فدك في التأريخ

هوية الکتاب

سرشناسه : صدر، محمدباقر، 1979 - 1931 Sadr, Muhammad Baqir

عنوان و نام پدیدآور : فدك في التاریخ / محمدباقر الصدر

مشخصات نشر : تهران : موسسة البعثة ، مرکز الطباعه و النشر، 1424ق . = 2003 = 1382.

مشخصات ظاهری : ص 148

شابک : 964-309-347-69000ریال

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

یادداشت : چاپ قبلی : مرکز الابحاث و الدراسات التخصیصه الشهید الصدر، 1382

یادداشت : عربی .

یادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : فدک

موضوع : فاطمه زهرا(س )، 8؟ قبل از هجرت - ق 11

شناسه افزوده : بنیاد بعثت . مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP27/25/ص 4ف 4

رده بندی دیویی : 297/973

شماره کتابشناسی ملی : م 82-35583

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

ص: 7

مقدمه المحقق

اشاره

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد و علي آله الطيّبين الطاهرين و صحبه المنتجبين.

بين يدي الكتاب والمؤلف

«فدك في التاريخ» باكورة النتاج العلمي الخصب للإمام الشهيد الصدر قدس سره. و هذه الدارسة تعدُّ بحقّ بلحاظ الفترة التاريخية التي كُتبت فيها دراسةً رائدة و أصيلة؛ و ذلك لاعتمادها المنهج العلمي الحديث ليس في الاستقصاء والتتبّع لحيثيّات القضية، و مستنداتها فحسب، بل في عمق التحليل، و رصانة الاُسلوب، و دقّة الناقشة، و قوّة المنطق. إنّ النظر إلي الدراسات سواء منها التي صدرت في تلك الفترة أي قبل نصف قرن تقريباً أو الفترة اللاحقة فيما يتعلّق بمثل هذه الموضوعات الحسّاسة، سيتبيّن منها مدي السبق العلمي والإنجاز التاريخي الذي حقّقه الإمام الشهيد في دراسته التي بين يديك أيّها القارئ العزيز. و لا غرابة في ذلك فالسيّد الشهيد تفجّرت عبقريته منذ وقت مبكّر، ثمّ تطوّرت مواهبه سريعاً ليرفد المكتبة الإسلاميّة بدراساته المبتكرة في مختلف حقول المعرفة الإنسانية و علوم الشريعة الإسلاميّة. لقد كان الإمام الشهيد الصدر عالماً ربّانيّاً و مجتهداً ورِعاً و عبقريّاً فذّاً، و قد أغني الفكر الإسلامي المعاصر، و أمدّه بعناصر الحيويّة والاستمرار، حتي ليصحّ القول: إنّ الإمام

ص: 8

الشهيد كان اُطروحة الإسلام المتجدّد. يدُلّك علي ذلك أنّه قدس سره قد نهض بمسؤوليات فكريّة و جهاديّة بما لم ينهض بمثله إلّا القلائل في تاريخ الإسلام المجيد؛ إذ كان في جهاد متواصل، و سعي دائب من أجل تحرير وعي الاُمّة المسلمة من اُطروحة الغرب الكافر، و تحرير مستقبلها من هيمنة الاستكبار العالمي و عملائه، حتي توّجت حياته الشريفة بالشهادة في سبيل اللَّه و في سبيل اعلاء كلمة الإسلام.

المنهج و الكتاب

اعتمد السيّد الشهيد في هذا الكتاب «فدك في التاريخ» منهجاً علميّاً حدّد معالمه و رأي أنّه لابُدّ من اعتماده في مثل هذه الدراسات التاريخيّة ذات الأبعاد السياسيّة. و يقوم هذا المنهج علي اُسس الموضوعيّة التي عبّر عنها (بالتجرّد عن المرتكزات)، والتتبّع والاستقصاء والتأمّل (الأناة في الحكم) ثمّ (الحريّة في التفكير). و يعتبر الشهيد الصدر هذه الاُمور شروطاً أساسيّةً لإقامة بناء تاريخي محكم لقضايا الأسلاف، ترتسم فيه خطوط حياتهم التي عرفوها في أنفسهم، أو عرفها الناس عنهم يومئذٍ... ثمّ يري قدس سره «أنّ ذلك البناء ينبغي أن يتّسع لتأمّلات شاملة لكلّ موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يُتعرّف علي لونه التاريخي و الاجتماعي، و وزنه في حساب الحياة العامة أو في حساب الحياة الخاصّة التي يُغني بها الباحث، و تكون مداراً لبحثه كالحياة الدينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة» (1) .

و إذا كان هذا هو الهدف من مثل هذه الدراسات التاريخيّة، و ذاك هو

ص: 9


1- 1. راجع الفصل الثالث.

إطارها العام، فإنّ الشهيد ينبّه هنا إلي ضرورة «أن تستمد هذه التأمّلات كيانها النظري من عالم الناس المنظور، لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات، و ينشئه التعبّد و التقليد». ثمّ يضع قيداً علي مثل تلك التأمّلات و هو أن لا تستند إلي خيال مجنح يرتفع بالسفاسف إلي الذروة، و تُبني عليها نتائج غير سليمة. و أخيراً يؤكّد السيّد الشهيد ضرورة الالتزام بمنطق البحث العلمي لا بما نستلهمه من عواطفنا و موروثاتنا. ثمّ ينبّه إلي حقيقة خطيرة في حقل الدراسات هي تحول المؤرِّخ إلي روائيّ يستوحي من دنيا ذهنه، لا من الوقائع التاريخية.

إنّ معالم هذا المنهج يكشف عن وعي مبكّر و عميق باُصول البحث العلمي و شروطه الأساسيّة. و قد رأيت السيّد الشهيد و هو يخوض غمار هذا البحث متسلّحاً بمنطق العلم، متحمّساً لمنطق الحقّ، مستمسكاً بما يهديه إليه منطق الأحداث. و هو في كل ذلك يستند إلي ما نقله المؤرّخون، و ما نطقت به الوثيقة التاريخيّة، و يستنتج وفق الضوابط والاُصول المعتبرة.

لمحة موجزة عن فصول الكتاب

تناول الشهيد الصدر (قضية فدك) بالمنظور الفاطمي أي بأبعادها المتشعّبة في جوانب الحياة الإسلامية، و في آماد الزمان اللاحق، و لذلك اعتبرها أي (قضية فدك) ثورة شاملة، فعرض لخلفية (الحدث) أي ما اعتمل في ذهن الزهراء (سلام اللَّه عليها) من أفكار، و ما دار في خلدها من ذكريات عظيمة في حياة أبيها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، ثمّ ها هي تصحو علي واقع مؤلم مرير يموج بالمحنة و بالفتنة التي لا تقف عند حدود، فيحفّزها ذلك إلي أن تُطلق صرختها، و تعلن عن الشروع بالمجابهة. ثمّ ينتقل السيّد الشهيد إلي الفصل الثاني (فدك في معناها

ص: 10

الحقيقي و معناها الرمزي) فيعرّف بها، ثم ينتقل معها عِبرَ مراحل التاريخ المتعاقبة منذ أن انتُزِعت من يد الزهراء عليهاالسلام، إلي آخر ما استقرّ عليها أمرها في أواخر زمن العباسيّين. ثمّ يتحوّل إلي الفصل الثالث الذي عنونه ب (تاريخ الثورة) فيتحدّث عن الثورة ممهّداً لها بالكلام علي شروط البحث و اُسلوب كتابة تاريخ الفرد و الاُمّة مُشيداً بعصر صدر الإسلام و ما تحقّق فيه من إنجازات. يعرّج بعد ذلك إلي كتاب العقّاد «فاطمة والفاطميّون» فينعي عليه المعالجة المُبْتَسرة لمثل تلك القضية الخطيرة و محاولته- أي العقّاد- حصرها في نطاق ضيّق متابِعاً في مناقشته لها منطق التعبّد و التقليد للمتوارث من غير رويّة أو إعمال فكر. ثمّ ينطق بعد ذلك ليحدّد أبعاد (فدك)، بأنّها ليست منازعة في أمرٍ محدود و حقٍّ مغصوب، بل هو يراها أكبر من ذلك بكثير، قال: «إنّنا نحسُّ إذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك و منازعاتها أنّها مطبوعة بطابع الثورة التي توفّرت بواعثها، و نتبيّن أنّ هذه المنازعات كانت في واقعها و دوافعها ثورة علي السياسة العليا...». ثمّ يقدّم تبريراً منطقيّاً لتناوله القضية بكل تلك الأبعاد فيقول: «اُدرس ما شئت من المستندات التاريخيّة الثابتة للمسألة، فهل تري نزاعاً ماديّاً؟ أو تري اختلافاً حول (فدك) بمعناها المحدود، و واقعها الضيّق؟ أو تري تسابقاً علي غِلّات أرض... كلّا، بل هي الثورة علي اُسس الحكم، والصرخة التي أرادت الزهراء عليهاالسلام أن تقتلع بها الحجر الأساس الذي بُني عليه التاريخ بعد يوم السقيفه...». و من هنا يبدأ السيّد الشهيد في رصد الأحداث قبل يوم السقيفة ثمّ يلاحقها مناقِشاً، مسلِّطاً الضوء علي الزوايا والخفايا سواء فيما يتعلّق بالمواقف أو بالشخصيّات، مبرِزاً مواقف الإمام علي عليه السلام التي أملتها

ص: 11

المصلحة الإسلاميّة العليا... ينتقل السيّد الشهيد في فصل آخر إلي (الخطاب الفاطمي) فيحلّل، و يدين المقاصد والأغراض، و ينطلق خلال ذلك ليكشف عن خصائص و مواقف أميرالمؤمنين عليه السلام، تلك الخاصئص والميزات التي تؤهّله دون غيره لاحتلال المركز القيادي الأوّل والمرجعيّة الفكريّة والسياسيّة لاُمّة الإسلام. ثمّ يختم الكتاب بفص عنونه ب (محكمة الكتاب) ناقش فيه (قضية فدك) مبيّناً ملابساتها و حيثيّاتها، مثيراً الإشكالات العميقة علي مباني القوم في حرمان الزهراء (سلام اللَّه عليها) من حقّها الثابت، مستنداً في كل ذلك إلي النصوص الثابتة قرآناً و سنّةً، و إلي ما يقتضيه قانون الشرع و منطق الحقّ و الإنصاف.

ذلك باختصار لمحات عن فصول الكتاب الذي سيجد فيه القارئ العزيز تحليلاً عميقاً، و مناقشات رصينة، باُسلوب بليغ، مع التزام بشرائط البحث و مقتضياته.

كلمة في المقام

إنّ قضيّة فدك في منظور الزهراء (سلام اللَّه عليها) إذن ليست مسألة (نِحلة) انتُزِعت من يدها، لأسباب اختلقتها السلطة أو برّرتها، بل إنّ القضية أخطر من ذلك بكثير، إنّها تشكّل بادرة خطيرة في حياة الدولة الإسلامية و في حياة التجربة الإسلامية الوليدة، تلك التجربة و هذه الدولة التي ناضل النبيّ الأكرم صلي اللَّه عليه و آله و سلم نضالاً مريراً في سبيل إقامتها علي شرعة الحقّ و ميزان العدل، و أراد لها أن تمتدّ في أقطار الأرض و آماد الزمان. إنّ لخطورة تلك تكمن في استعجال (النخبة) التي يفترض أنّها المسؤولة عن حماية التجربة، استعجالها للحصول علي (المكاسب

ص: 12

الآنيّة)، و محاولة الاستحواذ علي المراكز القياديّة بغضّ النظر عن الاُصول المقرّرة، والنصوص المعتبرة. و ذلك يعني أوّل ما يعني فتح الباب واسعاً أمام أصحاب المطامع والنهّازين، أو علي حدّ تعبير اُمّ المؤمنين عائشة: إنّ الخلافة- حينئذٍ- سينالها البرّ والفاجر (1) . و لذلك فإنّ تصدّي الزهراء (سلام اللَّه عليها) لمثل تلك الحالة، إنّما كان للحيلولة دون تحقّق النتائج الخطيرة و المتوقّعة. و من هنا كان الهدف في (إثارة فدك) بأبعادها الشموليّة و تبصير الاُمّة قياداتٍ و أفراداً و جماهير بتلك المخاطر الرهيبة التي تنتظرهم في حال الاندفاع بهذا الاتّجاه، و قد صرّحت الزهراء (سلام اللَّه عليها) بذلك قائلةً:

«أمَا لعمر اللَّه لقد لقحت فَنَظِرة ريثما تنتج، ثمّ احتلبوها طِلاعَ العقب دماً عبيطاً... هناك يخسر المبطلون، و يعرف التالون غِبَّ ما أسّسه الأوّلون ثمّ طيّبوا من أنفسكم نفساً، واطمئنّوا للفتنة جأشاً و أبشروا بسيفٍ صارم، و هرجٍ شامل، و استبدادٍ من الظالمين يدعُ فيئكم زهيداً، و جمعكم حصيداً...» (2) .

في ضوء ذلك كلّه يمكن فهم الحماس الذي يبديه السيّد الشهيد، والتأثير البالغ الذي يعتمل في داخله، إذ هو يحلّل و يناقش و يستنتج (بالمنظور الفاطمي) و بدافع الحرص علي نقاء الاسلام.

لقد كان السيّد الشهيد في طول البحث (يترضّي) علي الصحابة و يقدّر مآثرهم في دنيا الإسلام، و لكنّه لا يغمض النظر عن موارد الخلل، و مواطن الزلل في مسيرة القوم. و لا نري أنّ هناك تقاطعاً، إذ أنّ الأكثر أهميّة، والأولي

ص: 13


1- 4. تاريخ الطبري 2: 280- الطبعة المحقَّقة (محمَد أبوالفضل إبراهيم).
2- 4. تاريخ الطبري 2: 280- الطبعة المحقَّقة (محمَد أبوالفضل إبراهيم).

بالمراعاة هو سلامة التجربة الإسلاميّة و أصالتها و نقاؤها. ثمّ لو أراد البعض أن يتأوّل- و لا مانع من التأويل- إلّا أنّه غير مُلزِمٍ لنا فضلاً عن كونه خلاف الواقع، و لنتذكّر علي سبيل المثال هنا قولة الخليفة الثاني بشأن خالد بن الوليد في قضية مالك بن نويرة، قال الخليفة عمر بن الخطاب لأبي بكر: «إنّ خالداً قتل امرءاً مسلماً و نزا علي امرأته...» (1) علي حدّ تعبير الطبري فتأوّل الخليفة الأوّل لخالد ذلك الفعل، إلّا أنّ ذلك التأويل لم يحقّق القناعة عند الخليفة عمر، و أضمرها في نفسه ثمّ تصرّف لا حقاً استناداً إلي (الواقعة)، نفسها فعزل خالداً حالما تسلّم الحكم.

إذن نحن غير ملزِمين بقبول كلِّ تأويل علي أنّ تأشير الخطأ، و تسجيل الوقائع، و استنطاقها لا شكّ أمرٌ يجنّبنا النتائج الوخيمة، و هو بالتالي يصبُّ في صالح خدمة مسيرة الاُمّة الإسلاميّة و أصالة الإسلام.

و هذا ما كان يهدف إليه الإمام الشهيد من دراسته القيّمة، و ذلك هو الذي حفزّنا إلي القيام بالتحقيق العلمي لهذه الدراسة، و قد ظهر لنا أنّ كلّ إشارةٍ وردت، أو قول أو تحليل أو استنتاج؛ إنّما يستند إلي منطق الأحداث، و إلي المصادر الموثوقة، و الوقائع المشهورة، و سيرة القوم. و سوف يظهر للقارئ الكريم من خلال هذا (التحقيق) أنّه ليس هناك مجازفة في قول، و لا تحامل في رأي، و لا استنتاج من غير دليل.

عملي في التحقيق

ظهر كتاب «فدك في التاريخ» في طبعتين، اُولاهما طبعة المطبعة الحيدرية في

ص: 14


1- 4. تاريخ الطبري 2: 280- الطبعة المحقَّقة (محمَد أبوالفضل إبراهيم).

النجف الأشرف لصاحبها الفاضل الشيخ محمّد كاظم الكتبي، و ذلك سنة 1374 ه/ 1955 م و هذه الطبعة- في الواقع- جيّدة و قليلة الأخطاء.. ثمّ ظهرت الطبعة الثانية بعد ذلك بسنوات، و هي طبعة دار التعارف البيروتيّة التي أشرتُ إليها، و لم أعثر علي طبعات اُخري. و لمّا كانت الطبعة الحيدريّة أدقّ و لأنّ السيّد الشهيد اطّلع عليها بنفسه، فقد اعتمدتها أصلاً.

و لقد قمتُ بتخريج الآيات والروايات من مظانّها كما و ثّقتُ الإحالات التي أوردها السيّد الشهيد و وضعت إزاءها كلمة (الشهيد) تمييزاً لها من التخريجات و التعليقات و الإضافات التي اقتضاها التحقيق، و رأيت من المناسب ذكرها. و قد رجعت في كل ذلك إلي الكتب و المصادر المعتمدة عند إخواننا أهل السنّة ليتّضح جليّاً أنّ المطالب التي حُقّقت تعتمد و تستند علي هاتيك المصادر. ثمّ يبقي بعد ذلك أصالة التحليل، و التزام المنهج العلمي في العرض والمناقشة والاستدلال من ميزات السيّد الشهيد في هذه الدراسة.

و أخيراً فإنّي في الوقت الذي أحمدُ اللَّه تعالي علي توفيقه و تسديده في إنجاز هذا العمل أرجوه تعالي أن يجعله خالصاً لوجهه، كما أسأله تعالي أن يوفّق العالمين في مركز الغدير للدراسات الإسلامية لخدمة الإسلام العزيز و مذهب أهل البيت عليهم السلام. و لهم الكشر والثناء.

والحمد للَّه أوّلاً و آخراً

د. عبدالجبار شرارة

دكتوراه في الدراسات الإسلاميّة والدينيّة «اُستاذ مساعد»

ص: 15

ص: 16

تقديم بقلم الإمام الشهيد الصدر

أيّها القارئ الكريم:

هذا إنتاج اغتنمت له عطلة من عطل الدراسة في جامعتنا الكريمة- النجف الأشرف- و توفرت فيها علي درس مشكلة من مشاكل التاريخ الإسلامي، و هي (مشكلة فدك)، و الخصومة التاريخيّة التي قامت بين الزهراء (صلوات اللَّه عليها) والخليفة الأوّل (رضي اللَّه تعالي عنه). و كانت تتبلور في ذهني استنتاجات و فكر، فسجّلتها علي أوراق متفرّقة، حتي إذا انتهيت من مطالعة مستندات القضية و رواياتها، و درس ظروفها، وجدت في تلك الوريقات ما يصلح خميرة لدراسة كافية للمسألة، فهذّبتها و رتّبتها علي فصول، اجتمع منها كتيب صغير، و كان في نيّتي الاحتفاظ به كمذكّر عند الحاجة، فبقي عندي سنين مذكّراً و مؤرّخاً لحياتي الفكريّة في الشهر الذي تمخّض عنه، غير أنّ حضرة الوجيه الفاضل الشيخ محمّد كاظم الكتبي ابن الشيخ صادق الكتبي (أيّده اللَّه) طلب منّي تقديمه إليه ليتولَي طبعه. و قد نزلتُ علي رغبته تقديراً لأياديه البيضاء علي المكتبة العربيّة و الإسلاميّة. والكتاب هو ما تراه بين يديك.

المؤلف

ص: 17

ص: 18

علي مسرح الثورة

اشاره

فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكّم اللَّه، و الزعيم محمّد، والموعد القيامة، و عند الساعة يخسر المبطلون.

الزهراء عليهاالسلام

ص: 19

تمهيد

وقفتْ لا يخالجها شكّ فيما تُقدِم عليه، و لا يطفح عليها موقفها الرهيب بصبابة من خوف أو ذعر، و لا يمرّ علي خيالها الذي كان جدّيّاً كلّ الجدّ، تردّدٌ في تصميمها، و لا تساورها هاجسة من هواجس القلق والارتباك، و ها هي الآن في أعلي القمّة من استعدادها النبيل، و ثباتها الشجاع علي خطّتها الطموح، و اُسلوبها الدفاعي، فقد كانت بين بابين لا يتّسعان لتردّد طويل، و درس عريض، فلابُدّ لها من اختيار أحدهما و قد اختارت الطريق المتعِب من الطريقين الذي يشقّ سلوكه علي المرأة بطبيعتها الضعيفة لما يكتنفه من شدائد و مصاعب تتطلّب جرأة أدبيّة، و مَلَكة بيانيّة مؤثّرة، و قدرة علي صبّ معاني الثورة كلّها في كلماتٍ و براعةٍ فنيّةٍ في تصوير النقمة، و نقد الأوضاع القائمة تصويراً و نقداً يجعلان في الألفاظ معني من حياة، و حظّاً من خلود، لتكون الحروف جنود الثورة الخيّرة، و سندها الخالد في تاريخ العقيدة، و لكنّه الإيمان و الاستبسال في سبيل الحقّ الذي يبعث في النفوس الضعيفة نقائضها، و يفجّر في الطبائع المخذولة قوّة لا تتعرّض لضعف و لا تردّد.

و لذا كان اختيار الثائرة لهذا الطريق ممّا يوافق طبعها، و يلتئم مع شخصيّتها المركّزة علي الانتصار للحقّ، والاندفاع في سبيله.

ص: 20

و كانت حولها نسوة متعدّدات من حفدتها و نساء قومها كالنجوم المتناثرة يلتففن بها بغير انتظام، و هنّ جميعاً سواسية في هذا الاندفاع والالتياع، و قائدتهنّ بينهنّ تستعرض ما ستقدم عليه من وثبة كريمة تهيّي ء لها العدّة و الذخيرة، و هي كلّما استرسلت في استعراضها ازدادت رباطة جأش، و قوّة جنان، و تضاعفت قوّة الحقّ التي تعمل في نفسها، واشتدّت صلابة في الحركة، وانبعاثاً نحو الدفاع عن الحقوق المسلوبة، و نشاطاً في الاندفاع، و بسالة في الموقف الرهيب، كأنّها قد استعارت في لحظتها هذه قلبَ رَجلِها العظيم، لتواجه به ظروفها القاسية و ما حاكت لها يد القدر. أستغفر اللَّه بل ما قدّر لها المقدّر الحكيم من مأساة مروّعة تهدّ الجبل و تزلزل الصعب الشامخ.

و كانت في لحظتها الرهيبة التي قامت فيها بدنور الجندي المدافع شبحأ قائماً ترتسم عليه سحابة حزن مرير، و هي شاحبة اللون، عابسة الوجه، مفجوعة القلب، كاسفة البال، منهدّة العمد، ضعيفة الجانب، مائعة الجسم، و في صميم نفسها، و عميق فكرها، المتأمّلة إشعاعة بهجة، و إثارة طمأنينة، و ليس هذا و لا ذاك استعذاباً لأمل باسم، أو سكوناً إلي حلم لذيذ، أو استقبالاً لنتيجة حسنة مترقّبة، بل كانت الإشاعة إشعاع ء رضاً بالفكرة والاستبشار بالثورة، و كانت الطمأنينة ثقة بنجاح، لا هذا الذي نفيناه بل علي وجه آخر، و إنّ في بعض الفشل الآجل إيجاباً لنَجاح عظيم و كذلك وقع، فقد قامت اُمّة برمّتها تقدّس هذه الثورة النائرة بل تستمد منها ثباتها و استبسالها في هذا الثبات.

و دفعتها أفكارها في وقفتها تلك إلي الماضي القريب يوم كانت

ص: 21

موجات السعادة تلعب بحياتها السعيدة، و يوم كان نفس أبيها يصعد، و نسمه يهبط. و كان بيتها قطب الدولة العتيد، و دعامة المجد الراسخة المهيمنة علي الزمن الخاشع المطيع.

و لعلّ أفكارها هذه ساقتها إلي تصوّر أبيها صلي اللَّه عليه و آله و سلم و هو يضمّها إلي صدره الرحيب، و يحوطها بحنانه العبقري، و يطبع علي فمها الطاهر قُبلاته التي اعتادتها منه، و كانت غذاءها صباحاً و مساءً.

ثمّ وصلت إلي حيث بلغت سلسلة الزمن، فيواجهها الواقع العابس و إذا بالزمان غير الزمان و ها هو بيتها مشكاة النور و رمز النبوّة والإشعاعة المتألّقة المحلّقة بالسماء، مهدّد بين الفَينة والفَينة، و ها هو ابن عمّها الرجل الثاني في دنيا الإسلام باب علم النبوّة (1) ، و وزيرها المخلص (2) ، و هارونها (3) المرجي، الذي لم يكن لينفصل ببدايته (4) الطاهرة عن بداية

ص: 22


1- 5. إشارة إلي الحديث المشهور: «أنا مدينة العلم و عليٌّ بابها» أخرجه أبونعيم في حلية الأولياء 1: 64 طبعة دار الفكر، و صحّحه السيوطي في جمع الجوامع، و أخرجه الترمذي في صحيحه بلفظ آخر، و راجع: التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم/ الشيخ منصور علي ناصف 3: 337، قال: رواه الترمذي والطبراني و صحّحه الحاكم.
2- 6. إشارة إلي قوله صلي اللَّه عليه و آله و سلم- في حديث الدار أو الإنذار- المشهور: «إنّ هذا- والإشارة إلي عليّ- أخي و وزيري و خليفتي فيكم...» راجع الرواية الكاملة في تاريخ الطبري 3: 218- 219 طبعة المطبعة الحسينية بمصر، و راجع تفسير الخازن 3: 371 طبعة دارالمعرفة.
3- 7. إشارة إلي الحديث المتواتر: «أمَا ترضي يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» راجع: صحيح البخاري 5: 81 باب 39، صحيح مسلم 4: 1873، التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم/ الشيخ منصور علي ناصف 3: 333.
4- 8. راجع: نهج البلاغه، خطبة 192 ضبط الدكتور صبحي الصالح ص 300- 301 قال الإمام عليّ عليه السلام: «و قد علمتم موضعي من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجرة و أنا وَلَدٌ... و لم يجمع بيتٌ واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و خديجة و أنا ثالثهما، أري نور الوحي و أشمّ رِيحَ النبوّة...».

النبوّة المباركة، فهو ناصرها في البداية، و أملها الكبير في النهاية، يخسر أخيراً خلافة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و تفوَّض معنويّاته النوريّة التي شهدت لها السماء و الأرض جميعاً، و تُسقط سوابقه الفذّة عن الاعتبار ببعض المقاييس التي تمّ اصطلاحها في تلك الأحايين.

و هنا بكت بكاءً شقيّاً ما شاء اللَّه لها أن تبكي، و لم يكن بكاء بمعناه الذي يظهر علي الأسارير، و يخيّم علي المظاهر، بل كان لوعة الضمير، و ارتياع النفس، وانتفاضة الحسرات في أعماق القلب، وختمت طوافها الأليم هذا بعَبرتين ندّتا من مقلتيها.

ثمّ لم تطل وقفتها، بل اندفعت كالشرارة الملتهبة و حولها صويحباتها حتّي وصلت إلي ميدان الصراع، فوقفت وقفتها الخالدة، و أثارت حربها التي استعملت فيها ما يمكن مباشرته للمرأة في الإسلام، و كادت ثورتها البِكر أن تلتهم الخلافة لولا أن عاكسها شذوذ الظرف، و تناثرت أمامها العقبات.

اجواء الحدث

تلك هي الحوراء الصدّيقة فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ريحانة النبوّة، و مثال العصمة، و هالة النور المشعّة، و بقيّة الرسول بين المسلمين- في طريقها إلي المسجد- و قد خسرت أبوّةً هي أزهي الاُبّوات في تاريخ الإنسان، و أفيضها

ص: 23

حناناً، و أكثرها إشفاقاً، و أوفرها بركة.

و هذه كارثة من شأنها أن تذيق المصاب بها مرارة الموت أو أن تظهر له الموت حلواً شهيّاً، و أمَلاً نيّراً.

و هكذا كانت الزهراء حينما لحق أبوها بالرفيق الأعلي، و طارت روحه الفرد إلي جنان ربّها راضية مرضيّة.

ثمّ لم تقف الحوادث المرّة عند هذا الحدّ الرهيب، بل عُرّضت الزهراء لخَطْب آخر قد لا يقلّ تأثيراً في نفسها الطهور، و إيقاداً لحزنها، و إذ كاءً لأساها عن الفاجعة الاُولي كثيراً و هو خسارة المجد العظيم سيادة الاُمّة و زعامتها الكبري، فقد كان من تشريعات السماء أن يسوس (1) آل محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم اُمّته و شيعته، لأنّهم مشتقّاته و مصغّراته، و إذا بالتقدير المعاكس يصرف مراكز الزعامة عن أهلها، و مناصب الحكم عن أصحابها،

ص: 24


1- 9. كان تخطيط السماء أن يتولّي عليٌّ و أهل البيت الأطهار إمامة الاُمّة و زغامتها، و قد كانت هناك عملية إعدادٍ واسعة النطاق تربويّاً و فكريّاً لمثل هذه الخلافة و الزعامة، بل كان هناك منهج واضح تتوالي خطواته بهذا الاتّجاه و تشهد لذلك نصوص القرآن الكريم والسُنّة المطهّرة، بما لا يدع مجالاً للشكّ. (راجع بحثاً مستفيضاً حول هذه النقطة في كتاب نشأة التشيّع و الشيعة للشهيد الصدر رضوان اللَّه تعالي عليه) بتحقيق الدكتور عبدالجابر شرارة»، فقد أثبتنا بالأرقام والشواهد والنصوص هذه الحقيقة بالرجوع إلي المصادر المعتمدة والروايات الصحيحة عند إخواننا أهل السُنّة. و راجع أيضاً علي سبيل المثال: تاريخ الطبري 3: 218- 219 الطبعة الاُولي/ المطبعة الحسينية بمصر، تاريخ الخلفاء/ السيوطي: 171، الصواعق المحرقة/ ابن حجر: 127، مختصر تاريخ ابن عساكر/ ابن منظور 17: 356 و ما بعدها.

و يرتّب لها خلفاء و اُمراء من عند نفسه.

و بهذا و ذاك خسرت الزهراء أقدس النبوّات و الاُبوّات، وأخلد الرئاسات و الزعامات بين عشيّة و ضحاها، فبعثتها نفسها المطوّقة بآفاق من الحزن و الأسف إلي المعركة و مجالاتها، و مباشرة الثورة و الإستمرار عليها.

والحقيقة التي لا شكّ فيها أنّ أحداً ممن يوافقها علي مبدئها و نهضتها لم يكن ليمكنه أن يقف موقفها، و يستبسل استبسالها في الجهاد إلّا و أن يكون أكلة باردة، و طعمة رخيصة لسلطات الحاكمة التي كانت قد بلغت يومذاك أوج الضغط والشدّة. فعلي الإشارة عتاب، و علي القول حساب، و علي الفعل عقاب (1) ، فلم يكن ليختلف عمّا نصطلح عليه اليوم بالأحكام العرفية، و هو أمر ضروري للسلطات يومئذٍ في سبيل تدعيم أساسها، و تثبيت بنيانها.

أمّا إذا كان القائم المدافع بنت محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم و بضعته (2) و صورته الناضرة، فهي محفوظة لا خوف عليها بلا شكّ، باعتبار هذه النبوّة المقدّسة، و لِما للمرأة في الإسلام عموماً من حرمات و خصائص تمنعها و تحميها من الأذي.

ص: 25


1- 10. راجع: أخبار السقيفة في تاريخ الطبري 2: 244 طبعة دارالكتب العلمية- بيروت، و ما دار فيها، و من ذلك قول الخليفة الثاني: «اقتلوا سعد بن عبادة...».
2- 11. جاء في الحديث الصحيح: «فاطمة بضعة منّي مَن آذاها فقد آذاني...» راجع: التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم 3: 353 عن البخاري و مسلم و غيرهما، صحيح البخاري- باب فضائل الصحابة 5: 83 باب 43 حديث رقم 232 طبعة دار القلم- بيروت، صحيح مسلم 4: 1902 حديث رقم 2493 باب فضائل الصحابة- فضائل فاطمة عليهاالسلام.

مستمسكات الثورة

ارتفعت الزهراء بأجنحة من خيالها المطهّر إلي آفاق حياتها الماضية و دنيا أبيها العظيم التي استحالت حين لحق سيّد البشر بربّه إلي ذكري في نفس الحوراء متألّقة بالنور، تمدّ الزهراء في كل حين بألوان من الشعور والعاطفة والتوجيه، و تشيع في نفسها ضروباً من البهجة والنعيم، فهي و إن كانت قد تأخّرت عن أبيها في حساب الزمن أياماً أو شهوراً، ولكنّها لم تنفصل عنه في حساب الروح والذكري لحظة واحدة.

و إذن ففي جنبيها معين من القوّة لا ينضب، وطاقة علي ثورة كاسحة لا تخمد، و أضواء من نبوّة محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم و نفس محمّد تنير لها الطريق، و تهديها سواء السبيل.

و تجرّدت الزهراء في اللحظة التي اختمرت فيها ثورة نفسها عن دنيا الناس، واتّجهت بمشاعرها إلي تلك الذكري الحيّة في نفسها لتستمد منها قبساً من نور في موقفها العصيب، وء صارت تنادي:

إليَّ يا صورَ السعادةِ التي أفقتُ منها علي شقاء لا يصطبر عليه...

إليَّ يا أعزَّ روحٍ عليَّ، و أحبّها إليَّ... حدثيني و أفيضي عليَّ من نورك الإلهي، كما كنت تصنعين معي دائماً.

إليَّ يا أبي اُناجيك إن كانت المناجاة تلذُّ لك، و أبثّك همومي كما اعتدتُ أن أفعل في كل حين، و اُخبرك أنّ تلك الضلال الظليلة التي كانت تقيني من لهيب هذه الدنيا لم يعد لي منها شي ء.

ص: 26

قد كان بعدك أنباءٌ و هنبثةٌ

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب (1) .

إليَّ يا ذكريات الماضي العزيز حدّثيني حديثك الجذّاب و ردّدي علي مسامعي كلَّ شي ء لاُثيرَها حرباً لا هوادة فيها علي هؤلاء الذين ارتفعوا أو ارتفع الناس بهم إلي منبر أبي و مقامه، و لم يعرفوا لآل محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم حقوقهم، و لا لبيتهم حرمة تصونه من الإحراق (2) و التخريب، ذكّريني بمشاهد أبي و غزواته ألم يكن يقصّ عليَّ ألواناً من بطولة أخيه و صهره و استبساله في الجهاد (3) ، و تفوّقه علي سائر الأنداد، و وقوفه إلي صفّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في أشدّ الساعات، و أعنف المعارك التي فرَّ فيها فلان و فلان و تقاصر عن اقتحامها (4) الشجعان. أيصحُّ بعد هذا أن نضعَ أبابكر علي منبر النبيّ و ننزل بعليّ عمّا يستحقّ من مقام؟!

ص: 27


1- 23. من خطبتها، راجع: شرح نهج البلاغة 16: 212.
2- 24. من خطبتها، راجع: شرح نهج البلاغة 16: 212.
3- 14. راجع تاريخ الطبري 2: 25 و 65- 66، عندما قتل عليٌّ عليه السلام طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين... و قتل أصحاب الألوية، أبصرَ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم جماعةً من المشركين، فقال: «احمل عليهم»، فحمل عليهم ففرّق جمعهم، و قتل عمرو الجمحي، ثمّ أبصرَ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم جماعةً من المشركين، فقال لعليّ: «احمل عليهم»، فحمل عليهم ففرّق جمعهم، و قتل شيبة بن مالك. فقال (جبرئيل) عليه السلام: «يا رسول اللَّه إنّ هذه لَلمواساة»، فقال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «إنّه منّي و أنا منه»، فقال (جبريل): «و أنا منكما...».
4- 15. راجع: رواية سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم 4: 1873، صحيح الترمذي 5: 596، الصواعق المحرقة/ ابن حجر: 143 فهي تنطق بهذا المعني.

خبّريني يا ذكريات أبي العزيز أليس أبوبكر هو الذي لم يأتمنه الوحي علي تبليغ (1) آية للمشركين؟ وانتخب للمهمّة عليّاً، فماذا يكون معني هذا إن لم يكن معناه أنّ عليّاً هو الممثّل الطبيعي للإسلام الذي يجب أن تستند إليه كلّ مهمّة لا يتيسّر للنبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم مباشرتها؟

إنّي لأتذكّر بوضوح ذلك اليوم العصيب الذي أرجف فيه المرجفون لمّا استخلف أبي عليّاً علي المدينة و خرج إلي الحرب، فوضعوا لهذا الاستخلاف (2) ما شاؤوا من تفاسير، و كان عليٌّ ثابتاً كالطود لا تزعزعه مشاغبات المشاغبين، و كنت اُحاول أن يلتحق بأبي ليحدّثه بحديث الناس، و أخيراً لَحِقَ بالنبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم، ثمّ رجع متهلّل الوجه ضاحك الأسارير، تحمله الفرحة إلي قرينته الحبيبة ليزفّ إليها بشري لا بمعني من معاني الدنيا بل بمعني من معاني السماء. فقصَّ عليٌّ كيف استقبله النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم و رحّب به و قال له: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» (3) ، و هارون موسي كان شريكاً له في الحكم، و إماماً لاُمّته، و معدّاً لخلافته، فلابُدّ أن يكون هارون محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم وليّاً للمسلمين و خليفته فيهم من بعده.

ص: 28


1- 16. إشارة إلي قصة تبليغ سورة براءة، و هي في مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 3 طبعة دار صادر- بيروت، و في الكشّاف/ الزمخشري 2: 243، قال: «رُوي أنّ أبابكر لمّا كان ببعض الطريق لتبليغ سورة براءة، هبط جبرائيل عليه السلام فقال: «يا محمّد لا يبلّغن رسالتك إلّا رجلٌ منك، فأرسل عليّاً...». و راجع الرواية أيضاً في صحيح الترمذي 5: 594.
2- 17. راجع تفصيل الرواية في تاريخ الطبري 2: 182- 183، البداية والنهاية/ ابن كثير الدمشقي 7: 340.
3- 18. راجع: التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم/ الشيخ منصور علي ناصف 3: 332، قال: رواه الشيخان والترمذي، صحيح مسلم 4: 1873، خصائص النسائي: 48- 50. (الشهيد)

و لمّا وصلت إلي هذه النقطة من أفكارها المتدفّقة صرخت إنّ هذا هو الإنقلاب الذي أنذر اللَّه تعالي في كتابه إذ قال: (وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ) (1) . فها هم الناس قد انقلبوا علي أعقابهم، واستولي عليهم المنطق الجاهلي الذي تبادله الحزبان في السقيفة حين قال أحدهما: «نحن أهل العزّة والمنعة، و اُولوا العدد والكثرة، و أجابه الآخر: من ينازعنا سلطان محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم و نحن أولياؤه و عترته» (2) و سقط الكتاب والسُنّة في تلك المقاييس ثمّ أخذت تقول:

يا مبادئ محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم التي جرت في عروقي منذ ولدت كما يجري الدم في العصب، إنّ عمر الذي هجم عليك في بيتك المكّي الذي أقامه النبيّ مركزاً لدعوته قد هجم علي آل محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم في دارهم و أشعل النار فيها أو كاد... (3) .

يا روحَ اُمّي العظيمة إنّكِ ألقيتِ عليَّ درساً خالداً في حياة النضال الإسلامي بجهادك الرائع في صفّ سيّد المرسلين صلي اللَّه عليه و آله و سلم و سوف أجعل من نفسي خديجة عليّ في محنته القائمة (4) .

ص: 29


1- 19. آل عمران /144.
2- 20. راجع تفصيل ذلك في أخبار السقيفة/ تاريخ الطبري 2: 234 و ما بعدها، شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 6- 9، فقد نقلا هذه المحاورات و المداخلات.
3- 21. في هذه المسألة التي كثر فيها الكلام، راجع: تاريخ الطبري 2: 233، أخرج عن ابن حميد بسندٍ قال: أتي عمر بن الخطّاب منزل عليّ و فيه رجال من المهاجرين فقال: «واللَّهِ لأحرقنّ عليكم أو لتخرجُنَّ إلي البيعة...».
4- 22. إشارة إلي موقف زوج الرسول الكريم خديجة الكبري التي خصّها اللَّه بالكرامة في موقفها من النبيّ محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم عند محنته مع قريش في تكذيبه.

لبّيك لبّيك يا اُمّاه إنّي أسمع صوتك في أعماق روحي يدفعني إلي مقاومة الحاكمين.

فسوف أذهب إلي أبي بكر لأقول له: «لقد جئت شيئاً فريّاً، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللَّه، والزعيم محمّد، والموعد القيامة» (1) ، و لاُنبّه المسلمين إلي عواقب فعلتهم والمستقبل القاتم الذي بنوه بأيديهم و أقول: «لقد لقحت فنظرة ريثما تُحلب، ثمّ احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً، و هناك يخسر المبطلون، و يعرف التالون، غبّ ما أسّس الأوّلون» (2) .

ثمّ اندفعت إلي ميدان العمل و في نفسها مبادئ محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم و روح خديجة، و بطولة عليّ، و إشفاقٌ عظيمٌ علي هذه الاُمّة من مستقبل مظلم.

طريق الثورة

لم يكن الطريق الذي اجتازته الثائرة طويلاً، لأنّ البيت الذي انبعث منه شرر الثورة و لهيبها هو بيت عليّ عليه السلام، بالطبع الذي كان يصطح عليه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بيت النبوّة (3) ، و هو جار المسجد (4) لا يفصل بينهما سوي جدار

ص: 30


1- 23. من خطبتها، راجع: شرح نهج البلاغة 16: 212.
2- 24. من خطبتها، راجع: شرح نهج البلاغة 16: 212.
3- 25. ينقل الرواة والمؤرخون أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم استمرّ أكثر من ستة أشهر بعد نزول آية التطهير يقف علي باب دار عليّ و فاطمة عليهاالسلام، عند ذهابه إلي الصلاة و هو يقول: «السلام عليكم يا أهل البيت»؛ راجع: مسند الإمام أحمد بن حنبل 3: 285 طبعة دار صادر، المستدرك علي الصحيحين الحاكم النيسابوري 3: 158.
4- 26. في مسند أحمد بن حنبل 4: 369، و في تاريخ ابن كثير 3: 355، كان لنفر من أصحاب رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أبواب شارعة في المسجد، فأمر رسول اللَّه بسدّ هذه الأبواب إلّا باب عليّ عليه السلام.

واحد، فلعلّها دخلته من الباب المتّصل به، و المؤدّي إليه من دارها مباشرة، كما يمكن أن يكون مدخلها الباب العام. و لا يهمّنا تعيين أحد الطريقين، و إن كنت اُرجّح أنّها سلكت الباب العامّ لأنّ سياق الرواية التاريخية التي حكت لنا هذه الحركة الدفاعية يعشر بهذا، فإنّ دخولها من الباب الخاص لا يكلّفها سيراً في نفس المسجد، و لا اجتياز طريق بينه و ين بيتها، فمن أين للراوي أن يصف مشيها، و ينعته بأنّه لا يخرم مشية (1) رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و هو لم يكن معها بالطبع؟! ولو تصوّرنا أنّها سارت في نفس المسجد، لا ينتهي سيرها بالدخول علي الخليفة، و إنّما يبتدئ بذلك، لأنّ من دخل المسجد صدق عليه أنّه دخل علي من فيه، و إن سار في ساحته مع أنّ الراوي يجعل دخولها علي أبي بكر متعقّباً لمشيها، و هذا و غيره يكون قرينة علي ما استقريناه.

النسوة

و تدلّنا الرواية علي أنّ الزهراء كانت تصحُب معها نسوة (2) من قومها و حفدتها كما سبق ذكره، و مردّ هذه الصحبة و ذلك الاختيار للباب العامّ إلي أمر واحد، و هو تنبيه الناس، و كسب التفاتهم باجتيازها في الطريق مع تلك النسوة ليجتمعوا في المسجد، و يتهافتوا حيث ينتهي بها السير بقصد التعرف

ص: 31


1- 27. راجع الرواية، و أنّ مشيها لا يَخْرم مشيةً رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 211.
2- 28. المصدر السابق.

علي ما تريده، و تعزم عليه من قول أو فعل، و بهذا تكون المحاكمة علنيّة تعيها أسماع عامّة المسلمين في ذلك الوسط المضطرب.

ظاهرة

سبق أنّ الرواية التاريخية جاءت تنصُّ علي أنّ الزهراء لم تكن لتخرم في مشيتها مشية أبيها صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

و يتّسع لنا المجال لفلسفة هذا التقليد الدقيق، فلعلّه كان طبيعة قد جرت عليها في موقفها هذا بلا تكلّف و لا اعتناء خاصّ، و ليس هذا ببعيد فإنّها (صلوات اللَّه عليها) قد اعتادت أن تقلّد أباها و تحاكيه في سائر أفعالها و أقوالها، و يحتمل أن يكون لهذه المشابهة المتقنة وجه آخر بأن كانت الحوراء قد عمدت في موقفها يومذاك إلي تقليد أبيها في مشيه عن التفات و قصد فأحكمت التمثيل، و أجادت المحاكاة، فلم تكن لتخرم مشية النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و أرادت بهذا أن تستولي علي المشاعر و إحساس الناس، و عواطف الجمهور بهذا التقليد الباهر الذي يدفع بأفكارهم إلي سفر قصير، و تجوّل لذيذ في الماضي القريب حيث عهد النبوّة المقدّس، و الأيام الضواحك التي قضوها تحت ظلال نبيّهم الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم؛ فيكون في إرهاف هذه الإحساسات و صقلها صقلاً عاطفيّاً ما يمهّد للزهراء الشروع في مقصودها، و يوطّئ القلوب لِتَقَبُّل دعوتها الصارخة، واستجابة استنقاذها الحزين، و نجاح محاولتها اليائسة أو شبه اليائسة.

