و كانت صديقه : روايه

اشارة

سرشناسه : سيد، كمال 1336 - عنوان و نام پديدآور : و كانت صديقه : روايه كمال السيد.

مشخصات نشر : قم موسسه انصاريان 1416ق = 1995م = 1374.

مشخصات ظاهري : 235ص.

شابك : چاپ دوم 964-438-161-0 ؛ چاپ سوم 964-438-181-0

يادداشت : چاپ دوم 1421ق= 1379.

يادداشت : چاپ سوم 1424ق = 2003م = 1382.

موضوع : فاطمه زهرا (س) ، 8؟ قبل از هجرت - 11ق -- سرگذشتنامه

رده بندي كنگره : BP27/2 /س 87و8

رده بندي ديويي : 297/973

شماره كتابشناسي ملي : م 75-6650

القسمت 01

استيقظت «خديجة» و شعور غريب بالفرحة و الأمل، ينبعث في نفسها، انبعاث النور في الظلام... و ربّما فكرت في سبب ما لهذه الموجة الهانئة من الفرح... لم تكن تدري سبباً واضحاً لذلك.. فقد كان كل ما يحيطها يفجّر كوامن الحزن بل و يبعث علي المرارة و اليأس... هاهي تشهد كيف تصب قريش العذاب علي زوجها.. تضطهده.. تسخر منه.. و تكذّبه و هو الصادق الأمين.

تساءلت في نفسها: لعلّه الحمل الجديد و الشجرة المثمرة عند ما تحمل يعني الربيع و الأمل و الحياة. ولكن كيف و قد أخذ اللَّه «عبداللَّه والقاسم» من قبل. و تركا في قلبها حزناً عميقاً كجرح لايندمل، ولكن لا... لا انها تشعر بالأمل.. يكبر في أعماقها.. ينمو و يتفتّح كوردة في الربيع.

و حملها هذه المرّة عجيب خفيف تكاد تطير به.. تشعر بالسكينة

[ صفحه 10]

تترقرق في قلبها كنبع بارد.. كما لاحظت شيئاً آخر... مسحة من نور شفّاف تطوف فوق وجهها... و شيئاً آخر أيضاً.. انّها لم تعد تشتهي طعاماً سوي الرطب و العنب.

أكملت خديجة ارتداء حلّة الخروج.. فزوجها ينتظر،

و «عليّ» الفتي الذي يتبع ابن عمه... يلازمه كظله، هو الآخر ينتظر.

انطلق الثلاثة.. أخذوا سمتهم نحو الكعبة مهوي الأفئدة و بيتاً بناه ابراهيم لربّه.

الكعبة تنشر ظلالها الوارفة فوق الأرض.. و السكينة تغمر المكان ما خلا حوار هادئ لرجال جالسين حول «زمزم» كان أحدهم يراقب مشهداً بدا له عجيباً.. كان يرنو إلي باب «الصفا». وقد طلع رجل بين الأربعين و الخمسين من عمره.. أقني الأنف.. أدعج العينين كأنه قمر يمشي علي الأرض و إلي يمينه فتي يشبه شبلاً و خلفهما امرأة قد سترت محاسنها.

قصد الثلاثة «الحجر الأسود» فاستلموه ثم طافوا البيت سبع مرّات؛ بعدها وقف الرجل و الفتي إلي يمينه و المرأة خلفهما.

هتف الرجل الأدعج العينين: اللَّه أكبر فردّد الفتي وراءه: اللَّه أكبر وكذا المرأة خلفهما... ركع الرجل الأزهر الوجه ثم سجد والمرأة والفتي يتابعانه.

[ صفحه 11]

وحول «زمزم» تساءل رجل قدم مكة حديثاً:

- هذا دين لم نعرفه من قبل.

أجاب رجل هاشمي:

- هذا ابن أخي محمّد بن عبداللَّه و امرأته خديجة وهذا الفتي علي بن أبي طالب و ما علي وجه الأرض من يعبد اللَّه بهذا الدين إلّا هؤلاء الثلاثة.

ساد الوجوم وجوه الرجال وهم يراقبون موكباً صغيراً يغادر الكعبة حتي تواري خلف جدران البيوت.

و تمرّ الأيام و تمرّ الشهور و يكبر الحمل.. و يتألّق وجه خديجة بالنور.. يشتدّ سطوعاً... و تبدأ آلام المخاض.

و بين صخور «حراء» كان محمّد يتأمل مكة، يفكر في مصير العالم و طريق الإنسان.

بدا وجهه حزيناً كسماء مزدحمة بالغيوم... يفكّر في قومه.. يحزن من أجلهم.. يريد أن يفتح عيونهم علي النور الذي اكتشفه فوق الجبل، لكنّهم صدّوا عنه... اعتادوا

حياة الخفافيش في الظلام... أعرضوا عن ملكوت السماوات.. فسقطوا في حضيض الأرض... ضاعوا بين عناصر التراب والطين.

لن يدعوا شيئاً إلّا و فعلوه.. آذوه.. سخروا منه.. عيّروه. قالوا:

[ صفحه 12]

إنه ساحر كذّاب.. أبتر سيموت و يموت ذكره.. فليس له ولد.

شعر بسكين حادّة تغوص في قلبه و هو يتذكّر سخريتهم منه.. ينادونه بالأبتر. النبي يفكّر في قومه حزيناً حزن نوح و ابراهيم و موسي و عيسي بن مريم. آخر الأنبياء يفكّر غير ملتفت لما يجري حوله.

تكهرب الفضاء.. غلالة شفافة كالضباب تملأ المكان.. و قد غمر الصمت جميع الأشياء.. اختفت الأصوات.. تلاشت و لم يعد «محمّد» يسمع شيئاً سوي كلمات.. تنفذ في أعماقه نفوذ النور في المياه الرائقة..

كلمات مؤثّره عميقة جفّ لها ريقه.. تصبب لها جبينه.. فبدا كحبّات لؤلؤ منثور.. الكلمات تضي ء في أعماقه كالنجوم:

- إنّا أعطيناك الكوثر. فصلِّ لربِّك و انحر. أن شانئك هو الأبتر.

و انقلب الرسول إلي بيته فرحاً.. و لما دخل علي زوجته وجدها هي الاُخري فرحة.. تنظر اليه بعينين تفيضان حبّاً.. هتفت بصوت يشوبه اعتذار:

- إني وضعتها اُنثي و ليس الذكر كالاُنثي.

تمتم النبي و هو يحتضن هدية السماء بحب:

- إنّا أعطيناك الكوثر.. اسميها فاطمة.. ليفطمها اللَّه من الشرور.

[ صفحه 13]

كلؤلؤة في حنايا صدفة بدت فاطمة بفمها الدقيق.. بعينيها الواسعتين كنافذتين تطلّان علي عالم واسع.. عالم يموج بالصفاء والسلام.

أضاء الأمل منزلاً صغيراً من منازل مكّة.. و تفتّحت فاطمة للحياة كما تتفتح الورود و الرياحين؛ و نمت في أحضان دافئة تنعم بقلبين ينبضان حبّاً لها و بنظرات تغمرها حناناً و رأفة.

و كبرت فاطمة.. نمت و

بدأت تعي شيئاً ممّا يجري حولها تنظر إلي أمّها يغمره الحزن.. و ربّما شعرت بمرارة تعتصر قلب أبيها و هي لا تعرف بعد سبباً لذلك.. تهفوا نحئو أمّها تقبل أباها.. فتعود البسمة إلي الوجهين الحزينين... و تشرق الفرحة من جديد كما تشرق الشمس من بين الغيوم لتغمر الأرض بالدف ء والنور والأمل.

و تمرّ الأيام.. و تنمو فاطمة.. و يعصف القدر بقسوة.. وتجد الطفلة نفسها بين ذراعي والدتها في وادٍ غير ذي زرع.. حيث أيام الجوع و الخوف و الحرمان..

تصغي إلي أنّات المظلومين.. و تتأمّل سيوفاً مسلولة في الظلام. كبرت فاطمة في الشِعب. فطمت اللبن و درجت فوق الرمال. ومرّ عام.

ومرّ بعده عامان آخران.. فجأة اختطف القدر امّها.. فقدت نبعاً ثرّاً من الحبّ...

[ صفحه 14]

فاطمة تبحث عن أمّها. تسأل أباها الحزين.

- أبه أين اُمي؟

ويجيب الأب المقهور و هو يحتضن ذكراه الغالية:

- أمّك في بيت من قصب لا تعب فيه و لا نصب.

تلوذ بالصمت.. تفكّر في أمّها. عيناها تبحثان عن نبع سماوي ولكن دون جدوي.

كبرت فاطمة في زمن الحرمان.. في زمن الحصار.. في زمن اليتم.. في زمن القهر.. لهذا نشأت الطفلة نحيلة القوام كغصن كسير.. رسم القهر في عينيها الواسعتين لوحة حزينة منظراً ساكناً يغمره الصمت.. تفكّر.. تنطوي علي نفسها في استغراق يشبه صلاة الأنبياء، نشأت فاطمة في زمن الجدب.. فغدا عودها صلباً ضارباً في الأرض جذوراً بعيدة الغور.. فبدت أكبر من سنّها و نهضت تملأ فراغاً هائلاً أحدثه رحيل والدتها.. نهضت سيّدة صغيرة.. أمّاً رؤوماً لوالدها الذي

أضحي وحيداً.

و تمرّ الأيام.. و ذات مساء خرج المحاصرون في «الشعب» إلي مكّة. عادوا إلي ضجيج

الحياة لتبدأ فصول اُخري من تاريخ مثير يزخر بالأحداث.. منذ الساعة التي التقت فيها السماء بالأرض في غار حراء.

[ صفحه 15]

القسمت 02

ملأ رغاء الجمال فضاء مكة، فقد آبت القوافل التي انطلقت إلي اليمن، في رحلة الشتاء؛ كان الجو بارداً و السماء تزدحم بغيوم رمادية؛ و صخور الجبال الجرداء بدت و كأنها تتضرع إلي السحب تنشدها قطرات المطر.

و شيئاً فشيئاً خفتت الأصوات و آبت الطيور إلي أو كارها ساعة المغيب، و بدا البيت خالياً موحشاً كصحراء مقفرة؛ كانت «فاطمة» مستغرقة في تفكير عميق تطوف في خيالها سورة «مريم» تلك الفتاة البتول التي انقطعت عن العالم في صومعتها تعبد اللَّه تتبتل اليه وحيدة.. تستكشف آفاق السماء متخففة من أثقال الأرض.

جلست فاطمة تترقب أوبة أبيها، و بدا المنزل خالياً من كل شي ء «لا زينب، و لا رقية» و لا «ام كلثوم» ذهبن ثلاثتهن إلي بيوت أزواجهنّ؛ زينب استقرت في بيت «أبي العاص بن الربيع» و اُم

[ صفحه 16]

«جميل» اختطفت «رقية» و «اُم كلثوم» لولديها «عتبة» و «عتيبة»؛ و كل هذا يهون أمام مصيبة كادت أن تعصف بكلّ شي ء.. لقد رحلت أمّها.. «خديجة» ذلك النبع المتدفق حناناً و حبّاً و دفئاً..

- لكِ اللَّه يا أمّي.. ما كادت أعوام الحصار تمضي بأيّامها الصعبة ولياليها المضنية حتي ودّعتي الدنيا ليبقي والدي وحيداً و هو أشدّ الناس حاجة إلي من يؤازره ويقف إلي جانبه.. ولكن يا أمّاه سأجهد نفسي لأملأ الفراغ الذي جثم علي البيت بعد رحيلك. سأكون له بنتاً و اُمّاً.. سأمسح دموعه بيدين تشبهان يديك و سأبتسم له كما كنتِ تضيئين قلبه بابتسامتك.

ولكن يا أمّاه أنا ما

أزال صغيرة ليتك صبرت قليلاً، أبي كان قويّاً بك.. و كان يتحدي العاصفة بعزم «أبي طالب» شيخ البطحاء تكفله صغيراً وحماه كبيراً غير انكما تركتماه وحيداً و استرحتما من هم الدنيا و غمّها و حقّ لكما أن تستريحا و قد عصفت بكما النوائب من كل مكان و سدّد لكما الدهر سهاماً مسمومة و حراباً. أجل يا أمي... لقد اظلمت الدنيا نشر المساء ستائره السوداء و هذا عامنا عام حزن.. ها أنا انتظر أوبة أبي.. أبي الذي يريد تبديد الظلام بنور الإسلام.. ولكن مكّة ترفض ذلك.. تتمنع و فيها من يحبّ حياة الظلمات كما الخفافيش لاتهوي النور و لا تحبّ النهار.

[ صفحه 17]

سمعت «فاطمة» خطيً هادئة كنبضات قلبٍ يخفق أملاً، خطيً تعرفها فاطمة.. لهذا هبّت كفراشة تهوي إلي النور بقوامها النحيل بعينيها الواسعتين سعة الصحراء وبابتسامتها المشرقة بالأمل...

ولكن لم تسمرت «فاطمة» في مكانها كأن خنجراً يطعن قلبها طعنة نجلاء..

عاد أبوها حزيناً بدا وجهه كسماء مدلهمة بسحب من رماد، كان ينفض عن رأسه و وجهه التراب و الأوساخ و تمتم الرسول بحسرة:

- و اللَّه ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه إلّا بعد موت أبي طالب.

اهتزّت «فاطمة» لهول ما تري وبدت كسعفة أغضبتها الريح... يا لصبر الأنبياء... شعرت بالانكسار. كيف سوّلت لذلك السفيه نفسه أن يمسّ بالسوء وجهاً يسطع بالنور...

بكت بانكسار.. وسالت دموعها حزينة حزن سماء تمطر علي هون.

مسح الأب دموع ابنته ثم قال وعيناه تشعان أملاً:

- لا تبكي يا فاطمة.. ان اللَّه ناصر أباك علي أعداء رسالته.

انحسرت الغيوم عن السماء فبدت صافية مشرقة وعادت الابتسامة إلي الوجه الملائكي... ولكن عتباً كان يموج في قلبها:

-

تري أين كان فتي شيخ البطحاء... و هو لايكاد يفارق أباها...

[ صفحه 18]

يتبعه كظلّه.. يدفع عنه أذي السفهاء من قريش و نسيت فاطمة كلّ شي ء بعد أن ناداها أبوها فخفّت اليه كحمامة بريّة تهفو إلي عشّها.

ابتسمت فاطمة... فانعكست ابتسامتها في وجه أبيها.. ابتسم محمّد.. أشرقت علي قلبه شمس تغمره بالدف ء و الأمل والحياة.. يالهذه الحورية الصغيرة ذكري خديجة.. وباقة ورد من جنّات السماء.

جلست فاطمة بين يدي والدها النبيّ زهرة تتفتح.. تتشرب كلمات اللَّه. و تضي ء الكلمات قلبها كنجوم في سماء صافية.

و تمر ثلاثة أعوام. و نمت فاطمة.. و تفتحت للحياة كما تتفتح الأزهار في الربيع.

[ صفحه 19]

القسمت 03

شي ءٌ يلوح في سماء مكة.. لعلها خيوط مؤامرة تحوكها قريش كما تحوك العنكبوت بيتاً هو أهون البيوت.

أبوجهل بدا مربّد الوجه غاظه محمد.. وقد أصبح حديث العرب في الجزيرة.. السياط تنهال علي فقراء المسلمين، و الإسلام ينتشر كنهر دافق تنثال مياهه علي الشطآن الرملية.

و أبوجهل لايروق له ذلك. غاظه رحيل محمد إلي الطائف يدعو قبائلها إلي دينه، و أفقده صوابه أن يبايعه رجال من يثرب...

لقد مات أبو طالب و انتهت زعامته.. و اختفت خديجة و تبددت ثروتها.. و آن لمحمّد أن يموت ليمت هذا المتمرّد الذي يريد تحطيم الأصنام آلهة الآباء و الأجداد و حارسة قوافلنا و مصدر هيبتنا؛ ولكن كيف السبيل إلي قتل محمّد.. إنه لمخ يعد وحيداً.. يحوطه رجال أشدّ من الحديد بأساً.. انّه لا ينسي صفعة حمزة صياد الاُسود. ولكن

[ صفحه 20]

حمزة قد فرّ من مكة. ترك ابن أخيه وهاجر. و اذن فان كل شي ء

مهيأ للضربة القاضية. و يالها من فكرة رهيبة تفتقت عن شيطان مكّة.

شمت «فاطمة» عبير الوحي ورأت أباها وجبينه يتصبب عرقاً.. اكتنفه جبريل يسرّه كلمات عظيمة يكشف له خيوط العنكبوت.

غمر الليل مكة. ملأ أزقّتها بظلمة مخيفة؛ و بدت النجوم وهي تومض من بعيد لآلئ متناثرة فوق عباءة سوداء..

تقاطر رجال من مختلف القبائل يخفون سيوفاً و خناجر كأشباح، الليل كانوا يمرقون خلف أبواب مكة الموصدة و أبوجهل ينتظر اللحظة الحاسمة. لسوف يغمد شباب مكّة سيوفهم في قلب محمد و ينتهي كل شي ء.. و سيري الحيرة بادية علي وجوه بني هاشم... لقد قُتل محمد وضاع دمه.. تفرّق بين القبائل.

كان أبوجهل يعبّ خمرته منتشياً بفكرته.. ستبقي مكة تتحدث في أنديتها عن فطنة أبي جهل.

فرك شيطان مكة يديه وراح ينظر من خلال كوة تفضي إلي زقاق ملتوٍ منتظراً عودة فتيانه.

تمتم النبيّ بخشوع و قد استدعي ابن عمه عليا:

-«وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك... و يمكرون و يمكر اللَّه و اللَّه خيرُالماكرين».

[ صفحه 21]

أن يصمد الرجال في المعارك يقاتلون حتي النفس الأخير فتلك شجاعة فريدة تدعو إلي الاعجاب.. ولكن أن يقدّم المرء نفسه للموت تتخطفه سيوف و خناجر فهذا لا يمكن أن تستوعبه أبجدية ما مهما بلغت من دقة التعبير وسمو المعني.

همس علي و هو يصغي إلي حديث رجل رافقه أكثر من عشرين سنة.

- أو تسلم يا رسول اللَّه ان فديتك بنفسي؟

- نعم بذلك وعدني ربي.

كان عليّ حزيناً فمكة تتآمر علي قتل انسان بعثته السماء لخلاص الأرض، ولكن حزنه تبدل إلي فرحة كبري فتقدم إلي فراش النبي بخطي هادئة و التحف ببردته ينتظر

السيوف التي ستمزّقه و ستتدفق دماؤه نقية طاهرة ترسم فوق الأرض قصة رائعة من قصص الفداء.

كانت الأشباح المخيفة تتلصص من خلال شق في الباب فتري محمداً ما يزال يغطّ في نومه هادئاً.

- ما يزال نائما.

- ولن يستيقط بعد الليلة أبداً.

- سأغمد خنجري في قلبه.

- هذا الذي يسخر من آلهتنا.

تطلّع أحدهم من شقّ الباب و عاد ليطمئن أصحابه:

[ صفحه 22]

- ننتظر حلبة شاة ثم ندهمه.

مثل طيف ملائكي انسل النبي من بيته مهاجراً متجهاً صوب الجنوب لايلوي علي شي ء، و هو يدعو اللَّه أن يحمي فتي الإسلام علي:

- ربِّ اجعل لي وزيراً من أهلي.

لم يخالج النوم عيني فاطمة تلك الليلة. هاهو والدها العظيم يودّع مكة خائفاً يترقّب... لا تدري عن مصيره شيئاً، و في فراشه ينام فتي أبي طالب سوف تتخطفه سيوف القبائل... و الليلة حبلي بالمفاجآت. ووجدت فاطمة نفسها تتضرع إلي اللَّه أن ينصر أباها كما نصر موسي من قبل و أن يحمي ابن شيخ البطحاء.

اقتحمت الضباع منزل النبي، و كانت السيوف و الخناجر تتجه إلي رجل نائم ملتحفاً برداً حضرمياً أخضر.

هبّ الفتي من فراشه كأسد غاضب وانتزع سيف أحد المهاجمين الذين تسمّروا في أماكنهم لهول المفاجأة. صرخ أحدهم:

- أين محمد؟

وجاءه الجواب ثابتاً ثبات جبل حراء:

- لست عليه وكيلاً.

تنفس الصبح و استيقظت مكة علي أنباء مثيرة. لقد أفلت محمد وهاهو الان في طريقه إلي يثرب وانطلق فرسان أشداء يجوبون

[ صفحه 23]

الصحراء بحثاً عن رجل شريد.

لا أحد يعلم عن مكان النبي إلا فتي في العشرين من عمره، عاد لتوه من غار في

جبل ثور حيث ودع النبي بعد أن أمن الطلب؛ عاد علي ينفض عن نفسه غبار الطريق و يفكر في وصايا النبي. لقد بقيت عليه مهمة واحدة أن يؤدي الأمانات إلي أهلها و يحمل الفواطم وضعفاء المسلمين إلي يثرب...

ابتاع علي «إبلاً»، وأسر إلي والدته فاطمة بنت أسد أن تتهيأ للهجرة و تخبر فاطمة بنت محمد و فاطمة بنت حمزة و فاطمة بنت الزبير.

تحركت قافلة الفواطم يقودها علي ماشياً و التحقت بالركب اُم أيمن و أبو واقد.

و تسلل ضعفاء المسلمين ليلاً إلي «ذي طوي» حيث واعدهم علي هناك.

كان أبوواقد يسوق الركب سوقاً حثيثاً، و أدرك علي ما يموج في أعماق أبي واقد من الخوف و الهلع فقريش لن تغفر له ذلك أبداً.

هتف علي مهدئاً:

- إرفق بالنسوة يا أبا واقد.

وقرب (ضجنان) لاحت للقافلة ثمانية فرسان يثيرون الغبار... كانوا ملثمين و عيونهم تبرق بالشرّ.

[ صفحه 24]

صاح عليّ بأبي واقد وأيمن:

- انتحيا بالإبل واعقلاها.

الصحراء مدّ البصر تموج بالرمال و عليّ الذي أنهكه المشي هو رجل القافلة الأوّل فتي تعدّي العشرين بثلاث. كانت العيون تتجه اليه أمه تراقبه متوجسة. و بنت محمد تخاف عليه سيوف أعداء أبيها، و أبوواقد لا حول له و لا قوة. وقف علي وعيناها تقدحان شرراً.

هتف فارس لم يكتشف علياً بعد:

- أظننت يا غدار انك ناجٍ بالنسوة.. ارجع لا أبا لك.

- فإن لم أفعل؟.

- لترجعن راغماً.

ودنا أحدهم من النوق لإثارتها. فاعترضه عليّ وهوي بسيفه وسقط الفارس فوق الرمال.

تسمر الفرسان. لقد أخذتهم المفاجأة. انهم لم يروا في حياتهم ضربة كهذه. صاح أحدهم و قد رأي الفتي يستعد للهجوم:

- احبس نفسك عنّا يا ابن أبي طالب.

وهكذا دخل عليّ دنيا الفروسية، كما دخل دنيا الفداء قبل أيام.

وسارت سفن الصحراء تشقّ طريقها علي مهل صوب يثرب، تسير ليلاً و تكمن نهاراً.

[ صفحه 25]

القسمت 04

السماء مرصعة بالنجوم... تتلألأ من بعيد كلالئ منثورة.

حطّ المهاجرون عصا الترحال في «ضجنان» وانحني علي يعالج قدميه و قد تفطرتا من المشي مئات الأميال.

بركت النوق فوق الرمال تلتقط أنفاسها و تشم رائحة وطن قريب.

عينا فاطمة تسافران بين النجوم تستكشفان آفاق السماء... حيث انطلق أبوها في رحلة الاسراء و المعراج علي ظهر البراق.

عينا فاطمة ما تزالان مسمرتين في النجوم، و قد أزهر وجهها كوكب صغير هبط علي الأرض، وبدا القمر في آخر ساعات الليل أصفر الوجه كما لو أجهده السهر،همست فاطمة في نفسها تناجي:

- أنت وحدك الباقي... كلُّ شي ءٍ آخذ طريقه نحو المغيب، النجوم، القمر.. الأرواح البيضاء تتجه اليك لا تبالي بأشواك الطريق في الصحراء حتّي لو كانت حافية القدمين...

[ صفحه 26]

أنت وحدك الحق يا رب... أنت نور عيني و فرحة قلبي... دعني ألج ملكوتك اسبحك واطوف مع النجوم حول عرشك.. أنت وحدك الحقيقة و ما سواك وهمٌ.. أنت وحدك نبع الحياة وعداك سراب يحسبه الظمآن ماء.

في «قبا» هبط جبرئيل يحمل كلمات السماء إلي رجل فرّ من اُمّ القري ينبئه عن مسار قافلة فيها ابنته و امرأة ربّته وفتي ربّاه في حجره فلما اشتدّ ساعده وقف إلي جانبه يفديه بنفسه...

فاح عبير الوحي... ملأ فضاء «قبا» حيث بني الرسول أوّل مسجد في الإسلام:

- «والذين يذكرون اللَّه قياماً وقعوداً و علي جنوبهم و يتفكرون في خلق

السماوات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. فاستجاب لهم ربّهم اني لا اُضيع عمل عامل منكم من ذكرٍ أو اُنثي بعضكم من بعض فالذين هاجروا من ديارهم و أوذوا في سبيلي و قاتلوا و قتلوا لأُكفرنّ عنهم سيئاتهم و لأدخلنهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند اللَّه و اللَّه عنده حسن الثواب».

كان النبيّ يترقّب وصول القافلة المهاجرة فيها أخوه و ابنته و امرأة ربّته. كلمات جبريل ما تزال تطوف في خياله و هو ينظر إلي الأفق البعيد ولكن لاشي ء سوي الرمال السمراء...

[ صفحه 27]

ولو قدّر لأحد كان في «قبا» لرأي رجلاً قد ذرف علي الخمسين ليس بالطويل و لا القصير كان ربعة «و قد جعل الخير كله في الربعة»؛ أزهر الوجه، ناصع البياض مشرباً بحمرة خفيفة لعلّها من أثر الشمس و رياح الصحراء، رجل الشعر يبلغ شحمة اُذنيه و يكاد يلامس منكبيه؛ واسع الجبين، مقوّس الحاجبين كهلالين، و كانت عيناه نجلاوين واسعتين؛ اقني الأنف، كأنّ أسنانه لؤلؤ منضود فاذا مشي مشي الهويني متقارب الخطي كزورق ينساب علي هون.

وقف النبيّ يتأمل الصحراء المترامية تمسح عيناه الأفق البعيد، ينتظر أحبّة فارقهم في لحظة ليل وقد حاصرته ذئاب مكة.

غمر الليل الصحراء و آب النبي إلي مضارب «بني سهم»، وقد بدا علي وجهه حزن كحزن آدم يوم بحث في الأرض عن حوّاء.

وصلت القافلة بسلام، وخفّ الأب للقاء ابنته ذكراه الغالية من خديجة... خديجة التي رحلت بعيداً و تركته وحيداً.

عانقت البنت أباها. غرقت في عبير رجل سماوي، فاضت عيناها دموعاً، دموع فرح و دموع رحمة.

- يا لعذاب محمد.. يالعذاب الأنبياء.

ربما دهشت

بعض النسوة وهن يتطلعن إلي رجل ذرف علي الخمسين يجتاز في لحظة نصف قرن من الزمن ليتحول إلي طفل

[ صفحه 28]

يرتمي في أحضان أمه.

تمتم رسول السماء يضع حدّاً لأسئلة تناثرت فوق الرمال:

- فاطمة أُمّ أبيها.

فاطمة بربيعها الثالث عشر تتحول إلي أُمّ لأعظم الأنبياء.

- و فاطمة بضعة مني.

نظر محمّد إلي عيني ابنته كان يبحث فيهما عن فتي شري نفسه للَّه.

- انه هناك يا أبه.. تشققت قدماه.. سال منهما الدمّ.. الشوك والرمضاء و مشاقّ الصحراء... و لا ناقة عنده و لا جمل.

تألقت عينا النبي:

- انّه أخي.

مضي محمّد للقاء أخيه المهاجر..

وهبَّ الفتي للقاء رسول السماء.. نسي آلامهُ.

رشّ الرسول كفيه برحيق النبوّة ثم مسح علي قدمي الفتي المهاجر، كأُمّ رؤوم تمسح رأس وليدها ليغفو و ينام..

سافرت الآلام و وجد علي نفسه في مهد امّه في أحضان رجل ربّاه صغيراً.... فغفا و نام، ونهض الرجل المكي تاركاً وليد الكعبة يلتقط أنفاسه بعد رحلة مريرة في رمال الصحراء.

[ صفحه 29]

القسمت 05

دخلت القافلة يثرب وانطلقت أناشيد الفرح تملأ الفضاء...

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا للَّه داع

أيُّها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

جئت نورت المدينة مرحباً يا خير داع

وامتزجت كلمات الفرح مع زغاريد النسوة وارتدت يثرب حلّة جديدة.

و مرت «القصواء» تشقّ طريقها بين الجماهير و تناثرت كلمات رجاء هنا و هناك:

- انزل يا رسول اللَّه علي الرحب والسعة.

- دعوا «الراحلة» فإنها مأمورة.

وسارت «القصواء» حتي اذا وصلت بيت «أبي أيوب» شمّت

[ صفحه 30]

رائحة وطن فأناخت رحلها وبركت،

وفي تلك البقعة من أرض اللَّه ارتفعت قواعد مسجد قدر له أن يصنع التاريخ و الحضارة.

و تساءل بعض المسلمين تري كيف ندعوا إلي الصلاة. قال أحدهم:

- ننفخ بالبوق كما يفعل بنو قريظة... ألسنا نتجه في الصلاة إلي قبلتهم؟.

- الناقوس أفضل... ناقوس النصاري له صوت ساحر..

و كان للسماء رأي آخر... هبط جبريل يحمل النداء، ان اللَّه يأمركم أن ترفعوا الأذان..

و ترقرقت في جنبات المدينة كلمات السماء و كان بلال يدعو المسلمين: اللَّه أكبر حي علي الفلاح حي علي الصلاة.

و تمرّ الأيام، و يشتد عود الإسلام؛ و نمت فاطمة... تفتحت للحياة الجديدة.. حياة تنبض بدف ء الايمان و الأمل.. و أبوها محمد يرسم الطريق الذي يمر عبر يثرب قلب العالم.

توالت الأحداث و تستيقظ جزيرة العرب علي انباء ستغير مسار التاريخ. اتجه المسلمون إلي الكعبة في الصلاة بعد ما كانوا يتّجهون إلي بيت المقدس... واغتاظ اليهود... ثم ولد رمضان... رمضان الكريم، و أصبح للمجتمع الوليد أعياد فرح.. عيد «الفطر» و عيد

[ صفحه 31]

«الأضحي» و تدفّق نهر الزكاة يطهر الأغنياء و يحيي الفقراء؛ ثم هبّت المدينة لتشارك كلّها فرحة النبي والذين آمنوا معه.

كبرت فاطمة سيدة النساء... أُم أبيها... نفسي التي بين جنبي... و فاطمة بضعة مني...

مضي «أبوبكر» و هو يحث الخطي إلي منزل النبي... وفي قلبه اُمنية طالما حدّث بها نفسه. لاشك أن رسول اللَّه سيقبل طلبه فهو صاحبه الذي هاجر معه فارّاً من مكة... و تحمل معه مشاقّ الهجرة و مخاطر الطريق... ثم انه قد زف اليه ابنته عائشة وهي ما تزال صغيرة بعد... و أيّ شرف عظيم من مصاهرة رسول اللَّه...

