟ أجلس وقام إلي منزله وعاد ومعه مقنعة في طرفها خمسة دراهم، فأخذتها ورجعت. هب (شذرات الذهب) 5ص 74.
4- قال أبو محمَّد الجوهري سمعتُ أخي أبا عبداللَّه يقول:
رأيت النبيّصلى الله عليه و آله في المنام فقلت: يا رسول اللَّه أيّ المذاهب خير؟
وقال قلت: على أيِّ المذاهب أكون؟ فقال: ابن بطة ابن بطة «(1)».
فخرجت من بغداد إلى عكبرا، فصادف دخولي يوم الجمعة، فقصدت الشيخ أبا عبداللَّه ابن بطة إلى الجامع، فلّما رآني قال لي إبتداءً:صدق رسول اللَّه،صدق رسول اللَّه. هب (شذرات الذهب) 3ص 123.
5- قال أبو الفتح القوّاس: لحقتني إضاقة وقتاً من الزّمان،
ص:108
فنظرت فلم أجد في البيت غير قوس لي وخفّين كُنت ألبسهما، فأصبحت وقد عزمت على بيعهما، وكان يوم مجلس أبي الحسين بن سمعون، فقلت في نفسي: أحضر المجلس ثمَّ انصرف فأبيع الخفّين والقوس. قال: وكان القوّاس قلَّ ما يتخلّف عن حضور مجلس ابن سمعون، قال أبو الفتح: فحضرتُ المجلس فلمّا أردت الإنصراف ناداني أبو الحسين: يا أبا الفتح لا تبع الخفَّين ولا تبع القوس فإنَّ اللَّه سيأتيك برزق من عنده. تأريخ ابن عساكر 1ص 276.
6- قال الحافظ ابن كثير في تاريخه 12ص 144: قدم الخطيب أردشير بن منصور أبو الحسين العبادي، وكان يحضر في مجلسه في بعض الأحيان أكثر من ثلاثين ألفاً من الرِّجال والنساء، قال بعضهم: دخلتُ عليه وهو يشرب مرقاً، فقلت في نفسي: ليته أعطاني فضله لأشربه لحفظ القرآن، فناولني فضله فقال: اشربها على تلك النيّة. قال: فرزقني اللَّه حفظ القرآن.
7- قال أبو الحارث الأولاسى: خرجت من حصن اولاس أُريد البحر فقال بعض اخواني: لا تخرج فإنّي قد هيَّأت لك «عُجَّة» حتّى تأكل قال: فجلست فأكلت معه ونزلت إلى الساحل وإذا أنا بابراهيم بن سعد (أبو إسحاق الحسني) العلوي قائماً يصلّي فقلت في نفسي: ما أشكّ إلّاأنَّه يريد أن يقول: امش معي على الماء، ولئن قال لي لأمشينَّ معه، فما استحكم الخاطر حتّى قال: هيه يا أبا
ص:109
الحارث أمش على الخاطر. فقلت: بسم اللَّه فمشى هو على الماء، فذهبت أمشي فغاصت رجلي، فالتفت إليَّ وقال لي: يا أبا الحارث، العجَّة أخذت برجلك، فذهب وتركني. طب (تأريخ بغداد للخطيب البغدادي) 6ص 86، كر (تأريخ الشام لابن عساكر) 2ص 208،صف (صفة الصفوة لابن الجوزي) 2ص 242.
8- كان ابن سمعون محمَّد بن أحمد الواعظ المتوفّى 387 ه يعظ يوماً على المنبر وتحته أبو الفتح بن القوّاس، فنعس ابن القوّاس فأمسك ابن سمعون عن الوعظ حتّى استيقظ، فحين استيقظ قال ابن سمعون: رأيتَ رسول اللَّه في منامك هذا؟ قال: نعم. قال: فلهذا أمسكتُ عن الوعظ حتّى لا ازعجك عمّا كنت فيه. تأريخ بغداد 1ص 276، المنتظم 7ص 199، تاريخ ابن كثير 11ص 323.