و لذا تري أنّ الراوي نفسه أثّرت عليه هذه الناحية أيضاً من حيث يشعر أو لا يشعر، و دفعه تأثّره هذا إلي تسجيلها فيما سجّل من تصوير الحركة

ص: 32

الفاطمية.

صرخة باركتها الزهراء، و رعتها السماء فكانت عند اندلاعها محطّ الثقل الذي تركّز عنده الحقّ المذبوح، والمحاولة اليائسة التي شاعت حولها ابتسامات أمل استحالت بعد انتهائها إلي عبوس مرير، و يأس ثابت، واستسلام فرضته حياة الناس الواقعة يومذاك.

ثورة لم تكن لتقصد بها الثائرة نتيجة لها علي ما يطّرد في الثورات الاُخري بقدر ما كانت تهدفُ إلي تثبيت الثورة لذاتها، و تسجيلها فيما يسجّله التاريخ في سطوره البارزة، فكانت الثورة علي هذا بنفسها تؤدّي الغرض كاملاً غير منقوص، و هذا ما وقع بالفعل و به نفسّر الحكم بنجاحها و إن فشلت كما سنوضّحه في موقع آخر من هذا الكتاب.

ص: 33

ص: 34

فدك بمعناها الحقيقي والرمزي

اشاره

بلي كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم و سَخَت عنها نفوس آخرين.

(قرين الزهراء) أميرالمؤمنين عليه السلام

[نهج البلاغة/ تنظيم صبحي الصالح: 416]

ص: 35

الموقع

فدك: قرية في الحجاز، بينها و بين المدينة يومان، و قيل ثلاثة، و هي أرض يهوديّة في مطلع تاريخها المأثور (1) . و كان يسكنها طائفة من اليهود، و لم يزالوا علي ذلك حتي السنة السابعة حيث قذف اللَّه بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي النصف من فدك و روي أنّه صالحهم عليها كلّها (2) .

فدك في أدوارها الاولي

و ابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي، فكانت مُلكاً لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم؛ لأنّها ممّا لم

ص: 36


1- 29. راجع معجم البلدان/ ياقوت الحموي 4: 238- 239 طبعة دار احياء التراث العربي- بيروت- 1399.
2- 30. راجع: فتوح البلدان/ البلاذري: 42- 46، و ما كان من أمر فدك و مصالحة أهلها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي النصف، و أنّها خالصة لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لأنّها لم يُوجف عليها بخيلٍ و لا ركابٍ. و في ص 46 قال: «و لمّا كانت سنة عشر و مائتين أمر أميرالمؤمنين المأمون عبداللَّه بن هارون الرشيد، فدفعها إلي ولد فاطمة، و كتبَ بذلك إلي قثم بن جعفر عامله علي المدينة...».

يوجف عليها بخيل و لا ركاب (1) ، ثمّ قدّمها لابنته الزهراء (2) ، و بقيت عندها حتّي تُوفّي أبوها صلي اللَّه عليه و آله و سلم فانتزعها الخليفة الأوّل رضي اللَّه عنه- علي حدّ تعبير صاحب الصواعق المحرقة (3) - و أصبحت من مصادر الماليّة العامّة و موارد ثروة الدولة يومذاك، حتّي تولّي عمر الخلافة فدفع فدكاً إلي ورثة (4) رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و بقيت فدك عند آل محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم إلي أن تولّي الخلافة عثمان بن عفان فأقطعها مروان بن الحكم علي ما قيل (5) ، ثمّ يهمل التاريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرّح عنها بشي ء. ولكن الشي ء الثابت هو أنّ أميرالمؤمنين عليّاً انتزعها من مروان علي تقدير كونها عنده في خلافة عثمان- كسائر ما نهبه بنو اُميّة في أيّام خليفتهم.

في عهد أميرالمؤمنين

و قد ذكر بعض المدافعين عن الخليفة في مسألة فدك أنّ عليّاً لم يدفعها عن المسلمين بل اتّبع فيها سيرة أبي بكر، فلو كان يعلم بصواب الزهراء و صحّة دعواها ما انتهج ذلك المنهج.

و لا اُريد أن أفتح في الجواب بحث التقيّة علي مصراعيه و اُوجّه بها

ص: 37


1- 31. كما هو مقتضي النصّ القرآني: (وَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْ جَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لَا رِكَابٍ) الحشر/ 6.
2- 32. فتوح البلدان: 44.
3- 33. راجع: الصواعق المحرقة: 38.
4- 34. راجع: شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 213.
5- 35. فتوح البلدان: 44، إنّ بني اُميّة اصطفوا فدك و غيّروا سُنّة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، شرح نهج البلاغة 16: 216.

عمل أميرالمؤمنين، و إنّما أمنع أن يكون أميرالمؤمنين عليه السلام قد سار علي طريقة الصدّيق، فإنّ التاريخ لم يصرّح بشي ء من ذلك، بل صرّح بأنّ أميرالمؤمنين كان يري فدك لأهل البيت، و قد سجّل هذا الرأي بوضوح في رسالته إلي عثمان بن حنيف (1) كما سيأتي.

فمن الممكن أنّه كان يخصّ ورثة الزهراء و هم أولادها و زوجها بحاصلات فدك، و ليس في هذا التخصيص ما يوجب إشاعة الخبر؛ لأنّ المال كان عنده و أهله الشرعيّون هو و أولاده. كما يحتمل أنّه كان ينفق غلّاتها في مصالح المسلمين برضيً منه و من أولاده عليهم الصلاة والسلام (2) ، بل لعلّهم أوقفوها و جعلوها من الصدقات العامّة.

في فترة الامويين

و لمّا ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة أمعن في السخرية و أكثر من الاستخفاف بالحقّ المهضوم، فأقطع مروان بن الحكم ثلث فدك، و عمر بن عثمان ثلثها، و يزيد ابنه ثلثها الآخر، فلم يزالوا يتداولونها (3) حتي خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيّام ملكه، ثمّ صفت لعمر بن عبدالعزيز بن مروان، فلمّا تولّي هذا الأمر ردّ فدكَ علي ولد فاطمة عليهاالسلام و كتب إلي واليه علي

ص: 38


1- 36. راجع: شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 208، رسالة الإمام عليه السلام إلي عثمان بن حنيف- «نعم كانت في أيدينا فدك...».
2- 37. و هذا أقرب الاحتمالات؛ لأنّ الأوّل تنفيه رسالة أميرالمؤمنين إلي عثمان بن حنيف إذ يقول: «و سَخَت عنها نفوس آخرين...»، والثالث يُبعده قبول الفاطميين لفدك. (الشهيد)
3- 38. راجع: شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 216، فتوح البلدان/ البلاذري: 46، قال: «ثمّ ولي معاوية فأقطعهما (فدك) مروان بن الحكم..».

المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك، فكتب إليه: «إنّ فاطمة عليهاالسلام قد ولدت في آل عثمان و آل فلان و فلان فعلي من أردّ منهم؟ فكتب إليه: أمّا بعد، فإنّي لو كتبت إليك آمرك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة عليهاالسلام من علي عليه السلام» (1) ، فنقمت بنو اُميّة ذلك علي عمر بن عبدالعزيز و عاتبوه فيه و قالوا له: «هجّنت فعل الشيخين».

و قيل: إنّه خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلمّا عاتبوه علي فعله قال لهم: «إنّكم جهلتم و علمتُ، و نسيتم و ذكرتُ، إنّ أبابكر بن محمّد بن عمرو بن حزم حدّثني عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: «فاطمة بضعة منّي يسخطها ما يسخطني، و يرضيني ما أرضاها» (2) و إنّ فدك كانت صافية علي عهد أبي بكر و عمر ثمّ صار أمرها إلي مروان فوهبها لعبدالعزيز أبي فورثتها أنا و اخوتي عنه فسألتهم أن يبيعوني حصّتهم منها فمن بائع و واهب حتّي استجمعت لي فرأيت أن أردّها علي ولد فاطمة»، فقالوا له: «فإن أبيت إلّا هذا فامسك الأصل واقسم الغلّة، ففعل» (3) .

ثمّ انتزعها يزيد بن عبدالملك من أولاد فاطمة فصارت في أيدي بني مروان حتّي انقرضت دولتهم (4) .

ص: 39


1- 39. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 278.
2- 40. الحديث أخرجته الصحاح والمسانيد، راجع: التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم/ الشيخ منصور علي ناصف 3: 353، الطبعة الثالثة- مكتبة ياموق- استانبول 1381 ه. و قد مرّ تخريجه أيضاً.
3- 41. راجع: فتوح البلدان/ البلاذري: 46، شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 278.
4- 42. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 216.

في فترة العباسيين

فلمّا قام أبوالعبّاس السفّاح بالأمر و تقلّد الخلافة ردّها علي عبداللَّه بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ثمّ قبضها أبوجعفر المنصور في خلافته من بني الحسن و ردّها المهديّ بن المنصور علي الفاطميين ثمّ قبضها موسي بن المهدي من أيديهم (1) .

و لم تزل في أيدي العباسيّين حتّي تولّي المأمون الخلافة فردّها علي الفاطميين سنة (210 ه) و كتب بذلك إلي قثم بن جعفر عامله علي المدينة: «أمّا بعد، فإنّ أميرالمؤمنين بمكانه من دين اللَّه و خلافة رسوله صلي اللَّه عليه و آله و سلم والقرابة به أولي مَن استنّ سنّته، و نفّذ أمره، و سلّم لمن منحه منحةً و تصدّق عليه بصدقة منحته و صدقته، و باللَّه توفيق أميرالمؤمنين و عصمته و إليه في العمل بما يقربه إليه رغبته، و قد كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أعطي فاطمة بنت رسول اللَّه فدك و تصدّق بها عليها، و كان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و لم تزل تدّعي منه ما هو أولي به مَن صَدَق عليه، فرأي أميرالمؤمنين أن يردّها إلي ورثتها و يسلّمها إليهم تقرّباً إلي اللَّه تعالي بإقامة حقّه و عدله و إلي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بتنفيذه أمره و صدقته، فأمَرَ بإثبات ذلك في دواوينه والكتاب به إلي عمّاله، فلئن كان يُنادي في كلّ موسم بعد أن قبض اللَّه نبيّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أن يذكر كلّ من كانت له صدقة أو هبة أو عِدَة ذلك فيقبل قوله و تنفّذ عِدَته، إنّ فاطمة (رضي اللَّه عنها) لأولي بأن يصدّق قولها فيما جعل

ص: 40


1- 43. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 216- 217.

رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لها، و قد كتب أميرالمؤمنين إلي المبارك الطبري- مولي أميرالمؤمنين- يأمره بردّ فدك علي ورثة فاطمة بنت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بحدودها و جميع حقوقها المنسوبة إليها و ما فيها من الرقيق والغلّات و غير ذلك، و تسليمها إلي محمّد بن يحيي بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب و محمّد بن عبداللَّه بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لتولية أميرالمؤمنين إيّاهما القيام بها لأهلها. فاعلم ذلك من رأي أميرالمؤمنين و ما ألهمه اللَّه من طاعته و وفّقه له من التقرّب إليه و إلي رسوله صلي اللَّه عليه و آله و سلم و أعمله مَن قِبَلك، و عامل محمّد بن يحيي و محمّد بن عبداللَّه بما كنت تعامل به المبارك الطبري، و أعنهما علي ما في عمارتها و مصلحتها و وفور غلّاتها إن شاء اللَّه والسلام (1) .

و لمّا بويع المتوكّل علي اللَّه انتزعها من الفاطميين و أقطعها عبداللَّه بن عمر البازيار و كان فيها إحدي عشرة نخلة غرسها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بيده الكريمة، فوجّه عبداللَّه بن عمر البازيار رجلاً يقال له: بشران بن أبي اُميّة الثقفي إلي المدينة فصرم تلك النخيل ثمّ عاد إلي البصرة ففُلِج (2) .

و ينتهي آخر عهد الفاطميين بفدك بخلافة المتوكّل و منحه إيّاها عبداللَّه ابن عمر البازيار (3) .

هذه إلمامة مختصرة بتاريخ فدك المضطرب الذي لا يستقيم علي خطّ و لا يجمع علي قاعدة، و إنّما حاكت أكثره الأهواء، و صاغته الشهوات علي ما اقتضته المطامع والسياسات الوقتية، و علي هذا فلم يخلُ هذا التاريخ من

ص: 41


1- 44. فتوح البلدان/ البلاذري: 46- 47.
2- 45. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 217.
3- 46. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 217.

اعتدال و استقامة في أحايين مختلفة، و ظروف متباعدة، حيث توكل فدك إلي أهلها و أصحابها الأوّلين. و يلاحظ أنّ مشكلة فدك كانت قد حازت أهميّة كبري بنظر المجتمع الإسلامي و أسياده، و لذا تري حلّها يختلف باختلاف سياسة الدولة، و يرتبط باتّجاه الخليفة العامّ نحو أهل البيت مباشرة؛ فهو إذا استقام اتّجاهه، واعتدل رأيه، ردَّ فدك علي الفاطميّين، و إذا لم يكن كذلك وقع انتزاع فدك في أوّل القائمة من أعمال ذلك الخليفة.

القيمة المعنوية والمادية لفدك

و يدلّنا علي مدي ما بلغته فدك من القيمة المعنوية في النظر الإسلامي قصيدة دعبل الخزاعي التي أنشأها حينما ردّ المأمون فدك و مطلعها:

أصبَحَ وَجهُ الزَّمان قد ضَحِكا

بردّ مأمونِ هاشمٍ فَدَكا (1) .

و قد بقيت كلمة بسيطة و هي أنّ فدك لم تكن أرضاً صغيرة أو مزرعاً متواضعاً كما يظنّ البعض، بل الأمر الذي أطمئنُّ إليه أنّها كانت تدرّ علي صاحبها أموالاً طائلة تشكّل ثروة مهمّة و ليس عليَّ بعد هذا أن اُحدّد الحاصل السنوي منها و إن ورد في بعض طرقنا الارتفاع به إلي أعداد عالية جدّاً.

و يدلُّ علي مقدار القيمة المادّية لفدك اُمور:

(الأوّل) ما سيأتي من أنّ عمر منع (2) أبابكر من ترك فدك للزهراء لضعف الماليّة العامّة مع احتياجها إلي التقوية لِما يتهدّد الموقف من حروب الردّة و ثورات العصاة.

ص: 42


1- 47. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 217.
2- 48. راجع: السيرة الحلبية 3: 391، شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 19: 234.

و من الجليّ أنّ أرضاً يستعان بحاصلاتها علي تعديل ميزانية الدولة، و تقوية ماليّاتها في ظروف حرجة كظرف الثورات والحروب الداخلية لابدّ أنّها ذات نتاج عظيم.

(الثاني) قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها حول فدك: «إنّ هذا المال لم يكن للنبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم و إنّما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبيّ به الرجال و ينفقه في سبيل اللَّه» (1) ، فإنّ تحميل الرجال لا يكون إلّا بمال مهم تتقوّم به نفقات الجيش.

(الثالث) ما سبق من تقسيم معاوية فدك أثلاثاً (2) ، و إعطائه لكلّ من يزيد و مروان و عمرو بن عثمان ثلثاً، فإنّ هذا يدلّ بوضوح علي مدي الثروة المجتناة من تلك الأرض، فإنّها بلا شكّ ثروة عظيمة تصلح لأن توزّع علي اُمراء ثلاثة من أصحاب الثراء العريض و الأموال الطائلة.

(الرابع) التعبير عنها بقرية كما في معجم البلدان (3) ، و تقدير بعض نخيلها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجري كما في شرح النهج لابن أبي الحديد (4) .

ص: 43


1- 49. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 214.
2- 50. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 216.
3- 51. معجم البلدان/ الحموي 4: 238، فتوح البلدان: 45، قال: حدّثنا سريج بن يونس قال: أخبر إسماعيل بن إبراهيم عن أيّوب عن الزهري في قول اللَّه تعالي: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لَا رِكَابٍ) قال: هذه قري عربيّة لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فدك و كذا و كذا.
4- 52. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 236.

ص: 44

تاريخ الثورة

اشاره

قد كان بعدك أنباءٌ و هنبثةٌ

لو كنت شاهِدَها لم تكثر الخطبُ

أبدَتْ رجالٌ لنا نجوي صُدورهمُ

لما مضيتَ و حالت دونك التربُ

شرح نهج البلاغة 16: 212

صبّت عليّ مصائبٌ لو أنّها

صبّت علي الأيّام صِرنَ لياليا

قد كنتُ أرتع تحت ظلّ محمّد

لا اختشي ضيماً و كان جماليا

واليوم أخضعُ للذليل و أتّقي

ضيمي و أدفعُ ظالمي بردائيا

الزهراء عليهاالسلام

ص: 45

منهج دراسة التاريخ

إذا كان التجرّد عن المرتكزات، والأناة في الحكم، والحريّة في التفكير شروطاً للحياة الفكريّة المنتجة، وللبراعة الفنّية في كل دراسة عقليّة مهما يكن نوعها، و مهما يكن موضوعها، فهي أهمّ الشروط الأساسية لإقامة بناء تاريخي محكم لقاضايا أسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكاً للتاريخ، و يصوّر عناصر شخصيّاتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذٍ فيهم، و يتّسع لتأمّلات شاملة لكلّ موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرّف بها علي لونه التاريخي والاجتماعي و وزنه في حساب الحياة العامّة، أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث، و تكون مداراً لبحثه، كالحياة الدينيّة، والأخلاقيّة، والسياسيّة إلي غير ذلك من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الإنساني علي شرط أن تستمد هده التأمّلات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات، و ينشئه التعبّد والتقليد، و لا من خيالٍ مُجَنّج يرتفع بالتوافه و السفاسف إلي الذروة، و يبني عليها ما شاء من تحقيق و نتائج، و لا من قيود لم يستطع الكاتب أن يتحرّر عنها ليتأمّل و يفكّر كما تشاء له أساليب البحث العلميّ النزيه.

ص: 46

و أمّا إذا جئنا للتاريخ لا لنسجّل واقع الأمر خيراً كان أو شراً، و لا لنجس دراستنا في حدودٍ من مناهج البحث العلمي الخالص، و لا لنجمع الاحتمالات و التقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها علي محكّ البحث ما يسقط و يبقي ما يليق بالتقدير والملاحظة، بل لنستلهم عواطفنا و موروثاتنا و نستمدّ من وحيها الأخّاذ تاريخ أجيالنا السابقة، فليس ذلك تاريخاً لاُولئك الأشخاص الذين عاشوا علي وجه الأرض يوماً ما، و كانوا بشراً من البشر تتنازعهم ضروب شتّي من الشعور والإحساس، و تختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير و نزعات الشرّ، بل هو ترجمة لأشخاص عاشوا في ذهننا و طارت بهم نفوسنا إلي الآفاق العالية من الخيال.

فإذا كنت تريد أن تكون حرّاً في تفكيرك، و مؤرّخاً لدنيا الناس لا روائيّاً يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب، فضع عواطفك جانباً أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث، فإنّه لم يعد ملكك بعد أن اضطلعت بمسؤوليّة التاريخ و أخذت علي نفسك أن تكون أميناً ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً علي اُسس صحيحة من التفكير و الاستنتاج (1) .

كثيرة جدّاً هذه الأسباب التي تحول بين نُقّاد التاريخ و بين حريّتهم فيما ينقدون، و قد اعتاد المؤرّخون أو أكثر المؤرّخين بتعبير أصحّ، أن

ص: 47


1- 53. يلاحظ معالم المنهج العلمي الذي يحدّده الإمام الشهيد الصدر رضوان اللَّه عليه سواء في قراءته التاريخ أو في كتابته، والخطوات التي يحدّدها رضوان اللَّه عليه هنا هي ما تقتضيه اُصول البحث التاريخي. راجع: منهج البحث التاريخي/ الدكتور حسن عثمان، طبعة دارالمعارف بمصر.

يقتصروا علي ضروب معيّنة من هندسة الحياة التي يؤرّخونها، و أن يصوغوا التاريخ صياغة قد يظهر فيها الجمال الفنّي أحياناً حينما يتوسّع الباحث في انطباعاته عن الموضوع، ولكنّها صورة باهتة في أكثر الأحايين ليس فيها ما في دنيا الناس التي تصوّرهم من معاني الحياة و شؤونها المتدفّقة بألوان من النشاط، والحركة، والعمل، و سوف تجد فيما يأتي أمثلة بمقدار ما يتّسع له موضوعنا من الزمن الدقيق الذي ندرسه في هذه الفصول أعني الظرف الذي تلا وفاة النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و تقرّرت فيه المسألة الأساسيّة في تاريخ الإسلام علي شكل لا يتغيّر، و هي نوع السلطة التي ينبغي أن تتولّي اُمور المسلمين.

تقويم تاريخ صدر الإسلام

كلّنا نودّ أنّ يكون التاريخ الإسلامي في عصره الأوّل الزهرا طاهراً كلّ الطهر، بريئاً ممّا يخالط الإنسانية من مضاعفات الشرّ و مزالق الهوي، فقد كان عصراً مشعّاً بالمثاليّات الرفيعة، إذ قام علي إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب علي الإطلاق، وارتقت فيه العقيدة الإلهيّة إلي حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم، فقد عكس رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم روحه في روح ذلك العصر، فتأثر بها و طبع بطابعها الإلهي العظيم، بل فني الصفوة من المحمّديّين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتّجاه إلّا نحو المُبدع الأعظم الذي ظهرت و تألّقت منه أنوار الوجود و إليه تسير، كما كان اُستاذهم الأكبر الذي فني الوجود المنبسط كلّه بين عينيه ساعة هبوط الرسالة السماويّة عليه. فلم يكن يري شيئاً و لا يسمع صوتاً سوي الصوت الإلهيّ المنبعث من كل صوب وحدب، و في كل جهة من جهات الوجود، و ناحية من نواحي الكون يعلن تقليده الشارة الكبري.

ص: 48

إنّ عصراً تُلغي فيه قيمة الفوارق المّادية علي الإطلاق، و يستوي فيه الحاكم و المحكوم في نظر القانون (1) ، و مجالات تنفيذه، و جعل مدار القيمة المعنوية، و الكرامة المحترمة فيه تقوي اللَّه (2) التي هي تطهير روحي، وصيانة للضمير، و ارتفاع بالنفس إلي آفاق من المثالية الرفيعة، و يحرّم في عرفه احترام الغني لأنّه غني، و إهانة الفقير لأنّه فقير، و لا يفرّق فيه بين الأشخاص إلّا بمقدار الطاقة الانتاجية (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (3) .

و يتسارع فيه إلي الجهاد لصالح النوع الإنساني الذي معناه إلغاء مذهب السعادة الشخصيّة في هذه الدنيا، وإخراجها عن حساب الأعمال (4) .

(أقول) إنّ العصر الذي تجتمع له كلّ هذه المفاخر لهو خليق بالتقديس والتبجيل و الإعجاب والتقدير، ولكن ماذا أراني دفعت إلي التوسّع في أمر لم أكن اُريد أن اُطيل فيه؟ و ليس لي أن اُفرّط في جنب الموضوع الذي اُحاوله بالتوسّع في أمر آخر، ولكنّها الحماسة لذلك العصر هي التي دفعتني إلي ذلك، فهو بلا ريب زين العصور في الروحانية والاستقامة. أنا أفهم هذا

ص: 49


1- 54. راجع الحادثة التاريخية المشهورة في موقف الإمام عليّ عليه السلام في مجالس القضاء، و كذلك ما جري عليه الأمر في تاريخ القضاء الإسلامي. لاحظ الإشارة إلي ذلك في شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 269.
2- 55. إشارة إلي قوله تعالي: (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَاللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/ 13.
3- 56. البقرة/ 286.
4- 57. إشارة إلي الاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجل الإسلام و رفع الظلم و نصرة المستضعفين كما في قوله تعالي: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَ مَسَاكِنَ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّي يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ...) التوبة/ 24.

جيّداً، و اُوافق عليه متحمّساً (1) ، و لكّني لا أفهم أن يمنع عن التعمّق في الدرس العلمي، أو التمحيص التاريخي لموضوعٍ كموضوعات الساعة التي نتكلّم عنها من مراحل ذلك الزمن، أو يُحظر علينا أن نبدأ البحث في مسألة فدك علي أساس أنّ أحد الخصمين كان مخطئاً في موقفه بحسب موازني الشريعة و مقاييسها، أو أن نلاحظ أنّ قصّة الخلافة و فكرة السقيفة لم تكن مرتجلة و لا وليدة يومها إذا دلّنا علي ذلك سير الحوادث حينذاك، و طبيعة الظروف المحيطة بها.

و أكبر الظنّ أنّ كثيراً منّا ذهب في تعليل مناقب لك العصر و مآثره مذهباً جعله يعتقد أنّ رجالات الزمن الخالي، و بتعبير أوضح تحديداً أنّ أبابكر و عمر و أضرابهما الذين هم من موجّهي الحياة العامّة يومئذٍ لا يمكن أن يتعرّضوا لنقد أو محاكمة، لأنّهم بُناة ذلك العصر، والواضعون لحياته خطوطها الذهبيّة، فتاريخهم تاريخ ذلك العصر، و تجريدهم عن شي ء من مناقبهم تجريد لذلك العصر عن مثاليّته التي يعتقدها فيه كلّ مسلم.

و اُريد أن أترك لي كلمة مختصرة في هذا الموضوع فيها مادّة لبحث طويل، ولمحة من دراسة مهمّة قد أعرض لها في فرصة اُخري من فرص التأليف، وأكتفي الآن أن أتساءل عن نصيب هذا الرأي من الواقع.

ص: 50


1- 58. لاحظ التقويم الدقيق للحالة الإسلاميّة في صدر الإسلام، و زمن الخلفاء الراشدين، و مدي التقدير العالي لمناقبية ذلك العصر، و مع ذلك فإنّ الإمام الشهيد رضوان اللَّه عليه لا يريد أن يقع تحت جاذبية الانبهار والإعجاب بذلك العصر و يغمض النظر عمّا وقع فيه من مفارقات، تدعو إلي الدراسة والبحث والتحليل والتحقيق وصولاً إلي الرأي الأقرب إلي الصواب.

صحيح أنّ الإسلام في أيّام الخليفتين كان مهيمناً، والفتوحات متّصلة والحياة متدفّقة بمعاني الخير، و جميع نواحيها مزدهرة بالانبعاث الروحيّ الشامل، و اللون القرآنيّ المشعّ، ولكن هل يمكن أن نقبل أنّ التفسير الوحيد لهذا وجود الصدّيق أو الفاروق علي كرسيّ الحكم؟ (1) .

والجواب المفصّل عن هذا السؤال نخرج ببيانه عن حدود الموضوع، و لكنّا نعلم أنّ المسلمين في أيّام الخليفتين كانوا في أوج تحمّسهم لدينهم، والاستبسال في سبيل عقيدتهم، حتّي إنّ التاريخ سجّل لنا «إنّ شخصاً أجاب عمر حينما صعد يوماً علي المنبر و سأل الناس: لو صرفناكم عمّا تعرفون إلي ما تنكرون ما كنتم صانعين؟- إذن كنّا نستتيبك فإن تبت قبلناك، فقال عمر: و إن لم؟- قال: نضرب عنقك الذي فيه عيناك. فقال عمر: الحمد للَّه الذي جعل في هذه الاُمّة من إذا اعوججنا أقام أودنا» (2) .

و نعلم أيضاً أنّ رجالات الحزب المعارض- و أعني به أصحاب عليّ- كانوا بالمرصاد للخلافة الحاكمة، و كان أيّ زلل و انحراف مشوّةٍ للون الحكم حينذاك كفيلاً بأن يقلبوا الدنيا رأساً علي عقب، كما قلبوها علي عثمان- يوم اشتري قصراً، و يوم ولّي أقاربه، و يوم عدل عن السيرة النبويّة المُثلي (3) - مع أنّ الناس في أيام عثمان كانوا أقرب إلي الميوعة (4) في الدين

ص: 51


1- 59. طرح مثل هذا الافتراض يعدُّ منطقيّاً و متّسقاً مع المنهج العلمي في صدد تقديم تفسير دقيق للمرحلة التاريخية.
2- 60. القضيّة مشهورة في سيرة الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب.
3- 61. راجع: تاريخ الطبري 2: 651، فقد نقل المحاورة بين الخليفة عثمان والوفود التي قَدِمت من مصر و غيرها للتفاوض معه، و فيها تصريح بهذه الاُمور.
4- 62. المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين، المجلد الرابع: 268- دارالكتاب اللبناني- بيروت.

واللين والدعة منهم في أيام صاحبيه.

و نفهم من هذا أنّ الحاكمين كانوا في ظرف دقيق لا يتّسع للتغيير والتبديل في اُسس السياسة و نقاطها الحسّاسة لو أرادوا إلي ذلك سبيلاً، لأنّهم تحت مراقبة النظر الإسلامي العام الذي كان مخلصاً كل الإخلاص لمبادئه، و جاعلاً لنفسه حقّ الإشراف علي الحكم والحاكمين، و لأنّهم يتعرّضون لو فعلوا شيئاً من ذلك لمعارضة خطرة من الحزب الذي ما يزال يؤمن بأنّ الحكم الإسلامي لابُدّ أن يكون مطبوعاً بطابع محمّديّ خالص، و أنّ الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يطبعه بهذا الطابع المقدّس هو عليّ- وارث رسول اللَّه و وصيّه و ولي المؤمنين من بعده (1) .

و أمّا الفتوحات الإسلامية فكان لها الصدارة في حوادث تلك الأيام و لكنّنا جميعاً نعلم أيضاً أنّ ذلك لا يسجّل للحكومة القائمة في أيام الخليفتين بلونها المعروف مجداً في حساب التاريخ ما دام كلّ شأنٍ من شؤون الحرب و معدّاته و أساليبه يتهيّأ بعمل أشبه ما يكون بالعمل الإجماعي من الاُمّة الذي تعبّر به عن شخصيّتها الكاملة تعبيراً عمليّاً خالداً، و لا يعبّر عن شخصيّة الحاكم الذي لم يصل إليه من لهيب الحرب شرر، و لم يستقلّ فيه برأي، و لم يتهيّأ له إلّا بأمر ليس له فيه أدني نصيب، فإنّ خليفة الوقت سواء أكان وقت فتح الشام أو العراق و مصر لم يعلن بكلمة الحرب عن قوّة حكومته و مقدرة شخصه علي أن يأخذ لهذه الكلمة اُهبتها، بل أعلن عن قوّة

ص: 52


1- 63. تاريخ الطبري 3: 218- 219 حدث الدار- طبعة المطبعة الحسينية بمصر، تفسير الخازن 3: 371- طبعة دارالمعرفة، الخصائص/ النسائي: 86- 87، المستدرك 3: 126.

الكلمة النبويّة التي كانت وعداً قاطعاً بفتح بلاد كسري و قيصر (1) اهتزّت له قلوب المسلمين حماسةً و أملاً بل إيماناً و يقيناً، و يحدّثنا التاريخ أنّ كثيراً ممّن اعتزل الحياة العمليّة بعد رسول اللَّه لم يخرج عن عزلته إلي مجالات العمل إلّا حين ذكر هذا الحديث النبوي، فقد كان هو و الإيمان المتركّز في القلوب القوّة التي هيّأت للحرب كلّ ظروفه و كلّ رجاله و إمكانيّاته. و أمر آخر هيّأ للمسلمين أسباب الفوز، و أنالهم النصر في معارك الجهاد لا يتّصل بحكومة الشوري عن قرب أو بعد، و هو الصيت الحسن الذي نشره رسول اللَّه للإسلام في آفاق الدنيا، و أطراف المعمورة، فلم يكن يتوجّه المسلمون إلي فتح بلد من البلاد إلّا كان أمامهم جيش آخر من الدعايات والترويجات لدعوتهم و مبادئهم (2) .

و في أمر الفتوحات شي ء آخر هو الوحيد الذي كان من وظيفة الحاكمين وحدهم القيام به دون سائر المسلمين الذين هيّئوا بقية الاُمور و هو ما يتلو الفتح من بثّ الروح الإسلامية، و تركيز مثاليّات القرآن في البلاد المفتوحة، و تعميق الشعور الوجداني والديني في الناس الذي هو معني وراء الشهادتين، و لا أدري هل يمكننا أن نسجّل للخليفتين شيئاً من البراعة في هذه الناحية، أو نشكّ في ذلك كلّ الشكّ كما صار إليه بعض الباحثين، و كما يدلّ عليه تاريخ البلاد المفتوحة في الحياة الإسلاميّة. لقد كانت الظروف كلّها تشارك الخليفتين في تكوين الحياة العسكريّة المنتجة التي قامت علي عهدهما، و في بناء الحياة السيّاسة الخاصّة التي اتّخذاها.

ص: 53


1- 64. راجع: تاريخ الطبري 2: 92.
2- 65. راجع: فتوح البلدان: 44، شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 210.

و لا أدري ماذا كان موقفهما لو قدّر لهما و لعلي أنّ يتبادلوا ظروفهم فيقف الصدّيق والفاروق موقف الإمام و يسود في تلك الظروف التي كانت كلّها تشجّع علي بناء سياسة، و منهج لحكم جديد، و إنشاء حياة لها من ألوان الترف، و ضروب النعيم حظّ عظيم، فهل كانا يعاكسان تلك الظروف كما عاكسها أميرالمؤمنين؟... فضرب بنفسه مثلاً في الإخلاص للمبدأ و النزاهة في الحكم.

و أنا لا أقصد بهذا أن أقول إنّ الخليفتين كانا مضطرّين اضطراراً إلي سيرة رشيدة في الحكم، واعتدال في السياسة والحياة، و مرغمين علي ذلك، و إنّما أعني أنّ الظروف المحيطة بهما كانت تفرض عليهما ذلك سواء أكانا راغبين فيه أو مُكرَهَين عليه.

كما أنّي لا اُريد أن اُجرّدهما عن كلّ أثر في التاريخ، و كيف يسعني شي ء من ذلك، و هما اللّذان كتبا يوم السقيفة سطور التاريخ الإسلامي كلّه، و إنّما عنيت أنّهما كانا ضعيفي الأثر في بناء تاريخ أيامهما خاصّة، و ما ازدهرت به من حياة مكافحة و حياة فاضلة.

مع العقاد في دراسته

أكتب هذا كلّه و بين يديّ كتاب (فاطمة و الفاطميون) للاُستاذ عباس محمود العقّاد، و قد جئته بشوق بالغ لأري ما يكتب في موضوع الخصومة بين الخليفة والزهراء، و أنا علي يقين من أنّ أيّام التعبّد (1) بأعمال السالفين

ص: 54


1- 66. يعني أنّ التقليد والمتابعة في الدراسة والتقويم سواء ما يتعلّق بالشخصيّات أم بالأحداث التاريخيّة من دون تحقيق و تدقيق علمي، ما عادَ لها وزن، و لا اعتبار في نظر العلم، بالأخصّ و نحن نعيش في عصر اُخضع كلّ شي ء فيه إلي المحاكمة العلميّة، والتحقيق العلمي.

و تصويبها علي كلّ تقدير قد انتهت، و أنّ الزمان الذي يتحاشي فيه عن التعمّق في شي ء من مسائل الفكر الإنساني ديناً كانت، أو مذهباً أو تاريخاً أو أيّ شي ء آخر قد مضي مع ما مضي من تاريخ الإسلام بعد أن طال قروناً. ولعلّ الخليفة الأوّل كان هو أوّل من أعلن ذلك المذهب عندما صرخ في وجه من سأله عن مسألة الحريّة الإنسانيّة والقدر و هدّده و توعّده (1) و لكن أليس قد أراحنا اللَّه تعالي من هذا المذهب الذي يسي ء إلي روح الإسلام؟ و إذن فكان لي أن أتوقّع بحثاً لذيذاً يتحفنا به الاُستاذ في موضوع الخصومة من شتّي نواحيها، و لكن الواقع كان علي عكس ذلك، فإذا بكلمة الكتاب حول الموضوع قصيرة و قصيرة جدّاً و إلي حدّ أستبيح لنفسي أنّ أنقلها و أعرضها عليك دون أن اُطيل عليك، فقد قال:

(والحديث في مسألة فدك هو كذلك من الأحاديث التي لا تنتهي إلي مقطع للقول متّفَق عليه، غير أنّ الصدق فيه: لا مراءَ أنّ الزهراء أجلّ من أن تطلب ما ليس لها بحقّ و أنّ الصديق أجلّ من أن يسلبها حقّها الذي تقوم به البيّنة عليه، و من أسخف ما قيل أنّه إنّما منعها فدك مخافة أن ينفق عليّ من غلّتها علي الدعوة إليه؛ فقد ولي الخلافة أبوبكر و عمر و عثمان و عليّ و لم يسمع أنّ أحداً بايعهم لمالٍ أخذه منهم و لم يرد ذكر شي ء من هذا في إشاعة و لا في خبر يقين، و ما نعلم تزكية لذمّة الحكم من عهد الخليفة الأوّل أوضح بيّنه من حكمه في مسألة فدك، فقد كان يكسب برضي فاطمة و يرضي الصحابة برضاها و ما أخذ من فدك شيئاً لنفسه فيما ادّعاه عليه مدّع،

ص: 55


1- 67. سنن الدارمي: 53- 54- دارإحياء السُنّة النبويّة.

و إنّما هو الحرج في ذمّة الحكم بلغ أقصاه بهذه القضية بين هؤلاء الخصوم الصادقين المصدّقين رضوان اللَّه عليهم أجمعين انتهي) (1) .

و نلاحظ قبل كلّ شي ء أنّ الاُستاذ شاء أن يعتبر البحث في مسألة فدك لوناً من ألوان النزاع التي ليس لها قرار، و لا يصل الحديث فيه إلي نتيجة فاصلة ليقدّم بذلك عذره عن التوفّر علي دراستها، واعتقد أنّ في محاكمات هذا الكتاب التي سترد عليك جواباً عن هذا، و نلاحظ أيضاً أنّه بعد أن جعل مسألة فدك من الأحاديث التي لا تنتهي إلي مقطع للقول متّفق عليه، رأي أنّ فيها حقيقتين لامراء فيهما و لا جدال:

(أحدهما) أنّ الصدّيقة أرفع من أن تنالها تهمة بكذب.

و (الاُخري) أنّ الصدّيق أجلّ من أن يسلبها حقّها الذي تثبته البيّنة. فإذا لم يكن في صحّة موقف الخليفة و اتّفاقه مع القانون جدال، ففيم الجدال الذي لا قرار له؟! و لِمَ لا تنتهي مسألة فدك إلي مقطع للقول متّفق عليه؟!

و أنا أفهم أنّ للكاتب الحريّة في أن يسجّل رأيه في الموضوع أي موضوع كما يشاء و كما يشاء له تفكيره بعد أن يرسم للقارئ مدارك (2) ذلك الرأي و بعد أن يدخل تقديرات المسألة كلّها في الحساب ليخرج منها بتقدير معيّن، ولكّني لا أفهم أن يقول أنّ المسألة موضوع لبحث الباحثين ثمّ لا يأتي إلّا برأي مجرّد عن المدارك يحتاج إلي كثير من الشرح والتوضيح و إلي كثير من البحث والنظر، فإذا كانت الزهراء أرفع من كلّ تهمة فما

ص: 56


1- 68. فاطمة الزهراء والفاطميون/ عبّاس محمود العقّاد- سلسلة الهلال.
2- 69. المدارك جمع مدرك، والمدرك في لغة الفقه و في مصطلح الفقهاء هو: الدليل. راجع: المصباح المنير 1: 192- نشر دار الهجرة- قم المقدسة.

حاجتها إلي البيّنة؟ و هل تمنع التشريعات القضائية في الإسلام عن أن يحكم العالم استناداً إلي علمه (1) ؟ و إذا كانت تمنع عن ذلك فهل معني هذا أن يجوز في عرف الدين سلب الشي ء من المالك؟ هذه أسئلة، و معها أسئلة اُخري أيضاً في المسألة تتطلّب جواباً علميّاً، و بحثاً في ضوء أساليب الاستنباط في الإسلام.

و اُريد أن أكون حُرّاً، و إذن فإنّي أستميح الاُستاذ أن اُلاحظَ أنّ تزكية موقف الخليفة والصدّيقة معاً أمر غير ممكن؛ لأنّ الأمر في منازعتهما لو كان مقتصراً علي مطالبة الزهراء بفدك وامتناع الخليفة عن تسليمها له لعدم وجود مستمسك شرعي يحكم بواسطته لها بما تدّعيه، و انتهاء المطالبة إلي هذا الحدّ، لَوَسِعنا أن نقول إنّ الزهراء طلبت حقّها في نفس الأمر و الواقع، و إنّ الخليفة لمّا امتنع عن تسليمه لها لعدم تهيّؤ المدرك الشرعي الذي تثبت به الدعوي تركت مطالبتها، لأنّها عرفت أنّها لا تستحقّ فدك بحسب النظام القضائي و سنن الشرع، و لكنّنا نعلم أنّ الخصومة بينهما أخذت أشكالاً مختلفة حتّي بلغت مبلغ الاتّهام الصريح من الزهراء و أقسمت علي المقاطعة (2) .

ص: 57


1- 70. راجع في جواز حكم الحاكم أو القاضي بعلمه/ سنن البيهقي 10: 142، تنقيح الأدلّة في بيان حكم الحاكم بعلمه/ السيد محمّد رضا الحسيني الأعرجي- المطبعة العلمية قم، فهو بحث تفصيلي استدلالي في المسألة.
2- 71. راجع الرواية في صحيح البخاري؛ عن عروة عن عائشة 3: 1374، شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 281، و قال ابن أبي الحديد تعقيباً في ص 286: «و أمّا إخفاء القبر و كتمان الموت- موت الزهراء عليهاالسلام- و عدم الصلاة و كلّ ما ذكره المرتضي- أي الشريف- فيه فهو الذي يظهر و يقوي عندي؛ لأنّ الروايات به أكثر و أصحّ من غيرها، و كذلك القول في موجدتها و غضبها...»، أعلام النساء 4: 123- 124.

و إذن فنحن بين اثنتين: إحداهما أن نعترف بأنّ الزهراء قد ادّعت بإصرار ما ليس لها بحقّ في عرف القضاء الإسلامي والنظام الشرعي و إن كان ملكها في واقع الأمر، والاُخري أن نلقي التبعة علي الخليفة و نقول إنّه قد منعها حقّها الذي كان يجب عليه أن يعطيها إيّاه أو يحكم لها بذلك علي فرق علميّ بين التعبيرين يتّضح في بعض الفصول الآتية، فتنزيه الزهراء عن أن تطلب طلباً لا ترضي به حدود الشرع، والارتفاع بالخليفة عن أن يمنعها حقّها الذي تسخو به عليها تلك الحدود لا يجتمعان إلّا إذا توافق النقيضان.

ولنترك هذا إلي مناقشة اُخري، فقد اعتبر الاُستاذ حكم الخليفة في مسألة فدك أوضح بيّنة و دليل علي تزكيته و ثباته علي الحقّ و عدم تعدّيه عن حدود الشريعة لأنّه لو أعطي فدك لفاطمة لأرضاها بذلك و أرضي الصحابة برضاها. و لنفترض معه أنّ حدود القانون الإسلامي هي التي كانت تفرض عليه أن يحكم بأنّ فدك صدقة، ولكن ماذا كان يمنعه عن أن ينزل للزهراء عن نصيبه و نصيب سائر الصحابة الذين صرّح الاُستاذ بأنّهم يرضون بذلك؟... أكان هذا محرّماً في عرف الدين أيضاً؟ أو أنّ أمراً ما أوحي إليه بأن لا يفعل ذلك، بل ماذا كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن أعطته وعداً قاطعاً بأن تصرف حاصلاتها في وجوه الخير والمصالح العامة؟

و أمّا ما استسخفه الكاتب من تعليلٍ لحكم الخليفة فسوف نعرف في هذا الفصل ما إذا كان سخيفاً حقاً.

إذا عرفنا أنّ مرتكزات الناس ليست وحياً من السماء فلا تقبلُ شكّاً و لا جدالاً، و أن درس مسائل السالفين ليس كفراً، و لا زندقة، و لا تشكيكاً في أعلام النبوة كما كانوا يقولون، فلنا أن نتساءل عمّا بعث الصدّيقة إلي البدء

ص: 58

بمنازعتها حول فدك علي ذلك الوجه العنيف الذي لم يعرف أو لم يشأ أن يعرف هيبة للسلطة المهيمنة، أو جلالاً للقوّة المتصرّفة، يعصم الحاكمين من لهيبها المتصاعد، و شررها المتطاير، و بقي الحكم من إشعاعة نور متألّقة تلقي ضوءاً عليه، فتظهر للتاريخ حقيقته مجرّده عن كل ستار، بل كانت بداية المنازعة و مراحلها نذير ثورة مكتسحة أو ثورة بالفعل عندما اكتملت في شكلها الأخير، و يومها الأخير، تحمل كلّ ما لهذا المفهوم من مقدّمات و نتائج، و لا تتعرّض لضعف أو تردّد.

