من سيرة العظماء (فاطمة بضعة مني)

اشارة

سرشناسه : شاکری حسین 1304 - عنوان و نام پديدآور : فاطمه بضعه منی/ مولف حسین الشاکری. مشخصات نشر : قم: الموسسه الاسلامیه العامه للتبلیغ والارشاد 1432 ق. 1390. مشخصات ظاهری : 272 ص. ؛ 12 × 17 س م. فروست : من سیره العظماء. شابک : 978-600-6197-78-4 وضعیت فهرست نویسی : فیپا يادداشت : عربی. يادداشت : چاپ دوم. موضوع : فاطمه زهرا (س)، 8؟ قبل از هجرت - 11ق رده بندی کنگره : BP27/2 /ش23ف2 1390 رده بندی دیویی : 297/973 شماره کتابشناسی ملی : 2509913

الاهداء

سيدي ابا الزهراء...

ارفع لمقامك السامي...

صحائف ولائي... و بضاعتي المزجاة.. و جهدي الخالص مظهرا بعض مظلومية بضعتك الطاهرة.. راجيا منك التفضّل بالقبول كما انت اهله.. ليكون ذلك ذخرا لي و لوالديّ في يوم لا ذخر فيه الا شفاعتك و شفاعة ابنتك و بعلها و بينها الطاهرين.

صلوات الله عليك و عليهم اجمعين

العبد المنيب

حسين الشاكري

[ صفحه 5]

المقدمة

الحديث عن العظماء والعباقره، والشخصيات المميزة، صعب مستصعب، و ذلك لعظمة ما يحملون من القيم الإنسانيه والاهداف السامية.

ولأجل أن نستكشف بعض مزايا هذا العظيم أو ذاك، نحتاج الي وقفات من التفكّر و التدبر قبل الغور في سبر تلك الشخصية و اني لنا ذلك؟ «فصفات ضوء الشمس يذهب باطلا».

هذا إذا عرفنا انّ الحديث عن الانبياء والمرسلين و اوصيائهم هو من ذلك النمط،بإعتبار ان هذه الشخصيات تمثل القمة في الاخلاق والمثل العليا في الانسانيه،و لهم من الشرف الذي منحه سبحانه و تعالي إياهم مما جعلهم متميزين عن سائر البشر في الخلق والسلوك والقيم الإنسانية.

[ صفحه 6]

فالنبي العظيم محمد بن عبداللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إذا ما تخطينا سلسله الانبياء والمرسلين منذ أن خلق اللَّه سبحانه و تعالي آدم عليه السلام و أودع فيه ذلك النور، و أمر ملائكته و سكان سماواته أن يسجدوا لآدم تكريماً لذلك النور، فسجد من سجد و كفر من كفر.

و لقد تدرجت هذه الأنوار و انتقلت من صلب شامخ إلي رحم طاهر، كابراً عن كابر،مروراً بالمرسلين والأنبياء، فنوح، و إبراهيم، و إسماعيل عليهم السلام، و ما بينهم من الأنبياء والحنفاء والموحدين والصالحين، حتي استقر ذلك النور في صلب الحنيفي

الموحد عبدالمطلب ابن هاشم، و كلّ حلقة من سلسلة هذا النسب الشريف موحدين حنفاءللَّه، و هذا ما أكده العقل والفطرة السليمة، والأحاديث النبوية الشريفة التي ردت عن المبلغ الأمين لوحي السماء صلي اللَّه عليه و آله و سلم كما نقله جلّ العلماء في أسانيدهم و صحاحهم، و يشهد علي ذلك التاريخ السليم.

[ صفحه 7]

و كذا نجد هذه الصفوة المختارة من اللَّه سبحانه ليكونوا مصداقاً لخلفاء اللَّه في الارض، في تبليغ و تحقيق أهداف شريعه السماء علي الارض، في تبليغ و تحقيق أهداف شريعه السماء علي الارض، و هم الذين يحملون تلك الأنوار الالهيه الساطعه التي أودعها سبحانه و تعالي في صلب آدم عليه السلام.

و ببركه ذل النور، جعل نار نمرود بردا و سلاما علي خليله ابراهيم، و بذلك النور، نجّي اللَّه سبحانه رسوله نوحا و سفينته من الغرق، و من ذلك النور، فلق اللَّه سبحانه البحر لموسي بن عمران، و نجّاه و أصحابه من الغرق و من طغيان فرعون و بالايات التسع، ولأجل ذلك النور، أعطي اللَّه سبحانه و تعالي المعاجز والآيات لرسله و أنبيائه، و خلصهم من طواغيت زمانهم و فراعنتها.

ثم إنشطر ذلك النور الي قسمين فقسم أودع في صلب عبداللَّه، والقسم الثاني أودع في صلب عبد مناف «أبي طالب» إبني عبدالمطلب.

[ صفحه 8]

و هكذا شاءت حكمة الباري جلّت قدرته في تقسيم هذا النور، و تنظيم هذا الأمر، و لا دخل فيه للإنسان أو الصدف قطعا و لا القضاء والقدر، بل هي مشيئة ربانيّة و إرادة وحده الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال والجمال والجلال اقتضت ذلك جلّت قدرته.

ثمّ انبثق النور الأول في سيد الكائنات،

و أشرف المخلوقات محمد بن عبداللَّه المصطفي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لينتقل و يستقر و يكون تلك النسمة الطاهرة فاطمة الزهراء عليهاالسلام و ينبثق القسم الثاني من النور و يستقر في مولي الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام.

و لم يكن إنشطار هذا النور من صلب عبدالمطلب بن هاشم إلي نورين، إلا لأجل أن يلتقيا ثانية، و يتّحدا في علي و فاطمه عليهماالسلام و هنا يكمن السرّ، لينجلي الحال.

مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.

حسين الشاكري

[ صفحه 9]

البيت الأول في الإسلام

نعم،... اجتمع شمل محمّد و خديجه، و تأسست الاسرة، و بني البيت الذي يغمره الحبّ والسعاده والحنان والدف ء العائلي والتفاهم، فقد كانت خديجة أول من آمن بدعوه الرسول الاكرم صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و بذلت كلّ ما بوسعها من أجل أهدافه المقدسة، و جعلت ثروتها بين يدي الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم و قالت: جميع ما أملك بين يديك و في حكمك، اصرف كيف تشاء في سبيل إعلاء كلمه اللَّه و نشر دينه.

و تأسست أول أسرة في الإسلام من محمد، و خديجه، و كانت بذرة الثورة الإسلامية العالمية، و تحملت وظائفها الجسام، و مسؤوليتها الشاقه في محاربة الكفر والشرك و عبادة الأوثان، و نشر راية التوحيد في العالم، و إشاعة العدل في ربوعه، ثم انظم الي ذلك البيت علي أخوه و ابن عمه و تربي في كنفه،

[ صفحه 10]

فكانت هذه الجينات الثلاثة هي بذره الاسلام

و لم يك علي وجه الارض بيت اسلامي سواه، و هو القاعده الاولي للتوحيد التي ضمت جنودا

أوفياء، تجهزوا و استعدوا للنفوذ إلي العالم، و فتح قلوب الناس، و بثّ عقيده التوحيد فيها.

نعم.... هذا هو منبت الزهراء... فقد ولدت لابوين مضحيين، و في جو يغمره الحب والحنان والوئام.. في بيت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

و هذه هي خديجه اُم فاطمه، و ذاك ابوها محمد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، ففي اجواء هذا البيت ولدت الزهراء، و تحت هذه الظلال عاشت و ترعرعت، و في هذه الرعاية نشأت و تربت، و كان طبيعياً أن توثر هذه البيئة العائلية علي حياه فاطمه، و شخصيتها، فتتأثر بأبويها، و تقتدي بخيرة خلق اللَّه، خلقاً و إنسانية... فكانت خيرة النساء، و قدوة المرأة المسلمة، و اُم الأئمة الهداة.

[ صفحه 11]

و ممّا لا شك فيه فإن عوامل الوراثة والبيئة هذه والتي توفرت لفاطمة عليهاالسلام.... مع بقيه العوامل قد صاغت منها الوليده الاولي في عالم الاسلام لايضاهي...

هذه فاطمه الزهراء عليهاالسلام سليلة أبوين جمعا المكارم بكل أطرافها.

سليلة الرسالة السماوية والوحي الالهي و طيب الاُرومة.

سليله النور والمآثر الحميدة والمجد التليد.

هذه نظرة خاطفه، للاُسس والركائز التربوية الفذة التي أنشأت سيدتنا الطاهرة فاطمة الزهراء عليهاالسلام سيدة نساء العالمين و بذلك تظهر الحقائق في حياتها علي ضوء الوراثة.

ولادتها

وقع الخلاف بين علماء الاسلام في تاريخ

[ صفحه 12]

ولادتها عليهاالسلام إلا ان المشهور عند العلماء الامامية ان ولادتها عليهاالسلام كانت يوم الجمعة في العشرين من شهر جمادي الثاني، السنة الخامسة بعد البعثة، منهم ابن شهراشوب في المناقب 3/ 357، والكليني في اصول الكافي 1/ 458 والمجلسي في بحارالانوار 34/ 6، و حياة القلوب 2/ 149،

والمحدث القمي في منتهي الآمال 1/ 94، و علي بن عيسي الاربلي في كشف الغمه 2/ 173، والطبري في دلائل الامامه ص 10، والفيض الكاشاني في الوافي 1/ 173.

و اكثر العلماء العامه قالوا: انها ولدت عليهاالسلام قبل البعثة.

قال عبدالرحمن بن الجوزي في كتاب تذكرة الخواص ص 306.

قال علماء السير، اولدتها خديجة و قريش تبني البيت الحرام قبل النبوة بخمس سنين.

و قال: محمد بن يوسف الحنفي في كتاب «نظم درر

[ صفحه 13]

السمطين» ص 175 ولدت و قريش تبني الكعبة.

و روي الطبري في ذخائر العقبي ص 53 عن ابن عباس: ولدت فاطمه و قريش تبني البيت و رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ابن خمس و ثلاثين سنة.

و قال: ابوالفرج في كتاب مقاتل الطالبيين ص 30: كان مولد فاطمه عليهاالسلام قبل النبوة و قريش حينئذ تبني الكعبة.

اسماء فاطمة و ألقابها و كناها

عدّد أبوجعفر القمي أسماء فاطمه عليهاالسلام علي ما نقله عنه ابن شهرآشوب في مناقبه و هي كما يلي:

فاطمة، البتول، الحصان، الحرة، السيدة، العذراء، الزهراء، الحوراء، المباركة، الطاهرة، الزكية، الراضية، المرضية، المحدثة، مريم الكبري، الصديقه الكبري.

و يقال لها في السماء.

[ صفحه 14]

النوريه، السماوية، الحانية [1] .

و قال الامام الصادق عليه السلام:«(لجدتي) فاطمه تسعه اسماء عند اللَّه عز و جل:

فاطمه، الصديقه، الزهراء، الطاهرة، الزكية، الراضية، المرضية، المباركة، المحدثة».

و كانت تلقب بالزهراء والبتول.

و كانت تكنّي بأمّ الحسن والحسين و اُم ابيها، و اُم الأئمة.

و قال النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «إنّما سمّيت إبنتي فاطمه لأن اللَّه فطمها و فطمن محبيها عن النار» [2] .

وفاة الام

و مما يزيد القلب حسره والما وفاة ام المؤمنين

[ صفحه 15]

خديجه عليهاالسلام قبل مضي اقل من سنة علي خروجها و زوجها النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و بني هاشم من حصارهم في شعب ابي طالب [3] .

والزهراء لم تذق طعم الحياة بعد حين فجعت بوفاة امها، فاخذ هذا الحادث منها مأخذا عظيما، و انهمرت دموعها الساخنة علي فقدان امها الحنونة، و هي تبحث عنها في كل مكان، فان يتم الام اعظم عاطفياً من يتم الاب لدي الطفل لا سيما اذا كانت بنتاً.

فجعلت تلوذ بابيها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و تدور حوله و تقول:«ابه ابه اين امي؟» فنزل جبرئيل عليه السلام فقال له: يا محمد ربك يأمرك ان تقرأ فاطمة السلام، و تقول لها ان امك في بيت من قصب لا تعب فيه و لا نصب. [4] .

[ صفحه

16]

زواج الزهراء

من مبادئ الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم الحثّ علي الزواج و دفع الشباب المسلم إلي بناء البنية الإجتماعية المسلمة علي مكارم الأخلاق والعفّة والكرامة و تكوين اُسرة صالحة تستطيع أن تكون لبنه أساسية لمجتمع صالح ذوقيم أخلاقية فاضله، لتحمل مسؤولياتها الي الاجيال الصاعدة، كما أمر اللَّه سبحانه و تعالي به في محكم كتابه المجيد:

(و أنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم و إمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم اللَّه من فضله واللَّه واسع عليم) (النور: 32).

كما وردت احاديث و روايات كثيرة في الحث علي الزواج و تكوين الاُسره النظيفه منها:

قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم «من تزوج فقد أحرز نصف

[ صفحه 17]

دينه، فليتق اللَّه في النصف الآخر» [5] .

و لم يكتف صلي اللَّه عليه و آله و سلم بالحثّ علي الزواج نظرياً و إنما عمد إلي تطبيق ذلك عملياً و ببساطه بعيده عن التعقيد والتكليف.

و كانت عليهاالسلام تمتاز من صغر سنّها بالنضج الفكري، والرشد العقلي، و قد وهب اللَّه تعالي لها عقلا كاملا و ذهنا و قادا، و ذكاء حادا و حسنا و جمالا في إشراقة محياها النورانية؛ فما أكثر مواهبها و ما أعظم فضائلها، و هي تكبر يوماً بعد يوم تحت ظلال النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

فما أن أدركت عليهاالسلام مدرك النساء حتي خطبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقه في الإسلام والشرف والمال، و كان كلّما ذكرها رجل من قريش لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أعرض عنه الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم بوجهه،

حتي كان

[ صفحه 18]

الرجل منهم يظن في نفسه انّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ساخط عليه [6] .

و رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم كان قد حبسها علي علي، و يرغب في أن يخطبها منه [7] ، لانّه مأمور أن يزوّج النور من النور [8] .

اقتراح

ذات يوم كان أبوبكر و عمر جالسين في مسجد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و معهما سعد بن معاذ الانصاري، فتذاكروا فاطمه بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، فقال أبوبكر: قد خطبها الأشراف من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، فقال أبوبكر: قد خطبها الأشراف من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فقال: إنّ أمرها إلي ربّها، إن شاء يزوّجها زوّجها. و إنّ علي بن أبي طالب لم

[ صفحه 19]

يخطبها من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و لم يذكرها له، و لا أراه يمنعه من ذلك إلا قلّة ذات اليد، و إنّه ليقع في نفسي ان اللَّه- عز و جل-، و رسوله صلي اللَّه عليه و آله و سلم انما يحبسانها عليه، فإن منعه قلّة ذات اليد و اسيناه و أسعفناه، فقال له سعد بن معاذ: وفقك اللَّه.

تأجج العواطف

عاش علي عليه السلام و فاطمه عليهاالسلام تحت سقف واحد [9] و تخرّجا من مدرسة واحدة، هي مدرسة النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و خديجه (رضي اللَّه عنها)، و قد عرف علي فاطمة عن كثب، و هو يعلم أنّ الأرض لا تحمل علي ظهرها إمرأة كفاطمة جمعت الفضائل والكمالات، و حبّها في أعماق قلبه خالص صميميّ، والفرصة تمرّمرّ السحاب و قد لا تعود.

[ صفحه 20]

علي يتقدم للخطبة

فقال له: «يا أباالحسن، اني اري انك اتيت لحاجه، فق حاجتك و أبد ما في نفسك،فكلّ حاجة لك عندي مقضية».

قال علي عليه السلام: فقلت: «فداك أبي و اُمي إنك أخذتني من عمّك أبي طالب و من فاطمة بنت أسد و أنا صبي، فعذيتني بغذائك، و أدبتني بأدبك، فكنت الي أفضل من أبي طالب و من فاطمه بنت أسد في البر والشفقة، و إن اللَّه تعالي هداني بك و علي يديك. و إنك واللَّه ذخري و ذخيرتي في الدنيا والآخرة، يا رسول اللَّه فقد أحببت مع ما شدّ اللَّه من عضدي بك، أن يكون لي بيت و أن تكون لي زوجه اسكن اليها، و قد أتيتك خاطباً راغباً، أخطب إليك إبنتك فاطمه، فهل أنت مزوّجي يا رسول اللَّه؟».

[ صفحه 21]

فتهلل وجه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فرحا و سرورا، و أتي فاطمه فقال: «ان عليا قد ذكرك و هو من قد عرفت». فسكتت، فقال: «اللَّه اكبر، سكوتها رضاها»، فخرج فزوجها [10] .

زواجها في السماء

قال ابن أبي الحديد: و إن إنكاحها علياً إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه اللَّه تعالي إياها في السماء بشهادة الملائكة [11] .

عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: «اتاني ملك فقال: يا محمّد إنّ اللَّه يقرأ عليك السلام و يقول لك: إنّي قد زوّجت فاطمه إبنتك من علي بن أبي طالب في الملاء

[ صفحه 22]

الأعلي فزوّجها منه في الأرض» [12] .

و عن جابر بن عبداللَّه قال: لمّا زوّج رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فاطمه من علي عليهماالسلام كان اللَّه تعالي مزوّجه من فوق عرشه

[13] .

و عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: إنّما أنا بشر مثلكم، أتزوج فيكم و أزوّجكم إلّا فاطمة، فإنّ تزويجها نزل من السماء» [14] .

و عن علي عليه السلام قال: «قال لي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: يا علي لقد عاتبني رجال من قريش في أمر فاطمة، و قالوا: خطبناها إليك فمنعتنا و زوّجت عليا، فقلت لهم: واللَّه ما أنا منعتكم و زوّجته، بل اللَّه منعكم و زوّجه،فهبط علي جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ اللَّه- جلّ جلاله- يقول: لو لم

[ صفحه 23]

أخلق علياً لما كان لفاطمة إبنتك كف ء علي وجه الأرض آدم فمن دونه» [15] .

نقل الشيخ البهائي رحمةاللَّه عن والده رحمه اللَّه في كشكوله: وجد در مكتوب فيه:

أنا در من السما نثروني

يوم تزويج والد السبطين

كنت أصفي من اللّجين بياضاً

صبغتني دماء نحر الحسين [16] .

التوافق

قالت اُم سلمة: فرأيت وجه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يتهلّل فرحاً و سروراً، ثمّ تبسم في وجه علي عليه السلام فقال:«يا أبا

[ صفحه 24]

الحسن فهل معك شي ء أزوّجك به؟».

فقال علي عليه السلام: «فداك أبي و اُمّي، واللَّه ما يخفي عليك من أمري شي ء؛ أملك سيفي و درعي و ناضحي، و ما أملك شيئاً غير هذا».

فقال له رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «يا علي أما سيفك فلا غني بك عنه، تجاهد به في سبيل اللَّه، و تقاتل به أعداء اللَّه، و ناضحك تنضح به علي نخلك و أهلك، و تحمل عليه رحلك في سفرك،

ولكنّي قد زوجتك بالدرع و رضيت بها منك.

يا أباالحسن أ أبشرك؟!».

قال علي عليه السلام قال: «نعم فدك أبي و اُمّي بشّرني، فإنّك لم تزل ميمون النقيبة، مبارك الطائر، رشيد الأمر، صلّي اللَّه عليك».

فقال لي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «اُبشرك يا أباالحسن! فإنّ اللَّه-عز و جل- قد زوجكها في السماء من قبل أن

[ صفحه 25]

أزوّجكها في الأرض، و لقد هبط علي في موضعي من قبل أن تأتيني جبرئيل من السماء فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه- عز و جل- اطلع إلي الأرض اطلاعة، فاختارك من خلقه فبعثك برسالته، ثم اطلع إلي الأرض ثانيه فاختار لك منها أخاً و وزيراً و صاحباً و ختناً فزوّجه إبنتك فاطمه عليهاالسلام، و قد احتفلت بذلك ملائكة السماء. يا محمّد، ان اللَّه- عز و جل- أمرني أن آمرك أن تزوّج علياً في الأرض فاطمة، و تبشر هما بغلامين زكيين نجيبين طاهرين خيّرين فاضلين في الدّنيا والآخرة، يا أباالحسن فواللَّه ما عرج الملك من عندي حتي دققت الباب».

مهر الزهراء

1- درع بمبلغ 400 درهماً، و قيل 480 درهماً، و قيل 500 درهماً.

[ صفحه 26]

2- برد حبرة [17] .

3- إهاب [18] .

عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«كان صداق فاطمة برد حبرة، و إهاب شاة علي عرار» [19] .

و روي في الكافي: زوّج النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم فاطمة من علي علي جرد برد [20] .

جهاز الزهراء

أقبل رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فقال لعلي:

«يا أباالحسن انطلق الآن فبع درعك، و ائتني بثمنه،

[ صفحه 27]

حتي أهيي لك ولإبنتي فاطمه ما يصلحكما.

قال علي: «فانطلقت فبعته باربعمائة درهم سود هجرية (و روي 480، و روي 500)، و أقبلت إلي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فطرحت الدراهم بين يديه، فأعطي قبضة إلي اُمّ سلمه للطعام، و أنفذ عماراً و أبابكر و بلالاً لابتياع ما يصلحها».

و كان ما اشتروه.

1- قميصاً.

2- خماراً.

3- قطيفة سوداء خيبرية.

4- سريراً مزملاً بشريط.

5- فرشين من خيش [21] مصر، حشو أحدهما ليف، و حشو الآخر من جزّ الغنم.

[ صفحه 28]

6- أربع مرافق من أدم الطائف، حشوها إذخر [22] .

7- ستراً من صوف.

8- حصيراً هجرياً.

9- رحاً لليد.

10- سقاء من أدم.

11- مخضباً من نحاس [23] .

12- قعباً للّبن [24] .

13- شناً للماء [25] .

14- مطهرة مزفتة [26] .

15- جرّه خضراء.

[ صفحه 29]

16- كيزان خزف.

17- نطعاً من أدم.

18- عباءة.

19- قربة ماء.

قالوا: و حملناه جميعاً حتي وضعناه بين يدي

رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، فلمّا نظر اليه بكي و جرت دموعه، ثمّ رفع رأسه إلي السماء و قال:

«اللّهم بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف» [27] .

اثاث بيت الإمام علي

و كان من تجهيز علي داره:

1- إنتشار رمل لين. (فرش عليه السلام بيته بالرمل).

2- نصب خشبة من حائط إلي حائط للثياب.

[ صفحه 30]

3- بسط إهاب كبش.

4- منخل.

5- قربة للماء [28] .

و عن أبي يزيد قال: لمّا اُهديت فاطمة إلي علي لم تجد عنده إلا رمل مبسوط، و وسادة، و جرّة، و كوزا [29] .

حفل الزفاف

و روي أنّ النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: «يا علي، إصنع لأهلك طعاماً فاضلاً».

و جاء أصحابه بالهدايا.

و أمر النبي فطحن البر (الحنطة) و خبز، و ذبح الكبش، و اشتري علي تمراً و سمناً، و أقبل رسول

[ صفحه 31]

اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و حسر عن ذراعه، و جعل يشدخ التمر بالسمن فقال:«يا علي، أدع من أحببت».

قال علي عليه السلام: «فأتيت المسجد و هو غاص بالناس، فناديت: أجيبوا إلي وليمة فاطمه بنت محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم. فأجابوا من النخلاء والزروع، و أقبل الناس إرسالاً و هم أكثر من أربعة آلاف رجل، و سائر نساء المدينة و رفعوا منها ما أرادوا، و لم ينقص من الطعام شي ء، ثم دعا رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بالصحاف والأواني فملئت و وجه بها إلي منازل أزواجه، ثمّ أخذ صحيفه، و قال: «هذه لفاطمه و بعلها».

الزفاف

كان النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أمر نساءه أنّ يزيّن فاطمه و يطيبنها ثمّ دعا بإبنته فاطمة و دعا بعلي عليه السلام فأخذ علياً بيمينه و فاطمة بشماله و جمعهما إلي صدره فقبّل بين أعينهما،

[ صفحه 32]

ثمّ دعا فاطمة و أخذ بيدها فوضعها في يد علي. و قال: «بارك اللَّه لك في إبنة رسول اللَّه، يا علي؛ نعم الزوج فاطمه، و يا فاطمة نعم البعل علي».

و في رواية: قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «يا علي هذه وديعتي عندك».

و في كتاب مولد فاطمة عن ابن بابويه في خبر: أمر النبي صلي اللَّه

عليه و آله و سلم بنات عبدالمطلب و نساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة، و أن يفرحن و يرجزن و يكبرن و يحمدن، و لا يقلن ما لا يرضي اللَّه.

قال جابر: فأركبها علي ناقته- و في رواية علي بغلته الشّهباء- و أخذ سلمان زمامها، و حمزه و عقيل و جعفر و أهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم، و نساء النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم قدّامها يرجزن فأنشأت اُمّ سلمه:

سرن بعون اللَّه جاراتي

و اشكرنه في كل حالات

و اذكرن ما انعم رب العلي

من كشف مكروه و آفات

[ صفحه 33]

فقد هدانا بعد كفر و قد

أنعشنا رب السّماوات

و سرن مع خير نساء الوري

تفدي بعمّات و خالات

يا بنت من فضّله ذوالعلي

بالوحي منه والرسالات

تاريخ إقتران النور بالنور

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «تزوّج علي فاطمة عليهاالسلام في شهر رمضان و بني بها ذي الحجه من (نفس) السنة (بعد معركة بدر)» [30] .

الزهراء في بيت الزوجية

إنتقلت السيده فاطمه الزهراء عليهاالسلام إلي البيت الزوجي، و كان إنتقالها من بيت الرسالة والنبوة إلي دار الإمامة والوصاية والخلافة والولايه، و حصل تطور في سعاده

[ صفحه 34]

حياتها، فبعد أن كانت تعيش تحت شعاع النبوة صارت قرينة الامامه.

كانت حياتها في البيت الزوجي تزداد اشراقا و جمالا اذ كانت تعيش في جو تكتنفه القداسه والنزاهه، و تحيط به عظمه الزهد و بساطه العيش، و كانت تعين زوجها علي أمر دينه و آخرته، و تتجاوب معه في إتجاهاته الدينية، و تتعاون معه في جهوده و جهاده. و شظف العيش.

و ما أحلي الحياة الزوجيه اذا حصل الانسجام بين الزوجين في الاتجاه و المبدا و نوعيه التفكير، مبنيا علي أساس التقدير والاحترام المتبادل.

و ليس ذلك بعجيب، فان السيدة فاطمه الزهراء تعرف لزوجها مكانته العظمي و منزلته العليا عند اللَّه تعالي، و تحترمه كما تحترم المرأة المسلمة إمامها.

و هكذا كان علي عليه السلام يحترم السيده فاطمة الزهراء

[ صفحه 35]

إحتراماً لائقا بها، لا لأنّها زوجته فحسب.

بل لأنّها أحب الخلق الي رسول اللَّه، و روحه التي بين جنبيه، و بضعته الطاهرة و سيدة نساء العالمين، و قد نزلت في هذا البيت ايات عظيمة من الكتاب المجيد،سنذكره فيما بعد.

كانت السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام تسكن و تعيش في بيت بسيط لكنه محاطا بالقداسة والروحانية والنور، مبنيا علي الاحترام والتقدير المتبادل، و لم يعرف حق ذلك البيت إلّا كل من عرف حق فاطمه و بعلها

و بنيها.

فاطمه الأم

إن الاُمومه من الوظائف الحسّاسه والمهام الثقيلة التي اُلقيت علي عاتق الزهراء عليهاالسلام حيث رزقت عليهاالسلام خمسة اطفال هم: الحسن، والحسين، و زينب، و اُمّ

[ صفحه 36]

كلثوم، و محسن- الذي اُسقط و هو جنين في بطن اُمّه- و بقي لها ولدان و بنتان، و قد قدرّ اللَّه سبحانه أن يكون نسل رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و ذريّته من فاطمة عليهاالسلام.

قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «إنّ اللَّه جعل ذريّه كلّ نبي من صلبه خاصه و جعل ذرّيتي من صلبي و من صلب علي ابن أبي طالب» [31] .

لهذا تحمّلت فاطمه عليهاالسلام مسووليه التربيه، و قد تبدو لفظه «تربية الأطفال» مختصره صغيرة ليس فيها كثير عناء، الّا ان معناها عميق واسع و حسّاس جدا.

فضائل الزهراء

قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، و خديجه بنت خويلد، و فاطمه بنت

[ صفحه 37]

محمد، و آسيه بنت مزاحم» [32] .

و قال: «فاطمه خير نساء أهل الجنّة» [33] .

و عن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أنه قال: «يا فاطمة، إنّ اللَّه ليغضب لغضبك و يرضي لرضاك» [34] .

و عن عائشة: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمه إلا أن يكون الذي ولدها [35] .

و قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لفاطمة عليهاالسلام: «يا بنيّة، إنّ اللَّه أشرف علي الدنيا فاختارني علي رجال العالمين، ثمّ اطّلع ثانية فاختار زوجك علي رجال العالمين، ثم اطلع ثالثه فاختارك علي نساء العالمين، ثم اطلع رابعه

فاختار إبنيك علي شباب العالمين» [36] .

[ صفحه 38]

عصمة الزهراء

اشاره

تطلق كلمة المعصوم في اللغة علي الممنوع المحفوظ.

و في الاصطلاح تطلق علي من لا يخطي ء و لا يسهو و لا يذنب، و له بصيرة نافذة يري من خلالها حقائق الكون بالمشاهدة والعيان، فلا عصيان و لا إثم و لا خطأ و لا سهو في ساحه وجوده المقدّس، لعلاقته الوثيقة بعالم الملكوت ولتسديده الغيبي، و قد ذكروا أدلة و براهين عقلية و نقلية لإثبات مقام العصمة الرفيع للانبياء والمرسلين عليهماالسلام.

و يعتقد الإمامية بعصمة أوصياء النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و خلفائه- الأئمة الأثني عشر- أيضاً و يقيمون الأدلة والبراهين الكافية علي ذلك.

و لا نريد التعرض لمباحث الإمامة خوفاً من الإطالة

[ صفحه 39]

ولئلا نبتعد عن محور البحث المقصود.

و كذلك الأمر في عصمة الزهراء عليهاالسلام، ولكننا سوف نذكر هنا شيئاً يسيراً في عصمتها عليهاالسلام و نحيل القارئ الكريم إلي المطولات.

آية التطهير

قوله سبحانه و تعالي في كتابه المجيد (انما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيراً» (الأحزاب: 33).

ليس من شك و لا شبهة أن حديث نزول آية التطهير في أهل البيت عليهم السلام أو ما أطلق عليه العلماء والمحدثون اسم (حديث الكساء). قد روي بطرق لا تحصي عده حتي جاوز حدّ التواتر، و بلغ من الشهرة والثبوت بحيث لم يبق سبيلاً أمام أي عالم، أو باحث، أو محقق منصف إلّا صدقه و أذعن لفحواه، بل أدي هذا التواتر إلي انكباب كبار الحفّاظ و أجلّة العلماء و ثقاة الرواة إلي روايته

[ صفحه 40]

و حفظه و دراسته، والتصدّي له بالتأليف والتصنيف، و حرّك في صيارفة القول و صاغة القريض

والشعراء البارعين روح الابداع، فنظموه في قصائد عصماء و أراجيز بديعة، سار ذكرها مع الركبان، و حكاها معرة الفنّ و أئمة النقل، بأقلامهم السيّالة.