9- روي عن ابن الجنيد أنَّه قال: رأيت ابليس في المنام وكأنَّه عريان فقلت: ألا تستحي من الناس؟ فقال: وهو لا يظنّهم ناساً-:
لو كانوا ناساً ما كنت ألعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة، إنّما الناس جماعةٌ غير هؤلاء. فقلت: أين هم؟ فقال: في مسجد الشونيزي قد أضنوا قلبي واتعبوا جسدي، كلّما هممت بهم أشاروا إلى اللَّه عزَّ وجلَّ فأكاد أحترق. قال: فلمّا انتبهت لبست ثيابي ورحت إلى المسجد الذي ذكر فإذا ثلاثة جلوس ورؤوسهم في مرقعاتهم، فرفع أحدهم ر. سه إلىَّ وقال: يا أبا القاسم لا تغترّ
ص:110
بحديث الخبيث وأنت كلّما قيل لك شي ءٌ تقبل. فإذا هم: أبو بكر الدقّاق، وأبو الحسين النوري «(1)»، وأبو حمزة محمَّد بن علي الجرجاني الفقيه الشافعي. ذكره ابن الأثير كما في تأريخ ابن كثير 11ص 97، وابن الجوزي فيصفة الصفوة 2ص 234.
10- جاء يوماً شابٌّ نصرانيٌّ فيصورة مسلم إلى أبي القاسم الجنيد الخزّاز فقال له: يا أبا القاسم ما معنى قول النيصلى الله عليه و آله: «أتَّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللَّه»؟ فأطرق الجنيد ثمَّ رفع رأسه إليه وقال: أسلم فقد آن لك أن تسلم، قال: فأسلم الغلام. تاريخ ابن كثير 11ص 114.
وحُكي عن أبي الحسن الشاذلي المتوفّى 656 ه قوله: لولا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما يحدث في غدٍ وما بعده إلى يوم القيامة. هب (شذرات الذهب) 5ص 279.
وأعجب من هذه كلّها دعوى الرَّجل من القوم أنَّه يرى اللوح المحفوظ ويقرأه، فتؤخذ منه تلكم الدعاوى الضخمة، وتذكر في
ص:111
سلسلة الفضائل، وتأتي في كتبهم حقائق راهنة من دون أيّ مناقشة في الحساب.
قال ابن العماد في شذرات الذهب 8ص 286 في ترجمة المولى محيي الدين محمَّد ابن مصطفى القوجوي الحنفي المتوفّى 950 هصاحب الحواشي على البيضاوي ومؤلَّفات أُخرى: كان يقول إذا شككت في آية من القرآن أتوجَّه إلى اللَّه تعالى فيتَّسعصدري حتّى يصير قدر الدنيا، ويطلع فيه قمران لاأدري هما أيّ شي ء، ثمَّ يظهر نورٌ فيكون دليلًا إلى اللوح المحفوظ فأستخرج منه معنى الآية.
وقال في ج 8ص 178 في ترجمة المولى بخشي الرومي الحنفي المتوفّى 931 ه: رحل إلى ديار العرب فأخذ عن علمائهم وصارت له يدٌ طولى في الفقه والتفسير (إلى أن قال): كان ربّما يقول: رأيتُ في اللوح المحفوظ مسطوراً كذا وكذا فلا يخطئ أصلًا.
وقال اليافعي في مرآة الجنان 3ص 471: أنَّ الشيخ جاكير المتوفّى سنة 590 ه كان يقول: ما أخذتُ العهد على أحد حتّى رأيتُ اسمه مرفوعاً في اللوح المحفوظ من جملة مريدي.
وقال في المرآة ج 4ص 25: كان الشيخ ابن الصّباغ أبو الحسن عليّ بن حميد المتوفّى 612 ه لا يصحب إلّامَن يراه مكتوباً في اللوح المحفوظ من أصحابه، وذكره ابن العماد في شذراته 5ص 52.
ص:112
توجد جملة كثيرة من هذه الأوهام الخرافيَّة في طبقات الشعراني، والكواكب الدريَّة للنووي، وروض الرَّياحين لليافعي، وروضة الناظرين للشيخ أحمد الوتري وأمثالها.
«الَّذينَ كَذَّبوا بآياتنا سَنَستدرِجُهم مِنْ حيثُ لا يَشعِرونَ» (الأعراف: 182)
ص:113
الآن حقّ علينا أن نُميط الستر عن خبيئة أسرارنا، ونُعرب عن غايتنا المتوخّاة من هذا البحث الضافي حول الكتب.
الآن آن لنا أن ننوّه بأنّ ضالّتنا المنشودة هي إيقاظ شعور الأُمّة الإسلامية إلى جانب مهمّ فيه الصالح العام والوئام والسّلام والوحدة الإجتماعيّة، وحفظ ثغور الإسلام عن تهجّم سيل الفساد الجارف.
«يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيري بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ» «(1)».