و ما عساه أن يكون هدف السلطة الحاكمة، أو بالأحري هدف الخليفة رضي اللَّه عنه نفسه في أن يقف مع الحوراء علي طرفي الخط، أوَلم يكن يخطر بباله أنّ خطّته هذه تفتح له باباً في التاريخ في تعداد أوّليّاته، ثمّ يذكر بينها خصومة أهل البيت؟! فهل كان راضياً بأوّليّته هذه مخلصاً لها حتّي يستبسل في امتناعه، و موقفه السلبي، بل الإيجابي المعاكس؟ أو أنّه كان منقاداً للقانون، و ملتزماً بحرفيّته في موقفه هذا كما يقولون، فلم يشأ أن يتعدّ حدود اللَّه تبارك و تعالي في كثير أو قليل، و إنّ لموقفه الغريب تجاه الزهراء صلة بموقفه في السقيفة، و أعني بهذه الصلة الاتحاد في الغرض، أو اجتماع الغرضين علي نقطة واحدة (1) . و بالأحري أنّ تقوم علي دائرة واحدة متّسعة

ص: 59


1- 72. ينقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 16: 284 قال: «و سألتُ عليّ بن الفارقي مدرّس المدرسة الغريبة ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلتُ: فلِمَ لَمْ يدفع إليها أبوبكر فدك و هي عنده صادقة؟ فتبسّم، ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه و حُرمته و قلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرّد دعواها لجاءت إليه غداً، وادّعت لزوجها الخلافة، و زحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشي ء؛ لأنّه يكون قد أسجلَ علي نفسه أنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجةٍ إلي بيّنةٍ و لا شهود». قال ابن أبي الحديد: و هذا كلام صحيح.

اتّساع دولة النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم فيها آمال بواسم، و موجات من الأحلام ضحك لها الخليفة كثيراً و سعي في سبيلها كثيراً أيضاً.

بواعث الثورة

إنّنا ندرك بوضوح، و نحن نلاحظ الظرف التاريخي الذي حفَّ بالحركة الفاطميّة، أنّ البيت الهاشميّ المفجوع بعميده الأكبر قد توفّرت له كلّ بواعث الثورة علي الأوضاع القائمة، و الانبعاث نحو تغييرها و إنشائها إنشاءً جديداً، و أنّ الزهراء قد اجتمعت لها كلّ إمكانيات الثورة و مؤهّلات المعارضة التي قرّر المعارضون أن تكون منازعة سلميّة (1) مهما كلّف الأمر.

و إنّنا نحسّ أيضاً إذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك و منازعاتها بأنّها مطبوعة بطابع تلك الثورة، و نتبيّن بجلاء أنّ هذه المنازعات كانت في واقعها و دوافعها ثورة علي السياسة العليا و ألوانها التي بدت للزهراء بعيدة عمّا تألفه من ضروب الحكم، و لم تكن حقّاً منازعة في شي ء من شؤون السياسة الماليّة، والمناهج الاقتصاديّة التي سارت عليها خلافة الشوري، و إن بدت علي هذا الشكل في بعض الأحايين.

ص: 60


1- 73. كان هناك إصرارٌ عجيب من الإمام عليّ عليه السلام علي أن تكون المعارضة سلمية لا تتعدّي حدود الاحتجاج و قطع الأعذار، و لو كلّف ذلك أن يُجرّ ابن أبي طالب و يُسحب من بيته سحباً للمبايعة، أو أن يتعرّض البيت الطاهر إلي التهديد بالإحراق. و يلاحظ هنا أنّ الإمام عليّاً عليه السلام عندما جائه أبوسفيان، و قال له: لو شئت لأملأنها عليهم خيلاً و رجالاً، نهره الإمام عليه السلام و رفض مبادرته. راجع: شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 47- 49 و ص 11 في احتجاج الإمام عليّ عليه السلام بالحجّة البالغة، و ص 17- 18 في موقف أبي سفيان، تاريخ الطبري 2: 233 و 237.

و إذا أردنا أن نمسك بخيوط الثورة الفاطميّة من اُصولها، أو ما يصحّ أن يعتبر من اُصولها؛ فعلينا أن ننظر نظرة شاملة عميقة لنتبيّن حادثتين متقاربتين في تاريخ الإسلام؛ كان أحدهما صديً للآخر و انعكاساً طبيعياً له، و كانا معاً يمتدّان بجذورهما و خيوطهما الاُولي إلي حيث قد يلتقي أحدهما بالآخر أو بتعبير أصحّ إلي النقطة المستعدّة في طبيعتها إلي أن تمتدّ منها خيوط الحادثتين.

أحدهما: الثورة الفاطميّة علي الخليفة الأوّل التي كادت أن تزعزع كيانه السياسي، و ترمي بخلافته بين مهملات التاريخ.

و الآخر: موقف ينعكس فيه الأمر فتقف عائشة اُمّ المؤمنين (1) بنت الخليفة الموتور في وجه عليّ زوج الصدّيقة الثائرة علي أبيها.

و قد شاء القدر لكلتا الثائرتين أن تفشلا مع فارق بينهما مردّة إلي نصيب كلّ منهما من الرضا بثورتها، والاطمئنان الضميري إلي صوابها و حظّ كلّ منهما من الانتصار في حساب الحقّ الذي لا التواء فيه و هو أنّ الزهراء فشلت بعد أن جعلت الخليفة يبكي و يقول: أقيلوني (2) بيعتي، والسيدة عائشة فشلت فصارت تتمنّي أنّها لم تخرج إلي حرب (3) و لم تشقّ عصا طاعة.

ص: 61


1- 74. إشارة إلي يوم الجمل المشهور، و كان أبطاله الزبير و طلحة و عائشة اُمّ المؤمنين و ذلك سنة 36 ه، و كان موقع المواجهة في البصرة. راجع: تاريخ الطبري 3: 476 حوادث سنة 36 ه، مطبعة الاستقامة- القاهرة.
2- 75. راجع: أعلام النساء 4: 124، قال أبوبكر بعد المحاورة مع الزهراء: أقيلوني. تاريخ الطبري 3: 353، و فيه: قال أبوبكر رضي اللَّه عنه أجل، إنّي لا آسي علي شي ء من الدنيا إلّا علي ثلاث فعلتهن، وودت أنّي تركتهنّ... و ذكر منها: فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شي ء»، شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 41 في حُبَّه للإمارة.
3- 76. راجع: تاريخ ابن الأثير 3: 111، تذكرة الخواص/ سبط ابن الجوزي: 80- 81، إصدار مكتبة نينوي الحديثة- طهران.

هاتان الثورتان متقاربتان في الموضوع والأشخاص فلماذا لا تنتهيان إلي أسباب متقاربة و بواعث متشابهة.

و نحن نعلم جيّداً أنّ سرّ الانقلاب الذي طرأ علي السيدة عائشة حين إخبارها بأنّ عليّاً وَلِيَ الخلافة يرجع إلي الأيام الاُولي في حياة عليّ و عائشة حينما كانت المنافسة علي قلب رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بين زوجته و بضعته.

و من شأن هذه المنافسة أن تتّسع في آثارها فتثبت مشاعر مختلفة من الغيظ والتنافر بين الشخصين المتنافسين و تلف بخيوطها مَن حولهما من الأنصار و الأصدقاء، و قد اتّسعت بالفعل في أحد الطرفين فكان ما كان بين السيدة عائشة و عليّ، فلابُدّ أن تتّسع في الطرف الآخر فتعمّ من كانت تعمل اُمّ المؤمنين علي حسابه في بيت النبيّ.

نعم إنّ انقلاب اُمّ المؤمنين إنّما هو من وحي ذكريات تلك الأيام التي نصح فيها عليّ لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بأن يطلقها في قصة الإفك المعروفة (1) .

و هذا النصح إن دلّ علي شي ء فإنّه يدلّ علي انزعاجه منها و من منافستها لقرينته، و علي أنّ الصراع بين زوج الرسول و بضعته كان قد اتّسع في معناه و شمل عليّاً و غير عليّ ممّن كان يهتمّ بنتائج تلك المنافسة و أطوارها.

دوافع الخليفة الأول في موقفه

نعرف من هذا أنّ الظروف كانت توحي إلي الخليفة الأوّل بشعور خاصّ

ص: 62


1- 77. راجع تفصيل الحادثة في صحيح البخاري 3:24 طبعة الميمنية- مصر 1312 ه، تاريخ الطبري 2: 113 حوادث سنة 6 ه.

نحو الزهراء و زوج الزهراء، و لا ننسي أنّه هو الذي تقدّم لخطبتها فردّه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ثمّ تقدّم عليّ إلي ذلك فأجابه النبيّ إلي ما أراد (1) . و ذاك الردّ و هذا القبول يولّدان في الخليفة إذا كان شخصاً طبيعيّاً يشعر بما يشعر به الناس، و يحسّ كما يحسّون شعوراً بالخيبة و الغبطة لعليّ- إذا احتطنا في التعبير- و بأنّ فاطمة كانت هي السبب في تلك المنافسة بينه و بين عليّ التي انتهت بفوز منافسه.

و لنلاحظ أيضاً أنّ أبابكر هو الشخص الذي بعثه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ليقرأ سورة التوبة علي الكافرين، ثمّ أرسل وراءه و قد بلغ منتصف الطريق ليستدعيه و يعفيه من مهمّته (2) لا لشي ء إلّا لأنّ الوحي شاء أن يضع أمامه مرّة اِّخري منافسه في الزهراء الذي فاز بها دونه (3) .

و لا بُدّ أنّه كان يراقب ابنته في مسابقتها مع الزهراء علي الأوليّة لدي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و يتأثّر بعواطفها كما هو شأن الآباء مع الأبناء.

و ما يدرينا لعلّه اعقتد في وقت من الأوقات أنّ فاطمة هي التي دفعت بأبيها إلي الخروج لصلاة الجماعة في المسجد يوم مهّدت له اُمّ المؤمنين التي

ص: 63


1- 78. الصواعق المحرقة/ ابن حجر الهيتمي: 249- دارالكتب العلمية- بيروت- ط 2/ 1414 ه، قال: و أخرج أبوداود أنّ أبابكر خطب فاطمة، فأعرض عنه رسول اللَّه ثمّ عمر فأعرض عنه.
2- 79. راجع قصة تبليغ سورة براءة، مسند الإمام أحمد 1: 3 مطبعة دار صادر، الصواعق المحرقة: 32، الخصائص/ النسائي: 90- 91.
3- 80. جاء في الصواعق/ ابن حجر: 143 عن أنس قال: «بينما أنا قاعد عند النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم إذ غشيه الوحي، فلمّا سري عنه، قال: إنّ ربّي أمرني أن اُزوّج فاطمة من عليّ...»، أخرجه ابن عساكر... ثمّ قال تعليقاً علي رأي الذهبي: «أخرجه النسائي بسندٍ صحيح و فيه ردّ علي الذهبي... و تبيّن أنّ للقصة أصلاً أصيلاً...».

كانت تعمل علي حسابه في بيت النبيّ أنّ يؤمّ الناس ما دام النبيّ مريضاً (1) .

إنّ التاريخ لا يمكننا أن نترقّب منه شرح كلّ شي ء شرحاً واضحاً جليّاً غير أنّ الأمر الذي تجمع عليه الدلائل أنّ من المعقول جدّاً أن يقف شخص مرّت به ظروف كالظروف الخاصّة التي أحاطت بالخليفة من عليّ و فاطمة موقفه التاريخي المعروف، و أنّ امرأة تعاصر ما عاصرته الزهراء في أيام أبيها من منافسات حتّي في شباك يصل بينها و بين أبيها حريّ بها أن لا تسكت إذا أراد المنافسون أن يستولوا علي حقّها الشرعي الذي لا ريب فيه.

ابعاد قضية فدك السياسة

هذه هي الثورة الفاطمية في لونها العاطفي و هو لون من عدّة ألوان أوضحها و أجلاها اللون السياسي الغالب علي أساليبها و أطوارها.

و أنا حين أقول ذلك لا أعني بالسياسة مفهومها الرائج في أذهان الناس هذا الويم المركّز علي الالتواء و الافتراء، و إنّما أقصد بها مفهومها الحقيقي الذي لا التواء فيه. فالممعن في دراسة خطوات النزاع و تطوّراته و الأشكال التي اتّخذها لا يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض، بل يتجلّي له منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوي علي غرض طموح يبعث إلي الثورة و يهدف إلي استرداد عرش مسلوب و تاج ضائع و مجد عظيم و تعديل اُمّة انقلبت علي أعقابها (2) .

ص: 64


1- 81. سيرة ابن هشام- مج 3/ 4: 653، توجد رواية تشير إلي ذلك.
2- 82. إشارة إلي قوله تعالي: (وَ مَا مُحَمَّدُ إلَّا رَسُولُ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُولُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران/ 144. و راجع الرواية التي تُشير إلي ارتداد الناس و انكفائهم عن الإسلام حديث الحوض المشهور، قوله صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «أنا فرطكم علي الحوض فيؤتي برجالٍ أعرفهم فيُمنعون منّي، فأقول أصحابي؛ فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقاً سُحقاً لمن بدّل بعدي...»، صحيح البخاري 8: 86 كتاب الفتن، الكشّاف/ الزمخشري 4: 811، تاريخ الطبري 2: 245.

و علي هذا كانت فدك معنيً رمزيّاً يرمز إلي المعني العظيم و لا يعني تلك الأرض الحجازية المسلوبة، و هذه الرمزية التي اكتسبها فدك هي التي ارتفعت بالمنازعة من مخاصمة عادية منكمشة في اُفقها، محدودة في دائرتها إلي ثورة واسعة النطاق رحيبة الاُفق.

اُدرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة للمسألة، فهل تري نزاعاً ماديّاً، أو تري اختلافاً حول فدك بمعناها المحدود و واقعها الضيّق، أو تري تسابقاً علي غلّات أرض مهما صعد بها المبالغون وارتفعوا؟ فليست شيئاً يحسب له المتنازعون حساباً.

كلّا! بل هي الثورة علي اُسس الحكم، والصرخة التي أرادت فاطمة أن تقتلع بها الحجر الأساسي الذي بُني عليه التاريخ بعد يوم السقيفة.

و يكفينا لإثبات ذلك أن نلقي نظرة علي الخطبة التي خطبتها الزهراء في المسجد أمام الخليفة و بين يدي الجمع المحتشد من المهاجرين و الأنصار، فإنّها دارت أكثر ما دارت حول امتداح عليّ والثناء علي مواقفه الخالدة في الإسلام و تسجيل حقّ أهل البيت الذين وصفتهم بأنّهم الوسيلة إلي اللَّه في خلقه و خاصّته و محلّ قدسه و حجّته في غيبه، و ورثة أنبيائه في

ص: 65

الخلافة والحكم. و إلفات المسلمين إلي حظّهم العاثر و اختيارهم المرتجل و انقلابهم علي أعقابهم، و ورودهم غير شربهم، و إسنادهم الأمر إلي غير أهله، والفتنة (1) التي سقطوا فيها، والدواعي التي دعتهم إلي ترك الكتاب و مخالفته فيما يحكم يه في موضوع الخلافة و الإمامة.

فالمسألة إذن ليست مسألة ميراث و نِحلة إلّا بالمقدار الذي يتّصل بموضوع السياسة العليا، و ليست مطالبة بعقار أو دار، بل هي في نظر الزهراء «مسألة إسلام و كفر، و مسألة إيمان و نفاق، و مسألة نصّ و شوري» (2) .

و كذلك نري هذا النَفَس السياسي الرفيع في حديثها مع نساء المهاجرين و الأنصار، إذ قالت فيما قالت: «أين زحزحوها عن رواسي الرسالة، و قواعد النبوّة، و مهبط الروح الأمين و الطبين بأمر الدنيا و الدين ألا ذلك هو الخسران المبين، و ما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا و اللَّه نكير سيفه، و شدّة وطأته، و نكال وقعته، و تنمّره في ذات اللَّه، و تاللَّه لو تكافؤوا عن زمام نبذه إليه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا عتلقه و سار إليهم سيراً سجحاً لا تُكلم حشاشه، و لا يتعتع راكبه (3) ، و لأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح

ص: 66


1- 83. راجع نصوص السقيفة في تاريخ الطبري 2: 235 و ما بعدها، و فيها: «أنّ بيعة أبي بكر بكرفلتة...».
2- 84. هذا بلحاظ المنظور الفاطمي للقضية برمّتها و في أبعادها، و قد عبّرت عن ذلك في خطبتها قائلة: إنّما زعمتهم خوف الفتنة ثمّ تلت قوله تعالي: (أَلَا في الفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالكَافِرِينَ) التوبة/ 49، و راجع المناقشة الوافية الشافية لمسألة (النصّ والشوري) في نشأة التشيّع والشيعة/ الإمام السيّد الشهيد الصدر- بتحقيق الدكتور عبدالجبار شرارة.
3- 85. تاريخ الطبري 2: 580، قول الخليفة الثاني في قصة الشوري... قالوا: يا أميرالمؤمنين لو عهدت عهداً! فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فاُولّي رجلاً أمركم، هو أحراكم أن يحملكم علي الحقّ. و أشار إلي عليّ...». و راجع أنساب الأشراف/ البلاذري 2: 214.

فضفاضه، و لأصدرهم بطاناً قد تحيّر بهم الرأي غير متحلّ بطائل إلّا بغمر الناهل و ردعه سورة الساغب، ولفُتحت عليهم بركات من السماء والأرض، و سيأخذهم اللَّه بما كانوا يكسبون، ألا هلمّ فاستمع و ما عشت أراك الدهر عجباً و إن تعجب فقد أعجبك الحادث إلي أيّ لجأ استندوا و بأيّ عروة تمسّكوا، لبئس المولي و لبئس العشير، و لبئس للظالمين بدلاً. استبدلوا واللَّه الذنابي بالقوادم والعجز بالكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، ألا أنّهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون، و يحهم (أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَي فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (1) ».

و لم يؤثر عن نساء النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم أنّهن خاصمن أبابكر في شي ء من ميراثهن، أكنّ أزهد من الزهراء في متاع الدنيا، و أقرب إلي ذوق أبيها في الحياة؟ أو أنّهنّ اشتغلن بمصيبة رسول اللَّه و لم تشتغل بها بضعته، أو أنّ الظروف السياسة هي التي فرّقت بينهنّ فأقامت من الزهراء معارضة شديدة، و منازعة خطرة دون نسوة النبيّ اللّاتي لم تزعجهنّ أوضاع الحكم.

و أكبر الظنّ أنّ الصدّيقة كانت تجد في شيعة قرينها، و صفوة أصحابه الذين لم يكونوا يشكّون في صدقها من يعطف شهادته علي شهادة عليّ و تكتمل بذلك البيّنة عند الخليفة. أفلا يفيدنا هذا أنّ الهدف الأعلي لفاطمة الذي كانوا يعرفونه جيّداً ليس هو إثبات النِحلة أو الميراث، بل القضاء علي نتائج السقيفة (2) ؟ و هو لا يحصل بإقاةه البيّنة في موضوع فدك، بل بأن

ص: 67


1- 86. يونس/ 35.
2- 87. راجع: شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 236، و يظهر أنّ الخلافة فطنت إلي هذا الأمر، فحالت دونه، و يظهر من المحاورة التي جرت بين الخليفة الثاني و ابن عبّاس جليّة الموقف، جاء في تاريخ الطبري 2: 578... قال عمر: يا ابن عبّاس أتدري ما منع قومكم منهم- من بني هاشم- بعد محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟ قال ابن عبّاس: فكرهت أن اُجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأميرالمؤمنين يدريني، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة و الخلافة فتبجّحوا علي قومكم بَجَحاً بَجَحاً، فاختارت قريش لنفسها فأصابت و وفقّت. فقلتُ: يا أميرالمومنين إن تأذن لي في الكلام... فقال: تكلّم يا ابن عبّاس، فقلتُ: أمّا قولك: اختارت قريش فأصابت... فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار اللَّه عزّ و جلّ لكان لها الصواب بيدها غير مردود... أمّا قولك: كرهوا أن تجتمع النبوّة و الخلافة فإنّ اللَّه وصف قوماً بالكراهية فقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) سورة محمّد/ 9.

تقدّم البيّنة لدي الناس جميعاً علي أنّهم ضلّوا سواء السبيل (1) . و هذا ما كانت تريد أن تقدّمه الحوراء في خطّتها المناضلة.

و لنستمع إلي كلام الخليفة بعد أن انتهت الزهراء من خطبتها و خرجت من المسجد، فصعد المنبر و قال: «أيّها الناس ما هذه الرِّعة إلي كلّ قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم. ألا من سمع فليقل، و من شهد فليتكلّم، إنّما هو ثُعالةٌ شهيده ذنبه، مُرِبٌّ لكلّ فتنة [هو الذي يقول: كرّوها جَذَعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، و يستنصرون بالنساء]، كاُمّ طحال أحبّ أهلها إليها البغي. ألا إنّي لو أشاء أن أقول لقلت و لو قلت لبُحتُ، إنّي ساكت ما تركت»، ثمّ التفت إلي الأنصار و قال: «قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم و أحقّ من لزم عهد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أنتم، فقد جاءكم فآويتم و نصرتم، ألا إنّي لست باسطاً يداً و لا لساناً علي من لم يستحقّ ذلك [منّا]» (2) .

و هذا الكلام يكشف لنا عن جانب من شخصيّة الخليفة، و يلقي ضوءاً علي منازعة الزهراء له، والذي يهمّنا الآن ما يوضّحه من أمر هذه المنازعة

ص: 68


1- 88. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 236.
2- 89. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 214- 215.

و انطباعات الخليفة عنها، فإنّه فَهِم حقّ الفهم أنّ احتجاج الزهراء لم يكن حول الميراث أو النِحلة، و إنّما كان حرباً سياسيّة كما نسمّيها اليوم و تظلّماً لقرينها العظيم الذي شاء الخليفة و أصحابه أن يبعدوه عن المقام الطبيعي له في دنيا الإسلام، فلم يتكلّم إلّا عن عليّ فوصفه بأنّه ثعالة و أنّه مربّ لكلّ فتنة، و أنّه كاُمِّ طِحال، و أنّ فاطمة ذنبه التابع له، و لم يذكر عن الميراث قليلاً أو كثيراً.

و لنلاحط ما جاءت به الرواية في صحاح السُنّة من أنّ عليّاً والعبّاس كانا يتنازعان في فدك في أيّام عمر بن الخطّاب، فكان علي يقول إنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم جعلها في حياته لفاطمة، و كان العبّاس يأبي ذلك و يقول هي ملك رسول اللَّه و أنا وراثه، و يتخاصمان إلي عمر، فيأبي أن يحكم بينهما و يقول: «أنتما أعرف بشأنكما أمّا أنا فقد سلّمتها إليكما» (1) .

فقد نفهم من هذا الحديث إذا كان صحيحاً أنّ حكم الخليفة كان سياسيّاً موقّتاً و إنّ موقفه كان ضرورة من ضرورات الحكم في تلك الساعة الحرجة، و لا فلِمَ أهملَ عمر بن الخطّاب رواية الخليفة و طرحها جانباً و سلّم فدك إلي العبّاس و عليّ، و موقفه منهما يدلّ علي أنّه سلّم فدك إليهما علي أساس أنّها ميراث رسول اللَّه لا علي وجه التوكيل، إذ لو كان علي هذا

ص: 69


1- 90. شرح نهج البلاغة 16: 221، و لاحظ الروايات التي تؤكّد أن عليّ بن أبي طالب وصيُّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و وارثه و خليفته والوليّ ممن بعده. راجع مثلاً: تاريخ دمشق/ ابن عساكر الشافعي 3: 5 ح 1021، 1022 قول الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «لكل نبيّ وصيّ و وارث و إنّ عليّاً وصييّ و وارثي» و راجع حديث الدار المشهور في تاريخ الطبري 3: 218، ط 1، الحسينية بمصر، و تفسير الخازن 3: 371- طبعة دارالمعرفة- في تفسير قوله تعالي: (وَ أَنذِر عَشِيرتك الأَقْرَبِينَ...)، مسند أحمد بن حنبل 2: 352 ح 1371- طبعة دارالمعارف، بسند صحيح.

الوجه لما صحّ لعليّ والعبّاس أن يتنازعا في أنّ فدك هل هي نحلة من رسول اللَّه لفاطمة أو تركة من تركاته التي يستحقّها ورثته؟ و ما أثر هذا النزاع لو فُرض أنّها في رأي الخليفة مال للمسلمين و قد وكّلهما في القيام عليه؟ و لفضً عمر النزاع و عرّفهما أنّه لا يري فدك مالاً موروثاً و لا من أملاك فاطمة، و إنّما أو كل أمرها إليهما لينوبا عنه برعايتها و تعاهدها، كما أنّ عدم حكمه بفدك لعلي وحده معناه أنّه لم يكن واثقاً بنحلة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فدك لفاطمة فليس من وجه لتسليمها إلي عليّ والعبّاس إلّا الإرث.

و إذن ففي المسألة تقديران:

(أحدهما) أنّ عمر كان يتّهم الخليفة بوضع الحديث في نفي الإرث (1) .

(و الآخر) أنّه تأوّله و فهم منه معنيً لا ينفي التوريث و لكن لم يذكر تأويله، و لم يناقش به أبابكر حينما حدّث به وسواء أصحّ هذا أو ذاك، فالجانب السياسي في المسألة ظاهر، و إلّا فلماذا يتّهم عمر الخليفة بوضع الحديث إذا لم يكن في ذلك ما يتّصل بسياسة الحكم يومئذٍ، و لماذا يخفي تأويله و تفسيره، و هو الذي لم يتحرّج عن إبداء مخالفته للنبيّ أو الخليفة الأوّل فيما اعترضهما من مسائل.

و إذا عرفنا أنّ الزهراء نازعت في أمر الميراث بعد استيلاء الحزب الحاكم عليه، لأنّ الناس لم يعتادوا أن يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم أو في تسليم المواريث إلي أهلها، فلم تكن فاطمة في حاجة إلي مراجعة

ص: 70


1- 91. إشارة إلي الرواية التي انفرد بها الخليفة الأوّل، و هي قوله: قال رسول اللَّه: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة...»، راجع: الصواعق المحرقة: 34 شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 223.

الخليفة، و لم تكن لتأخذ رأيه و هو الظالم (1) المنتزي علي الحكم في رأيها، فالمطالبة بالميراث لا بُدّ أنّها كانت صديً لما قام به الخليفة من تأميمه للتركة علي ما نقول اليوم (2) ، و الاستيلاء عليها.

(أقول): إذا عرفنا هذا و إنّ الزهراء لم تطالب بحقوها قبل أن تُنتزع منها؛ تجلّي لدينا أنّ ظرف المطالبة كان مشجّعاً كلّ التشجيع للمعارضين علي أن يغتنموا مسألة الميراث مادة خصبة لمقاومة الحزب الحاكم علي اُسلوب سلميّ كانت تفرضه المصالح العليا يومئذ، و اتّهامه بالغصب والتلاعب بقواعد الشريعة والاستخفاف بكرامة القانون.

قضية فدك في ضوء الظروف الموضوعية

و إذا أردنا أن نفهم المنازعة في أشكالها و أسبابها في ضوء الظروف المحيطة بها، و تأثيرها، كان لزاماً علينا أن نعرض تلك الظروف عرضاً مستعجلاً و نسجّل صورة واضحة الألوان للعهد الانقلابي بالمقدار الذي يتّصل بغرضنا.

و لا أعني بالانقلاب حين أصف عهد الخليفة الأوّل بذلك إلّا مفهومه الحقيقي المنطبق علي تلوّن السلطة الحاكمة بشكل جمهوري يتقوّم بالثورة و يكتسب صلاحياته من الجماعات المنتخبة، و نزعها لشكلها الأوّل الذي يستمدّ قوّته و سلطته من السماء.

ص: 71


1- 92. راجع المحاورة بين الخليفة الثاني و بين عليّ بن أبي طالب والعبّاس بن عبدالمطّلب شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 222.
2- 93. أصبح مصطلح التأميم شائعاً، و هو يعني المصادرة والاستيلاء علي المِلك الخاص من قِبل الدولة.

فقد كانت تلك اللحظة التي ضرب بها بشير بن سعد (1) علي يد الخليفة نقطه التحوّل في تاريخ الإسلام التي وضعت حدّاً لأفضل العهود و أعلنت عهداً آخر نترك تقريضه للتاريخ.

مسألة موت الرسول القائد

و قد كان ذلك في اليوم الذي حانت فيه الساعة الأخيرة في تاريخ النبوّات التي قطعت أقدس أداة وصل بين السماء و الأرض و أبركها و أفيضها خيراً و نعمة و أجودها صقلاً للإنسانيّة إذ لَفظ سيّد البشر نفَسه الأخير و طارت روحه إلي الرفيق الأعلي فكان قاب قوسين أو أدني، فهرع الناس إلي بيت النبوة الذي كان يشرق بأضوائه لتوديع العهد المحمّديّ السعيد و تشييع النبوّة التي كانت مفتاح مجد الاُمّة، و سرّ عظمتها، واجتمعوا حوله تتقاذفهم شتّي الخواطر و ترتسم في أفكارهم ذكريات من روعة النبوّة و جلال النبيّ العظيم. و قد خيّل إليهم أنّ هذه السنوات العشر التي نعموا فيها برعاية خير الأنبياء، و أبرّ الآباء كانت حلماً لذيذاً تمتّعوا به لحظة من زمان و ازدهرت به الإنسانية برهة من حياتها، و هاهم قد أفاقوا علي أسوأ ما يستيقظ عليه نائم.

و بينما كان المسلمون في هذه الغمرة الطاغية والصمت الرهيب لا ينطق منهم أحد بكلمة، و قد اكتفوا في تأبين الراحل العظيم بالدموع والحسرات والخشوع والذكريات، إذ يفاجؤون بصوت يجلجل في الفضاء و يقطع خيط الصمت الذي لفّ المجتمعين و هو يعلن أن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لم يمت و لا يموت حتي يظهر دينه علي الدين كلّه و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم ممّن أرجف بموته: «لا أسمع رجلاً يقول مات رسول اللَّه

ص: 72


1- 94. راجع: تاريخ الطبري 2: 243، و فيه إشارة إلي سبق بَشير بن سعد إلي مبايعة الخليفة الأوّل.

إلّا ضربته بسيفي» (1) .

والتفّت الأنظار إلي مصدر الصوت ليعرفوا القائل؛ فوجدوا عمر بن الخطّاب قد وقف خطيباً بين الناس و هو يجلجل برأيه في شدّة لا تقبل نزاعاً و شاعت الحياة في الناس من جديد فتكلّموا و تحدّثوا في كلام عمر والتفّ بعضهم حوله.

و أكبر الظنّ أنّ قوله وقع من أكثرهم موقع الاستغراب والتكذيب، و حاول جماعة منهم أن يجادلوه في رأيه و لكنّه بقي شديداً في قوله ثابتاً عليه والناس يتكاثرون حوله و يتكلّمون في شأنه و يعجبون لحاله حتّي جاء أبوبكر، و كان حين توفّي النبيّ في منزله بالسُّنح، والتفت إلي الناس و قال: «من كان يعبد محمّداً فإنّه قد مات، و من كان يعبداللَّه فإنّه حيّ لا يموت. قال اللَّه تعالي: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُم مَيِّتُونَ) (2) و قال: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ) (3) ، و لمّا سمع عمر ذلك أذعن و اعترف بموت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و قال: «كأنّي سمعتها- يعني الآية- [الآن]» (4) .

و نحن لا نري في هذه القصّة ما يراه كثير من الباحثين من أنّ الخليفة كان بطل ذلك الظرف العجيب، و الرجل الذي تهيّأت له معدّات الخلافة بحكم موقفه من رأي عمر؛ لأنّ المسألة ليست من الأهمّية بهذا الحدّ و لم

ص: 73


1- 95. تاريخ الطبري 2: 232- 233، و فيه: و كان عمر يتوعّد الناس بالقتل، الملل والنحل/ الشهرستاني 1: 29... قال عمر بن الخطّاب: من قال: «إنّ محمّداً قد مات قتلته بسيفي هذا...».
2- 96. الزمر/ 30، 31.
3- 97. آل عمران/ 144.
4- 98. تاريخ الطبري 2: 232- 233.

يحدّثنا التاريخ عن شخص واحد انتصر لعمر في رأيه، فلم يكن إلّا رأياً شخصيّاً لا خطر له و لا شأن للقضاء عليه.

و قد يكون من حقّ البحث أنّ اُلاحظ أنّ شرح الخليفة لحقيقة الحال في خطابه الذي وجّهه إلي الناس كان شرحاً باهتاً في غير حدّ لا يبدو عليه من مشاعر المسلمين المتحرّقة في ذلك اليوم شي ء، بل لم يزد في بيان الفاجعة الكبري علي أن قال: «إنّ من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات». و قد كان الموقف يتطلّب من أبي بكر إذا كان يريد أن يقدّم في نفسه زعيماً لتلك الساعة تأبيناً للفقيد الأعظم يتّفق مع العواطف المتدفّقة بالذكريات و الحسرات يومئذٍ.

و إمن الذي كان يعبد سيّد الموحّدين حتي يقول مَن كان يعبد محمّداً فإنّه قد مات؟ و هل كان في كلام عمر معنيً يدلّ علي أنّه كان يعبد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟ أو كانت قد سرت موجة من الارتداد و الإلحاد في ذلك المجتمع المؤمن الذي كان يعتصر دموعه من ذكرياته، و صبره، و تماسكه من عقيدته حتّي يعلن لهم أنّ الدين ليس محدوداً بحياة رسول اللَّه لأنّه ليس بالإله المعبود.

إذن فلم يكن لكلام أبي بكر الذي خاطب به الناس صلة بموقفهم و لا علاقة برأي عمر، و لا انسجام مع عواطف المسلمين في ذلك اليوم و شؤونهم، و قد سبقه به غيره ممّن حاول مناقشة الفاروق كما سيأتي.

مسألة السقيفة و موقف الإمام علي

و كان يعاصر هذا الاجتماع الذي تكلّمنا عنه اجتماع آخر للأنصار عقدوه في سقيفة بني ساعدة برئاسة سعد بن عبادة زعيم الخزرج و دعاهم فيه إلي إعطائه

ص: 74

الرئاسة والخلافة فأجابوه (1) . ثمّ ترادوا الكلام فقالوا: «فإن أبي المهاجرون و قالوا: نحن أولياؤه و عترته، فقال قوم من الأنصار نقول: منّا أمير و منكم أمير، فقال سعد: فهذا أوّل الوهن، و سمع عمر الخبر، فأتي منزل رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و فيه أبوبكر فأرسل إليه أن اخرج إليَّ، فأرسل إنّي مشغول، فأرسلَ إليه عمر أن اُخرج فقد حدث أمر لا بُدّ أن تحضره، فخرج فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعَين نحوهم و معهما أبوعبيدة، فتكلّم أبوبكر فذكر قرب المهاجرين من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و أنّهم أولياؤه و عترته، ثمّ قال: نحن الاُمراء و أنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة، و لا نقضي دونكم الاُمور، فقام الحبّاب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلّكم و لن يجترئ مجترئ علي خلافكم و لا يصدر أحد إلّا عن رأيكم، أنتم أهل العزّة و المنعة و اُولو العدد و الكثرة و ذَوو البأس والنجدة و إنّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تخلفوا فتفسد عليكم اُموركم فإنّ أبي هؤلاء إلّا ما سمعتم فمنّا أمير و منهم أمير، فقال عمر: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد، واللَّه لا ترضي العرب أن تؤمّركم و نبيّها من غيركم و لا تمتنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم، من ينازعنا سلطان محمّد و نحن أولياؤه و عشيرته. فقال الحبّاب بن منذر: يا معشر الأنصار املكوا أيديكم و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد و أنتم أحقّ بهذا الأمر منهم فإنّه بأسيافكم دانَ الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب أنا أبوشبل في عرينة الأسد، واللَّه إن شئتم لنعيدها

ص: 75


1- 99. تاريخ الطبري 2: 233.

جذعة، فقال عمر: إذن يقتلك اللَّه، قال: بل إيّاك يقتل. فقال أبوعبيدة: يا معشر الأنصار إنّكم أوّل من نصر فلا تكونوا أوّل من بدّل و غيّر، فقام بشير ابن سعد والد النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار ألا إنّ محمّداً من قريش و قومه أولي به وايمَ اللَّه لا يراني اللَّه اُنازعهم هذا الأمر. فقال أبوبكر: هذا عمر و أبوعبيدة بايعوا أيّهما شئتم، فقالا: واللَّه لا نتولّي هذا الأمر عليك و أنت أفضل المهاجرين و خليفة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في الصلاة و هي أفضل الدين، ابسط يدك. فلمّا بسط يده ليبايعاه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحبّاب ابن المنذر يا بشير غفتك غفاق، أنفستَ علي ابن عمّك الإمارة؟ فقال اُسيد ابن خضير رئيس الأوس لأصحابه: واللَّه لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبداً، و بايعوا أبابكر و أقبل الناس يبايعونه من كلّ جانب (1) .

و نلاحظ في هذه القصّة أنّ عمر هو الذي سمع بقصة السقيفة و اجتماع الأنصار فيها و أخبر أبابكر بذلك، و ما دمنا نعلم أنّ الوحي لم ينزل عليه بذلك النبأ فلابُدّ أنّه ترك البيت النبويّ بعد أن جاء أبوبكر و أقنعه بوفاة النبيّ، فلماذا ترك البيت؟ و لماذا اختصّ أبابكر بنبأ السقيفة؟ إلي كثير من هذه النقاط التي لا نجد لها تفسيراً معقولاً أولي من أن يكون في الأمر اتّفاق سابق بين أبي بكر و عمر و أبي عبيدة علي خطّة معيّنة في موضوع الخلافة، و هذا التقدير التاريخي قد نجد له شواهد عديدة تجيز لنا افتراضه.

(الأوّل) تخصيص عمر لأبي بكر بنبأ السقيفة كما سبق، و إصراره علي استدعائه بعد اعتذراه بأنّه مشغول حتّي أشار إلي الغرض و لمّح إليه، خرج

ص: 76


1- 100. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 127- 128، طبعة دارالكتب العربية الكبري- مصطفي البابي الحلبي. [الشهيد]، و راجع: تاريخ الطبري 2: 243.

مسرعاً و ذهبا علي عجل إلي السقيفة (1) ، و كان من الممكن أن يطلب غيره من أعلام المهاجرين بعد اعتذاره عن المجي ء، فهذا الحرص لا يمكن أن نفسّره بالصداقة التي كانت بينهما، لأنّ المسألة لم تكن مسألة صداقة، و لم يكن أمر منازعة الأنصار يتوقّف علي أن يجد عمر صديقاً له بل علي أن يستعين يمن يوافقه في أحقيّة المهاجرين أيّاً كان.

و لا ننسي أن نلاحظ أنّه أرسل رسولاً إلي أبي بكر، و لم يذهب بنفسه ليخبره بالخبر خوفاً من انتشاره في البيت و تسامع الهاشميّين أو غير الهاشميّين به، و قد طلب من الرسول في المرة الثانية أن يخبره بحدوث أمر لابدّ أن يحضره. و نحن لا نري حضور أبي بكر لازماً في ذلك الموضوع إلّا إذا كانت المسألة مسألةً خاصّة و كان الهدف تنفيذ خطّة متّفق عليها سابقاً (2) .

(الثاني) موقف عمر من مسألة وفاة النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم وادّعاؤه أنّه لم يمت و لا يستقيم في تفسيره، أن نقولَ إنّ عمر ارتبك في ساعة الفاجعة، و فقد صوابه وادّعي ما ادّعي؛ لأنّ حياة عمر كلّها تدلّ علي أنّه ليس من هذا الطراز، و خصوصاً موقفه الذي وقفه في السقيفة بعد تلك القصّة مباشرةً.

ص: 77


1- 101. تاريخ الطبري 2: 242.
2- 102. راجع: تاريخ الطبري 2: 234، و فيه: عن الحميري... قال: «فحلف رجال أدركناهم من أصحاب محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم: ما علمنا أنّ الآيتين نزلتا حتّي قرأهما أبوبكر يومئذٍ؛ إذ جاء رجلٌ يسعي فقال: هاتيك الأنصار قد اجتمعت في ظلّة بني ساعدة، يبايعون رجلاً منهم، يقولون منّا أمير و من قريش أمير، قال: فانطلق أبوبكر و عمر يتقاودان حتّي أتياهم، فأراد عمر أن يتكلّم، فنهاه أبوبكر، فقال: عمر لا أعصي خليفة النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم في يوم مرّتين...» يعني في المرّة الاُولي إعلانه موت النبي، و هذه المرّة الثانية، و لاحظ تعبيره «خليفة النبيّ» قبل حصول البيعة «الفلتة» علي ما قاله لاحقاً، كما في 2: 235.

فالذي تؤثّر المصيبتة عليه إلي حدٍّ تفقده صوابه لا يقف بعدها بساعة يحاجج و يجادل و يقاوم و يناضل (1) .

و نحن نعلم أيضاً أنّ عمر لم يكن يري ذلك الرأي الذي أعلنه في تلك الساعة الحرجة قبل ذلك بأيّام أو بساعات حينما اشتدّ برسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم المرض و أراد أن يكتب كتاباً لا يضلّ الناس بعده، فعارضه عمر و قال: إنّ كتاب اللَّه يكفينا و أنّ النبيّ يهجر (2) ، أو عقد غلب عليه الوجع كما في صحاح السُنّة. فكان يؤمن بأنّ رسول اللَّه يموت و أنّ مرضه قد يؤدّي إلي موته و إلّا لما اعترض عليه

وقد جاء في تاريخ ابن كثير أنّ عرم بن زائدة قرأ الآية التي قرأها أبوبكر علي عمر قبل أن يتلوها أبوبكر فلم يقتنع عمر و إنّما قبل كلام أبي بكر خاصّة واقتنع به (3) .

فما يكون تفسي هذا كلّه إذا لم يكن تفسيره إنّ عمر شاء أن يشيع الاضطراب بمقالته بين الناس لينصرفوا إليها و تتّجه الأفكار نحوها تفنيداً أو تأييداً ما دام أبوبكر غائباً؛ لئلّا يتم في أمر الخلافة شي ء و يحدث أمر لا بُدّ أن يحضره أبوبكر- علي حدّ تعبيره- و بعد أن أقبل أبوبكر اطمأنّ باله، و أمِن من تمام البيعة للبيت الهاشمي ما دام للمعارضة صوت في الميدان، وانصرف إلي تلقّط الأخبار حادساً بما سيقع، فظفر بخبر ما كان يتوقّعه.

ص: 78


1- 103. راجع: تاريخ الطبري 2: 235.
2- 104. راجع الرواية في صحيح البخاري 1: 37 كتاب العلم- باب كتابة العلم، و 8: 161، كتاب الاعتصام- طبعة دارالعامرة- استانبول، دارالفكر- بيروت.
3- 105. البداية و النهاية/ ابن كثير 5: 213- نشر دارالكتب العلمية- بيروت.

(الثالث) شكل الحكومة التي تمخّضت عنها السقيفة، فقد تولّي أبوبكر الخلافة، و أبوعبيدة المال، و عمر القضاء (1) . و في مصطلحنا اليوم أنّ الأوّل تولّي السياسة العليا، و الثاني تولّي السياسة الاقتصاديّة، والثالث تولّي السلطات القضائية، و هي الوظائف الرئيسية في مناهج الحكم الإسلامي. و تقسيم المراكز الحيويّة في الحكومة الإسلاميّة يومئذٍ بهذا الاُسلوب علي الثلاثة الذين قاموا بدورهم المعروف في سقيفة بني ساعدة لا يأتي بالصدفة علي الأكثر و لا يكون مرتجلاً.

(الرابع) قول عمر حين حضرته الوفاة: «لو كن أبوعبيدة حيّاً لولّيته» (2) .

و ليست كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلي عمر بهذا التمنّي؛ لأنّه كان يعتقد أهليّة عليّ للخلافة و مع ذلك لم يشأ أن يتحمّل أمر الاُمّة حيّاً و ميّتاً (3) .

و ليست أمانة أبي عبيدة التي شهد له النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم بها- بزعم الفاروق- هي السبب في ذلك، لأنّ النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم لم يخصّه بالإطراء، بل كان في رجالات المسلمين يومئذٍ من ظفر بأكثر من ذلك من ألوان الثناء النبويّ (4) .

ص: 79


1- 106. الكامل في التاريخ/ ابن الأثير 2: 176 الطبعة الاُولي- مصر / الأزهرية 1301/ ه. [الشهيد]، لمّا ولي أبوبكر قال له أبوعبيدة: أنا أكفيك المال، و قال له عمر: أنا أكفيك القضاء... و كان علي مكّة عتاب بن اُسيد.
2- 107. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 64 طبعة مصطفي البابي- مصر [الشهيد]، و راجع تاريخ الطبري 2: 580، أخرج روايةً عن الأودي قال: «إنّ عمر بن الخطّاب لمّا طُعِنَ قيل له: يا أميرالمؤمنين، لو استخلفت، قال: من أستخلف؟ لو كان أبوعبيدة بن الجرّاح حيّاً استخلفته...».
3- 108. راجع تاريخ الطبري 2: 580، الأنساب/ البلاذري 5: 16 [الشهيد].
4- 109. راجع مثلاً: مختصر تاريخ ابن عساكر 17: 356 و ما بعدها، ففيه مناقب علي عليه السلام والثناء عليه، الخصائص/ النسائي: 72 ح 113، مروج الذهب/ المسعودي 2: 437، مطبعة السعادة ط 2- مصر/ 1948 م.

