اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (ع)

اشارة

المؤلف: المجمع العالمي لاهل البيت عليهم السلام

الناشر: مرکز الطباعة و النشر للمجمع العالمي لاهل البيت عليهم السلام

موضوع : امام هادي (ع)

المقدمة

أهل البيت في القرآن الكريم (إنّم_ا ي_ري_د الله ليذه_ب ع_نك_م الرّجس أه_ل البيت ويطهّ_رك_م تطهي_راً). الأحزاب: 33 / 33 أهل البيت في الُسنّة النبويّة إنّ_ي ت_ارك فيك_م الثقلي_ن كتاب الله وعترتي أه_ل بيت_ي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا «الصحاح والمسانيد» [ صفحه 7] الحمد لله الذي أعطي كلّ شيء خلقه ثم هدي، ثم الصلاة والسلام علي من اختارهم هداةً لعباده، لا سيما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبوالقاسم المصطفي محمد (صلي الله عليه وآله) وعلي آله الميامين النجباء. لقد خلق الله الانسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه. وقد جعل الله العقل المميِّز حجةً له علي خلقه، وأعانه بما أفاض علي العقول من معين هدايته ; فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلي طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلي هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها. وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة اُخري. قال تعالي: [ صفحه 8] (قُلْ إنّ هُدي الله هو الهُدي) [الانعام (6): 71]. (والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم) [البقرة (2): 213]. (والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل) [الاحزاب (33): 4]. (ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلي صراط مستقيم) [آل عمران (3): 101]. (قل الله يهدي للحقّ أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتَّبع أمّن

لا يهدّي إلاّ أن يُهدي فمالكم كيف تحكمون)[يونس (10): 35]. (ويري الذين اُوتوا العلم الذي اُنزل اليك من ربّك هو الحقّ ويهدي إلي صراط العزيز الحميد) [سبأ (34): 6]. (ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هديً من الله) [القصص (28):50]. فالله تعالي هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الانسان إلي الصراط المستقيم وإلي الحقّ القويم. وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم. ولقد أودع الله في فطرة الانسان النزوع إلي الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلي الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف علي طريق الكمال، ومن هنا قال تعالي: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)] الذاريات (51): 56 [. وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، صارت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلي قمّة الكمال. وبعد أن زوّد الله الانسان بطاقتي الغضب والشهوة ليوفر له وقود الحركة نحوالكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوي الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الانسان _ بالإضافة إلي عقله وسائر [ صفحه 9] أدوات المعرفة _ الي ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته. ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الانسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء الارشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة. وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلي مدي العصور والقرون، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة

هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي _ مؤيّدةً لدلائل العقل _ بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله علي خلقه، لئلاّ يكون للناس علي الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن _ بشكل لا يقبل الريب _ قائلاً: (إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد)[الرعد (13): 7]. ويتولّي أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في: 1 _ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: (الله أعلم حيث يجعل رسالته)[الانعام (6): 124] و (الله يجتبي من رسله من يشاء) [آل عمران (3): 179]. [ صفحه 10] 2 _ إبلاغ الرسالة الإلهية الي البشرية ولمن اُرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ علي الكفاءة التامّة التي تتمثّل في «الاستيعاب والإحاطة اللازمة» بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و «العصمة» عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالي: (كان الناسُ اُمّةً واحدةً فبعث الله النبيِّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتابَ بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)[البقرة (2): 213]. 3 _ تكوين اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالي: (يزكّيهم ويعلّمهم الكتابَ والحكمة) [الجمعة (62): 2]والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالي: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة)[الاحزاب (33): 21]. 4 _ صيانة

الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية، والتي تسمّي بالعصمة. 5 _ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الاُطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف علي المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّي إدارة شؤون الاُمة علي أساس الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وصموداً كبيراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة [ صفحه 11] الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطي بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً علي مسيرة القيادة وانقياد الاُمة لها بحيث يتنافي مع أهداف الرسالة وأغراضها. وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّ_ؤا طرفة عين. وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ علي مدي العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله) وحمّله الأمانة الكبري ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي: 1 _ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي علي عناصر الديمومة

والبقاء. 2 _ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف. 3 _ تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة. 4 _ تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء. 5 _ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته(صلي الله عليه وآله). [ صفحه 12] ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري: أ _ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر. ب _ أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال; علي يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول(صلي الله عليه وآله)، يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته. ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم علي الرسول (صلي الله عليه وآله) إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتولّي مهمة إدامة الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين، وتربية للأجيال علي قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها علي مرّ العصور، وحتي يرث الله الأرض ومن عليها. وتجلّي هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسول(صلي الله عليه وآله) بقوله: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض». وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرم(صلي الله عليه وآله) بأمر من الله تعالي لقيادة الاُ مّة من بعده. إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) تمثّل المسيرة الواقعية للاسلام بعد عصر الرسول (صلي الله

عليه وآله)، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الاسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلي أعماق الاُمة ووجدانهابعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة [ صفحه 13] الرسول (صلي الله عليه وآله)، فأخذ الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يعملون علي توعية الاُمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسول (صلي الله عليه وآله) وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والاُمة جمعاء. وتبلورت سيرة الأئمّة الراشدين في استمرارهم علي نهج الرسول العظيم وانفتاح الاُمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء علي الله لنيل مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق اليه، والسابقين إلي تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود. وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر علي طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّي ضربوا أعلي أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالي، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ علي الحياة مع الذلّ، حتي فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير. ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا سيرتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسي الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق. إنّ دراستنا لحركة أهل البيت (عليهم السلام) الرسالية تبدء برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله) وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالي فرجه وأنار الأرض بعدله. [ صفحه 14] ويختص هذا الكتاب بدراسة حياة الامام علي

الهادي (عليه السلام) ? عاشر أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وهو المعصوم الثاني عشر من أعلام الهداية الذي جسّد الإسلام العظيم في القول والعمل كآبائه الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين. ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر الي كلّ الاخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلي عالم النور، لاسيما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم حفظه الله تعالي. ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل الي الله تعالي بالدعاء والشكر لتوفيقه علي إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام قم المقدسة [ صفحه 17]

الامام علي بن محمد الهادي في سطور

الإمام علي بن محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو عاشر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. فمعدنه هو معدن الرسالة والنبوة وهو فرع هذا البيت النبوي الطاهر الذي جسّد للانسانية خطّ محمد خاتم الأنبياء(صلي الله عليه وآله) وجمع كل المكارم والمآثر الزاخرة بالعطاء والهداية الربّانية مؤثراً رضا الله تعالي علي كل شيء في الحياة. ولد الإمام الهادي علي بن محمد(عليهما السلام) محاطاً بالعناية الإلهية. فأبوه هو الإمام المعصوم والمسدَّد من الله محمّد الجواد(عليه السلام) واُمّه الطاهرة التقيّة سمانة المغربية. ونشأ علي مائدة القرآن المجيد وخلق النبي العظيم المتجسّد في أبيه الكريم خير تجسيد. لقد بدت عليه آيات الذكاء الخارق والنبوغ المبكر الذي كان ينبئ عن الرعاية الالهية التي خُصّ بها هذا الإمام العظيم منذ نعومة أظفاره. وقد تقلّد منصب الإمامة الإلهي بعد أبيه في الثامنة من عمره الشريف فكان مثالاً آخر للإمامة المبكّرة التي أصبحت أوضح دليل

علي حقّانية خط [ صفحه 18] أهل البيت الرسالي في دعوي الوصية والزعامة الدينية والدنيوية للامة الإسلامية خلافة عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) ونيابة عنه في كل مناصبه القيادية والرسالية. وتنقسم حياة هذا الإمام العظيم إلي حقبتين متميّزتين: أمضي الاُولي منهما مع أبيه الجواد (عليه السلام) وهي أقلّ من عقد واحد. بينما أمضي الثانية وهي تزيد عن ثلاثة عقود، عاصر خلالها ستة من ملوك الدولة العباسية وهم: المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز. واستشهد في ايام حكم المعتز عن عمر يناهز أربعة عقود وسنتين. وقد عاني من ظلم العباسيين كما عاني آباؤه الكرام حيث أحكموا قبضتهم علي الحكم واتخذوا كل وسيلة لإقصاء أهل البيت النبوي وابعادهم عن الساحة السياسية والدينية، وإن كلّفهم ذلك تصفيتهم جسديّاً كما فعل الرشيد مع الامام الكاظم، والمأمون مع الامام الرضا، والمعتصم مع الامام الجواد (عليهم السلام). وتميّز عصر الإمام الهادي (عليه السلام) بقربه من عصر الغيبة المرتقب، فكان عليه أن يهيّئ الجماعة الصالحة لاستقبال هذا العصر الجديد الذي لم يُعهد من قبل حيث لم يمارس الشيعة حياتهم إلاّ في ظل الارتباط المباشر بالأئمة المعصومين خلال قرنين من الزمن. ومن هنا كان دور الإمام الهادي(عليه السلام) في هذا المجال مهمّاً وتأسيسيّاً وصعباً بالرغم من كل التصريحات التي كانت تتداول بين المسلمين عامة وبين شيعة أهل البيت خاصة حول غيبة الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أي المهدي المنتظر الذي وعد الله به الاُمم. وبالرغم من العزلة التي كانت قد فرضتها السلطة العباسية علي هذا الإمام حيث أحكمت الرقابة عليه في عاصمتها سامراء ولكن الإمام كان [ صفحه 19] يمارس دوره المطلوب ونشاطه التوجيهي بكل دقّة وحذر،

وكان يستعين بجهاز الوكلاء الذي أسسه الإمام الصادق (عليه السلام) وأحكم دعائمه أبوه الإمام الجواد(عليه السلام) وسعي من خلال هذا الجهاز المحكم أن يقدّم لشيعته أهمّ ما تحتاج إليه في ظرفها العصيب. وبهذا أخذ يتّجه بالخط الشيعي أتباع أهل البيت(عليهم السلام) نحو الاستقلال الذي كان يتطلّبه عصر الغيبة الكبري، فسعي الإمام علي الهادي(عليه السلام) بكل جدّ في تربية العلماء والفقهاء إلي جانب رفده المسلمين بالعطاء الفكري والديني _ العقائدي والفقهي والأخلاقي _. ويمثّل لنا مسند الإمام الهادي (عليه السلام) جملة من تراثه الذي وصل إلينا بالرغم من قساوة الظروف التي عاشها هو ومن بعده من الأئمة الأطهار(عليهم السلام). فسلام عليه يوم ولد ويوم تقلّد الامامة وهو صبيّ لم يبلغ الحلم ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً. [ صفحه 21]

انطباعات عن شخصية الإمام علي بن محمد الهادي

تعطي كلمات العلماء والعظماء في الإمام أبي الحسن علي بن محمّد الهادي (عليه السلام)، صورة من إكبار المؤالف والمخالف له (عليه السلام)، وإجماع المسلمين علي جلالته وعظمته. وإليك بعض الانطباعات التي وصلتنا من معاصريه ومن تلاهم من العلماء والمؤرخين عن هذه الشخصية الفريدة. 1 _ من كتاب للمتوكل العباسي إلي الإمام الهادي (عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد: إنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك، راع لقرابتك، موجب لحقك، مؤثر في الاُمور فيك وفي أهل بيتك لما فيه صلاح حالك وحالهم، وتثبيت عزك وعزهم، وادخال الأمر عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضي الله واداء ما افترضه عليه فيك وفيهم. ثمّ ختمه بقوله: وأمير المؤمنين مشتاق اليك، ويحب احداث العهد بقربك والتيمن بالنظر إلي ميمون طلعتك المباركة [1] . 2 _ قال يحيي بن هرثمة _ الذي ارسله المتوكل لاشخاص الإمام (عليه السلام) إلي سر من رأي _:

فذهبت إلي المدينة فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً علي علي الهادي، وقامت الدنيا علي ساق، لأنه كان [ صفحه 22] محسناً اليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلي الدنيا، ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني، وتوليت خدمته بنفسي، وأحسنت عشرته، فلما قدمت به بغداد وبدأت باسحاق الطاهري وكان والياً علي بغداد، فقال لي: يايحيي إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلي الله عليه وآله)، والمتوكل من تعلم فإن حرّضته عليه قتله، وكان رسول الله (صلي الله عليه وآله) خصمك يوم القيامة، فقلت له: والله ما وقفت منه إلاّ علي كل أمر جميل [2] . 3 _ قال أبو عبد الله الجنيدي: والله تعالي لهو خير أهل الأرض، وأفضل من برأه الله تعالي [3] . 4 _ قال يزداد الطبيب: إذا كان مخلوق يعلم الغيب فهو [4] . 5 _ وقال ابن شهرآشوب: وكان أطيب الناس بهجةً وأصدقهم لهجة وأملحهم من قريب وأكمل___هم من بعيد، إذا صمت علته هي__بة الوقار، وإذا تكلّم سماه البهاء، وهو من بيت الرسالة والإمامة ومقرّ الوصية والخلافة شعبة من دوحة النبوّة منتضاة م___رتضاة، وث__مرة من شجرة الرسالة مجتناة مجتباة [5] . 6 _ قال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي: وأمّا مناقبه: فمنها ما حل في الأذان محل حلاها باشنافها واكتنفته شغفاً به اكتناف اللئالئ الثمينة باصدافها وشهد لأبي الحسن أنّ نفسه موصوفة بنفائس اوصافها، وأنّها نازلة من الدوحة النبوية في ذري اشرافها، وشرفات اعرافها [6] . 7 _ قال أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان: أبو الحسن علي الهادي [ صفحه 23]

ابن محمد الجواد بن علي الرضا(عليهم السلام)، وهو أحد الأئمة الاثني عشر، وكان قد سعي به إلي المتوكل وقيل: إنّ في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته، واوهموه انه يطلب الأمر لنفسه فوجه اليه بعدة من الاتراك ليلاً فهجموا عليه في منزله علي غفلة، فوجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من شعر، وعلي رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن والوعد والوعيد، ليس بينه وبين الأرض بساط إلاّ الرمل والحصي [7] . 8 _ قال عبد الله بن أسعد اليافعي: أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، عاش اربعين سن__ة، وك___ان متعبداً فقيهاً إماماً [8] . 9 _ قال الحافظ عماد الدين اسماعيل بن عمر بن كثير: وأمّا أبو الحسن علي الهادي فهو ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد ابن علي ابن أبي طالب، أحد الأئمة الاثني عشر، وهو والد الحسن بن علي العسكري، وقد كان عابداً زاهداً، نقله المتوكل إلي سامراء فاقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر، ومات بها في هذه السنة _ سنة اربع وخمسين ومائتين _ وقد ذكر للمتوكل أنّ بمنزله سلاحاً وكتباً كثيرة من الناس، فبعث كبسة فوجدوه جالساً مستقبل القبلة وعليه مدرعة من صوف، وهو علي التراب ليس دونه حائل، فأخذوه كذلك فحملوه إلي المتوكل... [9] . 10 _ قال محمد سراج الدين الرفاعي: الإمام علي الهادي ابن الإمام محمد الجواد ولقبه النقي والعالم والفقيه والامير والدليل والعسكري [ صفحه 24] والنجيب، ولد في المدينة سنة اثنتي

عشرة ومائتين من الهجرة، وتوفي شهيداً بالسم في خلافة المعتز العباسي يوم الاثنين لثلاث خلون من رجب سنة اربع وخمسين ومائتين وكان له خمسة اولاد: الإمام الحسن العسكري، والحسين، ومحمد، وجعفر، وعائشة، فالحسن العسكري اعقب صاحب السرداب الحجة المنتظر ولي الله محمد المهدي [10] . 11 _ قال احمد بن حجر الهيثمي: علي العسكري سمي بذلك لأنه لما وجه لاشخاصه من المدينة النبوية إلي سر من رأي واسكنه بها، كانت تسمي العسكر فعرف بالعسكري، وكان وارث أبيه علماً وسخاء [11] . 12 _ قال أحمد بن يوسف بن احمد الدمشقي القرماني: الفصل التاسع في ذكر بيت الحلم والعلم والأيادي، الإمام علي بن محمد الهادي، رضي الله عنه: ولد بالمدينة واُمه اُم ولد، وكنيته أبو الحسن، ولقبه الهادي والمتوكل، وكان اسمر، نقش خاتمه «الله ربي وعصمتي من خلقه» وأمّا مناقبه فنفيسة، وأوصافه شريفة [12] . 13 _ قال عبد الله الشبراوي الشافعي: العاشر من الأئمة علي الهادي، ولد(رضي الله عنه) بالمدينة في رجب سنة اربع عشرة ومائتين، وكراماته كثيرة [13] . 14 _ قال محمد أمين السويدي البغدادي: ولد بالمدينة وكنيته أبو الحسن، ولقبه الهادي، وكان اسمر اللون، نقش خاتمه «الله ربي وهو عصمتي من خلقه» ومناقبه كثيرة [14] . 15 _ قال مؤمن الشبلنجي: ومناقبه (رضي الله عنه) كثيرة، قال في الصواعق: كان [ صفحه 25] أبو الحسن العسكري وارث ابيه علماً وسخاءاً، وفي حياة الحيوان: سمي العسكري لأن المتوكل لما كثرت السعاية فيه عنده أحضره من المدينة وأقرّه بسر من رأي [15] . 16 _ قال محمد امين غالب الطويل: كان حسن الخلق حتي لم يكن أحد يشك في عصمته، ولكن خطر الإمامة أوهم

الخليفة المتوكل بالخطر، وقد وشي به اليه أنّه جمع في بيته معدات واسلحة استعداداً للخروج عليه، والادعاء بالخلافة، فأرسل الخليفة حينئذ عساكره التركية فهجموا ليلاً علي بيته، وقد اختار الخليفة العساكر التركية لسوء ظنه بالعرب المسلمين، لأنهم يعرفون من الأحق بالخلافة، أمّا الاتراك فكانوا حديثي عهد بالاسلامية، وكانوا لا يعرفون غوامضها، بل كانوا يناصرون العباسيين الذين اعتادوا التزوج من بنات الاتراك. ذهبت العساكر التركية ليلاً إلي بيت الإمام، ورأوه جالساً علي التراب، ملتفاً برداء صوف، وهو يقرأ القرآن وبعد تفتيش جميع زوايا بيته أحضروه الي الخليفة وأخبروه بالقصة، وكيف أنّهم رأوا الإمام زاهداً، وأنّهم لم يجدوا عنده شيئاً من العدة [16] . 17 _ قال السيد عبد الوهاب البدري: وبقي الإمام الهادي يتنقل في مجالس سامراء، يواسي ذوي المصاب ويساعد المحتاج، ويرحم المساكين، ويشفق علي اليتيم ويدلف ليلاً إلي الارامل والثكالي وثوبه كله «صرر» فينثرها عليهم (لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) يذهب نهاره إلي عمله فيقف تحت الشمس يعمل في مزرعته حتي يتصبب العرق من جسمه، وعندما يقبل الليل يتّجه إلي ربه ساجداً راكعاً خاشعا ليس بين جبينه الوضاح [ صفحه 26] وبين الأرض سوي الرمل والحصي، وانّه يردد دعاءه المشهور «الهي مسيء قد ورد، وفقير قد قصد، لا تخيب مسعاه وارحمه واغفر له خطأه» [17] . 18 _ قال خير الدين الزركلي: أبو الحسن العسكري علي الملقب بالهادي ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسي بن جعفر، الحسيني الطالبي، عاشر الأئمة الإثني عشر، وأحد الأتقياء الصلحاء، ولد بالمدينة، ووشي به إلي المتوكل العباسي فاستقدمه إلي بغداد، وأنزله في سامراء [18] . 19 _ قال دوايت م رونلدسن بعد أن فصّل الحديث عنه

(عليه السلام): قصده كثيرون للأخذ عنه من البلاد التي يكثر فيها شيعة آل محمد، وهي: العراق وايران ومصر [19] . 20 _ وقال فضل الله بن روزبهان الشافعي: اللهم صلّ وسلّم علي الإمام العاشر مقتدي الحيّ والنادي سيّد الحاضر والبادي، حارز نتيجة الوصاية والإمامة من المبادي، السيف الغاضب علي رقبة كلّ مخالف معادي، كهف الملهوفين في النوائب والعوادي قاطع العطش من الأكباد الصوادي، الشاهد بكمال فضله الأحباب والأعادي، ملجأ أوليائه بولائه يوم ينادي المنادي أبي الحسن عليّ النقي الهادي بن محمّد الشهيد بكيد الأعداء، المقبور بسرّ من رأي [20] . [ صفحه 27]

مظاهر من شخصية الإمام علي بن محمد الهادي

اشاره

لقد تحلّي الإمام الهادي(عليه السلام) بمكارم الأخلاق التي بعث جدّه الرسول الأعظم لتتميمها، واجتمعت في شخصيته كل عناصر الفضل والكمال التي لا يسعنا الاحاطة بها ولا تصويرها، ولكن هذا لا يمنع أن نشير الي جملة من مكارم أخلاقه التي تجلّت في صور من سلوكه. وإليك بعض هذه المكارم التي نصّت عليها كتب السيرة والتاريخ.

الكرم

كان (عليه السلام) من أبسط الناس كفاً، وأنداهم يداً، وكان علي غرار آبائه الذين أطعموا الطعام علي حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وكانوا يطعمون الطعام حتي لا يبقي لأهلهم طعام، ويكسونهم حتي لا يبقي لهم كسوة [21] . وقد روي المؤرّخون بوادر كثيرة من برّ الإمام الهادي (عليه السلام) واحسانه إلي الفقراء وإكرامه البائسين، نقتصر منها علي ما يلي: 1 _ وفد جماعة من أعلام الشيعة علي الإمام الهادي (عليه السلام) وهم أبو عمرو عثمان بن سعيد، وأحمد بن اسحاق الأشعري، وعلي بن جعفر الحمداني، [ صفحه 28] فشكا إليه أحمد بن اسحاق ديناً عليه، فالتفت (عليه السلام) إلي وكيله عمرو، وقال له: ادفع له ثلاثين ألف دينار، والي علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار، كما أعطي وكيله مثل هذا المبلغ. وعلّق ابن شهرآشوب علي هذه المكرمة العلوية بقوله: «فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك، وما سمعنا بمثل هذا العطاء» [22] . 2 _ اشتري اسحاق الجلاب لأبي الحسن الهادي (عليه السلام) غنماً كثيرة يوم التروية، فقسمها في أقاربه [23] . 3 _ وكان قد خرج من سامراء إلي قرية له، فقصده رجل من الأعراب، فلم يجده في منزله فأخبره أهله بأنه ذهب إلي ضيعة له، فقصده، ولما مثل عنده سأله الإمام عن حاجته، فقال بنبرات خافتة: ياابن رسول الله،

أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاية جدّك علي بن أبي طالب، وقد ركبني فادح _ أي دين _ أثقلني حمله، ولم أرَ من أقصده سواك. فرقّ الإمام لحاله، وأكبر ما توسل به، وكان (عليه السلام) في ضائقة لا يجد ما يسعفه به، فكتب (عليه السلام) ورقة بخطّه جاء فيها: أن للأعرابي ديناً عليَّ، وعيّن مقداره، وقال له: خذ هذه الورقة، فإذا وصلت إلي سر من رأي، وحضر عندي جماعة فطالبني بالدين الذي في الورقة، وأغلظ عليّ في ترك إيفائك، ولا تخالفني فيما أقول لك. فأخذ الأعرابي الورقة، ولما قفل الإمام إلي سرّ من رأي حضر عنده جماعة كان فيها من عيون السلطة ومباحث الأمن، فجاء الأعرابي فأبرز الورقة، وطالب الإمام بتسديد دينه الذي في الورقة فجعل الإمام(عليه السلام) يعتذر إليه، والاعرابي يغلظ له في القول، ولما تفرّق المجلس بادر رجال الأمن إلي [ صفحه 29] المتوكل فأخبروه بالأمر فأمر بحمل ثلاثين ألف درهم إلي الإمام فحملت له، ولما جاء الأعرابي قال له الإمام(عليه السلام): «خذ هذا المال واقضِ منه دينك، وانفق الباقي علي عيالك وأهلك واعذرنا...». وأكبر الاعرابي ذلك، وقال للامام: ان ديني يقصر علي ثلث هذا المبلغ. فأبي الإمام(عليه السلام) أن يستردّ منه من الثلاثين شيئاً، فولّي الاعرابي وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته [24] .

الزهد

لقد عزف الإمام الهادي(عليه السلام) عن جميع مباهج الحياة ومتعها وعاش عيشة زاهدة إلي أقصي حدّ، لقد واظب علي العبادة والورع والزهد، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة، وآثر طاعة الله علي كل شيء، وقد كان منزله في يثرب وسرّ من رأي خالياً من كل أثاث، فقد داهمت منزله شرطة المتوكل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً

فلم يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة، وكذلك لما فتّشت الشرطة داره في سرّ من رأي، فقد وجدوا الإمام في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر وهو جالس علي الرمل والحصي، ليس بينه وبين الأرض فراش [25] .

العمل في المزرعة

وتجرّد الإمام العظيم من الأنانية، حتي ذكروا إنّه كان يعمل بيده في أرض له لإعاشة عياله، فقد روي عليّ بن حمزة حيث قال: «رأيت أبا [ صفحه 30] الحسن الثالث يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه من العرق فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟ فقال الإمام: يا علي قد عمل بالمسحاة من هو خير منّي ومن أبي في أرضه. قلت: من هو؟ قال: رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وآبائي كلّهم عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء الصالحين» [26] .

ارشاد الضالين

واهتمّ الإمام الهادي (عليه السلام) اهتماماً بالغاً بإرشاد الضالين والمنحرفين عن الحق وهدايتهم إلي سواء السبيل، وكان من بين من أرشدهم الإمام وهداهم أبو الحسن البصري المعروف بالملاح، فقد كان واقفياً يقتصر علي إمامة الإمام موسي بن جعفر(عليهما السلام) ولا يعترف بإمامة أبنائه الطاهرين، فالتقي به الإمام الهادي فقال له: «الي متي هذه النومة؟ أما آن لك أن تنتبه منها؟!». وأثّرت هذه الكلمة في نفسه فآب إلي الحقّ، والرشاد [27] .

التحذير عن مجالسة الصوفيين

وحذّر الإمام الهادي(عليه السلام) أصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بالصوفيين والاختلاط بهم لأنهم مصدر غواية وضلال للناس، فهم يظهرون التقشّف والزهد لاغراء البسطاء والسذّج وغوايتهم. فلقد شدّد الإمام الهادي(عليه السلام) في التحذير من الاختلاط بهم حتي روي [ صفحه 31] الحسين بن أبي الخطاب قال: كنت مع أبي الحسن الهادي (عليه السلام) في مسجد النبيّ (صلي الله عليه وآله) فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغاً وله منزلة مرموقة عند الإمام (عليه السلام) وبينما نحن وقوف اذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل، فالتفت الإمام إلي أصحابه فقال لهم: «لا تلتفتوا إلي هؤلاء الخدّاعين فإنّهم حلفاء الشياطين، ومخرّبو قواعد الدين، يتزهّدون لإراحة الأجسام، ويتهجّدون لصيد الأنعام، يتجرّعون عمراً حتي يديخوا للايكاف [28] حمراً، لا يهللون إلاّ لغرور الناس، ولا يقلّلون الغذاء إلاّ لملء العساس واختلاس قلب الدفناس [29] ، يكلّمون الناس باملائهم في الحبّ، ويطرحونهم بإذلالهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنّم والتغنية، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء، ولا يعتقد بهم إلاّ الحمقاء، فمن ذهب إلي زيارة أحدهم حياً أو ميتاً، فكأنّما ذهب إلي زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحداً منهم فك_أنّما أعان معاوية

ويزيد وأبا سفيان». فقال أحد أصحابه: وإن كان معترفاً بحقوقكم؟. فزجره الإمام وصاح به قائلاً: «دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنّهم أخسّ طوائف الصوفية، والصوفية كلهم مخالفونا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلاّ نصاري أو مجوس هذه الاُمة، أُولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون» [30] . [ صفحه 32]

تكريمه للعلماء

وكان الإمام الهادي (عليه السلام) يكرم رجال الفكر والعلم ويحتفي بهم ويقدّمهم علي بقية الناس لأنّهم مصدر النور في الأرض، وكان من بين من كرّمهم أحد علماء الشيعة وفقهائهم، وكان قد بلغه عنه انه حاجج ناصبياً فأفحمه وتغلّب عليه فسرّ الإمام (عليه السلام) بذلك، ووفد العالم علي الإمام فقابله بحفاوة وتكريم، وكان مجلسه مكتظّ_اً بالعلويين والعباسيين، فأجلسه الإمام علي دست، وأقبل عليه يحدّثه، ويسأل عن حاله سؤالاً حفياً، وشقّ ذلك علي حضار مجلسه من الهاشميين فالتفتوا إلي الإمام، وقالوا له: كيف تقدّمه علي سادات بني هاشم؟ فقال لهم الإمام: «إيّاكم أن تكونوا من الذين قال الله تعالي فيهم: (ألم تر إلي الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلي كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولّي فريق منهم وهم معرضون) [31] أترضون بكتاب الله عزّوجلّ حكماً؟» فقالوا جميعاً: بلي ياابن رسول الله [32] . وأخذ الإمام يقيم الدليل علي ما ذهب إليه قائلاً: أليس الله قال: (يا أيّها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم _ إلي قوله _: والذين أُوتوا العلم درجات) [33] فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع علي المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلاّ أن يرفع علي من ليس بمؤمن، أخبروني

عنه قال تعالي: (يرفع الله [ صفحه 33] الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات) أو قال: يرفع الله الذين أُوتوا شرف النسب درجات؟! أو ليس قال الله: (...هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟...) [34] . فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله، إنّ كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إياها لأشرف من كل شرف في النسب. وسكت الحاضرون، فقد ردّ عليهم الإمام ببالغ حجّته، إلاّ ان بعض العبّاسيين انبري قائلاً: ياابن رسول الله لقد شرّفت هذا علينا، وقصرتنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الاسلام يقدم الأفضل في الشرف علي من دونه. وهذا منطق رخيص فإن الاسلام لا يخضع بموازينه إلاّ للقيم الصحيحة التي لم يعِها هذا العباسي، وقد ردّ عليه الإمام (عليه السلام) قائلاً: سبحان الله! أليس العبّاس بايع أبا بكر وهو تيمي، والعباس هاشمي، أو ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب، وهو هاشمي أبو الخلفاء، وعمر عدوي، وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشوري، ولم يدخل العباس؟! فإن كان رفعاً لمن ليس بهاشمي علي هاشمي منكراً، فأنكروا علي العباس بيعته لأبي بكر وعلي عبد الله بن عباس بخدمته لعمر، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز» [35] .

العبادة

إنّ الاقبال علي الله والإنابة إليه واحياء الليالي بالعبادة ومناجاة الله وتلاوة كتابه هي السّمة البارزة عند أهل البيت(عليهم السلام). أما الإمام الهادي (عليه السلام) فلم يرَ الناس في عصره مثله في عبادته وتقواه [ صفحه 34] وشدّة تحرّجه في الدين، فلم يترك نافلة من النوافل إلاّ أتي بها، وكان يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأول سورة الحديد

إلي قوله تعالي: (انّه عليم بذات الصدور) وفي الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحجرات [36] .

استجابة دعائه

وقد ذكرت بوادر كثيرة من استجابة دعاء الإمام (عليه السلام) عند الله كان منها: 1 _ ما رواه المنصوري عن عمّ أبيه، قال: قصدت الإمام عليّاً الهادي، فقلت له: يا سيّدي ان هذا الرجل _ يعني المتوكّل _ قد اطرحني، وقطع رزقي، وملّني وما اُتّهم به في ذلك هو علمه بملازمتي بك، وطلب من الإمام التوسّط في شأنه عند المتوكّل، فقال (عليه السلام): تُكفي إن شاء الله، ولما صار الليل طرقته رسل المتوكل فخفّ معهم مسرعاً إليه، فلما انتهي إلي باب القصر رأي الفتح واقفاً علي الباب فاستقبله وجعل يوبّخه علي تأخيره ثم أدخله علي المتوكّل فقابله ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً: يا أبا موسي تنشغل عنّا، وتنسانا؟! أي شيء لك عندي؟ وعرض الرجل حوائجه وصِلاته التي قطعها عنه، فأمر المتوكّل بها وبضعفها له، وخرج الرجل مسروراً. وانصرف الرجل فتبعه الفتح فأسرع إليه قائلاً: لست أشكّ أنك التمست منه _ أي من الإمام _ الدعاء، فالتمس لي منه الدعاء. ومضي ميمّماً وجهه نحو الإمام (عليه السلام) فلمّا تشرّف بالمثول بين يديه [ صفحه 35] قال(عليه السلام) له: يا أبا موسي هذا وجه الرضا. فقال الرجل بخضوع: ببركتك يا سيّدي، ولكن قالوا لي: إنّك ما مضيت إليه ولا سألته. فأجابه الإمام ببسمات قائلاً: ان الله تعالي علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمات إلاّ إليه، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا. وفطن الرجل إلي ان الإمام قد دعا له بظهر الغيب، وتذكّر ما سأله الفتح فقال: يا سيّدي ان الفتح

يلتمس منك الدعاء. فلم يستجب الإمام له وقال: ان الفتح يوالينا بظاهره، ويجانبنا بباطنه، الدعاء انّما يدعي له إذا أخلص في طاعة الله، واعترف برسول الله(صلي الله عليه وآله) وبحقّنا أهل البيت [37] . 2 _ روي أن عليّ بن جعفر كان من وكلاء الإمام (عليه السلام) فسعي به إلي المتوكّل فحبسه، وبقي في ظلمات السجون مدّة من الزمن، وقد ضاق به الأمر فتكلّم مع بعض عملاء السلطة في إطلاق سراحه، وقد ضمن أن يعطيه عوض ذلك ثلاثة آلاف دينار، فأسرع إلي عبيد الله وهو من المقرّبين عند المتوكّل، وطلب منه التوسّط في شأن عليّ بن جعفر، فاستجاب له، وعرض الأمر علي المتوكل، فأنكر عليه ذلك وقال له: لو شككت فيك لقلت: إنّك رافضي، هذا وكيل أبي الحسن الهادي وأنا علي قتله عازم. وندم عبيد الله علي التوسّط في شأنه، وأخبر صاحبه بالأمر، فبادر إلي عليّ بن جعفر وعرّفه أن المتوكّل عازم علي قتله ولا سبيل إلي إطلاق [ صفحه 36] سراحه، فضاق الأمر بعليّ بن جعفر، فكتب رسالة إلي الإمام جاء فيها: «يا سيّدي الله الله فيَّ، فقد خفت أن أرتاب، فوقّع الإمام علي رسالته: «أمّا إذا بلغ بك الأمر ما أري فسأقصد الله فيك»، وأصبح المتوكّل محموماً دنفاً، وازدادت به الحمّي فأمر باطلاق جميع المساجين، وأمر بإطلاق سراح علي بن جعفر بالخصوص، وقال لعبيدالله: لِمَ لَمْ تعرض عليَّ اسمه؟ فقال: لا أعود إلي ذكره أبداً، فأمره بأن يخلّي عنه، وأن يلتمس منه أن يجعله في حلّ مما ارتكبه منه، وأطلق سراحه، ثم نزح إلي مكّة فأقام بها بأمر من الإمام» [38] . هذه بعض البوادر التي ذكرها الرواة من استجابة دعاء الإمام، ومن

المؤكّد ان استجابة الدعاء ليس من عمل الانسان وصنعه، وانّما هو بيد الله تعالي فهو الذي يستجيب دعاء من يشاء من عباده، ومما لا شبهة فيه ان لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) منزلة كريمة عنده تعالي لأنّهم أخلصوا له كأعظم ما يكون الاخلاص، وأطاعوه حقّ طاعته وقد خصّهم تعالي باستجابة دعائهم كما جعل مراقدهم الكريمة من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء [39] . [ صفحه 39]

نشأة الإمام علي بن محمد الهادي

نسبه الشريف

هو أبو الحسن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسي الكاظم ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط ابن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) وهو العاشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام). اُمّه اُم ولد يقال لها سمانة المغربية [40] وعرفت باُمّ الفضل [41] .

ولادته و نشأته

ولد (عليه السلام) للنصف من ذي الحجة أو ثاني رجب سنة اثنتي عشرة أو أربع عشرة ومائتين. [42] . وكانت ولادته (عليه السلام) في قرية (صريا) التي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال. [43] . [ صفحه 40]

بشارة الرسول بولادته

وبشرّ الرسول (صلي الله عليه وآله) بولادته في حديث طويل حول الأئمة (عليهم السلام) بقوله:«... وأن الله ركب في صلبه _ اشارة إلي الإمام الجواد (عليه السلام) _ نطفة لا باغية ولا طاغية، بارّة مباركة، طيبة طاهرة، سماها عنده علي بن محمد فألبسها السكينة والوقار، وأودعها العلوم، وكل سرّ مكتوم، من كفيه، وفي صدره شيء أنبأه به، وحذره من عدوه...». [44] .

كنيته و ألقابه

يكنّي الإمام (عليه السلام) بأبي الحسن، وتمييزاً له عن الإمامين الكاظم والرضا(عليهما السلام) يقال له أبو الحسن الثالث. أمّا ألقابه فهي: الهادي، والنقيّ وهما أشهر ألقابه، والمرتضي، والفتّاح والناصح، والمتوكل، وقد منع شيعته من أن ينادوه به لأنّ الخليفة العباسي كان يُلقّب به [45] . وفي المناقب ذكر الألقاب التالية: النجيب، الهادي، المرتضي، النقي، العالم، الفقيه، الأمين، المؤتَمن، الطيب، العسكري، وقد عرف هو وابنه بالعسكريين(عليهما السلام) [46] . [ صفحه 41]

مراحل حياة الإمام الهادي

يمكن تقسيم حياة الإمام الهادي (عليه السلام) التي ناهزت الأربعين سنة إلي مراحل متعددة بلحاظ طبيعة مواقفه وطبيعة الظروف التي كانت تحيط به. غير أن التقسيم الثنائي يتواءم والمنهج الذي اتّبعناه في دراسة حياة الأئمة (عليهم السلام)، والذي يرتكز علي تنوّع مسؤولياتهم وأدوارهم بحسب الظروف والملابسات السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بكل واحد منهم ووحدة الهدف الذي يعدّ جامعاً مشتركاً لكل مواقفهم (عليهم السلام) والذي يتمثّل في صيانة الشريعة من التحريف وحفظ الاُمة الإسلامية من الانحراف عن عقيدتها ومبادئها وصيانة دولة الرسول (صلي الله عليه وآله) من التردّي ما أمكن والتمهيد لاستلام زمام الحكم حينما لا يتنافي مع القيم التي شُرّع الحكم من أجل تطبيقها وصيانتها. والمرحلة الاُولي من حياة الإمام الهادي (عليه السلام) تتمثّل في الحقبة الزمنية التي عاشها في ظلال إمامة أبيه الجواد(عليه السلام) وهي بين (212 ه_) إلي (220 ه_) ويبلغ أقصاها ثمان سنوات تقريباً. [ صفحه 42] وقد عاصر فيها كلاً من المأمون والمعتصم العباسيين. والمرحلة الثانية تتمثل في الفترة الزمنية بين توليه(عليه السلام) لمنصب الإمامة في نهاية سنة (220 ه_) والي حين استشهاده (عليه السلام) في سنة (254 ه_) وهي اربع وثلاثون سنة تقريباً. وقد عاصر في هذه

الفترة ستة من ملوك بني العباس، وهم علي الترتيب: 1 _ المعتص_م (218 _ 227 ه_). 2 _ ال_واث_ق (227 _ 232 ه_). 3 _ المتوك_ل (232 _ 247 ه_). 4 _ المنتص_ر (247 _ 248 ه_). 5 _ المستعين (248 _ 252 ه_). 6 _ المعت__ز (252 _ 255 ه_). وسوف نتابع المرحلة الاُولي من حياة هذا الإمام العظيم في الفصل الثالث من الباب الثاني، ونقف عند أهم الأحداث التي ترتبط به في فترة حياته في ظل أبيه(عليه السلام). وأما المرحلة الثانية من حياته المباركة فسوف ندرس ظروفها ونقف عند ملامحها ومتطلّباتها خلال الأبواب الثلاثة الأخيرة. [ صفحه 43]

الامام علي بن محمد الهادي في ظل أبيه الجواد

اشاره

لقد تقلّد الإمام محمد الجواد (عليه السلام) الزعامة الدينية والمرجعية الفكرية والروحية للشيعة بعد استشهاد الإمام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) سنة (202 ه_) [47] . وكان عمره الشريف حوالي سبع سنوات وكان مع حداثته يدبّر أمر الرضا(عليه السلام) بالمدينة ويأمر الموالي وينهاهم لا يخالف عليه أحد منهم [48] . وقال صفوان بن يحيي: قلت للرضا (عليه السلام): قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول يهب الله لي غلاماً فقد وهب الله وأقرَّ عيوننا فلا أرانا الله يومك فإذا كان كون فإلي من؟ فأشار بيده إلي أبي جعفر(عليه السلام) وهو نائم بين يديه. فقلت: جعلت فداك هو ابن ثلاث سنين! [49] . فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إن الله بعث عيسي بن مريم قائماً بشريعته وهو في دون السنّ التي يقوم فيها أبو جعفر علي شريعتنا [50] . وعاش بعد أبيه تسع عشرة سنة إلاّ خمساً وعشرين يوم_اً [51] وهي م_دة إمامته (عليه السلام). [ صفحه 44]

الشيعة و إمامة الجواد

بعد التحاق الإمام الرضا (عليه السلام) بالرفيق الاعلي، كان عمر الإمام الجواد(عليه السلام) سبع سنوات وهذه الإمامة المبكرة كانت أول ظاهرة ملفتة للنظر عند الشيعة أنفسهم فضلاً عن غيرهم. واحتار بعض رموز الشيعة فضلاً عن غيرهم بالرغم من التمهيد لهذه الظاهرة من قبل الإمام الرضا (عليه السلام) قبل إشخاصه إلي خراسان وبعده. من هنا اجتمع جملة من كبار الشيعة في بيت أحدهم يتداولون في أمر الإمامة، وكان من بين هؤلاء المجتمعين، الريّان بن الصلت، ويونس، وصفوان بن يحيي، ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجاج، فجعلوا يبكون، فقال لهم يونس: دعوا البكاء حتي يكبر هذا الصبي _ أي الإمام الجواد (عليه السلام) _ فردّ عليه الريان بن الصلت قائلاً: «إن كان أمر من الله جلّ وعلا، فابن يومين مثل ابن مائة سنة وإن لم يكن من عند الله فلو عمَّر الواحد من الناس خمسة آلاف سنة ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة أو بعضه، وهذا مما ينبغي أن ينظر فيه...» [52] . ويتّضح من النص السابق تأكيد الريّان علي مفهوم الإمامة باعتبارها منصباً إلهياً كالنبوة من حيث الاختيار والانتخاب لهذا المنصب. فإنه بيد الله سبحانه، قال تعالي: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) وليس للناس فيها أمر واختيار. [ صفحه 45]

عصر الإمام الجواد

اشاره

عاصر الإمام الجواد (عليه السلام) من خلفاء بني العباس المأمون (198 _ 218 ه_) والمعتصم (218 _ 227 ه_)، وكان المأمون يتظاهر بالتودّد للإمام الجواد(عليه السلام) وزوّجه ابنته أم الفضل، ومن قبل قد صاهر المأمون الإمام الرضا(عليه السلام) وولاّه عهده وقرّب العلويين [53] أمّا حكم المعتصم فكان حكماً استبدادياً مقروناً بشيء من العطف وحسن التدبير، وقد وصفه المسعودي [54] بحسن السيرة واستقامة

الطريقة. وقد اعتمد الخلفاء العباسيون الأوائل في إنشاء حكومتهم واستمرارها علي الفرس دون العرب وأسندوا إليهم المناصب المدنيّة والعسكرية، مما أدي إلي سيادة الفرس في مختلف الميادين وضمور دور العرب في الدولة العباسية ومؤسساتها المختلفة، وأثمرت هذه الظاهرة التنافس بين العرب والفرس، حتي جاء المعتصم _ وكانت أمه تركيّة _ فاعتمد علي العنصر التركي واتّخذهم حرساً له، وأسند إليهم مناصب الدولة وقلّدهم ولاية الأقاليم البعيدة عن مركز الخلافة وأخرج العرب من ديوان العطاء وأحل محلهم الترك فحقد العرب والفرس عليهم جميعاً. ولم يقتصر الصراع علي ما كان بين العرب والفرس والترك بل تعدّاه إلي قيام المنافسة بين العنصر العربي نفسه، فاشتعلت نيران العصبية بين عرب الشمال المضريين، وعرب الجنوب اليمنيين [55] وهذا يوضح لنا شدّة [ صفحه 46] الصراع داخل الاُسرة الحاكمة نفسها. فكان شعب الدولة العباسية في نهاية العصر الأوّل يتكون من: 1 _ العرب (المضريين واليمنيين). 2 _ الفرس (الخراسانيين) الذين ساعدوا العباسيين في انشاء حكومتهم. 3 _ الترك، الذين آلت إليهم إدارة الدولة. 4 _ أهل الذمة (أهل الكتاب) وهم: اليهود والنصاري. وكانت الطوائف الدينية منفصلة بعضها عن بعض تمام الانفصال، وكان لا يجوز للمسيحي أن يتهوّد ولا لليهودي أن يتنصّر، واقتصر تغيير الدين علي الدخول في الإسلام، وكان الرقيق يكوّنون طبقة كبيرة من طبقات المجتمع الاسلامي وكانت سمرقند تُعدّ من أكبر أسواق الرقيق، إذ كان أهلها يتخذون ذلك صناعة لهم يعيشون منها. وكان لاتساع رقعة الدولة العباسية، ووفرة ثرواتها، ورواج تجارتها أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل حتي لقد غدا الناس جميعاً من الخليفة إلي العامة طلاباً للعلم أو علي الأقلّ أنصاراً للأدب، وكان الناس في

عهد هذه الدولة يجوبون ثلاث قارّات سعياً إلي موارد العلم والعرفان ليعودوا إلي بلادهم وهم يحملون أصنافاً من العلم، ثم يصنّفون ما بذلوه من جهد متصل بمصنفات هي أشبه شيء بدوائر المعارف، والّتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم إلينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل [56] هذا في الشرق الإسلامي. [ صفحه 47] وأما في الغرب فقد نافست قرطبة بغداد والبصرة والكوفة ودمشق والفسطاط فأصبحت حاضرة الاندلس حتي جذبت مساجدها الاُوربيين الذين وفدوا لارتشاف العلم من مناهله والتزوّد من الثقافة الإسلامية، ومن ثم ظهرت فيها طائفة من العلماء والشعراء والاُدباء والفلاسفة والمترجمين والفقهاء وغيرهم. ولم يقتصر اهتمام العلماء المسلمين علي العلوم النقلية مثل علم التفسير، والقراءات وعلم الحديث والفقه والكلام، بل شمل اهتمامهم العلوم العقلية، كالفلسفة، والهندسة، وعلم النجوم، والطب، والكيمياء، وغيرها. وفي العصر العباسي الأول اشتغل الناس بالعلوم الدينية وظهر المتكلّمون وتكلّم الناس في مسألة خلق القرآن، وتدخّل المأمون في ذلك، فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء في حضرته، ولهذا عاب الناس عليه تدخّله في الاُمور الدينية كما عابوا عليه تفضيل علي بن أبي طالب (عليه السلام) علي سائر الخلفاء [57] . وفي هذا العصر ظهر صنفان من العلماء: الصنف الأول: هم الذين كان يغلب علي ثقافتهم النقل والاستيعاب ويسمون أهل علم. والصنف الثاني: هم الذين كان يغلب علي ثقافتهم الابتداع والاستنباط ويسمون أهل عقل [58] . كما نشطت في هذا العصر أيضاً، في ميدان الفقه مدرستان: مدرسة أهل الحديث في المدينة ومدرسة الرأي في العراق. [ صفحه 48]

الحالة السياسية

كانت تولية العهد إلي اكثر من شخص واحد عاملاً مهمّاً في اختلال الوضع الأمني داخل الدولة الإسلامية نتيجة التنازع والصراع علي السلطة

بين ولاة العهد لأن أحدهما كان يري أن يولي العهد ابنه بدلاً عن أخيه الذي سبق أن عهد إليه أبوه بالولاية كما تجلّي ذلك بوضوح في عهد الأمين والمأمون [59] . وقد كان الأمين شديد البطش لكنه كان عاجز الرأي ضعيف التدبير وتجلّي ضعف تدبيره في الاضطرابات التي نشأت نتيجة صراعه مع المأمون علي السلطة، والتي استمرت من سنة (93 _ 98 ه_) حيث تمكن أعوان المأمون من قتل محمد الأمين والاستيلاء علي بغداد، ومن ثم تفرّد المأمون في إدارة الحكم وعزل قوّاد وولاة أخيه الأمين، وأبدلهم بأنصاره وأعوانه الذين مكّنوه من الانتصار علي الأمين. وفي عهد المأمون قد حدثت عدّة ثورات وحركات مسلّحة تمكن منها جيش الدولة، وأعاد الامصار التي حصلت فيها تلك الثورات وانفصلت عن الدولة إلي الخضوع إلي سلطان الخليفة، وكان بعد استقرار الوضع واستتباب السيطرة للمأمون أن قام بغزو بلاد الروم عام (217 ه_) [60] . ويصور أحد شعراء العصر العباسي الأول _ من أهل بغداد وهو يعرف بعلي ابن أبي طالب الأعمي _ الحالة السياسية والاجتماعية في هذه الفترة من زمن الدولة العباسية فيما أنشده بقوله: [ صفحه 49] أضاع الخلافة غِشُّ الوزير وفِسقُ الإمام ورأي المشير وما ذاك إلاّ طريق الغرور وشر المسالك طُرقُ الغرور فعال الخليفة أعجوبة وأعجب منه فعال الوزير وأعجب من ذا وذا أننا نبايع للطفل فينا الصغير ومن ليس يُحسن مسح أنفه ولم يخل من متنه حجرُ ظير وما ذاك، إلاّ بباغ وغاو يريدان نقض الكتاب المنير وهذان لولا انقلاب الزمان أفي العير هذان أم في النفير ولكنه_____ا فت____ن كالجبا ل نرتع فيها بصنع الحقير [61] . ولما قتل الأمين حمل رأسه إلي خراسان إلي

المأمون فأمر بنصب الرأس في صحن الدار علي خشبة، وأعطي الجند، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه، فكان الرجل يقبض ويلعن الرأس، فقبض بعض العجم عطاءه فقيل له: إلعن هذا الرأس فقال: لعن الله هذا ولعن والديه وما ولدا وأدخلهم في كذا وكذا من اُمّهاتهم، فقيل له: لعنت أمير المؤمنين! بحيث يسمع المأمون منه فتبسّم وتغافل، وأمر بحطّ الرأس ورده إلي العراق [62] . وجابه حكم المأمون تحديات عديدة وخطيرة كادت أن تسقط دولته وأهم الأحداث التي كانت أيام حكومته هي: 1 _ ثورة ابن طباطبا [63] سنة (199 ه_) بقيادة أبي السرايا. وهي من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام الجواد(عليه السلام) وقد رفعت شعار الدعوة إلي الرضي من آل محمد (صلي الله عليه وآله). وكادت [ صفحه 50] أن تعصف هذه الثورة بالدولة العباسية إذ استجاب لها الكثير من أبناء الشعب المسلم. واستطاع أبو السرايا بعقله الملهم أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسي بن جعفر (عليه السلام) ويجعلهم قادة في جيشه مما أدّي إلي اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلي الانضمام لثورته. ووجّه إليه المأمون، زهير بن المسيب علي عشرة آلاف مقاتل، ولكن زهيراً انهزم جيشه واستبيح عسكره، وقد قوي شأنهم بعد ذلك وهزموا جيشاً آخر أرسله المأمون إليهم، واستولوا علي (واسط). ثم التقي بهم جيش آخر بقيادة هرثمة بن أعين، فهرب أبو السرايا إلي القادسية، ودخل هرثمة إلي الكوفة، ثم قتل أبو السرايا، وكان ذلك في سنة (200 ه_) [64] . 2 _ ولاية العهد للإمام علي بن موسي الرضا (عليه السلام). وفي سنة احدي ومائتين فرض المأمون علي الإمام علي بن موسي الرضا قبول ولاية العهد وأمر عمّال

الدولة برمي السواد ولبس الخضرة فشقّ ذلك علي العباسيين وقامت قيامتهم بإدخاله الرضا (عليه السلام) في الخلافة فخالفوا المأمون وبايعوا عمه المنصور بن المهدي فضعف عن الأمر، وقال بل أنا خليفة المأمون فأهملوه وأقاموا أخاه ابراهيم بن المهدي فبايعوه وجرت لذلك حروب عديدة [65] . وبعد أن عجز المأمون عن تحقيق اغراضه من فرض ولاية العهد _ كما يريد _ علي الإمام الرضا (عليه السلام) قام بدس السمّ إليه واغتياله وذلك في سنة ثلاث [ صفحه 51] ومائتين [66] . 3 _ احداث سنة ست ومائتين: وفي هذه السنة استفحل أمر بابك الخرّمي بجبال آذربيجان وأكثر الغارة والقتل وهزم عسكر المأمون وفعل القبائح [67] . 4 _ احداث سنة تسع ومائتين: وفي هذه السنة ظهر نصر بن اشعث العقيلي، وكانت بينه وبين عبد الله بن طاهر الخزاعي قائد جيش المأمون حروب كثيرة وطويلة الأمد [68] . 5 _ غزو بلاد الروم: وفي سنة خمس عشرة ومائتين غزا المأمون بلاد الروم وأقام هناك ثلاثة أشهر وافتتح عدة حصون وبثّ سراياه تغير وتسبي وتحرق ثم قدم دمشق ودخل الي مصر [69] . وامتدت هذه الحروب اكثر من سنتين، وقد أسّرت الروم قائد جيش المأمون وحاصرت جيش المسلمين عام (217 ه_).