و قد ورد في أحاديث كثيرة- من طرق العامّة والخاصة كما ذكرنا- أنّها نزلت في النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و علي عليه السلام و فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إليك نموذجاً منها:

ولتكن فاتحة متون الحديث و مصادره بذكر متنه المطول الذي رواه الشيخ الجليل عبداللَّه البحراني في (العوالم) بسند فيه ثلّه من أجلاء العلماء و أعلام الطائفة الي جابر بن عبداللَّه الأنصاري قال:

سمعت فاطمه الزهراء (عليهاسلام اللَّه) بنت رسول اللَّه أنّها قالت:

«دخل علي أبي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، في بعض الأيام.

[ صفحه 41]

فقال: السلام عليك يا فاطمة.

فقلت: و عليك السلام يا أبتاه.

فقال: إني لأجد في بدني ضعفاً.

فقلت له: اعيذك باللَّه يا أبتاه من الضعف.

فقال: يا فاطمه، إئتيني بالكساء اليماني، و غطيني به.

فأتيته و غطيته به، و صرت أنظر إليه فإذا به يتلألأ كأنّه البدر في ليلة تمامه و كماله.

فما كانت إلّا ساعهً و إذا بولدي الحسن قد أقبل، فقال: السلام عليك يا أمّاه.

فقلت: و عليك السلام يا قرّه عيني، و ثمرة فوادي.

فقال لي: يا أمّاه، إنّي اشم عندك رائحه طيبه كانّها رائحه جدي رسول اللَّه.

فقلت: نعم يا ولدي، إن جدك تحت الكساء.

فأقبل الحسن نحو الكساء، و قال: السلام عليك يا

[ صفحه 42]

جداه، يا رسول اللَّه، أتأذن لي أن أدخل معك.

فقال: و عليك السلام يا ولي، و صاحب حوضي، قد أذنت لك. فدخل معه تحت الكساء.

فما كانت إلّا ساعة فإذا بولدي الحسين قد أقبل، و قال: السلام عليك يا أماه.

فقلت: و عليك السلام يا قرّة عيني، و ثمرة فؤادي.

فقال لي: يا أماه إني أشم عندك رائحةً طيبه كانّها رائحه جدي رسول اللَّه.

فقلت: نعم يا بني، إن جدك و أخاك تحت الكساء. فدنا الحسين نحو الكساء و قال: السلام عليك يا جداه، السلام عليك يا من اختاره اللَّه، أتأذن لي أن أكون معكما تحت هذا الكساء.

فقال: و عليك السلام يا ولدي، و يا شافع أمتي، قد أذنت لك، فدخل معهما تحت الكساء.

فاقبل عند ذلك أبوالحسن علي بن أبي طالب،

[ صفحه 43]

و قال: السلام عليك يا فاطمة، يا بنت رسول اللَّه.

فقلت: و عليك السلام يا أباالحسن، و يا أميرالمؤمنين.

فقال: يا فاطمه، إني أشم عندك رائحة طيبة كانها رائحه أخي و ابن عمي رسول اللَّه.

فقلت: نعم، هاهو مع ولديك تحت الكساء.

فأقبل علي نحو الكساء، و قال: السلام عليك يا رسول اللَّه، أتأذن لي أن أكون معكم تحت الكساء.

فقال له: و عليك السلام يا أخي، و خليفتي، و صاحب لوائي في المحشر، نعم قد أذنت لك. فدخل علي تحت الكساء.

ثم أتيت نحو الكساء، و قلت: السلام عليك يا أبتاه، يا رسول اللَّه، أتأذن لي أن أكون معكم تحت الكساء؟

فقال لي: و عليك السلام يا ابنتي، و يا بضعتي، قد أذنت لك. فدخلت معهم.

[ صفحه 44]

فلمّا اكتملنا و اجتمعنا جميعاً تحت الكساء أخذ أبي رسول اللَّه بطرفي الكساء، و أومي بيده اليمني إلي السماء و قال:

«اللهم إن هولاء أهل بيتي، و خاصتي، و حامتي، لحمهم لحمي، و دمهم دمي،

يؤلمني ما يؤلمهم، و يحزنني ما يحزنهم، أنا حرب لمن حاربهم، و سلم لمن سالمهم، و عدو لمن عاداهم، و محب لمن أحبهم، و إنّهم منّي و أنا منهم، فاجعل صلواتك و بركاتك و رحمتهك و غفرانك و رضوانك علي و عليهم، و أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً».

فقال عز و جل: «يا ملائكتي، و يا سكان سماواتي، إني ما خلقت سماء مبنية، و لا فلكاً يدور، و لا فلكا تسري، و لا بحرا يجري إلّا لمحبة هؤلاء الخمسة، الذين هم تحت الكساء».

[ صفحه 45]

فقال الأمين جبرئيل: يا رب، و من تحت الكساء؟

فقال اللَّه عز و جل: هم أهل بيت النبوّة، و معدن الرسالة؛ و هم: فاطمة و أبوها و بعلها و بنوها.

فقال جبرئيل: يا ربّ، أتأذن لي أن أهبط إلي الأرض لأكون عهم سادسا؟

فقال اللَّه عز و جل: قد أذنت لك.

فهبط الأمين جبرئيل، و قال لابي: السلام عليك يا رسول اللَّه، العلي الأعلي يقرؤك السلام، و يخصّك بالتحيّه والإكرام، و يقول لك: و عزّتي و جلالي، إنّي ما خلقت سماء مبنيّه، و لا أرضاً مدحيّه، و لا قمراً منيراً، و لا شمساً مضيئة، و لا فلكاً يدور، و لا بحراً يجري، و لا فلكاً تسري إلا لأجلكم و محبتكم؛ و قد أذن لي أن أدخل معكم، فهل تأذن لي أنت يا رسول اللَّه؟

فقال أبي: و عليك السلام يا أمين وحي اللَّه، نعم، قد أذنت لك، فدخل جبرئيل معنا تحت الكساء.

[ صفحه 46]

فقال جبرئيل لأبي: إنّ اللَّه قد أوحي إليكم يقول: (إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم

تطهيراً).

فقال علي: يا رسول اللَّه، أخبرني ما لجلوسنا هذا تحت هذا الكساء من الفضل عند اللَّه.

فقال: والذي بعثني بالحق نبيّاً، واصطفاني بالرسالة نجياً، ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض، و فيه جمع من شيعتنا و محبينا إلا و نزلت عليهم الرحمة، و حفّت بهم الملائكة، و استغفرت لهم إلي أن يتفرقوا.

فقال علي: إذن واللَّه فزنا و فاز شيعتنا، و رب الكعبة.

فقال أبي: يا علي، والذي بعثني بالحق نبيّاً، و اصطفاني بالرسالة نجيّاً، ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض، و فيه جمع من شيعتنا و محبينا و فيهم مهموم إلّا و فرّج اللَّه همه، و لا مغموم إلا و كشف اللَّه

[ صفحه 47]

غمه، و لا طالب حاجةٍ إلا و قضي اللَّه حاجته.

فقال علي: اذن واللَّه فزنا و سعدنا، و كذلك شيعتنا فازوا و سعدوا في الدنيا والآخره، و رب الكعبة».

اللَّه أكبر ما أجلّ هذا الحديث. و أعظمه، اللهم اجعلنا من محبي رسولك و أهل بيته و من المتمسكين بأهدافهم.

و روي ابوعبداللَّه محمد بن عمران المرزباني عن أبي حمران قال:

خدمت النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم تسعة أشهر و عشرة، و كان صلي اللَّه عليه و آله و سلم عند كلّ فجر لا يخرج من بيته حتي يأخذ بعضادة باب عليّ فيقول: «السلام عليكم و رحمةاللَّه و بركاته»، فيقول علي و فاطمة والحسن والحسين: «عليك السلام يا نبي اللَّه و رحمة اللَّه و بركاته»، ثم يقول: «الصلاة رحمكم اللَّه، (إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيراً)، ثم ينصرف إلي مصلاه.

[

صفحه 48]

إلي هنا اكتفي و من يريد المزيد من المصادر فليراجع المجلد الرابع من موسوعة المصطفي والعترة من ص 185 الي 195.

الزهراء و آية المباهلة

اشاره

قوله سبحانه و تعالي في محكم كتابه المجيد: (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنه اللَّه علي الكاذبين) (آل عمران: 61).

نزلت هذه الآية في واقعة من أشهر الوقائع والحوادث التي مرت علي المسلمين في حياة الرسول الأعظم، من يوم وقوعها إلي يومنا هذا.

و لا أراني بحاجه إلي ذكر مصادرها، حيث أنّ جميع المفسرين والمحدثين، (إلا من شذّ و ندر) قد أتفقت

[ صفحه 49]

كلمتهم علي نزولها علي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في واقعة المباهلة مع نصاري نجران.

و قد قصدت الآية من (ابناءنا) الحسن والحسين عليهماالسلام، و (نساءنا) فاطمه الزهراء عليهاالسلام، و (أنفسنا) علي بن أبي طالب عليه السلام، فجعله اللَّه سبحانه و تعالي نفس محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم، والمراد المساواة والمساوي الأكمل إلّا انّه ليس بنبي.

و جاء في تفسير الطبرسي لهذه الآية- المباهلة- ما يلي:

(... أجمع المفسرون علي أنّ المراد ب(أبناءنا): الحسن والحسين، قال أبوبكر الرازي: هذا يدل علي أن الحسن والحسين أبناء رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و إن ولد الإبنة هو ولد في الحقيقة... ثمّ تابع تفسيره قائلاً:

(و نساءنا) اتفقوا علي انّ المراد بها فاطمه عليهاالسلام لأنه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء، و هذا يدل علي

[ صفحه 50]

تفضيل الزهراء فاطمة عليهاالسلام علي جميع

النساء.

و يعضدها ما جاء في الخبر إنّ النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: «فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها». و قال «إنّ اللَّه يغضب لغضب فاطمه و يرضي لرضاها».

و قد صح عن حذيفة انّه قال: سمعت النبي يقول: «أتاني ملك فبشرني انّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، أو سيدة نساء اُمتي»... ثمّ قال الطبرسي (و أنفسنا) يعني علي بن أبي طالب خاصة، و لا يجوز أن يكون المعني به! أي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لأنه هو الداعي، و لا يجوز أن يدعو الانسان نفسه إنّما يصح أن يدعو غيره، و إذا كان قوله و أنفسنا لابد أن يكون إشارة إلي غير الرسول، وجب أن يكون إشارة إلي عليّ، لأنّه لا أحد يدعي دخول غير أميرالمؤمنين علي عليه السلام و زوجته و ولديه المباهلة، و هذا يدل علي غاية الفضل، و علو الدرجة، والبلوغ منه إلي حيث لا يبلغه أحد، اذ جعله اللَّه نفس

[ صفحه 51]

الرسول...).

و هكذا يتحدث القرآن الكريم عن مقام السيدة فاطمه الزهراء عليهاالسلام و أهل البيت عليهم السلام و بأنهم هم المختارون للدعوة عند اللَّه سبحانه و تعالي، والصفوه في اُمة محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

قصة المباهلة

و قد ذكرنا مصادر عدّة في تفسير الآية في الجزء الأوّل من كتابنا علي في الكتاب و

السنه ص 69 ط- بيروت.

قدم و فد نصاري نجران المدينة ليحاجّوا الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم في دينه لمّا دعاهم إلي الإسلام أو دفع الجزية، و كان في مقدمة الوفد العاقب والسيد- و في بعض الروايات فيهم الطيب و

عبدالمسيح- مع أصحابهم، و لمّا لم يؤمنوا، نزلت الآية المذكورة فقرأها صلي اللَّه عليه و آله و سلم عليهم و دعاهم إلي المباهلة، و هي

[ صفحه 52]

(الملاعنه).

قالوا: حتي نرجع و ننظر في امرنا، و ناتيك غدا. فخلا بعضهم الي بعض للتشاور. فقال لهم الاسقف: انظروا الي محمد في غد، فان غدا بولده و أهله فاحذروا مباهلته، و إن غدا باصحابه فباهلوه فانّه علي غير شي ء.

و في اليوم الثاني عادوا، و خرج رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، محتضناً الحسن، و آخذاً بيد الحسين، و فاطمه تمشي خلفه، و علي بن أبي طالب خلفها، (صلوات اللَّه عليهم)، و هو يقول لهم: «إذا أنا دعوت فأمنوا» و قال صلي اللَّه عليه و آله و سلم لو فد نصاري نجران: «أباهلكم بخير أهل الارض و اكرمهم عند اللَّه».

و سال الاسقف عنهم، فقيل له: هولاء أعز الناس عليه، و أقربهم إلي قلبه، و تقدم رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فجثا علي ركبتيه.

فلما نظر الاسقف و هو العاقب، و كان رئيسهم، قال:

[ صفحه 53]

لقد جثا، واللَّه، كما جثا الأنبياء المباهله، فرجع و لم يقدم علي المباهله، بعد أن رأي تلك الوجوه النورانية، و سمع كلام رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم التفت إلي أصحابه و قال: يا معشر النصاري، إنّي لأري وجوهاً لو سألوا اللَّه ان يزيل جبلا مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، و لا يبقي علي وجه الأرض نصراني إلي يوم القيامة، فقالوا: افعل ما تراه، فتوجه الأسقف إلي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و قال:

يا أباالقاسم، إنّا لا نباهلك، ولكن نصالحك، فقال صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «نعم». فصالحهم علي أموال و حلل يؤدونها للدولة الإسلامية (سنوياً).

فلمّا رجع الوفد، لم يلبث السيد والعاقب الا يسيرا حتي رجعا الي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و أهدي العاقب له حلّة و عصاة و قدحاً و نعلاً، ثمّ أسلما علي يد الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

و أي فضل يداني آل محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم فحسن و حسين أبناء رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بنص القرآن، و فاطمه سيده نساء

[ صفحه 54]

العالمين، و عليّ نفس رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و هذا مما يكاد يقوم عليه إجماع المفسرين، إنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بخروجه للمباهلة لم يكن معه غير أهل بيته، و هم علي، و فاطمه، والحسن والحسين (صلوات اللَّه عليهم).

و روي نزول هذه الآية في أهل البيت عليهم السلام، جمّ غفير من علماء أهل السنة في تفاسيرهم، و صحاحهم، و مسانيدهم، منهم:

الحافظ أحمد بن حنبل إمام الحنابلة في كتاب (المسند) ج 1 ص 185 ط مصر.

العلّامة الطبري في تفسيره ج 2 ص 192 ط الميمنة مصر.

فاطمة الزهراء و سورة الانسان

قال اللَّه تبارك و تعالي في محكم كتابه المجيد، في سورة الدهر.

[ صفحه 55]

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

(هل أتي علي الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) إلي ان قال: (إن الأبرار يشربون من كاس كان مزاجها كافوراً- عينا يشرب بها عباد اللَّه يفجرونها تفجيرا- يوفون بالنذر و يخافون يوماً كان

شره مستطيرا- و يطعمون الطعام علي حبه مسكيناً و يتيماً و أسيرا- إنما نطعمكم لوجه اللَّه لا نريد منكم جزاء و لا شكورا) إلي أن قال: (و جزاهم بما صبروا جنه و حريرا) الي أن قال: (ان هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا) إلي آخر السورة.

أطبق المفسرون بمختلف مللهم و نحلهم، إلّا ما شذّ و ندر، إنّ هذه السورة نزلت في أهل بيت الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم و هم: علي، و فاطمة، و إبناهما الإمامين الحسن والحسين عليهم السلام، حينما تصدقوا بطعام إفطارهم علي المسكين، واليتيم، والأسير، وفاء بالنذر للَّه الذي قطعوه

[ صفحه 56]

علي أنفسهم، صيام ثلاثة أيّام إن شافي اللَّه ولديهما الحسن والحسين عليهماالسالم، و تري في هذا شاهدا و متحدثا بفضلهم، و عارضاً هذا النموذج من طلائع الإيمان الفذة، و مثلا أعلي في الإيثار والكرم، وسمو الأخلاق، والرحمة بالمحتاجين، و داعياً للمسلمين إلي الإقتداء بهم، والاقتباس من سيرهم.

و قد ذكر أعلام القوم تفسير نزول هذه الآيات الباهرات من سورة الدهر و رووا هذه الفضيلة في صحاحهم و مسانيدهم، إلي حدّ التواتر، و عجز الكثيرون من أحصائها، و سأذكر شذرات منها فيما يلي أن شاء اللَّه.

قال الشيخ المفسر الفضل بن الحسن الطبرسي في (مجمع البيان) ج 10/ 611 ط دارالمعرفه- بيروت- قد روي الخاص والعام أن الآيات من هذه السورة، و هي قوله: (إن الابرار يشربون) إلي قوله: (و كان سعيكم

[ صفحه 57]

مشكوراً) نزلت في علي و فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

و قال الحافظ محمّد بن طلحة الشافعي المتوفي سنة 652 ه في (مطالب السؤول) ص

31: (كفي بهذه عبادة، و بإطعام هذا الطعام مع شدة حاجتهم إليه منقبة، و لولا ذلك لما عظمت هذه القصّة شأنا، و علت مكانا، و لما أنزل اللَّه تعالي فيها علي رسول اللَّه قرآناً).

و أفرد هذه الفضيلة بالتأليف الشيخ أبومحمّد أحمد ابن محّمد بن علي العاصمي، المولود سنه (378 ه) في كتاب فخم سمّاه (زين الفتي في تفسير هل أتي) في مجلّدين.

أمّا موجز القصّه فهي كالآتي:

مرض الحسن والحسين عليهماالسلام مرضاً شديداً، فعادهما رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و عادهما بعض الصحابة المقرّبين، فقالوا: يا أباالحسن، لو نذرت علي ولديك نذراً. فقال

[ صفحه 58]

علي عليه السلام: «لو برءا صمت ثلاثة أيام شكراً للَّه». و سمعت فاطمة الزهراء عليهاالسلام فقالت: «وللَّه علي مثل الذي ذكرت». و سمعه الإمامان الحسن والحسين عليهماالسلام فقالا: «يا أبه، وللَّه علينا مثل الذي ذكرت». و قالت جارية لهم نوبية يقال لها (فضّة) كذلك، فألبس اللَّه تعالي الغلامين لباس العافية و برءا، و ليس عند آل محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم قليل و لا كثير، فحصل أميرالمؤمنين علي عليه السلام علي ثلاثة أصوع من الشعير.

فطحنت فاطمة الزهراء منها صاعاً، فخبزته خمسة أرغفه لكل واحد منهم رغيف، و صلّي علي عليه السلام المغرب، فلمّا أتي المنزل و وضع الطعام بين يديه للإفطار،طرق الباب مسكين، و سألهم، فأعطاه كل واحد منهم قوته، و مكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا غير الماء.

ثم صاموا اليوم الثاني، فطحنت و خبزت فاطمه عليهاالسلام

[ صفحه 59]

الصاع الثاني كذلك، فلمّا قدم بين أيديهم للإفطار، طرق الباب يتيم، و سألهم القوت، و قال: إنّي جائع. فأعطاه

كل واحد منهم قوته، و فطروا علي الماء فقط.

فلما كان اليوم الثالث من صومهم، كذلك طحنت فاطمه الزهراء الصاع الثالث و خبزته، و قدم الطعام للافطار، فطرق عليهم هذه المره اسير، و سألهم شيئا من الطعام، فاعطاه كل واحد منهم رغيفه و طعامه، و باتوا تلك الليله طاوين كالليالي السابقه، و لم يذوقوا غير الماء.

فرآهم رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في اليوم الرابع، و هم يرتعشون من شده الجوع، و فاطمه الزهراء عليهاالسلام، قد التصق بطنها بظهرها من شده الجوع، و غارت عيناها، فقال صلي اللَّه عليه و آله و سلم:

«وا غوثاه، يا اللَّه، أهل بيت محمد يموتون جوعا، فهبط جبرئيل فقال: خذ ما هناك اللَّه تعالي به في أهل

[ صفحه 60]

بيتك. فقال: و ما آخذ يا جبرئيل؟» فأنزل اللَّه عليه سورة: (هل أتي) و قرأها عليهم جبرئيل عليه السلام.

و قال أبوإسحاق الثعلبي في تفسيره:

(و زاد ابن مهران الباهلي في حديثه: فوثب النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم حتّي دخل علي فاطمة عليهاالسلام و رأي ما بهم أنكب عليهم يبكي، ثم قال لهم: «أنتم منذ ثلاث فيما أري، و أنا غافل عنكم!». فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآيات من سورة (هل أتي)).

قال الحافظ ابن البطريق في (العمدة) ص 348 ط مؤسسة النشر الإسلامي- قم:

(و زاد محمّد بن علي صاحب الغزالي، علي ما ذكره الثعلبي في كتابه المعروف ب(البلغة) أنهم عليهم السلام نزلت عليهم مائدة من السماء، فأكلوا منها سبعة أيّام).

و قال الحافظ أبوعبداللَّه الكنجي الشافعي في (كفاية الطالب) ص 348:

[ صفحه 61]

(و قد سمعت الحافظ أباعمر و

عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح في درس التفسير في سورة (هل أتي) و ذكر الحديث و قال فيه:

إن السوال كانوا ملائكة من عند رب العالمين، و كان ذلك إمتحاناً من اللَّه عزّ و جّل لأهل بيت الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

و سمعت بمكّة حرسها اللَّه تعالي من شيخ الحرم بشير التبريزي في درس التفسير أنّ السائل الأوّل كان جبرئيل، والثاني ميكائيل، والثالث كان إسرافيل عليهم السلام.

و نقرأ في السورة قوله تعالي:

(و يطعمون الطعام علي حبه مسكيناً و يتيماً و أسيراً- إنما نطعمكم لوجه اللَّه لا نريد منكم جزاء و لا شكوراً).

و هكذا يعرض القرآن أهل بيت النبوة نموذجاً للشخصية الإسلامية المتفانية في ذات اللَّه، المتجردة عن حبّ الدّنيا و زخرف الحياة، المنتصرة علي شهوة القرص

[ صفحه 62]

و مضغة الطعام.

فاطمة الزهراء و آية القربي

قال سبحانه و تعالي في محكم كتابه المجيد: «قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّا المودة في القربي- و من يقترف حسنةً نزد له فيها حسناً إنّ اللَّه غفور شكور) [37] .

تفسير الآية واضح و هو خطابه تبارك و تعالي إلي رسوله الكريم صلي اللَّه عليه و آله و سلم (قل) يا محمّد لأمتك: (لا أسئلكم عليه) أيّ علي أدا الرسالة (أجراً) شيئاً من الأجر (إلّا المودة في القربي) أي إلا أن تودوا قرابتي، و قد اتفقت كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام و كلمات العلماء أنّ المقصود من القربي هم آل النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

[ صفحه 63]

و هناك أحاديث متواترة في كتب الشيعة والسنة حول تعيين القربي بأفرادهم و أسمائهم، و من جملة

الأحاديث التي ذكرها علماء العامة في صحاحهم و تفاسيرهم هذا الحديث:

لمّا نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول اللَّه من قرابتك هؤلاء الذين تجب علينا مودّتهم؟ فقال صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «علي و فاطمة و ابناهما.... الخ».

ذكر هذا الحديث طائفة من العلماء، منهم:

ابن حجر في الصواعق المحرقة.

السيوطي في الدر المنثور.

أبونعيم في حلية الأولياء.

الحمويني الشافعي في فرائد السمطين.

و حديث آخر رواه الطبري و ابن حجر أيضاً: أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: «إنّ اللَّه جعل أجري عليكم المودّة في أهل بيتي، و إني سائلكم غداً عنهم».

[ صفحه 64]

هؤلاء بعض الرواة الذين ذكروا و نقلوا هذا الحديث بصورة إجمالية.

و إليك بعض الأحاديث التي تصرّح بإحتجاج أئمة أهل البيت عليهم السلام بهذه الآية علي تعيين المقصود من القربي، منها:

في الصواعق المحرقة لابن حجر: عن علي عليه السلام: «فينا في آل حم، لا يحفظ مودتنا إلّا كل مؤمن ثم قرأ: (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّا المودة في القربي-و من يقترف حسنةً نزد له فيها حسناً) و اقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت... و إلي هذا أشار الشاعر الكميت الأسدي بقوله:

وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقي و معرب و عن جابر بن عبداللَّه قال: جاء إعرابي إلي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: يا محمّد إعرض علي الإسلام.

فقال: «تشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له. و انّ

[ صفحه 65]

محمّداً عبده و رسوله».

قال: تسألني عليه أجراً؟

قال: «لا، إلّا المودّة في القربي».

قال: قرابتي أو قرابتك؟

قال: «قرابتي».

قال: هات اُبايعك،

فعلي من لا يحبك و لا يحبّ قرابتك لعنه اللَّه.

فقال النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «آمين».

رواه الكنجي في (كفاية الطالب) ص 31.

و ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 101 هذين البيتين لابن العربي:

رأيت ولائي آل طه فريضة

علي رغم أهل البعد يورثني القربا

فما طلب المبعوث أجراً علي الهدي

بتبليغه إلّا المودّة في القربي

[ صفحه 66]

و هذين البيتين للامام الشافعي:

يا أهل بيت رسول اللَّه حبكم

فرض من اللَّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم الشأن انكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له

و قد ذكر شيخنا العلّامة الأميني (عليه الرحمة) في الجزء الثالث من كتابه الغدير خمسة و أربعين مصدراً حول نزول هذه الآية في شأن علي، و فاطمة، والحسن والحسين عليهم السلام.

والآيات الواردة في علي، و فاطمه، والحسن، والحسين عليهم السلام كثيرة، و كلها توضح و تؤكد بمعانيها، و سبب نزولها مقام أهل البيت عليهم السلام كثيره، و كلها توضح و تؤكد بمعانيها، و سبب نزولها مقام أهل البيت عليهم السلام، و علو مكانتهم، و من جمله ما نزل فيهم من القرآن آية المودة، فعن ابن عباس قال:لمّا نزلت... (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّا المودة في القربي).

[ صفحه 67]

قالوا: يا رسول اللَّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟

قال: «علي، و فاطمة، و إبناهما». أخرجه أحمد في المناقب [38] .

إلي هذا الحد أقف عن الاسترسال.

راجع المجلد الرابع من موسوعة المصطفي والعترة ص 214.

في بيوت أذن الله أن ترفع

في تفسير هذه الآية، والحديث الشريف، يقودني البحث إلي أن أشرح بصورة موجزة ماهية

البيوت بصورة عامّة، لاسيما بيوت الأنبياء التي خصّها اللَّه سبحانه بالآية و أفضلها بيت علي و فاطمة عليهاالسلام.

[ صفحه 68]

إنّ البيت الذي كانت السيدة فاطمة الزهراء تسكن و تعيش فيه مع زوجها و ابنيهما عليهم السلام، كان محاطاً بهالة نورانية من القدسية والروحانية، و مبنياً علي أساس مكارم الاخلاق والاحترام المتبادل، و ربما لا يعرف حقيقة ذلك البيت إلّا من عرف حقيقة فاطمة و أبيها و بعلها و بنيها (صلوات اللَّه عليهم).

و قد روي شيخنا المجلسي قدس سره عن أنس بن مالك، و عن بريدة قال: قرأ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: (في بيوت أذن اللَّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال- رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللَّه..) الآية [39] فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟

فقال: «بيوت الأنبياء».

[ صفحه 69]

فقام إليه أبوبكر، فقال: يا رسول اللَّه! هذا البيت منها؟ و أشار إلي بيت علي و فاطمة عليهماالسلام.

فقال: «نعم، من أفضلها!!».

رواه جماعة من أعلام القوم، منهم:

الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل) ج 1 ص 409 و 410 ط- بيروت، بثلاث طرق.

راجع موسوعة المصطفي والعترة ج 4 ص 216.

و عن ابن عباس قال: كنت في مسجد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و قد قرأ القارئ: (في بيوت أذن أن ترفع و يذكر فيها اسمه...) الآية فقلت: يا رسول اللَّه؟ ما البيوت؟

فقال: «بيوت الأنبياء». و أومي إلي منزل فاطمة!

والآن ننقلك عزيزي القارئ إلي البيت الذي أذن اللَّه سبحانه و تعالي أن يرفع و يذكر فيه اسمه، بيت الإمام

علي أميرالمومنين، و السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام

[ صفحه 70]

ذلك البيت البسيط المتواضع في الظاهر، والعظيم عند اللَّه و رسوله، لتري أجنحة السعادة والسموّ ترفرف علي كل جانب من جوانبه، أساسه الايثار والتضحية.

فقد علّمها أبوها صلي اللَّه عليه و آله و سلم معني الحياة، و أوحي لها بأنّ الإنسانية هي جوهر الحياة، و انّ السعادة الزوجية القائمة علي الخلق والقيم الإسلامية هي أسمي من المال، والقصور، والزخارف، و قطع الآثاث، و تحف الفنّ المزخرفة.. و تعيش فاطمة الزهراء في كنف زوجها، قريرة العين، سعيدة النفس.. لا تفارقها البساطة، و لا يبرح بيتها خشونة الحياة... فهي الزوجة المثالية، زوجة علي بطل المسلمين، و رجل الاقدام، والفداء، و حامل لواء النصر والجهاد... و عليها أن تكون بمستوي المسؤولية و هذه المهمة الخطيرة... و ان تكون لعلي كما كانت اُمّها خديجه لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم تشاركه في جهاده، و تصبر علي قساوة الحياة و مرحلة الدعوة

[ صفحه 71]

الصعبة التي يتصدرها ببطولة و بسالة.. فكانت كذلك.. و كانت حقاً بمستوي مهمتها التي أختارها اللَّه تعالي لها..

و لم يكن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ليترك هذا الغرس النبوي، دون أن يرعاه و يحتضنه.. فمحمّد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، أحاط فاطمة و علي عليهماالسلام بتوجيهه و عنايته، فعاش الزوجان في ظل رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و تحت كنفه و رعايته.. و منح صلي اللَّه عليه و آله و سلم فاطمة بعد زواجها ما لم يمنحه لأحد، حتي بلغ من شدّة عنايته بفاطمة، و تعلق قلبه

بها: إنّه إذا أراد الخروج في سفرة أو غزوة، كانت فاطمة آخر إنسان يودعه، و إذا عاد من سفرة أو غزوة، كان أوّل إنسان يلتقي به هو فاطمة.

(فعن ثوبان) قال: كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إذا سافر آخر عهده اتيان فاطمة، و أوّل من يدخل عليه إذا قدم: فاطمه عليهاالسلام- أخرجه أحمد [40] .

[ صفحه 72]

و عن أبي ثعلبه قال: كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إذا قدم من غزوةٍ أو سفر بدأ بالمسجد فصلي فيه ركعتين، ثمّ أتي فاطمة، ثم أتي أزواجه [41] .

فأيّة علاقة هذه؟ و أيّة رابطة تربط رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بإبنته الحبيبة فاطمة، إنّها علاقه الروح والمبدأ، و جامعة الغاية والهدف.

و تعيش فاطمة في بيتها، تعتني بشؤون منزلها، و تدبّر حاجاتها بالاعتماد علي جهودها... فلم يكن يساعدها أحد لاعبيد، و لا إماء، فكل حياتها كدح و جهاد...

فهي تطحن الشعير و تدير الرحي بيدها، و تصنع أقراص الخبز بنفسها، و تكنس البيت، و تدبر مستلزمات الاُسرة... و قد كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و علي عليه السلام يريان ذلك من فاطمة فيشار كانها العناء، و يهوّنان عليها

[ صفحه 73]

متاعب الحياة... بل و كان علي عليه السلام و ربما النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم يساعدانها في أعمال المنزل، و تدبير شؤون البيت.