كما تقرّر ذلك صحاح السُنة و الشيعة.

(الخامس) اتّهام الزهراء للحاكمين بالحزبيّة السياسيّة، كما سنري في الفصل الآتي.

(السادس) قول أميرالمؤمنين- صلوات اللَّه عليه- للفاروق رضي اللَّه عنه: احلب يا عمر حلباً لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً (1) .

و من الواضح أنّه يلمّح إلي تفاهم بين الشخصين علي المعونة المتبادلة و اتّفاق سابق علي خطّة معيّنة؛ و إلّا فلم يكن يوم السقيفة نفسه ليتّسع لتلك المحاسبات السياسيّة التي تجعل لعمر شطراً من الحلب.

(السابع) ما جاء في كتاب معاوية بن أبي سفيان إلي محمد بن أبي بكر (رضوان اللَّه عليه) في اتّهام أبيه و عمر بالاتفاق علي غصب الحقّ العلوي والتنظيم السرّي لخطوط الحملة علي الإمام، إذ قال له فيما قال: فقد كنّا و أبوك نعرف فضل ابن أبي طالب و حقّه لازماً لنا مبروراً علينا، فلمّا اختار اللَّه لنبيّه (عليه الصلاة والسلام) ما عنده و أتمّ وعده و أظهر دعوته فابلج حجّته و قبضه إليه (صلوات اللَّه عليه) كان أبوك والفاروق أوّل من ابتزّه حقّه و خالفه علي أمره، علي ذلك اتّفقا و اتّسقا، ثمّ إنّهما دعواه إلي بيعتهما فأبطأ عنهما و تلكّأ عليهما فهمّا به الهموم و أراد به العظيم (2) .

ص: 80


1- 110. راجع: شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 11- الطبعة المحقّقة، و 2: 5، من الطبعة المصرية- مطبعة مصطفي البابي الحلبي [الشهيد].
2- 111. مروج الذهب/ المسعودي 3: 199- تحقيق شارل پلا- بيروت/ 1970 كتاب معاوية إلي محمّد بن أبي بكر: إنّ أباك أوّل من ابتزّه حقّه.

و نحن نلاحظ بوضوح عطفه طلب أبي بكر و عمر رضي اللَّه عنه للبيعة من الإمام ب (ثمّ) علي كلمتي اتّفقا و اتّسقا، و هو قد يشعر بأنّ الحركة كانت منظّمة بتنظيم سابق، و أنّ الاتّفاق علي الظفر بالخلافة كان سابقاً علي الإيجابيات السياسيّة التي قاما بها في ذلك اليوم.

و لا اُريد أن أتوسّع في دراسة هذه الناحية التاريخية أكثر من هذا، و لكن هل لي أن ألاحظ في ضوء ذلك التقدير التاريخي، أنّ الخليفة لم يكن زاهداً في الحكم كما صوّرة كثيرٌ من الباحثين، بل قد نجد في نفس المداورة التي قام بها الخليفة في السقيفة دليلاً علي تطلّعه للأمر، فإنّه بعد أن أعلن الشروط الأساسية للخليفة شاء أن يحصر المسألة فيه فتوصّل إلي ذلك بأن ردّد الأمر بين صاحبيه (1) اللذين لن يتقدّما عليه، و كانت النتيجة الطبيعية لهذا الترديد أن يتعيّن وحده للأمر.

فهذا الإسراع الملحوظ من الخليفة إلي تطبيق تلك الصورة التي قدّمها للخليفة الشرعي في رأيه علي صاحبيه خاصّة الذي لم يكن يؤدّي إلّا إليه، كان معناه أنّه أراد أن يسلب الخلافة من الأنصار، ويقرّها في شخصه في آن واحد، ولذا لم يُبِد تردّداً أو ما يشبه التردّد لمّا عرض الأمر عليه صاحباه. و عمر نفسه يشهد لأبي بكر بأنّه كان مداوراً سياسياً بارعاً في يوم السقيفة في حديث طويل له يصفه فيه بأنّه أحسد قريش (2) .

ص: 81


1- 112. راجع تاريخ الطبري 2: 233 قال أبوبكر: «إنّي رضيتُ لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أباعبيدة...».
2- 113. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 125 طبعة مطفي البابي- مصر. [الشهيد].

و نجد فيما يروي عن الخليفتين في أيام رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ما يدلّ علي هويً سياسي في نفسيّتهما، و أنّهما كانا يفكّران في شي ء علي أقلّ تقدير. فقد ورد في طرق العامّة أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: «إنّ منكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله، فقال أبوبكر: أنا هو يا رسول اللَّه، قال: لا، قال عمر: أنا هو يا رسول اللَّه، قال: لا و لكن خاصف النعل- يعني عليّاً» (1) .

والمقاتلة علي التأويل إنّما تكون بعد وفاة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و المقاتل لابدّ أن يكون أمير الناس، فتلهّف كل من أبي بكر و عمر علي أن يكون المقاتل علي التأويل مع أنّ القتال علي التنزيل كان متيسّراً لهما في أيّام رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و لم يشاركا فيه بنصيب قد يدلّ علي ذلك الجانب الذي نحاول أن نستكشفه في شخصيّتهما.

بل اُريد أنّ أذهب إلي أكثر من هذا فاُلاحظ أنّ اُناساً متعدّدين كانوا يعملون في صالح أبي بكر و عمر (2) و في مقدّمتهم عائشة و حفصة اللّتان

ص: 82


1- 114. الصواعق المحرقة/ ابن حجر: 123 ط 2/ مكتبة القاهرة/ 1965، مسند الإمام أحمد 3: 33، كنزالعمال 15: 94، ط 2 حيدرآباد- الدكن- الهند/ 1968، خصائص أميرالمؤمنين/ النسائي الشافعي (ت 303 ه): 131، طبعة طهران. راجع: التاج الجامع للاُصول 3: 336.
2- 115. قال الشهيد الصدر (معلِّقاً): وقد سُئل النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم عندما هدّد طائفة من قريش برجلٍ من قريش امتحن اللَّه قلبه للإيمان يضرب رقابهم علي الدين، إنّ ذلك الرجل هل هو أبوبكر؟ فقال: لا، فقيل: عمر؟ قال: لا... إلخ. مسند الإمام أحمد 3: 33، والرواية تهمل اسم السائل الذي توهّم أنّ الشخص الذي وصفه النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم هو أبوبكر أو عمر، و إذا لم يكن أبوبكر و عمر معروفين بشجاعة و بسالة في المشاهد الحربيّة علي عهد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فلا بُدّ أنّ أمراً آخر دعي السائل إلي أن يسأل ذينك السؤالين والبقية أتركها لك.

أسرعتا باستدعاء والديهما عندما طلب رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم حبيبه في لحظاته الأخيرة (1) التي كانت تجمع دلائل الظروف علي أنّها الظرف الطبيعي للوصية و لا بدّ أنّهما هما اللتان عنتهما الرواية التي تقول إنّ بعض نساء النبيّ أرسلن رسولاً إلي اُسامة لتأخيره عن السفر (2) . فإذا علمنا هذا، و علمنا أنّ هذا لم يكن بإذن النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم و إلّا لما أمره بالإسراع بالرحيل لما قدم عليه بعد ذلك (3) ، و أنّ سفره مع من معه كان يعيق عن تحقّق النتائج التي انتجها يوم السقيفة، خرجت لدينا قضية مرتّبة الحلقات علي اُسلوب طبيعي يعزّز ما ذهبنا إليه من رأي.

و مذهب الشيعة في تفسير ما قام به رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم من تجنيد جيش اُسامة معروف، و هو أنّه أحسّ بأنّ اتّفاقاً ما بين جملة من أصحابه علي أمر معيّن، و قد يجعل هذا الاتفاق منهم جبهة معارضة لعليّ.

و نحن إن شككنا في هذا فلا نشكّ في أنّ النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم قد جعل أبابكر و عليّاً في كفّتَي الميزان مراراً أمام المسلمين جميعاً ليروا بأعينهم أنّهما لا يستويان في الميزان العادل. و إلّا فهل تري إعفاء أبي بكر (4) من قراءة التوبة

ص: 83


1- 116. راجع الرواية في سنن الكبري/ النسائي 5: 145 باب 54، و أيضاً في مختصر تاريخ ابن عساكر 18/ 21.
2- 117. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 53 [الشهيد] الطبعة القديمة- المصرية- مصطفي البابي الحلبي.
3- 118. في مسألة بعث اُسامة، وطلب الإسراع بتنفيذ الحملة التي أمّر فيها النبيّ اُسامة بن زيد علي شيوخ المهاجرين والأنصار. راجع الكامل في التاريخ 2: 218، الطبقات الكبري/ ابن سعد 2: 248- 250.
4- 119. في قصّة إعفاء الخليفة الأوّل أبي بكر عن مهمّة تبليغ سورة براءة و إرسال علي بن أبي طالب لتفيذ المهمّة، راجع: مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 3، الكشاف/ الزمخشري 2: 243، الصواعق المحرقة/ ابن حجر: 32، طبعة القاهرة.

علي الكافرين بعد أن كُلّف بذلك أمراً طبيعياً؟ و لماذا انتظر الوحي وصول الصدّيق إلي منتصف الطريق لينزل علي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و يأمره باسترجاعه و إرسال عليّ للقيام بالمهمّة؟ أفكان عبثاً أو غفلة أو أمراً ثالثاً؟ و هو أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أحسَّ بأنّ المنافس المتحفّز لمعارضة ابن عمّه و وصيّه هو أبوبكر، فشاء و شاء له ربّه تعالي أن يرسل أبابكر ثمّ يرجعه بعد أن يتسامع الناس جميعاً بإرساله ليرسل عليّاً الذي هو كنفسه (1) ليوضّح للمسلمين مدي الفرق بين الشخصين و قيمة هذا المنافس الذي لم يأتمنه اللَّه علي تبليغ سورة إلي جماعة، فكيف بالخلافة والسلطنة المطلقة؟!

إذن فخرج من هذا العرض الذي فرض علينا الموضوع أن نختصره بنتيجتين:

(الاُولي) أنّ الخليفه كان يفكّر في الخلافة و يهواها و قد أقبل عليها بشغف و لهفة.

(الثانية) أنّ الصديق و الفاروق و أباعبيدة كانوا يشكّلون حزباً سياسياً مهمّاً لا نستطيع أن نضع له صورة واضحة الخطوط، ولكنّا نستطيع أن نؤكّد وجوده بدلائل متعدّدة، و لا أري في ذلك ما ينقص من شأنهم أو يحطّ من مقامهم، و لا بأس عليهم أن يفكّروا في اُمور الخلافة و يتّفقوا فيها علي سياسة موحدة إذا لم يكن لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم نصّ في الموضوع، و لا يبرؤهم

ص: 84


1- 120. راجع: الكشّاف/ الزمخشري 1: 368. و كما هو مقتضي آية المباهلة، الصواعق المحرقة/ ابن حجر: 156، أخرج الدارقطني احتجاج الإمام علي القوم و إنّه كنفس النبيّ.

إذا كان النصّ ثابتاً بعدهم عن الهوي السياسي وارتجال فكرة الخلافة في ساعة السقيفة (1) من المسؤولية أمام اللَّه و في حكم الضمير.

تحليل الموقف في قصة السقيفة

لست الآن بصدد تحليل الموقف الذي اشتبك فيه الأنصار مع أبي بكر و عمر و أبي عبيدة و شرح ما يدلّ عليه من نفسيّه المجتمع الإسلامي و مزاجه السياسي، و تطبيق قصّة السقيفة (2) علي الاُصول العميقة في الطبيعة العربية، فإنّ ذلك كلّه خارج عن الحدود القريبة للموضوع، و إنّما اُريد أن اُلاحظ أنّ الحزب الثلاثي الذي قُدّر له أن يلي الاُمور يومئذٍ كان له معارضون علي ثلاثة أقسام:

الأوّل: الأنصار الذين نازعوا الخليفة و صاحبيه في سقيفة بني ساعدة و وقعت بينهم المحاورة السابقة التي انتهت بفوز قريش بسبب تركّز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية، وانشقاق الأنصار (3) علي أنفسهم؛ لِتمَكُّن النزعة القبيلة من نفوسهم.

الثاني: الاُمويّون الذين كانوا يريدون أن يأخذوا من الحكم بنصيب و يسترجعوا شيئاً من مجدهم السياسي (4) في الجاهلية و علي رأسهم أبوسفيان.

ص: 85


1- 121. إشارة إلي قوله الخليفة عمر بن الخطّاب: «إنّ بيعة أبي بكر كانت فلْتةً غير أنّ اللَّه وقي شرّها...» تاريخ الطبري 2: 235.
2- 122. راجع: السقيفة والخلافة/ عبدالفتاح عبدالمقصود: 264.
3- 123. راجع: تاريخ الطبري 2: 243.
4- 124. المصدر السابق 2: 237، قال: «حدّثني محمّد بن عثمان بن صفوان الثقفي قال: حدّثنا أبوقتيبة، قال: حدّثنا مالك- يعني ابن مغول- عن ابن الحرّ قال: قال أبوسفيان لعليّ: ما بالُ هذا الأمر في أقلّ حيٍّ من قريش! واللَّه لو شئت لأملأنّها عليه خيلاً و رجالاً! قال: فقال عليٌّ: يا أباسفيان، طالما عاديتَ الإسلام و أهله...».

الثالث: الهاشميّون و أخصّاؤهم كعمّار و سلمان و أبي ذرّ و المقداد رضوان اللَّه عليهم و جماعات من الناس (1) الذين كانوا يروسن البيت الهاشمي هو الوارث الطبيعي لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بحكم الفطرة و مناهج السياسية التي كانوا يألفونها.

واشتبك أبوبكر و صاحباه في النزاع مع القسم الأوّل في سقيفة بني ساعدة، و ركّزوا في ذلك الموقف دفاعهم عمّا زعموا من حقوق علي نقطة كانت ذات و جاهة في نظر كثير من الناس؛ فإنّ قريشاً ما دامت عشيرة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و خاصّته (2) فهي أولي به من سائر المسلمين و أحقّ بخلافته و سلطانه.

و قد انتفع أبوبكر و حزبه باجتماع الأنصار في السقيفة من ناحيتين:

(الاُولي) أن الأنصار سجّلوا علي أنفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد ذلك إلي صف عليّ و يخدموا قضيّته بالمعني الصحيح كما سنوضّحه قريباً.

(الثانية) أنّ أبابكر الذي خدمته الظروف فأقامت منه المُدافع الوحيد عن حقوق المهاجرين في مجتمع الأنصار لم يكن ليتهيّأ له ظرف أوفق

ص: 86


1- 125. تاريخ الطبري 2: 233.
2- 126. المصدر نفسه 2: 243، قوله الخليفة الأوّل: «من ذا ينازعنا سلطان محمّد و إمارته، و نحن أولياؤه و عشيرته إلّا مُدِلٍّ بباطلٍ أو متجانفٍ لإثمٍ...».

بمصالحه من ظرف السقيفة؛ إذ خلا الموقف من أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلي نتيجتها التي سجّلتها السقيفة في ذلك اليوم.

و خرج أبوبكر من السقيفة خليفة و قد بايعه جمع من المسلمين الذين أخذوا بوجهة نظره في مسألة الخلافة أو عزّ عليهم أن يتولّاها سعد بن عبادة.

ولم يعبأ الحاكمون بمعارضة الاُمويين و تهديد أبي سفيان و ما أعلنه من كلمات الثورة بعد رجوعه من سفره الذي بعثه فيه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لجباية الأموال؛ لعلمهم بطبيعة النفس الاُموية و شهواتها السياسية والمادية. فكان من السهل كسب الاُمويّين إلي جانب الحكم القائم كما صنع أبوبكر فأباح لنفسه أو أباح له عمر بتعبير أصحّ كما تدلّ الرواية (1) ، أنّ يدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين و زكواتهم (2) ثمّ جعل للاُمويّين (3) بعد ذلك حظّاً من العمل الحكومي في عدّة من المرافق الهامّة.

و هكذا نجح الحزب الحاكم في نقطتين، و لكن هذا النجاح جرّه إلي تناقض سياسي واضح؛ لأنّ ظروف السقيفة كانت تدعو الحاكمين إلي أن يجعلوا للقرابة من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم حساباً في مسألة الخلافة و يقرّوا مذهب

ص: 87


1- 127. راجع شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 130 طبعة القاهرة- مصطفي البابي. [الشهيد].
2- 128. قد نستطيع أن نجيب في ضوء هذه القصة عمّا عرض لنا من سؤال في بداية هذا الفصل عن موقف الخليفتين لو قُدّر لهما أن يقفا موقف عليّ الذي كان يفرض عليه أن يغري كثيراً من أمثال أبي سفيان بالمال والجاه. [الشهيد]
3- 129. راجع تاريخ الطبري 2: 237، أخرج عن ثابت قال: لمّا استخلف أبوبكر قال أبوسفيان: ما لنا و لأبي فصيل، إنّما هي بنو عبدمناف! قال: فقيل له: إنّه قد ولّي ابنك، قال- أي أبوسفيان-: وَصَلَتْه رَحِم..

الوراثة للزعامة الدينية. غير أنّ الحال تبدّلت بعد موقف السقيفة والمعارضة اتّخذت لها لوناً جديداً و واضحاً كل الوضوح يتلخّص في أنّ قريشاً إذا كانت أولي برسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم من سائر العرب لأنّه منها فبنو هاشم أحقّ بالأمر من بقية قريش.

و هذا ما أعلنه عليّ حين قال: إذا أحتجّ عليهم المهاجرون بالقرب من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم كانت الحجّة لنا علي المهاجرين بذلك قائمة، فإن فلجت حجّتهم كانت لنا دونهم و إلّا فالأنصار علي دعوتهم (1) ، و أوضحه العبّاس لأبي بكر في حديث له معه إذ قال له: و أمّا قولك نحن شجرة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فإنّكم جيرانها و نحن أغصانها (2) .

و قد كان عليّ الذي تزعّم معارضة الهاشميين مصدر رعب شديد في نفوس الحاكمين؛ لأنّ ظروفه الخاصّة كانت تمدّه بقوّة علي لونين من العمل الإيجابي ضدّ الحكومة القائمة:-

أحدهما ضمّ الأحزاب المادية إلي جانبه كالاُمويّين والمغيرة بن شعبة و أمثالهم ممن كانوا قد بدأوا يعرضون أصواتهم للبيع و يفاوضون الجهات المختلفة في اشترائها بأضخم الأثمان، كما نعرف ذلك من كلمات أبي سفيان التي واجه بها خلافة السقيفة يوم وصوله إلي المدينة، و حديثه مع عليّ و تحريضه له علي الثورة، و ميله إلي جانب الخليفة، و سكوته عن المعارضة حينما تنازل له الخليفة عن أموال المسلمين (3) التي كان قد جباها

ص: 88


1- 130. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 5.
2- 131. المصدر نفسه 6: 5.
3- 132. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 130، طبعة مصطفي البابي الحلبي- القاهرة.

في سفره، و موقف عتاب بن اُسيد الذي سنشير إلي سرّه في هذا الفصل.

و إذن فقد كان الهوي المادّي مستولياً علي جماعة من الناس يومئذٍ.

و من الواضح أنّ عليّاً كان يتمكّن من إشباع رغبتهم بما خلّفه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم من الخمس و غلّات أراضيه في المدينة و فدك التي كانت ذات نتاج عظيم كما عرفنا في الفصل السابق.

والطور الآخر من المقاومة التي كان عليّ مزوّداً بإمكانياتها ما لمّح إليه بقوله: «احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة»، و أعني بذلك أنّ الفكرة العامّة يومئذٍ التي أجمعت (1) علي تقديس أهل البيت و الاعتراف لهم بالامتياز العظيم بقربهم من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم كانت سنداً قويّاً للمعارضة.

و قد رأي الحزب الحاكم أنّ موقفه الماديّ حرِج جدّاً؛ لأنّ أطراف المملكة التي تجبي منها الأموال لا تخضع للحكم الجديد إلّا إذا استقرّت دعائمه في العاصمة، و المدينة بعد لم تخضع له خضوعاً إجماعياً.

و لئن كان أبوسفيان أو غير أبي سفيان قد باع صوته للحكومة، فمن الممكن أن يفسخ المعاملة إذا عرض عليه شخص آخر اتّفاقاً أكثر منها ربحاً، و هذا ما كان يستطيع عليّ أن يقوم به في كل حين. فيجب والحالة هذه أن تنتزع من عليّ الذي لم يكن مستعدّاً للمقابلة في تلك الساعة الأموال التي صارت مصدراً من مصادر الخطر علي مصالح الحزب الحاكم ليضمن بقاء

ص: 89


1- 133. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 21، روي الزبير بن بكار، قال: روي محمّد بن إسحاق أنّ أبابكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرّة، قال: و كان عامّة المهاجرين و جلّ الأنصار لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر بعد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

الأنصار علي نصرتهم، و عدم قدرة المعارضين علي إنشاء حزب من أصحاب المطامع و الأهواء يومذاك.

و لا يجوز أن نستبعد هذا التقدير لسياسة الفئة المسيطرة ما دام منطبقاً علي طبيعة السياسة التي لابدّ من انتهاجها. و ما دمنا نعلم أنّ الصدّيق اشتري صوت الحزب الاُموي بالمال؛ فتنازل لأبي سفيان عن جميع ما كان عنده من أموال المسلمين، و بالجاه أيضاً إذ ولّي ابن أبي سفيان؛ فقد جاء أنّ أبابكر لمّا استُخلف قال أبوسفيان: ما لنا و لأبي فصيل إنّما هي بنو عبدمناف فقيل له أنّه قد ولّي ابنك قال: وصلته رحم (1) .

فلا غرابة في أن ينتزع من أهل البيت أموالهم المهمّة ليركّز بذلك حكومته، أو أن يخشي من عليّ عليه السلام أن يصرف حاصلات فدك و غير فدك علي الدعوة إلي نفسه.

و كيف نستغرب ذلك من رجل كالصدّيق و هو الذي قد اتّخذ المال وسيلة من وسائل الإغراء، واكتساب الأصوات حتّي اتّهمتهُ بذلك معاصرة له من مؤمنات ذلك الزمان فقد ورد أنّ الناس لمّا اجتمعوا علي أبي بكر قسم قسماً بين نساء المهاجرين والأنصار، فبعث إلي امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه أبوبكر للنساء، قالت: أتراشوني عن ديني؟ واللَّه لا أقبل منه شيئاً. فردّته عليه (2) .

و أنا لا أدري من أين جاء إلي الخليفة (رضي اللَّه تعالي عنه) هذا المال

ص: 90


1- 134. راجع: تاريخ الطبري 2: 237 طبعة المكتبة العلمية. [الشهيد].
2- 135. شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 1: 133. [الشهيد]، الطبقات الكبري/ ابن سعد 3: 182.

ما دامت الزكوات التي جمعها الساعي قد صارت من نصيب بطنه (1) وحدها، إن لم يكن من بقية الأموال التي خلّفها النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم و كان أهل البيت يطالبون بها.

و سواء أصحّ هذا التقدير أو لا، فإنّ المعني الذي نحاول فهمه من هذه الرواية هو أنّ بعض معاصري الصدِّيق أحسّ بما نحسّ به علي ضوء معلوماتنا التاريخية عن تلك الأيام.

و لا ننسي أن نلاحظ أنّ الظروف الاقتصادية العامّة كانت تدعوا إلي الارتفاع بماليّة الدولة والاهتمام بإكثارها استعداداً للطوارئ المترقّبة؛ فلعلّ هذا حدي بالحاكمين إلي انتزاع فدك، كما يتبيّن ذلك بوضوح من حديث لعمر مع أبي بكر يمنعه (2) فيه عن تسليم فدك إلي الزهراء و يعلّل ذلك بأنّ الدولة في حاجة إلي المال لإنفاقه في توطيد الحكم، و تأديب العُصاة، و القضاء علي الحركات الانفصالية التي قد يقوم بها المرتدّون.

و يظهر من هذا رأي للخليفتين في الملكية الفردية، هو أنّ للخليفة الحقّ في مصادرة أموال الناس لإنفاقها في اُمُور المملكة و شؤون الدولة العامّة بلا تعويض، و لا استئذان. فليس للفرد ملكية مستقرّة لأمواله و عقاره في حال احتياج السلطات إلي شي ء منها. و قد ذهب إلي هذا الرأي كثير من

ص: 91


1- 136. يقصد من نصيب الساعي و هو أبوسفيان كما في الرواية التي أوردها ابن أبي الحديد في شرح النهج: 1: 130 طبعة القاهرة- مصطفي البابي الحلبي.
2- 137. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 274، «و قد رُوي أنّ أبابكر لمّا شهد أميرالمؤمنين عليه السلام (بفدك) كتبَ بتسليمها إليها- إلي فاطمة- فاعترض عمر قضيّته، و خرّق ما كتبه...»، السيرة الحلبية 3: 391.

الخلفاء الذين انتهي إليهم الأمر بعد أبي بكر و عمر، فامتلأ تاريخهم بالمصادرات (1) التي كانوا يقومون بها: غير أنّ أبابكر لم يطبّق هذا الرأي إلّا في أملاك بنت النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم خاصّة.

و قد تردّد الحزب الحاكم في معالجة الاُسلوب الثاني من المعارضة بين اثنتين:-

(إحداهما) أن لا يقرّ للقرابة بشأن في الموضوع، و معني هذا أنه ينزع عن خلافة أبي بكر ثوبها الشرعي الذي ألبسها إياه.

(و الاُخري) أن يناقض نفه فيضلّ ثابتاً علي مبادئه التي أعلنها في السقيفة، و لا يري حقاً للهاشميين و لا امتيازاً لهم في مقاييس الرجال، أو يراه لهم و لكن في غير ذلك الظرف الذي كون يكون معني المعارضة فيه مقابلة حكم قائم و وضع تعاقد عليه الناس.

و اختارت الفئة المسيطرة أن تثبت علي آرائها التي روّجتها في مؤتمر الأنصار و تعترض علي المعارضين بأن مخالفتهم بعد بيعة الناس للخليفة ليست إلّا إحداثاً للفتنة (2) المحرّمة في عرف الإسلام.

ص: 92


1- 138. جري أكثر الخلفاء بالأخصّ الاُمويّين والعبّاسيّين علي تطبيق نظام المصادرات أو ما يعرف في عصرنا (بالتأميم) أو الاستيلاء علي الأموال المنقولة و غير المنقولة بأمرٍ من الحاكم؛ بعضها لأغراض اقتصادية- التأميم- و بعضها بسبب مخالفة من صودرت أموالهم للدولة. راجع بحثاً مفصّلاً عن المصادرات في التاريخ/ الدكتور محمّد سعيد رضا/ مجلة كلية الآداب- جامعة البصرة- العدد 15/ 1978.
2- 139. تاريخ الطبري 2: 234- 235 أحداث قصة السقيفة، و راجعها في الكامل/ ابن الأثير.

و هذا هو الاُسلوب الوقتي الذي اتّخذه الحاكمون للقضاء علي هذا الجانب من المعارضة الهاشمية، و قد ساعدتهم الظروف الإسلامية الخاصّة يومئذٍ علي نجاحه كما سنوضّحه.

غير أنّنا نحسّ و نحن ندرس سياسة الحاكمين بأنّهم انتهجوا منذ اللحظة الاُولي سياسة معينة تجاه آل محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم للقضاء علي الفكرة التي أمدّت الهاشميين بقوّة علي المعارضة كما خنقوا المعارضة نفسها. و نستطيع أن نصف هذه السياسة بأنّها تهدف إلي إلغاء امتياز البيت الهاشمي، و إبعاد أنصاره والمخلصين له عن المرافق الهامّة في جهاز الحكومة الإسلامية يومئذٍ و تجريده عمّا له من الشأن و المقام الرفيع في الذهنية الإسلامية.

و قد يعزّز هذا الرأي عدّه ظواهر تاريخية:

(الاولي) سيره الخليفه و اصحابه مع علي التي بلغت من الشده أنّ عمر هدد بحرق بيته و أنّ كانت فاطمة فيه (1) ، و معني هدا اعلان أنّ فاطمة و غير فاطمة من آلها ليس حرمه تمنعهم عن أنّ يتخذ معهم نفس الطريقه التي سار عليها مع سعد بن عباده حين امر الناس بقتله (2) . و من صور ذلك العنف وصف الخليفه لعلي بانه مرب لكل فتنه و تشبيهه له بام طحال احب الي اهلها اليها البغي (3) ، و قد قال عمر لعلي بكل وضوح: أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم

ص: 93


1- 140. تاريخ الطبري 2: 233، العقد الفريد / ابن عبدريه 4: 242 و ما بعدها، شرح ابن ابي الحديد 16: 47- 48.
2- 141. راجع تاريخ الطبري 2: 244 في قصه السقيفه:... فقال ناس من اصحاب سعد: «اتقوا سعدا لا تطووه، فقال عمر: اقتلوه قتله اللَّه، ثم قام علي راسه فقال: لقد هممت أنّ اطاك حتي تندر عضدك...».
3- 142. شرح نهج البلاغه 16: 215.

منّا و منكم.

(الثانية) أنّ الخليفة الأوّل لم يشارك شخصاً من الهاشميّين في شأن من شؤون الحكم المهمّة، و لا جعل فيهم والياً علي شبر من المملكة الإسلامية الواسعة مع أنّ نصيب الاُمويّين في ذلك كان عظيماً (1) .

و أنت تفهم بوضوح أنّ هذا وليد سياسة متعمّدة من محاورة وقعت بين عمر و ابن عبّاس أظهر فيه تخوّفه من تولية الثاني حمص؛ لأنّه يخشي إذا صار الهاشميّون ولاة علي الأقطار المملكة الإسلامية أن يموت و هم كذلك فيحدث في أمر الخلافة ما لا يريد (2) .

و نحن إذا عرفنا من رأي عمر أن ظفر ببيتٍ من البيوت الطامحة إلي السلطان بالولاية في الأقطار الإسلامية يهيّؤهم لنَيل الخلافة والمركز الأعلي، و لاحظنا أنّ الاُمويّين ذوي الألوان السياسية الواضحة كان فيهم ولاة احتلّوا الصدارة في المجالات الإدارية أيام أبي بكر و عمر، و أضفنا إلي ذلك أنّه كان يعلم علي أقل تقدير بأنّ الشوري التي ابتكرها سوف تجعل من شيخ الاُمويّين عثمان خليفة، خرجنا بنتيجة مهمّة و تقدير تاريخي تدلّ علي صحتّه عدّة من الظواهر، و هو أنّ الخليفتين كانا يهيّئان للسلطان الاُموي أسبابه و معدّاته، و هما يعلمان حقّ العلم أنّ إنشاء كيان سياسي من جديد للاُمويين خصوم بني هاشم القدامي معناه تقديم المنافس للهاشميّين في

ص: 94


1- 143. تاريخ الطبري 2: 337، ثم تولية الخليفة الأوّل معاوية بن أبي سفيان و اُقرّت الولاية من قِبل الخليفة الثاني.
2- 144. راجع مروج الذهب علي هامش الجزء الخامس من تاريخ ابن الأثير ص 135. [الشهيد]. تاريخ الطبري 2: 578، طبعة دارالكتب العلمية.

زعيم اُمويّ، و تطوّر المعاوضة الفردية للبيت الهاشمي إلي معارضة بيت مستعد للنزاع والمنافسة أكمل استعداد.

و من شأن هذه المعارضة أنّها تطول و تتّسع لأنّها ليست متمثّلة في شخص بل في بيت كبير، و نستطيع أن نفهم من هذا أنّ سياسة الصدّيق و عمر هي التي وضعت الحجر الأساسي لملك بني اُميّة حتّي يضمنا بذلك المنافس لعليّ و آل عليّ علي طول الخطّ (1) .

(الثالثة) عزل الخليفة لخالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجّهه لفتح الشام بعد أن أسندها إليه لا لشي ء إلّا لأنّ عمر نبّهه إلي نزعته الهاشمية و ميله إلي آل محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و ذكّره بموقفه تجاهخم بعد وفاة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم (2) .

ولو كنّا نريد التوسّع في دراسة هذه الناحية لعطفنا علي هذه الشواهد قصّة الشوري العمرية (3) التي نزل فيها عمر (رضي اللَّه تعالي عنه) بعليّ عليه السلام إلي صفّ أشخاصٍ خمسة لا يكافئون عليّاً في شي ء من معانيه المحمّدية، و قد كان الزبير و هو أحد الخمسة يري يوم توفّي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أنّ الخلافة حقّ شرعي لعليّ، فلاحظ كيف انتزع عمر هذا الرأي من عقله و أعدّه للمنافسة بعد حين؛ إذ جعله أحد الستّة الذين فيهم عليّ.

ص: 95


1- 145. و هذا هو السرّ السياسي الذي غفل عنه الباحثون في قصّة الشوري. و قد جاء عن عمر أنّه هدد الستّة الذين أوكل إليهم الأمر بمعاوية، و تنبأ لهم بأنّه سيملك الأمر.. راجع شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 62، و هذا إن دلّ علي فراسته، فهو علي لون سياسته أدلّ. [الشهيد].
2- 146. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 135. [الشهيد].
3- 147. راجع في قصة الستّة الشوري- تاريخ الطبري 2: 580- 581.

و إذن فقد كانت الفئة الحاكمة تحاول أن تساوي بين بني هاشم و سائر الناس و ترتفع برسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم عن الاختصاص بهم لتنتزع بذلك الفكرة التي كانت تزوّد الهاشميين بطاقة علي المعارضة. و لئن اطمأن الحاكمون إلي أنّ عليّاً لا يثور عليهم في تلك الساعة الحرجة علي الإسلام، فهم لا يأمنون من انتفاضه بعد ذلك في كل حين، و من الطبيعي حينئذٍ أن يسارعوا إلي الإجهاز علي كلتا قوّتيه المادّية والمعنوية ما دامت الهدنة قائمة قبل أن يسبقهم إلي حرب أكول.

و من المعقول بعد هذا أن يقف الخليفة موقفة التاريخي المعروف من الزهراء في قضية فدك، فهو موقف تلاقي فيه الغرضان تركّز علي الخطّين الأساسيّين لسياسته؛ لأنّ الدواعي التي بعثته إلي انتزاع فدك كانت تدعوه إلي الاستمرار علي تلك الخطّة ليسلب بذلك من خصمه الثروة التي كانت سلاحاً قويّاً في عرف الحاكمين يومذاك، و يعزّز بها سلطانه، و إلّا فما الذي كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن أعطته الوعد القاطع بأن تصرف منتوجاتها في سبيل الخير و وجوه المصلحة العامة؟! (1) إلّا أنّه خاف منها أن تفسّر وعدها بما يتّفق مع صرفها لغلّات فدك في المجالات السياسية. و ما الذي صدّه عن إرضاء فاطمة بالتنازل لها عن حصّته و نصيب الصحابة إذا صحّ أنّ فدك مُلك للمسلمين سوي أنّه أراد أن يقوّي بها خلافته؟

و أيضاً فإنّنا إذا عرفنا أنّ الزهراء كانت سنداً قويّاً لقرينها في دعوته إلي نفسه، و دليلاً يحتج به أنصار الإمام علي أحقيّته بالأمر، نستوضح أنّ الخليفة

ص: 96


1- 148. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 4: 80 [الشهيد] طبعة قديمة.

كان موفّقاً كلّ التوفيق في موقفه تجاه دعوي الزهراء للنحلة، و جارياً علي المنهج السياسي الذي كان يفرضه عليه الظرف الدقيق؛ إذ اغنتم الفرصة المناسبة لإفهام المسلمين بصورة لبقة، و علي اُسلوب غير مباشر بأنّ فاطمة امرأة من النساء و لا يصحّ أن تؤخذ آراؤها و دعاويها دليلاً في مسألة بسيطة كفدك فضلاً عن موضوع كالخلافة، و أنّها إذا كانت تطلب أرضاً ليس لها بحقّ فمن الممكن أن تطلب (1) لقرينها المملكة الإسلامية كلّها و ليس له فيها حقّ.

و نخرج من البحث بنتيجة و هي أنّ تأميم الصدِّيق لفدك يمكن تفسيره:

1- بأنّ الظرف الاقتصادي دعي إلي ذلك.

2- بأنّ أبابكر خشي أن يصرف عليّ ثروة قرينته في سبيل التوصّل إلي السلطان.

و إنّ موقفه من دعواي الزهراء بعد ذلك و استبساله في رفضها قد يكون مردّه إلي هذين السببين:

1- إلي مشاعر عاطفية كانت تنطوي عليها نفس الخليفة رضي اللَّه عنه عرضنا لجملة من أسبابها فيما سبق.

2- وحدة سياسية عامّة بني عليها الصدِّيق سيرته مع الهاشميين و قد تبيّناها من ظواهر الحكم يومئذٍ.

ص: 97


1- 149. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 284، الطبعة المحققة/ أبوالفضل إبراهيم، و فيه جواب مدرّس المدرسة الغربية عليّ بن الفارقي بهذا المعني عندما سأله ابن أبي الحديد... و قد عقّب عليه بأنّه كلام صحيح.

الامام علي خصائصه و موقفه من الخلافة

لعلّ أعظم رقم قياسي ضربه أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام للتضحية في سبيل الإسلام و الإخلاص للمبدأ إخلاصاً جرّده عن جميع الاعتبارات الشخصية و أقام منه حقيقة سامية سموّ المبدأ ما بقي للمبدأ حياة هو الرقم الذي سجّله بموقفه (1) من خلافة الشوري و قدّم بذلك في نفسه مثلاً أعلي للتفاني في المبدأ الذي صار شيئاً من طبيعته.

إن كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قد تمكّن من محو ضلال الوثنية، فقد استطاع أن يجعل من عليّ بما أفاض عليه من حقائق نفسه عيناً ساهرة علي القضية الإلهية، فنامت فيه الحياة الإنسانية بأهوائها و مشاعرها و صار يحيا بحياة المبدأ و العقيدة (2) .

ص: 98


1- 150. لاحظ موقفه من محاولة أبي سفيان، و دعوته إلي مجابهة مسلّحة تسيل فيها الدماء، مع الخلافة، التي انبثقت عن الشوري، فقد ذكر الطبري في تاريخه 2: 237 حُدثت عن هشام، قال: حدّثني عوانه، قال: لمّا اجتمع الناس علي بيعة أبي بكر، أقبل أبوسفيان، و هو يقول: واللَّه إنّي لأري عجاجة لا يطفئها إلّا دَمٌ؟ يا آل عبدمناف فيمَ أبوبكر من اُموركم!... و قال: أباحسن ابسط يديك أبايعك فأبي عليٌّ، فجعل يتمثّل بأبيات... قال الرواي: فزجره عليّ و قال: إنّك واللَّه ما أردت بهذا إلّا الفتنة، و إنّك واللَّه طالما بغيت الإسلام شرّاً!
2- 151. قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «عليٌّ مع الحقّ، والحقُّ مع عليّ، و لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض يوم القيامة»، راجع في إخراج هذا الحديث: تاريخ بغداد/ الخطيب البغدادي 14: 321، تفسير الفخر الرازي 1: 111، المناقب/ الخوارزمي: 77، المعجم الصغير/ الطبراني 1: 255. [الشهيد] و في حديث آخر: «رحم اللَّه عليّاً: اللّهمّ أدر الحقّ معه حيثما دار». راجع: التاج الجامع للاُصول/ الشيخ منصور علي ناصف 3: 337 قال: أخرجه الترمذي، مستدرك الحاكم 3: 125 [الشهيد]، كنزالعمال 6: 175، جامع الترمذي 2: 213. [الشهيد].

و إن كان للتضحية الإنسانية الفاضلة كتاب فاعمال عليّ عنوان ذلك الكتاب المشع بأضواء الخلود (1) .

و إن كان لمبادئ السماء التي جاء بها محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم تعبير عمليّ علي وجه الأرض فعلي هو تعبيرها الحيّ علي مدي الدهور و الأجيال.

و إن كان النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم قد خلّف في اُمّته عليّاً والقرآن (2) فإنّما جمع بينهما ليكون القرآن تفسيراً لمعاني عليّ العظيم، و لتكون معاني عليّ أنموذجاً لمثل القرآن الكريم.

و إن كان اللَّه تعالي قد جعل عليّاً نفس رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في آية المباهلة (3) فلأجل أن يفهم المسلمون أنّه امتداد طبيعي لمحمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم و شعاع متألّق من روحه العظيمة.

و إن كان النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم قد خرج من مكّة مهاجراً خائفاً علي نفسه و خلّف

ص: 99


1- 152. قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «لَضربة عليّ يوم الخندق خيرٌ من عبادة الثقلين، أو قال: لَمبارزة عليّ لعمرو أفضل من أعمال اُمّتي إلي يوم القيامة». راجع: المستدرك/ الحاكم 3: 32. [الشهيد] نشر دار المعرفة- بيروت.
2- 153. قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين أو الخليفتين ما إن تمسّتكتم بهما لن تضلّوا بعدي، كتاب اللَّه و عترتي، و إنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض». راجع صحيح مسلم 4: 1874، صحيح الترمذي 1: 130، سنن الدارمي 2: 432، مسند الإمام أحمد 4: 217، المستدرك 3: 119.
3- 154. آية المباهلة، راجع تفسير الفخر الرازي/ سورة آل عمران: 261، الصواعق المحرقة: 143، أسباب النزول/ الواحدي: 67 دارالكتب العلمية- بيروت.

عليّاً علي فراشه (1) ليموت بدلاً عنه، فمعني ذلك أنّ المبدأ المقدّس هو الذي كان يرسم للعظيمين خطوط حياتهما، و إذا كان لا بدّ للقضية الإلهية من شخص تظهر به و آخر يموت في سبيلها، فيلزم أن يبقي رجُلها الأوّل لتحيا به، و يقدّم رجُلها الثاني نفسه قرباناً لتحيا به أيضاً.

و إن كان عليّ هو الذي أباحت له السماء خاصّة النوم في المسجد والدخول فيه جنباً (2) فمفهوم هذا الاختصاص أنّ في معانيه معني المسجد لأنّ المسجد رمز السماء الصامت في دنيا المادّة و عليّ هو الرمز الإلهي الحيّ في دنيا الروح والعقيدة.

و إن كانت السماء قد امتحدت فتوّة عليّ و أعلنت عن رضاها عليه إذ قال المنادي: لا سيف إلّا ذوالفقار و لا فتي إلّا علي (3) ، فإنّها عنت بذلك أنّ فتوة عليّ وحدها هي الرجولة الكاملة التي لا يرتفع إلي مدادها إنسان و لا ترقي إلي اُفقها بطولة الأبطال و إخلاص المخلصين.

و من مهزلة الأقدار أنّ هذه الفتوّة التي قدّسها الهاتف الإلهي كانت عيباً في رأي مشايخ السقيفة (4) و نقصاً في عليّ يؤاخَذ عليه و ينزل به عن

ص: 100


1- 155. راجع تفسير الرازي 5: 204، نشر دارالكتب العلمية- طهران، سيرة ابن هشام 2: 95، مطبعة الحجازي/ ط 10، تذكرة سبط ابن الجوزي: 34.
2- 156. راجع مسند الإمام أحمد بن حنبل 4: 369، و شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 2: 451، و تذكرة الخواص/ سبط ابن الجوزي: 41، والصواعق المحرقة/ ابن حجر: 123، تاريخ الخلفاء/ السيوطي: 172 قال: أخرجه البزار عن سعد. [الشهيد]
3- 157. راجع: تاريخ الطبري 2: 65، دارالكتب العلمية- بيروت [الشهيد]. و ابن هشام في سيرته، و ابن أبي الحديد في شرح نهج. [الشهيد]
4- 158. راجع شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 45، و فيها: محاورة بين الخليفة الثاني عمرو ابن عبّاس، قال الخليفة عمر: «يا ابن عبّاس ما أظنّ القوم منعهم من صاحبك إلّا أنهم استصغروه... قال ابن عبّاس: فقلت: واللَّه ما استصغره اللَّه حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر...». و في ص 12 من شرح النهج: قول أبي عبيدة: «يا أباالحسن إنّك حديث السنّ و هؤلاء مشيخة قريش قومك».

الصدّيق الذي لم يكن يمتاز عليه إلّا بسنين قضاها كافراً مشركاً. و أنا لا أدري كيف صار الازدواج بين الجاهلية والإسلام في حياة شخصٍ واحدٍ مجداً يمتاز به عمّن خصلت حياته كلّها للَّه (1) .

و لئن ظهرت للناس في البحوث الجديدة القوّة الطبيعية التي تجعل الأجسام الدائرة حول المحور تسير علي خطّ معيّن، فلقد ظهرت في عليّ قبل مئات السنين قوّة مثلها و لكنّها ليست من حقائق الفيزيا، بل من قوي السماء و هي التي جعلت من عليّ مناعة طبيعية للإسلام حفظت له مقامه الأعلي ما دام الإمام حيّاً، و محوراً تدور عليه الحياة الإسلامية لتستمدّ منه روحانيتها و ثقافتها و جوهرها سواء أكان علي رأس الحكم أو لا.