الامام الجواد والمأمون العباسي

اشاره

لقد انتهج المأمون سياسة خاصة تجاه الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) تباين سياسة أسلافه من ملوك بني العباس. ويُعد هذا التحول في العلاقة بين السلطة والأئمة دليلاً علي اتّساع المساحة التي كان يشغلها تأثير الأئمة وسط الاُمة والمجتمع الاسلامي مع انشداد الغالبية المؤثرة بالأئمة(عليهم السلام) والقول [ صفحه 52] بمرجعيتهم الفكرية والروحية، وكانت ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) أحد أوجه هذا التحول في السياسة

والذي يعبر عن ذكاء ودهاء المأمون في محاولته تلك للحد من تأثير الإمام (عليه السلام) ووضعه قريباً منه لتحديد تحركه وتحجيم دوره إضافة لرصد تحركه وتحرك القواعد الشعبية المؤمنة بقيادة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم الريادي في الاُمة، فبعد استشهاد الإمام الرضا(عليه السلام) عمد المأمون الي إشخاص الإمام الجواد من المدينة إلي بغداد وتزويجه بإبنته أم الفضل مع احتجاج الاسرة العباسية علي هذا التقريب والتزويج، فالمأمون كان بعيد النظر في تعامله هذا، وكان يرمي من ورائه إلي أهداف تخدمه وتضفي نوعاً من الشرعية علي سلطته، وقد خدع الأكثرية من أبناء الاُمة بإظهاره الحبّ والتقدير للإمام الجواد (عليه السلام) من أجل إزالة نقمتهم التي خلّفتها عهود الخلفاء قبله لاستبدادهم وبطشهم فضلاً عن إسرافهم في اللهو والترف وخروجهم عن مبادئ الاسلام الحنيف في كثير من مظاهر حياتهم الخاصة والعامة، ومما يؤكد لنا وجهة النظر هذه في سياسة المأمون أنه في عام (204 ه_) وفي شهر ربيع الأول قدم بغداد ولباسه ولباس قواده وجنده والناس كلهم الخضرة فأقام جمعة _ اي سبعة أيام _ ثم نزعها وأعاد لباس السواد [70] والذي كان قد أمر بنزعه بعد توليه الحكم والعهد بالولاية من بعده للإمام الرضا(عليه السلام) سنة (201ه_). [71] والتي انتهت باستشهاد الإمام الرضا(عليه السلام) بعد دس السم له سنة (203 ه_). [ صفحه 53]

زواج الإمام الجواد

واستمراراً لتوطيد علاقة المأمون بأهل البيت (عليهم السلام) كان تزويجه لابنته _ اُم الفضل _ من الإمام الجواد (عليه السلام)، ولما بلغ بني العباس ذلك اجتمعوا فاحتجوا، لتخوفهم من أن يخرج السلطان عنهم وأن ينتزع منهم _ بحسب زعمهم _ لباس ألبسهم الله ذلك، فقالوا للمأمون: ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم

علي هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا، فإنّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً قد ملّكناه الله وتنزع منّا عزاً قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت حتي كفانا الله المهم من ذلك، فالله الله ان تردنا إلي غمٍّ قد انحسر عنّا واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلي من تراه من اهل بيتك يصلح لذلك دون غيره. فقال لهم المأمون: اما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكانوا اولي بكم... واما أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) فقد اخترته لتبريزه علي كافة اهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه والاعجوبة فيه بذلك وأنا أرجو أن يظهر للناس ما عرفته منه [72] . فخرجوا من عنده وأجمعوا رأيهم علي مساءلة يحيي بن أكثم وهو يومئذ قاضي الزمان، علي أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب عنها ووعدوه بأموال نفيسة علي ذلك. واتفقوا مع المأمون علي يوم تتم فيه المساءلة، حيث يحضر معهم يحيي بن أكثم. ثم كان بعد ذلك أن جلس الإمام الجواد (عليه السلام) يستمع إلي أسئلة [ صفحه 54] يحيي بن أكثم والذي بهت حين سأل الإمام حول محرم قتل صيداً فما كان من الإمام (عليه السلام) إلاّ ان فرّع عليه سؤاله فلم يحر جواباً وطلب من الإمام(عليه السلام) أن يوضح ذلك والمأمون جالس يستمع إلي كل ذلك ثم نظر إلي أهل بيته وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم أقبل علي أبي جعفر(عليه السلام) وطلب منه

أن يخطب ابنته فخطبها واحتفل المأمون بذلك. ثم ان المأمون بعد اجراء العقد وإتمام الخطبة عاد فطلب من الإمام الجواد(عليه السلام) أن يكمل جواب ما طرحه مشكلاً به علي ابن أكثم، فأتم الإمام (عليه السلام) الجواب، فالتفت المأمون إلي من حضره من أهل بيته فقال لهم، هل فيكم احد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب؟ ويعرف القول فيما تقدم من السؤال؟ قالوا: لا والله، ان أمير المؤمنين أعلم بما رأي. فقال _ المأمون _ لهم: ويحكم ان أهل البيت خصوا من بين الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال ومن ثم ذكر لهم ان الرسول (صلي الله عليه وآله) افتتح الدعوة بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو ابن عشر سنين وقبل منه الاسلام. [73] . ولا بد من الاشارة إلي ان هذا الاهتمام المبالغ فيه من قبل المأمون تجاه الإمام الجواد(عليه السلام) كان قد سلك مثله مع أبيه الإمام الرضا(عليه السلام) حتي تم له ان دس له السم وقتله، فكان المأمون يتحرك إزاء الإمام(عليه السلام) بهدف إبعاد الإمام (عليه السلام) عن خاصته وعامة الناس، حيث اشخصه من المدينة إلي بغداد ليكون قريباً منه وتحت رقابته وعيونه، فيعرف الداخل عليه والخارج منه ظناً من المأمون أ نّه سوف يتمكن بذلك من تحجيم دور الإمام (عليه السلام) [ صفحه 55] وابعاده عن التأثير فضلاً عن اكتساب الشرعية لحكمه من خلال وجود الإمام(عليه السلام) إلي جنبه، ووفقاً لذلك كان موقف المأمون تجاه العباسيين الذين كانوا لا يرون في الإمام (عليه السلام) إلاّ صبياً لم يتفقه في الدين ولا يعرف الحلال والحرام. وهكذا قضي الإمام الجواد(عليه السلام) خمس

عشرة سنة خلال حكم المأمون حيث مات المأمون سنة (218 ه_).

الامام الجواد والمعتصم

والمعتصم هو محمد بن هارون الرشيد ثامن خلفاء بني العباس بُويع له بالخلافة سنة (218 ه_) بعد وفاة المأمون، وقد خرج المعتصم سنة (217 ه_) لبناء سامراء [74] ثم نقل عاصمة الدولة إليها، ولم تكن المدة التي قضاها الإمام الجواد(عليه السلام) في خلافة المعتصم طويلة فإنها لم تتجاوز السنتين حيث استشهد الإمام (عليه السلام) بعد ان استقدمه المعتصم إلي بغداد سنة (220 ه_). وكان الإمام الجواد (عليه السلام) قد خلّف ولده الإمام الهادي (عليه السلام) وهو صغير بالمدينة لمّا انصرف إلي العراق في العام الذي توفي فيه المأمون بأرض الروم [75] وهو عام (218 ه_). ونصّ الإمام الجواد(عليه السلام) قبل استشهاده علي إمامة ابنه علي في أكثر من موقع. [ صفحه 56]

نصوص الإمام الجواد علي إمامة ولده الهادي

أ _ النص الاول: عن اسماعيل بن مهران قال: لما اخرج أبو جعفر في الدفعة الاولي من المدينة إلي بغداد فقلت له: إني أخاف عليك في هذا الوجه فإلي من الأمر بعدك؟ قال: فكرّ بوجهه إليَّ ضاحكاً وقال: ليس حيث ظننت في هذه السنة، فلما استدعاه المعتصم صرت اليه فقلت: جعلت فداك أنت خارج فإلي من الأمر بعدك؟ فبكي حتي اخضلّت لحيته، ثم التفت إليَّ فقال: عند هذه يخاف عليّ، الأمر من بعدي إلي ابني علي» [76] . ب _ النص الثاني: عن الخيراني، عن ابيه _ وكان يلزم أبا جعفر للخدمة التي وكل بها _ قال: كان احمد بن محمد بن عيسي الاشعري يجيء في السحر ليعرف خبر علّة أبي جعفر، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين أبي إذا حضر قام احمد بن عيسي وخلا به أبي فخرج ذات ليلة وقام احمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول واستدار احمد

بن محمد ووقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول لأبي: ان مولاك يقرأ عليك السلام ويقول: «انّي ماض والأمر صار إلي ابني علي وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي»، ثم مضي الرسول فرجع احمد بن محمد بن عيسي إلي موضعه وقال لأبي: ما الذي قال لك؟ قال: خيراً، قال: فإنني قد سمعت ما قال لك وأعاد اليه ما سمع فقال له أبي: قد حرم الله عليك ذلك لأن الله تعالي يقول: (ولا تجسسوا) فأما إذا سمعت فاحفظ هذه الشهادة لعلنا نحتاج اليها يوماً، وإياك أن تظهرها لأحد إلي وقتها. [ صفحه 57] فلما اصبح أبي كتب نسخة الرسالة في عشر رقاع بلفظها وختمها ودفعها الي عشرة من وجوه العصابة وقال لهم: إن حدث بي حدث الموت قبل أن اطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها. قال: فلما مضي أبو جعفر (عليه السلام) لبث أبي في منزله فلم يخرج حتي اجتمع رؤساء الامامية عند محمد بن الفرج الرخجي يتفاوضون في القائم بعد أبي جعفر ويخوضون في ذلك، فكتب محمد بن أبي الفرج إلي أبي يعلمه باجتماع القوم عنده وانه لولا مخافة الشهرة لصار معهم اليه وسأله أن يأتيه، فركب أبي وصار اليه فوجد القوم مجتمعين عنده فقالوا لأبي: ما تقول في هذا الأمر؟ فقال أبي لمن عنده الرقاع أحضروها. فأحضروها وفضّها وقال: هذا ما اُمرت به. فقال بعض القوم: قد كنا نحب ان يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر فقال لهم أبي: قد أتاكم الله ما تحبون، هذا أبو جعفر الاشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة، وسأله أن يشهد فتوقف أبو جعفر فدعاه أبي إلي المباهلة وخوّفه بالله فلما حقق عليه القول قال: قد

سمعت ذلك ولكنني توقفت لأني احببت أن تكون هذه المكرمة لرجل من العرب فلم يبرح القوم حتي اعترفوا بإمامة أبي الحسن وزال عنهم الريب في ذلك» [77] . ج _ النص الثالث: عن محمد بن الحسين الواسطي أنه سمع أحمد بن أبي خالد مولي أبي جعفر يحكي أنه أشهده علي هذه الوصية المنسوخة «شهد احمد بن أبي خالد مولي أبي جعفر أن أبا جعفر محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أشهده أنه أوصي إلي علي ابنه بنفسه واخوته وجعل أمر موسي إذا بلغ اليه، وجعل عبد الله بن المساور قائماً علي تركته من الضياع والاموال والنفقات والرقيق وغير [ صفحه 58] ذلك إلي أن يبلغ علي بن محمد. صير عبد الله بن المساور ذلك اليوم اليه، يقوم بأمر نفسه وإخوانه ويصير أمر موسي اليه، يقوم لنفسه بعدهما علي شرط أبيهما في صدقاته التي تصدق بها، وذلك يوم الاحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين وكتب احمد بن أبي خالد شهادته بخطه وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو الجوائي علي مثل شهادة احمد بن خالد في صدر هذا الكتاب وكتب شهادته بيده وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده. [78] . د _ النص الرابع: حدثنا محمد بن علي، قال حدثنا عبدالواحد بن محمد ابن عبدوس العطار، قال حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، قال حدثنا حمدان بن سليمان، قال حدثنا الصقر بن أبي دلف، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي بن موسي الرضا(عليه السلام) يقول: «الإمام

بعدي ابني علي، أمره أمري وقوله قولي وطاعته طاعتي» [79] ، والإمام بعده ابنه الحسن أمره أمر أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه. ثم سكت فقلت له: يابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكي(عليه السلام) بكاءاً شديداً ثم قال: ان بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر، فقلت له: ياابن رسول الله ولم سمي القائم؟ قال: لأنه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بامامته. فقلت له: ولم سمي المنتظر؟ قال: لأن له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها، فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ به الجاحدون ويكذب فيها الوقاتون ويهلك فيها المستعجلون وينجو فيها المسلّمون» [80] . [ صفحه 59] ه_ _ النص الخامس: حدثنا علي بن محمد السندي، قال محمد بن الحسن، قال حدثنا عبدالله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن هلال، عن [اُمية بن علي] القيسي، قال: قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام) من الخلف من بعدك؟ قال: ابني علي. ثم قال: انّه سيكون حيرة. قال: قلت والي أين؟ فسكت ثم قال: الي المدينة. قلت: والي أي مدينة؟ قال: مدينتنا هذه، وهل مدينة غيرها [81] . و _ النص السادس: قال أحمد بن هلال: فأخبرني محمد بن اسماعيل بن بزيع أنه حضر اُمية بن علي وهو يسأل أبا جعفر الثاني(عليه السلام) عن ذلك، فأجابه بمثل ذلك الجواب. وبهذا الاسناد عن اُمية بن علي القيسي، عن أبي الهيثم التميمي، قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام):إذا توالت ثلاثة أسماء كان رابعهم قائمهم محمد وعلي والحسن [82] . ي _ النص السابع: روي الحميري، عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن أبيه أنّ أبا جعفر(عليه السلام) لما أراد الخروج من المدينة الي العراق ومعاودتها أجلس أبا الحسن

في حجره بعد النصّ عليه وقال له: ماالذي تحبّ أن اُهدي إليك من طرائف العراق؟ فقال(عليه السلام): سيفاً كأنّه شعلة نار، ثم التفت الي موسي ابنه وقال له: ما تحبُّ أنت؟ فقال: فرساً، فقال(عليه السلام): أشبهني أبوالحسن، وأشبه هذا اُمّه [83] . [ صفحه 60]

استشهاد الإمام الجواد

إن تقريب الإمام الرضا (عليه السلام) والعهد إليه بولاية الأمر من قبل المأمون العباسي وكذا ما كان من المأمون تجاه الإمام الجواد(عليه السلام) يعبر عن دهاء سياسي في التعامل مع أقوي معارضي الدولة، حيث يمتلك الإمامان القواعد الشعبية الواسعة مما كان يشكل خطراً علي كيان الدولة، فكان تصرّف المأمون معهما من أجل تطويق الخطر المحدق بالكيان السياسي للدولة العباسية وذلك من خلال عزل الإمام (عليه السلام) عن قواعده للحدّ من تأثيره في الاُمة، فتقريبه للامام (عليه السلام) يعني إقامة جبرية، ومراقبة دقيقة تحصي عليه حتي أنفاسه وتتعرّف علي مواليه ومقربيه، لمتابعتهم والتضييق عليهم. قال محمد بن علي الهاشمي: دخلت علي أبي جعفر (عليه السلام) صبيحة عرسه ببنت المأمون _ أي أم الفضل _ وكنت تناولت من أول الليل دواء فأوَّل من دخل في صبيحته أنا وقد أصابني العطش وكرهت أن أدعو بالماء، فنظر أبوجعفر (عليه السلام) في وجهي وقال: أراك عطشاناً قلت: أجل قال: يا غلام اسقنا ماء فقلت في نفسي: الساعة يأتونه بماء مسموم، واغتممت لذلك، فأقبل الغلام ومعه الماء فتبسم في وجهي ثمَّ قال: يا غلام ناولني الماء فتناول وشرب، ثمَّ ناولني الماء وشربت [84] . فقال محمد بن علي الهاشمي لمحمد بن حمزة: والله إني أظن أن أبا جعفر (عليه السلام) يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة [85] . فالهاشمي هذا ليس من شيعة الإمام

(عليه السلام)، غير انه كان يدرك ما يدور [ صفحه 61] في خلد العباسيين ويعرف وسائلهم في التخلص من معارضيهم، وربّما يستفاد من قوله هذا تأكيد أن الإمام الرضا (عليه السلام) قد مضي مسموماً من قبل المأمون. وروي المسعودي: أنّ المعتصم وجعفر بن المأمون دبّرا حيلة للتخلص من الإمام الجواد(عليه السلام)، فاتفق جعفر مع اُخته أم الفضل _ زوج الإمام الجواد (عليه السلام) _ أن تقدّم له عنباً مسموماً، وقد فعلت ذلك وأكل منه الإمام(عليه السلام)، فندمت وجعلت تبكي فقال لها الإمام(عليه السلام): ما بكاؤك! والله ليضربنك الله بفقر لا ينجلي وبلاء لا ينستر... فبليت بعلّة فأنفقت مالها وجميع ملكها علي تلك العلّة حتي احتاجت إلي رفد الناس _ أي معونتهم _ وقد تردي أخوها جعفر في بئر فاُخرج ميتاً وكان سكراناً. ويروي أن ابن أبي داود القاضي كان السبب لقتل الإمام(عليه السلام) وكان سبب وشايته: أنّ سارقاً جاء إلي الخليفة، وأقرّ علي نفسه بالسرقة وسأل الخليفة أن يطهّره بإقامة الحد عليه، فجمع المعتصم الفقهاء وسألهم عن مكان قطع اليد لإقامة الحد علي السارق هذا فاختلفوا في مكان القطع فالبعض قال من المرفق، وآخر قال من الكرسوع، واستشهدوا بآيات من القرآن الكريم تأولاً بغير علم، فالتفت المعتصم إلي الإمام (عليه السلام) وقال: ما تقول يا أبا جعفر؟ قال: قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين. قال: دعني مما تكلموا به، أي شيء عندك؟ قال: أعفني عن هذا يا أمير المؤمنين قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرتني بما عندك فيه، فقال: إذا أقسمت عليّ بالله، إني أقول: إنهم أخطأوا فيه السنّة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل الاصابع فيترك الكف. قال: لِمَ؟ قال لقول رسول

الله(صلي الله عليه وآله): السجود علي سبعة اعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالي: [ صفحه 62] (وأن المساجد لله) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فلا تدعوا مع الله احداً)وما كان لله لم يقطع، قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الاصابع دون الكف. قال زرقان: إن ابن أبي داود قال لي: صرت إلي المعتصم بعد ثالثة فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، وأنا أُكلمه بما أعلم أني أدخل به النار قال: ما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من اُمور الدين فسألهم عن الحكم فيه، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك. وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه، وكتّابه وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الاُمة بإمامته ويدّعون أنه اولي منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء. قال ابن أبي داود: فتغير لونه _ أي المعتصم _ وانتبه لما نبّهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً...» [86] . من هنا نُدرك أنّه كيف اندفع المعتصم للتآمر علي الإمام الجواد (عليه السلام) مع جعفر ابن المأمون واخته أم الفضل فلا تعارض بين هاتين الروايتين والحال هذه. [ صفحه 65]

المسيرة الرسالية لأهل البيت منذ عصر الرسول حتي عصر الإمام الهادي

اشاره

تعتبر الرسالة الإسلامية الكون مملكة لله سبحانه، والإنسان خليفة له وأميناً من قبله، ينبغي له أن يقوم بأعباء المسؤولية التي حمّله الله إيّاها. ومادامت الحياة الدنيا تعتبر شوطاً قصيراً في مسيرة الإنسان الطويلة فالأهداف التي ينبغي للمشرِّع الحكيم وللإنسان المشرَّع إليه أن يستهدفها

لا تتلخّص في تحقيق مآرب هذه الحياة الدنيا الفانية وإنّما تمتد بامتداد حياته الباقية في عالم الآخرة. والإسلام يريد للإنسان أن يتربّي علي هذه الثقافة التي تصنع منه كائناً متكاملاً سويّاً دؤوباً في تحقيق الأهداف الرسالية الكبري. وقد كان التخطيط الربّاني لتربية الإنسان في هذا الاتجاه حكيماً ومتقناً حين تزعّم الرسول الخاتم(صلي الله عليه وآله) المجتمع الإنساني وهيمن علي كل العلاقات الاجتماعية وغيرها ليصوغ من هذا الإنسان نموذجاً فريداً. ولم يكن الطريق أمام عملية التغيير الجذري التي بدأها النبي(صلي الله عليه وآله) في [ صفحه 66] المجتمع الإنساني طريقاً قصيراً يمكن تحققه خلال عقد أو عقدين من الزمن بل كان طريقاً ممتداً بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام. ولم يكن كل ما حقّقه الرسول(صلي الله عليه وآله) في هذه البرهة المحدودة كافياً لاجتثاث كل الجذور الجاهلية من عامة أبناء الجيل الأوّل وايصاله الي الدرجة اللازمة من الوعي والموضوعية والتحرز من كل رواسب الماضي الجاهلي بحيث يؤهله للقيمومة علي خط الرسالة. وتكفي الأحداث المرّة التي أعقبت وفاة الرسول(صلي الله عليه وآله) وما جري بين صحابة الرسول من سجالات سجّلها المؤرخون في المصادر التي بأيدينا لتشهد علي أن جيل الصحابة لم يرتقِ الي درجة الكفاءة اللازمة ليخلف الرسول علي رسالته. من هنا كان منطق العمل التغييري يفرض علي الرسول(صلي الله عليه وآله) أن يصون تجربته الرائدة _ التي كان يريد لها الخلود والبقاء وهو الذي أعلن بأنه خاتم المرسلين وانّه لا نبي بعده.. كان يفرض عليه أن يصون تجربته _ من كل ما يؤدي الي ضعفها أو إنهيارها، وذلك باعطاء القيمومة والوصاية علي تجربته لقيادة كفوءة معصومة قد أعدّها بنفسه كما يريد وكما ينبغي; لتقوم بالمهمة

التغييرية الشاملة خلال فترة طبيعية من الزمن بحيث تحقق للرسالة أهدافها التي كانت تنشدها من ارسال الرسل وتقديم منهج رباني كامل للحياة.

عقبات و أخطار أمام عملية التغيير الشاملة

لم يكن الإسلام نظرية بشرية لكي تتحدَّد فكرياً من خلال ممارسة تجارب الخطأ والصواب في التطبيق، وإنما هو رسالة الله التي حُدّدت فيها الأحكام والمفاهيم وزوّدت ربّانياً بكلّ التشريعات العامّة، فلا بدّ لزعامة هذه [ صفحه 67] التجربة من استيعاب الرسالة بحدودها وتفاصيلها ووعي كامل لأحكامها ومفاهيمها، وإلاّ كانت مضطرة إلي استلهام مسبقاتها الذهنية ومرتكزاتها القَبْلية وذلك يؤدّي إلي نكسة في مسيرة التجربة وبخاصة إذا لاحظنا أن الإسلام كان هو الرسالة الخاتمة لرسالات السماء التي تمتد مع الزمن وتتعدي كل الحدود الاقليمية والقومية، الأمر الذي لا يسمح بأن تمارس زعامته تجارب الخطأ والصواب التي تتراكم فيها الأخطاء عبر فترة من الزمن حتي تشكل ثغرة تهدد التجربة بالسقوط والانهيار [87] . وقد برهنت الأحداث التي جرت علي آل الرسول(عليهم السلام) بعد وفاته(صلي الله عليه وآله) استئثاراً بالخلافة دونهم علي هذه الحقيقة المرّة وتجلّت آثارها السلبيّة بوضوح بعد نصف قرن أو أقلّ من ممارسة الحكم من قبل جيل المهاجرين الذين لم يُرشّحوا من قبل الرسول(صلي الله عليه وآله) للإمامة ولم يكونوا مؤهلين للقيمومة علي الرسالة. فلم يمض ربع قرن حتي بدأت الخلافة الراشدة تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجّهها أعداء الإسلام القدامي; إذ استطاعوا أن يتسلّلوا إلي مراكز النفوذ في قيادة التجربة بالتدريج حتّي صادروا بكل وقاحة وعنف تلك القيادة وأجبروا الاُمّة وجيلها الطليعي الرائد علي التنازل عن شخصيّته وقيادته وتحوّلت الزعامة إلي ملك موروث يستهتر بالكرامات ويقتل الأبرياء ويبعثر الأموال ويعطّل الحدود ويجمّد الأحكام ويتلاعب بمقدّرات الناس وأصبح الفيء والسواد بستاناً لقريش،

والخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني اُمية [88] . [ صفحه 68]

مضاعفات الانحراف بعد الرسول

لقد واجه الإسلام بعد وفاة النبي(صلي الله عليه وآله) انحرافاً خطيراً في صميم التجربة الإسلامية التي أنشأها هذا النبي العظيم(صلي الله عليه وآله) لاُمته. وهذا الانحراف في التجربة الاجتماعية والسياسية للأمّة والدولة الإسلامية كان بحسب طبيعة الاشياء من المفروض أن يتسع ليتعمق بالتدريج علي مرّ الزمن; اذ الانحراف يبدأ بذرة ثمّ تنمو هذه البذرة، وكلما تحققت مرحلة من الانحراف; مهّدت هذه المرحلة لمرحلة أوسع وأرحب. فكان من المفروض أن يصل هذا الانحراف إلي خط منحن طوال عملية تاريخية زمنية طويلة المدي يصل به إلي الهاوية حين تستمر التجربة الإسلامية في طريق منحرف لتصبح مليئة بالتناقضات من كل جهة، وتصبح عاجزة عن تحقيق الحدّ الأدني من متطلبات الاُمّة ومصالحها الإسلاميّة. وحينما يتسلسل الانحراف في خط تصاعدي فمن المنطقي أن تتعرض التجربة لانهيار كامل ولو بعد زمن طويل. إذن فالدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية كان من المفروض أن تتعرض كلّها للانهيار الكامل; لأن هذه التجربة حين تصبح مليئة بالتناقضات وحين تصبح عاجزة عن مواجهة وظائفها الحقيقية; تصبح عاجزة عن حماية نفسها; لأن التجربة تكون قد استنفدت إمكانية البقاء والاستمرار علي مسرح التاريخ، كما أن الاُمّة ليست علي مستوي حمايتها; لأن الاُمّة لا تجني من هذه التجربة الخير الذي تفكّر فيه ولا تحقق عن طريق هذه التجربة الآمال التي تصبو اليها فلا ترتبط بأي ارتباط حياتي حقيقي معها، فالمفروض أن تنهار هذه التجربة في مدي من الزمن كنتيجة نهائية حتمية لبذرة الانحراف التي غرست فيها. [ صفحه 69]

انهيار الدولة الإسلامية و مضاعفاته

ومعني انهيار الدولة الإسلامية أن تسقط الحضارة الإسلامية وتتخلي عن قيادة المجتمع ويتفكك المجتمع الإسلامي، ويُقصي الإسلام عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للاُمّة، لكن الاُمّة تبقي طبعاً، حين

تفشل تجربة المجتمع والدولة، لكنها سوف تنهار أمام أول غزو يغزوها، كما انهارت أمام الغزو التتري الذي واجهته الخلافة العباسية. وهذا الانهيار يعني: أن الدولة والتجربة قد سقطت وأن الاُمّة بقيت، لكن هذه الاُمّة أيضاً بحسب تسلسل الأحداث من المحتوم أن تنهار كاُمّة تدين بالإسلام وتؤمن به وتتفاعل معه; لأن هذه الاُمّة قد عاشت الإسلام الصحيح زمناً قصيراً جداً وهو الزمن الذي مارس فيه الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله) زعامة التجربة وبعده عاشت الاُمّة التجربة المنحرفة التي لم تستطع أن تعمّق الإسلام وتعمّق المسؤولية تجاه عقيدتها ولم تستطع أن تثقّفها وتحصّنها وتزوّدها بالضمانات الكافية لئلاّ تنهار أمام الحضارة الجديدة والغزو الجديد والأفكار الجديدة التي يحملها الغازي إلي بلاد الإسلام. ولم تجد هذه الاُمّة نفسها قادرة علي تحصين نفسها بعد انهيار التجربة والدولة والحضارة بعدما اُهينت كرامتها وحُطِّمتْ ارادتها وغُلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة وبعد أن فَقَدتْ روحها الحقيقية، لأن تلك الزعامات كانت تريد اخضاعها لزعامتها القسريّة. إن هذه الاُمّة من الطبيعي أن تنهار بالاندماج مع التّيار الكافر الذي غزاها وسوف تذوب الاُمّة وتذوب الرسالة والعقيدة أيضاً وتصبح الاُمّة خبراً بعد أن [ صفحه 70] كانت أمراً حقيقياً علي مسرح التاريخ وبهذا ينتهي دور الإسلام نهائياً [89] . لقد كان هذا هو التسلسل المنطقي لمسيرة الدولة والاُمّة والرسالة بقطع النظر عن دور الأئمّة المعصومين الذين اُوكِلت إليهم من قبل الرسول(صلي الله عليه وآله) مهمة صيانة التجربة والدولة والاُمّة والرسالة جميعاً.

دور الأئمة الراشدين

إنّ دور الأئمّة الاثني عشر الذين نصّ عليهم وعلي إمامتهم الرسول(صلي الله عليه وآله) واستخلفهم لصيانة الإسلام من أيدي العابثين الذين كانوا يتربّصون به الدوائر، وحمّلهم مسؤولية تطبيقه وتربية الإنسانية

علي أساسه وصيانة دولة الرسول الخاتم من الانهيار والتردّي يتلخّص في أمرين مهمّين وخطّين أساسيين: 1 _ خط تحصين الاُمّة ضد الانهيار بعد سقوط التجربة، واعطائها من المقوّمات القدر الكافي لكي تبقي واقفة علي قدميها بقدم راسخة وبروح مجاهدة وبإيمان ثابت. 2 _ خط محاولة تسلّم زمام التجربة وزمام الدولة ومحو آثار الانحراف وارجاع القيادة إلي موضعها الطبيعي لتكتمل عناصر التربية الثلاثة _ أعني الاُمة والشريعة والمربّي الكفوء _ ولتتلاحم الاُمّة والمجتمع مع الدولة وقيادتها الرشيدة [90] . أما الخط الثاني فكان علي الأئمّة الراشدين أن يقوموا بإعداد طويل المدي له، من أجل تهيئة الظروف الموضوعية اللازمة التي تتناسب وتتفق مع [ صفحه 71] مجموعة القيم والأهداف والأحكام الأساسية التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وأريد تحقيقها من خلال الحكم وممارسة الزعامة باسم الإسلام القيّم وباسم الله المشرّع للإنسان كل ما يوصله إلي كماله اللائق. ومن هنا كان رأي الأئمّة المعصومين من أهل بيت الرسول(صلي الله عليه وآله) في استلام زمام الحكم أن الانتصار المسلّح الآنيّ غير كاف لإقامة دعائم الحكم الإسلامي المستقر بل يتوقف ذلك علي إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وبعصمته ايماناً مطلقاً بحيث يعيش أهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس كل ما يحققه للاُمّة من مصالح وأهداف ربّانية. وأما الخط الأوّل فهو الخط الذي لا يتنافي مع كل الظروف القاهرة، وكان يمارسه الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) حتي في حالة الشعور بعدم توفر الظروف الموضوعية التي تهيء الإمام(عليه السلام) لخوض معركة يتسلّم من خلالها زمام الحكم من جديد. إن هذا الدور وهذا الخط هو خط تعميق الرسالة فكرياً وروحيّاً وسياسياً في ضمير الاُمة بغية إيجاد تحصين كاف في صفوفها ليؤثّر في تحقيق مناعتها

وعدم انهيارها بعد تردّي التجربة وسقوطها، وذلك بايجاد قواعد واعية في الاُمّة وايجاد روح رسالية فيها وايجاد عواطف صادقة تجاه هذه الرسالة في صفوف الاُمّة [91] . واستلزم عمل الأئمّة الطاهرين(عليهم السلام) في هذين الخطين قيامهم بدور رسالي ايجابي وفعّال علي مدي قرون ثلاثة تقريباً في مجال حفظ الرسالة والاُمّة والدولة وحمايتها باستمرار. وكلما كان الانحراف يشتد; كان الائمّة الأبرار يتخذون التدابير اللازمة [ صفحه 72] ضد ذلك، وكلما وقعت محنة للعقيدة أو التجربة الإسلامية وعجزت الزعامات المنحرفة من علاجها _ بحكم عدم كفاءتها _ بادر الأئمّة المعصومون إلي تقديم الحلّ ووقاية الاُمة من الأخطار التي كانت تهددّها. فالأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) كانوا يحافظون علي المقياس العقائدي في المجتمع الإسلامي بشكل مستمر إلي درجة لا تنتهي بالاُمّة إلي الخطر الماحق لها [92] .

المهام الرسالية للأئمة الطاهرين

من هنا تنوعت مهامّ الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) في مجالات شتي باعتبار تعدد العلاقات وتعدّد الجوانب التي كانت تهمّهم كقيادة واعية رشيدة تريد تطبيق الإسلام وحفظه وضمان خلوده للإنسانية جمعاء. لأنّ الأئمّة مسؤولون عن صيانة تراث الرسول(صلي الله عليه وآله) الأعظم وثمار جهوده الكريمة المتمثلة في: 1 _ الشريعة والرسالة التي جاء بها الرسول الأعظم من عند الله والمتمثلة في الكتاب والسنة الشريفين. 2 _ الاُمّة التي كوّنها وربّاها الرسول الكريم بيديه الكريمتين. 3 _ المجتمع السياسي الإسلامي الذي أوجده النبي محمد (صلي الله عليه وآله) أو الدولة التي أسسها وشيّد أركانها. 4 _ القيادة النموذجية التي حقّقها بنفسه وربّي لتجسيدها الأكفّاء من أهل بيته الطاهرين. لكنّ استئثار بعض الصحابة بالمركز القيادي الذي رُشّح له الأئمّة [ صفحه 73] المعصومون من قبل الله ورسوله(صلي الله عليه وآله) ونصّ عليهم الرسول(صلي

الله عليه وآله) لاستلامه ولتربية الاُمّة من خلاله لم يكن ليمنعهم ذلك من الاهتمام بالمجتمع الإسلامي السياسي وصيانة الدولة الإسلامية من الانهيار بالقدر الممكن لهم بالفعل وبمقدار ما كانت تسمح به الظروف الواقعية المحيطة بهم. كما أن سقوط الدولة الإسلامية لا يحول دون الاهتمام بالاُمّة كاُمّة مسلمة ودون الاهتمام بالرسالة والشريعة كرسالة إلهية وصيانتها من الانهيار والاضمحلال التام. وعلي هذا الأساس تنوّعت مجالات عمل الأئمّة الطاهرين(عليهم السلام) جميعاً بالرغم من اختلاف ظروفهم من حيث نوع الحكم القائم ومن حيث درجة ثقافة الاُمّة ومدي وعيها وايمانها ومعرفتها بالأئمّة(عليهم السلام) ومدي انقيادها للحكام المنحرفين ومن حيث نوع الظروف المحيطة بالكيان الإسلامي والدولة الإسلامية ومن حيث درجة التزام الحكّام بالإسلام ومن حيث نوع الأدوات التي كان يستخدمها الحكّام لدعم حكمهم وإحكام سيطرتهم.

موقف أهل البيت من انحراف الحكام

كان للأئمّة المعصومين(عليهم السلام) نشاط مستمر تجاه الحكم القائم والزعامات المنحرفة وقد تمثّل في إيقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف، بالتوجيه الكلامي تارة، أو بالثورة المسلّحة ضد الحاكم حينما كان يشكّل انحرافه خطراً ماحقاً _ كثورة الإمام الحسين(عليه السلام) ضد يزيد بن معاوية _ وإن كلّفهم ذلك حياتهم وقد عملوا للحدّ من انحراف الحكام عن طريق إيجاد المعارضة المستمرة ودعمها بشكل وآخر من أجل زعزعة القيادة المنحرفة بالرغم من دعمهم للدولة الإسلامية بشكل غير مباشر حينما كانت تواجه خطراً ماحقاً أمام الكيانات الكافرة. [ صفحه 74]

اهل البيت و تربية الامة

وكان للأئمّة الأطهار(عليهم السلام) نشاط مستمر في مجال تربية الاُمّة عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً وذلك من خلال تربية الأصحاب العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهامّ كبيرة مثل نشر الوعي والفكر الإسلامي وتصحيح الأخطاء المستجدة في فهم الرسالة والشريعة، ومواجهة التيارات الفكرية السياسية المنحرفة أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي كان يوظّفها الحاكم المنحرف لدعم زعامته. وحيث كان الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) يُشكّلون النموذج الحيّ للزعامة الصالحة، عملوا علي تثقيف الاُمة ورفع درجة وعيها بالنسبة لإمامتهم وزعامتهم ومرجعيتهم العامة. وهكذا تفاعل الأئمة(عليهم السلام) مع الاُمة ودخلوا الي أعماق ضمير الاُمة وارتبطوا بها وبكل قطّاعاتها بشكل مباشر وتعاطفوا مع قطاع واسع من المسلمين; فإن الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان يتمتع بها ائمّة أهل البيت(عليهم السلام) علي مدي قرون لم يحصل عليها أهل البيت صدفة أو لمجرد الانتماء لرسول الله(صلي الله عليه وآله); وذلك لوجود كثير ممن كان ينتسب إلي رسول الله(صلي الله عليه وآله) ولم يكن يحظي بهذا الولاء; لأن الاُمّة لا تمنح علي الأغلب الزعامة مجاناً ولا يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ

منه في مختلف مجالات اهتمام الاُمّة ومشاكلها وهمومها. [ صفحه 75]

سلامة النظرية الإسلامية

وهكذا خرج الإسلام علي مستوي النظرية سليماً من الانحراف وإن تشوّهت معالم التطبيق من خلال الحكّام المنحرفين، وتحولّت الاُمّة إلي اُمّة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر حتي استطاعت أن تسترجع قدرتها وروحها علي المدي البعيد كما لاحظناه في هذا القرن المعاصر بعد عصور الانهيار والتردي حيث بزغ نور الإسلام من جديد ليعود بالبشرية الي مرفأ الحق التليد. وقد حقق الأئمّة المعصومون(عليهم السلام) كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الجماعة الصالحة التي تؤمن بهم وبإمامتهم فأشرفوا علي تنمية وعيها وايمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار واسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد علي ثباتها في خضمّ المحن وارتفاعها إلي مستوي جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل علي صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل نهار.

مراحل الحركة الرسالية للائمة الراشدين

وإذا رجعنا إلي تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) والظروف التي كانت قد أحاطت بهم ولاحظنا سيرتهم ومواقفهم العامة والخاصة استطعنا أن نصنّف ظروفهم ومواقفهم إلي مراحل وعصور ثلاثة يتميز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في كثير من الظروف والمواقف ولكن الأدوار تتنوع باعتبار مجموعة الظواهر العامّة التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر. فالمرحلة الاُولي من حياة الأئمّة(عليهم السلام) وهي (مرحلة تفادي صدمة [ صفحه 76] الانحراف) بعد وفاة رسول الله(صلي الله عليه وآله) تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمّة الأربعة: علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين(عليهم السلام) فقاموا بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وإن لم يستطيعوا القضاء علي القيادة المنحرفة. لكنهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة علي الرسالة الإسلامية نفسها. وبالطبع إنهم لم يهملوا الاُمّة أو الدولة الإسلامية بشكل عام من رعايتهم واهتماماتهم فيما يرتبط بالكيان الاسلامي والاُمّة المسلمة فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة

بقيادتهم. وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر الثاني من حياة الإمام السجاد السياسية حتي الإمام الكاظم(عليه السلام) وتتميز بأمرين أساسيين: الأوّل منهما: يرتبط بالخلافة المزيّفة، فقد تصدي هؤلاء الأئمّة لتعريتها عن التحصينات التي بدأ الخلفاء يحصّنون بها أنفسهم من خلال دعم وتأييد طبقة من المحدّثين والعلماء (وهم وعّاظ السلاطين) لهؤلاء الخلفاء وتقديم صنوف التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ الصبغة الشرعية علي زعامتهم بعد أن استطاع الأئمّة في المرحلة الاولي أن يكشفوا زيف خط الخلافة ويشعروا الاُمّة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله). والثاني منهما: يرتبط ببناء الجماعة الصالحة والذي اُرسيت دعائمه في المرحلة الاولي، فقد تصدي الأئمّة المعصومون في هذه المرحلة إلي تحديد الاطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط الرسالي الذي اؤتمن الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) عليه، والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية وتربية عدة أجيال من العلماء علي أساس الثقافة الإسلامية التي استوعبها الأئمة الأطهار في قبال الخط الثقافي الذي استحدثه وعّاظ السلاطين. [ صفحه 77] هذا فضلاً عن تصديهم لدفع الشبهات وكشف زيف الفرق التي استحدثت من قبل خط الخلافة أو غيره. والأئمّة في هذه المرحلة لم يتوانوا عن زعزعة الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض الخطوط المعارِضة للسلطة ولاسيما بعض الخطوط الثورية منها والتي كانت تتصدي لمواجهة من تربَّع علي كرسيّ خلافة الرسول(صلي الله عليه وآله) بعد ثورة الإمام الحسين(عليه السلام). وأما المرحلة الثالثة من حياة الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) فهي تبدأ بشطر من حياة الإمام الكاظم(عليه السلام) وتنتهي بالإمام المهدي(عليه السلام) فإنهم بعد وضع التحصينات اللازمة للجماعة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها عقائدياً واخلاقياً وسياسيّاً في المرحلة الثانية قد بدا للخلفاء أن

قيادة أهل البيت(عليهم السلام) أصبحت بمستوي تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلي حظيرة الإسلام الحقيقي، مما خلّف ردود فعل للخلفاء تجاه الأئمّة(عليهم السلام)، وكانت مواقف الأئمّة تجاه الخلفاء تختلف تبعاً لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه قضيتهم. وأما فيما يرتبط بالجماعة الصالحة التي أوضحوا لها معالم خطها فقد عمل الأئمّة(عليهم السلام) علي دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من جهة لتحصينها من الانهيار، واعطائها درجة من الاكتفاء الذاتي من جهة اُخري. وكان يقدّر الأئمّة أنهم بعد المواجهة المستمرة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم وسوف لن يتركهم الخلفاء أحراراً بعد أن تبين زيفهم ودَجلهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمّة المعصومين الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والواقعية للاُمّة الإسلامية. ومن هنا تجلّت ظاهرة تربية الفقهاء بشكل واسع ثم ارجاع الناس اليهم [ صفحه 78] وتدريبهم علي مراجعتهم للعلماء السائرين علي خط أهل البيت(عليهم السلام) في كل قضاياهم وشؤونهم العامة تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه والتي أخبر الرسول(صلي الله عليه وآله) عن تحققها وأملت الظروف عليهم الانصياع اليها. وبهذا استطاع الأئمّة(عليهم السلام) _ ضمن تخطيط بعيد المدي _ أن يقفوا بوجه التسلسل الطبيعي لمضاعفات انحراف القيادة الإسلامية والتي كانت تنتهي بتنازل الاُمّة عن الإسلام الصحيح وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار الرسالة الالهية بشكل كامل.