فقد صوّر لنا التاريخ و دوّن كتاب السير والأثر، صورة الحياة العائلية الفريدة التي كانت تعايشها فاطمة مع زوجها و أبنائها، أهل بيت النبوة تحت ظل أبيها رسول اللَّه (صلي اللَّه عليهم

أجمعين).

و في المناقب لابن شهرآشوب: تفسير الثعلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام، و تفسير القشري، عن جابر الانصاري: إنّه رأي النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم فاطمة و عليها كساء من أجلة الإبل، و هي تطحن بيديها و ترضع ولدها فدمعت عيناه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و قال: «يا بنتاه تعجّلي مرارة الدّنيا بحلاة الآخرة»، فقالت: «يا رسول اللَّه، الحمدللَّه علي نعمائه، والشكر للَّه علي آلائه، فأنزل اللَّه تعالي آية: (ولسوف يعطيك ربك فترضي) [42] .

[ صفحه 74]

قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «جهاد المرأة حسن التبعّل».

و روي المجلسي في البحار ج 43 ص 50- 51 بلفظ آخر، مماثل في المعني، فراجع.

و عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «إنّ فاطمة ضمنت لعلي عليه السلام عمل البيت والعجن والخبز، و قمّ البيت، و ضمن علي عليه السلام ما كان خلف الباب، (خارج البيت) نقل الحطب و ان يجي ء بالطعام، فقال لها يوماً، يا فاطمة هل عندك شي ء؟ قالت: والذي عظّم حقك ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شي ء نقريك به، قال: أفلا أخبرتني؟ قالت: كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم نهاني أن أسألك شيئاً فقال: لا تسألين ابن عمك شيئا ان جاءك بشي ء و إلّا فلا تسألين» [43] .

و قال علي عليه السلام: «فواللَّه ما أغضبتها- خلال الحياة

[ صفحه 75]

المشتركة مع فاطمة عليهاالسلام- و لا أكرهتها علي امر و لا عصيت لي امرا حتي قبضها اللَّه، كنت انظر اليها فتنكشف عني الهموم و الاحزان».

هذة الصورة العائلية، واللقطة الفذة من حياة المجتمع الإسلامي، والحياة النبوية الكريمة، توضح

لنا صورة الحياة التعاونية و علاقة الرجل بالمرأة، و عظمة التواضع عند قادة الإسلام، و عظماء البشرية، فمحمد الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم يساعد فاطمة و يعينها علي طحن طعامها، و علي يشاطرها العمل في المنزل... إنّها الصورة المثالية لحياة مجتمع صنعة الإسلام بمبادئه و أخلاقه، و إنّها الصيغة التشريعية لحاية العائلة المثالية في الإسلام، و لمكانة المرأة و علاقتها بالزوج والاُسرة في هذة الرسالة الالهية الخالدة...

فرسول اللَّه و علي و فاطمة (صلّي اللَّه عليهم) مثال الأب والزوج والبنت والزوجة في الإسلام، و علي

[ صفحه 76]

شاكلة هذه الاُسرة يجب أن تبني الاُسرة المسلمة... و بمثل هذه العلاقة يجب أن تشاد العلاقات بين أفرادها... فرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و علي و فاطمة قدوة و اُسوة، و كان بإمكان رسول اللَّه أن يتخذ العبيد والخدم لفاطمة، و أن يوفر لها المال والثروة و متع الحياة. إلّا انّ الرسول القائد والقدوة، الداعي إلي العدل والمساواة، والرافض لمتع الحياة و عرضها يريد أن يجسد مبادئه سلوكاً و حياة لاُمتة، بل يريد من المصلح، والمربي، والحاكم، والقائد، أن يعلّم، و يقود، و يربي، بسلوكه و سيرته، قبل أن يدعو الناس بلسانه و مواعظه.

و تأتي المواقف والشواهد دليلاً... والعمل لساناً بليغ التعبير، قوي الوقع والأثر.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام: «... كان علي عليه السلام يستقي و يحتطب، و كانت فاطمة عليهاالسلام تطحن و تعجن و تخبز و ترقع، و كانت من أحسن الناس وجهاً كأنّ

[ صفحه 77]

و جنتيها وردتان» صلّي اللَّه عليها و علي أبيها و بعلها و بنيها الطاهرين.

و عن علي

عليه السلام قال: «إنّها استقت بالقربة حتي أثرت في صدرها، و طحنت بالرحي حتي مجلت يدها، و كسحت البيت حتي أغبرّت ثيابها، و أوقدت النار تحت القدر حتي دكنت ثيابها» [44] .

و روي عن الإمام علي عليه السلام إنّه قال: «إنّ فاطمة شكت ما تلقاة من أثر الرحي، فأتي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم سبي، فانطلقت، فلم تجده، فوجدت عائشة، فأخبرتها، فلمّا جاء النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أخبرته عائشة بمجي ء فاطمة فجاء صلي اللَّه عليه و آله و سلم إلينا و قد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال: علي مكانكما، فقعد بيننا حتي وجدت برد قدميه علي صدري، فقال: ألا اُعلمكما خيراً ما سألتماني، إذا

[ صفحه 78]

أخذتما مضاجعكما، فكبرا أربعاً و ثلاثين، و سبحا ثلاثاً و ثلاثين و أحمدا ثلاثاً و ثلاثين، فهو خير لكم من خادم يخدمكما» [45] . أخرجه البخاري و أبوحاتم [46] .

إنّها الصورة الفريدة من حياة الكدح، والصبر علي شظف العيش و معاناة أهل البيت علي و فاطمة و أبنائهما الحسن والحسين يعانون هذه الحياة القاسية، و هذا الرسول الاعظم يشاطرهم بروحه و إحساسه، و بجهده و اهتمامه، فيعمل علي عليه السلام بكديدة، و يكدح ليوفر حفنة تمر قوتاً لعياله، و يستمر في مسيرته المباركة تلك حتّي استشهاده عليه السلام و هو القائل: «لو شئت لاهتديت الطريق

[ صفحه 79]

إلي مصفي هذا العسل، ولباب هذا القمح و نسائج هذا القز- الحرير- ولكن هيهات أن يقودني جشعي إلي تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالقرص و لا طمع له بالشبع... إلي آخره».

و هو القائل:

«واللَّه لو أعطيت الاقاليم السبعة- أي السموات السبع- بما تحت أفلاكها علي أن أعصي اللَّه في نملة أسلبها جلب شعير ما فعلت، ما لعليّ و نعيم يفني، ولذّة لا تبقي...».

و هو القائل: «واللَّه لقد رقّعت مدرعتي- ثوب من صوف- حتّي استحييت من راقعها (أو من رقعها)، و لقد قال لي قائل ألا تنبذها- تهملها و تتركها- عنك فقلت اُغرب- أبعد- عني فعند الصباح يحمد القوم السري» [47] .

إنّها مدرسة النبوة تصنع الحياة، و تعلّم الأجيال كيف

[ صفحه 80]

يمارس الانسان المسلم الحياة و يتفاعل معها، و يكافح و يكدح و يعمل، للحصول علي لقمة العيش الحلال مع العزّة والكرامة...

نعم، هكذا كان أولياء اللَّه سبحانه، كانوا ينظرون إلي حطام الدّنيا نظرة زهد، و تحقير، و إستهانة، و لا تتعلق قلوبهم بحب الدّنيا و زخرفها و مافيها، و لا يحبون الدّنيا للدّنيا، بل يحبوها للآخرة، يحبون البقاء في الدّينا ليتزودوا منها للآخرة و ليعبدوا اللَّه تعالي، نعم يريدون المال لينفقوه في سبيل اللَّه عز و جلّ، لإشباع البطون الجائعة، والأجساد العارية، و إغاثة الملهوف و إغانة المضطر، فقد عرفت عليهاالسلام الحياة الدّنيا و زهدت فيها، فلا عجب ان قنعت باليسير اليسير من متاعها، و رضيت لنفسها إختياراً فضيلة المواساة والايثار، و هانت عليها ثروة الدّنيا و نعيمها، و كرهت الترف، والسرف.

أقول: فأين إسلامنا اليوم الغارق في الترف والفجور

[ صفحه 81]

والذي نشاهده لدي جميع الطبقات من القادة والزعماء إلي أدني المستوي، من محسوبية و منسوبية و غيرها من ذلك الإسلام المحمّدي الذي بشّر به الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم و ربّي

به أهل بيته صلوات اللَّه عليه و عليهم في سيرته قولا و عملا؟ فإنّا للَّه و إنا إليه راجعون.

طعام من الجنة لفاطمة

في بحارالأنوار ج 43/ ص 59- 61 حديث 51 نقلا عن تفسير فرات بن إبراهيم (الكوفي) عن عبيدة بن كثير معنعناً عن أبي سعيد الخدري: (أنقلها ملخصاً روماً للإختصار) قال:

أصبح علي بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم ساغباً، فقال: «يا فاطمة هل عندك شي ء تعذّينيه؟ قالت: لا والّذي أكرم أبي بالنبوة و أكرمك بالوصيّة ما أصبح الغداة عندي شي ء، و ما كان شي ء اُطعمنا مذ يومين إلّا شي ء كنت

[ صفحه 82]

اُؤ ثرك بة علي نفسي و علي أبني هذين الحسن والحسين»، فقال علي: «يا فاطمة ألا كنت أعلمتيني فأبغيكم شيئاً»، فقالت: «يا أباالحسن إنّي لأستحيي من إلهي أن اُكلّف نفسك ما لا تقدر عليه»، فخرج علي إبن أبي طالب من عند فاطمة عليهاالسلام واثقاً باللَّه بحسن الظن فاستقرض ديناراً، فبينا الدينار في يده يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرض لة المقداد بن الأسود في يوم شديد الحر قد لوحته الشمس من فوقه و آذته من تحته، فلمّا رآه علي بن أبي طالب عليهاالسلام أنكر شأنه فقال: «يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة من رحلك»؛ قال: يا أباالحسن خل سبيلي و لا تسألني عمّا ورائي، فقال: «يا أخي إنّه لا يسعني أن تجاوزني حتّي أعلم علمك»، فقال؛ يا أباالحسن أمّا إذا أبيت فوالّذي أكرم محمّداً بالنبوة و أكرمك بالوصيّة ما أزعجني من رحلي إلّا الجهد و قد تركت عيالي يتصارخون جوعاً، فلمّا سمعت بكاء

[ صفحه 83]

العيال لم تحملني الأرض فخرجت مهموماً راكباً رأسي، هذه حالي و قصّتي، فانهملت عينا

عليّ بالبكاء حتّي بلّت دمعته لحيته فقال له: «أحلف بالّذي حلفت ما أزعجني إلّا الّذي أزعجك من رحلك فقد استقرضت ديناراً و قد آثرتك علي نفسي»، فدفع الدينار إليه و رجع حتّي دخل مسجد النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم فصلّي فيه الظهر والعصر والمغرب، فلمّا قضي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم المغرب مر بعليّ إبن أبي طالب و هو في الصف الأوّل فغمزه برجله فقام علي عليه السلام متعقّباً خلف رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم حتّي لحقه علي باب من أبواب المسجد فسلّم عليه فرد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم (السلام) فقال: «يا أباالحسن هل عندك شي ء نتعشّاه فنميل معك»، فمكث مطرقاً لايحير جواباً حياءً من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و هو يعلم ما كان من أمر الدينار و من أين أخذة و أين وجّهه، و قد كان أوحي اللَّه تعالي إلي نبيّه محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم أن يتعشي اللّيلة عند علي بن أبي

[ صفحه 84]

طالب عليه السلام، فلمّا نظر رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إلي سكوته فقال: «يا أباالحسن مالك لا تقول: لا، فأنصرف أو تقول: نعم، فأمضي معك، فقال حياءً و تكرماً فاذهب بنا»، فأخذ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يد علي بن أبي طالب عليه السلام فانطلقا حتّي دخلا علي فاطمة الزهراء عليهاالسلام و هي في مصلّاها قد قضت صلاتها و خلفها جفنة تفور دخاناً، فلمّا سمعت كلام رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في رحلها خرجت من مصلّاها فسلّمت عليه و كانت أعز

الناس عليه فرد عليهاالسلام و مسح بيده علي رأسها و قال لها: «يا بنتاه كيف أمسيت رحمك اللَّه تعالي عشّينا غفر اللَّه لك و قد فعل»، فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و علي بن أبي طالب، فلمّا نظر علي بن أبي طالب إلي طعام و شم ريحة قال لها: «يا فاطمة أنّي لك هذا الطعام الّذي لم أنظر إلي مثل لونه قط و لم أشم مثل ريحه قط و ما آكل أطيب منة». قال فوضع رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم كفّه الطيّبة المباركة

[ صفحه 85]

بين كتفي علي بن أبي طالب عليه السلام فغمزها ثم قال: «يا علي هذا بدل دينارك و هذا جزاء دينارك من عند اللَّه (إنّ اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب) (آل عمران: 37) ثمّ استعبر النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم باكياً ثم قال: «الحمدللَّه الّذي أبي لكم أن تخرجا من الدنيا حتّي يجزيكما و يجريك يا علي مجري زكريّا و يجري فاطمة مجري مريم بنت عمران (كلما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً) (آل عمران: 37).

في كشف الغمة: عن أبي سعيد مثلة.

و في البحار ج 43 ص 73 نقلاً من كتاب المناقب لابن شهرآشوب «ملخصاً» عن سلمان الفارسي مرفوعاً قال:

ورد النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم إلي حجرة فاطمة عليهاالسلام فرآي صفار وجهها و تغير حدقتيها، فقال لها: «يا بنيّة ما الّذي أراه من صفار وجهك و تغيّر حدقتيك؟».

[ صفحه 86]

فقالت: «يا أبت إنّ لنا ثلاثاً ما طعمنا طعاماً و إن الحسن والحسين قد اضطربا علي من شدة الجوع

ثمّ رقدا كأنهما فرخان منتوفان».

فقال: فأيقظهما النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم فأخذ واحداً علي فخذه الأيمن، والآخر علي فخذه الأيسر، و أجلس فاطمة عليهاالسلام بين يديه و أعتنقها، و دخل علي بن أبي طالب عليه السلام فأعتنقه من وراءه، ثّم رفع النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم طرفة نحو السماء فقال: «إلهي و سيدي و مولاي هؤلاء أهل بيتي، اللّهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا».

قال ثمّ و ثبت فاطمة عليهاالسلام و دخلت مخدعها و صفت قدميها فصلت ركعتين ثمّ رفعت باطن كفيها إلي السماء و قالت: «إلهي و سيدي هذا محمّد نبيّك، و هذا علي ابن عمّ نبيّك، و هذان الحسن والحسين سبطا نبيّك، إلهي أنزل علينا مائدةً من السماء كما أنزلتها علي بني إسرائيل أكلوا منها و كفروا بها، اللّهم أنزلها علينا فإنّا بها

[ صفحه 87]

مؤمنون».

قال ابن عباس: واللَّه ما استتمت الدعوة فإذا هي بصفحةٍ من ورائها يفور قتارها، و إذا قتارها أزكي من المسك الأذفر، فاحتضنتها ثم أتت بها إلي النبي و علي والحسن والحسين، (صلوات اللَّه عليهم أجمعين).

فلمّا نظر إليها علي قال: «يا فاطمة من أين لك هذا؟ و لم يكن عهد عندنا شيئاً»، فقال له النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم «كل يا أباالحسن و لا تسأل، الحمدللَّه الّذي لم يمتني حتّي رزقني ولداً مثلها مثل مريم بنت عمران (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنّي لك هذا قالت هو من عند اللَّه إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب) (آل عمران: 37).

فاطمة مع أبيها

و لقد مرت السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام منذ حداثتها

[ صفحه 88]

الفترة الجهادية الصعبة، بكامل ظروفها و أبعادها كما اصبحت تعيش بكنف زوجها و أبيها المعانات، تعيش بروحها و مشاعرها، و بجهادها في بيتها، و في مواساتها و مشاركتها لأبيها، في شدته و محنته... فقد شهدت جهاد أبيها و صبره و تحمّله، شاهدته و هو يجرح في (اُحد) و تكسر رباعيته [48] ، و يخذله المنافقون، و يستشهد عم أبيها حمزة،أسداللَّه، و نخبة من المؤمنين معه.

فتأتي فاطمة أباها، و هي تبكي، و تحاول تضميد جرح رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و قطع الدم الذي كان ينزف من جسده الشريف الطاهر... فكان زوجها علي عليه السلام يصب الماء علي جرح رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و هي تغسله، و لما يئست من إنقطاعه، أخذت قطعة حصير فأحرقتها،

[ صفحه 89]

حتي صار رماداً، فذرته علي الجرح حتي انقطع دمه...

و في مواقع اُخري يحدثنا التاريخ عن مشاركة فاطمة عليهاالسلام بروحها و وجدانها و مشاعرها لأبيها في كفاحه و صبره و جهاده.

فقد روي أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قدم من غزاة له، فدخل المسجد، فصلي فية ركعتين، ثم بدأ- كعادته- ببيت فاطمة قبل بيوت نسائه.. جاءها ليزورها، و يسر بلقائها، فرأت علي وجهه آثار التعب والاجهاد، فتألمت لما رأت و بكت، فسألها: «ما يبكيك يا فاطمة؟» فقالت:

«أراك قد شحب لونك»، فقال لها: «يا فاطمة أنّ اللَّه- عزّ و جّل- بعث أباك بأمر لم يبق علي ظهر الأرض بيت مدر و لا شعر، إلّا أدخلة بة عزّا أو ذلا، يبلغ حيث يبلغ الليل» [49] .

[ صفحه 90]

و ليست هذه العاطفة، و تلك العناية والمشاركة مع الأب القائد والرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم من إبنته فاطمة عليهاالسلام هي كل ما تقدمه لأبيها من إيثارها له، و اهتمامها به، و مشاركتها له في شدّته و عسر، إنّها جاءت يوم الخندق و رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم منهمك مع أصحابه في حفر الخندق، لتحصين المدينة، و حماية الإسلام.. جاءت و هي تحمل كسرة خبز فرفعتها إليه فقال: «ما هذه يا فاطمة؟». قالت: «من قرص أختبزته لأبنيّ، جئتك منه بهذه الكسرة»، فقال:

«يا بنيّة أما إنّها لأوّل طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث» [50] .

[ صفحه 91]

فهذه صورة مشرقة لجهاد المرأة المسلمة، تصنعها فاطمة في ظلال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.. فهي تشارك في صبرها، و تحمّلها، و مشاعرها، و أمكانياتها.

و مرّةً رأت فاطمة عليهاالسلام في منامها- بعد حجة الوداع- أنّها كانت تقرأ القرآن و فجأة وقع القرآن من يدها و اختفي، فاستيقظت مرعوبة، و قصّت الرؤيا علي أبيها.

فقال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «أنا ذلك القرآن- يا نور عيني- و سرعان ما أرحل» [51] .

ثمّ أخذ المرض يشتدّ به صلي اللَّه عليه و آله و سلم فجهّز النبي جيشاً بإمرة اُسامة بن زيد و أمرة بالمسير إلي الروم و دعا الناس للاشتراك بهذا البعث، و نصّ علي بعضهم بالإسم ليخلي الساحة من المنافقين والمتربصين، و يفوّت الفرصة علي المعارضين لخلافة الإمام علي عليه السلام.

[ صفحه 92]

و اشتد المرض بالنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم

أكثر فأكثر، و هو مسجّي علي فراش الموت، والزهراء يشتدّ وجدها علي أبيها، فتارة تحدّق في وجهه الشاحب و تذرف الدموع الساخنة، و اُخري تدعو له بالسلامة.

ثقل المرض علي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم حتي اُغمي عليه، فلمّا أفاق وجد أبابكر و عمر و آخرين عنده، فقال صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «ألم آمركم بالمسير في جيش اُسامة؟». فاعتذروا، ألّا أنّ النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم يعلم ما تكنّ صدورهم. و ما يبيتون- من بقائهم في المدينة- لينزوا علي مقام الخلافة.

فقال صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «إئتوني بدواة و بياض، أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي أبداً».

فأسرع بعضهم لإجابة طلب الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم فمنعة عمر و قال: إنّ الرجل ليهجر، قد غلبه مرضه [52] .

[ صفحه 93]

والزهراء عليهاالسلام تري و تسمع ذلك فيربوهمّها و يزداد غمّها، فقد كشّر النفاق عن أنيابه، و طفح علي وجوه القوم الغدر، والنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم (لا ينطق عن الهوي إن هو إلّا وحي يوحي)، و ما كان يريد سوي خير المسلمين و مصلحتهم، فما لهؤلاء الذين يعاندون و يعصون و لا يكادون يفقهون حديثاً...؟!

يبدو إنّ المستقبل ينذر بالخطر، والقوم صمموا علي تضييع أتعاب نبيهم، واللَّه أحكم الحاكمين.

ابتسامة مدهشة

لمّا ثقل و اشتدّ حال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و حضره الموت، أخذ علي عليهاالسلام رأسة الشريف فوضعه في حجرة عليه السلام فأغمي عليه فكانت فاطمة عليهاالسلام تنظر في وجهة و تندبه و تبكي و تقول:

[ صفحه 94]

و أبيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامي عصمةً للارامل

ففتح رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم عينيه و قال بصوت ضعيف: «بنيّة قولي: (و ما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر اللَّه شيئاً و سيجزي اللَّه الشاكرين)» [53] .

و عن عائشة: إنّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أسر إليها عليهاالسلام حديثاً فبكت، فقلت لها: أستخصك رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم حديثه ثمّ تبكين؟

ثم إنّة أسّر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن! فسألتها عمّا قال:

فقالت: «ما كنت لأفشي سرّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم».

حتّي إذا قبض النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم سألتها فقالت: «إنّة أسرّ

[ صفحه 95]

إليّ فقال: إنّ جبرئيل عليه السلام كان يعارضني بالقرآن في كلّ عام مرّة، و إنّة عارضني بة هذا العام مرتين، و لا أراه إلّا قد حضر أجلي، و إنّك أوّل أهل بيتي لحوقاً بي، و نعم السلف أنا لك».

فقالت: «أمّا إني حين بكيت فإنّة أخبرني أنّة ميت، فبكيت، ثمّ أخبرني إنّي أوّل أهلة لحوقاً به فضحكت» [54] .

و عن أنس قال: جاءت فاطمة معها الحسن والحسين عليهماالسلام إلي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم في المرض الذي قبض فية فانكبت عليه فاطمة وألصقت صدرها بصدره و جعلت تبكي فقال لها النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «يا فاطمة لا تبكي و لا تلطمي، و لا تخمشي علي

خدّاً، و لا تجزي علي

[ صفحه 96]

شعراً، و لا تدعي بالويل والثبور، و تعزّي بعزاء اللَّه»، ثمّ بكي و قال: «اللّهم أنت خليفتي في أهل بيتي، اللّهم هؤلاء وديعتي عندك و عند المؤمنين».

بوح الأسرار

عن موسي بن جعفر عن أبيه عليهماالسلام: «لمّا كانت الليلة التي قبض النبي في صبيحتها، دعا علياً و فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام و أغلق عليه و عليهم الباب. و قال: يا فاطمة، و أدناها منة فناجاها من الليل طويلاً، فلمّا طال ذلك خرج علي و معه الحسن والحسين و أقاموا بالباب والناس خلف الباب، و نساء النبي ينظرن إلي علي عليه السلام و معه إبناه.

فقالت عائشة: لأمر ما أخرجك منة رسول اللَّه و خلا بإبنته عنك في هذه الساعة؟

فقال لها علي عليه السلام: قد عرفت الذي خلا بها و أرادها

[ صفحه 97]

له، و هو بعض ما كنت فيه و أبوك و صاحباه- مما قد سمّاه-.

فوجمت أن تردّ عليه كلمة.

قال عليّ: فما لبثت أن نادتني فاطمة عليهاالسلام فدخلت علي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و هو يجود بنفسه، فقال لي: ما يبكيك يا علي؟ ليس هذا أو ان بكاء فقد حان الفراق بيني و بينك، فأستودعك اللَّه يا أخي، فقد اختار لي ربّي ما عنده، و إنّما بكائي و غمّي و حزني عليك و علي هذه و اشار الي فاطمة عليهاالسلام أن تضيع بعدي، فقد أجمع القوم علي ظلمكم، و قد استودعتكم اللَّه و قبلكم مني وديعة، إنّي قد أوصيت فاطمة إبنتي بأشياء و أمرتها أن تلقيها إليك فنفذها، فهي الصادقة الصدوقة».

ثمّ ضمّها إليه و قبّل رأسها

و قال: «فداك أبوك يا فاطمة»، فعلا صوتها بالبكاء، ثمّ ضمّها إليه و قال: «أما واللَّه لينتقمنّ اللَّه ربّي، وليغضبنّ لغضبك فالويل ثمّ الويل

[ صفحه 98]

للظالمين، ثمّ بكي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم».

قال علي عليه السلام: «فواللَّه لقد حسبت قطعة منّي ذهبت لبكائه»، حتّي هملت عيناه مثل المطر، حتي بلّت دموعه لحيته و ملاءة كانت عليه، و هو يلتزم فاطمة لا يفارقها. و رأسه علي صدري و أنا مسنده، والحسن والحسين يقبّلان و يبكيان بأعلي أصواتهما.

قال علي عليه السلام: «فلو قلت إنّ جبرئيل في البيت لصدقت لأنّي كنت أسمع بكاء نغمة لا أعرفها، و كنت أعلم أنّها أصوات الملائكة لا شكّ فيها لأنّ جبرئيل لم يكن في مثل تلك الليلة يفارق النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

و لقد رأيت بكاءاً من فاطمة أحسب أنّ السماوات والأرضين بكت لها».

ثمّ قال لها: «يا بنيّة، واللَّه خليفتي عليكم و هو خير خليفة، والذي بعثني بالحقّ لقد بكي لبكائك عرش اللَّه و ما حوله من الملائكة والسموات والأرضون و ما فيهما.

[ صفحه 99]

يا فاطمة، والذي بعثني بالحقّ لقد حرمت الجنّة علي الخلائق حتّي ادخلها، و إنّك لأوّل خلق اللَّه يدخلها بعدي، كاسية حالية ناعمة، يا فاطمة، هنيئاً لك، والذي بعثني بالحق، انّ جهنم لتزفر زفرة لا يبقي ملك مقرّب و لا نبي مرسل إلّا صعق، فينادي إليها أن؛ يا جهنم، يقول لك الجبار: اسكني بعزّي و استقري، حتي تجوز فاطمة بنت محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم إلي الجنان لا يغشاها فقر و لا ذلّة.

والذي بعثني بالحقّ، ليدخلنّ حسن

و حسين: حسن عن يمينك و حسين عن يسارك، ولتشرفنّ من أعلي الجنان بين يدي اللَّه في المقام الشريف، ولواء الحمد مع علي بن أبي طالب عليه السلام.

والذي بعثني بالحق، لأقومنّ بخصومة اعدائك، وليندمنّ قوم أخذوا حقّك و قطعوا مودتّك و كذبوا علي، وليختلجنّ دوني فأقول: اُمّتي، اُمّتي، فيقال: إنّهم بدّلوا بعدك و صاروا إلي السعير» [55] .

[ صفحه 100]

فاطمة بعد أبيها

رأس الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم في حجر علي عليه السلام، والحسن والحسين و اُمهما ينظرون في وجه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و يذرفون الدموع، و فجأة أغمض الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم عينيه، و سكنت أنفاسه الطاهرة، و حلّقت روحه الشريفة إلي الحياة الأبدية السرمدية في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فانهالت هموم الدّنيا و مصائب الدهر علي بضعة النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم الصدّيقة فاطمة عليهاالسلام التي قضت عمرها بالآلام والهموم والغصص، و كلّ ما كانت تجد فية الأمن والراحة هو في وجود أبيها و ظلالة الوارفة، و قد انهار صرح الآمال بعد هذا الحادث المدمر الجلل.

و علي حين غفلة، والزهراء عليهاالسلام غارقة في الاحزان؛ لفقد الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم و علي عليه السلام مشغول بتجهيزة، و إذا بالخبر أنّ جماعة من المسلمين إجتمعوا في سقيفة

[ صفحه 101]

بني ساعدة لتعيين خليفة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم!!

و ما مضت ساعة حتي جاء الخبر ثانية: إنّهم انتخبوا أبابكر خليفة علي المسلمين!!

هزّ الخبر فاطمة و علياً عليهماالسلام و هما في غمرة الغموم والغصص والبكاء علي رسول اللَّه

صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

سبحان اللَّه.. ما حدا مما بدا؟!.. أليس الخليفة هو علي إبن أبي طالب بنص الرسول العظيم صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟! كم مرّة أوصي به صلي اللَّه عليه و آله و سلم خليفةً من بعده، منذ اليوم الأوّل حين دعا عشيرته في يوم الدار (و انذر عشيرتك الأقربين) إلي ساعة وفاته؟!!

ألم ينصّبة خليفة للمسلمين في غدير خم قبل شهور فقط من وفاته؟! و هل ينكر أحد جهاد علي و تضحياته و سابقته في الإسلام، و علمه و هو الذي غذاه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بعلوم النبوة منذ نعومة أظفاره ليكمل المسيرة إلي أهدافة المقدّسة بعده؟!

[ صفحه 102]

الاسلام بحاجة إلي قائد معصوم، لا يزلّ عن جادة الصواب و لا ينحرف يميناً و شمالاً.

... و قد وقع المسلمون في منزلق خطير و فتنة قد تجرهم إلي الهاوية.

... كم تحمّل النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و ضحّي علي عليه السلام من أجل الاسلام في أحلك الظروف و أخطر المواقف، و كم مرّة اقتحم عليّ فم الموت و خاطر بحياته...

أفلا يعلمون أنّ علياً ربيب الوحي والنبوة، المعصوم الذي استقي الإسلام من محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم، لو أصبح قائداً للمسلمين لساق المجتمع الاسلامي الفتي إلي السعادة والرفاة، ولقادهم أحكم و أقوم قيادة، و لحملهم علي المحجّة البيضاء.

نعم... لعلّ هذه الخواطر كانت تجيش في خلد فاطمة عليهاالسلام و تلحّ علي ذهنها، و تحاول إختطاف الصبر منها و اعتصار قلبها المقدس.

[ صفحه 103]

ايام المواجهة

اشاره

لانودّ سرد قصة السقيفة و انتخاب

أبي بكر مرة ثانية لأنّها قصّة ذات شجون و لانريد خدش العواف حيث سبق أن ذكرنا القصة بكاملها في الجزء الثاني من هذا المسلسل (علي المرتضي).

و رحم اللَّه من قال:

آمنت أني مأخوذ علي فمي

و مجتمعي مشلولة يده

و أنّ سيفي ذوحدين أيّهما

سللته راح في عرقي يفصّده

و خلاصة البحث: لمّا إنتهي الإمام علي عليه السلام و من معه من تجهيز النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم، وجدوا أنفسهم أمام أمر قد تم نسجه و اُحبك فتله، و انتهي كل شي ء من خلال أمر دبّر بليل حيث بويع أبوبكر و نصب للخلافة.

[ صفحه 104]

يقول الشيخ إبراهيم الاميني في كتابه (فاطمة الزهراء) ص 119؛

و كان الإمام عليه السلام أمام خيارات ثلاث:

الأوّل: أن يقدم علي حركة حدّية ثورية، و يعلن الحرب علي أبي بكر رسمياً، و يدعو الناس إليها، و يدفعهم نحوها.