و قد علمت هذه القوّة عملها السحري في عمر نفسه، فجذبته إلي خطوطها المستقيمة مراراً حتّي قال: لولا علي لهلك عمر (2) ، و ظهر تأثيرها الجبّار في التفاف المسلمين حوله في اليوم الذي اُسندت فيه مقدّرات الخلافة إلي عامّة المسلمين، ذلك الالتفاف الفذّ (3) الذي يقل مثيله في تاريخ الشعوب.

و نعرف من هذا أنّ علياً بما جهّزته السماء به من تلك القوّة، كان

ص: 101


1- 159. راجع الصواعق المحرقة: 120.
2- 160. راجع: الطبقات الكبري/ ابن سعد 2: 339، الصواعق المحرقة: 127.
3- 161. تاريخ الطبري 2: 696 و ما بعدها.

ضرورة من ضرورات الإسلام (1) التي لا بدّ منها و شمساً يدور عليها الفلك الإسلامي بعد النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم بحسب طبيعته التي لا يمكن أن تقاوم حتّي التجأ الفاروق إلي مسيرتها كما عرفت.

و يتجلّي لدنيا أيضاً أن الانقلاب الفجائي في السياسة الحاكمة لم يكن ممكناً يومئذٍ لأنّه- مع كونه طفرة- يناقض تلك القوّة الطبيعية المركّزة في شخصية الإمام، فكان من الطبيعي أن تسير السياسة الحاكمة في خطّ منحنٍ حتّي تبلغ النقطة التي وصل إليها الحكم الاُموي؛ تفادياً من تأثير تلك القوة الساهرة علي الاعتدال والانتظام كما ينحني السائق بسيارته عندما ينحرف بها إلي نقطة معاكسة تحذّراً من القوّة الطبيعية التي تفرض الاعتدال في السير. و هذا الفصل الرائع من عظمة الإمام يستحقّ دراسة وافية مستقلّة قد تقوم بها في بعض الفرص لنكشف بها عن شخصية عليّ المعارض للحكم والساهر علي قضية الإسلام والموفِّق بين حماية القوّة الحاكمة من الانحراف و بين معارضتها في نفس الوقت.

و إن كانت مواقف الإمام كلّها رائعة، فموقفه من الخلافة بعد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم من أكثرها روعة (2) .

و إن كانت العقيدة الإلهية تريد في كل زمان بطلاً يفتديها بنفسه، فهي

ص: 102


1- 162. و علي ضوء ما بيّناه نفهم قول رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لعليٍّ: لا ينبغي أن أذهب إلّا و أنت خليفتي. و قوله له عندما تهيّأ للخروج إلي غزوة تبوك: لا بدّ أن اُقيم أو تقيم. راجع: مسند الإمام أحمد 1: 331، ذخائر العقبي: 87، الخصائص/ النسائي: 80- 81. [الشهيد]، صحيح الترمذي 5: 596 مطبعة دارالفكر.
2- 163. سيأتي بيان هذه النقطة في الفصل الأخير.

تريد أيضاً بطلاً يتقبّل القربان و يعزّز به المبدأ، و هذا هو الذي بعث بعليّ إلي فراش الموت (1) و بالنبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم إلي مدينة النجاة يوم الهجرة الأغرّ كما أشرنا إليه قريباً، و لم يكن ليتهيّأ للإمام في محنته بعد وفاة أخيه أن يقدّم لها كِلا البطلين؛ لأنّه لو ضحّي بنفسه في سبيل توجيه الخلافة إلي مجراها الشرعي في رأيه لما بقي بعده من يسمك الخيط من طرفيه، و ولدا رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم طفلان لا يتهيّأ لهما من الأمر ما يريد.

وقف عليّ عند مفترق طريقين كل منهما حرج و كلّ منهما شديد علي نفسه:-

(أحدهما) أن يعلن الثورة المسلّحة علي خلافة أبي بكر.

(والآخر) أن يسكت و في العين قذي، و في الحلق شجا، و لكن ماذا كان يترقّب للثورة من نتائج؟ هذا ما نريد أن نتبيّنه علي ضوء الظروف التاريخية لتلك الساعة العصبية.

إنّ الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدني معارضة و هم من عرفناهم حماسة و شدّة في أمر الخلافة. و معني هذا أنّهم سيقابلون و يدافعون عن سلطانهم الجديد، و من المعقول جدّاً حينئذٍ أن يغتنم سعد بن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اُخري في سبيل أهوائه السياسية، لأنّنا نعلم أنّه هدّد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة و قال: «لا واللَّه حتّي

ص: 103


1- 164. راجع الرازي في التفسير الكبير/ 5: 204 في افتداء الإمام عليّ عليه السلام النبيّ الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم في يوم هجرته المباركة و انجاء الرسول من الموت، و فيه نزلت الآية المباركة: (وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) البقرة/ 207.

أرميكم بما في كنانتي و اُخضّب سنان رمحي و أضرب بسيفي و اُقاتلكم بأهل بيتي و من أطاعني و لو اجتمع معكم الإنس و الجنّ ما بايعتكم» (1) . و أكبر الظنّ أنّه تهيب الإقدام علي الثورة و لم يجرأ علي أن يكون أوّل شاهر للسيف ضد الخلافة القائمة، و إنّما اكتفي بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة إعلان الحرب، و أخذ يترقّب تضعضع الأوضاع ليشهر سيفه بين السيوف، فكان حريّاً به أن تثور حماسته و يزول تهيّبه و يضعف الحزب القائم في نظره إذا رأي صوتاً قويّاً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة و يحاول إجلاء المهاجرين من المدينة بالسيف (2) كما أعلن ذلك المتكلّم عن لسانه في مجلس السقيفة.

و لا ننسي بعد ذلك الاُمويّين و تكتّلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان، و ما كان لهم من نفوذ في مكّة في سنواتها الجاهلية الأخيرة، فقد كان أبوسفيان زعيمها في مقاومة الإسلام والحكومة النبويّة، و كان عتاب ابن اُسيد ابن أبي العاص بن اُميّة أميرها المطاع في تلك الساعة.

و إذا تأمّلنا ما جاء في تاريخ تلك الأيام (3) من أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لمّا توفّي و وصل خبره إلي مكّة و عامله عليها عتاب بن اُسيد بن أبي العاص بن اُميّة استخفي عتاب و ارتجّت المدينة و كاد أهلها يرتدّون، فقد لا نقتنع بما يعلل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والإيمان. كما أنّي لا اُوْمن بأنّ

ص: 104


1- 165. راجع تاريخ الطبري 2: 244.
2- 166. تاريخ الطبري 2: 243، قصة السقيفة، قول الحبّاب بن المنذر: «أمّا واللَّه لئن شئتم لنعيدنّها جذَعَة...».
3- 167. الكامل في التاريخ/ ابن الأثير 3: 123 وصلَ خبر وفاة الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم و كان عتاب بن اُسيد ابن أبي العاص بن اُميّة أميراً علي مكّة.

مردّ ذلك التراجع إلي أنّهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم و انتصارهم علي أهل المدينة كما ذهب إليه بعض الباحثين؛ لأنّ خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفّي فيه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و أكبر الظنّ أنّ خبر الخلافة جاءهم مع خبر الوفاة، بل تعليل القضية في رأيي أنّ الأمير الاُموي عتاب بن اُسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتّخذته اُسرته في تلك الساعة، فاستخفي و أشاع بذلك الاضطراب حتّي إذا عرف انّ أباسفيان قد رضي بعد سخط و انتهي مع الحاكمين إلي نتائج في صالح البيت الاُموي (1) ظهر مرّة اُخري للناس و أعاد الاُمور إلي مجاريها. و عليه فالصلة السياسية بين رجالات الاُمويّين و كانت قائمة في ذلك الحين. و هذا التقدير يفسّر لنا القوة التي تكمن وراء أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً علي أبي بكر و أصحابه، إذ قال: إنّي لأري عجاجة لا يطفيها إلّا الدم، و قال عن عليّ و العبّاس: أمّا والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما (2) . فالاُمويّون قد كانوا متأهّبين للثورة والانقلاب، و قد عرف عليّ منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزّعم المعارضة و لكنّه عرف أنّهم ليسوا من النيا الذين يعتمد علي تأييدهم، و إنّما يريدون الوصول إلي أغراضهم عن طريقة، فرفض طلبهم، و كان من المنتظر حينئذٍ أن يشقّوا عصا الطاعة إذا رأوا الأحزاب المسلّحة تتناحر، و لم يطمئنوا إلي قدرة الحاكمين علي ضمان مصالحهم، و معني انشقاقهم حينئذٍ إظهارهم للخروج عن الدين و فصل مكّة عن المدينة.

ص: 105


1- 168. راجع تاريخ الطبري/ 2: 237، هدأت ثائرة أبي سفيان بعد أن ولّي الخليفة الأوّل ابنه معاوية... فقال: وصلته رحم.
2- 169. تاريخ الطبري 2: 237.

و إذن فقد كانت الثورة العلوية في تلك الظروف إعلاناً لمعارضة دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتّي، و كان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه المشاغبون ثمّ المنافقون.

و لم تكن ظروف المحنة تسمح لعليّ بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم، بل لتناحرت ثورات شتّي، و تقاتلت مذاهب متعدّدة الأهداف والأعراض، و يضيع بذلك الكيان الإسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب أن يلتف فيها المسلمون حول قيادة موحّدة، و يركّزوا قواهم لصدّ ما كان يترقّب أن تتمخّض عنه الظروف الدقيقة من فتن و ثورات.

إنّ عليّاً الذي كان علي أتمّ استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع أدوار حياته (1) منذ أن وُلد في البيت الإلهي و إلي أن قُتِل فيه، قد ضحّي بمقامه الطبيعي و منصبه الإلهي في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم وصيّاً عليها و حارساً لها.

و لفقدت بذلك الرسالة المحمّدية الكبري بعض معناها؛ فإنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لمّا أمره ربّه بتبليغ دعوته و الإنذار برسالته جمع بني عبدالمطّلب و أعلن عن نبوّته بقوله: (إنّي واللَّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به). و عن إمامة أخيه بقوله: (إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا) (2) و معني ذلك أنّ إمّامة عليّ تكملة طبيعية لنبوّة

ص: 106


1- 170. راجع مختصر تاريخ ابن عساكر/ ابن منظور 17: 356 و ما بعدها، الخصائص/ النسائي، تذكرة الخواص/ سبط ابن الجوزي و غيرهم كثير، ينقلون لك مواقف ابن أبي طالب منذ الأيام الأولي للرسالة إلي أن توفّاه اللَّه تعالي شهيداً في المحراب.
2- 171. تاريخ الطبري 3: 218- 219، المطبعة الحسينية بمصر- الطبعة الاُولي/ 1903، تفسير الخازن 3: 371، و شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد- الطبعة القديمة. [الشهيد]

محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم و أنّ الرسالة السماوية قد أعلنت عن نبوّة محمّد الكبير صلي اللَّه عليه و آله و سلم و إمامة محمّد الصغير في وقت واحد.

إنّ عليّاً الذي ربّاه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و ربّي الإسلام معه- فكانا ولديه العزيزين- كان يشعر بإخوّته لهذا الإسلام. و قد دفعه هذا الشعور إلي افتداء أخيه بكل شي ء حتّي أنّه اشترك في حروب الردّة التي أعلنها المسلمون يومذاك (1) ، و لم يمنعه تزعّم غيره لها عن القيام بالواجب المقدّس؛ لأنّ أبابكر إن كان قد ابتزّه حقّه و نهب تراثه، فالإسلام قد رفعه إلي القمّة و عرف له أخوّته الصادقة و سجّلها بأحرف من نور علي صفحات الكتاب الكريم.

و صمد الإمام علي ترك الثورة و لكن ماذا يفعل؟ و أي اُسلوب يتّخذه لموقفه؟ هل يحتجّ علي الفئة الحاكمة بنصوص النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم و كلماته التي أعلنت أنّ عليّاً هو القطب المعدّ لأن يدور عليه الفلك الإسلامي والزعيم الذي قدّمته السماء إلي أهل الأرض (2) ؟؟

تردّد هذا السؤال في نفسه كثيراً ثمّ وضع له الجواب الذي تعيّنه ظروف محنته و تلزمه به طبيعة الأوضاع القائمة، فسكت عن النصّ إلي حين.

مسألة عدم الاحتجاج بالنص

و نحن نتبيّن من الصورة المشوشّة التي عرفناها عن تلك الظروف والأوضاع

ص: 107


1- 172. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 4: 165. [الشهيد]
2- 173. كما هو نصّ حديث الغدير المتواتر و نصوص اُخري تؤكّد أنّ عليّاً هو وليّ المؤمنين بعد النبيّ. راجع: التاج الجامع للاُصول 3: 335، و أخرجه ابن ماجة في سننه- المقدّمة 1: 11، مسند الإمام أحمد 4: 281، الصواعق المحرقة: 122، مكتبة القاهرة، ط 2/ 1965.

أنّ الاعتراض بتلك النصوص المقدّسة والاحتجاج بها في ساعة ارتفع فيها المقياس الزئبقي للأفكار المحمومة والأهواء الملتهبة التي سيطرت علي الحزب الحاكم إلي الدرجة العالية، كان من التقدير المعقول افتراض النتائج السيئة له؛ لأنّ أكثر النصوص (1) التي صدرت من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في شأن الخلافة لم يكن قد سمعها إلّا مواطنوه في المدينة من مهاجرين و أنصار، فكانت تلك النصوص إذن الأمانة الغالية عند هذه الطائفة التي لا بدّ أن تصل عن طريقهم إلي سائر الناس في دنيا الإسلام يومئذٍ و إلي الأجيال المتعاقبة والعصور المتتالية. و لو احتجّ الإمام علي جماعة أهل المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في شأنه و أقام منها دليلاً علي إمامته و خلافته لكان الصدي الطبيعي لذلك أن يكذّب الحزب الحاكم صدِّيق الاُمّة (2) في دعواه و ينكر تلك النصوص التي تمحو من خلافة الشوري لونها الشرعي و تعطّل منها معني الدين.

و قد لا يجد الحقّ صوتاً قويّاً يرتفع به في قبال ذلك الإنكار؛ لأنّ كثيراً من قريش و في مقدّمتهم الاُمويّون كانوا طامحين إلي مجد السلطان و نعيم الملك، و هم يرون في تقديم الخليفة علي أساس من النصّ النبويّ تسجيلاً لمذهب الإمامة الإلهية. و متي تقرّرت هذه النظرية في عرف الحكم

ص: 108


1- 174. النصوص التي صدرت عن الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم بحقّ الإمام علي عليه السلام في الخلافة والإمامة والولاية لا تحصي كثرةً؛ راجع علي سبيل المثال: كتاب الغدير/ العلّامة الأميني، مختصر تاريخ ابن عساكر 17: 356 و ما بعدها، التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم 3: 333 و ما بعدها، الصواعق المحرقة: 122 قال: روي حديث الغدير ثلاثون صحابياً.
2- 175. راجع: الصواعق المحرقة: قال أميرالمؤمنين: «أنا الصدِّيق الأكبر لا يقولها غيري إلّا كذّاب.

الإسلامي كان معناها حصر الخلافة في بني هاشم آل محمّد الأكرمين و خروج غيرهم من المعركة خاسراً. و قد نلمح هذا اللون من التفكير في قول عمر لابن عبّاس معلّلاً إقصاء عليّ عن الأمر: «إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوّة» (1) فقد يدلّنا هذا علي أن إسناد الأمر إلي عليّ في بداية الأمر كان معناه في الذهنية العامّة حصر الخلافة في الهاشميّين، و ليس لذلك تفسير أولي من أنّ المفهوم لجمهرة من الناس يومئذٍ من الخلافة العلوية تقرير شكل ثابت للخلافة يستمد شرعيّته من نصوص السماء لا من انتخاب المنتخبين. فعليٌّ إنْ وَجدَ نصيراً من عليّةِ قريش يشجعه علي مقاومة الحاكمين، فإنّه لا يجد عَضُداً في مسألة النصّ إذا تقدّم إلي الناس يحدّثهم أن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قد سجّل الخلافة لأهل بيته حين قال: إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب اللَّه، و عترتي أهل بيتي الخ (2) .

و أمّا الأنصار فقد سبقوا جميع المسلمين إلي الاستخفاف بتلك النصوص، والاستهانة بها، إذ حدت بهم الشراهة إلي الحكم إلي عقد مؤتمر في سقيفة بني ساعدة ليصفقوا علي يد واحد (3) منهم. فلن يجد عليّ فيهم إذا استدلّ بالنصوص النبويّة جنوداً للقضية العادلة و شهوداً عليها، لأنّهم إذا شهدوا علي ذلك يسجّلون علي أنفسهم تناقضاً فاضحاً في يوم واحد و هذا ما يأبونه علي أنفسهم بطبيعة الحال.

ص: 109


1- 176. راجع: تاريخ ابن الأثير 3: 24. [الشهيد]، تاريخ الطبري 2: 577، محاورة الخليفة عمر مع ابن عبّاس.
2- 177. راجع الرواية في صحيح مسلم 4: 1874، مسند الإمام أحمد 4: 281 طبعة دار صادر.
3- 178. راجع تاريخ الطبري 2: 242 في اتّفاقهم علي سعد بن عبادة.

و ليس في مبايعة الأوس لأبي بكر أو قول من قال: لا نبايع إلّا عليّاً (1) مناقضة كتلك المناقضة؛ لأنّ المفهوم البديهي من تشكيل مأتمر السقيفة أنّ مسألة الخلافة مسألة انتخاب لا نصّ، فليس إلي التراجع عن هذا الرأي في يوم إعلانه من سبيل.

و أمّا اعتراف المهاجرين بالأمر فلا حرج فيه لأنّ الأنصار لم يجتمعوا علي رأي واحد في السقيفة و إنّما كانوا يتذاكرون و يتشارون، و لذا نري الحُباب بن المنذر (2) يحاول بثَّ الحماسة في نفوسهم والاستمالة بهم إلي رأيه بما جلجل به في ذلك الاجتماع من كلام و هو يوضّح أنّهم جُمعوا لتأييد فكرة لم يكن يؤمن بها إلّا بعضهم.

و إذن فقد كان الإمام يقدّر أنّه سوف يدفع الحزب الحاكم إلي إنكار النصوص والاستبسال في هذا الإنكار إذا جاهر بها و لا يقف إلي جانبه حينئذٍ صفٌّ ينتصر له في دعواه؛ لأنّ الناس بين من قادهم الهوي السياسي إلي إنكار عمليّ للنصّ يسدُّ عليهم مجال التراجع بعد ساعات، و بين من يري أنّ فكرة النصّ تجعل من الخلافة وقفاً علي بني هاشم لا ينازعهم فيها منازع. و إذا سجّلت الجماعة الحاكمة و أنصارها إنكاراً للنصّ واكتفي الباقون بالسكوت في الأقلّ فمعني هذا أنّ النصّ يفقد قيمته الواقعية و تضيع بذلك مستمسكات الإمامة العلوية كلّها و يؤمّن العالم الإسلامي الذي كان بعيداً عن مدينة النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي إنكار المنكرين لأنّه منطق القوّة الغالب في ذلك الزمان.

ص: 110


1- 179. تاريخ الطبري 2: 233.
2- 180. المصدر نفسه 2: 243.

و لنلاحظ ناحية اُخري فإنّ عليّاً لو ظفر بجماعة توافقه علي دعواه، و تشهد له بالنصوص النبويّة المقدّسة، و تعارض إنكار الفئة الحاكمة، كان معني ذلك أن ترفض هذه الجماعة خلافة أبي بكر و تتعرّض لهجوم شديد من الحاكمين ينتهي بها إلي الاشتراك في حرب مع الحزب الحاكم المتحمّس لكيانه السياسي إلي حدّ بعيد؛ فإنّه لا يسكت عن هذا اللون من المعارضة الخطرة. فمجاهرة عليّ بالنصّ كانت تجرّه إلي المقابلة العملية، و قد عرفنا سابقاً أنّه لم يكن مستعدّاً لإعلان الثورة علي الوضع القائم و الاشتراك مع السلطات المهيمنة في قتال.

و لم يكن للاحتجاج بالنصّ أثر واضح من أن تتّخذ السياسة الحاكمة احتياطاتها و أساليبها الدقيقة لمحو تلك الأحاديث النبويّة من الذهنيّة الإسلامية؛ لأنّها تعرف حينئذٍ أنّ فيها قوّة خطر علي الخلافة القائمة و مادّة خصبة لثورة المعارضين في كل حين.

و إنّي أعتقد أنّ عمر لو التفت إلي ما تنبّه إليه الاُمويّون بعد أن احتجّ الإمام بالنصوص في أيّام خلافته (1) ، واشتهرت بين شيعته، من خطرها لاستطاع أن يقطعها من اُصولها، و يقوم بما لم يقدر الاُمويّون عليه من إطفاء نورها. و كان اعتراض الإمام بالنصّ في تلك الساعة ينبّهه إلي ما يجب أن ينتهجه من اُسلوب فأشفق علي النصوص المقدّسة أن تلعب بها السياسة

ص: 111


1- 181. أشهدَ الإمام عليّ عليه السلام جماعة المسلمين علي نصّ حديث الغدير في زمن خلافته، راجع: البداية والنهاية/ ابن كثير 7: 360، و قد أشهد عليٌّ جمعاً من الناس فشهد له ثلاثون أنّهم سمعوا هذا الحديث من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، الصواعق المحرقة: 122 قال: رواه عن النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم ثلاثون صحابياً، و أنّ كثيراً من طرقه صحيح أو حسن...».

وسكت عنها علي مضض، واستغفل بذلك خصومه، حتّي إنّ عمر (رضي اللَّه تعالي عنه) نفسه صرّح بأنّ عليّاً هو وليّ كلّ مؤمن و مؤمنة بنصّ النبيّ (1) صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

ثمّ ألم يكن من المعقول أن يخشي الإمام علي كرامة حبيبه و أخيه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أن تنتقض و هي أغلي عنده من كل نفيس- إذا جاهر بنصوص النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم- و هو لم ينسَ موقف الفاروق من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم حين طلب دواة ليكتب كتاباً لا يضلّ الناس بعده أبداً، فقال عمر: «إنّ النبيّ ليهجر أو قد غلب عليه الوجع» (2) . و قد اعترف فيما بعد لابن عبّاس أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم كان يريد أن يعيّن عليّاً للخلافة و قد صدّه عن ذلك خوفاً من الفتنة (3) .

و سواء أكان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يريد أن يحرّر حقّ عليّ في الخلافة أو لا، فإنّ المهمّ أن نتأمّل موقف عمر من طلبه، فهو إذا كان مستعدّاً لاتّهام النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم وجهاً لوجه بما ينزّهه عنه نصّ القرآن (4) ، و ضرورة الإسلام، خوفاً من الفتنة، فما الذي يمنعه عن اتّهام آخر له بعد وفاته مهما تلطّفنا في تقديره فلا يقل عن دعوي أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لم يصدر عن أمر اللَّه في موضوع الخلافة، و إنّما استخلف عليّاً بوحي من عاطفته، بل كان هذا أولي من تلك المعارضة لأنّ الفتنة التي تقوم بدعوي علي النصّ أشد ممّا كان يترقّبه عمر من اضطراب فيما إذا كان النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم قد خلّف نصّاً تحريريّاً

ص: 112


1- 182. ذخائر العقبي: 67، والحديث يدلّنا علي أنّ الفاروق كان يميل أحياناً إلي تغيير الطريقة التي سار عليها الحزب في بداية الأمر مع الهاشميّين، غير أنّ الطابع السياسي الأوّل غلب عليه أخيراً. [الشهيد]، مسند الإمام أحمد بن حنبل 4: 281.
2- 183. راجع الرواية في صحيح البخاري 1: 37 باب كتابة العلم.
3- 184. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 3: 97، طبعة دارالكتب العربية الكبري بمصر.
4- 185. القرآن يقول: (وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي- إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَي) سورة النجم/ 3 و 4.

بإمامة عليّ يعلمه الجميع.

و إذا كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قد ترك التصريح بخلافة عليّ في ساعته الأخيرة لقول قاله عمر، فإنّ المفهوم أن يترك الوصيّ الاحتجاج بالنصوص خوفاً من قولٍ قد يقوله.

و نتيجة هذا البحث أن سكوت أميرالمؤمنين عن النصّ إلي حين، كان يفرضه عليه:

1- إنّه لم يكن يجد في رجالات تلك الساعة من يطمئن إلي شهادته بذلك.

2- إنّ الاعتراض بالنصوص كان من الحريّ به أن يلفت أنظار الحاكمين إلي قيمتها المادّية، فيستعملون شتّي الأساليب لخنقها.

3- إنّ معني الاعتراض بها التهيّؤ للثورة بأوسع معانيها، و هذا ما لم يكن يريده الإمام.

4- إنّ اتّهام عمر للنبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم في آخر ساعاته عرّف عليّاً بمقدار تفاني الحاكمين في سبيل مراكزهم، و مدي استعدادهم لتأييدهم و المدافعة عنها و جعله يخاف من تكرّر شي ء من ذلك فيما إذا أعلن عن نصوص إمامته.

المواجهة السلمية

انتهي الإمام إلي قرار حاسم، و هو ترك الثورة و عدم التسلّح بالنصوص في وجه الحاكمين جهاراً و علانية إلّا إذا اطمأنّ إلي قدرته علي تجنيد الرأي العام ضدّ أبي بكر و صاحبيه، و هذا ما أخذ يحاوله عليّ في مِحنَته آنذاك.

ص: 113

فبدأ يطوف (1) سِرّاً علي زعماء المسلمين و رجالات المدينة، يعظهم و يذكّرهم ببراهين الحقّ و آياته، و إلي جانبه قرينته تعزّز موقفه و تشاركه في جهاده السرّي، و لم يكن يقصد بذلك التطواف إنشاء حزب يتهيّأ له القتال به لأنّنا نعرف أنّ عليّاً كان له حزب من الأنصار هتف باسمه، و حاول الالتفات حوله و إنّما أراد أن يمهّد بتلك المقابلات لإجماع الناس عليه.

و هنا تجي ء مسألة فدك لتحتلّ الصدارة في السياسة العلوية الجديدة، فإنّ الدور الفاطمي الذي رسم هارون النبوّة خطوطه بإتقان، كان متّفقاً مع ذلك التطواف الليلي في فلسلفته و جديراً بأن يقلب الموقف علي الخليفة و ينهي خلافة الصدِّيق كما تنتهي القصة التمثيلية لا كما يقوّض حكم مركّز علي القوة والعدّة.

و كان الدور الفاطمي يتلخّص في أن تطالب الصدِّيقة الصدِّيق بما انتزعه منها من أموال، و تجعل هذه المطالبة وسيلة للمناقشة في المسألة الأساسية و أعني بها مسألة الخلافة و إفهام الناس بأنّ اللحظة التي عدلوا فيها عن عليّ عليه السلام إلي أبي بكر كانت لحظة هوس و شذوذ (2) ، و أنّهم بذلك أخطأوا و خالفوا كتاب ربّهم و وردوا غير شربهم (3) .

ص: 114


1- 186. راجع شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 13، الطبعة المحقّقة. أخرج عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهماالسلام أنّ عليّاً حَملَ فاطمة علي حمار و سارَ بها ليلاً إلي بيوت الأنصار، يسألهم النصرة، و تسألهم فاطمة الانتصار له».
2- 187. راجع: بلاغات النساء: 25: قالت في هذا المعني من خطبة لها عليهاالسلام: «و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه، صارخاً بكم، فوجدكم لدعائه مستجيبين، و للغِرة فيه ملاحظين، فاستنهضكم فوجدكم خفافاً.. فوسمتم غير إبلكم.
3- 188. جاء في شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 12 قال عليٌّ عليه السلام في محاورة مع القوم: «يا معشر المهاجرين اللَّه اللَّه، لا تُخرجوا سلطان محمّد عن داره و بيته إلي بيوتكم و دوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقّه، فواللَّه يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم...».

و لمّا اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة اندفعت لتصحّح أوضاع الساعة و تمسح عن الحكم الإسلامي الذي وضعت قاعدته الاُولي في السقيفة الوحل الذي تلطّخ به، عن طريق اتّهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة، والعبث بكرامة القانون، و اتّهام نتائج المعركة الانتخابية التي خرج منها أبوبكر خليفة بمخالفة الكتاب والصواب (1) .

و قد توفّرت في المقابلة الفاطمية ناحيتان لا تتهيَّئان للإمام فيما لو وقف موقف قرينته.

(إحداهما) إنّ الزهراء أقدر منه بظروف فجيعتها الخاصّة و مكانتها من أبيها، علي استثارة العواطف، و إيصال المسلمين بسلك من كهرباء الروح بأبيها العظيم صلوات اللَّه عليه و أيّامه الغرّاء و تجنيد مشاعرهم لقضايا أهل البيت.

(و الاُخري) إنّها مهما تتّخذ لمنازعتها من أشكال فلن تكتسب لون الحرب المسلّحة التي تتطلّب زعيماً يهيمن عليها ما دامت امرأة و ما دام هارون النبوّة في بيته محتفظاً بالهدنة التي أعلنها حتّي تجتمع الناس عليه و مراقباً للموقف ليتدخّل فيه متي شاء، متزعّماً للثورة إذا بلغت حدّها الأعلي أو مهدّئاً للفتنة إذا لم يتهيّأ له الظرف الذي يريده. فالحوراء

ص: 115


1- 189. راجع الصواعق المحرقة: 36، طبعة مكتبة القاهرة، قال الخليفة الثاني: «كانت بيعة أبي بكر فلتةً وقي اللَّه شرّها فمن عادَ لمثلها فاقتلوه...».

بمقاومتها إمّا أن تحقّق انتقاضاً إجماعياً علي الخليفة و إمّا أن لا تخرج عن دائرة الجدال والنزاع و لا تجرّ إلي فتنة وانشقاق.

و إذن فقد أراد الإمام صلوات اللَّه عليه أن يُسْمِع الناس يومئذٍ صوته من فم الزهراء و يبقي هو بعيداً عن ميدان المعركة ينتظر اللحظة المناسبة للاستفادة منها، والفرصة التي تجعل منه رجل الموقف. و أراد أيضاً أن يقدّم لاُمّة القرآن كلّها في المقابلة الفاطمية برهاناً علي بطلان الخلافة القائمة. و قد تمّ للإمام ما أراد حيث عبّرت الزهراء صلوات اللَّه عليها عن الحقّ العلويّ تعبيراً واضحاً فيه ألوان من الجمال والنضال.

و تتلخّص المعارضة الفاطمية في عدّة مظاهر:-

(الأوّل) إرسالها لرسول (1) ينازغ أبابكر في مسائل الميراث و يطالب بحقوقها و هذه هي الخطوة الاُولي التي انتهجتها الزهراء صلوات اللَّه عليها تمهيداً لمباشرتها للعمل بنفسها.

(الثاني) مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاصّ (2) و قد أرادت بتلك المقابلة أن تشتد في طلب حقوقها من الخمس و فدك و غيرهما لتعرف مدي استعداد الخليفة للمقاومة.

و لا ضرورة في ترتيب خطوات المطالبة علي اُسلوب تتقدّم فيه دعوي النِحلة علي دعوي الميراث كما ذهب إلي ذلك أصحابنا، بل قد

ص: 116


1- 190. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 218- 219 عن أبي الطفيل قال: «أرسلت فاطمة إلي أبي بكر: أنت ورثت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أم أهله؟ قال: بل أهله...».
2- 191. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 230.

يغلب علي ظنّي تقدّم المطالبة بالإرث؛ لأنّ الرواية تصرّح بأنّ رسول الزهراء إنّما كان يطالب بالميراث، والأقرب في شأن هذه الرسالة أن تكون اُولي الخطوات كما يقضي به التدرّج الطبيعي للمنازعة، و أيضاً فإنّ دعوي الإرث أقرب الطريقين إلي استخلاص الحقّ لثبوت التوارث (1) في التشريع الإسلامي بالضرورة فلا جُناح علي الزهراء في أن تطلب ابتداءً ميراثها من أبيها الذي يشمل فدك في معتقد الخليفة لعدم اطّلاعه علي النِحلة (2) و ليس في هذه المطالبة مناقضة لدعوي نِحلة فدك إطلاقاً؛ لأنّ المطالبة بالميراث لم تتّجه إلي فدك خاصّة و إنّما تعلّقت بتركة النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم عامّة.

(الثالث) خطبتها في المسجد بعد عشرة أيام من وفاة النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم كما في شرح النهج (3) لابن أبي الحديد.

(الرابع) حديثها مع أبي بكر و عمر حينما زارها بقصد الاعتذار منها و إعلانها غضبها عليهما و أنّهما أغضبا اللَّه و رسوله صلي اللَّه عليه و آله و سلم بذلك (4) .

ص: 117


1- 192. ثبوت التوارث في التشريع الإسلامي من ضروريات الإسلام للنصوص الصريحة القطعية، منها (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْولِدَانَ وَالْأَقْرَبُونَ و لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ) النساء/ 7 و قال تعالي: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...). النساء/ 11.
2- 193. ادّعي الخليفة الأوّل عدم اطّلاعه علي النِحلة- شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 225.
3- 194. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 211 أخرج عن جماعةٍ قال: «قالوا: لمّا بلغ فاطمة عليهاالسلام إجماع أبي بكر علي منعها فدك، لاثت خِمارها و أقبلت في لُمةٍ من حفدتِها و نساء قومِها... حتّي دخلت علي أبي بكر و قد حشد الناس من المهاجرين و الأنصار...».
4- 195. راجع: الإمامة والسياسة/ ابن قتيبة: 14. [الشهيد]، شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 281، 264. و قد قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني» صحيح البخاري 5: 83 باب 43- فضائل الصحابة، أعلام النساء 4: 123. [الشهيد].

(الخامس) خطابها الذي ألقته علي نساء المهاجرين والأنصار حين اجتماعهنّ عندها (1) .

(السادس) وصيّتها بأن لا يحضر تجهيزها و دفنها (2) أحد من خصومها و كانت هذه الوصي ء الإعلان الأخير من الزهراء عن نقمتها علي الخلافة القائمة.

و قد فشلت الحركة الفاطمية بمعنيً و نجحت بمعني آخر.

فشلت لأنّها لم تطوّح بحكومة الخليفة رضي اللَّه عنه في زحفها الأخير الخطير الذي قامت به في اليوم العاشر من وفاة النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

و لا نستطيع أن نتبيّن الاُمور التي جعلت الزهراء تخسر المعركة، غير أنّ الأمر الذي لا ريب فيه أنّ شخصيّة الخليفة رضي اللَّه عنه من أهمّ الأسباب التي أدّت إلي فشلها؛ لأنّه من أصحاب المواهب السياسية، و قد عالج الموقف بلباقة ملحوظة نجد لها مثالاً فيما أجاب به الزهراء من كلام وجّهه إلي الأنصار من خاطب بعد انتهائها من خطبتها في المسجد. فبينما هو يذوب رقّة في جوابه للزهراء و إذا به يطوي نفسه علي نار متأجّجة تندلع بعد خروج فاطمة من المسجد، في أكبر الظنّ، فيقول: ما هذه الرِّعة إلي كل قالة إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه (3) - و قد نقلنا الخطاب كاملاً فيما سبق- فإنّ هذا الانقلاب من اللين و الهدوء إلي الغضب الفائر يدلّنا علي مقدار ما اُوتي من

ص: 118


1- 196. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 233.
2- 197. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 281، حلية الأولياء 2: 42. مستدرك الحاكم 3: 178 طبعة دارالكتب العلمية.
3- 198. راجع الخطبة في شرح نهج البلاغة 16: 214- 215.

سيطرة علي مشاعره و قدرته علي مسايرة الظرف و تمثيل الدور المناسب في كل حين.

و نجحت معارضة الزهراء لأنّها جهّزت الحقّ بقوّة قاهرة، و أضافت إلي طاقته علي الخلود في ميدان النضال المذهبي طاقة جديدة. و قد سجّلت هذا النجاح في حركتها كلّها و في محاورتها مع الصدِّيق والفاروق عند زيارتهما لها بصورة خاصّة إذ قالت لهما: أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم تعرفانه و تفعلان به؟ فقالا: نعم، فقالت: نشدتكما اللَّه ألم تسمعا من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يقول: «رضا فاطمة من رضاي و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة فقد أحبّني و من أرضي فاطمة فقد أرضاني و من أسخط فاطمة فقد أسخطني (1) قالا: نعم سمعناه من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قالت: «فإنّي اُشِهد اللَّه و ملائكته أنّكما أسخطتماني و ما أرضيتماني و لئن لقيت النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم لأشكونّكما عنده» (2) .

ص: 119


1- 199. صحّت عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم عبائر متعدّدة بهذا المعني فقد جاء عنه في الصحيح أنّه قال لفاطمة (رضي اللَّه عنها): «إنّ اللَّه يغضبُ لغضبك، و يرضي لرضاك...» و قال: «فاطمة بضعةٌ منّي يريبني ما رابها و يؤذيني ما آذاها».. راجع: صحيح البخاري 5: 83 باب 43 حديث رقم 232، صحيح مسلم 4: 1902 حديث رقم 93/ 2449، مستدرك الحاكم 3: 167 حديث رقم 4730/ 328، دارالكتب العلمية. [الشهيد]، ذخائر العقبي: 39، مسند الإمام أحمد بن حنبل 4: 328، جامع الترمذي 5: 699، دارإحياء التراث العربي- بيروت، الصواعق المحرقة/ ابن حجر: 190- طبعة القاهرة، كفاية الطالب: 365، داراحياء تراث أهل البيت- طهران.
2- 200. تجد غضب فاطمة عليهاالسلام علي أبي بكر في صحيح البخاري 5: 5 و صحيح مسلم 2: 72 و مسند الإمام أحمد 1: 6، تاريخ الطبري 2: 236، كفاية الطالب: 266، سنن البيهقي 6: 300. [الشهيد].

ص: 120

و يصوّر لنا هذا الحديث مدي اهتمامها بتركيز الاعتراض علي خصميها و مجاهرتهما بغضبها و نقمتها لتخرج من المنازعة بنتيجة لا نريد درسها و الانتهاء فيها إلي رأي معيّن لأنّ ذلك خارج عن دائرة عنوان هذا البحث و لأنّنا نجلّ الخليفة عن أن ندخل معه في مثل هذه المناقشات و إنّما نسجّلها لتوضيح أفكار الزهراء صلوات اللَّه عليها و وجهة نظرها فقط، فإنّها كانت تعتقد أنّ النتيجة التي حصلت عليها هي الفوز المؤكّد في حساب العقيدة والدين و أعني بها أنّ الصدِّيق قد استحقّ غضب اللَّه و رسوله صلي اللَّه عليه و آله و سلم بإغضابها، و آذاهما بأذاها لأنّهما يغضبان لغضبها و يسخطان لسخطها بنصّ الحديث النبوي الصحيح؛ فلا يجوز أن يكون خليفة للَّه و رسوله. و قد قال اللَّه تبارك و تعالي:

(وَ مَا كَانَ لَكُمْ أن تُؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَ لَا تَنكِحُواْ أَزْواجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَاللَّهِ عَظِيماً) (1) .

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) (2) .

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُم عَذابٌ أَلِيمٌ) (3) .

(يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَوَلَّواْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (4) .

(وَ مَنْ يَحلُلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوي) (5) .

ص: 121


1- 201. الأحزاب/ 53.
2- 202. الأحزاب/ 57.
3- 203. التوبة/ 61.
4- 204. الممتحنة/ 13.
5- 205. طه/ 81.

ص: 122

قبسات من الكلام الفاطمي

اشاره

يوم جاءت إلي عدي و تيم

و من الوجدِ ما أطال بكاها

تَعِظ القوم في أتمّ خطاب

حكت المصطفي به وحكاها

(الاُزري)

ص: 123

نقتبس هنا عدّة عبائر من خطبة الزهراء عليهاالسلام لنعطيها حقّها من التحليل والتوضيح، و نفهمهما كما هي في عالم الخلود، و كما هي في واقعها الرائع، قالت:

عظمة الرسول القائد

«ثمّ قبضه إليه قبض رأفة و اختيار و رغبة و إيثار، فمحمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم عن تعب هذه الدار في راحة، قد حُفَّ بالملائكة الأبرار و رضوان الربّ الغفّار و مجاورَة الملك الجبّار».

انظر إلي البليغة كيف تركت النعيم المادّي كلّه، و ملذوذات الحسّ حين أرادت أن تقرّض فردوس أبيها، و جنّته الخالدة؛ لأنّها رأت في معاني أبيها العظيم ما يرتفع علي ذلك كلّه؛ و ما قيمة اللذة المادية جنينية كانت او دنيوية في حساب محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم الروحي الذي لم يرتفع احد بالروح الإنسانية كما ارتفع بها، و لم يبلغ بها أحد سواه أوجها المحمّدي (و لم يغذّها مصلح عداه بالعقيدة الإلهية الكامله التي هي غاية العقول في طيرانها الفكري والشوط الأخير للطواف الإنساني حول الحقيقة المقدسة الذي يستقر عنده الضمير و تطمئن إليه الروح) (1) .

ص: 124


1- 206. نقلنا هذه الجملة عن كتابنا- العقيدة الإلهية في الإسلام. [الشهيد].

فهو إذن: المربي الأكبر للروح، والقائد الفريد الذي سجّلت المعنويات الروحية تحت رايته انتصارها الخالد علي القوي المادية في معركتهما القائمة منذ بدأ العقل حياته في وسط المادّة.

و ما دام هو بطل المعركة الفاصلة بين الروحية و المادية الذي خُتمت برسالته رسالات السماء فلا غَرْوَ أن يكون محور ذلك العالم الروحي الجبار، و هذا ما شاءت ان تقوله الزهراء حين قالت تصف الفردوس المحمدي: فمحمد عن تعب هذه الدنيا في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار فهو القطب أبداً في الدنيا و الآخرة، غير أنه في الاولي متعب لأنّه القطب الذي يجاهد ليقيم دوره الحياه الإنسانيه عليه، علي اسلوب خالد، و في الاُخري مرتاح لأنّه المحور الذي يكهرب الحياه الملائكيه بنوره، فتحف به الملائكة لتقدم بين يديه آيات الحمد والثناء.

و ما دام النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم من الطراز الأسمي فلتكن جنّته علي غراره ملؤها الترف المادي بل هي في أوضح معانيها الترف المعنوي- إن صح التعبير- و اي ترف روحي أسمي من مجاورة الملك الجبّار والظفر برضوان الرب الغفار.

و هكذا و صفت الزهراء جنة ابيها في جملتين، فاذا به القطب المتصل بمبدأ النور والشمس التي تحيط بها الملائكة في دنيا النور.

عظمه الإمام علي و مؤهلاته الشخصية

و قالت:-

«و كنتم علي شفا حفره من النار مذقه الشارب، و نهزه الطامع، و قبسه

ص: 125

العجلان، و موطئ الاقدام، تشربون الطرق، و تقاتون الورق، أذلة خاسئين تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم اللَّه تبارك و تعالي بمحمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم بعد اللتيا و التي، و بعد أن مُني ببُهَم الرجال، و ذؤبان العرب، و مردة اهل الكتاب، كلّما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللَّه، أو نجم قرن للشيطان، و فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفي ء حتّي يطأ صماخها بأخمصه، و يخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات اللَّه، مجتهدا في امر اللَّه قريباً من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم سيد أولياء اللَّه مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً و أنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون» (1) .

ما أروعها من مقارنة هذه التي عقدتها الزهراء بين أسمي طراز من الكفاءة العسكرية في دنيا الإسلام يومئذ و بين رجوله مفطومه- إن صح التعبير- من ملكات البطل و مقوّمات العسكري الموهوب. بين بسالة هتفت بآياتها السماء و الارض، وكتبت بمداد الخلود في فهرس المثاليات الإنسانيه، و شخصيّة اكتفت من الجهاد المقدس بالوقوف في الخط الحربي الأخير- العريش- و يا ليتها اقتنعت بذلك عن الفرار المحرم في عرف الإسلام، و في عرف التضحية، و في عرف المفاداة بالنفس لتوحيد الحكومة السماوية علي وجه الأرض.

و لا نعرف في تاريخ الإنسانيه موهبه عسكريه بارعه لها من الآثار الخيّره في حياه هذا الكواكب كالموهبه العلويه الفذه في تاريخ الأبطال؛ فإن مواقف الإمام (2) في سوح الجهاد و ميادين النضال كانت بحقّ هي الركيزة

ص: 126


1- 207. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 250- 251.
2- 208. راجع تاريخ الطبري 2: 25، 65- 66.

التي قامت عليها دنيا الاسلام، و صنعت له تاريخه الجبار.

فعلي هو المسلم الأول في اللحظه الاولي من تاريخ النبوه عندما لعلع الصوت الالهي من فم محمد (1) صلي اللَّه عليه و آله و سلم ثم هو بعد ذلك الغيور الأول، والمدافع الأول الذي أسندت إليه السماء تصفية الحساب (2) مع الإنسانيه الكافره.

إنّ فوز الإمام في هذه المقارنه يعني أن له حقا في الخلافة من ناحيتين:-

(إحداهما) إنه الشخص العسكري الفريد بين مسلمه ذلك اليوم الذي لم يكن قد فصل فيه تماما المركز السياسي الأعلي عن المقامات العسكريه.