طرق «الصحابي» الباب برفق... جلس

قبالة النبي...

- جئتك خاطباً يا نبي اللَّه.

تمتم النبي:

- أمرها إلي ربها.

نهض «أبوبكر» و استأذن بالإنصراف... و في الطريق كان أبو عائشه يفكر- ألا يكون قد أغضب النبي فينزل فيه وحي من السماء.

وسمع «أبوحفصة» بقصة صاحبه فاستيقظت في نفسه رغبة سرعان ما استجابت لها جوارحه...

مضي «عمر» مسرعاً نحو منزل «الرسول» و استأذن في الدخول

[ صفحه 32]

عليه... انه لا يحب الانتظار أكثر من ذلك فقال علي الفور:

- جئتك خاطباً ابنتك فاطمة.

قال النبي:

- انتظر بها أمر اللَّه...

و هيمن صمتٌ ثقيل.. و نهض «أبوحفصة» بعد أن استأذن النبي و غادر المنزل مثقل الخطي و وجد نفسه يمضي إلي منزل صاحبه «أبي عائشة» ربما ليتحدث معه بشأن «فاطمة»، تري من سيحظي بهذا الشرف الرفيع... مَن سيقترن بسيّدة نساء العالمين.

[ صفحه 33]

القسمت 06

نسيم عليل كان يداعب سعفات النخيل، يحركها برفق، و ظلال وارفة تنتشر تطرّز أرض رجل من «الأنصار».. كان عليّ ما يزال منهمكاً بارواء نخلات باسقات يحمل المياه علي بعير له بأجر... و قد تصبب عرقاً...

جلس الفتي الذي بلغ من العمر خمسة و عشرين سنة... جلس يلتقط أنفاسه... أسند جذعه إلي جذع نخلة ميساء و طافت أمامه آيات من القرآن...

- «ربِّ إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقير».

من بعيد لاح له رجلان قادمان كانا يحثّان الخطي... سرعان ما عرفهما. عرف أوّلاً عمر يعرف طريقته في المشي، ثم تعرّف «أبابكر» لأنه طالما شاهدهما معاً... فهناك ما يشبه الصداقة بينهما...

تمتم أبوعائشة:

[ صفحه 34]

- يا أباالحسن.. لم تبق خصلة من خصال الخير إلّا ولك فيها سابقة

و فضل.. و أنت من رسول اللَّه بالمكان الذي قد عرفت من القرابة و الصحبة و السابقة... فما يمنعك أن تذكرها لرسول اللَّه و تخطبها منه.

قال عمر دون مقدمات:

- و قد خطبها الأشراف من قريش فردّهم... و أظنه قد حبسها من أجلك.

أمسك «أبوبكر» بخيط الحديث:

- ما الذي يمنعك يا علي أن تذكرها!!

تمتم عليّ وقد لاحت في عينيه غيوم ممطرة:

- واللَّه إن فاطمة لموضع رغبة.

وأردف و هو يقلّب يديه:

- ولكن يمنعني قلّة ذات اليد... أنا لا أملك من حطام الدنيا سوي سيف و درع و هذا البعير.

قال أبوبكر متأثّراً:

- إن الدنيا لدي رسول اللَّه كهباء منثور.

و قال عمر و هو يحثّه:

- اخطبها يا علي تزدد فضلاً إلي فضلك.

سكت عليّ و طافت في عينيه أحلام جميلة.

[ صفحه 35]

نهض علي الي ساقية قريبة وراح يتوضأ، أشاعت برودة الماء السلام في روحه؛ و أدرك الشيخان ان «عليّاً» قد حزم أمره، فغادرا المكان وقفلا عائدَين.

كان «النبيّ» جالساَ في حجرة اُم سلمة، و كان عبير الوحي يطوف في سماء المكان.

ارتفعت طرقات علي الباب... وهتفت اُم سلمة:

- مَن الطارق؟

قال النبي و قد عرفه:

- افتحي له.. هذا رجل يحبّه اللَّه و رسوله.

فتحت اُمّ سلمة الباب... و تريث «الطارق» ريثما تعود «اُمّ المؤمنين» إلي خدرها:

- السلام علي رسول اللَّه.

- وعليك السلام يا أباالحسن.

جلس ربيب النبي مطرقاً.. تلالات حبات عرق فوق جبينه الواسع... كلمات تطوف في أعماقه.. و قد انتصب الحياء سدّاً كصخرة صماء تقطع تدفق الساقية.

أدرك النبيّ ما يموج في أعماق علي، فقال والبسمة تطفح فوق وجهه:

[ صفحه 36]

-

يا أباالحسن كانّك أتيت لحاجة فقل حاجتك. انفتحت أمام الفتي كوّة من أمل و وجد نفسه يقول:

- يا رسول اللَّه... إن اللَّه هداني بك و علي يديك و قد أحببت أن يكون لي بيت و زوجة أسكن اليها و قد أتيتك خاطباً ابنتك فاطمة.

كانت اُمّ سلمة تنظر إلي وجه النبيّ، فرأت بسمة تطوف في محياه. قال النبي:

- يا عليّ انه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن علي رسلك حتي أدخل عليها.

نهض النبيّ، و نهض عليّ إجلالاً له.

- يا فاطمة.

- لبيك يا رسول اللَّه.

- ان علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته و فضله و إسلامه.. و إني قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه و أحبهم اليه؛ و قد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين؟

أطرقت فاطمة و كانت علامة رضا تطوف فوق وجهها تغالب مسحة حياء صبغت و جنتيها بحمرة خفيفة كشمس صباح باسم.

هتف النبيّ مستبشراً:

- اللَّه أكبر سكوتها رضاها.

[ صفحه 37]

تدفّق ينبوع فرح في بيت اُمّ سلمة. طاف الخبر السعيد منازل المدينة كفراشة تدور، تحطّ هنا و ترفرف هناك؛ و حلّقت في الأفق أحلام العذاري؛ و شمّ بعض أهل «الصفة» رائحة وليمة عرس.

قال النبيّ و هو يتطلّع إلي صهره:

- هل معك شي ء اُزوجك به؟

عرض الفتي بضاعته المزجاة:

- سيفي و درعي و ناضحي.

- أمّا سيفك فالأسلام يحتاج اليه و أمّا ناضحك فتنضح به علي نخلك و تحمل عليه رحلك، ولكني رضيتُ بدرعك.

و انطلق علي عارضاً درعه علي من يشتريه و سرعان ما وجد له مبتاعاً... اشتراها منه «عثمان» و أقبل الفتي يحث

خطاه إلي منزل النبي، فصب الدراهم بين يديه و كانت أربعمئة درهم.

انطلق عليّ يهيئ منزله الجديد و صورة فاطمة بربيعها الخامس عشر ما تزال تطوف في عينيه، و شعر بأن نبعاً من مياه باردة يتدفّق في قلبه:

نشر أرض الحجرة برمل ليّن، وراح يمسح عليه بكفّه فبدا كبلاطة ناعمة، و ثبّت خشبة بين الجدارين في أقصي الحجرة لتكون مشجباً للثياب.. و بسط فوق زاوية من الرمل جلد كبش، زيّنها

[ صفحه 38]

بوسادة من الليف... و هكذا تم بيت فاطمة بنت محمد.

أجال علي بصره في الحجرة... لا شي ء يشد قلب المرأة... لا حرير و لا فراش وثير.. ولكنه يعرفها جيداً، يعرف بنت النبي. انها ليست سوي نفسه الكريمة التي تأبي سوي حياة البساطة و الحياة الخالية من بهارج الدنيا الزائلة.

[ صفحه 39]

القسمت 07

قال النبي و هو يناول بلالاً حفنة من الدراهم:

- ابتع لفاطمة طيباً.

والتفت إلي «أبي بكر» و ناوله حفنة اُخري:

- ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث، وخذ معك عمار بن ياسر...

وانطلق جمع من صحابة النبي إلي السوق يشترون جهاز فاطمة.

كان السوق يزخر بمختلف البضائع... بضائع حملتها النوق من مكان بعيد..

كان أبوبكر يجيل بصره في زوايا السوق و في قبضته دراهم معدودة... ماذا يمكنه أن يشتري بها... و بعد جولة مضنية دفعته قلّة ذات اليد إلي أن يتخير بضائع رخيصة الثمن فكانت: قميصاً بسبعة دراهم، و خمار بأربعة دراهم، قطيفة سوداء خيبرية، سرير مزّمل

[ صفحه 40]

بشريط، فراشان مصريان؛ حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من صوف الغنم، أربعة وسائد من الجلد مما يدبغ في الطائف

و قد حشيت بنبات طيب الرائحة... ستائر رقيقة من الصوف، حصير مصنوع من سعف النخيل، رحي، اناء نحاسي لغسل الثياب، سقاء من الجلد، جرة خضراء و بعض الآنية الخزفية. و حمل الصحابة جهاز فاطمة متوجهين إلي منزل النبي..

راح النبي يقلب بيده آنية الخزف وعيناه تتفحصان جهاز سيدة نساء الأرض فتمتم بصوت أقرب إلي الحزن:

- بارك اللَّه لأهل بيت جل آنيتهم من الخزف.

ربما تذكر خديجة تلك المرأة الثرية التي كانت القوافل التجاريه تحمل ثروتها من بلد إلي بلد وهاهي ابنتها تزف بجهاز من الجلد و الخزف و النحاس.سرعان ما طفت الابتسامة فوق محياة و هو يري ابنته قادمة، فنهض من مكانه و قبل يدها وراح ينظر إلي وجهها المضي ء يستشف من وراءه صورة زوجته الوفية و ملامح أمه الرؤوم.

ارتفع صوت بلال جهورياً يدعو المؤمنين للصلاة؛ الكلمات تنساب هادئة مؤثرة مفعمة بالحب و الأمل و الحياة؛ و يشعر النبي بأن نبعاً فياضاً يتدفق في صدره و يشيع السلام في قلبه فنهض ملبياً داعي اللَّه.

[ صفحه 41]

المسجد مكتظ بالمسلمين، ينتظرون قدوم «الرسول» ليس للصلاة فقط بل لشي ءٍ آخر. ان النبأ قد أثار استغراب الكثير؛ يريدون استكشاف هذا الزواج الفريد. ان فتاة مثل فاطمة كان بإمكانها أن تتزوج ثرياً يفرش دربها بالحرير... صحيح ان ابن أبي طالب مثال للفتوة و هو ابن عمّ النبي ولكنه لايملك شيئاً. لقد هاجر حافياً و ما يزال يعيش حياة مريرة لايملك شيئاً... ولكن ما بال فاطمة ترضي لنفسها مثل هكذا حياة..

كان الهمس يدور علي الشفاه. تحلّق المؤمنون حول «النبي» كعادتهم، كفراشات تنظر إلي شمعة تتوهج. أدرك النبي ما يجول في الخواطر فقال بخشوع:

-

أتاني حبيبي جبريل فقال: يا محمد زوجها علي بن أبي طالب فإن اللَّه قد رضيها له و رضيه لها.

وانفض المسلمون و قد ترسخت في ضمائرهم صورة جديدة عن الحياة العائلية عندما تنهض علي الايمان وحده. لقد اختارت السماء لعلي فاطمة و اختارت لفاطمة عليّاً، و استجابت فاطمة لإرادة السماء طائعة مبتهجة ان شيئا في أعماقها يشدها إلي علي كما شدّ علياً لفاطمة. و باركت السماء رغبة علي واستجابة فاطمة، و رفرفت الملائكة بأجنحتها مثي و ثلاث و رباع.

[ صفحه 42]

وجد علي في فاطمة ما كان يبحث عنه في نفسه، ووجدت فاطمة في علي ما كانت تنشده في أعماق روحها، و كان اللقاء علي يد رسول السماء إلي الأرض.. إلي المرأة والي الرجل، ليكون اتحادهما ولادة للإنسان.

وهكذا قدر لأنيس الطفولة أن يكون رفيق درب. كانت فاطمة سعيدة بعلي، تري في عينيه طيف أبيها.. أبيها الذي تحبه لأنه قادم من عند اللَّه.

أحبت فاطمة علياً.. أحبت فكره و خياله، رأت فيه ظلال محمد... حيث نشأت تحت تلك الظلال... أرادت أن تنتقل من بيت والدها إلي كنف رجل يشبه والدها في كلّ شي ء.

جلس علي في بيته. استند إلي الجدار الطيني، و قد غاصت أصابع قدميه في الرمل الليّن الذي يغطي أرضية الحجرة... كلّ شي ء في البيت ينتظر فاطمة... مشجب الثياب... المخضب... الرحي.. حتي ذرّات الرمل. فاحت رائحة «الاذخر»؛ ملأت فضاء الحجرة عطراً... و علي ما يزال يترقب قدوم فاطمة و قد مضت ثلاثه أسابيع حسبها عليّ قروناً طويلة.

لابد من خطوة للقاء، وقفزت في ذهن «الفتي» صورة «حمزة»، فنهض من فوره وحث الخطي نحو منزل عمّه.

[ صفحه 43]

القسمت 08

مرّت أيام و أيام، و علي لايفتأ يذكر فاطمة.. يعيش خيالها الشفاف؛ روحها الطاهرة؛ عينيها المضيئتين؛ مشيتها وهي تخطر علي الأرض هونا...

قال و هو يحدق في عينيه:

- في عينيك سؤال.

- يا عمّ ذكرت أهلي.

- ما تنتظر إذن.. هيا بنا إلي منزل النبي.

في الطريق لاحت لهما «أُم أيمن» و قد أدركت علي الفور ما يدور في خلد علي فكفتهما مؤونه ذلك.

انطلقت «اُم أيمن» و كان النبي في بيت اُم سلمة.

قالت اُم أيمن و قد عرفت كيف تستأذن قلب الرسول:

- يا رسول اللَّه لو أنّ خديجة باقية لقرّت عينها بزفاف فاطمة..

[ صفحه 44]

و إن عليّاً يريد أهله.. فقر عين فاطمة ببعلها و أجمع شملهما وقِرّ عيوننا بذلك. قال النبي:

- فما بال علي لا يطلبها مني؟

- يمنعه الحياء يا رسول اللَّه...

كانت علينا النبيّ تبحثان عن خديجة... تجمعت في عينيه الدموع كغيوم ممطرة:

- خديجة... وأين مثل خديجة، صدّقتني حين كذبني الناس و آزرتني علي دين اللَّه و أعانتني عليه..

وقفت اُم أيمن تنتظر رسول اللَّه:

- انطلقي إلي علي فأتيني به.

خفت اُم أيمن إلي حيث ينتظر الفتي:

- ما وراءك يا اُم أيمن؟

- الخير كله؛ رسول اللَّه يدعوك.

كان علي مطرقاً برأسه يحدّق في الأرض، قال النبي مشجّعاً:

- أتحب أن تدخل عليك زوجك؟

- نعم فداك أبي و اُمّي.

- نعم وكرامة يا أباالحسن أُدخلها عليك في ليلتنا هذه أو في ليلة

[ صفحه 45]

غد إن شاءاللَّه.

نهض الفتي و هو يطير فرحاً. لقد حلّت لحظة اللقاء؛ لقاء قلبين طاهرين.. روحين صافيتين...

تمايلت سعفات النخيل طرباً.. تألّقت في السماء النجوم؛ وظهر القمر يزدهي بهالته.. والسماء

تتطلع إلي عرس في الأرض. تألقت فاطمة فبدت بين النسوة كوكباً درّياً؛ حتي اذا استوت فوق الناقة، ارتفع صوت الدفوف، وبدأ موكب الزفاف يسير الهويني.

فاطمة تحفها بنات عبدالمطلب و نساء المهاجرين و الأنصار، أخذ عمار بزمام الناقة و كان الرسول و بصحبته حمزة و الرجال يمشون خلفها.

وملأت الزغاريد الفضاء وانطلق صوت اُم سلمة يشدو فرحاً:

سرن بعون اللَّه جاراتي

واشكرنه في كل حالات

واذكرن ما أنعم رب العلي

من كشف مكروه وآفات

فقد هدانا بعد كفر و قد

انعشنا ربُّ السماوات

[ صفحه 46]

وارتفع صوت حفصة:

فاطمة خير نساء البشر

ومن لها وجه كوجه القمر

فضلك اللَّه علي كلِّ الوري

بفضل من خصّ بآي الزمر

زوّجك اللَّه فتيً فاضلاً

أعني علياً خير من في الحضر

فسرن جاراتي بها أنها

كريمة بنت عظيم الخطر

في المسجد كان اللقاء، أخذ النبي يدي فاطمة، و وضعها في يدي علي، و تمتم الرسول بخشوع:

- اللهم انهما أحب خلقك إلي، فاحبهما، و اني أعيذهما بك و ذريتهما من الشيطان الرجيم.

شهد البيت الصغير ولاده حبّ عميق عمق البحر، طاهراً كقطرات الندي، متدفقاً كالينبوع. لم تعثر فاطمة في بيتها علي فراش وثير لكنها وجدت قلباً دافئاً ينبض بالحب، و لم تجد فاطمة في منزلها الجديد جواهر أو لؤلؤاً منثوراً لكنها وجدت انساناً يموج بقيم تتألق سموّا و تشع رحمة، وجدت فاطمة ما تنشده المرأة في أعماقها...

[ صفحه 47]

وجدت كل ذلك قرب عليّ.

و وجد علي في فاطمة قبساً من اُمه، فالزهراء تكاد تذوب رقة،

وجد فيها رفيق دربه، ففاطمة شوق و حنين، ووجد فيها الخصب والحياة ففاطمة كوثر محمد.

طلب علي يد فاطمة؛ واطرقت فاطمة، وكان صمتها، و حمرة الحياء تقولان نعم لعلي، و باركت الملائكة لقاء الشطرين ليؤلّفا كياناً جديداً فيه صفات حواء و خصال آدم.

وذات صباح جاء النبي زائراً و سأل فتاه:

- كيف وجدت أهلك؟

أجاب علي وعيناه تنطقان ثناءً.

- نِعم العون علي طاعة اللَّه.

و التفت النبي إلي فتاته:

- و كيف وجدتِ بعلك؟

فقالت بكلمات تقطر حياءً و حبّاً:

- خير بعل.

رمق النبي السماء. عَبَرت الأفلاكَ كلماتُه الدافئة:

- اللهم ألّف بين قلبيهما و ارزقهما ذرية طاهرة.

و عندما همَّ بالنهوض قال الأب لفتاته:

[ صفحه 48]

- يا بنية نعم الزوج زوجك... لا تعصي له أمراً، ثم شد علي يد فتاه و قال بهدوء:

- الطف بزوجتك وارفق بها فان فاطمة بضعه مني يؤلمني ما يؤلمها و يسرّني ما يسرّها.

شي ء ما ولد في قلب علي تجذّر في أعماقه، شي ء يشبه العهد... الميثاق ألّا يغضب فاطمة أو يكرهها علي أمر ما إلي الأبد.

و في قلب فاطمة ولد الحب، تفجر نبعه و عند ما يحب المرء ينسي كلّ شي ء سوي الطاعة للحبيب.

وهكذا عاش عليّ و فاطمة. و تمرّ الأيام.

[ صفحه 49]

القسمت 09

كانت تشبه أباها في كل شي ء، في حديثها، صمتها، مشيتها، وفي ذلك النور الذي يشع من عينيها، تعمل بصمت أو ترتل سورة مريم تتشربها.. تتنفس جوها و تعيش في ظلالها.

رتبت ثيابها و كانت قليلة مختصرة. وضعتها فوق خشبة كان زوجها قد ثبتها في زواية الحجرة، نشرت خمارها و قطيفة

سوداء و قميصاً رخيصاً، رتّبت الفراش ثم عمدت إلي كنس البيت. و تصاعد غبار خفيف كان يتألق في ضوء الشمس.

مسحت كنيزان الخزف و أعادت ترتيبها فبدت جميلة.

حاولت أن تجر الرحي إلي مكان مناسب. وجدتها متشبثة في الأرض فتركتها مكانها ريثما يعود زوجها.

و من كيس في زاوية الحجرة استخرجت حفنات من الشعير ثم جلست إلي الرحي.

[ صفحه 50]

دارت الرحي، تساقط الدقيق تباعاً فجمعته في اناء صغير، أضافت قدحين من الماء وراحت تعجن الخليط حتي اذا تجانس غطت الاناء و تركته ريثما يصبح خميراً.

جلست فاطمة و أشعلت النار في الموقد، تصاعد دخان أزرق و توهج جمر فسفوري الحمرة، كانت عيدان الحطب تتكسر، و كانت فاطمة تصغي مستغرقة، سرت في أطرافها قشعريرة و تجمعت في عينها الدموع فرمقت السماء من خلالها و قلبها ينبض أملاً بما وعد اللَّه المؤمنين. ملأت رائحة الخبز الحارّ فضاء البيت.

عاد عليّ و قد بدا مهموماً بعض الشي ء و عندما وقعت عيناه علي فاطمة شاعت الابتسامة في وجهه. لشدّ ما يحبها بقوامها النحيل بتلك الروح التي تكاد تغادر أهاب البدن إلي حيث ترفرف الملائكة.

نظر عليّ و هو يتناول قرص الشعير إلي يديها. كانت هناك خطوط حمراء في كفيها أدرك علي الفور انّها من أثر الرحي؛ تمني أن يكون بوسعه شراء خادم تعينها علي تدبير المنزل، فكر أن يضاعف جهده في حفر الآبار، سيحيل المدينة إلي ينابيع لكي يتسني له جمع مبلغ يكفي لشراء جارية تعين سيدة النساء: و ربما حصل علي غنيمة تغنيه عن كلّ ذلك، كان علي يفكّر و هو يعالج سيفه ذي الفقار.

لم تسأل فاطمة زوجها عن المناسبة في كل هذا

الاهتمام

[ صفحه 51]

بالسيف فقد سمعت هي الأخري عن استعدادات المسلمين للتصدّي لقوافل قريش التجارية و سمعت من بعض نسوة المهاجرين اخباراً عن قافلة كبيرة يقودها أبوسفيان تحمل أموالاً طائلة... تذكّرت فاطمة كيف صادر المشركون أموال المهاجرين. تذكرت أيام الحصار في شِعب أبي طالب و ألوان القهر والظلم الذي صبه أبوسفيان و أبوجهل و أبولهب علي الرسول والذين آمنوا.

أفاقت فاطمة علي صوت زوجها و هو يرتّل بخشوع:

- يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل اللَّه و كفر به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللَّه، والفتنة أكبر من القتل.

لكأنّ علي يدرك ما يدور في خلد فاطمة، وهاهي السماء تشدّ أزر المظلومين المشرّدين... تمنحهم سيوفاً و بيارق ينتصفون بها ممن قهروهم و شرّدوا بهم من ديارهم.

ودّع النبي ابنته فاطمة. وأدرك المسلمون جميعاً أنّ الرسول قد أعدّ العدّة لاعتراض قافلة قريش، وانّه لم يبق له في المدينة شي ء.

هزّ علي راية العقاب بيده وانطلق بصحبة النبيّ باتجاه الشمال حيث «وادي الروحاء» وسُمع النبي يقول:

- هذا أفضل أودية العرب.

[ صفحه 52]

عسكرت قوات المسلمين و كانت تتألف من ثلاثمئة مقاتل يتناوبون علي ركوب سبعين من الأبل اضافة إلي فرسين فقط، و بعد استراحة وجيزة، قضاها المسلمون في الصلاة و التهيؤ لقطع المسافة لآبار «بدر» حيث طريق القوافل التجارية.

قسم النبي الأبل علي المقاتلين فكان نصيبه مع علي و «أبي مرشد» بعيراً واحداً يتناوبون ركوبه.

قال علي وأيده أبومرشد:

- نحن نمشي عنك يا رسول اللَّه.

أجاب النبي و هو يطوي الصحراء ماشياً علي قدميه:

- ما أنتما بأقوي مني، و لا

أنا بأغني عن الأجر منكما.

وفي «الصفراء» بعث النبي دورية استطلاع إلي «بدر».

وفي «وادي ذفران» وصلت انباء مثيرة.

[ صفحه 53]

القسمت 10

مكة يغمرها الظلام؛ والنجوم ترسل ضوءً واهناً... تتبض من بعيد كقلوب مجهدة؛ نامت العيون ما خلا عيوناً حجرية تحيط بالكعبة ما تزال مفتوحة تحدّق ببلاهة و غباء.

وفي عالم هلامي كان رجل يركب بعيراً يخطر به حتّي اذا وقف «بالأبطح» صرخ عالياً:

- يا آل غدر انفروا إلي مصارعكم!

خف البعير براكبه فوق ظهر الكعبة وصرخ:

- يا آل غدر انفروا إلي مصارعكم.

طار البعير نحو جبال مكة. هبط علي قمة «أبي قبيس» و صرخ الراكب مرّة اُخري:

- يا آل غدر انفروا إلي مصارعكم.

انتزع الراكب صخرة من الجبل ثم قذف بها بيوت مكة.. انفجرت الصخرة في أسفل الوادي وأضحت حجارة متناثرة تساقطت كشهب

[ صفحه 54]

مجنونة فوق منازل مكة وأفنيتها.

استيقظت «عاتكة» امرأة من بني عبدالمطلب. استيقظت مذعورة تجفف وجهها من حبات العرق، و ما تزال الرؤيا ماثلة أمامها.

كانت السماء تنث مطراً خفيفاً كدموع هادئة، وظلت «عاتكة» مستيقظه تحدق في الظلام حتي اذا طلع الفجر أخذت طريقها إلي منزل «العباس».

كغراب أسود يدور البيوت، شاع خبر الرؤيا في منازل مكة؛ وجثم الوجوم علي القلوب. تري ماذا تخبئ الأيام. وهرع بعضهم إلي أصنام نحتوها يتمسحون بها يلتمسونها الطمأنينة فلا تألوهم إلّا خبالا؛ و قدم بعضهم نذوراً للآلهة، تصاعد دخان لكن دون جدوي؛ القلق ما يزال يلوي القلوب كريح عاصفة.

غضب «أبوجهل» برقت عيناه حقداً و هو يصغي إلي تفاصيل الرؤيا و هتف بالعباس متهدداً:

- أما كفاكم يا بني عبدالمطلب أن تتنبأ رجالكم حتي

تتنبأ نساؤكم!... سنتربص بكم ثلاثه أيام.. فان مضت و لم يكن شي ء... فأنتم أكذب بيت في العرب. ردّ العباس بغضب:

- يا مصفراً استه أنت أولي بالكذب منا.

مضت ثلاثه أيام؛ كصفحات من كتاب كبير تنطوي وبدت صفحة

[ صفحه 55]

كبيرة من عالم مفتوح و ظهرت مكة، و يثرب و صحراء واسعة مليئة بالرمال و الحوادث، وظهرت خيول وابل ورجال تجوب الأودية.

استيقظت مكة مذعورة... صرخات «ضمضم» تبعث الرعب في القلوب الخطر يهدد الآلهة؛ و آلهة قريش عبادة و تجارة:

- يا معشر قريش اللطيمة»... أموالكم مع أبي سفيان قد تعرض لها محمد و أصحابه.

كان منظره عي بعير مجدوع الأنف، مشقوق القميص إنذاراً بالخطر الداهم. و ثارت الحمية حمية الجاهلية؛ صرخ أبوجهل:

- واللات والعزي ما نزل بكم أمرٌ أعظم من أن يطمع بكم محمد و أهل يثرب فانهضوا و لايتخلّف منكم أحد.

و تجهزت قريش، اظهرت كل حقدها الدفين تطلب رأس رجل هاجر إلي ربّه.

تجمّع الحاقدون فكانوا الفاً إلَّا خمسين، و من الابل ثلاثمئة و خمسون ومن الخيل مئتان.

وسارت قريش بخيلها و خيلائها بدفوفها وقيانها بخمرتها وآلهتها، سارت تشقّ بطون الأودية.

وفي الصحراء كان أبوسفيان يقود القافلة، يسوقها سوقاً حثيثاً، عيناه تدوران في محجريهما؛ تسعان الآفاق؛ تترصدان الآثار. و بين

[ صفحه 56]

الفينة و الاُخري كان يتوقف ليدقق في أثر بعير أو فرس، أو يفتت بعرة يبحث فيها عن أثر لغريم يترصده. ينتظر لحظه الثأر المقدس ولكن لا شي ء، الصحراء غامضة غموض البحر و الرمال هي هي بتموجاتها والسماء تزدحهم بغيوم رمادية تمر فوق الرمال كسفن تائهة.

كانت القافلة تتقدم من آبار بدر، وقد

عصف القلق بأبي سفيان وأطل الرعب من عينيه يخشي أن يسقط في قبضة محمّد عدوّه اللدود.

سأل أبوسفيان اعرابياً قرب الماء عن خبر محمّد، أجاب الاعرابي:

- لم أرَ أثراً لما تقول، ولكني رأيت رجلين يستقيان في الصباح.

- وأين مناخهما.

- هناك فوق ذلك التل.

أسرع أبوسفيان إلي حيث أشار الاعرابي.

- نعم هذا مناخ إبل...

وحانت منه التفاته فرأي بعرة فالتقطها كما يلتقط المرء جوهرة نادرة، فركها بكفيه فظهرت نواة تمر، صرخ أبوسفيان مرعوباً:

- هذه واللات علائف يثرب.

أسرع أبوسفيان إلي مناخ قافلته فحث رجاله علي اثارتها والاتجاه بها نحو ساحل البحر الأحمر، غادرت القافلة تاركة «بدر» إلي شمالها ممعنة بالفرار، وهكذا أفلت أبوسفيان ولو إلي حين.

[ صفحه 57]

القسمت 11

هطلت الأمطار... هطلت بغزارة فسالت أودية بقدر، وقف النبي... راح ينظر إلي السماء و السحب تسح ما تسح من دموعها الثقال... رفع يديه إلي عوالم لانهائية و تضرع إلي اللَّه:

- اللّهم نصرك الذي وعدت... اللّهم لا تفلتني أباجهل فرعون هذه الاُمة.

كان الوجوم يسيطر علي ثلاثمئة رجل. لقد خرجوا لمواجهة قافلة تجارية، وهاهي الأنباء تحمل لهم سيوفاً و خناجر... و هاهي قريش تزحف نحوهم بجيش عرمرم.. ألف رجل إلّا خمسين.

هتف النبي بأصحابه:

- أشيروا علي:

القلق يعصف بالرجال و قد ضرب الخوف أطنابه في بعض القلوب... نهض «عمر» قائلاً:

[ صفحه 58]

- يا رسول اللَّه.. انها قريش!! ما ذلت منذ عزت و ما آمنت منذ كفرت..

راح بعضهم ينظر إلي بعض وأفئدتهم هواء.

نهض المقداد وقد امتثلت أمامه قصص بني اسرائيل:

- يا رسول اللَّه! امض لما أمرك، فنحن معك، واللَّه لا نقول كما قال بنو

اسرائيل لموسي... اذهب انت و ربّك فقاتلا انّا هاهنا قاعدون، إذهب أنت و ربك فقاتلا انّا معكما مقاتلون».

أطل عزم جديد من عيون الرجال وخيم صمت ثقيل، كان النبي ينتظر موقف الأنصار فله معهم يوم العقبة عهد و ميثاق.