و هذا غير ممكن، لأنّة يعني إقحام المجتمع الإسلامي في معركة غير محمودة العواقب، تؤدي إلي إنتفاع الانتهازيين والوصوليين من الفرصة، و استحواذ أعداء الاسلام و قوّة شوكتهم، و هم يتربّصون بالاسلام والمسلمين الدوائر، و بالنتيجية إقتلاع جذور الاسلام الفتي.

الثاني: أن يحافظ علي وجوه و منافعه الشخصية و مصالحه المستقبلية بعد أن انتهي كلّ شي ء فيبايع أبابكر،- دون ممانعة- و عندئذ تبقي مصالحة الشخصية

[ صفحه 105]

في أمان، و ينال المكانة والتكريم والاحترام لدي الجهاز الحاكم.

و هذا غير ممكن أيضاً، لأنّة يعني إمضاءه عليه السلام لبيعة أبي بكر وولايته ولعمل المسلمين أيضاً، مما يؤدي إلي إنحراف الخلافة والولاية والإمامة عن مسارها الأصلي و معناها الحقيقي إلي الأبد، و

تبدد الجهود والتضحيات التي بذها النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم والإمام علي عليه السلام من أجل إرساء قواعد الاسلام و تحكيم اُصول الخلافة الشرعية.

هذا بالإضافة إلي أن ما سيفعله عمر و أبوبكر سيوضع في حساب الإسلام القويم،باعتبارهما ليسا معصومين و صدور الخطأ والذنب و مخالفة الشريعة منهما محتمل جداً.

الثالث: أن يسللك عليه السلام سبيلاً معتدلاً يحفظ بيضة الاسلام و يصون المسلمين و إن كانت ثمارة تأتي متأخرة علي المدي البعيد.

[ صفحه 106]

فعزم هو والزهراء عليهماالسلام علي خوض معركة واسعة- تشتد حيناً، و تنخفض حيناً آخر و بهدوء و حكمة لتضمن سلامة الاسلام و بقاءه و عدم اعطاء الفرصة لأعداء الاسلام المتربصين لة، فكانت المواجهة علي مراحل.

المرحلة 01

أخذ الإمام علي و فاطمة عليهماالسلام بيدي الحسن والحسين عليهماالسلام و طافوا علي بيوت المدينة و رجالها و أشرافها، و دعوهم إلي نصرتهم و ذكّروهم بوصايا النبي الأكرم صلي اللَّه عليه و آله و سلم [56] إتماماً للحجة و كان فاطمة تقول:

أيّها الناس، ألم ينصّب أبي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علياً خليفة عليكم من بعده؟! أنسيتم جهاده و تضحياته؟ لو

[ صفحه 107]

آطعتم ما أوصي به النبي و سلمتم زمام اُموركم لعليّ لهداكم إلي الصراط المستقيم ولساربكم سيراً سجحاً، ولحملكم علي المحجة البيضاء، و لبلغ بكم غايات رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

أيّها الناس،... الم يقل أبي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضّلوا بعدي أبداً: كتاب اللَّه و عترتي هل بيتي؟»

أيّها الناس.. أتخذلوننا و تتركوننا

لوحدنا و تتثاقلون عن نصرتنا؟!

و هكذا أبواعلي دعوة الناس إلي الحق وإلقاء الحجة عليهم بأساليب شتي لعلّهم يرشدون و يندمون و يثوبون، و ليعيدوا الخلافة إلي أهلها و تعود الاُمور إلي نصابها.

و بالفعل استطاعوا أن يكسبوا من خلال هذه الحملة الإعلامية الواسعة جماعة وقعت تحت تأثير الحقيقة، فواعدوهم النصرة، و ما و في بالوعد إلّا القليل.

[ صفحه 108]

فكانت ثمار هذه المرحلة- التي أعلنوا فيها مخالفتهم للنظام الحاكم ولشخص أبي بكر بالذات- ميل بعض القلوب نحو البضعة الطاهرة و زوجها و انجلاء الحقيقة نسبياً للاُمة، و سيأتي تفصيل ذلك.

المرحلة 02

اشاره

رفض الإمام علي عليه السلام البيعة لأبي بكر، و أعلن سخطه علي النظام الحاكم،ليتّضح للعالم أنّ هذه الحكومة التي أعرض عنها الرجل الأوّل في الإسلام بعد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم- علي بن أبي طالب عليه السلام- لا توافق الخلافة الاسلامية جذرياً.

و كذلك فعلت فاطمة عليهاالسلام، ليعلم الناس أنّ بنت نبيّهم لا ترضي عن هذه الخلافة.

و بدأ الإمام عليه السلام جهاداً سلبياً ضد الغاصبين، فاشتغل بجمع القرآن و تأليفه و ترك المجتمع، و أصبح جليس

[ صفحه 109]

داره.

فقال عمر لأبي بكر: يا هذا، إنّ الناس قد بايعوك ما خلا هذا الرجل و من معه في بيته، فابعث إلية، فبعث إليه قنفذاً، و قال له: يا قنفذ، انطلق إلي علي فقل له: أجب خليفة رسول اللَّه، فبعثاة مراراً و أبي علي عليه السلام أن يأتيهما.

فوثب عمر غاضباً و نادي خالد بن الوليد، والمغيرة إبن شعبة، و مولاه قنفذاً، و جماعة من أتباعهم، و أمرهم بحمل الحطب و كان بيده قبس من نار، ثمّ أقبل حتي انتهي إلي دار علي

و فاطمة عليهماالسلام و صاح بأعلي صوته يا ابن أبي طالب أخرج حتّي تبايع و تدخل فيما دخل فية الناس، و إلّا أحرقت عليكم (الدار).

فخرجت إليه فاطمة الزهراء عليهاالسلام معصبة الرأس ناحلة الجسم منهدة القوي، و وقفت خلف الباب رعاية للحجاب، لتمنع عمر و أتباعه من الهجوم علي الدار و قالت: «يا عمر ما لنا ولك، ألا تدعنا و ما نحن فيه».

[ صفحه 110]

فقال عمر: إفتحي الباب و إلّا أحرقنا عليكم (الدار). فقالت: «يا عمر أما تتقي اللَّه؟ تدخل علي بيتي و تهجم علي داري؟!!».

فأبي ذلك و منعته فاطمة و استبسلت ولكنه ركل الباب برجله بقوة و فتحها عنوة، ولاذت الزهراء وراء الباب رعاية للحجاب، فعصرها بين الحائط والباب عصرة كادت أنفاسها أن تخرج فيها فكسر ضلعاً من أضلاعها و أنبت المسمار في صدرها و أسقطت جنينها و وقعت علي الأرض مغشياً عليها.

فهجم هو و أتباعه علي الدار شاهرين السلاح، فخرج إليهم الزبير شاهراً سيفه ليمنعهم ولكنه عثر و سقط علي الأرض فوثبوا عليه و أخذوا السيف منه.

ثمّ دخلوا علي عليّ عليه السلام الدار فأخذوه و قادوه مكتفاً بحمائل سيفه و هو صابر محتسب، فتصدت لهم فاطمة الزهراء لتمنعهم ولتحول بينه و بينهم بعد ما قامت من

[ صفحه 111]

غشيتها علي ما فيها من الآلام من شدّة العصرة، فرفع خالد بن الوليد السيف و هو في غمده و وجأ به جنبها فصرخت ثم أمر عمر قنفذاً ليردها، فرفع هذا السوط و ضرب عضدها حتي اسودّ، فألجأها إلي عضادة البيت فدفعها فكسر ضلعاً من أضلاعها، فلم يكتف عمر بذلك حتي رجع عليها بنفسه فسطرها علي

خدها حتي أحمّرت عينها و انتثر قرطها فإنا للَّه و إنا إلية راجعون.

ثمّ أخذوا علياً إلي المسجد، فهبّت الزهراء عليهاالسلام لنصرة الحق والدفاع عن ابن عمها، و خرجت علي أثره كسيرة الضلع منهكة الجسد، شاحبة الوجه فلمّا انتهت إلي القبر صاحت يا أبة يا رسول اللَّه ماذا لقينا بعدك؟ و قالت: «خلّوا ابن عمي، فوالذي بعث محمّداً بالحق لئن لم تخلوا عنة لأنشرنّ شعري ولأضعنّ قميص رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي رأسي و لأصرخنّ إلي اللَّه».

و كادت تقلب نظام الحكم يومئذٍ بدعائها و استغاثتها،

[ صفحه 112]

فلمّا أحسّ علي عليه السلام بالخطر نادي سلمان و قال له: «أدرك بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و أصرفها عن الدعاء».

فجاءها سلمان و قال: يا سيدتي و مولاتي، انّ اللَّه- تبارك و تعالي- بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة.

فقالت: «يا سلمان، دعني أنتقم من هؤلاء الظالمين».

قال: إنّ علياً أمرني أن أصرفك عن الدعاء.

قالت: «لئن قد أمر علي فسمعاً و طاعة، أصبر».

و ما غادرت فاطمة المكان حتي أخذت بيد علي و عادت به إلي الدار [57] .

و قد روي هذا الخبر بالفاظ متفاوتة جمع من المؤرخين والمحدثين المتقدمين و إليك بعض أقوالهم:

في العقد الفريد ج 2 ص 250، و تاريخ أبي الفداء ج 1

[ صفحه 113]

ص 156، و أعلام النساء ج 3 ص 1207: و بعث إليهم أبوبكر عمر بن الخطاب، و قال له: فإن أبوا فقاتلهم. و أقبل عمر بقبس من نار علي أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة فقالت: «يابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟». قال: نعم،

أو تدخلوا فيما دخلت في الاُمة:

و في تاريخ الطبري ج 3 ص 198 والإمامة والسياسة ج 1 ص 13 و شرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 134: دعا- عمر- بالحطب و قال: واللَّه لنحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلي البيعة، أو لأحرقنها علي من فيها. فيقال للرجل: إنّ فيها فاطمة فيقول: و إن!!

ذكر ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) ص 19:

كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب (كرم اللَّه وجهه)؟

قال: و انّ أبابكر تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي (كرم اللَّه وجهه) فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم و هم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب و قال:

[ صفحه 114]

والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها علي من فيها.

فقيل له: يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة!

قال: و إن!

فخرجوا فبايعوا إلّا علياً فإنه قال: «حلفت أن لا أخرج و لا أضع ثوبي (ردائي)علي عاتقي حتي أجمع القرآن».

فوقفت فاطمة (رضي اللَّه عنها) علي بابها و قالت: «لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم جنازة بين أيدينا و قطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا و لم تردوا (تروا) لنا حقاً؟!

و يقول محمّد حافظ إبراهيم (شاعر النيل) في قصيدته العمرية:

و قوله لعليّ قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

[ صفحه 115]

حرقت دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع و بنت المصطفي فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها

أمام فارس عدنان و حاميها

ذكر مصطفي بك الدمياطي في شرحه علي هذه القصيدة ص

38: و في رواية لابن جرير الطبري قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال: أتي عمر إبن الخطاب منزل عليّ و به طلحة والزبير و رجال من المهاجرين فقال: واللَّه لأحرقنّ علكيم أو لتخرجن إلي البيعة فخرج عليه الزبير معلناً بالسيف فعثر و سقط السيف من يدة، فوثبوا عليه فأخذوه... الخ.

كما روي ابن جرير الطبري بحديث مماثل له.

و قد روي الشهرستاني في (الملل والنحل) ص 83 عن النظّام قال: إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتي ألقت الجنين (المحسن) من بطنها، و كان يصيح:

[ صفحه 116]

احرقوا دارها بمن فيها. و ما كان في الدار غير علي و فاطمة والحسن والحسين.

و روي مثل ذلك البلاذري في (أنساب الأشراف) ج 1 ص 404.

و ذكر ابن خذابة أو خرذاذبه في غدره: قال زيد بن أسلم: كنت ممّن حمل الحطب مع عمر إلي باب فاطمة حين إمتنع علي و أصحابه عن البيعة، فقال عمر لفاطمة: أخرجي من البيت أو لأحرقنه و من فيه!!!

قيل: في البيت علي و فاطمة والحسن والحسين و جماعة من أصحاب النبي، فقالت فاطمة: «أفتحرق علي ولدي؟».

فقال: أي واللَّه أو ليخرجنّ وليبايعنّ!!

هذا ما ظفرت به من المصادر المذكورة في كتب أهل السنة والجماعة، ولعل غيري يجد أكثر من هذه المصادر في كتبهم.

[ صفحه 117]

بعد إستعراض هذه النصوص التاريخية انكشف لنا موقف بعض المسلمين تجاه أهل بيت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و اتضح لنا أنّ بعض الأفراد لم يراعوا حرمة السيدة فاطمة الزهراء و لا حرمة بيتها، و لا راقبوا كرامة زوجها أميرالمؤمنين علي،

ولاكرامة ولديها: الحسن والحسين، و لم يحفظوا فيهم حرمة الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم المرء يحفظ في ولده.

عزيزي القاري ء: أعرض لك صورة موجزة للحوادث التي حصلت بعد يوم السقيفة و ما جري علي أهل بيت الرسالة.

أنقلها ملخصاً مما رواه أئمة الحديث والحفاظ في صحاحهم و مسانيدهم و مصادرهم الصحيحة من اخواننا علماء أهل السنة والجماعة [58] بألفاظ متفاوتة تؤدي إلي

[ صفحه 118]

معني واحد.

بعد البيعة المفاجئة والخاطفة التي تمت بالخلافة لأبي بكر، عاد إلي بعضهم رشده: و ندموا علي تسرعهم و إندفاعهم لعقد البيعة بصورة إرتجالية لأبي بكر بتأثير عمر بن الخطاب والتحقوا بالمؤمنين الذين رفضوا إعطاء البيعة لة و هم من أعيان الصحابة من المهاجرين والأنصار و خيارهم و ممّن أشاد النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بفضلهم و إدراكهم لحقائق الاُمور، أمثال العباس بن عبدالمطلب، و عمار بن ياسر، و أبي ذر الغفاري، و سلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، و خزيمة ذي الشهادتين، و عبادة بن الصامت، و حذيفة بن اليمان، و سهل بن حنيف، و عثمان بن حنيف، و أبي أيوب

[ صفحه 119]

الأنصاري، و عنبثة بن أبي لهب و غيرهم من الذين لم تسيطر عليهم الغوغائية، و لم ترهبهم تهديدات الانقلابيين و في مقدمتهم عمر بن الخطاب، و كانوا يتجاهرون بإنتقاد السلطات الحاكمة بكل جرأة علي رغم الإرهاب الذي شمل الكلّ، ممّا ألهب مشاعر الكثيرين الذين انجرفوا مع التيار، و ندموا فيما بعد علي ما ظهر منهم من العداء السافر تجاة أهل بيت النبوة، أضف إلي ذلك بعض العشائر المؤمنة المحيطة بالمدينة مثل أسد، و فزارة، و بني حنيفة

و غيرهم ممّن شاهدوا بيعة يوم الغدير «غدير خم» التي عقدها الرسول الأعظم لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب بإمرة المؤمنين من بعده، و لم يطل بهم المقام حتي سمعوا بإلتحاق الرسول إلي الرفيق الأعلي، والبيعة لأبي بكر بن أبي قحافة و تربعه علي منصة الخلافة فاندهشوا لهذا الحادث و رفضوا البيعة لأبي بكر جملةً و تفصيلاً و امتنعوا عن أداء

[ صفحه 120]

الزكاة ريثما ينجلي الموقف، و كانوا علي إسلامهم يقيمون الصلاة و يؤدون جميع الشعائر، ولكن السلطة الحاكمة رأت من مصلحتها أن تجعل حداً لمثل هؤلاء و ترميهم بالإرتداد والكفر وسعت إلي محاربتهم بكل ما أوتيت من قوة بقيادة خالد بن الوليد و من سار في ركبهم.

وقد أدرك هذه الحقيقة جماعة من المستشرقين والكتاب العرب والمحدثين، وألمح إليها بعض المؤلفين القدامي في هذا الموضوع و بهذه المناسبة، فقد قال المستشرق لانس في كتابه.

إنّ الحزب القرشي الذي يرأسة أبوبكر و عمر إبن الخطاب، و أبوعبيدة بن الجراح، لم يكن وليد الساعة و لا مفاجأةً أو إرتجالاً و إنّما كان وليد مؤامرة سرّية مجرمة حيكت اُصولها و رتبت أطرافها بكل إحكام و إتقان، و إن أبطال هذه المؤامرة أبوبكر، و عمر

[ صفحه 121]

بن الخطاب، و أبوعبيدة بن الجراح، و سالم مولي حذيفة، و عائشة، و حفصة، و غيرهم. (مات بعضهم قبل تنفيذها).

و عند ذلك أحس أبوبكر و حزبه بالخطر المحيط بهم و بحكمهم من تصاعد المعارضة أن لم يبادروا فوراً إلي إيقاف هذا التيار، و ذلك بإجبار رأس المعارضة علي بن أبي طالب و من يدور في فلكه علي بيعة أبي بكر، فاجتمع الحزب الحاكم و أمر عمر بن الخطاب، خالد

بن الوليد، والمغيرة بن شعبة و من يتابعهم مثل قنفذ و غيرهم فقصدوا دار علي و فاطمة و أبنائهما عليهم السلام، حاملين معهم رزمات الحطب، و قبس من النار كان بيد عمر، و ذلك لإحراق البيت علي أهله ان لم يخرج عليّ لبيعة أبي بكر.

و كان في الدار علي، و سلمان، والمقداد، و عمار، و أبوذر، والزبير، و لما أحاط الانقلابيون بالدار صاح

[ صفحه 122]

عمر بن الخطاب و قبس النار بيده: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ من الدار إلي البيعة أو لأحرقنها علي من فيها، و بدا عليه الهيجان والتصميم علي ذلك.

فقيل له: انّ في الدار فاطمة بنت رسول اللَّه و ابناءها الحسن والحسين، قال: و إن.

فخرج إليهم الزبير شاهراً سيفه ليمنعهم فعثر و وقع السيف من يدة فوثبوا عليه و أخذوا السيف و ضربوا به الجدار.

ثمّ حاول المهاجمون أن يدخلوا الدار فوقفت السيدة فاطمة الزهراء وراء الباب لتمنعهم من الدخول فلم يراعوا حرمتها و مقامها من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فدفع عمر الباب بقوّة ولاذت فاطمة وراء الباب رعاية لسترها لأنها كانت بدون حجاب، فعصرها عمر بين الحائط والباب عصرةً شديدة كسر ضلعها و أسقط جنينها، و نبت المسمار في صدرها و وقعت علي الأرض مغشياً عليها،

[ صفحه 123]

فجاءت خادمتها فضة فأسندتها إلي صدرها و حملتها إلي فراشها.

و هجم القوم علي الدار و أخرجوا الإمام من الدار قاصدين به المسجد ملبداً بحمائل سيفه حاسر الرأس والسيف مسلط علي رأسه مهددين له بالقتل إن لم يبايع أبابكر، و هو صابر، و ينادي يابن اُم انّ القوم استضعفوني و كادوا

يقتلوني.

هذا ما نقلته بصورة موجزة مما قرأته في كتب أعلام القوم و محدثيهم. و إليكم صورة اُخري رواها المؤرخون والمحدثون في صحاحهم و كتبهم و مصادرهم الموثوقة أنقلها ملخصاً روماً للإختصار.

أيها القارئ العزيز:

لقد وصلنا في حديثنا هذا إلي موضع حساس جداً تاريخياً و دينياً و عقائدياً، و لا أعلم ما يكون صدي هذه الجمل التي سأذكرها، و هي من روايات و أقوال فطاحل

[ صفحه 124]

العلماء والمؤرخين من إخواننا أهل السنّة والجماعة الذين اثبتوها في صحاحهم و مسانيدهم بمصادرهم و طرقهم الخاصة.

ولعلّك لا ترضي بهذه الحقائق الثابتة و لا تصدق أنّها صدرت من اُناس تسنموا الصدارة في الاسلام و من طليعة الصحابة.

علي كل حال لا يهمني هذا بقدر ما يهمني أن تطّلع علي الحقائق الدامغة التي نقلتها من كتبهم و مصادرهم والثابتة ثبوت الوتد في الأرض أو واضحةً وضوح الشمس في رابعة النهار، أنقلها للحقيقة والتاريخ.

و إليك أولاً: ما ذكره الاستاذ عبدالفتاح عبدالمقصود في كتابه «الإمام علي بن أبي طالب ص 225».

أنقلها ملخصاً حيث قال:

و اجتمعت جموعهم- آونة في الخفاء و اُخري علي ملاء- يدعون إلي علي بن أبي طالب لأنهم رأوه أولي

[ صفحه 125]

الناس بان يلي اُمور الناس: ثمّ تألبوا حول داره يهتفون بإسمه و يدعونه أن يخرج إليهم ليردّوا عليه تراثه المسلوب.

و كذلك سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب ذلك النهار، و هو يسير في جمع من صحبه و معاونيه إلي دار فاطمة و في باله أن يحمل ابن عم رسول اللَّه، إن طوعاً و إن كرهاً، علي البيعة و إقرار ما أباه حتّي الآن سواءً بالسيف أو بالنار و

أقبل الرجل محنقاً مندلع الثورة علي دار عليّ و قد ظاهره معاونوه و من جاء بهم فاقتحموها أو أوشكوا علي الإقتحام، فإذا وجة كوجه رسول اللَّه يبدو بالباب، حائلا من حزن، علي قسماته خطوط الآم، و غضوا الأبصار من خزي (ما اقدموا عليه) أو استحياء و هي ترفع صوتها الرقيق الحزين النبرات، تهتف بمحمّد الثاوي بقربها، و تناديه باكية مريرة: «يا أبت يا رسول اللَّه، يا أبت يا رسول اللَّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب،

[ صفحه 126]

و ابن أبي قحافة»، فكأنما زلزلت الأرض بندائها تحت هذا الجمع الباغي، من رهبة النداء...

هذا ما اقتطفناه من كتاب الاستاذ عبدالفتاح الكاتب المصري المعاصر «الإمام علي بن أبي طالب».

فقد عرفنا من هذه النصوص أن العصابة جاءت لإخراج الإمام علي من بيته ليبايع أبابكر، و قد سمعنا منهم التهديد بإحراق البيت و كل من فيه من آل، رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

ما كانت السيدة فاطمة الزهراء تنتظر أن تري في حياتها يوماً كذلك اليوم، و مأساةً كتلك المأساة، و إن كان أبوها الرسول قد أخبرها بذلك إجمالاً أو تفصيلاً، ولكنّ السماع شي ء والرؤية شي ء آخر، و تأثير المصيبة يختلف سماعاً و رؤيةً.

إن كانت السيد فاطمة قد سمعت من أبيها الرسول أنّ الأمور سوف تنقلب عليها، و انّ الأحقاد سوف تظهر بعد

[ صفحه 127]

وفاة الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم فإنها قد شاهدت باُم عينها تلك الأحداث فقد هجم القوم علي عرينها ليخرجوا زوجها من ذلك البيت الذي ما كان الرسول يدخله إلّا بعد الاستئذان من فاطمة.

لا تستطيع الزهراء أن تسكت و تقف موقف المتفرجة، و

أية عائلة تسكت أو تهدأ إذا رأت عصابه تريد الهجوم علي بيتها لإخراج رئيس العائلة؟

فالخوف والذعر والاضطراب يبلغ أشدّة، و يسلب من العائلة كل استقرار و هدوء، فالأطفال يصرخون باكين من هول الموقف، والأصوات ترتفع في تلك اللحظات الرهيبة.

كانت السيدة فاطمة (قبل هجوم القوم) خلف الباب و قد عصّبت رأسها بعصابة: و لم يكن عليها خمار.

فلمّا هجم القوم لاذت السيدة فاطمة خلف الباب لتستر نفسها عن أولئك الرجال، فعصروها عصرة

[ صفحه 128]

شديدة، و كانت هي حاملاً في الشهر السادس من حملها.

صرخت السيدة صرخة من شدّة الألم، لأن جنينها قتل من صدمة الباب و لا تسأل عن مسمار الباب الذي نبت في صدرها بسبب عصرة الباب.

و في تلك اللحظات العصيبه كان القوم قد دخلوا الدار و ألقوا القبض علي الإمام أميرالمؤمنين و هم يريدون إخراجه من الدار.

و قد حالت السيدة فاطمة الزهراء بين القوم و بين إخراجه علي الرغم ممّا ألم بها من الاجهاض و آلامه والاعياء الشديد.

و قد أصدر ابن الخطاب الأمر لعبده (قنفذ) بردها، فضرب السيدة فاطمة حبيبة رسول اللَّه و عزيزته بالسوط علي عضدها فاسود و صار مثل الدملج إلي حين وفاتها، كل ذلك جري علي مرأي و مسمع من أطفالها و هم

[ صفحه 129]

يتصارخون، و أدي ذلك إلي مرضها الشديد حتّي و افتها المنية، فإنّا للَّه و إنّا إليه راجعون.

ولكن القوم لم يعيروا اهتماماً بما جري علي سيدة النساء و إبنة سيد الأنبياء،بل أخذوا زوجها علي أميرالمؤمنين ملبّداً بحمائل سيفه بعد أن نزعوا عنة سلاحه،و هنا يقف القلم عن الجري، و يخرس اللسان عن البيان و

شرح ما جري تلك اللحظات علي آل الرسول، و قد قادوه إلي المسجد و هو ينظر يميناً و شمالاً، و ينادي: «واحمزتاه، و لا حمزة لي اليوم، وا جعفراه و لا جعفر لي اليوم»، و قد مروا به علي قبر أخيه و ابن عمه رسول اللَّه، و هو ينادي: «يا ابن اُم إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني».

فقال عمر بايع. فقال علي: «فإن أنا لم أفعل فمه؟»، قال له إذن واللَّه أضرب عنقك؟

قال علي: «إذن واللَّه تقتلون عبداللَّه و أخا رسول

[ صفحه 130]

اللَّه».

فقال عمر: أما عبداللَّه فنعم، و أمّا أخو رسول اللَّه فلا.

فقال: «أتجحدون أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم آخي بيني و بينه؟»، و جري حوار شديد بين الإمام و بين الزمرة الحاكمة.

و عند ذلك وصلت السيدة فاطمة إلي المسجد و قد أخذت بيد ولديها الحسن والحسين، و ما بقيت هاشمية إلّا و خرجت معا، يصحن و يولولن و صاحت: «خلّوا عن ابن عمي!! خلوا عن بعلي!! واللَّه لأكشفنّ رأسي و لأضعنّ قميص أبي علي رأسي و لأدعونّ عليكم، فما ناقة صالح بأكرم علي اللَّه مني، و لا فصيلها بأكرم علي اللَّه من ولدي» [59] .

و في رواية العياشي: قالت: «يا أبابكر أتريد أن

[ صفحه 131]

ترمّلني من زوجي و تيتم أولادي؟ واللَّه لئن لم تكف عنه لأنشرنّ شعري، ولأشقنّ جيبي، و لآتينّ قبر أبي، و لا صيحنّ إلي ربيّ»، فأخذت بيد الحسن والحسين تريد قبر أبيها عند ذلك صالح الناس من هنا و هناك بأبي بكر ما تريد إلي هذا؟ أتريد أن تنزل العذاب علي هذه الأمة؟

فما رجعت السيدة

فاطمة إلي البيت الّا و أخذت زوجها معها و أنقذته من تلك الزمرة، و خلصته من أخذ البيعة منه بالقهر والقوّة.

نعود إلي ما ذكره ابن قتيبة في «الإمامة والسياسة» ص 11:

و ذكروا إنّ علياً اُتي به إلي أبي بكر و هو يقول: «أنا عبداللَّه و أخو رسوله». فقيل له: بايع أبابكر، فقال: «أنا أحق بهذا الأمر منكم. لا اُبايع، و أنتم أولي بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و تأخذونه من أهل البيت

[ صفحه 132]

غصباً؟! ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولي بهذا الأمر لمكان محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم منكم؟؟ فأعطوكم المقادة، و سلّموا إليكم الإمارة؟ و أنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به علي الأنصار، نحن أولي برسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم حياً و ميتاً فأنصفونا من أنفسكم إن كنتم تخافون المعاد».

فقال له عمر: أنت لست متروكاً حتي تبايع.

فقال له علي: «أحلب حلباً لك شطره!! أشدد له اليوم ليرده عليك غداً. واللَّه يا عمر لا أقبل قولك و لا اُبايعه».

فقال له أبوبكر: فإن لم تبايعني فلا اكرهك.

فقال علي: «يا معشر المهاجرين اللَّه! اللَّه! لا تخرجوا سلطان محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم من داره، و قعر بيته إلي دوركم و تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقه».

هذا ما رواه ابن قتيبة في كتابه «الإمامة والسياسة».

و امّا ما ذكرة العياشي في تفسيره ج 2 ص 67 فقد

[ صفحه 133]

سبق أن ذكرته.

قال ابن أبي الحديد ج 14 ص 192:

إنّ زينب بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم تجهزت للّحوق بأبيها، و خرجت من مكّة علي بعير لها و هي في الهودج، فخرج في طلبها هبّار بن الأسود فروّعها بالرمح- و هي في الهودج- و كانت حاملاً، فلمّا رجعت طرحت ما في بطنها، فلذلك أباح رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يوم فتح مكّة دم هبّار بن الأسود.

قلت- والكلام لابن أبي الحديد-: و هذا الخبر أيضاً قرأته علي النقيب أبي جعفر فقال: «إذا كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أباح دم هبّار بن الأسود لأنّه روّع زينب فألقت ذابطنها، فظهر الحال أنّه لو كان حيّاً لأباح دم من روّع فاطمة حتّي ألقت ذابطنها».

و لقد خاطب الإمام الحسن عليه السلام المغيرة بن شعبة في مجلس معاوية بقوله: «و أنت ضربت فاطمة بنت رسول اللَّه حتي أدميتها، وألقت ما في بطنها، استذلالاً منك

[ صفحه 134]

لرسول اللَّه، و مخالفةً منك لأمره، و إنتهاكاً لحرمته، و قد قال لها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: انت سيدة نساء أهل الجنّة. واللَّه يا مغيرة إن مصيرك إلي النار».

و في كتاب سليم بن قيس، عن ابن عباس: فضربها قنفذ بالسوط فماتت حين ماتت و إنّ في عضدها كمثل الدملج من ضربته.. فألجأها إلي عضادة بيتها و دفعها، فكسر ضلعاً من أضلاعها فالقت جنيناً من بطنها...

و كذا قال الإمام الصادق عليه السلام: «و كان سبب وفاتها أنّ قنفذاً- مولي عمر بن الخطاب- لكزها بنعل السيف بأمره.. فأسقطت محسناً، و مرضت من ذلك مرضاً شديداً فماتت، و آثار الضرب في عينها و عضدها».

و يستفاد من جملة الأحاديث والأخبار إنّ الذين

ضربوا بضعة الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم كانوا أكثر من واحد.