موقع الإمام الهادي في عملية التغيير الشاملة

والإمام علي بن محمد الهادي(عليه السلام) يصنّف في هذه المرحلة الثالثة من مراحل حركة أهل البيت(عليهم السلام) فهو قد مارس نشاطاً مكثّفاً لإعداد الجماعة الصالحة للدخول الي دور الغيبة المرتقب، وتحصين هذا الخط ضد التحدّيات التي كانت توجّه إليه باستمرار. وسوف نقف علي تفاصيل مواقف الإمام الهادي(عليه السلام) ونشاطاته وإنجازاته التي اختصّ بها عصره بعد التعرّف علي ملامح

عصره وأهم الظروف التي كانت تحيط به وبشيعته وبالاُمة الإسلامية جميعاً ضمن الفصول القادمة إن شاء الله تعالي. [ صفحه 79]

عصر الإمام علي بن محمد الهادي

اشاره

تحدثنا عن المرحلة الاُولي من حياة الإمام الهادي(عليه السلام) في ظلال والده الإمام محمد الجواد(عليه السلام) وقد كانت فترة قصيرة جداً لم تتجاوز ثماني سنين _ علي أكثر التقادير _ وقد قضاها في المدينة المنورة، وكان في شطر منها بعيداً عن والده، وذلك لأن المعتصم العباسي قد استدعاه في سنة (218 ه_) الي بغداد. والمرحلة الثانية من حياة الإمام الهادي(عليه السلام) تناهز أربعاً وثلاثين سنة حيث تحمّل فيها أعباء منصب الإمامة منذ سنة (220 ه_) الي سنة (254ه_) واستمرت (34 سنة). وعاصر فيها كلاً من: المعتصم(218 _ 227 ه_) والواثق(227 _232 ه_). والمتوكل (232 _ 247 ه_) والمنتصر (247 _ 248 ه_) والمستعين (248 _ 252 ه_). والمعتز (252 _ 255 ه_).

المعتصم

(218 _ 227 ه_) هو محمد بن الرشيد، ولد سنة (180 أو 178)، واستولي علي كرسي الخلافة سنة (218 ه_) اُمه ماردة كانت أحظي الناس عند الرشيد. وقالوا عنه: انّه كان ذا شجاعة وقوة وهمّة وكان عريّاً من العلم. وكان إذا غضب لا يبالي من [ صفحه 80] قتل، وكان من أشدّ الناس بطشاً، كان يجعل زند الرجل بين أصبعيه فيكسره. وهو أوّل خليفة أدخل الأتراك الديوان وكان يتشبّه بملوك الأعاجم ويمشي مشيتهم، وبلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً. وهجاه دعبل الخزاعي بالأبيات التالية: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم يأتنا في ثامن منهم الكُتْبُ كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة غداة ثَوَوْا فيه وثامنهم كلب وإنّي لأزهي كلبهم عنك رغبةً لأنك ذو ذنب وليس له ذنب لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم وصيف واشناس وقد عظم الخطب وسار علي ما كان عليه المأمون من امتحان الناس بخلق القرآن وقاسي الناس

منه مشقة في ذلك وقتل عليه خلقاً من العلماء وضرب الإمام أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين. وفيها تحوّل المعتصم من بغداد وبني سرّ من رأي بعد أن اعتني باقتناء الترك وبذل الأموال الطائلة فيهم حتي ألبسهم الديباج ومناطق الذهب وأصبحوا يؤذون الناس ببغداد حتي هدّده أهل بغداد بمحاربته إن لم يخرجهم منها،. ولهذا بني سامراء وأخرجهم من بغداد. وغزا المعتصم الروم سنة (223 ه_) و فتح عمورية ومات في ربيع الأوّل سنة (227 ه_) ودامت حكومة المعتصم ثماني سنين وثمانية أشهر.

الامام الهادي والمعتصم العباسي

بعد اغتيال الإمام الجواد (عليه السلام) من قبل المعتصم عهد المعتصم إلي عمر بن الفرج أن يشخص بنفسه إلي المدينة ليختار معلماً لأبي الحسن الهادي(عليه السلام) البالغ من العمر آنذاك ست سنين وأشهراً، وقد عهد إليه ان يكون المعلم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام) ليغذيه ببغضهم. [ صفحه 81] ولما انتهي عمر إلي يثرب التقي بالوالي وعرّفه بمهمته فأرشده الوالي وغيره إلي الجنيدي الذي كان شديد البغض للعلويين، فأرسل خلفه وعرّفه بالأمر فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهرياً، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته والاتصال به. بادر الجنيدي الي ما كان اُمر به من مهمّة تعليم الإمام(عليه السلام) إلاّ انه قد ذهل لما كان يراه من حدَّة ذكائه، والتقي محمد بن جعفر بالجنيدي فقال له:«ما حال هذا الصبي الذي تؤدبه؟» فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول: «أتقول: هذا الصبي؟!! ولا تقول هذا الشيخ؟ انشدك بالله هل تعرف بالمدينة من هو أعرف مني بالأدب والعلم؟». قال: لا. فقال الجنيدي: «إني والله لأذكر الحرف في الأدب، وأظن أني قد بالغت، ثم إنّه يملي أبواباً استفيده منه، فيظن الناس

اني اُعلمه، وأنا والله أتعلّم منه». وانطوت الأيام فالتقي محمد بن جعفر مرة أخري بالجنيدي، فقال له: ما حال هذا الصبي؟ فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال: «دع عنك هذا القول، والله تعالي لهو خير أهل الأرض، وأفضل من برأه الله تعالي، وإنه لربما همَّ بدخول الحجرة فأقول له: حتي تقرأ سورة، فيقول: أيّ سورة تريد أن أقرأها؟ فاذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها فيسرع بقراءتها بما لم أسمع أصح منها، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود، انّه حافظ القرآن من أوله إلي آخره، ويعلم تأويله وتنزيله. [ صفحه 82] وأضاف الجنيدي قائلاً: هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين عَلِم هذا العلم الكبير؟ يا سبحان الله!! ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيت (عليهم السلام) ودان بالولاء لهم واعتقد بالامامة» [93] . لقد كان لأدب الإمام الهادي (عليه السلام) وحسن تعامله مع معلمه «الناصبي» أثر كبير في تحوله الاعتقادي وايمانه بزعامة أهل البيت (عليهم السلام). ثمّ إنّ الجنيدي نفسه صرّح لغيره أنه تعلم من الإمام(عليه السلام) ولم يأخذ الإمام(عليه السلام) العلم منه، وتلك خاصة للإمام وآبائه (عليهم السلام)، فإنّ الإمام الرضا(عليه السلام) لما سُئل عن الخلف بعده أشار إلي الإمام الجواد(عليه السلام) وهو صغير ربّما في عمر كعمر الإمام الهادي(عليه السلام)، واحتج الرضا (عليه السلام) بقوله تعالي: (وآتيناه الحكم صبياً)فالصغر والكبر ليس مورداً للإشكال فإن الله سبحانه جعل الامامة امتداداً للنبوة لتقتدي الناس بحملة الرسالة فهم القيّمون عليها والمجسّدون لها تجسيداً كاملاً ليتيسّر للناس تطبيق أحكام الله تعالي بالاقتداء بالائمة(عليهم السلام). وتعكس لنا هذه الرواية الاهتمام المبكر من قبل المعتصم بالامام الهادي(عليه السلام) من أجل تطويق تحركه وعزله عن

شيعته ومريديه كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتصال الشيعة به. يُضاف الي ذلك أن المبادرة لتعليم الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم علي علم الإمام وهو في هذا العمر كما حدث لأبيه الجواد(عليه السلام) حين تحدّي كبار العلماء ولم يعهد منه أنه كان قد تعلّم عند أحد. [ صفحه 83] فهذا الإسراع يعدّ محاولة للحيلولة دون بزوغ اسم الإمام الهادي(عليه السلام) وسطوع فضله عند الخاص والعام، لأنّ ما سوف يصدر منه يمكن أن يُنسب الي معلّمه ومربّيه. غير أن الإمام(عليه السلام) بخلقه وهدوئه استطاع أنّ يفوّت الفرصة علي الخليفة وبلاطه ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها الله له.

الواثق

(227 _ 232 ه_) هو هارون بن المعتصم، اُمه رومية، ولد في شعبان (196 ه_) واستولي علي الخلافة في ربيع الأوّل (227 ه_). وفي سنة (228 ه_) استخلف علي السلطة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجاً مجوهراً. وكان كثير الأكل جداً حتي قال ابن فهم: أنه كان يأكل في خوان من ذهب وكان يحمل كل قطعة منه عشرون رجلاً. وكان الواثق كأسلافه الحاكمين في الإسراف وقضاء الوقت باللهو والمفاسد. وقيل عنه أ نّه كان وافر الأدب مليح الشعر، وكان أعلم الخلفاء بالغناء، وله اصوات وألحان عملها نحو مائة صوت وكان حاذقاً بضرب العود، راوية للأشعار والأخبار. وكان يحب خادماً له أهدي له من مصر فأغضبه الواثق يوماً ثم انه سمعه يقول لبعض الخدم: والله انه ليروم ان أكلمه _ اي الواثق _ من أمس فما أفعل، فقال الواثق في ذلك شعراً: يا ذا الذي بعد أبي ظل مختفراً ما أنت إلاّ مليك جاد إذ قدرا [ صفحه 84] لولا الهوي لتحاربنا

علي قدر وان اقف منه يوماً فسوف تري [94] . وفي سنة (229 ه_) حبس الواثق كتّاب دولته وألزمهم أموالاً عظيمة، فأخذ من أحمد بن اسرائيل ثمانين ألف دينار ومن سليمان بن وهب _ كاتب ايتاخ _ اربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار، ومن ابراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار، ومن أحمد بن الخصيب مليوناً من الدنانير، ومن نجاح ستين ألف دينار، ومن أبي الوزير مائة وأربعين ألف دينار [95] . فكم كان مجموع ثرواتهم بحيث أمكنهم دفع تلك الضرائب؟ وإذا كانت هذه ثروة الكاتب العادي، فكم هي ثروة الوزير نفسه؟ ولعلّ من نافلة القول أن هذه الأموال إنّما اجتمعت عند هؤلاء علي حساب سائر أبناء الاُمة الإسلامية الذين كانوا يعانون من الفقر وحياة التقشّف التي أنتجها الظلم الي جانب التفاضل الطبقي الفاحش.

الامام الهادي و بغا الكبير

وفي سنة (230 ه_) أغار الأعراب من بني سليم علي المدينة ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس، ولم يفلح حاكم المدينة في دفعهم حتي ازداد شرّهم واستفحل فوجّه إليهم الواثق بغا الكبير ففرّقهم وقتل منهم وأسر آخرين وانهزم الباقون [96] . وللإمام حين ورود بغا بجيشه الي المدينة موقف تجدر الإشارة اليه، فإنّ [ صفحه 85] أبا هاشم الجعفري يقول: كنت بالمدينة حين مّر بها بغا أيّام الواثق في طلب الأعراب. فقال أبو الحسن(عليه السلام): اُخرجوا بنا حتي ننظر الي تعبئة هذا التركي. فخرجنا فوقفنا فمرّت بنا تعبئته فمرّ بنا تركي فكلّمه أبو الحسن(عليه السلام) بالتركية فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابته، قال (أبو هاشم) فحلّفت التركي وقلت له: ما قال لك الرجل؟ فقال: هذا نبيّ؟ قلت: ليس هذا بنبيّ. قال: دعاني باسم سُمّيت به في صغري

في بلاد الترك ما علمه أحد الساعة [97] . وهذه الوثيقة التاريخية تتضمن بيان مجموعة من فضائل الإمام الهادي(عليه السلام) وكمالاته واهتماماته العسكرية والتربوية لأصحابه، وتشجيعه لبغا الذي واجه هذا الهجوم التخريبي للأعراب علي مدينة الرسول(صلي الله عليه وآله). وبالاضافة الي كرامات الإمام(عليه السلام) المتعددة لا تستبعد أن يكون الإمام(عليه السلام) قد استفاد من هذه الفرصة لكسب فرد في جيش بغا إذ بامكانه أن يكون حامل صورة ايجابية ورسالة خاصة عن الإمام(عليه السلام) يمكنه ايصالها في الموقع المناسب الي قائده بغا. وسوف نري مواقف خاصة لبغا تجاه الإمام الهادي(عليه السلام) في المستقبل الذي ينتظره، فضلاً عن موقف له مع أحد الطالبيين بعد أن حاول قتل عامل المعتصم فتمرّد بغا علي أمر المعتصم ولم يلق هذا الطالبي الي السباع [98] ومن هنا قال المسعودي عنه: كان بغا كثير التعطّف والبر علي الطالبيين. [ صفحه 86]

الواثق و محنة خلق القرآن

وامتحن الواثق الناس في قضية خلق القرآن فكتب إلي القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلاّ شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً. وفي سنة احدي وثلاثين [بعد المائتين] ورد كتاب إلي أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وكان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخر أمره. وفي هذه السنة قتل احمد بن نصر الخزاعي وكان من اهل الحديث وقد استفتي الواثق جماعة من فقهاء المعتزلة بقتله فأجازوا له ذلك، وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي إلي هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد فمشي إليه فضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه

إلي بغداد فصلب بها، وصلبت ج_ثته في سرّ من رأي، واستمر ذلك ست سنين إلي ان ولي المتوكل فأنزله ودفنه، ولما صلب كتب ورقة وعلقت في أذنه فيها: «هذا رأس احمد ابن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلي القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبي إلاّ المعاندة فعجله الله إلي ناره» ووكل بالرأس من يحفظه. وفي هذه السنة استفك من الروم الفاً وستمائة أسير مسلم فقال ابن داود _ قبحه الله _! من قال من الاساري «القرآن مخلوق» خلصوه واعطوه [ صفحه 87] دينارين ومن امتنع دعوه في الاسر [99] . قال الخطيب: كان احمد بن أبي داود قد استولي علي الواثق وحمله علي التشدد في المحنة ودعا الناس إلي القول بخلق القرآن. ومن جملة من شملهم ظلم الواثق أبو يعقوب بن يوسف بن يحيي البوطي صاحب الشافعي الذي مات سنة (231 ه_) محبوساً في محنة الناس بالقرآن، ولم يجب إلي القول بأنه مخلوق وكان من الصالحين [100] . وجيء بأبي عبدالرحمن عبدالدين محمد الآذرمي (شيخ أبي داود والنسائي) مقيّداً الي الواثق وابن أبي داود حاضر، فقال له: أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه، أعلمه رسول الله(صلي الله عليه وآله) فلم يَدعُ الناس إليه أم شيء لم يعلمه؟ فقال ابن أبي داود: بل علمه. فقال: فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم؟ قال: فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضاً علي فمه ودخل بيتاً ومدّ رجليه وهو يقول: وسع النبي(صلي الله عليه وآله) أن يسكت عنه ولا يسعنا! فأمر له أن يعطي ثلاثمائة دينار وأن يرد الي بلده ولم يمتحن أحداً بعدها ومقت ابن أبي داود من يومئذ. وعن يحيي

بن أكثم: ما أحسن أحد الي آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير [101] . [ صفحه 88]

موقف الإمام الهادي من مسألة خلق القرآن

لقد عمت الاُمة فتنة كبري زمن المأمون والمعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن وكانت هذه المسألة مسألة يتوقف عليها مصير الاُمة الإسلامية، وقد بيّن الإمام الهادي (عليه السلام) الرأي السديد في هذه المناورة السياسية التي ابتدعتها السلطة فقد روي عن محمد بن عيسي بن عبيد اليقطين أنه قال: كتب علي بن محمد بن علي بن موسي الرضا (عليه السلام) إلي بعض شيعته ببغداد: «بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله واياك من الفتنة فإن يفعل فاعظم بها نعمة وإلاّ يفعل فهي الهلكة. نحن نري ان الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطي السائل ما ليس له وتكلف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلاّ الله وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين. جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون» [102] .

اخبار الإمام الهادي بموت الواثق

كان الإمام الهادي (عليه السلام) يتابع التطورات السياسية ويرصد الأحداث بدقة. فعن خيران الخادم قال: قدمت علي أبي الحسن (عليه السلام) المدينة فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: جعلت فداك خلفته في عافية، انا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيام قال: فقال لي: ان اهل المدينة يقولون انّه مات، فلما ان قال لي: (الناس)، علمت انه هو، ثم قال لي: ما فعل جعفر؟ [ صفحه 89] قلت: تركته أسوء الناس حالاً في السجن، فقال: أما إنه صاحب الأمر. ما فعل ابن الزيات؟ قلت: جعلت فداك الناس معه والأمر أمره. فقال: اما انه شؤم عليه. ثم سكت وقال لي: لا بد ان تجري مقادير الله تعالي واحكامه. يا خيران، مات الواثق وقد قعد المتوكل جعفر

وقد قتل ابن الزيات. فقلت: متي جعلت فداك؟ قال: بعد خروجك بستة أيّام [103] . وهذه الرواية دون شكّ تظهر لنا حدّة الصراع والتنافس علي السلطة داخل الاُسرة العباسية الحاكمة، كما تظهر لنا مدي متابعة الإمام (عليه السلام) للاوضاع العامة والسياسية أولاً بأول. واهتمامه الكبير هذا يوضح مستوي الحالة السياسية التي كانت تعيشها قواعد الإمام (عليه السلام) الشعبية ومواليه، فكان يوافيهم بمآل الاحداث السياسية، ليكونوا علي حذر أولاً; ولينمّي قابلياتهم في المتابعة وتحليل الظواهر ثانياً.

المتوكل

(232 _ 247 ه_) هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد، اُمّه اُم ولد اسمها شجاع. أظهر الميل الي السنّة، ورفع المحنة وكتب بذلك الي الآفاق سنة (234 ه_)، واستقدم المحدّثين الي سامرّاء وأجزل عطاياهم وأمرهم أن يحدّثوا بأحاديث الصفات والرؤية. وقالوا عنه: انّه كان منهمكاً في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سُرِّيّة (أمة يتسرّي بها). وقال علي بن الجهم: كان المتوكل مشغوفاً بقبيحة اُم المعتزّ، والتي كانت اُم ولد له، ومن أجل شغفه بها أراد تقديم ابنها المعتزّ علي [ صفحه 90] ابنه المنتصر بعد أن كان قد بايع له بولاية العهد، وسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبي، فكان يُحضره مجلس العامّة ويحطّ منزلته ويتهدّده ويشتمه ويتوعّده [104] . وكان المتوكل مسرفاً جداً في صرف بيت المال علي الشعراء الذين يتقرّبون إليه بالمديح _ في الوقت الذي كان عامة الناس يشتكون الفقر والحاجة _ حتي قالوا: ما أعطي خليفة شاعراً ما أعطي المتوكّل، وفيه قال مردان ابن أبي الجنوب: فامسِك ندي كفّيك عني ولا تزد فقد خفتُ أن أطغي وأن اتجبّرا فقال المتوكل: لا أمسك حتي يغرقك جودي، وكان قد أجازه علي قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفاً

[105] . ولعلّ من وصف المتوكل بالجود سوف يتراجع عن وصفه إذا سمع أن المتوكّل قال للبحتري: قُل فيّ شعراً وفي الفتح بن خاقان، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني، فقل في هذا المعني، فقال البحتري: يا سيّدي كيف أخلفتَ وعدي وتثاقلت عن وفاء بعهدي؟ لا أرتني الأيام فقدك يا فت_ _حُ ولا عَرَّقتْك ما عشتَ فقدي أعظم الرزء أن تقدّمَ قبلي ومن الرزء أن تؤخّر بعدي حذراً أن تكون إلفاً لغيري إذ تفرّدت بالهوي فيك وحدي وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان في مجلس لهوهما في ساعة واحدة وفي جوف الليل في الخامس من شوّال سنة (247 ه_) كما سوف يأتي بيانه. [ صفحه 91]

الامام الهادي والمتوكل العباسي

وقد عُرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم، ففي سنة (236 ه_) أمر بهدم قبر الإمام الحسين(عليه السلام) وهدم ما حوله من الدور. ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة من يتمرّد علي المنع. قال السيوطي: وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه علي الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء. فمما قيل في ذلك: بالله إن كانت اُمية قد أتت قتل ابن بنت نبيّها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله هذا لعمري قبره مهدوم_____ا أسفوا علي أن لا يكونواشاركوا في قتله فتتبّعوه رميما [106] . ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه لأهل البيت(عليهم السلام) وايذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية يعقوب ابن السكّيت حين سأله: من أحب إليك؟ هما _ يعني ولديه المعتز والمؤيد _ أو الحسن والحسين؟ فقال ابن السكّيت: قنبر _ يعني مولي علي _ خير منهما، فأمر الأتراك

فداسوا بطنه حتي مات، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات، وذلك في سنة (244 ه_) [107] . وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة أهل البيت(عليهم السلام) بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجه إليهم والاهتمام بهم في الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث [ صفحه 92] إشخاص المتوكّل للإمام علي الهادي(عليه السلام) من مدينة جدّه ووطنه الي سجون سرّ من رأي بعيداً عن حواضر العلم والدين والأدب. ففي سنة (234 ه_) أي بعد سنتين [108] من سيطرته علي كرسي الخلافة أمر المتوكل يحيي بن هرثمة بالذهاب إلي المدينة والشخوص بالإمام إلي سامراء، وكانت للإمام (عليه السلام) مكانة رفيعة بين أهل المدينة، ولمّا همّ يحيي بإشخاصه اضطربت المدينة وضج اهلها كما ينقل يحيي نفسه، حيث قال: دخلت المدينة فضج أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سمع الناس بمثله خوفاً علي علي _ اي الإمام الهادي (عليه السلام) _ وقامت الدنيا علي ساق، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً المسجد، لم يكن عنده ميل إلي الدنيا فجعلت أسكتهم، وأحلف لهم أني لم أومر فيه بمكروه وأنه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية، وكتب علم، فعظم في عيني [109] . ونستفيد من هذه الرواية اُموراً منها: 1 _ قوة تأثير الإمام الهادي (عليه السلام) وانشداد الناس إليه وتعلقهم به لكثرة احسانه إليهم، ولأنه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه. 2 _ خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر الإمام (عليه السلام) ومن سهولة اتصال الجماعة الصالحة به، وإشخاصه إلي سامراء يعتبر إبعاداً له عنهم ومن ثم يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة. 3 _ تأثر قائد الجيش العباسي _

يحيي بن هرثمة _ بالامام (عليه السلام) وتعظيمه له; لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدة والسلاح للاطاحة [ صفحه 93] بالخليفة العباسي. 4 _ عزوف الإمام (عليه السلام) عن الدنيا وملازمة المسجد متخذاً من سيرة آبائه نبراساً له، ومن المسجد طريقاً لبث علوم أهل البيت (عليهم السلام) وتصحيح معتقدات الاُمة. 5 _ عزل الإمام (عليه السلام) عن شيعته ومحبيه، فسامراء مدينة أسسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية تركية (قوّاد وجنود) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة والسلطة.

الوشاية بالامام

يبدو من بعض المصادر أن أحد أسباب إشخاص المتوكّل العباسي للإمام الهادي(عليه السلام) الي سامراء هو وشاية إمام الحرمين الذي كان معروفاً بالنصب لأهل البيت(عليهم السلام) وقد كانت هذه الوشايات متتابعة ومتكرّرة وهذا دليل علي عدم الارتياح لتواجد الإمام الهادي(عليه السلام) بالمدينة وتأثيره الكبير علي الحرمين معاً وهما مركز الثقل العلمي والديني في الحاضرة الإسلامية. ويشهد لذلك ما قالوا: من أنه كتب بريحة العباسي [110] صاحب الصلاة بالحرمين إلي المتوكل: «إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنه قد دعا إلي نفسه واتبعه خلق كثير». وتابع بريحة الكتب في هذا المعني فوجّه المتوكل بيحيي بن هرثمة في سنة (234 ه_) وكتب معه إلي أبي الحسن (عليه السلام) كتاباً جميلاً يعرفه انه قد اشتاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيي بالمسير معه كما يحب، وكتب إلي بريحة [ صفحه 94] يعرّفه ذلك. وإليك نصّ رسالة المتوكل الي الإمام الهادي(عليه السلام)، حسبما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني: عن محمد بن يحيي، عن بعض اصحابنا قال: اخذت نسخة كتاب المتوكل إلي أبي الحسن الثالث (عليه السلام) من يحيي بن هرثمة في سنة ثلاث واربعين

ومائتين وهذه نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك، راع لقرابتك، موجباً لحقّك يقدّر الاُمور فيك وفي أهل بيتك، ما اصلح الله به حالك وحالهم وثبت به عزّك وعزّهم، وأدخل اليُمن والأمن عليك وعليهم. يبتغي بذلك رضي ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم، وقد رأي أمير المؤمنين صرف عبدالله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة رسول الله(صلي الله عليه وآله). إذ كان علي ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك [111] به، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في ترك محاولته، وأنّك لم تؤهل نفسك له، وقد ولّي أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك، والانتهاء إلي أمرك ورأيك والتقرب إلي الله والي أمير المؤمنين بذلك، وأمير المؤمنين مشتاق اليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك. فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت، شخصت ومن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك علي مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا [ صفحه 95] شئت، وتسير كيف شئت، وان أحببت أن يكون يحيي بن هرثمة مولي أمير المؤمنين ومن معه من الجند مشيعين لك، يرحلون برحيلك، ويسيرون بسيرك، والأمر في ذلك إليك حتي توافي أمير المؤمنين. فما أحد من اخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة ولا أحد له أثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق، وبهم أبرُّ وإليهم أسكن منه إليك إن شاء الله تعالي والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» [112] . إنّ المتوكل قد كان يهدف في رسالته اُموراً إعلامية ودعائية أولاً تأثيراً في أهل المدينة، محاولة منه لتغيير انطباعهم

من جهة فالغالبية من أهل المدينة تعرف المتوكل وعداءه لأهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم. وحاول ثانياً أن يُبدي للإمام الهادي(عليه السلام) انه يحترم رأيه ويقدره ويعزه لذا فقد أبدل والي المدينة بغيره ومن ثم جعل له الحرية في الشخوص إلي الخليفة كيف يشاء الإمام (عليه السلام). وتلك أساليب إن كانت تغري العامة فالإمام(عليه السلام) كان يدرك ما يرومه المتوكل ويهدف إليه في استدعائه. وعلي أيّة حال فقد قدم يحيي بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلي بريحة، وركبا جميعاً إلي أبي الحسن (عليه السلام) فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثاً، فلما كان بعد ثلاث عاد إلي داره فوجد الدواب مسرّجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها. ولا نغفل عن تفتيش يحيي لدار الإمام(عليه السلام) ممّا يعني أنه كان مأموراً بذلك في الوقت الذي كان الكتاب ينفي عن الإمام أي اتّهام ضدّه. ومن هنا نعلم أن استقدام الإمام(عليه السلام) كان أمراً إلزامياً له وان كان بصيغة [ صفحه 96] الاستدعاء وإلاّ فلِم هذا التفتيش الذي يكشف عن وجود سوء ظن بالإمام(عليه السلام) بعد تلك الوشايات؟! وخرج (عليه السلام) بولده الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) وهو صبي مع يحيي ابن هرثمة متوجهاً نحو العراق واتبعه بريحة مشيّعاً فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة: قد علمت وقوفك علي أني كنت السبب في حملك وعليّ حلف بأيمان مغلظة: لئن شكوتني إلي أمير المؤمنين أو أحد من خاصته وأبنائه لأجمّرنّ نخلك ولاقتلنّ مواليك ولاُعورنّ عيون ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ، فالتفت إليه أبو الحسن فقال له: ان أقرب عرضي إياك علي الله البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكوك إلي غيره من خلقه. قال: فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه فقال له: قد عفوت

عنك [113] . وأهم الاشارات ذات الدلالة في هذه الرواية: أن المتوكل أمر يحيي بن هرثمة برعاية الإمام (عليه السلام) وعدم التشديد عليه، وقد بلغ ذلك بريحة وخشي ان يشتكيه الإمام للمتوكل، فتوعد الإمام فعمد الإمام (عليه السلام) إلي تركيز مفهوم اسلامي وهو مسألة الارتباط بالله سبحانه، فإنّه هو الذي ينفع ويضر ويدفع عن عباده، لذا اجاب الإمام (عليه السلام) بريحة بأنه قد شكاه إلي الله تعالي قبل يوم من سفره وان الإمام (عليه السلام) ليس في نيته أن يشتكي بريحة عند الخليفة مما اضطر بريحة أن يعتذر من الإمام (عليه السلام) ويطلب العفو منه، فهو يعرف منزلة الإمام وآبائه(عليهم السلام) وصلتهم الوثيقة بالله سبحانه، فأخبره الإمام (عليه السلام) بأنه قد عفي عنه، وكان الإمام يدرك أبعاد سلوك الخليفة إزاءه وما يرمي إليه من تفتيش داره وإشخاصه من المدينة إلي سامراء، وإبعاده عن أهله ومواليه ومن [ صفحه 97] ثم وضعه تحت الرقابة المشددة ومعرفة الداخلين علي الإمام المرتبطين به وبالتالي ضبط كل حركات الإمام(عليه السلام) وتحرّكات قواعده، فوجوده(عليه السلام) في المدينة يعني بالنسبة للخليفة تمتع الإمام (عليه السلام) بحرية في التحرك، فضلاً عن سهولة وتيسر سبل الاتصال به من قبل القواعد الموالية للإمام (عليه السلام). وقد كان الإمام (عليه السلام) في كل تحرّكاته وحتي في كتبه ووصاياه إلي شيعته يتصف باليقظة والحذر، ومن هنا كانت الوشايات به تبوء بالفشل، وحينما كانت تكبس داره _ كما حصل ذلك مراراً _ لا يجد جلاوزة السلطان فيها غير كتب الأدعية والزيارات والقرآن الكريم، حتي حينما تسوّروا عليه الدار لم يجدوه إلاّ مصلّياً أو قارئاً للقرآن. وقال ابن الجوزي: ان السبب في اشخاص الإمام (عليه السلام) من المدينة

إلي سامراء _ كما يقول علماء السّير _ هو ان المتوكل كان يبغض علياً أمير المؤمنين(عليه السلام) وذريّته وخشي تأثيره في أهل المدينة وميلهم إليه [114] . وهذا التعليل ينسجم مع كل تحفّظات الإمام(عليه السلام) تجاه السلطان.

الامام في طريقه الي سامراء

وحاول ابن هرثمة في الطريق إحسان عِشرة الإمام(عليه السلام) وكان يري من الإمام (عليه السلام) الكرامات التي ترشده الي عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره وتوضح له الجريمة التي يرتكبها في إزعاج الإمام(عليه السلام) والتجسّس عليه. عن يحيي بن هرثمة قال: رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا، منها: انا نزلنا منزلاً لا ماء فيه، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش علي [ صفحه 98] التلف وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة، فقال أبو الحسن: كأنّي أعرف علي أميال موضع ماء. فقلنا له: ان نشطت وتفضلت عدلت بنا إليه وكنا معك فعدل بنا عن الطريق. فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا علي واد كأنه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زراع ولا فلاح ولا أحد من الناس، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا واقمنا الي بعد العصر، ثم تزودنا وارتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين فلم نبعد أن عطشت. وكان لي مع بعض غلماني كوز فضة يشده في منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فإذا هو قد أنسي الكوز في المنزل الذي كنا فيه فرجعت اضرب بالسوط علي فرس لي، جواد سريع واغد السير حتي اشرفت علي الوادي، فرأيته جدباً يابساً قاعاً محلاً لا ماء ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع رحالنا ورؤث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام فأخذته وانصرفت ولم أعرفه شيئاً من الخبر. فلما قربت من

القطر والعسكر وجدته(عليه السلام) ينتظرني فتبسم ولم يقل لي شيئاً ولا قلت له سوي ما سأل من وجود الكوز، فأعلمته أني وجدته. قال يحيي: وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل. فجعل كل من في العسكر وأهل القافلة يضحكون ويقولون هذا الحجازي ليس يعرف الري فسرنا أميالاً حتي ارتفعت سحابة من ناحية القبلة واظلمت واضلتنا بسرعة وأتي من المطر الهاطل كأفواه القرب فكدنا نتلف وغرقنا حتي جري الماء من ثيابنا الي ابداننا وامتلأت خفافنا وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد، فصرنا شهرة ومازال(عليه السلام) يتبسم [ صفحه 99] تبسماً ظاهراً تعجباً من أمرنا. قال يحيي: وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذل وتقول معكم رجل علوي دلوني عليه حتي يرقي عين ابني هذا. فدللناها عليه، ففتح عين الصبي حتي رأيتها ولم أشكّ انها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة [115] . ومرّ الركب ببغداد _ في طريقه الي سامراء _ فقابل ابن هرثمة واليها اسحاق بن ابراهيم الطاهري فأوصاه بالإمام(عليه السلام) خيراً واستوثق من حياته بقوله: يا يحيي إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله(صلي الله عليه وآله)، والمتوكل مَن تعلم، وإن حرّضته علي قتله كان رسول الله(صلي الله عليه وآله) خصمك. فأجابه يحيي: والله ما وقفت له إلاّ علي كل أمر جميل [116] . وحين وصل الركب الي سامراء بدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي _ وهو ممّن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله

_ وممّا قاله وصيف ليحيي: والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل _ ويقصد به الإمام الهادي(عليه السلام) _ شعرة لا يكون المطالب بها غيري. قال ابن هرثمة: فعجبت من قولهما وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه من حسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم وانّ أهل المدينة خافوا عليه، فأحسن جائزته وأجزل برّه [117] . [ صفحه 100] غير أن هذا الإكرام الذي ادّعاه ابن هرثمة يتنافي مع ما أمر به المتوكل من حجب الإمام(عليه السلام) عنه في يوم وروده الي سامراء، ويزيد الأمر إبهاماً وتساؤلاً هو أمره بإنزال الإمام(عليه السلام) في مكان متواضع جدّاً يُدعي بخان الصعاليك [118] . قال صالح بن سعيد: دخلت علي أبي الحسن(عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك في كل الاُمور أرادوا اطفاء نورك والتقصير بك حتي أنزلوك هذا الخان الأشنع، خان الصعاليك [119] . وليس ببعيد أن تكون الصورة التي نقلها يحيي للمتوكل عن الإمام(عليه السلام) ومدي نفوذ شخصيّته حتي عند الولاة والقوّاد مدعاةً للضغط علي الإمام(عليه السلام) والسعي للتضييق الحقيقي عليه من خلال الحيلولة بينه وبين ارتباطه بقواعده وإن كان ذلك بالتظاهر بالإكرام كما نراه في النص الذي نُقل عن يحيي، ولا يغيب عن مثل يحيي مدي كره المتوكل لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي(عليه السلام) بشكل خاص.

الامام في سامراء

إنّ حجب المتوكل للإمام الهادي(عليه السلام) لدي وروده والأمر بإنزاله في خان الصعاليك لو لاحظناه مع ما جاء في رسالة المتوكل للإمام الهادي(عليه السلام) يحمل بين طيّاته صورة واضحة من نظرة المتوكل الي الإمام(عليه السلام). فهو لا يأبي من تحقير الإمام وإذلاله كلما سنحت له الفرصة. ولكنه كان يحاول

التعتيم علي ما يدور في قرارة نفسه ولهذا أمر بعد ذلك بإفراد دار له فانتقل [ صفحه 101] العلم بأن المتوكل هو الذي كان قد استدعي الإمام(عليه السلام) وكان يعلم بقدومه عليه، ولابد أن يكون قد استعد لذلك. وعلي أية حال فالذي يبدو من سير الأحداث أن المتوكل حاول بكل جهده ليكسب ودّ الإمام ويورّطه فيما يشتهي من القبائح التي كان يرتكبها المتوكل. وحاول المتوكل غير مرّة إفحام الإمام(عليه السلام) بالرغم من أنه كان يضطر الي الالتجاء إليه حين كان يعجز علماء البلاط أو وعّاظ السلاطين عن تقديم الأجوبة الشافية في الموارد الحرجة. وإليك جملة من هذه الموارد: 1 _ إنّ نصرانياً كان قد فجر بامرأة مسلمة فأراد المتوكل أن يقيم عليه الحد فأسلم. فقال ابن الأكثم: قد هدم ايمانه شركه وفعله. وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود. وقال آخرون غير ذلك، فأمر المتوكل بأن يكتب الي الإمام الهادي(عليه السلام) وسؤاله عن ذلك فلما قرأ الكتاب، كتب: يضرب حتي يموت. فأنكر ابن الأكثم وسائر فقهاء العسكر وطالبوا الإمام بالحجة من الكتاب والسنة فكتب(عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم: (فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين - فلم يك ينفعهم ايمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون). فأمر المتوكل فضرب حتي مات [120] . 2 _ وحين نذر المتوكل أن يتصدّق بمال كثير واختلف الفقهاء في تحديد المال الكثير، أشار عليه أحد ندمائه بالسؤال من الإمام(عليه السلام) قائلاً: ألا تبعث الي هذا الأسود فتسأله عنه؟ فقال له المتوكل: من تعني؟ ويحك! فقال له: ابن [ صفحه 102] الرضا. فقال له: وهو يحسن من هذا شيئاً؟

فقال: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلاّ فاضربني مائة قرعة. فبعث من يسأل له ذلك من الإمام فأجاب الإمام بأن الكثير ثمانون. فلما سُئل عن دليل ذلك أجاب قائلاً: (ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة) فعددناها فكانت ثمانين [121] . إنّ هذا التنكّر من المتوكّل للإمام(عليه السلام) أو هذا التعجب من أنه قادر علي الإجابة وقد عرفنا موارد منها ليشير الي مدي حقد المتوكل وتعمّده في تسقيط الإمام(عليه السلام) أمام الآخرين. ولكنه لم يفلح حتي أنه كان يبادر للتعتيم الإعلامي علي فضائل الإمام(عليه السلام) ومناقبه، كما نري ذلك بعد ردّه علي اسئلة ابن الأكثم حيث قال ابن الأكثم للمتوكل: ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وانّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور علمه تقوية للرافضة [122] . 3 _ ومن جملة القضايا التي حاول إحراج الإمام فيها قضية زينب الكذّابة حيث أمر الإمام(عليه السلام) بالنزول الي بركة السباع. قال أبو هاشم الجعفري: ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدّعي أنها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله(صلي الله عليه وآله) فقال المتوكّل: أنت امرأة شابة وقد مضي من وقت رسول الله(صلي الله عليه وآله) ما مضي من السنين، فقالت: إنّ رسول الله(صلي الله عليه وآله) مسح عليّ وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كل أربعين سنة، ولم أظهر للناس الي هذه الغاية فلحقتني الحاجة فصرت اليهم. فدعا المتوكل مشايخ آل أبي طالب وولد العباس وقريش وعرّفهم حالها فروي جماعة وفاة زينب في سنة كذا، فقال لها: ما تقولين في [ صفحه 103] هذه الرواية؟ فقالت: كذب وزور، فإنّ أمري كان مستوراً عن الناس، فلم يعرف

لي حياة ولا موت، فقال لهم المتوكل: هل عندكم حجّة علي هذه المرأة غير هذه الرواية؟ فقالوا: لا، فقال: هو بريء من العبّاس إن لا أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجة. قالوا: فأحضر ابن الرضا(عليه السلام) فلعلّ عنده شيئاً من الحجة غيرما عندنا. فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال: كذبت فإنّ زينب توفيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا، قال: فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن لا أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها. قال: ولا عليك فههنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها، قال: وماهي؟ قال: لحوم بني فاطمة محرّمة علي السباع فأنزلها الي السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها، فقال لها: ما تقولين؟ قالت: إنّه يريد قتلي، قال: فههنا جماعة ولد الحسن والحسين(عليهما السلام) فأنزل من شئت منهم، قال: فوالله لقد تغيّرت وجوه الجميع، فقال بعض المبغضين: هو يحيل علي غيره لم لا يكون هو؟ فمال المتوكل الي ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع فقال: يا أبا الحسن لم لا تكون أنت ذلك؟ قال: ذاك إليك قال: فافعل، قال: أفعل. فاُتي بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد فنزل أبو الحسن إليها فلما دخل وجلس صارت الاُسود إليه فرمت بأنفسها بين يديه، ومدّت بأيديها، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح علي رأس كل واحد منها، ثم يشير اليه بيده الي الاعتزال فتعتزل ناحية حتي اعتزلت كلّها وأقامت بازائه. فقال له الوزير: ماهذا صواباً فبادر بإخراجه من هناك، قبل أن ينتشر [ صفحه 104] خبره فقال له: يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا أن نكون علي يقين ممّا قلت فاُحبّ أن

تصعد، فقام وصار الي السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه. فلمّا وضع رجله علي أوّل درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع، فرجعت وصعد فقال: كلّ من زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس، فقال لها المتوكّل: انزلي، قالت: الله الله ادّعيتُ الباطل، وأنا بنت فلان حملني الضرّ علي ما قلت، قال المتوكلّ: ألقوها الي السباع، فاستوهبتها والدته [123] . إنّ هذه المواقف من الإمام(عليه السلام) لم تكن لتثني المتوكل عما كان يراوده من الضغط علي الإمام(عليه السلام) ومحاولة تسقيطه وعزله عن عامة الناس وخواص أتباعه. وكان رصده للإمام(عليه السلام) لا يشفي غليله فكان يفتش دار الإمام (عليه السلام) بشكل مستمر وكان ذلك واحداً من أساليبه لإهانة الإمام(عليه السلام) أو طريقاً للعثور علي مستمسك يسوّغ له الفتك بالإمام(عليه السلام).

تفتيش دار الإمام

لم تحقق وسائل السلطة _ في التضييق علي الإمام ومراقبته _ أهدافها في ضبط بعض القضايا التي تؤكد صحة الوشايا بالإمام، فكثيراً ما سعي بعض المتزلفين للخليفة بالإمام (عليه السلام) وأوغروا صدره ضد الإمام (عليه السلام) واخبروا الخليفة كذباً وزوراً بأن لديه السلاح وتجبي إليه الاموال من الأقاليم، إلي غيرها من الأكاذيب التي كانت تدفع بالخليفة إلي ارسال جنده وبعض قواده إلي دار الإمام(عليه السلام) وتفتيشها، ثم استدعاء الإمام (عليه السلام) إلي بلاط المتوكل الذي كان ثملاً علي مائدة شرابه، حتي أنّ المتوكل الثمل بعد أن أعظم الإمام وأجلسه إلي جانبه ناوله الكأس. [ صفحه 105] فقال له الإمام (عليه السلام): يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني فأعفاه. ثم قال له المتوكل: أنشدني شعراً. فأجابه الإمام (عليه السلام): اني لقليل الرواية للشعر. فقال له المتوكل: لا بد من ذلك. فانشده الإمام(عليه

السلام) الأبيات التالية: باتوا علي قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القُلَلُ واستنزلوا من بعد عز من معاقلهم فاودعوا حفراً يابئس ما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ما قبروا أين الاسرة والتيجان والحللُ أين الوجوه التي كانت منعمة من دونها تضرب الاستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا فبكي المتوكل، ثم أمر برفع الشراب وقال: يا ابا الحسن أعليك دين؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فدفعها إليه ورده إلي منزله مكرّماً. ومرّة اُخري حين مرض المتوكل من خُرّاج خرج به وأشرف منه علي الهلاك، فلم يجسر أحدٌ أن يمسّه بحديدة، فنذرت اُمّه إن عوفي أن تحمل إلي أبي الحسن عليّ بن محمد مالاً جليلاً من مالها وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت الي هذا الرجل فسألته فإنّه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرّج بها عنك. فبعث إليه ووصف له علّته، فرّد إليه الرّسول بأن يؤخذ كسب الشاة فيداف بماء ورد فيوضع عليه. فلمّا رجع الرّسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله، فقال له الفتح: هو والله أعلم بما قال، واُحضر الكسبُ وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشّرت اُمه [ صفحه 106] بعافيته، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها. ثم استقلّ من علّته فسعي إليه البطحائي العلوي بأنّ أموالاً تحمل إليه وسلاحاً، فقال لسعيد الحاجب: اهجم عليه باللّيل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إليّ، قال إبراهيم بن محمّد: فقال لي سعيد الحاجب: صرت الي داره بالليل ومعي سلّم فصعدت السطح، فلمّا نزلت

علي بعض الدرج في الظلمة لم أدر كيف أصل الي الدار. فناداني: يا سعيد مكانك حتي يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجادة علي حصير بين يديه، فلم أشكّ أنه كان يصلي، فقال لي: دونك البيوت، فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم اُمّ المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي: دونك المصلّي، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبّس، فأخذت ذلك وصرت إليه. فلمّا نظر الي خاتم اُمّه علي البدرة بعث إليها فخرجت إليه، فأخبرني بعض خدم الخاصّة أنها قالت له: كنت قد نذرت في علّتك لمّا آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه وهذا خاتمي علي الكيس وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار. فضمّ الي البدرة بدرة اُخري وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته ورددت السيف والكيسين وقلت له: يا سيّدي عزّ عليّ، فقال لي: (سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون). غير أنّ الإمام(عليه السلام) لم يأبه لكل أدوات المراقبة والتضييق عليه بل كانت أساليبه أدقّ وكان نفوذه في جهاز السلطة يمكّنه من التحرّك بالشكل الذي يراه مناسباً مع تلك الظروف. [ صفحه 107] ومما يعزز ذلك ما رواه الشيخ الطوسي (رضي الله عنه) بإسناده عن محمد بن الفحام، ان الفتح بن خاقان قال: قد ذكر الرجل _ يعني المتوكل _ خبر مال يجيء من قم، وقد أمرني أن أرصده لأخبره، فقلت له، فقل لي: من أي طريق يجيء حتي أجيئه؟ فجئت إلي الإمام علي بن محمد(عليهما السلام) فصادفت عنده من احتشمه فتبسم وقال لي: لا يكون إلاّ خيراً يا ابا موسي، لِم لم تعد الرسالة

الاولي؟ فقلت: أجللتك يا سيدي. فقال لي: المال يجيء الليلة وليس يصلون إليه فبت عندي. فلما كان من الليل وقام إلي ورده قطع الركوع بالسلام وقال لي: قد جاء الرجل ومعه المال، وقد منعه الخادم الوصول إليّ فاخرج وخذ ما معه. فخرجت فاذا معه زنفِيلجه [124] فيها المال: فأخذته ودخلت به إليه، فقال: قل له هات المحنقة التي قالت له القمية انها ذخيرة جدتها، فخرجت له فأعطانيها، فدخلت بها إليه، فقال لي: قل له الجبة التي أبدلتها منها ردّها إليها. فخرجت إليه فقلت له ذلك، فقال: نعم كانت ابنتي استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبة وأنا أمضي فأجيء بها. فقال: اخرج فقل له: ان الله يحفظ ما لنا وعلينا. هاتها من كتفك، فخرجت الي الرجل فأخرجها من كتفه فغشي عليه، فخرج إليه (عليه السلام)، فقال له: قد كنت شاكاً فتيقنت [125] . وفي الرواية دلالات كثيرة لكنّ أهمّ ما يلفت النظر فيها هو: أولاً: إن الإمام كان يعرف شك السلطة وهو آخذ حذره ومستيقظ [ صفحه 108] ومتأهّب للأمر; لذا أجاب من سأله عن المال بأنه سيصل ولا سبيل للمتوكل وجلاوزته عليه، وفعلاً وصل المال سالماً. ثانياً: إن حامل المال إلي الإمام (عليه السلام) كان يُريد ان يختبر الإمام (عليه السلام) أو يبحث عن وسيلة لليقين بإمامته (عليه السلام) لذا نجد الإمام يرشد مستلم المال إلي امور لا يعرفها إلاّ حامله كالجبة التي كان قد أخفاها تحت كتفه وزاد(عليه السلام) الأمر وضوحاً بقوله: أتيقنت؟ مشيراً الي ما كان يكنّه هذا الرجل في نفسه، وما يروم أن يصل إليه وهو معرفة الإمام بهذه الاُمور وقد أيقن واطمأن حينما أخبره رسول الإمام(عليه السلام) بما كان يضمره. ثالثاً: إن أنصار

الإمام(عليه السلام) وأتباعه كان لهم حضور فاعل في البلاط وهم عيون الإمام بدل أن يكونوا عملاء السلطة. وفيما يلي من خبر اعتقال الإمام(عليه السلام) أيضاً شواهد اُخري علي هذه الحقيقة.

اعتقال الإمام الهادي

إن المتوكّل بعد رصده الدائم للإمام وتفتيشه المستمر والمتكرّر لدار الإمام(عليه السلام) أمر باعتقال الإمام (عليه السلام) وزجّه في السجن، فبقي فيه أياماً وجاء لزيارته صقر بن أبي دلف فاستقبله الحاجب وكانت له معرفة به، كما كان عالماً بتشيّعه، وبادر الحاجب قائلاً: ما شأنك؟ وفيم جئت؟ قال صقر: بخير. قال الحاجب: لعلك جئت تسأل عن خبر مولاك؟ قال صقر: مولاي أمير المؤمنين _ يعني المتوكل _. فتبسم الحاجب وقال: اسكت مولاك هو الحق (يعني الإمام الهادي(عليه السلام) فلا تحتشمني فإني علي مذهبك. [ صفحه 109] قال صقر: الحمد لله. فقال الحاجب: تحب أن تراه؟ قال صقر: نعم. فقال الحاجب: اُجلس حتي يخرج صاحب البريد. ولما خرج صاحب البريد، التفت الحاجب إلي غلامه فقال له: خذ بيد الصقر حتي تدخله الحجرة التي فيها العلوي المحبوس، وخلِّ بينه وبينه. فأخذه الغلام حتي أدخله الحجرة وأومأ إلي بيت فيه الإمام، فدخل عليه الصقر، وكان الإمام جالساً علي حصير وبازائه قبر محفور قد أمر به المتوكل لارهاب الإمام، والتفت (عليه السلام) قائلاً بحنان ولطف: يا صقر ما أتي بك؟ قال صقر: جئت لأتعرّف علي خبرك. وأجهش الصقر بالبكاء رحمة بالإمام وخوفاً عليه: فقال (عليه السلام): «يا صقر لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء... فهدّأ روعه وحمد الله علي ذلك، ثم سأل الإمام عن بعض المسائل الشرعية فأجاب عنها، وانصرف مودّعاً للإمام [126] ، ولم يلبث الإمام في السجن إلاّ قليلاً ثمّ أطلق سراحه».