نهض «سعد بن معاذ» و قال بأدب:

- لكأنك تريدنا يا رسول اللَّه:

- أجل.

انسابت الكلمات قوية أخاذة مؤثرة:

- يا رسول اللَّه: لقد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك علي ذلك عهودنا و مواثيقنا علي السمع و الطاعة.. فامض يا رسول اللَّه لما أردت.. فوالذي بعثك بالحقّ، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد.

إن للكلمة في القلوب أثر البذرة في الأرض الخصبة سرعان ما

[ صفحه 59]

تنمو و تهب ظلالها و ثمارها...

اشاعت كلمات سعد روح الأمل شحذت الهمم بعد خوف وقلق.. طافت في الوجه السماوي فرحة ورضا وهتف النبي برجاله:

- سيروا علي بركة اللَّه وابشروا، فإن اللَّه وعدني احدي الطائفتين، واللَّه لكأني انظر إلي مصارع القوم.

عبّأ النبي قوّاته و غادر «ذفران» وسلك طريق «الاصافر» ثم هبط منها، وبدا «كثيب السحنان» كجبل شامخ. وقاد النبي رجاله الي يمين «الكثيب» حتي اذا اصبح قريباً من مياه بدر أصدر أمراً بالتوقّف ريثما ينجلي الموقف.

بعث النبي «علياً» علي رأس دورية استطلاع للحصول علي معلومات عن قوّات قريش، أوغل علي في المسير و وصل آبار بدر؛ فالماء حيوي لرجال في الصحراء، وألقت الدورية القبض علي رجلين كانا يستقيان و ساقتهما إلي معسكر المسلمين.

كان النبي يصلي... مستغرقاً في رحلة في عوالم سماوية بعيداً عن ويلات الأرض و ما يجري فوق

كثبان الرمال، ولما عاد إلي الأرض وجد بعض المسلمين ينهالون عليهما ضرباً... تمتم النبي مستنكراً:

- إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟!!

[ صفحه 60]

ونظر النبي اليهما وهتف:

- صدقا واللَّه.. انهما لقريش.. انهما لذات الشوكة.

وأردف متسائلاً:

- كم القوم؟

- كثيرون.

- ما عدّتهم.

- لا ندري.

- كم ينحرون؟

- يوماً تسعاً و يوماً عشراً.

التفت النبي إلي أصحابه:

- القوم ما بين تسعمائة والألف.

ثمّ تساءل:

- فمن فيهم من أشراف قريش؟

- قال أحدهما:

- عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة.. النضر بن الحارث، وأضاف الآخر:

- و فيهم أمية بن خلف و نبيه بن الحجاج و اخوه منبه و عمرو بن ود..

[ صفحه 61]

التفت النبي إلي اصحابه و قال بحزن:

- هذه مكة قد القت اليكم أفلاذ كبدها.

تفجّر في قلوب المهاجرين غضب مقدس وهاهي رؤوس الشرك تزحف اليهم و قد حان وقت يثأر فيه المظلوم من الظالم.

كان بلال منسحباً داخل نفسه و قد تداعت في أعماقه صور سوداء و كان وجه «اُمية بن خلف» محفوراً في ذاكرته بقسوة.. ما يزال جسده يئن من سياط أمية و شعر بثقل صخرة رهيبة تجثم فوق صدره فندت عنه آهة ألم:

- آه.. اُمية لا نجوت إن نجا.

برقت عيناه غضباً و حانت منه التفاته فرأي عماراً، و قد علت وجهه مسحة من وجوم... أدرك بلال ان صاحبه هو الآخر يستعيد حوادث رهيبة. لقد شهد مصرع والديه بحراب «أبي جهل» ذلك القرشي المتوحش.

أصدر النبي أمره بالتحرك صوب آبار «بدر» حتي اذا وصلوا أدني المياه نزل النبي و كان «الحباب» و هو رجل

رشيد يمسح الأرض بعينين ثاقبتين، اقترب من النبي و قال بأدب:

- يا رسول اللَّه! أكان اختيارك للمكان أمراً من اللَّه ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب؟

[ صفحه 62]

أجاب النبي باهتمام:

- بل هو الحرب و المكيدة.

- ليس هذا بمنزل يا رسول اللَّه... انهض بالناس حتي نعسكر أدني الماء نشرب و لا يشربون.

- لقد أشرت بالرأي.

و سرعان ما اتخذ المسلمون مواقعهم في الجهة الشرقية من الوادي الفسيح...

حل المساء وغفت العيون تترقب ما يسفر عنه عالم الغد.

[ صفحه 63]

القسمت 12

أشرق يوم الجمعة و التاريخ يشير إلي السابع عشر من شهر رمضان. عسكرت قوات قريش، في ثنايا التلال القريبة من وادي بدر، وبدا أبوجهل أفعي رقطاء تتلمظ. هتف ساخراً و هو يشير إلي قلة المسلمين:

- ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا اليهم عبيدنا لأخذوهم باليد.

تساءل عتبة بن ربيعة:

- ربما كان لهم كمين أو مدد.

- كلا يا صاحبي لقد بعثت «ابن وهب» وطاف حول مواقعهم فلم يرَ شيئاً.

قال شيبة معقباً:

- لكنه قال شيئاً آخر غير هذا.

امتعض أبوجهل، فتساءل عتبة:

[ صفحه 64]

- وماذا قال؟

- جاء مبهور الأنفاس و نثر كلماته كالنبل: ما رأيت شيئاً ولكني وجدت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا... نواضح يثرب تحمل الموت الناقع.

أطرق عتبة. كان يفكّر في المصير... ألقي أبوجهل نظرة حانقة و بصق علي الأرض ثم غادر المكان.

ارتقي عتبة جمله الأحمر و قد دوّت فكرة العودة إلي مكة في رأسه و أصغت عشرات الرجال إلي ما يقول صاحب الجمل الأحمر:

-

يا معشر قريش! لن تصنعوا شيئاً بلقاء محمّد وأصحابه. و بين أصحابه رجال من بني عمومتكم أو أخوالكم.. و هل يقتل المرء ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته.. ارجعوا و خلّوا بين محمد و سائر العرب..

يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، انّ محمداً له إلُّ و ذمة.. فان يكن صادقاً فأنتم أعلي عيناً به، و ان يكن كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.

جحظت عينا «أبي جهل» و خرجت الكلمات من فمه ممزوجة بالبصاق:

- انظروا ماذا يفعل الجبن في النفوس... انظروا إلي سيد من

[ صفحه 65]

سادات قريش و هو يرتعد من سيوف يثرب.

وفي أدني الوادي كان الرسول يراقب عن كثب ما يجري في أقصي الوادي... هناك علي جمل أحمر رجل يحذر قومه سوء العواقب.

تمتم النبي بلهجة يشوبها اليأس:

- إن يكن في أحدهم خير ففي صاحب الجمل الأحمر.

اتصلت السماء بالأرض وهبط جبريل كوكب الأرض في تلك البقعة من دنيا اللَّه... و سرت كلمات السماء في قلب محمد:«فإن جنحوا للسلم فاجنح لها».

هتف النبي و جبينه يتلألأ:

- يا معشر قريش! ارجعوا من حيث أتيتم فلأن يلي هذا الأمر مني غيركم أحبُّ إليّ من أن تلوه أنتم.

تمتم عتبة و هو يصغي إلي ابن مكة الذي فرّ منذ عامين:

- ماردّ هذا قوم ثم افلحوا.

تجمعت في السماء النذر، و بدت السيوف بروقاً مخزونة بالرعود، نزل عتبة عن جمله الأحمر، و تقدم مع أخيه شيبة وابنه الوليد إلي الأرض التي تفصل ما بين الجبهتين و نادي عتبة بصوت غاضب و كان أبوجهل قد استفزّه:

[ صفحه 66]

- يا محمد أخرج

الينا أكفاءنا من قريش:

التفت النبيّ إلي عبيدة.

- قم يا عبيدة بن الحارث.

و إلي حمزة بن عبدالمطلب و إلي علي بن أبي طالب.

كانت راية «العقاب» تخفق في قبضة عليّ فركزها في الأرض ثم انطلق إلي ميدان الصراع... و تراءي امام عينيه طيف جميل. كان وجه «فاطمة» يبتسم له وقد شعّ من عينيها نورٌ سماويُّ.

ران الصمت علي الجبهتين، ما خلا ستة سيوف كانت تلمع وسط الغبار كبروق غاضبة، فجأة ارتفع السيف «ذوالفقار» ثم هوي فهوت معه جمجمة الوليد، ثم ارتفع مرة اُخري ليهوي علي عتبة ثم علي شيبة و تساقطت رؤوس الشرك... تعفّرت بالرمال و كانت العيون جاحظة تنظر برعب إلي شي ء ما.

كبر النبي و كبر معه المسلمون و انتقل اسم عليّ علي الألسن في الفضاء... وفي التاريخ...

وسمع النبي يقول:

- والذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلّا أدخله اللَّه الجنة.

و تراءت للذين سمعوا كلمات الرسول جنّات تجري من تحتها

[ صفحه 67]

الأنهار... فإذا السيوف ظلال لجنّة عرضها السماوات و الأرض.

كان سقوط صناديد قريش صرعي فوق الرمال إيذاناً ببدء معركة رهيبة. و بدأت قريش هجوماً عنيفاً و تساقطت السهام و النبال كالمطر...

وقف المسلمون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، وصمدوا أمام هجمات مدمّرة كعاصفة هوجاء... تصاعد غبار كثيف و تساقط القتلي والجرحي كجراد منتشر. و شيئاً فشيئاً خفّت حدّة الهجوم... وفي هذه اللحظة الحاسمة دوت كلمة القائد العظيم مختصرة و مصيرية:

- شدوا.

اندفع المسلمون كالسيل و كانت راية العقاب تخفق في قبضة علي قوية ثابتة؛ و اختلطت أصوات عديدة بين صهيل الخيل ورغاء الجمال وقعقعة الأسلحة وصيحات الرجال

و كانت:«أحَد... أحَد» تتردد في فضاء المعركة.

و تفجّر غضب مقدس في القلوب و قد رأي المعذبون جلّاديهم... و غادر النبي مقر القيادة و بقي أبوبكر وحيداً. اندفع النبي يقاتل في الخطوط الاُولي و ظهرت في الاُفق سحب بيضاء شفافة... تشبه أجنحة الملائكة و كان النبيّ يهتف بحماس:

- سيهزم الجمع و يولّون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة

[ صفحه 68]

أدهي وأمرّ...

استمر القتال مريراً... واقتربت المعركة من نهايتها بعد ان تمزّقت خطوط المشركين ولاحت في الاُفق هزيمة و شيكة.

هتف النبي غاضباً و هو يقذف حفنة من الحصي:

- شاهت الوجوه!

انفجرت ساعة الانتقام وقذف بركان الثأر حممه مدوّية وهتف بلال وهو يرمق جلّاده بغضب:

- اُميّة! رأس الكفر لانجوت إن نجا... حاول بعض المسلمين اعتراض بلال. أرادوا عدوّهم أسيراً فصاح بلال:

- يا أنصار اللَّه.. إنّه اُمية رأس الكفر... لانجوت ان نجا...

انقض بلال علي جلّاده فهوي كأنما سقط من شاهق... ولأوّل مرّة تنفّس بلال الصعداء وانزاحت عن صدره صخرة قاسية كانت تجثم فوق اضلاعه فدمعت عيناه وراح ينظر إلي السماء في امتنان.

حاول أبوجهل في عناد قديم أن يمنع هزيمة «قريش» و كان يقاتل خلف سياج من رماح رجاله وفي مقدمتهم ابنه عكرمة... ولكن أنّي لهؤلاء الحفنة من الحمقي الوقوف بوجه رياح النصر وهي تعصف بعنف من أدني الوادي... اقتربت هتافات: أحَد.. أحَد... و ماهي إلَّا لحظات حتي هوي أبوجهل وارتطم رأسه بالأرض.

[ صفحه 69]

وضع عبداللَّه بن مسعود قدمه علي عنق أبي جهل الذي رمقه متسائلاً:

- لمن الدائرة؟

- للَّه ولرسوله وللمؤمنين.

كانت قدم ابن مسعود تدقّ عنق أبي جهل،فتمتم حانقاً:

- لقد ارتقيت

مرتقي صعباً يا رويعي الغنم.

حاول أن يبصق كعادته فسقط البصاق فوق وجهه وجحظت عيناه. كان هو الآخر ينظر برعب إلي شي ء ما.

[ صفحه 71]

القسمت 13

يثرب تتألق فرحاً وقد عاد النبيّ ورايات النصر تخفق فوق رأسه. كانت سعفات النخيل تتمايل طرباً..

توجّه النبيّ إلي المسجد فصلّي ركعتين... كان المسجد هادئاً والسكينة نبع يترقرق في جوانبه، نهض النبيّ واتجه صوب منزل فاطمة كعادته...

هبت الفتاة لاستقبال أبيها العظيم، و كانت ابتسامة مشرقة تضي ء قسمات وجهها الأزهر.

طبع الأب قبلة دافئة علي جبين ابنته أودعها كلّ معاني الاُبوّة والحبّ.. و وجدت فاطمة نفسها في أحضان امّها الدافئة... دخلت عائشة و كانت تغار من فاطمة فقالت مستنكرة:

- اتقبلها وهي ذات بعل؟

أجاب النبي مدارياً:

[ صفحه 72]

- واللَّه لو علمت ودّي لها لازددت لها حباً.

أجابت ممتعضة:

- أنت لاتفتأ تكرّر ذلك و تذكر امّها العجوز و قد هلكت في الدهر الأول فأبدلك اللَّه خيراً منها.

أجاب النبيّ بحزن:

- لا واللَّه ما أبدلني خيراً منها... آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدّقتني إذ كذبني الناس، وانفقت مالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللَّه منها ذريّة دون النساء. ارتفع صوت عائشة فقالت فاطمة و هي تنسحب بهدوء:

- يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي.

ردت عائشة و قد احمر وجهها غيظاً:

- و اللَّه يا بنيّة خديجة ما ترين إلّا أن لأُمّك علينا فضلاً و أي فضل كان لها علينا؟!

ما لهذه المرأة لا تفتأ تذكر امرأة توسدت التراب من ثلاث سنين إلا لأنها ولدت فاطمة؟ و فاطمة فتاة تنم عن سيدة كما ينم البلور

عما فيه و قد ولدت سيدة النساء. تدخل النبي غاضباً:

- يا حميراء ان اللَّه بارك في الودود الولود.

و أردف و هو يكفكف دمعة شرقت من عينيه:

[ صفحه 73]

- رحم اللَّه خديجة.

صرخت عائشة ثائرة:

- إنّك تحبّ فاطمة و عليّاً أكثر مني و من أبي.

ماذا تقول فاطمة لهذه المرأة. هل تقول لها كيف لا يحب عليّاً و قد رباه في حجره، فلما اشتد عودة آمن به وفداه بنفسه يوم هاجر، و في بدر و قد نصر اللَّه المسلمين و هم قلة. أتقول لها أن أباك كان مختبئاً في «العريش» و كان عليّ يقاتل... يقاتل بضراوة فصرع لوحده خمسة و ثلاثين من صناديد قريش من أصل سبعين. ماذا تقول لهذه المرأة التي أفقدتها الغيرة صوابها، ماذا تريد من أبي و زوجي... كانت لوعة تتأجج في روحها.

- لك اللَّه يا أبي.

و ماذا بوسعها أن تقول... لا لا... لن تقول شيئاً... لن تضيف همّاً جديداً إلي هموم النبي و قد تألب العرب عليه... لقد تعلّمت فاطمة الصبر... رضعته مع لبن اُمّها.. مرّاً حنظلاً لكنها تعودت مذاقه حتي بات شيئاً مألوفاً.

و في البيت نادت فاطمة أباها:

- يا رسول اللَّه:

ولكن، لا جواب.. و نادت مرة اُخري يا رسول اللَّه.

[ صفحه 74]

كانت كلمات اللَّه تترقرق في أعماقها: «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا».

هتفت فاطمة:

- يا رسول اللَّه!

التفت الأب العظيم و كان ينتظر منها كلمة أقرب إلي قلبه:

- يا فاطمة! انّها لم تنزل فيك.. أنتِ مني و أنا منك... قولي يا أبه، فانها أحيي للقلب و أرضي للرب.

سأل علي مبتسماً

و قد أراد أن يشيع البهجة في الحجرة:

- يا رسول اللَّه، أنا أحب اليك أم فاطمة؟

ضحك النبي و قال بود:

- أنت عندي أعز منها و هي أحب منك. طافت الابتسامة الوجوه كفراشة تدور بين زهرات ثلاث.

التفت النبيّ إلي ذكري خديجة و قال مستفسراً:

- يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس؟

سكتت فاطمة، لاذت بالصمت...

لقد اكتشف أبوها اذن انها جاءته لحاجة ثم عادت دون ان تسأله، وهاهو اليوم يسألها وهي تود أن لاتسأله، علي أن منظرها يشفّ عمّا بها خاصّة كفيّها فما تزالان تؤلمانها من كثرة ما طحنت بالرحي.

[ صفحه 75]

تدخل علي و قد عرف ان فاطمة لن تقول شيئاً:

- أنا أخبرك يا رسول اللَّه... انّها استقت بالقربة حتي أثرت في صدرها و جرت بالرحي حتي مجلت يداها و انها تسألك جارية تكون لها عوناً في ذلك...

شعر النبي بالحزن يعتصر قلبه وانبجست من عينيه الدموع و قال بلهجة تنم عن اعتذار عميق لابنته:

- يا بضعة محمد، ان في المسجد اربعمائة رجل ما لهم طعام و لا ثياب.. فتعجلي يا بنتاه مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة...

وأقبل النبي علي عزيزته يرفدها من روحه العظيمة فقال:

- ألا أعلمك ما هو خير لك من الخادم.

- أجل يا أبه.

- تسبحين اللَّه ثلاثاً و ثلاثين مرّة و تحمدين ثلاثاً و ثلاثين مرة و تكبرّين أربعاً و ثلاثين؛ تلك مئة باللسان و ألف حسنة في الميزان.

ابتسمت فتاة الأنبياء. ظهر البِشر في عينيها العميقتين عمق البحار... وهمست في نفسها:

- طلبنا الدنيا فجاءت لنا الآخرة.

و يمرّ عام. تعاقبت فصوله الأربعة و انطوت أيامه ولياليه.

[ صفحه 77]

القسمت 14

اطلّ شهر رمضان و تألقت لياليه الجميلة... السماء تكتظ بالنجوم... وصفاء لا عهد ليثرب به يسود المدينة، وطافت آيات القرآن بساتين النخيل و الأعناب.

فاطمة صائمة، و الهلال الذي بزغ في سماء يثرب ينمو و يكبر، و جنين في بطن فاطمة يتحرك يفيض بالحياة... والعيون تترقب كوكباً سيشرق علي الدنيا.

كبر الهلال أصبح نصف دائرة من فضة... و تدور الليالي حتي إذا أصبح القمر بدراً، بدأت لحظة المخاض.

تألق الأمل في بيت علي.. وأطل علي الدنيا صبي عليه سيماء محمد.

خفّ النبي إلي منزل فاطمة، و البشري تطوف فوق جبينه.

هتف النبيّ بأسماء و كانت عند فاطمة:

- هاتي إلي إبني.

[ صفحه 78]

تقدمت اسماء تحمل طفلاً ملفوفاً بمنديل أصفر.

احتضن النبي حفيده وطوح بالمنديل الأصفر بعيداً و قال:

- يا أسماء ألم أعهد اليكم ان لا تلفوا المولود بخرقة صفراء...

أسرعت اسماء و أحضرت منديلاً أبيض، وبدا الوليد حمامة بيضاء، أو غمامة هبطت من سمائها إلي الأرض.

تساءل النبيّ عن اسمه فقال علي:

- ما كنت لأسبق رسول اللَّه.

- يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسي فسمه باسم ابن هارون.

- و ما كان اسمه يا نبيّ اللَّه.

- اسمه شبر.

- العرب لا تعرف هذا الاسم.

- سمه حسنا.

- كانت فاطمة سعيدة و كانت سعادتها انعكاساً لسعادة والدها كما ينعكس النور في المرايا...

كانت فاطمة فرحة لأنها لم تر أباها سعيداً كهذا اليوم، طافت أمام عينيه سعادة قديمة يوم قدمت خديجة طفلته الحبيبة فاطمة... يوم بشّره جبريل بالكوثر.

[ صفحه 79]

مرت سبعة أيام.. أيام ملونة كقوس قزح... حتي اذا أطلّ اليوم

السابع... نحر النبي كبشاً وعقَّ عن حفيده.. لقد فدت السماء اسماعيل بكبش وهاهو حفيد ابراهيم يفدي الوليد المبارك بكبش أملح.. وأعطي القابلة فخذاً و ديناراً...

وضع النبي الوليد في أحضانه و حلق شعره و تصدق بوزن الشعر فضة.

وأدرك الذين رأوا النبي و حفيده و تلك السعادة التي كانت تتدفق في وجه النبي ان حباً عظيماً قد تفجر في قلب الرسول و ان لهذا الوليد المبارك شأناً عظيماً.

و تدور الأيّام و القلب الصغير ينبض بهدوء كنهرٍ هادئ...

استعادت فاطمة نشاطها بل شعرت ان قوّة كامنة قد تولّدت في روحها.. قوّة تدفعها إلي العمل.. إلي ان تلمس الأشياء فتمنحها اسمها و جمالها.

رشت الفناء بالماء.. تناثرت من بين أصابع كفّها حبّات باردة كانت تتألق في ضوء الشمس.. وامتلأ الفضاء برائحة طيبة تشبه رائحة الأرض المرشوشة بالمطر... رائحة تشد المرء إلي أن يفتح صدره فيستنشق الهواء يملأ به رئتيه.

كان الحسن في مهده غافياً... وطيف ابتسامة يلوح فوق فمه

[ صفحه 80]

الدقيق كوردة تتفتح للربيع... ربما كان يحلم بأشياء جميلة... أشياء أودعها اللَّه في النفس يوم خلق الإنسان.

كانت فاطمة ترنو إلي الوليد الذي صيّرها امّاً. و قد ولدت فاطمة الاُمّ.. تدفق نبع الاُمومة في قلبها فياضاً رقيقاً...

جلست إلي الرحي و مستها فدارت حول قطبها هادئة.

و بصوت رخيم راحت بنت النبي ترتل آيات جاء بها جبريل من السماوات البعيدة لشد ما تحب فاطمة تلك الفتاة الطاهرة... مريم ابنة عمران... انساب الصوت رقيقاً مؤثّراً كساقية:

«وإذ قالت الملائكة يا مريم إن اللَّه اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين.. يا مريم اقنتي لربِّك واسجدي واركعي مع الراكعين... قالت الملائكة يا مريم انّ

اللَّه يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسي بن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة و من المقرّبين».

رنت فاطمة نحو وليدها.. حركت مهدهُ بقدمها وراح المهد يتهادي علي هون كزورق في بحيرة رائقة.

الرحي تدور بهدوء.. و كلمات السماء تنساب بخشوع.. و المهد يتأرجح برفق.. و تلتقي هذه الأشياء لتملأ حياة فاطمة حيث الزمن نهر تتدافع امواجه في رحلة نحو البحر الكبير، أو رحي كبيرة تدور حول قطب ثابت لايعرف الدوران.

[ صفحه 81]

القسمت 15

جلس أبوحفصة يفكّر، والليل و الظلام فلاة واسعة يبذر المرء فيها ما يشاء و يزرع ما يشاء و يحصد ما يشاء، يطير في السماء أو يمشي في الأرض يخرقها أو ينافس الجبال طولاً..

جلس أبوحفصة وحيداً وبدا جبينه الواسع براقاً في ضوء القنديل... كان يفكر في ماضيه.. شجرة قصيرة النسب.. ليس لها جذور في أرض الجزيرة... في مكة كان يهرب من نفسه يشرب الخمر كؤوسا تنسيه ماضيه فيعيش في بعض خيالاته... أو ربما ثأر من بعض أهل الشرف، فيتغاضون عنه.. و السكر عذر.

تذكر فرحته يوم «أسلم»... محمد منحه الأمل في حياة لا حسب فيها و لا نسب إلَّا التقوي ولكن خابت آماله في المدينة ما يزال البعض ينظرون اليه نظرات مستفهمة... فكان يزيد التصاقه بالنبيّ. زوّجه ابنته حفصة. أصبح صهراً لرجل عظيم في الجزيرة كلّها،

[ صفحه 82]

صادق أبابكر؛ وأبوبكر له منزلة. هاجر مع النبي.. بات معه في الغار

امتدّ به الليل.. وأضحت النجوم أشدّ لمعاناً.. اشتعلت في أعماقه رغبة مجنونة في الهرب.. تناول جفنة صغيرة فملأها خمرة معتقة و أفرغها في جوفه. شعر بأن أعماقه تشتعل، وزاد وجهه حمرة كجمرة متوقدة

في الظلام.. صب لنفسه جفنة اُخري و اخري... اشتعلت عيناه.. تراقصت فيهما اضواء القنديل... عوت ذئاب، و ولد وحش في أعماقه. كان الوحش يكبر و يكبر.. يزداد شراسة. فجأةً هب واقفاً حتي كاد رأسه أن يرتطم بالسقف... سوف يحطّم بيوت يثرب... اتّجه إلي منزل «ابن عوف» لشدّ ما يكره هذا الرجل.. يفاخر بنسبه يتباهي بذهبه و فضته.. طرق الباب بعنف.. فخرج الرجل و هو يحاول فتح عينيه بصعوبة، التمعت عينا أبي حفصة و هو يهوي علي رأس ابن عوف بقبضته، ارتد الرجل مذعوراً و ما لبث أن تهاوي في عتبة الباب.

راح عمر يجتاز البيوت حتي اذا جعلها وراءه و بدت الصحراء أمامه بعيدة و السماء تكتظ بالنجوم.. تذكر ما جري قرب آبار بدر... تذكر صناديد قريش... و هم يسحبون فوق الرمال ثم يرمي بهم في القليب، رأي أباجهل جثّة هامدة.. و رأي اُمية بن خلف و عتبة و شيبة والوليد. رآهم صرعي و كانوا يملأون مكة هيبة.. لقد أخذهم الموت

[ صفحه 83]

دون عودة... و خلفوا وراءهم ذهباً و فضة و نساءً جميلات و خلفوا شجرة مجدهم الرفيع.

انطلق أبوحفصة يتغني بشعر الأسود:

وكاين بالقليب قليب بدرٍ

من القينات والشرب الكرام

و كاين بالقليب قليب بدرٍ

من السرب المكامل بالسنام

أيدعونا ابن كبشة ان سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام

أيعجز أن يردّ الموت عني

و ينشرني اذا بليت عظامي

سمع بعضهم صوت عمر يشقّ صمت الليل ففضّل السكوت... رجل عنيف حادّ الطبع.

ولكن «ابن عوف» لم يتحمل كان يشق طريقه في الظلام إلي منزل النبي.. انه يعرف رسول اللَّه. سوف يجده مستيقظاً يعبد

اللَّه، وربما ينتظر أوبة رجال بعثهم في الصحراء يستطلعون له أخبار القبائل و أخبار قريش فقريش لا تنام علي الثأر.

طرق ابن عوف الباب وانتظر... اطل النبي بوجهه المضي ء.. رأي

[ صفحه 84]

صاحبه ابن عوف، وخيط من الدم يلون رأسه و قطرات حمراء فوق ثوبه.

تمتم ابن عوف بشي ء من العتب:

- عمر يا رسول اللَّه...

أدرك النبيّ كل شي ء... ما يزال صاحبه يشرب الخمرة و يفعل ما يحلو له...

بان الغضب علي وجه النبيّ بعد ما عرف بأن صاحبه يتغني بشعر اعدائه.. بردده كلمة بكلمة و حرفاً بحرف... و الأنكي من ذلك أنّه يحرض المشركين لإطفاء النور الذي توهج في الجزيرة.

و ربّما لأوّل مرّة؛ رأي المسلمون رسول اللَّه يتميز غضباً.. حتي اذا وقف علي رأس صاحبه. هتف أبوحفصة و قد عاد إلي وعيه:

- أعوذ باللَّه من غضب اللَّه و غضب رسوله.

كاد الرسول أن يهم به لولا كلمات سمعها هدأت نفسه وكظم غيظه.. يا للإرادة تضع نفسها فوق فوهة بركان ثائر.. وهكذا تعرف الرجال في مواقف كهذه دونها لهوات الحرب و ظلال السيوف.

عاد النبيّ إلي منزله يفكر في آفة العقول هذه ماذا تفعل بالناس.. هؤلاء الفارّون من ضوء النهار إلي هلوسة الظلام.

نهض أبوحفصة يجرجر قدميه عائداً هو الآخر إلي بيته.. وكانت

[ صفحه 85]

العيون تحاصره.. تستنكر هذيانه.. رفع عمر يديه إلي السماء و هتف:

- اللّهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر.

وفي الصباح سمع أبو حفصة بآية حملها جبريل من قلب السماوات:

- إنّما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدّكم عن ذكر اللَّه و عن

الصلاة فهل انتم منتهون.

هتف عمر و هو يحطّم آنية الخمر بعصبية:

- نعم انتهينا... نعم انتهينا.

سادت المدينة حركة غير عادية و توالت الحوادث.. اليهود يتآمرون خلف حصونهم يحرضون المشركين كافة علي غزو المدينة... والنبيّ قلبه علي المدينة يخاف عليها الغدر.. و كانت السماء تحرس مدينةً آوت النبيّ... تحميها من دسائس اليهود.

[ صفحه 87]

القسمت 16

مناحات مكة ما تزال تتصاعد في فضاء الجزيرة كخيوط الدخان، و قريش تعدّ العدّة للثأر تحد سيوفاً و خناجر، «أبوسفيان» يصرّ علي نواجذه غيظاً يحاول أن يفعل المستحيل و قد تحوّلت زوجه إلي أفعي رهيبة في عينيها يسكن حقد يحيل السلام إلي حرب ضروس و الأخضر إلي رماد و دخان. هند لا تنام الليل. تبحلق في الظلام كأفعي اسطورية. و أبوسفيان يقود خيلاً و رجالاً، يغير علي المدينة في قلب الليل. يتسلّل كحيّة تسعي. و يجد «ابن مشكم» زعيم بني النظير ينتظره يدلّه علي نقاط الضعف في المدينة. يعلّمه كيف يقتل محمداً عدوهما المشترك.

كان كعب بن الأشرف يصغي بصمت. يراقب سيّده كيف يحوك خيوط العنكبوت و أبوسفيان يتلمظ كحيّة عيناه تستعران كجمرتين و بدت ظلاله علي الحائط شيطاناً مريداً.

[ صفحه 88]

قال أبوسفيان وقد أثاره صمت كعب؛ ربما تعجب من حماس اليهود لقتل محمد وهم أهل كتاب:

- أقسم عليك بالتوراة؛ ديننا خيرٌ أم دين محمد.

انتبه كعب كما لو لسعته عقرب و قال بغيظ:

- بل دينكم يا أباسفيان أهدي من دين محمد.

قال ابن مشكم بخبث يهودي:

- أتراه كاذباً يا أباسفيان؟!

ردّ أبوسفيان و قد ملّ:

- كيف و قد كنّا ندعوه الصادق الأمين.