و انفجرت قرائح الشعراء بدموع القوافي لتبكي مصاب الزهراء عليهاالسلام:

[ صفحه 135]

الواثبين لظلم آل محمد

و محمّد ملقي بلا تكفين

والقائلين لفاطم آذيتنا

في طول نوح دائم و حنين

والقاطعين أراكة كي ما تقيل

بظل أوراق لها و غصون

و مجمعي حطب علي البيت الذي

لم يجتمع لولاه شمل الدين

والداخلين علي البتولة بيتها

والمسقطين لها أعز جنين

والقائدين إمامهم بنجاده

والطهر تدعو خلفهم برنين

خلّوا ابن عميّ أو لأكشف في الدعا

رأسي و أشكو للإله شجوني

[ صفحه 136]

ما كان ناقة صالح و فصيلها

بالفضل عند اللَّه إلّا دوني

و رنت إلي القبر الشريف بمقلة

عبري و قلب مكمد محزون

أبتاه هذا السامري و عجله

تبعا و مال الناس عن هارون

أي الرزايا أتقي بتجلدي

هو في النوائب ما حييت قريني

فقدي أبي أم غصب بعلي حقّه

أم كسر ضلعي أم سقوط جنيني

أم أخذهم حقي و فاضل نحلتي

أم جهلهم قدري و قد عرفوني

قهروا يتيميك الحسين و صنوه

و سألتهم إرثي و قد نهروني [60] .

[ صفحه 137]

و للشيخ محمد حسين الغروي الكمباني:

قال سليم قلت يا سلمان

هل دخلوا و لم يك استيذان

قال بلي و عزّة الجبار

و ما علي الزهراء من خمار

و فاطم لاذت وراء الباب

رعاية للستر والحجاب

و مذ رأوها عصروها عصرة

كادت بنفسي أن تموت حسرة

فأسقطت بنت الهدي و احزنا

جنينها ذاك المسمي محسنا

تقول يا فضّة سنّديني

فقد و ربي اسقطوا جنيني

أيضرم النار بباب دارها

و آية النور علي منارها

[ صفحه 138]

لكن كسر الضلع ليس ينجبر

إلا بصمصام عزيز مقتدر

إذ رضّ تلك الأضلع الزكية

رزية ما بعدها رزيّة

و من نبوع الدم من ثدييها

يعرف عظم ما جري عليها

و جاوزوا الحد بلطم الخدّ

شلّت يد الطغيان والتعدي

فأجرت العين و عين المعرفة

تذرف بالدمع علي تلك الصفة

و لا تزيل حمزة العين سوي

بيض السيوف يوم ينشر اللوي

وللسياط رنّة صداها

في مسمع الدهر فما أشجاها

[ صفحه 139]

والأثر الباقي كمثل الدملج

في عضد الزهراء أقوي الحجج

و من سواد متنها اسود الفضا

يا ساعد اللَّه الإمام المرتضي

و وكز نعل السيف في جنبيها

أتي بكل ما أتي عليها

ولست أدري خبر المسمار

سل صدرها خزانة الاسرار

و في جنين المجد ما يدمي الحشا

و هل لهم إخفاء أمر قد فشا

والباب والجدار والدماء

شهود صدق ما به خفاء

وإليك: خمسة أبيات مقتطفة من قصيدة الأزدي، والخمسة الاُخري من قصيدة شريف مكّة:

[ صفحه 140]

تركوا عهد أحمد في أخيه

و أذاقوا البتول ما أشجاها

و هي العروة التي ليس ينجو

غير مستعصم بحبل ولاها

لم ير اللَّه للرسالة أجراً

غير حفظ الزهراء في قرباها

يوم جاءت ياللمصاب إليهم

و من الوجد ما أطال بكاها

قدعت و اشتكت إلي اللَّه شكوي

والرواسي تهتز من شكواها

جرعاها بعد والدها الغيظ

مراراً فبئس ما جرعاها

أهل بيت لم يعرفوا سنن الجور

التباساً عليهم و اشتباها

[ صفحه 141]

ما كان تحت الخضراء بنت نبي

صادق ناطق أمين سواها

بنت من؟ اُم من؟ حليلة من؟

ويل لمن سن ظلمها و اذاها

ختم اللَّه رسلة بأبيها

واصطفاه لوحيه و اصطفاها

و للسيد صالح الحلي:

يا مدرك الثار البدار البدار

شنّ علي حرب عداك المغار

تنسي علي الدار هجوم العدي

مذ أضرموا الباب بحزل و نار

و رض من فاطمة ضلعها

و حيدر يقاد قسراً جهار

تعدو و تدعوا خلف أعدائها

يا قوم خلّو عن علي الفخار

[ صفحه 142]

قد أسقطوا جنينها و اعتري

من لطمة الخدّ العيون إحمرار

فما سقوط الحمل؟ ما صدرها؟

ما لطمها؟ ما عصرها بالجدار

ما وكزها بالسيف في ضلعها؟

و ما انتشار قرطها والسوار

ما ضربها بالسوط ما منعها

من البكا و ما لها من قرار؟

و لصالح الكواز:

لولا سقوط جنين فاطمة لما

اُوذي لها في كربلاء جنين

و بكسر ذاك الضلع رضت أضلع

في طيّها سر الإله مصون

و كذا عليّ قوده بنجاده

فله

عليّ بالوثاق قرين

[ صفحه 143]

و كما لفاطم رنّة من خلفه

لبناتها خلف العليل رنين

و بزجرها بسياط قنفذ و شحت

بالطف من زجر لهن متون

مواجهة قصيرة

بالرغم من أنّ المعركة التي خاضتها فاطمة عليهاالسلام كانت لفترة قصيرة و وقعت في محيط محدود، غير أن صداها بقي لأجيال و أجيال و إلي يومنا هذا و يجدر الالتفات إلي عدّة اُمور فيها:

الأوّل: انّ الزهراء عليهاالسلام هبّت للدفاع عن الوصي و وقفت وراء الباب بصلابة متناهية حينما حاصروا البيت ليأخذوا علياً و قاومت في موقعها حتي عصروها بين الباب والحائط، و كسروا ضلعها و اسقطوا جنينها.

الثاني: انّ الزهراء عليهاالسلام رفضت الفرار بعد أن اقتحموا

[ صفحه 144]

الدار، و أصرت علي الصمود والمقاومة والوقوف بوجوههم، علي ما بها حتّي وجأوا صدرها المقدّس بغمد السيف، و ضربوها حتي أسودّ عضدها المبارك.

الثالث: دخلت فاطمة عليهاالسلام الميدان من جديد، عندما استخرجوا علياً و تعلقت به، و حالت بينهم و بينه، و ما تراجعت حتي اسودّ بدنها من سياط قنفذ.

و بعد كلّ هذا انطلقت إلي المسجد- تريد إعلان سخطها و تخليص زوجها من أيدي الأعداء- صارخة مستغيثة باللَّه و رسوله علي رؤوس الأشهاد. و حينما يئست منهم انصرفت للدعاء عليهم لولا أنّ الإمام عليه السلام أدركها فرجعت إلي البيت بعد أن خلّصت زوجها.

نعم، هكذا وقفت فاطمة الزهراء عليهاالسلام، بكل ما اُوتيت من قوة، للدفاع عن علي عليهاالسلام، و منعهم عن أخذ البيعة منة قهراً و إظهار السخط علي الخلافة والخلفاء و أهل

[ صفحه 145]

الشوري بل و عليهم أجمعين.

و

إنّ ضربها، و كسر ضلعها، و إسقاط جنينها، كشف مؤامراتهم و أسقط أقنعتهم.

و فهم العالم- عملياً- نتائج الانحراف عن الخلافة الحقّة فمن أجل الاحتفاظ بالملك والسلطان ما تورّعوا عن كسر ضلع عزيزة نبيهم، و قتل ابنها في بطن اُمّه،و بذلك تنذر المسلمين، و تقدّم لهم أنموذجاً واضحاً من نتائج خلافة الشوري، غير ان الشدة المقرونة بكم الافواه والارعاب والارهاب و سرعة الاجراءات الصارمة ساعدت علي تنفيذ خطط الحزب الحاكم و مؤامراتهم التي دبرت بليل.

والزهراء عليهاالسلام خريجة مدرسة النبوة والإمامة، درست التضحية والفداء، والشجاعة في هذين البيتين، فلا تخاف كسر الضلع و لا الضرب، و لا تخشي سوي اللَّه في مواقع الدفاع عن الحق والاهداف المقدسة.

[ صفحه 146]

المرحلة 03

اشاره

أحسن كلام نفتتح به هذا الحديث، و أصدق حديث نبدأ به في هذا الموضوع هو كلام اللَّه تعالي: (و من أصدق من اللَّه قيلا- و من أصدق من اللَّه حديثا).

قال تعالي: (فآت ذاالقربي حقه والمسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه اللَّه و اُولئك هم المفلحون».

هذه الآية كما تراها خطاب من اللَّه عز و جل إلي حبيبه محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم يأمره أن يؤتي ذاالقربي حقه، فمن ذواالقربي؟ و ما هو حقهم؟

لقد ذكرنا- في آية القربي أو آية المودة- أنّ المقصود من القربي هم أقرباء الرسول و هم علي و فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فيكون المعني: و أعط ذوي قرباك حقوقهم.

[ صفحه 147]

أمّا فدك فقرية تبعد عن المدينة عدّة فراسخ، كان فيها بساتين و مزارع لليهود، فلمّا فرغ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم من خيبر

قذف اللَّه الرعب في قلوب أهل فدك، فبعثوا إلي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فصالحوه علي اعطائهم فدك والعمل فيها علي النصف من واردها فقبل منهم ذلك. و كانت فدك لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم خالصة لة [61] ، لأنّه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب.

و كانت فدك ملكاً عظيماً، و أرضاً واسعة، و بساتين مثمرة يانعة، تدرّ أرباحاً طائلة حتي قالوا: كان دخلها أربعة و عشرين ألف دينار، و في رواية: سبعين ألف دينار [62] سنوياً.

عن عطية قال: لما نزلت (فآت ذاالقربي حقه)،

[ صفحه 148]

دعا رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فاطمة عليهاالسلام فأعطاها فدكاً» [63] .

و عن علي أبي سعيد الخدري و غيرة أنّه لمّا نزلت هذه الآية علي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أعطي فاطمة فدكاً و سلّمه إليها، و هو المروي عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهماالسلام و هو المشهور بين جميع علماء أهل البيت.

كما ذكر ذلك من علماء العامّة عدد كثير بطرق عديدة، منها.

صرح في (كنز العمال) و في مختصره المطبوع في الهامش من كتاب (المسند) لأحمد بن حنبل في مسألة صلة الرحم من كتاب (الأخلاق) عن أبي سعيد الخدري قال:لمّا نزلت (فآت ذاالقربي حقه) قال النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم:

[ صفحه 149]

«يا فاطمة لك فدك».

قال: رواه الحاكم في تاريخه و في ص 177 من الجزء الرابع من تفسير (الدر المنثور) للسيوطي أنّه أخرج البزاز و أبويعلي و ابن أبي حاتم و ابن مردوية عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية: (فآت

ذاالقربي حقه) أقطع رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فاطمة فدكاً.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: و قد روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الخدري الذي ذكره صاحب الكتاب: أنّه لمّا نزل قوله تعالي: (فآت ذاالقربي حقه) دعا النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم فاطمة فأعطاها فدكاً.

و ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة، والشيخ السمهودي في تاريخ المدينة أنّ عمر قال: إنّي أحدّثكم عن هذا الأمر: إنّ اللَّه خص نبيّه في هذا الفي ء بشي ء لم يعطه أحداً غيره فقال: (و ما أفاء اللَّه علي رسوله منهم

[ صفحه 150]

فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب ولكن اللَّه يسلط رسلة علي من يشاء واللَّه علي كل شي ء قدير)، فكانت هذه خالصة لرسول اللَّه... الخ.

إذن فالمستفاد من مجموع الآيات والروايات أنّ فدك كانت لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم خالصة، و أنّ النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أعطي فاطمة فدكاً بعنوان النحلة والعطية بأمر اللَّه تعالي حيث أمره بقوله: (فآت ذاالقربي حقه).

و يستفاد أيضاً من تصريحات المؤرخين والمحدّثين أنّ السيدة فاطمة الزهراء كانت تتصرف في فدك، و أنّ فدكاً كانت في يدها.

فمنها صريح الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب الذي أرسله إلي عثمان بن حنيف و هو عامله علي البصرة فإنّه ذكر فيه: «... بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم

[ صفحه 151]

الحكم اللَّه... الخ» [64] .

و ذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة) في الباب الثاني:

إنّ أبابكر انتزع من فاطمة فدكاً... الخ.

و معني كلام ابن حجر أنّ فدكاً كانت في يد الزهراء عليهاالسلام من عهد أبيها الرسول فانتزعها أبوبكر منها.

و قد روي العلامة المجلسي عن كتاب (الخرائج):

فلمّا دخل رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم المدينة (بعد استيلائه علي فدك) دخل علي فاطمة عليهاالسلام فقال: «يا بنيّة انّ اللَّه قد أفاء علي أبيك بفدك، و اختصه بها، فهي له خاصة دون المسلمين، أفعل بها ما أشاء، و إنه قد كان لأمّك خديجه علي أبيك مهر، و إنّ أباك قد جعلها لك بذلك، و أنحلها لك و لولدك بعدك». قال: فدعا بأديم و دعا بعلي إبن أبي طالب فقال: «اُكتب لفاطمة بفدك نحلة من

[ صفحه 152]

رسول اللَّه». فشهد علي ذلك علي بن أبي طالب و مولي لرسول اللَّه و اُم أيمن.

و لما توفي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و استولي أبوبكر علي منصة الحكم و مضت عشرة أيام. و استقام له الأمر بعث إلي فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

كانت فدك للسيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام من ثلاثة وجوه:

الوجة الأوّل: إنّها كانت ذات اليد، أي كانت متصرفة في فدك، فلا يجوز إنتزاع فدك من يدها إلّا بالدليل والبيّنة. كما قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «البيّنة علي المدعي، واليمين علي من أنكر». و ما كان علي السيدة فاطمة أن تقيم البيّنة لأنّها ذات اليد.

الوجه الثاني: إنّها كانت تملك فدكاً بالنحلة والعطيّة والهبة من أبيها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

الوجة الثالث: إنّها كانت تستحق فدك بالإرث من

[ صفحه 153]

أبيها الرسول ولكن القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، فقد طالبوها بالبيّنة، و طالبوها بالشهود علي النحلة، و أنكروا وراثة الأنبياء علي غير أساس من شرع أو عرف.

و بإمكان السيدة فاطمة أن تطالب بحقها بكلّ وجه من هذه الوجوه الثلاثة.

و لهذا طالبت بفدك عن طريق النحلة أوّلاً، ثمّ طالبت بها عن طريق الإرث ثانياً كما صرّح بذلك الحلبي في سيرته ج 3 ص 39 قال:

إنّ فاطمة أتت أبابكر بعد وفاة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و قالت: «إنّ فدكاً نحلة أبي، أعطانيها حال حياته». و أنكر عليها أبوبكر و قال: أريد بذلك شهوداً فشهد لها علي، فطلب شاهداً آخر فشهدت لها اُمّ أيمن فقال لها: أبرجل و امرأة تستحقينها؟؟

و ذكر الطبرسي في الاحتجاج: فجاءت فاطمة عليهاالسلام

[ صفحه 154]

إلي أبي بكر ثم قالت: «لم تمنعني ميراثي من أبي رسول اللَّه؟ و أخرجت وكيلي من فدك و قد جعلها لي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بأمر اللَّه تعالي؟». إلي آخر ما ذكره أصحاب السير والمفسرون.

احتجاج

لمّا بويع أبوبكر و استقام لة الأمر بعث إلي فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم منها، فجاءت فاطمة عليهاالسلام إلي أبي بكر ثم قالت: «لم تمنعني ميراثي من أبي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟ و أخرجت وكيلي من فدك و قد جعلها لي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بأمر اللَّه تعالي؟».

فقال: إن شاء اللَّه إنّك لا تقولين إلّا حقاً ولكن هاتي علي ذلك شهوداً. فجاءت باُم أيمن فقالت له اُمّ أيمن: لا أشهد-

يا أبابكر- حتّي أحتج عليك بما قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، أنشدك باللَّه ألست تعلم أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم

[ صفحه 155]

قال: «اُم أيمن إمرأة من أهل الجنّة»؟.

فقال: بلي.

قالت: فأشهد أنّ اللَّه- عزّ و جلّ- أوصي إلي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: (فآت ذاالقربي حقه) فجعل فدكاً لها طعمة بأمر اللَّه.

فجاء علي عليه السلام فشهد بمثل ذلك.

فكتب لها كتاباً و دفعة إليها.

فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إنّ فاطمة ادعت فدكاً و شهدت لها اُم أيمن و علي، فكتبته لها، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فية و مزّقه، فخرجت فاطمة عليهاالسلام تبكي.

فلمّا كان بعد ذلك جاء علي عليه السلام إلي أبي بكر و هو في المسجد فقال: «يا أبابكر، لم منعت فاطمة ميراثها من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟ و قد ملكته في حياة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟».

[ صفحه 156]

فقال أبوبكر: هذا في ء المسلمين، فإن أقامت شهوداً أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم جعله لها، و إلّا فلا حقّ لها فيه.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: «يا أبابكر أتحكم فينا بخلاف حكم اللَّه في المسلمين؟».

قال: لا.

قال: «فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه، ثمّ أدعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟».

قال: إيّاك أسأل البيّنة.

قال: «فما بال فاطمة سألتها البيّنة علي ما في يدها و قد ملكته في حياة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و بعده، و لم تسأل المسلمين بيّنة علي ما ادعوا شهوداً كما سألتني علي

ما أدعيت عليهم؟».

فسكت أبوبكر.

فقال عمر: يا علي، دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوي علي حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، و إلّا فهو في ء

[ صفحه 157]

للمسلمين لا حقّ لك و لا لفاطمة فيه [65] .

فقال الإمام علي عليه السلام: «يا أبابكر تقرأ كتاب اللَّه؟» قال: نعم، قال: «أخبرني عن قوله عز و جلّ: «إنّما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيراً) فيمن نزلت فينا أو في غيرنا؟» قال: بل فيكم! قال: «فلو إن شهوداً شهدوا علي فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بفاحشة ما كنت تصنع بها؟» قال: كنت أقيم عليها الحدّ كما أقيم علي نساء العالمين؟! قال علي: «كنت إذن عند اللَّه من الكافرين!» قال: و لم؟ قال: «لأنك رددت شهادة اللَّه بالطهارة و قبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم اللَّه و حكم رسوله أن جعل لها فدكاً و زعمت أنها في ء للمسلمين، و قد قال رسول

[ صفحه 158]

اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: البيّنة علي المدعي، واليمين علي من أدّعي عليه».

فدمدم الناس، و أنكر بعضهم بعضاً، و قالوا: صدق- واللَّه- علي.

قال الشيخ إبراهيم الأميني في كتابه فاطمة الزهرا ص 133:

والانصاف في هذه المحاكمة أنّ الحق مع فاطمة عليهاالسلام، لأنّها صاحبة اليد في فدك، لذا قال علي عليه السلام في نهج البلاغة:

«بلي كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم الحكم اللَّه» [66] .

و علي أبي بكر، الطرف الآخر للمنازعة- أي المدعي

[ صفحه 159]

- إقامة البيّنة، ولكن أبابكر ركل كلّ هذا الحكم البديهي بقدميه و لم يقض به.

مع هذا خرجت الزهراء عليهاالسلام ظافرة منتصرة من هذه المرحلة، بمنطقها السليم و احتجاجها القويم و أدلّتها المحكمة، التي أضطرت أبابكر للاعتراف بحقّها و كتب صحيفة لها بذلك، إلّا أنّ عمر دخل الميدان بمنطق القوة فأخذ الكتاب و مزّقة و اختلق قصّة نقصان البيّنة.

احتجاج آخر

عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال علي لفاطمة عليهماالسلام: انطلقي فاطلبي ميراثك من أبيك رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم. فجاءت إلي أبي بكر فقالت: أعطني ميراثي من أبي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم».

فقال: النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا يورث.

فقالت: «ألم يرث سليمان داود؟».

[ صفحه 160]

فغضب و قال: النبي لا يورث.

فقالت عليهاالسلام: «ألم يقل: (يوصيكم اللَّه في أولادكم للذكر مثل حظ الاُنثيين) (النساء: 11).

فلم يجد أبوبكر جواباً لمنطق الزهراء عليهاالسلام و حجتها فقال: النبي لا يورث، ولكي يبرر فعلته غير المشروعة أسند حديثاً للنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث». و شهدت عليه حفصة و عائشة.

ولكن الزهراء عليهاالسلام حجّته و أفحمته بالكتاب الكريم، و قد ثبت أنّ ما خالف القرآن فهو زخرف يضرب به عرض الحائط و لا يعتني به.

والجدير بالذكر إنّ عائشة نفسها طالبت عثمان يوم ولي الخلافة بميراثها من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم. فقال: أليس جئت فشهدت أنت أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: «لا نورّث، فأبطلت حق فاطمة و جئت تطلبينه! لا أفعل» [67] .

[ صفحه

161]

خطبة الزهراء و محاكمة الخليفة في الملأ العام

اشاره

قررت الزهراء عليهاالسلام الاعلان عن مظلوميتها، والذهاب إلي المسجد والقاء خطاب مهم في الناس...

و سري الخبر في المدينة... و شاع في الناس أنّ بقية النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم التي تذكّر المسلمين به صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و بضعته و ريحانته فاطمة تريد أن تخطب في الناس في مسجد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

و هزّ الخبر أرجاء المدينة- كأعنف انفجار- و دافعت علامات الاستفهام في الرؤوس... ماذا ستقول؟ و ما ستكون ردود فعل الخليفة- حينئذٍ-؟!

فاحتشدوا في المسجد ليسمعوا الخطاب التاريخي.

[ صفحه 162]

فاختارت السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام لخطبتها هذا الأسلوب للبداية والنهاية، و إنّها لم تكتف بالتركيز علي مطالبة حقها فقط، بل انتهزت الفرصة لتفجر للمسلمين عيون المعارف الإلهية، و تكشف لهم محاسن الدين الإسلامي، و تبين لهم علل الشرائع والأحكام و ضمناً تهيّي ء الجو لكلامها المقصود و هدفها المطلوب.

و هذه رؤوس أقلام الخطبة و مواضيعها:

الحمد والثناء علي اللَّه.

التوحيد الاستدلالي.

النبوة.

التحدث عن العهد الجاهلي.

انجازات الرسول.

توجيه الخطاب إلي الحاضرين.

التحدث عن القرآن.

بيان علل الشرائع و فلسفة الإسلام.

[ صفحه 163]

الدخول في صميم الموضوع.

حوادث فترة الرسالة.

موقف زوجها العظيم من تلك الأحداث.

بيان انقلاب الحكم ضد آل الرسول.

بيان تخاذل المسلمين تجاء أهل البيت.

توجيه الخطاب إلي رئيس الدولة حول الإرث.

إقامة الأدلة والبراهين.

توجيه العتاب إلي الأنصار و توبيخهم.

جواب رئيس الدولة.

تزييف كلامه و تفنيد مغالطاته.

إعتذار رئيس الدولة.

توجية الخطاب إلي الحاضرين، شكوي إلي رسول اللَّه.

روي عبداللَّه بن الحسن بإسناده عن آبائه، أنّه

لمّا أجمع أبوبكر علي منع فاطمة فدكاً، و بلغها ذلك.

[ صفحه 164]

لاثت خمارها علي رأسها [68] ، و اشتملت بجلبابها، و أقبلت في لمةٍ من حفدتها و نساء قومها [69] ، تطأ ذيولها [70] ، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم [71] ، حتي دخلت علي أبي بكر. و هو في حشد [72] من المهاجرين والأنصار و غيرهم، فنيطت دونها ملاءة.

فجلست ثمّ أنت أنةً أجهش القوم بالبكاء فارتج المجلس.

ثم أمهلت هنيئة، حتي إذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم.

افتتحت الكلام بحمد اللَّه والثناء عليه، والصلاة علي

[ صفحه 165]

رسولة، فعاد القوم في بكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها.

فقالت عليهاالسلام:

«الحمدللَّه علي ما أنعم، و له الشكر علي ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم إبتداها، و سبوغ آلاء أسداها، و تمام منن والاها، جم عن الإحصاء عددها و نأي عن الجزاء أمدها، و تفاوت عن الإدراك أبدها، و ندبهم لاستزادتها بالشكر لإتصالها، و استحمد إلي الخلائق بإجزالها، وثني بالندب إلي أمثالها.

و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، و ضمن القلوب موصولها، و أنار في التفكير معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، و من الألسن صفته، و من الأوهام كيفيته، إبتدع الأشياء لا من شي ء كان قبلها،و أنشأها بلا إحتذاء أمثله امتثلها، كونها بقدرته، و ذرأها بمشيئته من غير حاجةٍ منه إلي

[ صفحه 166]

تكوينها، و لا فائدة في تصويرها، إلّا تثبيتاً لحكمته و تنبيهاً علي طاعته، و إظهاراً لقدرته، و تعبّداً لبريته، و إعزازاً

لدعوته.

ثم جعل الثواب علي طاعته، و وضع العقاب علي معصيته زيادة لعباده من نقمته و حياشةً لهم إلي جنته.

و أشهد أنّ أبي (محمداً) عبده و رسوله، إختاره و انتجبه قبل أن إجتبله، و اصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، و بستر الأهاويل مصونة، و بنهاية العدم مقرونة، علماً من اللَّه تعالي بمآئل الأمور، و إحاطةً بحوادث الدهور، و معرفة بمواقع المقدور إبتعثه اللَّه إتماما لأمره و عزيمةً علي إمضاء حكمة و إنفاذاً لمقادير حتمه، فرأي الأمم فرقاً في أديانها، عكفا علي نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرةً للَّه مع عرفانها، فأنار اللَّه بمحمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم ظلمها، و كشف عن القلوب بهمها، و جلي عن الأبصار غممها، و قام في الناس بالهداية، و أنقذهم

[ صفحه 167]

من الغواية، و بصرهم من العماية، و هداهم إلي الدين المستقيم، ثمّ قبضة اللَّه إلية قبض رأفة و اختيار و رغبةٍ و إيثار، فمحمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم من تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار، و رضوان الربّ الغفار، و مجاورة الملك الجبار، صلي اللَّه علي أبي، نبيّه، و أمينه علي الوحي و صفيّه، و خيرته من الخلق و رضيّه.

والسلام عليه و رحمةاللَّه و بركاته.

ثمّ إلتفتت إلي أهل المجلس و قالت:

أنتم- عباد اللَّه- نصب أمره و نهيه. و حملة دينه و وحيه، و أمناء اللَّه علي أنفسكم، و بلغاؤه إلي الأمم، زعيم حقّ له فيكم، و عهد قدمه إليكم، و بقيّة استخلفها عليكم، كتاب اللَّه الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللّامع، بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، متجليّة ظواهره، مغتبط به

أشياعه، قائد إلي الرضوان إتّباعه، مؤد إلي النجاة استماعه، به تنال حجج اللَّه

[ صفحه 168]

المنوّرة و عزائمه المفسره، و محارمه المحذرة، و بيّناته الجالية، و براهينه الكافية، و فضائله المندوبة، و رخصه الموهوبة، و شرائعه المكتوبة.

فجعل اللَّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك.

والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر.

والزكاة تزكية للنفس و نماءً في الرزق.

والصيام تثبيتاً للإخلاص.

والحج تشييداً للدين.

والعدل تنسيقاً للقلوب، و إطاعتنا نظاماً للملّة.

و إمامتنا أماناً للفرقة.

والجهاد عزّاً للإسلام.

والصبر معونة علي استجباب الأجر.

والأمر بالمعروف مصلحة للعامة.

و بر الوالدين وقايةً من السخط.

وصلة الأرحام منماةً للعدد.

[ صفحه 169]

والقصاص حقناً للدماء.

والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة.

و توفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس.

والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس.

و إجتناب القذف حجاباً عن اللّعنة.

و ترك السرقة إيجاباً للعفّة.

و حرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبية.

فاتقوا اللَّه حق تقاته، و لا تموتنّ الا و أنتم مسلمون، و أطيعوا اللَّه فيما أمركم به و نهاكم عنه، فإنّه إنّما يخشي من عباده العلماء.

ثمّ قالت: أيّها الناس! إعلموا أني فاطمة! و أبي محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم، أقول عوداً و بدءاً، و لا أقول ما أقول غلطا، و لا أفعل ما أفعل شططا:

(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، فإن تعزوه

[ صفحه 170]

و تعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، و أخا ابن عمّي دون رجالكم ولنعم المعزي إليه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فبلّغ بالرسالة، صادعاً بالنذارة، مائلاً علي مدرجة المشركين، ضارباً ثبجهم، آخذاً

بأكظامهم، داعياً إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام، و ينكت الهام، حتّي انهزم الجمع و ولّوا الدبر، حتّي تفري الليل عن صبحه و أسفر الحق عن محضه و نطق زعيم الدين و خرست شقاشق الشياطين، و طاح و شيظ النفاق، و انحلّت عقد الكفر والشقاق، و فهتم بكلمة الإخلاص، في نفر من البيض الخماص.

و كنتم علي شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، و نهزة الطامع، و قبسة العجلان،و موطئ الأقدام، تشربون الطرق، و تقتاتون القد والورق، أذلّةً خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم اللَّه تعالي بمحمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم بعد اللتيّا والتي.

[ صفحه 171]

و بعد أن مني ببهم الرجال، و ذؤبان العرب، و مردة أهل الكتاب، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللَّه أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاة في لهواتها فلا ينكفئ حتي يطأ صماخها بأخمصة، و يخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات اللَّه، مجتهداً في أمر اللَّه، قريباً من رسول اللَّه، سيداً في أولياء اللَّه، ممشّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً.

و أنتم في رفاهيةٍ من العيش، و ادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، و تتوكفون الأخبار، و تنكصون عند النزال، و تفرون من القتال.

فلمّا اختار اللَّه لنبيه صلي اللَّه عليه و آله و سلم دار أنبيائه و مأوي أصفيائه، ظهر فكيم حسكة النفاق، و سمل جلباب الدين، و نطق كاظم الغاوين، و نبغ خامل الأقلين، و هدر فنيق المبطلين، فخطر عرصاتكم، و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم. فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة

[ صفحه 172]

فيه ملاحظين. ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً. و

أحمشكم فألفاكم غضابا. فوسمتم غير إبلكم، و أوردتم غير شربكم.

هذا والعهد لقريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يقبر.

إبتداراً زعمتم خوف الفتنة. ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين.

فهيهات منكم! و كيف بكم؟ و أني تؤفكون، و كتاب اللَّه بين أظهركم، أموره ظاهرة، و أحكامه زاهرة، و أعلامه باهرة، و زواجره لائحة، و أوامره واضحة، و قد خلّفتموه وراء ظهوركم أرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلاً. (و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منة و هو في الآخرة من الخاسرين).

ثمّ لم تلبثوا إلّا ريث أن تسكن نفرتها، و يسلس

[ صفحه 173]

قيادها، ثمّ أخذتم تورون و قدتها، و تهيّجون جمرتها و تستجيبون لهاتف الشيطان الغويّ، و إطفاء أنوار الدين الجلي، و إخماد سنن النبي الصفيّ، تسرّون حسوّاً في ارتغاء، تمشون لأهله و ولده في الخمر والضرّاء، و نصبر منكم علي مثل حزّ المدي، و وخز السنان في الحشي.

و أنتم- الآن- تزعمون أن لا إرث لنا أفحكم الجاهلية يبغون؟ و من أحسن من اللَّه حكماً لقوم يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلي تجلّي لكم كالشمس الضاحية أني إبنته.

أيّها المسلمون! أأغلب علي إرثي.

ثمّ إلتفتت إلي الحاكم أبي بكر و قالت:

يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب اللَّه أن ترث أباك و لا أرث أبي؟؟ لقد جئت شيئاً فريّاً!! أفعلي عمد تركتم كتاب اللَّه و نبذتموهم وراء ظهوركم؟ إذ يقول:

(و ورث سليمان داود).