(و الاخري) إن جهاده الرائع يكشف عن إخلاص أروع لا يعرف الشكّ إليه سبيلاً، و جذوة مضطرمه بحراره الإيمان لا يجد الخمود إليها طريقا. و هذه الجذوه المتقده أبدا، و ذلك الإخلاص الفيّاض دائماً هو الشرطان الأساسيّان للزعيم الذي توكِل إليه الاُمه حراسه معنوياتها الغاليه و حمايه شرفها في التاريخ.

مقارنه بين مواقف الإمام و الآخرين

اقرأ حياه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و تاريخ الجهاد النبوي، فسوف تري ان علياً هو الذي

ص: 127


1- 209. اشاره الي اسلام علي عليه السلام و مؤازرته النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و استعداده غير المحدود للتضحيه والفداء في سبيل الاسلام، راجع: الصواعق المحرقة: 185، تاريخ الطبري 3: 218- 219، حديث الدار المشهور ذكرناه سابقا.
2- 210. راجع روايه سعد بن أبي وقاص- صحيح الترمذي 8: 596.

أدهش الارض والسماء بمواساته (1) و أنّ الصدِّيق رضي اللَّه عنه هو الذي التجأ إلي مركز القيادة العليا الذي كان محاطا بعده من أبطال الأنصار لحمايته (2) حتي بطمئن بذلك من غوائل الحرب.

و هو الذي فر يوم أحد (3) كما فر الفاروق (4) و لم يبايع رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي الموت في تلك الساعه الرهيبه التي قل فيها الناصر و تضعضعت رايه السماء و بايع رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي الشهاده ثمانيه، ثلاثه من المهاجرين و خمسه من الانصار لم يكن هو واحدا منهم، كما صرح

ص: 128


1- 211. أخرج الطبري في تاريخه 2: 65- 66 طبعه دارالكتب العلميه- عن ابن رافع: لما قتل علي ابن ابي طالب اصحاب الألويه أبصر رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم جماعه من مشركي قريش، فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرق جمعهم و قتل عمرو بن عبداللَّه الجمحي، قال: ثم ابصر رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم جماعه من مشركي قريش فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عيهم ففرق جماعتهم و قتل شيبه بن مالك، فقال جبرئيل: يا رسول اللَّه ان هذه للمواساه، فقال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: إنه مني و أنا منه، فقال جبريل: و أنا منكما، قال: فسمعوا صوتاً: لا سيف إلا ذوالفقار، و لا فتي إلا علي. و لنتأمل جواب رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لنلاحظ كيف أنه ارتفع بعلي عن مفهوم المواساه الذي يقضي بتعدد محمد و علي إلي مفهوم الوحده والامتزاج فقال: إنه مني و أنا منه و لم يرض بأن يفصل الإمام عن شخصه لأنهما وحده لا تتجزأ ضربها اللَّه مثلاً أعلي تأتم بها الإنسانيه و يهتدي علي ضوئها الأبطال والمصلحون في معارج السمو والارتقاء، و أنا لا أدري كيف حاول الصحابة أو بعض الصحابة أن يفككوا عري هذه الوحده و يضعوا بين البطلين أشخاصاً ثلاثه كان من الجدير أن لا يفصلوا بهم بين محمد و بين من هو من محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم. [الشهيد]
2- 212. راجع عيون الأثر/ ابن سيد الناس 1: 336، موسسه عزالدين- بيروت. [الشهيد]
3- 213. كما يحدّثنا بذلك التاريخ الشيعي. [الشهيد]
4- 214. و قد اعترف هو بذلك و ذكره به رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم- شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 3: 389- 390. [الشهيد]

بذلك أرباب التاريخ (1) ، بل لم يرو له رواة المسلمين جميعا قتالا في ذلك الموقف مهما يكن لونه (2) .

و إذن فلماذا وقف مع الثائبين إن كان لم يفر؟ الم يكن القتال واجبا ما دام المدافعون لم يبلغوا العدد المطلوب لمقابله العدو الذي اصاب النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بعده اصابات اضطرته الي الصلاه جالسا؟!

و لعلنا نعلم جميعا أن شخصا اذا كان في وسط الصراع و معترك الحرب فلن ينجو من الموت علي يد عدوه إلا بالفرار، أو الدفاع بالاشتراك عملياً في المعركة. والصدِّيق إذا لم يكن قد فعل شيئاً من هذين و قد نجا بلا ريب فمعني هذا أن عدوا وقف أمام عدوه مكتف اليدين فلم يقتله خصمه، فهل أشفق المشركون علي أبي بكر، و لم يشفقوا علي محمد و علي والزبير و أبي دجانة و سهل بن حنيف؟!

و ليس لدي من تفسير معقول للموقف إلا أن يكون قد وقف إلي جوار رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و كسب بذلك موقفا هو في طبيعه أبعد نقاط المعركه عن الخطر لاحتفاف العدد المخلص في الجهاد يومئذ برسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم. و ليس هذا ببعيد لأننا عرفنا من ذوق الصديق أنه كان يحب أن يكون إلي جانب رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في الحرب لأن مركز النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم هو المركز المصون الذي تتوفر جميع القوي الإسلاميه علي حراسته والذب عنه.

ص: 129


1- 215. صرح بذلك الواقدي كما في شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 3: 388 و المقريزي في الإمتاع: 132. [الشهيد]
2- 216. اعتراف بذلك ابن أبي الحديد 3: 389.

وخذ حياه الإمام علي عليه السلام و حياة الصديق وادرسهما، فهل تجد في حياة الأول خمودا في الإخلاص أو ضعفاً في الاندفاع نحو التضيحه أو ركوناً إلي الدعة و الراحه في ساعه الحرب المقدسه؟ فارجع البصر هل تري من فطور (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئا و هو حسير) (1) لأنه سوف يجد روعه واستماته في سبل اللَّه لا تفوقها استماته، و شخصا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فيه استعداد للخلود ما خلد محمد اُستاذه الأكبر لأنه نفسه صلي اللَّه عليه و آله و سلم (2) .

ثم حدثني عن حياه الصديق (رضي اللَّه تعالي عنه) ايام رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فهل تجد فيها إلا تخاذلا و ضعفا في الحياه المبدئيه، والحياه العسكريه، يظهر تاره في التجائه الي العريش، و اُخري في فراره يوم اُحد و هزيمته في غزوة حنين (3) و تلكئه عن الواجب حينما أمره رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بالخروج تحت راية اُسامه للغزو (4) ، و مره اُخري في هزيمته يوم خيبر حينما

ص: 130


1- 217. الملك/ 4.
2- 218. استنادا إلي آية المباهلة، و هي قوله تعالي: (فقل تعالوا ندع ابناءنا و ابناءكم و نساءنا و نساءكم و انفسنا و انفسكم ثم نبتهل...) آل عمران/ 61. راجع الرواية في صحيح مسلم 4: 1873، تفسير الكشاف 1: 369، دارالكتب العلميه، الخصائص/ النسائي: 89، رواية تصرح أن عليا عليه السلام كنفسه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.
3- 219. كما في السيرة الحلبية 2: 126، إذ حَصَرَ الثابتين بغيره، و أمّا فرار الفاروق في ذلك اليوم، فقد جاء ما يدل عليه في صحيح البخاري 3: 67، دارالمعرفة- بيروت. إذ روي بإسناده عمن شهد يوم حنين أنه قال: وانهزم المسلمون، وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر اللَّه. فإن هذا يوضح أن عمر كان من بين المنهزمين.
4- 220. فقد جاء في عدة من المصادر أن عمر و أبابكر كانا فيمن جنده النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم للحرب تحت راية اُسامه، منها في السيره الحلبيه ج 3، و راجع طبقات ابن سعد 2: 248- 250.

بعثه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لاحتلال الوكر اليهودي علي رأس جيش فرجع فاراً ثم أرسل الفاروق (رضي اللَّه تعالي عنه) و إذا به من طراز صاحبه (1) فقال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إني دافع الرايه غدا لرجل يحبه اللَّه و رسوله و يحب اللَّه و رسوله لا يرجع حتي يفتح له (2) . و يُشعر كلامه هذا بتعريض بليغ يدغدغ به مشاعر القائدين الفاشلين واعتزاز صريح بعليه العظيم الذي يحب اللَّه و رسوله و يحبه اللَّه و رسوله (3) .

يا خليفتي المسلمين- أو بعض المسلمين- رضي اللَّه تعالي عنكما أهكذا كان نبيكما الذي قمتما مقامه؟ ألم تتلقّيا عنه دروسه الفذّه في الجهاد والمعناه في سبيل اللَّه؟ ألم يكن في صحبتكما له طوال عقدين حاجز

ص: 131


1- 221. راجع مسنده أحمد 5: 253، المستدرك/ الحاكم 3: 27، كنزالعمال 6: 394، تاريخ الطبري 2: 136. [الشهيد]
2- 222. صحيح البخاري 5: 18، مسند الإمام أحمد 5: 353، الترمذي 5: 596، صحيح مسلم 4: 1873.
3- 223. و أكبر الظن ان الجيش الذي سار الإمام علي راسه لاحتلال المستعمره اليهوديه هو الجيش الذي فر بالأمس، و نفهم من هذا مدي تأثير القائد علي جيشه و تكهرب الجيش بمشاعره فإن علياً استطاع أن يجعل من اولئك الجنود الذين كانوا يجبنون الفاروق في الحمله السابقه أبطالا فاتحين بما سكب في أرواحهم من روحه العظيمه المتدفقه بالحماس والاخلاص.

يحجز عن ذلك؟ الم تستمعا إلي القرآن الذي اُسندت إليكما حراسته و التوفر علي نشر مثله العليا في المعموره و هو يقول:-

(و من يؤلهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلي فئه فقد باء بغضب من اللَّه و ماواه جهنم و بئس المصير) (1) .

و قد توافقني علي أن مقام الصديق والفاروق رضي اللَّه عنه في الإسلام يرتفع بهما عن الفرار المحرم، فلا بدّ أنهما تأولا و وجدا عذرا في فرارهما و نحن نعلم أن مجال الاجتهاد والتأويل عند الخليفه كان واسعا حتي أنه اعتذر عن خالد لما قتل مسلما متعمدا بأنه «اجتهد فأخطأ» (2) .

عذرتكما إن الحمام لمبغض

و إن بقاء النفس للنفس محبوب

ليكره طعم الموت والموت طالب

فيكف يلذّ الموت والموت مطلوب

و لنعتذر إذا كان فيما قدمناه سبب للاعتذار و قد اضطرنا إلي ذلك الوقوف عند المقارنه الفاطميه و ما تستحقه من شرح و توضيح.

حزب السلطه الحاكمه

قالت:

«تتربصون بنا الدوائر و تتوكفون الأخبار».

ص: 132


1- 224. الأنفال/ 16.
2- 225. تاريخ الطبري 2: 273، قال الخليفة عمر بن الخطاب لأبي بكر: إن في سيف خالد رهقاً، فإن لم يكن هذا حقاً، حق عليه أن تقيده، و أكثر عليه في ذلك... فقال- أبوبكر- هيه يا عمر تأوّل فأخطأ». و راجع تاريخ ابن شحنة: علي هامش الكامل 11: 114. [الشهيد].

هذا الخاطب موجه إلي الحزب الحاكم لأنه هو الذي زعم ما نسبته الزهراء إلي مخاطبيها فيما يأتي من تعليل التسرع إلي إتمام البيعه بالخوف من الفتنه. و إذن فهو اتهام صريح له بالتآمر علي السلطان و اتخاذ التدابير اللازمه لهذه المؤامره الرهيبه و وضه الخطط المحكمه لتنفيذها و تربص الفرصه السانحه للانقضاض علي السلطه و تجريد البيت الهاشمي منها.

و قد رأينا في الفصل السابق أن الاتفاق السري بين الصديق والفاروق و أبي عبيده (1) رضي اللَّه عنه مما تعززه الظواهر التاريخيه.

و لا ينبغي أن نترقب دليلا ماديا أقوي من كلام الزهراء الذي بينا اشعاره إلي هذا المعني بوضوح لمعاصرتها لتلك الظروف العصبيه. فلا ريب أنها كانت تفهم حوادث تلك الساعة فهما أخص ما يوصف به أنه أقرب إلي واقعها و أكثر إصابه له من دراسه يقوم بها النقاد بعد مئات السنين.

و من حقّ البحث أن نسجل أن الزهراء هي أول من أعلنت- إن لم يكن زوجها هو المعلن الأول- عن التشكيلات الحزبية للجماعه الحاكمه واتهمتها بالتآمر السياسي، ثم تبعها علي ذلك جمله من معاصريها كأمير (2) المؤمنين (صلوات اللَّه عليه) و معاويه (3) بن أبي سفيان- كما عرفنا سابقا.

ص: 133


1- 226. نعتذر إلي سيدنا أبي عبيده عن ذكر اسمه مجردا عن اللقب، و ليس هذا ذنبي بل ذنب الأجل الذي عجل بروحه قبل أن يصير الأمر إليه فيمنحه الناس لقباً من الألقاب، و أما لقب الأمين فالأرجح عندي أنه لم يحصل عليه من طريق النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و لا عن طريق الناس، و إنّما لقب به لمناسبات خاصه ليس من شأنها تقرير الأوسمه الرسميه. [الشهيد]
2- 227. إشاره إلي قول الإمام علي عليه السلام: «احلب يا عمر حلبا لك شطره! اشدد له اليوم أمره ليرد لك غدا...» شرح النهج 6: 11. و راجع ص 12، قول أبي عبيده للإمام.
3- 228. راجع قول معاويه في رساله جوابيه إلي محمد بن أبي بكر- مروج الذهب 3: 199، وقعه صفين/ نصر بن مزاحم: 119- 120.

و ما دام هذا الحزب الذي تجزم بوجود الزهراء و يشير إليه الإمام و يلمح إليه معاويه هو الذي سيطر علي الحكم و مقدرات الاُمه، و ما دامت الاُسر الحاكمه بعد ذلك التي وجهت جميع مراقفق الحياه العامه لخدمتها قد طبقت اُصول تلك السياسه و عناصر ذلك المنهج الحزبي الذي دوخ دنيا الإسلام، فمن الطبيعي جدّاً أن لا نري في التاريخ أو علي الأقل التاريخ العام صوره واضحه الألوان لذلك الحزب الذي كان يجتهد أبطاله الأولون السياسيه والاتفاقات السابقه.

قالت:-

«فوسمتم غير إبلكم، و أوردتم غير شربكم هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لما يقبر، أبدارا زعمتهم خوف الفتنه؟ ألا في الفتنه سقطوا و إن جهنم لمحيطه بالكافرين.

أما لعمر اللَّه لقد لحقت فنظره ريثما تحلب ثم احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً هنالك يخسر المبطلون و يعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا و ابشروا بسيف صارم و هرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا و جمعكم حصيدا فيا حسره عليكم» (1) .

لئن كان الصديق و صاحباه يشكلون حزبا ذا طابع خاص فمن العبث أن ننتظر منهم تصريحاً بذلك أو نتوقع أن يعلنوا عن الخطوط الرئيسيه

ص: 134


1- 229. خطبه الزهراء، راجع شرح نهج البلاغة 16: 234.

لمنهاجهم و يبرّروا بها موقفهم يوم السقيفه و مع هذا:

فلا بد من مبرر...

ولا بد من تفسير...

فقد ظهر في ذلك الموقف تسرعهم إلي إتمام البيعه لاحدهم و تلهفهم علي المقامات العليا تلهفا لم يكن منتظرا بالطبع من صحابه علي نمطهمم؛ لان المفروض فيهم أنهم اُناس من نوع أكمل و عقول لا تفكر إلا في صالح المبدأ؛ و لا تعبأ إلا بالاحتفاظ له بالسياده العليا. أما الملك الشخصي و اما اقتناص الكراسي فلا ينبغي أن يكون هو الغايه في حساب تلامذه محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

أحس الحاكمون بذلك و أدركوا أن موقفهم كان شاذا علي أقل تقدير، فأرادوا رضي اللَّه عنه أن يرقعوا موقفهم بالأهداف الساميه والخوف علي الإسلام من هبوب فتنه طاغيه تجهز عليه، و نسوا أن الرقعه تفضح موضعها و أن الخيوط المقحمه في الثوب تشي بها.

و لذا دوت الزهراء بكلمتها الخالده:

زعمتم خوف الفتنه (ألا في الفتنه سقطوا و إن جهنم لمحيطه بالكافرين) (1) .

نعم انها الفتنه ثم هي اُم الفتن بلا ريب.

ما أروعك يا بضعه النبي حين تكشفين القناع عن الحقيقه المُره و تتنبئين لاُمه أبيك بالمستقبل الرهيب الذي تلتمع في اُفقه سحب حمراء!

ماذا أقول؟.. بل أنهار من دم تزخر بالجماجم و هي تنعي علي سلفها

ص: 135


1- 230. من خطبتها عليهاالسلام، والآيه 49/ التوبه.

الصالح فعلهم و تقول: ألا أنهم في الفتنه سقطوا و إن جهنم لمحيطه بالكافرين.

الفتنة الكبري

كانت العمليات السياسيه يومئذ فتنه و كانت اُم الفتن (1) .

كانت فتنه في رأي الزهراء- علي الأقل- لأنها خروج علي الحكومه الإسلاميه الشرعيه القائمه في شخص علي هارون النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم والأولي من المسلمين بأنفسهم (2) .

و من مهازل القدر أن يعتذر الفاروق عن موقفه؛ بأنه خاف الفتنه و هو لا يعلم ان انتزاع الأمر ممن أراده له رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم باعتراف عمر (3) هو الفتنة بعينها المستوعبه لكل ما لهذا المفهوم من ألوان.

ص: 136


1- 231. كما يظهر من قوله الخليفه الثاني عمر بن الخطاب: إن بيعه أبي بكر فلته وقي اللَّه المسلمين شرها، تاريخ الطبري 2: 235، و في الصواعق المحرقه: «... فمن عاد إلي! مثلها فاقتلوه.» راجع ص 36 من الطبعه المصريه- مكتبه القاهره بتعليق عبدالوهاب عبداللطيف- الطبعه الثانيه/ 1965.
2- 232. قال الإمام الشهيد الصدر رضي اللَّه عنه: بنص حديث الغدير الذي رواه مائه و أحد عشر من الصحابه، و أربعه و ثمانون من التابعين، و ثلاثمائه و ثلاثه و خمسون مؤلف من اخواننا السنه كما يظهر من كتاب الغدير للعلامه الأميني، و احب أن اُلاحظ هنا أن كثيرا من القرآن لم يرو من الصحابه- يريد علي مبناهم- عدد يبلغ مبلغ الرواه لحديث الغدير منهم، فالتشكيك فيه ينتهي بالمشكك إلي التشكيك في القرآن الكريم. و امّا دلاله الحديث علي خلافه علي و إمامته فهي أيضا ترتفع عن التشكيك لوضوحها و بداهتها، و تعدد القرائن عليها. و لتراجع في ذلك (مراجعات) سيدنا سادن المذهب و حامي التشيع في دنيا الإسلام آية اللَّه السيد عبدالحسين شرف الدين (رضوان اللَّه عليه)، راجع الصواعق المحرقه: 122.
3- 233. راجع شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 3: 114- 115، الطبعة غير المحقّقة.

و أنا لا أدري ما منع هؤلاء الخائفين من الفتنه الذين لا مطمع لهم في السلطان إلا بمقدار ما يتصل بصالح الإسلام أن يسألوا رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم عن خليفته أو يطلبوا منه أن يعيّن لهم المرجع الأعلي للحكومه الإسلاميه من بعده، و قد طال المرض به أياما متعدده، و أعلن فيها مرارا عن قرب أجله، واجتمع به جماعه من أصحابه فسألوه عن كيفيه غسله و تفصيلات تجهيزه (1) ، و لم يقع في أنفسهم مطلقاً أن يسألوه عن المسأله الأساسيه، بل لم يخطر في بال اُولئك الذين أصروا علي عمر بأن يستخلف و لا يهمل الاُمه و ألحوا عليه في ذلك خوفا من الفتنه (2) أن يطلبوا نظير هذا من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، فهل تري أنهم كانوا حينذاك في غفله عن أخطار الموقف بالرغم من إنذار النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بفتن كقطع الليل المظلم؟! حتي إذا لحق سيد البشر بالرفيق الأعلي توهجت مشاعرهم بالغيره علي الدين، و ملأ قلوبهم الخوف من الفتنه والانعكاسات السيئه. أو تعتقد معي أن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم كان قد اختار للسفينة ربانها الأفضل و لذلك لم يسأله السائلون!!

دع عنك هذا و اختلق لهم ما شئت من المعاذير، فإن هؤلاء الغياري علي الإسلام لم يكتفوا بترك السؤال، بل منعوا رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم من مقاومة الخطر المرتقب حينما أراد أن يكتب «كتاباً لا يضلّ المسلمون بعده أبداً» (3) . والفتنة ضلال، و إذن فلا فتنه بعد ذلك الكتاب أبدا فهل كانوا

ص: 137


1- 234. راجع الكامل في التاريخ/ ابن الأثير 2: 122 [الشهيد]، والسيرة النبوية/ ابن كثير 4/ 527 طبعة دارإحياء التراث العربي- بيروت.
2- 235. تاريخ الطبري 2: 580، العقد الفريد 4: 260. [الشهيد]
3- 236. إشاره إلي قول رسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم في مرضه الأخير: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده...»، صحيح البخاري 1: 371 كتاب العلم- باب كتابه العلم، و راجع 8: 161- كتاب الاعتصام.

يشكون في صدق النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟! أو يرون أنهم أقدر علي الاحتياط للإسلام والقضاء علي الشغب والهرج من نبي الإسلام و رجله الأول!

و خليق بنا أن نسأل عما عناه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بالفتن التي جاء ذكرها في مناجاته لقبور البقيع في اُخريات أيامه إذ يقول: لهينكم ما أصبحتم فيه قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم (1) .

و لعللك تقول: إنها فتن المرتدين، و هذا تفسير يقبل علي فرض واحد و هو: أن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم كان يتخوف علي موتي البقيع من الارتداد، فأما إذا لم يكن يخشي عليهم من ذلك كما- هو في الواقع- لأنهم علي الأكثر من المسلمين الصالحين، و فيهم الشهداء فلماذا يهنئهم علي عدم حضور تلك الأيام؟ و لا يستقيم في منطق صحيح أن يريد بهذه الفتن المشاغبات الاُمويه التي قام بها عثمان و معاويه (2) بعد عقود ثلاثه من ذلك التاريخ تقريبا.

و إذن فتلك الفتن التي عناها النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا بد أن تكون فتنا حادثه بعده مباشره، ولا بد أيضا أن تكون أكثر اتصالا بموتي البقيع لو قدرت لهم الحياه من فتن الرده والمتنبئين.

و هي إدن عين الفتنه التي عنتها الزهراء بقولها: ألا في الفتنه سقطوا و إن جهنم لمحيطه بالكافرين.

ص: 138


1- 237. تاريخ ابن الأثير 2: 318 دار صادر. [الشهيد].
2- 238. راجع: التاج للجامع للاُصول في أحاديث الرسول صلي اللَّه عليه و آله و سلم/ الشيخ علي ناصف 5: 310 الهامش 4، 5: 316 الهامش 5.

و هل من غضاضة بعد أن يصطلح عليها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بالفتنه أن تمنح لقب الفتنه في دنيا الإسلام.

و قد كانت العمليات السياسيه يومئذ فتنه من ناحيه اُخري؛ لأنها فرضت خلافه علي اُمة لم يقتنع بها إلا القليل (1) من سوقتها الذين ليس لمثلهم لحق في تقرير مصير الحكم في عرف الإسلام و لا في لغه القوانين الدستوريه جميعا.

تلك هي خلافه الصديق (رضي اللَّه تعالي عنه) عندما خرج من السقيفه «و عمر يهرول بين يديه و قد نبر حتي أزبد شدقاه» و جماعته تحوطه «و هم متزرون بالاُزر الصنعانيه لا يمرون بأحد إلا خبطوه و قدّموه فمدّوا يده فمسحوها علي يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبي» (2) .

و معني هذا أن الحاكمين زفوا إلي المسلمين خلافه لم تباركها السماء و لا رضي بها المسلمون. و أن الصديق لم يستمد سلطانه من نص نبوي- بالضروره- و لم ينعقد الاجماع عليه ما دام سعد لم يبايع إلي أن مات الخليفه، و ما دام الهاشميون لم يبايعوا إلي سته أشهر من خلافته- كما في صحيح البخاري (3) .

قالوا: إن أهل الحل والعقد قد بايعوه و كفي.

و لكن ألا يحتاج هذا المفهوم إلي توضيح و إلي مرجع يرجع إليه في

ص: 139


1- 239. راجع تاريخ الطبري 2: 233.
2- 240. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 47، الطبعه غير المحققه. [الشهيد].
3- 241. صحيح البخاري- فضائل الصحابه باب 35 ص 66، و باب 43 ص 83. [الشهيد].

ذلك؟ فمن هو الذي اعتبر مبايعي أبي بكر اهل الحل والعقد، و أعطاهم هذه الصلاحيات الواسعه؟

ليس هو الاُمه و لا النبي الأعظم؛ لأننا نعلم أن أبطال السقيفه لم يأخذوا أنفسهم بمناهج الانتخاب غير المباشر، و لم يستفتوا المسلمين في تعيين المنتخبين الثانويين الذين اُصطلح عليهم في العرف القديم بأهل الحل والعقد.

كما أنه لم يؤثر عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إعطاء هذه الصلاحيات لجماعه مخصوصه، فكيف تُمنح لعدد من المسلمين و يستأمنون علي مقدرات الاُمه بغير رضي منها في ضل نظام دستوري كنظام الحكم في الإسلام كما يزعمون؟!

و من العجيب في العرف السياسي أن تعين الحكومه نفسها أهل الحل والعقد (1) ، ثم تكتسب منهم كلمتها العليا.

و أعجب من ذلك إخراج علي والعباس و سائر بني هاشم و سعد بن عبادة والزبير و عمّار و سلمان و أبي ذر و المقداد و جميع أهل الحجي والرأي- علي حد تعبير ابن عباس لعمر (2) - من أهل الحل و العقد إذا صح أن في

ص: 140


1- 242. راجع تاريخ الطبري 2: 233 قال أبوبكر: إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر و أباعبيده،... و أنا أرضي لكم أباعبيده، فقام عمر، فقال: أيكم- الخطاب للمجتمعين في السقيفه- تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم! فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار:... لا نبايع إلّا عليّاً.
2- 243. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 3: 115، الطبعه غير المحققه، إذ قال ابن عباس: أما أهل الحجي و النُهي فإنهم ما يزالون يعدونه- أي عليّا- كاملا منذ رفع اللَّه منار الإسلام، ولكنهم يعدونه محروما مجدودا. [الشهيد]

الإسلام طبقه مستأثره بالحل والعقد.

و قد جر وضع هذه الكلمه في قاموس الحياه الإسلاميه إلي تهيئه الجو لأرستقراطيه هي أبعد ما تكون عن روح الإسلام و واقعه المصفي من الطبقيه والعنعنات.

و هل كانت تلك الثروات الضخمه التي امتلأت بها أكياس عبدالرحمن بن عوف و طلحه و أضرابهما إلا بسبب هذا اللقب المشؤوم علي الإسلام الذي لُقبوا به، فرأوا أنهم من الطراز الرفيع الذي يستحق أن يملك الملايين و يتحكّم في حقوق الناس كما يريد؟!

و قالوا: إن الأكثريه هي مقياس الحكومه الشرعيه و المبدأ الذي لا بد أن تقوم علي أساسه الخلافه.

و قد استهان القرآن الكريم بالأكثريه و لم يجعل منها في حال من الأحوال دليلاً و ميزاناً صحيحاً إذ جاء فيه:

(و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللَّه) (1) .

(و أكثرهم للحق كارهون) (2) .

(و ما يتبع أكثرهم إلا ظنا) (3) .

(و لكن أكثرهم يجهلون) (4) .

ص: 141


1- 244. الأنعام/ 116.
2- 245. المؤمنون/ 70.
3- 246. يونس/ 36.
4- 247. الأنعام/ 111.

و قد رُوي عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في صحاح السُنه أنه قال: «بينا أنا قائم- يعني يوم القيامه علي الحوض- فإذا زمره، حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم فقال: هلم، فقلت أين؟ فقال: إلي النار واللَّه، قلت: و ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري- إلي أن قال:- فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم» (1) .

و لا يمكن أن تكون هذه الأكثريه الجهنميه التي حدّث عنها رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم مصدر السلطة في الإسلام؛ لأنها لا تنشئ بطبيعة الحال إلا خلافه مطبوعه بطابعها.

و إذا خرجنا بالأكثريه عن حدود المدنيين الذين عرفنا آنفا مراكزهم الجهنميه علي الأغلب في الحياه الخالده، واعتبرنا أكثريه المسلمين عموما هي المقياس الصحيح، فلا بد أن نلاحظ أن المدينه هل كانت وحدها مسكن المسلمين ليكتمل النصاب المفروض بالأكثريه المدنيه أو أن أبابكر لم يكتف بها و إنما بعث إلي المسلمين المنتشرين في أرجاء المملكه بالخبر ليأخذ آراءهم و يستشيرهم؟! كلّا لم يحدث شي ء من ذلك و إنما فرض حكومته علي آفاق المملكه كلها فرضا لا يقبل مراجعه و لا جدالا حتي أصبح التردد في الخضوع لها جريمه لا تغتفر (2) .

و قالوا: إن الخلافه تحصل ببيعه بعض المفسرين، و لا ريب أن ذلك قد حصل لأبي بكر.

ولكن هذا مما لا يقره المنطق السياسي السليم، لأن البعض لا يمكن

ص: 142


1- 248. صحيح البخاري 8: 86- كتاب الفتن.
2- 249. صحيح البخاري 8: 68- كتاب الفتن.

أن يتحكم في شؤون الاُمه كلها، و لأن حياه الاُمه لا يمكن أن تعلق علي خيط ضعيف كهذا الخيط، و يركن في حفظ مقدّساتها و مقامها إلي حكومة أنشأها جماعة من الصحابه لم يزكهم إجماع شعبي، و لا نصّ مقدس، بل هم اُناس عاديون من الصحابه. و نحن نعلم أن (و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو اُذن) (1) (و منهم من عاهد اللَّه لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين- فلما آتاهم من فضله بخلوا به و تولوا و هم معرضون- فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلي يوم يلقونه بما أخلفوا اللَّه ما وعده و بما كانوا يكذبون) (2) ، و منهم من خص اللَّه تعالي نفسه بالاطلاع علي سرائرهم و نفاقهم فقال لرسوله: (و من أهل المدينه مردوا علي النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (3) .

فجماعه فيها المنافق، و فيها من يؤذي رسول اللَّه، و فيها الكاذب لا يمكن أن يعتبر رأي بعضهم أيا كان، ملاكا للمنصب الأول في العالم الإسلامي.

و تعليقا علي هذه المعلومات نقول: إن خلافه الصديق لم تكن خلافه نص، و لا خلافه أكثريه و لا نتيجه انتخاب مباشر و لا غير مباشر، نعم بذل في سبيلها بعض المسلمين جهودا رائعه، والتفت حولها طائفه من الناس وانتصرت لها جماعات عديده في المدينة، ولكن هؤلاء جميعا ليسوا إلا بعض المسلمين، والبعض ليس له حكم مطاع في الموضوع، لأن الحكم الذي يستمد معنويته القانونية من الاُمه يلزم أن يكون صاحبه ممثلاً للاُمة بجميع عناصرها أو أكثر عناصرها، هذا أوّلا، و أمّا ثانياً فلأن في المسلمين منافقين لا يعلمهم

ص: 143


1- 250. التوبة/ 61.
2- 251. التوبة/ 75- 77.
3- 252. التوبة/ 101.

إلّا اللَّه بنص القرآن الكريم، و تنزيه هذا البعض المتوفر علي إنشاء الكيان السياسي للاُمّة حينئذٍ عن النفاق لا بد أن يكون عن طريق النص أو الاُمّه.

و إذن فليسمح لنا الصديق أن نميل إلي رأي الزهراء بعض الميل أو كل الميل، لأننا لا نجد للفتنة واقعاً أوضح من تسلط رجل بلا وجه قانوني علي اُمه، و تصرفه في مرافقها الحيوية جميعا كالصديق رضي اللَّه عنه في أيام خلافته، أو في الأشهر الاُولي أو في الأسابيع الاُولي من حكومته التي خطبت فيها الزهراء- علي أقل تقدير.

و ما أدري هل خطرت للمتسرعين المستبدين نتائج استبدادهم و استقلالهم عن العناصر التي كان من الطبيعي أن يكون لها رأي في الموضوع لو قامت تلك العناصر بالمعارضه، واستعد الهاشميون للمقاومه، و قد كان تقدير هذا المعني قريباً و معقولاً إلي حد بعيد، فكيف لم يحتاطوا له وانتهوا إلي نتيجتهم المطلوبه في مده قد لا تزيد علي ساعه؟!

و لماذا نقدس الموقف أكثر مما قدسه أبطاله؟ فقد بلغ من تقديس الفاروق أنّه أمر بقتل من عاد إلي مثل بيعة أبي بكر (1) و كرر ذلك الموقف.

و إذا أردنا أن نأخذ هذا الكلام و نفهمه علي أنه كلام إمام يراعي دستور الإسلام، فمعني ذلك أنه رأي موقف أبي بكر و أصحابه في السقيفه فتنه و فسادا؛ لأن القتل لا يجوز بغير ذلك من الأسباب.

و هي بعد ذلك كله اُم الفتن هي التي جعلت الخلافة سلطان اللَّه

ص: 144


1- 253. الصواعق المحرقه: 56، طبعه دارالكتب العلميه، ط 3- بيروت/ 1414 ه، طبعة المطبعة الميمنية/ 1312 ه: 21.

الذي يأتيه البر و الفاجر كما صرحت بذلك السيده عائشه (رضي اللَّه عنها) التي كانت بلا شك تمثل نظريات الحزب الحاكم (1) . و هي التي فتحت للأهواء والأطماع السياسيه ميدانها الواسع، فتولدت الأحزاب و تناحرت السياسات و تفرق المسلمون وانقسموا شر انقسام (2) ذهب بكيانهم الجبار و مجدهم في التاريخ.

و ماذا ظنك بهذه الاُمه التي أنشأت في ربع قرن المملكة الاُولي في أرجاء العالم بسبب انّ زعيم المعارضه للحكومه في ذلك الحين- أعني عليا- لم يتخذ للمعارضه أسبابها المزعزعه لكيان الاُمه و وحدتها؟!

(أقول) ماذا تقدر لها من مجد و سلطان و هيمنه علي العالم لو لم تبتل بعشاق الملك المتضاربين، والاُمراء السكاري بنشوه السلطان، ولم تكن مسرحاً للمعارك الدامية التي يقل نظيرها في التاريخ، و لم يستغل حكامها الغاشمون إمكانيات الاُمه كلها للذاتهم و هنائهم و يستهينون بعد ذلك بمقدراتها جميعا (3) ؟

لم ينظر الصديق والفاروق إلا إلي زمانهما الخاص، فتصورا أن في طاقتهما حمايه الكيان الإسلامي، و لكنّهما لو تعمّقا في نظرتهما كما تعمقت الزهراء و توسعا في مطالعه الموقف لعرفا صدق الإنذار الذي أنذرتهما به الزهراء.

ص: 145


1- 254. الدر المنثور 6: 19 المطبعه الميمنيه بمصر/ 1314 ه. [الشهيد]
2- 255. الملل والنحل/ الشهرستاني 1: 30- 31، مكتبه الانجلو المصريه- القاهرة/ ط 2.
3- 256. راجع: مروج الذهب/ المسعودي 3: 214 و ما بعدها، العقد الفريد/ ابن عبدربه 5: 200- 202، العداله الاجتماعيه في الإسلام/ الشهيد سيد قطب.

ص: 146

محكمة الكتاب

اشاره

(إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن اللَّه نعما يعظكم به إن اللَّه كان سميعا بصيرا)

النساء/ 58

ص: 147

[تمهيد]

إذا أردنا أن نرتفع بمستوي دراستنا إلي مصاف الدراسات الدقيقة، فلا بدّ أن نأخذ أنفسنا بمناهج البحث العلمي في درس ناحيتين:

موقف الخليفه الأول من تركة النبي

الناحية الاُولي: موقف الخليفة تجاه ميراث الزهراء الذي كان يستند فيه إلي ما رواه عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في موضوع الميراث بأساليب متعدده و صور مختلفه لتعدد مواجهات الخصمين، فجاءت الأحاديث التي تنقل روايته و هي لا تتفق (1) علي حد تعبير واحد، و لا تجمع علي لفظ معين؛ لاختلاف المشاهد التي ترويها، و اختصاص كل منها بصيغه خاصه للحديث علي حسب ما كان يحضر الخليفه من عبائر أو تعدد الروايات التي رواها في المسألة.

1- و قبل كل شي ء نريد أن نلاحظ مقدار تأكد الخليفة من صحة

ص: 148


1- 257. راجع الروايه التي انفرد بها الصديق مع اختلاف التعابير التي وردت فيها في: سنن البيهقي 6: 297- 302، شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 214، 218، 219، 221، 227.

الحديث الذي رآه دالا علي نفي توريث التركه النبويه واطمئنانه إلي سماع ذلك من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و ثباته عليه. و يمكننا فهم ذلك مما تحدثنا به الروايات (1) من أن الخليفه سلم فدك للحوراء و كاد الامر أن يتم لولا أن دخل عمر و قال له: «ما هذا؟ فقال له: كتاب كتبته لفاطمه بميراثها من أبيها، فقال: ماذا تنفق علي المسلمين و قد حارتك العرب كما تري. ثم أخذ الكتاب فشقه» (2) . و نحن ننقل هذه الروايه في تحفظ و إن كنا نستقرب صحتها؛ لأن كل شي ء كان يشجع علي عدم حكايه هذه القصه لو لم يكن لها نصيب من الواقع، و إذا صحت فهي تدل علي أن أمر التسليم وقع بعد الخطبه الفاطميه الخالده و نقل الخليفه لحديث نفي الرٍإث عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم؛ لأن حروب الرده التي أشار إليها عمر في كلامه ابتدأت بعد يوم السقيفه بعشره أيام (3) ، و خطبه الزهراء قد كانت في اليوم العاشر أيضا كما سبق (4) .

2- و قد أظهر الخليفه الندم في ساعه وفاته علي عدم تسليم فدك لفاطمه (5) ، و قد بلغ به التأثر حينا أن قال للناس و قد اجتمعوا حوله: أقيلوني بيعتي. و ندرك من هذا أن الخليفه كان يطوي نفسه علي قلق عظيم مردّه إلي الشعور بنقص مادي في حكمه علي فاطمه و ضعف في المدرك الذي استند

ص: 149


1- 258. ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيره الحلبيه 3: 363. [الشهيد]، شرح النهج 16: 234.
2- 259. راجع شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 234- 235.
3- 260. مروج الذهب 2: 193. [الشهيد]
4- 261. و لعلّ هذا يضعف من شان الروايه؛ لأن الخليفه لو كان مستعدا للتراجع لأجاب الزهراء إلي ما تطلب في المسجد حينما خطبت و أسمعته من التأنيب والتقريع الشي ء الكثير. [الشهيد].
5- 262. تاريخ الطبري 2: 353، سمو المعني في سمو الذات/ العلايلي: 18. [الشهيد]

اليه، و يثور به ضميره أحيانا فلا يجد في مستنداته ما يهدي نفسه المضطربه و قد ضاق بهذه الحاله المريره، فطفحت نفسه في الساعه الأخيره بكلام يندم فيه علي موقفه من الزهراء، تلك الساعه الحرجه التي يتمثل فيها للإنسان ما مثله علي مسرح الحياه من فصول أو شك الستار أن يسدل عليها، و تجتمع في ذاكرته خيوط حياته بألوانها المختلفه التي آن لها أن تنقطع، فلا يبقي منها إلّا التبعات.

3- ولا ننسي أن أبابكر أوصي (1) أن يُدفن إلي جوار رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و لا يصح ذلك إلا إذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونياً في الموضوع، و استأذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته من أرض الحجره- إذا كان للزوجه نصيب في الأرض، و كان نصيب عائشه يسع ذلك- و لو كان يري أن تركه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم صدقه مشتركه بين المسلمين عامه، للزمه الاستئذان منهم. وهب أن البالغين أجازوا ذلك فكيف بالأطفال والقاصرين ممن كانوا في ذلك الحين؟!

4- و نحن نعلم أيضا أن الخليفه لم ينتزع من نساء النبي بيوتهن و مساكنهن التي كن يسكن فيها في حياه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، فما عساه؟أن يكون سبب التفريق الذي أنتج انتزاع فدك من الزهراء و تخصيص حاصلاتها للمصالح العامه و إبقاء بيوت نساء النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لهن يتصرفن فيها كما يتصرف المالك في ماله حتي تستأذن عائشه في الدفن في حجرتها؟ أكان الحكم بعدم التوريث مختصا ببضعه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟! أو أن بيوت الزوجات كانت

ص: 150


1- 263. تاريخ الطبري 3: 349.

نحله لهن؟ فلنا أن نستفهم عما أثبت ذلك عند الخليفه و لم تقم بينه، عليه و لا ادعته واحده منهن، و ليست حيازتهن للبيوت في زمان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم شاهدا علي ملكيتهن لها؛ لأنها ليست حيازه استقلاليه، بل من شؤون حيازه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم ككل زوجه بالنسبه إلي زوجها؟ كما أن نسبه البيوت إليهن في الآيه الكريمه: (و قرن في بيوتكن) (1) ، لا يدل علي ذلك؛ لأن الإضافه يكفي في صحتها أدني ملابسه، و قد نسبت إلي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم في القرآن الكريم بعد تلك الآيه بمقدار قليل إذ قال اللَّه تبارك و تعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) (2) . فإذا كان الترتيب القرآني حجه، لزم الأخذ بما تدل عليه هذه الآيه. و ورد في صحاح السنه عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إسناد البيت إليه في قوله: «إنّ ما بين بيتي و منبري روضه من رياض الجنه» (3) .

5- و لنتساءل عما إذا كان الحكم بعدم توريث الأنبياء الذي ذهب إليه الخليفه مما اختزنه الوحي لخاتم المرسلين صلي اللَّه عليه و آله و سلم، واقتضت المصلحه تأخيره عن وقت الحاجه، و إجراءه علي الصديقه دون سائر ورثه الأنبيا؟ أو أن الرسل السابقين قد أهملوا تبليغه و تعريف خلفائهم و ورثتهم به طمعا بالماده الزائفه، واستبقاء لها في أولادهم و آلهم؟ أو أنهم كانوا قد انتهجوا هذا الطريق و نفذوا الحكم بعدم التوريث، و مع ذلك لم يؤثر في التواريخ جميعا؟ أو أن السياسه السائده يومذاك هي التي أنشأت هذا الحكم؟

ص: 151


1- 264. الاحزاب/ 33.
2- 265. الأحزاب/ 53.
3- 266. مسند الإمام أحمد 2: 236- طبعه دارالفكر- بهامشه المنتخب من كنزالعمال.

6- و من جهه اُخري هل يمكننا أن نقبل أن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يجر علي أحب الناس إليه و أقربهم منه البلايا والشدائد و هي التي يغضب لغضبها و يسر لسرورها و ينقبض لانقباضها (1) ، و لم يكن ليكلفه دفع هذه المحن عنها أكثر من إعلامها بحقيقه الأمر لئلا تطلب ما ليس لها بحق، و كأن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لذ له أن ترزي ابنته، ثم تتسع هذه الرزيه فتكون أداه اختلاف و صخب بين المسلمين عامه، و هو الذي اُرسل رحمه للعالمين، فبقي مصرا علي كتمان الخبر عنها مع الإسرار به إلي أبي بكر.

روايات الخليفه الأول و مناقشتها

1- لأجل أن نلقي نظره علي الحديث من الناحيه المعنويه بعد الملاحظات التي أسلفناها، نقسم الصيغه التي جاءت في روايه الموضوع إلي قسمين:-

(الأول) ما جاء في بعضها من أنّ أبابكر بكي لما كلمته فاطمه ثم قال: يا بنت رسول اللَّه، و اللَّه ما ورث أبوك دينارا و لا درهما، و إنه قال: إن الأنبياء لا يورثون (2) . و ما ورد في حديث الخطبه من قوله: «إني سمعت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضه و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا لكنما نورث الايمان والحكمه والعلم والسنه» (3) .

ص: 152


1- 267. صحيح البخاري 5: 83 باب 43 حديث رقم 232، صحيح مسلم 4: 1902 حديث رقم 93/ 2449. تاريخ بغداد/ الخطيب البغدادي 17: 203 دارالكتب العلميه- بيروت. مسند الإمام أحمد 1: 6، طبعه دار صادر.
2- 268. شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 316، سنن البيهقي 6: 301.
3- 269. شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 252، 214، سنن البيهقي 6: 300.

(الثاني) التعبير الذي تنقله عده أخبار عن الخليفه و هو ما رواه عن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم من «إنا لا نورث ما تركناه صدقه» (1) .