محاولة اغتيال الإمام الهادي

وقد دبرت السلطة الحاكمة آنذاك مؤامرة لقتل الإمام (عليه السلام) ولكنها لم تنجح فقد روي: أنّ أبا سعيد قال: حدثنا أبو العباس فضل بن أحمد بن اسرائيل [ صفحه 110] الكاتب ونحن بداره بسر من

رأي فجري ذكر أبي الحسن(عليه السلام) فقال: يا أبا سعيد أحدثك بشيء حدثني به أبي؟ قال: كنا مع المنتصر وأبي كاتبه فدخلنا والمتوكل علي سريره فسلّم المنتصر ووقف ووقفت خلفه وكان إذا دخل رحّب به وأجلسه فأطال القيام وجعل يرفع رجلاً ويضع أخري وهو لا يأذن له في القعود ورأيت وجهه يتغير ساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان: هذا الذي يقول فيه ما تقول؟ ويرد عليه القول، والفتح يسكته ويقول: هو مكذوب عليه، وهو يتلظي ويستشيط ويقول: والله لاقتلن هذا المرائي الزنديق وهو يدعي الكذب ويطعن في دولتي. ثم طلب أربعة من الخزر أجلافاً ودفع إليهم أسيافاً، وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل وقال: والله لأحرقنه بعد قتله، وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر، فدخل أبو الحسن وشفتاه تتحركان وهو غير مكترث ولا جازع، فلما رآه المتوكل رمي بنفسه عن السرير إليه، وانكب عليه يقبّل بين عينيه ويديه، وسيفه شقه بيده وهو يقول: يا سيدي ياابن رسول الله ياخير خلق الله يابن عمي يا مولاي يا أبا الحسن. وابو الحسن(عليه السلام) يقول: اعيذك يا أمير المؤمنين من هذا. فقال: ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت؟ قال: جاءني رسولك. قال: كذب ابن الفاعلة. فقال له: ارجع يا سيدي، يا فتح يا عبيدالله يا منتصر شيعوا سيدكم [ صفحه 111] وسيدي، فلما بصر به الخزر خرّوا سجداً، فدعاهم المتوكل وقال: لِمَ لم تفعلوا ما امرتكم به؟ قالوا: شدة هيبته، ورأينا حوله اكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأملهم، وامتلأت قلوبنا من ذلك. فقال: يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجهه. وقال: الحمد لله الذي بيض وجهه وأنار حجته» [127] . إنّ

هذا النص قد كشف لنا بوضوح عن كل نوازع المتوكل التي تدور حول القتل والحرق للإمام(عليه السلام) فضلاً عن الاتّهام بالزندقة والطعن في دولته. والمتوكّل بعد كل هذه المحاولات التي باءت بالفشل لم يهدأ له بال وهو يريد إذلال الإمام(عليه السلام) بأي نحو كان، من هنا بادر في يوم الفطر _ وفي السنة التي قتل فيها _ الي الأمر بالترجّل والمشي بين يديه قاصداً بذلك أن يترجّل الإمام الهادي (عليه السلام) بين يديه، فترجّل الإمام(عليه السلام) كسائر بني هاشم واتكأ علي رجل من مواليه فأقبل عليه الهاشميون وقالوا: يا سيدنا ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه ويكفينا الله به من تعزّر هذا؟ قال لهم أبو الحسن(عليه السلام): في هذا العالم من قلامة ظفره أكرم علي الله من ناقة ثمود، لما عقرت الناقة صاح الفصيل الي الله تعالي فقال الله سبحانه: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) [128] .

دعاء الإمام علي المتوكل

والتجأ الإمام أبو الحسن الهادي (عليه السلام) إلي الله تعالي، وانقطع إليه، وقد [ صفحه 112] دعاه بالدعاء الشريف الذي عرف (بدعاء المظلوم علي الظالم) وهو من الكنوز المشرقة عند أهل البيت (عليهم السلام) [129] .

هلاك المتوكل

واستجاب الله دعاء وليّه الإمام الهادي (عليه السلام)، فلم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوي ثلاثة أيام حتي هلك. وتم ذلك باتفاق المنتصر ابن المتوكل مع مجموعة من الاتراك حيث هجم الاتراك علي المتوكل ليلة الاربعاء المصادف لاربع خلون من شوال (247 ه_) يتقدمهم باغر التركي وقد شهروا سيوفهم، وكان المتوكل ثملاً سكراناً، وذعر الفتح بن خاقان فصاح بهم: ويلكم أمير المؤمنين؟! فلم يعتنوا به ورمي بنفسه عليه ليكون كبش الفداء له إلاّ انه لم يغنِ عن نفسه ولا عنه شيئاً، وأسرعوا إليهما، فقطّعوهما إرباً إرباً، بحيث لم يعرف لحم أحدهما من الآخر _ كما يقول بعض المؤرخين _ ودفنا معاً. وبذلك انطوت أيام المتوكّل الذي كان من أعدي الناس لأهل البيت(عليهم السلام). وخرج الاتراك، وكان المنتصر بانتظارهم فسلّموا عليه بالخلافة وأشاع المنتصر ان الفتح بن خاقان قد قتل أباه، وانه أخذ بثأره فقتله، ثم أخذ البيعة لنفسه من أبناء الاسرة العباسية وسائر قطعات الجيش. واستقبل العلويون وشيعتهم النبأ بهلاك المتوكل بمزيد من الابتهاج والافراح فقد هلك الطاغية الذي صيّر حياتهم إلي مآسي لا تطاق. [130] . [ صفحه 113]

المنتصر بالله

(247 _ 248 ه_) هو محمّد بن المتوكل بن المعتصم ابن الرشيد، اُمه اُم ولد رومية اسمها حبشيّة. بُويع له بعد قتل أبيه في شوال سنة (247 ه_) وخلع أخويه المعتزّ والمؤيد من ولاية العهد وقالوا عنه: انّه أظهر العدل والانصاف في الرعيّة فمالت إليه القلوب مع شدّة هيبتهم له، وكان كريماً حليماً وممّا نقل عنه قوله: لذّة العفو أعذب من لذّة التشفّي وأقبح أفعال المقتدر الانتقام. ولكنّه لم يمتّع بالخلافة إلاّ أشهراً معدودة دون ستة أشهر. وقال الثعالبي: ومن العجائب أن أعرق الأكاسرة

في الملك _ وهو شيرويه _ قتل أباه فلم يعش بعده إلاّ ستة أشهر. وأعرق الخلفاء في الخلافة _ وهو المنتصر _ قتل أباه فلم يمتع بعده سوي ستة أشهر [131] .

المنتصر والعلويين

وكان المنتصر ليّناً مع العلويين المظلومين في عهد أبيه. فعطف عليهم ووجّه بمال فرّقه عليهم وكان يؤثر مخالفة ابيه في جميع احواله ومضادة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله. [132] . وكان محسناً لآل أبي طالب حيث رفع عنهم ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين (عليه السلام) ورد علي آل الحسين فدكاً. فقال يزيد المهلبي في ذلك: ولقد بررت الطالبية بعدما ذموا زماناً بعدها وزمانا [ صفحه 114] ورددت ألفة هاشم فرأيتهم بعد العداوة بينهم إخوانا [133] . يقول أبو الفرج عنه: وكان المنتصر يظهر الميل إلي اهل البيت(عليهم السلام) ويخالف اباه في افعاله فلم يجر منه علي أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه [134] . ولما ولي المنتصر صار يسب الاتراك ويقول: هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه وهموا به فعجزوا عنه لأنه كان مهيباً شجاعاً فطناً متحرزاً فتحيلوا إلي أن دسّوا إلي طبيبه ابن طيفور ثلاثين الف دينار في مرضه فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسمومة فمات [135] .

المستعين

(248 _ 252 ه_) هو أحمد بن المعتصم بن الرشيد فهو أخو المتوكّل، ولد سنة (221 ه_) واُمه اُم ولد اسمها مخارق، اختاره القوّاد بعد موت المنتصر، ثم تنكّر له الأتراك لمّا نفي باغر التركي الذي فتك بالمتوكل، وقتل وصيفاً وبُغي. ولهذا خافهم وانحدر من سامراء الي بغداد، فأرسلوا إليه يعتذرون ويخضعون له ويسألونه الرجوع فامتنع، فقصدوا الحبس وأخرجوا المعتز وبايعوه وخلعوا المستعين، ثم جهّز جيشاً كثيفاً لمحاربة المستعين واستعد أهل بغداد للقتال مع المستعين.

الثورات في عصره

لم يدم حكم المستعين سوي أربع سنوات وأشهر، وقد تميّزت فترة [ صفحه 115] حكمه بالاضطرابات التي تعود الي قوّة الأتراك وضعفه أمامهم، كما تعود الي الظلم والإجحاف بالاُمة الي جانب تنازع العباسيين علي السلطة، وإليك فهرساً بما وقع في أيام حكم من وثبات وثورات: 1 _ وثبة في الاردن بقيادة رجل من لخم. 2 _ وثب في حمص اهلها بعاملهم كيدر الاشروسني. 3 _ وثبة الجند في سامراء وضربة لاوتاش التركي وهو احد القادة. 4 _ وثبة المعرة بقيادة القصيص وهو يوسف بن ابراهيم التَّنوخي. 5 _ وثبة الجند بفارس بعاملهم الحسين بن خالد. 6 _ وثبة اسماعيل بن يوسف الجعفري الطالبي في المدينة. فوقعت بينهما وقعات ودام القتال أشهراً وغلت الأسعار وعظم البلاء وانحل أمر المستعين فسعوا في الصلح علي خلعه وقام في ذلك اسماعيل القاضي وغيره بشروط مؤكدة، فخلع المستعين نفسه في أول سنة اثنتين وخمسين ومائتين وأشهد عليه القضاة وغيرهم فاُحدِر إلي واسط فأقام بها تسعة اشهر محبوساً موكلاً به أمينٌ ثم رُدّ إلي سامراء. وأرسل المعتز إلي احمد بن طولون ان يذهب إلي المستعين فيقتله فقال: والله لا اقتل أولاد الخلفاء، فندب له سعيد

الحاجب فذبحه في ثالث شوال من السنة وله احدي وثلاثون سنة [136] .

المعتز

(252 _ 255 ه_) هو محمد بن المتوكل، ولد سنة (232 ه_)، بويع له وعمره تسع عشرة سنة، ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه، وهو أول خليفة أحدث [ صفحه 116] الركوب بحلية الذهب، فقد كان الخلفاء قبله يركبون بالحلية الخفيفة من الفضّة. كان المعتز مستضعفاً من قبل الأتراك واُلعوبة بأيديهم. وأول سنة تولي فيها السلطة مات اشناس الذي كان الواثق قد استخلفه علي السلطة وخلف خمسمائة الف دينار، فأخذها المعتز وخلع خلعة الملك علي محمد بن عبد الله ابن طاهر، وقلده سيفين، ثم عزله وخلع خلعة الملك علي أخيه وتوجّه بتاج من ذهب وقلنسوة مجوهرة، ووشاحين مجوهرين وقلده سيفين، ثم عزله من عامه ونفاه إلي واسط، وخلع علي بغا الشرابي وألبسه تاج الملك فخرج علي المعتز بعد سنة فقتل وجيء إليه برأسه. وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه المؤيد من العهد وضربه وقيده فمات بعد أيام، فخشي المعتز ان يتحدث عنه انه قتله او احتال عليه، فأحضر القضاة حتي شاهدوه وليس به اثر، وكان المعتز مستضعفاً مع الأتراك، فاتفق ان جماعة من كبارهم أتوه وقالوا: يا أمير المؤمنين اعطنا ارزاقنا لنقتل صالح بن وصيف، وكان المعتز يخاف منهم فطلب من اُمه (قبيحة) مالاً لينفقه فيهم، فأبت عليه وشحّت نفسها، ولم يكن بقي في بيوت المال شيء بينما كانت اُمه تملك الأموال العظيمة، حيث انفقت علي صالح بن وصيف مالاً عظيماً بعد قتله، ولهذا اجتمع الأتراك علي خلعه، ووافقهم صالح بن وصيف، ومحمد بن بُغا، فلبسوا السلاح وجاءوا إلي دار الخلافة فبعثوا إلي المعتز أن اخرج إلينا، فبعث

[ صفحه 117] يقول: قد شربت الدواء وأنا ضعيف، فهجم عليه جماعة وجرّوا برجله وضربوه بالدبابيس، وأقاموه في الشمس في يوم صائف، وهم يلطمون وجهه ويقولون: اخلع نفسك، ثم احضروا القاضي بن أبي الشوارب والشهود وخلعوه، ثم احضروا من بغداد إلي دار الخلافة _ وهي يومئذ سامراء _ محمد ابن الواثق، وكان المعتز قد أبعده إلي بغداد فسلّم المعتز إليه الخلافة وبايعه [137] . ومات المعتزّ بعد خلعه من الخلافة بطريقة غريبة; بعد خمس ليال من خلعه، حيث أدخلوه الحمّام، فلما اغتسل عطش فمنعوه الماء، ثم اخرج فسقوه ماء بثلج فشربه وسقط ميتاً، وذلك في شهر شعبان المعظم سنة خمس وخمسين ومائتين.

اضطهاد الشيعة

لقد ذكر المؤرخون موقف المعتز المعادي لآل محمد(صلي الله عليه وآله) واضطهادهم واضطهاد شيعتهم ومن نماذج سيرته أنه أعمل السيف في العلويين وآخرين حتّي ماتوا في سجونه، وممّن قتل في عهده: 1 _ جعفر بن محمد الحسيني وقد قتل في وقعة حدثت بالري بينه وبين احمد بن عيسي عامل محمد بن طاهر [138] . [ صفحه 118] 2 _ ابراهيم بن محمد العلوي فقد قتله طاهر بن عبد الله في وقعة كانت بينه وبين الكوكبي بقزوين [139] ، وغير هؤلاء كثير ممن أعمل ولاة العباسيين فيهم السيف والقتل. أما من مات في الحبس فكثير أيضاً، منهم: عيسي بن اسماعيل الحضرمي واحمد بن محمد الحسيني [140] . [ صفحه 119]

ملامح عصر الإمام الهادي

الحالة السياسية العامة

مارس الإمام الهادي(عليه السلام) مهامّه القيادية في حكم المعتصم سنة (220ه_) واستشهد في حكم المعتزّ سنة (254 ه_) وخلال هذه السنوات الأربعة والثلاثين قد عاصر ستة من ملوك بني العباس الذين لم يتمتّعوا بلذة الحكم والخلافة كما تمتّع آباؤهم حيث تراوحت فترة خلافة كل منهم بين ستة أشهر وخمسة الي ثمان سنوات سوي المتوكل الذي دام حكمه خمسة عشر عاماً. ويعتبر عهد المتوكل العباسي بدء العصر العباسي الثاني وهو عصر نفوذ الأتراك (232 _ 334 ه_) واعتبره البعض بدء عصر انحلال الدولة العباسية، الذي انتهي بسقوطها علي أيدي التتار سنة (656 ه_). وكان لسياسة المتوكل وأسلافه الاثر البالغ في انفصال بعض أمصار الدولة واستقلالها عن السلطة المركزية بالتدريج، حيث نشأت دويلات صغيرة وكيانات متنافسة فيما بينها، كالسامانية والبويهية والحمدانية والغزنوية والسلجوقية بعد هذا العصر [141] . وكما كان لهذه الدويلات تأثير في تقدم الحضارة الإسلامية باعتبار [ صفحه 120] انفتاح بعض الاُمراء علي العلم والعلماء

لكنّها أضعفت كيان الدولة العباسية سياسيّاً لأنها قد ساهمت في ايجاد شرخ في وحدة الدولة الإسلامية الكبري. وقد يعزي هذا الانفصال وتشكيل هذه الدويلات _ اضافة إلي الاضطهاد وتعسف سلاطين الدولة العباسية _ إلي استخدام الأتراك في مناصب الدولة الحساسة، واعتمادهم كقوة رادعة ضد معارضي الدولة العبّاسية إذ أصبح الجيش يتكون منهم قيادة وأفراداً، بينما اُبعد العرب وسواهم عن تلك المناصب مما أثار حفيظة العرب ضد السلوك السياسي للدولة العبّاسية وبالتالي أدي إلي الانفصال عنها. وكان المعتصم أوّل الخلفاء العباسيين الذين استعانوا بالاتراك وأسندوا إليهم مناصب الدولة وأقطعوهم الولايات الإسلامية [142] . وقد انتهج المتوكل سياسة العنف تجاه العلويين وشيعة أهل البيت(عليهم السلام) فضلاً عن أهل البيت(عليهم السلام) أنفسهم وتجلّي ذلك بوضوح في أمره بهدم قبر الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) وما حوله من الدور بل أمر بحرثه وبذره وسقي موضع القبر ومنع الناس من زيارته وتوعّد بالسجن علي من زاره [143] . وقد أثار المتوكل بهذه السياسة حفيظة المسلمين بشكل عام، وأهل بغداد بشكل خاصّ وقد ردوا علي الإهانات التي ألحقها بالعلويين فسبّوه في المساجد والطرقات [144] . وفي زمن المتوكل أصابت مدن العراق مجاعة شديدة وهلك كثير من الناس، وانتهز الروم فرصة ضعف الدولة فاستأنفوا غاراتهم علي أراضيها فأغاروا علي دمياط وفتكوا بأهلها وأحرقوا دورهم، ثم غزوا فيليفيا جنوبي [ صفحه 121] آسيا الصغري وهزموا أهلها هزيمة منكرة [145] . وفي عام (235 ه_) عهد المتوكل إلي أولاده الثلاثة المنتصر والمعتز والمؤيد، بيد أنه رأي أن يقدّم المعتز علي اخويه لمحبته أم المعتز (قبيحة) ولكن المنتصر غضب لذلك فدبّر مع أخواله الأتراك مؤامرة لاغتيال أبيه، وحاول بعض الأتراك في دمشق اغتيال المتوكل

غير أنّ محاولتهم تلك باءت بالفشل بفضل ما عمله بغا الكبير والفتح بن خاقان [146] . ولم ينج المتوكل من الاغتيال فقد قتل فيما بعد، بعد اتفاق بغا الصغير وباغر التركي للتخلص منه وتنصيب ابنه المنتصر عام (247 ه_). وكان المنتصر يحسن للعلويين مخالفاً بذلك سياسة أبيه، وتجلّت سياسته في إزالة الخوف عنهم والسماح لهم بزيارة قبر الحسين(عليه السلام). ولم يدم حكم المنتصر طويلاً فقد تآمر عليه الأتراك وقتلوه عن طريق طبيبه طيفور في سنة (248 ه_) [147] . وبعد مقتل المنتصر تولي كرسيّ الخلافة المستعين بالله سنة (248 ه_) وأرجع عاصمته الي بغداد غير أن الأتراك لم يأمنوا جانبه، فاتفق باغر التركي مع جماعته علي خلع المستعين ونصب المعتز مكانه [148] . ووقعت بينهما حرب دامت عدة اشهر انتهت بابعاد المستعين إلي واسط ثم قتله غيلة [149] . كما أن المعتز لم ينج من أعمال العنف والتعسف التي قام بها قوّاد الدولة العباسية من الأتراك فقتل شرّ قتلة علي أيديهم وذلك سنة (255 ه_). [ صفحه 122] وكان اغتيال الإمام الهادي(عليه السلام) في حكم المعتزّ في سنة (254 ه_). [150] . إنّ ضعف شخصيّة الحكّام هو أحد عوامل التفكك والانهيار الذي أصاب الدولة الإسلامية، وقد رافقه نفوذ زوجاتهم واُمّهاتهم الي جانب سيطرة الأتراك الذين اعتمدوا عليهم للتخلّص من نفوذ الإيرانيين والعرب، كما كان لظلم الاُمراء والوزراء دوره البالغ في زعزعة ثقة الناس بالحكّام وإثارة الفتن والشغب داخل بلاد المسلمين [151] تمرّداً علي ظلم الظالمين ونهب ثروات المسلمين والاستهتار بالقيم الإسلامية والتبذير في بيت مال المسلمين. إنّ ضعف شخصيّة الحكّام أدّي الي سقوط هيبتهم عند الولاة ممّا دعاهم الي الاتّجاه نحو الاستقلال بشكل تدريجي لعلمهم

بضعف مركز الخلافة وانهماك الحكام بالملاهي والملذّات. وقد شجّع الحكّام الاُمراء وعمّالهم علي الاهتمام بجمع الأموال وارسالها الي الخليفة ونيل رضاه واتّقاء تساؤلاته عن تصرّفات الاُمراء. وأدّت هذه الظاهرة الي طغيان المقاييس المادّية واستقرارها في مختلف الشرائح الاجتماعية. وقد ساعدت الفتوحات _ التي كانت أشبه بالغزو لإحكام السيطرة علي الأراضي بدل فتح القلوب والعقول _ علي استحكام المقاييس المادية لأنها كانت تدرّ الأموال والغنائم علي الجيش الفاتح فكانت مصدراً من مصادر الثروة التي يفكّر بها الحكّام والاُمراء. [ صفحه 123]

الحالة الثقافية

كان لترجمة الكتب اليونانية والفارسية والهندية إلي العربية أثر كبير في ثقافة هذا العصر، وكانت ظاهرة الترجمة قد ابتدأت منذ أيام المأمون، وقد أسهمت في رفد الثقافة الإسلامية من جهة والانفتاح علي الثقافات الاُخري التي قد تتقاطع مع ما أفرزته الحضارة الإسلامية من اتجاهات فكرية وثقافية من جهة اُخري. كما كان لارتحال المسلمين في مشارق الارض ومغاربها أثر كبير في التبادل والتعاطي الثقافي بين شرق البلاد الإسلامية وغربها وأنتج ذلك نشاطاً ثقافياً متميّزاً وحركة فكرية، أعطت للعلماء والفقهاء دوراً كبيراً وموقعاً مرموقاً عند الخلفاء والحكام حتي عُدّ القرن الرابع الهجري فيما بعد العصر الذهبي للحضارة الإسلامية. وقد حظي الشعراء والاُدباء بمكانة رفيعة عند الاُمراء ممّا أدي الي ازدهار الأدب في هذا العصر. ولا ينبغي أن نغفل عن محنة خلق القرآن وما رافقها من توتّر في المجتمع الإسلامي طيلة عقود ثلاثة [152] .

الحالة الاقتصادية

إن الاضطرابات السياسية والصراع علي السلطة وبدء انفصال أجزاء عن الدولة العباسية واستقلالها قد أثّر في تدهور الوضع الاقتصادي. وكان لظهور الطبقية في المجتمع الإسلامي آثار سلبية أدّت الي سرعة الانهيار الاقتصادي فضلاً عن المجاعة وارتفاع الأسعار، مما كان له أثر كبير [ صفحه 124] في اضطراب الأمن وفقدان السيطرة من قبل الدولة، وقد تجلّي ذلك في قصر فترة حكم الخلفاء الي جانب انتقال ادارة الدولة إلي القواد الأتراك بدل الخلفاء وهو دليل واضح علي ضعف شوكتهم وفقدان هيبتهم أمام قوّاد الجيش ووزرائهم وكتّابهم [153] .

الموقع الاجتماعي والسياسي للإمام الهادي

إن حادثة إشخاص الإمام (عليه السلام) من قبل المتوكل من المدينة إلي سامراء وإيكال ذلك الامر إلي يحيي بن هرثمة، وما نقله يحيي هذا عن حالة اهل المدينة المنورة، وما انتابهم وما أحدثوا من ضجيج واضطراب لإبعاد الإمام(عليه السلام) عنهم يصوّر لنا مدي تأثر أهل المدينة بأخلاقية الإمام(عليه السلام) المثلي وحسن سلوكه وتعامله معهم وشدة اندماجه في حياتهم، ولا غرو فهو سليل دوحة النبوة وثمرة شجرة الإمامة التي هي فرع النبوة، فالإمام هو حجة الله سبحانه علي خلقه وهو المثل والقدوة التي يقتدي بها وهو القيم والحافظ لرسالة الاسلام. وهذا عبيد الله بن خاقان المعاصر للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) كان يصف الإمام الهادي لرجل قائلاً له: لو رأيت أباه _ اي الإمام الهادي (عليه السلام) _ لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيّراً فاضلاً [154] . وكان للإمام(عليه السلام) نفوذ في عمق البلاط بحيث نجد اُمّ المتوكل تبعث بصرّة للإمام(عليه السلام) بعد التوسّل به لتوصيف دواء لداء المتوكل وهو كاشف عن إيمانها بمكانة هذا الإمام عند الله تعالي. وقد شاع خبره وذاع صيته عند أصحاب البلاط فضلاً عن عامّة الناس،

[ صفحه 125] في الوقت الذي كان المتوكل قد أحكم الرقابة الدقيقة علي تصرّفات الإمام(عليه السلام) وارتباطاته لئلا يتّسع نفوذه وتمتدّ زعامته، بل كان يخطط لسجنه واغتياله. وتكفي نظرة سريعة علي ما صدر من معاصريه من تصريحات حول مكانته وسمو منزلته لتقف عند الموقع الاجتماعي المتميز للإمام(عليه السلام) بالرغم من كل محاولات التسقيط [155] .

العباسيون والإمام الهادي

تدرّجت سياسة الحكّام العباسيين في مناهضة أهل البيت(عليهم السلام) بعد أن عرفوا موقعهم الديني والاجتماعي المتميّز وأنهم لا يداهنون من أجل الحكم والملك بل إنهم أصحاب مبدأ وعقيدة وقيم، فكانت سياسة السفّاح والمنصور والرشيد تتلخص في الرقابة المشدّدة والتضييق مع فسح المجال للتحرك المحدود ورافقها خلق البدائل العلمية لئلا ينفرد أهل البيت(عليهم السلام) بالمرجعية العلمية والدينية في الساحة الاجتماعية فكان الدعم المباشر من الحكّام لأئمة المذاهب وتبنّي بعضها والدعوة إليها في هذا الطريق. ولكن كل هذه الأساليب لم تفلح في التعتيم الاعلامي وتوجيه الأنظار عن أهل البيت(عليهم السلام) الي غيرهم فكانت سياسة المأمون هي سياسة الاحتواء التي نفّذها مع الإمام الرضا(عليه السلام). غير أن المأمون حين أدرك عدم امكان احتواء الإمام(عليه السلام) قضي عليه، لكنه بتزويجه لابنته اُم الفضل من الإمام الجواد(عليه السلام) قد أحكم الرقابة علي [ صفحه 126] ولده الإمام الجواد(عليه السلام) بشكل ذكي جداً، ولم يسمح المعتصم للإمام الجواد(عليه السلام) _ وهو في ريعان شبابه _ ليبقي في مدينة جدّه بل استدعاه وقضي عليه بالسم لأنه قد أدرك أيضاً عدم امكان احتوائه بل عدم امكان احكام الرقابة عليه من داخل بيته وخارجه. وهنا جاء دور المتوكل ومن تبعه لسجن الإمام والتضييق عليه بأنحاء شتّي، فتمّ استدعاء الإمام الهادي(عليه السلام) وعُرِّض لأنواع الاحتقار والتسقيط والتضييق _ كما

لاحظنا _ واُحكمت الرقابة علي كل تصرفاته داخل البيت وخارجه، بنحو قد تجنّبوا فيه إثارة الرأي العام حيث تظاهروا بإكرام الإمام واحترامه واعزازه (عليه السلام)، بينما وصلت الرقابة الي أبعد حدّ. وكانت قضية الإمام المهدي المنتظر(عليه السلام) من الأسباب المهمة التي دعت السلطة لإحكام الرقابة عليه لئلاّ يولد الإمام المهدي(عليه السلام) إن أمكن أو للاطلاع علي وجوده إن كان قد وُلد، ومن ثم القضاء عليه. وقد بقي الإمام الهادي(عليه السلام) تحت رقابة الحكّام العباسيين مدة طويلة تزيد علي العشرين عاماً [156] ، وهي فترة طويلة جداً إذا ما قسناها مع فترة ولاية العهد للإمام الرضا(عليه السلام) أو فترة بقاء الإمام الجواد(عليه السلام) في بغداد في زمن المعتصم. وفي هذا مؤشر واضح لتغيير العباسيين سياستهم العامة تجاه أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

اضطهاد أتباع أهل البيت

إذا استثنينا سياسة المنتصر التي لم تدم سوي ستة أشهر والتي تمثّلت [ صفحه 127] في اللين مع العلويين وشيعة أهل البيت(عليهم السلام) فإنا نجد السياسة العباسية العامة هي مناهضة أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم، وممارسة سياسة العنف معهم بالرغم من اتّساع رقعة التشيّع بعد تظاهر المأمون باحترامه الخاص للإمام الرضا(عليه السلام). إن حرمان أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم من الوضع المعيشي اللائق بهم إنّما كان باعتبار قلقهم من توظيف المال للإطاحة بملكهم. ومن هنا كانت سياسة التقشف بالنسبة لهم سياسة عامة قد سار عليها عامة ملوك بني العباس، وهم أعرف بالمكانة الاجتماعية لأهل البيت(عليهم السلام) في قلوب المؤمنين. وكان الحرمان يمتدّ الي إخراجهم من الوظائف الحكومية إن عثروا علي موال لأهل البيت(عليهم السلام) كان قد حظي بوظيفة حكومية، بل تعدّي ذلك الي تحديد أملاكهم وغلمانهم حتي بان الفقر والحرمان علي كثير من العلويين في هذ

العصر.

انتفاضات العلويين

لقد تمادي المتوكل في ايذاء العلويين ومنعهم حقوقهم التي منحهم الله إيّاها حتي أشرفوا علي الهلاك من شدّة الفقر بل تمادي في الجور عليهم حتي قدّم دعوي غير العلوي علي دعوي العلوي إذا تحاكما عند القضاة. ولم نجد من العباسيين عامة إلاّ العداء والبغض لأهل البيت(عليهم السلام) لأسباب شتي، منها: تفرّد أهل البيت(عليهم السلام) بالنصّ عليهم من قبل جدّهم الرسول(صلي الله عليه وآله) وتفرّدهم بالزعامة الروحية والعلمية، وتأثيرهم علي قلوب المسلمين ووجدانهم، والاهتمام بشؤونهم، وايثارهم للدين علي الدنيا، والموت في سبيل الله علي الحياة مع الذل والهوان في غير طاعة الله. إن عواطف المسلمين وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسول(عليهم السلام) [ صفحه 128] وشيعتهم الذين يحذون حذوهم، وأخذت هذه الظاهرة تنمو و تظهر علي الساحة الإسلامية وهذا مما لا يرتاح له الحكّام العباسيون وعملاؤهم الذين جلسوا علي موائدهم التي جسّدت أفضع انواع التبذير في بيت مال المسلمين. وأهل البيت(عليهم السلام) بعد ثورة الحسين(عليه السلام) وإن لم يتصدّوا للثورة المسلحة ضد الطغاة لأسباب تعود الي سياستهم المبدئية لمعالجة أنواع الانحراف في المجتمع الإسلامي، لكنّهم قد فتحوا الطريق أمام الثوّار العلويين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف والسلاح حين لا يثمر الكلام والحجاج. ومن هنا لم تخل الساحة الإسلامية من الثورات التي قام بها قادة علويون علي طول الخط بعد ثورة الحسين(عليه السلام). وقد استمرت هذه الثورات حتي عصر الغيبة وانتهت فيما بعد الي تأسيس دويلات وإمارات يحكمها قادة علويون أو علماء يحملون ثقافة أهل البيت(عليهم السلام) ويحاولون تجسيد قيمهم وسيرتهم في الحياة الإسلامية. ولم تكن اغتيالات الخلفاء للأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) إلاّ باعتبار دعمهم لهذه الثورات المسلّحة وتأييدهم لها من قريب أو

من بعيد. وهذا الخط الثوري في هذه الظروف الحرجة يعد أحد الأسباب التي حتّمت علي الإمام الثاني _ عشر باعتباره آخر القادة المعصومين _ أن يتستّر بستار الغيبة لئلاّ تخلو الأرض من حجج الله وبيّناته. وقد خرج علي حكّام هذا العصر من العلويين مجموعة تمثّل استمرار الخط الثوري ضد الظلم والظالمين وإليك قائمة بأسمائهم مع ذكر تاريخ ومنطقة تحرّكهم وخروجهم: 1 _ محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام)، خرج في حكومة المعتصم واعتقل في سنة (219 ه_) وروي [ صفحه 129] أنه قتل بالسمّ. 2 _ محمد بن صالح بن عبدالله بن موسي بن عبدالله بن حسن بن حسن ابن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) خرج علي المتوكل في المدينة واُسر وسجن في سامراء. 3 _ يحيي بن عمر بن يحيي بن حسين بن زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام). خرج علي المستعين في الكوفة سنة (250 ه_)، ارتضاه أهل بغداد وليّاً للأمر كما بايعه جملة من أهل الحل والعقد في الكوفة. وضجّ الناس لقتله وحزنوا عليه حزناً لم ير مثله. 4 _ الحسن بن زيد بن محمد بن اسماعيل بن حسن بن زيد بن حسن ابن حسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام)، خرج في طبرستان سنة (250 ه_) واستولي علي الري وآمل وامتد نفوذه الي جرجان في سنة (257 ه_) واستمر في الحكم حتي سنة (270 ه_) ثم خلفه أخوه محمّد بن زيد وكان فقيهاً أديباً وجواداً. 5 _ محمد بن جعفر بن حسن، خرج في الري سنة (250 ه_) ودعا أهل الري الي حكم الحسن بن

زيد الذي كان قد سيطر علي طبرستان. 6 _ الحسن بن اسماعيل بن محمد بن عبدالله بن علي بن حسين بن علي ابن أبي طالب(عليهم السلام) ثار في قزوين سنة (250 ه_). 7 _ الحسين بن محمد بن حمزة بن عبدالله بن حسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) ثار في الكوفة سنة (251 ه_). 8 _ اسماعيل بن يونس بن إبراهيم بن عبدالله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) ثار في مكة سنة (251 ه_). 9 _ أحمد بن محمد بن عبدالله بن إبراهيم بن طباطبا ثار في سنة (255ه_) بين برقة والاسكندرية. [ صفحه 130] 10 و 11 _ عيسي بن جعفر العلوي، ثار مع علي بن زيد في الكوفة سنة (255 ه_). 12 _ علي بن زيد بن حسين بن عيسي بن زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) ثار في الكوفة سنة (256 ه_) للمرة الثانية. 13 _ إبراهيم بن محمد بن يحيي بن عبدالله بن محمد بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) المعروف بابن الصوفي ثار في مصر سنة (256 ه_) [157] . هذه صورة موجزة عن الحركات المناهضة للحكّام الذين تربّعوا علي كرسيّ الخلافة وحكموا باسم الرسول (صلي الله عليه وآله) وهم بعيدون كل البعد عن هديه وسننه. وفي مثل هذه الظروف السياسية العامة والفتن الدينية التي أجّجها الخلفاء وسقتها الثقافات المستوردة، ماذا كانت تتطلبه الساحة الإسلامية العامة من معالجات؟ وماذا كانت تتطلبه الساحة الخاصة باتباع أهل البيت(عليهم السلام) الذين أخذوا يقتربون من عصر الغيبة الذي أخبر عنه الرسول(صلي الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) وبدأت تتكشف علائمه وتتهيّأ

أسبابه؟ هذا ما سوف ندرسه خلال الفصول التالية إن شاء الله تعالي. [ صفحه 133]

متطلبات عصر الإمام الهادي

اشاره

بعد أن عرفنا المهمّ من ملامح عصر الإمام الهادي(عليه السلام) نستطيع الآن أن نقف علي متطلّبات عصره. وسوف نبحث عنها في حقلين. الأوّل: متطلّبات الساحة الإسلامية العامة. والثاني: متطلّبات الجماعة الصالحة بعد تمهيد عام لكلا الحقلين. وذلك أنّ الإمام علي بن محمد الهادي(عليه السلام) قد تولّي الإمامة بعد استشهاد أبيه الجواد(عليه السلام) سنة (220 ه_) وهو لمّا يبلغ الحلم إذ لم يتعدّ عمره الثامنة _ علي أكبر الفروض _ فهو قد شابه أباه الجواد(عليه السلام) في تولّي الإمامة في سنّ مبكّرة. وقد كان لتولّي الإمام الجواد(عليه السلام) الإمامة في سنّ مبكّرة بعد استشهاد أبيه الرضا(عليه السلام) مغزي ديني ودلالات وآثار سياسية واجتماعية عديدة، وإليك جملة منها: الدلالة الاُولي: أن أهل البيت(عليهم السلام) قد أضافوا دليلاً حسّياً جديداً بعد الأدلة العقائدية التي تمثلت في النصوص النبويّة أولاً والواقع العملي الذي جسّد جدارتهم [ صفحه 134] لتولّي شؤون المسلمين وقيادة العالم الإسلامي فكرياً وعمليّاً. والأئمة بعد استشهاد الحسين(عليه السلام) قد اتّجهوا لتربية الأجيال الطليعية ليحصّنوا الاُمة الإسلامية من تبعات التلاقح الفكري أو الاختراق الثقافي الذي حصل من الانفتاح علي ثقافات جديدة بعد الفتوح. وقد عادت الهمينة الفكرية والريادة العلمية لأهل البيت(عليهم السلام) بالرغم من التخطيط الذي كان من ورائه الاُمويون ومن سار في خطّهم لإعادة الجاهلية بكل مظاهرها الي الحياة الإسلامية الجديدة. فالإمام زين العابدين(عليه السلام) وابنه الباقر(عليه السلام) الذي عرف بأنه يبقر العلم بقراً وحفيده جعفر الصادق(عليه السلام) الذي دانت له أرباب المذاهب الأربعة ومن سواهم بالمرجعية العلمية والروحية في أرجاء العالم الإسلامي. قد أثبتوا بشكل عملي وحسّي جدارة أهل

البيت(عليهم السلام) للريادة الفكرية التي هي روح الريادة الاجتماعية والسياسية الي جانب نص الرسول علي أنهم الخلفاء الحقيقيون له. واستمرّ هذا الخط الريادي في عصري الإمامين الكاظم والرضا(عليهما السلام) وأفرز آثاره الاجتماعية والسياسية حيث هيمن حبّ أهل البيت(عليهم السلام) علي قلوب المسلمين من جديد وراحوا يشيدون بهم وبمثلهم وعلوّ منزلتهم في الحياة الإسلامية، وانعكس هذا الأمر علي الحكّام انعكاساً لا يُطاق فلم يتحمّل هارون الرشيد وجود الإمام الكاظم(عليه السلام) إذ اعتبره منافساً حقيقياً له حتي قضي عليه بعد سجنه مسموماً شهيداً. كما لم يتحمّل ابنه المأمون الإمام علي بن موسي الرضا(عليه السلام) كذلك بالرغم من تغييره لسياسة أسلافه حيث حاول احتواءه وتجديد نشاطه بشكل ذكي ثم جدّ في اطفاء نوره بما أجراه من الحوارات والتحدّيات العلمية الصعبة [ صفحه 135] بعد أن أيس من سلب ثقة الناس منه بفرض ولاية العهد عليه إذ كان قد خطط لإظهاره بمظهر الإنسان الحريص علي الملك وحب الدنيا الذي كان هو شأن عامة الملوك من بني اُمية وبني العباس. وبعد اليأس من نجاح آخر محاولات التسقيط بادر الي تصفيته جسدياً ليقضي علي أكبر منافس له. فإن الإمام الرضا(عليه السلام) كان يري هو وكثير من المسلمين بأن المأمون لا يستحق الخلافة وإنّما هي رداء ألبسه الله من اصطفاه من عباده وهم أهل بيت الرحمة والرسالة. فالمأمون يفتقد الرصيد الشرعي والشعبي بينما الإمام الرضا(عليه السلام) ولا سيما بعد فرض ولاية العهد عليه لم يسقط من القلوب، بل قد تألّق نجمه فهو يحظي بالرصيدين الشرعي والشعبي أكثر من ذي قبل ولا سيما بعد الحوارات العلمية التي اُجريت معه. إنّ نقاط القوة التي كان يفتقدها المأمون رغم ذكائه وحنكته السياسية، قد سوّلت له

وجرّته الي اغتيال الإمام الرضا(عليه السلام). وهنا جاءت إمامة الجواد(عليه السلام) المبكّرة لتضفي رقماً جديداً ودليلاً واضحاً وقوياً آخر علي جدارة أهل البيت(عليهم السلام) للقيادة الإسلامية يلمسه عامّة المسلمين بما فيهم الحكام. وشكّلت هذه الإمامة تحدياً صارخاً لا يمكن غضّ الطرف عنه ولا يمكن مواجهته بأي شكل من الاشكال، فقد عرّض المأمون الإمام الجواد(عليه السلام) لأصناف الحوارات والتحديات العلمية وأيقن بعجزه عن مواجهته، ولكنه كان لا يملك أيّ عذر للقضاء عليه. ولكنّ المعتصم قد دنّس يديه بهذه الجريمة البشعة التي قضت علي الإمام الجواد وهو في عمر الزهور حيث لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره ولم تدم أيّام إمامته سوي سبع عشرة سنة. [ صفحه 136] والقضاء علي الإمام الجواد(عليه السلام) في هذه الظروف كاشف عن مدي عمق الهيمنة الروحية والعلمية للإمام الجواد(عليه السلام) وهو عميد أهل البيت وكبيرهم روحياً وعلمياً وقيادياً حيث طأطأ لعظمة علماء الطائفة وتعلّقت به قلوب شيعته ومحبّيه فضلاً عن قلوب من سواهم ودانت له بالولاء أعداد غفيرة من المسلمين. وإلاّ فلماذا هذا التسرع في القضاء عليه وهو لم يحاول القيام بأية حركة أو ثورة ضد النظام الحاكم؟! وقد جاءت الإمامه المبكرة للإمام الهادي(عليه السلام) في هذا الظرف وبعد هذه التحديات وإفرازاتها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. فهل نصدق بأنّ الحكّام بعد المعتصم،وبعد ما رأوه من هذه الهيمنة الروحية والعلمية لأهل البيت(عليهم السلام) علي الساحة الإسلامية _ سوف يتركونهم أحراراً وهم المتقمّصون لرداء خلافة الرسول(صلي الله عليه وآله) والموقع القيادي لأهل البيت(عليهم السلام) الذين قد اشتهر عنهم وعن جدّهم أنهم المنصوبون لهذا الموقع الديني والسياسي بعد رسول الله(صلي الله عليه وآله)؟ وقد أثبتوا جدارتهم العلمية والفكرية والروحية لتولّي قيادة الأمر وإدارة شؤون

المسلمين وهيمنوا علي قلوب الناس وعقولهم؟ إنّ هذه النقطة تشكّل مفرق طريق واضح بين خطين خطّ الحاكمين وخط أهل البيت(عليهم السلام). ولم يرتدع هؤلاء الحكام عمّا سلف عليه آباؤهم من مقارعة من ينافسهم وهم يرون وجود المنافس الحقيقي لهم حتي وهو لم يبادر الي الثورة ضدّهم، ولم يثبت لديهم أنّهم وراء الانتفاضات التي كانت تنطلق بين آونة واُخري. [ صفحه 137] فما هو المخرج في رأيهم وبحسب مقاييسهم؟ وكما علمنا سابقاً، أن الإمام الهادي(عليه السلام) في كل مراحل حياته التي قضاها في مدينة جدّه أو في سامراء كانت تحت رقابة شديدة، وقد جرّعوه ما استطاعوا من الغصص التي كانت تتمثل في محاولات الاحتواء تارة والتسقيط العلمي تارة اُخري ثم التحجيم بشتي أشكاله التي تمثّلت في الاستدعاء والتحقير والرقابة المكثّفة والسجن ومحاولات الاغتيال المتكررة خلال ثلاثة عقود ونصف تقريباً من سنّي عمره المبارك. فما الذي كان ينتظره الإمام(عليه السلام) من هؤلاء الحكّام في هذا الظرف ومع هذه المحاسبات؟ وما الذي كان ينبغي له أن يقوم به والفرص التي بين يديه محدودة جدّاً وهي تمر مرّ السحاب؟ فعلي ضوء هذه الحقائق لابد أن نبحث عن متطلّبات المرحلة في كلا الحقلين _ كما سيأتي بيانه _. الدلالة الثانية: إنّ إمامة الجواد(عليه السلام) المبكّرة والتي تلتها إمامة ولده الهادي المبكّرة أيضاً ذات علاقة وطيدة بقضية الإمام المهدي المنتظر الذي سيتولي الإمامة في ظرف عصيب جداً وعمره دون عمر هذين الإمامين(عليهما السلام)، كما أخبر بذلك الرسول(صلي الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت(عليهم السلام). إنّ التمهيد الذي قام به الرسول(صلي الله عليه وآله) _ تبعاً للقرآن الكريم _ بالنسبة لقضية المصلح الإسلامي العالمي والتصريح بأنه سيولد من أبناء الرسول(صلي الله

عليه وآله) من فاطمة وعلي(عليهما السلام) وانّه التاسع من أبناء الحسين الشهيد، كان ضرورة اسلامية تفرضها العقيدة لأنها نقطة إشعاع ومركز الأمل الكبير للمسلمين في [ صفحه 138] أحلك الظروف الظالمة التي سيمرّون بها، وقد أيّدت الظروف التي حلّت بالمسلمين بعد وفاته(صلي الله عليه وآله) هذه الأخبار السابقة لأوانها. إنّ هذا التمهيد النبوي الواسع قد بلغت نصوصه _ لدي الفريقين _ ما يزيد علي ال_ (500) نص حول حتمية ظهور المهدي(عليه السلام) وولادته وغيبته وظهوره وعلائم ظهوره وعدله وحكمه الإسلامي النموذجي. وقد سار علي درب الرسول(صلي الله عليه وآله) الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) خلال قرنين _ وعملوا علي تأكيد هذا الأصل وتأييده وإقراره في النفوس وجعله معلماً من معالم عقيدة المسلمين فضلاً عن الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم. وقد زرع هذا المبدأ ألغاماً تهدّد الظالمين بالخطر وتنذرهم بالفناء والقضاء عليهم وعلي خطّهم المنحرف، فهو مصدر اشعاع لعامة المسلمين كما أنه مصدر رعب للظالمين المتحكمين في رقاب المسلمين. ولو لم يصدر من أهل البيت(عليهم السلام) إلاّ التأكيد علي هذا المبدأ فقط _ وإن لم يمارسوا أي نشاط سياسي ملحوظ _ لكان هذا كافياً في نظر الحكّام للقضاء عليهم مادام هذا المبدأ يقضّ مضاجعهم. ولكن اضطرارهم لمراعاة الرأي العام الإسلامي حال بينهم وبين ما يشتهونه ويخطّطون ضد أهل البيت(عليهم السلام) فكانت إرادة الله تفوق ارادتهم. غير أنهم لم يتركوا التخطيط للقضاء علي أهل بيت الرسول(صلي الله عليه وآله). فعن الحسين أشاعوا أنه قد خرج علي دين جدّه وهو الذي كان يطلب الاصلاح في اُمة جده. والإمام الكاظم(عليه السلام) _ ومن سبقه _ قد اتّهم بأنه يُجبي له الخراج وهو يخطط للثورة علي السلطان. والإمام الرضا والجواد(عليهما

السلام) قد قضي عليهما بشكل ماكر وخبيث [ صفحه 139] بالرغم من علم المأمون بأنه المتهم في اغتيال الرضا(عليه السلام) والمعتصم قد وظّف ابنة المأمون لارتكاب جريمة الاغتيال. إذن كان التمهيد النبوي لقضية الإمام المهدي الإسلامية يشكّل نقطة أساسية ومعلماً لا يمكن تجاوزه، حرصاً علي مستقبل الاُمة الإسلامية التي قدّر لها أن تكون اُمة شاهدة واُمة وسطاً يفيء إليها الغالي ويرجع اليها التالي حتي ترفرف راية (لا إله إلاّ الله محمد رسول الله) علي ربوع الأرض ويظهر دينه الحق علي الدين كله ولو كره الكافرون. وقد ضحي أهل البيت(عليهم السلام) لهذا المبدأ القرآني الذي بيّنه الرسول(صلي الله عليه وآله) واعتمده أهل البيت(عليهم السلام) كخط عام وعملوا علي تثبيته في نفوس المسلمين. ويشهد لذلك ما ألّفه العلماء من كتب الملاحم التي اهتمّت بقضية الإمام المهدي(عليه السلام) في القرنين الأول والثاني الهجريين بشكل ملفت للنظر. فالإمام المهدي(عليه السلام) قبل ولادته بأكثر من قرنين كان قد تلألأ اسمه وتناقلت الرواة أهدافه وخصائصه ونسبه وكل ما يمتّ الي ثورته الإسلامية بصلة. واستمر التبليغ لذلك طوال قرنين ونصف قرن من الزمن. والمسلمون يسمعون كل ذلك ويتناقلون نصوصه جيلاً بعد جيل بل يعكفون علي ضبطه والتأليف المستقل بشأنه. والمتيقن أن عصر الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) ومن تلاهما من الأئمة(عليهم السلام) قد حفل بهذا التأكيد. فقد اُحصيت نصوص الإمام الصادق(عليه السلام) بشأن المهدي فناهزت ال_ (300) نصاً. واستمر التأكيد علي ذلك خلال العقود التي تلته. [ صفحه 140] فماهي إفرازات هذا الواقع الذي ذكرناه من الناحيتين السياسية والاجتماعية؟ وماهي النتائج المتوقعة لمثل هذه القضية التي لابد من إقرارها في نفوس المسلمين؟ وهنا نصّ جدير بالدراسة والتأمّل قد وصلنا من الإمام الحسن العسكري(عليه