و قال- فيما اقتص من خبر زكريا- إذ قال:

[ صفحه 174]

(فهب لي من لدنك وليّاً يرثني و يرث من آل يعقوب).

و قال:

(و أولوا الأرحام

بعضهم أولي ببعض في كتاب اللَّه).

و قال:

(يوصيكم اللَّه في أولادكم للذّكر مثل حظ الأنثيين).

و قال:

(إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً علي المتقين).

و زعمتم أن لا حظوة لي! و لا إرث من ابي! أفخصّكم اللَّه بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون: إنّ أهل ملّتين لا يتوارثان؟

أولست أنا و أبي من أهل ملة واحدة؟

[ صفحه 175]

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي؟

فدونكها مخطومة مرحولة. تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم اللَّه، والزعيم محمد، والموعد القيامة، و عند الساعة يخسر المبطلون.

و لا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، و يحلّ عليه عذاب مقيم.

ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت:

يا معشر النقيبة، و أعضاد الملّة، و حضنة الإسلام. ما هذه الغميزة في حقي؟ والسنة عن ظلامتي؟

أما كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أبي يقول:

«المرء يحفظ في ولده؟».

سرعان ما أحدثتم، و عجلان ذا إهالة، ولكم طاقة بما أحاول، و قوة علي ما أطلب و أزاول.

[ صفحه 176]

أتقولون: مات محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم، فخطب جليل استوسع و هنه و استنهر فتقه، و انفتق رتقه، و اظلمت الأرض لغيبته، و كسفت النجوم لمصيبته،و أكدت الآمال، و خشعت الجبال، و أضيع الحريم، و أزيلت الحرمة عند مماته، فتلك- واللَّه- النازلة الكبري، والمصيبة العظمي، لامثلها نازلة، و لا بائقة عاجلة أعلن بها كتاب اللَّه- جل ثناؤه- في أفنيتكم في ممساكم و مصبحكم هتافاً و صراخاً و تلاوة وألحاناً ولقبله ما حل بأنبيائه و رسله

حكم فصل، قضاء حتم.

(و ما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل إنقلبتم علي أعقابكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر اللَّه شيئاً و سيجزي اللَّه الشاكرين)

(سورة آل عمران: 144).

ثمّ التفتت إلي الأنصار و قالت:

إيهاً بني قيلة! أأهضم تراث أبي؟ و أنتم بمرأي منّي

[ صفحه 177]

و مسمع و منتدي و مجمع تلبسكم الدعوة، و تشملكم الخبرة، و أنتم ذوا العدد والعدة، والأداة والقوة و عندكم السلاح والجنّة توافيكم الدعوة فلا تجيبون؟ و تأتيكم الصرخة فلا تعينون؟ و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اُختيرت لنا أهل البيت.

فاتلتم العرب، و تحمّلتم الكدّ والتعب، و ناطحتم الأمم، و كافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون حتي إذا دارت بنا رحي الإسلام و در حلب الأيام، و خضعت ثغرة الشرك، و سكنت فورة الإفك، و خمدت نيران الكفر، و هدأت دعوة الهرج، استوسق نظام الدين، فأنّي حرتم بعد البيان؟ و أسررتم بعد الإعلان؟ و نكصتم بعد الإقدام؟ و أشركتم بعد الإيمان؟

ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم و همّوا بإخراج الرسول، و هم بدؤوكم أوّل مرّة،أتخشونهم فاللَّه أحق أن

[ صفحه 178]

تخشوه إن كنتم مؤمنين.

ألا: و قد أري أن قد أخلدتم إلي الخفض، و أبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، و خلوتم إلي الدعة، و نجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، و دسغتم الذي تسوّغتم فإن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعاً فإنّ اللَّه لغني حميد.

ألا و قد قلت ما قلت علي معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم،

ولكنها فيضة النفس، و نفثة الغيظ، و خور القنا، و بثة الصدر، و تقدمة الحجة.

فدونكموها، فاحتقبوها دبرة الظّهر نقبة الخف باقية العار موسومة بغضب اللَّه و شنار الأبد موصولة بنار اللَّه الموقدة التي تطّلع علي الأفئدة.

فبعين اللَّه ما تفعلون (و سيعلم الّذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، و أنا إبنة نذير لكم بين يدي عذاب

[ صفحه 179]

شديد فاعملوا إنّا عاملون، و انتظروا إنّا منتظرون».

موقف الخليفة

أنهت الزهراء عليهاالسلام خطابها الناري، الذي ألقته بشجاعة أمام الآلاف و بحضور أبي بكر، و استجوبت الخليفة، و فضحت مخططاته بالأدلّة والبراهين الساطعة المحكمة، و ذكرت فضائل الخليفة الحقيقي في الإسلام و كمالاته المطلوبة، فتوتر الجوّ و انساق الرأي العام لصالح الزهراء عليهاالسلام، و جعلت أبابكر في زاوية حرجة و أمام طريق مسدود. فإذا انساق مع الرأي العام و أرجع فدكاً للزهراء عليهاالسلام فهذا يعني أنّ الخليفة صدقها في هذه القضية أي إنّها انتصرت في هذه الجولة و حينئذ سوف تبدأ بالجولة الثانية تطالب فيها بحق زوجها في الخلافة

يقول ابن أبي الحديد: سألت ابن الغارقي مدرّس المدرسة الغربية ببغداد، و قلت له: أكانت فاطمة

[ صفحه 180]

صادقة؟

قال: نعم.

قلت: فلم لم يدفع إليها أبوبكر فدكاً و هي عنده صادقة؟

فتبسّم ثمّ قال كاملاً لطيفاً مستحسناً قال: لو أعطاها اليوم فدكاً لمجرد دعواها، لجاءت إليه غداً و ادعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه، و لم يمكن الاعتذار والموافقة، لأنّه يكون قد سجل علي نفسه أنّها صادقة فيما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلي بيّنة و شهود.

ثم إنّ تصديقه لفاطمة يعني إعترافه بخطئه و اشتباهه، و بذلك يفتح باب

الإعتراض عليه من قبل المسلمين مما يشكّل خطراً علي جهاز الخلافة الحاكم إبان حكمه.

ولكنّ أبابكر لم يول هارباً من الميدان بهذه السرعة، فقد حسب لهذه الاحداث حساباً و فكر و قدر، و هو يعلم

[ صفحه 181]

بعجزه أمام حجّة الزهراء عليهاالسلام و لا يستطيع مقابلتها بخشونة و قوة ما دام الرأي العام لصالحها. و يجب عليه أن يجيب علي الاسئلة التي وجهتها له ليستميل الرأي العام، و يخدّر الضمائر و يمتص النقمة. فالأفضل له أن يستفيد من نفس السلاح الذي استخدمه سابقاً في تضليل الناس، والتظاهر بالدفاع عن حمي الدين و أحكامه و سنّة الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم و يقول: إنّه يعمل بما أنزله اللَّه و هو بري ء مما يرمي به. و بتقمص لباس الدين يمكن أن يخدع الجمهور، و يلبس الحق بالباطل، و يدحض كلّ دعوي حتي لو كانت هي الدين نفسه.

جواب الخليفة

لجأ أبوبكر إلي اسلوب التضليل والاستغفال فقال:

يا بنت رسول اللَّه! لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً علي الكافرين عذاباً أليماً و عقاباً

[ صفحه 182]

عظيماً، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، و أخا إلفك دون الأخلاء آثره علي كلّ حميم و ساعده في كلّ أمر جسيم، لا يحبّكم إلّا كلّ سعيد، و لا يبغضكم إلّا كلّ شقي، فأنتم عترة رسول اللَّه الطيبون، والخيرة المنتجبون، علي الخير أدلّتنا، و إلي الجنة مسالكنا.

و أنت يا خيرة النساء، و إبنة خير الأنبياء صادقة في قولك سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، و لا مصدودة عن صدقك.

واللَّه ما عدوت رأي رسول اللَّه!! و لا عملت إلّا بإذنه و

إنّ الرائد لا يكذب أهله.

و إنّي اشهد اللَّه و كفي به شهيداً. أني سمعت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يقول:

«نحن معاشر الأنبياء لانورّث ذهباً و لا فضّةً و لا داراً و لا عقاراً و إنّما نورّث الكتاب والحكمة، والعلم والنبوة، و ما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا، أن يحكم فيه

[ صفحه 183]

بحكمه».

و قد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون و يجاهدون الكفار و يجالدون المردة الفجّار و ذلك بإجماع من المسلمين!! لم أنفرد به وحدي، و لم استبد بما كان الرأي فيه عندي.

و هذا حالي و مالي هي لك، و بين يديك، لا تزوي عنك، و لا تدخر دونك أنت سيدة أمّة أبيك، والشجرة الطيّبه لبنيك لايدفع مالك من فضلك، و لا يوضع في فرعك و أصلك حكمك نافذ فيما ملكت يداي فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟

جواب فاطمة الزهراء

فقالت عليهاالسلام:

«سبحان اللَّه ما كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم عن كتاب اللَّه صادفاً، و لا لأحكامه مخالفاً بل كان يتبع أثره و يقفو

[ صفحه 184]

سوره أفتجمعون إلي الغدر اعتلالاً عليه بالزور، و هذا بعد وفاته شبيه بما بغي لة من الغوائل في حياته. هذا كتاب اللَّه حكماً عدلاً، و ناطقاً فصلاً يقول: (يرثني و يرث من آل يعقوب).

و يقول: (و ورث سليمان داود).

فبين (عز و جل) فيما وزع عليه من الأقساط، و شرع من الفرائص الميراث، و أباح من حظ الذكران و الإناث ما أزاح علّة المبطلين، و أزال التظني والشبهات

في الغابرين كلا، بل سولت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل، واللَّه المستعان علي ما تصفون».

جواب أبي بكر

فقال أبوبكر:

صدق اللَّه و صدق رسوله و صدقت إبنته أنت معدن الحكمة، و موطن الهدي والرحمة، و ركن الدين و عين

[ صفحه 185]

الحجة لا أبعد صوابك، و لا أنكر خطابك هؤلاء المسلمون بيني و بينك قلدوني ما تقلّدت، و بإتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر و لا مستبد، و لا مستأثر، و هم بذلك شهود.

و هكذا استطاع أبوبكر من إخماد العواطف، و حرف الرأي العام نحوه، من خلال التضليل والتظاهر بالصلاح.

فاطمة الزهراء توجه الخطاب إلي الحاضرين معاتبة لهم

فالتفتت فاطمة عليهاالسلام إلي الناس و قالت:

«معاشر الناس المسرعة إلي قيل الباطل المغضيه [73] علي الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها؟ كلا، بل ران علي قلوبكم ما أسأتم من

[ صفحه 186]

أعمالكم فأخذ بسمعكم و أبصاركم ولبئس ما تأولتم و ساء ما به أشرتم و شر ما منة اعتضتم لتجدن- واللَّه- محمله ثقيلاً، و غبه وبيلاً [74] إذا كشف لكم الغطاء و بان ما وراءه الضراء، و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، و خسر هنالك المبطلون».

و لقد أجاد العلّامة المحقق الخطيب السيّد القزويني في تحليل فصول و كلمات خطبة السيّدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام، في كتابه- فاطمة الزهراء من المهد إلي، اللحد- فراجع من ص 335 إلي ص 480.

رد فعل الخليفة

اضطرب المجلس، و تفرق الناس، و ارتفعت الضجة، و أصبحهت خطبة الزهراء عليهاالسلام حديث الساعة، فلجأ أبو

[ صفحه 187]

بكر إلي التهديد والوعيد.

قالوا: لم يرباك و باكية كان أكثر من ذلك اليوم، إرتجّت المدينة و هاج الناس و ارتفعت الأصوات، فلمّا بلغ ذلك أبابكر قال لعمر: تربت يداك ما كان عليك لو تركتني، فربّما مات الخرق و رتقت الفتق. ألم يكن ذلك بنا أحق.

فقال الرجل: قد كان في ذلك تضعيف سلطانك، و توهين كافتك، و ما أشفقت إلّا عليك.

قال: و يلك فكيف بإبنة محمّد، و قد علم الناس ما تدعو إليه، و ما نحن من الغدر عليه.

فقال: هل هي إلّا غمرة إنجلت، و ساعة إنقضت، و كأن ما قد كان لم يكن.

ما قد مضي مما مضي كما مضي

و ما مضي

مما مضي قد انقضي

أقم الصلاة و آت الزكاة، و أمر بالمعروف، و أنه عن

[ صفحه 188]

المنكر، و وفر الفي ء وصل القرابة فإنّ اللَّه يقول: (إنّ الحسنات يذهبن السيئآت ذلك ذكر للذاكرين) ذنب واحد في حسنات كثيرة. قلّدني ما يكون من ذلك.

فضرب بيده علي كتف عمر و قال: ربّ كربة فرجتها يا عمر.

ثم نادي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس [75] .

قال ابن أبي الحديد في شرحه علي نهج البلاغة: لمّا سمع أبوبكر خطبتها المذكورة و ما وقع بين الناس من الإختلاف والهمهمة في سوء تلك المقدمة و خاف أن تنعكس القضية شق عليه ذلك فصعد المنبر فقال:

أيّها الناس! ما هذه الرعة إلي كل قالة؟ أين كانت هذه الأماني في عهد رسول اللَّه؟! ألا! من سمع فليقل، و من شهد فليتكلم، إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه مربّ لكل فتنة

[ صفحه 189]

هو الذي يقول: كرّوها جذعة بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة و يستنصرون بالنساء،كأم طحال أحبّ أهلها إليها البغي ألا إني لو أشاء لقلت، و لو قلت لبحت، إني ساكت ما تركت.

ثمّ التفت إلي الأنصار فقال: يا معشر الأنصار قد بلغني مقالة سفهائكم و أحق من لزم عهد رسول اللَّه أنتم، فقد جاءكم فآويتم و نصرتم، ألا إني لست باسطاً يداً ولساناً علي من لم يستحق ذلك منا. ثمّ نزل.

ثمّ قال ابن أبي الحديد: قرأت هذا الكلام علي النقيب أبي يحيي جعفر ابن يحيي بن أبي زيد البصري و قلت له: بمن يعترض؟ فقال بل يصرّح. قلت لو صرّح لم أسألك. فضحك فقال: لعلي بن أبي طالب!! قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله؟ قال: هتفوا بقول علي، فخاف من اضطراب

الأمر عليهم، فنهاهم فسألته عن غريبه

[ صفحه 190]

(أي شرح الكلمات) فقال: أمّا الرعة- بالتخفيف- أي الإستماع والإصغاء، والقالة: القول. و ثعال: إسم الثعلب، مثل ذؤالة للذئب. و شهيده ذنبه: أي لا شاهد له علي ما يدّعيه إلّا بعضه و جزء منه، و أصله مثل: قالوا: إنّ الثعلب أراد أن يغري الأسد بالذئب فقال له: إنّه قد أكل الشاة التي كنت أعددتها لنفسك، و كنت حاضراً. قال: فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه و عليه دم. و كان الأسد قد افتقد الشاة، فقبل شهادته، و قتل الذئب. و (مربّ): ملازم من اربّ بالمكان و (كروها جذعة): أعيدوها إلي الحال الأولي يعني الفتنة والهرج و (اُمّ طحال) إمرأة بغي في الجاهلية يضرب بها المثل، فيقال: أزني من اُمّ طحال.

نحن لا نقول شيئاً علي هذه الكلمات التي استعملها أبوبكر في آل رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و عترته الطاهرة الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً، و لا نعاتبه

[ صفحه 191]

علي أدبه في المنطق و تعبيره في الكلام!، ولكن نقول: قرّت عينك- يا رسول اللَّه-فهكذا يقال في حق إبنتك و عزيزتك و حبيبتك فاطمة الزهراء و هكذا يقال في حق أخيك أميرالمومنين علي بن أبي طالب و كل هذا علي منبرك و في مسجدك و في جوار مرقدك، قرّت عيناك يا أبافاطمة الزهراء يا و بشراك بل بشريان!! فهذه كرامة أهل بيتك، و عترتك عند أبي بكر و أشباهه! و هذا المنطق صادر ممن يدعي و يزعم انّه خليفة الوحي و رسوله.

دفاع ام سلمة

و في الدر النظيم للشيخ جمال الدين الشامي قال بعد خطبة فاطمة عليهاالسلام في المسجد

و كلام أبي بكر- فقالت اُمّ سلمة (رضي اللَّه عنها) حين سمعت ما جري لفاطمة عليهاالسلام: ألمثل فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يقال هذا القول؟ هي واللَّه الحوراء بين الإنس، والنفس للنفس،

[ صفحه 192]

ربّيت في حجور الأتقياء، و تناولتها أيدي الملائكة، و نمت في حجور الطاهرات، و نشأت خيرة نشأة، و ربيت خير مربي، أتزعمون أنّ رسول اللَّه حرّم عليها ميراثه و لم يعلمها؟ و قد قال اللَّه تعالي: (و أنذر عشيرتك الأقربين) أفأنذرها و خالفت متطلبه؟

و هي خيرة النسوان و اُمّ سادة الشبّان، و عديلة مريم، تمّت بأبيها رسالات ربه، فواللَّه لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ، و يوسدها يمينه و يلحفها بشماله،رويداً و رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بمرأي منكم، و علي اللَّه تردون واهاً لكم، فسوف تعلمون.

قال فحرمت عطاءها تلك السنة [76] .

لقد أتمت السيدة فاطمة الحجة علي الجميع، و أدّت ما عليها من الواجبات و سجلت آلامها في سجلّ

[ صفحه 193]

التاريخ.

ففي الكافي [77] :محمد بن المفضل قال: سمعت الصادق عليه السلام يقول: «جاءت فاطمة عليهاالسلام إلي سارية في المسجد و هي تقول و تخاطب أباها النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم:

قد كان بعدك أنباء و هنبثة [78] .

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب [79]

إنا فقدناك فقد الأرض و ابلها [80]

و اختل قومك فأشهدهم و قد نكبوا [81] .

و كل أهل له قربي و منزلة

عند الإله علي الأدنين مقترب

[ صفحه 194]

أبدت رجال لنا نجوي

صدورهم [82]

لمّا مضيت و حالت دونك الترب

تجهمتنا رجال و استخف بنا

لما فقدت، و كل الإرث مغتصب [83] .

و كنت بدراً و نوراً يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزّة الكتب

و كان جبريل بالآيات يؤنسنا

فقد فقدت، فكل الخير محتجب

فليت قبلك كان الموت صادفنا

لمت مضيت و حالت دونك الكثب [84] .

إنا رزينا لما لم يرز ذوشجن [85]

من البرية لا عجم و لا عرب»

[ صفحه 195]

و في ناسخ التواريخ زيادة هذه الأبيات:

سيعلم المتولي ظلم حامتنا

يوم القيمة أنّي سوف ينقلب

و سوف نبكيك ما عشنا و ما بقيت

له العيون بتهمال له سكب

و قد رزينا به محضا خليقته

صافي الضرائب والأعراق والنسب

فأنت خير عباد اللَّه كلهم

و اصدق الناس حين الصدق والكذب

و كان جبريل روح القدس زائرنا

فغاب عنا فكل الخير محتجب

ضاقت علي بلاد بعد ما رحبت

و سيم سبطاك خسفاً فيه لي نصب

و في كشف الغمة و غيره، ثم عطفت علي قبر رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فتمثّلت بقول هند بنت أثاثة:

[ صفحه 196]

قد كان بعدك... الخ

و قيل هذه الأبيات لهند بنت أبان بن عبدالمطلب تمثلت بها السيدة فاطمة، و علي كل فقد ألقت السيد فاطمة نفسها علي قبر أبيها و هي تنشد هذه الأبيات.

و في كشف الغمة:، فما رأينا أكثر باك و لا باكيةٍ من ذلك اليوم.

و هذه الأبيات بالمناسبة

من قصيدة الشيخ كاظم الأزري:

تركوا عهد أحمد في أخيه

و أذاقوا البتول ما أشجاها

و هي العروة التي ليس ينجو

غير مستعصم بحبل ولاها

لم ير اللَّه للرسالة أجراً

غير حفظ الزهراء في قرباها

[ صفحه 197]

يوم جاءت يا للمصاب إليهم

و من الوجد ما أطال بكاها

فدعت و اشتكت إلي اللَّه شكوي

والرواسي تهتز من شكواها

رجوعها إلي الدار و كلامها مع زوجها

ثم انكفأت عليهاالسلام راجعة إلي الدار و أميرالمؤمنين عليه السلام يتوقع رجوعها إليه و يتطلع طلوعها عليه.

فلمّا استقرت بها الدار قالت لأميرالمؤمنين عليه السلام:

«يابن أبي طالب! اشتملت شملة الجنين و قعدت حجرة الظنين نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل. هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نحلة أبي، و بلغة إبني لقد أجهر في خصامي، وألفيته الألد في كلامي حتي حبستني قيلة نصرها، والمهاجرة وصلها، و غضت الجماعة دوني طرفها فلا دافع و لا مانع خرجت كاظمة،

[ صفحه 198]

وعدت راغمة أضرعت خدك يوم أضعت حدك إفترست الذئاب و افترشت التراب ما كففت قائلاً، و لا أغنيت باطلاً، و لا خيار لي ليتني مت قبل هينتي، و دون ذلّتي عذيري اللَّه منك عادياً و منك حامياً و يلاي في كل شارق مات العمد و وهن العضد شكواي إلي أبي و عدو اي إلي ربي. اللّهم أنت أشد قوةً و حولاً، و احد بأساً و تنكيلاً».

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام:

«لا ويل عليك الويل لشانئك نهنهي عن وجدك يا بنت الصفوة، و بقيّة النبوّة فما و نيت عن ديني، و لا أخطأت مقدوري فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون، و كفيلك مأمون،

و ما أعد لك خير مما قطع عنك فاحتسبي اللَّه».

فقالت: «حسبي اللَّه». و أمسكت.

اتمام الحجة علي المهاجرين و الأنصار

كان الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يسير علي خطة حكيمة

[ صفحه 199]

تتفق مع العقل والمنطق والدين، و ينتهز الفرص لإحقاق حقة و إثبات مظلوميته و إتمام الحجة علي ذلك المجتمع، بل و تسجيلها في سجل التاريخ، كي يعلم ذلك الشعوب التي جاءت بعد ذلك اليوم و إلي يومنا هذا و إلي ماشاءاللَّه.

من الصحيح أن نقول: إنّ الإمام عليّاً عليه السلام كان يري لزاماً عليه أن يتم الحجة علي الناس، و يبيّن لهم انّ الخلافة من حقه الذي جعل اللَّه و رسوله له، و حتي إذا كان عالماً أنّ الناس لا يتجاوبون معه، و هكذا يبين لهم أنّ فدكاً من حق السيدة فاطمة الزهراء فهو (شرعاً) خليفة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم سواء قام بالأمر أم لم يقم و سواء أذعن له الناس أم لم يذعنوا، و سواء خضع له المجتمع أم لم يخضع و هكذا إنّ فدكاً ملك للسيدة فاطمة الزهراء سواء أعطوها حقها أم لا.

والسيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام لها المكانة المرموقة

[ صفحه 200]

والشخصية المشهورة في ذلك المجتمع، فلا بأس لو أنّ السيدة الزهراء تتكلف و تتجشم تأييد زوجها في إثبات الحق والحقيقة والمطالبة بحقها، فلا عجب إذا كانت ترافق زوجها العظيم، و ولديها: سيديّ شباب أهل الجنّة، و تستنجد بالصحابة لئلا يكون للناس علي اللَّه بعد ذلك حجة، لئلا يقولوا: كنا غافلين ناسين أو جاهلين. و لماذا لم يأت عليّ ليذكّرنا، و ليخبرنا، وليعرّفنا الحقّ.

و لهذا كان علي عليه السلام يحمل السيدة فاطمة الزهراء علي أتان

[86] ، فيدور بها أربعين صباحاً علي بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين معها، و هي تقول:

«يا معشر المهاجرين والأنصار. انصروا اللَّه و إبنة نبيكم، و قد بايعتم رسول اللَّه يوم بايعتموه أن تمنعوه

[ صفحه 201]

و ذريته مما تمنعون منه أنفسكم و ذراريكم.

ففوا لرسول اللَّه ببيعتكم».

فما أعانها أحد، و لا أجابها و لا نصرها.

فانتهت إلي معاذ بن جبل فقالت: «يا معاذ بن جبل! إنّي قد جئتك مستنصرة، و قد بايعت رسول اللَّه علي أن تنصره و ذريته، و تمنعه مما تمنع منه نفسك و ذريّتك، و إنّ أبابكر قد غصبني علي فدك، و أخرج وكيلي منها».

قال: فمعي غيري؟

قالت: «لا، ما أجابني أحد».

قال: فأين أبلغ أنا من نصرك؟

خرجت السيدة من دار معاذ و هي تقول له: «واللَّه لا أنازعنّك الفصيح من رأسي حتي أرد علي رسول اللَّه».

و دخل ابن معاذ فقال لأبيه: ما جاء بابنة محمّد إليك؟

قال: جاءت تطلب نصرتي علي أبي بكر، فإنّه أخذ منها فدكاً.

[ صفحه 202]

قال: فما أجبتها؟

قال: قلت: و ما يبلغ من نصرتي أنا وحدي؟

قال: فأبيت أن تنصرها؟

قال: نعم!!

قال: فأي شي ء قالت لك؟

قال: قالت لي: «واللَّه لا أنازعنّك الفصيح من رأسي حتي أرد علي رسول اللَّه»

فقال: أنا واللَّه لا أناز عنّك الفصيح من رأسي حتي أرد علي رسول اللَّه.

و ذكر ابن قتيبة الدينوري في (الإمامة والسياسة) ص 19: قال: و خرج علي (كرم اللَّه وجهه) يحمل فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي دابة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون يا بنت رسول اللَّه قد مضت بيعتنا لهذا

الرجل، و لو أنّ زوجك و ابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فيقول علي (كرم اللَّه

[ صفحه 203]

وجهه) أفكنت أدع رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في بيته لم أدفنه و أخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: «ما صنع أبوالحسن إلّا ما كان ينبغي له، و لقد صنعوا ما اللَّه حسيبهم و طالبهم».

النتيجة

لم يستسلم أبوبكر لفاطمة عليهاالسلام، و قاوم جهادها المستمر، و أصّر علي عناده، و لم يرجع إليها فدكاً.

و كذلك فاطمة عليهاالسلام لم تهن و لم تنكل، فاستطاعت تمزيق القناع عن وجه الجهاز الحاكم و كشف ظلمه و جوره، و إثبات حقّها و مظلوميتها، و عرف العالم كلّه ذلك، فبقيت فدك شجيً في حلوق الظالمين، و بركاناً يهددهم بالانفجار في كلّ حين، و يهز أركان حكمهم بعنف و أكبر وسيلة إعلامية ضدّهم، فكانوا إذا أرادوا كسب رضا العلويين أعادوها إليهم، و إذا ما نقموا منهم

[ صفحه 204]

سلبوها منهم.

فلمّا ولّي الأمر معاوية أقطع مروان بن الحكم ثلثها، و أقطع عمر بن عثمان بن عفان ثلثها، و أقطع يزيد بن معاوية ثلثها، فلم يزالوا يتداولونها حتي خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبد العزيز إبنه، فوهبها عبدالعزيز لإبنه عمر بن عبدالعزيز، فلمّا ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة ردّها إلي الحسن بن الحسن إبن علي بن أبي طالب.

و قيل: بل ردّها إلي علي بن الحسين عليه السلام.

و كانت بيد أبناء فاطمة عليهاالسلام مدّة ولاية عمر بن عبدالعزيز ردها الي علي بن الحسين عليه السلام.

فلمّا ولّي يزيد بن عاتكة قبضها منهم، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت،

يتداولونها حتي انتقلت الخلافة عنهم.

فلمّا ولّي أبوالعباس السفاح ردّها علي عبداللَّه بن

[ صفحه 205]

الحسن بن الحسن، ثمّ قبضها أبوجعفر لمّا غضب علي ولد الحسن، ثمّ ردّها المهدي- إبنه- علي ولد فاطمة عليهاالسلام.

ثمّ قبضها موسي بن المهدي و هارون أخوه، فلم تزل في أيديهم حتي ولّي المأمون فردّها علي الفاطميين، ففي ذات يوم جلس المأمون للمظالم فأوّل رقعة وقعت في يده نظر فيها و بكي و قال للذي علي رأسه: ناد أين وكيل فاطمة، فقام شيخ فتقدّم فجعل يناظره في فدك والمأمون يحتج و هو يحتج علي المأمون، ثمّ أمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل و قرئ فأنفذه.

فلم تزل في أيديهم حتي كان في أيام المتوكل فأقطعها عبداللَّه بن عمر البازيار، و كان فيها إحدي عشرة نخلة غرسها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بيده، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر، فيصلونهم، فيصير لهم من ذلك مال جزيل

[ صفحه 206]

جليل، فصرم عبداللَّه بن عمر البازيار ذلك التمر، و وجّة رجلاً يقال لة (بشران بن أمية الثقفي) إلي المدينة فصرمه ثمّ عاد إلي البصرة ففلج [87] .

فاطمة و بيت الأحزان

لم تبق الزهراء عليهاالسلام بعد أبيها سوي شهور- أو أيام- معدودة قضتها بالبكاء والنحيب والأنين، حتي عدّت من البكائين، و لم تر ضاحكة قط [88] .

و كان لبكائها اسباب و دوافع كثيرة، أهمها إنحراف المسلمين عن الطريق المستقيم، و إنزلاقهم في مهاو تؤدي إلي الاختلاف والفرقة والتشتت والتعاسة لا محالة. و فقدانها أبيها، و غصب الخلافة والاحداث التي

[ صفحه 207]

آلت

إليها.

ففي ذات يوم دخلت اُمّ سلمة علي فاطمة عليهاالسلام فقالت لها: كيف أصبحت عن ليلتك، يا بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟

قالت: «أصبحت بين كمد و كرب، فقد النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و ظلم الوصي عليه السلام، هتك واللَّه حجاب من أصبحت إمامته مقبضة علي غير ما شرع اللَّه في التنزيل، و سنّها النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم في التأويل، ولكنّها أحقاد بدرية و ترات اُحدية» [89] .

و عن علي عليه السلام قال: «غسّلت النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم في قميصه، فكانت فاطمة تقول: أرني القميص، فإذا شمته غشي عليها، فلمّا رأيت ذلك غيبته» [90] .

و روي أنّة لما قبض النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم إمتنع بلال من الأذان،

[ صفحه 208]

قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و إنّ فاطمة عليهاالسلام قالت ذات يوم: إنّي أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بلال، فبلغ ذلك بلالاً، فأخذ في الأذان، فلمّا قال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ذكرت أباها و أيامه فلم تتمالك من البكاء، فلمّا بلغ إلي قوله: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم شهقت فاطمة عليهاالسلام و سقطت لوجهها و غشي عليها.

فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال، فقد فارقت إبنة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم الدّنيا، و ظنّوا أنّها قد ماتت، فقطع أذانه و لم يتمّه، فأفاقت فاطمة عليهاالسلام و سألتة أن يتمّ الأذان فلم يفعل، و قال لها: يا سيدة النسوان،

إنّي أخشي عليك، ممّا تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلك [91] .