- فَلِمَ تقاتلونه

إذن؟

شعر أبوسفيان بالنار تشتعل في رأسه:

- كنّا و بنوهاشم مثل فرسَي رهان كلما جاءوا بشي ء جئنا بمثله.. حتي ظهر محمّد فماذا يبقي لنا.

قال كعب و هو يصب الزيت في النار:

- لو اجتمعت قبائل العرب عليه ما وصل الأمر إلي هذا الحد. قوافلكم، هيبتكم و حيت آلهتكم في خطر، تغدّوا به قبل أن يتعشي بكم. نهض أبوسفيان حانقاً و هتف بعصبية:

- لن يطلع القمر حتي تسمع بمناحة في بيوت يثرب.

[ صفحه 89]

أسرع أبوسفيان وأمعن في الصحراء إلي حيث يعسكر مئتان من خيله و رجاله.

المدينة تغفو هادئة تنتظر الفجر.. تترقب صياح الديكة ليوم جديد تزرع و تبني و تفجّر الصخر ينابيع...

سنابك خيل مجنونة تهزّ الأرض و تثير غباراً امتزج مع غبش الفجر.

في «العريض» من أطراف المدينة شبت النار في منزلين وفرّت النسوة والأطفال و ذبح رجال.. و احترقت بساتين النخيل وفرّ المغيرون لايلوون علي شي ء.

كان أبوسفيان يراقب متلذذاً منظر النار و هي تلتهم أهداب يثرب. ودّ ان هنداً كانت حاضرة علّها تطفئ غليلها.

صراخ الأطفال والنساء يملأ الفضاء المفعم بالسكينة. وتناهت إلي اُذنيه صهيل خيل غاضبة فهمز فرسه تسبق الريح باتجاه مكّة.

استيقظت مكة وقد سادتها حمي الحرب وراحت تنفث في الفضاء روح الثأر... ثلاثة آلاف محارب يلتفون حول أبي سفيان، والتفت حول هند أربع عشرة امرأة.. و ثارت الحمية.. حمية الجاهلية.

و تصاعد دخان البخور لهبل إله الحرب ليأخذ لهم ثأرهم من محمد.

علي ضوء سراج واهن بدا «العباس» مهموماً و هو يكتب إلي ابن

[ صفحه 90]

اخيه رسالة يحذّره فيها من حملة وشيكة لقريش. وفي جوف الليل انطلق

فارس يسابق الريح و يطوي رمال الصحاري لا يلوي علي شي ء.

كان النبي في «قباء» علي مبعدة أربع أميال جنوب يثرب... في تلك الأرض التي وضع قدمه فيها آمناً بعد هجرة مثيرة. وقد جاء ليراقب عن كثب ما تموج به الصحراء من غدر و دسائس... القبائل لا تريد ليثرب السلام؛ تخطب ودّ قريش حيث مكة اُم القري و بيت الآلهة.. و قريش لاتنام علي الثأر..

لا شي ء في الاُفق البعيد سوي الرمال.. الصمت يهيمن علي الأشياء يزيدها رهبةً.. كان أبيّ بن كعب يدقّق في نقطة سوداء لاحت في الاُفق.. فهتف متسائلاً:

- اظنه فارساً يسابق الريح.

- اجلّ يبدو انّه قادم من مكة.

توقف الفارس بعد أن كبح جماح فرسه بعنف... أثارت الفرس الرمال المتوهجة وقفز الفارس مبهور الأنفاس يحمل في يمينه رسالة من قلب ينبض بحبّ النبي.

لا أحد يعرف مضمون الرسالة التي قرأها ابن كعب علي النبيّ.. ولكن الوجوم الذي غمر وجه الرسول يشفّ عن أمرٍ مثير و حادثة ستهزّ الصحراء و التاريخ.

[ صفحه 91]

القسمت 17

قمر الرابع عشر من شوّال يتألق في السماء يزدهي بهالته بين النجوم، و قناديل المدينة تتوهج.. ترسل ضوءاً ذهبياً. وبدت الكوي ينابيع تتدفق بالنور.

وفي المسجد التف المؤمنون حول الرسول، شباب و شيوخ و كهول يتداولون أمراً هامّاً. قريش تزحف صوب يثرب. قال النبي:- نقيم في المدينة وندعهم حيث نزلوا فان أقاموا أقاموا بشر مقام.. و ان هم دخلوا علينا قاتلناهم.

اخرج النفاق رأسه إذ قال ابن سلول و قد صادفت الفكرة هويً في نفسه:

- نعم يا رسول اللَّه... نقيم في المدينة.

ساد الوجوم وجوه الشباب... كانوا يتمنون الحرب في الصحراء..

[

صفحه 92]

والحرب في أزقة المدينة لا يشبع حماسهم... و كيف ينعمون بحرب تشارك فيها النسوة و الأطفال. هتف شاب لم يحضر بدراً يتمناها منذ عام:

- ماذا ستتحدث العرب.. جبنا عن اللقاء و قريش تشنّ عينا الغارات.

هتف آخر:

- اخرج بنا يا رسول اللَّه إلي أعداتنا.. حتي لا يزدادوا جرأة.

ساد الحماس و بلغ ذروته، وضاع صوت العقل. وعندما ينفلت زمام العاطفة تصبح فرساً جموحاً لا تصغي لأحدٍ و لا يقف في طريقها شي ء.

هبّت العاصفة لا يعتورها أحد، وأضحي من الحكمة مماشاتها و توجيهها، والحدّ من عنفها.

انتبه بعضهم و قد تأثر لمنظر النبيّ يعدل درعه، عرضوا عليه القبول برأيه و البقاء في المدينة، فقال بحزم:

- ما ينبغي لنبيّ لبس لامته أن يضعها حتي يحكم اللَّه بينه و بين عدوّه.

وأردف ليحكم قبضته علي العاصفة:

- عليكم بتقوي اللَّه و الصبر عند البأس وانظروا ما آمُركم فافعلوا.

[ صفحه 93]

وقفت فاطمة تودّع أباها و بين ذراعيها صبيّ له من العمر شهر، اعتنقه النبيّ.. راح يملأ صدره من شذي عطر له رائحة الجنّة، و همس بحبّ:

- انّه ريحانتي من الدنيا.. و اُمّه صدّيقة.

ودّع الرسول يثرب، و معه ألف مقاتل، و في ثنيّة «الوداع» حيث الجادّة التي تؤدي إلي مكة. و عندما وصل «الشيخان» و هما جبلان في أطراف المدينة قام النبيّ باستعراض لقوّاته فأرجع من الشباب من كان دون الخامسة عشرة...

طلع الفجر و وصل النبيّ «الشوط»- بستان بين المدينة و جبل «اُحد»....

و ذرّ رأس النفاق قرنه فأعلن تمرّده علي الرسول.

عاد «بن أبيّ» و عاد معه ذيوله و كانوا ثلاثمئة، فأحدث ذلك شرخاً

في جيش النبيّ و هو علي و شك الاشتباك.

عسكرت قريش في وادي «قناة» وانتشرت في أرض سبخة، قاطعةً الطريق علي جيش المسلمين.

تساءل النبي عن دليل يمكنه هداية الجيش علي طريق يؤدي إلي اُحد لا يمرّ علي جيش المشركين.

هتف «أبوخيثمة»:

[ صفحه 94]

- انا يا رسول اللَّه.

- سر علي بركة اللَّه.

سلك الدليل «حرّة» بني حارثة و هي أرض ذات حجارة سوداء منخورة كأنها شويت بالنار... كانت المزارع علي يمين الجيش المتقدم وقوّات المشركين علي شمالهم واتجه الدليل شمالاً نحو جبل اُحد، وقطع وادي «قناة».

دخل الجيش الشِعب المطلّ علي الوادي، تاركاً الهضاب والجبل وسفوحه في ظهره.

نظم النبي جنوده صفوفاً في ثلاثة أنساق و انتخب خمسين من أمهر الرماة، وأمرهم بالمرابطة فوق جبل «عينين» و هو جبل صغير يقع في الجنوب الغربي من معسكر النبي و علي بعد مئة و خمسين متراً من مقرّ القيادة، و كان اجراؤه هذا تحسباً من حركة التفاف يقوم بها المشركون، و كان النبي يعلم ان لدي قريش قوّة كبيرة من الفرسان تحت إمرة «خالد بن الوليد» و كانت هذه القوّة مصدر قلق للنبي.

قال النبي لابن جبير قائد الرماة:

- انضحوا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا...

والتفت إلي بقية الرماة:

- احموا لنا ظهورنا لا يأتونا من خلفنا وارشقوهم بالنبل فان

[ صفحه 95]

الخيل لا تقدم علي النبل.. إنّا لا نزال غالبين ما لبثتم مكانكم، اللّهم اني أُشهدك عليهم.

و للمرّة الأخيرة أوصاهم النبي.

- إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتي أرسل اليكم، و ان رأيتمونا ظهرنا علي القوم و أوطأناهم فلا تبرحوا حتي أرسل

اليكم، و ان رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا، و ان رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا و لا تدافعوا عنا.

نظم النبي قواته واضعاً في الخط الأول رجالاً أولي بأسٍ شديد بدا فيهم علي و حمزة و أبودجانة و سعد بن الربيع و رجال حملوا أرواحهم فوق الأكف، كما خصّص كتيبة بقيادة المقداد للتنسيق مع الرماة في صدّ هجوم محتمل قد يقوم به فرسان قريش.

تذكر النبي رؤياه. عادت تتمثل أمامه من جديد.. رأي ابقاراً تسر الناظرين.. رآها تذبح فتشحط دماً عبيطاً ورأي في حدّ سيفه ثلماً...

تجمّعت في السماء النذر و بدت السيوف بين الغبار بروقاً نزلت إلي الأرض و شدّ أبودجانة حول رأسه عصابة الموت كجرح يفور و أدرك الذين رأوه أن الرجل قد اختار الموت طريقاً إلي الحياة.

الرجل الذي اختارته السماء رسولاً إلي الأرض يبلّغ رسالته:

- ما أعلم من عملٍ يقرّبكم إلي اللَّه إلَّا و قد أمرتكم به، و لا أعلم

[ صفحه 96]

من عملٍ يقربكم إلي النار إلَّا و قد نهيتكم عنه، وانه قد نفث الروح الأمين في روعي انه لن تموت نفس حتي تستوفي رزقها لا ينقص منه شي ء.. المؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد اذا اشتكي تداعي اليه سائر الجسد.

و في المعسكر الآخر في أرض سبخة تعالت أصوات الدفوف والطبول تشف عن روح همجية متعقشة لرؤية الدماء... تسكر علي صوت طبول الحرب تدق بعنف فيستيقظ الشيطان يعربد و يدمّر.

خرجت خمس عشرة امرأة ينشدن أناشيد الثأر:

و كان صوت هند له نبرة نمرة متوثبة:

نحن بنات طارق

نمشي علي النمارق

الدر في المخانق

والمسك في المفارق

ان تقبلوا نعانق

ونفرش النمارق

او تدبروا نفارق

فراق غير وامق

وحلم رجال بليالٍ حمراء.. ليال مليئة بالمتعة. و منوا أنفسهم

[ صفحه 97]

بسبي من يثرب فيهنّ حسان من الأوس أو الخزرج.

اتسعت الأحداق وعض الرجال علي النواجذ... و بدأت قريش الهجوم. بدأت قوّة من المشاة تساندها كوكبة من الفرسان بقيادة عكرمة بن أبي جهل هجوماً علي ميسرة الجيش الاسلامي لتدميرها، و من ثم النفوذ إلي عمق الشِعب و ضرب المسلمين من الخلف.

قوبل الهجوم العنيف برشقات كثيفة من النبال واعترض المقداد بقوّاته سيل المهاجمين وأرغمهم علي التراجع و من فوق سفوح أُحد تدحرجت الصخور و الحجارة فارتد المهاجمون و تشتتوا..

عاود الفرسان الكرة مرة بعد اُخري ولكن دون جدوي. وفي تلك اللحظات الحساسة أصدر النبي أمره بشن الهجوم المعاكس.. مستهدفاً قلب القوّات المتقهقرة و كان ثقل المعركة يدور حول «لواء» قريش من أجل اسقاطه و تحطيم الروح الجاهلية. وسقط اللواء بضربة من عليّ.. ثم ارتفع مرّة اُخري ثم هوي علي الأرض... ثم ارتفع... ثم هوي ممزقاً فوق الأرض...

تزلزلت معنويان المشركين ودبّت فيهم الهزيمة و اطلقت هند ساقيها للريح وسقطت الدفوف و تبعثرت أمنيات زوج أبي سفيان وذهبت أدراج الرياح....

وفي غمرة النصر سقط حمرة. اخترق قلبه رمح وحشي..

[ صفحه 98]

سقطت ثلمة من سيف محمد.

وفوق جبل «عينين» كانت هناك معركة من نوع آخر.. معركة في داخل النفوس رهيبة مشتعلة.. أشعلتها الغنائم المبعثرة في الوادي.

وأخيراً وبعد صراع عنيف انتصرت النفوس الامارة بالسوء.. و غادر أكثر الرماة مواقعهم «لا يلوون علي شي ء» و (ابن جبير) يدعوهم.. يذكّرهم بوصايا الرسول. غير أن النفوس التي أصغت إلي فحيح الشياطين

نسيت همسات السماء.

كان خالد بن الوليد ينتظر الفرصة و عندما شاهد منظر الرماة و هم يهبطون الجبل التمعت في عينيه حمي الحرب، فاندفعت الخيول كالعاصفة و عمت الفوضي صفوف الجيش الاسلامي...

وفرّ المسلمون لا يلوون علي شي ء، و الرسول ينادي:

- أنا رسول اللَّه.. هلموا إلي!

وبعد لأي تمكن النبي من تجميع أكثر قواته و الانسحاب بهم نحو سفح الجبل.

صرخ أبوسفيان في بطن الوادي:

- اعل هبل.

وجاء صوت الرسول:

- اللَّه أعلي وأجلّ.

[ صفحه 99]

- لنا العزي و لا عزي لكم.

- اللَّه مولانا و لا مولي لكم.

- يا محمد حنظلة بحنظلة و يوم بيوم بدر و الحرب سجال.

أمر النبي عليّاً أن يستطلع قوات قريش فقد تجتاح المدينة:

- انظر فإن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فانهم يريدون مكّة.. و ان ركبوا الخيل فانّهم يريدون المدينة..

وأردف النبي و قد برق العزم في عينيه:

- والذي نفسي بيده لئن أرادوا المدينة لأُناجزنّهم.

جراح النبي تنزف.. تفور.. لا تعرف التوقّف. بالجراح الأنبياء حمراء حمراء بلون الشفق، تبشّر بالنهار.. بشمس ساطعة ودف ء الربيع.

[ صفحه 101]

القسمت 18

كذئاب مجنونة راح المشركون يجوسون خلال الجثث الهامدة يمزقون اكباداً و قلوباً كانت تنبض بالحياة؛ تحلم بعالم جميل؛ بدنيا آمنة مطمئنة.

جثمت «هند» علي جسد حمزة كنسر متوحّش وبدا وجهها الحاد كغراب شره.. كان صوتها يشبه فحيح الأفاعي:

- حمزة.. صياد الاُسود... جثة هامدة.. انهض يا قاتل أبي و أخي:

استلت هند خنجراً و بقرت بطن أسد اللَّه و أسد رسوله ثم انشبت يدها في بطنه. كانت المخاطب تبحث عن كبد حري و لما عثرت عليها انتزعتها.. و حمزة

ما يزال نائماً يعلو وجهه غبار خفيف.

مزّقت الذئبة كبد الإنسان. تريد أن تلوكه.. أن تبتلعه.

و علي تلال قريبة كانت نسوة في المدينة يرقبن المعركة، و قد

[ صفحه 102]

غاظهن فرار المسلمين، صرخت «اُم أيمن» وهي تحثو التراب في وجه «عثمان»:

- هاك المغزل فاغزل به وهلم سيفك.

أراد عثمان أن يخبرها بمقتل النبي و انه سمع أحدهم يهتف وسط المعركة: قتلتُ محمداً؛ ولكنه فضل الصمت فأمّ أيمن إمرأة في رجل. سوف تحثو في وجهه التراب مرة اُخري.

لوي عثمان عنان فرسه وانطلق صوب جبل «الجلعب» في ناحية يثرب وتبعه المنهزمون فهو خبير في اكتشاف المخابئ و قد يجتاح أبوسفيان المدينة.

عاد النبي إلي المدينة ينوء بجراحاته، واخفق علي و هو يغسل جراحه أن يوقف نزف الدماء؛ وكادت «فاطمة» أن تموت و هي تري أباها و الدماء تسيل من وجهه.. تدفقت الدموع غزيرة كسماء ممطرة واستيقظت في أعماقها كوامن الأمّ تحاول انقاذ وليدها بأيّ شي ء؛ عمدت إلي حصير فاحرقته، ولما صار رماداً لمت الرماد وراحت ترش جراح النبي.

نجح الرماد في وقف اشتعال النار، أطفأ الجراح بعد أن أخفق الماء.

كان عليّ يراقب زوجه تضمد الجراح.. تمسها ببلسم يوقف تدفق

[ صفحه 103]

الألم. تأملت فاطمة سيف أبيها وسيف بعلها و قد جللتهما الدماء وأدركت هول الملحمة التي دارت في جبل اُحد.

قال علي و هو يناولها سيفه:

- خذيه فلقد صدقني اليوم.

فقال النبي:

- لقد أدي بعلك ما عليه و قتل اللَّه بسيفه صناديد قريش حتي نادي جبريل بين السماء و الأرض: لاسيف إلّا ذوالفقار و لا فتي إلا علي.

نظرت فاطمة إلي زوجها تشكره بعينين

تشعان رحمة... اللَّه وحده يعرف الأعماق... وحده الذي يعرف روح هذا الفتي الشجاع الذي حمل روحه علي كفه يفدي رسول اللَّه و قد غدا كل شي ء في دنياه، انه لا يعرف للحياة معني إلا بمحمد... محمد الذي منحه في زمن الرعب الطمأنينة والسلام.

عاد عثمان و من معه إلي المدينة بعد أن مكث في الجبل ثلاثة أيام... و قال النبي عندما وقعت عيناه عليهم:

- لقد ذهبتم فيها عريضة!!

و تمرّ الأيام و تندمل آلاف الجراح و عادت إلي المدينة روح

[ صفحه 104]

الأمل... وانطلق المجتمع الجديد يزرع و يبني و يعمل و يشحذ السيوف... و قد أدرك الذين آمنوا ان طاعة اللَّه و الرسول هي الطريق الي النصر... إلي المجد و إلي جنة عرضها السماوات و الأرض.

عادت فاطمة تدير الرحي و تهز المهد و تدير منزلها الصغير و تضمد جراح النبي.. تعرف مواقعها في روحه العميقة؛ و ربما انطلقت إلي أُحد تبكي حمزة سيد الشهداء.. تعرف عمق الجرح الذي أحدثه رحيله في قلب أبيها.

و أطلل عام جديد يحمل معه أفراح النصر و يقدم إلي رسول اللَّه ريحانة اُخري في حنايا فاطمة؛ فلقد ولد الحسين وجيهاً في الدنيا و في الآخرة و من المقربين.

وهمس النبي في اُذنيه بكلمات السماء و سمعه الكثير و هو يقبله قائلاً:

- حسين مني و أنا من حسين.

و كان الحسين قريباً فدبّ كنملة و راح يداعب شعر أخيه و قد غمره فرح طفولي، و تدفق نبعٌ جديد؛ نبع في اُسرة صغيرة؛ اُسرة أسسها النبي و باركتها السماء.

و تمر الأيام و النبي يشمر عن ساعديه و يبني الإنسان... انسان الصحراء.. يروض في أعماقه الوحش

و يضي ء في ظلماته شمعة.

[ صفحه 105]

و بدت يثرب في أرض اللَّه الواسعة سراجاً في مهب إعصار فيه نار أو قارباً صغيراً وسط الأمواج العاتية، و النبي و الذين آمنوا يقاومون المد الجاهلي و يحبطون مؤامرات يهودية... و اليهود عجنوا بالغدر و تشربوا تعاليم التلمود... نبذوا التوراة بعيداً الّا ما حرّفوه عن مواضعه، يبنون حصونهم و قلاعهم، وظنوا انهم مانعتهم حصونهم. يخفون وراءها حقداً دفيناً للإنسان تناقلته أجيالهم منذ السبي البابلي و إلي ان يقضي اللَّه أمراً كان مفعولا. يباهون الاُمم بموسي بن عمران و قد عشعش قارون في نفوسهم. ترن في أعماقهم خشخشة الذهب و الفضة، فتوارثوا عجلاً صنعوه منذُ أن سوّل لهم السامريّ، وظلوا عاكفين عليه حتي اذا نصحهم هارون كادوا ان يفتكوا به، أداروا ظهرهم للذي أنجاهم من البحر و عكفوا علي عجل له خوار.

كان موسي غاضباً و هو يلقي الألواح.. و يأخذ بمخانق أخيه. هتف هارون:

- انهم استضعفوني و كادوا يقتلونني.

واتجهت الأبصار إلي السامري. كاد موسي يبطش به:

- فما خطبك يا سامري؟

- لا شي ء.. لقد رأيت أثر الملاك.. وكذلك سولت لي نفسي. و مضي السامري في التيه... يشد عباءته إلي كتفيه يعتصر وجهه

[ صفحه 106]

المخادع بكفيه... وعواء ذئب جائع يضج في صدره اللاهث.. ضاع السامري بين آثار الجمال و الحمير لايعرف له وطناً سوي تلك البقعة التي خسفت بقارون و خزائنة الزاخرة بالذهب الأصفر.. في أعماقه اُمنيات لعجل جديد يعبده من دون اللَّه؛ لا تكفيه بقعة واحدة. يريد أن يبتلع سيناء و أرض كنعان، و بابل و رمال جزيرة العرب.

وحط السامري رحلة هنا و هناك

من أرض الجزيرة وراح يبني الحصون والقلاع و ينهب الذهب، القبائل العربية تعبد أصناماً من حجارة تنحتها بأيديها أو أشجاراً ذات رقاع، وابناء السامري يعبدون عجلاً من ذهب يخطف الأبصار، يظلون عليه عاكفين حتي جاه محمد.

توقف التاريخ يحبس أنفاسه عند حصون بني النضير فقد جاء محمد ومعه جمع من أصحابه يطالبهم بالوفاء وهم جبلوا علي الغدر؛ يبتسمون لمن يدعوهم فيكشرون عن أنياب تنزّ صديداً.

قالوا وقد رأوا النبي عند الحصن في قلة ودونما سلاح.

- نعم يا أباالقاسم نعينك علي ما أحببت.

وجلس النبي ينتظر الوفاء.

وخلف جدران الحصون والقلاع ولدت مؤامرة.

اجتمع ابناء السامري... العيون تبرق بالغدر:

[ صفحه 107]

- هذه فرصتنا للقضاء علي محمد.

- أجل نتغدي به قبل أن يتعشي بنا.

- انطلق يا «عزوك» فتحدث معه و أطل الكلام.

- و أنت يا «جحاش» اصعد فوق الحصن والق عليه (رحي الطاحون).

حاكت العناكب شباكها علي عجل. غير أنّ النبيّ الأمي الذي يجدون اسمه في التوراة يعرف ما يجول في خواطرهم فغادر الحصن وجاء المدينة يسعي.

و حوصرت حصون السامري عشرين يوماً حتي تهاوت جميعاً وقتل علي «عزوك» ولملم بنو النضير شباك العنكبوت و رحلوا... رحلوا بعيدا و تنفس النبي والذين آمنوا الصعداء؛ وتمت كلمة ربك بالحق و قيل بعداً للقوم الظالمين.

وعادت يثرب مدينة منورة يكاد سنا نورها يضي ء التاريخ.

[ صفحه 109]

القسمت 19

الحياة في يثرب ينابيع متدفقة، و الأمل ينمو.. يكبر.. غدا شجرة خضراء أصلها ثابت و فرعها في السماء، والذين نصروا النبي يعملون دائبين في زروعهم، يرعون ماشيتهم. والذين هاجروا وجدوا لهم متسعاً من مكان في الأرض و في القلوب

و غدا الجميع اُخوة علي دين واحد كلهم من آدم و آدم من تراب، والرسول لا يفتأ يؤلّف بين القلوب.. يغسل عنها أدران الجاهلية.

علي يعمل.. يسقي الزرع أو يفجر الأرض ينابيع، فيحصل لقاء ذلك صاعاً من شعير أو تميرات من نخيل يثرب.

كانت شمس الأصيل تغمر مسجد النبي بأشعتها الذهبية، ومساقط الضوء تتناثر من بين جريد النخل كدنانير ذهب نثرت فوق عروس.

جلس النبي في قبلته بعد ان انفتل من الصلاة و قد تحلّق حوله

[ صفحه 110]

أصحابه فبدا كقمر وسط النجوم، والزمن نهر يتدفق... تتدافع قطراته بانتظام...أو رحي كبيرة تدور و تدور، تهب السنين لمن يشاء و من لا يشاء. تفتح عيون الأطفال و تغمض عيوناً متغضنة الأجفان، تشدّ أعواد الشباب و تقوس قامات الكهول، فالجميع إلي زوال و يبقي وجه اللَّه... اللَّه وحده.

دخل المسجد شيخ عصف به الزمان. نحت وجهه و مزق ثيابه، يدب علي الأرض دبيب نملة تبحث عن رزقها في يومٍ بارد.

هتف الشيخ و هو يتطلع إلي النبي كأنما يتطلّع إلي شمس تهب النور والدف ء:

- يا نبي اللَّه أنا جائع.. عريان.. اشبعني واكسني.

أجاب النبي و قلبه يذوب تأثراً:

- ما أجدُ لك شيئاً.. ولكن الدالّ علي الخير كفاعله... انطلق إلي من يحب اللَّه و رسوله، و يحبه اللَّه و رسوله، يؤثر اللَّه علي نفسه.. انطلق إلي فاطمة..

التفت النبي إلي بلال:

- قم يا بلال.. فخذه إلي منزل فاطمة.

وقف الشيخ علي باب يغضي إلي عالم من أمل.. عالم يهب الخير للجياع.

[ صفحه 111]

هتف الشيخ بصوت واهن ينوء بعب ء السنين:

- شيخ عصف به الدهر و أضر

به الفقر.. واسيني يا بنت محمد. نظرت فاطمة حواليها.. لم تجد شيئاً تسعف به انساناً ينتظر بأمل. كان هناك في زاوية الحجرة جلد كبش مدبوغ، فطوته و ناولته الشيخ:

- خذه، فعسي اللَّه أن يختار لك ما هو خيرٌ منه.

دقّق الشيخ النظر و تمتم:

- و ما أصنع بجلد كبش يا بنت محمد!

وأصعب شي ء أن تهب المرأة زينتها... اساور من ذهب أو فضّة أو عقداً من لآلئ البحر، ولكن هناك ما يضي ء في نفس المرأة و يتألق في أعماقها تألق اللؤلؤ في الأصداف.

انتزعت فاطمة عقداً كان في عنقها و ناولته الشيخ الملهوف:

- خذه يا شيخ.. عسي اللَّه أن يعوضك به ما هو خيرٌ منه.

عاد الشيخ الهويني إلي المسجد... كان النبي ما يزال جالساً بين أصحابه، قال الشيخ:

- يا رسول اللَّه أعطتني فاطمة هذا العقد و قالت بعه عسي اللَّه أن يصنع لك به خيرا.

دمعت عينا النبي:

[ صفحه 112]

- كيف لا يصنع اللَّه لك! و قد اعطتك ايّاه سيدة بنات آدم.

سأل عمار و كان حاضراً:

- بكم تبيع العقد يا شيخ؟

- بشبعة من الخبز و اللحم، و بردة يمانية استر بها نفسي و اُصلي بها لربي.

ملأ الشيخ كفيه دنانير من ذهب و دراهم من فضة فهتف جذلاً:

- ما أسخاك بالمال يا رجل!

غاب الشيخ برهة ثم عاد و بريق أمل يشع من عينيه، و كلمات الدعاء و تمتمات الثناء تنساب من بين شفتيه فقد أغناه اللَّه بعد فقر و أشبعه بعد جوع و كساه بعد عري.

انطلق عمار إلي منزله.. فسكب عطراً غالياً علي العقد ثم لفه

ببرده يمانيه و قال

لفتاه و كان اسمه سهم:

- انطلق إلي فاطمة و سلمها العقد و أنت لها.

و انطلق سهم كسهم يجتاز البيوت حتي اذا وقف علي باب فاطمة:

- السلام عليك يا بنت رسول اللَّه... العقد وأنا لك يا بنت محمد.

- العقد لي و أنت حرٌّ لوجه اللَّه.

كاد الفتي يطير فرحاً.. كان يفكّر بالحريّة.. يحلم بها.. وهاهي

[ صفحه 113]

اللحظة التي كاد أن ينساها تتحقق فيدخل الدنيا حرّاً طليقاً.. انه لن ينسي أبداً فاطمة... السيدة التي أعادت اليه شيئاً غالياً فقده منذُ زمن.

عاد مهرولاً و الفرحة تطفو فوق وجهه جبينه مشرق وفمه كهلال عيد الفطر. وجد نفسه يعود إلي عمار، هتف عمار:

- ما يضحكك يا سهم؟

- أضحك لبركه هذا العقد... اشبع جائعاً و كسي عرياناً وأغني فقيراً واعتق عبداً ثم عاد إلي صاحبه.

و عندما أوت الطيور إلي أعشاشها... و عاد المزارعون إلي بيوتهم وساق الرعاة غنيماتهم... في طريق العودة و قد غابت الشمس... لتتألّق النجوم في صفحة السماء و يشرق القمر... كانت حكايات السمر تتحدث بقصة عقدٍ مبارك وهبته بنت محمد ثم عاد اليها بعد أن مست بركته جياعاً و عراة و عبيداً... و هبتهم الخبز و الكساء و الحريّة.

[ صفحه 115]

القسمت 20

مضت خمسة أعوام علي هجرة النبي... والمدينة ما تزال تنعم ببركات السماء.. تبني و تزرع و تنتج و تقدم إلي العالم الكلمة الطيبة ولكن قريشاً واليهود يفكرون باجتثاث شجرة غرستها السماء ليعود الناس القهقري إلي زمان لا عودة اليه..

دخل فصل الشتاء.. و رياح باردة تهب من ناحية الشمال، الغيوم تتجمع في السماء.. ثم سرعان ما تتبدد.. تاركة الأرض عطشي

و الزروع أيدي متضرعة تنشد المطر، العواصف تشتد يوماً بعد آخر و لا قطرة مطر...

وهناك رياح اُخري.. رياح جاهلية تهب من ناحية الجنوب.. قريش تعد العدة لغزو المدينة.. و السامري الذي حطّ رحلة في خيبر يخطط لإطفاء النور في جزيرة العرب. اشتعلت في القبائل حمي السلب و النهب... و يثرب لقمة دسمة.. و كذلك سول لهم السامريّ..

دقّت طبول الحرب بين مضارب القبائل و سيوف الغدر تشحذ، تومض في بطون نجد وكنانة و قريش تطرب علي رقصة الحرب و هند تلوك كبد حمزة، و أبوسفيان يحلم بالمجد.. يهتف: اعل هبل.

رياح الشتاء ما تزال تعصف بالمدينة و الغيوم تعبر السماء كسفن تائهة، حل شهر رمضان، القي رحله في الجزيرة غريباً لا يعرفه أحد إلّا في أرض طيبة..