السلام) في هذا الشأن بالخصوص وفيه تأييده لهذه الحقيقة الكبري. «قال أبو محمد بن شاذان _ عليه الرحمة _ حدّثنا أبو عبدالله بن الحسين ابن سعد الكاتب(رضي الله عنه) قال أبو محمد(عليه السلام): قد وضع بنو اُمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلّتين: إحداهما: أنّهم كانوا يعلمون (انّ) ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادّعائنا إيّاها وتستقرّ في مركزها. وثانيهما: انّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة علي أن زوال ملك الجبابرة الظلمة علي يد القائم منّا، وكانوا لا يشكّون أنهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت سول الله(صلي الله عليه وآله) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول الي منع تولد القائم(عليه السلام) أو قتله، فأبي الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتم نوره ولو كره المشركون» [158] . ومن هنا نفهم السرّ في تسرّع الحكّام للقضاء علي الثلث الأخير من أئمة أهل البيت الاثني عشر(عليهم السلام). كما نفهم السرّ في تشديد الرقابة علي تصرّفاتهم حتي قاموا بزرع العيون في داخل بيوتهم واستعانوا بشكل مكثّف بالعنصر النسوي لتحقيق هذه المراقبة الدقيقة والشاملة. كما أننا يمكن أن نكتشف السّر في أن الأئمة بعد الإمام الصادق(عليه السلام) لماذا لم يولدوا من نساء هاشميات يُشار إليهنّ بالبنان؟ بل ولدوا من اماء [ صفحه 141] طاهرات عفيفات مصطفاة، فلم يكن هناك زواج رسمي وعلني وعليه فلا يكون الإمام المولود ملفتاً للنظر سوي للخواص والمعتمدين من أصحاب أهل البيت(عليهم السلام). وحين كان يقوم الإمام السابق بالتمهيد لإمامته وطرح اسمه علي الساحة بالتدريج، حينئذ كان ينتبه الحكام لذلك وربما كانت تفوت عليهم الفرص لاغتياله والقضاء عليه. ولهذا حين كان يشار إليه بالبنان وتتوجه إليه القلوب والنفوس كانت الدوائر

الحاقدة تبدأ بالكيد له باستمرار. قال أيوب بن نوح، قلت للرضا(عليه السلام): نرجو أن تكون صاحب هذا الأمر وإن يردّه الله إليك من غير سيف فقد بويع لك وضربت الدراهم باسمك، فقال: ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب وسئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحملت إليه الأموال إلاّ اعتلّ ومات علي فراشه حتي يبعث الله عزّ وجل لهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ حتي خفي في نفسه [159] . فالإمام الكاظم والإمام الرضا(عليه السلام) قد استشهدا وهما في الخامسة والخمسين من عمرهما بينما الإمام الجواد(عليه السلام) قد استشهد وهو في الخامسة والعشرين من عمره من دون أن يكون كل واحد منهم قد اُصيب بمرض يوجب موته، بل كانوا أصحّاء بحيث كانت صحتهم وسلامتهم الجسمية مثاراً لاتّهام الحكّام الحاقدين عليهم. إذن فالإمام الجواد(عليه السلام) بإمامته المبكّرة التي أصبحت حدثاً فريداً تتناقله الألسن سواء بين الأحبة أو الأعداء قد ضرب الرقم القياسي في القيادة [ صفحه 142] الربّانية وذكّر الاُمة بما كانت قد سمعته من إخبار القرآن الكريم بأن الله قد آتي كلاً من يحيي وعيسي الكتاب والحكم والنبوة في مرحلة الصبا. بل لمست ذلك بكل وجودها وهي تري طفلاً لا يتجاوز العقد الواحد وإذا به يهيمن علي عقول وقلوب الملايين. وفي هذا نوع إعداد لإمامة من يليه من الأئمة(عليهم السلام) الذين يتولّون الإمامة وهم في مرحلة الصبا خلافاً لما اعتاده الناس في الحياة. وقد كانت إمامة ابنه الهادي(عليه السلام) ثاني مصداق لهذا الحدث الفريد الذي سوف لا يكون في تلك الغرابة بل سوف يعطي للخط الرسالي لأهل البيت(عليهم السلام) زخماً جديداً وفاعلية كبيرة إذ يحظي أتباعهم بمثل هذه النماذج الفريدة من أئمة أهل البيت(عليهم السلام). والإمام

المهدي الذي كان يتمّ التمهيد لولادته وإمامته رغم مراقبة الطغاة وترقّبهم لذلك، كان المصداق الثالث للإمامة المبكّرة، فلا غرابة في ذلك بعد استيناس الاُمة بنموذجين من هذا النوع من الإمامة، علي الصعيد الإسلامي العام وعلي الصعيد الشيعي الخاص. من هنا كان الظرف الذي يحيط بالإمام الهادي(عليه السلام) ظرفاً انتقالياً من مرحلة الإمامة الظاهرة الي الإمامة الغائبة التي يُراد لها أن تدبّر الأمر ومن وراء الستار ويراد للاُمة أن تنفتح علي هذا الإمام وتعتقد به وتتفاعل معه رغم حراجة الظروف. فهو الظرف الوحيد لأعداد الاُمة لاستقبال الظرف الجديد. ولا سيّما إذا عرفنا أن الإمام الهادي هو السابع من تسعة أئمة من أبناء الحسين، والمهدي الموعود هو التاسع منهم وهو الذي مهّد لولادة حفيده من خلال ما خطط له من زواج خاص لولده الحسن العسكري دون أي اعلان عن ذلك، فلا توجد إلاّ مسافة زمنية قصيرة جداً ينبغي له اغتنامها للإعداد اللازم والشامل. [ صفحه 143] إذن ما أقلّ الفرص المتاحة للإمام الهادي(عليه السلام) للقيام بهذا العبء الثقيل حيث إنه لابد له أن يجمع بين الدقة والحذر من جهة والابلاغ العام ليفوّت الفرص علي الحكّام ويعمّق للاُمة مفهوم الانتظار والاستعداد للظهور والنهوض بوجه الظالمين. ولا أقل من إتمام الحجة علي المسلمين ولو بواسطة المخلصين من أتباعه(عليه السلام). ومن هنا كان علي الإمام الهادي(عليه السلام) تحقيقاً للأهداف الكبري أن يتجنب كل إثارة أو سوء ظن قد يوجه له من قبل الحكّام المتربّصين له ولابنائه من أجل أن يقوم بانجاز الدور المرتقب منه. وهو تحقيق همزة الوصل الحقيقية بين ما حقّقه الأئمة الطاهرون من آبائه الكرام وما سوف ينبغي تحقيقه بواسطة ابنه وحفيده(عليهما السلام)، ولهذا لم يُمهل الإمام الحسن

العسكري سوي ست سنين فقط وهي أقصر عمر للإمامة في تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) إذ دامت إمامة الإمام علي(عليه السلام) ثلاثين سنة والإمام الحسن السبط عشر سنين والإمام الحسين عشرين سنة والإمام زين العابدين خمساً أو أربعاً وثلاثين سنة. والإمام الباقر تسع عشرة سنة والإمام الصادق أربعاً وثلاثين سنة والإمام الكاظم خمساً وثلاثين سنة والإمام الرضا عشرين سنة والإمام الجواد رغم قصر عمره كانت إمامته سبع عشرة سنة والإمام الهادي أربعاً وثلاثين سنة. وتأتي في هذا السياق كل الاجراءات التي قام بها الإمام الهادي(عليه السلام) من الحضور الرتيب في دار الخلافة وما حظي به من مقام رفيع عند جميع الأصناف والطبقات بدءً بالاُمراء والوزراء وقادة الجيش والكتّاب وعامة المرتبطين بالبلاط كما سوف يأتي توضيحه فيما بعد ان شاء الله تعالي وهكذا كل ما قام به بالنسبة للجماعة الصالحة التي سوف نفصّل الحديث عنها في فصل لاحق إن شاء الله تعالي. [ صفحه 144]

متطلبات الساحة الإسلامية في عصر الإمام الهادي

اشاره

1 _ ترك مقارعة الحاكمين وتجنّب إثارتهم. 2 _ الردّ علي الإثارات الفكرية والشبهات الدينية. 3 _ التحدّي العلمي للسلطة وعلمائها. 4 _ توسيع دائرة النفوذ في جهاز السلطة.

تجنب إثارة الحكام وعمالهم

اتّسم سلوك الإمام الهادي(عليه السلام) طوال فترة إمامته بالتجنّب من أيّة إثارة للسلطة بدءً بما فرض عليه من مُؤدّب يتولي أمره ثم الاستجابة لدعوة المتوكل واستقدامه الي سامراء وفسح المجال للتفتيش الذي قد تكرر في المدينة وسامراء بل تعدي ذلك الي تطمين المتوكل بأنّ الإمام(عليه السلام) لا يقصد الثورة عليه حين استعرض المتوكل قواته وقدرته العسكرية وأحضر الإمام في هذا الاستعراض ليطلعه علي ما يملكه من قوّة لئلاّ يفكر واحد من أهل بيته(عليهم السلام) بالخروج علي الخليفة. وإذا بالإمام الهادي(عليه السلام) يجيبه بأنا لا نناقشكم في الدنيا نحن مشتغلون بأمر الآخرة فلا عليك شيء ممّا تظن [160] . ولم يحصل المتوكل علي أي مستمسك ضد الإمام بالرغم من التفتيش المفاجئ والمتكرر. وقد لاحظنا كيف يتجنّب الإمام(عليه السلام) مثل هذه الإثارات الي جانب تقديمه للنصح والارشاد والموعظة للمتوكل. [ صفحه 145] روي ابن شهرآشوب باسناده عن أبي محمد الفحام أ نّه قال: سأل المتوكل ابن الجهم من أشعر الناس؟ فذكر الجاهلية والإسلام. ثم انّه سأل أبا الحسن(عليه السلام)، فقال(عليه السلام) الحمّاني حيث يقول: لقد فاخرتنا من قريش عصابة بمدّ خدود وامتداد أصابع فلما تنازعنا المقال قضي لنا عليهم بما نهوي نداء الصوامع ترانا سكوتاً والشّهيد بفضلنا عليهم جهير الصوت في كل جامع فإن رسول الله احمد جدّنا ونحن بنوه كالنجوم الطوالع قال: وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟ قال: أشهد ان لا إله إلاّ الله، واشهد ان محمداً رسول الله جدّي أم جدّك؟ فضحك المتوكل ثم

قال: هو جدّك لا ندفعك عنه [161] . ولم يبخل الإمام الهادي(عليه السلام) بالإجابة العلمية فيما كان يشكل عليهم أمره كما لاحظنا، بل تعدّي ذلك الي وصف دواء ناجع لداء عدوّه المتوكل حين أيس من معالجات أطبّائه بالرغم من تظاهره بالعداء للعلويين [162] .

الرد علي الإثارات الفكرية والشبهات الدينية

وقد لاحظنا في عصر الإمام(عليه السلام) ما امتحنت به الاُمة الإسلامية بما عرف بمحنة خلق القرآن، والإثارات المستمرة حول الجبر والتفويض والاختيار. وكانت للإمام الهادي(عليه السلام) مساهمات جادّة في كيفية معالجة الموقف بشكل ذكي، والرسالة التي اُثيرت عن الإمام الهادي(عليه السلام) لأهل الأهواز تضمّنت [ صفحه 146] ردّاً علمياً تفصيلياً علي شبهة الجبر والتفويض، بل تضمّنت بيان منهج بديع سلكه الإمام(عليه السلام) في مقام الرد. وحيث كان الغلو والتصرّف من الظواهر المنحرفة في المجتمع الإسلامي، فقد واجههما الإمام الهادي(عليه السلام) بالشكل المناسب مع هاتين الظاهرتين [163] .

التحدي العلمي للسلطة وعلمائها

لقد كان الاختبار العلمي لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) أقصر طريق للحكام لمعرفة ماهم عليه من الجدارة العلمية التي هي أحدي مقوّمات الإمامة. وهو في نفس الوقت أقصر طريق لأهل البيت(عليهم السلام) للتألّق العلمي في المجتمع الإسلامي. ومن هنا كانت السلطة بعد اجراء أي اختبار علمي تحاول التعتيم عليه لئلا يستفيد أتباع أهل البيت(عليهم السلام) من هذه الورقة المهمّة ضد السلطة الحاكمة. ولكن المصادر التاريخية قد حفظت لنا نصوص هذه الاختبارات وفيها ما يدلّ علي الرّد القاطع من أهل البيت(عليهم السلام) علي جميع التحديات العلمية التي خططت لهم وانتصارهم في هذا الميدان الذي كان يعيد لهم مرجعيتهم الدينية في الاُمة الإسلامية. وإليك نموذجاً من هذا الاختبار الذي أجراه ابن الأكثم في عصر المتوكل ثم حاول التعتيم عليه. فقد روي ابن شهر آشوب أنه: قال المتوكل لابن السكّيت اسأل ابن [ صفحه 147] الرّضا مسألة عوصاء بحضرتي. فسأله، فقال: لم بعث الله موسي بالعصا وبعث عيسي بابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتي، وبعث محمّداً بالقرآن والسّيف؟ فقال أبو الحسن(عليه السلام): بعث الله موسي بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب علي

أهله السّحر، فاتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم واثبت الحجّة عليهم، وبعث عيسي بابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتي بإذن الله في زمان الغالب علي أهله الطّب فاتاهم من ابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتي بإذن الله فقهرهم وبهرهم. وبعث محمّداً بالقرآن في زمان الغالب علي أهله السّيف والشّعر فأتاهم من القرآن الزاهر والسّيف القاهر ما بهر به شعرهم وبهر سيفهم وأثبت الحجّة عليهم، فقال ابن السّكيت: فما الحجّة الآن؟ قال: العقل، يعرف به الكاذب علي الله فيكذّب. فقال يحيي بن أكثم: ما لإبن السّكيت ومناظرته؟! وإنّما هو صاحب نحو وشعر ولغة، ورفع قرطاساً فيه مسائل فأملي عليّ بن محمد(عليهما السلام) علي ابن السّكيت جوابها [164] . وجاء في رواية اُخري أن هذه الاسئلة قد كتبها ابن الأكثم لموسي بن محمد بن الرضا، ومن الواضح أن المقصود بها هو الإمام الهادي(عليه السلام) بلاريب. ولهذا جاء بها أخوه موسي إليه فأجاب عنها الإمام(عليه السلام)، وإليك نص الرواية: عن موسي بن محمد بن الرضا قال: لقيت يحيي بن أكثم في دار العامة فسألني عن مسائل، فجئت إلي أخي علي بن محمد (عليهما السلام) فدار بيني وبينه من المواعظ ما حملني وبصرني طاعته، فقلت له: جعلت فداك إنّ ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها، فضحك(عليه السلام) ثم قال: وما هي؟ [ صفحه 148] قلت: كتب يسألني عن قول الله: (قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل ان يرتدّ إليك طرفك) [165] نبي الله كان محتاجاً إلي علم آصف؟ وعن قوله: (ورفع أبويه علي العرش وخرّوا له سجّداً) [166] سجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟ وعن قوله: (فإن كنت في شكّ ممّا انزلنا إليك فاسئل

الذين يقرءون الكتاب) [167] ، من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب النبي (صلي الله عليه وآله) فقد شكّ، وان كان المخاطب غيره، فعلي من إذن انزل الكتاب. وعن قوله: (ولو أنّما في الارض من شجرة اقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة ابحر ما نفدت كلمات الله) [168] ما هذه الأبحر؟ وأين هي؟ وعن قوله: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الاعين) [169] فاشتهت نفس آدم(عليه السلام) أكل البر فأكل واطعم وفيها ما تشتهي الأنفس، فكيف عوقب؟ وعن قوله (أويزوّجهم ذكراناً واناثاً) [170] يزوج الله عباده الذكران وقد عوقب قوم فعلوا ذلك؟ وعن شهادة المرأة جازت وحدها وقد قال الله: (وأشهِدوا ذَويْ عدل منكم) [171] . [ صفحه 149] وعن الخنثي، وقول علي (عليه السلام): يورث من المبال، فمن ينظر _ إذا بال _ إليه؟ مع أ نّه عسي أن يكون امرأة وقد نظر إليها الرجال، أو عسي أن يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء، وهذا ما لا يحل. وشهادة الجارّ إلي نفسه لا تقبل. وعن رجل أتي إلي قطيع غنم فرأي الراعي ينزو علي شاة منها فلما بصر بصاحبها خلّي سبيلها، فدخلت بين الغنم كيف تذبح؟ وهل يجوز أكلها أم لا؟ وعن صلاة الفجر لِمَ يجهر فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار؟ وإنّما يجهر في صلاة الليل. وعن قول علي (عليه السلام) لابن جرموز: بشّر قاتل ابن صفية بالنار، فلِمَ لم يقتله وهو إمام؟! وأخبرني عن علي (عليه السلام) لم قتل أهل صفين وأمر بذلك مقبلين ومدبرين وأجاز علي الجرحي؟ وكان حكمه يوم الجمل انه لم يقتل مولّياً ولم يجهز علي جريح ولم يأمر بذلك، وقال من دخل داره فهو آمن، ومن القي سلاحه فهو آمن.

لِمَ فعل ذلك؟ فإن كان الحكم الأول صواباً فالثاني خطأ. وأخبرني عن رجل أقر باللواط علي نفسه أيحد أم يدرأ عنه الحد؟ قال (عليه السلام): اكتب إليه: قلت: وما اكتب؟ قال (عليه السلام): اكتب بسم الله الرحمن الرحيم وأنت فألهمك الله الرشد، أتاني كتابك فامتحنتنا به من تعنتك لتجد إلي الطعن سبيلاً إن قصرنا فيها والله يكافيك علي نيتك، وقد شرحنا مسائلك فاصغ إليها سمعك وذلل لها فهمك، واشغل بها قلبك، فقد لزمتك الحجة والسلام. سألت عن قول الله عزوجل: (قال الذي عنده علم من الكتاب) فهو آصف بن برخيا، ولم يعجز سليمان (عليه السلام) عن معرفة ما عرف آصف لكنه صلوات الله عليه أحب أن يعرّف اُمته من الجن والانس انه الحجة من [ صفحه 150] بعده، وذلك من علم سليمان (عليه السلام) أودعه عند آصف بأمر الله، ففهّمه ذلك لئلا يختلف عليه في امامته ودلالته، كما فهّم سليمان(عليه السلام) في حياة داود (عليه السلام) لتعرف نبوته وامامته من بعد لتأكد الحجة علي الخلق. وأما سجود يعقوب (عليه السلام) وولده كان طاعة لله ومحبة ليوسف (عليه السلام)، كما أن السجود من الملائكة لآدم (عليه السلام) لم يكن لآدم (عليه السلام) وانما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم (عليه السلام)، فسجود يعقوب وولده ويوسف(عليه السلام) معهم كان شكراً لله باجتماع شملهم، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث _ الي آخر الآية _) [172] . وأما قوله: (فإن كنت في شكّ مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب). فإنّ المخاطب به رسول الله(صلي الله عليه وآله) ولم يكن في شكّ مما انزل إليه ولكن قالت

الجهلة كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآ كل والمشارب والمشي في الأسواق؟! فأوحي الله إلي نبيه، (فسئل الذين يقرءون الكتاب)بمحضر الجهلة، هل بعث الله رسولاً قبلك إلاّ هو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم اُسوة، وإنّما قال: فإن كنت في شكّ ولم يكن شكّ ولكن للمنفعة كما قال:(تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله علي الكاذبين) [173] . ولو قال (عليكم) لم يجيبوا إلي المباهلة، وقد علم الله ان نبيه يؤدي عنه رسالته وما هو من الكاذبين، فكذلك عرف النبي انه صادق فيما يقول ولكن أحب ان ينصف من نفسه. وأما قوله: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر [ صفحه 151] ما نفدت كلمات الله). فهو كذلك لو أن اشجار الدنيا أقلام والبحر يمدّه سبعة أبحر وانفجرت الارض عيوناً لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله وهي عين الكبريت وعين التمر وعين ال__ (برهوت) وعين طبرية وحمّة ماسبندان وحمّة افريقية يدعي لسان وعين بحرون، ونحن كلمات الله لا تنفد ولا تدرك فضائلنا. وأما الجنة فإن فيها من المآ كل والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأباح الله ذلك كلّه لآدم(عليه السلام) والشجرة التي نهي الله عنها آدم(عليه السلام) وزوجته ان يأكلا منها شجرة الحسد عهد إليهما ان لا ينظرا إلي من فضّل الله علي خلائقه بعين الحسد فنسي ونظر بعين الحسد ولم يجد له عزما. وأما قوله: (أو يزوجهم ذكراناً واناثاً) أي يولد له ذكور ويولد له اناث يقال لكل اثنين مقرنين زوجان كل واحد منهما زوج، ومعاذ الله

أن يكون عني الجليل ما لبّست به علي نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم، (... ومن يفعل ذلك يلقَ اثاماً - يضاعفْ له العذاب يوم القيامة ويَخْلُدْ فيه مهاناً) [174] إن لم يتب. وأما شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي القابلة جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضاً فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها. وأما قول علي (عليه السلام) في الخنثي فهي كما قال: ينظر قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة وتقوم الخنثي خلفهم عريانة وينظرون في المرايا فيرون الشبح فيحكمون عليه. وأمّا الرجل الناظر إلي الراعي وقد نزا علي شاة فإن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين وساهم بينهما فإذا وقع علي أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر، ثم يفرق النصف الآخر فلا يزال كذلك حتي تبقي شاتان فيقرع بينهما فأيتها وقع السهم بها [ صفحه 152] ذبحت واحرقت ونجا سائر الغنم. وأما صلاة الفجر فالجهر فيها بالقراءة، لأن النبي(صلي الله عليه وآله) كان يغلس بها فقراءتها من الليل. وأما قول علي (عليه السلام): بشّر قاتل ابن صفية بالنار فهو لقول رسول الله(صلي الله عليه وآله) وكان ممن خرج يوم النهروان فلم يقتله أمير المؤمنين(عليه السلام) بالبصرة لأنه علم أنه يقتل في فتنة نهروان. وأما قولك: ان علياً(عليه السلام) قتل أهل صفين مُقبلين ومُدبرين وأجاز علي جريحهم وانه يوم الجمل لم يتبع مولياً ولم يجهز علي جريح ومن ألقي سلاحه آمنه ومن دخل داره آمنه، فإن أهل الجمل قتل امامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها وانما رجع القوم إلي منازلهم غير محاربين

ولا مخالفين ولا متنابذين رضوا بالكف عنهم فكان الحكم فيها رفع السيف عنهم والكف عن أذاهم إذ لم يطلبوا عليه اعواناً. وأهل صفين كانوا يرجعون إلي فئة مستعدة وامام يجمع لهم السلاح: الدروع والرماح والسيوف ويسني لهم العطاء، يهيء لهم الأنزال ويعود مريضهم ويجبر كسيرهم ويداوي جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلي محاربتهم وقتالهم فلم يساوِ بين الفريقين في الحكم لما عرف من الحكم في قتل اهل التوحيد لكنه شرح ذلك لهم، فمن رغب عرض علي السيف أو يتوب من ذلك. وأما الرجل الذي اعترف باللواط فإنه لم تقم عليه بينة وإنّما تطوع بالاقرار من نفسه وإذا كان للإمام الذي من الله ان يعاقب عن الله كان له أن يمنّ عن الله، أما ما سمعت قول الله: (هذا عطاؤنا)، قد انبأناك بجميع ما سألتنا عنه فاعلم ذلك [175] . وقد أوضحت هذه الرواية الموقع العلمي للإمام(عليه السلام) ومدي تحدّيه لعلماء عصره [ صفحه 153] ولاسيّما علماء البلاط الذين لا يروق لهم مثل هذا التحدّي. ولهذا قال ابن أكثم للمتوكل بعد ما قرأ هذه الأجوبة: ما نحب أن نسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وانّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور علمه تقوية للرافضة [176] .

توسيع دائرة النفوذ في جهاز السلطة

إن النفوذ الذي نجده للإمام الهادي(عليه السلام) هو النفوذ المعنوي علي عامة رجال السلطة بما فيهم من لا يدين بالولاية لأهل البيت(عليهم السلام). وقد كانت أساليب الإمام(عليه السلام) في هذا المجال متنوّعة وواسعة فإنه كان مطالباً بالحضور في دار الخلافة بشكل مستمر. ومن هنا كان التعرّف علي شخص الإمام(عليه السلام) وهديه وسكونه واتّزانه أمراً طبيعياً وفّر له هذه الفرصة والتي لم يلتفت

الحكّام الي مدي تبعاتها وآثارها التي تركتها في الساحة الإسلامية العامة ورواد البلاط بشكل خاص. وقد كانت للإمام(عليه السلام) كرامات شتي كلّما دخل وخرج من دار الخلافة. وقد قال أحد ندماء المتوكل للمتوكل: ما يعمل أحد بك أكثر مما تعمله بنفسك في علي بن محمد، فلا يبقي في الدار إلاّ من يخدمه ولا يتبعونه بشيل ستر ولا فتح باب ولا شيء، وهذا إذا علمه الناس قالوا: لو لم يعلم استحقاقه للأمر ما فعل به هذا، دعه إذا دخل عليه يشيل الستر لنفسه ويمشي كما يمشي غيره فيمسه بعض الجفوة. فتقدم ألاّ يخدم ولا يشال بين يديه ستر، وكان المتوكل ما رأي أحداً ممّن يهتم بالخبر مثله. قال: فكتب صاحب الخبر إليه: أنّ علي بن محمد [ صفحه 154] دخل الدار فلم يخدم ولم يشل أحد بين يديه ستر فهب هواء رفع الستر له فدخل. فقال: اعرفوا حين خروجه، فذكر صاحب الخبر أن هواء خالف ذلك الهواء شال الستر له حتي خرج، فقال: ليس نريد هواء يشيل الستر، شيلوا الستر بين يديه [177] . كما نجد جملة من الكتّاب والحجّاب والعيون وحتي السجّان فضلاً عن بعض القادة والاُمراء كانوا يدينون بالولاء والحبّ الخاص للإمام الهادي(عليه السلام)، وقد رأينا في قصة مرض المتوكل ونذر اُمه للإمام الهادي(عليه السلام) [178] ما يدل دلالة واضحة علي مدي نفوذ الإمام(عليه السلام) في هذه الأوساط، بينما كان المتوكّل قد خطّط لإبعاد الإمام عن شيعته ومحبّيه وإذا بالإمام (عليه السلام) يكتسح نفوذه المعنوي أرباب البلاط ويستبصر علي يديه مجموعة ممّن لم يكن يعرف الإمام(عليه السلام) أو لم يكن ليواليه، وكان الإمام(عليه السلام) يستفيد من هؤلاء في تحرّكه وارتباطاته التي خطّط الحكّام لمراقبتها

أو قطعها وإبعاد الإمام(عليه السلام) عن قواعده وعن الوسط الاجتماعي الذي يريد أن يتحرّك فيه. [ صفحه 155]

الامام الهادي و تكامل بناء الجماعة الصالحة و تحصينها

الامام الهادي و قضية حفيده المهدي

عرفنا أن قضية الإمام المهدي(عليه السلام) في عصر الإمام الهادي(عليه السلام) تعدّ قضية أساسية للمسلمين بشكل عام ولأتباع أهل البيت(عليهم السلام) بشكل خاص والظروف التي كانت تحيط بالإمام الهادي(عليه السلام) كانت تزداد حراجة كلّما اقتربت أيّام ولادة الإمام المهدي(عليه السلام) وغيبته. ولابد أن نبحث عن هذه القضية في محورين: الأول منهما خاص بالإمام المهدي(عليه السلام)، والثاني منهما يرتبط بأتباعه وشيعته. أما المحور الأول، فالإمام الهادي(عليه السلام) مسؤول عن ترتيب التمهيدات اللازمة لولادة الإمام المهدي(عليه السلام) بحيث يطّلع الأعداء عليها وهم يراقبون بدقة كل تصرفات الإمام الهادي ونشاط ابنه الحسن العسكري(عليهما السلام). وتشير النصوص الي كيفية تدخّل الإمام الهادي(عليه السلام) لاختيار زوجة صالحة للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) بحيث تقوم بالدور المطلوب منها في اخفاء ولادة ابنها المنتظر [179] . وقد تظافرت نصوص الإمام الهادي(عليه السلام) علي أن المهدي الذي ينتظر [ صفحه 156] هو حفيده وولد الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) وانّه الذي يولد خفية ويقول الناس عنه أنه لم يولد بعد، وانه الذي لا يري شخصه ولا يحل ذكره باسمه. وهكذا، وتضمّنت هذه النصوص جملة من التعليمات الكفيلة بتحقيق غطاء ينسجم مع مهمة الاختفاء والغيبة من قبل الإمام المهدي(عليه السلام). ومن أجل تحقيق عنصر الارتباط بالإمام في مرحلة الغيبة الاُولي والتي تعرف بالصغري عمل الإمام علي ربط شيعته ببعض وكلائه بشكل خاص وجعله حلقة الوصل بعد كسب ثقة شيعته بهذا الوكيل الذي تولّي مهمة الوكالة للإمام الهادي والعسكري والمهدي(عليهم السلام) معاً، وبذلك يكون قد مهّد لسفارة أوّل سفراء الإمام المهدي(عليه السلام) من دون حدوث مضاعفات خاصة. لأن

أتباع أهل البيت(عليهم السلام) قد اعتادوا علي الارتباط بالإمام المعصوم من خلاله. وإليك نصوص الإمام الهادي(عليه السلام) حول قضية الإمام المهدي(عليه السلام): 1 _ الكليني، عن علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن أيوب بن نوح، عن أبي الحسن الثالث(عليه السلام) قال: إذا رفع علمكم من بين أظهركم فتوقّعوا الفرج من تحت أقدامكم. 2 _ الصدوق قال: حدّثنا علي بن أحمد بن موسي الدقّاق; وعليّ بن عبدالله الورّاق رضي الله عنهما قالا: حدّثنا محمد بن هارون الصوفي قال: حدثنا أبوتراب عبدالله بن موسي الرّوياني، عن عبدالعظيم بن عبدالله الحسنيّ قال: دخلت علي سيدي علي بن محمد(عليهما السلام) فلمّا بصربي قال لي: مرحباً بك يا أبا القسم أنت وليّنا حقاً قال: فقلت له: ياابن رسول الله إنّي اُريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً ثبتُّ عليه حتي ألقي الله عزّ وجل. فقال: هات يا أبا القاسم، فقلت: إنّي أقول: إنّ الله تبارك وتعالي واحد، ليس [ صفحه 157] كمثله شيء، خارج عن الحدّين حدّ الإبطال وحدّ التشبيه، وإنّه ليس بجسم ولا صورة، وعرض ولا جوهر، بل هو مجسّم الأجسام، ومصوّر الصور، وخالق الأعراض والجواهر، وربّ كلّ شيء ومالكه وجاعله ومحدثه، وإن محمداً صلي الله عليه وآله عبده ورسوله خاتم النبيين فلا نبيّ بعده الي يوم القيامة، وإن شريعته خاتمة الشرائع فلا شريعة بعدها الي يوم القيامة. وأقول: إنّ الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسي بن جعفر، ثم علي بن موسي، ثم محمد بن علي، ثم أنت يا مولاي، فقال(عليه السلام): ومن بعدي

الحسن ابني فكيف للناس بالخلق من بعده؟ قال: قلت: وكيف ذاك يا مولاي؟ قال: لأنه لا يري شخصه، ولا يحلّ ذكره باسمه حتي يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. قال: فقلت: أقررت وأقول: إنّ وليّهم ولي الله، وعدوّهم عدوّ الله، وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله. وأقول: إن المعراج حقٌّ، والمساءلة في القبر حقٌّ، وإن الجنة حقٌّ، والنار حقٌّ، والميزان حقٌّ، (وإنّ الساعة آتية لا ريب فيها - وانّ الله يبعث من في القبور). وأقول: إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية: الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقال علي بن محمد(عليهما السلام): يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه، ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا و [في] الآخرة [180] . 3 _ عنه قال: حدثنا أبي (رضي الله عنه) قال: حدثنا عبدالله بن جعفر الحميري، عن محمد بن عمر الكاتب، عن عليّ بن محمد الصيمريّ، عن علي بن [ صفحه 158] مهزيار قال: كتبت الي أبي الحسن صاحب العسكر(عليه السلام) اسأله عن الفرج، فكتب إليّ: إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين فتوقّعوا الفرج [181] . 4 _ عنه قال: حدّثنا أبي(رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبدالله قال: حدّثني إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه عليّ بن مهزيار، عن عليّ بن محمد بن زياد قال: كتبت الي أبي الحسن صاحب العسكر(عليه السلام) اسأله عن الفرج، فكتب إليّ: إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين فتوقّعوا الفرج [182] . 5 _ عنه قال: حدثنا أبي(رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبدالله قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن أبي غانم القزويني قال: حدثني إبراهيم بن

محمد بن فارس قال: كنت أنا [ونوح] وأيوب بن نوح في طريق مكة فنزلنا علي وادي زبالة فجلسنا نتحدث فجري ذكر ما نحن فيه وبعد الأمر علينا فقال أيوب بن نوح: كتبت في هذه السنة أذكر شيئاً من هذا، فكتب إليّ: إذا رفع علمكم من بين أظهركم فتوقّعوا الفرج من تحت أقدامكم [183] . 6 _ عن أبي جعفر محمد بن أحمد العلوي عن أبي هاشم الجعفري قال: سمعت ابا الحسن (عليه السلام) يقول: الخلف بعدي ابني الحسن فكيف بالخلف بعد الخلف؟! فقلت: ولم جعلني الله فداك؟ قال: انكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه قلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا الحجة من آل محمد(صلي الله عليه وآله) [184] . 7 _ عن الصقر بن أبي دلف قال: سمعت علي بن محمد بن علي الرضا(عليهم السلام) يقول: الإمام بعدي الحسن ابني وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ [ صفحه 159] الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً [185] . 8 _ روي علي بن ابراهيم عن ابيه عن علي بن صدقة عن علي بن عبد الغفار قال: لما مات أبو جعفر الثاني كتبت الشيعة إلي أبي الحسن صاحب العسكر يسألونه عن الآخر فكتب (عليه السلام): الأمر بي ما دمت حياً فإذا نزلت بي مقادير الله تبارك وتعالي أتاكم الخلف مني، فانّي لكم بالخلف بعد الخلف؟! 9 _ وروي اسحاق بن محمد بن ايوب قال: سمعت أبا الحسن(عليه السلام) يقول: صاحب هذا الأمر من يقول الناس لم يولد بعد» [186] . وأما المحور الثاني فهو الأعداد النفسي وتحقيق الاستعداد الواقعي لدور غيبة الإمام المهدي(عليه السلام) من قبل شيعة الإمام(عليه السلام). وقد حقق الإمام هذا الاستعداد

وأخرجه من عالم القوة الي عالم الفعلية بما خططه لشيعته من تعويدهم علي الاحتجاب عنهم والارتباط بهم من خلال وكلائه ونوّابه، وتوعيتهم علي الوضع المستقبلي لئلا يُفاجأوا بما سيطر عليهم من ظروف جديدة لم يألفوها من ذي قبل. وكان للإمام الهادي(عليه السلام) اُسلوب خاص لطرح إمامة ابنه الحسن العسكري(عليه السلام) بما يتناسب مع مهمّته المستقبلية في الحفاظ علي حجة الله ووليّه الذي سيولد في ظرف حرج جدّاً، ليتسني لأتباعه الانقياد للإمام من بعده والتسليم له فيما سيخبر به من وقوع الولادة وتحقق الغيبة وتحقّق الارتباط به عبر سفيره الذي تعرّفت عليه الشيعة ووثقت به. ولهذا تفنّن الإمام الهادي(عليه السلام) في كيفية طرح إمامة الحسن(عليه السلام) وزمن طرح ذلك وكيفية الإشهاد عليه. [ صفحه 160] ومنه يبدو أن التعتيم الإعلامي حتي علي إمامة الحسن العسكري(عليه السلام) كان مقصوداً للإمام الهادي(عليه السلام)، فتارة ينفي إمامة غيره واُخري يكنّيه وثالثة يصفه ببعض الصفات التي قد توهم ارادة غيره في بادئ النظر وترشد إليه في نهاية المطاف كما ورد عنه أن هذا الأمر في الكبير من ولدي. حيث إن الكبير هو (محمد) المكني بأبي جعفر غير أنه قد مات في حياة والده فلم يكن الكبير سوي الحسن(عليه السلام). وإليك جملة من هذه النصوص التي يمكن تصنيفها بحسب تسلسلها الزمني الي ما صدر من الإمام الهادي(عليه السلام) قبل وفاة أبي جعفر، وماصدر حين وفاته، وما صدر بعدها، وما صدر منه قبيل استشهاد الإمام الهادي(عليه السلام). ويكفي الاطلاع عليها بتسلسلها التاريخي لنطمئن بتخطيط الإمام الهادي(عليه السلام) من أجل تحصين الجماعة الصالحة من كل إبهام أو تشكيك أو فراغ عقائدي أو انهيار، بعد إيضاح الحق وتبلّجه لأهله الذين عرفوا أن الأرض لا

تخلو من حجة إما ظاهر مشهور أو خائف مستور. وإليك هذه النصوص كالآتي: 1 _ عن علي بن عمرو العطار قال: دخلت علي أبي الحسن العسكري(عليه السلام) وأبو جعفر ابنه في الاحياء، وأنا أظن انه هو فقلت: جعلت فداك من أخص من ولدك؟ فقال: لا تخصوا أحداً حتي يخرج إليكم أمري. قال: فكتبت إليه بعد: فيمن يكون هذا الامر؟ قال: فكتب إلي: في الكبير من ولدي [187] . ولا تعني اشارة الإمام إلي ولده أبي جعفر فهو يعلم أنه سيمضي في حياته وسيكون الكبير أبا محمد العسكري(عليه السلام) وهو المؤهل لها دون غيره من إخوته. [ صفحه 161] 2 _ وعن علي بن عمر النوفلي قال: كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) في صحن داره فمرّ محمد ابنه فقلت له جعلت فداك هذا صاحبنا بعدك؟ فقال: لا، صاحبكم بعدي الحسن [188] . 3 _ عن اسحق بن محمد عن محمد بن يحيي بن رئاب قال: حدثني أبو بكر الفهفكي قال: كتبت إلي أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن مسائل فلما نفذ الكتاب قلت في نفسي: إني كتبت فيما كتب أسأله عن الخلف من بعده وذلك بعد مضي محمد ابنه فأجابني عن مسائلي: وكنت أردت ان تسألني عن الخلف، أبو محمد ابني اصح آل محمد صلي الله عليه وآله غريزة واوثقهم عقيدة بعدي وهو الاكبر من ولدي إليه تنتهي عري الامامة واحكامها فما كنت سائلاً عنه فسله فعنده علم ما يحتاج إليه والحمد لله [189] . 4 _ عن علان الكلابي عن اسحق بن اسماعيل النيشابوري قال حدثني شاهويه بن عبد الله الجلاب قال: كنت رويت دلائل كثيرة عن أبي الحسن(عليه السلام) في ابنه محمد فلما

مضي بقيت متحيراً وخفت ان اكتب في ذلك فلا ادري ما يكون فكتبت اسأل الدعاء، فخرج الجواب بالدعاء لي وفي آخر الكتاب: اردت ان تسأل عن الخلف وقلقت لذلك فلا تغتم فإنّ الله عزوجل لا يضل قوماً بعد ان هداهم حتي يبين لهم ما يتقون، وصاحبك بعدي أبو محمد ابني عنده علم ما تحتاجون إليه يقدم الله ما يشاء ويؤخر ما يشاء قد كتبت بما فيه تبيان لذي لب يقظان [190] . 5 _ حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) قال: حدثنا الصقر بن أبي دلف قال: سمعت علي بن محمد بن علي الرضا (عليه السلام) يقول: ان الإمام بعدي الحسن ابني، وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض [ صفحه 162] قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً [191] . 6 _ عن علي بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن يحيي بن يسار القنبري قال: أوصي أبو الحسن(عليه السلام) إلي ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشهدني علي ذلك وجماعة من الموالي [192] .

تحصين الجماعة الصالحة و إعدادها لمرحلة الغيبة

اشاره

إنّ هذا الترصين وإكمال البناء الذي نريد الحديث عنه قد قام به الإمام الهادي(عليه السلام) في كل المجالات التي تهمّ الجماعة الصالحة التي سوف تفقد نعمة الارتباط بالإمام المعصوم(عليه السلام) في وقت لاحق وقريب جداً. فلابد أن يتكامل بناؤها بحيث تكتفي بما لديها من نصوص وتراث علمي وعلماء بالله تعالي يمارسون مهمة الريادة الاجتماعية والفكرية والدينية ويسهرون علي مصالح وشؤون هذه الجماعة لتستمر في مسيرتها التكاملية باتجاه الأهداف الرسالية المرسومة لها. ونلخّص هذا التحصين في المجالات التالية: الف: التحصين العقائدي. ب: التحصين العلمي. ج: التحصين التربوي. د: التحصين الأمني. ه_: التحصين الاقتصادي [ صفحه

163]

التحصين العقائدي

تمثَّلَ التحصين العقائدي الذي مارسه الإمام(عليه السلام) في تبيان وشرح وتعميق المفاهيم العقائدية بشكل خاص والدينية بشكل عام. كما تمثّل في دفع الشبهات والإثارات الفكرية كانت تتداولها المدارس الفكرية آنذاك. والنصوص التي اُثرت عن الإمام (عليه السلام) حول الرؤية والجبر والاختيار والتفويض والرد علي الشبهات المثارة حول آيات القرآن الكريم تفيد تصدّي الإمام(عليه السلام) لهذا التحصين العقائدي في الساحة الإسلامية العامة والخاصة معاً. ولم يكتف الإمام(عليه السلام) بالرد علي الشبهات العامة بل تصدّي للردّ الخاص علي ما كان يثار من تساؤلات خاصة تعرض لافراد من أتباعه أو ممن كان يتوسّم فيهم الإمام(عليه السلام) الانقياد للحق كبعض الواقفة الذين اهتدوا بفضل توجيهات الإمام(عليه السلام). قال علي بن مهزيار: وردت العسكر وأنا شاكّ في الإمامة فرأيت السلطان قد خرج الي الصيد في يوم الربيع إلاّ انّه صائف والناس عليهم ثبات الصيف وعلي أبي الحسن لباد وعلي فرسه تجفاف لبود وقد عقد ذنب الفرس، والناس يتعجبون منه ويقولون ألا ترون هذا المدني ما قد فعل بنفسه، فقلت في نفسي: لو كان هذا إماماً، ما فعل هذا. فلما خرج الناس الي الصحراء لم يلبثوا ان ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد إلاّ ابتلّ حتي غرق بالمطر وعاد(عليه السلام) وهو سالم من جميعه، فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الإمام، ثم قلت: اُريد أن اسأله عن الجنب إذا غرق في الثوب فقلت في نفسي: ان كشف وجهه فهو الإمام. فلمّا قرب مني كشف وجهه ثم قال: إن كان عرق الجنب في الثوب [ صفحه 164] وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه وان كان جنابته من حلال فلا بأس. فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة

[193] . وروي هبة الله بن أبي منصور الموصلي أنه كان بديار ربيعة كاتب نصراني وكان من أهل كفرتوثا يسمي يوسف بن يعقوب وكان بينه وبين والدي صداقة، قال: فوافي فنزل عند والدي فقال له: ما شأنك قدمت في هذا الوقت؟ قال: دعيت الي حضرة المتوكل ولا أدري ما يراد مني إلاّ أني اشتريت نفسي من الله بمائة دينار، وقد حملتها لعلي بن محمد بن الرضا(عليهم السلام) معي فقال له والدي: قد وفّقت في هذا. قال: وخرج الي حضرة المتوكل وانصرف إلينا بعد أيام قلائل فرحاً مستبشراً فقال له والدي: حدثني حديثك، قال: صرت الي سرّ من رأي وما دخلتها قطّ فنزلت في دار وقلت اُحبّ أن اُوصل المائة الي ابن الرضا(عليه السلام) قبل مصيري الي باب المتوكل وقبل أن يعرف أحد قدومي، قال: فعرفت أن المتوكل قد منعه من الركوب وأنه ملازم لداره، فقلت: كيف أصنع؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا؟ لا آمن أن يبدربي فيكون ذلك زيادة فيما اُحاذره. قال: ففكّرت ساعة في ذلك فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج في البلد ولا أمنعه من حيث يذهب لعلّي أقف علي معرفة داره من غير أن اسأل أحداً، قال: فجعلت الدنانير في كاغذة وجعلتها في كمّي وركبت فكان الحمار يتخرق الشوارع والأسواق يمرّ حيث يشاء الي أن صرت الي باب دار، فوقف الحمار فجهدت أن يزول فلم يزل، فقلت للغلام: سل لمن هذه الدار، فقيل: هذه [ صفحه 165] دار ابن الرضا! فقلت: الله أكبر دلالة والله مقنعة. قال: وإذا خادم أسود قد خرج، فقال: أنت يوسف بن يعقوب؟ قلت: نعم. قال: إنزل، فنزلت فأقعدني في الدّهليز فدخل، فقلت في نفسي:

هذه دلالة اُخري من أين عرف هذا الغلام اسمي وليس في هذا البلد من يعرفني ولا دخلته قط. قال: فخرج الخادم فقال: مائة دينار التي في كمّك في الكاغذ هاتها! فناولته إيّاها، قلت: وهذه ثالثة. ثم رجع إليّ وقال: ادخل فدخلت إليه وهو في مجلسه وحده فقال: يا يوسف ما آن لك؟ فقلت: يا مولاي قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن اكتفي. فقال: هيهات إنّك لا تسلم ولكن سيسلم ولدك فلان، وهو من شيعتنا، يا يوسف إن أقواماً يزعمون أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالكم، كذبوا والله إنها لتنفع أمثالك امض فيما وافيت له فانّك ستري ما تحبّ. قال: فمضيت الي باب المتوكل فقلت كلّ ما أردت فانصرفت. قال هبة الله: فلقيت ابنه بعد هذا _ يعني بعد موت والده _ والله وهو مسلم حسن التشيع فأخبرني أن أباه مات علي النصرانية، وأنّه أسلم بعد موت أبيه، وكان يقول: أنا بشارة مولاي(عليه السلام) [194] . وروي أبو القاسم البغدادي عن زرارة قال: أراد المتوكّل: أن يمشي علي ابن محمد بن الرضا(عليهم السلام) يوم السّلام فقال له وزيره: إنّ في هذا شناعة عليك وسوء قالة فلا تفعل، قال: لا بد من هذا. قال: فان لم يكن بد من هذا فتقدم بأن يمشي القوّاد والأشراف كلهم، حتي لا يظن الناس أنك قصدته بهذا دون [ صفحه 166] غيره، ففعل و مشي(عليه السلام) وكان الصيف فوافي الدهليز وقد عرق.قال: فلقيته فأجلسته في الدهليز ومسحت وجهه بمنديل وقلت: ابن عمّك لم يقصدك بهذا دون غيرك، فلا تجد عليك في قلبك. فقال: إيهاً عنك (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب). قال زرارة: وكان عندي معلم

يتشيّع وكنت كثيراً اُمازحه بالرافضيّ فانصرفت الي منزلي وقت العشاء وقلت: تعال يا رافضي حتي اُحدثك بشيء سمعته اليوم من إمامكم، قال لي: وما سمعت؟ فأخبرته بما قال، فقال: أقول لك فاقبل نصيحتي. قلت: هاتها، قال: إن كان عليّ بن محمد قال بما قلت فاحترز واخزن كلّ ما تملكه فانّ المتوكل يموت أو يقتل بعد ثلاثة أيام. فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يديّ فخرج. فلما خلوت بنفسي، تفكّرت وقلت: ما يضرّني أن آخذ بالحزم، فان كان من هذا شيء كنت قد اخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرّني ذلك، قال: فركبت الي دار المتوكلّ فأخرجت كل ما كان لي فيها وفرّقت كلّ ما كان في داري الي عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلاّ حصيراً أقعد عليه. فلمّا كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي وتشيّعت عند ذلك، فصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعو لي وتواليته حق الولاية [195] . وباسناده عنه قال: اجتمعنا أيضاً في وليمة لبعض أهل سرّ من رأي وأبوالحسن معنا فجعل رجل يعبث ويمزح ولا نري له اجلالاً، فاقبل علي جعفر وقال: انه لا يأكل من هذا الطعام وسوف يرد عليه من خبر أهله ما ينقص عليه عيشه، فقدمت المائدة فقال: ليس بعد هذا خبر،وقد بطل قوله فوالله لقد [ صفحه 167] غسل الرجل يده وأهوي الي الطعام فإذا غلامه قد دخل من باب البيت يبكي وقال: الحق اُمّك فقد وقعت من فوق البيت وهي بالموت فقال جعفر: قلت: والله لا وقفت بعد هذا وقطعت عليه [196] .