[ صفحه 209]

هكذا أخذت فاطمة عليهاالسلام بالبكاء والعويل ليلها و نهارها، و لا ترقأ لها دمعة حتي جزع لذلك جيرانها، فاجتمع شيوخ أهل المدينة و أقبلوا إلي أميرالمؤمنين عليه السلام: و قالوا يا أباالحسن إنّ فاطمة تبكي الليل والنهار،فلا أحد منّا يتهنأ بالنوم في الليل علي فراشنا، و لا بالنهار لنا قرار علي أشغالنا و طلب معايشنا، و إنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلاً أو نهاراً.

فأقبل أميرالمؤمنين عليه السلام حتي دخل علي فاطمة عليهاالسلام فقال لها:

«يا بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إنّ شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إمّا أن تبكي أباك ليلا و إمّا نهاراً».

فقالت: «يا أباالحسن، ما أقلّ مكثي بينهم، و ما أقرب مغيبي من بين أظهرهم» [92] .

[ صفحه 210]

و لا أدري ما كان تأثير بكاء السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام علي القوم و علي النفوس التي شعرت و أحست بوصمة العار و ثقل مسؤولية ما أرتكبوه من وديعة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و هل بكاء إمرأة جالسة في بيتها يسلب راحة الحكام إلي هذا الحد؟ ولكنهم أدركوا انّ بكاءها، هو احتجاج صارخ علي ظلمها، و اغتصاب حق زوجها و ضربات تأنيب شديدة علي رؤوسهم ربّما تعيد الاُمّة إلي رشدها و تفيقها من غفوتها، و بالتالي تثور علي الحكام و تقلعهم كما تقلع النخلة من جذورها؟

ولكن السياسة الزمنية فرضت عليهم ذلك، و يعلمون كل العلم بأنّ لها كلّ الحق ان لا تمتنع عن البكاء، علي من؟ و علي

من كان بكائها؟ لفقدها سيد البشر الرسول العظيم صلي اللَّه عليه و آله و سلم و علي المصائب والفواجع التي صبت عليها بعد فراقه، و لاجل من تمتنع؟ لاجل حفنة حاكمة غاصبة، إبتغاء غايات و أهداف يريدون تمريرها علي

[ صفحه 211]

الاُمة لتثبيت عروشهم.

فاضطر أميرالمؤمنين عليه السلام أن يبني لها بيتاً خلف البقيع خارج المدينة و سماه «بيت الأحزان» و كان إذا أصبحت قدّمت الحسن والحسين عليهماالسلام أمامها، و خرجت إليه و هي تمر علي البقيع باكية [93] ، فإذا جاء الليل أقبل أميرالمؤمنين عليه السلام إليها و رافقها إلي منزلها.

عن أنس قال: لمّا فرغنا من دفن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أتيت إلي فاطمة عليهاالسلام فقالت: «كيف طاوعتكم أنفسكم علي أن تهيلوا التراب علي وجه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ثم بكت [94] .

و عن محمود بن لبيد قال: مررت علي قبور شهداء اُحد، و إذا بفاطمة تبكي عند قبر حمزة رضي اللَّه عنة- و كانت تأتي قبره بعد وفاة أبيها- فصبرت حتي هدأت، فسلّمت

[ صفحه 212]

و قلت: يا سيدتي، لقد قطّع بكاؤك نياط قلبي.

فقالت: «كيف لا أبكي و قد فقدت أبي خير الآباء و أفضل الأنبياء؟! ما أشوقني إلي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم».

فقلت: يا سيدتي: أحبّ أن أسألك مسألة؟

فقالت: «سل».

فقلت: هل صرّح النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بإمامة علي عليه السلام في حياته؟

فقالت: «عجباً، أو نسيتم غدير خم؟».

فقلت: أعرف يوم الغدير، ولكنّي اُريد أن أسمع ما قاله لكم في ذلك.

فقالت: «واللَّه لقد سمعت النبي صلي اللَّه

عليه و آله و سلم يقول: عليّ خليفتي من بعدي و هو الإمام، والحسن والحسين إمامان، و يكون من صلب الحسين عليه السلام تسعة أئمة من تبعهم اهتدي و نجي، و من خالفهم ضل و هوي» [95] .

[ صفحه 213]

أسفي علي تلك الذات الطاهرة و علي شبابها الذابل بضعة المصطفي و روحه التي بين جنبيه، والشمعة التي تكاد تنطفئ، و هي تنظر إلي زوجها و ابن عمها العظيم، جليس الدار، و مسلوب الإرادة و الإمكانات، مغصوباً حقه، و مدفوعاً عن منصبه الذي نصبه اللَّه سبحانه و رسوله الكريم، و تنظر إلي أملاكها التي صودرت و أموالها التي غصبت، و تنظر إلي فلذاتها و أطفالها المفجوعين الذين لم تهدأ لهم حسرة أو زفرة، و لا تقرّ لهم دمعة، و هي أسيرة الكرب والمرض و رهينة الفراش، تنتظر أمر ربها ساعة بعد ساعة فإنا للَّه و إنا إليه راجعون.

و قد تفجرت قرائح الشعراء لما ألمّ بهم الخطب و نظموا هذه المأساة في قصائد جزلة عصماء سنوافيك بها في ما يأتي من فصول الكتاب إن شاء اللَّه.

فاطمة علي فراش المرض

إنتشر خبر مرض السيدة فاطمة الزهراء في المدينة،

[ صفحه 214]

و سمع الناس بإنحراف صحتها، و لم تكن تشكو السيدة فاطمع الزهراء من داء عضال، غير ما حدث لها بين الحائط والباب من عصرها و كسر ضلعها و سقوط جنينها و لطمها علي خدها و غيرها.

كل هذه الأمور ساهمت في إنحراف صحتها، و قعودها عن ممارسة أعمالها و كان زوجها العطوف هو الذي يتولي تمريضها، و تعينه علي ذلك أسماء بنت عميس [96] ، جاءت نسوة من أهل المدينة لعيادتها،

و خطبت فيهن تلك الخطبة التي ستمر عليك، و أعادت النسوة كلامها علي رجالهن، فجاء الرجال يعتذرون، فما قبلت إعتذارهم، فقالت: «إليكم عني لا عذر بعد تعذير و لا أمر بعد تقصير».

[ صفحه 215]

عيادة النساء لفاطمة الزهراء

لا نعلم- بالضبط- السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيدة فاطمة الزهراء، فهل كان ذلك بإيعاز من رجالهن فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهم إلي دار السيدة فاطمة؟

أو هل حصل الوعي عند النساء و شعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول اللَّه، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج حضورهن للعيادة والمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألمة مما حدث و جري علي سيدة النساء؟؟

أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهن ذلك فحضرن لتلطيف الجو و تخفيف توتر العلاقات بين السيدة فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و بين السلطة الحاكمة

[ صفحه 216]

في ذلك اليوم؟

خاصة و إنّ الموقف الإعتزالي الذي اختارتة السيدة فاطمة لنفسها، و انسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان جالباً لإنتباه الناس، و بالأخص حين حمل الإمام أميرالمؤمنين السيدة فاطمة يطوف بها علي بيوت المهاجرين والأنصار تستنجد بهم و تستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، و قد مرّت عليك نتيجة الحوار الذي جري بين السيدة فاطمة الزهراء و بين معاذ بن جبل، و عرفت موقف إبنه في ذلك الرد السي ء.

و علي كل تقدير فلا يعلم- أيضاً- عدد النساء اللاتي حضرن عند السيدة فاطمة و هي طريحة الفراش، ولكن المستفاد أنّ العدد لم يكن قليلاً بل كان العدد كثيراً يعبأ به.

[ صفحه

217]

خطبة الزهراء في نساء المهاجرين والأنصار

اشاره

قال سويد بن غفلة:

لمّا مرضت فاطمة عليهاالسلام المرضة التي توفّيت فيها إجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها.

فقلن لها: كيف أصبحت من علتك يا إبنة رسول اللَّه؟

فحمدت اللَّه، وصلّت علي أبيها، ثم قالت:

«أصبحت- واللَّه- عائفةً لدنيا كن، قاليةً لرجالكن لفظتهم بعد أن عجمتهم و شنئتهم بعد أن سبرتهم فقبحاً لفلول الحد، واللعب بعد الجدّ، و قرع الصفاة، و صدع القناة، و خطلّ الآراء، و زلل الأهواء، (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط اللَّه عليهم و في العذاب هم خالدون) لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها، و حمّلتهم أوقتها و شننت عليهم عارها فجدعاً و عقراً و سحقاً للقوم الظالمين.

[ صفحه 218]

و يحهم! أنّي زحزحوها عن رواسي الرسالة، و قواعد النبوّة والدلالة و مهبط الروح الأمين، والطبين بأُمور الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين.

و ما الذي نقموا من أبي الحسن نقموا منه- واللَّه- نكير سيفه، و قلة مبالاته بحتفه، و شدّة و طأته و نكال وقعته، و تنمّره في ذات اللَّه عز و جل، واللَّه لو تكافّوا عن زمان نبذة رسول اللَّه إليه لا عتلقه، ولسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه، و لا يتعتع راكبه، و لأوردهم منهلاً، صافياً رويّاً، فضفاضاً تطفح ضفّتاه، و لا يترنق جانباه ولأصدرهم بطاناً و نصح لهم سرّاً و إعلاناً، و لم يكن يحلي من الغني بطائل، و ملا يحظي من الدّنيا بنائل غير ريّ الناهل، و شبعة الكافل، و لبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب.

(و لو أنّ أهل القري آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما

[ صفحه

219]

كانوا يكسبون).

(والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا و مآ هم بمعجزين).

ألا: هلم و استمع، و ما عشت أراك الدهر عجباً!، و إن تعجب فعجب قولهم!!

ليت شعري إلي أي سناد استندوا و علي أي عماد اعتمدوا؟ و بأية عروة تمسكوا؟ و علي أية ذرية أقدموا و احتنكوا؟ لبئس المولي و لبئس العشير.

و بئس للظالمين بدلاً إستبدلوا- واللَّه- الذنابا بالقوادم، والعجز بالكاهل.

فرغماً لمعاطس القوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ألا: إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.

و يحهم!! (أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لايهدي إلّا أن يهدي فمالكم كيف تحكمون)؟

أما: لعمري! لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوا

[ صفحه 220]

ملأ القعب دماً عبيطاً و ذعافاً مبيداً هنالك يخسر المبطلون، و يعرف التآلون غب ما أسّسه الأولون.

ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفسا، و اطمأنّوا للفتنة جاشاً، و أبشروا بسيف صارم و سطوة معتد غاشم و هرج شامل و استبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، و جمعكم حصيداً فيا حسرةً لكم، و أني بكم؟ و قد عميت عليكم (أنلز مكموها و أنتم لها كارهون)؟؟».

قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها علي رجالهن فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، و قالوا:

يا سيدة النساء لو كان أبوالحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد [97] ، و نحكم العقد لما عدلنا إلي غيره!!

فقالت: «إليكم عني! فلا عذر بعد تعذيركم، و لا أمر

[ صفحه 221]

بعد تقصيركم» [98] .

استمع إلي هذا الإعتذار الواهي والبعيد عن الواقع والمنطق، حتي لكأنّ الآيات القرآنية لم

تنزل علي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و لم يبلّغ بها اُمّته- والعياذ باللَّه- و كأنهم صمّوا و لم يسمعوا النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم يصرح في غير موضع و غير مرّة بولاية علي و وجوب طاعته، و كأن القرآن لم ينزل بقوله تعالي: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك...) الآية.

و بقوله تعالي حينما كان علي عليه السلام يصّلي فتصدق بخاتمه: (إنّما وليكم اللَّه و رسولة والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون)(سورة المائدة: 55).

و قوله تعالي: (في بيوت أذن اللَّه أن ترفع و يذكر

[ صفحه 222]

فيها اسمه يسبح لة فيها بالغدو والآصال...) الآيات (سورة النور: 36).

و قوله تعالي: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم) (سورة آل عمران: 61).

و قوله تعالي: (إنّما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) (سورة الأحزاب: 33).

و غيرها من الآيات الباهرات التي ذكرناها في كتابنا «علي في الكتاب والسنة».

و كأنهم لم يسمعوا النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و هو يقول- كما في حديث المنزلة- «أما ترضي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّا أنّه لا نبي بعدي».

و يقول في حديث الراية: «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ اللَّه و رسوله و يحبّه اللَّه و رسوله، و يحبّه اللَّه و رسوله، كرّار غير فرّار، حتي يفتح اللَّه علي يديه قلاع خيبر».

[ صفحه 223]

و دعا صلي اللَّه عليه و آله و

سلم قائلاً في حديث الطائر المشوي: «اللّهم؟أئتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي».

كأنّ كلّ تلكم الآيات الباهرة والأحاديث الساطعة والبراهين الدامغة لم تبلغهم،فاستمع و إن عشت أراك الدهر عجباً، و لذلك ردّتهم السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام بهذا الردّ الدامغ.

مصادر الخطبة في النساء

أيها القارئ الكريم! لقد قضينا معك برهة من الزمان في رحاب كلمات السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام التي خطبت بها في المسجد و في بيتها و في فراش العلّة والمرض، و قد تبيّن لك الكثير الكثير من الحقائق التي إشتملت عليها خطب السيدة الزهراء.

و قد ذكرنا لك بعض المصادر لخطبتها التي خطبت بها في المسجد، و لا بأس أن نذكر- هنا- بعض مصادر

[ صفحه 224]

خطبتها التي خطبت بها للنساء:

1- معاني الأخبار للشيخ ابن بابويه المتوفي سنة (381 ه) ينتهي سند الخطبة إلي فاطمة بنت الحسين عليهماالسلام.

2- و يروي أيضاً بإسناده عن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام يروي عنة أبيه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهماالسلام.

3- الطبرسي في الإحتجاج عن سويد بن غفلة كما تقدم الكلام في أوّل الخطبة.

4- أمالي الشيخ الطوسي يروي بإسناده عن ابن عباس.

5- دلائل الإمامة للطبري يروي بإسناده عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهماالسلام.

6- بلاغات النساء لأبي الفضل بن أبي طاهر يروي بإسناده عن عطية العوفي.

[ صفحه 225]

7- كشف الغمة للأربلي ص 147 يروي عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبدالعزيز الجوهري.

8- ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة يروي أيضاً عن الجوهري.

9- أعلام النساء تأليف عمر رضا كحّالة ج 4/ ص 123.

10- الشيخ المجلسي في الجزء العاشر من كتابه بحارالأنوار.

العيادة المبغوضة

كان الصحابة رجالاً و نساءً يعودون فاطمة عليهاالسلام بين الحين والحين، إلّا عمر و أبابكر لم يعوداها لأنها قاطعتهم و رفضتهم و لم تأذن لهم بعيادتها، و لمّا ثقل عليها المرض و قاربتها الوفاة لم يجدا بدّاً من عيادتها لئلا تموت بضعة المصطفي

صلي اللَّه عليه و آله و سلم و هي ساخطة عليهما علي

[ صفحه 226]

رؤوس الأشهاد فتبقي وصمة العار تلاحق الخليفة و جهازه الحاكم إلي يوم الدين.

و أرادوا تغطية أعمالهم و استدراك ما فات، فقرروا أن يعودوا السيدة فاطمة الزهراء لإسترضائها، و عند ذلك ينتهي كل شي ء، و تكون المأساة نسياً منسياً، هكذا تفكروا و تدبروا.

ولكن السيدة الزهراء عليهاالسلام كانت تعرف هذه الأساليب، و تعلم كلّ هذه الأمور، و ما يخالج في أذهانهم و إليك الواقعة كما ذكرها ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة ج 1 ص 14) و (أعلام النساء 3 ص 314):

«إنّ عمر قال لأبي بكر: إنطلق بنا إلي فاطمة فإنّا قد أغصبناها فانطلقا جميعاً، فأستأذنا علي فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلماه فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلي الحائط فسلما عليها، فلم ترد- عليهما- السلام، فتكلم أبوبكر فقال: يا حبيبة رسول

[ صفحه 227]

اللَّه! واللَّه إنّ قرابة رسول اللَّه أحب إلي من قرابتي و إنك لأحبّ إليّ من عائشة إبنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت و لا أبقي بعده، أفتراني أعرفك و أعرف فضلك و شرفك، و أمنعك حقك و ميراثك من رسول اللَّه؟

الا أني سمعت أباك رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يقول: «لا نورّث، ما تركناه فهو صدقة».

فقالت: «أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم تعرفانه و تفعلان به؟».

فقالا: نعم.

فقالت: «نشدتكما اللَّه: ألم تسمعا رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يقول: رضا فاطمة من رضاي، و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة إبنتي فقد أحبني،

و من أرضي فاطمة فقد أرضاني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني؟».

قالا: نعم، و سمعناه من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

[ صفحه 228]

قالت: فإني أشهد اللَّه و ملائكته أنكما أسخطتماني و ما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لأشكونكما إليه. فقال أبوبكر: أنا عائذ باللَّه تعالي من سخطه و من سخطك يا فاطمة. ثمّ انتحب أبوبكر يبكي، حتي كادت نفسه أن تزهق، و هي (فاطمة) تقول: «واللَّه لأدعون عليكما في كل صلاة أصليها، ثمّ خرج باكياً، فاجتمع الناس إليه فقال لهم: يبيت كلّ رجل معانقاً حليلته، مسروراً بأهله و تركتموني و ما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي».

العيادة بصورة أخري

في علل الشرائع: لما مرضت فاطمة عليهاالسلام مرضها الذي ماتت فيه أتاها أبوبكر و عمر عائدين، و استأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما، فلما رأي ذلك أبوبكر أعطي اللَّه عهداً أن لا يظلّه سقف بيت حتي يدخل علي فاطمة

[ صفحه 229]

و يترضّاها، فبات في البقيع، ما أظلّة شي ء، ثمّ إنّ عمر أتي عليّاً عليه السلام فقال له: قد أتيناها (فاطمة) غير هذه المرة مراراً نريد الإذن عليها و هي تأبي أن تأذن لنا حتي ندخل عليها فنترضّي، فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل.

قال: نعم، فدخل علي علي فاطمة فقال: «يا بنت رسول اللَّه قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت، و قد تردّدا مراراً كثيرة ورد دتيهما و لم تأذني لهما، و قد سألاني أن أستأذن لهما عليك».

فقالت: «واللَّه لا إذن لهما. و لا أكلّمهما كلمة من رأسي حتي ألقي أبي فأشكوهما

إليه بما صنعاه و ارتكباه مني».

قال علي: «فإني ضمنت لهما ذلك».

قالت: «إن كنت قد ضمنت لهما شيئاً فالبيت بيتك، والنساء تتبع الرجال، لا أخالفك بشي ء، فأذن لمن

[ صفحه 230]

أحببت».

فخرج علي فأذن لهما، فلمّا وقع بصرهما علي فاطمة سلّما عليها، فلم تردّ عليهما،و حولت وجهها عنهما، فتحولا و استقبلا وجهها حتي فعلت مراراً و قالت: «يا علي جاف الثوب» و قالت- لنسوة حولها-: حوّلن وجهي!!» فلمّا حوّلن وجهها حوّلا إليها فقال أبوبكر: يا بنت رسول اللَّه إنّما اتيناك إبتغاء مرضاتك و اجتناب سخطك، نسألك أن تغفري لنا و تصفحي عما كان منا إليك.

قالت: «لا أكلمكما من رأسي كلمة واحدة حتي ألقي أبي و أشكوكما إليه. و أشكو صنيعكما و فعالكما ما ارتكبتما مني».

ثمّ التفتت إلي علي و قالت: «إني لا ألكمهما من رأسي حتي أسألهما عن شي ء سمعاه من رسول اللَّه، فإن صدّقا رأيت رأيي.

[ صفحه 331]

قالا: اللّهم ذلك لها، و إنا لا نقول إلّا حقاً و لا نشهد إلّا صدقا.

فقالت: «أنشدكما باللَّه: أتذكران أن رسول اللَّه استخرجكما في جوف الليل بشي ء كان حدث من أمر علي؟».

فقالا: اللّهم نعم.

فقالت: «أنشدكما باللَّه هل سمعتما النبي يقول: فاطمة بضعة مني و أنا منها، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذي اللَّه، و من آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي، و من آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي؟».

قالا: اللّهم نعم.

فقالت: «الحمدللَّه».

ثمّ قالت: «اللّهم إني أشهدك فاشهدوا يا من حضرني: أنهما قد آذياني في حياتي و عند موتي. واللَّه

[ صفحه 232]

لا

أُكلمكما من رأسي كلمة حتي ألقي ربي فأشكوكما إليه بما صنعتما به و بيّ، و ارتكبتما مني واللَّه لأدعونّ عليكما عند كلّ صلاة أصليها».

فدعا أبوبكر بالويل والثبور و قال: ليت أمي لم تلدني!!

فقال عمر: عجباً للناس كيف و لوك أمورهم و أنت شيخ قد خرفت!! تجزع لغضب إمرأة و تفرح برضاها؟ و ما لمن أغضب إمرأة؟ و قاما و خرجا [99] .

أقول: لا حاجة إلي هذا البكاء المرّ الذي أو شك علي إزهاق الروح- علي حدّ تعبير رواية ابن قتيبة- و لا حاجة إلي الإستقالة ما دام العلاج مقدوراً للخليفة، و لا داعي بأن ينادي أبوبكر بالويل والثبور و بإمكانه أن

[ صفحه 233]

يرضي السيدة فاطمة بأن يردّ إليها حقوقها، و يرفع يده عن أراضيها، و يعتذر عن أعماله، و يعيد الخلافة إلي صاحبها.

ولكنّ الخليفة يريد أن يبقي علي اعتدائه و علي موقفه الذي عرفته بدون أي تنازل، و في نفس الوقت يريد أن ترضي عنه فاطمة الزهراء!؟

لا أظن أن أي إنسان أو مسلم أو قانون أو شعب يرضي بهذا، و لا أظن أن شريعة أو ديناً أو ضميراً أو وجداناً أو منطقاً يقول بهذا سوي منطق العنف والضغط، و منطق القوة والقدرة، ولكن السيدة فاطمة أقوي نفساً و روحاً من أن تخضع لهذا المنطق الا فلج أو بالأحري: أن تنخدع بهذه المظاهر!؟

بقيت هنا كلمة و سؤال: قد يتبادر إلي ذهن القارئ أن يتصور و يسأل: ما دعا أبوبكر أن يلين و يخضع هكذا؟ و ما دعا الزهراء أن تثبت علي رأيها، و لا تتضعضع عن

[ صفحه 234]

موقفها؟

لقد أجاب الجاحظ

علي هذا السؤال، و كفانا مؤونة الجواب، قال في رسالة ص 300 (... فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدّي عليها، و كلّما ازدادت عليه غالظة إزداد لها ليناً ورقّة حيث تقول له: واللَّه لا أكلمك أبداً، فيقول: واللَّه لا أهجرك أبداً، ثمّ تقول: «واللَّه لأدعون اللَّه عليك»، فيقول: واللَّه لأدعون الله: لك، ثمّ يتحمل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة و بحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلي البهاء والتنزيه، و ما يجب لها من الرفعة والهيبة، ثمّ لم يمنعه ذلك عن أن قال معتذراً متقرباً بكلام المعظم لحقها، المكبر لمقامها، الصائن لوجهها، المتحنن عليها: ما أحد أعز علي منك فقراً و لا أحب إلي منك غني، ولكن سمعت رسول اللَّه يقول: «إنا معاشر الأنبياء لانورث ما تركناه صدقة؟؟».

[ صفحه 235]

قيل لهم: ليس ذلك بدليل علي البراءة من الظلم والسلامة من الجور، و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر إذا كان أريباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم و ذلة المنتصف، و حدب الوامق و مقت المحقّ... الخ).

و في موقف آخر نجده أشد صلابةً حتي من عمر- علي أهل البيت- في حالة تثبيت سلطانة و هو الذي أمر عمر لمّا أرسله لمطالبة علي عليه السلام علي المبايعة و إذا امتنع أن يحرق عليهم الدار حتي لو كانت فاطمة والحسنان فيها.

فانظر إلي هذا التناقض في الموقفين لين و شدة في آن واحد لماذا؟!

لأن السياسة الزمنية والدهاء والمكر يتطلبان ذلك.

الاستعداد للرحيل

كانت السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام في ذلك اليوم، الذي

[ صفحه 236]

توفّيت فيه، طريحة الفراش، و قد أخذ منها الهزال

كلّ مأخذ، و ما بقي منها سوي الهيكل العظمي فقط.

نامت السيدة فاطمة في ساعة من ساعات ذلك اليوم و إذا بها تري أباها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في المنام، ولعلّ تلك المرة الأولي والأخيرة التي رأت الزهراء أباها الرسول في المنام.

رأت أباها في قصر من الدرّ الأبيض، فلمّا رآها قال صلي اللَّه عليه و آله و سلم:«هلمي إلي يا بنية، فإني إليك مشتاق!!».

فقالت: «واللَّه إني لأشد شوقاً منك إلي لقائك».

فقال لها: «أنت الليلة عندي!!».

انتبهت من غفوتها، و استعدت للرحيل إلي الآخرة، فقد سمعت من أبيها الصادق المصدق الذي قال: «من رآني فقد رآني» سمعت منه نبأ إرتحالها فلا مجال للشك والتردد في صدق الخبر.

فتحت عينها، و استعادت نشاطها، ولعلّها كانت في

[ صفحه 237]

صحوة الموت و قامت لاتخاذ التدابير اللازمة، و اغتنمت تلك السويعات الأخيرة من حياتها.

و يعلم اللَّه مدي إنشغال قلبها و تشتّت فكرها في تلك اللحظات، فهي مسرورة بالموت الذي سوف يحل بها، فإنّها تستريح من هموم الدّنيا و غمومها، و تلتحق بأبيها الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم حيث الرفيق الأعلي والدرجات العلي في مقعد صدق عند مليك مقتدر، و تتحقق في حقها البشري التي زفّها إليها رسول الله صلي اللَّه عليه و آله و سلم يوم قال لها: أنت أوّل أهل بيتي لحوقاً بي.

ولكنها من ناحية اُخري: يضطرم قلبها لأنها سوف تترك زوجها العظيم و كفؤها الكريم وحيداً غريباً في هذه الحياة القاسية، بلا ناصر و لا معين سوي اللَّه تعالي، فلقد كانت الزهراء خير محامية و مدافعة و ناصرة لزوجها في تلك

الأحداث، فمن الذي يقوم مقامها إذا هي فارقت الحياة؟!

[ صفحه 238]

و مما كان يؤلمها في تلك السويعات أكثر و أكثر و كان يضغط علي قلبها أنّها تفارق أطفالها الصغار، و كأنهم أفراخ لم تنبت أجنحتهم بعد، و قد ذكرنا (فيما مضي) أنّ من جملة أسمائها: الحانية. لأنها ضربت الرقم القياسي في الحنان والعطف علي أولادها، و كانت أكثر أمهات العالم حباً و شفقة علي أطفالها الأعزاء.

إنّها ستترك أفلاذ كبدها أهدافاً لسهام الدهر الخؤون الذي لا يرحم كبيراً و لا صغيراً، و لا وضيعاً و لا شريفاً، و خاصة و انها قد سمعت من أبيها الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم مرات عديدة: أنّ آل رسول اللَّه هم المستضعفون و انهم سوف يرون أنواع الإضطهاد وألوان المصائب والذلّ والهوان، كما شهدت هي ذلك بعد وفاة أبيها الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

و يعلم اللَّه كيف كانت هذه الهواجس والأفكار تهاجم قلبها المنكسر المتألم.

[ صفحه 239]

و علي كل حال: فالحزن- هنا- لا يجدي و لا ينفع فلابدّ من الإستسلام للواقع المر، والتسليم لأمر اللَّه و قضائه و لابّد من انتهاز هذه الفرصة القصيرة التي تمر مر السحاب.

أقبلت الزّهراء تزحف أو تمشي متكئة علي الجدار نحو الموضع الذي يوجد فيه الماء من بيتها، و شرعت تغسل ثياب أطفالها بيديها المرتعشتين، ثمّ دعت أطفالها و طفقت تغسل رؤوسهم بالماء والطين، لأنها لم تجد غسيلاً غير الطين.

قف بنا لحظة!! لنبك علي هذه السيدة التي قد اقترب أجلها، و هي تلمس رؤوس أطفالها و أبدانهم النحيفة، و كأنها تودعهم، و ما يدريك أنها-

حينذاك- كانت تبكي بصوت خافت، و تتقاطر الدموع من جوانب عينيها الغائرتين، تسيل علي وجهها المنكسف لتغسل الذبول المستولي عليه.

[ صفحه 240]

و دخل الإمام علي عليه السلام البيت، و إذا به يري عزيزته قد غادرت فراش العلّة و هي تمارس أعمالها المنزلية.

رق لها قلب الإمام حين نظر إليها و قد عادت إلي أعمالها المتعبة التي كانت تجهدها أيام صحتها، فلا عجب إذا سألها: سبب قيامها بتلك الأعمال بالرغم من انحراف صحتها؟

أجابته بكلّ صراحة: لأنّ هذا اليوم آخر يوم من أيام حياتي، قمت لأغسل رؤوس أطفالي و ثيابهم لأنهم سيصبحون يتامي بلا أمّ!!

سألها الإمام عن مصدر هذا النبأ فأخبرته بالرؤيا، فهي بذلك قد نعت نفسها إلي زوجها بما لا يقبل الشك.

إذن، فالسيدة فاطمة في أواخر ساعات الحياة، و قد حان لها أن تكاشف زوجها بما أضمرته في صدرها (طيلة هذه المدة) من الوصايا التي يجب تنفيذها و لو بأغلي الأثمان و لا يمكن التسامح فيها أبداً، لأنّ لها غاية

[ صفحه 241]

الأهمية.

كأنها قد فرغت من أعمالها المنزلية و عادت إلي فراشها و فرغت لوصاياها:

قالت عليهاالسلام لعلي عليه السلام: «يابن عم!! إنّة قد نعيت إلي نفسي، و إنني لا أري مابي ألّا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، و أنا أوصيك بأشياء في قلبي».

قال لها علي عليه السلام: «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللَّه»، فجلس عند رأسها، و أخرج من كان في البيت، ثمّ قالت:

«يابن عم! ما عهدتني كاذبة و لا خائنة. و لا خالفتك منذ عاشرتني».

فقال علي عليه السلام: «معاذ اللَّه!! أنت أعلم باللَّه، و أبر و أتقي و أكرم، و أشد

خوفاً من اللَّه من أن أوبخك بمخالفتي، و قد عز علي مفارقتك و فقدك.

إلّا أنّة أمر لابدّ منه.

[ صفحه 242]

واللَّه لقد جددت علي مصيبة رسول اللَّه، و قد عظمت وفاتك فإنّاللَّه و إنّا إليه راجعون.

من مصيبة ما أفجعها و آلمها، و أمضها و أحزنها.

هذه مصيبة لا عزاء منها، و رزية لا خلف لها».

ثمّ بكيا جميعاً ساعة، و أخذ الإمام رأسها و ضمها إلي صدره ثمّ قال:

«أو صيني بما شئت، فإنك تجدينني و فياً أمضي كلّما أمرتني به، و أختار أمرك علي أمري».

فقالت: «جزاك اللَّه عني خير الجزاء.

يابن عم! أوصيك أولاً:

أن تتزوج بعدي بإبنة أُختي أُمامة، فإنّها تكون لولدي مثلي، فإنّ الرجال لابدّ لهم من النساء».

ثمّ قالت: «أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فإنهم عدوي و عدو رسول اللَّه، و لا تترك أن يصلي علي أحد منهم و لا من أتباعهم،

[ صفحه 243]

و ادفني في الليل إذا هدأت العيون و نامت الأبصار [100] .