2- والنقطه المهمه في هذا البحث هي معرفة ما إذا كانت هذه الصيغ تدل بوضوح لا يقبل تشكيكا و لا تأويلا- و هو النص (2) في العرف العلمي- علي أن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا تورث تركته، أو ما إذا كانت تصلح للتعبير بها عن معني آخر و إن كانت للتعبير بها عن الحكم بعدم التوريث أصلح- و هو الظاهر في الاصطلاح- و للمسأله تقدير ثالث و هو أن لا يرجح المعني الذي هو في صالح الخليفه علي ما قد يؤدي باللفظ من معان اُخر- و هو الجميل (3) .

3- إذا لاحظنا القسم الأول من صيغ الحديث وجدنا رواياته تقبل أن تكون بياناً لعدم تشريع توريث الأنبياء كما فهمه الخليفه، و يمكن أن تكون كنايه عن معني لا يبعد أن يقع في نفس رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بيانه؛ و هو تعظيم مقام النبوه و تجليل الأنبياء؛ و ليس من مظهر للجلاله الروحيه والعظمه الإلهيه

ص: 153


1- 270. شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 224، 218، سنن البيهقي 6: 301.
2- 271. النص: قال الرازي: إذا كان اللفظ موضوعا لمعني، و لا يكون محتملا لغيره فهذا هو النص. و أما المجمل فيظهر من كلامه أنّه ما دل علي معنيين علي التساوي. راجع التفسير الكبير/ الفخر الرازي 7: 18 و جاء في معارج الاُصول/ المحقق الحلي: 105: النص: «هو الكلام الذي يظهر إفادته لمعناه، و لا يتناول أكثر مما هو مقول فيه. أما المجمل: فهو ما أفاد جمله من الأشياء... و اللفظ لا يعنيه...». و راجع بيان النصوص التشريعه/ بدران أبوالعينين: 5.
3- 272. المصباح المنير/ 2: 654، نشر دارالهجره- قم المقدسه.

أجلي دلاله و أكثر مادية من الزهد في الدنيا، و لذائذها الزائفه، و متعها الفانيه. فلماذا لا يجوز لنا افتراض أن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أراد أن يشير إلي أن الأنبياء اُناس ملائكيون و بشر من الطراز الأسمي الذي لا تشوبه الأنانيات الاأضيه والأهواء البشريه؟ لأن طبيعتهم قد اشقت من عناصر السماء- بمعناها الرمزي- المتدفقه بالخير لا من مواد هذا العالم الأرضي، فهم أبدا و دائما منابع الخير، والطاعون بالنور، والمورثون للإيمان والحكمه، والمركزون للسلطان الالهي في الأرض. وليسوا مصادر للثروه بمعناها المصطلح عليه في عرف الناس، و لا بالساعين وراء نفائسها. و لماذا لا يكون قوله: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً و لا فضه و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا» كنايه عن هذا المعني؟ لأن توريثهم لهذه الأشياء إنما يكون بحيازتهم لها، و تركهم إياها بعد موتهم و هم منصرفون عنها، لا يحسبون لها حساباً و لا يقيمون لها و زنا ليحصلوا علي شي ء منها. فما هو تحت اللفظ نفي التوريث لعدم وجود التركه كما إذا قلنا: إن الفقراء لا يورثون، لا أنهم يختصمون عن سائر الناس بحكم يقضي بعدم جريان أحكام الإرث علي تركاتهم. والهدف الأصلي من الكلام بيان جلال الأنبياء. و هذا الاُسلوب من البيان مما يتفق مع الأساليب النبويه الرائعه التي تطفح بالمعاني الكبار و تزخر بأسماها في موجاتها اللفظيه القصيره.

4- ولكي تتّفق معي علي تفسير معين للحديث، يلزم أن نعرف معني التوريث لنفهم الجمله النافيه له كما يلزم. و معني التوريث جعل شي ء ميراثا، فالمورث من يكون سببا لانتقال المال من الميت إلي قريبه (1) و هذا

ص: 154


1- 273. المصباح المنير 2: 654 نشر دارالهجره- قم المقدسه.

الأنتقال يتوقف علي أمرين:-

(أحداهما) وجود التركه.

(والآخر) القانون الذي يجعل للوارث حصه من مال الميت. و يحصل الأول بسبب نفس الميت، و الثاني بسبب المشرع الذي وضع قانون الوراثه سواء أكان فردا أسندت إليه الناس الصلاحيات التشريعيه أو هيئه تقوم علي ذلك، أو نبيا يشرع بوحي من السماء؛ فكل من الميت والمشرع له نصيب من إيجاد التوارث، و لكن المورث الحقيقي الذي يستحق التعبير عنه بهذا اللفظ بحق هو الميت الذي أوجد ماده الارث؛ لأنه هو الذي هيّأ للإرث شرطه الأخير بما خلفه من ثروه، و أما المشرع فليس مورثا من ذلك الطراز لأنه لم يجعل بوضعه للقانون، ميراثا معينا بالفعل، بل شرع نظاما يقضي بأن الميت إذا كان قد ملك شيئا و خلفه بعد موته فهو لأقاربه. و هذا وحده لا يكفي لإيجاد مال موروث في الخارج، بل يتوقف علي أن يكون الميت قد أصاب شيئا من المال و خلفه بعده.

فالواضع التشريعي نظير من يضيف عنصرا خاصا إلي طبيعه من الطبائع، فيجعلها قابله لإحراق ما يلاقيها. فإذا ألقيت إليها بورقه فاحترقت كنت أنت الذي أحرقتها لا من اضاف ذلك العنصر المحرق إلي الطبيعه؛ والقاعده التي تعلل ذلك، أن كل شي ء يسند بحسب اُصول التعبير إلي المؤثر الأخير فيه. و في ضوء هده القاعده نعرف أن نسبه التوريث إلي شخص تدل علي أنه المؤثر الأخير في الإرث، و هو الموروث (1) الذي

ص: 155


1- 274. المصباح المنير 2: 654 نشر دارالهجره- قم المقدسه.

أوجد التركه. فالمفهوم من جمله: أن الأنبياء يورثون، أنهم يحصلون علي الأموال و يجعلونها تركه من بعدهم، و إذا نفي التوريث عنهم، كان مدلول هذا النفي أنهم لا يهيؤون للارث شرطه الأخير، و لا يسعون وراء الأموال ليتركوها بعد وفاتهم لورثتهم. و إذن فليس معني: أن الأنبياء لا يورثون، عدم التوريث التشريعي، و نفي الحكم بالإرث؛ لأن الحكم بالإرث ليس توريثا حقيقيا، بل التوريث الحقيقي تهيئه نفس التركه و هذا هو المنفي في الحديث.

و علي طراز آخر من البيان أن التوريث الذي نفاه خاتم النبيين عن الأنبياء، إن كان هو التوريث التشريعي، كان مفاد النفي الغاء قانون الإرث من شرائع السماء؛ لأن توريثهم التشريعي لا يختص بورثتهم حتي يكون المنفي توريثهم خاصه. و إن كان هو التوريث الحقيقي، بمعني تهيئه الجو المناسب للإرث، سقطت العباره عما أراد لها الصديق من معني و كان معناها أن الأنبياء لا تركه لهم لتورث.

5- و في الروايه الاُولي مهد الخليفه للحديث بقوله: «و اللَّه ما ورث أبوك دينارا و لا درهما» (1) ، و هذا التعبير واضح كل الوضوح في نفي التركه و عدم ترك رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم شيئا من المال. فإذا صح للخليفه أن يستعمل تلك الجمله في هذا المعني، فليصح أن تدل صيغه الحديث عليه أيضا و يكون هو المقصود منها.

6- و إذا لاحظنا الامثله التي ذكرت في الروايه الثانيه نجد فيها ما يعزز

ص: 156


1- 275. شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 216.

قيمه هذا التفسير؛ لأن ذكر الذهب و الفضه والعقار والدار- مع أنها من مهمات التركه- لا يتفق مع تفسير الحديث بأن التركه لا تورث؛ لأن اللازم ذكر أتفه الأشياء لبيان عموم الحكم بعدم الإرث لسائر مصاديق التركه. كما إنا إذا أردنا أن نوضح عدم إرث الكافر لشي ء من تركه أبيه لم نقل: إن الكافر لا يرث ذهبا و لا فضه و لا دار و إنما نقول: إنه لا يرث تمره واحده من تركه الميت. و بتعبير واضح أن الاهتمام بتوضيح عموم الحكم لكل أقسام التركه يقتضي التصريح ببعض أقسام المال الذي قد يتوهم متوهم عدم اندراجه في التركه التي لا تورث. و قولنا: الأنبياء لا يورثون أو أن الكفار لا نصيب لهم من تركه آبائهم، يدل أول ما يدل علي عدم انتقال الدار والعقار والذهب والفضه و غيرها من نفيس التركه و مهمها. فذكر هذه الاُمور في الحديث يرجح أن المقصود بنفي توريث الأنبياء، بيان زهدهم و عدم اهتمامهم بالحصول علي نفائس الحياة المحدوده التي يتنافس فيها المتنافسون؛ لأن المناسب لهذا الغرض ذكر الأموال المهمه التي تكون حيازتها و توريثها منافيا للزهد والمقامات الروحيه العليا. و أمّا الأخبار عن عدم التوريث في الشريعة فاللائق به ذكر التوافه من التركه دون أقسامها الواضحه المهمه.

7- و أمر آخر يشهد لما ذكرناه من التفسير و هو الجمله الثانيه الإيجابيه في الحديث أي جمله: «و لكنا نورث الإيمان والحكمه والعلم والسنه» (1) ، فإنها لا تدل علي تشريع وراثه هذه الامور، بل علي توفرها في الأنبياء إلي

ص: 157


1- 276. شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 214.

حد يؤهلهم لنشرها و إشاعتها بين الناس. فقد نفهم حينئذ أن المراد بالجمله الاُولي التي نفت التوريث؛ بيان أن الأنبياء لا يسعون للحصول علي الذهب والعقار و نحوهما، و لا يكون لهم من ذلك شي ء ليرثه آلهم.

8- و لا يجوز لنا أن نقيس عباره الحديث المرويه عن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بقوله: «إن الناس لا يورثون الكافر من أقاربهم» (1) ، بل يلزمنا أن نفرق بين التعبيرين لأن المشرع إذا تكلم عمن يشرع لهم أحكامهم كان الظاهر من كلامه أنه يلقي بذلك عليهم حكما من الأحكام. فإخبار النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم عن عدم توريث الناس للكافر من أقاربهم لا يصح تفسيره بأنه إخبار فقط، بل يدل فوق هذا علي أن الكافر لا يرث في شريعته. و تختلف عن ذلك العباره التي نقلها الخليفه؛ لأن موضوع الحديث فيها هو الأنبياء لا جماعه ممن تشملهم تشريعات النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و أحكامه، فلي في الأمر ما يدل علي حكم وراء الإخبار عن عدم توريثهم.

9- و ليس لك أن تعترض بأن الأنبياء كثيرا ما يحوزون علي شي ء مما ذكر في الحديث، فيلزم علي ما ذكرت من التفسير أن يكون الحديث كاذبا؛ لأنك قد تتذكر أن الذي نفي عن الأنبياء هو التوريث خاصه، و هو ينطوي علي معني خاص، و أعني به إسناد الإرث إلي المورث. و هذا الإسناد يتوقف علي أن يكون المورث قد سعي في سبيل الحصول علي المال الذي تركه ميراثا بعده، كما يتوقف معني المهذب علي استعمال وسائل التهذيب.

ص: 158


1- 277. ورد الحديث بألفاظ و عبارات اُخري مفادها ما تقدم، فعن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أنه قال: لا يرث المسلم الكافر و لا الكافر المسلم، راجع سنن ابن ماجه 2: 164، صحيح سنن المصطفي/ أبي داود 2: 19- باب هل يرث المسلم الكافر.

فإذا استطاع شخص أن يقرأ أفكار عالم من علماء الأخلاق، و يهذب نفسه علي هدي تلك الأفكار، لم يصح تسميه ذلك العالم مهذبا؛ لأن إيجاد أي شي ء سواء أكان تهذيبا أو توريثا أو تعليما أو نحو ذلك لا يستقيم إسناده إلي شخص إلا إذا كان للشخص عمل إيجابي، و تأثير ملحوظ في تحقق ذلك الشي ء الموجود. و الأنبياء و إن حازوا شيئا من العقارات والدور، و لكن ذلك لم يكن بسعي منهم وراء المال كما هو شأن الناس جميعا. و نقرر علاوه علي هذا أن المقصود من الكلام ليس هو بيان أن الأنبياء لا يورثون و لا يتركون مالا، بل ما يدل عليه ذلك من مقامهم و امتيازهم. و ما دامت الجمله كذلك و لم يكن الهدف الحقيقي منها بيان معناها الحرفي، فلا يمنع حيازه الأنبياء لبعض تلك الأموال عن صواب التفسير الذي قدمناه، كما أن من كني قديما عن الكريم بأنه كثير الرماد (1) لم يكن كاذبا سواء أكان في بيت الكريم رماد، أو لا؛ لأنه لم يرد نعته بهذا الوصف حقاً و إنما أشار به إلي كرمه، لأن أظهر لوازم الكرم يومذاك كثره المطابخ الموجبه لكثره الرماد. و عدم التوريث من أوضح آثار الزهد و الورع، فيجوز أن يكون رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قد أشار إلي ورع الأنبياء بقوله: إن الأنبياء لا يورثون.

10- و لأجل أن نتبيه معني القسم الثاني من صيغ الحديث يلزمنا أن نميز بين معان ثلاثه-:

ص: 159


1- 278. الكنايه عن الكريم بكثير الرماد، مما شاع علي ألسنه البلغاء والشعراء. راجع: جواهر البلاغه/ أحمد الهاشمي: 363. لاحظ بيت الخنساء المشهور في أخيها صخر: رفيع العماد طويل النجاد كثير الرماد...

(الأول) أنّ تركه الميت لا تورث، و معني هذا إن ما كان يملكه إلي حين وفاته، و تركه بعده لا ينتقل إلي آله بل يصبح صدقه حين موته.

(الثاني) أن ما تصدق به الميت في حياته، أو أوقفه علي جهات معينه لا يورث بل يبقي صدقه و وقفا، والورثه إنما يورثون غير الصدقات من الأموال التي كان يملكها الميت إلي حين وفاته.

(الثالث) أن الشخص ليس ليده أموال مملوكه له لتورث، و كل ما سوف يتركه من أموال إنما هو من الصدقات و الأوقاف.

و متي عرفنا الفارق بين هذه المعاني يظهر أن صيغه الحديث ليست واضحه كل الوضوح و لا غنيه عن البحث والتمحيص، بل في طاقتها التعبيريه إمكانيات التفسير بالمعاني الآنفه الذكر جميعا؛ فإن النصف الثاني من الحديث و هو- ما تركناه صدقه- يجوز أن يكون مستقلا في كيانه المعنوي، مركبا من مبتدأ و خبر، و يمكن أن يكون تكمله لجمله لا نورث. ففي الحاله الاُولي يقبل الحديث التفسير بالمعني الأول والثالث من المعاني السابقه لأن جمله- ما تركناه صدقه- قد يراد بها أن التركه لا تنتقل من ملك الميت إلي آله و إنما تصبح صدقه بعد موته، و قد يقصد بها بيان المعني الثالث و هو أن جميع التركه صدقه و لم يكن يملك منها الميت شيئا ليورث كما إذا أشار الإنسان إلي أمواله و قال: إن هذه الأموال ليست ملكا لي و إنما هي صدقات أتولاها. والحديث علي تقدير أن تكون له وحده معنويه، يدل علي المعني الثاني؛ أي أن الصدقات التي تصدق بها الميت في حياته لا تورث دون سائر تركته، و يكون الموصول مفعولا لا مبتدأ. و يتضح من الصيغه علي هذا التقدير نفس ما يفهم منها إذا انعكس الترتيب فيها و جاءت

ص: 160

هكذا:- ما تركناه صدقه لا نورثه- فكما يؤتي بهذه الجمله لبيان أن الصدقات لا تورث، لا أن كل أقسام التركه صدقه، كذلك يصح أن يقصد نفس ذلك المعني من صيغه الحديث بترتيبها المأثور. فتكون دليلا علي عدم انتقال الصدقات إلي الورثه لا علي عدم تشريع الإرث إطلاقا. و قد يكون من حق سيبويه علينا أن نشير إلي أن قواعد النحو ترفع كلمه صدقه علي تقدير استقلال- ما تركناه صدقه- معنويا و تنصبها علي التقدير الآخر. و من الوضوح أن الحركات الاعرابيه لا تلحظ في التكلم عاده بالنسبه إلي الحرف الأخير من حروف الجمله للوقوف عليه المجوز لتسكينه.

11- و إذن فقد وضعنا بين يدي الحديث عده من المعاني في سبيل البحث عن مدلوله. و ليس من الإسراف في القول أن نقرر أن تفسير الحديث بما يدل علي أن أموال النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم تكون صدقه بعد موته، لا يرجح علي المعنيين الآخرين، بل قد نتبين لونا من الرجحان للمعني الثاني- و هو أن المتروك صدقه لا يورث- دون سائر التركه إذا تأملنا ضمير الجمع في الحديث، و هو النون، و هضمنا دلالته كما يجب لأن استعماله في شخصه الكريم خاصه لا يصح إلا علي سبيل المجاز، ثم هو بعد ذلك بعيد كل البعد عن تواضع رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في قوله و فعله. فالظواهر تجمع علي أن النون قد استعملت في جماعه، و إن الحكم الذي تقرره العباره ثابت لها و ليس مختصا بالنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم، والأوفق بأصول التعبير أن تكون الجماعه جماعه المسلمين لا الأنبياء؛ لأن الحديث مجرد عن قرينه تعين هؤلاء، و لم يسبق بعهد يدل عليهم. و ليس لكم أن تعترض بأن صيغه الحديث يجوز أنها كانت مقترنه حال صدورها من النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بقرينه أو مسبوقه بعهد يدل علي أن

ص: 161

مراده من الضمير جماعة الأنبياء، لأن اللازم أن نعتبر عدم ذكر الخليفه لشي ء من ذلك- مع أن الراوي لحديث لا بد له من نقل سائر ما يتصل به مما يصلح لتفسيره- دليلا علي سقوط هذا الاعتراض. و أضف إلي هذا أن إغفال ذلك لم يكن من صالحه، و إذن فليكن الواقع اللفظي للحديث هو الواقع المأثور عن الخليفه بحدوده الخاصه بلا زياده و لا نقيصه.

والمفهوم من الضمير حينئذ جماعه المسلمين لحضورهم ذاتا عند صدور العابره من النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم. و قد جرت عاده المتكلمين علي أنهم إذا أوردوا جمله في مجتمع من الناس، و أدرجوا فيها ضمير المتكلم الموضوع للجماعه، أن يريدوا بالضمير الجماعه الحاضره. فلو أن شخصا من العلماء اجتمع عنده جماعه من أصدقائه، و أخذ يحدثهم و هو يعبر بضمير المتكلم بالجماعه نفسه مع أصدقائه الحاضرين لا معشر العلماء الذين يندرج فيهم، و لو أراد جماعه غيب اُولئك الحاضرين لم يكن مبينا بل ملغزا. و تعليقا علي هذا التقدير ماذا تراه يكون هذا الحكم الذي أثبته الحديث للمسلمين- الذين قد عرفنا أن الضمير يدل عليهم- هل يجوز أن يكون عباره عن عدم توريث المسلم لتركته؟ أو أن الأموال التي عند كل مسلم ليست ملكا له و إنما هي من الصدقات؟ كلا! فإن هذا لا يتفق مع الضروري من تشريع الإسلام، لأن المسلم في عرف القرآن يملك بألوان متعدده من أسباب الملك عند الناس، و يورث ما يتركه من أموال (بعد وصيه يوصي بها أو دين) (1) . و أنت تري

ص: 162


1- 279. إشاره إلي قوله تعالي: (يوصيكم اللَّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأُنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك و إن كانت واحده فلها النصف و لابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد و ورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوه فلامه السدس من بعد وصيه يوصي بها أو دين) النساء/ 11.

معي الآن بوضوح أن الحكم ليس إلا أن الصدقه لا تورث، فإن هذا أمر عام لا يختص بصدقه دون صدقه بل يطرد في سائر صدقات المسلمين. و لا غرابه في بيان الحكم بعدم توريث الصدقات في صدر زمان التشريع مع وضوحه الآن؛ لأن قواعد الشريعه و أحكامها لم تكن قد تقررت و اشتهرت بين المسلمين فكان لاحتمال انفساخ الصدقات و الأوقاف بموت المالك و رجوعها إلي الورثه متسع، و لا يضعضع قيمه هذا التفسير عدم ذكر الزهراء له و اعتراضها به علي الخليفه.

أما أولا: فلأن الموقف الحرج الذي وقفته الزهراء في ساعتها الشديده لم يكن ليتسع لمثل تلك المناقشات الدقيقه؛ حيث أن السلطه الحاكمه التي كانت تريد تنفيذ قراراتها بصوره حاسمه قد سيطرت علي الموقف بصرامه و عزم لا يقبلان جدالا، و لذا نري الخليفه لا يزيد في جواب استدلال خصمه بآيات ميراث الأنبياء علي الدعوي الصارمه إذ يقول: «هكذا هو»- كما في طبقات ابن سعد (1) - فلم يكن مصير هذه المناقشات لو قدر لها أن تساهم في الثوره بنصيب إلا الرد والفشل.

و أما ثانيا: فلأن هذه المناقشات لم تكن تتصل بهدف الزهراء و غرضها الذي كان يتلخص في القضاء علي جهاز الخلافه الجديده كلها، فمن الطبيعي أن تقتصر علي الأساليب التي هي أقرب إلي تحقيق ذلك الغرض،

ص: 163


1- 280. طبقات ابن سعد 2: 315، طبعه دارصادر، قول الخليفه الأول في الجواب: هكذا هو.

فتراها مثلا في خطابها الخالد خاطبت عقول الناس و قلوبهم معاً، و لكنها لم تتجاوز في احتجاجها الوجوه البديهيه التي كان من القريب أن يستنكر اغضاء الخليفه عنها كل أحد، و يجر ذلك الاستنكار إلي معارضه حاميه.

فقد نفت وجود سند لحكم الخليفه من الكتاب الكريم، ثم ذكرت ما يخالفه من الآيات العامه المشرعه للتوارث بين سائر المسلمين (1) ، و الآيات الخاصه الداله علي توريث بعض الأنبياء كيحيي و داود عليهماالسلام، ثم عرضت المسأله علي وجه آخر و هو: إنّ ما حكم به الخليفه لو كان حقا للزم أن يكون أعلم من رسول اللَّه و وصيه؛ لأنهما لم يخبراها بالخبر مع أنهما لو كانا علي علم به لأخبراها به، و من الواضح أن الصديق لا يمكن؟أن يكون أعلم بحكم التركه النبويه من النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم أو علي الذي ثبتت وصايته (2) لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و ذلك في قولها:

«يا ابن أبي قحافه أفي كتاب اللَّه أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا! أفعلي عمد تركتم كتاب اللَّه و نبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: (و ورث سليمان داود) (3) و قال فيما اقتص من خبر يحيي بن زكريا:

ص: 164


1- 281. من الواضحات العلميه أخيرا: أن الخبر الواحد المعتبر يصلح لتخصيص الكتاب؛ لأنه حاكم أو وارد كما هو الصحيح علي أصاله العموم و أصاله الإطلاق. و إنما احتجت الزهراء بالآيات العامه، لأنها لم تكن تعترفف بوثاقه الصديق و عدالته. [الشهيد]
2- 282. وصايه الإمام علي عليه السلام ثابته علي كل حال: أما عند الإماميه، فعليها الإجماع، و علي أنها بالمعني الأعم أي الخلافه أيضا، و أما عند غيرهم فثابته و لكن بالمعني الأخص. راجع حديث الدار المشهور تاريخ الطبري 2 و قد تقدم، مسأله الوصيه والاستدلال عليها تفصيلا، المراجعات/ العلامه عبدالحسين شرف الدين: 236.
3- 283. النمل/ 16.

(فهب لي من لدنك وليا- يرثني و يرث من آل يعقوب) (1) و قال: (و أولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب اللَّه) (2) أفخصكم اللَّه بآيه أخرج منها أبي؟ أم هل تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان؟! أو لست أنا و أبي من أهل مله واحده؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي (3) ؟!».

و كانت أبرز الناحيتين في ثورتها الناحيه العاطفيه. و ليس من العجيب أن تصرف الزهراء أكثر جهودها في كسب معركه القلب، فإنه السلطان الأول علي النفس، والمهد الطبيعي الذي تترعوع فيه روح الثوره. و قد نجحت الحوراء في تلوين صوره فنيه رائعه تهز المشاعر، و تكهرب العواطف، و تهيمن علي القلوب، كانت هي أفضل سلاح تتسلح به امرأه في ظروف كظروف الزهراء.

و لأجل أن نستمتع بالجمال الفني في تلك الصوره الملونه بأروع الألوان، لا بأس بأن نستمع إلي الصديقه حين خاطبت الأنصار بقولها:

«يا معشر البقيه، و أعضاد المله، و حضنه الإسلام، ما هذه الفتره عن نصرتي؟ والوَنيه عن معونتي؟ والغمزه في حقي؟ والسنه عن ظُلامتي؟ أما كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يقول: «المرء يحفظ في ولده» (4) ؟! سرعان ما

ص: 165


1- 284. مريم/ 5 و 6.
2- 285. الأنفال/ 75.
3- 286. نقلنا هذه القطعه علي وجه الاختصار [الشهيد]؛ إن اختصاص الإمام علي عليه السلام بفقه القرآن، و معرفه عامه و خاصه و محكمه و متشابهه و ظاهره و باطنه مما تضافر علي نقله الخاص والعام. راجع: الإتقان/ السيوطي 4: 233، طبقات ابن سعد 2: 338، الصواعق المحرقه/ ابن حجر: 127 و غيرها.
4- 287. وردت روايات بمعناه كثيره راجع: الصواعق المحرقه: 173.

أحدثتم، و عجلان ما أتيتم، ألأن مات رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أمتم دينه؟! ها إن موته لعمري خطب جليل، استوسع وَهنُه، واستبهم فتقُه، و فُقِد راتقه، و أظلمت الأرض له، و خشتعت الجبال، و أكدت الآمال. اُضيع بعده الحريم، و هتكت الحرمه، و اُذيلت المصونه، و تلك نازله أعلن بها كتاب اللَّه قبل موته، و أنبأكم بها قبل وفاته، فقال: (و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر اللَّه شيئا و سيجزي اللَّه الشاكرين) (1) إيها بني قَيله! اهتُضم تراث أبي و أنتم بمرأي و مسمع تبلغكم الدعوه، و يشملكم الصوت، و فيكم العده والعدد، و لكم الدار والجنن، و أنتم نخبه اللَّه التي نتخب و خيرته التي اختار... الخ» (2) .

و إذن فلم تكن المناقشات في تفسير الحديث و تأويله مما تهضمها السلطات الحاكمه، و لا هي علي علاقه بالغرض الرئيسي للثائره من ثورتها.

و هذا يفسر لنا عدم تعرضها للنحله في خطابها أيضا.

موقف الخليفه من مسأله الميراث

1- يجب الآن توضيح موقف الخليفه تجاه الزهراء في مسأله الميراث و تحديد رأيه فيها- بعد أن أوضحنا حظ الصيغ السابقه من وضوح المعني و خفائه- و هو موقف لا يخلو من تعقيد إذا تعمقنا شيئا ما في درس

ص: 166


1- 288. آل عمران/ 144.
2- 289. خطبة الزهراء/ شرح النهج 16: 212- 213.

المستندات التاريخيه للقضيه. و مع أن المستندات كثيره فإنها مسأله محيره أن نعرف ماذا عسي أن تكون النقطه التي اختلف فيها المتنازعان، و من الصعوبه توحيد هذه النقطه.

و الناس يرون أن مثار الخلاف بين أبي بكر و الزهراء هو مسألة توريث الأنبياء؛ فكان الصديقه تدعي توريثهم، والخليفه ينكر ذلك. و تقدير الموقف علي هذا الشكل لا يحل المساله حلا نهائيا و لا يفسر عده اُمور:

(الأول) قول الخليفه لفاطمه في محاوره له معها- و قد طالبه بفدك-: إن هذا المال لم يكن للنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و إنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال و ينفقه في سبيل اللَّه، فلما توفي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم وليته كما كان يليه (1) . فإن هذا الكلام يدل بوضوح علي أنه كان يناقض في أمر آخر غير توريث الأنبياء.

(الثاني) قوله لفاطمة في محاوره اُخري: «أبوك واللَّه خير مني و أنت واللَّه خير من بناتي و قد قال رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم: لا نورث ما تركناه صدقه (2) . يعني هذه الأموال القائمه، و هذه الجميله التفسيريه التي ألحقها الخليفه بالحديث تحتاج إلي عنايه، فإنها تفيدنا أن الخليفه كان يري أن الحكم الذي تدل عليه عباره الحديث مختص بالنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و ليس ثابتا لتركه سائر الأنبياء و لا لتركه سائر المسلمين جميعا، فحدد التركه التي لا تورث بالأموال القائمه، و ذكر أن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم كان يعنيها هي بالحديث. و علي هذا

ص: 167


1- 290. شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 214.
2- 291. شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 214.

التحديد نفهم أن المفهوم للخليفه من الحديث ليس هو عدم توريث الصدقات؛ لأن هذا الحكم عام، و لا اختصاص له بالنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم فلا يجوز أن يحدد موضوعه بالأموال القائمه بل كان اللازم حينئذ أن يأتي الخليفه بجمله تطبيقيه بأن يقول: إن الأموال القائمه مما ينطبق عليها الحديث.

كما يتضح لدينا أن الخليفه لم يكن يفسر الحديث بأن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا تورث تركته و أملاكه التي يخلفها، بل تصبح صدقه بعد موته؛ لأنه لو كان يذهب هذا المذهب في فهم الحديث لجاء التفسير في كلامه علي اُسلوب آخر؛ لأن المقصود من موضوع الحديث حينئذ تركه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي الإطلاق و لا يعني الأموال الخاصه لو كانت تطالب بها الزهراء خاصه. و أعني بذلك أن هذه الأموال الخاصه لو كانت قد خرجت عن ملك النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم قبل وفاته، لم يكن الحكم بعدم التوريث ثابتا لها كما أن غيرها من الأموال لو حصل (للنبي) لما ورثها آله أيضا. فعدم توريث التركه النبويه أن ثبت فهو امتياز لكل ما يخلفه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم من أملاك سواء أكانت هذه التي خلفها أو غيرها. و لا يصح أن يقال: إنه عني بالتركه الأموال القائمه التي كانت تطالب بها الزهراء.

و نظير ذلك قولك لصاحبك: أكرم كل من يزورك الليله، ثم يزوره شخصان فإنك لم تعن بكلامك هذين الشخصين خاصه، و إنما انطبق عليهما الأمر دون غيرهما علي سبيل الصدفه. و علي اُسلوب أوضح؛ إن تفسير التركه التي لا تورث بأموال معينه-و هي الأموال القائمه- يقضي بأن الحكم المدلول عليه بالحديث مختص- عند المفسر- بهذه الأموال المحدوده.

و لا ريب أن تركه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لو كانت لا تورث لما اختص الحكم

ص: 168

بالأموال المعينه المتروكه بالفعل، بل لثبت لكل ملك يتركه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و إن لم يكن من تلك الأموال. و أيضا فمن حق البحث أن أتساءل عن فائده الجمله التفسيريه، و الغرض المقصود من ورائها فيما إذا كان الحكم المفهوم للخليفه من الحديث أن أملاك النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا تورث، فهل كان صدق التركه علي الأموال القائمه مشكوكا، فأراد أن يرفع الشك لينطبق عليها الحديث، و يثبت لها الحكم بعدم التوريث؟ و إذا صح هذا التقدير فالشك المذكور في صالح الخليفه لأن المال إذا لم يتضح أنه من تركه الميت لا ينتقل إلي الورثه، فلا يجوز أن يكون الخليفه قد حاول رفع هذا الشك، و لا يمكن أن يكون قد قصد بهذا التطبيق منع الزهراء من المناقشه في انطباق الحديث علي ما تطالب به من أموال؛ لأنها ما دامت قد طالبت بالأموال القائمه علي وجه الإرث فهي تعترف بأنها من تركه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم. و لنفترض أن الأموال القائمه قسم من التركه النبويه و ليس المقصود منها مخلفات رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم جميعاً- و لعلها عباره عن الأموال والعقارات الثابته نحو فدك- فهل يجوز لنا تقدير أن غرض الخليفه من الجمله تخصيص الأموال التي لا تورث بها؟ لا أظن ذلك، لأن أملاك النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا تختلف في التوريث و عدمه. و نخرج من هذه التأملات بنتيجه و هي أن المفهوم من الحديث للخليفه أن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أخبر عن عدم تملكه للأموال القائمه، و أشار إليها بوصف التركه فقال: «ما تركناه صدقه»، فشأنه شأن من يجمع ورثته ثم يقول لهم: إن كل تركني صدقه؛ يحاول بذلك أن يخبرهم بأنها ليست ملكا له ليرثوها بعده لأن ذلك هو المعني الذي يمكن أن يختص بالأموال القائمه و يحدد موضوعه بها.

ص: 169

(الثالث) جواب الخليفه لرسول أرسلته فاطمه ليطالب بما كان لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في المدينه و فدك و ما بقي من خميس خيبر، إذ قال له: «إن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: لا نورث ما تركناه صدقه إنما يأكل آل محمد من هذا المال، و إني واللَّه لا أغير شيئا من صدقات رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم (1) ». فإننا إذا افترضنا أن معني الحديث في رأي الخليفه عدم توريث النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لأملاكه، كان كلامه متناقضا؛ لأن استدلاله بالحديث في صدر كلامه يدل حينئذ علي أنه يعترف بأن ما تطالب به الزهراء هو من تركه النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و أملاكه التي مات عنها- ليصح انطباق الحديث عليه- والجمله الأخيره من كلامه و هي قوله: «و إني واللَّه لا اُغير شيئا من صدقات رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم»، تعاكس هذا المعني؛ لأن ما طلبت الزهراء تغييره عن أيام النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم- بزعم الخليفه- هو فدك و عقاراته في المدينه، و ما بقي من خمس خيبر. فأبوبكر حين يقول: إني واللَّه لا أغير شيئا من صدقات رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، يعني بها تلك الأموال التي طالبت بها الزهراء، و رأي معني مطالبتها بها تغييرها عن حالها السابقه، و معني تسميته لها بصدقات رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أن من رأيه أنها ليست ملكاً للنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بل من صدقاته التي كان يتولاها في حياته. و يوضح لنا هذا أن استدلاله بالحديث في صدر كلامه لم يكن لإثبات أن أملاك النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا تورث و إنما أراد بذلك توضيح أن الأموال القائمه ليست من أملاك النبي؛ لأنه صلي اللَّه عليه و آله و سلم ذكر أنها صدقه.

2- و نستطيع أن نتبين من بعض روايات الموضوع أن الخليفه ناقش

ص: 170


1- 292. شرح النهج 16: 218.

في توريث الأنبياء لأملاكهم و لم يقصر النزاع علي الناحيه السابقه، فإن الروايه التي تحدثنا بخطبه الزهراء و استدلال أبي بكر بما رواه عن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم من حديث: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث... الخ» و اعتراض الزهراء عليه بالآيات العامه المشرعه للميراث والآيات الخاصه الداله علي توريث بعض الأنبياء تكشف عن جانب جديد من المنازعه إذ ينكر أبوبكر توريث النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لأمواله، و يستند إلي الحديث في ذلك، و يلح في الإنكار كما تلح فاطمه في مناقشته (1) والتشبث بوجهه نظرها في المسأله.

3- و إذن فللخليفه حديثان:

(الأول) لا نورث ما تركناه صدقه (2) .

(والثاني) إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضه (3) . و قد ادعي أمرين:

أحدهما: إن فدك صدقه فلا تورث.

والآخر: أن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا تورث أملاكه. واستدل بالحديث الأول علي أن فدك صدقه و بالحديث الثاني علي أن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا يورث.

نتائج المناقشه

1- قد لا يكون من العسير تصفيه الحساب مع الخليفه بعد أن اتضح

ص: 171


1- 293. شرح النهج 16: 211.
2- 294. المصدر نفسه 16: 218، و راجع سنن البيهقي 6: 300- 301.
3- 295. شرح النهج 16: 252.

موقفه، و تقررت الملاحظات التي لاحظناها في الحديثين اللذين رواهما عن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم. و تتلخص المؤاخذه التي آخذناه بها حتي الآن في عده اُمور نشير إليها لنجمع نتائج ما سبق:

(الأول) أن الخليفه لم يصدق روايته في بعض الأحايين كما المعنا في مستهل هذا الفصل...

(الثاني) أن من الإسراف في الاحتمال أن نجوز إسرار رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إلي الخليفه بحكم تركته و إخفاءه عن بضعته و سائر ورثته. و كيف اختص بالخليفه دون غيره بمعرفه الحكم المذكور؟ (1) مع أن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لم يكن من عادته الاجتماع بأبي بكر وحده إلا بأن يكون رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم اخبره بالخبر في خلوه متعمده ليبقي الأمر مجهولا لدي ورثته و بضعته و يضيف بذلك إلي آلامها من ورائه محنه جديده.

(الثالث) أن عليا هو وصي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بلا ريب؛ للحديث الدال علي ذلك الذي ارتفع به رواته إلي درجه التواتر واليقين حتي شاع في شعر أكابر الصحابه فضلا عن رواياتهم كعبداللَّه بن عباس و خزيمه بن ثابت الأنصاري و حجر بن عدي و أبي الهيثم بن التيهان و عبداللَّه بن أبي سفيان بن الحرث بن عبدالمطلب و حسان بن ثابت و أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (2) . و إذن فالوصايه من الأوسمه الإسلاميه الرفيعه التي اختص بها

ص: 172


1- 296. حتي قالت عائشه في كلام لها: واختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحد في ذلك علما، فقال أبوبكر: سمعت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث... الخ. راجع الصواعق المحرقه/ ابن حجر: 34. [الشهيد] تاريخ الخلفاء/ السيوطي: 73.
2- 297. راجع شرح النهج 1: 47- 48 و 3: 15 من الطبعه المصريه غير المحققه.

الإمام بلا ريب (1) .

و قد اختلف شيعه علي و شيعه أبي بكر في معني هذه الوصايه فذهب السابقون الأولون إلي أنها بمعني النص عليه بالخلافه، و تأولها الآخرون فقالوا: إن عليا وصي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي علمه أو شريعته أو مختصاته. و لا نريد الآن الاعتراض علي هؤلاء أو تأييد اُولئك، و إنما نتكلم علي الحديث بمقدار ما يتطلبه اتصاله بموضوع هذا البحث و نقرر النتيجه التي يقضي بها علي كل من تلك التفاسير.

فنفترض أولا: إن الوصايه بمعني الخلافه، ثم نتبين الصديق علي هدي الحديث. فإنا سوف نراه شخصا سارقا لأنفس المعنويات الإسلاميه، و متصرفا في مقدرات الاُمه بلا سلطان شرعي. و لا مجال لهذا الشخص حينئذ أن يحكم بين الناس، و لا يسعنا أن نؤمن له بحديث. لنترك هذا التفسير ما دام شديد القسوه علي صاحبنا و نقول: إن عليا وصي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي علمه و شريعته، فهل يسعنا مع الاعتراف بهذه الوصايه المقدسه أن نؤمن بحديث ينكره الوصي؟! و ما دام هو العين الساهره علي شريعه السماء (2) ، فلا بد أن يؤخذ رأيه في كل مسأله نصا لا مناقشه فيه؛

ص: 173


1- 298. قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 1: 46: فلا ريب عندنا أن عليا عليه السلام كان وصي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و إن خالف من ذلك من هو منسوب عندنا إلي العناد. [الشهيد].
2- 299. راجع قول النبي الأكرم صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «علي مع القرآن و القرآن مع علي لا يفترقان حتي يردا علي الحوض»- المعجم الصغير/ الطبراني، و إنه صلي اللَّه عليه و آله و سلم اختصه من بين أصحابه و أهل بيته بأن عهد إليه سبعين عهدا لم يعهد لأحد غيره، و أنه مع الحق والحق معه، و قوله صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «علي مني و أنا منه و لا يؤدي عني إلا هو...» راجع في كل ذلك الصواعق المحرقه/ ابن حجر: 122 و ما بعدها، مختصر تاريخ ابن عساكر 17: 256 و ما بعدها.

لأنه أدري بما أوصاه به رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم وائتمنه عليه. وخذ إليك بعد ذلك الاُسلوب الثالث؛ فإنه ينتهي إلي النتيجه السابقه عينها لأن عليا إذا كان وصيا لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم علي تركته و مختصاته، فلا معني لسطو الخليفه علي التركه النبويه و وصي النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم عليها موجود و هو أعرف بحكمها و مصيرها الشرعي.

(الرابع) أن تأميم التركه النبويه من أوليات الخليفه في التاريخ، و لم يؤثر في تواريخ الاُمم السابقه ذلك، و لو كان قاعده متبعه قد جري عليها الخلفاء بالنسبه إلي تركه سائر الأنبياء لاشتهر الأمر، و عرفته اُمم الأنبياء جميعا.

كما أن إنكار الخليفه لملكيه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لفدك- كما تدل عليه بعض المحاورات السابقه- كان فيه من التسرع شي ء كثير؛ لأن فدك مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، بل استسلم أهلها خوفا و رعبا باتفاق أعلام المؤرخين (1) من السنه والشيعه. و كل أرض يستسلم أهلها علي هذا الاُسلوب فهي للنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم خالصه (2) . و قد أشار اللَّه تعالي في الكتاب الكريم إلي أن فدك للنبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بقوله: (و ما أفاء اللَّه علي رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب) (3) و لم يثبت تصدق النبي بها و وقفه لها.

(الخامس) إن الحديثين اللذين استدل بهما في الموضوع لا يقوم منهما

ص: 174


1- 300. راجع: فتوح البلدان/ البلاذري: 46، تاريخ ابن الأثير 2: 321 دار صادر، شرح نهج البلاغه 4: 78، سيره ابن هشام 2: 368، دار إحياء التراث العربي- بيروت/ 1985. [الشهيد]
2- 301. راجع تفسير الكشاف/ الزمخشري 4: 502.
3- 302. الحشر/ 6.

دليل علي ما أراد، و قد خرجنا من دراستهما قريباً بمعني لكل منهما لا يتصل بمذهب الخليفه عن قرب أو بعد. و إن أبيت فلتكن المعاني الآنفه الذكر متكافئه، و لتكن العباره ذات تقادير متساويه، و لا يجوز حينئذ ترجيح معني لها والاستدلال بها عليه.

2- هذه هي الاعتراضات التي انتهينا إليها آنفا. و نضيف إليها الآن اعتراضا سادساً بعد أن نفترض أن جمله «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» أقرب إلي نفي الحكم بالميراث منها إلي نفي التركه الموروثه، و نقدر لجملته: «لا نورث ما تكرناه صدقه» من المعني ما ينفع الخليفه، و نلغي تفسيرها بأن الصدقه المتروكه لا تورث، ثم ندرس المسأله علي ضوء هذه التقادير. و هذا الاعتراض الجديد هو أن اللازم- في العرف العلمي- متي صحت هذه الفروض تأويل الخبر، و لم يجز الركون إلي أوضح معانيه؛ لأنه يقرر حينئذ عدم توريث سائر الأنبياء لا نورث، و لما دل عليه بالنون في قوله: لا نورث ما تركناه صدقه، من تعليق الحكم علي جماعه. و حيث يتضح أن الحكم في الحديث عدم توريث التركه، يتجلي أن المراد بالجماعه جماعه الأنبياء، إذ لا توجد جماعه اُخري نحتمل عدم انتقال تركاتها إلي الورثه. و قد دل صريح القرآن الكريم علي توريث بعض الأنبياء، إذ قال اللَّه تبارك و تعالي في كتابه الكريم مخبرا عن زكريا عليه السلام: (و إني خفت الموالي من ورائي و كانت امراتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا- يرثني و يرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) (1) والإرث في الآيه بمعني إرث المال؛ لأنه هو الذي ينتقل

ص: 175


1- 303. مريم/ 6.