الموقف من الغلاة والفرق المنحرفة

ويعتبر موقف الإمام الهادي(عليه السلام) الصارم مع الغلاة خطوة من خطوات التحصين العقائدي للجماعة الصالحة وإبعادها من

عوامل الإنحراف والزيغ العقائدي الذي ينتهي الي الكفر بالله تعالي أو الشرك به. ويكمن نشاطه(عليه السلام) في فضح حقيقة هذا الخط المنحرف كما تجلي في فضح عناصره. والنصوص التي بأيدينا أشارت الي أن الذين عرفوا بالغلو في عصره هم: أحمد بن هلال العبرطائي البغدادي والحسين بن عبيدالله القمي الذي أخرج من قم لاتّهامه بالغلو، ومحمد بن أرومة، وعلي بن حسكة القمي، والقاسم اليقطيني، والفهري، والحسن بن محمد بن بابا القمي وفارس بن حاتم القزويني. وأما كيفية تعامل الجماعة الصالحة، مع هؤلاء فقد بيّنه(عليه السلام) فيما يلي: فعن أحمد بن محمد بن عيسي قال: كتبت إلي الإمام الهادي(عليه السلام) في قوم يتكلمون ويقرأون أحاديث ينسبونها إليك والي آبائك فيها ما تشمئز منها القلوب... وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي تأولوها.. فإن رأيت أن تبين لنا وأن تمن علي مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من هذه الأقاويل التي [ صفحه 168] تصيّرهم إلي العطب والهلاك؟ والذين ادّعوا هذه الاشياء، ادعّوا انهم أولياء، ودعوا إلي طاعتهم منهم علي بن حسكة والقاسم اليقطيني فما تقول في القبول منهم جميعاً؟ فكتب الإمام الهادي(عليه السلام): «ليس هذا ديننا فاعتزله» [197] .

ظاهرة الزيارة و دورها في التحصين العقائدي

اشاره

إنّ ظاهرة الاهتمام بالزيارة لأهل البيت(عليهم السلام) جميعاً أو لآحاد من الأئمة(عليهم السلام) كالزيارة المعروفة بالجامعة الكبيرة أو زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام) هي خطوة مهمة في مجال تعميق الوعي وترسيخ الولاء والانشداد لأهل بيت الرسالة(عليهم السلام) وفي هذا التعميق الواعي والانشداد العاطفي تحصين عقائدي واضح تميّز به الإمام الهادي(عليه السلام). وحين نقف علي جملة المفاهيم التي وردت في هذه الزيارات نلمس بوضوح هذا الخط من التحصين العقائدي فيها. ولنقف بعض الوقت متأملين عند هاتين الزيارتين المأثورتين عن الإمام الهادي(عليه السلام):

الزيارة الجامعة الكبيرة
اشاره

عن موسي بن عمران النخعي قال: قلت لعلي بن محمد بن علي ابن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن [ صفحه 169] أبي طالب (عليهم السلام): علمني ياابن رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً إذا زرت واحداً منكم فقال(عليه السلام): قل: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، ومعدن الرسالة، وخزان العلم، ومنتهي الحلم، واُصول الكرم، وقادة الاُمم، وأولياء النعم، وعناصر الأبرار، ودعائم الأخيار، وساسة العباد، وأركان البلاد، وأبواب الايمان، واُمناء الرحمن، وسلالة النبيين، وصفوة المرسلين، وعترة خيرة رب العالمين، ورحمة الله وبركاته. وتعتبر هذه الزيارة من المصادر الفكرية المهمة ومن الوثائق التي نستل منها ملامح التصور السليم. ولذا نشير الي بعض ما جاء فيها من مفاهيم:

اصطفاء أهل البيت

في المقطع الأوّل الذي بدأت به الزيارة حدّد الإمام(عليه السلام) المعاني التالية: أ _ ان الله اختص أهل البيت(عليهم السلام) بكرامته فجعلهم موضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي. ب _ ان هذا الجعل الإلهي نابع من الصفات الكمالية التي يبلغون القمة فيها كالعلم والحلم والكرم والرحمة. ج _ إنّ أهل البيت(عليهم السلام) هم موضع الرسالة لأنّ الله قد اختارهم لمنصب القيادة العليا للبشرية فضلاً عن قيادة المسلمين. [ صفحه 170]

حركة أهل البيت

وقال الإمام الهادي (عليه السلام): «السلام علي ائمة الهدي ; ومصابيح الدجي، وأعلام التقي، وذوي النهي، وأولي الحجي، وكهف الوري، وورثة الانبياء، والمثل الاعلي، والدعوة الحسني، وحجج الله علي اهل الدنيا والآخرة والاولي ورحمة الله وبركاته، السلام علي محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سر الله، وحملة كتاب الله، واوصياء نبي الله، وذرية رسول الله (صلي الله عليه وآله) ورحمة الله وبركاته. السلام علي الدعاة إلي الله، والأدلاّء علي مرضات الله، والمستقرين في أمر الله، والتامين في محبة الله والمخلصين في توحيد الله، والمظهرين لأمر الله ونهيه وعباده المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ورحمة الله وبركاته». وقد دل هذا النصّ علي ما يلي: أ _ في المسيرة البشرية ينفرز دائماً خطان هما خط الهدي وخط الضلالة ولكل من الخطّين قيادته، وائمة أهل البيت هم ائمة الهدي اما غيرهم ممن يتصدي للإمامة مخالفاً لخطّ الهدي فهو من ائمة الضلال فلذلك لا يكون التلقي إلاّ منهم ولا يكون نهج التحرك إلاّ نهجهم. ب _ اما واقع الأئمة فهم ذوو العقول التامّة وكهف الوري وورثة الانبياء والمثل الاعلي والدعوة الحسني التي يحتذي بها. ج _ ان حركة أهل البيت حركة

اسلامية اصيلة ذات جذور ضاربة في الأعماق وهي استمرار المسيرة النبوية الراشدة وكل حركة تدّعي المنهج الديني أو الاصلاح الدنيوي ولا تسير علي خطاهم فهي منحرفة. فأهل البيت(عليهم السلام) محل معرفة الله، ومساكن بركته، ومعادن حكمته، وحفظة سره، وحملة كتابه، وأوصياء نبيه. د _ إنّ الدعاة مظاهر اصالة أهل البيت في المسيرة الإلهية كما يلي: [ صفحه 171] 1 _ أنّهم الدعاة إلي الله والأدلاء علي مرضاته. 2 _ ويتميّزون بالثبات علي أمر الله. 3 _ كما يتميّزون بالحب التام لله. 4 _ والاخلاص في التوحيد. 5 _ والاظهار لشعائر الله من امره ونهيه. 6 _ وعدم سبق الله بقول، والعمل بأمره.

الاسس الفكرية للتشيع

ويمكن ان نحدد نقاطاً توضح الاُسس الفكرية التي تقوم عليها دعوة أهل البيت والتي يجب ان تسير الحركة الشيعية عليها وتلتزم بحدودها من خلال قوله(عليه السلام): «السلام علي الأئمة الدعاة، والقادة الهداة، والسادة الولاة، والذادة الحماة، واهل الذكر، وأولي الأمر، وبقية الله وخيرته، وحزبه وعيبة علمه، وحجته وصراطه، ونوره وبرهانه ورحمة الله وبركاته. اشهد ان لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له كما شهد الله لنفسه وشهدت له ملائكته وأولوا العلم من خلقه لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم وأشهد أن محمداً عبده المنتخب ورسوله المرتضي ارسله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره المشركون. واشهد انكم الأئمة الراشدون المهديون المعصومون المكرمون المقربون المتقون الصادقون المصطفون المطيعون لله القوامون بأمره العاملون بإرادته الفائزون بكرامته. اصطفاكم بعلمه وارتضاكم لغيبه واختاركم لسره واجتباكم بقدرته واعزكم بهداه وخصكم ببرهانه وانتجبكم لنوره وأيّدكم بروحه ورضيكم خلفاء في ارضه وحججاً علي بريته وانصاراً لدينه وحفظة لسره وخزنة لعلمه ومستودعاً لحكمته وتراجمة لوحيه واركاناً لتوحيده

وشهداء علي خلقه واعلاماً لعباده ومناراً في بلاده وادلاء علي صراطه. [ صفحه 172] عصمكم الله من الزلل وآمنكم من الفتن وطهركم من الدنس وأَذهب عنكم الرجس وطهركم تطهيراً. فعظَّمتم جلاله واكبرتم شأنه ومجدتم كرمه وادمتم ذكره ووكدتم ميثاقه وأحكمتم عقد طاعته ونصحتم له في السر والعلانية ودعوتم إلي سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وبذلتم انفسكم في مرضاته وصبرتم علي الأذي في جنبه وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وجاهدتم في الله حق جهاده حتي أعلنتم دعوته وبينتم فرائضه وأقمتم حدوده ونشرتم شرايع احكامه وسننتم سنته وصرتم في ذلك منه إلي الرضا وسلمتم له القضاء وصدقتم من رسله من مضي». إنّ العناصر الفكرية الاساسية للتشيع والتي تستفاد من هذا النص هي: 1 _ الايمان بالله وحده لا شريك له. 2 _ محمد عبده المنتخب ورسوله المرتضي. 3 _ الأئمة هم بشر راشدون مهديون معصومون مكرمون وقيمتهم نابعة من تكريم الله لهم. علي أنّ الجانب العملي لحركة الأئمة هو كما يلي: 1 _ تعظيم الله واكبار شأنه وتمجيد كرمه. 2 _ توكيد ميثاقه وإحكام عقد طاعته. 3 _ النصح له بالسر والعلن. 4 _ الدعوة له بالحكمة والموعظة الحسنة. 5 _ التضحية المستمرة في سبيل الله ببذل النفس والصبر علي المكروه. 6 _ اقامة الصلاةوايتاءالزكاةوممارسة باقي العبادات والحدودالإسلامية. 7 _ الحفاظ علي سلامة الشريعة من التحريف. 8 _ التسليم بالقضاء والقدر. 9 _ التأكيد علي وحدة المسيرة النبوية وتصديق الرسل. [ صفحه 173]

الموالون لأهل البيت

وبيّن الإمام انّ هناك صنفين من الناس قسم يوالي أهل البيت(عليهم السلام) فيسير في طريق الهدي وآخر يوالي اعداءهم فيسير في طريق الضلال، قال(عليه السلام): «فالراغب عنكم مارق واللازم لكم

لاحق والمقصر في حقكم زاهق. والحق معكم وفيكم ومنكم واليكم وانتم اهله ومعدنه وميراث النبوة عندكم وإياب الخلق اليكم وحسابهم عليكم وفصل الخطاب عندكم وآيات الله لديكم وعزائمه فيكم ونوره وبرهانه عندكم وأمره اليكم. مَنْ والاكم فقد والي الله ومَنْ عاداكم فقد عادي الله ومَنْ أحبّكم فقد أَحبَّ الله ومن ابغضكم فقد ابغض الله ومن اعتصم بكم. فقد اعتصم بالله. وانتم الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء والرحمة الموصولة والآية المخزونة والامانة المحفوظة والباب المبتلي به الناس. مَنْ أتاكم نجي ومَنْ لم يأتِكم هلك. إلي الله تدعون وعليه تدلّون وبه تؤمنون وله تسلّمون وبأمره تعملون والي سبيله ترشدون وبقوله تحكمون. سَعَدَ من والاكم وهلك من عاداكم وخاب من جحدكم وضلّ من فارقكم وفاز من تمسك بكم وأمن من لجأَ اليكم وسلم من صدقكم وهدي من اعتصم بكم. من اتبعكم فالجنة مأواه ومن خالفكم فالنار مثواه ومن جحدكم كافر ومن حاربكم مشرك ومن رد عليكم في اسفل درك من الجحيم». الحقيقة الثانية: إنّ الموالي لأهل البيت(عليهم السلام) يعلم قيمتهم الحقيقية عند الله لذلك نجده يقول(عليه السلام): [ صفحه 174] «أشهدُ أنَّ هذا سابق لكم فيما مضي وجار لكم فيما بقي وان ارواحكم ونوركم وطينتكم واحدة طابت وطهرت بعضها من بعض. خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين حتي مَنَّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذِنَ اللهُ ان تُرفع ويُذكر فيها اسمه. وجعل صلواتنا عليكم وما خصنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا وطهارة لأنفسنا وتزكية لنا وكفارة لذنوبنا فكنا عنده مسلمين بفضلكم ومعروفين بتصديقنا اياكم». الحقيقة الثالثة: الرغبة في انتشار امرهم وتشعشع فضلهم فلا يبقي خير إلاّ وأضاءه نورهم الشريف. «فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين

وأعلي منازل المقربين وأرفع درجات المرسلين حيث لا يلحقه لاحق ولا يفوقه فائق ولا يسبقه سابق ولا يطمع في ادراكه طامع حتي لا يبقي ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صدّيق ولا شهيد ولا عالم ولا جاهل ولا دنيُّ ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح ولا جبّار عنيد ولا شيطان مريد ولا خلق فيما بين ذلك شهيد إلاّ عرفهم جلالة امركم وعظم خطركم وكبر شأنكم وتمام نوركم وصدق مقاعدكم وثبات مقامكم وشرف محلكم ومنزلتكم عنده وكرامتكم عليه وخاصتكم لديه وقرب منزلتكم منه.» الحقيقة الرابعة: الاقرار الدائم بمعتقدات أهل البيت(عليهم السلام) والعمل بموجبها: «بأبي أنتم وأمي وأهلي ومالي وأسرتي أُشهد الله وأُشهدكم اني مؤمن بكم وبما آمنتم به، كافر بعدوكم وبما كفرتم به، مستبصر بشأنكم وبضلالة من خالفكم موال لكم ولأوليائكم مبغض لاعدائكم ومعاد لهم سِلْمٌ لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم محقق لما حققتم مبطل لما ابطلتم مطيع لكم عارف بحقكم مقر بفضلكم محتمل لعلمكم». ومن مصاديق الإيمان بقضية أهل البيت قول الإمام(عليه السلام): [ صفحه 175] «محتجب بذمتكم ومعترف بكم مؤمن بإيابكم مُصدِّق برجعتكم منتظر لأمركم مرتقب لدولتكم آخذ بقولكم عامل بأمركم مستجير بكم زائر لكم عائذ بقبوركم مستشفع الي الله عزوجل بكم ومتقرب بكم إليه ومقدمكم امام طلبتي وحوائجي وارادتي في كل احوالي واُموري مؤمن بسركم وعلانيتكم وشاهدكم وغائبكم وأولكم وآخركم ومفوض في ذلك كله اليكم ومسلم فيه معكم وقلبي لكم مسلم ورأيي لكم تبع ونصرتي لكم مُعدَّة حتي يحيي الله تعالي دينه بكم ويردّكم في ايامه ويظهركم لعدله ويُمكّنكم في ارضه فمعكم معكم لا مع غيركم آمنت بكم وتوليت آخركم بما توليت به أولكم وبرئت إلي الله عزوجل من اعدائكم ومن

الجبت والطاغوت والشياطين وحزبهم الظالمين لكم الجاحدين لحقّكم والمارقين من ولايتكم الغاصبين لإرثكم الشاكين فيكم المنحرفين عنكم ومن كل وليجة دونكم وكل مطاع سواكم ومن الأئمة الذين يدعون إلي النار. فثبتني الله ابداً ما حييت علي موالاتكم ومحبتكم ودينكم ووفقني لطاعتكم ورزقني شفاعتكم وجعلني من خيار مواليكم التابعين لما دعوتم إليه وجعلني ممن يقتصُّ آثاركم ويسلك سبيلكم ويهتدي بهديكم ويحشر في زمرتكم ويكرّ في رجعتكم ويُملَّك في دولتكم ويشرّف في عافيتكم ويُمكَّن في ايامكم وتقر عينه غداً برؤيتكم. بأبي أنتم واُمي ونفسي واهلي ومالي من اراد الله بدأ بكم ومن وحَّدهُ قبل عنكم ومن قصده توجه بكم. مواليّ لا أحصي ثناءكم ولا ابلغ من المدح كنهكم ومن الوصف قدركم وانتم نور الأخيار وهداة الابرار وحجج الجبار. بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء ان تقع علي الارض إلاّ باذنه وبكم يُنفّس الهم ويكشف الضر. وعندكم ما نزلت به رسله وهبطت به ملائكته والي جدّكم بُعث الروح الامين، آتاكم الله ما لم يُؤتِ احداً من العالمين. [ صفحه 176] طأطأ كل شريف لشرفكم وبخع كل متكبر لطاعتكم وخضع كل جبار لفضلكم وذل كل شيء لكم واشرقت الارض بنوركم وفاز الفائزون بولايتكم بكم يُسلك إلي الرضوان وعلي من جحد ولايتكم غضب الرحمن. بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي ذكركم في الذاكرين واسماؤكم في الأسماء وأجسادكم في الاجساد وأرواحكم في الأرواح وأنفسكم في النفوس وآثاركم في الآثار وقبوركم في القبور فما أحلي اسماءكم وأكرم انفسكم وأعظم شأنكم وأجلَّ خطركم وأوفي عهدكم وأصدق وعدكم. كلامكم نور وأمركم رشد ووصيتكم التقوي وفعلكم الخير وعادتكم الإحسان وسجيتكم الكرم وشأنكم الحق والصدق والرفق وقولكم حكم وحتم ورأيكم علم

وحلم وحزم، إنْ ذُكِرَ الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه. بأبي انتم واُمي ونفسي كيف أصف حسن ثنائكم واحصي جميل بلائكم وبكم أخرَجنا الله من الذل وفَرّج عنا غمرات الكروب وأنقذنا من شفا جرف الهلكات ومن النار. بأبي أنتم واُمي ونفسي بموالاتكم علّمنا الله معالم ديننا وأصلح ما كان فسد من دنيانا وبموالاتكم تَمَّت الكلمة وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة ولكم المودة الواجبة والدرجات الرفيعة والمقام المحمود والمكان المعلوم عند الله عزوجل والجاه العظيم والشأن الكبير والشفاعة المقبولة. (ربَّنا آمنّا بما انزلت واتبعنا الرسول فاكتُبنا مع الشاهدين) (ربَّنا لا تُزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب) (سبحان ربنا ان كان وَعدُ ربنا لمفعولاً). يا أولياء الله ان بيني وبين الله عزوجل ذنوباً لا يأتي عليها إلاّ رضاكم فبحق من ائتمنكم علي سره واسترعاكم امر خلقه وقرن طاعتكم بطاعته لمّا استوهبتم ذنوبي وكنتم [ صفحه 177] شفعائي فإني لكم مطيع. من أطاعكم فقد أطاع الله ومن عصاكم فقد عصي الله ومن أحبّكم فقد أحبَّ الله ومن أبغضكم فقد أبغض الله. اللهم اني لو وجدت شفعاء اقرب اليك من محمد وأهل بيته الأخيار الأئمة الابرار لجعلتهم شفعائي فبحقهم الذي اوجبت لهم عليك اسألك ان تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقهم وفي زمرة المرحومين بشفاعتهم إنّك ارحم الراحمين وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً وحسبنا الله ونعم الوكيل. ومن هذه الفقرات نستلهم النقاط التالية: 1 _ ضرورة الإيمان بإيابهم وقيام دولتهم. 2 _ أهمية زيارة قبورهم. 3 _ أهمية الإيمان بالرجعة. 4 _ أهمية الايمان بسرهم وعلانيتهم. 5 _ ضرورة الاستعداد لنصرة دولتهم لحد

التمكين في الارض. 6 _ ضرورة البراءة من عدوهم. 7 _ فرح المؤمن بما رزقه الله علي يد أهل البيت. 8 _ إنّ وحدة المسلمين السليمة لا تتم إلاّ تحت لوائهم (عليهم السلام). 9 _ إنّ الايمان بهم لا يكون عاطفياً بل يكون عن وعي وادراك وبحث وتمحيص [198] . [ صفحه 178]

زيارة الغدير

من أهم زيارات الأئمة الطاهرين _ عند الشيعة الإمامية _ زيارة الغدير فقد اهتموا بها اهتماماً بالغاً، لانها رمز لذلك اليوم الخالد في دنيا الاسلام، ذلك اليوم الذي قرّر فيه الرسول (صلي الله عليه وآله) المصير الحاسم لأمته، فنصب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) خليفة علي المسلمين. وقد زار الإمام أبو الحسن الهادي (عليه السلام) جدّه أمير المؤمنين في السنة التي أشخصه فيها المعتصم من يثرب إلي سر من رأي [199] . نعم زاره بهذه الزيارة التي هي من أروع وأجل الزيارات، فقد تحدّث فيها عن فضائل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وما عاناه في عصره من المشاكل السياسية والاجتماعية. وإليك بعض ما حفلت به هذه الزيارة التي هي من ملاحم أهل البيت(عليهم السلام): 1 _ تحدّث الإمام أبو الحسن الهادي (عليه السلام) في زيارته (الغديرية) عن أنّ جده الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أول من أسلم وآمن بالله واستجاب لدعوة نبيه، قال (عليه السلام) مخاطباً جدّه: «وأنت أوّل من آمن بالله وصلي له، وجاهد، وأبدي صفحته في دار الشرك، والارض مشحونة ضلالة والشيطان يعبد جهرة...». لقد تظافرت الأخبار بأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أول من أذعن لرسالة خاتم النبيّين، واستجاب لنداء الله ودعي الي دين الله بعد رسول الله، فقد روي ابن اسحاق، قال: [ صفحه 179] كان

أول ذكر آمن برسول الله (صلي الله عليه وآله) وصلي معه، وصدق بما جاءه من عند الله علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يومئذ ابن عشر سنين [200] . وروي الطبراني بسنده عن أبي ذرّ قال: أخذ رسول الله (صلي الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) فقال: «هذا أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة...» [201] . وقال رسول الله (صلي الله عليه وآله) لعائشة: «هذا علي بن أبي طالب أول الناس ايماناً» [202] . وكثير من أمثال هذه الاخبار قد اعلنت ذلك. 2 _ وتحدث الإمام (عليه السلام) في زيارته عن جهاد الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) وبسالته وشجاعته وصموده في الحروب قائلاً: «ولك المواقف المشهودة، والمقامات المشهورة، والأيام المذكورة يوم بدر، ويوم الأحزاب (... وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا - هنالك اُبتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً - وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً - واذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم بها فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون ان بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فراراً) [203] . وقال الله تعالي: (ولما رأي المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا ايماناً وتسليماً) [204] . فقتلت عمرهم وهزمت جمعهم، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفي الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً، ويوم أحد اذ يصعدون ولا يلوون علي احد والرسول يدعوهم في اُخراهم وانت تذود بهم المشركين عن النبي (صلي الله عليه وآله) ذات اليمين [ صفحه 180] وذات الشمال حتي ردّهم الله تعالي عنها

خائفين ونصر بك الخاذلين. ويوم حنين علي ما نطق به التنزيل (اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم انزل الله سكينته علي رسوله وعلي المؤمنين). والمؤمنون انت ومن يليك، وعمك العباس ينادي المنهزمين يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، فاستجاب له قوم قد كفيتهم المؤونة وتكلفت دونهم المعونة، فعادوا آيسين من المثوبة، راجين وعد الله تعالي بالتوبة، وذلك قول الله جل ذكره: (ثم يتوب الله من بعد ذلك علي من يشاء). وأنت حائز درجة الصبر، فائز بعظيم الأجر. ويوم خيبر اذ اظهر الله خور المنافقين، وقطع دابر الكافرين _ والحمدلله رب العالمين _ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار، وكان عهد الله مسؤولاً. واضاف الإمام قائلاً: وشهدت مع النبي (صلي الله عليه وآله) جميع حروبه ومغازيه، تحمل الراية امامه، وتضرب بالسيف قدامه، ثم لحزمك المشهور وبصيرتك في الاُمور أمّرك في المواطن، ولم يكن عليك أمير...». 3 _ وعرض الإمام في زيارته إلي مبيت الإمام علي فراش النبي(صلي الله عليه وآله)، ووقايته له بنفسه حينما اجمعت قريش علي قتله، فكان الإمام الفدائي الأول في الاسلام، يقول (عليه السلام): «وأشبهت في البيات علي الفراش الذبيح (عليه السلام) اذ أجبت كما أجاب، وأطعت كما أطاع اسماعيل محتسباً صابراً اذ قال: (يابنيّ إني أري في المنام أني اذبحك فانظر ماذا تري قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين). وكذلك انت لما أباتك النبي (صلي الله عليه وآله) وأمرك ان تضطجع في مرقده واقياً له بنفسك اسرعت إلي اجابته مطيعاً، ولنفسك علي القتل موطناً فشكر الله تعالي طاعتك وأبان من جميل فعلك

بقوله جلّ ذكره: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) [205] . [ صفحه 181]

التحصين العلمي

إنّ النقطة الجوهرية لتحقيق ورفع المستوي العلمي الذي تحتاجه الجماعة الصالحة هي تربية العلماء والكفاءات العلمية المتخصّصة في مختلف الفروع العلمية الإسلامية. ثمّ إعطاء العلماء بالشريعة الدور المتميّز في المجتمع الإسلامي. وهذا ما سار عليه أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بلا استثناء. وتميّز عصر الإمام الهادي(عليه السلام) بأنه العصر الممهّد لعصر الغيبة حيث ينقطع الناس عن إمامهم ولا يبقي للناس أيّ ملجأ فكريّ وديني سوي العلماء بالله الاُمناء علي حلاله وحرامه. ومن هنا كان اهتمام الإمامين العسكريين بالعلماء بليغاً جدّاً حيث عُبّر عنهم بأنّهم الكافلون لأيتام آل محمد، وكان التبجيل والإجلال في سيرة الإمام الهادي(عليه السلام) لمثل هؤلاء العلماء ملفتاً للنظر جدّاً [206] . ومن يقرأ تراث الإمام الهادي(عليه السلام) يلاحظ استمرار العطاء العلمي في هذا العصر الي جانب الاهتمام بايضاح المنهج العلمي الذي كان يبتغيه أهل البيت(عليهم السلام) والتصدّي منهم لتعميقه. وتكفي قراءة سريعة لرسالة الإمام الهادي(عليه السلام) الي أهل الأهواز لتلمّس مدي اهتمامه(عليه السلام) بالتأصيل النظري وبالتربية علي سلوك المنهج العلمي السليم [207] . [ صفحه 182]

التحصين التربوي

بالرغم من كل الظروف التي فرضت علي الإمام الهادي(عليه السلام) لعزله عن شيعته ومحبّيه فإنّا نجد الإمام(عليه السلام) يمارس مسؤولياته التربوية بكل ما يتسني له من الوسائل التي تكون أبلغ في التأثير، فهو تارة يدعو لبعض شيعته ويتوجّه الي الله ليقضي حوائجهم، واُخري يلبّي حاجاتهم المادية فيسعفهم بمقدار من المال. وثالثة يباشرهم بالكلام الصريح حول المزالق التي تنتظرهم. فهذا أخوه موسي الذي نصب له المتوكل مصيدة ليوقعه فيما هو غير لائق به ويفضحه ويفضح أخاه الإمام الهادي(عليه السلام) يتصدّي الإمام بنفسه ليواجهه قبل أن يلتقي بالمتوكل ويحاول أن يبصّره بحقيقة ما ينتظره من مخاوف وأخطار معنوية

[208] . وفي أكثر من مورد يبادر الإمام(عليه السلام) لتقديم تجربة حسيّة يعيش من خلالها اتباعه معني التوجه الي الله واللجأ إليه في المهمّات ثم يبصّرهم بعد ذلك أهمية هذا المبدأ. فعن أبي محمد الفحّام بالإسناد عن أبي الحسن محمد بن أحمد قال: حدثني عمّ أبي قال: قصدت الإمام يوماً فقلت انّ المتوكّل قطع رزقي وما اتّهم في ذلك إلاّ علمه بملازمتي لك، فينبغي أن تتفضل عليّ بمسألته فقال: تكفي إن شاء الله فلما كان في الليل طرقني رسل المتوكل رسولاً يتلو رسولاً، فجئت اليه فوجدته في فراشه فقال: يا أبا موسي تشغل شغلي عنك وتنسينا نفسك أي شيء لك عندي؟ فقلت: الصّلة الفلانية، وذكرت أشياء فأمر لي بها وبضعفها، فقلت للفتح وافي عليّ بن محمد الي هيهنا وكتب رقعة؟ قال: لا، قال: فدخلت علي الإمام فقال لي: يا أبا موسي هذا وجه الرضّا، قلت: يا سيّدي ولكن قالوا انّك ما مضيت [ صفحه 183] اليه ولا سألت قال: إنّ الله تعالي علم منّا انّا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه وعوّدنا إذا سألناه الإجابة ونخاف أن نعدل فيعدل. وعن علي بن جعفر قال: عرضت مؤامرتي علي المتوكل فأقبل عليّ عبيدالله ابن يحيي فقال: لا تتعبن نفسك، فانّ عمر بن أبي الفرج أخبرني أنه رافضي فانه وكيل علي بن محمد، فأرسل عبيدالله إليّ فعرفني أنه قد حلف ألا يخرجني من الحبس إلاّ بعد موتي بثلاثة أيام. قال فكتب الي أبي الحسن: ان نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ، فوقّع إلي: اما إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا، فسأقصد الله تبارك وتعالي فيك. فما انقضت أيام الجمعة حتي خرجت

من الحبس [209] . ويمكن تلخيص المنهج العام للتربية وبناء الذات عند الإمام الهادي(عليه السلام) بما يلي: 1 _ التوجيه التربوي من خلال الأحاديث التربوية التي تقدّم للإنسان أهم المفاهيم التربوية [210] . 2 _ التأكيد علي طاعة الله تعالي. 3 _ التأكيد علي أهمية التوجه الي الله في الحوائج وعدم طلب الحوائج من غيره [211] . 4 _ أهمية الدعاء والالتزام به في بلورة روح التوحيد والتوكّل علي الله. 5 _ الدعاء للمؤمنين. 6 _ السعي في قضاء حوائجهم. 7 _ الربط العاطفي بالقدوة الصالحة المتمثلة في أهل البيت(عليهم السلام) من خلال زياراتهم ودراسة سيرتهم. [ صفحه 184] وأما دعاؤه للمؤمنين وسعيه في قضاء حوائجهم فيشهد له ما يلي: 1 _ ما مرّ من أن الإمام(عليه السلام) أجاب علي كتاب عمر بن أبي الفرج إليه بأنّ نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ فوقّع الإمام(عليه السلام) إليه: أما إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا فسأقصد الله تبارك وتعالي فيك. فما انقضت أيام حتي خرج من الحبس [212] . 2 _ روي المجلسي عن الخرائج: روي عن محمد بن الفرج أنه قال: إن أبا الحسن كتب إليّ: أجمع أمرك، وخذ حذرك، قال: فأنا في جمع أمري لست أدري ماالذي أراد فيما كتب به إليّ حتي ورد عليّ رسول حملني من مصر مقيّداً مصفّداً بالحديد، وضرب علي كلّ ما أملك. فمكث في السجن ثماني سنين ثم ورد عليّ كتاب من أبي الحسن(عليه السلام) وأنا في السجن «لا تنزل في ناحية الجانب الغربيّ» فقرأت الكتاب فقلت في نفسي: يكتب إلي أبو الحسن (عليه السلام) بهذا وأنا في الحبس إنّ هذا لعجيب! فما مكث إلاّ أياماً يسيرة حتي

اُفرج عني، وحلّت قيودي وخلّي سبيلي. ولما رجع الي العراق لم يقف ببغداد لما أمره أبو الحسن(عليه السلام) وخرج الي سرّ من رأي. قال: فكتبت إليه بعد خروجي أسأله أن يسأل الله ليردّ عليّ ضياعي فكتب إليّ سوف يردّ عليك، وما يضرّك أن لا تردّ عليك. قال علي بن محمد النوفلي: فلما شخص محمد بن الفرج الي العسكر كتب له بردّ ضياعه، فلم يصل الكتاب إليه حتي مات [213] . وقضاء حوائج المؤمنين بالإضافة الي دوره التربوي يعدّ خطوة من خطوات التحصين الاقتصادي لهم، حيث يشكّل عاملاً من عوامل استقلالهم وعدم اضطرارهم للخضوع الي كثير ممّا يستذلّ به الحكّام رعيّتهم. [ صفحه 185]

التحصين الأمني

اشاره

لقد مارس الإمام الهادي (عليه السلام) وظيفته بصفته الإمام والقائد لمواليه والراعي لمصالحهم بالرغم من الظروف الصعبة التي كانت تمر بالامام (عليه السلام) وبشيعته من تتبع السلطة لهم ومطاردتهم وفرض الاقامة الجبرية علي الإمام بعد اشخاصه من المدينة إلي سامراء ليكون قريباً من السلطان وتحت رقابته، وتتجلي لنا مواقف الإمام (عليه السلام) في هذا الاتجاه في المحافظة التامة علي شيعته ورعاية مصالحهم الخاصّة والعامّة وقضاء حوائجهم وتحذيرهم ممّا تحوكه السلطة ضدّهم، وما يجب أن يتخذوه من حيطة وكتمان لنشاطهم واتصالاتهم حتي لا يقعوا في حبائل السلطة الغاشمة التي كانت تتربص بهم وبالإمام(عليه السلام) الدوائر. إنّ وصايا الإمام (عليه السلام) لأتباعه تظهر مدي اهتمامه بما يجري في الساحة أوّلاً، ومدي قربه من الأحداث العامة والخاصة ثانياً. وكانت أوامره تصل الجماعة الصالحة بشكل دقيق وسريع بل قد تكون سابقة للاحداث في بعض الأحيان لتتمكن تلك الجماعة من تجاوز ما يحاك ضدها. كما ان اجراءات الإمام وأساليبه كانت مظهراً لعمل حركي وتنظيمي وعلي درجة

عالية من الدقة والتخطيط، وهذا ما تكشفه لنا خطابات الإمام (عليه السلام) إلي شيعته والتي كانت تحمل بين طياتها ادوات ووسائل مختلفة ومتعددة لمواجهة الظروف التي تحيط بها. وإليك بعض أساليبه ووسائله وتعليماته الخاصّة بهذا الصدد: [ صفحه 186]

الحذر من تدوين الامور

كان الإمام (عليه السلام) يحذر اصحابه من تدوين وكتابة بعض الاُمور وخصوصاً ما كان يتعلق بعلاقات ووضع الجماعة الصالحة ومواقفها، فعن داود الصرمي قال: أمرني سيدي بحوائج كثيرة فقال (عليه السلام) لي: قل كيف تقول؟ فلم احفظ مثل ما قال لي، فمدّ الدواة وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم اذكره ان شاء الله والأمر بيد الله»، فتبسمت، فقال (عليه السلام): ما لك؟ قلت: خير، فقال اخبرني؟ قلت جعلت فداك ذكرت حديثاً حدثني به رجل من اصحابنا عن جدك الرضا (عليه السلام) إذا أمر بحاجة كتب بسم الله الرحمن الرحيم، اذكر ان شاء الله فتبسمت، فقال(عليه السلام) لي: يا داود ولو قلت: إنّ تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً [214] . فالإمام (عليه السلام) هنا يربط الكتمان والحذر بمفهوم اسلامي وهو «التقية» والتي وردت بها احاديث وآيات كريمة كقوله تعالي: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)وكذا قوله تعالي: (إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان)، وهي الآية التي نزلت في قضية عمار بن ياسر (رضي الله عنه) حيث عذّبه المشركون في مكة لكي ينال من الرسول ويتركوه، ثم جاء الي الرسول (صلي الله عليه وآله) فقال له: ان عادوا فعد. فلم تكن أوامر الإمام (عليه السلام) بهذا الصدد فقط خشية من انكشافها بل إنه طرحها تأكيداً لهذا المفهوم الذي عرفت به الشيعة منذ نشوئها امتثالاً لوصايا الأئمة(عليهم السلام) والقرآن الكريم. [ صفحه 187]

تغيير الاسماء

كان الإمام (عليه السلام) يذكر في توقيعاته إلي بعض أصحابه وينسبهم إلي عبيد ابن زرارة وكانوا قد عرفوا ببني الجهم وهم من أكابر بيوت الشيعة وأصحاب الأئمة (عليهم السلام)، فعن الزراري (أحدهم) قال: إن ذلك تورية وستراً من قبل الإمام(عليه السلام) ثم اتسع ذلك وسمّينا

به وكان(عليه السلام) يكاتبه في اُمور له بالكوفة وبغداد [215] .

التحذير من الحديث في الأماكن العامة

كان الإمام(عليه السلام) يمنع بعض أصحابه من الحديث والمساءلة في الطريق وغيره من الأماكن التي يكون فيها عيون للسلطان. فعن محمد بن شرف قال: كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) أمشي في المدينة فقال لي: ألست ابن شرف؟ قلت بلي، فأردت أن اسأله عن مسألة فابتدأني من غير أن أسأله فقال: «نحن علي قارعة الطريق وليس هذا موضع مسألة».

النفوذ في جهاز السلطة

لقد استولي بنو العباس علي السلطة وتولّوا أمر الاُمّة بالقهر والغلبة بعد سقوط الدولة الاُموية سنة (132 ه_)، وعاثوا في الأرض الفساد حيث استشري أمرهم فكان القتل والتشريد وابتزاز الأموال علي قدم وساق ولم تكن حكومتهم ذات شرعية اسلامية، ومن هنا كان العمل معهم غير مشروع، وقد كتب محمد بن علي بن عيسي _ أحد أصحاب الإمام (عليه السلام) _ إلي [ صفحه 188] الإمام الهادي(عليه السلام) يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ ما يتمكن من أموالهم، هل فيه رخصة؟ فقال(عليه السلام): «ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل به العذر، وما خلا ذلك فمكروه، ولا محالة قليله خير من كثيره، وما يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه ويسبب علي يديه ما يسرك فينا وفي موالينا». ولما وافي كتاب الإمام (عليه السلام) إلي محمد بن علي بن عيسي بادر فكتب للإمام (عليه السلام): «ان مذهبي في الدخول في امرهم وجود السبيل إلي ادخال المكروه علي عدوه وانبساط اليد في التشفي منهم بشيء أتقرب به إليهم، فأجاب الإمام (عليه السلام) من فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً بل أجراً وثواباً» [216] . لقد وضع الإمام (عليه السلام) في النصين أعلاه ضوابط العمل مع السلطان الجائر التي تتلخص في توفير وسيلة لإضعاف الظالمين أو

تحقيق خدمة لمواليه المظلومين.

نظام الوكلاء

بعد أن أكّد الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) علي دورهم القيادي الديني في أوساط الجماعة الصالحة وأوضحوا أهمية الولاء لهم، وأخذت تتسع الرقعة الجغرافية لأتباع أهل البيت(عليهم السلام)، واحتاجوا الي من يلبّي حاجاتهم الدينية ويكون حلقة وصل بينهم وبين أئمتهم(عليهم السلام) بادر الأئمة(عليهم السلام) الي تعيين الوكلاء المعتمدين لهم في مختلف المناطق وأرجعوا اليهم أتباعهم. [ صفحه 189] والمهامّ التي تولاّها الوكلاء لهم تمثّلت في بيان الأحكام الشرعية والمواقف السياسية والاجتماعية، وتوجيه النصائح الأخلاقية والتربوية، واستلام الحقوق الشرعية وتوزيعها، وفصل النزاعات وتولّي الأوقاف واُمور القاصرين الذين لا وليّ لهم. وتعتبر الوثاقة أو العدالة شرطاً أساسياً في الوكيل فضلاً عن إيمانه ومعرفته بأحكام الشريعة وشؤونها، ولباقته السياسية وقدرته علي حفظ أسرار الإمام وأتباعه من الحكّام وعيونهم. والوكلاء منهم من يرتبط بالإمام(عليه السلام) بشكل مباشر ومنهم من يرتبط به بواسطة وكيل آخر يعتبر محوراً لمجموعة من الوكلاء في مناطق متقاربة. ويعود تاريخ تأسيس هذا النظام الي عصر الإمام الصادق(عليه السلام) أو من سبقه من الأئمة(عليهم السلام) غير أنه قد اتّسع نطاقه وبدأ يتكامل بعد عصر الإمام الصادق(عليه السلام) نظراً للتطورات السياسية والمشاكل الأمنية التي أخذت تحيط بالجماعة الصالحة وتهدد وجودهم وكيانهم. ومنذ عصر الإمام الجواد(عليه السلام) وحتي ابتداء الغيبة الصغري كان لهذا النظام دور فاعل وكبير جداً في حفظ كيان الجماعة الصالحة ووقايته من التفتت والانهيار. وبفضل هذا النظام والعناصر الفاعلة فيه أصبح الانتقال الي عصر غيبة الإمام المهدي(عليه السلام) ميسوراً، وقلّت المخاطر الناشئة من ظاهرة الغيبة للإمام المعصوم الي حدّ كان نظام الوكلاء بكل خصائصه قد تطوّر الي نظام النيابة الخاصة في عصر الغيبة الصغري فكان السفير هو النائب الخاص الذي

يقوم بدور الإمام الموجّه لمجموعة الوكلاء... وهو الذي يقوم بدور الوساطة بين الإمام والوكلاء وبين الإمام واتباع الإمام عبر هؤلاء الوكلاء. أما مناطق النفوذ ومناطق تواجد الوكلاء، ففي الحجاز كانت المدينة [ صفحه 190] ومكة واليمن، وفي العراق، كانت الكوفة وبغداد وسامراء وواسط والبصرة، وفي ايران كانت خراسان الكبري _ بما فيها نيسابور وبيهق وسبزوار وبخارا وسمرقند وهرات، وقم وآوه والري وقزوين و همدان وآذربايجان وقرميسين والأهواز وسيستان وبست، وفي شمال افريقيا كانت مصر أيضاً من مناطق تواجد أتباع أهل البيت(عليهم السلام) التي استقرّ فيها وكلاؤهم وقاموا بدور همزة الوصل المهمة وحقّقوا بذلك جملة من مهامّ الأئمة(عليهم السلام).

وكلاء الإمام الهادي

قد وقفنا علي أسماء جملة من وكلاء الإمام الهادي(عليه السلام) في مختلف المناطق وهم: 1 _ إبراهيم بن محمد الهمداني. 2 _ أبو علي بن راشد. 3 _ أحمد بن إسحاق الرازي. 4 _ علي بن جعفر الوكيل. 5 _ محمد بن إبراهيم بن مهزيار. 6 _ الحسين بن عبدربّه. 7 _ أبو علي بن بلال. 8 _ أيوب بن نوح. 9 _ جعفر بن سهيل الصيقل. 10 _ علي بن مهزيار الأهوازي. 11 _ فارس بن حاتم. 12 _ علي بن الحسين بن عبدربّه 13 _ عثمان بن سعيد العمري. [ صفحه 191] وقد انحرف بعضهم عن الطريق الذي رُسم له، وكان الأئمة(عليهم السلام) يوضحون الأمر عند انحراف بعض الوكلاء عن الطريق المقرر لهم حينما كانت تغريهم الأموال التي يحصلون عليها فيستغلون منصب الوكالة لأغراض دنيوية مادية. ولا يسمحون لهم باغراء الناس واستغلالهم. إنّ جهاز الوكلاء الذي عرفنا مهامّه يعتبر أحد عوامل التحصين الأمني للجماعة الصالحة في عصر الإمام بالنسبة للإمام وبالنسبة لأتباعه أيضاً. وسوي

هذه المهمّة الكبيرة يساهم نظام الوكلاء في التحصين الاقتصادي والقضائي والسياسي للجماعة الصالحة. فهو جهاز حسّاس ومهمّ للغاية، وهذا هو السبب في اهتمام الأئمة (عليهم السلام) به وسعيهم المتواصل لتطويره والسهر علي صيانته من عوامل الضعف والانهدام. وسوف نري ضرورة تكوين هذا الجهاز من حيث انّه خير وسيلة لإعداد الجماعة الصالحة للدخول في عصر الغيبة والحيلولة دون تأثير صدمة الغيبة والانقطاع عن الإمام المعصوم(عليه السلام) علي أتباع أهل البيت(عليهم السلام) الذين ألفوا رؤية الإمام واللقاء به خلال قرنين ونصف قرن من الزمن.