صامت يثرب للَّه.. امتنع أهلها عن الأكل و الشرب.. وصامت جوارحهم... و المعدة توقفت عن الانبساط و التقلّص.. فانتفض القلب يخفق بقوّة.. واستيقظ العقل من سباته متوتراً.. يري ما لا تراه العيون.. و يدرك ما لا تدركه الأبصار...

جاء رمضان يعلّم الإنسان كيف يجوع فينتصر. كيف يظمأ لتولد إرادته.. كيف يهزم الوحش القابع في داخله لينتصر الإنسان المضطهد في الأعماق.. رمضان نهرٌ يجري.. تتدافع أمواجه برفق. يغسل القلوب من الدرن.. يعيدها بيضاء بيضاء كحمائم بريّة تطير في الفضاء.. خفيفة حرّة تسبح في ملكوت اللَّه.

الرياح الباردة ما تزال تهب من ناحية الشمال... و الغيوم ما تزال تفرّ مذعورة باتجاه الجنوب... و لا قطرة مطر والعام عام جفاف... والرسول يشد علي بطنه حجر المجاعة، و يصغي إلي انباء تأتي من

[ صفحه 117]

ناحية الصحراء

- انهم عشرة آلاف مقاتل.. قبائل غطفان و قريش و

كنانة.. و قد نقض «بنوقريظة» العهد و هم داخل المدينة.. ألف خنجر في خاصرة يثرب.

- و هناك أعداء موجودون بيننا لا نعلمهم. اللَّه يعلمهم.

- كفانا اللَّه شرّ المنافقين.

- يثرب في خطر.

- انهم يزحفون باتجاه المدينة من فوقنا و من أسفل منّا.

- لا تنسوا اللَّه فينساكم.. و اذكروه يذكركم و يثبّت أقدامكم.

وفي المسجد كاد اليأس يعصف بالقلوب المؤمنة والقلق يزعزع شجرة غرسها النبي لتؤتي اُكلها كل حين بإذن ربِّها.

وبعد حيرة و وجوم نهض رجل من أهل فارس.. يلوح بطوق نجاة ليثرب فالطوفان قادم:

- يا رسول اللَّه إنا كنا بأرض فارس اذا خفنا العدو خندقنا.

فكرة لم تكن العرب لتعرفها. هتف الأنصار:

- سلمان منا.

وردّد المهاجرون:

- سلمان منّا.

[ صفحه 118]

و تنازع الفريقان رجلاً جاب الأرض بحثاً عن رجل يدعي محمد.

هتف النبيّ و قد رنت اليه العيون:

- سلمان منّا أهل البيت.

رياح الشتاء تعصف بعنف... و العام جفاف و البطون خاوية.. ولكن الإرادة التي ايقظها رمضان تكاد تلوي التاريخ...

من الشمال ستهب عاصفة الأحزاب. ضرب النبي الأرض بمعول من حديد و ببأس شديد؛ وهوت المعاول تفتت الأرض علي طول خمسة آلاف ذراع و عرض تسعه أذرع و عمق سبعة أذرع.

ومرت الأيام و الرياح ما تزال تهبّ شديدة البرودة و الأجساد تذوي لاتجد ما يسدّ رمقها.. ولكن الإرادة كانت تشتدّ.. تفتت الصخور و تغوص في أعماق الأرض، فأسراب الجراد قادمة.. تريد أن تحيل كل ما هو أخضر إلي يباب لاشي ء فيه إلّا سراب يحسبه الظمآن ماء.

جلس النبي ليستريح قليلاً... جفف حبات عرق كانت تتألّق فوق جبينه وبدا معوله قطعة نادرة أو

كنزاً منحته الأرض... شدّ حجر المجاعة إلي بطنه أكثر.. ثلاثة أيام تمر و هو لا يجد شيئاً يطعمه.

لم يذكره أحد.. الجوع و البرد و الاعياء هواجس الصحراء تنسي المرء أقرب الأشياء اليه ولكن فاطمة لم تنس الرجل الذي

[ صفحه 119]

اختارته السماء رسولاً إلي الأرض المنكوبة.

الرجل الذي اكتسبت يثرب مجدها به جائع.. يشد حجر المجاعة إلي بطنه لايجد شيئاً يأكله حتي ذكرته فاطمة علي حين غفلة من أهل يثرب.

غابت الشمس، وفاحت رائحة الخبز في فضاء المدينة و توهجت المواقد في البيوت تمنح الصائمين الدف ء و الشبع.. و النبي في خندقه يصلّي للَّه:

- ربِّ اني لما أنزلت إليَّ من خيرٍ فقير.

وجاءت فاطمة من بعيد تحمل اليه قلبها و خبزاً انضجته قبل قليل.

شاعت البهجة في وجه النبيّ.. بهجة تشبه بهجة الحواريين يوم نزلت اليهم مائدة من السماء.

و فاطمة حوراء أنسية جاءت تحمل له الخبز والدف ء والشبع. تمتم النبي:

- واللَّه ما دخل جوفي طعام من ثلاث.

عادت فاطمة إلي منزلها... تكفكف دموعها.. تبكي الرجل الذي حمل مشعل السماء إلي الأرض يريد له أن يبقي مضيئاً بوجه العاصفة القادمة.

[ صفحه 121]

القسمت 21

انطوت ليالي رمضان وابتسم هلال شوال يحمل للقلوب فرحة عيد الفطر... وامتزجت فرحة العيد بفرحة اُخري.

لقد أتم الرسول والذين آمنوا حفر خندق امتد خمسة آلاف ذراع وعرض تسعة أذرع و عمق سبعة أذرع.

تجمع بعضهم فوق التلال المشرفة وراحوا ينظرون إلي عمل انجزته الإرادة.. إرادة الإنسان الذي اضاءت نفسه شعلة سماوية.

- أيّة قوة أنجزت هذا العمل العظيم؟

- انها قوة الإيمان يا أخي.

- أجل.. المؤمن أقوي من الجبل.

ابتسم هلال شوال يعلن نهاية رحلة الجوع والظمأ... وعاد المؤمنون يحملون معاولهم و قد نفضوا تراب يومٍ حافلٍ بالعمل.

عسكرت جيوش مكّة في «مجمع الاسيال» بين «الجرف»

[ صفحه 122]

و «زغابة».. و عسكرت غطفان ب«ذنب نقمي» في الجهة الغريبة من جبل اُحد... و كان حيّ بن أخطب من سلالة السامريّ يكيد من أجل احتلال يثرب و قتل النبي الأمي الذي يجده مكتوباً في التوراة... في أعماقه يتردد خوار عجل.. عجل عبدوه من دون اللَّه.

تحطمت أحلام أبي سفيان أمام خندق لم يكن ليخطر علي باله يوماً.

تمتم حانقاً و هو يهمز فرسه بالسوط.

- مكيدة لا تعرفها العرب.

- انها من تدبير ذلك الفارسي.

- لا يمكن اقتحام الخندق أبداً.

- ليس أمامنا سوي ضرب الحصار.

حل المساء.. و رياح الشتاء تهب من ناحية الشمال.. رياح تخترق الجلد و تصلّ في العظم.. جلس أبوسفيان قبالة النار المشتعلة والريح تعبث بأطراف الخيمة و كانت ظلاله تتراقص فوق وبر الخيمة كشيطان مريد..

تمتم عكرمة و هو يحاول كسر الصمت الجاثم:

- انهم بعيدون عن مرمي النبال.

أجاب أبوسفيان و هو يحدق في المجمر:

[ صفحه 123]

- ابحثوا عن ثغرة لاقتحام الخندق فإطالة أمد الحصار ليس في صالحنا.

علق عمرو بن العاص:

- أنا لا أثق بقريظة انهم يطلقون أقوالهم جزافاً، و إلّا فأين أفعالهم... ألف مقاتل في خاصرة يثرب.. و هم ما يزالون يختبئون خلف حصونهم.

قال عكرمة يائساً:

- و لا تنس قبائل غطفان.. انهم يلوحون بالصلح مع محمد مقابل حفنة من التمر.

صرخ أبوسفيان هائجاً:

- و هل جاءوا إلّا من أجل ذلك...

سكت هنيهة و أردف و

قد التمعت عيناه ببريق مخيف:

- غداً سأحسم الأمر.

اطلّ الصباح بارداً برود الموتي، و قد بلغت القلوب الحناجر...

كان «العامري» يجول بفرسه في «السبخة» بين الخندق و جبل «مسلع».. لقد تمكّن مع قوّة من فرسانه من اقتحام الخندق.

أمر النبي مفرزة من قواته بقطع طريق العودة.

صرخ الفارس المعلَّم بكبرياء:

- هل من مبارز..

[ صفحه 124]

وخيم صمت رهيب و كانت القلوب الخائفة تدق بعنف كطبول الحرب.

- هل من مبارز.. ألا من مشتاق إلي جنته؟!

وقهقه فرسان كانوا ينظرون اليه باعجاب و نهض عليّ للمرة الثالثة يطلب المواجهة فأذن له الرسول.. و تقدّم فتي الإسلام.

رفع النبي يديه إلي السماء.. إلي عالم لا نهائي:

- اللّهم انّك أخذت مني عبيدة يوم بدر و حمزة يوم اُحد و هذا عليّ أخي و ابن عمّي فلا تذرني فرداً و أنت خير الوارثين.

ثم تمتم و هو يشيّع عليّاً بنظراته:

- برز الإيمان كلّه إلي الشرك كلّه.

وتقابل فارس و راجل؛ مشرك و مؤمن.

- من أنت؟

- علي بن أبي طالب.

- ليبرز إليَّ غيرك.. اني أكره أن اقتُلك..

لقد كان أبوك صديقاً لي.

- لكني أحبُّ أن اقتلك.

قال «ابن ودّ» وقد لاحت له طيوف من بدر يوم التقي الجمعان:

- أكره أن أقتل رجلاً كريماً مثلك.. ارجع خيرٌ لك.

أجاب عليّ بعزم:

[ صفحه 125]

- ان قريشاً تتحدّث عنك انّك تقول:

لا يدعوني أحد إلي ثلاث خلال إلّا أخذت واحدة منها.

- أجل.

- فإني أدعوك إلي الإسلام.

- دع عنك هذه وهات لي غيرها.

- ادعوك إلي أن ترجع بمن تبعك من قريش إلي مكة.

- اذن تتحدث عني نساء مكة ان غلاماً خدعني.

- أدعوك إلي القتال راجلاً.

اشتعل غضب متأجج في عينيه، واقتحم عن فرسه... واحتدم الصراع بين سيفين؛ سيف الإسلام و سيف الجاهلية... الإيمان و الكفر... الغضب السماوي و الحمية.. حمية الجاهلية... و كان الرسول يدعو:

- اللهم لاتذرني فرداً و أنت خير الوارثين.

وهوي سيف كصاعقة غاضبة... ليسقط رجل اقتحم الخندق علي حين غفلة...

وعاد علي وبشائر نصر عظيم تموج فوق وجهه.

هتف عمر مدهوشاً:

- هلا سلبته درعه فانه ليس في العرب درعٌ مثلها.

أجاب علي وقد أطلّ الإنسان من عينيه:

[ صفحه 126]

- استحييت أن أكشف سوأته.

وفي حصن «فارع» كان حسّان مع النسوة و الأطفال.. و قد بلغت القلوب الحناجر.

كانت رائحة الغدر تتصاعد من حصون بني قريظة.

جلست فاطمة قرب صفية تراقبان شوارع المدينة. فجأة، لاح الخطر... عينان يهوديتان تتلصصان ورائحةُ الغدر تزكم الانوف.

هتف صفية:

- يا حسان هذا يهودي يطوف حول الحصن كما تري فانزل اليه واقتله.. والّا دلّ علينا.

أجاب حسان وهو يبلع ريقه:

- غفر اللَّه لك يا ابنة عبدالمطلب

نهضت صفية و قد أخلد حسان إلي الأرض. شدت وسطها. كانت فاطمة تراقب ملامح لحمزة في وجهها في عزمها و الإيمان الذي غمر قلبها.

هبطت صفية درجات الحصن وفي قبضتها عمود.

ودوّت ضربة هاشمية علي رأس «السامريّ».. و شخصت العينان و بريق الغدر يخبو شيئاً فشيئاً...

هتفت صفية:

- يا حسان انزل اليه و اسلبه.

تشبث حسان بالأرض، وقد ذعر الجرذ القابع في أعماقه.

[ صفحه 127]

القسمت 22

الخيول تدك بسنابكها الأرض علي طول الخندق و قد مضت اسابيع ثلاثة... كان مع

النبي ثلاثة آلاف.. ولكن ثلاثة أسابيع من الخوف و الرعب كافية لامتحان إرادة الإنسان... في المساء و عندما يخيم الظلام تنسل أطياف كالاشباح.. و قد ابتلي المؤمنون و زلزلوا زلزالاً شديداً.. و رفع «ابن قشير»- و كان رجلاً ذا وجهين- عقيرته:

- محمّد يعدنا كنوز كسري و قيصر.. وأحدنا اليوم لايأمن علي نفسه أن يذهب إلي الغائط.

مضت أسابيع أربعة.. ولا شي ء سوي مناوشات بالسهام.. والرياح ما تزال تعصف بشدّة.. تمزّق الخيام و تقلب القدور و تطفي النار.. و لم يبق مع النبي إلا تسعمئة من الذين امتحن اللَّه قلوبهم بالتقوي.

و في ليلة سوداء كسواد الكحل مدّ الرسول كفيه إلي السماء ينشد

[ صفحه 128]

نصر اللَّه:

- اللّهم منزل الكتاب، سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم و انصرنا عليم و زلزلهم اللهم ادفع عنّا شرّهم، وانصرنا عليهم، واغلبهم لا يغلبهم غيرك.

أضاءت نجمة في السماء.. و قد غضبت الريح فراحت تعدو مجنونة بين القبائل.

قال النبي و قد استدعي «حذيفة»:

- اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون و لا تحدثن شيئاً حتي تأتيني.

وانطلق «حذيفة» عبر الخندق و تسلل بين خيام مزّقتها رياح الشتاء.. كان الظلام دامساً وراح يتلمس طريقه إلي خيمة أبي سفيان حيث تحاك خيوط العناكب.

دس حذيفة نفسه في زاوية مظلمة و أخذ مكاناً بين رجلين كانا يحدقان بأبي سفيان. قال صخر بن حرب متوجساً:

- يا معشر قريش ليتعرف كل امرئ جليسه واحذروا الجواسيس والعيون.

هتف حذيفة وهو يشدّ علي يد جليسه:

- مَن أنتَ؟

[ صفحه 129]

- معاوية بن أبي سفيان.

- وأنت؟

- عمرو بن العاص.

خفتت الأصوات و قد بدا حذيفة

كأحدهم. قال أبوسفيان:

- يا معشر قريش انكم ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف... واخلفتنا بنوقريظة العهد ولقينا من شدّة الريح ما ترون.. ما تطمئن لنا قدر و لا تقوم لنا نار و لا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فاني مرتحل.

انفجرت السماء بالصواعق.. وهطلت الأمطار غزيرة.. وهبت الرياح شديدة.. تجتثّ الخيام و تبثّ الرعب في القلوب...

فكر «طلحة بن خويلد» أو لعلّه راي أشباحاً تعبر الخندق فهتف مذعوراً:

- انّ محمداً قد عبر اليكم باصحابه... فالنجاة النجاة.

تمزقت جيوش الأحزاب؛ مزقتها الرياح و جنود لم يروها حتي اذا أطلّ الصباح كان كلّ شي ء هادئاً في الجانب الآخر من الخندق.

وأرسل النبيّ «حذيفة» مستطلعاً فاذا كل شي ء يشير إلي هزيمة ساحقة.. الخيام الممزقة متناثرة هنا و هناك.. و أكوام التبن.. ومواقد منطفئة و قدور منكفئة.. والرماد يغطي الأرض الموحلة، وعاد

[ صفحه 130]

«حذيفة» يحمل البشري.

وأصدر النبي أمره بالعودة إلي المنازل بعد ثلاثين يوماً من الحصار و الخوف و القلق.

و كان بنوقريظة منكمشين في حصونهم يترقبون بخوف المصير الذي ينتظرهم... فالغدر يعقبه انتقام.

هاهي الأفاعي تلوذ بجحورها و تمدّ ألسنتها متوجسة..

هتف الرسول؛ وقد حانت لحظة الاقتصاص:

- مَن كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين العصر إلّا في بني قريظة.

هزّ النبيّ اللواء ودفعه إلي عليّ:

- كُن في مقدمة الجيش واسبقنا إلي بني قريظة.

وانطلق عليّ واللواء يخفق فوق رأسه حتي اذا دنا من الحصن ركزه في الأرض بقوة وأيقن الذين مسخوا قردة و خنازير انها الحرب ولا شي ء سواها.

وسمع عليّ شتائم تنهال علي النبي الأمّي فهتف بغضب:

- السيف بيننا و بينكم.

و استمر الحصار عشرين يوماً... و المناوشات

بالسهام و النبال مستمرة.. والشتائم تنهال من فوق جدران الحصون فهتف النبيّ:

- يا اخوان القردة!.. هل أخزاكم اللَّه و أنزل فيكم نقمته.

[ صفحه 131]

وشن علي أول هجوم عنيف، فارتفعت راية بيضاء فوق الحصون.. و كان الاستسلام دون قيد أو شرط.

وهتف سعد وقد رضي الجميع حكمه:

- آن لسعد أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم.

كان سعد يعرف «توراتهم» حيث حرّفوا الكلم عن مواضعه ليسوموا البشر الموت و الفناء...

كان يدري ما في الاصحاح من التثنية من ريح صفراء لا تبقي و لا تذر «حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلي الصلح فان أجابتك الي الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير و يستعبد لك و ان لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها واذا دفعها الربّ الهك إلي يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، و اما النساء والأطفال و البهائم و كلّ ما في المدينة غنيمة تفتحها لنفسك و تأكل غنيمة اعدائك التي أعطاك الرب الهلك».

و أذاقهم سعد حكم التوراة و كانوا أذاقوها الأمم.

وهكذا تساقطت رووس الخيانة و الغدر.. و سقط رأس حي بن أخطب مخطط فكرة الغزو والفناء وفر السامريّ إلي «خيبر» لا يفتأ يعبد العجل من دون اللَّه.

[ صفحه 133]

القسمت 23

عاد السلام يرفرف فوق المدينة و كلمات السماء تتردد بين سعف النخيل وعروش الأعناب.

وعاد عليّ يعمل في الأرض... يسقي الزرع و يفجر الينابيع يريد للأرض أن ترتدي حلّة خضراء...

عاد الأطفال يلعبون في الأزقة... ضحكاتهم البريئة تتردد في الفضاء الأزرق.

و مرّ النبي في طريقه إلي المسجد تحفه كوكبة من أصحابه.

و ركض

الحسن و الحسين و كانا يلعبان مع الأطفال وخف النبيّ لاستقبال ريحانتيه من الدنيا، و البسمة تطوف فوق وجهه...

حمل النبي ولديه... شم الجنة فيهما... استنشق عبير الرياحين.. و حملهما علي عاتقه..

والتفت إلي اصحابه:

[ صفحه 134]

- من أحب هذين الغلامين واُمهما و أباهما فهو معي في الجنّة.

قال عمر مغتبطاً و هو يري أجمل منظر:

- نعم الفرس فرسكما.

فأجاب النبي مبتسماً:

- و نعم الفارسان هما.

شمّ المهاجرون رائحة وطن بعيد و تلفتت العيون صوب الجنوب و تلفتت القلوب؛ وطافت صور جميلة لمكة مرابع الصبا و ذكريات الطفولة فاذا الحنين نهر حزين يجري بصمت و الخريف فصل الوداع يستثير هواجس العودة واللقاء وهاهي ستة أعوام تنطوي و المهاجرون ما يزالون يقاومون عواصف الصحراء و الزمان... يحلمون بالعودة إلي ديار الحبيب... الكعبة بيت ابراهيم و اسماعيل.. و غار حراء في جبل النور.. و ذكريات الجهاد.

وأطل «ذوالقعدة» يوقظ في النفوس نداء ابراهيم فتنطلق القوافل بين الأودية.. فالقلوب تهوي إلي بقعة مباركة حيث أول بيت وضع للناس.

و عمّت الفرحة المدينة... لقد اعلن النبي رغبته في أداء العمرة و زيارة البيت العتيق.. و انه لا يريد حربا مع أحد. انّه ينشد السلام.. و هل الإسلام يعني شيئاً سوي السلام.

[ صفحه 135]

وطار النبأ في الجزيرة رايةً بيضاء بياض حمائم في الفضاء الأزرق.

و اجتمع الف واربعمئة ممن تخفق قلوبهم لمكة واداء شعائر الحج... و تقدّم النبي علي ناقته «القصواء» زورقاً ينساب فوق امواج الرمال.. و كان «اللواء» يخفق فوق هامة عليّ.. وساق النبي من الهدي سبعين.. و السيوف في الأغماد، حتي اذا بلغ ذا الحليفة، أحرم

فيها ولبّي.

ردّدت الصحاري هتافات التوحيد:

- لبيك اللّهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..

وفي «عسفان» حطّ النبيّ الرحال.. يمدّ يد السلام..

وجاء رجل من اُم القري يسعي:

- يا رسول اللَّه هذه قريش قد سمعت بك، فلبست جلد النمر... وقد اجتمع الرجال و النساء و الأطفال «بذي طوي»... و خيلها الآن في «كراع الغميم».

قال النبي بحزن:

- يا ويح قريش.. لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني و بين العرب.. ما تظنّ قريش.. واللَّه لا أزال أجاهد أو تنفرد هذه السالفة.

[ صفحه 136]

وكان الرجل يتأمل سوالف النبيّ المتلألئة وقد انفردت عن شعر النبيّ المتموّج تموج الصحاري و هو يكاد يلامس منكبيه.

و جلس النبي يفكر.. يفكر في قوم كذبوه و آذوه.. وألّبوا العرب عليه يريدون أن يطفئوا نور اللَّه.. و اللَّه متم نوره.

قال النبي و قد أحدق به أصحابه:

- مَن يدلّنا علي طريق غير طريقهم؟

فنهض رجل من أسلم و كان عالماً بخفايا الصحراء وبطون الأودية.

وسار ألف و أربعثمة رجل يتقدّمهم آخر الأنبياء و قد هبّت نسائم وطن بعيد.

كانت المفازات وعرة كثيرة الحجارة كأنها شظايا بركان انفجر قبل آلاف السنين. حتي اذا وصلوا ارضاً سهلة انعطفوا جهة اليمين حيث الجادة المؤدية إلي «ثنية المراد» مهبط «الحديبية» من أسفل مكة.

توقفت القصواء ثم بركت.. و توقّفت الجموع، قال قائل:

- حرمت الناقة وأجهدت.

فقال النبيّ: لا.. ولكن حبسها الذي حبس الفيل عن مكة..

وأردف و هو ينزل عن «القصواء»:

[ صفحه 137]

- و اللَّه لا تدعوني قريش إلي خطة تسألني فيها صلة الرحم إلَّا أعطيتهم ايّاها...

والتفت إلي الجموع:

-

انزلوا.

قال أحدهم و هو يستعرض الوادي ببصر نافذ:

- يا رسول اللَّه ما بالوادي ماء.

أخرج النبيّ سهماً من كنانته و أشار إلي بئرٍ معطّلة.

- اغرزه في جوفه.

كانت هالة من النور تغمر رجلاً ارسلته السماء ليحيي الأرض بعد موتها.

انفجرت البئر بالماء نميراً فخشع الذين هاجروا والذين قالوا انّا انصار اللَّه.

[ صفحه 139]

القسمت 24

كان الجو مشحوناً بالقلق ما بين «الحديبية» و مكة. قريش لا تذعن للحقّ و لا تصيخ السمع لصوت العقل، فتفتح أبواب مكة لقوافل الحجيج. و بعث النبي «عثمان» فله قرابة بأبي سفيان.

- اخبر قريش أنّا لم نأت لقتال أحد، وانّما جئنا زوّاراً للبيت، معظمين لحرمته و معنا الهدي ننحره و ننصرف.

و مضي عثمان إلي مكة و لم يعد.. مضت ثلاثة أيام.. اختفت فيها أخباره، وسمعوا شائعات عن مصرعه مع عشرة من المهاجرين دفعهم الشوق إلي زيارة أهليهم.

عندها وقف النبيّ تحت ظلّ شجرة في الوادي أسند جذعه إلي جذعها.. وأحدق أصحابه و هم يعاهدون علي الموت من أجله... و باركت السماء عهد المؤمنين.. و قد رضي اللَّه عنهم.

الجو يزداد تأزّماً و لما يعد عثمان بعد...

[ صفحه 140]

وجاءت رسل السلام.. وقد أدركت قريش أن الخطر قاب قوسين أو أدني.

جاء «سهيل» يعرض علي النبي شروط قريش:

- أن تضع الحرب أوزارها بين الفريقين عشر سنين.

- أن يردّ محمّد من يأتيه من قريش مسلماً و لا تلتزم قريش بردّ من يأتيها من عند محمّد.

- أن يعود محمد و أصحابه هذا العام دون عمرة و أن يأتوا في العام القادم.

- من أراد الدخول في عهد قريش فله ذلك

و من أراد الدخول في عهد محمّد جاز له ذلك.

كان النبيّ يصغي إلي عرض قريش يلقيه «ابن عمرو» وقد بدا بعض الصحابة ممتعضاً وكاد عمر أن ينفجر بعد ان سمع النبي يستدعي عليّاً:

- اكتب يا عليّ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم.

اعترض سهيل:

- لا أعرف هذا.. اكتب باسمك اللّهم.

استأنف النبي:

- اكتب ذلك واكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول اللَّه سهيل

[ صفحه 141]

بن عمرو.

قال سهيل:

- لو شهدت انك رسول اللَّه لم اقاتلك.. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

أطل الحزن من عيني الرسول:

- واللَّه اني رسول اللَّه وان كذبتموني... اكتب يا علي محمد بن عبداللَّه وامح رسول اللَّه.

رفع علي رأسه وقد شعر بالغضب يتفجر في صدره.

- ان قلبي لا يطاوعني... و اللَّه لا أمحوها.

تناول النبي الصحيفة و محاها..

واستأنف علي يثبت بنود السلام.

و نهض الوفد عائداً إلي مكة...

لم يتمالك «عمر» اعصابه فتقدم من النبي بطوله الفارع و عيناه تبرقان بغضبٍ عارم:

- ألست نبي اللَّه حقّاً؟

أجاب النبي بهدوء:

- بلي.

- أليس قتلانا في الجنة و قتلاهم في النار؟

[ صفحه 142]

- بلي يا عمر.

هتف عمر وقد اهتزت دعائم الإيمان في قلبه:

- فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا اذن؟!

أجاب النبي و هو يحاول إعادة الطمأنينة إلي قلبه:

- اني رسول اللَّه ولست أعصيه وهو ناصري.

قال عمر بحدة:

- أو لست كنت تحدثنا انّا سنأتي البيت فنطوف به؟

أجاب محمد بصبر الأنبياء:

- بلي يا عمر... أفأخبرتك انك تأتيه عامك هذا؟

أجاب عمر مخذولاً:

- لا.

- فانك آتيه و مطوف به.

وظلّ «عمر» هائجاً لم تفلح

كلمات الرسول في إعادة السلام إلي نفسه.

هرع الرجل الفارع إلي صاحبه وقال بعصبية:

- يا أبابكر أليس هو برسول اللَّه؟

- نعم.

- اولسنا بالمسلمين؟

[ صفحه 143]

- أجل يا عمر.

- أوليسوا بالمشركين؟

- ماذا تعني؟

- فعلام نعطي الدنية في ديننا؟

نظر أبوبكر إلي صاحبه بأسف و أدرك ان صرح الإيمان يهتزّ في أعماقه بشدّة، تمتم أبوبكر:

- يابن الخطّاب انه رسول اللَّه ولن يعصي ربّه ولن يضيعه.

عمر ما يزال ثائراً يبحث عن شي ء.. عن شخص يطفئ به النار التي تستعر في صدره... و قد حانت اللحظة المناسبة لنسف السلام مع قريش.

تمكن «أبوجندل» بن سهيل من الافلات من قبضة قريش، وجاء ينوء بالسلاسل والقيود.

كان منظره يدعو إلي الشفقة، اعترضه أبوه و كان قد أمضي عهداً مع النبي.

هتف الشاب المثقل بالحديد والقهر:

- يا رسول اللَّه.. يا معشر المسلمين.

والتفت سهيل إلي النبي.

- يا محمد بيننا و بينك العهد.

[ صفحه 144]

- صدقت.

هتف أبوجندل:

- يا للمسلمين أأردّ إلي المشركين ليفتنوني عن ديني.

المسلمون ينظرون إلي أخ لهم لا يملكون له ضرّاً و لا نفعاً.

هتف النبيّ يشدّ علي يده من بعيد:

- اصبر يا أباجندل و احتسب سيجعل لك اللَّه ولمن معك فرجاً و مخرجاً.

لم يتمالك عمر كعادته فخف إلي ابن سهيل.. اقترب منه هامساً:

- إنما هم مشركون و دم أحدهم دم كلب.

اقترب عمر أكثر و كشف للشاب مقبض السيف و كرّر قائلاً:

- المشرك دمه كدم الكلب.

أدرك الشاب ان عمر يغريه بقتل أبيه فاكتفي بنظرة طويلة إلي عمر و لم يقل شيئاً.

كانت كلمات النبي ما

تزال تتردد في أُذنيه و في قلبه ثم كيف له أن يقتل أباه؟ بل كيف للمسلم أن يغدر أو يفتك و يخون العهد الذي ابرم قبل لحظات.. و هل ستسكت قريش علي قتل رجل كان يفاوض باسمها و يدافع عن آلهتها؟

كانت الأفكار تصطرع في رأسه كخيول في معركة.. و هو

[ صفحه 145]

يجرجر خطي واهنة عائداً مع أبيه.

وانطوي نهار ذلك اليوم، وقد هبت نسائم السلام فوق رمال الجزيرة...

وفي المساء و عندما كانت النجوم تنبض في السماء كقلوب حالمة هبط جبريل يحمل بين جناحيه سورة «الفتح».

وانساب نهر سماويّ و الرسول يتلو:

- إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً.

وانبعث صوت في الظلام:

- وأين هذا الفتح و قد صدّونا عن البيت؟

أجاب النبيّ:

- بل هو أعظم الفتح.. لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم و ان يرغبوا اليكم في الأمان. وردّكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتح.

هتف المسلمون:

- صدقت يا رسول اللَّه.

و مضت أيام علي السلام وثاب عمر إلي رشدة فتمتم آسفاً:

- ما شككت منذ اسلمت إلّا ذلك اليوم.

[ صفحه 147]

القسمت 25

عاد رسول اللَّه إلي المدينة، والفرحة تملأ صدره بفتح اللَّه، فقد أمن جانب قريش و آن للدين الجديد أن يعبر شبه الجزيرة إلي العالم كله.

توجه النبي كعادته إلي المسجد فصلّي ركعتين، غسلت عنه عناء السفر وهموم الحياة، و نهض النبيّ لزيارة ابنته.. ذكراه من خديجة وكوثره الذي وهبه اللَّه...