ثمّ قالت: «يا ابن العم! إذا قضيت نحبي فغسلني و لا تشكف عني، فإني طاهرة مطهرة، و حنطني بفاضل حنوط أبي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

وصل علي، وليصل معك الأدني فالأدني من أهل بيتي و ادفني ليلاً لا نهاراً، و سراً لاجهارا، و عف موضع قبري، و لا تشهد جنازتي أحداً ممن ظلمني.

يا ابن العم، أنا أعلم أنك لا تقدر علي عدم التزويج من بعدي فإن أنت تزوجت إمرأة إجعل لها يوماً و ليلة، و اجعل لأولادي يوماً وليلة.

يا أباالحسن! و لا تصح في وجوههما

فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين، فإنّهما بالأمس فقدا جدهما

[ صفحه 244]

واليوم يفقدان أمهما، فالويل لأمة تقتلهما و تبغضهما.

و روي صاحب كشف الغمة و ابن عبدالبرّ في الإستيعاب بسنده أنّ فاطمة الزهراء عليهاالسلام لمّا مرضت مرضها الذي توفيت فيه، قالت لاسماء بنت عميس: أني قد استقبحت ما يصنع بالنساء إنه يطرح علي المرأة الثوب فيصفها لمن رأي.

فقالت أسماء: يا بنت رسول اللَّه أنا أُريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد- النخل- رطبة فحنتها ثمّ طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة عليهاالسلام: «ما أحسن هذا و أجمله لا تعرف به المرأة من الرجل»، ثمّ قالت فاطمة عليهاالسلام: «إذا أنا متّ فاغسليني أنت و لا يدخلن علي أحد...» [101] .

و روي ابن عباس وصية مكتوبة لها عليهاالسلام جاء فيها:

[ صفحه 245]

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

«هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أوصت و هي تشهد أن لا إله إلا اللَّه و أنّ محمداً عبده و رسوله، و أنّ الجنّة حق، والنار حقّ، و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ اللَّه يبعث من في القبور.

يا علي: أنا فاطمة بنت محمّد، زوّجني اللَّه منك لأكون لك في الدّنيا والآخرة، أنت أولي بي من غيري، حنطني و غسلني و كفّني بالليل و صلّ علي و ادفني بالليل و لا تعلم أحداً. و أستودعك اللَّه و أقرأ علي ولدي السلام إلي يوم القيامة» [102] .

هذه بعض وصايا السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام التي يتجلي فيها مدي تألمها من ذلك المجتمع، و مدي تذمرها من الجفاة القساة.

[ صفحه 246]

لحظات عمرها الأخيرة

إنتقلت السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام إلي فراشها المفروش في وسط البيت، و اضطجعت مستقبلة القبلة، واضعة يدها تحت خدها بعد أن هيأت طعاماً لأطفالها، و قيل: أنها أرسلت بنتيها، زينب و أُم كلثوم إلي بيوت بعض الهاشميات لئلا تشاهدا موت أمهما، كلّ ذي من باب الشفقة والرأفة، والتحفّظ عليهما من صدمة مشاهدة المصيبة.

يستفاد من بعض الأحاديث أنّ الإمام علياً والحسن والحسين عليهم السلام كانوا خارج البيت في تلك الساعة، ولعلّ خروجهم كان لأسباب قاهرة و ظروف معيّنة، و علي كل لم يحضروا تلك الدقائق الأخيرة من حياة أُمهم، و إنّما كانت أسماء حاضرة و ملازمة لها، و يستفاد من بعض الأحاديث أن خادمتها فضة أيضاً كانت حاضرة.

[ صفحه 247]

حانت ساعة الإحتضار، و حالة النزع، و انكشف الغطاء، و نظرت السيدة فاطمة نظراً حاداً ثم قالت: «السلام علي جبرئيل.

السلام علي رسول اللَّه.

اللهم مع رسولك، اللهم في رضوانك و جوارك و دارك دارالسلام».

ثمّ قالت: «أترون ما أري؟» فقيل لها: ماترين؟ قالت: «هذه مواكب أهل السموات و هذا جبرئيل، و هذا رسول اللَّه يقول: يا بنية إقدمي، فما أمامك خير لك».

و فتحت عينيها... ثمّ قالت: «و عليك السلام يا قابض الأرواح عجل بي و لا تعذبني»، ثمّ قالت: «إليك ربي لا إلي النار».

ثمّ غمضت عينيها، و مدّت يديها و رجليها و فارقت الحياة فشقت أسماء جيبها، و وقعت عليها تقبلها و هي تقول: يا فاطمة إذا قدمت علي أبيك رسول اللَّه فاقرئيه

[ صفحه 248]

عن أسماء بنت عميس السلام [103] .

و دخل الحسن والحسين فوجدا أمهما مسجّاة فقالا: «يا أسماء ما ينيم أمنا في هذه الساعة؟» قالت؛

يا بني رسول اللَّه ليست أمكما نائمة، قد فارقت الدّنيا.

فألقي الحسن نفسه عليها يقبل رجلها و يقول: «يا أماه كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني».

و هكذا الحسين كان يقبل رجلها و يقول: «يا اُماه! أنا إبنك الحسين!! كلميني قبل أن يتصدع قلبي فأموت».

قالت لهما أسماء: يا بني رسول اللَّه إنطلقا إلي أبيكما فأخبراه بموت أمكما. فخرجا حتي إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء.

فابتدر إليهما جمع من الصحابة و سألوهما عن سبب

[ صفحه 249]

بكائهما فقالا: «أو ليس قد ماتت أُمنا فاطمة!».

فوقع الإمام علي عليه السلام علي وجهة يقول: «بمن العزاء يا بنت محمّد؟» و أقبل إلي البيت.

التشييع و الدفن

ارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، و دهش الناس كيوم قُبض فيه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و صاح أهل المدينة صيحة واحدة، و اجتمعت نساء أهل المدينة علي باب دار السيدة فاطمة.

و أقبلوا مسرعين و ازدحموا مثل عرف الفرس علي باب البيت، و علي جالس؛ و الحسن والحسين بين يديه يبكيان، فبكي الناس لبكائهما.

و جاءت عائشة لتدخل فمنعتها أسماء و قالت لها: لا تدخلي. فكلمت عائشة أبابكر فقالت: إنّ الخثعمية تحول بيننا و بين إبنة رسول اللَّه و قد جعلت لها هودج

[ صفحه 250]

العروس. فجاء أبوبكر فوقف علي الباب فقال: يا أسماء ما حملك علي أن منعت أزواج النبي أن يدخلن علي بنت رسول اللَّه؟ و جعلت لها مثل هودج العروس؟ فقالت أسماء: إنّ فاطمة أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، و أريتها هذا الذي صنعت و هي حية، فأمرتني أن أصنع لها ذلك.

قال أبوبكر: فاصنعي ما أمرتك. ثمّ انصرف.

و أقبل الشيخان إلي علي يعزّيانه، و يقولان له: يا أباالحسن لا تسبقنا بالصلاة علي إبنة رسول اللَّه.

كان الناس ينتظرون خروج الجنازة فأمر علي عليه السلام أباذر فنادي: إنصرفوا، فإنّ إبنة رسول اللَّه قد أخر إخراجها في هذه العشية.

و هكذا تفرّق الناس، و هم يظنون أن الجنازة تشيّع صباح غد، إذ أنّ السيدة فاطمة الزهراء فارقت الحياة

[ صفحه 251]

بعد صلاة العصر، أو أوائل الليل [104] .

مضي من الليل شطرة، و هدأت الأصوات، و نامت العيون، ثمّ قام الإمام لينفّذ وصايا السيدة فاطمة.

حمل ذلك الجسد النحيف الذي أذابته المصائب حتي صار كالهلال.

حمل ذلك البدن الطاهر كي يُجري عليه مراسم السنة الاسلامية.

وضع ذلك الجثمان المطهّر علي المغتسل، و لم يجرّد فاطمة من ثيابها تلبيةً لطلبها، إذ لا حاجة إلي نزع الثوب عن ذلك البدن الذي طهره اللَّه تطهيراً، و يكفي صب الماء علي البدن، كما صنع ذلك في تغسيل النبي الطاهر.

و هناك أسماء بنت عميس، تلك السيدة الوفيّة الطيبة التي استقامت علي علاقتها الحسنة مع أهل البيت، فهي

[ صفحه 252]

تناول عليّاً الماء لتغسيل السيدة فاطمة.

يقول الإمام الحسين عليه السلام: «غسلها ثلاثاً و خمساً، و جعل في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، و أشعرها مذراً سابغاً دون الكفن، و هو يقول:

اللّهم إنّها أمتك، و إبنة رسولك و صفيك، و خيرتك من خلقك اللهم لقنها حجّتها، و أعظم برهانها، و أعل درجتها، و أجمع بينها و بين أبيها محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم» [105] .

و بعد الفراغ من التغسيل حملها و وضعها علي أكفانها، ثم نشّفها بالبردة التي نشف بها

رسول اللَّه [106] و حنطها بحنوط السماء الذي يمتاز عن حنوط الدّنيا.

ثمّ لفها في أكفانها، و كفنها في سبعة أثواب» [107] .

و إنّما قام علي عليه السلام بتغسيلها، و لم يكلف أحداً من النساء بذلك لأسباب:

[ صفحه 253]

1- تلبية لطلبها، و تنفيذاً لوصيتها.

2- إثباتاً لعصمتها و طهارتها، فإنّ تغسيل الميت يعتبر تطهيراً له، و أما بالنسبة للمعصومين فلا يسمح للأيدي الخاطئة أن تمدّ لتغسيلهم، و إنّما هو من واجبات المعصوم الخاصة أن يقوم بعملية التطهير، و قد مرّ عليك الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام حول كونها صدّيقة، و إنّ الصديقة لا يغسلها إلّا صديّق.

فكان الغرض من تلك الوصية و تنفيذها إثبات عصمتها، والتنويه بذلك في شتي المجالات و كافة المناسبات.

و صرّح الإمام عليه السلام بذلك حيث يقول: «فغسّلتها في قميصها و لم أكشفه عنها فواللَّه. لقد كانت ميمونة طاهرة مطهرة... الخ».

هاجت عواطف الأب العطوف علي أطفاله المنكسرة قلوبهم، فلم يعقد الخيوط علي الكفن، بل نادي-

[ صفحه 254]

بصوت مختنق بالبكاء-: «يا حسن يا حسين يا زينب يا أُم كلثوم هلمّوا و تزوّدوا من أُمّكم، فهذا الفرق واللقاء في الجنّة!!».

كانوا يبكون بأصوات خافتة، و يغسلون كفن أُمّهم الحانية بالدموع، فتجففها الآهات والزفرات.

كان المنظر مشجياً مثيراً للحزن، فالقلوب ملتهبة، والأحاسيس مشتعلة والعواطف هائجة، والأحزان ثائرة.

و انتهت مراسيم التكفين والتحنيط، و جاء دور الصلاة عليها ثمّ الدفن، لقد حضر الأفراد الذين تقرر أن يشتركوا في تشييع الجثمان و مراسم الصلاة و غيرها، و هم الذين لم يظلموا فاطمة، و لم يسكتوا أمام تلك الأحداث، و لم يكن موقفهم موقف المتفرج الذي لم يتأثر بالحوادث.

لقد حضروا، و هم: سلمان، عمار بن ياسر، أبوذر الغفاري، المقداد، حذيفة، عبداللَّه بن مسعود، العباس

[ صفحه 255]

إبن عبدالمطلب، الفضل بن عباس، عقيل، الزبير، بريدة، و نفر من بني هاشم، و شيّعوا جثمان فاطمة الزهراء البنت الوحيدة التي تركها الرسول الأقدس بين أمتة، و كأنها امرأة غريبة خاملة فقيرة في المدينة، لا يعرفها أحد و كأنها لم تكن لها تلك المنزلة الرفيعة والشخصية المثالية.

هوؤلاء هم المشتركون في تشييع جنازة سيدة نساء العالمين.

و تقدم الإمام علي عليه السلام و صلي بهم علي حبيبة رسول اللَّه، قائلاً: «اللهم إني راض عن إبنة نبيك، اللّهم إنها قد أُوحشت فآنسها، اللّهم إنها قد هجرت فصلها، اللّهم إنها قد ظلمت فأحكم لها و أنت خير الحاكمين» [108] .

ثمّ صلي ركعتين و رفع يديه إلي السماء فنادي: «هذه

[ صفحه 256]

بنت نبيّك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلي النور. فأضاءت الأرض ميلا في ميل».

صلّي الإمام علي عليه السلام عليها، إذ أنها كانت معصومة، فيجب أن يصلي عليها المعصوم، فالصلاة علي الميت دعاء له بالرحمة، و أمّا بالنسبة للمعصوم فالدعاء له أي الصلاة علي جثمانه فهو من واجب المعصوم.

و كان من بنود وصيتها أن قالت: «يابن العم! أُوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فإنهم عدوّي و عدو رسول اللَّه، و لا تترك أن يصلي علي أحد منهم و لا من أتباعهم، و ادفني في الليل إذا هدأت العيون و نامت الأبصار» [109] .

و ترمز هذه الوصية إلي أنّ الزهراء عاشت بعد أبيها ناقمة و غاضبة علي اولئك الأفراد، و استمرت النقمة

[ صفحه 257]

والغضب حتي

الموت و بعد الموت و إلي يوم يبعثون.

فلا ترضي السيدة فاطمة أن تشيّعها تلك العصابة، و لا أن يصلوا علي جنازتها و لا يشهدوا دفنها، و لا يعرفوا قبرها، بل يبقي قبرها مخفياً من يوم وفاتها إلي يوم الفصل الذي كان ميقاتاً ليجلب هذا العمل إنتباه المسلمين و علي الأخص الحجاج والمعتمرين الّذين يزورون قبر الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم في المدينة المنورة، و مراقد الأئمة في البقيع، و يتساءلون عن قبرها فلا يجدون لذلك أثراً و لا خبراً.

فالقبر كان و لا زال مجهولاً عند المسلمين بسبب إختلاف المؤرخين والمحدثين فهناك أحاديث تصرّح بدفنها في البقيع، و هناك روايات أنها دفنت في حجرتها و عند توسيع المسجد النبوي الشريف صار قبرها في المسجد. خلف حجرة النبي و هو شاخص.

فإن صح هذا القول فإن صور القبور التي صورها

[ صفحه 258]

الإمام في البقيع كان لغرض التمويه، و صرف الأنظار عن مدفنها الحقيقي.

و إن كان الإمام قد دفنها في البقيع فالقبر كان و لا يزال مجهولاً.

دفنوا أول شهيدة من آل محمّد.

لقد دفنوا المواهب والفضائل.

لقد أخفوا في بطون التراب الحوراء الإنسية.

كانت لحظات حرجة من تلك الليلة المؤلمة والمشجية لقد كان جثمان السيدة الطاهرة ماثلاً نصب عينيه، والآن و قد غابت عنه في طبقات الثري، و هاجت به الاحزان، و عصره ألم المصاب، فانشد يقول:

لكل اجتماع من خليلين فرقة

و كل الذي دون الممات قليل

و إن افتقادي فاطماً بعد أحمد

دليل علي أن لا يدوم خليل

[ صفحه 259]

لمّا نفض يدة من تراب القبر

أرسل دموعه علي خديه و حوّل وجهه إلي قبر رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ثمّ قال:

«السلام عليك يا رسول اللَّه عني. و عن إبنتك و زائرتك، والبائتة في الثري ببقعتك، والمختار اللَّه له سرعة اللحاق بك.

قلّ يا رسول اللَّه عن صفيّتك صبري، و عفي عن سيدة نساء العالمين تجلّدي إلّا أنّ في التأسي لي بسنتك في فرقتك موضع تعزي فلقد و سدّتك في ملحودة قبرك بعد ان فاضت نفسك بين نحري و صدري، و غمّضتك بيدي، و توليت أمرك بنفسي.

بلي و في كتاب اللَّه لي أنعم القبول أنا للَّه و إنا إلية راجعون. قد أُسترجعت الوديعة، و أُخذت الرهينة، و اختلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء.

يا رسول اللَّه!! أمّا حزني فسرمد و أمّا ليلي فمسهد، و هم لا يبرح قلبي أو يختار اللَّه لي دارك التي أنت فيها

[ صفحه 260]

مقيم كمد مقيّح، و هم مهيّج سرعان ما فرق اللَّه بيننا و إلي اللَّه أشكو، و ستنبئك إبنتك بتظافر أُمتك علي، و علي هضمها حقها، فأحفها السؤال، و استخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلي بثّة سبيلاً، و ستقول و يحكم اللَّه و هو خير الحاكمين.

والسلام عليكما يا رسول اللَّه سلام مودّع لا سئم و لا قال فإن أنصرف فلا عن ملالة، و إن أُقم فلا عن سوء ظن بما وعد اللَّه الصابرين.

واهاً واها!! والصبر أيمن و أجمل و لولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً والتلبث عندة عكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلي علي جليل الرزية. فبعين اللَّه تدفن إبنتك سرّاً؟!! و يهتضم حقها قهراً؟!! و يمنع إرثها جهراً؟!! و لم يطل

منك العهد، و لم يخلق منك الذكر فإلي اللَّه- يا رسول اللَّه- المشتكي، و فيك- يا رسول اللَّه- أجمل العزاء، فصلوات اللَّه عليها

[ صفحه 261]

و عليك و رحمة اللَّه و بركاته».

علي في تأبين الزهراء

و إنطلاقاً من هذا المفهوم فإنه يجدر بالإمام علي عليه السلام أن يرثي السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام و يبث آلامه النفسية من تلك الفاجعة المؤلمة، فالإمام يشعر بألم المصاب أكثر من غيره، لأنه يقدّر فقيدته حق قدرها، و تأثير الصدمة في نفسة أقوي و أكثر، فلا عجب إذا هاجت أحزانه فقال مخاطباً لسيدة النساء فاطمة العزيزة بعد وفاتها قائلاً:

نفسي علي زفراتها محبوسة

يا ليتها خرجت مع الزفرات

لا خير بعدك في الحياة و إنّما

أبكي مخافة أن تطول حياتي

و قوله:

[ صفحه 262]

أري علل الدّنيا علي كثيرة

و صاحبها حتي الممات عليل

ذكرت أبا ودي فبت كأنني- بردّ الهموم الماضيات وكيل

لكل اجتماع من خليلين فرقة- و كل الذي دون الفراق قليل

و إن إفتقادي فاطماً بعد أحمد- دليل علي أن لا يدوم خليل@

و قوله:

فراقك أعظم الأشياء عندي

و فقدك فاطم أدهي الثكول

سأبكي حسرة و أنوح شجواً

علي خل مضي أسني سبيل

ألا يا عين جودي و اسعديني

فحزني دائم أبكي خليلي

[ صفحه 263]

و قوله:

حبيب ليس يعدله حبيب

و ما لسواه في قلبي نصيب

حبيب غاب عن عيني و جسمي

و عن قلبي حبيبي لا يغيب

و قوله مخاطباً للسيدة فاطمة بعد وفاتها:

مالي وقفت

علي القبور مسلماً

قبر الحبيب فلم يردّ جوابي

أحبيب مالك لا تردّ جوابنا

أنسيت بعدي خلة الأحباب

قال الحبيب و كيف لي بجوابكم

و أنا رهين جنادل و تراب

أكل التراب محاسني فنسيتكم

و حجبت عن أهلي و عن أترابي

[ صفحه 264]

فعليكم مني السلام تقطعت

مني و منكم خلة الأحباب

و قال عليه السلام:

شيئان لو بكت الدماء عليهما

عيناي حتّي تأذنا بذهاب

لم يبلغ المعشار من حقيهما

فقد الشّباب و فرقة الأحباب

و قال عليه السلام أيضاً:

و ما الدهر والأيام إلّا كما تري

رزية مالٍ أو فراق حبيب

و إن امرءاً قد جرب الدهر لم يخف- تقلب حاليه بغير لبيب@

و قال عليه السلام:

يريد الفتي أنّ لا يموت خليله

و ليس له إلّا الممات سبيل

[ صفحه 265]

فلا بدّ من موتٍ و لا بدّ من بلي

و إنّ بقائي بعدكم لقليل

ستعرض عن ذكري و تنسي مودتي

و يحدث بعدي للخليل بديل

تاريخ وفاتها

ليس من العجيب أن يختلف المؤرخون في تاريخ وفاتها و مقدار عمرها كما اختلفوا في تاريخ ولادتها قبل البعثة أو بعدها، و هكذا الاختلاف في مقدار مكثها في الحياة بعد وفاة أبيها الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم. و كذا اختلفوا في مكان دفنها و هي البضعة الوحيدة لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

كما ان موقع دفنها عليهاالسلام اختلف فيه، فمنهم من قال دفنت في بيتها، و منهم من قال: دفنت

في البقيع. و منهم من قال: دفنت في الروضة المطهرة- استناداً الي حديثه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ما بين قبري و منبري روضة من رياض

[ صفحه 266]

الجنة، واللَّه العالم بالصواب.

كل ذلك دليل صارخ علي مظلوميتها و معاناتها في حياتها، فانا للَّه و انّا إليه راجعون و سيعلم الذين ظلموها اي منقلب ينقبلون.

والسلام عليها يوم ولدت و يوم عاشت و يوم استشهدت، و يوم تبعث حياً.

تم بحمد اللَّه هذا السفر الميمون المبارك والذي ترجم بعض جوانب حياة السيدة الطاهرة- بضعة المصطفي- فاطمة الزهراء عليهاالسلام ويليه ترجمة ولدها الإمام أبي محمد الحسن المجتبي عليه السلام.

و بهذا انختم هذا الكراس المجيد، سائلين المولي أن يتقبّل منّا هذا اليسير فإنّه سميع بصير، والحمدللَّه ربّ العالمين.

حسين الشاكري

[ صفحه 267]

فاطيمه في الپرتغال

لم يشمل عطف السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام و حنانها علي ابنائها و شيعتها و محبّيها فحسب، بل شمل القاصي والداني من العالم حتي شمل الذين لم يعرفوها من الاُمم البعيدة.

و آية ذلك ظهورها في الپرتغال، و شفائها المرضي والمعلولين من المسيحيّين، و اعلانها اسمها صريحاً، و قد احدثت ضجّة عالمية اعلنتها الاذاعات والصحف العالمية و ذلك في التسعينات من القرن العشرين، والقرية التي ظهرت فيها سمّيت باسمها- فاتيما- و شيّدت علي تلك البقعة الطاهرة كنيسة يزوروها اصحاب الحاجات من المؤمنين في موسم معيّم من كل سنة و لا تزال تشفي مرضاها و تقضي حوائجهم.

فسلام عليها من صدّيقةٍ بتولٍ طاهرة.

اقول: و من عطفها و حنانها شفاء ولدي «فرات»

[ صفحه 268]

و نجاته من موت محتّم- لما اصيب بمغص كلوي

و جراحات شديدة، و تسمّم في الجسم كلّه بحيث اصبح ادراره عبارة عن قيح و دم، و عجز الأطباء عن تشخيص مرضه و كيفية علاجه، حتي تسرّب اليأس إلي نفوسنا من شفائه، و استمر علي هذه الحالة اكثر من ستة أشهر، ممنوع من تناول اي طعام، و قد نغّص علينا عيشنا لا سيما والدته، عند ذلك التجئت و توسّلت بجدّتها السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام مستشفعة بها الي اللَّه تعالي في شفائه، فاخذتها غفوة ظهر احد الأيام ورأت في منامها كأن سيدة جليلة طرقت الباب و دخلت و خلفها ملّة حسينيّة فقالت: جئت مع سيدتي لشفاء ولدك فرات- في قصة مفصّلة اعرضنا عن شرحها لضيق المجال- و من ذلك اليوم تدرّج في الشفاء والعافية ببركة زيارتها عليهاالسلام و شفاعتها، و قد مضي علي هذا الحادث اكثر من ثلاثين عاماً. والحمدللَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام علي سيد العالمين محمّد و آله الطاهرين.

پاورقي

[1] المناقب ج 3: 133. البحار 43/ 16 ح 15.

[2] البحار ج 43 ص 16.

[3] مناقب ابن شهرآشوب ج 1 ص 174.

[4] ينابيع المودة ص 313- بحارالانوار ج 16 ص 1.

[5] وسائل الشيعة ج 14/ أبواب مقدمات النكاح.

[6] كشف الغمة ج 1 ص 353.

[7] كشف الغمه ج 1 ص 354.

[8] دلائل الإمامة ص 19.

[9] مناقب ابن شهرآشوب ج 2 ص 18.

[10] بحارالانوار ج 43 ص 27، ذخائر العقبي ص 29.

[11] شرح النهج ج 9 ص 193.

[12] ذخائر العقبي: 31- 32.

[13] البحار ج 43 / 142.

[14] البحار 43/ 145.

[15] البحار ج 43/ 145.

[16] اللجين: الفضة.

[17] ثوب يصنع باليمن من القطن أو الكتان.

[18] الجلد ما لم يدبغ، مناقب ابن شهرآشوب 3/ 351.

[19] العرار: نبت طيب الرائحة.

[20] البحار

43/ 112- 113.

[21] الخيش: نسيج خشن من الكتان.

[22] الاذخر: حشيش طيب الريح.

[23] المخضب: و عاء لغسل الثياب أو خضبها.

[24] القعب: القدح الضخم الغليظ.

[25] الشن: القربة الصغيرة.

[26] مزفتة: مطلية بالزفت و هو نوع من القير.

[27] مناقب ابن شهرآشوب 3/ 353. كشف الغمة 1/ 359.

[28] بحارالأنوار 43/ 114. المناقب لابن شهرآشوب 3/ 35.

[29] المناقب لأحمد بن حنبل.

[30] كشف الغمة ج 1 ص 364، البحار ج 43 ص 126.

[31] مناقب ابن شهرآشوب 3/ 387.

[32] كشف الغمه 2/ 76.

[33] كشف الغمة 2/ 76.

[34] كشف الغمة 2/ 84، أسد الغابة 5/ 522.

[35] كشف الغمه 2/ 89، ذخائر العقبي / 44.

[36] كشف الغمة 2/ 91.

[37] سورة الشوري: 23.

[38] الطبري، ذخائر العقبي،ص 25.

[39] سورة النور: 36- 37.

[40] الطبري، ذخائر العقبي ص 37. أخرجه عمر.

[41] الطبري، ذخائر العقبي ص 37. أخرجه عمر.

[42] المناقب ج 3 ص 120، البحار ج 43 ص 85، سوره الضحي: 5.

[43] البحار ج 43 ص 31.

[44] البحار ج 43 ص 82.

[45] و يسمي هذا بتسبيح الزهراء عليهاالسلام و قد وردت روايات تؤكد علي استحبابه و عظيم الاجر في قراءته عقب كل فرض صلاة.

[46] الطبري، ذخائر العقبي ص 49. رواه الصدوق في كتاب (من لا يحضره الفقيه)، والبخاري في باب مناقب علي عليهاالسلام- و نحوه في صحيح مسلم، و سنن أبي داود ج 2 ص 334.

[47] الإمام علي نهج البلاغة.

[48] (الرباعية)، السن بين الثنية والناب، و هي أربع: رباعيتان في الفك الأعلي و رباعيتان في الفلك الأسفل.

[49] الفيروزآبادي- فضائل الخمسة- ج 3 ص 131. حليه الأولياء، لأبي نعيم ج 2 ص 300، كنز العمال ج 1 ص 77، و ذكره الهيثمي في مجمعه ج 8 ص 262.

[50] الطبري، ذخائر العقبي / 47.

و قال اخرجه الإمام علي بن موسي الرضا عليه السلام.

[51] رياحين الشريعة 1/ 239.

[52] الكامل في التاريخ 2/ 217، البخاري 3/ 1259.

[53] سورة آل عمران: 144.

[54] البحار 22/ 470، الكامل في التاريخ 2/ 219، إرشاد المفيد 88، طبقات ابن سعد 2/ القسم الثاني / 39- 40، صحيح مسلم 1095:4، مسند أحمد 6/ 282.

[55] البحار: 22/ 490.

[56] الإمامة والسياسة 1/ 12.

[57] البحار 43/ 47، روضة الكافي / 199.

[58] اعتمدت هذه الحوادث علي كتاب فاطمة الزهراء للسيد الخطيب القزويني و كذلك علي كتاب السيرة للأئمة، للسيد هاشم معروف الحسني.

[59] الاحتجاج للطبرسي- تاريخ اليعقوبي.

[60] رياض المدح والرثاء / 107.

[61] شرح ابن أبي الحديد 16/ 210.

[62] سفينة البحار 2/ 351.

[63] كشف الغمة 2/ 152، الدر المنثور 4/ 177.

[64] نهج البلاغة باب (المختار من رسائله عليه السلام).

[65] الاحتجاج للطبرسي 1/ 12 ط- النجف 1386، كشف الغمة 2/ 104، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 16/ 274.

[66] نهج البلاغة الكتاب 45.

[67] كشف الغمة 2/ 105.

[68] لاثت: شدّت. والخمار: ثوب يغطّي به الرأس.

[69] اللّمة- بضم اللام و تخفيف الميم-: الجماعة، الحفدة: الخدم.

[70] كناية عن شدة التستر.

[71] ما تنقص مشيتها عن مشية أبيها من حيث الوقار والكيفية.

[72] الحشد: الجماعة.

[73] المغضية: الساكتة الراضية.

[74] الغبّ- بكسر الغين-: العاقبة.. الوبيل: الشديد الثقيل.

[75] دلائل الإمامة للطبري 39.

[76] دلائل الإمامة للطبري 39.

[77] الكافي 8/ 370 حديث 654، البحار 43/ 195 حديث 25.

[78] الهنبثة: الأمر الشديد المختلف.

[79] الخطب- بضم الخاء والطاء- جمع خطب- بفتح الخاء- و هي المصائب الشديدة.

[80] الوابل: المطر الغزير الكثير.

[81] نكبوا: عدلوا عن الطريق.

[82] نجوي-هنا-: الأحقاد.

[83] مغتصب: مغصوب.

[84] الكثب- بضم الكاف والثاء- جمع كثير و هو الرمل.

[85] رزينا: من الرزية و هي المصيبة. والشجن: الحزن.

[86] الأتان: انثي الحمار.

[87] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16/ 216.

[88] طبقات

ابن سعد 2/ القسم 2/ 85.

[89] البحار 43/ 156.

[90] البحار 43/ 157.

[91] البحار 43/ 157.

[92] البحار 43/ 177.

[93] البحار ج 43/ 177.

[94] أسدالغابة لابن أبي الأثير 5/ 524. طبقات ابن سعد 2/ 83.

[95] رياحين الشريعة 1/ 25.

[96] البحار 43/ 211.

[97] نبرم العهد: نبايع لأبي بكر.

[98] التعذير: هو التقصير ثمّ الاعتذار. والتقصير: التواني عن الشي ء.

[99] علل الشرائع للصدوق ص 37 باب 149، الإمامة والسياسة لأبن قتيبة ج 1 ص 14.

[100] روضة الواعظين،و في رواية، إذا هدأت الأصوات و نامت العيون.

[101] المجالس: 61.

[102] البحار 43/ 214.

[103] و في رواية أنها دخلت حجرتها و قالت لاسماء بنت عميس بعد ساعة ناديني فإن اجبتك و إلّا فاعلمي أني ميتة.

[104] العاشر من البحار.

[105] مستدرك الوسائل، باب تغسيل الميت.

[106] مستدرك الوسائل، باب تغسيل الميت.

[107] مستدرك الوسائل، باب تغسيل الميت.

[108] خصال الصدوق عن الإمام الباقر عليه السلام.

[109] روضة الواعظين.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.