ص:114
أُنشدكم باللَّه أيّها المسلمون، هل دعايةٌ أقوى من هذه الكتب إلى تفريقصفوف المسلمين، وتمزيق شملهم، وفساد نظام المجتمع، وذهاب ريح الوحدة العربيّة، وفصم عرى الأُخوّة الإسلاميّة، وإثارة الأحقاد الخامدة، وحشّ نيران الضغائن في نفوس الشعب الإسلامي، ونفخ جمرة البغضاء والعداء المحتدم بين فرق المسلمين؟!
«يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ» «(1)»
: هذه الكتب يُضادّصراخها نداء القرآن البليغ، هذه النعرات المشمرجة «(2)» تُشيع الفحشاء والمنكر في الملأ الديني، هذه الكلم الطائشة معاول هدّامة لأُسّ مكارم الأخلاق التي بُعث لتتميمها نبيّ الإسلامصلى الله عليه و آله و سلم، هذه الألسنة السّلاقة اللسّابة البذّاءة مدرسات الأُمّة بفاحش القول وسوء الأدب وقبح العشرة وضدّ المداراة وبالشراسة والقحّة والشياص، هذه التعاليم الفاسدة فيها دَحْسٌ لنظام المجتمع ودحلٌ بين الفرق الإسلاميّة، وهتكٌ لناموس الشرع المقدّس وعبثٌ بسياسة البلاد وصدعٌ لتوحيد العباد، هذه الأقلام المسمومة تمنع
ص:115
الأُمّة عن سعادتها ورقيّها وتولد العراقيل في مسيرها ومسربها وتمحو ما خطته يد الإصلاح فيصحائف القلوب وتحيي في النفوس ما عقمته داعية الدين.
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ» «(1)»
: إنّ الآراء الدينيّة الإسلامية إجتماعية يشترك فيها كلّ معتنق بالإسلام، إذ لا تمثّل في الملأ إلّاباسم الدين الإجتماعي، فيهمُّ كلّ إسلاميّ يحمل بين جنبيه عاطفةً دينيّةً أن يدافع عن شرف نحلته، وكيان ملّته، مهما وجد هناك زلّةً في رأي، أو خطأً في فكرة، ولا يسعه أن يفرّق بين باءةٍ وأُخرى، أو يخصّ نفسه بحكومة دون غيرها «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ» «(2)»
، بل الأرض كلّها بيئة المسلم الصّادق والإسلام حكومته، وهو يعيش تحت راية الحق، وتوحيد الكلمة ضالّته، وصدق الإخاء شعاره أينما كان وحيثما كان.
هذا شأن الأفراد وكيف بالحكومات العزيزة الإسلاميّة؟ التي هي شعب تلك الحكومة العالميّة الكبرى، ومفردات ذلك الجمع الصحيح، ومقطّعات حروف تلك الكلمة الواحدة، كلمة الصدق والعدل، كلمة الإخلاص والتوحيد، كلمة العزّ والشرف، كلمة الرُقي والتقدّم.
فأنّى يسوغ لحكومة مصر العزيزة أن تُرخّص لنشر هذه
ص:116
الكتب في بلادها؟ وتُشوّه سمعتها في أرجاء الدنيا؟ وهي ثغر الإسلام المستحكم من أوّل يومه، وهي مدرسة الشرق المؤسّسة تحت راية الحقّ بيد رجال العلم والدين.
أليس عاراً على مصر بعدما مضت عليها قرون متطاولة بحسن السمعة أن تُعرّف في العالم بأُناس دجّالين، وكتّاب مستأجرين، وأقلام مسمومة، وأن يقال: إنّ فقيهها موسى جار اللَّه، وعالمها القصيمي، ومصلحها أحمد أمين، وعضو مؤتمرها محمّد رشيد رضا، ودكتورها طه حسن، ومؤرّخها الخضري، وأُستاذ علوم إجتماعها محمّد ثابت، وشاعرها عبد الظاهر أبو السَّمح.