قرع الباب فهبت فاطمة للقاء النبي، كانت تحاول إخفاء ما تعانيه من إعياء و تعب.

فتحت الباب و البسمة تشرق في وجهها، تأمّل النبي وجه ابنته الوجه المشرق تشوبه صفرة

فبدا كقمر انهكه السهر في ليلة شتائية طويلة.

قال الأب بحزن:

[ صفحه 148]

- يا بنية ما هذا الصفار في وجهك و تغير حدقتيك؟

أجابت فاطمة بصوت واهن:

- يا أبه ان لنا ثلاثاً ما طعمنا طعاماً... وقد بكي الحسنان من شدة الجوع حتي غلبهما النوم..

أيقظ النبي ريحانتيه.. وضعهما في حجرة وقد نسيا ألم الجوع كعصفورين فرحين بدف ء العش.

كان علي يبحث عمن يقرضه دريهمات يسدُّ بها رمق اسرته، و كانت الشمس ترسل أشعتها ملتهبة. لم تمض مدّة حتي وجد من يقرضه ديناراً فانطلق يشتري به شيئاً.

المدينة تبدو مهجورة و قد فرّ أهلها من الرمضاء و الحر.

من بعيد لاح له رجل يمشي علي غير هدي.. دقّق النظر فيه و لما اقترب منه بادره عليّ:

- ما الذي أخرجك يا مقداد في هذه الساعة؟

- الجوع يا أباالحسن.. عضني وأهلي الجوع.. وأبحث عمّن يقرضني درهماً أو ديناراً.

ان للجوع فعله العجيب في النفوس.. تارة يهذبها فتسمو إلي السماء و تارة ينحطّ بها إلي أسفل السافلين. الجوع يصنع ملائكة و شياطين.. وكلا الخيارين يتوقّفان علي إرادة الإنسان أو علي غريزة

[ صفحه 149]

ذلك الحيوان القابع في الأعماق المظلمة وليس في حياة علي من وقت لكي تنشب معركة بين الذات و الايثار لأنّه لايوجد في أعماقه المضيئة من يعترض علي إرادته التي صقلتها النبوّات..

وهكذا قدم علي كل ما يملكه إلي أخيه وعاد إلي البيت خالي اليدين.

كان المنزل هادئاً تغمرة رحمة من السماء و وجد في الحجرة رسول اللَّه.. و كان الحسنان في حجرة و فاطمة تصلّي في المحراب وقد ملأت فضاء الحجرة رائحة طيبة لطعام طيب

ولما جلس علي قبالة رجل ربّاه في حجرة تمتم النبي و هو يرمق السماء بخشوع:

- اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

فرغت فاطمة من تبتلها و مدت يدها إلي جفنة مغطاة.. و كان في الجفنة خبز و لحم.

قال علي متعجباً:

- يا فاطمة أنّي لك هذا؟

أجابت فاطمة بنت رسول السماء:

- هو من عند اللَّه.. ان اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب.

قال النبي مبتسماً:

- إن مثلكما كمثل زكريا إذ دخل علي مريم فوجد عندها رزقاً

[ صفحه 150]

قال: يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند اللَّه ان اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب.

لو اُزيحت الحجب عن العيون لرأي سكّان المدينة منزلاً إلي جوار المسجد.. ولو دققوا النظر لرأوا أثر جبريل في حجراته. يلج المرء فيجد نفسه في بقعة لا تنتمي إلي طين الأرض... إلي عالم من تراب... بقعة اختارتها الملائكة يوم هبطت علي الأرض.. يوم اتصل النور بالطين ليولد الإنسان السماوي الذي انطوت في أعماقه أسرار الوجود.

كانوا خمسة: محمد.. علي.. فاطمة.. حسن و حسين... اسماء ولدت يوم عطس آدم... واستنشق نسمة الحياة، و يوم قال اللَّه لنوح: ان اصنع الفلك بوحينا.. و يوم فار التنوّر كان نوح يتأمّل السماء و هي تنهمر مطراً كأفواه القرب وجبال من الغيوم تتراكم بعضها فوق بعض.. ولتتحول تلك الأرض الجرداء إلي بحر متلاطم الأمواج و سارت السفينة باسم اللَّه تشقّ طريقها في موج كالجبال.. ومقدمة السفينة تعلو و تهبط مالها من قرار. أصوات الحيوانات وهدير الموج و تمتمات دعاء المؤمنين تمتزج تطهر القلب فيتألق الأمل.. الأمل بمستقبل طاهر للأرض. السفينة تجري لمسستقر

لها.. وقد اجتمع المؤمنون أمام خشبة صغيرة مستطيلة الشكل فيها اسماء أثارت دهشتهم و حركت

[ صفحه 151]

كوامن الأسئلة في أعماقهم.. كلمات صغيرة واضحة مكتوبة بلغة شعب عاش قبل الطوفان؛ كلمات تحمل لهم الأمل بالخلاص بغصن زيتون أخضر... كلمات تتألّق بألوان قزح.. كلمات حفرها نوح تعويذة أمل في الحياة:

- يا إلهي.. و يا معيني.

برحمتك و كرمك ساعدني.

ولأجل هذه النفوس المقدّسة.

محمد.

ايليا.

شبر.

شبير.

فاطمة.

الذين هم جميعهم عظماء و مكرمون.

العالم قائم لأجلهم.

ساعدني لأجل أسمائهم.

أنت فقط تستطبع أن توجهني نحو الطريق المستقيم.

و تمخر السفينة عباب المياه حتي استوت علي الجودي و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء اقلعي... و عادت حمامة بيضاء تحمل

[ صفحه 152]

غصن الزيتون.. و قد تألقت في السماء ألوان الأمل و الربيع.

و همس النبي في اُذن التاريخ و هو يضم ريحانتيه:

- مَثَلُ أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق.

[ صفحه 153]

القسمت 26

الصحراء مدّ البصر... صحراء مليئة بالرمال.. تموج بالأسرار.. والغدر.. و خشخشة الأشواك تبوح باسرار الليل.

آثار مشبوهة فوق الرمال الممتدة بين حصون «خيبر» و مضارب «غطفان»، و عيون تبرق في الظلام.. ورائحة مؤامرات تدبر في الخفاء.

فرسان «محمد» يجوبون الصحراء يترصدون الذين كفروا انّهم لا أيمان لهم... الآثار الغريبة فوق الرمال و الرجال الملثمون و العيون التي تبرق في الظلام و خشخشة الأشواك في الليل و أصوات كفحيح الأفاعي... ما بين حصون «السامري» و مضارب غطفان عناكب «خيبر». تحوك شباكها.. و «غطفان» تكشّر عن أنياب ملوّثة بالصديد... و تسامع أهل البادية

عن عجل يخور في حصون وسط الرمال.

[ صفحه 154]

واهتزت راية العقاب في قبضة علي، وغادر آخر الأنبياء المدينة في ألف و ستمئة محارب. ولكي يفوّت الفرصة علي العقل اليهودي الذي جبل علي الغدر فقد تحتم علي قوّات المسلمين أن تقطع المسافة بأقصي سرعة..

لم تمرّ ثلاثة أيام حتي وصل النبيّ بجيشه مشارف خيبر... و كان الظلام يغمر الأشياء يحيطها بالغموض و الأسرار... و بدت الحصون في رهبة الظلام كائنات خرافية رابضة فوق الأرض.

قبل أن يطلع الفجر كان المسلمون يحيطون بخيبر من كل الجهات و قد استكملوا احتلال بساتين النخيل المحيطة.

«العجل السامريّ» يتطلّع إلي أوثان «غطفان» «التبر» يستنجد «الحجر» «العجل» يطلق خواراً عالياً.. و «الأوثان» حجارة صمّاء لا تفقه شيئاً مما يدور.

طلع الفجر، و اخرجت الأفاعي رؤوسها، صرخ أحدهم مأخذواً بهول المفاجأة:

- محمد و الخميس!

كان اسم «محمد» يخلع قلوبهم.. لا يتحملون سماع هذا الاسم.. كما كانوا يتميزون غيظاً لدي ذكر «جبريل» لو كان غير جبريل يحمل رسالة السماء إلي ابن مكة لكان لهم موقف آخر...

[ صفحه 155]

قال النبيّ مستبشراً وهو يراقب ذعر الأفاعي:

- اللَّه أكبر! خربت خيبر... انا اذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.

الصحراء تراقب معركة و شيكة.. معركة مدمرة سيكون لها شأن.

ووقف التاريخ يصغي إلي ما يدور بصمت.

اجتاح المسملون المناطق المشجرة ما بين الحصون... ووقفت جدران «النطاة» و «الصعب» و «ناعم» و «الشق» و «القموص» و «الوطيح» و «سلالم» ثابتة في وجه الهجوم و دار قتال رهيب في الشوارع.

سقط خمسون جريحاً من المسلمين.. صمد اليهود قاتلوا بضراوة.. علي خيبر ألّا تسقط... لأن سقوطها يعني

أن يعود السامري إلي التيه مرّة اُخري.. سوف يشدّ عباءته و يرحل إلي سيناء ينقب في آثار القوافل المسافرة لعلّه يعثر علي أثر «الرسول» فيأخذ قبضة اُخري.

استشهد محمد بن مسلمة؛ ترصده يهودي من فوق الحصن ثم دفع عليه الرحي فسقطت عليه.

الحصون منيعة واقفة كالجبال... والأمل قطرات من ندي تبخرت لدي شروق الشمس و «السامري» ينظر باستعلاء و شماتة إلي نبيّ

[ صفحه 156]

العرب.

نشر الظلام ستائره... و اشتعلت مواقد في قلب الليل... و النسائم تداعب سعفات النخيل.. والأفاعي تخرج رؤوسها تحاول أن تصغي لما يدور حول المواقد.

أطرق أبوبكر برأسه و تمتم آسفاً:

- حصون مستعصية منيعة و اليهود مسلّحون بسلاح حسن... و «القموص» حصن لا يفتح.. أرأيتم الخندق حوله.. ارجو ألّا يكون رسول اللَّه غاضباً مني.

أجاب عمر:

- ليس الذنب ذنبك يا صاحبي.. أنا أيضاً لم استطع ان أفعل شيئاً لقد قضيت النهار كلّه نهجم و يهجمون ولكن إخوان القردة يخرجون الينا من خلف الأشجار كالشياطين.

علق «أبوعبيدة»:

- اسمعتم ما قال رسول اللَّه.

- و هل ينسي قوله.

- كلماته ما تزال ترنّ في اُذني: لأُعطينَ الراية غداً رجلاً يحبُّ اللَّه رسوله و يحبُّه اللَّه و رسوله.

- تري مَن سيكون صاحب الراية.

[ صفحه 157]

- الأمر واضح.. انّه عليّ.

- ولكن عليّاً أرمد!!

- ربما سلّم الراية إليّ.

- ماذا تقول يا أباحفص؟.

- في الصباح يعرف القوم السري.

كانت النجوم تومض من بعيد.. نام البعض و ظلّ البعض ساهراً يحلم براية حبّ أزلية.

ونام أبوحفص بعد أن عزم علي أن يكون غداً أقرب الناس إلي النبي علّه يسلّمه الراية التي أصبحت حلمه

تلك الليلة.

[ صفحه 159]

القسمت 27

طلع الفجر و تنفس الصباح.. و زقزقت العصافير في أعشاشها.. واستيقظت الكائنات لتبدأ يوماً جديداً...

رماد الفجر يتبدد شيئاً فشيئاً.. وزرقه السماء الفيروزية تصبح شفّافة رائعة... و قد بزغت الشمس.. تألّقت خلف ذري النخيل.

بدت الحصون ذلك الصباح كابوساً يجثم فوق الصدور. صخرة تحطّمت فوقها المعاول...

تحلّق المسلمون حول النبي.. يتطلّعون إلي رجل يحب اللَّه و رسوله و يحبه اللَّه و رسوله...

و هتف النبي:

- أين علي؟

وتقدم فتي في الثلاثين أو يزيد فاستلم راية العقاب وراح يصغي إلي صوت سماوي:

[ صفحه 160]

- انفذ علي رسلك حتي تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلي الإسلام فان لم يستجيبوا فقاتلهم.. انطلق فتح اللَّه عليك.

كان علي عليّ أن يقود نفس القوة التي هزمت مرتين... فقد عادت مرّة تلوم أبابكر و أبوبكر يلومها.. و عادت تحت راية عمر تجبنه و يجبنها...

هرول علي ليبث الحماس في جنوده فبدا بحلّته الارجوانية جمرة متألّقة... و عند ما صار قريباً من «القموص» نزع درعه ليكون أكثر قدرة في الحركة، و أمر جنوده أن يفعلوا ذلك.

رفض اليهود ساخرين دعوة الإسلام ونداء السلام. و كان خيار الحرب هو الطريق لإحراق العجل.

كان منظر عليّ بلا درع قد حرّك شهوة الغدر و الانتقام في نفوسهم... فراح شجعانهم يخرجون مدججين بالسلاح.. و كانوا يتساقطون الواحد تلو الآخر عند قدميه.

الذين كانوا يراقبون الصراع.. أدركوا أن هناك سرّاً في انتصار عليّ.. رأوا بأُمّ أعينهم كيف هزم الحديد أمام قلب المؤمن..

وهبط «مرحب» درجات الحصن.. كتلة هائلة من الحديد والبأس.. في قبضته حربة ذات ثلاث رؤوس كأفعي اسطورية.. تقدم «مرحب» ينقل خطاه

المثقلة بالزرد و الحديد.. ليس هناك في كلّ

[ صفحه 161]

جسده الفارع ثغرة يمكن للسيف أن ينفذ فيها.

وتوقع المسلمون واليهود.. توقعوا جميعاً نهاية علي.. تقدّمت كتلة الحديد.. ووجه مرحب حربته برؤوسها الثلاثة.. وكادت أن تنفذ في صدر عليّ.

ارتدّ عليّ إلي الوراء ثم قفز في الهواء ليهوي بضربة هائلة أودعها غضب السماء... تحطّم الحديد. مرّت لحظة صمت قبل أن ترتطم كتلة هائلة بالأرض محدثة دوّياً تتخلع له القلوب المذعورة. وقد قتل داوود جالوت، واندفع عليّ بعد أن حطّم الغرور اليهودي إلي باب الحصن... لينتزعه وسط دهشة الجميع، وأصبح جسراً فوق الخندق يندفّق عبره المهاجمون.. و سرعان ما سقط «القموص» و «الوطيح» و «السلالم» و سقطت خيبر كلها..

اطلق العجل صرخة استغاثة قبل أن يحترق.. و تذرو الريح رماده في الصحراء، و كان السامريون قد أقسموا قالوا:

- لن نبرح عليه عاكفين حتي يرجع الينا موسي.

و قال لهم اللَّه: كونوا قردة خاسئين.

طارت الفرحة للنبيّ فراشةً ترفرف... علي يصنع الفرح لمحمد...

وها هو أخوه جعفر يعود من أرض الحبشة... عاد يمخر البحر الأحمر و يطوي رمال الصحاري و معه الذين آمنوا... الذين اخرجوا من

[ صفحه 162]

ديارهم بغير حقّ إلّا أن قالوا ربنا اللَّه.

وعانق النبيّ أخاً لعليّ وابناً لحامي آخر النبوّات في التاريخ، هتف النبي و ينابيع الفرح تتدفق من عينيه:

- ما أدري بأيهما أشدّ سروراً. بقدوم جعفر أم بفتح خيبر.

و قال أبوحفص لما رأي اسماء:

- هذه البحرية، هذه الحبشية.

و التفت اليها قائلاً:

- لقد سبقناكم في الهجرة... فنحن أحقّ برسول اللَّه منكم.

بركان غضب ينفجر في أعماق امرأة هاجرت مرّتين... أعلنت

اضرابها عن الطعام حتي تري رسول السماء...

- يا رسول اللَّه ان ابن الخطاب يقول نحن أحقّ برسول اللَّه سبقناكم بالهجرة.

قال النبيّ:

- فما كان جوابك له؟

قالت أسماء:

- قلت له: كلّا واللَّه كنتم مع رسول اللَّه يطعم جائعكم و يعظ جاهلكم.. و كنا في أرض البغضاء بالحبشة.

- أجل واللَّه.. انه ليس بأحقّ بي منكم.. له و لأصحابه هجرة

[ صفحه 163]

ولكم أهل السفينة هجرتان.

غادرت الأفاعي جحورها... محطمة الأنياب.. وعاد السلام يرفرف فوق الأرض... وشدّ السامري الرحال. التفّ بعباءته ميمماً وجهه نحو أرض التيه.

مادت «فدك» بأهلها... لقد جاء «محمد» تحمله الملائكة تخفق فوق رأسه أجنحة جبريل.

وجاء رجل من تلك النواحي يسعي:

- يا محمد لكم الأرض.. ولنا السلام.

- ولكم نصف ثمار الأرض.. والسلام.

و لما قال اللَّه:«وآت ذا القربي حقّه».

أعلن النبيّ:

- إنّ فدكاً لفاطمة.

ومن ذلك اليوم أضحت «فدك» رمزاً لانتصار الإنسان علي نفسه.. هزيمة «الاسخريوطي» و احتراق «العجل».

و ستبقي فدك رمزاً للأمانة التي أبت السماوات و الأرض أن يحملنها و حملها الإنسان.

و كانت فدك رمزاً لخلافة الإنسان علي الأرض..

ستكبر «فدك» و سيكون لها وجود في الجغرافية و في التاريخ..

[ صفحه 164]

سوف تستوعب عدن، سمرقند أفريقيا، سيف البحر مما يلي الجزر و أرمينيا و سوف تكبر لتشمل التاريخ البشري بأسره.

لقد وهب اللَّه مريم كلمته في المسيح و أعطي فاطمة فدكاً.

وأراد اليهود بعيسي كيداً.. و أرادوا أن يصلبوه فرفعه اللَّه إليه.

وفدك ماذا سيحلّ بها يا تري... كيف سيتصرف «الوثن» العربي القابع في الأعماق المظلمة..

[ صفحه 165]

القسمت 28

حان وقت الوفاء بالنذر...

فلقد نهض الحسنان من فراش المرض.. وعادت إلي وجهيهما دماء العافية، السماء تنتظر نذراً نذره الإنسان.. نذراً يقدمه إلي نفسه ليكون قريباً من عوالم مغمورة بالنور. لا شي ء في منزل فاطمة.

انطلق علي إلي «شمعون» رجل من خيبر؛ رجل شهد انهيار حصون مليئة بالسلاح.. بالذهب.. بالذكاء أمام رجل لا يملك سوي سيف وقلب تنطوي في حناياه النجوم.

و ها هو اليوم يأتي يطلب شيئاً عجيباً. انه يريد قرضاً.. ثلاثة أصواع من شعير.. الرجل الذي اقتلع باب «القموص» و قهر خيبر.. جاء يطلب حفنة من شعير... و امرأته بنت محمد... تملك أرض «فدك».

تمتم شمعون و قد هزّته المفاجأة:

- هذا هو الزهد الذي أخبرنا به موسي بن عمران في التوراة!

[ صفحه 166]

طحنت فاطمة صاعاً.. الرحي تدور و «فضة» فتاة تعيش في منزل فاطمة.. تجمع الدقيق.. صار الدقيق عجيناً.. ثم خمسة أقراص لكل صائم قرص شعير.

النجم المهيب يهوي باتجاه المغيب.. يرسل أشعة الوداع يعلن عن نهاية يوم من حياة الإنسان و الأرض. الأسرة الصائمة تتهيأ للافطار.. لقمة خبز تقيم أود الجسد الآدمي ليكمل رحلته باتجاه النور.

هتف انسان جائع:

- مسكين! اطعموني أطعمكم اللَّه.

الصائم في لحظة الافطار يدرك آلام الجوع عندما تتلوي المعدة خاوية تبحث عن شي ء تمضعه و إلّا مضغت نفسها.

قدم الصائمون خبزهم.. وأفطروا علي الماء.. و استأنفوا رحلة الجوع.. والجوع زاد المسافر في ملكوت السماء... حيث تلال النور وبحيرات تزخر بالنجوم... الجوع يلجم الشيطان القابع في الظلمات... يسحقه فاذا هو خائر كثور محطّم القرون.

ومرّ يوم آخر و الصائمون في رحلة إلي اكتشاف ينابيع الحب الأزلي... و كلّ شي ء آيل إلي الزوال إلّا الحبّ... و الحبّ

نداء اللَّه إلي النفوس البيضاء.

ومرّ يتيم... يالوعة اليتم في ساعة الغروب. الكائنات تعود إلي

[ صفحه 167]

أوكارها و الطيور إلي أعشاشها والأطفال إلي أحضان زاخرة بالدف ء.

وفي ساعة الغروب تتجمع الدموع في عيون اليتامي كسماوات مشحونة بالمطر... يتجمّع البكاء في القلب.. و المرارة في النفس.. فكيف اذا اجتمعت مع الجوع... و هل تتحمل نفوس الأطفال البرد و الجوع..

نادي اليتيم في لحظة الغروب الحزين:

- أطعموني... مما أطعمكم اللَّه.

هناك في أعماق النفوس البيضاء كنوز من اللّذة أين منها لذائذ البطن... فكيف مع نفوس براها الجوع والنذر حتي عادت شفافة كالضياء ساطعة كالنور..

لبي الصائمون نداء اليتيم.. فباتوا ليلتهم يطوون رحلة مضنية تكاد تمزّق الجسد و تحيله إلي حطام.. حيث يشهد عالم الإنسان اللانهائي انتصار الملائكة و هزيمة الشيطان.. إلي الأبد.

السماء تراقب نفوساً في الأرض تطوي مسافات الجوع وفاءً لنذرها.

وفي اليوم الثالث مرّ أسير ينشد لقمة خبز أو تميرات.

الأجساد ترتعش أمام أمواج الجوع.. العيون غائمة... والوجود يغمره ضباب و دخان و رياحين النبوات تهتز.. تذبل أو تكاد، و النفوس تشتدّ نصوعاً والورود تضوّعاً.

[ صفحه 168]

فاطمة تزداد نحولاً. غارت عيناها.. وصوتها زاد وهناً علي وهن وهي قائمة تصلّي في المحراب..

وفي منزل آخر الأنبياء هبط جبريل يحمل هدية السماء... سورة الإنسان و انها:

- بسم اللَّه الرحمن الرحيم.

هل أتي علي الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا.

انا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً.

انا هديناه السبيل امّا شاكراً و امّا كفورا.

انّا اعتدنا للكافرين سلاسل و اغلالاً و سعيرا.

إنّ الأبرار يشربون من كأسٍ كان مزاجها كافورا.

عيناً يشرب بها عباد اللَّه يفجّرونها تفجيرا.

يوفون بالنذر و يخافون يوماً كان شرّه مستطيرا.

و يطعمون الطعام علي حبّه مسكيناً و يتيماً و أسيرا.

انّما نطعمكم لوجه اللَّه لا نريد منكم جزاءً و لا شكورا.

انّا نخاف من ربّنا يوماً عبوساً قمطريرا.

فوقاهم اللَّه شرّ ذلك اليوم ولقاهم نضرةً و سرورا.

وجزاهم بما صبروا جنّة وحريرا...

انّ هذا كان لكم جزاءً و كان سعيكم مشكورا.

[ صفحه 169]

ورأت فاطمة في تلك الليلة ما لا عين رأت وسمعت ما لا أذن سمعت و لم يخطر علي قلب بشر.

رأت اشجاراً خضراء خضراء مدّت عروقها في كثبان من المسك و كانت الأنهار الصافية المتألقة تتكسّر امواجها عند جذوع الأشجار.. و نسائم تمرّ تلامس الأغصان فتصطفق الأوراق بصوت حالم.. وقد بدت كبائس اللؤلؤ الرطب في ذري الأغصان... و تبدت الثمار في غلف الأكمام... و قصور الزبرجد متناثرة هنا و هناك كالأحجار الملوّنة. ينابيع السلسبيل تتدفق... و أطفال كاللؤلؤ يحملون كؤوس الفضة ملأي بالعسل المصفي... يتألقون في الظلال و في الضياء... في ربيع دائم.. لا فيه شمس و لا زمهرير.

سادة القصور يرتدون ثياباً من سندس أخضر و من استبرق.. في أيديهم كؤوس طافحة يستمتعون باحتساء شراب الزنجبيل. الوجوه طافحة بالسعادة الأبدية.. وجوهٌ نظرة.. نحتها النسيم الربيعي المشبع بشذي الورود والأزهار الخالدة.

رأت فاطمة كلّ ذلك. ساحت بين تلال المسك و قصور الزبرجد.. غرقت في بحيرات السعادة...

كادت تذوب شوقاً فهناك اللَّه.. و ما أحلي أن يجاور الإنسان مبدأ الانسان، و قد تحرّر تماماً من ويلات الأرض.

[ صفحه 171]

القسمت 29

مضي التاريخ يجوس خلال الرمال.. ينظر بدهشة إلي أرض أرادها

اللَّه أن تكون نحلة لبنت رسوله، مضي التاريخ يجوس خلال الرمال.. ثلاث سنين سويّا يشعل الحوادث هنا وهناك...

وقعت «مؤتة» و قد قتل «جعفر».. قطعت يداه فأبدله اللَّه جناحين يطير بهما في الجنّة.

فتحت مكّة.. تهاوت الأصنام و الأوثان صارت أنقاضاً.. وقد دخل حفيد ابراهيم المعبد يحطم بفأس جدّه وجوه الآلهة... وعادت حمائم السلام إلي وادٍ غير ذي زرع.

وتوقّف التاريخ في وادي حنين... يوم اعجبت المسلمين كثرتهم فلم تغن عنهم شيئاً ثم أنزل اللَّه سكينته علي رسوله و علي المؤمنين.

دارت رحي فاطمة و دار الزمن دورته و مرّ عام فإذا رسول اللَّه يتحدّي دولة الروم و جيوش هرقل.

[ صفحه 172]

القبائل العربية ترسل وفودها إلي المدينة وقد فاءت إلي دين اللَّه.. و رأي الناس وهم يدخلون في دين اللَّه أفواجاً.

وقد أسلم كعب فأعطاه نبي اللَّه «البردة»، و أسلم باذان بن ساسان في اليمن.

وجاء جبريل يحمل سورة «براءة»، و أذان من اللَّه و رسوله إلي الناس يوم الحج الأكبر انّ اللَّه بري ءٌ من المشركين و رسولُه.

ودوّت كلمات عليّ في الكعبة وما حولها:

- لا يدخل الجنّة كافر، و لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

ثم فرضت السماء الزكاة حتي لاتكون الأرض دولة بين الأثرياء... و يضيع الفقراء.

و بني المنافقون مسجداً هو مسجد ضرار.. و ان المساجد للَّه... و ما كان للَّه يبقي... و ما كان لغير اللَّه يذهب هباءً منثوراً...

أرسل النبيّ من يشعل النار في مسجد لم يؤسس علي التقوي فالتهمته ألسنة النار و ولي المنافقون الأدبار... و لاذوا بالفرار.. و ذرّت الريح «ضرار».. رماداً و غبارا.

ودارت رحي فاطمة و دار عام..

وجاء وفد من نصاري نجران.. جاء يجادل في طبيعة المسيح وفي مريم؛ جاءوا يقولون انّ عيسي

[ صفحه 173]

ابن اللَّه. وقد قال اللَّه:

- انّ مَثَل عيسي عند اللَّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون..

- من تراب؟!!

- كلمته القاها إلي مريم.

- بل ابن اللَّه.

- يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا و بينكم ألّا نعبد إلّا اللَّه و لا نشرك به شيئاً و لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه.

- لا ندع الربّ يسوع و قد صُلب من أجلنا؛ من أجل الإنسان الخاطئ.

- تعالوا ندع ابناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللَّه علي الكاذبين.

كان «العاقب» يراقب موكباً عجيباً... رجل يحمل في روحه ملامح المسيح.. يمسك بيده اليمني صبيّاً في السابعة و في اليسري صبياً في السادسة و معه شابّ يكاد أن يكون له ظلّاً و خلفهم فتاة تشبه مريم.

نصاري نجران في حيرة و رأي العاقب في السماء دخاناً... و تلك الوجوه الخمسة تتألّق في الضوء... و الفضاء مشحون بالغضب و اللعنة

[ صفحه 174]

قاب قوسين أو أدني...

تأثرت القلوب و دمعت العيون خشية للَّه...

و مدّ العاقب إلي النبيّ يد السلام، فقال النبيّ:

- لنجران جوار اللَّه و ذمة محمد رسول اللَّه.

وعاد أهل نجران إلي ديارهم..

و تمرّ الأيّام.. و ينطلق رسول السماء إلي حجّ بيت اللَّه... و اختارت السماء «غدير خمّ» في طريق العودة و هبط جبريل:

- يا أيّها الرسول بلِّغ ما اُنزل اليك من ربِّك و ان لم تفعل فما بلّغت

رسالته.

- والناس؟

- اللَّه يعصمك من الناس.

الرمال تشتعل لهيباً لا يطاق.

و توقف النبي فتوقف معه مئة ألف أو يزيدون، و علامات استفهام ترتسم علي الوجوه و توقّف التاريخ يصغي لما يقول آخر الأنبياء:

- ألستُ أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟

- بلي يا رسول اللَّه.

- مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه... أيّها الناس ستردون عليَّ الحوض و أنا سائلكم عن الثقلين.

[ صفحه 175]

- و ما الثقلان يا نبيّ اللَّه؟

- كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي.

و مضي التاريخ لا يلوي علي شي ء... و عادت قوافل الحج الأكبر تستأنف رحلة العودة إلي الديار وقد دخل الناس في دين اللَّه أفواجاً وهبط جبريل يتلو علي الرسول آخر آيات السماء..

- اليوم أكملت لكم دينكم و أتممتُ عليكم نعمتي و رضيتُ لكم الإسلام دينا.

و شعر النبي ان مهمته في الأرض قد انتهت و آن له أن يستريح ولكن...

[ صفحه 177]

القسمت 30

كانت فاطمة تقرأ القرآن.. في يدها مصحف.. فجأة سقط المصحف علي الأرض... ثم حلّق في السماء يخترق الغيوم.. و يتيه بين النجوم.. ورأت فاطمة نفسها تطير وراءه.. تريد اللحاق...

و كان القرآن ينادي:

- هلمي إليَّ.. هلمي إلي السماء.

و نظرت فاطمة وراءها فرأت الأرض زيتونة مشحونة بالبرق و بالرعود.

هبّت فاطمة من نومها... و هواجس الخوف تحاصرها.

قالت لأبيها:

- يا أبتي أني رأيت قرآناً يسقط من يدي.

قال الذي عنده علم الكتاب:

- يا فاطمة.. يوشك أن اُدعي فأُجيب.. وقد عرض عليَّ جبريل

[ صفحه 178]

القرآن في هذا العام مرّتين.

تجمّعت في عينيها الدموع... ضرب الحزن اطنابه في

القلب الكسير... دق أوتاد خيامه.

قال الأب ليسرّي عن ابنته:

- لا تحزني.. أنتِ أول أهل بيتي لحوقاً بيّ.

أشرقت شمس الأمل.. وجدت لها طريقاً خلال الغيوم فعادت البسمة تموج فوق وجه أزهر... وجه يتألّق بنور اللَّه، واللَّه نور السماوات و الأرض.

و تمرّ الأيّام متوجسة و الأرض تفتقد جبريل.