حقيقه من الموروث إلي الوارث، و أما العلم و النبوه فلا ينتقلان انتقالا حقيقيا (1) ، و امتناع انتقال العلم علي نظريه اتحاد العاقل والمعقول (2) واضح كل الوضوح. و أما إذا اعترفنا بالمغايره الوجوديه بينهما، فلا ريب في تجرد الصور العلميه (3) و أنها قائمه بالنفس قياما صدوريا (4) ؛ بمعني

ص: 176


1- 304. شرح النهج 16: 241.
2- 305. و تقوم الفكره في هذه النظريه علي أن الصور المعقوله- و هي عباره عن وجود مجرد عن الماده- لا قوام لها إلا بكونها معقوله. فالمعقوليه نفس هويتها، و تجريدها عن العاقل تجريد لها عن نحو وجودها الخاص. و هذا آيه الوحده الوجوديه. و إذن فتدرج النفس في مراتب العلم هو تدرجها في أطوار الوجود، و كلما صار الوجود النفسي مصداقا فالمفهوم عقلي جديد زاد في تكامله الجوهري و أصبح من طراز أرفع، و لا مانع مطلقا من اتحاد مفاهيم متعدده في الوجود كما يتحد الجنس والفصل، و ليس ذلك كالوحده الوجوديه لوجودين أو الواحده المفهوميه لمفهومين، فإن هاتين الوحدتين مستحيلتان في حساب العقل دون ذاك الاتحاد. والتوسع لا مجال له. [الشهيد]
3- 306. فإن الحق تجرد جميع مراتب العلم والصور المدركه، ولكن علي تفاوت في مراتب التجريد، فان المدرك بالذات لا يمكن أن يكون نفس الشي ء بهويته الماديه، فحتي المدرك بحاسه البصر له نحو من التجرد و ليس في نوريه خروج الشعاع أو الانطباع. و ما ثبت حول الرؤيه في علم المرايا أو بحوث الفيزياء ما يفسر الإدراك البصري تفسيرا فلسفيا، فلا بد من الاعتراف بتجرده فضلا عن الخيال و العقل. و قد أوضحنا هذا المذهب في كتابنا العقيده الإلهيه في الإسلام. [الشهيد]
4- 307. لا قياما حلوليا بمعني كونها أعراضا لها، و إنما ذهب هذا المذهب بعض الفلاسفه لحل المشكله التي اعترضت الباحثين عندما أرادوا أن يوفقوا بيت أدله الوجود الذهني و بين ما اشتهر من كون العلم كيفا؛ و هي أن الصوره المعقوله إذا كانت كيفا فما نتعقله من الإنسان ليس جوهرا لأنه كيف و ليس إنسانا إذن لأن كل إنسان جوهر و إنما هو مثال. و لما؟فلست جميع الحلول التي وضعت لحل الشبهه من إنكار الوجود الذهني و تقرير مذهب المثاليه، و اختيار التعدد و كون العلم عرضا والمعلوم جوهرا و تفسير الجوهر بأنه الموجود المستقل خارجا لا ذهنا، والانقلاب: اضطر الباحثون المتأخرون إلي تقرير أن الصوره المعقوله من الجوهر جوهر لا كيف، غير أن الفيلسوف الإسلامي الكبير صدرالدين الشيرازي اختار في الأسفار أنها جوهر بحسب ماهيتها و كيف بالعرض. و يمكن الاعتراض عليه بأن كل ما بالعرض لا بد أن ينتهي إلي ما بالذات و إذن فلا بد أن نتفترض كيفا حقيقيا متحدا مع الصوره لتكون كيفا بالعرض. و تنتهي النظريه حينئذ بصاحبها إلي أحد أمرين أما الالتزام بتعدد ما في النفس أو الاصطدام بالمشكله الاُولي نفسها و لذا كان الأفضل تقرير ان الصوره المدركه من الإنسان مثلا جوهر و ليست بعرض إطلاقا، و ارتباطها بالنفس ارتباط المعلول بالعله لا العرض بموضوعه. [الشهيد]

أنها معلوله للنفس والمعلول الواحد بحسب الذات- لا بمجرد الاتصال فقط- متقوم بعلته و مرتبط الهويه بها، فيستحيل انتقاله إلي عله اُخري. و لو افترضنا أن الصور المدركه أعراض و كيفيات قائمه بالمدرك قياما حلوليا، فيستحيل انتقالها لاستحاله انتقال العرض من موضوع إلي موضوع كما برهن عليه في الفلسفه سواء أقلنا بتجردها أو بماديتها بأن اعترافنا باشتمال الصور المدرَكه علي الخصائص العامه للماده من قابليه الانقسام و نحوها.

و إذن فالعلم يستحيل انتقاله في حكم المذاهب الفلسفيه الدائره حول الصور العلميه جميعا.

و إذا لاحظنا النبوه وجدنا أنها هي الاُخري أيضا مما لا يجوز في عرف العقل انتقالها سواء أذهبنا في تفسيرها مذهب بعض الفلاسفه و قلنا أنها مرتبه من مراتب الكمال النفسي، و درجه من درجات الوجود الإنساني الفاضل الذي ترتفع إليه المهيه الإنسانيه في ارتقاءاتها الجوهريه و تصاعداتها نحو الكمال المطلق، أو أخذنا بالمعني المفهوم للناس من الكلمه واعتبرنا النبوه منصبا إلهيا مجعولا لا كمنصب الملك والوزير، و يكون ذلك التكامل النفسي شرطا له؛ فالمفهوم الأول يمتنع انتقاله بالضروره لأنه

ص: 177

نفس وجود النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و كمالاته الذاتيه، والنبوه بالمعني الآخر يستحيل انتقالها أيضا لأنها حينئذ أمر اعتباري متشخص الأطراف و لا يعقل تبدل طرف من أطرافه إلا بتبدل نفسه و انقلابه إلي فرد آخر. فنبوه زكريا مثلا هي هذه التي اختص بها زكريا و لن يعقل ثبوتها لشخص آخر لأنها لا تكون حينئذ تلك النبوه الثابته لزكريا بل منصبا جديدا أو مقاما نبويا حادثا.

والنظر الأولي في المسأله يقضي بامتناع انتقال العلم والنبوه من دون حاجه إلي هذا التعمق والتوسع. و إذن فالنتيجه التي يقررها العقل في شوطه الفكري القصير الذي لا يعسر علي الخليفه مسايرته فيه هي أن المال وحده الذي ينتقل دون العلم والنبوه.

3- و قد يعترض علي تفسير الإرث في كلام زكريا بإرث المال بأن يحيي عليه السلام لم يرث مال أبيه لاستشهاده في حياته فيلزم تفسير الكلمه بإرث النبوة؛ لأن يحيي قد حصل عليها و يكون دعاء النبي حينئذ قد استجيب. و لكن هذا الاعتراض لا يختص بتفسير دون تفسير؛ لأن يحيي عليه السلام كما أنّه لم يرث ما أبيه كذلك لم يخلفه في نبوته. و ما ثبت له من النبوه لم يكن وراثيا و ليس هو مطلوب زكريا و إنما سأل زكريا ربه وارثا يرثه بعد موته و لذا قال: (و إني خف الموالي من ورائي) (1) أي بعد موتي، فإن كلامه يدل بوضوح علي أنه أراد وارثا يخلفه و لم يرد نبيا يعاصره، و إلا لكان خوفه من الموالي بعد وفاته باقيا. فلا بد- علي كل تقدير- أن نوضح الآيه علي اُسلوب يسلم عن الاعتراض؛ و هو أن تكون جمله (يرثني و يرث من آل

ص: 178


1- 308. مريم/ 6، و راجع تفيسير الكشاف 3: 4، طبعه دارالكتاب العربي- بيروت.

يعقوب)، جوابا للدعاء بمعني إن رزقتين ولدا يرث، لا صفه ليكون زكريا قد سأل ربه وليا وارثا. فما طلبه النبي من ربه تحقق و هو الولد و توريثه المال أو النبوه لم يكن داخلا في جمله ما سأل ربه و إنما كان لازما لما رجاه في معتقد زكريا عليه السلام.

و يختلف تقدير العباره صفه عن تقديرها جوابا من النواحي اللفظيه في الاعراب؛ لأن الفعل إذا كانت صفه فهو مرفوع، و إذا كان جوابا يتعين جزمه. و قد ورد في قراءته (1) كلا الوجهين.

و إذا لاحظنا قصه زكريا في موضعها القرآني الآخر وجدنا أنه لم يسأل ربه إلا ذريه طيبه، فقد قال تبارك و تعالي في سوره آل عمران: (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذريه طيبه) (2) .

و أفضل الأساليب في فهم القرآن ما كان منه مركزا علي القرآن (3) نفسه، و علي هذا فنفهم من هذه الآيه أن زكريا كان مقتصدا في دعائه و لم يطلب من ربه إلا ذريه طيبه، و قد جمع القرآن الكريم دعاء زكريا في جمله واحده تاره و جعل لكل من الذريه و وصفها دعوه مستقله في موضع آخر فكانت جمله هب لي من لدنك وليا طلبا للذريه، و جمله واجعله ربي رضيا دعوه بأن تكون الذريه طيبه. و إذا جمعنا هاتين الجملتين أدت نفس المعني

ص: 179


1- 309. راجع: املاء ما من به الرحمن من وجوه الاعراب والقراءات/ أبي البقاء العكبري، مطبعه مصطفي البابي الحلبي- القاهره/ 1969، تفسير مجمع البيان/ الطبرسي 6: 647. الكشاف/ الزمخشري 3: 5.
2- 310. آل عمران/ 38.
3- 311. راجع الإتقان/ السيوطي 4: 200، مقدمه في اُصول التفسير/ ابن تيميه.

الذي تفيده عباره هب لي من لدنك ذريه طيبه. و تخرج كلمه (يرثني) بعد عمليه المطابقه بين الصيغتين القرآنيتين عن حدود الدعاء، و لا بد حينئذ أن تكون جوابا له.

4- و علي ذلك يتضح أن كلمه الإرث في الآيه الكريمه قد اُعطيت حقها من الاستعمال و اُريد بها إرث النبوه؛ لأن الشي ء إنما يصح أن يقع جوابا للدعاء فيما إذا كان ملازما للمطلوب و متحققا عند وجوده دائما أو في أكثر الأحايين. و وراثه النبوه ليست ملازمه لوجود الذريه إطلاقا، بل قد لا تتفق في مئات الملايين من الأشخاص لما يلزم في هذا المقام من كفاءه فذه و كمال عظيم، فلا يجوز أن توضع النبوه بجلالها الفريد جوابا لسؤال اللَّه تعالي ذريه طيبه؛ لأن النسبه بين الذريه الإنسانيه و بني الجديرين بتحمل أعباء الرساله المساويه هي النسبه بين الآحاد والملايين. و أما وراثه المال فيمكن أن تكون جوابا لدعاء زكريا عليه السلام لأن الولد يبقي بعد أبيه علي الأكثر فوراثته للمال مما يترتب علي وجوده غالبا، و أضف إلي ذلك أن زكريا نفسه لم يكن يري النبوه ملازمه لذريته بل و لا ما دونها من المراتب الروحيه؛ و لذا سأل ربه بعد ذلك بأن يجعل ولده رضيا.

5- و لنترك هذا لندرس كلمه الإرث في الآيه علي ضوء تقدير الفعل صفه لا جوابا للدعاء. و في رأيي أن هذا التقدير لا يضطرنا إلي الخروج بنتيجه جديده، بل الإرث في كلمه (يرثني) هو إرث المال في الحالين معا بلا ريب. والذي يعين هذا المعني للكلمه علي التقدير الجديد أمران:

(الأول) أن زكريا عليه السلام لو كان قد طلب من ربه ولدا وارثا لنبوته لما طلب بعد ذلك أن يكون رضيا؛ لأنه دذخل في دعوته الاُولي ما هو أرفع

ص: 180

من الرضا.

(الثاني) أن إغفال الإرث بالمره في قصه زكريا الوارده في سوره آل عمران إن لم يدل علي أن الإرث خارج عن حدود الدعاء، فهو في الأقل يوضح أن معني الإرث في الموضع القرآني الآخر للقصه إرث المال لا إرث النبوه؛ لأن زكريا لو كان قد سأل ربه أمرين: أحدهما أن يكون ولده طيبا رضيا، و الآخر أن يرث نبوته، لما اقتصر القرآن الكريم علي ذلك الوصف الأول الذي طلبه زكريا عليه السلام فإنه ليس شيئا مذكورا بالإضافه إلي النبوه. و لكي تتفق معي علي هذا لاحظ نفسك فيما إذا سألك سائل بستانا و درهما فأعطيته الأمرين معا. ثم أردت أن تنقل القصه و تخص الدرهم بالذكر، لا أراك تفعل ذلك إلا إذا كنت كثير التواضع. و رجحان البستان علي الدراهم في حساب القيم الماديه هو دون امتياز النبوه علي طيب الذريه في موازين المعنويات الروحيه. و إذن فقصه زكريا التي جاءت في سوره آل عمران، و لم يذكر فيها عن الإرث كثير أو قليل؛ دليل علي أن الإرث المذكور في الصوره الاُخري للقصه بمعني إرث المال لا إرث النبوه، و إلا لكان من أبرز عناصر القصه التي لا يمكن إغفالها.

(السادس) و لاحظ بعض الباحثين (1) في الآيه الكريمه نقطتين تفسران الإرث فيها بإرث النبوه:

(الاُولي) قول زكريا عاطفا علي كلمه (يَرِثُنِي):- (و يرث من آل يعقوب)- فإن يحيي لا يرث أموال آل يعقوب، و إنما يرث منهم

ص: 181


1- 312. راجع الملاحظه والإيراد والمناقشه في شرح النهج/ ابن أبي الحديد 16: 239.

النبوه والحكمه.

(الثانيه) ما قدمه النبي تمهيدا لدعائه من قوله: و إني خفت الموالي من ورائي، حيث أن خوفه إنما كان بسب الإشفاق علي معالم الدين، و الرغبه في بقائها باستمرار النبوه؛ لأن هذا هو اللائق بمقام الأنبياء دون الحرص علي الأموال، والخوف من وصولها إلي بعض الورثه.

واعترض أصحابنا علي النقطه الاُولي، بأن زكريا عليه السلام لم يسأل ربه أن يرث ولده أموال آل يعقوب جميعا، و إنما أراد أن يرث منها، فلا يكون دليلا علي التفسير المزعوم.

و أما النقطه الثانيه فهي من القرائن علي التفسير الذي اخترناه؛ لأن الخوف علي الدين والعلم من أبناء العم لا معني له؛ لأن اللطف الإلهي لا يترك الناس سدي بلا حجه بالغه. فمعالم الدين، و كلمه السماء محفوظه بالرعايه الإلهيه، والنبوه مخصوصه أبدا بالأقلين من نوابغ البشر لا يخشي عليها من السطو و النهب. و إذن فماذا كان يحسب زكريا ربه صانعا لو لم يمن عليه بيحيي؟ أكان يحتمل أن يكلف برسالته مواليه؟ أعني بني عمومته مع عدم كفاءتهم للقيام بواجب الرساله الإلهيه و عدم جدارتهم بهذا الشرف؟! أو كان يري أن اللَّه تعالي يهمل أمر خلقه ليكون لهم الحجه عليه؟ ليس هذا و لا ذاك مما يجوزه نبي، و إنما خاف زكريا من بني أعمامه علي أمواله فطلب من اللَّه ولدا رضيا يرثها. و لا جناح عليه في ذلك؛ إذ يحتمل أن تكون رغبته في صرف أمواله عن بني عمومته بسبب أنها لو آلت إليهم لوضعوها في غير مواضعها، و انفقوها في المعاصي و ألوان الفساد لما كان يلوح عليهم من علامات الشر و إمارات السوء حتي قيل أنهم شرار

ص: 182

بني إسرائيل.

و قد حاول ابن أبي الحديد أن يصور وجها لخوف زكريا من الموالي علي الدين من ناحيتين:-

(الأولي) عن طريق اُصول الشيعه، فذكر أن دعوي امتناع مثل هذا الخوف علي النبي غير مستقيم علي مذهب الشيعه لأن المكلفين قد حرموا بغيبه الإمام عندهم ألطافا كثيره الوصله بالشرعيات كالحدود و صلاه الجمعه والأعياد، و هم يقولون في ذلك أن اللوم علي المكلفين لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف؛ فهلا جاز أن يخاف زكريا عليه السلام من تبديل الدين و تغييره و إفساد الأحكام الشرعيه لأنه إنما يجب علي اللَّه التبليغ بالرسول إلي المكلفين، فإذا أفسدوا هم الأديان و بدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف (1) .

و لاُسجل ملاحظتي علي هذا الكلام ثم أنتقل بك إلي الناحيه الثانيه. فأقول: إن الخوف من انقطاع النبوه إنما يضح علي اُصول الشيعه إذا نشأ عن احتمال إفساد الناس لدينهم علي نحو لا يستحقون معه ذلك، كما هو الحال في زمان غيبه الإمام المنتظر صلوات اللَّه عليه، لا فيما إذا كان سببه الاطلاع علي عدم لياقه جماعه خاصه للنبوه مع استحقاق الناس لها. فإن إرسال الرسول، أو نصب من يقوم مقامه واجب في هذه الصوره علي اللَّه تعالي لما أوجبه علي نفسه من اللطف بعباده. و إذن فقصور أبناء العمومه عن نيل المنصب الإلهي لا يجوز أن ينتهي بزكرياء إلي احتمال انقطاع النبوه

ص: 183


1- 313. راجع شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 257، الطبعه المحققه.

و انطماس معالم الدين إذا كان الناس مستحقين للألطاف الإلهيه. و إذا لم يكونوا جديرين بها فمن الممكن انقطاع الاتصال بين السماء و الأرض سواء أكان بنو العمومه صالحين أو لا، و سواء من اللَّه عليه بذريه أو بقي عقيما. والآيه الكريمه تدل علي أن الباعث إلي الخوف في نفس زكريا إنما هو فساد الموالي لا فساد الناس.

(الثانيه) عن طريق تفسير الموالي بالاُمراء، بمعني أن زكريا خاف أن يلي بعد موته اُمراء و رؤساء يفسدون شيئا من الدين، فطلب من اللَّه ولدا ينعم عليه بالنبوه والعلم ليبقي الدين محفوظا (1) .

و لنا أن نتساءل عما إذا كان هؤلاء الرؤساء الذين أشفق علي الدين منهم، هم الأنبياء الذين يخلفونه أو أنهم أصحاب السلطان الزمني والحكم المنفصل عن السماء؟ و لا خوف منهم علي التقدير الأول إطلاقا لأنهم أنبياء معصومون. و أما إذا كانوا ملوكا فقد يخشي منهم علي الدين. و لكن ينبغي أن نلاحظ أن وجود النبي حينئذ هل يمنعهم عن التلاعب في الشريعه والاستخفاف بالدستور الإلهي أو لا؟ فإن كان كافيا لوقايه الشريعه وصون كرامتها فلماذا خاف زكريا من اولئك الاُمراء ما دامت الألطاف الإلهيه قد ضمنت للنبوه الامتداد في تايخ الإنسانيه الواعيه و خلود الاتصال بين الأرض والسماء ما بقيت الأرض أهلا للتثقيف السماوي؟ و إن لم يكن وجود النبي كافيا للحراسه المطلوبه فلا يرتفع الخوف من الحاكمين بوجود ولد زكريا يرث عنه النبوه ما دام النبي قاصرا عن مقاومه القوه الحاكمه، و ما دام الاُمراء من الطراز المغشوش، مع أن الآيه تدل علي أن زكريا كان

ص: 184


1- 314. شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 257- 258.

يري أن خوفه يرتفع فيما إذا من اللَّه عليه بولد رضي يرثه.

و نتيجه هذا البحث أن الإرث في الآيه هو إرث المال بلا ريب. و إذن فبعض الأنبياء يورثون و حديث الخليفه يقضي بأن الجميع لا يورثون.

فالآيه والروايه متعاكستان و كل ما عارض (1) الكتاب الكريم فهو ساقط.

و لا يجوز أن نستثني زكريا خاصه من سائر الأنبياء؛ لأن حديث الخليفه لا يقبل هذا الاستثناء و هذا التفريق بين زكريا عليه السلام و غيره. و النبوه إن اقتضت عدم التوريث فالأنبياء كلهم لا يورثون. و لا نحتمل أن يكون لنبوه زكريا عليه السلام خاصيته جعلته يورث دون سائر الأنبياء. و ما هو ذنب زكريا عليه السلام أو ما هو فضله الذي يسجل له هذا الامتياز؟ أضف إلي ذلك أن تخصيص كلمه الأنبياء الوارده في الحدث و الخروج بها عما تستحقه من وضع لا ضروره له بعد أن كان الحديث كما أوضحناه سابقا؛ فهو تفسير علي كل حال، فلماذا نفسر الحديث بأن تركه النبي لا تورث لنضطر إلي أن نقول بأن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم كان يعني بالأنبياء غير زكريا عليه السلام؟ بل لنأخذ بالتفسير الآخر و نفهم من الحديث أن الأنبياء ليس لهم من نفائس الدنيا ما يورثونه و نحفظ للفظ العام حقيقته (2) .

ص: 185


1- 315. جاء عن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم و صح عنه قوله: «ما خالف كتاب اللَّه فاضربوا به عرض الجدار، أو فدعوه...». راجع: اُصول الكافي/ الكليني 1: 55 كتاب فضل العلم- باب الأخذ بالسُنه و شواهد الكتاب، الرد علي سير الاُوزاعي/ أبي يوسف الأنصاري: 25.
2- 316. والجمله خبريه و ليست إنشائيه؛ لأن إنشاء حكم علي الأنبياء بعد وفاتهم، و انقراض ورثتهم لا معني له، و حينئذ فالتخصيص يستلزم مجازيه الاستعمال، و ليس شأن صيغه الحديث شأن الجمل الإنشائيه التي يكشف تخصيصها عن عدم إراده الخاص بالإراده الجديه. و يقدم لذلك علي سائر التأويلات والتجوزات، بل هي خبريه، والجمله الخبريه إذا خالفت الإراده الاستعماليه فيها الحجد والحقيقه كانت كذبا، فتخصيصها يستلزم صرفها إلي المعني المجازي، و حينئذ فلا يرجع علي تجوز آخر إذا دار الأمر بينهما. [الشهيد].

و نعرف مما سبق أن صيغه الحديث لو كانت صريحه في ما أراده الخليفه لها من المعاني، لناقضت القرآن الكريم، و مصيرها الاهمال حينئذ. وليس في المسأله سبيل إلي اعتبار الحديث مدركا قانونيا في موضوع التوريث، و لذا لم يتفطن الصديق إلي جواب يدفع به اعتراض خصمه عليه بالآيه الآنفه الذكر، و لم يوفق واحد من أصحابه إلي الدفاع عن موقفه. و ليس ذلك إلا لأنهم أحسوا بوضوح أن الحديث يناقض الآيه بمعناه الذي يبرر موقف الحاكمين.

و لا يمكن أن نعتذر عن الخليفه بأنه يجوز اختيار أحد النصين المتناقضين و تنفيذه كما يرتئيه جماعه من علماء الإسلام، و قد اختار أن ينفذ مدلول الحديث؛ و ذلك لأن المعارض للقرآن باطل بلا ريب لأنه الحق، و هل بعد الحق إلا الضلال؟!

مسأله النحله

الناحيه الثانيه: المناقشه التي قامت بين الخليفه والصديقه حول نحله رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم إياها فدك، فقد ادعت الصديقه النحله و شهد بذلك قرينها و اُم ايمن فلم يقبل الخليفه دعواها (1) ، و لم يكتف بشاهديها، و طالبها ببينه كامله و هي رجلان أو رجل وامرأتان.

ص: 186


1- 317. شرح النهج 16: 216.

1- والنقطه الاُولي التي نؤاخذ الصديق عليها هي وقوفه موقف الحاكم في المسأله مع أن خلافته لم تكتسب لونا شرعيا إلي ذلك الحين علي أقل تقدير (1) . و لكننا لا نريد الآن أن نضع هذه المؤاخذه قيد الدرس؛ لأن المناقشه علي هذا الشكل تبعثنا إلي آفاق واسعه من البحث و تضطرنا إلي نسف الحجر الأساسي لدنيا السياسه في الإسلام، و هي عمليه لها حساب طويل.

2- والملاحظه الثانيه في الموضوع هي أن فدك إذا كانت في حيازه الزهراء عليهاالسلام فلا حاجه لها إلي البينه و في هذه الملاحظه أمران:

(أولا) من هو الذي كانت فدك في حيازته؟ و هل كانت في يد الزهراء حقا؟ قد يمكن أن نفهم ذلك من قول أميرالمؤمنين في رسالته الخالده إلي عثمان بن حنيف: بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء. فحشت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس آخرين (2) . فإن المفهوم من كلمة أيدينا أن فدك كانت في أيدي أهل البيت و قد نصت علي ذلك روايات الشيعه.

و حصر ما كان في تلك الأيدي التي عناها الامام بفدك يدل علي أنها كانت في حيازه علي و زوجه خاصه، و يمنع عن تفسير العباره بأن فدك كانت في يد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم باعتبار أن حيازته حيازه أهل البيت، لأننا نعلم

ص: 187


1- 318. قوله: إلي ذلك الحين، أي بعد عشره أيام من قيام الخلافه و حينذاك لم يكن بنوهاشم و جماعه من أجلاء الصحابه قد بايعوا أبابكر، فلم يكتسب الخليفه إذن الشرعيه الكامله. راجع تاريخ الطبري 2: 233.
2- 319. شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 16: 208.

أن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم كانت في يده أشياء اُخري غير فدك من مختصاته و أملاكه.

(و ثانيا) هل الحيازه دليل علي الملكيه؟ والجواب الإيجابي عن هذه المسأله مما أجمع (1) عليه المسلمون، و لولا اعتبارها كذلك لاختل النظام الاجتماعي للحياه الإنسانيه.

و قد يعترض علي دعوي أن فدك كانت في يد الزهراء بأنها لم تحتج بذلك، و لو كانت في يدها لكفاها ذلك عن دعوي النحله والاستدلال بآيات الميراث، و في المستندات الشيعيه للقضيه جواب عن هذا الاعتراض لأنها تنقل احتجاج أهل البيت بذلك علي الخليفه، غير أننا لا نريد دراسه المسأله علي ضوء شي ء منها.

و لكن ينبغي أن نلاحظ أن فدك كانت أرضا متراميه الأطراف و ليس شأنها شأن التوافه من الأملاك والمختصات الصغيره التي تتضح حيازه مالكها لها بأدني ملاحظه. فإذا افترضنا أن فدك كانت في يد فاطمه يتعهدها وكيلها الذي يقوم بزراعتها، فمن يجب أن يعرف ذلك من الناس غير الوكيل؟!

و نحن نعلم أن فدك لم تكن قريبه من المدينه ليطلع أهلها علي شؤونها، و يعرفوا من يتولاها، فقد كانت تبعد عنها بأيام، كما أنها قريه

ص: 188


1- 320. راجع: القوادع الفقهيه/ السيد حسن البجنوردي 1: 113، المحلي/ ابن حزم 9: 436، المهذب/ الشيرازي الشافعي 2: 312؛ الفروق/ القرافي المالكي 4: 78، تحرير المجله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء 4: 150 قال: إن اليد هي إماره علي الملكيه شرعا و عرفا...».

يهوديه (1) و ليست في محيط إسلامي لتكون حيازه فاطمه لها معروفه بين جماعه المسلمين.

فماذا كان يمنع الزهراء عن الاعتقاد بأن الخليفه سوف يطالبها بالبينه علي أن فدك في يدها إذا ادعت ذلك كما طالبها علي النحله ما دام- في نظرها- مسيرا في الموقف بقوه طاغيه من هواه لاتجعله يعترف بشي ء؟

و كان من السهل في ذلك اليوم أن تبتلع الحوت وكيل فاطمه علي فدك أو أي شخص له اطلاع علي حقيقه الأمر كما ابتلعت أباسعيد الخدري فلم يرو النحله. و قد حدث بها بعد ذلك كما ورد في طريق الفريقين، أو أن تقتله الجن كما قتلت سعد بن عباده و أراحت الفاروق (2) ، أو أن يتهم بالرده لأنه امتنع عن تسليم صدقه المسلمين للخليفه كما اتهم مانعوا الزكاه والرافضون لتسليمها له (3) .

3- و لنترك هذه المناقشه لنصل إلي المسأله الأساسيه و هي: أن الخليفه هل كان يعتقد بعصمه الزهراء و يؤمن بآيه التطهير التي نفت الرجس عن جماعه منهم فاطمه أو لا؟!

و نحن لا نريد أن نتوسع في الكلام علي العصمه و إثباتها للصديقه بآيه

ص: 189


1- 321. راجع: فتوح البلدان/ البلاذري: 42- 43.
2- 322. و قد جاءت الروايه مصرحه بأن عمر أرسل رسولا إلي سعد ليقتله إن لم يبايع، فلما أبي سعد قتله الرسول. راجع العقد الفريد 4: 247.
3- 323. كما في قصه مالك بن نويره. راجع تاريخ الطبري 2: 273، و راجع الطبعه المحققه 2: 28؛ و قد وضح ذلك الخليفه الثاني مطالبا بالقود من خالد بن الوليد لأنه علي حد تعبيره: «قتل مسلما و نزا علي امرأته».

التطهير لأن موسوعات الإماميه في فضائل أهل البيت تكفينا هذه المهمه. و لا نشك في أن الخليفه كان علي علم بذلك لأن السيده عائشه نفسها كانت تحدث بنزول آيه التطهير في فاطمه و قرينها و ولديها (1) ، و قد صرحت بذلك صحاح الشيعه و السنه. و كان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم كلما خرج إلي الفجر بعد نزول الآيه يمر ببيت فاطمه و يقول الصلاه يا أهل البيت إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا، و قد استمر علي هذا سته أشهر (2) .

و إذن فلماذا طلب الخليفه بينه من فاطمه علي دعواها؟ و هل تحتاج الدعوي المعلوم صدقها إلي بينه؟

قال المعترضون علي أبي بكر: إن البينه إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي، و العلم أقوي منها فإذا لزم الحكم للمدعي الذي تقوم البينه علي دعواه يجب الحكم للمدعي الذي يعلم الحاكم بصدقه.

و اُلاحظ أن في هذا الدليل ضعفا ماديا لأن المقارنه لم تقم فيه بين البينه و علم الحاكم، بالإضافه إلي صلب الواقع، و إنما لوحظ مدي تأثير كل منهما في نفس الحاكم، و كانت النتيجه حينئذ أن العلم أقوي من البينه لأن اليقين أشد من الظن. و كان من حق المقارنه أن يلاحظ الأقرب منهما إلي الحقيقه المطلوب مبدئيا الأخذ بها في كل مخاصمه. و لا يفضل علم

ص: 190


1- 324. صحيح مسلم 3: 331، المستدرك 3: 159، طبعه دارالكتب العلميه، التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول/ منصور علي ناصف 3: 333.
2- 325. مسند الإمام أحمد 3: 295- طبعه دارصادر، و راجع المستدرك 3: 172- طبعه دارالكتب العلميه.

الحاكم في هذا الطور من المقايسه علي البينه؛ لأن الحاكم قد يخطأكما أن البينه قد تخطأ، فهما في الشرع الواقع سواء كلاهما مظنه للزلل والاشتباه.

و لكن في المسأله أمر غفل عنه الباحثون أيضا، و هو أن ما يعلمه الخليفه من صدق (1) الزهراء يستحيل أن لا يكون حقيقه، لأن سبب علمه بصدقها ليس من الأسباب التي قد تنتج توهما خاطئا و جهلا مركبا، و إنما هو قرآن كريم دل علي عصمه (2) المدعيه. و علي ضوء هذه الخاصيه التي يمتاز بها العلم بصدق الزهراء، يمكننا أن نقرر أن البينه التي قد تخطأ إذا كانت دليلا شرعيا مقتضيا للحكم علي طبقه. فالعلم الذي لا يخطي و هو ما كان بسبب شهاده اللَّه تعالي بعصمه المدعي، و صدقه أولي بأن يكتسب تلك الصفه في المجالات القضائيه.

و علي اُسلوب آخر من البيان نقول: إن القرآن الكريم لو كان قد نص علي ملكيه الزهراء لفدك و صدقها في دعوي النحله لم يكن في المسأله متسع للتشكيك لمسم أو مساغ لتردد لمحكمه من محاكم القرآن. و من الواضح أن نصه علي عصمه الزهراء في قوه النص علي النحله، لأن المعصوم لا يكذب، فإذا ادعي شيئا فدعواه صائبه بلا شك. و لا فرق بين النص علي العصمه والنص علي النحله فيما يتصل بمسألتنا، سوي أن ملكيه الزهراء لفدك هي المعني الحرفي للنص الثاني، والمعني المفهوم من النص

ص: 191


1- 326. راجع قوله- أي الخليفه الأول- في تصديق الزهراء، شرح النهج 16: 216.
2- 327. كما في آيه التطهير قوله تعالي: (إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) الأحزاب/ 33. راجع المستدرك 3: 160- 161، طبعه دارالكتب العلميه. راجع صحيح مسلم 5: 37، فضائل الصحابه؛ باب فضائل اهل البيت عليهماالسلام، ط 1، موسسه عزالدين، بيروت/ 1407 ه، تحقيق الدكتور موسي لاشين والدكتور أحمد عمر هاشم.

الأول عن طريق مفهومه الحرفي.

4- و نقول من ناحيه أخري: إن أحدا من المسلمين لم يشك في صدق الزهراء و لم يتهمها بالافتراء علي أبيها، و إنما قام النزاع بين المتنازعين في أن العلم بصواب الدعوي هل يكفي مدركاً للحكم علي وفقها أو لا؟ فلندع آيه التطهير و نفترض أن الخليفه كان كأحد هؤلاء المسلمين، و علمه بصدق الزهراء حينئذ ليس حاويا علي الامتياز الذي أشرنا إليه في النقطه السابقه، بل هو علم في مصاف سائر الاعتقادات التي تحصل بأسباب هي عرضه للخطأ و الاشتباه، و لا يدل حينئذ جعل البينه دليلا علي مشاركته لها في تلك الخاصيه، لأنه ليس أولي منها بذلك كما عرفنا سابقا.

و لكن الحاكم يجوز له مع ذلك- أن يحكم علي وفق علمه (1) ، كما يجوز له أن يستند في الحكم إلي البينه بدليل ما جاء في الكتاب الكريم مما يقرر ذلك؛ إذ قال اللَّه تعالي في سوره النساء: (و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (2) ، و قال في سوره الأعراف: (و ممن خلقنا اُمه يهدون بالحق و به يعدلون) (3) أي يحكمون.

و للحق والعدل ملاحظتان:-

ص: 192


1- 328. راجع سنن البيهقي 10: 142، طبعه دارالفكر، و قد نقل عن الشيخ الطوسي أنه ادعي الإجماع في الجواز. راجع: تنقيح الأدله بيان حكم الحاكم بعلمه/ محمدرضا الحائري، كما ذكر ابن رشد: إنه قول الجمهور (أي الجواز) راجع بدايه المجتهد 2: 465 منشورات الرضي- قم/ 1966.
2- 329. النساء/ 58.
3- 330. الأعراف/ 181.

(إحداهما) الحق و العدل في نفس الأمر والواقع.

(والاُخري) الحق و العدل بحسب الموازين القضائيه. فالحكم علي وفق البينه. حق و اعتدال في عرف هذه الملاحظه و إن أخطأت، و يعاكسه الحكم علي وفق شهاده الفاسق، فإنه ليس حقا و لا عدلا و إن كان الفاسق صادقا في خبره.

و المعني بالكلمتين في الآيتين الكريمتين إن كان هو المعني الأول للحق والعدل، كانتا دالتين علي صحه الحكم بالواقع من دون احتياج إلي البينه فإذا أحرز الحاكم ملكيه شخص لمال صح له أن يحكم بذلك لأنه يري أنه الحق الثابت (1) في الواقع والحقيقه العادله، فحكمه بملكيه ذلك الشخص للمال مصداق في عقيدته للحكم بالحق والعدل الذي أمر به اللَّه تعالي. و أما إذا فسرنا الكلمتين في الآيتين بالمعني الثاني أعني ما يكون حقا و عدلا بحسب مقاييس القضاء فلا يستقيم الاستدلال بالنصين القرآنيين علي شي ء في الموضوع لأنهما لا يثبتان حينئذ أن أي قضاء يكون قضاء بالحق و علي طبق النظام، و أي قضاء لا يكون كذلك؟

و من الواضح أن المفهوم المتبادر من الكلمتين هو المعني الأول دون الثاني و خاصه كلمه الحق، فإنها متي وصف بها شي ء أن ذلك الشي ء أمر ثابت في الواقع، فالحكم بالحق عباره عن الحكم بالحقيقه الثابته. و يدل علي ذلك الاُسلوب الذي صيغت عليه الآيه الاُولي، فإنها تضمنت أمرا بالحكم بالعدل. و واضح جدا أن تطبيق التنظيمات الإسلاميه في موارد

ص: 193


1- 331. الحق: هو الأمر الثابت. راجع المصباح المنير 1: 143، نشر دارالهجره.

الخصومه لا يحتاج إلي أمر شرعي؛ لأن نفس وضعها قانونا للقضاء معناه لزوم تطبيقها، فلا يكون الأمر بالتزام القانون إلا تكرارا أو تنبيها، و ليس من حقيقه الأمر في شي ء. و أما الأمر بالحكم علي طبق الحقائق الواقعيه سواء أكان عليها دليل من بينه و شهاده أو لا، فهو من طبيعه الأمر بالصميم لأنه تقرير جديد يوضح أن الواقع هو ملاك القضاء الإسلامي والمحور الذي ينبغي أن يدور عليه دون أن يتقيد بالشكليات والأدله الخاصه (1) .

و إذن فالآيتان دليل علي اعتبار علم الحاكم في قوانين القضاء الإسلاميه (2) .

و أضف إلي ذلك أن الصديق نفسه كان يكتفي كثيرا بالدعوي المجرده عن البينه. فقد جاء عنه في صحيح البخاري (3) أن النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم لما

ص: 194


1- 332. و إذا أردنا أن نترجم هذا المعني إلي اللغه العلميه قلنا: إن الأمر علي التقدير الثاني يكون إرشاديا إذ لا ملاك للأمر المولوي في المقام، حيث أن المأمور اتباعه هو بنفسه كاف للبعث والتحريك، فظهور الأمر في المولويه يقضي بصرف لفظه العدل إلي المعني الأول لجواز الأمر مولويا باتباع الواقع فيما إذا دلت عليه البينه خاصه و إمكان الأمر باتباعه مطللقا. و أنا اعتذر عن عدم استعمال الاصطلاحات العلميه الدائره في مباحث المنطق والفسفه والفقه والاُصول- إلا حين اضطر إلي ذلك اضطرارا- لأنني اُحاول أن تكون بحوث هذا الفصل مفهومه لغير المتخصصين في تلك العلوم. [الشهيد].
2- 333. إن قيل: إن الحديث الوارد عن أهل البيت فيمن قضي بالحق و هو لا يعلم الحكم باستحقاقه للعقاب يدل علي عدم كون القضاء من آثار الواقع، فيدور الأمر بين صرف هذه الروايه عن ظهورها في عدم نفوذ الحكم و حمل العقاب فيها علي التجري، و بين صرف الكلمتين إلي المعني الثاني قلت: لا وجه لكلا التأويلين بل الروايه المذكوره مقيده للآيات بصوره العلم، فيكون موضوع القضاء مركبا من الواقع والعلم به، و بتعبير آخر أنه من آثار الواقع الواصل. [الشهيد].
3- 334. صحيح البخاري 2: 953، حديث 2537 كتاب الشهادات- باب 29. [الشهيد]

مات، جاء لأبي بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبوبكر: من كان له علي النبي دين أو كانت له قبله عده فليأتنا. قال جابر: وعدني رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أن يعطيني هكذا و هكذا و هكذا فبسط يده ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائه، ثم خمسمائه، ثم خمسمائه.

و روي في الطبقات (1) عن أبي سيعد الخدري أنه قال: سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينه حين قدم عليه مال البحرين: من كانت له عده عند رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فليأت؟ فيأتيه رجال فيعطيهم. فجاء أبوبشير المازني فقال: إن رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال: يا أبابشير إذا جاءنا شي ء فأتنا، فأعطاه أبوبكر حفنتين أو ثلاثا فوجدوها ألفا و أربعمائه درهم.

فإذا كان الصديق لا يطالب أحداً من الصحابه بالبينه علي الدين أو العده فكيف طلب من الزهراء بينه علي النحله؟!

و هل كان النظام القضائي يخص الزهراء وحدها بذلك أو أن الظروف السياسيه الخاصه هي التي جعلت لها هذا الاختصاص؟

و من الغريب حقا أن تقبل دعوي صحابي لوعد النبي صلي اللَّه عليه و آله و سلم بمبلغ من المال و ترد دعوي بضعه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لأنها لم تجد بينه علي ما تدعيه.

و إذا كان العلم بصدق المدعي مجوزا لإعطائه ما يدعيه فلا ريب أن الذي لا يتهم جابرا أو أبابشير بالكذب يرتفع بالزهراء عن ذلك أيضا.

و إذا لم يكن إعطاء الخليفه لمدعي العده ما طلبه علي أساس الأخذ

ص: 195


1- 335. الطبقات الكبري 2: 318، طبعه دار صادر. [الشهيد]

بدعواه، و إنما دعاه احتمال صدقه إلي إعطائه ذلك، و للإمام أن يعطي أي شخص المبلغ الذي يراه، فلماذا لم يحتط بمثل هذا الاحتياط في مسأله فدك؟!

و هكذا أنجز الصديق و عود رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم التي لم تقم عليها بينه و أهمل هباته المنجزه التي ادعتها سيده نساء العالمين. و بقي السؤال عن الفارق بين الديون والعدات و بين نحله بلا جواب مقبول.

5- و لنستأنف مناقشتنا علي أساس جديد و هو: إن الحاكم لا يجوز له الحكم علي طبق الدعوي المصدقه لديه إذا لم يحصل المدعي علي بينه تشهد له، و نهمل النتيجه التي انتهينا إليها في النقطه السابقه و نسأل علي هذا التقدير:

(أولا) عما منع الصديق من التقدم بالشهاده علي النحله إذا كان عالما بصدق الحوراء سلام اللَّه عليها، إذ يضم بذلك شهادته إلي شهاده علي و تكتمل بهما البينه و يثبت الحق. و اعتباره لنفسه حاكما لا يوجب سقوط شهادته لأن شهاده الحاكم معتبره (1) و ليست خارجه عن الدليل الشرعي الذي أقام مرجعا في موارد الخصومه.

(و ثانيا) عن التفسير المقبول لإغفال الخليفه للواقع المعلوم لديه بحسب الفرض. و لأجل توضيح هذه النقطه يلزمنا أن نفرق بين أمرين اختلطا علي جمله الباحثين في المسأله.

ص: 196


1- 336. شهاده الحاكم جائزه: راجع سنن البيهقي 10: 131.

(أحداهما) الحكم للمدعي بما يدعيه.

(والآخر) تنفيذ آثار الواقع.

و إذا افترضنا أن الأول محدود بالبينه فالآخر واجب علي كل تقدير، لأنه ليس حكما ليحدد بحدوده. فإذا علم شخص بأن بيته للآخر فسلمه لمالكه، لم يكن هذا حكما بملكيته له، و إنما هو إجراء للأحكام التي نص عليها القانون. كما أن الحاكم نفسه إذا ادعي شخص عنده ملكيه بيت و كان في حيازته، أو دل الاستصحاب علي الملكيه المدعاه، فاللازم عليه و علي غيره من المسلمين أن يعتبروا هذا البيت كسائر ممتلكات ذلك المدعي. و ليس معني هذا ان الحاكم حكم بأن البيت ملك لمدعيه مستندا إلي قاعده اليد (1) أو الاستصحاب. و إن المسلمين أخذوا أنفسهم باتباع هذا الحكم، بل لو يكن بينهم حاكم للزمهم ذلك. و ليس الاستصحاب أو اليد من موازين الحكم في الشريعه و إنما يوجبان تطبيق أحكام الواقع.

والفاروق بين حكم الحاكم بملكيه شخص لمال، أو فسقه و نحوهما من الشؤون التي تتسع لها صلاحيات الحاكم و بين تطبيق آثار تلك الاُمور هو: امتياز الحكم بفصل الخصومه، و نعني بهذا الامتياز أن الحاكم إذا أصدر حكما حرم نقضه علي جميع المسلمين، و لزم اتباعه من دون نظر إلي مدرك آخر سوي ذلك الحكم.

و أما تطبيق القاضي لآثار الملكيه عمليا بلا حكم فلا يترتب عليه ذلك

ص: 197


1- 337. قاعده اليد هنا تعني: إثبات الملكيه بواسطه اليد. والمقصود باليد التسلط علي المال. راجع: القواعد/ السيد محمد كاظم المصطفوي: 329.

المعني و لا يجب علي كل مسلم متابعته و إجراء تلك الآثار كما يجريها إلا إذا حصل له العلم بذلك كما حصل للحاكم.

والنتيجه: إن الخليفه إذا كان يعلم بملكيه الزهراء لفدك، فالواجب عليه أن لا يتصرف فيها بما تكرهه، و لا ينزعها منه سواء أجاز له أن يحكم علي وفق علمه أو لا. و لم يكن في المسأله منكر ينازع الزهراء ليلزم طلب اليمين منه و استحقاقه للمال إذا أقسم؛ لأن الأموال التي كانت تطالب بها الزهراء أما أن تكون لها أو للمسلمين. و قد افترضنا أن أبابكر هو الخليفه الشرعي للمسلمين يومئذ، و إذن فهو وليهم المكلف بحفظ حقوقهم و أموالهم، فإذا كانت الزهراء صادقه في رأيه، و لم يكن في الناس من ينازعها فليس للخليفه أن ينتزع فدك منها. و تحديد الحكم بالبينه خاصه إنما يحرم الحكم و لا يجيز انتزاع الملك من صاحبه.

و إذن فعدم جواز حكم الحاكم علي وفق علمه (1) لا يخفف من صعوبه الحساب و لا يخرج الخليفه ناجحا من الامتحان.

محمد باقر الصدر


1- 338. سنن البيهقي 10: 144-143 باب عدم جواز حكم القاضي بعلمه.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.