أليس عاراً على مصر أن يتملّج ويتلمّظ بشرفها الدُّخلاء من ابن نجدٍ ودمشق فيؤلّف أحدهم كتاباً في الردّ على الإماميّة ويسمّيه «الصراع بين الإسلام والوثنية» ويأتي آخر يُقرِّظه بشعره لا بشعوره ويعرّف الشيعة الإماميّة بقوله:
ويحمل قلبهم بغضاً شنيعاً لخير الخلق ليس له دفاعُ
يقولون: الأمين حبا بوحي وخان وما لهم عن ذا ارتداعُ
فهل في الأرض كفرٌ بعد هذا؟ ولمن يهوى متاعُ
فما للقوم دينٌ أو حياءٌ بحسبهم من الخزي «الصراع»
«أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» «(1)»
، أيحسب
ص:117
امرئٌ مصريٌّ انّ إشاعة هذه الكتب، وبثّ هذه المخاريق والنسب المفتعلة، ونشر هذه التآليف التافهة حياةٌ للأُمّة المصريّة، وايقاظٌ لشعور شعبها المثقّف، وإبقاءٌ لكيان تلك الحكومة العربيّة العزيزة، وتقدّم ورقيٌّ في حركاتها العلمية، الأدبيّة، الأخلاقيّة، الدينيّة، الإجتماعيّة؟
أسفاً على أقلام مصر النزيهة، وأعلامها المحنّكين، ومؤلّفيها المصلحين، وكُتّابها الصادقين، وعباقرتها البارعين، وأساتذتها المثقّفين، ورجالها الأُمناء على ودايع العلم والدين.
أسفاً على مصر وعلمها المتدفّق، وأدبها الجمّ، وروحها الصحيحة، ورأيها الناضج، وعقلها السليم، وحياتها الدينيّة، وإسلامها القديم، وولائها الخالص، وتعاليمها القيّمة، ودروسها العالية، وخلايقها الكريمة، وملكاتها الفاضلة.
أسفاً على مصر وعلى تلكم الفضائل وهي راحت ضحيّة تلك الكتب المزخرفة، ضحيّة تلك الأقلام المستأجرة، ضحيّة تلك النزعات الفاسدة، ضحيّة تلك الصحائف السوداء، ضحيّة تلك النعرات الحمقاء، ضحيّة تلك المطابع المأسوف عليها، ضحيّة أفكار أُولئك المحدَثين المتسرّعين «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ» «(1)»
، «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَاتُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
ص:118
مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَايَشْعُرُونَ» «(1)».
أليست هذه الكتب بين يدي أعلام مصر ومشايخها المثقّفين؟
أم لم يوجد هناك مَن يحمل عاطفةً ينيّة، وشعوراً حيّاً، وفكرةًصالحة يُدافع عن ناموس مصره المحبوبة قبل ناموس الشرق كلّها؟
والعجب كلُّ العجب انّ علّامة مصر «(2)» يُري للمجتمع انّه الناقد البصير فيقرّظ كتاباً «(3)» قيّماً لعربيٍّصميم عراقيّ يُعدّ من أعلام العصر ومن عظماء العالم ويُناقش دون ما في طيّه من الأغلاط المطبعيّة ممّا لا يترتّب به على الأُمّة ولا على فردٍ منها أيّ ضرر وخسارة بمثل قوله: كلّما،صوابه: كلّ ما. شرع،صوابه:
شرح. شيخنا،صوابه: شيخا.
مرحباً بهذا الحرص والإستكناه في الإصلاح والتغاضي عن تلكم الكوارث، مرحباً بكلاءة ناموس لغة العرب والصفح عن دينه وصالح ملّته، مرحباً بهذه العاطفة المصلحة لتآليف مشايخ
ص:119
الشيعة، والتحامل عليهم بذلك السباب المقذع، مرحباً مرحباً مرحباً.
لمَ لم يرق أمثال هذا النابه النقيد أن يأخذ بميزان القسط، وقانون العدل، وناموس النصفة، وشرعة الحقّ، وواجب الخدمة للمجتمع، ويُلفت مؤلّف مصره العزيزة إلى تلكم الهفوات المخزية في تلكم التآليف التي هي سلسلة بلاء، وحلقات شقاء تنتهي إلى هلاك الأُمّة ودمارها، وتجرُّ عليها كلّ سوءة، وتُسفّها إلى حضيض التّعاسة؟ ...
فواجب المسلم الصّادق في دعواه الحافظ على شرفه وعزّ نحلته، رفض أمثال هذه الكتب المبهرجة، ولفظها بلسان الحقيقة، والكفّ عن اقتنائها وقرائتها، والتجنّب عن الإعتقاد والتصديق بما فيها، والبعد عن الأخذ والبخوع بما بين دفوفه، والإخبات إلى ما فيها قبل أن يعرضها إلى نظّارة النقيب، وصيارفة النقد والإصلاح، أو النظر إليها بعين التنقيب وإردافها بالردّ والمناقشة فيها إن كان من أهلها، «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» «(1)».