سقط رسول السماء مريضاً فوق الأرض.. عصفت به الحمي.. عجز الماء عن اطفائها... و شعر الرجل السماوي بأنّ الاُفق مشحون بالمؤامرة وان هناك عيوناً تبرق في الظلام تريد الاستحواذ علي أمانة.. تهيّبت حملها السماوات و الأرض.

هناك في الخفاء و بعيداً عن العيون كان العنكبوت تنسج شبكة مخيفة. و كانت هناك فراشة قادمة... تحلم بالربيع دفعتها ريح صفراء فهي توشك ان تسقط في بيت هو أهون البيوت.

في الليل و الناس نيام حطّم الشيطان أغلاله و ذرّ قرنيه يريد الفتنة...

[ صفحه 179]

كان الجوّ مكفهراً.. و قد ادلهمت السماء.. و سكون مهيب يجثم فوق المدينة.. والقلق عاصفة مدمّرة تهزّ القلوب تريد اجتثاث الطمأنينة منذ بيعة «العقبة» و «بيعة الرضوان»، كانت القلوب خائفة وهي تنطوي علي شي ء يوشك أن تفقده... السلام... كان محمد سلاماً في الأرض.. والأرض توشك أن تفقد هذا السلام...

و رسول اللَّه يغلي بالحمّي...، وأفواه القرب تريد اطفاء الجمر، حتي اذا هدأت الحمي وانتظمت انفاس النبيّ أرسل وراء أصحابه وقد شمّ في الفضاء رائحة غريبة..

طفحت الفرحة فوق الوجوه وهي تنظر إلي النبيّ هادئاً قد فارقته الحمّي؛ قال الرسول و هو يريد تمزيق شباك العنكبوت:

- ألم آمركم أن تنفذوا جيش اسامة.

تمتم بعض الصحابة:

- بلي يا رسول اللَّه.

- لِمَ تأخرتم عن أمري؟

قال أبوبكر مبرّراً:

- اني خرجت

إلي الجرف ثم رجعت لاُجدد بك عهداً.

وعلّق عمر:

- وأنا لم أخرج.. لا أُريد أن اسأل عنك القوافل.

[ صفحه 180]

العنكبوت منهمكة في مدّ الخيوط لاصطياد فراشة الربيع و النبي يحاول تمزيقها:

- انفذوا جيش اسامة.. لعن اللَّه مَنْ تخلف عن جيش اسامة.

تسارعت أنفاس الرسول وكان قلبه يخفق بشدّة و قد عاودته الحمي، و شعر بدوار يعصف برأسه.. حتي غامت الأشياء حوله..

و بكت النسوة.. و كادت فاطمة أن تموت.

أفاق النبيّ من غيبوبته و قد شعر بالخيوط الواهنة تسدّ الطريق علي فراشة الربيع فحاول للمرّة الأخيرة:

- أئتوني بدواة و صحيفة لأكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً.

هبّ صحابي ينشد الهداية.. ولكن العنكبوت كانت قد سدّت الطريق أمام فراشة النور.

قال عمر آمراً:

- ارجع لقد غلب الوجع رسول اللَّه... انه ليهجر و حسبنا كتاب اللَّه.

رمق أبوبكر صاحبه بنظرات ذات معني.

و قال الذي نهض:

- هل أحضر لك الدواة يا نبيّ اللَّه؟

قال النبي بحزن:

[ صفحه 181]

- أبعدَ الذي قاله عمر.

واحتجت النسوة من وراء حجاب و كان صوت اُم سلمة واضحاً:

- ائتوا رسول اللَّه حاجته.

هتف عمر بعصبية:

- اسكتن فانكن صواحب يوسف.. إذا مرض عصرتن أعينكنّ واذا صح أخذتن بعنقه.

نظر النبيّ إلي أبي حفص و تمتم:

- هنّ خيرٌ منكم.

و بكي أحد الصحابة، و قد شعر بهبوب العاصفة... و تفرق من كان حاضراً.. ولم يبق مع النبيّ إلّا شاباً لا يفارقه مذ أطلّ علي الدنيا وهاهو اليوم الموعود.. يوم تعود فيه النفس إلي بارئها راضية مرضية..

اليوم هو يوم الاثنين.. و «صفر» لا يريد الانطواء إلّا بعد أن يشهد

رحيل السلام..

كان عليّ يعتنق الرجل الذي ربّاه صغيراً و علّمه كبيراً وفتح له أبواب الملكوت.. و النبيّ يشدّ علي يد فتي شري روحه للَّه و الرسول.. اللَّه وحده الذي يراقب الأعماق..

كان عليّ كالمذهول. ودّ لو يقيه بروحه... الحياة مريرة دون محمّد. و ما أحلي الموت معه أو دونه.

[ صفحه 182]

نهضت «فاطمة» تجرجر نفسها بعناء و تبعها السبطان.. فإنّ للنبيّ والوصي ساعة من وداع بعد رحلة دامت ثلاثة و عشرين سنة..

لحظات كالقرون المتمادية والنبي ينوء بنفسه، يصغي إلي ملائكة الرحمن، ولكن أهل الأرض عن السمع لمحجوبون.. لم يسمعوا شيئاً سوي كلمات هي آخر ما حفظته الأرض من رسول السماء:

- بل الرفيق الأعلي..

وانطلق «محمد» نحو اللَّه يعبر السماوات مخلّفاً جسده بين ذراعي عليّ.. وقد هبّت العاصفة، و حطّم الشيطان أغلاله فراح يوقظ الأوثان العربية.

[ صفحه 183]

القسمت 31

المدينة هائجة وقد زلزلت الأرض زلزالها.. فالقلب الذي كان ينبض حبّاً للفقراء والمحرومين قد توقف إلي الأبد... وانقطع ذلك الحبل الممدود الذي يربط السماء بالأرض.. واختفت ظلال جبريل وبدا المسجد خاوياً علي عروشه..

العيون تبكي و الحناجر تشرق بالعبرات. ليت السماء اطبقت علي الأرض وليت الجبال تدكدكت علي السهل.

هل رأيت قطيعاً من الماشية سقط راعيها فراعها خوف من ذئب قد يشدّ عليها فهي تجري في كلّ اتجاه تبحث عمّن يهبها الطمأنينة حتي لو كان وهماً.

وهل رأيت غريقاً في بحرٍ هائج يتشبث بكلّ شي ء غير الماء حتي لو كان قشّة لا شأن لها..

هكذا كانت المدينة... ذلك النهار العاصف كان أبوحفص زائغ

[ صفحه 184]

العينين يبحث عن صاحبه يترقّب حضوره بين

اللحظة و الأخري... همس في نفسه حانقاً:

- ما كان علي أبي عائشة أن يذهب إلي «السنخ» في هذه الأيام...

كان منظر «عمر» مخيفاً بطوله الفارع و عينيه المتوقدتين وزادت نظراته الغاضبة هيبته في النفوس فتنحوا عن طريقه و هو يدخل منزل النبي.

كشف عمر عن وجه النبيّ و تمتم بصرامة:

- لقد اغمي علي رسول اللَّه.

قال أحد الحاضرين مستنكراً:

- قد مات رسول اللَّه.

أجاب عمر بغضب:

كذبت ما مات ولقد ذهب إلي ربّه كما ذهب موسي بن عمران.

غادر عمر المنزل هائجاً ووقف وسط الجماهير و هو يلوح بسيفه:

- ان رجالاً من المنافقين يزعمون ان رسول اللَّه قد مات وانّه واللَّه ما مات ولكنه ذهب إلي ربّه كما ذهب موسي بن عمران واللَّه ليرجعنّ رسول اللَّه فليقطعنّ أيدي رجال و أرجلهم ممن أرجف بموته.

وجد القطيع الممزّق شبحاً لراع فالتفت حوله تلتمس الأمن؛

[ صفحه 185]

ووجد الغرقي قشّشا فراحوا يتشبثون.

و عندما يفقد الإنسان الأمل فانه قد يعمد إلي وهم يهبه شكل الحقيقد في لحظد يأس مريرة...

تحلّق الناس حول رجل يبرق و يرعد و يهدّد من يقول بموت الرسول... و ما أجمل ما يقوله «عمر» ان محمد لم يمت و لا يموت حتي يظهر دينه علي الدين كلّه.. للَّه درّك يابن الخطّاب.

كان المغيرة ينظر إلي أبي حفص يفكر في لغز استعصي حله عليه.. ارتسمت علامة استفهام كبيرة ما تزال حتي اليوم و ربما إلي يوم الدين.

من بعيد لاح أبوعائشة يحث الخطي.. ولعل «المغيرة» قد لاحظ شيئاً.. فقد بدا الرجل الذي كان يهدد و يتوعد من حوله بالويل والثبور يخفف من حدته.. و انحسرت تلك الزوبعة المدمّرة ليحل مكانها سكون رهيب.

هتف أبوبكر من بعيد:

- علي رسلك ايها الحالف.

ثم التفت إلي الأمّة المدهوشة:

- ايها الناس من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات و مَن كان يعبد اللَّه فان اللَّه حيٌّ لا يموت.. و ما محمد إلا رسول قد خلت من

[ صفحه 186]

قبله الرُسل أفئن مات أو قُتل انقلبتم علي أعقابكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضرّ اللَّه شيئاً.

تنفس أبوحفص الصعداء و هو يرنو إلي صاحبه الذي حضر في الوقت المناسب..

كان المغيرة ما يزال يرقب أباحفص و هو يكاد يصعق.. لقد انتهت الثورة. فجأة هدأت العاصفة. استسلمت عند قدمي أبي عائشة.

وقف عمر إلي جانب صاحبه وانضم اليهما رجل ثالث هو «ابن الجراح» و تبادل الثلاثة نظرات هي أبجدية كاملة.. ربما كانوا يفكرون للمستقبل ليومين أو ثلاثة أو ربما للتاريخ كلّه.

ان كل التحولات الاجتماعية الكبري انما تولد في الضمائر قبل أن تجد طريقها إلي الواقع.. انّها موجودة في دائرة القوة حتي يأتي من يخرجها إلي دائرة الفعل.. و كان في ضمائر جلة المهاجرين و قريش قاطبة ألا تجتمع النبوة و الخلافة في بني هاشم... و قد قرأ رجال ما يجول في الخواطر ليخرجوا ما استتر في الضمائر و عجز النبي عن هزيمته يوم هزم الأوثان العربية.

النبي الذي جاب الصحراء ينشر فيها النور و الحياة هو الآن جثة هامدة.. و توقف القلب الذي ينبض بالحب.. القلب الذي سحر كل القلوب فتآلفت. و مذ توقف هذا القلب انفرط عقد القلوب جميعاً كما

[ صفحه 187]

التيار الكهربائي إذا انقطع انطفأت المصابيح وعاد الظلام فلا تسمع سوي أصوات بومة تصيح:

- هوو.. هوو.. هوو.. تبشر

بزمن الخرائب و الاطلال. يا له من صباح مظلم كئيب.. احترقت شمسه وانتحر ضياؤه.. عيون غارقة في بحيرات الدمع و عيون تترصد بحذر بيتاً فيه جسد مسجي و قلوب كسيرة و رياحين ذابلة و شموع منطفئة..

و هناك و بعيداً عن كل العيون اجتمع رجال من «الأوس» برجال من «الخزرج» يتشاورون في رجل «مزمّل» و قد أوجسوا خيفة من غدر قريش.

«السقيفة» تكتظ برجال نصروا الرسول و آزروه يوم كان شريدشا، و قهروا به الذين شرّدوه عن دياره بغير حقّ.

طافت خيالات «بعاث» في فضاء السقيفة، نشرت ظلالها سوداء كالحة.. نكأت جروحشا ضمدها رسول السماء فاندملت.. إلي حين.

قال سعد و كان دنفا:

- يا معشر الأنصار ان لكم سابقة في الدين و فضيلة ليست لقبيلة من العرب.. فلا تدعوهم يغلبوكم علي أمركم.

قال زيد مؤيداً:

- وفقت في الرأي و أصبت في القول. ولن تعدو ما أمرت نوليك

[ صفحه 188]

هذا الأمر، فأنت لنا مقنع و لصالح المؤمنين رضي.

قال «ابن حضير»:

- ولكنهم عشيرة النبي و هم أولي به من غيرهم.

أجاب ابن المنذر مستدركاً:

- إذن نقول لهم منّا أمير و منكم أمير.

هتف سعد غاضباً:

- هذا أوّل الوهن.

و تمتم ابن الأرقم متأسفاً بصوت لم يسمعه أحد:

- لك اللَّه يا عليّ.. ان الملأ يأتمرون بك لي...

وانسلّ من بين الجمع شبحان راحا يحثان الخطي و قد انبعثت في الأعماق اصداء معركة قديمة في يوم من أيام العرب.

قال عويم يحث صاحبه:

- اسرع يا معن قبل أن تعقد لسعد.

[ صفحه 189]

القسمت 32

بدا «أبوعائشة» متردّداً يقدم و يحجم.. كرجل تاهت به

السبل.. يزن الاُمور بوقار تاجر قديم، قال في نفسه: ليقنع بنوهاشم بالنبوة وليدعوا الخلافة لبطون قريش ولكن ماذا يفعل و وصايا النبي في الصدور وفي القلوب.

أبوبكر غارق في تأمّلاته.. وكان صاحبه يختلس اليه النظرات... نظرات مصممة قويّة ثاقبة لايعرفها سوي «الجراح».. وبدا أبوحفص في تلك اللحظات قوياً كالعاصفة جباراً كالسيل وقد اشتعلت في أعماقه كلمات قالها يهودي ذات يوم:

- أنت ملك العرب.

كان عمر غارقاً في هواجسه عندما وصل «عويم» و «معن».

هتف «أبوحفص»:

- ماذا؟!!

[ صفحه 190]

لم يكن هناك وقت.. فالفرص تمر مر السحاب وانطلق ثلاثة رجال.. لو رأيتهم من بعيد لأدركت أية طامة وقعت لهم أو عليهم... كانوا يسرعون الخطي.. والرسول ما يزال مسجي.. في فراشة... يتحدث بلغة الصمت.. لغة عجيبة لاتفهمها سوي اُذنٌ واعية...

رجال من الأوس و رجال من الخزرج يأتمرون قد أوجسوا خيفة.. ورجال من قريش يحثون الخطي إلي سقيفة لبني ساعده و النبي يدعوهم بلغة الصمت..

«الغنائم» تلوح من بعيد شهية يسيل لها اللعاب و قد ترك «الرماة» مواقعهم.. في «عينين» و الرسول يدعوهم.

اقتحم الثلاثة «السقيفة»، وبدت الوجوه مخطوفة اللون شاحبة قد عراها اصفرار. لقد انتقض الغزل و هو في أيديهم.. كان أبوحفص علي و شك أن يثور لولا أبوبكر:

مهلاً يا عمر: الرفق هنا أبلغ.

و توجه أبوبكر إلي الأوس و الخزرج بكلمات هادئة:

- يا معشر الأنصار من ينكر فضلكم في الدين و سابقتكم العظيمة في الإسلام؟.. و اللَّه رضيكم لدينه و رسوله أنصاراً وانتخبكم محلّاً لهجرته و فيكم جل أزواجه و أصحابه..

ثم أردف و هو يرمي سهماً في الهدف.

[ صفحه 191]

- نحنُ الاُمراء

و أنتم الوزراء.

اعترض «الحبّاب» و قد أخفق في إخفاء وهنه:

- بل منا أمير و منكم أمير.

انتفض عمر ليشدّد الهجوم:

- هيهات لا يجتمع اثنان في قرن.. واللَّه لا ترضي العرب أن يؤمروكم ونبيّها من غيركم ولكن العرب لاتمتنع ان تولّي أمرها من كانت النبوة فيهم و ولي اُمورهم منهم ولنا بذلك علي من أبي من العرب الحجة الظاهرة و البرهان المبين..

وأردف و قد أخذه حماس المنتصر:

- من ذا ينازعنا سلطان محمد و امارته و نحن أولياؤه و عشيرته الّا مبطل أو متجانف لإثم أو متورّط في هلكة.

رد الحباب بغضب:

- املكوا أمركم يا معشر الأنصار و لا تسمعوا مقالة هذا فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر.. فان أبوا فاجلوهم عن البلاد.. إنا أحق بالأمر

منهم، بأسيافنا دان العرب لهذا الدين..

وأخذته فورة حماس فراح يطلق التهديدات حمماً:

- أنا شبل في عرينة الأسد... و اللَّه لا يرد علي ما أقول إلَّا حطمت أنفه بالسيف.

[ صفحه 192]

انبري عمر لامتصاص العاصفة بمرونة متكلفه:

- اذن يقتلك اللَّه.

- بل إيّاك يقتل.

و نهض رجل من الخزرج و قد رفع راية بيضاء:

- إنّا أول من نصر اللَّه و رسوله و جاهدنا المشركين لانبتغي من الدنيا عرضا... ألا و ان محمداً من قريش و قومه أولي به وأحقّ.. فاتقوا اللَّه يا معشر الأنصار و لا تخالفوهم.. و لا تنازعوهم.

تنفّس عمر بارتياح و هو يراقب تهاوي القلاع..

هتف الحباب مخذولاً:

- حسدت ابن عمّك!!

- لا واللَّه.. ولكن كرهتُ ان أُنازع قوماً حقّاً جعله اللَّه لهم.

و انبري أبوبكر لاقتطاف أولي الثمار. أشار إلي عمر و أبي عبيدة و

قال:

- قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فايُّهما شئتم فبايعوا.

و بطريقة لم تبد عفوية هب عمر مستنكراً:

- معاذ اللَّه.. أنت أفضل المهاجرين.. ابسط يدك.

بسط «أبوبكر» يده و قد سقطت التفاحة في قبضته؛ و نهض رجل من الخزرج فبايع.. و رجل من الأوس.. و تهاوت القلاع و الحصون..

[ صفحه 193]

وتمت أول «فلتة» في تاريخ الإسلام.

بدا «الحباب» متشنجاً كمن أصابه مس من الجنون فالتفت اليه أبوبكر مدارياً:

- أتخاف مني يا حباب؟

- ليس منك ولكن ممن يجي ء بعدك.

- اذا كان ذلك كذلك فالأمر اليك و إلي أصحابك ليس لنا عليكم طاعة.

- هيهات يا أبابكر اذا ذهبت أنا و أنت جاءنا من بعدك من يسومنا الضيم.

و قال أبوعبيدة بلين:

- يا معشر الأنصار أنتم أولي فضل ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر و عمر و علي.

أجاب زيد و قد هزه اسم علي:

- إنّا لا ننكر فضل من ذكرت و ان منّا سيّد الأنصار سعد بن عبادة و إمام العلماء سعد بن معاذ و ذوالشهادتين خزيمة... و ان بين من ذكرت من قريش لو طلب الخلافة لا ينازعه أحد.

- مَن؟!!

- علي بن أبي طالب... واللَّه ما اجتمع الأنصار في السقيفة إلّا بعد شمّوا رائحة غدر دبّر بليل.

[ صفحه 195]

القسمت 33

انطوي يوم الاثنين و قد ألقي الحزن كلاكله فوق الأرض كغراب اسطوري. فاطمة تنوء بنفسها و قد اسندت رأسها إلي صدر لم يعد النسيم يزوره.

كانت تصغي إلي صمت الأنبياء وللصمت حديث تسمعه القلوب و تصغي إليه العقول، العينان اللتان كانتا نافذتي نور قد اسدلتا جفونهما واليدان اللتان كانتا

مهداً هما الآن مسبلتان. الروح التي كانت تصنع التاريخ و الإنسان قد رحلت بعيداً. غادرت هذا الكوكب الزاخر بالويلات.

لقد حلّت لحظة الفراق، و تخفف الإنسان السماوي من ثوبه الأرضي ليرحل إلي عوالم حافلة بالنور و قد سمع أهل الأرض كلمات النبي، كان ينظر إلي السماوات و يهتف:

- بل الرفيق الأعلي.

[ صفحه 196]

أيُّها الصامت.. صمتك أبلغ من كل أبجديات الدنيا و سكونك المدوي صرخة حقّ في عالم الأباطيل. و قد زلزلت الأرض زلزالها، انهار عمود خيمة كانت تعصف بها الريح.. و تمزّق الكساء اليماني، و كان يدّثر نبيّاً هو خاتم الأنبياء و رجلاً يشبه هارون في كل شي ء إلّا النبوة، وامرأة هي سيدة بنات حوّاء وسبطين هما آخر الأسباط في التاريخ.

جثا علي أمام جسد كانت روحه العظيمة تضي ء الجزيرة و بقايا نور في الجبين البارد تشبه شمساً جنحت للمغيب.. وهناك خلف جدران المنزل الذي جثم عليه حزن سرمدي كانت ترتفع ضجّة رجال.. كريح صفراء كانت تقترب من المسجد حيث لا يفصله عن المنزل سوي جدار يكاد أن ينهدّ.

و خفّ رجل هاشمي يحمل انباء السقيفة..

ستهب الريح عاصفة مدمّرة.. لاتبقي و لا تذر. تساءل علي:

- ما قالت الأنصار؟

- قالت منّا أمير و منكم أمير.

- فهلاً احتججتم عليهم بأنّ رسول اللَّه وصي بأن يحسن إلي محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم.

- و ما في هذا من الحجّة عليهم؟

- لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم، سكت هنيهة و سأل:

[ صفحه 197]

- فماذا قالت قريش؟

- قالت: انا شجرة محمد.

تتم علي بأسي:

- احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة.

وقف هارون

حائراً يتأمل رمال سيناء.. يترقّب عودة أخيه.. و كان موسي يمم وجهه شطر الجبل..

- ما أعجلك عن قومك يا موسي؟

- هم أولاء علي أثري وعجلت اليك رب لترضي.

- فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك و أضلّهم السامريّ.

وعاد موسي غضبان أسفاً يحمل معه ألواح السماء.

و كان هارون يقاوم العاصفة و كان العجل يخور وسط العاكفين. قال هارون مشفقاً:

- إنّما فتنتم به و إن ربّكم الرحمن فاتبعوني واطيعوا أمري.

- لن نبرح عليه عاكفين حتي يعود الينا موسي.

و لمّا عاد موسي ألقي الألواح و قال بغضب:

- بئسما خلفتموني من بعدي.

و قال هارون بحزن:

- إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلوننئ.

[ صفحه 198]

ولمّا سكت عن موسي الغضب أخذ الألواح و تمتم:

- إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربِّهم و ذلّة في الحياة الدنيا. ونظر موسي إلي السماء و قال متضرعاً:

- ربِّ اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و انت أرحم الراحمين.

و التفت موسي إلي السامريّ:

- ما خطبك يا سامريّ؟

- بصرتُ بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبدتها و كذلك سوّلت لي نفسي.

قال موسي و هو ينبذه في قلب التيه:

- إذهب فإن لك في الحياة ان تقول لامساس و ان لك موعداً لن تخلفه وانظر إلي إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً.

وضاع السامريّ في التيه.. بين تموّجات الصحراء.. وعواء الذئاب. كان صوته يتبدد في المدي يبحث عن وطن.. والوطن لا يقبل شجراً مجتثاً من فوق الأرض ماله من قرار.

الصحراء بعيدة.. و الرجل المنبوذ يشدّ إلي

جسده عباءة خرّقتها الريح و هو يطوي التيه.. يقبض قبضة من الرمال يشمّها علّه يجد فيها أثر الرسول... ولكن لا شي ء سوي الريح حتي إذا بلغ «فدك» من أرض الجزيرة تهالك عند جذوعها ينازع الموت و قد أيقظت العرب أوثانها.

[ صفحه 199]

القسمت 34

جلست حفصة قرب عائشة كما تجلس الجارية عند سيدتها أو المريد عند استاذه يتعلّم منه أو يراقب حركاته و سكناتة ولعلّ الصداقة التي تربط بين الأبوين قد بخّرت تماماً ما تضمره المرأة لضرّتها وأزاحت بعيداً ذلك التنافس المرير في التفوّق وهاهي الأيام تمرّ لتوحّد بينهما، تضاعفت خلوات عمر بأبي بكر وزادت الأواصر بين عائشة و حفصة...

و قد جلست المرأتان فيما يشبه الاحتفال بالنصر... أو التفكير لجولة قادمة...

كانت عائشة تغالب شعوراً بالتشفي والانتقام وها هو أبوها يحقق أول انتصار علي منافسه.

منذ سنوات و أبوبكر يفعل المستحيل ليبقي في الصدارة... فهو صاحب النبي في الغار و هو الملازم له في العريش... هو و عليّ فرسا

[ صفحه 200]

رهان ولكن ماذا يفعل و عليّ السبّاق في كل شي ء.. ماذا تتذكر عائشة.. «خيبر» «ذات السلاسل».. سورة براءة...

لشدّ ما تمقت عليّاً... انّها لا تستطيع أن تنسي كلماته و هو ينصح النبي بطلاقها يوم «الافك».. وفاطمة التي تغار منها و من اُمّها.. خديجة.. ولكن ما تبغي وهاهو أبوها يمسك بالزعامة والخلافة.

امّا عليّ فهو جليس داره وحيد ليس معه من يؤازره أحد... و فاطمة التي لا تفتأ تبكي أباها ليل نهار.

عائشة هادئة البال تنعم بالمجد.. لقد كانت زوجة أعظم رجل في الجزيرة وهاهي اليوم بنت رجل يهابه الجميع..

كانت عائشة مستغرقة في خيالات الماضي و المستقبل

عندما دخل أبوها و كان معه عمر..

بدا أبوبكر مهموماً... لقد جاء أبوسفيان و هو يخشي صولته.

قال عمر و قد أدرك ما يجول في خاطره:

-الأمر بسيط يا خليفة رسول اللَّه.. أنا أعرفه.. اترك ما في يده من الزكوات.. اننا نحتاج إلي بني اُمية للوقوف بوجه بني هاشم.. نشغل بعضهم ببعض فتصفولك الاُمور.

- ارحتني يا عمر من همّ وبقيت هموم.

- أتعني عليّاً و أصحابه... و اللَّه لأجعلنهم يبايعون.. طائعين أو

[ صفحه 201]

كارهين... ولسوف أمضي اليهم بنفسي فان تعلّلوا أحرقت عليهم البيت.

- إنّ فيه فاطمة يا عمر.

- و إنْ.

تداعت الذكريات في خيال أبي بكر. تذكر يوم خطب فاطمة فردّه الرسول. انّه لن يغفر لها ذلك... كما لن يغفر لها ما سببته من آلام لإبنته. كانت عائشة لا تطيق رؤيتها و لا رؤية زوجها.. هو أيضاً كان لايرتاح لفاطمة و كان يشعر بالحسرة لما تقاسيه ابنته.

قال عمر و هو يرمق صاحبه بنظرة ذات معني:

- يا له من حديث أصبت به مقتلاً... أنا أيضاً أذكر ان النبي قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث.. ما تركناه صدقة».

ابتسم أبوبكر... و كأنه يقول و ما في وسعي أن أفعل غير ذلك.. امامنا جولات و جولات.. و فاطمة ما تزال تقارم..

قال أبوبكر متوجّساً:

- أنا أخشي فاطمة.. انّها ثائرة ولن تسكت.. و كيف تسكت و هي بنت محمد.. و زوج عليّ.

- لا تخشَ شيئاً يا صاحبي سينتهي كلّ شي ء.. ما هي إلّا امرأة.. و ليس معها أحد.

[ صفحه 202]

قال أبوبكر و قد استيقظت في أعماقه بقايا ضمير:

- ماذا لو نسلّمها «فدكاً» و نرتاح من

كلّ هذا العناء.

- ماذا تقول يا صاحبي اذا أعطيتها فدكاً اليوم فستأتي غدا لتطالب بالخلافة إلي بعلها.. و أنت تعرف ان فدكاً لديها ليست فاكهة أو نخيل و لا أرض انّها الخلافة.. لا لا.. لا تفعل ذلك أبداً.

- ألا تخشي غضبها يا أباحفص.. غضبها يعني غضب اللَّه و رسوله.. الجميع يعرف ذلك.

- و هذه أيضاً ستمرّ كما تمرّ العاصفة.. سوف نزورها ذات يوم فتصفح عنا و ينتهي كل شي ء.. انّك لتصوم و تصلّي و تحجّ و تجاهد فلا تقلق.

-اتمني أن يكون ذلك.

كانت عائشة تصغي بصمت إلي حديث أبيها تدرك ما يموج في أعماقه من رقة تكاد تنقض كل صلابته لولا صاحبه الذي لا يعرف غير الاندفاع كالزوبعة... و لولاه ما وقف أبوها كلّ هذه المواقف... وعائشة تدرك جيداً ان عمر يحلب لأبيها ليأخذ شطراً منه غداً. علي هذا تعاهدا و معهما «الجرّاح».

عائشة لا ترتاح لتردد أبيها. انّها تريد منه أن يكون قوّياً هذه المرّة... و قد غاب «محمّد» فليندفع ليهزم «عليّاً» أمام عيني

[ صفحه 203]

«فاطمة»، لشدّ ما يسعدها أن تري فاطمة كسيرة مغلوبة تندب المجد الذي ولّي و العزّ الذي مضي.

- لا لا يا عائشة لا تكوني قاسية إلي هذا الحدّ...

أرجوك إذا مررت بشجرة محطمة فلا تدوسي ثمارها.. أو حمامة مهيضة الجناح فلا تستلّي السكين لتذبحيها.. أليس هناك مكان للحبّ.. للَّه؟

- أتريدني اشفق علي فاطمة.. فاطمة التي استحوذت علي قلب زوجي... لا لا لن أغفر لها ذلك.. و علي الذي ود طلاقي.. كلّا لن أغفر لهما أبداً.

تلاشي الدويّ وخفتت نداءات الإنسان.. وانتصر النمر المتوثّب في الأعماق ليطلّ من عينين يكاد

بريقهما ينفذ في الضلوع.

[ صفحه 205]

القسمت 35

فاطمة حزينة.. وحيدة في هذه الدنيا الغادرة.. غيّب التراب وجهاً كان يضي ء دنياها و توقف قلب كان يملأ حياتها أملاً....

رحلت أمّها وهي بعد صبيّة.. وهاهي تفقد أباها وهي في عمر الربيع..

فقدت الأشياء شفافيتها و بدت عارية مقرفة. كانت تنظر إلي الجزيرة فتراها خضراء.. خضراء. تنظر بعيني محمد فتري البراعم تتفتح و الرياحين تفوح بالعطر.. والسماء تزخر بأجنحة الملائكة مثني وثلاث و رباع و كلمات جبريل تملأ الفضاء. و لمّا أغمض الأب عينيه انطفأت كلّ الشموع.. انكفأت فوق صحون الحنّاء.. ذبلت الرياحين و غادر الربيع الجزيرة... واستيقظت الاصنام... فتحت عيونها الحجرية.. وانبعث خوار «عجل» في «فدك».

العاصفة تهبّ عنيفة تدمّر كلّ شي ء.. ولو مرّت علي النجوم

[ صفحه 206]

لأطفأتها أو علي شجرة زيتون لاجتثتها من فوق الأرض... و فاطمة وحيدة.. ليس معها أحد سوي رجلها و قد أغمد «ذا الفقار» بعد ان وضعت الحرب أوزارها.. و سيّد الرجال يأبي أن تكون له في الفتنة سيف.. سلاحه الصبر؛ و الصبر سلاح الأنبياء.