التحصين الاقتصادي

عرفنا ممّا ذكر أن التحصين الاقتصادي هو أحد الأهداف المنظورة في تخطيط أهل البيت(عليهم السلام) للجماعة الصالحة التي أرادوا لها أن تستقل في كيانها وتبتعد عن عوامل الضعف والانهيار التي تفرضها الظروف السياسية أو الاقتصادية العامة. ولنظام الوكلاء دور مهم في هذا التحصين، كما أن الإمام(عليه السلام) بنفسه كان يباشر قضاء حوائجهم المادية في جملة من الأحيان. [ صفحه 192] دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد وأحمد بن اسحاق الأشعري وعليّ بن جعفر الهمداني علي أبي الحسن العسكريّ فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه، فقال: يا أبا عمر _ وكان وكيله _ إدفع إليه ثلاثين ألف دينار والي عليّ بن جعفر ثلاين ألف دينار وخذ أنت ثلاثين ألف دينار [217] . وعن أبي هاشم قال: شكوت إليه قصور يدي فأهوي بيده الي رمل كان عليه جالساً فناولني منه كفّاً وقال: اتّسع بهذا. فقلت لصايغ: اسبك هذا فسبكه وقال: ما رأيت ذهباً أشدّ حمرة منه [218] . وعن عبدالله بن عبدالرحمن الصّالحي أنّه شكا أبوهاشم الي أبي الحسن(عليه السلام) ما لقي من السوق إليه إذا انحدر من عنده الي بغداد وقال: يا

سيّدي اُدع الله لي فمالي مركوب سوي برذوني هذا علي ضعفه. قال: قوّاك الله يا أبا هاشم وقوي برذونك. قال: وكان أبو هاشم يصلي الفجر ببغداد والظهر بسر من رأي والمغرب ببغداد إذا شاء [219] . وبهذا نختم الكلام عن الخطوط العامة لدور الإمام(عليه السلام) في إكمال بناء الجماعة الصالحة وتحصينها واعدادها للدخول الي عصر الغيبة الذي سوف تقترب منه بسرعة. [ صفحه 193]

الامام الهادي في ذمة الخلود

استشهاد الإمام الهادي

ظلّ الإمام الهادي(عليه السلام) يعاني من ظلم الحكّام وجورهم حتّي دُسّ إليه السمّ كما حدث لآبائه الطّاهرين، وقد قال الإمام الحسن(عليه السلام): ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم [220] . قال الطبرسي وابن الصباغ المالكي: في آخر ملكه (أي المعتز)، استشهد وليّ الله علي بن محمد(عليهما السلام) [221] . وقال ابن بابويه: وسمّه المعتمد [222] . وقال المسعودي: وقيل إنّه مات مسموماً [223] ; ويؤيد ذلك ما جاء في الدّعاء الوارد في شهر رمضان: وضاعف العذاب علي من شرك في دمه [224] . وقال سراج الدين الرفاعي في صحاح الأخبار: «وتوفي شهيداً بالسم في خلافة المعتز العباسي...». وقال محمد عبدالغفار الحنفي في كتابه ائمة الهدي: فلما ذاعت [ صفحه 194] شهرته(عليه السلام) استدعاه الملك المتوكل من المدينة المنوّرة حيث خاف علي ملكه وزوال دولته.. وأخيراً دسّ إليه السمّ...» [225] . والصحيح أن المعتز هو الذي دسّ إليه السمّ وقتله به. ويظهر أنّه اعتلّ من أثر السمّ الذي سُقي كما جاء في رواية محمّد بن الفرج عن أبي دعامة، حيث قال: أتيت عليّ بن محمد(عليه السلام) عائداً في علّته التي كانت وفاته منها، فلمّا هممت بالانصراف قال لي: يا أبا دعامة قد وجب عليّ حقّك، ألا اُحدّثك بحديث تسرّ به؟ قال:

فقلت له: ما أحوجني الي ذلك ياابن رسول الله. قال حدّثني أبي محمد بن عليّ، قال: حدثّني أبي عليّ بن موسي، قال: حدثّني أبي موسي بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد، قال: حدّثني أبي محمّد بن عليّ، قال: حدّثني أبي عليّ بن الحسين، قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ، قال: حدّثني أبي علي ابن أبي طالب(عليهم السلام)، قال: قال لي رسول الله(صلي الله عليه وآله): يا عليّ اكتب: فقلت: وما أكتب؟ فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم الإيمان ما وقرته القلوب وصدّقته الأعمال، و الإسلام ما جري علي اللّسان، وحلّت به المناكحة. قال أبو دعامة: فقلت: يا ابن رسول الله، والله ما أدري أيّهما أحسن؟ الحديث أم الإسناد! فقال: إنّها لصحيفة بخطّ علي بن أبي طالب(عليه السلام) وإملاء رسول الله(صلي الله عليه وآله) نتوارثها صاغراً عن كابر [226] . قال المسعودي: واعتلّ أبو الحسن (عليه السلام) علّته التي مضي فيها فأحضر أبا محمّد ابنه(عليه السلام) فسلّم إليه النّور والحكمة ومواريث الأنبياء والسّلاح [227] . ونصّ عليه وأوصي إليه بمشهد من ثقات أصحابه ومضي(عليه السلام) وله أربعون سنة [228] . [ صفحه 195]

تجهيزه و حضور الخاصة والعامة لتشييعه

ولما قضي نحبه تولّي تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ولده الإمام أبومحمّد الحسن العسكري(عليه السلام) وذلك لأنّ الإمام لا يتولّي أمره إلاّ الإمام. وما انتشر خبر رحيله الي الرفيق الأعلي حتّي هرعت الجماهير من العامّة والخاصّة الي دار الإمام(عليه السلام) وخيّم علي سامراء جو من الحزن والحداد. قال المسعودي: وحدّثنا جماعة كل واحد منهم يحكي أنّه دخل الدار وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعبّاسيين (والقوّاد وغيرهم)، واجتمع خلق من الشّيعة، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمد(عليه السلام)

ولا عرف خبرهم، إلا الثّقاه الذين نصّ أبو الحسن (عليه السلام) (عندهم) عليه، فحكوا أنهم كانوا في مصيبة وحيرة، فهم في ذلك إذ خرج من الدار الداخلة خادم فصاح بخادم آخر يارياش خذ هذه الرقعة وامض بها الي دار أمير المؤمنين وادفعها الي فلان، وقل له: هذه رقعة الحسن بن علي. فاستشرف النّاس لذلك. ثم فتح من صدر الرّواق باب وخرج خادم أسود، ثم خرج بعده أبو محمد(عليه السلام) حاسراً مكشوف الرأس مشقوق الثياب وعليه مبطنة (ملحمة) بيضاء. وكان(عليه السلام) وجهه وجه أبيه(عليه السلام) لا يخطئ منه شيئاً، وكان في الدّار أولاد المتوكّل وبعضهم ولاة العهود، فلم يبق أحد إلاّ قام علي رجله ووثب إليه أبو أحمد [محمّد] الموفّق، فقصده أبو محمّد(عليه السلام) فعانقه، ثم قال له: مرحباً بابن العمّ وجلس بين بابي الرّواق، والناس كلهم بين يديه، وكانت الدار كالسّوق بالأحاديث، فلما خرج (عليه السلام) وجلس أمسك الناس، فما كنّا نسمع شيئاً إلاّ العطسة والسعلة، وخرجت جارية تندب أبا الحسن(عليه السلام)، فقال أبو محمد: ماهاهنا من يكفينا مؤونة هذه الجاهلة، فبادر الشيعة إليها فدخلت الدار. [ صفحه 196] ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمّد فنهض(عليه السلام)، واُخرجت الجنازة، وخرج يمشي حتي اُخرج بها الي الشارع الذي بإزاء دارموسي بن بغا، وقد كان أبو محمد (عليه السلام) صلّي عليه قبل أن يخرج الي النّاس، وصلّي عليه لمّا اُخرج المعتمد. قال المسعودي: وسمعت في جنازته جارية سوداء وهي تقول: ماذا لقينا في يوم الاثنين (قديماً وحديثاً) [229] . ودفن في داره بسرّ من رأي، وكان مقامه(عليه السلام) (بسرّ مَن رأي) الي أن توفّي عشرين سنة وأشهراً [230] . قال المسعودي: واشتدّ الحرّ علي أبي محمد(عليه

السلام) وضغطه النّاس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه، فسار في طريقه الي دكّان لبقّال رآه مرشوشاً فسلّم واستأذنه في الجلوس فأذن له، وجلس ووقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك إذ أتاه شاب حسن الوجه نظيف الكسوة علي بغلة شهباء علي سرج ببرذون أبيض قد نزل عنه، فسأله أن يركبه فركب حتّي أتي الدار ونزل، وخرج في تلك العشيّة الي الناس ماكان يخرج عن أبي الحسن(عليه السلام) حتّي لم يفقدوا منه إلاّ الشّخص [231] .

لماذا دفن الإمام في بيته؟

لقد جرت العادة عند العامة والخاصة أنّه إذا توفي أحدٌ أن يدفن في المكان المعدّ للموتي المسمّي _ بالمقبرة أو الجبّانة _ كما هو المتعارف في هذا العصر أيضاً، ولا يختلف هذا الأمر بالنسبة لأي شخص مهما كان له من المكانة [ صفحه 197] والمنزلة، فقد كان ولا يزال في المدينة المحل المُعدّ للدّفن _ البقيع _ حيث أنّه مثوي لأئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وزوجات النبي(صلي الله عليه وآله)، وأولاده، وكبار الصحابة والتابعين وغيرهم، كما وأن مدفن الإمامين الجوادين(عليهما السلام) في مقابر قريش. وأما السبب في دفن الإمام الهادي(عليه السلام) داخل بيته، يعود الي حصول ردود الفعل من الشيعة يوم استشهاده(عليه السلام) وذلك عندما اجتمعوا لتشييعه مظهرين البكاء والسخط علي السلطة والذي كان بمثابة توجيه أصابع الاتهام الي الخليفة لتضلّعه في قتله. وللشارع الذي اُخرجت جنازة الإمام(عليه السلام) إليه الأثر الكبير، حيث كان محلاً لتواجد معظم الموالين لآل البيت(عليهم السلام) إذ ورد في وصفه: الشارع الثّاني يعرف بأبي أحمد.. أول هذا الشارع من المشرق داربختيشوع المتطبّب التي بناها المتوكل، ثم قطائع قواد خراسان وأسبابهم من العرب، ومن أهل قم، وإصبهان، وقزوين، والجبل، وآذربيجان، يمنة في الجنوب ممّا

يلي القبلة [232] . ويشير الي تواجد أتباع مدرسة أهل البيت في سامراء المظفري في تاريخه إذ يقول: فكم كان بين الجند، والقواد، والاُمراء، والكتّاب، من يحمل بين حنايا ضلوعه ولاء أهل البيت(عليهم السلام) [233] . كلّ هذا أدّي الي اتّخاذ السلطة القرار بدفنه(عليه السلام) في بيته، وإن لم تظهر تلك الصورة في التاريخ بوضوح، إلا أنه يفهم ممّا تطرق إليه اليعقوبي في تاريخه عند ذكره حوادث عام (254 ه_) ووفاة الإمام الهادي(عليه السلام) حيث يقول: وبعث المعتز بأخيه أحمد بن المتوكّل فصلّي عليه في الشارع المعروف [ صفحه 198] بشارع أبي أحمد، فلمّا كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجّتهم، فردّ النعش الي داره، فدفن فيها... [234] وتمكّنوا بذلك من إخماد لهيب الانتفاضة والقضاء علي نقمة الجماهير الغاضبة، وهذا إن دلّ علي شيء فإنّما يدل علي وجود التحرّك الشيعي رغم الظروف القاسية التي كان يعاني منها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم من سلطة الخلافة الغاشمة.

انتشار خبر استشهاد الإمام الهادي في البلاد

اشاره

روي الحسين بن حمدان الحضيني في كتاب الهداية في الفضائل: عن أحمد ابن داود القميّ، ومحمّد بن عبدالله الطلحي قالا: حملنا مالاً اجتمع من خُمس ونذور من بين ورق وجوهر وحُليّ وثياب من بلاد قم ومايليها، وخرجنا نريد سيّدنا أبا الحسن علي بن محمد(عليهما السلام) بها، فلما صرنا الي دسكرة الملك [235] تلقّانا رجل راكب علي جمل، ونحن في قافلة عظيمة، فقصَدَنا ونحن سائرون في جملة الناس وهو يعارضنا بجمله حتي وصل الينا، فقال: يا أحمد ابن داود ومحمّد بن عبدالله الطلحي معي رسالة إليكم، فأقبلنا إليه فقلنا له: ممّن يرحمك الله فقال: من سيّدكما أبي الحسن عليّ بن محمّد(عليهما السلام) يقول لكما:أنا راحل الي الله في هذه الليلة،

فأقيما مكانكما حتي يأتيكما أمر ابني أبي محمد الحسن، فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وأخفينا ذلك، ولم نظهره، ونزلنا بدسكرة الملك واستأجرنا منزلاً وأحرزنا ما حملناه فيه، وأصبحنا والخبر شائع [ صفحه 199] في الدّسكرة بوفاة مولانا أبي الحسن (عليه السلام)، فقلنا: لا إله إلاّ الله أتري الرّسول الذي جاء برسالته أشاع الخبر في الناس؟ فلمّا أن تعالي النّهار رأينا قوماً من الشّيعة علي أشدّ قلق ممّا نحن فيه، فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره [236] .

تاريخ استشهاده

اختلف المؤرّخون في يوم استشهاده(عليه السلام)، كما اختلفوا في مَن دسّ إليه السمّ. والتحقيق أنّه(عليه السلام) استشهد في أواخر ملك المعتزّ كما نصّ عليه غير واحد من المؤرّخين، وبما أنّ أمره كان يهمّ حاكم الوقت، وهو الذي يتولّي تدبير هذه الاُمور كما هو الشأن، فإنّ المعتزّ أمر بذلك، ويمكن أنّه استعان بالمعتمد في دسّ السمّ إليه. وأمّا يوم شهادته (عليه السلام) فقد قال ابن طلحة في مطالب السؤول: أنه مات في جمادي الآخرة لخمس ليال بقين منه ووافقه ابن خشّاب [237] ، وقال الكليني في الكافي: مضي صلوات الله عليه لأربع بقين من جمادي الآخرة [238] ; ووافقه المسعودي [239] . وأما المفيد في الإرشاد، والإربلي في كشف الغمّة، والطبرسي في إعلام الوري، فقالوا: قبض(عليه السلام) في رجب، ولم يحدّدوا يومه [240] . وقال أبو جعفر الطوسي في مصابيحه، وابن عيّاش، وصاحب الدّروس: [ صفحه 200] إنّه قبض بسرّ من رأي يوم الاثنين ثالث رجب [241] ; ووافقهم الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين حيث قال: توفّي(عليه السلام) ب_ (سرّ من رأي) لثلاث ليال خلون نصف النّهار من رجب [242] ; وللزرندي قول: بأنّه توفي يوم الاثنين الثالث عشر من

رجب [243] . ولكن الكلّ متّفقون علي أنّه استشهد في سنة أربع وخمسين ومائتين للهجرة [244] . وعن الحضيني أنه قال: حدّثني أبو الحسن عليّ بن بلال وجماعة من إخواننا أنّه لما كان اليوم الرابع من وفاة سيّدناأبي الحسن(عليه السلام) أمر المعتزّ بأن ينفذ الي أبي محمد(عليه السلام) من يستركبه إليه ليعزّيه ويسأله، فركب أبو محمد(عليه السلام) الي المعتزّ فلمّا دخل عليه رحّب به وقرّبه وعزّاه وأمر أن يُثبت في مرتبة أبيه(عليهما السلام). وأثبت له رزقه وأن يدفعه فكان الذي يراه لا يشكّ أنه في صورة أبيه(عليهما السلام). واجتمعت الشيعة كلّها من المهتدين علي أبي محمد بعد أبيه إلاّ أصحاب فارس بن حاتم بن ماهويه فإنّهم قالوا بإمامة أبي جعفر محمد بن أبي الحسن صاحب العسكر [245] . إن ما صدر من المعتزّ هذا كان من باب التمويه والخداع لكي يغطّي علي جريمته التي ارتكبها بحق أبيه، وهذا كان ديدن من تقدّمه من الطواغيت تجاه أئمة أهل البيت(عليهم السلام) [246] . [ صفحه 201]

مدرسة الإمام الهادي و تراثه

اشاره

لقد تميّز عصر الإمام الهادي (عليه السلام) عن عصر أبيه الإمام محمد الجواد(عليه السلام) بزيادة الكبت والضغط عليه من قبل السلطة حتي كانت الرقابة الدائمة هي الأمر المميز والفارق الواضح في حياته وحياة ابنه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). كما ان الإمام الهادي (عليه السلام) شارك أباه الجواد (عليه السلام) في تولّي مهمة الإمامة في صغر السن وقبل إكمال عقده الأوّل من العمر. فكانت الإمامة المبكّرة وتوجّس السلطة من قيادة خط المعارضة الذي دام قرنين وثلاثة عقود من الزمن في عهده(عليه السلام)، وترقّب ظهور المهدي من آل محمد (صلي الله عليه وآله) من ولده هي ثلاث مميزات تميّزت بها فترة

إمامته، ومن هنا شدّدت الرقابة إلي أقصي حدّ ممكن حتي انتهت الي التصفية الجسدية بعد أن سيطر الخوف والرعب علي طغاة عصره. ومن هنا فإن كثرة أصحاب الإمام _ والذين أحصاهم أحد المهتمّين بتأريخ هذا الإمام العظيم [247] حيث ترجم ل__ (346) شخصاً كانوا قد ارتبطوا بالإمام ورووا عنه _ وهو في تلك الظروف العصيبة، لها دلالة كبيرة وواضحة علي سعة نشاط الإمام الهادي(عليه السلام) في تلك الظروف الصعبة، وعظمة هذا [ صفحه 202] الإمام الذي استوعب بنشاطه السريّ والمنظّم كل تلك العقبات واجتازها بما يحقق له أهدافه من التمهيد فكرياً وعقائدياً ونفسيّاً لعصر الغيبة المرتقب محافظاً علي خط المعارضة بشكل تام، مراقباً للأحداث بشكل مستمر ومقدّماً لكل ظرف مستجد ما يتطلّبه من الخطوات والأنشطة، مراعياً التقدم الحضاري الذي كانت الاُمة الإسلامية علي مشارفه وهو يريد أن تكون الجماعة الصالحة في موقع القيادة والقمّة منه دائماً، وهكذا كان. ومن هذه الزاوية ينبغي أن نطالع ما وصلنا من تراثه ومعالم مدرسته. وينقسم الحديث في هذا الفصل الي حقلين: الأوّل مدرسة الإمام الهادي المتمثلة في أصحابه ورواة حديثه. والثاني تراثه الفكري والعلمي المدوّن أو المروي عنه.

اصحاب الإمام و رواة حديثه

اشاره

كان الإمام الهادي (عليه السلام) مقصداً لطلاب العلوم لتنوع ثقافته وشمول معارفه، فهو (عليه السلام) المتخصص في جميع العلوم، والخبير في تفسير القرآن الكريم والمتضلّع في الفقه الإسلامي بشتي حقوله ومستوياته. وقد مثّل أصحابه الخط الرسالي في الاُمة الإسلامية، باعتبار اتصالهم بأهل البيت(عليهم السلام)، فرووا أحاديثه ودونوها في أصولهم. فكان لهم الفضل الكبير علي العالم الاسلامي بما دوّنوه من تراث الأئمة الطاهرين فلولاهم لضاعت ثروة كبيرة تشتمل علي الإبداع والاصالة وتساير تطور الفكر البشري بل وتتقدم عليه. وتجدر الإشارة إلي

ان كثيراً من ملامح عمل الإمام الهادي (عليه السلام) تنكشف من خلال أنشطة أتباعه المعتمدين وتتعمق هذه الحقيقة بمقدار اشتداد الظروف الداعية للسرية في عمل الإمام (عليه السلام). [ صفحه 203] وفيما يأتي تراجم بعض أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام)، وقد رتبناها حسب تسلسل حروف الهجاء:

ابراهيم بن عبده النيسابوري

عدّه الشيخ من اصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) ومن أصحاب الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)، وذكر الكشي ان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بعث رسالة إلي إسحاق بن اسماعيل، سلّم فيها علي ابراهيم بن عبده، ونصبه وكيلاً علي قبض الحقوق الشرعية وقد بعثه إلي عبد الله بن حمدويه البيهقي، وزوده برسالة جاء فيها: «وبعد، فقد بعثت لكم ابراهيم بن عبده، ليدفع النواحي، وأهل ناحيتك، حقوقي الواجبة عليكم إليه، وجعلته ثقتي وأميني عند مواليي هناك فليتقوا الله، وليراقبوا وليؤدوا الحقوق، فليس لهم عذر في ترك ذلك ولا تأخيره، ولا أشقاهم الله بعصيان اوليائه ورحمهم الله _ واياك معهم _ برحمتي لهم ان الله واسع كريم.» [248]

ابراهيم بن محمد الهمداني

عده الشيخ من اصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) ومن اصحاب الإمام الجواد والهادي (عليهما السلام)، وقال الكشي: كان وكيله وقد حج اربعين حجة. وكتب الإمام له: «قد وصل الحساب تقبل الله منك ورضي عنهم، وجعلهم معنا في الدنيا والآخرة، وقد بعثت اليك من الدنانير بكذا، ومن الكسوة بكذا، فبارك لك فيه، وفي جميع نعمة الله عليك، وقد كتبت إلي النضر أمرته ان ينتهي عنك، وعن التعرض لك وبخلافك، واعلمته موضعك عندي، وكتبت إلي ايوب: أمرته بذلك أيضاً، وكتبت إلي مواليي بهمدان كتاباً امرتهم بطاعتك والمصير إلي امرك، وان لا وكيل لي سواك.» [249] ودلت هذه الرواية علي وثاقته وجلالة أمره، وسمو مكانته عند الإمام(عليه السلام). [ صفحه 204]

ابراهيم بن مهزيار

عده الشيخ من أصحاب الإمام الجواد، ومن أصحاب الإمام الهادي(عليهما السلام). قال النجاشي: له كتاب البشارات. وروي الكشي بسنده عن محمد بن ابراهيم بن مهزيار، قال: ان أبي لما حضرته الوفاة دفع إليّ مالاً، وأعطاني علامة ولم يعلم بها أحد إلاّ الله عزوجل، وقال: من أتاك بهذه العلامة فادفع إليه المال، قال: فخرجت إلي بغداد، ونزلت في خان فلما كان في اليوم الثاني جاء شيخ فطرق الباب فقلت للغلام انظر من في الباب، فخرج، ثم جاء وقال: شيخ في الباب فأذنت له في الدخول، فقال: أنا العمري، هات المال الذي عندك، وهو كذا وكذا ومعه العلامة، قال: فدفعت له المال [250] . ودلّت هذه الرواية علي ان ابراهيم كان وكيلاً للامام (عليه السلام) في قبض الحقوق الشرعية، ومن الطبيعي انه انما يؤتمن عليها فيما إذا كان ثقة وعدلاً.

احمد بن اسحاق بن عبدالله الاشعري القمي

كان وافد القميين، روي عن أبي جعفر الثاني وأبي الحسن(عليهما السلام) وكان من خاصة أبي محمد (عليه السلام)، وله من الكتب: 1 _ مسائل الرجال للإمام الهادي (عليه السلام). 2 _ علل الصلاة. 3 _ علل الصوم. وهو ممّن رأي الإمام المهدي _ عجل الله فرجه _ ووردت أخبار كثيرة في مدحه والثناء عليه [251] . [ صفحه 205]

احمد بن محمد بن عيسي الاشعري القمي

عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام)، يكنّي أبا جعفر وهو شيخ القميين ووجيههم، وكان الرئيس الذي يلقي السلطان، صنّف كتباً منها: كتاب «التوحيد» وكتاب «فضل النبي (صلي الله عليه وآله)» وكتاب «المتعة» وكتاب «النوادر» وكتاب «الناسخ والمنسوخ» وكتاب «فضائل العرب» وغيرها [252] .

ايوب بن نوح بن دراج

الثقة الامين، قال النجاشي: انه كان وكيلاً لأبي الحسن، وأبي محمد(عليهما السلام) عظيم المنزلة عندهما، مأموناً، وكان شديد الورع، كثير العبادة، ثقة في رواياته، وابوه نوح بن دراج كان قاضياً بالكوفة، وكان صحيح الاعتقاد، واخوه جميل بن دراج [253] ، قال الشيخ: ايوب بن نوح بن دراج ثقة له كتاب وروايات ومسائل عن أبي الحسن الثالث [254] وقال الكشي: كان من الصالحين ومات وما خلف إلاّ مائة وخمسين ديناراً، روي عن الإمام أبي الحسن (عليه السلام) وروي عنه جماعة من الرواة [255] .

الحسن بن راشد

يكني أبا علي مولي لآل المهلب البغدادي، ثقة. [ صفحه 206] عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) وعده الشيخ المفيد من الفقهاء الاعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام الذين لا يطعن عليهم بشيء ولا طريق لذم واحد منهم، وقد نصبه الإمام وكيلاً وبعث إليه بعدة رسائل منها [256] : 1 _ ما رواه الكشي بسنده إلي محمد بن عيسي اليقطيني، قال: كتب _ يعني الإمام الهادي _ إلي أبي علي بن بلال في سنة (232 ه_) رسالة جاء فيها: «واحمد الله اليك، واشكر طوله وعوده، واُصلّي علي محمد النبي وآله، صلوات الله ورحمته عليهم، ثم اني اقمت ابا علي مقام الحسين بن عبد ربه، وائتمنته علي ذلك بالمعرفة بما عنده الذي لا يقدمه أحد، وقد اعلم انك شيخ ناحيتك فاحببت افرادك، واكرامك بالكتاب بذلك، فعليك بالطاعة له، والتسليم إليه جميع الحق قبلك، وان تحض موالي علي ذلك، وتعرفهم من ذلك ما يصير سبباً إلي عونه وكفايته، فذلك موفور، وتوفير علينا، ومحبوب لدينا، ولك به جزاء من الله وأجر، فان الله يعطي من يشاء ذو الاعطاء والجزاء برحمته، وانت في

وديعة الله، وكتبت بخطي واحمد الله كثيراً» [257] . ودلت هذه الرسالة علي فضل ابن راشد ووثاقته وامانته، فقد ارجع إليه الشيعة واوصاهم بطاعته والانقياد إليه، وتسليم ما عندهم من الحقوق الشرعية إليه. 2 _ روي الكشي بسنده إلي احمد بن محمد بن عيسي قال: نسخت الكتاب مع ابن راشد إلي جماعة الموالي الذين هم ببغداد المقيمين بها والمدائن والسواد وما يليها، وهذا نصه: [ صفحه 207] «واحمد الله اليكم ما انا عليه من عافيته، واصلي علي نبيه وآله افضل صلاته واكمل رحمته ورأفته، واني اقمت ابا علي بن راشد مقام علي بن الحسين بن عبد ربه، ومن كان من قبله من وكلائي، وصار في منزلته عندي، ووليته ما كان يتولاه غيره من وكلائي قبلكم ليقبض حقي، وارتضيته لكم، وقدمته علي غيره في ذلك، وهو أهله وموضعه، فصيروا رحمكم الله إلي الدفع إليه ذلك وإليّ، وان لا تجعلوا له علي انفسكم علّة، فعليكم بالخروج عن ذلك، والتسرع إلي طاعة الله، وتحليل اموالكم، والحقن لدمائكم، وتعاونوا علي البر والتقوي واتقوا الله لعلكم ترحمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تموتن إلاّ وانتم مسلمون، فقد اوجبت في طاعته طاعتي، والخروج إلي عصيانه عصياني، فالزموا الطريق يأجركم الله، ويزيدكم من فضله، فإن الله بما عنده واسع كريم، متطول علي عباده رحيم، نحن وانتم في وديعة الله وحفظه، وكتبته بخطي، والحمد لله كثيراً» [258] . وكشفت هذه الرسالة عن سموّ مكانة ابن راشد عند الإمام (عليه السلام) وعظيم منزلته عنده حتي قرن طاعته بطاعته (عليه السلام)، وعصيانه بعصيانه (عليه السلام). 3 _ وبعث الإمام أبو الحسن(عليه السلام) رسالة له والي ايوب بن نوح جاء فيها بعد البسملة: «انا آمرك يا

ايوب بن نوح ان تقطع الاكثار بينك وبين أبي علي، وان يلزم كل واحد منكما ما وكّل به، واُمر بالقيام فيه بأمر ناحيته، فإنّكم إذا انتهيتم إلي كل ما امرتم به استغنيتم بذلك عن معاودتي، وآمرك يا ابا علي بمثل ما امرت به ايوب، ان لا تقبل من احد من اهل بغداد والمدائن شيئاً يحملونه، ولا يلي لهم استيذاناً علي، ومر من أتاك بشيء من غير أهل ناحيتك ان يصيّره إلي الموكل بناحيته، وآمرك يا أبا علي في ذلك بمثل ما أمرت به أيوب، وليعمل كل واحد منكما بمثل ما أمرته به» [259] . [ صفحه 208] لقد كانت لأبي راشد مكانة مرموقة عند الإمام (عليه السلام)، ومن الطبيعي انه لم يحتل هذه المنزلة إلاّ بتقواه وورعه، وشدّة تحرجه في الدين، ولما توفّي ابن راشد ترحم عليه الإمام (عليه السلام) ودعا له بالمغفرة والرضوان.

الحسن بن علي

ابن عمر، بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الناصر للحق من أصحاب الإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام). وهو والد جدّ السيد المرتضي من جهة اُمه، قال السيد (قدس سره) في اول كتابه «شرح المسائل الناصريات»: واما أبو محمد الناصر الكبير وهو الحسن بن علي ففضله في علمه وزهده وفقهه أظهر من الشمس الباهرة، وهو الذي نشر الاسلام في الديلم حتي اهتدوا به من الضلالة، وعدلوا بدعائه بعد الجهالة، وسيرته الجميلة اكثر من ان تحصي واظهر من ان تخفي [260] .

الحسن بن علي الوشا

عده الشيخ من اصحاب الإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام). قال النجاشي: انه ابن بنت الياس الصيرفي الخزاز، وقد روي الحسن عن جده الياس انه لما حضرته الوفاة، قال: اشهدوا علي وليست ساعة الكذب هذه الساعة: سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) يقول: والله لا يموت عبد يحب الله ورسوله ويتولي الأئمة فتمسه النار. [ صفحه 209] وروي احمد بن محمد بن عيسي قال: خرجت إلي الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن علي الوشا، فسألته ان يخرج لي كتاب العلاء بن رزين القلا، وابان بن عثمان الاحمر، فاخرجهما لي فقلت له: احب ان تجيزهما لي فقال لي: يا هذا رحمك الله، وما عجلتك، اذهب فاكتبهما، واسمع من بعد، فقلت: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت ان هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه، فإني ادركت في هذا المسجد _ يعني مسجد الكوفة _ تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد، وكان هذا الشيخ عيناً من عيون هذه الطائفة وله كتب منها ثواب الحج، والمناسك والنوادر [261] .

داود بن القاسم الجعفري

يكني اباهاشم، من اهل بغداد، جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة (عليهم السلام) شاهد الامام الرضا و الجواد و الهادي و العسكري و صاحب الامر (عليه السلام)، روي عنهم كلهم ، وله اخبار و مسائل و له شعر جيد فيهم ، و كان مقدماً عند السلطان و له كتاب. عده البرقي من اصحاب الامام الجواد و الامام الهادي و الامام الحسن العسكري (عليهم السلام) قال الكشي: قال أبو عمرو: له - اي لداود - منزلة عالية عند أبي جعفر ، أبي حسن ، و ابي محمد (عليهم السلام) و موقع جليل [262] .

[ صفحه 210]

الريان بن الصلت

عده الشيخ من اصحاب الامام الرضا ( عليه السلام ) ، و من اصحاب الامام الهادي (عليه السلام) و اضاف انه ثقة ، و روي الكشي بسنده عن معمر بن خلاد ، قال : قالي لي الريان بن الصلت : و كان الفضل بن سهل بعثه الي بعض كور خراسان ، فقال : احب ان تستأذن لي علي أبي الحسن (عليه السلام ) فأسلم عليه و اودعه واحب ان يكسوني من ثيابه ، و ان يهب لي من الدراهم التي ضربت باسمه ، قال : فدخلت عليه ، فقال لي مبتدئا : يا معمر أين ريان ، أيحب أن يدخل علينا فأكسوه من ثيابي ، و أعطيه من دراهمي ؟ قال : قلت : سبحان الله !!! والله ما سألني الا ان اسألك ذلك له ، فقال : يا معمر ان المؤمن موفق ، قل له فليجيي، قال : فأمرته فدخل عليه فسلم عليه فدعا بثوب من ثيابه ، فلما خرج قلت : اي شي ء اعطاك ؟ و اذا بيده ثلاثون درهما [263] و قد دلت هذه البادرة علي حسن ايمانه و حسن عقيدته .

عبدالعظيم الحسني

هو السيد الشريف الحسيب النسيب من مفاخر الاسرة النبوية علما و تقي و تحرجا في الدين . و نلمح الي بعض شؤونه . أ - نسبه الوضاح : يرجع نسبه الشريف الي الامام الزكي أبي محمد الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة و ريحانة رسول الله (صلي الله عليه و آله ) فهو ابن عبدالله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام ) . ب - وثاقته و علمه : كان ثقة عدلا ، متحرجا في دينه كأشد

ما يكون التحرج ، كما كان عالما و فاضلا و فقيها فقد روي أبوتراب الروياني ، قال : سمعت أباحماد الرازي ، يقول : دخلت علي علي بن محمد (عليه السلام ) ب (سر من رأي ) [ صفحه 211] فسألته عن اشياء من الحلال و الحرام فأجابني عنها ، فلما ودعته قال لي : يا حماد اذا اشكل عليك شي ء من امر دينك بناحيتك فسل عنه عبدالعظيم الحسني واقرئه مني السلام [264] . و دلت هذه الرواية علي فقهه و علمه . ج - عرض عقيدته علي الهادي (عليه السلام ) : و تشرف السيد الجليل عبدالعظيم بمقابلة الامام الهادي (عليه السلام ) فعرض علي الامام اصول عقيدته و ما يدين به قائلا : « يا ابن رسول الله اني اريد ان اعرض عليك ديني فان كان مرضيا ثبت عليه ..» . فقابله الامام مبتسما و قال له : « هات يا أباالقاسم » . وانبري عبدالعظيم يعرض علي الامام المبادي التي آمن بها قائلا : « اني اقول : ان الله تبارك و تعالي ليس كمثله شي ء ، خارج عن الحدين ، حد الابطال و حد التشبيه ، و انه ليس بجسم و لاصورة و لا عرض و لا جوهر بل هو مجسم الاجسام و مصور الصور و خالق الاعراض و الجواهر و رب كل شي ء و مالكه و جاعله و محدثه . و ان محمدا عبده و رسوله خاتم النبيين ، فلا نبي بعده الي يوم القيامة ، و ان شريعته خاتمة الشرايع فلا شريعة بعدها الي يوم القيامة ، و اقول : ان الامام و الخليفة ، و ولي الامر بعده أميرالمؤمنين علي بن

أبي طالب (عليه السلام ) ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ثم موسي بن جعفر ثم علي بن موسي ثم محمد بن علي ثم انت يا مولاي » . والتفت اليه الامام فقال : « و من بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس بالخلف من بعده ؟» . [ صفحه 212] واستفسر عبدالعظيم عن الحجة من بعده قائلا : و كيف ذاك يا مولاي ؟ قال الامام (عليه السلام ) : « لأنه لايري شخصه ، و لايحل ذكره باسمه ، حتي يخرج فيملأ الارض قسطا و عدلا ، كما ملئت ظلما و جورا» . وانبري عبدالعظيم يعلن ايمانه بما قال الامام (عليه السلام ) قائلا : « اقررت ، و اقول : ان وليهم ولي الله ، و عدوهم عدو الله و طاعتهم طاعة الله ، و معصيتهم معصية الله ... و اقول : ان المعراج حق و المساءلة في القبر حق و ان الجنة حق و النار حق والصراط حق و الميزان حق و ان الساعة آتية لاريب فيها و ان الله يبعث من في القبور . و أقول : ان الفرائض الواجبة بعد الولاية - اي الولاية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام ) - الصلاة والزكاة والصوم و الحج و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ..» و بارك له الامام عقيدته قائلا : « يا أباالقاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا و الآخرة » [265] .

عثمان بن سعيد العمري السمان

يكني أباعمرو ، الثقة الزكي ، خدم الامام الهادي (عليه السلام ) و له من العمر

احدي عشرة سنة ، احتل المكانة المرموقة عند الامام (عليه السلام ) ، فقد روي احمد ابن اسحاق القمي قال : دخلت علي أبي الحسن علي بن محمد صلوات الله عليه في يوم من الامام فقلت له : يا سيدي أنا أغيب و أشهد ، و لا يتهيأ لي الوصول اليك اذا شهدت في كل وقت فقول من نقبل ، و أمر من نمتثل ؟ فقال ( عليه السلام ) : [ صفحه 213] هذا أبوعمرو الثقة الأمين ، ما قاله لكم فعني يقوله ، و ما اداه اليكم فعني يؤديه . فلما قضي أبوالحسن (عليه السلام ) نحبه رجعت الي أبي محمد ابنه الحسن العسكري و قلت له (عليه السلام) ذات يوم : مثل قولي لأبيه ، فقال لي : هذا أبوعمرو الثقة الأمين ، ثقة الماضين ، و ثقتي في المحيا و الممات ، فما قاله لكم فعني يقوله ، و ما ادي اليكم فعني يؤديه [266] . و دلت هذه الرواية علي وثاقته ، و انه قد نال المنزلة الكريمة عند الأئمة الطاهرين (عليهم السلام ) ، كما دلت علي فضله و علمه ، و انه كان مرجعا للفتيا و أخذ الاحكام .

علي بن مهزيار الاهوازي الدورقي

كان من مفاخر العلماء و من مشاهير تلاميذ الامام الهادي (عليه السلام ) و نتحدث بايجاز عن بعض شؤونه : أ - عبادته : كان من عيون المتقين و الصالحين ، و يقول المؤرخون : انه كان اذا طلعت الشمس سجد لله تعالي ، و كان لايرفع رأسه حتي يدعو لألف من اخوانه بمثل ما دعا لنفسه ، و كان علي جبهته سجادة مثل ركبة البعير من كثرة سجوده [267] . ب - ثناء الامام الجواد

(عليه السلام) عليه : و أثني الامام الجواد (عليه السلام ) ثناء عاطرا علي ابن مهزيار ، و كان مما أثني عليه انه بعث له رسالة جاء فيها : [ صفحه 214] « يا علي قد بلوتك و خبرتك في النصيحة والطاعة و الخدمة و التوقير ، و القيام بما يجب عليك، فلو قلت : اني لم أر مثلك لرجوت ان اكون صادقا فجزاك الله جنات الفردوس نزلا . و ما خفي علي مقامك و لا خدمتك ، في الحر و البرد ، في الليل و النهار ، فاسأل الله اذا جمع الخلائق للقيامة ان يحبوك برحمة تغتبط بها انه سميع الدعاء» [268] . و كشفت هذه الرسالة عن اكبار الامام و تقديره و دعائه له ، و انه (عليه السلام ) لم يرفي أصحابه و غيرهم مثل هذا الزكي تقوي و ورعا و علما. ج - مؤلفاته : ألف علي مجموعة من الكتب تزيد علي ثلاثين كتابا كان معظمها في الفقه و هذه بعضها : كتاب الوضوء ، كتاب الصلاة ، كتاب الزكاة، كتاب الصوم ، كتاب الحج ، كتاب الطلاق ، كتاب الحدود ، كتاب الديات ، كتاب التفسير ، كتاب الفضائل ، كتاب العتق و التدبير ، كتاب التجارات و الاجارات ، كتاب المكاسب ، كتاب المثالب ، كتاب الدعاء ، كتاب التجمل و المروة ، كتاب المزار ، و غيرها [269] . د- طبقته في الحديث : وقع علي بن مهزيار في اسناد كثير من الروايات تبلغ )437( موردا ، روي عن الامام أبي جعفر الثاني و أبي الحسن الثالث و غيرهم . لقد كان علي بن مهزيار من دعائم الفكر الشيعي ، و كان من

أفذاذ عصره و علماء دهره . [ صفحه 215]

الفضل بن شاذان النيشابوري

عده الشيخ من أصحاب الامام أبي الحسن الهادي (عليه السلام ) ، و هو من أساطين العلماء ، و من ابرز رجال الفكر الاسلامي في عصره ، خاض في مختلف العلوم و الفنون و ألف فيها ، و نعرض بايجاز لبعض شؤونه : أ - ثناء الامام الحسن العسكري (عليه السلام) عليه : واشاد الامام الحسن العسكري (عليه السلام) بالفضل بن شاذان ، و أثني عليه ثناء عاطرا ، فقد عرضت عليه احدي مؤلفاته فنظر فيه فترحم عليه و قال : « أغبط اهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان و كونه بين اظهرهم» [270] . و نظر (عليه السلام) مرة اخري الي مؤلف آخر من مؤلفاته فترحم عليه ثلاث مرات ، و قال مقرضا للكتاب : « هذا صحيح ينبغي ان يعمل به » [271] . ب - رده علي المخالفين : انبري الفضل للدفاع عن مبادئه ، و ابطال الشبه التي اثيرت حول عقيدته ، و قد قال : انا خلف لمن مضي ادركت محمد بن أبي عمير ، و صفوان بن يحيي و غيرهما ، و حملت عنهم منذ خمسين سنة ، و مضي هشام بن الحكم (رحمه الله ) ، و كان يونس بن عبدالرحمن (رحمه الله ) خلفه ، كان يرد علي المخالفين ، ثم مضي يونس بن عبدالرحمن و لم يخلف خلفا غير السكاك، فرد علي المخالفين حتي مضي ( رحمه الله ) ، و انا خلف لهم من بعدهم [ صفحه 216] رحمهم الله » [272] لقد كان خلفا لاولئك الأعلام الذين نافحوا و ناضلوا عن مبادئهم الرفيعة التي تبناها أئمة أهل البيت ( عليهم السلام). ج

- مؤلفاته : ألف هذا العالم الكبير في مختلف العلوم ، كعلم الفقه و علم التفسير و علم الكلام و الفلسفة و اللغة و المنطق و غيرها ، و كانت مؤلفاته تربو علي مائة و ثمانين مؤلفا و قد ذكر بعضها الشيخ و النجاشي و ابن النديم و غيرهم.

محمد بن احمد المحمودي

يكني اباعلي ، عده الشيخ من أصحاب الامام أبي الحسن الهادي (عليه السلام)، قال الكشي: وجدت بخط أبي عبدالله الشاذاني في كتابه : سمعت الفضل بن هاشم الهروي يقول : ذكر لي كثرة ما يحج المحمودي، فسألته عن مبلغ حجاته فلم يخبرني بمبلغها ، و قال : رزقت خيرا كثيرا والحمدلله ، فقلت له : فتحج عن نفسك او غيرك؟ فقال : عن غيري بعد حجةالاسلام أحج عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أجعل ما أجازني الله عليه لاولياء الله و أهب ما أثاب علي ذلك للمؤمنين و المؤمنات ، فقلت : ما تقول في حجتك ؟ فقال : اقول : اللهم اني اهللت لرسولك محمد (صلي الله عليه و آله ) و جعلت جزائي منك و منه لاوليائك الطاهرين (عليهم السلام) ، و وهبت ثوابي عنهم لعبادك المؤمنين و المؤمنات بكتابك و سنة نبيك (صلي الله عليه و آله ) ... الي آخر الدعاء [273] . [ صفحه 217]

محمد بن الحسن بن أبي الخطاب الزيات

الكوفي الثقة ، عده الشيخ من اصحاب الامام علي الهادي ( عليه السلام) ، قال النجاشي: انه كان جليلا من اصحابنا ، عظيم القدر ، كثير الرواية ، ثقة ، عين ، حسن التصانيف ، مسكون الي روايته له كتاب التوحيد ، كتاب المعرفة و البدار ، كتاب الرد علي أهل القدر ، كتاب الامامة ، كتاب اللؤلؤة ، كتاب وصايا الأئمة ، كتاب النوادر.

محمد بن الفرج الرخجي

عده الشيخ من أصحاب الامام الهادي (عليه السلام) كانت له اتصالات وثيقة بالامام (عليه السلام)، و جرت بينهما عدة مراسلات، و منها : ما رواه الكشي بسنده عن محمد بن الفرج : قال : كتبت الي أبي الحسن (عليه السلام) اسأله عن أبي علي بن راشد ، و عن عيسي بن جعفر بن عاصم وابن بند ، فكتب (عليه السلام) الي : ذكرت ابن راشد (رحمه الله ) فانه عاش سعيدا ، و مات شهيدا ، و دعا لابن بند والعاصمي [274] . و قد مرت بعض المراسلات الاخري له مع الامام (عليه السلام) و هي تكشف عن ثقة الامام بمحمد و تسديده له ، و لما مرض محمد بعث له الامام أبوالحسن (عليه السلام) بثوب فأخذه و وضعه تحت رأسه فلما توفي كفن فيه .

معاوية بن حكيم بن معاوية بن عمار الكوفي

عده الشيخ من اصحاب الامام الهادي (عليه السلام)، قال النجاشي فيه : انه ثقة جليل من اصحاب الرضا ( عليه السلام) قال أبوعبدالله الحسين : سمعت شيوخنا يقولون : روي معاوية بن حكيم أربعة و عشرين أصلا ... و له كتب منها كتاب الطلاق ، كتاب الحيض ، كتاب الفرائض ، كتاب النكاح ، كتاب الحدود ، كتاب الديات ، و له نوادر [275] . [ صفحه 218]

يعقوب بن اسحاق

أبويوسف الدورقي الاهوازي المشهور بابن السكيت، عده الشيخ من اصحاب الامام أبي الحسن الهادي (عليه السلام)، كان مقدما عند أبي جعفر الثاني و ابي الحسن (عليه السلام) و كانا يختصانه ، و له عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) رواية و مسائل . كان ابن السكيت حامل لواء علم العربية و الادب و الشعر و اللغة و النحو و له تصانيف كثيرة منها « تهذيب الالفاظ» و كتاب « اصلاح المنطق» ... قتله المتوكل لولائه لأهل البيت (عليهم السلام). النساء: و لم يذكر الشيخ الطوسي من النساء اللاتي روين عن الامام الهادي (عليه السلام) سوي السيدة الكريمة كلثم الكرخية ، و قد عدها الشيخ من أصحاب الامام الهادي (عليه السلام) و أضاف ان الراوي عنها هو عبدالرحمن الشعيري ، و هو أبوعبدالرحمن بن داود البغدادي [276] . [ صفحه 219]

نماذج من تراث الإمام الهادي

من تراثه التفسيري

1 _ روي العياشي باسناده عن حمدويه، عن محمد بن عيسي قال: سمعته يقول: كتب إليه ابراهيم بن عنبسة _ يعني إلي علي بن محمد(عليه السلام) _ ان رأي سيّدي ومولاي أن يخبرني عن قول الله: (يسئلونك عن الخمر والميسر) فما الميسر جعلت فداك؟ فكتب(عليه السلام): كل ما قومر به فهو الميسر وكل مسكر حرام [277] . 2 _ وروي باسناده عن أيوب بن نوح بن دراج قال: سألت أبا الحسن الثالث (عليه السلام) عن الجاموس وأعلمته أن اهل العراق يقولون انه مسخ، فقال: أو ما سمعت قول الله: (ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين) [278] . 3 _ وروي العياشي: باسناده عن موسي بن محمّد بن علي عن أخيه أبي الحسن الثالث(عليه السلام) قال: الشجرة التي نهي الله آدم وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد، عهد إليهما أن لا ينظر الي من فضّل الله

عليه وعلي خلايقه بعين الحسد، ولم يجد الله له عزماً [279] . [ صفحه 220]

من تراثه الكلامي

1 _ عن أحمد بن إسحاق، قال: كتبت إلي أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس؟ فكتب: لا تجوز الرؤية، ما لم يكن بين الرائي والمرئيّ هواء ينفذه البصر فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئيّ لم تصحّ الرؤية ; وكان في ذلك الاشتباه، لأنَّ الرائي متي ساوي المرئيَّ في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه لأنّ الأسباب لا بدّ من اتّصالها بالمسبّبات [280] . 2 _ عن بشر بن بشّار النيسابوريّ قال: كتبت إلي الرَّجل (عليه السلام): إنّ من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد، فمنهم من يقول: [هو] جسم ومنهم من يقول: [هو] صورة. فكتب إليَّ: سبحان من لا يحدُّ ولا يوصف ولا يشبهه شيء وليس كمثله شي وهو السميع البصير [281] . 3 _ عن عليّ بن إبراهيم، عن المختار بن محمّد بن المختار الهمدانيّ، ومحمّد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلويّ جميعاً عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: وهو اللّطيف الخبير السميع البصير الواحد الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، لو كان كما يقول المشبّهة لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ، لكنّه المنشئ. فرَّق بين من جسّمه وصوَّره وأنشأه إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبهه هو شيئاً. قلت: أجل جعلني الله فداك لكنّك قلت: الأحد الصمد وقلت: لا يشبهه شيء والله واحد والإنسان واحد أليس قد تشابهت الوحدانيّة؟ قال: يا فتح أحلت ثبّتك الله إنّما التشبيه في المعاني، فأمّا في

الأسماء فهي واحدة [ صفحه 221] وهي دالّة علي المسمّي وذلك أنَّ الإنسان وإن قيل واحدٌ فإنّه يخبر أنّه جثّة واحدة وليس باثنين والإنسان نفسه ليس بواحد لأنَّ أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة ومن ألوانه مختلفة غير واحد وهو أجزاء مجزّأة، ليست بسواء. دمه غير لحمه ولحمه غير دمه وعصبه غير عروقه وشعره غير بشره وسواده غير بياضه وكذلك سائر جميع الخلق، فالإنسان واحد في الاسم ولا واحد في المعني والله جلَّ جلاله هو واحد لا واحد غيره لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع المؤلّف من أجزاء مختلفة وجواهر شتّي غير أنّه بالاجتماع شيء واحد. قلت: جعلت فداك فرَّجت عنّي فرَّج الله عنك، فقولك: اللّطيف الخبير فسّره لي كما فسرت الواحد فإني أعلم أن لطفه علي خلاف لطف خلقه المفصل غير أنّي اُحبُّ أن تشرح ذلك لي. فقال: يا فتح إنّما قلنا: اللّطيف للخلق اللّطيف [و] لعلمه بالشيء اللّطيف أو لا تري وفّقك الله وثبّتك إلي أثر صنعه في النبات اللّطيف وغير اللّطيف ومن الخلق اللّطيف ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الاُنثي والحدث المولود من القديم. فلمّا رأينا صغر ذلك في لطفه واهتداءه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثمَّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنّه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها. لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا علمنا أنَّ خالق هذا الخلق لطيف

لطف بخلق ما سمّيناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأنَّ كلَّ صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللّطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء [282] . [ صفحه 222] 4 _ عن عليّ بن إبراهيم، عن المختار بن محمّد الهمدانيّ وعن محمّد ابن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلويّ جميعاً، عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إنَّ لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم وإرادة عزم، ينهي وهو يشاء ويأمر وهو يشاء. أو ما رأيت أنه نهي آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالي، وأمر إبراهيم أن يذبح اسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالي [283] . 5 _ عن أيّوب بن نوح أنّه كتب إلي أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الله عزَّوجلَّ أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوَّنها، أو لم يعلم ذلك حتّي خلقها وأراد خلقها وتكوينها، فعلم ما خلق عند ما خلق وما كوَّن عند ما كوَّن؟ فوقَّع (عليه السلام) بخطّه: لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الاشياء [284] . 6 _ عن الفتح بن يزيد الجرجانيِّ عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته عن أدني المعرفة، فقال: الإقرار بأ نّه لا إله غيره ولا شبه له ولا نظير وأ نّه قديم مثبت موجود غير فقيد وأنّه ليس كمثله شيء [285] . 7 _ عن معلي بن محمّد، قال: سئل العالم (عليه السلام) كيف علم الله؟ قال: علم، وشاء، وأراد، وقدَّر، وقضي، وأبدي فأمضي ما قضي، وقضي