وواجب رجال الدعاية والنشر في الحكومات الإسلاميّة عرض كلّ تأليفٍ مذهبيٍّ، حول أيّ فرقة من فرق الإسلام إلى
ص:120
أُصولها ومبادئها الصحيحة المؤلّفة بيد رجالها ومشايخها، والمنع عمّا يُضادُّها ويُخالفها، إذ هم عيون الأُمّة على ودايع العلم والدين، وحفظة ناموس الإسلام، وحرسة عُرى العروبة، إن عقلواصالحهم، وعليهم قطع جذوم الفساد قبل أن يُؤجَّج المفسد نار الشحناء في الملأ ثمّ يعتذر بعدم الإطّلاع وقلّة المصادر عنده كما فعل أحمد أمين بعد نشر كتابه فجر الإسلام في ملأ من قومه، و «الْإِنْسَانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعَاذِيرَهُ» «(1)»
ولا عذر لأيّ أحد في القعود عن واجبه الدينيّ الإجتماعي، «وَلْتَكُنْ مُنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «(2)».
ونحن نرحّب بكتاب كلّ مذهب وتأليف كلّ ملّة أُلّف بيد الصّدق والأمانة، بيد الثقة والرزانة، بيد التحقيق والتنقيب، بيد العدل والإنصاف، بيد الحبّ والإخاء، بيد أدب العلم والدين، «لِيَهْلكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة» «(3)»
، «ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ» سورة البقرة: 232.
ص:121
1- أحكام القرآن: للجصّاص، دار الفكر، بيروت.
2- الأمالي: للشيخ المفيد، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
3- الأمالي: للشيخ الطوسي، منشورات الداوري، قم.
4- الاستبصار: للشيخ الطوسي، دار الكتب الإسلامية، طهران.
5- الانتصار: للسيد المرتضى، منشورات الشريف الرضي، قم.
6- بصائر الدرجات: للصفار، منشورات الأعلمي، طهران.
7- تأويل مختلف الحديث: لابن قتيبة، دار الجيل، بيروت.
8- تحرير الأحكام: للعلّامة الحلّي، الطبعة الحجرية.
9- تفسير الطبري: دار المعرفة، بيروت.
10- التفسير الكبير: للفخر الرازي.
ص:122
11- التهذيب: للشيخ الطوسي، دار الكتب الإسلامية، طهران.
12- جواهر الكلام: للشيخ محمد حسن النجفي، دار احياء التراث العربي، بيروت.
13- الحدائق الناضرة: للبحراني، دار الكتب الإسلامية، قم.
14- حلية الأولياء: لأبي نعيم، دار الكتاب العربي، بيروت.
15- الدر المنثور: للسيوطي، المكتبة المرعشية، قم.
16- الروضة البهية: للشهيد الثاني، دار العالم الإسلامي، بيروت.
17- السنن الكبرى: للبيهقي، دار الفكر، بيروت.
18- سنن الدارمي: دار الفكر، بيروت.
19- شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد المعتزلي، دار احياء الكتب العربية، بيروت.
20- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: للحاكم الحسكاني.
21-صحيح البخاري: دار احياء التراث العربي، بيروت.
22-صحيح مسلم: دار الفكر، بيروت.
23- الصراع بين الإسلام والوثنية: لعبد اللَّه بن علي القصيمي، مصدّرة عن الطبعة المصرية.
24- طبقات الحنابلة: للقاضي محمّد بن أبي يعلى، دار المعرفة، بيروت.
25- الكافي: لثقة الإسلام الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران.
26- كنز العمال: للمتقي الهندي، دار الرسالة، بيروت.
27- المبسوط: للشيخ الطوسي، المكتبة المرتضوية، إيران.
28- مجمع الزوائد: للهيتمي، دار الكتاب العربي، بيروت.
29- المراسم: لسلّار، منشورات الحرمين، قم.
ص:123
30- مسالك الافهام: للشهيد الثاني، الطبعة الحجرية.
31- مستدرك الصحيحين: للحاكم النيسابوري، دار الفكر، بيروت.
32- مسند أحمد بن حنبل: دار الفكر، بيروت.
33- معالم التنزيل (تفسير البغوي): دار الفكر، بيروت.
34- المقنع: للشيخ الصدوق، المطبعة الإسلامية، طهران.
35- مَن لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق، دار الكتب الإسلامية، طهران.
36- نُكتب النهاية: للمحقّق الحلّي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
37- النهاية: للشيخ الطوسي، دار الكتاب العربي، بيروت.
38- النهاية في غريب الحديث والأثر: لابن الأثير، المكتبة الإسلامية، القاهرة.
39- الوسيلة: لابن حمزة الطوسي، المكتبة المرعشية، قم.
40- الهداية: للشيخ الصدوق، المطبعة الإسلامية، طهران.