ليس في منزل فاطمة سوي صبيين ينتظران عودة جدّهما.. ليس في منزل فاطمة سوي بنت صغيرة غارقة في حزن سرمدي... بنت اسمها «زينب»؛ ليس في منزل فاطمة أحد إلّا المستضعفون فبدا كقلعة مهجورة تحمل آثاراً لجبريل. ستهبّ العاصفة اعصاراً فيه نار و قد لاذ الخائفون فئراناً مذعورة في جحورها.. وليس هناك من سلاح إلّا الصبر... و الصبر له طعم كالحنظل لايعرفه إلّا المظلومون.

بدا عليّ ذلك اليوم كأسد جريح.. أسد مثقل بالقيود و السلاسل.. و أصعب ما يواجه الرجل من ضيم أن يري امرأته مقهورة وحيدة و هو

موثق الأيدي... كان عليّ يدرك ما يدور في الخفاء... شمّ منذ أمد بعيد رائحة المؤامرة و لم يكن في مقدوره أن يفعل شيئاً... كانت العناكب تحوك شباكها ليل نهار. والسماء تكتظّ بقطع السحب السوداء، والقمر في المحاق..

هبّت العاصفة، وهتف ابن صهاك، وقنفذ ينظر بعينين فيهما بريق شيطاني:

[ صفحه 207]

- يا علي اخرج و بايع كما بايع الناس.

لاذ الأسد بالصمت، و رفع ابن صهاك صوته بعصبية:

- لتخرجنّ أو لأحرقن الدار.

هتف رجل مستنكراً:

- إن فيها فاطمة.

أجاب ابن صهاك.

- و إن!.

هتفت فاطمة بغضب:

- سرعان ما أغرتم علي أهل البيت.

ركل قنفذ الباب بوحشية... وظهرت بنت محمّد في قبضتها لواء المقاومة.. وجهها الأزهر مضمخ بعبير النبوّات و كان حسن و حسين ينظران بدهشة إلي رجال كانوا بالأمس يبتسمون لهما و قد جاءوا اليوم يكشّرون عن أنياب كالذئاب.

- أين أنت يا جدّاه.. هلمّ لتري ما يفعل أصحابك.

هتفت فاطمة بغضب الأنبياء:

- اخلوا الدار.. و خلّوا عن ابن عمي..

ثم أردفت و هي تستنجد بالسماء:

- لئن لم تخلّوا عنه لانشرن شعري و لأصرخن إلي اللَّه.

[ صفحه 208]

هتف سلمان وقد رأي العذاب قاب قوسين أو أدني:

- يا سيدتي! إن اللَّه بعث أباك رحمة. والتفت إلي عمر:

- خلوا عن عليّ فقد اقسم ألّا يخرج حتي يجمع القرآن.

انسحب الرجال أمام فتاة نحيلة الجسم كنخلة متواضعة.. لكنّها عميقة الجذور.

ما تزال راية المقاومة ترفرف فوق منزل فاطمة كطيف من رؤي النبوّات.

وقف التاريخ مشدوهاً قبالة منزل صغير يضمّ فتاة نحيلة القوام.

وقف التاريخ خاشعاً أمام «فاطمة».. أمام فتاة عجيبة لم

يرَ مثلها صفاءً لكأنها تنتمي إلي عالم آخر لايمت إلي عالم التراب بوشيجة.

قبس من نور يكاد ينفذ من أهاب جسد نحيل لكأن الملاك يوم ولدت تضرّع إلي ربّه:

- يا ربِّ اجعلها ثابتة كالجبل، مباركة كالنخيل، طاهرة كقطرات الندي، سيّدة كحورية.

وقف التاريخ مذهولاً أمام فاطمة.. غيمة بيضاء تختزن الرعود... فهذه الفتاة التي تقف في محرابها تتبتل إلي السماء حتي تكاد تفتت التراب لتصبح كوكباً درّيا.. تتسرب من بين الطين عائدة إلي عالم النور.

[ صفحه 209]

وقف التاريخ خاشعا امام فتاة تقضي جل وقتها تتأمل ملكوت السماء.. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك... فتاة تنطوي ضلوعها علي قلب تضيع فيه الصحاري.

وقف التاريخ امام سيدة عظيمة هبت بوجه العاصفة؛ ولتكن «فدك» ارضا للصراع.

[ صفحه 211]

القسمت 36

ما أصغر فدكاً فوق الأرض... وفي الجغرافيا. و ما أوسعها في خارطة التاريخ.

هبّ السامريّ ليجثو أمام «العجل» وفتحت الأوثان العربية عيوناً حجرية تحدّق ببلاهة... وبرقت عينا «الاسخريوطي» بالغدر و هو يدلّ علي ابن مريم... و همّ بنواسرائيل بهارون، وفرّت الفراشات إلي مخابئها و قد عوت ريح الزمهرير كذئاب مجنونة.

نهضت فاطمة بوجه العاصفة تقول لا:

- لا تقتلوا يوسف.. و لا تلقوه في غيابت الجبّ.

- لا تغدروا بابن العذراء.. لا تعبدوا العجل من دون الرحمن.. لا تقتلوا هارون.

- دعوا الفراشات تسبح في غمرة النور.. لا تطفئوا الشموع.. لا تتقلوا الأرض بالآثام.. دعوا هابيل يرعي ماشيته بسلام.

[ صفحه 212]

وقفت فاطمة تنظر إلي الأفق البعيد المدلهمّ بالخطوب و الحوادث وراحت تسرج الشموع في مهب العواصف علّها تضي ء الصحراء والتاريخ.

معركة وشيكة ستندلع.. تدمّر كلّ

شي ء.. معركة عجيبة اسلحتها الصبر.. الصمت الرفض... كان علي عليّ أن يرمي «ذالفقار» جانباً.. أن يصرخ بالصمت.. الصمت المدوّي و كان علي فاطمة أن تتكلّم بعد أن طوت الماضي متبتلة في المحراب.

نهضت فاطمة. غادرت محراب الصمت لتقول كلمتها في الذين يسرقون «فدك» في غمرة الليل حتي لا يسرقوا التاريخ و المستقبل في وضح النهار..

جاءت فاطمة تطالب بالميراث و كانت جذوع «فدك» سلاحها الوحيد:

- اعطني ميراثي من أبي رسول اللَّه.

قال أبوبكر:

- سمعت أباك يقول: نحن معاشر الأنبياء لانورّث.

- كيف و قد ورث سليمان داود.. وقال زكريا: يرثني ويرث من آل يعقوب؟!!

- أنا سمعت رسول اللَّه يقول نحنُ الأنبياء لا نورّث وهاهي

[ صفحه 213]

عائشة وحفصة تشهدان علي ذلك.

- سبحان اللَّه ما كان أبي عن كتاب اللَّه صادفاً.. و لا لأحكامه مخالفاً..

اشتعلت ثورة في قلب ابن فاطمة و كان صبيّاً جذب رداء رجل ينازع امّه الميراث.

هتف السبط:

- انزل عن منبر أبي و اذهب إلي منبر أبيك.

سأل الرجل بدهاء:

- من علّمك أن تقول هذا؟

لاذ الصبي بالصمت.

فعاد الرجل يكرّر مقالة ما أنزل اللَّه بها من سلطان.

قالت فاطمة و هي تضمّ ريحانة الرسول و تحدّق في الذين اغتصبوا ميراث الأنبياء:

- كلّا بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل واللَّه المستعان علي ما تصفون.

غادرت فاطمة المكان.. و تناثرت أسئلة.. علامات استفهام، فتمتم الخليفة بأسيً أمام صاحبه:

[ صفحه 214]

- أما كان الأحري أن نهبها فدكاً... أنا أخشي ابنة محمد.

أجاب أبوحفص مشجّعاً:

- لا تخف يا صاحبي... غبرة و تنجلي و ما هي إلّا جولة و ينتهي

كلّ شي ء... و كأن شيئاً لم يكن... و ربت علي كتفه و قد عرف كيف يتغلفل إلي قلبه:

- أقم الصلاة... و آت الزكاة... ان الحسنات يذهبن السيئات.. و ما يفعل ذنب واحد في حسنات كثيرة.

أضاءت الابتسامة وجهه، فقال:

- كربة فرجّتها يا عمر..

هتف الخليفة و قد شحذ العزم كلمات تدعو بالويل والثبور...

- ألا لو شئت أن أقول لقلت، و لو تكلمت لبحت و اني ساكت ما تركت... يستعينون بالصبية و يستنهضون النساء.. و اني لستُ كاشفاً قناعاً و لا باسطاً ذراعاً و لا لساناً، إلّا من استحق ذلك.

استنكرت اُم سلمة و كانت امرأة علي خير:

- أمثل هذا يُقال لفاطمة!! وهي الحوراء و عديلة مريم.. ربيت في أحضان الأنبياء و تداولتها أيدي الملائكة.. أتزعم ان رسول اللَّه حرّم عليها ميراثه؟!

عادت فاطمة إلي منزلها.. و قد جثم الحزن علي بيوت المدينة

[ صفحه 215]

كطائر مهيض الجناح.

أوت فاطمة إلي المحراب تستمد من السماء الروح.. الحياة.. النور؛ تريد أن تتخفف من عناصر الأرض.. الأرض المثقلة بالدماء الآدمية... تريد أن تنتمي إلي عالم آخر لانكد فيه و لا عناء... تنشد بيتاً من قصب لا تعب فيه و لا نصب.. ما تزال تبحث عن اُمّها.. أوت فاطمة تلك الليلة إلي المحراب، وقالت:

- ربِّ إبنِ لي عندك بيتاً في الجنّة و نجّني.

هوّمت عيناها.. فانبثق شلّال من نور النبوّات.

هتفت بشوق:

- يا أبتاه، يا رسول اللَّه انقطعت عنّا السماء.

خفقت أجنحة الملائكة.. رفرفرت كفراشات من نور سماويّ.. ولجت فاطمة الملكوت راحت تخطر في عوالم النور.. الملائكة صفوف والحدائق غنّاء... و الأنهار تجري متدفقة تدفّق الحياة.. وحوريات يخطرن بين الأشجار الخالدة.

قالت

احداهن لفاطمة:

- مرحباً بحورية الأرض...

فاطمة تخطر في عالم شفّاف.. عالم ملوّن. أشارت فاطمة إلي نهر يطّرد.. تتدافع أمواجه البيضاء.. تدور حول قصر تحفّه الأشجار

[ صفحه 216]

ويغمره النور من كلّ مكان. قالت حورية:

- هذا الفردوس.. وهنا يسكن سيّد ولد آدم محمد.

- أين أبي؟

انبثق شلّال من نور محمّد... كان يرتدي ثياباً من سندس بلون الربيع..

ركضت فاطمة.. ضاعت في صدره الرحب.. شعرت بأنها تعود إلي أحضان أمّها.. إلي عالم تنتمي اليه.

- انظري إلي ما أعدّ اللَّه لك.. لقد انتهت آلامك و آن لك أن تستريحي.. انظري إلي زهدك كيف أصبح جنّة عرضها كعرض السماوات و إلي فراش الليف فكيف صار سريراً من حرير، و إلي جوعك و عريك كيف أضحي فاكهة و قطوفاً دانية واستبرق وحريرا.. وانظري إلي دموعك اضحت أنهاراً من لبن.. ومن عسل تجري، و إلي حجرتك أمست قصراً... و إلي ظلمات الأرض صارت شلالات من نور يتدفّق..

انتبهت فاطمة.. عادت إلي الأرض لتودّعها.. لتقول كلمتها قبل الرحيل الأبدي... عادت لتبني بيت الأحزان... تبكي الأرض المثقلة بالهم... بالدموع و بالألم.

[ صفحه 217]

القسمت 37

لفّت فاطمة خمارها، واشتملت بردائها و الازار و نهضت بأمر اللَّه.

مابين دار فاطمة و المسجد خطوات، قطعتها ثابتة الخطي لكأنها محمّد و عاد يصحح مسار الإنسان من جديد.. يقوده إلي منابع النور والخلود.

جاءت فاطمة تحفها نسوة و بنات دخلت المسجد.. لتقول كلمتها للاُمّة و التاريخ.

و أنّت من وراء حجاب... انّة هي أنّة هابيل

قبل ان يموت... فيها عذابات «آسية»... و حزن «مريم».

ولوعة «يوكابد»...

بكي المهاجرون و بكي الأنصار واهتزّ قلب كالصخر ولان.

قالت

بنت آخر الأنبياء وقرينة مؤسس البلاغة في العرب:

- الحمد للَّه علي ما أنعم وله الشكر علي ما ألهم والثناء بما قدّم

[ صفحه 218]

من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها و تمام منن أولاها، جمّ عن الاحصاء عددها، ونأي من الجزاء أمدها و تفاوت عن الادراك أبدها. وأشهد ان لا إله الّا اللَّه وحده لا شريك له، كلمة جعل الاخلاص تأويلها، و ضمن القلوب موصولها، و أنار في التفكير معقولها، الممتنع عن الأبصار رؤيته، و من الألسن صفته و من الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شي ء كان قبلها، و أنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته و ذرأها بمشيئته.

وأشهد ان أبي محمّداً عبده و رسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، و بستر الأهاويل مصونة، و بنهاية العدم مقرونة.

ابتعثه اللَّه اتماماً لأمره و عزيمة علي امضاء حكمه و انفاذاً لمقادير حتمه، فرأي الاُمم فرقاً في أديانها عكفاً علي نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة للَّه مع عرفانها، فأنار اللَّه بأبي محمّد ظُلمتها و كشف عن القلوب بهمها و جلّي عن الأبصار غممها... ثم قبضه اللَّه اليه قبض رأفة و اختيار و رغبة و ايثار.

محمد من تعب هذه الدار في راحة، قد خصّ بالملائكة الأبرار، و رضوان الربّ الغفار، و مجاورة الملك الجبّار، صلّي اللَّه علي أبي وأمينه و خيرته من الخلق و صفيّه والسّلام عليه و رحمة اللَّه و بركاته.

[ صفحه 219]

وقف التاريخ مذهولاً لكلمات سماوية لكأنها حورية هبطت الأرض تحمل لها قبساً من نجوم السماء.

سكتت فاطمة هنيهةً واستجمعت قوّتها لتهزّ النخلة

علّها تساقط رطباً جنيا:

أيّها الناس، اعلموا أنّي فاطمة و أبي محمد أقول عوداً و بدواً، و لا أقول ما أقول غلطاً، و لا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبي من دون نسائكم، و أخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزّي إليه، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة ماثلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثبجهم، آخذاً بأكظامهم داعياً إلي سبيل ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة يجفّ الأصنام و ينكث الهام، حتي انهزم الجمع و ولّوا الدبر، حتي تفري الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه و نطق زعيم الدين، و خرست شقاشق الشياطين.

و كنتم علي شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، و نهزة الطامع، و قبسة العجلان، موطئ الأقدام، تشربون الطرق، و تفتاتون القدّ، أذلّة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم اللَّه تبارك و تعالي بمحمّد صلي اللَّه عليه و آله بعد اللتيا والتي.

ودوّت صرختها توقظ الضمير الذي أخلد إلي الأرض:

[ صفحه 220]

أيها المسلمون: أأغلب علي إرثي! يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب اللَّه ترث أباك و لا أرث أبي، لقد جئت شيئاً فريّاً، أفعلي عمد تركتم كتاب اللَّه ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول:(وورث سليمان داوود).

و قال في ما اقتص من خبر يحيي بن زكريا إذ قال: (فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب).

و قال: (و أولي الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب اللَّه).

و قال: (يوصيكم اللَّه في أولادكم للذكر مثل حظّ الانثيين).

و قال: (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً علي المتّقين). ة

وزعمتم

أن لا حظوة لي و لا إرث من أبي و لا رحم بيننا، أفخصّكم اللَّه بآية أخرج أبي منها؟! أم هل تقولون: إنّا أهل ملّتين لا يتوارثان أولست أنا و أبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي.

فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللَّه، والزعيم محمّد، و الموعد القيامة، و عند الساعة يخسر المبطلون.

و لا ينفعكم إذ تندمون، ولكلّ نبأ مستقر، و سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحلّ عليه عذاب مقيم.

[ صفحه 221]

لقد مات الضمير... دفنه رهط من المدينة في أرض فدك، فراحت البتول تحذّرهم أيام اللَّه:

فدونكموها فاحتقبوها، دبرة الظهر، نقبة الخفّ، باقية العار، موسومة بغضب الجبّار، و شنار الأبد، موصولة بنار اللَّه الموقدة التي تطّلع علي الأفئدة، فبعين اللَّه ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنّا عاملون، وانتظروا إنّا منتظرون.

غادرت الزهراء المسجد وقد زلزلت الأرض زلزالها و صرخ رجل غصب ميراث الأنبياء:

- اقيلوني بيعتي...

و نظر الرجال الي حيث كشفت فاطمة آفاق المستقبل فإذا السحب الحمراء مخزونة بالرعود و الأرض ملغومة بالزلازل و أنهار من دمّ، و جماجم وضحايا. وفرّ الإنسان.. ألقي أمانة تهيبت السماوات والأرض عن حمْلها و حمَلها الإنسان انه كان ظلوماً جهولا.

[ صفحه 223]

القسمت 38

كما تذوي الشموع في قلب الظلمات... كما تذوب و تسيل دموع التوهج.. كانت «فاطمة» تذوي.. قوامها يزداد نحولاً...

قرّرت فاطمة الصمت و ان تصوم كما صامت مريم من قبل... و أدرك عليّ ان الرحيل و شيك و ان

«البيت» الذي بناه من جريد النخل «بالبقيع» سيكون ملجأً لفاطمة... بيتاً للأحزان و الآلام... سيشهد ذلك البيت انطفاء الشموع.. رحيل النجوم... و مصرع شمس أضاءت حياته مدّت بالدف ء.. النور.. الأمل.

سكتت فاطمة. والذين اشتكوا من بكائها لم يعودوا يسمعون انيناً ينبعث من أعماق قلب كسير. لم يعد أحد يسمع نشيجها الّا الذين يمرّون ب«البقيع»..

غابت فاطمة كما تغيب النجوم خلف السحب الدكناء. غابت فاطمة كفراشة تبحث عن الشمس... عن ربيع مضي تطارده رياح شتائية.

[ صفحه 224]

غابت فاطمة.. لم يعد أحد يسمع بها.. انها تذوي وحيدة في بيت من جريد النخيل غادرته الحياة.. الملائكة لا تريد حياة الأرض، والحوريات لا تعيش في عالم التراب.. والذين اكتشفوا السماء لن يطيقوا الانتظار...

و عندما يدرك الأنبياء ان مواعظهم لاتجد آذاناً واعية سيتحدّثون بلغة الصمت...

في بيت الأحزان كانت فاطمة تذوب كشمعة متوهّجة تحرق نفسها لتبعث النور والدف ء من حولها... فاطمة تتحدّث بلغة الشموع لغة لا يسبر غورها إلّا فراشات النور. ها هي فاطمة تصرخ بصمت:

- بدويّ صمتي اناديكم.. ثورتي تنطوي في حزني.. و رفضي كامن في دموعي.

و هذا كلّ ما أملكه من لغة... علّكم تفهمون خطابي. انا مظلومة يا ربيّ...

حرّرني من هؤلاء.

ذوت الشمعة... أحرقت نفسها. لم يبق منها إلّا حلقات من نور... آن لها أن تنطفئ. الوجه يشبه قمراً أنهكته ليلة شتائية طويلة بدا مصفرّاً... و كان الصوت واهناً تحمله أمواج حزينة... والدموع غزيرة كمطر سماء غاضبة...

[ صفحه 225]

رتبت «اسماء» فراش سيدتها و سيّدة كلّ امرأة في التاريخ...

لم يعد الجسد الواهن قادراً علي تحمل روح عظيمة تريد الانطلاق إلي عوالم لانهائية.

وجاء الشيخان

يريدان عيادتها و قد أوجسا خيفة...

فاطمة غاضبة... ينشدان رضاها.. رضا السماء و الأرض والتاريخ.

هكذا قال محمّد من قبل ولكن انّي لهما ذلك و فاطمة تكاد تميز من الغيظ..

قال عمر لعليّ و هو يحاوره:

- يا أباالحسن ان أبابكر شيخ رقيق القلب و كان مع رسول اللَّه في الغار.. و قد أتيناها غير هذه المرّة فلم تأذن لنا.. فاستأذن لنا منها

ماذا يقول أبوحفص كيف يفكّر هذان الرجلان.. نهض عليّ جلس عند فاطمة و قال مستأذناً:

- يا بنت رسول اللَّه قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت وقد تردّدا مراراً ورددتهما.. وقد جاءا الآن يسألاني الأذن.

- و اللَّه لا أُكلّمهما حتي ألقي أبي.

- يا بنت محمّد.. اني قد ضمنت لهما الاُذن.

[ صفحه 226]

- امّا وقد ضمنت لهما شيئاً فلا اخالفك.

شعر أبوبكر بالأمل يراود قلبه و نظر إلي صاحبه بامتنان.

- السلام عليك يا بنت رسول اللَّه.

-...

- إنّا جئنا نسألك العفو و قد أقررنا بالإساءة.

-...

- ارضي عنا رضي اللَّه عنك.

-...

- لا تحوّلي وجهك عنّا.. انّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا...

قالت فاطمة كلمتها الأخيرة:

- ان كنتما صادقين فاخبراني عمّا أسألكما.

- سلي يا بنت رسول اللَّه.

- نشدتكما باللَّه هل سمعتما أبي يقول: فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني؟

- اللّهم نعم.

رفعت الزهراء يديها امام محكمة السماء:

- اللّهم اشهد فانّهما قد آذياني.. وأني اشكوهما اليك.

انتفض أبوبكر. ودّلو تبلعه الأرض.

[ صفحه 227]

- يا ويلي.. يا ويلي.. ليتني لم اتّخذك خليلا. لقد ضللتني عن الذكر بعد إذ جاءني.

أجاب صاحبه و كان فضّاً غليظ

القلب:

- لا تجزع يا خليفة الرسول لغضب امرأة.

هتف بمرارة.

- اقيلوني.. فقد ترضي فاطمة.

رمقه عمر بعينين متنمّرتين:

- ماذا تقول يا خليفة الرسول... أترضي فاطمة و تغضب عائشة... والأقربون أولي بالمعروف. ولقد قضي الأمر.

وقف أبوبكر عاجزاً عن صدّ الرياح وهي تعدو مجنونة تهزّ شجرة غرسها رسول السماء تريد أن تجتثها من فوق الأرض.

وقف الخليفة عاجزاً عن توجيه قافلة التاريخ الجهة التي أرادها سيّد التاريخ وهاهو يتّخذ طريقه في الصحراء سربا.

و تمرّ الأيام و الرياح المجنونة التي تريد اجتثات شجرة غرستها السماء في الأرض... تكاد تأتي علي شمعة تسيل دموعها قطرات حزينة... ولسوف تنطفئ بعد حين.

[ صفحه 229]

القسمت 39

هوت الشمس.. اشتعلت حمرتها في الاُفق كجراح الشهداء... و شيئاً فشيئا زحفت كتائب المساء و لملمت الشمس خيوطها و رحلت بعيداً.. و ظهرت نجيمات تومض بأمل و فاطمة مشغولة دبّت في جسدها عروق الحياة.. قالت لاسماء بسكينة:

- اسكبي لي غسلاً.

فرحت اسماء و هي تري سيدّتها تقبل علي الحياة تخطو نحو العافية.

اغتسلت فاطمة... تطهّرت من أدران الأرض وارتدت ثياباً جدداً.. و تعطّرت بكافور كان جبريل قد أهداه إلي أبيها...

قالت فاطمة وقد شاعت ابتسامة في وجهها.

-افرشي لي وسط البيت...

فاطمة تستعد للرحيل... لم يكن في البيت أحد سوي اسماء...

[ صفحه 230]

اسماء تراقب فتاة تشعّ نوراً كلما اشتدت ظلمة الأرض.

قالت فاطمة قبل أن ترقد:

- يا أسماء أنا استقبح ما يفعل بالمرأة بعد الموت يطرح عليها ثوب فيصفها للناظر... ألا تصنعين لي شيئاً يسترني.

أجابت اسماء تطيب خاطرها:

- كنت بأرض الحبشة فرأيتهم يصنعون شيئاً فان أعجبك صنعت لك

مثله.

هزّت فاطمة رأسها موافقة.. و راحت تراقب اسماء و قد تدفّقت ينابيع الأمل في قلبها الكسير.

أحضرت السماء سريراً فأكبّته علي وجهه ثم جاءت بجريد النخل و أوصلت بين قوائمه و شدّتها بحبال من الليف... ثم ألقت عليه غطاءً.

بان الرضا في وجه حورية الأرض وابتسمت:

- نعم اصنعي لي مثله.. ما أجمل هذا يا اسماء... استريني سترك اللَّه.

تمدّدت فاطمة في فراشها ثم وضعت يدها تحت خدّها.. أغمضت عينيها ونامت... و كانت اسماء قد سمعتها تتمتم بصوت ملائكي:

- السلام علي جبريل. الهي في رضوانك و جوارك ودارك دار السلام.

[ صفحه 231]

فاحت في الفضاء رائحة الجنّة.. كانت اسماء تنظر إلي وجه ملائكي لسيّدة ودّعت الأرض في عنفوان الشباب زهرة ذابلة في قلب الربيع.. حمامة بيضاء كسيرة الجناح.. حوريّة شهيدة.

وجاء عليّ وقد بدا مكسور الظهر كما لو انّه يحمل جبالاً من الحزن و بيد مرتعشة ناولته اسماء رقعة كانت فاطمة قد كتبتها قبل أن تغفو:

تجمعت الدموع في عينيّ عليّ كغيوم ممطرة و غرقت الكلمات كحمائم تتقاذفها الأمواج.

- بسم اللَّه الرحمن الرحيم.. هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله.. وهي تشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأن محمداً عبده و رسوله.. و ان الجنّة حقّ والنار حقّ و ان الساعة آتية لا ريب فيها و ان اللَّه يبعث مَن في القبور...

يا عليّ أنا فاطمة بنت محمّد زوجني اللَّه منك لأكون لك في الدنيا و الآخرة..

حنطني و غسلني وكفّني وصلِّ عليّ وادفنّي بالليل و لا تُعلم أحداً، و أستودعك اللَّه إلي يوم القيامة.

وقف عليّ مذهولاً، كانت فاطمة سكناً.. ملاذاً و

كانت عزاءه الوحيد.. وهاهي تودّعه.. تتركه وحيداً في مهب اعصار فيه نار.

[ صفحه 232]

وقف عليّ ينوء بجبال الحزن بركام الغيوم.. ولقد توقف القلب الذي كان يتدفق حبّاً وانطوت صفحة كانت مشرقة وانطفأ شعاع كان يضي ء طريقه في الحياة...

وانكسر «ذوالفقار»... و تمزّقت أوتار الفرح.. الظلام يغمر الأرض و النجوم تشتدّ بريقاً كعيون تتطلّع إلي كوكب تهشم فوق الأرض.

وقف التاريخ حائراً، وقد اشتدّت ظلمة الليل والحزن يجوس المدينة كغيمة تبكي بصمت، وعواء ذئاب بعيدة تنذر برحيل السلام.

هاهي الحورية تترك الأرض لأهل الأرض و تعود إلي السماء.

وجاء أهل المدينة يوارونها الثري فقال لهم أبوذر:

- انصرفوا فقد أُخّر إخراجها.

انصرف الناس فيما ظلّ التاريخ حائراً يترقّب.

نامت المدينة.. اغمضت اجفاناً مثقلة بالحزن و الدموع... بدت يثرب تلك الليلة راهبة تبكي بصمت.

[ صفحه 233]

القسمت 40

فاطمة نائمة واضعة يدها تحت خدّها... وقد غادرت الروح العظيمة أهاب جسد نحيل ينتظر عودته إلي عناصر التراب فقد ناء بحمل الروح و آن له ان يستريح.

لم يكن في حجرة فاطمة أحد سوي صبيين و بنت ورجال صدقوا.

كان التاريخ يصغي إلي تمتمات صلاة و بكاء يحكي نشيج الميازيب في مواسم المطر.

شعر التاريخ بالاعياء وهوّمت عيناه و هو ينتظر في الظلام.. اغمض عينيه فانسلّت فاطمة كطيف مضي ء.. ولمّا استيقظ لم يجد شيئاً ووجد علياً واقفاً ينفض عن نفسه الغبار و يهمس في اُذن الرسول:

- السلام عليك يا رسول اللَّه عني وعن ابنتك النازلة و السريعة

[ صفحه 234]

اللحاق بك، قلّ يا رسول عن صفيتك صبري ورق عنها تجلّدي... امّا حزني فسرمد، و امّا ليلي فمسهّد،

إلي ان يختار اللَّه لي دارك التي انها بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتظافر امّتك علي هضمها، فأحفها السؤال و استخبرها الحال، هذا و لم يطل العهد و لم يخلُ منك الذكر والسلام عليكما سلام مودّع لا قالٍ و لا سئم، فان انصرف فلا عن ملالة، و ان أقم فلا عن سوء ظنٍّ بما وعد اللَّه الصابرين.

ونهض عليّ يواجه الدنيا وحيداً، يشعر بالغربة فلقد واري بيده آماله و قلبه و سيفه ذاالفقار... وتمتم بحسرة:

- فقدُ الأحبة غربة.

وقف التاريخ يقلّب كفيّه علي ما انفق من وقت وهاهي فاطمة ترحل بصمت لايعرف أين مستقرّها. ماذا سيقول للعالم. انّه لايعرف عن هذه الفتاة شيئاً...

فقائل يقول انّها جاءت إلي الدنيا قبل أن يهبط جبريل بخمس سنين، وقائل يقول بل بعد جبريل بخمس سنين، وآخر يقول وهو ثالث القائلين.. انّها جاءت مع جبريل ثم مكثت في الأرض عدد سنين فلما غادر جبريل الأرض أخذها معه.

لكأنها حورية جاءت إلي الدنيا ثم عادت إلي الجنّة تخطر بين الأشجار الخالدة ليبقي طيفها في الأرض مادامت السماوات.

[ صفحه 235]

استيقظت المدينة تبحث عن فاطمة وقد رحلت فاطمة...

وجاء الشيخان يبحثان في الأرض و كان أحدهما يتوعد... حتّي همّ بنبش رفاة المقابر وكان التاريخ يجوس خلال البقيع يقلّب كفيه حائراً لا يدري أين فاطمة..

شمّ رائحة الجنّة في بقعة بالبقيع.. فقال: هنا ترقد فاطمة.. وفاحت رائحة الفردوس حيث يرقد محمّد بسلام.. فقال: بل هاهنا ورأي ملائكة تهبط في حجرتها فأشار بيده المعروقة وهتف: بل هناك.

وحار الشيخ ماذا يقول للقوافل المسافرة كلّما مرّت امّة سألته عن قبر لفاطمة فيقلّب كفّاً معروقة و يقول:

- لا أدري.

و

تمضي القوافل تسخر من شيخ يفتح عينيه علي كلّ شي ء إلّا علي فاطمة..

و لمّا ضاق الشيخ ذرعاً بالقوافل عاد إلي حجرة فاطمة يعتذر اليها.. اشعل شمعة وراح يراقبها.. كانت الشمعة تتوّهج.. تذوب.. تسيل دموعها بصمت.. و شيئاً فشيئاً كانت تذوي ويخبو نورها حتي انطفأت وساد الظلام.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.