ما قدَّر، وقدَّر ما أراد، فبعلمه كانت المشيَّة، وبمشيَّته كانت الإرادة، وبإرادته كان التَّقدير، وبتقديره كان [ صفحه 223] القضاء، وبقضائه كان الإمضاء. فالعلم متقدِّم المشيَّة والمشيَّة ثانية، والإرادة ثالثة، والتّقدير واقع علي القضاء بالإمضاء، فللّه تبارك وتعالي البداء فيما علم متي شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء. فالعلم بالمعلوم قبل كونه، والمشيَّة في المنشأ قبل عينه، والإرادة في المراد قبل قيامه، والتّقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عياناً وقياماً، والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام. المدركات بالحواسِّ من ذي لون وريح ووزن وكيل وما دبَّ ودرج من إنس وجنٍّ وطير وسباع وغير ذلك ممّا يدرك بالحواسِّ، فللّه تبارك وتعالي فيه البداء ممّا لا عين له، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء. والله يفعل ما يشاء، وبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشيَّة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها وبالإرادة ميَّز أنفسها في ألوانها وصفاتها وحدودها، وبالتَّقدير قدَّر أوقاتها وعرف أوَّلها وآخرها، وبالقضاء أبان للنّاس أماكنها ودلَّهم عليها، وبالإمضاء شرح عللها، وأبان أمرها، وذلك تقدير العزيز العليم [286] . قال (عليه السلام): إنَّ الله لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ; وأنّي يُوصف الّذي تعجز الحواسُّ أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحدَّه والأبصار عن الاحاطة به. نأي في قربه وقرب في نأيه، كيَّف الكيف بغير أن يقال: كيف، وأيَّن الأين بلا أن يقال: أين، هو منقطع الكيفيَّة والأينيَّة، الواحد الأحد، جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه [287] . [ صفحه 224] 8 _ رسالته (عليه السلام) المعروفة في الرّد علي أهل الجبر والتّفويض من عليّ بن محمّد ; سلام عليكم وعلي من اتّبع الهدي ورحمة الله وبركاته

; فإنّه ورد عليَّ كتابكم [288] وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم وخوضكم في القدر ومقالة من يقول منكم بالجبر ومن يقول بالتفويض وتفرُّقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم، ثمّ سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كلَّه. اعلموا رحمكم الله أنا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممّن يعقل عن الله جلَّ وعزَّ لا تخلو من معنيين: إمّا حقٌّ فيُتَّبع وإمّا باطل فيُجتنب. وقد اجتمعت الاُمّة قاطبة لا اختلاف بينهم أنَّ القرآن حقٌّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق وفي حال اجتماعهم مقرّون بتصديق الكتاب وتحقيقه، مصيبون، مهتدون وذلك بقول رسول الله (صلي الله عليه وآله): «لا تجتمع اُمَّتي علي ضلالة» فأخبر أنَّ جميع ما اجتمعت عليه الاُمّة كلُّها حق، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً. والقرآن حقٌّ لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه. فإذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقه وأنكر الخبر طائفة من الاُمّة لزمهم الإقرار به ضرورة حين اجتمعت في الأصل علي تصديق الكتاب، فإن [هي] جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملَّة. فأوَّل خبر يعرف تحقيقه من الكتاب وتصديقه والتماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم ; حيث قال: «إنِّي مخلّ_ِف فيكم الثَّقلين كتاب الله وعترتي _ أهل بيتي _ لن تضلّوا ما تمسَّكتم بهما وإنَّهما لن يفترقا حتّي يردا عليَّ الحوض». فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصّاً مثل قوله جلَّ وعزَّ: (إنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ والّذينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ

اللهِ هُمُ [ صفحه 225] الغالِبُونَ) [289] وروت العامّة في ذلك أخباراً لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه تصدَّق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه. فوجدنا رسول الله (صلي الله عليه وآله) قد أتي بقوله: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» وبقوله: «أنت منِّي بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي» ووجدناه يقول: «عليّ يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم من بعدي». فالخبر الأوَّل الَّذي استنبطت منه هذه الأخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم، وهو أيضاً مُوافق للكتاب ; فلمّا شهد الكتاب بتصديق الخبر وهذه الشَّواهد الاُخر لزم علي الاُمَّة الإقرار بها ضرورةً إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة ووافقت القرآن والقرآن وافقها. ثمَّ وردت حقائق الأخبار من رسول الله (صلي الله عليه وآله) عن الصّادقين(عليهما السلام) ونقلها قوم ثقات معروفون فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً واجباً علي كلِّ مؤمن ومؤمنة لا يتعدَّاه إلاّ أهل العناد. وذلك أنَّ أقاويل آل رسول الله(صلي الله عليه وآله) متَّصلة بقول الله وذلك مثل قوله في محكم كتابه: (إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً) [290] ووجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله (صلي الله عليه وآله): «من آذي عليّاً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذي الله ومن آذي الله يوشك أن ينتقم منه» وكذلك قوله (صلي الله عليه وآله): «من أحبَّ عليًّا فقد أحبَّني ومن أحبَّني فقد أحبَّ الله». ومثل قوله (صلي الله عليه وآله) في بني وليعة: «لأبعثنَّ إليهم رجلاً كنفسي يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله قم ياعليُّ فسر إليهم» [291] وقوله(صلي الله عليه وآله) يوم خيبر: «لأبعثنَّ إليهم

غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله كرّاراً غير فرَّار لا يرجع حتّي يفتح الله عليه». فقضي رسول الله (صلي الله عليه وآله) بالفتح قبل التَّوجيه فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) فلمّا كان من الغد دعا عليّاً(عليه السلام) فبعثه إليهم فاصطفاه بهذه المنقبة وسمّاه كرَّاراً غير فرَّار، وسمّاه الله محبّاً لله ولرسوله، فأخبر أنَّ الله ورسوله يحبّانه. [ صفحه 226] وإنّما قدَّمنا هذا الشَّرح والبيان دليلاً علي ما أردنا وقوَّة لما نحن مبيِّنوه من أمر الجبر والتَّفويض والمنزلة بين المنزلتين وبالله العون والقوَّة وعليه نتوكَّل في جميع اُمورنا فإنّا نبدأ من ذلك بقول الصّادق (عليه السلام): «لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين وهي صحَّة الخلقة وتخلية السَّرب [292] والمهلة في الوقت والزَّاد مثل الرَّاحلة والسَّبب المهيِّج للفاعل علي فعله»، فهذه خمسة أشياء جمع به الصّادق(عليه السلام) جوامع الفضل، فإذا نقص العبد منها خلَّة كان العمل عنه مطروحاً بحسبه، فأخبر الصّادق (عليه السلام) بأصل ما يجب علي النّاس من طلب معرفته ونطق الكتاب بتصديقه فشهد بذلك محكمات آيات رسوله، لأنّ الرّسول(صلي الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام) لا يعدون شيئاً من قوله وأقاويلهم حدود القرآن، فإذا وردت حقائق الأخبار والتُمست شواهدها من التَّنزيل فوجد لها موافقاً وعليها دليلاً كان الاقتداءُ بها فرضاً لا يتعدّاه إلاّ أهل العناد كما ذكرنا في أوَّل الكتاب ولمّا التمسنا تحقيق ما قاله الصّادق(عليه السلام) من المنزلة بين المنزلتين وإنكاره الجبر والتفويض وجدنا الكتاب قد شهد له وصدَّق مقالته في هذا. وخبرٌ عنه أيضاً موافق لهذا ; أنَّ الصّادق (عليه السلام) سئل أهل أجبر الله العباد علي المعاصي؟ فقال الصّادق (عليه السلام): هو أعدل من

ذلك. فقيل له: فهل فوَّض إليهم؟ فقال (عليه السلام): هو أعزُّ وأقهر لهم من ذلك. وروي عنه أنَّه قال: النّاس في القدر علي ثلاثة أوجه: رجل يزعم أنَّ الأمر مفوّض إليه فقد وهَّن الله في سلطانه فهو هالك. ورجل يزعم أنَّ الله جلَّ وعزَّ أجبر العباد علي المعاصي وكلَّفهم ما لا يطيقون فقد ظلَّم الله في حكمه فهو هالك. ورجل يزعم أنَّ الله كلَّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ، فأخبر (عليه السلام) أنَّ من تقلَّد الجبر والتفويض ودان بهما فهو علي خلاف الحقِّ. فقد شرحت الجبر الَّذي من دان به يلزمه الخطأ، وأنَّ الّذي يتقلَّد التّفويض يلزمه الباطل، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما [293] . [ صفحه 227]

من تراثه الفقهي

1 _ عن خيران الخادم قال: كتبت إلي الرّجل _ أيّ الإمام _ صلوات الله عليه أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّي فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صلّ فيه فإن الله إنما حرّم شربها وقال بعضهم: لا تصلّ فيه، فكتب (عليه السلام): لا تصلّ فيه فإنه رجسٌ [294] . 2 _ عن علي بن ابراهيم، عن يحيي بن عبد الرَّحمن بن خاقان قال: رأيت أبا الحسن الثالث (عليه السلام) سجد سجدة الشكر فافترش ذراعيه فألصق جؤجؤه وبطنه بالأرض فسألته عن ذلك؟ فقال: كذا نحبّ [295] . 3 _ وعنه أيضاً، عن عليّ بن راشد قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) جعلت فداك إنك كتبت إلي محمد بن الفرج تعلمه أنّ أفضل ما تقرأه في الفرائض بإنا أنزلناه وقل هو الله أحد، وان صدري ليضيق بقراءتهما

في الفجر، فقال(عليه السلام): لا يضيقنَّ صدرك بهما فإن الفضل والله فيهما [296] . 4 _ سأل داود بن أبي زيد أبا الحسن الثالث (عليه السلام) عن: القراطيس والكواغذ المكتوبة عليها هل يجوز عليها السجود؟ فكتب: يجوز [297] . 5 _ عن أيوب بن نوح قال: كتبت إلي أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عن المغمي عليه يوماً أو أكثر هل يقضي ما فاته أم لا؟ فكتب (عليه السلام): لا يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة [298] . [ صفحه 228] 6 _ عن أبي إسحاق بن عبد الله العلوي العريضي قال: وحك في صدري ما الايام التي تصام؟ فقصدت مولانا أبا الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) وهو بصربا. ولم أبد ذلك لأحد من خلق الله فدخلت عليه فلما بصر بي قال(عليه السلام): يا أبا اسحاق جئت تسألني عن الأيام التي يصام فيهن وهي أربعة: أولهن يوم السابع والعشرين من رجب يوم بعث الله تعالي محمداً (صلي الله عليه وآله) إلي خلقه رحمة للعالمين، ويوم مولده (صلي الله عليه وآله) وهو السابع عشر من شهر ربيع الأول، ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة فيه دحيت الكعبة، ويوم الغدير فيه أقام رسول الله (صلي الله عليه وآله) أخاه (عليه السلام) علماً للناس وإماماً من بعده، قلت: صدقت جعلت فداك لذلك قصدت، أشهد أنّك حجة الله علي خلقه [299] . 7 _ عن علي بن مهزيار قال: كتبت إليه: يا سيدي رجل دفع إليه مال يحجّ فيه، هل عليه في ذلك المال حين يصير إليه الخمس أو علي ما فضل في يده بعد الحج؟ فكتب (عليه السلام): ليس عليه الخمس [300] . 8 _ عن أحمد بن

حمزة قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): رجلٌ من مواليك له قرابة كلّهم يقول بك وله زكاة أيجوز له أن يعطيهم جميع زكاته؟ قال: نعم [301] 9 _ عن أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي الحسن الثالث (عليه السلام): إنّا نؤتي بالشيء فيقال هذا كان لأبي جعفر (عليه السلام) عندنا، فكيف نصنع؟ فقال: ما كان لأبي(عليه السلام) بسبب الإمامة فهو لي وما كان غير ذلك فهو ميراث علي كتاب الله وسنة نبيه(صلي الله عليه وآله) [302] . [ صفحه 229] 10 _ عن ابراهيم بن محمد قال: كتبت إلي أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، أسأله عما يجب في الضياع، فكتب: الخمس بعد المؤونة، قال: فناظرت أصحابنا فقالوا: المؤونة بعدما يأخذ السلطان، وبعد مؤونة الرجل، فكتبت إليه أنّك قلت: الخمس بعد المؤونة وإن أصحابنا اختلفوا في المؤونة؟ فكتب: الخمس بعدما يأخذ السلطان وبعد مؤونة الرجل وعياله [303] . 11 _ كتب محمد بن عيسي بن عبيد اليقطيني إلي أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) في رجل دفع ابنه إلي رجل وسلّمه منه سنة بأجرة معلومة ليخيط له، ثم جاء رجل آخر فقال له: سلّم ابنك مني سنة بزيادة هل له الخيار في ذلك؟ وهل يجوز له أن يفسخ ما وافق عليه الأول أم لا؟ فكتب(عليه السلام) بخطه: يجب عليه الوفاء للأول ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف [304] . 12 _ عن محمد بن عيسي، عن ابراهيم الهمداني قال: كتبت إلي أبي الحسن (عليه السلام) وسألته عن إمرأة آجرت ضيعتها عشر سنين علي أن تعطي الأجرة في كل سنة عند انقضائها لا يقدم لها شيء من الأجرة ما لم يمض الوقت فماتت

قبل ثلاث سنين أو بعدها هل يجب علي ورثتها إنفاذ الاجارة إلي الوقت أم تكون الاجارة منتقضة بموت المرأة؟ فكتب (عليه السلام): ان كان لها وقت مسمي لم يبلغ فماتت فلورثتها تلك الإجارة فإن لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئاً منه فيعطي ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إن شاء الله [305] . 13 _ عن محمد بن رجاء الخياط قال: كتبت إلي الطيب (عليه السلام) إني كنت في المسجد الحرام فرأيت ديناراً فأهويت إليه لآخذه فاذا أنا بآخر، ثم بحثت [ صفحه 230] الحصي فاذا أنا بثالث فأخذتها فعرَّفتها ولم يعرفها أحدٌ فما تري في ذلك؟ فكتب (عليه السلام): إني قد فهمت ما ذكرت من أمر الدَّنانير فإن كنت محتاجاً فتصدق بثلثها، وان كنت غنياً فتصدق بالكلِّ [306] . 14 _ عن أحمد بن محمد قال: قال أبو الحسن (عليه السلام) في قول الله عزوجلَّ: (وليطّوفوا بالبيت العتيق) قال: طواف الفريضة طواف النساء [307] . 15 _ روي عليُّ بن مهزيار عن محمد بن اسماعيل قال: أمرت رجلاً أن يسأل أبا الحسن (عليه السلام) عن الرَّجل يأخذ من الرَّجل حجة فلا تكفيه أله أن يأخذ من رجل آخر حجة أخري فيتّسع بها فتجزي عنهما جميعاً أو يتركهما جميعاً أن لم تكفه إحداهما؟ فذكر انه قال: أحبّ إليّ ان تكون خالصة لواحد فإن كانت لا تكفيه فلا يأخذها [308] . 16 _ عن القاسم بن محمد الزيات قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إني ظاهرت من امرأتي فقال: كيف قلت؟ قال: قلت: أنت عليَّ كظهر اُمي ان فعلت كذا وكذا، فقال: لا شيء عليك ولا تعد [309] . 17 _

عن الوشاء قال: كتبت إليه أسأله عن الفقاع، قال: فكتب حرام وهو خمر ومن شربه كان بمنزلة شارب الخمر، قال: وقال أبو الحسن الأخير (عليه السلام): لو أنّ الدار داري لقتلت بايعه ولجلدت شاربه، وقال أبو الحسن الأخير (عليه السلام): حدّه حدُّ شارب الخمر، وقال (عليه السلام): هي خميرة استصغرها الناس [310] . 18 _ كتب ابراهيم بن محمد الهمداني إليه (عليه السلام): ميّت أوصي بأن يجري [ صفحه 231] علي رجل ما بقي من ثلثه ولم يأمر بإنفاذ ثلثه، هل للوصي أن يوقف ثلث الميّت بسبب الاجراء؟ فكتب (عليه السلام): ينفذ ثلثه ولا يوقف. 21 _ عن أبي عليّ بن راشد قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) قلت: جعلت فداك اشتريت أرضاً إلي جنب ضيعتي بألفي درهم فلما وفيت المال خبّرت أنّ الارض وقف؟ فقال: لا يجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلة في مالك إدفعها إلي من اوقفت عليه. قلت لا أعرف لها ربّاً؟ قال: تصدق بغلّتها [311] .

من أدعية الإمام الهادي

1 _ دعاؤه عند الشدائد: وكان يدعو به إذا ألمّت به حادثة أو حلّ به خطب أو أراد قضاء حاجة مهمة، و كان قبل ان يدعو به يصوم يوم الاربعاء والخميس والجمعة، ثم يغتسل في أول يوم الجمعة ويتصدق علي مسكين ويصلي أربع ركعات فيقرأ في الركعة الاولي سورة الفاتحة وسورة يس وفي الثانية سورة الحمد وحم الدخان، وفي الثالثة سورة الحمد مع سورة الواقعة وفي الرابعة سورة الحمد وسورة تبارك، وإذا فرغ منها بسط راحتيه إلي السماء، ودعا باخلاص قائلاً بعد البسملة [312] : «اللهم لك الحمد حمداً يكون أحق الحمد بك، وأرضي الحمد لك، وأوجب الحمد لك، وأحب الحمد اليك، ولك الحمد

كما انت اهله وكما رضيته لنفسك وكما حمدك من رضيت حمده من جميع خلقك ولك الحمد كما حمدك به جميع انبيائك ورسلك وملائكتك، وكما ينبغي لعزك وكبريائك وعظمتك، ولك الحمد حمداً تكل الالسن عن [ صفحه 232] صفته ويقف القول عن منتهاه، ولك الحمد حمداً لا يقصر عن رضاك ولا يفضله شيء من محامدك. اللهم ومن جودك وكرمك انك لا تخيب من طلب إليك وسألك ورغب فيما عندك، وتبغّض من لم يسألك، وليس كذلك احد غيرك، وطمعي يا رب في رحمتك ومغفرتك، وثقتي باحسانك وفضلك حداني علي دعائك والرغبة إليك، وانزل حاجتي بك، وقد قدمت امام مسألتي التوجه بنبيك الذي جاء بالحق والصدق فيما عندك، ونورك وصراطك المستقيم الذي هديت به العباد، وأحييت بنوره البلاد، وخصصته بالكرامة، وأكرمته بالشهادة وبعثته علي حين فترة من الرسل. اللهم دللت عبادك علي نفسك فقلت تباركت وتعاليت: (وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون) [313] وقلت: (قل ياعبادي الذين اسرفوا علي انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفور الرحيم) [314] . وقلت: (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون) [315] اجل يارب نعم المدعو أنت ونعم الرب أنت ونعم المجيب، وقلت: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الاسماء الحسني) [316] ، وانا ادعوك اللهم بأسمائك التي إذا دعيت بها أجبت، وإذا سُئلت بها أعطيت، وأدعوك متضرعاً إليك مستكيناً، دعاء من أسلمته الغفلة، وأجهدته الحاجة، أدعوك دعاء من استكان، واعترف بذنبه، ورجاك لعظيم مغفرتك، وجزيل مثوبتك. [ صفحه 233] 2 _ دعاء الاعتصام، وهذا نصّه: «يا عدّتي عند العدد، ويا رجائي

والمعتمد، ويا كهفي والسند ويا واحد يا أحد، يا قل هو الله أحد، أسألك بحق من خلقته من خلقك، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحد أن تصلي عليهم... ثمّ تذكر حاجتك» [317] . 3 _ مناجاته: وكان الإمام الهادي (عليه السلام) يناجي الله تعالي في غلس الليل البهيم بقلب خاشع، ونفس آمنة مطمئنة. وكان ممّا يقول في مناجاته: «إلهي مسيء قد ورد، وفقير قد قصد، فلا تخيّب مسعاه وارحمه واغفر له خطاه...». «الهي صلِّ علي محمد وآل محمد، وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري ومُحي من المخلوقين ذكري، وصرت من المنسيين كمن نسي، الهي كبُر سني، ورق جلدي، ودقّ عظمي، ونال الدهر مني واقترب اجلي، ونفدت ايامي، وذهبت شهواتي وبقيت تبعاتي إلهي ارحمني إذا تغيّرت صورتي...» [318] .

من تراثه التربوي والأخلاقي

وأثرت عن الإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام) مجموعة من الكلمات الذهبية التي عالج فيها مختلف القضايا التربوية والأخلاقية، والنفسية، وهذه بعضها: 1 _ قال (عليه السلام): «خير من الخير فاعله، وأجمل من الجميل قائله، وأرجح من العلم عامله». [ صفحه 234] 2 _ قال (عليه السلام): «من سأل فوق قدر حقه فهو أولي بالحرمان». 3 _ قال (عليه السلام): «صلاح من جهل الكرامة هوانه». 4 _ قال (عليه السلام): «الحلم أن تملك نفسك، وتكظم غيظك مع القدرة عليه». 5 _ قال (عليه السلام): «الناس في الدنيا بالمال، وفي الآخرة بالأعمال». 6 _ قال (عليه السلام): «من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه». 7 _ قال (عليه السلام): «تريك المقادير ما لا يخطر ببالك». 8 _ قال (عليه السلام): «شر الرزية سوء الخلق». 9 _ قال (عليه السلام): «الغني قلة تمنيك، والرضي بما يكفيك، والفقر شره

النفس وشدة القنوط، والمذلة اتباع اليسير، والنظر في الحقير». 10 _ سئل الإمام (عليه السلام) عن الحزم؟ فقال (عليه السلام): «هو أن تنظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك». 11 _ قال (عليه السلام): «راكب الحرون _ وهو الفرس الذي لا ينقاد _ أسير نفسه». 12 _ قال (عليه السلام): «الجاهل أسير لسانه». 13 _ قال (عليه السلام): «المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقد الوثيقة وأقل ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أس أسباب القطيعة». 14 _ قال (عليه السلام): «العتاب مفتاح التعالي، والعتاب خير من الحقد». 15 _ أثني بعض أصحاب الإمام علي الإمام، وأكثر من تقريظه والثناء عليه، فقال (عليه السلام) له: «إن كثرة الملق يهجم علي الفطنة، فإذا حللت من أخيك محل الثقة فاعدل عن الملق إلي حسن النية». 16 _ قال (عليه السلام): «المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنان». 17 _ قال (عليه السلام): «الحسد ماحق الحسنات، والزهو جالب المقت». [ صفحه 235] 18 _ قال (عليه السلام): «العجب صارف عن طلب العلم، وداع إلي الغمط [319] في الجهل». 19 _ قال (عليه السلام): «البخل أذم الأخلاق، والطمع سجية سيئة». 20 _ قال (عليه السلام): «مخالطة الأشرار تدل علي شر من يخالطهم». 21 _ قال (عليه السلام): «الكفر للنعم امارة البطر، وسبب للتغيير». 22 _ قال (عليه السلام): «اللجاجة مسلبة للسلامة، ومؤدية للندامة». 23 _ قال (عليه السلام): «الهزء فكاهة السفهاء وصناعة الجهال». 24 _ قال (عليه السلام): «العقوق يعقب القلة، ويؤدي إلي الذلة». 25 _ قال (عليه السلام): «السهر ألذ للمنام، والجوع يزيد في طيب الطعام». 26 _ قال (عليه السلام) لبعض أصحابه: «اذكر مصرعك بين يدي أهلك حيث لا طبيب يمنعك، ولا

حبيب ينفعك». 27 _ قال (عليه السلام): «اذكر حسرات التفريط بأخذ تقديم الحزم». 28 _ قال (عليه السلام): «ما استراح ذو الحرص والحكمة». 29 _ قال (عليه السلام): «لا نجع في الطبايع الفاسدة». 30 _ قال (عليه السلام): «من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي». 31 _ قال (عليه السلام): «شر من الشر جالبه، وأهول من الهول راكبه». 32 _ قال (عليه السلام): «إياك والحسد فإنه يبين فيك، ولا يعمل في عدوك». 33 _ قال (عليه السلام): «إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوءاً حتي يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور اغلب فيه من العدل فليس لأحد أن يظن [ صفحه 236] بأحد خيراً ما لم يعلم ذلك منه». 34 _ قال (عليه السلام) للمتوكل: «لا تطلب الصفاء ممن كدرت عليه، ولا الوفاء ممن غدرت به، ولا النصح ممن صرفت سوء ظنك إليه، فإنما قلب غيرك لك كقلبك له». 35 _ قال (عليه السلام): «ابقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها، واعلموا أن النفس أقبل شيء لما اعطيت، وامنع شيء لما منعت فاحملوها علي مطية لا تبطي». 36 _ قال (عليه السلام): «الجهل والبخل أذم الأخلاق». 37 _ قال (عليه السلام): «حسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن». 38 _ قال (عليه السلام): «إن من الغرة بالله أن يصر العبد علي المعصية ويتمني علي الله المغفرة». 39 _ قال (عليه السلام): «لو سلك الناس وادياً وسيعاً لسلكت وادي رجل عبد الله وحده خالصاً». 40 _ قال (عليه السلام): «والغضب علي من تملك لؤم» [320] . 41 _ قال (عليه السلام): «إنّ لله بقاعاً

يحبُّ أن يدعي فيها فيستجيب لمن دعاه والحير [321] منها». 42 _ وقال (عليه السلام) يوماً: «إنَّ أكل البطّيخ يورث الجذام»، فقيل له: أليس قد أمن المؤمن إذا أتي عليه أربعون سنة من الجنون والجذام والبرص؟ قال(عليه السلام): «نعم ; ولكن إذا خالف المؤمن ما امر به ممّن آمنه لم يأمن أن تصيبه عقوبة الخلاف». [ صفحه 237] 43 _ وقال (عليه السلام): «الشّاكر أسعد بالشُّكر منه بالنّعمة الّتي أوجبت الشُّكر، لأنّ النِّعم متاع. والشُّكر نعم وعقبي». 44 _ وقال (عليه السلام): «إنَّ الله جعل الدُّنيا دار بلوي والآخرة دار عقبي وجعل بلوي الدُّنيا لثواب الآخرة سبباً وثواب الآخرة من بلوي الدُّنيا عوضاً». 45 _ وقال (عليه السلام): «إنّ الظّالم الحالم يكاد أن يعفي علي ظلمه بحلمه. وإنّ المحقَّ السّفيه يكاد أن يطفئ نور حقِّه بسفهه». 46 _ وقال (عليه السلام): «من جمع لك ودَّه ورأيه فاجمع له طاعتك». 47 _ وقال (عليه السلام): «من هانت عليه نفسه فلا تأمن شرَّه». 48 _ وقال (عليه السلام): «الدُّنيا سوق، ربح فيها قوم وخسر آخرون» [322] . إلي هنا نختم الكلام عن التراث القيّم للإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) تاركين التفصيل إلي مسنده ومصادر ترجمته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

پاورقي

[1] اُصول الكافي: 1 / 502، الفصول المهمة: 265.

[2] تذكرة الخواص: 202.

[3] مآثر الكبراء: 3 / 96.

[4] بحار الانوار: 50 / 161.

[5] المناقب: 4 / 432.

[6] مطالب السؤول: 88.

[7] وفيات الاعيان: 2 / 435.

[8] مرآة الجنان: 2 / 160.

[9] البداية والنهاية: 11 / 15. [

[10] صحاح الاخبار: 56.

[11] الصواعق المحرقة: 205.

[12] أخبار الدول: 117.

[13] الاتحاف بحب الاشراف: 176.

[14] سبائك الذهب: 57.

[15] نور

الابصار: 149.

[16] تاريخ العلويين: 167.

[17] سيرة الإمام علي الهادي(عليه السلام): 59.

[18] الاعلام: 5 / 140.

[19] عقيدة الشيعة: 215.

[20] وسيلة الخادم الي المخدوم: صلوات الإمام الهادي (عليه السلام).

[21] صفة الصفوة: 2 / 98.

[22] المناقب: 4 / 409.

[23] مناقب آل أبي طالب: 4 / 443.

[24] الاتحاف بحبّ الاشراف: 176. والفصول المهمة لابن الصباغ: 274. والصواعق المحرقة: 312.

[25] اُصول الكافي:1 / 499 وعنه في الارشاد: 2 / 302، 303 وعن الكليني في اعلام الوري: 2 / 119. والفصول المهمة: 377.

[26] كتاب من لا يحضره الفقيه: 3 / 162.

[27] إعلام الوري: 2 / 123 عن كتاب الواحدة للعمّي، وعن الاعلام في بحار الأنوار: 50 / 189.

[28] يديخوا: أي يذلوها ويقهروها.

[29] الدفناس: الغبيّ والأحمق، كما في مجمع البحرين: 4 / 71.

[30] حديقة الشيعة للاردبيلي: 602، 603 عن المرتضي الرازي في كتاب الفصول، وابن حمزة في كتاب الهادي الي النجاة كلاهما عن الشيخ المفيد، وعنه في روضات الجنّات: 3 / 134.

[31] آل عمران (3): 23.

[32] كذا، والصحيح: ألا ترضون.. وإلاّ فالجواب بنعم وليس ببلي.

[33] المجادلة (58): 11.

[34] الزمر (35): 9.

[35] الاحتجاج للطبرسي: 2 / 259.

[36] وسائل الشيعة: 4 / 750.

[37] أمالي الطوسي: 285 ح 555 وعنه في بحار الأنوار: 50 / 127 وفي المناقب: 4 / 442.

[38] رجال الكشي: 606 ح 1129 وعنه في بحار الأنوار: 50 / 183.

[39] راجع حياة الإمام علي الهادي: 42 _ 62.

[40] اُصول الكافي: 1 / 298.

[41] مناقب آل أبي طالب: 4 / 433، وعنه في بحار الأنوار: 50 / 114.

[42] اُصول الكافي: 1 / 497، والارشاد: 368، والمصباح: 523.

[43] مناقب آل أبي طالب: 4 / 433، وثلاثة أميال تعادل خمسة كيلومترات.

[44] عيون أخبار الرضا (عليه

السلام): 1 / 62، ح 29.

[45] كشف الغمة: 2 / 374.

[46] المناقب: 4 / 432.

[47] إثبات الوصية: 184.

[48] إثبات الوصية: 185.

[49] إثبات الوصية: 185 و186.

[50] إثبات الوصية: 185 و186.

[51] الكافي: 1 / 572، ح 12.

[52] دلائل الإمامة: 205.

[53] تاريخ الاسلام: 2 / 66 _ 67 للدكتور حسن إبراهيم حسن.

[54] مروج الذهب: 3 / 476.

[55] تاريخ الاسلام: 395.

[56] تاريخ الاسلام: 2 / 321 _ 323.

[57] تاريخ الاسلام: 2 / 321 _ 323.

[58] تاريخ الاسلام: 2 / 324.

[59] مروج الذهب: 4 / 350 _ 353.

[60] تاريخ الطبري، تاريخ الامم والملوك، أحداث السنين (199 _ 217 ه_).

[61] مروج الذهب: 3 / 397.

[62] مروج الذهب: 3 / 414.

[63] هو محمد بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

[64] تاريخ الذهبي، دول الإسلام: 112 _ 113.

[65] تاريخ الذهبي، دول الإسلام: 112 _ 113.

[66] إثبات الوصية: 181 _ 183.

[67] تاريخ الذهبي، دول الاسلام: 114.

[68] تاريخ الذهبي، دول الإسلام: 115 _ 117.

[69] تاريخ الذهبي دول الإسلام: 115 _ 117.

[70] تاريخ اليعقوبي: 2 / 193.

[71] تاريخ أبي الفداء: 1 / 328.

[72] الارشاد: 2 / 282 وعنه في اعلام الوري: 2 / 101 بلا اسناد، وفي كشف الغمة: 3 / 144 بالاسناد.

[73] الارشاد: 2 / 281 _ 287 وعنه في اعلام الوري: 2 / 101 _ 105، وفي كشف الغمة: 3 / 143 _ 147.

[74] تاريخ أبي الفداء: 1 / 343.

[75] إثبات الوصية: 192.

[76] الكافي: 1 / 323، بحار الأنوار: 50 / 118 باب النصوص علي الخصوص عليه، الارشاد، للمفيد: 308.

[77] الكافي: 1 / 324، بحار الأنوار: 50 / 120 باب النصوص علي الخصوص عليه، الارشاد، للمفيد:

308.

[78] الكافي: 1 / 383.

[79] في طبعة: ثم سكت فقلت يا ابن رسول الله فمن الإمام بعد علي قال ابنه الحسن. قلت: بعد الحسن فبكي(عليه السلام) بكاءاً شديداً ثم قال: انّ محمداً من بعد الحسن ابنه...

[80] اكمال الدين: 2 / 278 واعلام الوري: 436.

[81] غيبة النعماني: 18 باختلاف ما في اللفظ وزيادة.

[82] اكمال الدين: 2 / 334 وكذا فيه: إذا توالت ثلاثة أسماء محمد وعلي والحسن كان رابعهم قائمهم.

[83] بحار الأنوار: 50 / 123 باب النصوص علي الخصوص عليه(عليه السلام).

[84] الكافي: 1 / 495 و496.

[85] اُصول الكافي: 1 / 495 ح 6 ب 132 وعنه في الارشاد: 2 / 291.

[86] تفسير العياشي: 1 / 319، مدينة المعاجز: 7 / 403، بحار الأنوار: 76 / 191.

[87] بحث حول الولاية: 57 _ 58.

[88] بحث حول الولاية: 60 _ 61.

[89] راجع: أهل البيت(عليهم السلام) تنوّع أدوار ووحدة هدف: 127 _ 129.

[90] أهل البيت(عليهم السلام) تنوع أدوار ووحدة هدف: 59.

[91] أهل البيت(عليهم السلام) تنوع ادوار ووحدة هدف: 131 _ 132 و147 _ 148.

[92] أهل البيت(عليهم السلام) تنوع أدوار ووحدة هدف: 144.

[93] مآثر الكبراء في تاريخ سامراء: 3 / 91 _ 95.

[94] تاريخ الخلفاء: 343 _ 345.

[95] الكامل في التاريخ: 5 / 269.

[96] الكامل في التاريخ: 5 / 270.

[97] أعلام الوري: 343.

[98] مروج الذهب: 4 / 76.

[99] يراجع تاريخ اليعقوبي: 2 / 482 _ 483، وتاريخ الخلفاء: 401. [

[100] تاريخ ابن الوردي: 1 / 335.

[101] تاريخ الخلفاء: 342.

[102] أمالي الشيخ الصدوق: 489.

[103] اُصول الكافي: 1 / 498 ح 1 ب 122.

[104] تاريخ الخلفاء: 349 _ 350.

[105] تاريخ الخلفاء: 349 _ 350.

[106] تاريخ الخلفاء، السيوطي: 347.

[107] تاريخ الخلفاء: 348.

[108] أن تاريخ

الرسالة التي استقدم بها المتوكل الإمام الهادي(عليه السلام) علي ما في جملة من المصادر هو سنة (244 ه_) وليس (234 ه_)، ويشهد لذلك ما صرّح به الشيخ المفيد(قدس سره) من أن مدّة إقامة الإمام الهادي بسرّ من رأي عشر سنين وأشهراً، وحيث استشهد في سنة (254 ه_) فيظهر من ذلك أن استقدامه كان سنة (244 ه_) أي بعد اثنتي عشرة سنة من حكم المتوكّل، وهو غير بعيد.

[109] تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي: 203.

[110] وقيل اسمه «تريخه»، وعن الطريحي في مجمع البحرين: «بريمة». بينما ذكر آخرون أن اسمه عبدالله بن محمد وكان يتولّي الحرب والصلاة بمدينة الرسول(صلي الله عليه وآله)، اُنظر الارشاد: 2 / 309.

[111] قرف: عابه أو اتّهمه.

[112] الكافي: 1 / 501.

[113] اثبات الوصية: 196 _ 197.

[114] تذكرة الخواص: 322.

[115] إثبات الوصية: 225.

[116] مروج الذهب: 4 / 85.

[117] مروج الذهب: 4 / 85، وتذكرة الخواص: 359.

[118] الارشاد: 313 _ 314.

[119] الكافي: 1 / 498.

[120] الكافي: 7 / 238.

[121] الكافي: 7 / 463.

[122] المناقب: 2 / 443.

[123] بحار الأنوار: 50 / 149.

[124] معرّب: زنبيلچه: زنبيل صغير.

[125] امالي الشيخ الطوسي: 276 ح 528، والمناقب: 4 / 444.

[126] رواه الصدوق في الخصال: 394 ومعالي الأخبار: 135 وكمال الدين ط النجف الأشرف: 365 و ط الغفاري: 382 ح9 ب 37 وعنه الطبرسي في اعلام الوري: 2 / 245. وعن الخصال وعلل الشرائع في بحار الأنوار: 50 / 194.

[127] الخرائج والجرائح: 1 / 417 _ 419 ح 1 ب 11 وعنه في كشف الغمة: 3 / 185.

[128] بحار الأنوار: 50 / 209.

[129] مهج الدعوات: 50 / 209.

[130] الكامل في التاريخ: 10 / 349.

[131] تاريخ الخلفاء: 356 _ 358.

[132] مقاتل الطالبيين:

396 ونحوه في تاريخ الخلفاء: 417.

[133] تاريخ الخلفاء: 417، 418.

[134] مقاتل الطالبيين: 419.

[135] تاريخ الخلفاء: 419.

[136] تاريخ الخلفاء للسيوطي: 358 _ 359.

[137] تاريخ الخلفاء للسيوطي: 359 _ 360.

[138] مقاتل الطالبيين: 434.

[139] المصدر السابق: 433.

[140] مقاتل الطالبيين: 434.

[141] تاريخ الاسلام السياسي: 3 / 1 بتصرف.

[142] تاريخ الإسلام السياسي: 3 / 2 ويراجع تاريخ الطبري: 7 حول ازدياد نفوذ الاتراك في عصر المعتصم.

[143] تاريخ الطبري: 11 / 44.

[144] تاريخ الإسلام السياسي: 3 / 5.

[145] تاريخ الإسلام السياسي: 3 / 5.

[146] مروج الذهب: 2 / 390.

[147] تاريخ الطبري: 7 أحداث عام 248 ه_.

[148] مروج الذهب: 2 / 407 _ 408.

[149] الكامل في التاريخ: 7 / 50 وما بعدها.

[150] تاريخ اليعقوبي: 2 / 503.

[151] لقد توالت حوادث الشغب في بغداد من سنة (249 ه_) وتجدّدت أربع مرات حتي سنة (252 ه_) وبدأت مشاغبات الخوارج من سنة (252 ه_) واستمرت الي سنة (262 ه_). ورافقها ظهور صاحب الزنج سنة (255ه_)، وهذه سوي ما سيأتي من انتفاضات العلويين خلال النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري.

[152] تاريخ الاسلام السياسي: 3 / 332 وما بعدها.

[153] يُراجع تاريخ الطبري: ج7، أحداث السنوات 247 _ 254 ه_.

[154] كمال الدين للشيخ الصدوق: 1 / 42.

[155] راجع الفصل الثاني من الباب الأوّل من هذا الكتاب.

[156] وقد عرفت أن بعض المصادر صرّحت بأن مدة إقامته(عليه السلام) في سامراء عشر سنوات وأشهر.

[157] راجع مقاتل الطالبيين: 478 _ 536 ومروج الذهب: 4 / 50 _ 180، والكامل في التاريخ، الجزء السابع.

[158] منتخب الأثر: 359 ط ثانية عن أربعين الخاتون آبادي (كشف الحق).

[159] كمال الدين: 354.

[160] بحار الأنوار: 50 / 155.

[161] أمالي الطوسي: 287 ح 557 ومناقب آل أبي طالب: 4

/ 438.

[162] راجع الكافي: 1 / 499.

[163] راجع الفصل الثالث من الباب الأول مبحث «التحذير من مجادلة الصوفيين». وراجع أيضاً مبحث «الإمام والغلاة» في الفصل الثاني من الباب الرابع.

[164] مسند الإمام الهادي(عليه السلام): 25.

[165] النمل (27): 40.

[166] يوسف (12): 100.

[167] يونس (10): 94.

[168] لقمان: (31): 27.

[169] الزخرف (43): 71.

[170] الشوري (42): 50.

[171] الطلاق (65): 2.

[172] يوسف (12): 102.

[173] آل عمران (3): 61.

[174] الفرقان (25): 68 _ 69.

[175] تحف العقول: 352.

[176] المناقب: 3 / 443.

[177] مسند الإمام الهادي(عليه السلام): 39.

[178] راجع مبحث تفتيش دار الإمام(عليه السلام) في حكم المتوكلّ.

[179] راجع القصة في كمال الدين: 417، ومسند الإمام الهادي: 98 _ 104.

[180] كمال الدين: 379.

[181] كمال الدين: 380.

[182] كمال الدين: 381.

[183] كمال الدين: 381.

[184] اثبات الوصية: 208.

[185] كمال الدين: 383 ح 10 وعنه في اعلام الوري: 2 / 247.

[186] اعلام الوري: 2 / 247 الحديث الأخير وقبله.

[187] اُصول الكافي: 1 / 326 ح 7.

[188] اُصول الكافي: 1 / 325 ح 2.

[189] اثبات الوصية: 208.

[190] اثبات الوصية: 209.

[191] كمال الدين: 382 ح 8 وعنه في اعلام الوري: 2 / 247.

[192] اُصول الكافي: 1 / 325 ح 1 ب النصّ علي إمامة أبي محمد(عليه السلام).

[193] المناقب: 2 / 451.

[194] بحار الأنوار: 50 / 142.

[195] بحار الأنوار: 50 / 147.

[196] الثاقب: 214.

[197] رجال الكشي: 517 ح 994 و995.

[198] منهاج التحرّك عند الإمام الهادي: 113 _ 120.

[199] مفاتيح الجنان: 363.

[200] السيرة النبوية، ابن اسحاقة: 1 / 262 وعنه في الطبري: 2 / 312.

[201] فيض القدير: 4 / 358.

[202] الاستيعاب: 2 / 759.

[203] الأحزاب (33): 10 _ 13.

[204] الأحزاب (33): 22.

[205] راجع حياة الإمام علي الهادي(عليه السلام): 140 _ 147.

[206] راجع الفصل

الثالث من الباب الأوّل.

[207] راجع الفصل الرابع من الباب الرابع، رسالة الإمام الي أهل الأهواز.

[208] راجع الكافي: 1 / 502.

[209] راجع مسند الإمام الهادي(عليه السلام): 112 و 121.

[210] راجع تراثه التربوي والأخلاقي في الفصل الأخير من الباب الرابع.

[211] راجع تحف العقول: 361، وكشف الغمة: 3 / 176.

[212] مسند الإمام الهادي(عليه السلام): 121.

[213] بحار الأنوار: 50 / 140.

[214] مسند الإمام الهادي (عليه السلام): 301.

[215] تاريخ الكوفة: 393.

[216] مستطرفات السرائر: 68 ح 14 وعنه في وسائل الشيعة 17: 19 ح 9 ب 45، وسائل الشيعة: 12 / 137.

[217] المناقب: 2 / 488.

[218] المناقب: 2 / 488.

[219] المناقب: 2 / 448.

[220] بحار الأنوار: 27 / 216، ح 18.

[221] إعلام الوري: 339 _ الفصول المهمة: 283.

[222] بحار الأنوار: 50 / 206، ح 18، المناقب: 4 / 401.

[223] مروج الذهب: 4 / 195.

[224] بحار الأنوار: 50 / 206 ح 19.

[225] راجع: الإمام الهادي من المهد الي اللحد: 509 _ 510.

[226] بحار الأنوار: 50 / 208، مروج الذهب: 4 / 194.

[227] إثبات الوصيّة: 257.

[228] بحار الأنوار: 50 / 210.

[229] بحار الأنوار: 50 / 207 ح 22، مروج الذهب 4 / 193.

[230] إعلام الوري: 339.

[231] اثبات الوصية: 257، الدمعة الساكبة: 8 / 222.

[232] موسوعة العتبات المقدسة: 12 / 82.

[233] تاريخ الشيعة: 101.

[234] تاريخ اليعقوبي: 2 / 503.

[235] الدسكرة: قرية في طريق خراسان قريبة من شهرابان (وهي قرية كبيرة ذات نخل وبساتين من نواحي الخالص شرقي بغداد)، وهي دسكرة الملك (معجم البلدان: 2 / 455 و3 / 375).

[236] الدمعة الساكبة: 8 / 223.

[237] الدمعة الساكبة: 8 / 225 و 227.

[238] الكافي: 1 / 497.

[239] مروج الذهب: 4 / 193.

[240] الدمعة الساكبة: 8 /

226 و 227، اعلام الوري: 339، كشف الغمة 2: 376.

[241] الدمعة الساكبة: 8 / 225، بحار الأنوار: 50 / 206، ح 17.

[242] روضة الواعظين: 1 / 246.

[243] الدمعة الساكبة: 8 / 226.

[244] راجع: لمحات من حياة الإمام الهادي(عليه السلام): 112 _ 120 محمد رضا سيبويه.

[245] الدمعة الساكبة: 8 / 225.

[246] لمحة من حياة الإمام الهادي(عليه السلام): 121 _ 122.

[247] راجع الإمام الهادي من المهد إلي اللحد، السيد محمد كاظم القزويني.

[248] معجم رجال الحديث: 1 / 232.

[249] اختيار معرفة الرجال: 2 / 869.

[250] خلاصة الأقوال: 51.

[251] رجال النجاشي: 91، وخلاصة الأقوال: 63.

[252] معجم رجال الحديث: 3 / 86.

[253] رجال النجاشي: 102.

[254] الفهرست: 56.

[255] رجال النجاشي: 102.

[256] رجال الطوسي: 375.

[257] معجم رجال الحديث: 5 / 313 _ 314.

[258] معجم رجال الحديث: 5 / 314.

[259] معجم رجال الحديث: 5 / 315.

[260] الناصريات: 63.

[261] معجم رجال الحديث: 6 / 38.

[262] اختيار معرفة الرجال : 2 / 841.

[263] اختيار معرفة الرجال : 824/2.

[264] معجم الرجال الحديث : 53/11.

[265] كمال الدين : 379 ح 1 و عنه في اعلام الوري : 245 ، 244/2.

[266] معجم رجال الحديث : 123/12.

[267] اختيار معرفة الرجال : 825/2.

[268] معجم رجال الحديث : 211/13.

[269] رجال النجاشي : 253.

[270] جامع الرواة : 5/2.

[271] طرائف المقال : 632/2.

[272] اختيار معرفة الرجال : 818/2.

[273] اختيار معرفة الرجال : 798/2.

[274] اختيار معرفة الرجال : 863/2.

[275] رجال النجاشي : 412.

[276] اقتبسنا ما ورد في هذا الفصل عن أصحاب الامام الهادي (عليه السلام) من « حياة الامام علي الهادي» : 230 - 170 للشيخ باقر شريف القرشي .

[277] تفسير العياشي: 1 / 106.

[278] تفسير العياشي: 1 / 380.

[279] تفسير العياشي: 1 / 9.

[280] الكافي: 1 /

97، والتوحيد: 109.

[281] الكافي: 1 / 102.

[282] الكافي: 1 / 118، والتوحيد: 185.

[283] اُصول الكافي: 1 / 151. واعلم ان الرواية مشتملة علي كون المأمور بالذبح اسحاق دون اسماعيل وهو خلاف ما تظافرت عليه أخبار الشيعة.

[284] التوحيد: 145.

[285] التوحيد: 283.

[286] التوحيد: 334.

[287] تحف العقول: 357.

[288] رواها الطبرسي بتلخيص في الاحتجاج تحت عنوان رسالته(عليه السلام) إلي اهل الاهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض، راجع بحار الأنوار: 50 / 68.

[289] المائدة (5): 55 _ 56.

[290] الاحزاب (33): 57.

[291] بنو وليعة _ كسفينة _: حي من كندة.

[292] السرب _ بالفتح _: الطريق والصدر _ وبالكسر _ أيضاً: الطريق والقلب. _ وبالتحريك _ الماء السائل.

[293] راجع تمام الرسالة في تحف العقول والاحتجاج، وبحار الأنوار: 50 / 68.

[294] الكافي: 3 / 405.

[295] الكافي: 3 / 324.

[296] الكافي: 3 / 290.

[297] من لا يحضره الفقيه: 1 / 270.

[298] تهذيب الاحكام: 4 / 243.

[299] تهذيب الأحكام: 4 / 305.

[300] الكافي: 1 / 547.

[301] الكافي: 3 / 552.

[302] من لا يحضره الفقيه: 2 / 42.

[303] تفسير العياشي: 2 / 63.

[304] الكافي: 4 / 239.

[305] الكافي: 5 / 270.

[306] الكافي: 4 / 239.

[307] الكافي: 40 / 512.

[308] من لا يحضره الفقيه: 2 / 444.

[309] الكافي: 6 / 158.

[310] الكافي: 6 / 423.

[311] الكافي: 7 / 37.

[312] الوسائل: 5 / 62.

[313] البقرة (2): 186.

[314] الزمر (39): 53.

[315] الصافات (37): 75.

[316] الإسراء (17): 110.

[317] راجع حياة الإمام علي الهادي: 131 _ 136.

[318] حياة الإمام علي الهادي(عليه السلام)،: 137، عن الدر النظيم.

[319] غمط الناس: احتقرهم وتكبّر عليهم.

[320] راجع حياة الإمام علي الهادي: 156 _ 165.

[321] الحير _ بالفتح _: مخفف حائر والمراد ان الحائر الحسيني (عليه السلام)

من هذه البقاع.

[322] راجع تحف العقول: 362 طبعة النجف الأشرف.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.